سبيل النجاة
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أرجو منك أن تبين كيف تكون النجاة في الدنيا والآخرة؟
الجواب
إذا أردت النجاة في الدارين فاركب في سفينة نوح، وسفينة نوح كما قال الإمام مالك هي: الكتاب والسنة فتستقيم على منهج الكتاب والسنة وحينها يدخلك الله جنة عرضها السماوات والأرض قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3].
فإذا هداك الله عز وجل وبصرك وعرفك الطريق، فأنت ما عليك إلا أن تسلك هذا الطريق، وتحتاج في هذا السلوك إلى زاد ومعلم وسائق يسوقك وإلى قائد يقودك.
أما الزاد فهو التقوى.
وأما المعلم فهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما القائد فهو القرآن.
وأما السائق فهو تذكر الموت دائماً وأبداً.
فأنت إذا فعلت ذلك وفقك الله عز وجل، وأنا أذكرك بأمور أدعوك إلى حضور جلسات الخير والندوات، وأن يكون لك علاقة بالدعاة المخلصين الصادقين والجلساء الأبرار، وأن يكون لك اطلاع مكثف في كتب الإسلام، والدعاء والتبتل إلى الله عز وجل، خاصة في السجود وفي أدبار الصلوات وسوف يفتح الله لك فتحاً لا يدور في البال ولا الخيال.(310/14)
حكم السخرية من حملة الدين
السؤال
كثير من الشباب يغضبون عندما يستهزئ بهم، فما رأيكم؟
الجواب
وجد في كثير من المجتمعات الاستخفاف بالشباب الملتزم، وهذه سنة من سنن الله الخلقية في هذا الكون، فقد وجدت مع نوح عليه السلام عندما قام يصنع السفينة فقاموا يسخرون منه ويضحكون فقال: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38].
وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهرٌ عنك عارها
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].
فلا تقوم المبادئ والأسس الأصيلة والأهداف الجليلة؛ إلا على العداوة، ونحن أهل مبادئ أصيلة فلا بد من أعداء وحسدة، ولا بد من مستهزئين ومستهترين، لأنهم أخفقوا في هذا الجانب، والمخفق دائماً جالس على الأرض يتفكه، أما الذي يصعد فيسقط كثيراً والجالس على الأرض لا يسقط، هل رأيت أن أحداً جالس يشرب الشاي على الفراش سقط وكسرت رجله، ما سمعنا بذلك، لكن الذي يصعد جبال الهملايا ويصعد على الجبال الشاهقة يتكسر كثيراً لكنه يصعد:
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
فمبدأ الاستهزاء والاستهتار مبدأ تقليدي سلبي وجد عند الأمم جميعاً، فإن أهل التفوق وأهل الكمال دائماً يحسدون، فيبحث عن النقاط التي لا يخلو منها البشر ثم يشخصونها ويكبرونها للناس.
والداعية تجده كريماً صادقاً مخلصاً منيباً تالياً لكتاب الله واضحاً، وفياً، حسن الخلق ثم يجدون فيه سرعة غضب، فأتوا ينشرون في المجالس، فلان فيه غضب حاد أحمق، كثير التهجم على الناس، يستعمل الزعل دائماً وكثير البذاء، حتى تصبح سجية له في هذا الجانب، ويلك من الله! ألا تغمر سيئاته في بحار حسناته.
إن بعض الناس الفضلاء إذا عددت سيئاتهم انغمرت في بحار حسناتهم، لكن تعال أنت أيها المستهزئ أين حسناتك في الإسلام؟ أرنا مواقفك الصادقة في الدين وفي المجتمع وفي الرأي العام، سوف تنغمر حسناتك في بحار سيئاتك فلا يكون لك حسنة، وهذا به في كتاب الله عز وجل وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُون * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكُمْ} [التوبة:65 - 66].
أتدرون بمن يستهزئ هذا المستهزئ! يستهزئ بالرسالة الخالدة وبالفقه المجيد، يستهزئ بالإسلام الذي ضج الدنيا، ويستهزئ بالرسل والأنبياء والكتب السماوية.(310/15)
الحد في تقليد الأجانب
السؤال
ما هو الحد الذي ينبغي أن نتوقف عنده في تقليد الأجانب؟
الجواب
الأجانب نأخذ منهم ما أجادوه في العلوم الدنيوية، أما الدين فلا كرامة لهم، نحن عندنا ديننا يكفينا، ونحن نصدر إلى العالم ولا نستورد، ونوجه ولا نتوجه من غير الله عز وجل، ونعطي ولا نأخذ، نحن أمة عندنا دستور وكتاب خالد، وسنة فيها العقيدة والأحكام والسلوك والآداب، فإذا أتوا لنا بسلوك وأحكام وآداب، قلنا لهم هذه بضاعتكم ردت إليكم، عندنا كل خير، كل الصيد تجده في القرآن، أما أن تأتوننا بعلوم أرضية دنيوية فنقول: نعم، نأخذ منكم صناعة الطائرة، لأن الله جعل مبدأ في القرآن قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
أجادوا في صنع الطائرة، وفي صنع السيارة، والتلفون: وهذه الخدمات، فنأخذها منهم لأنها لا تعارض ديننا، والحكمة ضالة المؤمن، ونأخذ منهم بعض الأسس التربوية المفيدة التي توافق ما عندنا من الدين.
لذلك في الصحيحين من حديث أبي هريرة: {إن الشيطان علمه آية الكرسي، يقول: اقرأها كل ليلة فلن يزال عليك حافظ، فقال صلى الله عليه وسلم: صدقك وهو كذوب} فلذلك ثبت عن علي -وبعض المحدثين يرفعون الحديث إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم-: [[الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها]].
أما إذا كان هذا الشيء يهدم المعتقد، أو التربية أو السلوك، فنقول: لا.
ولا ترى لك عين، في كتاب كريسي موريسون الأمريكي وهو مترجم، عنوانه الإنسان لا يقوم وحده، يقول: يا أيها المسلمون أعطيناكم الطيارة والسيارة والخدمات وما أعطيتمونا حياة القلوب، وهو الإيمان.
وهذا صحيح نحن لا نقلدهم، إنما نأخذ منهم هذه المنتجات لأنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، أما علم الإسلام وعلم الدين، وعلم الآخرة، فلا: {بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} [النمل:66] لديهم عقول حمير: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمِينَ} [النمل:66] وعندنا والحمد لله ما يكفينا، حتى في الأمور التربوية هذه وعلم النفس والسلوك؛ لأن عندنا في الإسلام ما يكفينا والحمد لله وهذا أمر طرقه أهل العلم.
والعجيب المذهل أن الإنسان يجد في كثير من الجامعات والمدارس تدرس كثيراً من الأسس التربوية، لـ كانت وديكارت، أما كتب ابن القيم فتقرأ بعد صلاة العصر للعوام ويكون هادئاً على مستويات الناس، أما الطلبة الأذكياء الفهماء فَيُدرس لهم كانت.
وما كانت إلا قطعة حمار لو وزن مع ابن القيم والله! لن يأتي ذرة من ذراته في الفهم والإدراك والسيطرة على المعلومات والاستقراء التام، مع النضوج الفكري، ومع الإخلاص والصدق لله عز وجل.
ابن تيمية يأخذون منه أسساً تربوية، في المكتبات يباع كتاب الفرنسي: ابن تيمية مربياً وآخر: علم النفس عند ابن تيمية، فيأخذون منها ثم نأخذ نحن منهم ولا نُعجب بعلمائنا.(310/16)
الواجب على من عصى الله
السؤال
أنا أذنبت ذنباً وأريد أن أتوب إلى الله، فهل الواجب علي أن أسلم نفسي ليُقام عليَّ الحد؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب
ذكر ابن حجر العسقلاني في بلوغ المرام من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الناس! من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله تعالى، فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه الحد} رواه الحاكم.
وهذا حديث يؤكد هذه المسألة ويجيب عنها، فمن ابتلي بشيء من الذنب كبيراً أو صغيراً فليستتر بستر الله، وليتوب بينه وبين الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يذهب إلى سلطة أو قاضٍ أو أمير أو أستاذ ليفضح نفسه، بل يستتر، والله ستير يحب الستر سبحانه وفي الصحيح: {إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يضع كنفه على العبد يوم القيامة فيناديه، فيقول: عملت كذا يوم كذا وكذا، قال: نعم يا رب، قال: فإني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم} وإنما يهلك في هذا الجانب المجاهرين بالمعاصي المتبجحين بتعدي حدود الله وانتهاك حرمات الله، تجد الفاجر يصبح وقحاً مسلوخ الحياة، يعصي الله في الليل، ويصبح ينشر معلوماته في الصحف في الصباح، يقول فعلت كذا وكذا وذهبت مع فلان وفعلنا كذا وكذا، ويلك من الله! ألا ترى أنك أمام الله ورقابته وعينه:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
دخل ثعلب الأديب على الإمام أحمد، قال: الإمام أحمد: من أنت؟ قال: أنا ثعلب، قال: ماذا تعمل؟ قال: أجمع القصائد والأدبيات، قال: أتحفظ شيئاً؟ قال: نعم، قال: أسمعني، قال: يقول أبو نواس:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب
غفلنا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب
فقام الإمام أحمد وترك الدفاتر والمحبرة،، وهو إمام أهل السنة والجماعة الذي شُيع بألف ألف وستمائة ألف من بغداد، خرجت بغداد لتشييعه جميعاً، دخل غرفته وأغلق عليه الباب وبكى، قال ثعلب: والله إني كنت أسمع بكاءه وهو ينشد:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
يوم تركنا الرقابة وملاحظة رقابة الله عز وجل، ولم نصل إلى درجة الإحسان، وقعنا فيما وقعنا فيه.
فإجابة السؤال يكفيه حديثه صلى الله عليه وسلم: {من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله تعالى فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه الحد}.
إذاً المطلوب أن تستتر وأن تتوب وألا تخبر أحداً، والله سوف يغفر ذنبك كما عند الترمذي: {يابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أُبالي، يابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرتها لك، يابن آدم! لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً، لآتيتك بقرابها مغفرة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي المرفوع إلى رب العزة والجبروت تبارك وتعالى.(310/17)
حكم الإسبال
السؤال
ما حكم من أسبل ثوبه، ويستدل على جوازه بحديث أبي بكر بأنه لم يجره خيلاء؟
الجواب
هذه الفتوى مرتزقة أصبحت كالفولاذ إذا وضعت في النار، مطروقة أو مستخدمة لأمور ونسبيات، ولو جعل الدين على الظروف والأحوال، لاهتزت قواعده وأصوله، ومدخل هذا الرجل الذي كتب هذا الكتاب موجود، وقد قال بعض أهل العلم وأسكت في وقته من أهل العلم جميعاً، لأنه سوف يفتح باباً على الفتيا وعلى النصوص الشرعية إلى أن تثلم، والرسول عليه الصلاة والسلام في الصحيح يقول: {إن الله لا ينظر إلى من جر ثوبه خيلاء، قال أبو بكر: يا رسول الله! إن إزاري يسترخي لولا أن أتعاهده، قال عليه الصلاة والسلام: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا الحديث ثلاث قضايا:
أولها: من الذي زكىَّ أبا بكر؟
ثانيها: ما هي السياقات والقرائن لهذا الحديث؟
ثالثها: من هو المزكىَّ؟
فأمّا من زكاه ومدحه وقال: إنه لا خيلاء فيه فإنه معلِّم الخير، الذي لا ينطق عن الهوى، المعصوم صلى الله عليه وسلم، ومن لنا بمثله يزكي كل مسبل في الشارع، كل ما أتى إنسان جاء على رأسه فيقول: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء.
الأمر الثاني: المزكى هو أبو بكر رضي الله عنه أصدق الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلصهم، فقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم منه أنه في درجة عالية.
الأمر الثالث: أن أبا بكر قال: يرتخي إزاري، ما قال أرخيه عمداً، يذهب إلى الخياط، ويقول له: أطله قليلاً فإني لست أفعل ذلك خيلاء، أنت الذي فعل ذلك خيلاء، وأنت الذي أمر بهذا، أما أبو بكر فكان يرفع إزاره لكن الإزار يرتخي عليه، والإزار هو: أشبه شيء بالفوطة، أو بالشرشف الذي يلف ثم يحزم بخيط، كانوا يلبسون ذلك في المدينة كثيراً، والعرب تلبس ذلك، فربما يرتخي عنه فيتعاهده كثيراً، فوقت عدم التعاهد ليس من الإسبال لأنه يرتخي على غير رغبة منه، لكنه ما يتركه، وما قال عليه الصلاة والسلام: اتركه مسبلاً فإنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء، لكن في وقت ارتخائه لا تلام؛ لأنه على الرغم منك ولأنك صادق، والله يعلم إخلاصك وإنك لا تريد ذلك، وأما الذين يستدلون بذلك فليس لهم مزكي، وليست قلوبهم كقلب أبي بكر وظروفهم وأحوالهم واحتياطاتهم يعرف منها أنهم يريدون الإسبال حقيقة وما أسفل من الكعبين ففي النار.(310/18)
حكم الصلاة في البيت بعد خروج الوقت
السؤال
أتقبل الصلاة في البيت إذا فات وقتها؟
الجواب
هذا السؤال مركب وليس بسيطاً، أتقبل الصلاة في البيت إذا فات وقتها؟
ففيه الصلاة في البيت، وفوات وقت الصلاة.
وأنا أبدأ بالثانية لأنها تقدم عند أهل العلم كـ ابن تيمية، ولأنها أهم، أما فوات الصلاة فإن كان بعذر فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم العذر في الصحيحين من حديث أبي قتادة: {إذا نام أحدكم عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها} فإذا كان هذا عذره فليصلها متى ذكرها، ولو بعد شهر أو أكثر أو أقل، وفي الصحيح في حديث أبي قتادة: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس فقضاها} وهذا من حديث بلال، وحديث عمران في البخاري.
فهذا أمر معروف لعذر، ويدخل في ذلك الإغماء والذهول، أن يكون في عمل حتى خرج الوقت فيصليها متى ذكرها، أما من تعمد تأخيرها حتى خرج وقتها، فقال ابن تيمية: يصبح في هذه الفترة كافر؛ لأنه تعمد تأخيرها حتى خرج وقتها مع العلم أن بعض أهل العلم بل هم الجمهور، قالوا: يقضيها، وقالوا: ما ندري هل تقبل أم لا، لأنه أصبح في فترة كفر وردة، والصحيح أن تارك الصلاة عمداً كافر، وليس هناك تقسيم في السنة يقول: تارك الصلاة جاحداً أو تهاوناً وتكاسلاً، لا يبلغ العبد درجة يترك الصلاة إلا وبلغ درجة من الكفر والريبة والنفاق مبلغاً أوصله إلى هذه الدرجة، فإذا تركها حتى خرج وقتها عمداً، ففتوى ابن تيمية عرضتها عليكم، والذي ربما تميل إليه النفس -والله أعلم- أن يقضيها، إنما يتوب إلى الله ويدخل في الإسلام، ويعيد التوبة ويستغفر الله من هذا الذنب العظيم.
القضية الثانية: صلاة الفريضة في المسجد في الكتاب والسنة أكثر من أربعة عشر نصاً على وجوب الصلاة في المسجد، وصح عند عبد الحق الأشبيلي وصح هذا الحديث عند ابن تيمية وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم: {من سمع النداء ولم يُجب فلا صلاة له إلا من عذر} وفي الصحيحين عن أبي هريرة قوله صلى الله عليه وسلم: {لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخالف إلى أناس لا يصلون معنا -أو لا يشهدونها معنا- فأحرق عليهم بيوتهم بالنار} وعند أحمد: {لولا ما في البيوت من النساء والذرية} وعند مسلم، من حديث الأعمى قال عليه الصلاة والسلام: {أتسمع حي على الصلاة حي على الفلاح؟ قال: نعم.
قال: فأجب فإني لا أجد لك رخصة} قال ابن تيمية: صلاة الجماعة شرط في صحة الصلاة، وقيل: هي واجبة، وبعض الناس يقول: إنها تجوز في البيت، وهذا ليس بصحيح، بل لابد منها في المسجد ومن صلى في بيته فهو آثم فاسق ترد شهادته، إلا من عذر عذره الله فيه ووردت الأعذار في ذلك وهذه تحتاج إلى بحث تفصيلي طويل.(310/19)
حرمة غيبة المسلم وعلاجها
السؤال
ما حكم الغيبة؟ وما هي الحلول للنجاة منها؟
الجواب
الغيبة ذنب من الذنوب الكبار، عُصي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بها في الأرض كثيراً، والغيبة أمر سهل على الألسن، وهي فاكهة المجالس، ولكنها تثير وتهدم المجتمعات والصروح، وتخرب من البيوت ما لا يخربه الجنود.
والغيبة دليل على الحقد الدخيل في النفس، وعلى سقوط النفس، الغيبة مبدأ ظالم عُصي الله به في الأمم القديمة، ونهى الله عن ذلك، والغيبة جرح للشعور، والغيبة خروج عن حد الأدب، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12].
حد الغيبة في الإسلام: أن تذكر أخاك بما يكره، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته.
والغيبة لها وسائل يمليها الشيطان، وهو عالم في هذا الجانب، يقول لك: لا نريد من هذا الشخص أن نغتابه لكن نقومه تقويماً تربوياً لمصلحته، ومن الغيبة -كما ذكر النووي وابن تيمية - الورع البارد، بعض الناس عنده ورع بارد مظلم، يأتي يقول: هدى الله فلان، هو لا يريد هدايته إنما يريد اغتيابه، وإذا ذكر له فلان قال: عافانا الله وإياه، ولكن معناه كأنه سور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فالظاهر كأنك تدعو له بالعافية، لكن الباطن كأنه وقع في ريبة وأمر ومعصية تنبه الناس عليها، وإذا ذكر، قال: مسكين، نسأل الله أن يعافينا مما أصابه، نعوذ بالله من الغيبة، وتشترك العين واللسان واليد في الغيبة، قيل لبعض الناس: ما هي غيبة العين؟ قال: أن تهمز إذا ذكر، وأن تخرج لسانك، وأن تشير بيديك أو تنفخ بيديك على كفك، هذه كلها غيبة، وحلولها:-
أولاً: أن تتقي الله في أعراض المسلمين.
ثانياً: أن تعرف أن الجزاء من جنس العمل، وأن تعرف -وهذا غالباً- أن أكثر من تؤكل لحومهم في المجالس أكثرهم غيبة للناس، وإذا رأيت الناس تتناوب عرض فلان في المجالس فلأنه أكثر من تناول أعراض الناس، فمن شكر الناس شكره الله، ومن عفا عن الناس عفا الله عنه، ومن رحم الناس رحمه الله، لأن الجزاء من جنس العمل.
ثالثاً: قال بعض أهل العلم لرجل يغتاب المسلمين: أقاتلت الروم؟ قال: لا.
قال: أقاتلت فارس؟ قال: لا.
قال: أجاهدت في سبيل الله، قال: لا.
قال: سلم منك الروم وفارس وما سلم منك المسلمون
رابعاً: أن يذكر القطن إذا وضع على العين، وإذا وسد في التراب، وقد اغتيب رجل عند محمد بن واسع الأزدي فقال: أذكر إذا وسدت في التراب.(310/20)
تحديد السنن الرواتب
السؤال
ما هي السنن الرواتب؟
الجواب
هناك سنن رواتب وسنن مطلقة، أما السنن المطلقة فأمرها واسع، وهي تبنى على الأجر وعلى التقرب كلما تقرب العبد إلى الله بسجدة رفعه الله بها درجة، ففي صحيح مسلم عن ربيعة بن مالك الأسلمي قال: {قلت: يا رسول الله! أريد أن أرافقك في الجنة، قال: أعنّي على نفسك بكثرة السجود} وعند مسلم من حديث ثوبان: {فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة} أما السنن الرواتب فهي عشر ركعات يقول ابن عمر في الصحيحين: {حفظت من الرسول صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر} وعند مسلم: {في بيته} وفي رواية مسلم: {وركعتين بعد الجمعة}.
فالسنن الرواتب هي هذه التي ذكرت، مع أن يوم الجمعة ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة في قوله صلى الله عليه وسلم: {من صلى الجمعة فليصل بعدها أربعاً} قال ابن تيمية: من صلى في بيته فليصل ركعتين بعد الجمعة، ومن صلى في المسجد فليصل أربعاً جمعاً بين الحديثين.
وهذه السنن الرواتب، التي ذكرتها من تركها عمداً وداوم على تركها فهو فاسق ترد شهادته، ليس كافراً ولكنه فاسق ترد شهادته، ولا يفعلها إلا ضعيف الإيمان وضعيف الإرادة، ضعيف العزيمة في الإرادة لأنه ما تزود بالصالحات، وصار أمراً أن يكون من المقصرين الذين ما سلموا من الذنوب، وفي حديث الولي في صحيح البخاري مرفوعاً إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه} هذا السابق بالخيرات:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول(310/21)
حكم قول: (صدق الله العظيم) بعد قراءة القرآن
السؤال
ما قولكم في قول (صدق الله العظيم) بعد تلاوة القرآن الكريم؟
الجواب
لم يرد فيها حديث صحيح ثابت عنه صلى الله عليه وسلم ولا عمل أحد من أصحابه الذين هم الخلفاء الذين يقتدى بهم، وهذا الأمر الذي يظهر أنه بدعة، وأنه لا ينبغي أن يقول القارئ صدق الله العظيم ويرفع بها صوته، وإن كان المعنى صحيحاً، فإن في سورة آل عمران قوله: صدق الله، فالله هو صادق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وقوله صدق، لكن ما ورد هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم فَيُترك: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد}.(310/22)
مكانة المسجد في الإسلام
إن للمسجد مكانة عظمى، فهو المركز الأول الذي انطلقت منه الدعوة الإسلامية، والناس يجهلون كثيراً من أحكام المسجد، والشيخ قد ذكر في هذا الدرس كيف كان المسجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كان دوره؟ وما هي حقوقه، ومميزاته؟(311/1)
أسرار المسجد في الإسلام
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، هدى الله به الإنسانية، وأنار به أفكار البشرية، وزعزع به كيان الوثنية، صلى الله عليه وعلى آله وصبحه وسلم تسليماً كثيراً.
عنوان هذه المحاضرة: مكانة المسجد في الإسلام، وهي تحمل الرقم التاسع بعد الثلاثمائة، وأسأل الله أن ينفع بها، وقبل أن أبدأ أزف الشكر لأهله ولذويه وعلى رأسهم رئيس هذا النادي: الأستاذ النبيل الأديب محمد بن عبد الله الحميد أثابه الله وحفظه، وحفظ أعضاء النادي والحضور وكل مسلم، ومعذرة إن ندَّ بيان أو تلعثم لفظ:
سيدي علل الفؤاد العليلا أحيني قبل أن تراني قتيلا
إن تكن عازماً على قتل روحي فترفق بها قليلاً قليلاً
قبل أن أبدأ في عناصر الدرس عندي وثيقة عن المسجد، أقرأها قراءة ثم أبدأ أتحدث معكم عن أسرار المسجد في الإسلام.
لنا نحن المسلمين مع المسجد أسرار وأخبار، لنا معه تضحيات وأمنيات، سلوا المسجد من الذين زينوا جنباته بالتسبيحات، وأضاءوا جوفه بالعبادات، وسجدوا على جنباته خمس مرات؟
سيقول: المسلمون.
سلوه من الذي فجر من جنابه الكلمة الحية، والموعظة الحسنة، والخطبة المؤججة؟ من الذي صاغ من على منبره منهج الأجيال، وأذكى من محاربه الإيمان في قلوب الرجال، وغرس من روضته دوحة الإفضال؟
سيقول: المسلمون.
سلوه من الذي أباد من على منارته الإلحاد، ونشر من على قبته العدل بين العباد، ونادى العقل للحياة والطموح والجهاد؟
سيقول: المسلمون.
عاش رسولنا صلى الله عليه وسلم في المسجد خطيباً، يبعث من الصحراء أمة، ومن الأمة جيلاً، ومن الجيل قادة، ومن القادة شهداء لله في الأرض، يقول القاضي الزبيري شاعر اليمن:
ما بنى جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمة من عفاء
عاش صلى الله عليه وسلم يصنع في المسجد من العبارات درراً، ومن الكلمات ثمرة، يقول أحمد شوقي:
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاء
وعاش صلى الله عليه وسلم في المسجد معلماً يفتح البصائر على العبر، ويحرر العقول من الأوضار، ويسكن القلوب بمعين الحكمة والهداية.
وعاش صلى الله عليه وسلم في المسجد قائداً، يرسل كتائب الإيمان، وينظم جيوش الحق، لتنسف ركام الباطل، ويربي الفاتحين لينقذوا الدنيا من أتباع الشيطان، وإنها لتعجبني أبيات للبردوني ولو أنه لا يعجبني، وأبرأ إلى الله منه ومن منهجه، وأسأل الله أن يعامله بعدله، ولكنه تفوق أيما تفوق في قصيدته، وهو يروي عطرة الرسول عليه الصلاة والسلام في المسجد، وانطلاقه من المسجد، وسيرته صلى الله عليه وسلم في المسجد، يقول في أبياته:
بشرى من الغيب ألقت في فم الغار وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرار
بشرى النبوة طافت كالشذا سحراً وأعلنت في الدنا ميلاد أنوار
وشقت الصمت والأنسام تحملها تحت السكينة من دار إلى دار
إنه رسول الهدى، ثم يقول له البردوني بعاطفة القومية التي لا تكفي لتكون صلة بينه وبين صاحب المسجد، إذ لا بد لنا مع صاحب المسجد من عقيدة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] والقومية وحدها ليست صلة، فيقول البردوني:
نحن اليمانين يا طه تطير بنا إلى روابي العلا أرواح أنصار
إذا تذكرت عماراً وسيرته فافخر بنا إننا أحفاد عمار
أنا ابن أنصارك الغر الألى سحقوا جيش الطغاة بجيش منك جرار
على كلٍ أبدأ في العناصر، وقبل أن أبدأ أحب أن أبين أن هناك فصولاً تحدث فيها القرآن عن المسجد، وعن مهمته، ورسولنا صلى الله عليه وسلم روى بسيرته وحكمته وموعظته مهمة المسجد في الناس، ثم أتعرض لكلام أهل العلم والأدباء.(311/2)
عمارة المساجد
يقول سبحانه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18] فما هي عمارة المسجد؟
قال أهل السنة: تحصل عمارة المسجد بأحد أمرين: الأول: إما ببنائها لقصد وجه الله عز وجل، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له قصراً -أو بيتاً- في الجنة}.
والثاني: عمارتها بالتسبيح والتحميد والتهليل والصلاة.
عباد الله! نحن لا نعيش المساجد أسبوعاً واحداً، بل العمر كله والدهر أكمله، والزمن بمطلقه؛ لأننا أمة تعلقنا به، وانبعثنا منه، قال سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:36 - 37].
من هم الذي يسبحون؟ هم أولياء الله، أهل لا إله إلا الله، أهل الرسالة الخالدة الذين يفتحون العقول قبل الحصون، والذين يبنون في القلوب منائر من الحق، هم أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة.
أما الذي لا يعرف المسجد، ويتعرف على البار، ويقاطع بيت الله ويعرف المقهى والملهى، فليس من الله في شيء، يقول المثقب العبدي:
فإما أن تكون أخي بصدق فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني
فإني لو تخالفني شمالي ببغض ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بيني كذلك أجتوي من يجتويني(311/3)
أقسام المساجد
والمساجد قسمان:
مسجد بني إخلاصاً وصدقاً لله عز وجل وأهله هم المأجورون، ومسجد بني رياءً وسمعة وصداً عن منهج الله، قال سبحانه عن مساجد الضرار التي تصد أولياء الله عن الصلاة، والتي بناها بعض الناس وهم كاذبون في دعواهم، يقول: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]
ثم يقول جل اسمه: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109]
محمد إقبال دائماً أكرر شعره؛ لأن فيه إيماناً وحباً وطموحاً، والمقصود هنا: ماذا قال عن المساجد، وهذا الرجل له قصيدة ترجمها أبو الحسن الندوي وأشار إليها نجيب الكيلاني، كان يدرس الفلسفة في بون، وكان مؤمناً يحمل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
بحث عن مسجد فما وجد في بون مسجداً، فنظم قصيدة اسمها: بحثت عنك يا رسول الله في ألمانيا، يقول: يا رسول الله بحثت عنك فما وجدتك أين أنت؟ هو يدري أنه في المدينة.
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا التاريخ أنت المحرر
تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر
قال: ما وجدتك يا رسول الله، أين أنت؟ بحثت عن مسجدك، فما وجدته في بون، وجدت الناطحات، والسيارات، والقاطرات، والشاحنات، ولكنني ما وجدت الذي أنزل عليه الآيات البينات، وعبد الوهاب عزام يترجم هذا الكلام، يقول:
أرى التفكير أدركه خمول ولم تبق العزائم في اشتعال
وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقال
وعند الناس فلسفة وفكر ولكن أين تلقين الغزالي
وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالي(311/4)
دور المسجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
إن حضارته عليه الصلاة والسلام التي أقامها لا تقوم إلا على المسجد، ولا تصلح إلا به، ولا يكون لها نور إلا به، وكان للمسجد دور كبير في حياة النبي كما سيأتي.(311/5)
المسجد مبدأ الإنطلاقة الأولى للإسلام
أولاً: من معالم المسجد في حياته عليه الصلاة والسلام، أن منه الانطلاقة الكبرى للرسالة الخالدة، إذ انطلقت من المسجد.
أول ما وصل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وضع حجر الأساس إيذاناً بافتتاح المسجد، فجعله عليه الصلاة والسلام جامعة كبرى للعقائد، والأخلاق والسلوك والآداب والشعر والخطابة والطموح.
يقول الأستاذ علي الطنطاوي، وأنا أحب أدب هذا الرجل، وهو إذا كتب أحسن منه ألف مرة إذا تكلم، وما سحره إلا في كتابته، يقول: مبادئنا تعلن كل يوم خمس مرات من على مآذن المسجد، ليس عندنا ألغاز ولا أحاجي ولا ألغام، وإنما عندنا مبادئ واضحة ربانية، نحن معنا جامعة في المسجد، نرسل الشعاع للعالم، أو كما قال.
ويقول بعد المسجد: سلوا كل سماء في السماء عنا، وسلوا كل أرض في الأرض عنا، من الذي حرر العقل من رهق الخرافة؟ سيقول: المسلمون، إلى مقالة طويلة قالها -لا شلت يده- في فضائل المساجد وفي مكانتها في الإسلام.
والمقصود هنا: أمهمة المسجد منحصرة في خمس صلوات ثم يغلق؟
أمهمة المسجد أن يبقى لصلاة الجمعة مرة في الأسبوع؟
أمهمة المسجد أن يجتمع الناس دقائق معدودة ثم ينتهون؟
لا.
إنه أكبر من ذلك إنه تفجير طاقة، ولذلك تجدون المستشرق المجري المجرم جولد زيهر، ويسمونه زهير، لأنه عرب اسم أبيه، صاحب الهجوم على السنة، والذي رد عليه أبو رية برد أقبح من فعل ذاك.
يقول: ما زال المسلمون في قوة مادام معهم القرآن والمسجد.(311/6)
المسجد كان جامعة علمية كبيرة
الرسول عليه الصلاة والسلام يخبرنا بفعله ما هي مهمة المسجد في الإسلام
أولاً: إنه جامعة علمية، بعث عليه الصلاة والسلام معلماً، يقول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الحديث} ويقول له سبحانه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114]
إذاً هو المعلم، والله يقول له: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد:19]
في السنن: {يدخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فيجد حلقتين، حلقة يدعون الله ويسألونه ويتضرعون إليه، وحلقة أخرى يطلبون العلم ويسألون، قال عليه الصلاة والسلام: هؤلاء العباد، يدعون الله إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون العلم وإنما بعثت معلماً، ثم جلس معهم عليه الصلاة والسلام}.
إذاً: دعوته هي العلم، ورسالته تنبني عليه، لكن بالإيمان كما قال الله: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ} [الروم:56] فعلم بلا إيمان، يسمى علمنة لا دينية، وهي مذهب ضال رعديد، وأنتم تعرفون دور العلمنة في فصل الناس عن الدين وعن المسجد، والمصحف، والتسبيح، والكعبة وزمزم، وذلك يوم تصورت أن الدين يحارب العلم كما وجدته في الكنيسة، وهذا خطأ.
العلم بلا إيمان كفر بالله، وأول من أدخله في المشرق مصطفى كمال أتاتورك عليه غضب الله، وتبعه صنف من الناس كثير ساروا على منهجه في فصل المسجد عن الأمة وقالوا: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، وليس للمسجد دخل في شئون الناس، ولا تتحدث عن شئون الناس في المسجد، وتحدث عن التيمم والحيض، والغسل من الجنابة، والسواك، لكن لا تتحدث عن الاقتصاد، ولا عن الشباب، ولا عن مشاكل العالم، ولا عن المال، ولا عن الاجتماع في المسجد، وهذا خطأ كبير، وسوف يكون لنا تعريج على ذلك.
والرسول صلى الله عليه وسلم، أكثر حلقاته وتعليمه في المسجد: {جلس -كما في صحيح البخاري - وكان أبيض أمهق مرتفق} الأبيض الأمهق: الموسوم بحمرة، والمرتفق: المتكئ -فدخل ضمام بن ثعلبة - أخو بني سعد بن بكر من الطائف -على ناقة فعقلها في باب المسجد، وتخطى الصفوف، قال: أين ابن عبد المطلب؟ -يقصد رسول الهدى عليه الصلاة والسلام- فقال له الناس: ذاك الرجل الأبيض الأمهق المرتفق رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: يابن عبد المطلب! هو ابن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وجده عبد المطلب، لكن جده كان عند العرب أشهر من أبيه، حتى يقول في المعارك:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
قال: قد أجبتك، قال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، قال: سل ما بدا لك -وظن أن السؤال فرعي أو جزئي، لكنه سؤال مطلق وعام- قال: يا رسول الله! قال: نعم.
قال: من خلق السماء؟ قال: الله، قال: من بسط الأرض؟ قال: الله، قال: من نصب الجبال؟ قال: الله، قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال، آلله أرسلك؟ فتربع وقال: اللهم نعم.
قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال، آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم.
فأكمل أركان الإسلام، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص، أنا ضمام بن ثعلبة: أخو بني سعد بن بكر، ثم تولى وركب ناقته، فقال عليه الصلاة والسلام: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا.
إسلام بسيط سهل، وقد تعرض سيد قطب لهذا الحديث وشرحه شرحاً وافياً، وقال: إن هذا الإسلام هو الذي ناسب العالم، ولذلك فهذا الدين يكتسح العالم، وهو الفجر الجديد، ولكنه لا ينطلق إلا من المسجد كما انطلق في أول يوم.(311/7)
المسجد منتدى لاستقبال الوفود
جعل الرسول عليه الصلاة والسلام المسجد هو المنتدى الرحب لاستقبال الوفود، ورسل الملوك، وممثلي القبائل، كل وفد يستقبله صلى الله عليه وسلم في المسجد لأنه المكان المناسب لتبادل الرأي والشورى والحكمة، وللأخذ والعطاء.
بل أكثر الوفود، ما وفدت عليه صلى الله عليه وسلم إلا وهو في مسجده، وفد عبد القيس، وفدوا عليه وهو جالس بعد صلاة العصر، قال: من الوفد؟ والرواية عند مسلم من حديث ابن عباس، قال: من القوم؟ -وقيل: من الوفد؟ - قالوا: ربيعة، قال: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى- خزايا: جمع خزيان، وندامى: جمع نادم أو ندمان- قال: إني آمركم ثم سرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمور الإسلام، ثم ودعهم من المسجد، وجلس عليه الصلاة والسلام طيلة عمره، وغالب أوقاته في المسجد يعلم، ويخطب ويفتي، ويتكلم ويرشد ويعقد الرايات -كما سوف يأتي- ويدير شئون الأمة الإسلامية من مسجده صلى الله عليه وسلم.
كريسي موريسون أمريكي مطلع كاد أن يسلم لكن لا أدري ماذا حدث له؟ يقول: في كتاب الإنسان لا يقوم وحده: ليس العجب من محمد أن يبعث نبياً فقد بعث الله أنبياء قبله، ولكن العجب أن يبقى أربعين سنة لا يتعلم ثم يخرج إلى الناس فإذا هو أخطب خطيب، وأفتى مفتي.
إنها حكمة الله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4].
يقول أيضاً: ما للنحلة تغادر خليتها وتذهب ثم تعود برحيق الزهر؛ من الذي علمها أن تعود إلى خليتها؟ أعندها آريال؟ قال سيد قطب: ليس عندها آريال، ولكن عندها: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68].
وهذا إنما هو استطراد، والمقصود: أن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج للناس هكذا، ثم أصبح في المسجد فإذا هو أعلم الناس والله يقول: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] ولو كنت تكتب لقالوا: كتبت القرآن ولو كنت تقرأ لقالوا: قرأت صحف الأولين، ولو كنت تقول الشعر، لقالوا: نظمت كتاب الله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] إنك أتيت أمياً للأمة الأمية فأخرجتها من صحراء الوثنية والتخلف؛ صحراء الإبل والبقر والغنم إلى ضفاف دجلة والفرات، وإلى قرطبة وسمرقند، وطاشقند والسند، يهللون ويكبرون ويسبحون بحمد الله، أليست هذه معجزة؟ بل هي أكبر معجزة في تاريخ الإنسان، يقول محمود غنيم:
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه
ليس المعجزة فقط في أن تحول الطعام القليل إلى كثير، أو تفجر من الصخر ماء، لكن المعجزة الكبرى أن تخرج أمة هي تتقاتل على موارد الشاة، إلى أمة تتكلم بألسنة الدهر وتخطب على منابر التاريخ، هذه أعظم معجزة له عليه الصلاة والسلام.
يقول شوقي:
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
والمقصود: أن عيسى عليه السلام أحيا ميتاً بإذن الله، فأنت أحييت -بإذن الله- ملايين مملينة، وانطلقوا من المسجد، فما من منارة في الدنيا يذكر عليها الله ويؤذن إلا واسم الرسول صلى الله عليه وسلم معه، يقول مجاهد بن جبر رحمه الله مفسر مكة قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] قال: ما ذكرت إلا ذكرت معي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
فذكره دائماً يدوي عليه الصلاة والسلام من على المنائر.(311/8)
المسجد منتدى أدبياً
استقبل عليه الصلاة والسلام في المسجد الشعراء، فجعل صلى الله عليه وسلم من المسجد روضة للأجر والثواب، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح}.
وقال في الصحيح عليه الصلاة والسلام: {ما جلس مؤمن ينتظر الصلاة في مصلاه إلا كان في صلاة تقول له الملائكة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث}.
ويقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث جابر: {أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهراً يغتسل منه كل يوم خمس مرات، أيبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا والذنوب}.
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط}.
قال الحسن البصري: [[أيها المؤمن! لن تعدم المسجد إحدى خمس فوائد أولها: مغفرة من الله تكفر ما سلف من الخطيئة، وثانيها: اكتساب رجل صالح تحبه في الله، وثالثها: أن تعرف جيرانك فتتفقد مريضهم وفقيرهم، ورابعها: أن تكف سمعك وبصرك عن الحرام، وخامسها: أن تسمع آية تهديك]].
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] كان المسجد في عهده صلى الله عليه وسلم منبراً للخطابة، وإحياء الكلمة المؤثرة.
إن أفصح من تكلم بالضاد هو محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يجيد حبك الكلمات صلى الله عليه وسلم.
ومن معجزاته البلاغة، رجل عاش بين جبال مكة، لا قرأ ولا كتب ولا تتلمذ ولا دخل كتاتيب، ولا درس على يد شيخ، ولا جامعة، ولا مدرسة، ثم يخرج للتاريخ وللعالم وللدهر بعد أربعين فيتكلم بأفصح عبارة أليس هذا هو العجب العجاب؟! يقول صلى الله عليه وسلم: {ألا إني أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصاراً} وفي حديث عمرو بن العاص قال: {أوتيت مفاتيح الكلم وخواتمه} يقول أهل العلم، من علماء الحديث وذكره السباعي في السنة ومكانتها في التشريع يقول: إن من ميز علم الحديث عند أهل السنة أنه لا يستطيع أن يقول العبارات إلا الرسول عليه الصلاة والسلام، مثل حديث: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى} من يستطيع أن يقول مثل هذه العبارة، حديث: {احفظ الله يحفظك} حديث: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها} لا يستطيع ذلك إلا هو عليه الصلاة والسلام.
بالله لفظك هذا سال من عسل أما قد صببت على أفواهنا العسلا
أم المعاني اللواتي قد أتيت بها أرى بها الدر والياقوت متصلاً
إذاً: ومن مهمة المسجد في عهده عليه الصلاة والسلام أنه نادٍ أدبي، يؤمه رواد الشعر وأبطال القافية، مع أنه للعبادة وللخطابة ولاستقبال الوفود، جعله نادياً أدبياً يتحرر فيه الإنسان من قيود النثر أحياناً، وينطلق مع النظم، كان صلى الله عليه وسلم يقرب المنبر لـ حسان، ويقول: {اهجهم وروح القدس معك} وكان صلى الله عليه وسلم يقول لـ حسان بجانب المنبر: {كيف أنت وكفار قريش، أي كيف الهجو؟ قال: معي -يا رسول الله- لسان لو وضعته على حجر لفلقه، ولو وضعته على شعر لحلقه} ثم ينطلق بالقافية.
وعند البخاري: أن عمر رضي الله عنه مر بـ حسَّان وهو ينشد بالمسجد فلحظ إليه، فغضب حسَّان وقال: كنت أنشد وفيه من هو خير منك، أي: رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال أبو هريرة: نعم.
يؤكد ذلك.
ووقع في عهده عليه الصلاة والسلام حوار أدبي ومفاحمة بين بني تميم وبين حسان، وفدوا سبعة وقيل: ثمانية، معهم الزبرقان بن بدر، وحدث هناك صراع في حلبة الشعر، وغلب وانتصر الرسول عليه الصلاة والسلام في المسجد، وغلب خطيبه خطيبهم في المسجد، وانتصر عليه الصلاة والسلام في عالم الأدب كما انتصر في عالم الشجاعة في الميدان.(311/9)
المسجد ميدان للتربية العسكرية
ومن مهمة المسجد أن يكون تربية للقادة العسكريين، وللأبطال المنازلين، ولشباب الإسلام الفاتحين، كان عليه الصلاة والسلام يعقد الرايات من المنبر، وكان يعلن الحرب من ذلك المكان، ولبس الخوذة يوم الجمعة على المنبر، وأخبر أن أبا سفيان قد هدد المدينة، وأعلن الحرب عليه من هناك.
هذه الأساليب العصرية يقولها صاحب كتاب الرحيق المختوم في سيرة النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام، للمباركفوري وهو كتاب جيد، وأخذ الجائزة العالمية في السيرة، وأحسن كل الإحسان، الأسلوب الطريف الذي لا يتطور حتى يصير البياض برصاً كما فعل بعض الناس، لكنه معتدل في أسلوب العصر، يقول مثلاً من هذا: الرسول عليه الصلاة والسلام يعلن الحرب على أبي سفيان من على المنبر، الرسول عليه الصلاة والسلام يعلن حالة الاستنفار في المدينة، الرسول يجتمع بكبار أصحابه في مجلس شورى مغلق، أبو بكر يعلن سياسة حكومته الجديدة، عمر بن الخطاب يصدر مرسوماً أولياً بعزل خالد، هذا أسلوب عصري.
أما الأسلوب الذي أشير إليه في بعض المحاضرات وأرجو أن يكف عنه بعض الناس وهو امتهان العبارة الشرعية، مثل أحد الخطباء في شريط يقول: الرسول عليه الصلاة والسلام اتصل بلاسلكي من بدر، وقال: عاوزين ألف مقاتل من الملائكة.
فأصبح هذا أسلوباً مستخذلاً عند أهل العلم، قال: فنزلت فرقة الكمندوز، يقودها جبريل، وهو قائد الفرقة الثامنة والثلاثين، ومتخصصة في النسف والإبادة والتدمير، فأهل العلم اعترضوا على هذا وقالوا: لا.
البياض إذا كثر أصبح برصاً، رويداً رويداً.(311/10)
حقوق المساجد على المسلمين
الرسول عليه الصلاة والسلام جعل للمساجد على المسلم حقوقاً نذكر منها ما يأتي:(311/11)
تنظيف المسجد وتطييبه
أولاً: تنظيفه وتطيببه.
الأمة المنظمة والنظيفة، والأمة المهتدية هي الأمة الإسلامية، والصور التي توجد في هذا العصر ليس مسئولاً عنها الإسلام، المسئول عنها الذين لا يعرفون الإسلام، ما تعلموا في مدرسة الإسلام، وما عرفوا روحه.
أما أن نخطئ ونسبب الخطأ إلى الإسلام فليس بصحيح، عند أحمد وأبي داود، والترمذي بسند حسن: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالمساجد أن تبنى في الدور وتنظف وتطيب} الدور: الحارات، يقول: دار بني عبد الأشهل، ودار بني عبد النجار، ودار بني حارثة، يعني: قراهم، فأمر صلى الله عليه وسلم أن تنظف وتطيب، وكان لمسجده صلى الله عليه وسلم رجل اسمه نعيم بن مجمر وقيل: المجمر، يجمر المسجد كل جمعة بالأطياب والروائح الزكية، فتفوح فتنتشي النفوس وترتاح ببيت الله عز وجل.
كان بمسجده صلى الله عليه وسلم مؤذن، مهمته أن يصدح بصوته كل يوم خمس مرات، ليسمع الناس فيأتون إلى بيت الله عز وجل، بل كان له خمسة مؤذنين عند كثير من أهل العلم.
كان صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى تنظيف المساجد، ويخبر أنها من أفضل الأعمال عند الله عز وجل؛ رأى بصاقاً في جدار مسجده مرة، فغضب غضباً شديداً، وحك البصاق وقال: {البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها} رواه البخاري، {ودعا رسول الله بخلوق -بطيب- وطيب بيده الشريفة مسجده}.(311/12)
لا يحل المسجد للحائض والجنب
الثاني: أمر صلى الله عليه وسلم بتجنيب الحائض والجنب ومن في حكمهم المسجد، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب} ولذلك حتى مصلى العيد لا تدخله الحائض ولا الجنب، إلا عابر سبيل إذا عبر من باب إلى باب لغرض كما قال سبحانه: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] أما الحائض فلا تقترب، لأن هذا مكان قداسة وسمو وخلود وطهارة.(311/13)
عدم رفع الصوت والبيع في المسجد
ومنع عليه الصلاة والسلام من رفع الصوت وإزعاج المصلين، ومنع صلى الله عليه وسلم التشويش على القراء -داخل المساجد- أو بعض المصلين أو المسبحين أو المتهجدين، انضباط وخشوع وخضوع.
كان عمر رضي الله عنه وأرضاه، جالساً في المسجد، فأتى رجلان من أهل الطائف فترافع الصوت في المسجد قال: عليّ بهما، فأتي بهما قال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: والذي نفسي بيده لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً، وعمر إذا حلف حلف.
حتى وضعت يميني ما أنازعها في كف ذي نقماتٍ في قوله القيل
والسبب في ذلك: أنهم أبعد عن معرفة الأحكام أو عن جزئيات الأحكام، فعذرهم بهذا الجهل.
الرابع: تحريم البيع والشراء في المسجد، فإنما وضع للتسبيح والالتقاء والصلاة وذكر الله، يكفي بقية الأربع والعشرين ساعة نمضيها في الأسواق، وفي البيع والشراء والمكاتب والفصول والدنيا، والحديث والتراب، ثم تبقى هذه الدقائق لنلتقي فيها بالله رب العالمين، فتبقى خالصة لله، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه النسائي والترمذي: {من سمعتموه يبيع ويشتري في المسجد فقولوا له: لا أربح الله تجارتك} وهذا سنة، وحملها أهل العلم على التحريم، فإن من باع واشترى في المسجد ارتكب أمراً محرماً؛ لأنه خدش قداسة الشريعة، وانتهك حرمتها وصيانتها.(311/14)
تحريم إنشاد الضالة في المسجد
الأمر الخامس: تحريم إنشاد الضالة فيه، فعند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من سمعتموه ينشد ضالة في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا} ويلحق بهذا من استوصف الناس أوصافاً، أو يتكلم في أمور خارجية، وألحق بعض العلماء الفضلاء من يدعو الناس للولائم داخل المسجد، بل ينتظرهم حتى يخرجوا؛ لأنه يحول المسجد إلى فوضى، وبعضهم يقوم ويخبرهم بمشروع زواجه، ومن هي القبيلة التي سوف يستقبلونها، وكم يريد من العدد، محاضرة كاملة حتى يشوش على المصلين، وهذه الفوضى بعينها، وبعض الناس حوّل المسجد إلى روضة أطفال كلما تأذى من أطفاله في بيته؛ أتى بهم إلى المسجد، وهذا لا يسمح به الإسلام أبداً.
المسجد احترام وانضباط وتعليم، والمسجد خضوع وخشوع لله رب العالمين.
نهى صلى الله عليه وسلم عن إقامة الحدود في المسجد لما روى أحمد وأبو داود بسند فيه نظر: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن تقام الحدود في المسجد، ويستقاد فيها} ولا يجلد الزاني في المسجد ولا يرجم، ولا يجلد شارب الخمر في المسجد، إلى غير ذلك، بل خارج المسجد، لأنها تأديب وتعزير وتطهير للعصاة، والتطهير إنما يكون خارج المسجد، كما قال بعض الفضلاء الأجلة.(311/15)
عدم التباهي بزخرفة المساجد
السابع: عدم المباهاة بالزخرفة في بنائها، إن عمارة المساجد ليست بالبهرجان، وليست بهذه المظاهر الخلابة، ولا النقوش المبهرجة، إنما عمارتها بأن تحيا بالعلم والصلاة والخشوع والخضوع {وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من علامات الساعة أن يتباهى الناس بعمارة المساجد} ثم لا يعمرونها إلا قليلاً، وهذا أمر تم وحصل وظهر للناس:
وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خال
وأصبح -أحياناً- موسماً لبعض الناس أن يتباهى بإخراج ثرائه في ركوشات وزخرفة ما أنزل الله بها من سلطان.(311/16)
سنة تحية المسجد
الثامن: سن النبي صلى الله عليه وسلم للداخل إلى المسجد تحية المسجد، نافلة يتقدم بها بين يدي عبادته في المسجد، وهي ركعتان لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة في الصحيحين: {إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} حتى أوجبها بعض أهل العلم والدليل على ذلك: {أن رجلاً دخل يوم الجمعة والمصطفى صلى الله عليه وسلم يخطب وجلس ولم يصلِ، قال: أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصلِ ركعتين وأوجز} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(311/17)
لطائف عن المسجد في عهده صلى الله عليه وسلم(311/18)
ربط النبي صلى الله عليه وسلم أسيراً في المسجد
من اللطائف عن المسجد: أن الرسول عليه الصلاة والسلام ربط أسيراً في المسجد، وهذا يدل على جواز ربط الأسير -ولو كان كافراً- في المسجد، وجواز إدخال الكافر للتعليم، لأن يسمع كلام الله في المسجد، استدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة في الصحيحين: أن ثمامة بن أثال، وهو سيد بني حنيفة، أراد أن يهاجم الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة، وكان قائد بني حنيفة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا أعدو عليه إن شاء الله، فأرسل عليه أبا سليمان خالداً سيف الله المسلول.
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا خاب راميها
فصاده خالد كما يصاد الثعلب، وأتى به إلى المدينة وربطه في المسجد، وخرج عليه الصلاة والسلام على هذا السيد، وكان من رجالات العرب، قال: يا محمد! إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم يقول -انتبه: إن عفوت عني سوف أحفظ جميلك، وإن قتلتني فلا تظن أن دمي سوف يذهب هدراً، ورائي ألوف- فتركه عليه الصلاة والسلام وصدف عنه، وكان يسمعه آيات الله البينات في الصلوات: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] منطق العقل والحجة والبرهان لا تضربه ولا تقتله حتى تحاوره وتناقشه وتفهمه: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] فلما سمع كلام الله ثلاثة أيام، قال: أطلقني يا محمد، فأطلقه، فذهب إلى النخل واغتسل وأتى وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
إن من الحكمة أن يؤتى برجل ولو كان كافراً، يسمع كلام الله، يسمع الخطبة، يسمع قراءة الإمام، فإن هذا جائز عند أهل العلم، نصوا على ذلك لحديث في الصحيحين.
والمقصود الأعلى في هذا: أن نسمع الناس الحجة، أن نسمعهم كلام الله، أن نبلغ دوعتنا للناس، وهاهو قد مر علينا قرنان من الزمان لم نقدم للبشرية شيئاً ونحن عالة عليهم في عالم المادة، فالواجب أن نقدم لهم الإيمان كما يقول كريسي موريسون: قدمنا لكم الثلاجة والبرادة والطائرة والصاروخ وما قدمتم لنا الإيمان.
هم يريدون الإيمان، فأين من يقدم الإيمان؟ حتى الإبرة والطباشير مستوردة منهم والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، فيا ليت أننا ارتفعنا في عالم الإيمان، يوم نكصنا في عالم المادة، ولا يعني ذلك أن عالم المادة هو العلم المقصود، فالله يقول: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].(311/19)
التمريض في المسجد
تمريض المريض في المسجد للحاجة، -وأنا أبين أحكام ولطائف وقعت، وقد تقع أو لاتقع لكن ليكون المسلم على بصيرة، يمرض المريض في المسجد، وقد يداوى في المسجد، فاستدل أهل العلم في الحديث الصحيح أن سعد بن معاذ رضي الله عنه جرح في الخندق فوضعه صلى الله عليه وسلم في المسجد ليزوره من قرب، يقول سعد بن معاذ: اللهم إن كنت أبقيت حرباً لرسولك مع يهود فأبقني، وإن كنت أنهيت الحرب فاقبضني إليك، فثار جرحه ومات، تقول عائشة: كما ذكر الذهبي في ترجمة سعد -تقول: والذي نفسي بيده، إني كنت أعرف بكاء الرسول عليه الصلاة والسلام من بكاء أبي بكر وعمر من وراء الباب، وكان أبو بكر يقول: وا كسر ظهراه عليك يا سعد، واكسر ظهراه عليك يا سعد.
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد شهم يموت بموته بشر كثير
هذا سعد اهتز له عرش الرحمن لما مات والحديث صحيح، وقال حسان:
وما اهتز عرش الله من موت هالك سمعنا به إلا لـ سعد أبي عمرو
تغالب الأوس والخزرج في مجلس، قال الخزرج: منا أربعة يحفظون القرآن، قال الأوس: منا من اهتز له عرش الرحمن فأسكتوهم.(311/20)
لعب الحبشة في المسجد
الحبشة يلعبون بالحراب في مسجده صلى الله عليه وسلم، هذا ليس حكماً مطرداً، وينص عليه أبو حامد الغزالي صاحب الإحياء وقد أجاد كل الإجادة، وقال: مثل من يرى سنة من السنن فعلها صلى الله عليه وسلم أو أجازها لحكمة في الدعوة أو في العلم كمثل من رأى الحشبة أو سمع بهم أنهم لعبوا بالحراب في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم مرة من الدهر، فكلما أتى إلى المسجد أخذ حربة ورقص قبل الصلاة قليلاً ثم صلى فإذا قلت له: مالك؟ قال: الحشبة رقصوا بالحراب، وهذه لا تسمى سنة مطردة، بل هي مفاجأة وطارئة لحدث وهو أنه أراد صلى الله عليه وسلم أن يتألفهم، أناس دخلوا في الإسلام لأول وهلة وأرادوا أن يتحفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء فاجتمعوا صفين وأخذوا الحراب، وأخذوا يرقصون ويقولون: محمد عبد صالح، محمد عبد صالح.
هذا تحصيل الحاصل، وإلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من ذلك، هذا من شعر بعض الناس في المخيمات يقول:
رأيت الحق منهزماً فليت الحق لم يهزم
أبرد من الثلج، فهذا شعرهم، هكذا يقولون: محمد عبد صالح، محمد عبد صالح، فأشرف عليه الصلاة والسلام عليهم وإذا عمر لم ير الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذ يحصبهم بالحصى، وكان عمر قوياً في دين الله، قال صلى الله عليه وسلم: {دعهم يا عمر ليعلم يهود أن في ديننا فسحة} والمقصد من ذلك: تأليف قلوبهم للإيمان.
القضية أكبر من قضية اللعب، تأتي إلى إنسان يغني وهو لا يصلي، قال أهل العلم: لا تتكلم له في الغناء؛ لأن القضية أكبر من ذلك، أتى صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة وهم يعبدون الأصنام، ويسجدون للأوثان ويشربون الخمر، أينهون عن الخمر في الحرم؟ لا.
يقول ابن تيمية: إن الطبيب إذا شكا من جسمه مرضين مختلفين داوى الأخطر، فالحكمة أن يبدأ بالأهم، والمقصود هنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركهم فسحة في المسجد، فأخذوا راحتهم فلما رأوا أريحيته؛ أسلموا عن بكرة أبيهم.(311/21)
حرمة اتخاذ القبور مساجد
من المحذور في المساجد: أن تتحول إلى مقابر، كما فعلت بعض الأمم والجاليات والشعوب حولها، رأيناها جهاراً نهاراً، حولوا مقابرهم إلى مساجد وتوسلوا بالقبور، وأشركوا في دين الله، وقطعوا علائق التوحيد، يقول عليه الصلاة والسلام: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وذلك لأنهم جعلوا القبر مكاناً يصلى فيه، والإسلام بريء من هذا العمل، المسجد شيء والقبر شيء آخر، والأموات لا يملكون ضراً ولا نفعاً ولاموتاً ولا حياة ولا نشوراًً.
وإنما أتينا إلى المسجد لندعو حياً قديراً قوياً عالماً، يضر وينفع ويحيي ويميت سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، هذا ابن عربي صوفي دخل مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ولما أصبح عند الروضة سلَّم وقال:
في حالة البعد نفسي كنت أرسلها تقبل الأرض عنكم وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
قال: فانشق القبر وصافحني، وهذا كذب وافتراء على الله، لم يصافحه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، وإنما هذه من الخزعبلات، والبرعي شاعر اليمن خزعبل كذلك يقول:
يا رسول الله يا من ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاماً
فأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاماً
فيقول الألوسي راداً عليهم: تركوا الحي الذي يسمع النداء وهو أقرب من نداء القريب إلى القريب، ونادوا الميت الذي لا يسمع، فالمقصود من هذا: تجريد التوحيد في المسجد، وسر الرسالة في المسجد أن تفرد العبودية لله.(311/22)
من مزايا المسجد
يقول الأستاذ علي الطنطاوي عن المسجد: ميزة المسجد أنه يساوي بين الناس، فيأتي الخطيب يوم الجمعة، فلا يقدم مقدمات للصفوف الأولى، لا.
يقول: يا جنرالات، ولا يا أمير المؤمنين، ولا يا مهندس، ولا يا فخامة فلان، إنما الناس سواسية يتكلم لهم بقوة، ويجب عليهم أن يسمعوا وأن يصغوا لما يقول.
ثم المسجد ميدان للشورى وبرلمان حافل لتبادل الآراء، والإسلام لا يقتل الكلمة، أنت رجل وأنا رجل، وأنا إنسان وأنت إنسان عليّ أن أسمع منك وتسمع مني قال تعالى في الكافر: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] فكيف بالمؤمن.
قال ابن إسحاق: وقف عمر رضي الله عنه وأرضاه على المنبر يخطب الناس فقال: [[أيها الناس: ما رأيكم لو صدفت عن الطريق هكذا -أي ملت في العدل والدولة، أو ملت عن الإسلام والشريعة- فسكت الصحابة أي: هائبين ومقدرين لـ عمر رضي الله عنه- فقام أعرابي من آخر المسجد معه سيفه -فأخرج سيفه وقال: يا أمير المؤمنين! والذي نفسي بيده، لو ملت عن الطريق هكذا، لقلنا بالسيوف هكذا، لو كانت هذه الكلمة قيلت لغير عمر لقال: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:30 - 31] فقال عمر: الحمد لله الذي جعل من رعيتي من إذا قلت عن الطريق هكذا، قالوا بالسيوف هكذا]].
وروى أهل العلم كـ الذهبي وغيره أنه عمر قال مرة: [[أيها الناس! اسمعوا وعوا -على المنبر- قال سلمان: والله لا نسمع والله لا نعي، قال ولمَ؟ قال: تلبس ثوبين وتلبسنا من ثوب ثوب -لأنه أتى بلباس من اليمن هدايا، فكان عمر طوالاً، فأخذ ثوب ابنه عبد الله وثوبه- فقال عمر رد عليه يا عبد الله، فرد عليه وقال: هذا ثوبي من بيت مال المسلمين أعطيته أبي فلبسه مع ثوبه، قال سلمان: الآن قل نسمع وأمر نطع]] واندفع عمر يتكلم.
نعم.
والحق شورى والحقوق قضاء.
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
أيها المسجد يا مأوى الحنين فيك يا مسجد فجر المؤمنين
فيك أطياف الهدى قد سبحت وسرى في قلبك الحب الدفين
وبلال الشوق نادى سحراً ادخلوها بسلام آمنين
يا مسجداً ما أجملك ما خاب عبد أملك
إن تحم عيني أن تراك جعلت قلبي منزلك
القلب حن إلى رؤاك نادى جنابك هيكلك
منك يا مسجد الطموح انطلقنا كالضياء الجميل في الآفاق
ورسمنا خلودنا من معانيك وفي راحتيك أحلى العناق
صوتك العذب بـ نهاوند أضحى يتهادى إليه أهل العراق
أشكركم شكراً جزيلاً على استماعكم وما بقي من وقت فللأسئلة، وأكرر شكري للنادي الأدبي الرائد الحافل، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(311/23)
الأسئلة(311/24)
بعض المناظرات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل لفضيلة الشيخ أن يذكر لنا بعض المناظرات الأدبية التي حدثت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد؟
الجواب
الحمد الله، حدث في عهده صلى الله عليه وسلم مناظرات عدة في المسجد، وأشهرها عند أهل السير والتاريخ ما وقع بينه وبين بني تميم عندما وفدوا بسبعة أو ثمانية، منهم قيس بن عاصم المنقري حليم العرب، الذي يقول فيه الشاعر:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته وما شاء أن يترحما
تحية من ألبسته منك نعمةً إذا زار عن شحط بلادك سلما
وما كان قيس موته موت واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
فـ قيس وفد مع الوفد، ووفدوا بـ الزبرقان بن بدر وكان عنده قصيدة أعد لها من زمن، وعطارد بن حاجب بن زرارة معه خطبة، فلما وفدوا عند الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم أسلموا، قالوا: لا نسلم حتى يغالب شاعرنا شاعرك، أي: نفاخرك، فقال صلى الله عليه وسلم: عليّ بـ حسان، فأتوا بـ حسان واجتمع الناس، وقام الزبرقان قال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا منا الملوك وفينا تنصب البيع
أو كما قال، فرد عليه حسان في الموقف نفسه وقال:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنناً للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
فغلبه، ثم قام عمرو بن الأهتم فألقى خطبة فغلبه ثابت بن قيس بن شماس فقال بنو تميم: غلب شاعرك شاعرنا، وخطيبك خطيبنا، ثم أسلموا.(311/25)
حكم إنشاد الشعر في المسجد
السؤال
ما هي أقوال أهل العلم في إنشاد الشعر في المسجد؟
الجواب
في هذه المسألة حديثان صحيحان، حديث مجيز وحديث يمنع، والجمع بينما سهل، أما الحديث الأول في الصحيحين: {أن عمر لحظ إلى حسان وهو ينشد في المسجد، فقال: كنت أنشد وفيه من هو خير منك} أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق، وأحاديث أخرى، ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم استمع الشعر في المسجد.
والحديث الثاني حسن رواه أبو داود في السنن وذكره ابن حجر في الإصابة، يقول عليه الصلاة والسلام: {من رأيتموه ينشد في المسجد شعراً فقولوا: فض الله فاك} الجمع بينهما يقال: أما الشعر المأذون به فهو الشعر الإسلامي المنضبط المباح، وأما الشعر الممنوع فهو شعر الغزل المقيت والفحش والبذاء والهجاء.(311/26)
حكم زخرفة المساجد
السؤال
فضيلة الشيخ، ماهو رأي الدين في إضفاء النقوش والكتابات والنحت في المساجد لقصد الزينة؟
الجواب
الكتابة من داخل المسجد ليس لها أصل في الشريعة، وقد بحثت هذه المسألة عند كثير من هيئة كبار العلماء، ولم يجدوا لها أصلاً عن رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، وإنما أدخلها في المسجد النبوي فيما أعلم السلاجقة، وقيل: العثمانيون وليس لها أصل في الإسلام من قبل، وليست من السنة في شيء، والرسول صلى الله عليه وسلم منع المباهاة بالزينة والزخرفة في مسجده صلى الله عليه وسلم وفي المساجد عامة، ومن عنده في ذلك دليل فليأتنا به.(311/27)
حكم بيع السواك خارج المسجد
السؤال
هل بيع السواك حرام علماً أنه خارج المسجد؟
الجواب
إذا بيع خارج المسجد فلابد من ضابط، أن يكون قبل النداء الثاني، أمَّا بَعْد النداء الثاني فيحرم بالإجماع عند أهل العلم، وأما بيعه خارج المسجد في أي وقت غير هذا الوقت فجائز.(311/28)
قصيدة: بانت سعاد
السؤال
ما مدى صحة الرواية التي تقول أن كعب بن زهير أنشد أمام الرسول قصيدته بانت سعاد؟
الجواب
الرواية يقول بوضعها ابن القيم وكثير من المحدثين كـ الذهبي وابن كثير وغيرهما، ولكنها تنجبر بمجموع الطرق وتعتضد، نعم صحيح أن القصيدة لـ كعب، ولكن الضعف عندهم، هل قالها كعب أمام الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد، وإلا فهي له وقالها في الرسول عليه الصلاة والسلام وقال أهل السير: إنه أتى في الليل وبات عند أبي بكر، وشكى إليه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أهدر دمه وقال: {من وجد كعباً فليقتله} فأتى ببانت سعاد فقلبي اليوم متبول، إلى آخر ما قال.(311/29)
صحة معجزة أنين جذع النخلة
السؤال
قرأت حديثاً يدور حول إحدى معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، ومعناها هو عندما استبدل عليه الصلاة والسلام جذع النخلة بالمنبر،
و
السؤال
ما مدى صحة هذا الحديث وما هو تعليقكم عليه؟
الجواب
هذا الحديث صحيح عن جابر في كتاب المساجد في صحيح البخاري: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له منبر من نخل، فقال لامرأة من الأنصار: مري ابنك النجار أن يصنع لي منبراً أكلم الناس عليه، فصنع له منبراً على ثلاث درجات -وهو السنة- فقام صلى الله عليه وسلم يتكلم على ذاك المنبر الجديد وترك القديم، فحن له القديم بصوت مرتفع، كصوت العشار وكبكاء الأطفال} {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] بل هو الحق الصراح، الجماد يسري في عروقه حب محمد عليه الصلاة والسلام فكيف بالمؤمنين؟! يقول الحسن معلقاً على هذا الحديث كما ذكر ابن حجر: يا عجباً لكم!! هذا خشب حن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تحنون له؟!
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرف نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن ذكراً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنَّا لعمر الله بعدك ماسلينا(311/30)
فقدان الماء للجنب
السؤال
ما رأي الدين في إنسان دخلت عليه الصلاة وهو جنب ولم يجد ماء وتوضأ وصلى وهو على جنابة؟
الجواب
لا.
ليس هنا وضوء، ومن دخل عليه الوقت وعليه جنابة وخاف أن يخرج الوقت فيتيمم ويصلي؛ لأن التيمم يكون إما لمرض أو لفقدان الماء، وهذا فقد الماء وخاف أن يخرج عليه الوقت، وهذا نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: لأن مداركة الوقت أولى من طلب الماء حتى يفوت الوقت، والصلاة بالتيمم هي ما أوجبه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليه، لأنه لم يجد ماء وفي قراءة (فإن لم تجدوا ماء) والقراءة المشهورة {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء:43].(311/31)
ثاني مسجد في الإسلام
السؤال
ما هو ثاني مسجد في الإسلام؟
الجواب
ثاني مسجد هو مسجد جواثى في البحرين، والبحرين هي الأحساء الآن، وهو إلى الآن معمور بعمارة قديمة بأطرافه الأربعة، وأسسه في عهده عليه الصلاة والسلام وفد عبد القيس بعدما وفدوا إليه عليه الصلاة والسلام.(311/32)
تدريس العلوم المعاصرة في المسجد
السؤال
كيف يكون المسجد الآن مدرسة لبعض العلوم المعاصرة؟
الجواب
ليس الأمر فرضاً أن يكون هناك تخصصات في المسجد، بل على الميسور، وما دام وقد وحدت جامعات تقوم بهذا الدور فلها ذلك القدر، لأن بعض الإمكانيات والملابسات والمقارنات وحاجة بعض العلوم كوجود بعض المعامل وكثير من الأقسام، وغيرها من التخصصات قد لا يتسنى وجودها في المسجد، لكن في حالة أن يكون هناك علم نظري يقرأ في حلقات فلا بأس، وذكر عن سعيد الحلبي أنه كان يدرس علم المثلثات في المسجد، ودرس كثير منهم المنطق في المسجد، والمأمون أدخل كثيراً من العلوم على المسلمين، يقول ابن تيمية: المأمون سوف يسأله الله عن العلوم التي أدخلها على المسلمين، أي: التي ما كان فيها خير.(311/33)
أحكام مصلى العيد
السؤال
هل يقال لمصلى العيد مسجد؟
الجواب
مصلى العيد يسمى مصلى ولا يسمى مسجداً؛ لأن المسجد هو ما تعود فيه الصلاة، إما صلاة في كل يوم مرة، أو الصلوات الخمس، ولذلك لا يصلي التحية من أتى يوم العيد أو الاستسقاء، بل يجلس في المصلى بخلاف المسجد؛ لأن المسجد اسم مكان لما يسجد عليه.(311/34)
العبرة بالمعنى لا بالتسمية
السؤال
إذا اتخذت حجرة أو مكاناً معيناً في إدارة أو في بيت بحيث تكون كمسجد فهل ينطبق عليها ما ينطبق بحق المسجد؟
الجواب
لا عبرة بالتسمية، العبرة بالمعاني، قد يسمونها صالة، وهم يصلون فيها دائماً الصلوات الخمس، وعرف ذلك عنهم فتأخذ حكم المسجد؛ لأن المعنى أنها أصبحت كالمسجد، أما أن يسميها صالة أو غرفة أو كذا، فليس العبرة إلا بالمعنى.(311/35)
حكم دخول الأطفال المساجد
السؤال
هل لدخول الأطفال سن معين وشروط معينة؟
الجواب
الذي يظهر عند أهل العلم إما أنهم جعلوا سن السابعة هي دخول المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما عند أحمد وأبي داود بسند صحيح: {مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع}.(311/36)
حكم اصطحاب الأولاد للمذاكرة في المسجد
السؤال
بعض الجيران يصحبون أولادهم للمذاكرة بين المغرب والعشاء في المسجد ما رأيكم في ذلك؟
الجواب
إذا انضبطوا وتأدبوا في المسجد فلا بأس، فإن المقصود من منعهم: منع التشويش على المصلين والإزعاج، فإن انتفت العلة انتفى المعلول.(311/37)
شبهة أن قبر النبي في المسجد النبوي
السؤال
ورد في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وكما تعرف أن قبر النبي عليه الصلاة والسلام داخل المسجد النبوي، ما هو تعليقك على ذلك؟
الجواب
أولاً في هذا الحديث ثلاث مسائل، يقول أهل العلم: يقول صلى الله عليه وسلم: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} والنصارى ليس لهم نبي إلا واحد هو عيسى عليه السلام، فكيف يجعل صلى الله عليه وسلم لهم أنبياء؟ قالوا: هذا من التغليب وهو باب معروف في النحو.
الأمر الثاني: كيف اتخذوها مساجد؟ قالوا: للعبادة والتوسل والقربات.
الأمر الثالث: أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد عصمه الله من ذلك، ولما حضرته الوفاة قال: {اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد} وبعض الناس كما نشرت بعض الصحف يتكلم في هذه القضية بمثل هذه الأوقات يريد أن يثير الناس بحجية أن القبر داخل المسجد، وهذا الكلام ليس له أساس من الصحة، أولاً: أن الله عصم رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعبد من دونه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قضاء وقدراً من الله.
الأمر الثاني: أن غرفته صلى الله عليه وسلم ليست في المسجد، وإنما هي كما يقول ابن القيم مثلثة الجدران في منظومته، وليس من يصلي يتجه للغرفة بل إنما هو يتجه إلى الروضة، وإلى القبلة ولا يتجه إلى غرفته عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثالث: أن أهل العلم من التابعين كـ سعيد بن المسيب وغيرهم سكتوا عن ذلك، وسكوتهم شبه إجماع والأمة لا تجتمع على ضلالة أبداً، وسكت عنها أهل القرون المفضلة إلى هذا القرن، ولا يمكن أن يجمع الله أمة رسوله عليه الصلاة والسلام على سنة باطلة أبداً.
فقل للعيون الرمد للشمس أعينٌ تراها بحق في مغيب ومطلع
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأهوائها لا تستفيق ولا تعي(311/38)
حكم التصافح بين الأذان والإقامة
السؤال
ماحكم التصافح في المسجد بين الأذان والإقامة والكلام أيضاً؟
الجواب
بين الأذان والإقامة لا بأس به، وفي فتاوى ابن تيمية أنه قال: التصافح بعد الصلاة بدعة، ومقصود ابن تيمية ما يفعله بعض الناس من الجاليات كما تعرف في بعض البلدان، إذا سلم سلم عن يمينه ويساره دائماً باستمرار، فجعلوها كأنها من السنة؛ حتى ما يسلم التسليمة الثانية إلا ويبدأ يسلم عليك وقد رآك في اليوم عشرين مرة، فهذه يقول ابن تيمية: ما كان يفعلها الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه، والسر في منع ذلك؛ لأنها تشوش على الذاكر بعد الصلاة، إذ من السنة أن تستغفر وتسبح ثلاثاً وثلاثين وبقية الأذكار، فإذا جعلت هذه سنة عطلت الفوائد والذكر والعبادة، فمنعها ابن تيمية وأهل السنة، وأما بين الأذان والإقامة فالأمر فيه سعة، صافح الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه والقادمين من الأعراب، وعانق بعض الناس وتكلم معهم فالأمر فيه سعة بإذن الله.(311/39)
حكم النوم في المسجد
السؤال
هل يجوز النوم في المسجد؟
الجواب
النوم في المسجد للحاجة جائز، وعند البخاري حديث أنس أنه قال: تغاضب علي وفاطمة بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، فخرج علي فنام في المسجد، فقال صلى الله عليه وسلم: أين هو؟ يعني: علياً؟ -قالت: في المسجد؛ غاضبني فخرج المسجد -بشر مهما بلغوا من الرقي ومهما بلغوا من الإيمان لكن يتعاملون تعامل البشر، رجل يغاضب زوجته -فخرج صلى الله عليه وسلم فوجده نائماً في المسجد، فأخذ يضربه برجله ضرباً خفيفاً ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب، قم أبا تراب، كان بنو أمية يعيرون علياً ويقولون قم أبا تراب، قال: والله إنها من أحب الكنى إلى نفسي، ثم يقول:
وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
ونام رسول الله في المسجد لحديث سهل بن سعد أنه اضطجع صلى الله عليه وسلم ووضع رِجلاً على رِجل، وقال ابن عمر في الصحيح: [[كنت رجلاً عزباً فأنام في المسجد]] وهذا الأمر وارد للحاجة، أما لغير الحاجة فلا.
هناك فنادق وأماكن وبيوت، لكن الإنسان إذا اضطر وما وجد مكاناً إلا المسجد؛ فله أن ينام كما فعل أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام.(311/40)
شهر من الأسى واللوعة في حياة الرسول
كل شخص يبتلى على قدر إيمانه، فالأنبياء أشد الناس بلاءً، ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم أشد الناس بلاءً، ومن ضمن بلاء النبي صلى الله عليه وسلم أن قذف في عرضه صلى الله عليه وسلم، فصبر حتى كشف الله هذه الغمة وهذه الفتنة التي دبرها ابن أبي لعنة الله عليه.
وفي هذه الفتنة دروس عظيمة وعبر جليلة لا يستغني عنها الداعية خصوصاً والمسلم عموماً.(312/1)
الابتلاء سنة كونية على المؤمنين
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وحجة الله على الهالكين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم باليمن والمسرات، وجمعنا بكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وثبتنا وإياكم على كلمة التوحيد، الكلمة الخالصة التي أتى بها محمد عليه الصلاة والسلام.
أيها المسلمون: عنوان هذه المحاضرة: شهر من الأسى واللوعة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام.
عاش صلى الله عليه وسلم في حياته شهراً كاملاً، كل هذا الشهر في هم وقلق وحزن وأسى، واحتراق ولوعة وفراق، هذا الشهر كما يقول بعض العلماء، أوقف الرسول عليه الصلاة والسلام على أعصابه، وقصة هذا الشهر يسوقها الإمام البخاري، وقد سبقت في مناسبات لكنها تعرض اليوم في قالب من الابتلاء الذي يتعرض له الصالحون.
وكثيراً ما نرى ونسمع كثيراً من الأسئلة من الشباب الملتزم وهم يشكون ما يلاقون من أذية واستهتار، ونقد مرير، وجرح غير مسئول ولا بنَّاء، يوجهه إليهم العابثون اللاهون اللاعبون، شاب يستقيم فيرمى بالتطرف والتزمت والتأخر والرجعية، وعدم الفهم للدين، وعدم التصور للإسلام الصحيح، فلا ندري ما هو الإسلام الذي يريده المنحرفون، هل يريدون أن يسير دين الله هزواً ولعباً؟ ولعلكم قرأتم وسمعتم بعض ماكتبه بعض المفكرين، وكيف تعرض لشباب الصحوة بسبب وبغير سبب ويأتي بقصص غير صحيحة.
أنا أجزم جزماً صحيحاً أنها ليست بصحيحة، كقوله أحياناً: لقيني شاب مستقيم في الإمارات فسألني عن الكلونيا، وهو لم يلق شاباً في الإمارات وما سأله عن الكلونيا، لكنه يريد أن يعلق، فينزل بخنجره على الشباب الملتزم، ويقول في التعليق: صعد الناس القمر، وهؤلاء الشباب لا زالوا يسألون عن الكلونيا، وهل إذا تركنا الكلونيا وحكم الكلونيا نصعد إلى القمر؟!
ويقول في مناسبة أخرى: رأيت شاباً ولحيته كثيفة، سبحان الله! وهل الرسول صلى الله عليه وسلم إلا كانت عليه لحية كثيفة؟
وهل جمال المسلم إلا بلحيته وهل هذه إلا سنة أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم؟
أكان صلى الله عليه وسلم مربياً للحيته أم حالق لها؟ أما ربى أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحسان، ومعاذ، وسعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد، وصلاح الدين، وابن تيمية، وابن القيم، وأحمد، ومالك، وأبو حنيفة، والشافعي أما ربوا لحاهم؟ أو ليس الأصل تربية اللحى وخلاف الأصل حلق اللحى؟ فلماذا يصبح الشاب متهماً لأنه ربى لحيته، أو لأن عليه لحية كثيفة؟
ثم يقول في معرض كلام آخر: رأيت شاباً له ثوب قصير، فقال له هذا المفكر: إن الإسلام ليس في هذا الثوب القصير، يا سبحان الله! هذا الشاب اهتدى وأخذ تعاليمه من محمد عليه الصلاة والسلام، أتلومه لأنه قصر ثوبه وطبق السنة؟!
ويقول في معرض كلام آخر: رأيت شاباً آخر يهاجم الغناء ويدعي أن الغناء محرم، ومن حرم الغناء؟! ولم يعلم هذا أن الذي حرم الغناء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقول لهذا المفكر: سامحك الله وعفا عنك، لماذا لم تهاجم أعداء الله من اليهودية وأذناب الصهيونية، والشيوعية؟ أما وجدت حرباً إلا مع هؤلاء الشباب؟ ولكن نقول: إن الله معنا وإن هذا من الابتلاء قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]:
حسدوا الفتى أن لم ينالوا سعيه فالناس أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها بغضاً ومقتاً إنه لدميم
وإنه لجميل لكن هكذا البغي والمقت.
ولذلك روي في بعض الآثار -والله أعلم- أن موسى قال لربه: {يا رب! أسألك مسألة، قال: ما هي يا موسى؟ قال: أن تكف ألسنة الناس عني -لا يتكلمون فيَّ- قال الله: يا موسى! ما اتخذت ذلك لنفسي، فإني أخلقهم وأرزقهم وإنهم يسبونني ويشتمونني} وفي البخاري في رواية أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قال الله تبارك وتعالى: يسبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، ويشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، أما سبه إياي فإنه يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار كيف أشاء، وأما شتمه إياي، فيقول: إن لي صاحبة وولداً ولم أتخذ صاحبة ولا ولداً.
ولذلك ينقل الألوسي في الرد على النبهاني كلام النصارى في الله عز وجل، يقول: لما غضب الله نزل من على عرشه على ساحل البحر يبكي، تبارك الله عما يقولون علواً كبيراً!: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5] استهتروا بموسى حتى شكا وبكى على الله فنصره الله قال الله له: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69].
وتعرض إبراهيم وعيسى ونوح ومحمد عليهم الصلاة والسلام للأذى، قالوا في الرسول الذي ما خلق الله أصدق ولا أبر ولا أنصح ولا أفصح منه: شاعر وكاهن، وقالوا: مجنون، وقالوا أقاويل لا يصدقها العقل ولا النقد، ومع ذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:3] وهؤلاء الملتزمون المستقيمون أتباع محمد عليه الصلاة والسلام، لو ذهبوا فمن يغطي هذه الساحة؟ أمروج المخدرات هو الذي يحل محلهم؟ أبايع الأغنيات الماجنة الذي باع حياته بثمن بخس؟ أعاق الوالدين وقاطع الرحم المستهزئ بالسنة والمستهتر بتعاليم محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يحل محله؟
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
ويقول الشاعر العربي الآخر لأخيه الذي يستهزئ به:
فإما أن تكون أخي بصدق فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني
فإني لو تخالفني شمالي ببغض ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعته ولقلت بيني كذلك أجتوي من يجتويني(312/2)
حادثة الإفك
هذا الشهر الذي عاشه محمد صلى الله عليه وسلم أسوة لكل مسلم، ولكل عبد صالح، ولكل رجل مستقيم، هذا الشهر اتهم فيه عليه الصلاة والسلام في عرضه، العرض ليس أرفع منه إلا الدين، فأنت تريد أن يذهب دمك هدراً، ولا تريد أن يهتك عرضك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ما تركوه حتى نالوا من عرضه، عائشة رضي الله عنها، الصديقة بنت الصديق، الطاهرة بنت الطاهر، المبرأة من فوق سبع سماوات، اتهموها بالفاحشة الكبرى! فوقف صلى الله عليه وسلم -كما قال سيد قطب - شهراً كاملاً على أعصابه، شهر لا يذوق الطعام إلا لماماً، ولا يأتيه المنام عليه الصلاة والسلام إلا ردحاً من الليل، وما يرتاح ولا يهدأ، فقد تشنج عليه الصلاة والسلام لولا أن الله واساه وصبره وعظم أجره وثبته حتى انتهى الشهر.(312/3)
قصة حادثة الإفك
هذه القصة رواها البخاري عن أجلة من أجلة التابعين لعظم هذه القصة، قال الزهري الإمام المعتبر المحدث الشهير حدثني بها سعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبه، وهؤلاء أجلة التابعين.
أما سعيد بن المسيب فلا تسأل عن سيد التابعين شبه إجماع أنه سيد التابعين، رجل ذهبت عينه اليمنى من كثرة بكائه من خشية الله في السحر، قالوا له: اخرج إلى العقيق لترى الخضرة ولترى الراحة والأنس، قال: [[سبحان الله! كيف أخرج إلى العقيق فأفوت صلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بألف صلاة]] لما حضرته الوفاة، قال لأهله: [[لا تبكوا عليَّ، فما فاتتني تكبيرة الإحرام في الجماعة، أو ما أذن المؤذن إلا وأنا في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام منذ أربعين سنة]].
سعيد بن المسيب الذي يجلس في المسجد من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر وعليه ثياب بيضاء يسبح حتى يؤذن للظهر، كان أصبر الناس في العبادة، إذا انتصف الليل قام وأيقظ أهله، وقال لنفسه: قومي يا مأوى كل شر، وإنما أذكر هذا قصصاً لشبابنا وشيوخنا علهم أن يجعلوا من سعيد بن المسيب وأمثاله قدوة وأسوة في الحياة.
أما عروة بن الزبير فهو الذي كان يختم القرآن في أربعة أيام، وقد أصابته الآكلة في رجله فقطعوها من القدم، فمضت فقطعت من الركبة ثم من الفخذ، ولما أرادوا قطعها، قالوا: نسقيك كأساً من الخمر لعل عقلك أن يذهب لئلا تجد ألم القطع، قال: لا والله ما كنت لأذهب عقلاً منحنيه الله، ولكن إذا توضأت ودخلت في صلاتي، فاقطعوا رجلي فإني لا أحس بذلك، فلما توضأ ودخل في الصلاة قطعوا رجله ففقد وعيه وبقي ساعات ثم استفاق، فقالوا: أحسن الله عزاءك في رجلك وأحسن الله عزاءك في ابنك فقد رفسته دابة فمات، قال: [[اللهم لك الحمد؛ إن كنت أخذت فقد أعطيت، وإن كنت ابتليت فقد عافيت، أعطيتني أربعة أبناء وأخذت ابناً واحداً، وأعطيتني أربعة أعضاء وأخذت عضوا واحداً، فلك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا]].
أما عبيد الله بن عبد الله بن عتبه فهو من رواة الصحيحين، والسنن والمسانيد، وهو شيخ عبد الله بن المبارك وقد كان أعمى لكن في قلبه نور: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] هو الذي خرَّج عمر بن عبد العزيز ورباه في مدرسة التوحيد فأخرجه خليفة للمسلمين، كان عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس ينتقص علي بن أبي طالب، فسمع شيخه عبيد الله أنه ينتقص علي بن أبي طالب، فقال: يا عمر بن عبد العزيز! متى علمت أن الله غضب على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟ قال: ما علمت، قال: متى علمت أن الله غضب على أهل بيعة الرضوان (أهل الشجرة) بعد أن رضي عنهم؟ قال: ما علمت، قال: فإني سمعت أنك تسب علياً رضي الله عنه وأرضاه وعلي من أهل بدر وأهل بيعة الرضوان، فقال: فإني أشهد الله ثم أشهدك ألا أسبه بعد اليوم.
هؤلاء يروون القصة عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها، صاحبة القصة وصاحبة الحسرة والأسى، وصاحبة اللوعة والتهمة في العرض، اتهموها في شيء ليته بالبخل، وليته بالجبن، وليته بنميمة أو بغيبة أو بدمامة، لكن اتهموها بكلمة لو وضعت هذه الكلمة على الجبال لذابت: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5] اتهموها أنها زنت عصمها الله وشرفها وبرأها، تروي القصة وهي قصة الإفك وسوف أستعرضها.(312/4)
تخلف عائشة عن الركب عند الرجوع من غزوة بني المصطلق
تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أسهم بين نسائه -أي: جعل عليه الصلاة والسلام قرعة- فإذا وقعت القرعة على إحداهن أخذها صلى الله عليه وسلم في السفر، وفي غزوة من الغزوات أسهم عليه الصلاة السلام فوقعت القرعة على عائشة، فأخذها صلى الله عليه وسلم وخرجت معها دينها ويقينها وخوفها من الله:
كأن رقيباً منك يرعى خواطري وآخر يرعى مسمعي وجناني
فما لفظت من بعد مرآك لفظة على القلب إلا عرجا بعناني
ذهبت معه صلى الله عليه وسلم، وغزا صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة، وقد اختلفوا في اسم هذه الغزوة ولا يهمنا اسمها، إنما يهمنا الحدث والمعنى والمقصد والدروس والعبرة، ثم رجع عليه الصلاة والسلام من الغزوة فرجعت معه ورجع الجيش، وفي أثناء الطريق نزلوا في ليلة من الليالي، ليلة مباركة فيها محمد عليه الصلاة والسلام، خرجت من هودجها والهودج كالغرفة الصغيرة يضعه السلف على الجمال فترتحل فيه الظعينة من النساء، فتركب فيه فيغطيها ويسترها، وهذا ستر الإسلام، وحجابه وروعتة، يوم يجعل المرأة كالدرة المصونة المجوفة، لا تراها العيون ولا تمسها الأيدي، لتكون طاهرة مطهرة، أما دعاة الإلحاد والزندقة فيريدون أن تخرج المرأة فتراها العيون وتمسها الأيدي فلا تكون طاهرة ولا شريفة ولا معظمة.
هذا الهودج كانت عائشة تركبه رضي الله عنها وأرضاها، ثم نزلت من الهودج لحاجتها، فارتحل الناس وأتت هي تلتمس عقداً من الخرز كان في نحرها وانقطع، فالتمسته فلم تجد العقد، فأخرها عن الجمل وعن ركب الرسول عليه الصلاة والسلام، فذهبت تلتمس العقد وأتت في آخر الليل، فوجدت الناس قد ارتحلوا فقد رأوا الهودج بجانب الجمل، فظنوا أن عائشة في الهودج، فحملوا الهودج على الجمل وربطوه، وكانت عائشة خفيفة فكانوا لا يفرقون بين وجودها في الهودج وخروجها منه، فذهبت الجمال، وذهب محمد عليه الصلاة والسلام، والجيش، وأتت إلى المكان فما وجدت لا صوتاً ولا قريباً ولا حبيباً إلا الله:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذا عوى فصوت إنسان فكدت أطير
فجلست تقول: حسبي الله ونعم الوكيل! ومن قال هذه الكلمة ما تخلى الله عنه، ولا ما تركه ولا قطع حبله؛ بل وصله وحفظه، جلست متغطية مكانها متحجبة.(312/5)
حمل صفوان لعائشة على جمله
وفي الصباح أتى رجل من الصحابة من أهل بدر الذين اطلع الله عليهم، فقال: {اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} هذا الرجل اسمه صفوان بن المعطل السلمي، وكان من أهل بدر ومن الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
هذا الرجل له مواقف في الإسلام؛ لكن فيه فطرة من فطر الله وجبلة، فقد كان نومه شديداً لا يستيقظ إلا بصعوبة حتى سأل الرسول عليه الصلاة والسلام أنه تفوته صلاة الفجر، قال: {ليس في النوم تفريط الحديث}.
وعند الإمام مالك في الموطأ أن عمر رضي الله عنه وأرضاه صلى بالناس الفجر فأخذ يتلفت في وجوه الصحابة، كان عمر محاسباً دقيقاً عملاقاً، يستخرج الرءوس التي لا تصلي، فكان يتلفت في صلاة الفجر أين فلان؟! أين فلان؟! فيقولون: مريض، ويقولون: ذهب يأخذ عمرة، ويقولون: مسافر، ويقولون: فيه كذا وكذا، قال: أين صفوان بن المعطل؟ قالوا: لا نعلم، فخرج عمر فطرق على أهل صفوان، وقال: أين صفوان؟ ما صلى معنا الغداة- يريد عمر من الصحابة ما يريده لنفسه من النجاة من النار والعار والدخول في الجنة، قالوا: لقد نام عن صلاة الفجر؛ فقد جلس يصلي في الليل حتى اقتربت صلاة الفجر ثم نام، فقال: [[أوَّه! لئن أحضر الفجر في جماعة خير من أن أقوم الليل كله]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه، هذا فقه الفرائض وتقديمه على النوافل.
الشاهد أن صفوان نام واستيقظ بعد طلوع الشمس فصلى الفجر ثم أتى إلى المطرح -كان عنده جمل- نام عن الجيش فارتحل الجيش، فرأى عائشة متحجبة مصونة تسبح الله مكانها، تتصل بالواحد الأحد يقول ابن رجب: لما وضع يوسف في الجب أخذ يسبح الله عز وجل فسمع هاتفاً يقول: يا يوسف! اذكر الله يذكرك، قال ابن رجب: هدأت الحيتان في البحر والضفادع في الماء وسكتت من التسبيح وما سكت يوسف عليه السلام:
يا واهب الآمال أنت حفظتني ومنعتني
وعدا الظلوم عليَّ كي يجتاحني فنصرتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك منعتني
أخذت تسبح مكانها وتتصل بالواحد الديان.
يونس بن متى وقع في بطن الحوت وفي ظلمة اليم والليل، قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فنجاه الله لأنه كان من المسبحين.
فأتى صفوان فقالت عائشة كان يعرفني قبل الحجاب، وفيه دليل على أنه لما نزل الحجاب كانت المسلمة تغطي وجهها بعد الحجاب- وهذه رواية البخاري وعودوا لها في المغازي المجلد السابع في الفتح وهي مثبتة ولو أنكرها بعض الناس احتجاجاً أن الحجاب لا يدخل في الوجه- قالت: كان يعرفني قبل الحجاب فلما نزل أمر الحجاب غطت وجهها فما عرفها، فقال: الله المستعان! زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام فقال للجمل: أخ أخ أي: حتى يبرك وهي لفظة تستخدم عند العرب ليبرك الجمل ويهبط على الأرض، فبرك جمله.
قالت: والله ما كلمني كلمة -انظر إلى الحياء! - وإنما سمعته يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! الله المستعان! فركبت على الجمل وأخذ يقود الجمل ويمشي أمامها، وهي خلفه على الجمل ما كلمته ولا كلمها، حتى اقترب الظهر فوصلوا إلى المطرح الثاني الذي نزل فيه الرسول عليه الصلاة والسلام، أما الرسول صلى الله عليه وسلم ففقدها قبل وصولها بوقت قصير فعرف أنها سوف تأتي، وإذا بها مقبلة بالجمل ورجل من أهل بدر يقود الجمل، وهي امرأة الرسول عليه الصلاة والسلام والله يراقبها ويراقبه من فوق سبع سماوات:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
فأما الذين آمنوا فزادهم إيماناً وما شكوا في عائشة وصفوان بن المعطل.(312/6)
المنافقون وإشعال نار الفتنة
وكان في الجيش منافقون، قالوا: ما لها تأخرت؟ لماذا صفوان بن المعطل يقود جملها؟ واستوفوا الخبر ووزعوه، وكان الذي تولى كبر هذا الخبر هو عبد الله بن أبي بن سلول عليه غضب الله ولعنته وسخطه، وقد فعل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فأتى ابن أبي يوزع الأخبار ويجلس تحت الأشجار مع الناس ويتكلم في هذا الأمر، ولذلك بنو أمية كانوا يحقدون على علي بن أبي طالب، ويرون أنه هو الذي تولى كبره، لا إله إلا الله أبو الحسن الإمام المرتضى يفعل ذلك!!
ولذلك ذكر الشوكاني في فتح القدير ناقلاً عن ابن جرير وأمثاله بأسانيد جيدة أن هشام بن عبد الملك الأموي كان جالساً في القصر والعلماء حوله، وكان يبغض علي بن أبي طالب ويرى أن الذي تولى كبره هو علي بن أبي طالب، فقال: يا مسلم بن يسار! -أحد العلماء المحدثين- من الذي تولى كبره؟ قال: يا أمير المؤمنين! الذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي بن سلول، قال: كذبت! قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول- وهو يعرف في نفسه أن الخليفة كذاب لكن ما أراد أن يتورط، قال: يا فلان! من الذي تولى كبره؟ قال: عبد الله بن أبي بن سلول، قال: كذبت، قال: أمير المؤمنين أدرى، فقال الخليفة: يا زهري! من الذي تولى كبره؟ قال: الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول، قال: كذبت! قال: بل كذبت أنت وأبوك وجدك، حدثني فلان بن فلان عن عروة وعبيد الله بالأسانيد كأنها نجوم السماء:
سند كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
بعد أن ألقمه حجراً، يقول: كذبت أنت وأبوك وجدك، وهو ملك والسيف مسلول يقطر دماً لكن الحياة كلها سهلة، بل حدثني فلان وفلان أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول، وحدثني فلان عن عائشة حتى ملأ المجلس أسانيد ووثائق وحقائق، وأخذ الخليفة يرتعد، ويقول: لعلنا هيجناك أيها الشيخ، نعم صدقت -صدق رغم أنفه- وعلى كل حال كان بنو أمية يرون هذا، والشاهد أن الذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي.(312/7)
حال الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء حادثة الإفك
سمع الرسول صلى الله عليه وسلم الخبر وكتمه في نفسه، والرسول صلى الله عليه وسلم أتقى وأبر وأخلص وأطهر وأصدق منا، فسكت وحاول أن يلم الخبر، لكن سرى الخبر وراج في المدينة حتى أن بعض المفكرين العصريين يقولون: أعلنت في المدينة حالة الطوارئ لمدة شهر.
فوصل عليه الصلاة والسلام المدينة وأما عائشة فما علمت بالخبر:
حور حرائر ما هممن بريبة كظباء مكة صيدهن حرام
يحسبن من لين الكلام روانياً ويصدهن عن الخنا إسلام
قالت: وصلت إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها مرض الحمى من السفر، قالت: فأنكرت اللطف من الرسول عليه الصلاة والسلام، كان إذا مرضت عائشة يكون لطيفاً حبيباً يمرض المريض، ويمسح على رأس اليتيم، ويجالس العجوز، ويحمل عن المسكين: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيم} [التوبة:128].
لكن أتى الخبر في نفسه كما قال الأول:
قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً فما اعتذارك من قول إذا قيلاً
فقالت: فما وجدت ذاك اللطف وما كان يسأل عني إلا أن يمر عليَّ في البيت، ويقول: {كيف تيكم} أي: كيف حالها، فيخبرونه فأنكرت عائشة موقفه عليه الصلاة والسلام لأنه تأثر:
إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كن الكلاب ولغن فيه
ولكنها والله طاهرة وبريئة وصادقة، وإنها من المزكيات من الله الواحد الأحد من فوق سبع سماوات، فلما أنكرت حاله، قالت: يا رسول الله! ائذن لي أن أمرض في بيت أبي وأمي، فأذن لها، فحملها النساء إلى بيت أبيها وأمها فبقيت تمرض هناك شهراً كاملاً لا تدري من الخبر شيئاً، أما أبوها أبو بكر الصديق فبقي يبكي الليل والنهار، سبحان الله! صديق الإسلام يصل إلى هذه الدرجة، المخلص المنيب الذي دفع للإسلام وقته ودمه ودموعه وماله وكل شيء، وكذلك أمها بقيت تبكي لكنهم يكتمون عنها البكاء لكي لا تتأثر.(312/8)
حال عائشة بعد معرفتها بحادثة الإفك
فلما خرجت من مرضها قالت لـ أم مسطح: امرأة من جاراتها اخرجي بنا إلى المناصع وهي صحراء حول المدينة كان يتبرز فيها النساء، فخرجت هي وأم مسطح، والعجيب أن مسطحاً ابنها كان من الذين وقعوا في عرض عائشة وكان من الذين يوزعون الأخبار والشائعات والمنشورات! -فبعض الناس لا يحب السوء لكنه يحب أن يسمع الأخبار، يقول: ما سمعتم هذا الخبر، ما أتاكم هذا الخبر، الله المستعان! - قالت: فعثرت أم مسطح في ثوبها فقالت: تعس مسطح -وكان العرب إذا عثر الفرس قالوا: تعس فلان (عدوٌ) تعس فلان من أعدائهم أو تعس الشيطان- فعثرت فقالت: تعس مسطح سبحان الله! قالت عائشة: بئس ما قلتِ، أتقولين هذا لابنك وهو من أهل بدر! كيف يتعس والله لا يتعس أحد من أهل بدر، قالت: يا فلانة! أو يا غافلة عن الخبر! أما علمت ماذا عمل مسطح، قالت: لا.
ما أعلم، قالت: يقول فيك كيت وكيت، قالت: فيَّ؟! قالت: نعم.
وفلان يقول فيك، وقد انتشر الخبر وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة وعرف أبوك وأمك، فبكت حتى وصلت البيت قالت: فما نمت تلك الليالي:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل
وصدر أراح الليل عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانب
قالت: حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، وأخذت تبكي، وقالت: والله ما اكتحلت بعدها بنوم، وعاد المرض أكثر مما كان، وأخذت صديقات عائشة يأتين إليها فيبكون معها، وهذا من المواساة.
ولابد من شكوى إلى ذي قرابة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
المواساة تكون في المصائب، ولذلك الخنساء لما قتل أخوها صخر بقيت تبكي وتبكي، فلما رأت عجائز يبكين على إخوانهم وأبنائهم تسلت قليلاً حتى قالت:
فلولا كثرت الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكين مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي
فبكيت صديقات عائشة معها كثيراً واستمر الخبر، أما الرسول صلى الله عليه وسلم ففاض صبره بعد شهر كامل، تحمل لكن انتهى صبره، احترقت أعصابه عليه الصلاة والسلام، إلى متى ينقطع الوحي من السماء وما كُلِّم من الله بكلمة واحدة، وما نزل عليه جبريل بوحي في تلك الفترة، فلا الوحي يأتيه ولا الخبر يستجليه ولا ما حوله من الناس يدري ما عندهم.(312/9)
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من حادثة الإفك
في الأخير وقف عليه الصلاة والسلام على المنبر وجمع الناس وقال: من يعذرني من رجل آذاني في عرضي وأهلي؟ -من هو الرجل؟! عبد الله بن أبي هذا المنافق- سبحان الله! أمثل الرسول صلى الله عليه وسلم يؤذى؟! إنها سنة الله للصالحين يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] ولابد من الاستهزاء والاستهتار والصبر، قال: {من يعذرني من رجل سبني وشتمني وآذاني؟} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فقام سعد بن معاذ -هذه رواية البخاري - الشهيد الكبير الذي عاش في الإسلام سبع سنوات كأنها عند الله سبعة قرون، هذا الذي لما توفي اهتز عرش الرحمن له، وسند هذه القصة صحيح، حتى قال حسان بن ثابت:
وما اهتز عرش الله من موت هالك سمعنا به إلا لـ سعد أبي عمر
سعد بن معاذ الذي لما مات شيع جنازته سبعون ألف ملك فقال سعد: يا رسول الله! أخبرنا من هو، إن كان منا قتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج سوف ترى ماذا نفعل يا رسول الله.
فقام سعد بن عبادة سيد الخزرج الغيور الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: {يا رسول الله! إذا وجد الرجل منا مع امرأته رجلاً فماذا يفعل؟ قال عليه الصلاة والسلام: يستدعي أربعة فيشهدهم عليه، قال: سبحان الله! أبقى حتى أدعو أربعة وأشهدهم على زوجتي؛ والله لأضربنه بالسيف وإياها، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: أتعجبون من غيرة سعد؟ والذي نفسي بيده إني لأغير منه وإن الله أغير مني} وقد شرح هذا الحديث ابن تيمية في كتاب الاستقامة وهو من حديث ابن مسعود.
فقال: سعد بن عبادة أنت تستطيع أن تدخل في قبيلتك، أما الخزرج والله لا تستطيع أن تفعله لا أنت ولا أمثالك، فقام أسيد بن حضير وهو قريب سعد بن معاذ فقال: أنت منافق تدافع عن المنافقين والله لنقتلنه وإن كان من قبيلتك، فارتفعت أصواتهم في المسجد، فقام صلى الله عليه وسلم فأسكتهم وخرجوا من المسجد، وحدثت مصيبة أخرى يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:100 - 103].
خرج الناس وعادوا إلى بيوتهم.(312/10)
زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة وامتحانها
وأتى الرسول عليه الصلاة والسلام فزار عائشة في بيت أبيها، هذه الزيارة الأولى والأخيرة في هذه الفتنة، دخل على عائشة فاستدعى أباها، أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه الذي باع نفسه من الله واستدعى أمها فأجلسهم بجانبها وقال: يا عائشة والذي يتكلم هو محمد عليه الصلاة والسلام:
حتى وضعت يميني لا أنازعها في كف ذي النقمات قوله قيل
قال: {يا عائشة إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن الله يتوب على من تاب} لا إله إلا الله! نعم يتوب الله على من تاب مهما فعل قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136].
قال: {يا عائشة! إن كنت ألممتِ بذنب فاستغفري الله، وإن كنت بريئة فسوف يبرئك الله، فسكتوا جميعاً، وتكلمت دموعهم، بكى أبو بكر من هذه المصيبة في بيته وفي عرضه! ماذا يقول أبو بكر للناس؟ ماذا يتكلم للناس؟ وكيف يبرئ عرضه أمام الناس؟! ماذا يدافع عن عرضه وعن بنته زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام، وزوجته أم عائشة ظلت تبكي، وعائشة أيضاً تبكي:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
فقالت عائشة: {يا أبتاه! أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم} فقام يبكي ماذا يتكلم؟! يبرئ ابنته وما يدري ماذا يقول؟ أو ثم قالت: {يا أماه! أجيبي عني رسول الله الرسول صلى الله عليه وسلم فطفقت تبكي، تقول: والله ما أدري ماذا أقول؟ قالت عائشة: فقلص الدمع في عينيها} حتى أنه كانت تصفها بعض الصحابيات بنت أبيها، فهي امرأة ذات مواقف ذكية فصيحة تحفظ القرآن وتحفظ الفتاوى، وكانت مفتية الأمة وعالمة الأمة، ويعود إليها أكابر الصحابة في كثير من الفتاوى، كانت كما يقول بعض أهل السير: تحفظ ثمانية عشر ألف بيت من الشعر- قالت: فقلص الدمع من عيني حتى ما أجد الدمع قالت: ونسيت من الغضب والحزن اسم يعقوب عليه السلام.
قالت: {يا رسول الله! والله ما مثلي ومثل ما قيل فيَّ إلا كما قال أبو يوسف -تريد يعقوب لكنها نسيت الاسم فأتت بالكنية-: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] وإن كنت بريئة فسوف يبرئني الله عز وجل وليس لي إلا هذا} ثم انطرحت تبكي.(312/11)
نزول الوحي لتبرئة أم المؤمنين عائشة
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فوقف في مكانه، وفي لحظات أتاه الوحي من السماء، فاضطجع عليه الصلاة والسلام، وكان إذا أتاه الوحي يضطجع في الأغلب، وربما يأتيه الوحي وهو جالس فيتمالك نفسه، يقول زيد بن ثابت: {أوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ونزل عليه الوحي وفخذه على فخذي فكادت فخذه أن ترض فخذي} يعني: تكسرها وتقسمها نصفين، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] كان إذا أتاه الوحي وهو على الراحلة بركت الراحلة -الناقة- وتمد عنقها في الأرض ويكون لها رغاء من شدة ثقل الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، وفي رواية مسلم {أنه لما أتاه الوحي كان يغط غطيطاً عليه الصلاة والسلام في الخيمة.
فلما أتاه الوحي اضطجع وسجي عليه ثوباً وكان يغط غطيطاً وعرقه يتصبب} حتى تقول عائشة في رواية البخاري: {كان إذا نزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد يتصبب عرقاً عليه الصلاة والسلام وذلك من شدة الوحي الذي نزل عليه} لأنه وحي وكلام وذكر لو أنزل على الجبال لخشعت ولتصدعت له، قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21].
فلبث عليه الصلاة والسلام في المعاناة حتى أتى الوحي، أتدرون ما هو الوحي تلك الفترة؟ براءة من الله ومن الواحد الأحد، والله عز وجل لم يترك هذا الأمر لغيره، لا للنبي عليه الصلاة والسلام ولا للمسلمين ولا لجبريل ولا لأحد من الناس، وإنما تولى براءتها من فوق سبع سماوات، أراد الله أن يبرئها براءة مدى الدهر تدخل بها الجنة: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] جلس عليه الصلاة والسلام بعد انتهاء الوحي، ثم قال: {يا عائشة! أبشري أما أنت فقد برأك الله} -الحمد لله! لك الحمد يا رب على ما أعطيت وعلى ما كتبت وعلى ما قدرت- أما أنت يا عائشة فقد برأك الله ففرحت وسكتت وفرح أبو بكر وسكت، وفرحت أمها وسكتت، فقال أبو بكر: {يا عائشة! قومي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وسلمي عليه -وكانت عصامية- فقالت: والله لا أقوم ولا أحمد إلا الله الذي برأني} لأنها صادقة:
نفس عصام سودت عصاماً وعلمته الكر والإقداما
وجعلته بطلاً هماما
والصادق بريء، والبريء غير متهم، والناصح يعرف.
قيل للإمام أحمد: ما الذي أخرجك من الفتنة؟ قال: الصدق- الصدق لو وضع على جرح لبرئ، والصادق معه الله -فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المسجد يحمل البشرى، ويحمل من الراحة وسعة الصدر ما لا يعلمه إلا الله، وتقول عائشة: {ما كنت أظن أن تأتي براءتي من السماء لأني أرى نفسي أصغر من أن تأتي من السماء براءتي} تقول: أنا محتقرة نفسي ولا أحسب أن يتكلم الله في شأني من فوق سبع سماوات، ومن فوق العرش، وينزل قرآن يتلى إلى يوم القيامة ما كنت أتصور ذلك، وهذا من حفظ الصالحين لأنفسهم، ولذلك أرفع الناس في قلوب الناس من هضم نفسه، يجعل الله له منزلة في قلوب الناس؛ لأنه لا يشعر لنفسه بقيمة، ومن أكبر نفسه لا يجد له الناس في نفوسهم قيمة، ولذلك المتكبر يأتي يوم القيامة في صورة الذر يطؤه الناس بأقدامهم من حقارته، وكلما تعاظم العبد في نفسه كلما صغره الله ومقته، وقال: اخسأ فلن تعدو قدرك، وكلما تواضع العبد وخضع لله كلما رفعه الله، وقال: ارتفع رفعك الله، ويكفي في ذلك الحديث الصحيح: {من تواضع لله رفعه، ومن تكبر على الله وضعه} وفي الصحيح أن الله يقول: {الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما قصمته} وفي رواية صحيحة {عذَّبته} وفوق ذلك قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63].
وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على لسان لقمان لابنه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19].
أتى عليه الصلاة والسلام فوقف في المنبر ودعا الناس: الصلاة جامعة -الصلاة جامعة الصلاة جامعة! فاجتمع الناس وأخذ يقرأ الآيات البينات على المنبر، من الذي أنزل البراءة؟ الله الواحد الأحد، كما في الحديث: {الله مدحه زين، وذمه شين} لأن بني تميم وفدوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فطرقوا الحجرات فبعد صلاة الظهر -وهذا وقت لا يسمح بالزيارة فيه، بعد صلاة العشاء وقبل الفجر وبعد الظهر هذه أوقات تكره الزيارة فيها- قالوا: يا محمد! نادوه باسمه عليه الصلاة والسلام والمفروض أن يقولوا: يا رسول الله! فتكلموا يا محمد! يا محمد! اخرج إلينا:
اخرج فإنا إذا مدحناك رفعناك عند العرب، وإذا ذممناك أنزلنا قيمتك عند العرب! إن مدحنا زين وذمنا شين.
سبحان الله ما هذا الجهل! من الذي يرفع إلا الله؟! ومن الذي يخفظ إلا الله؟ وبنو تميم ودعاياتهم وشعراؤهم يرفعون الرسول صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول له: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4].
حتى قال المفسر مجاهد بن جبر، يقول الله تعالى: [[أي لا أذكر إلا وتذكر معي]] فملايين المساجد في العالم الإسلامي اليوم يقال على منائرها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فهل بعد هذا الرفع رفع، فالله هو الذي يرفع وحده.
قال ابن تيمية للفائدة: {أهل الحديث وأهل السنة لهم نسبة من هذه الكلمة {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] وأهل البدعة وأعداء السنة لهم نصيب من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:3] فالله يقطع ذكرهم وبركتهم ويقطع دابرهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وصدق، فـ أهل الحديث هم أرفع الناس، الآن يوجد أحد لا يعرف البخاري، سل العجائز أو الأطفال إذا قيل: (رواه البخاري) يثقون بالحديث مع أنهم لا يعرفون من هو البخاري بل يوجد على المنابر وفي المحافل والدروس والندوات شهرة متعددة ودائمة (رواه البخاري، رواه مسلم، رواه الترمذي، رواه ابن حبان، رواه الحاكم) لأنهم سلكوا مسلك الرسول عليه الصلاة والسلام.
لكن من أهل البدعة من يقول: رواه بشر المريسي، وأحمد بن أبي دؤاد، ولا أذناب المجوس وأفراخ الصابئة كما سماهم ابن القيم.(312/12)
استدعاء النبي صلى الله عليه وسلم المتهمين في نشر حادثة الإفك
وبعد أن وقف عليه الصلاة والسلام فقرأ الآيات وقرأ براءة عائشة، استدعى الذين خاضوا في حديث الإفك، المسلمون منهم، أما المنافقون فلم يستدعهم صلى الله عليه وسلم كـ عبد الله بن أبي ابن سلول ما أدبه ولا جلده ولا عزره ولا حبسه ولا فعل به شيئاً؛ لأنه منافق، والجلد لا يطهره.
أما حسان بن ثابت فإنه مسلم صادق لكنه تكلم بكلام فاستدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فضربه ثمانين جلدة ليطهره، وهو طاهر لأن (الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث) وماء حسان فوق القلتين فمهما ألقي في ماء حسان فهي نجاسة بسيطة تنزح، مثل ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ببئر بضاعة أن تنزح لتطهر فنزحت.
أما عبد الله بن أبي فلو نزحت بحوره وأنهاره ما تطهر أبداً، ولو جلد ملايين الجلدات ما أغناه ذلك من عذاب الله شيئاً فـ حسان استدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعطاه حسابه في الدنيا رضي الله عنه، شاعر الإسلام، حتى عمي في آخر عمره فأدخل على عائشة، فقال لها أحد الصحابة: تدخلين هذا الأعمى عليك وهو الذي قال فيك، وقال وقال؟ قالت: اسكت، فإني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو له ويقول: {اهجهم وروح القدس معك} فكان يأتي بالقصائد كأنها قاصفات الرعد على المشركين، وفي رواية البخاري التي أوردتها تقول عائشة: كيف لا أدخله وهو الذي يقول في الرسول صلى الله عليه وسلم:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
يقول للمشركين: أبي ووالده أي: جدي، وعرضي أقي به الرسول صلى الله عليه وسلم منكم، وهي من قصيدته اللامعة المشهورة التي حفظها المسلمون، وهي التي يتوعد بها كفار قريش قبل الفتح، يقول قبل الفتح:
عدمنا خيلنا لم تروها تثير النقع موعدها كداء
وكداء جبل في مكة، يقول: ليت خيلنا لا تعود إلينا إذا ما صبحناكم بالخيل وفتحنا مكة إن شاء الله ثم يقول:
تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساء
يقول: تأتي خيولنا وتخرج نساؤكم -يا مشركون- فيلطمن خيولنا بالحجاب ويفر رجالكم ثم يقول:
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم يعز الله فيه من يشاء
وقال الله قد أرسلت جنداً هم الأنصار عرضتها اللقاء
ألا أبلغ أبا سفيان أني مغلغله وقد برح الخفاء
هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
يوم فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال أهل السير بأساليب جيدة: خرجت خيل ابن الوليد وهو مع الرسول صلى الله عليه وسلم، خرج من السرية أو من الخندمة فاتحاً، فخرجت نساء مكة بالخمر يضربن خيل خالد على وجهها، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول لـ أبي بكر وهو بجانبه كيف يقول حسان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يحفظ الشعر: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] كان إذا حفظ البيت كسره لأنه لو حفظ الأشعار، لاتهمه الكفار أنه شاعر، ومع أنه لا يقول الشعر إلا أن الكفار اتهموه أنه شاعر: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان:5 - 6] مرة حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بيتاً لـ عباس بن مرداس، يقول عباس يعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم في القسمة:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع
فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يردد ما قاله ابن مرداس فقال:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة
فتبسم أبو بكر وقال: صدق الله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69].
يوم اخترق الخندمة وفر عكرمة وفر رجل منهم كان يناوئ خالداً ويقول: أذبح بسيفي محمداً، فلما أتى خالد لقنه درساً لن ينساه، اشتغلهم أبو سليمان تسع ساعات بيده ففروا من طريقه، وتكسرت السيوف على ظهورهم فدخل هذا الرجل على زوجته وأغلق الباب، وهو يرتعد فقالت زوجته: أين سيفك؟ قال: ما أغنت عنا السيوف.
إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة
يقول: إذا كان السادات والأبطال فروا! فكيف بمن دونهم؟ وأنا لما رأيت السادة والقادة فروا، فررت أنا، لأن الجندي يعذر إذا فر القائد فعليه أن يفر من باب أولى:
قال:
إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة
أحد الناس ذهب إلى المدينة فوجد نيجيرياً في المسجد النبوي عنده مسبحة يسبح بها، يتمتم بشفتيه لكنه ما سمع التسبيح، فذهب الرجل فاشترى مسبحة، وذهب إلى جماعته في القرية فأخذ يتمتم، وهو لا يسبح، قالوا: يا فلان! ماذا تقول بهذه المسبحة؟ قال: أقول: الحقي أخواتك الحقي أخواتك، فالرجل هذا يسمع الناس يقولون: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وهو لا يعرف سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
فيقول الرجل:
والمسلمون خلفنا في غمغمة يلاحقونا بالسيوف المسلمة
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة
الشاهد من كلامي هذا أن حسان جلد ثمانين وكانت هي طهارته في الدنيا، وهو طاهر مطهر عند الله، وهو من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ومن الأبرار عند الله، وشاعر الإسلام، والذي يدخل الجنة بلواء القوافي والأدب الإسلامي، ويدخل امرؤ القيس قائداً لأهل الشعر الملاحدة في النار ويدخل معه أهل الحداثة، فمن أراد أن يدخل الجنة فليدخل الجنة بلسانه أو بقلمه، أو بقوافيه وشعره أو بتأليفاته، أو بماله أو بقيام الليل أو بإطعام الطعام أو بصدقه مع الله أو بتضحيته، أو بأن يسكب دمه في سبيل الله، ومن أراد أن يدخل في مثل هذه الأمور النار فليدخل: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [الكهف:17] وكثير من الناس أتى الله لهم بمواهب، فدخلوا بها النار، حتى أن بعض الناس آتاه الله علماً فدخل بعلمه النار: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176].(312/13)
عفو أبي بكر عن مسطح ابن أثاثة
وعاد أبو بكر فأتى وسمع أن مسطحاً نال من عائشة فقال: والله لا أنفق على مسطح، وقد كان أبو بكر غنياً وكان مسطح فقيراً في حجر أبي بكر: ينفق عليه، قال أبو بكر ما دام أنه تكلم في ابنتي فوالله لا أنفق عليه فأنزل الله عز وجل قوله: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] قال أبو بكر: بلى أحب أن يعفو الله عني ويصفح، فعاد بنفقته عليه، وهذا مصداق لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].(312/14)
دروس من حادثة الإفك
وانتهت القصة ولكن فيها دروس:(312/15)
الابتلاء في الأرض سنة كونية
أنه لا يسلم من الاستهزاء والاستهتار أحد، وأنه كلما ارتفع العبد عند الله عز وجل سلط الله عليه من يعاديه، كما قال كثير من العلماء: إن الصحابة لما توفوا وانقطعت أعمالهم سلط الله عليهم أعداءً من المبتدعة فنالوا منهم.
أبو بكر اليوم يُلعن وعمر يُلعن وهي زيادة في ثوابهم عند الله، فإن الله تعالى أراد ألا تنقطع حسناتهم بموتهم، وأن يرفع درجاتهم، وعائشة كذلك تسب وتشتم، ويدعي المبطلون أنها فعلت وهذا رفع في درجاتها، هل علمت رجلاً صالحاً خلص من الاستهتار؟! هل علمت رجلاً باراً خيراً خلص من الاستهزاء؟
وشكوت من ظلم الوشاة ولم تجد ذا سؤدد إلا أصيب بحسد
لا زلت يا صدق الكرام محسداً والتافه المسكين غير محسد
قالوا للإمام مالك: هل يبتلى العبد أو يمكن؟! قال: [[لا يمكن حتى يبتلى]] قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].(312/16)
مواقف من ابتلاء علماء الأمة
الإمام مالك بن أنس عاش في حياته وقبل أن يموت ابتلي في مسألة أفتى فيها، فضرب ثمانين ضربة حتى خلعت يده اليمنى، حتى أصبح لا يستطيع أن يضمها فرفعه الله.
الشافعي حمل مقيداً بالحديد من اليمن إلى بغداد إلى هارون الرشيد في تهمة باطلة.
الإمام أحمد أتاه أهل البدعة صنوفاً وسيوفاً فأدخلوه السجن، سنة وثلاثين شهراً، وجلد جلداً حتى قال من جلده: والله الذي لا إله إلا هو لقد جلدت الإمام أحمد بن حنبل جلداً لو جلدته بعيراً لمات، كان يأخذ العصي مثل الخيزران ويبرد في الماء، ثم يجلد الإمام حتى يسيل دم الإمام أحمد في الأرض؛ لأن الله أراد أن يرفع درجة الإمام أحمد، وفي الأخير انتصر الإمام أحمد وصار في مكان عالٍ، وجعل الله الدائرة على أعدائه وخفض سمعتهم وقطع دابرهم.
أبو حنيفة كذلك طلب للقضاء فرفض، حاولوا معه فجلدوه ثمانين جلدة، وبقي في بيته حتى توفي.
كذلك ابن تيمية سجن وأخذ إلى الإسكندرية فسجن وضرب في فتنة النصراني- نصراني سب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق دمشق، فقام ابن تيمية بتأديبه حتى رماه الناس بالحجارة، فأتى أعداء ابن تيمية وهم من المسلمين يكذبونه ويصدقون النصراني، وفي الأخير أتى السلطان فجلد ابن تيمية لكن كما قال الأول:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
فألف ابن تيمية كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول، وهنيئاً له جلد في سبيل الله وسجن، ولما أخرج من الحبس شيع جنازته أكثر من ثمانمائة ألف حتى خرجت مدينة دمشق عن بكرة أبيها، والناس جميعاً، فرفعه الله، أما أعداؤه فبخس الله حظهم وقطع ذكرهم ودابرهم؛ لأنهم ناوءوا السنة، فهذه طريقة ماضية ولا بد أن يمتحن الصالحون، وأن يبتلوا في أعراضاهم، وأن يشهر بهم خاصة أهل السنة والاستقامة يستهزأ بهم في المجالس، من قبل الصهيونية العالمية وإسرائيل ومن لف لف إسرائيل؛ فإنهم يستهزئون بسيرتهم وبثيابهم وبلحاهم وبجلساتهم وبكلامهم.(312/17)
موقفنا من الذين يلمزون المؤمنين
نقول لأولئك: ذوقوا عذاب النار بما كنتم تفعلون وتأفكون، ورغمت أنوفكم يا أعداء الله، نحن في سند محمد عليه الصلاة والسلام وإبراهيم ونوح وموسى وعيسى، وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وأنتم في سند إبليس وفرعون وقارون وهامان وأبي لهب وأبي جهل كما قال تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
إذا علمنا هذا؛ فليحمد العبد الله عز وجل على أن جعله مبتلى في أرضه، فإنه زيادة في حسناته وفي أجره، ورفعاً في منزلته واتباعاً في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليصبر على ما يأتيه، وليعلم أن قدوته الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
وينبغي للعبد ألا يطرق لأهل النفاق إلى نفسه، فلا يستزري نفسه ولا يحمًّل نفسه محامل لا تليق به، فيجعل الألسنة تتكلم فيه مثل: أن يلبس لباساً يزري به، ومثل أن يتكلم كلمات لا تليق بمثله، ومثل: أن يوقف نفسه في مواقف التهم، فإن أهل الباطل يريدون أن يجدوا طريقاً ومنفذاً فيجعلون من الحبة قبة، ويجعلون من المسألة الصغيرة كبيرة وفاحشة وجريمة، وهذا طريق ماض -كما أسلفت- ولله الحمد والشكر أنه قد عاد الناس إلى ربهم ومولاهم، وقد أقبل شباب وشيب ونسوة كثر إلى الله الواحد الأحد، علموا أنه لا نجاة لهم إلا في هذا الدين، ولا حبل ولا فلاح ولا صلاح إلا في اتباع سيرة محمد عليه الصلاة والسلام.
أصبح الناس الكثير منهم متوجه إلى الله، وهذا نصر من الله عز وجل لهذه الأمة، وهو وعده الذي وعد ألا يقطع دابرها بل يحفظها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يوم تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فلك الحمد يا رب.
هناك بعض الأمور التي ينبغي أن أنبه عليها منها: أنه ينبغي على من اتهم أو جرح أو استهزئ به أن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، وكما صبر محمد عليه الصلاة والسلام والصالحون من العلماء والزهاد والعباد، وإذا سمع كلمة نابية من جاهل فلابد أن يخاطبه بالسلام والهدوء والليونة كما قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] وأن يتحمل الكلام المغرض وأن يعفو ويصفح، وأن يبدل مكان السيئة الحسنة، فيهدي هدية ويطلق وجهه البشوش عله يكسب هؤلاء؛ لأنهم مساكين ما عرفوا النور وما عرفوا الطريق، وما تذوقوا طعم الطاعة ولا حلاوتها، فيحاول أن يكسبهم ولا يعاديهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستهزئ به المستهزئون فيتبسم لهم، حتى قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].(312/18)
أهمية الدعوة إلى الله بالأسلوب الحكيم
على المسلم أن يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا يشهر بالناس ولا يشكو دائماً مما يوجه له من نكبات، فإن الرسل عليهم الصلاة والسلام كتموا وصبروا، والله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فإذا كتم وصبر واستعان بالله وكان له أوراد من الذكر صباح مساء، وحاول أن يمد بينه وبين الله حبلاً من الطاعة حماه الله وكفاه ووقاه، كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(312/19)
الأسئلة(312/20)
حكم حلق اللحى
السؤال
ما حكم حلق اللحى؟
الجواب
حكم حلق اللحى محرم في دين الله عز وجل، وقد صحت عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث في ذلك، وأمر بمخالفة المجوس في أحاديث متفق عليها بين أهل العلم، وحلقها أمر محرم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {خالفوا المجوس، اعفوا اللحى} وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعفي لحيته، وأصحابه الميامين والعلماء وأمثالهم من الخيرين، وحلقها يعني: مشابهة أعداء الله عز وجل وانتهاك سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي مخالفة صريحة لأهل الحق والتوحيد وأهل السنة، ولا بأس في الاستطراد أن أذكر قصيدة لأحد الشباب جزاه الله خيراً بالنبطي في حلق اللحى، ألقاها في مناسبة وأعجبتني، ومن ينصر الإسلام بالنبطي أو بالعربي فحياه الله، يتكلم في أناس يحلقون لحاهم فنظم لهم قصيدة جيدة يقول فيها:
يا ربعنا يالي حلقتم لحاكم وايش علمكم ترمونها في القمامه
ذي سنة سنها مصطفاكم علامة يا شينها من علامه
ترى هي زيناتكم هي حلاكم لها مع الخير وقار وسامه
شابهتم الكفار شغلة عداكم من شابه الكافر عليه الملامه
ترى اللحى يوصي بها مصطفاكم صفوة قريش اللي رفيع المقامه
هذه وصية إن كان ربي هداكم أقولها يا ربع ومع السلامة(312/21)
صفوان بن المعطل يتفقد الجيش
السؤال
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قيل إنه ترك صفوان بن معطل ليتفقد الجيش في الصباح ويتفقد ما بقي من أمتعة الجيش؟
الجواب
قيل هذا ولكن أنا وقفت على ما قيل في رواية البخاري.(312/22)
استشارة النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة في حادثة الإفك
السؤال
هل الرسول صلى الله عليه وسلم استشار بعض الصحابة؟
الجواب
نعم.
استشار بعض الصحابة، ولكني نسيت أن أذكر هذا، وإلا فإنه استشار علي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد فأما علي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! النساء غيرها كثير، واسأل الجارية تصدقك فسأل الجارية فقالت: ما علمت إلا خيراً، وأما أسامة فقال: زوجتك وما نعلم إلا الخير.(312/23)
حكم لعن الكافر المعين
السؤال
لقد لعنت عبد الله بن أبي بن سلول فما هو الدليل؟ وهل يجوز أن يلعن متبع أو إحدى الفرق الضالة؟
الجواب
على كل حال لعن المعين فيه كلام، لكن عبد الله بن أبي بن سلول مات على الكفر يقيناً بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيجوز لعن من مات على الكفر مثل فرعون وقارون وهامان وأبي جهل ومثل عبد الله بن أبي بن سلول هذا لا نتوقف في لعنه لأنه مات، أما رجل في الحياة كافر فإنا لا ندري مآله فنتوقف في لعنه؛ لأنه قد يتوب إلى الله في حياته، أو رجل ما ظهر لنا كفره وما تبين فنتوقف في المسألة.(312/24)
فضل صيام يوم عاشوراء
السؤال
نرجو تنبيه الناس بصيام يوم عاشوراء؟
الجواب
صدق الأخ وأثاب الله له الأجر، ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة قال، قلت: {يا رسول الله! يوم عاشوراء؟ قال: إني أرجو من الله أن يكفر السنة الماضية} وفي حديث ابن عباس في الصحيح: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسأل، فقالوا: هذا يوم نجى الله فيه موسى، قال: نحن أولى بموسى منكم فصام صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بصيامه، وقال: إذا كان العام القادم لصمت يوماً قبله ويوماً بعده} فذكر ابن القيم أن لأهل العلم في صيامه ثلاثة أقوال:
1 - منهم: من يرى صيامه ويوماً قبله ويوماً بعده.
2 - ومنهم: من يصوم يوماً قبله.
3 - ومنهم: من يصوم يوماً بعده.
ومن صامه وحده جاز له ذلك، لكن الأحسن والأقرب إلى السنة أن يصومه ويوماً قبله أو يوماً بعده، ومن صامه ويوماً قبله ويوماً بعده حصل له الأجر الكبير بإذن الله عز وجل، وهو يوم العاشر.(312/25)
كتابة أجر المريض والمسافر
السؤال يقول: أنا قادم من الرياض وسأمكث في أبها قرابة الشهر، فهل يكتب لي أجر قيام الليل الذي كنت أصليه وهو ثلاث عشرة ركعة إذا أنا صليت هنا ثلاث أو أربع ركعات فقط أرجو الإفادة؟
الجواب
نعم.
يكتب لك لأنك مسافرٌ، وفي الصحيح من حديث سهل بن سعد وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من الأجر ما كان يعمل صحيحاً مقيماً} فأنت يكتب لك ما كنت تفعله لأنك مسافر.(312/26)
حكم الذهاب إلى الجهاد بدون إذن الوالدين
السؤال
ما حكم الجهاد بدون إذن الوالدين؟
الجوال: لا يجاهد العبد إلا بإذن والديه، هناك أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام للذي جاء إليه لكي يجاهد: {أحي والداك؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد} وأحاديث أخرى وقد تكرر هذا الكلام كثيراً.
أخيراً نسأل الله أن يجمعنا في مستقر رحمته وفي دار الكرامة، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(312/27)
الشيطان يتمرد على الرحمن
إن من نعم الله علينا أن خلق لنا السموات والأرض، فخلق السموات بأفلاكها ونجومها وكواكبها ومجراتها، كما خلق الأرض بجبالها وبحارها وأنهارها ومائها ومعادنها، وذللها لنا، وخلق لنا فيها من كل شيء، فأحل لنا فيها الطيبات وحرم علينا الخبائث.
ثم خلق آدم فعلمه الأسماء كلها ثم استخلفه في الأرض ليعمرها بتوحيد الله وعبادته.
وفي هذه المادة عرض لتلك الأحداث العظيمة التي وقعت في غابر القدم.(313/1)
تفسير قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
يقول الله تبارك وتعالى بعد أن ذكر منته سُبحَانَهُ وَتَعَالى على الخلق: بسم الله الرحمن الرحيم {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28] سبق شرح هذه الآية، وسبق بيان بعض مقاطع ومقاصد هذه الآية، ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29].
هذه الآية فيها قضايا، وفيها ثلاثة مقاطع:
أولها: المقطع الأول: يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:29] وهذا المقطع يستدل به أهل العلم على أن كل ما في الأرض الأصل فيه أنه مباح، وهي قاعدة أصولية أخذوها من هذه الآية، وتساءل الرازي في تفسيره: هل الطين مباح أن نأكله؟ وهذا فيه تكلف.
فإن الله عز وجل أحل لنا الطيب المباح، وحرم علينا الضار الخبيث، وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ويقول في محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].
فلا دلالة في هذه الآية على أن مثل الطين والتراب والصخور، وهذه الضارات أنها مباحة للأكل.
إن الله عز وجل أحل الطيب المفيد وحرم الخبيث الضار، ومن شاء أن يأكل تراباً فليأكل، ومن شاء أن يأكل طيناً فليأكل، والرازي أتَى بهذه لأنه يريد أن يعلقها بقاعدة عند أهل الأصول.
فقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:29] يقول الرازي: جرم الأرض شيء، وما في الأرض شيءٌ آخر، وهو تفسيرٌ مقبول ومطلوب، و (لكم) هنا للملكية، أي: مباح لكم، وطيب لكم، ومهيأ لكم، بشرط أن يكون هذا الشيء نافعاً ومفيداً، أما إذا كان ضاراً فلا يكون هذا، وأما إذا كان مفسداً فلا يكون، بل هو محرم كالخمر والسم، والطين والتراب والصخر، وكل ما أفسد الهيئة والعقل فهو محرم، والخبيث المستقذر محرم.
إذاً: الطيب المفيد هو النافع الذي خلقه الله للإنسان، أكلاً وشرباً ولبساً، وإنما ذكر الله هذه الآية -كما قال أهل التفسير- بعد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة:28] ليذكر منته على الخلق سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:29].
(فجميعاً) تعود إلى (ما في الأرض) وبعضهم يقول: تعود إليكم أيها الناس جميعاً، والأقرب أنها تعود إلى (ما في الأرض).
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) [البقرة:29] سبحان الخالق! ولكن نحن لانتدبر، ولا نتفكر، ولا نعي، يقول بعض أهل العلم: كثرة المساس يبطل الإحساس، فمن كثرة ما تعودنا على رؤية السماء ورؤية القمر والشمس والنجم، أصبحنا لا نتدبر ولا نتفكر، لكن إذا خرج مصنوعٌ صنعه الإنسان، تفكرنا فيه وتدبرنا.
مر أعرابي في ليلة من الليالي في ليلةٍ مظلمة، فمشى في هذا الليل لا يرى مد يده، وفجأة طلع عليه القمر -والقمر: أزهى شيء عند العرب، دائماً ينشدون فيه أشعارهم، ودائماً يصفون الجمال بالقمر والبدر، يقول الصحابة عن الرسول عليه الصلاة والسلام: {كان وجهه كالقمر ليلة أربعة عشر} يقول أحد الشعراء وقد دخل على الخليفة المكتفي، فبدأ قصيدته الغزلية التي يقول فيها:
حلفت لنا ألا تخون عهودنا فكأنها حلفت لنا ألا تفي
هنا يقصد الدنيا، وبعضهم يقول: أنه يقصد محبوبته.
حلفت لنا ألا تخون عهودنا فكأنها حلفت لنا ألا تفي
والله لا كلمتها لو أنها كالبدر أو كالشمس أو كـ المكتفي
يقول: لا أكلمها ولو أنها كالبدر أو كالشمس أو كالخليفة، فغضب الخليفة لأنه وازنه مع المرأة.
المقصود أن الأعرابي طلع عليه البدر، فنظر في السماء فقال: سبحان من سواك! سبحان من رفعك! إن قلت: جملك الله؛ فقد جملك الله، وإن قلت: رفعك الله؛ فقد رفعك الله، وإن قلت: بهاك الله أو حسنك الله؛ فقد حسنك الله.
والمقصود أن في هذه الآية فارقاً لا بد أن يفهمه أهل الفضل وأهل الخير من أمثالكم.(313/2)
مدة خلق السماوات والأرض
يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] ربما يقول أحدكم: هذه تدل على استواء الله على العرش، وهذه الآية لا تدل على ذلك، وهذه الآية لا تدل على ذلك قصداً، وغيرها يدل على استواء الله على العرش أكثر وأكثر، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فهذه هي الآية التي تدل على ذلك وغيرها من الآيات، أما هذه الآية: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] قالوا: قصد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ لأنه عدى ذلك بإلى، فقالوا: استوى، أي: قصد إلى السماء سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهنا سؤالٌ يطرح بين طلبة العلم: أخلقت الأرض أولاً أم السماء؟
وهنا يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة:29] ففي هذه الآية كأن الأرض كانت قبل خلق السماء، لكن يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30] لأنه ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:27 - 30] فكأن في هذه الآية أن الأرض خلقت بعد السماء، وفي آية البقرة أن السماء خلقت بعد الأرض، فما هو الجواب لهذا التساؤل؟
وقد أجاب عنه حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: إن الله خلق الأرض ثم استوى إلى السماء، ثم دحا الأرض سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وأخذت الأرض من الخلق مدة يومين، والسماء أربعة أيام، فكلها ستة أيام!! وهذا يدل في الجمع على أن أناساً يجيدون الحساب، وعندهم فهم في الجمع والطرح، (2+4=6) والحمد لله رب العالمين {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4].
وقف أعرابي -فيه خبل- على المنبر يخطب بالناس وليس عنده علم، ثم استغل فرصة الخروج على المنبر، فقال: يا أيها الناس: عليكم بالسكينة، وعليكم بالمهل، فإن الله خلق السماوات والأرض في ستة أشهر -وهذه ذكرها ابن الجوزي - فقالوا: اتق الله عز وجل، في ستة أيام! قال: والله لقد تقاليت ستة أشهر وأردت أن أقول ست سنوات.
فالمقصود أنها ستة أيام، وعند مسلم من حديث أبي هريرة، قال: [[خلق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى التربة يوم السبت]] ثم عد الأيام حتى وصل إلى يوم الجمعة، فأصبحت سبعة أيام، والله يقول: ستة أيام، ولكن عند مسلم في الصحيح سبعة أيام! أجاب أبو العباس ابن تيمية في المجلد الثامن عشر، قال: هذا وهم، وهذا مخالفٌ للقرآن، وهو من كلام كعب الأحبار، وليس من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا الحديث بعينه من الأحاديث التي انتقدت في صحيح مسلم، فإن الله عز وجل ذكر أنه خلقها في ستة أيام، فكيف تكون في سبعة؟!
وأجاب بعض الناس من العصريين، قالوا: لا.
الدحو كان في يوم سابع فلا يحسب من الستة، لكن هذا تكلف، والحديث فيه وهم، ولعله من كلام كعب الأحبار.
قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة:29] وهنا لم يذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى الأرض، وقد ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى في القرآن: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] أي: سبع أراضين مثلهن، ومما اكتشف في هذا العلم -كما سمعنا من كثيرٍ من الثقات الذين اعتنوا بعلم الهيئة والجيولوجيا- أن الأرض سبع طبقات، طبقةٌ على طبقة، كل طبقة لها لونٌ آخر، ولها مزاجٌ آخر، ولها تكيفٌ، ولها تضاريسٌ تختلف عن الأخرى فسبحان الخالق!
فكلما انتهت الطبقة أتت طبقة فتنتهي إلى سبع طبقات، أما السماوات فإنهن سبعٌ مرتفعة، جرم السماء مسيرة خمسمائة عام، وبين السماء والسماء خمسمائة عام!!
يقول أمية بن أبي الصلت الجاهلي، وهو يتحدث عن موسى وفرعون -وهو لم يسلم- يقول عنه صلى الله عليه وسلم: {أسلم شعره، وكفر قلبه} إن الله عز وجل -وهذا في قصيدة- أرسل موسى عليه السلام إلى فرعون، فقال:
فقولا له هل أنت سويت هذه بلا عمدٍ حتى استقرت كما هي
وبعض أهل العلم يقولون: سماءٌ من حديد، وسماءٌ من نحاس، وسماءٌ من فضة، لكن ما علمت على هذا دليلاً، من المعصوم عليه الصلاة والسلام، لكنه عجبٌ من العجب! فهذه السماء الدنيا زينها الله بالمصابيح والنجوم والشمس والقمر، فهي كواكب تدور فيها.(313/3)
بعض الأشياء التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم حين أسري به
ولما وصل عليه الصلاة والسلام إلى هناك استأذن هو وجبريل، واستدل أهل العلم بهذا على شرعية الاستئذان، وأن المستأذن يسمي اسمه ويذكر من هو، ولا يعمي على الناس ولا يقول: أنا.
فعبرها عليه الصلاة والسلام السبع في لحظات حتى وصل إلى سدرة المنتهى، وفي كل سماء بشر، في السماء الدنيا آدم، وذكر عليه الصلاة والسلام أنه رأى يوسف وقد أُوتي شطر الحسن، ورأى ابني الخالة يحي وعيسى عليهما السلام، ورأى موسى الشجاع القوي الأمين عليه السلام، ورأى هارون، ورأى إدريس وقد رفعه الله مكاناً علياً، ورأى إبراهيم في السماء السابعة، وموسى في السادسة، ورأى بيت العزة، وهذا البيت كالبيت العتيق، يطوف به كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون إليه مرةً ثانية إلى يوم القيامة!
حتى وصل عليه الصلاة والسلام إلى مكان يسمع صرير الأقلام هناك:
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم
كنت الإمام لهم والجمع محتفلٌ أعظم بمثلك من هادٍ ومؤتممِ
لما خطرت به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
وقيل كل نبيٍ عند رتبته ويا محمد هذا العرش فاستلم
حتى بلغت مكاناً لا يُطار له على جناحٍ ولا يُسعى على قدمِ
بلغ عليه الصلاة والسلام منزلةً عُليا، يقول لجبريل: أتتركني في هذا المكان؟! أيترك الخليل خليله، والحبيب حبيبه في هذا الموطن؟! جلال خلق الله وعظمة الله تتصور في هذا الخلق الهائل، قال جبريل: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164] ولو تقدمت لاحترقت، فتقدم عليه الصلاة والسلام، وهذه من المنزلة العالية التي ما منحها الله أحداً من البشر، ورأى الجنة والنار، ورأى الأنبياء ورأى الملائكة، ورأى ألوفاً مؤلفة من الملائكة يملئون السماء وهم ركعاً لله! وملء السماء الأخرى سجداً لله! وآخرين مسبحين، وآخرين مقدسين، وآخرين متكلفين بالوحي، هذا يصعد وهذا ينزل! وآخرين موكلين بكتب الحسنات والسيئات، وآخرين معقبين يحفظونه من أمر الله من بين يديه ومن خلفه، وآخرين موكلين بالقطر، وآخرين بقبض الأنفس، وآخرين بتعذيب الأمم، وبتعذيب الفسقة والفجرة الذين ينحرفون عن أمر الله {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31].(313/4)
خلق السماء
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة:29] بعد أن خلق الله الأرض أتى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، سواها سُبحَانَهُ وَتَعَالى وخلقها بلا عمد -وهو الصحيح-: {تَرَوْنَهَا} [الرعد:2] يقول بعض أهل العلم: لها عمد لكن لا ترونها، ولكن الصحيح أنها بلا عمد، هكذا قائمة على قبة الفلك، فانظر: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:3] فانظر: هل ترى فيها من فروج؟! فانظر: هل ترى فيها من عيب؟! {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4] فيعود إليك بصرك وأنت لا ترى شكاً، ولا ترى ثلمة، ولا ترى في البناء شيئاً، لأن الذي بناه هو الله وهو الذي سواه، ولو كان الذي بناه مخلوقاً لرأيت النقص، ورأيت العيب والثلم، ولذلك يقول أحد القصاصين من المسلمين: لا يخلو عمل ابن آدم من نقص، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] أتى رسامٌ هندي، دعاه ملكٌ من ملوك الهند قديماً، وقد طلب من الرسامين في العالم أن يحضروا، ويرسموا له لوحات، ومن أجاد منهم ونجح فله جائزة، فأجاد أحدهم فأتى بلوحة فرسم فيها سنبلة قمح، ثم رسم على السنبلة عصفورة، ثم عرضها للناظرين، فأعجبت المشاهدين، فذهل الملك من حسن فنه، رسم سنبلةً خضراء، والحب يكاد يطلع منها، وعصفوراً جميلاً بريشه يزقزق ويغرد على هذه السنبلة في حديقة، فأخذها هذا الملك وعرضها للناس، وأعطى ذلك الرجل جائزة، وقال للناس: من أراد منكم أن ينظر في عيب فلينظر.
فأجمع أهل الهند ألا عيب فيها، فأتى رجل من غير الهند أعور ليس له إلا عين واحدة، فدخل على الملك، وقال: رأيتُ عيباً باللوحة.
قال: وما هو العيب؟ قال: العصفور إذا نزل على السنبلة فإنها تميل ولا تبقى مستقيمة، وهذا لما رسمها جعلها مستقيمة، وهذا خلاف ما يذهب إليه العقلاء، ومن سنة الله عز وجل أن يميل الزرع إذا نزل عليه ما يثقله.
فقال الملك: صدقت، وشطب اللوحة وأخذ الجائزة من الرسام!
وأحد الناس أراد أن يرسم رسمة في لوحة، فأخطأ الرسم، فضرب اللوحة كلها بطلاء أسود، فقالوا: مالك؟ قال: هذه صورة الليل، ليس فيه قمرٌ ولا نجوم، هذا هو الجمال، ولن تجد في هذا إلا الصحيح، هذا هو ليلٌ لا نجوم فيه ولا قمر، وكلٌ يجيد هذه الصورة.
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة:29] هي سبع، والأراضين سبع لكنها طبقات، والله أعلم بذلك سُبحَانَهُ وَتَعَالى.(313/5)
سعة علم الله
قال تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] قضايا:
أولها: أن هذا عام لا مخصص له، وإذا قلت للإنسان: إنك بكل شيءٍ عليم، فلا بد من مخصص، فالإنسان -والله- لا يدري ولا يعرف بأمورٍ كثيرة، وما يجهله أكثر مما يعلمه {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] وقال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7].
وعلمه سُبحَانَهُ وَتَعَالى في كل مكان وهو مستوٍ على العرش، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة، أنه بائن عن خلقه، مستوٍ على عرشه، لا يغيب عن علمه مثقال ذرة لا كبيرة ولا صغيرة: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] وقال: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] وقال: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران:29].
فسبحان القادر الباري، تسقط الورقة من الشجرة في ظلام الليل، في وادٍ منحنٍ وفي صحراء مقفرة، فيعلم الله أنها سقطت من الشجرة على الأرض تأتي أكمام الريحان والرمان، وأكمام النبات وأكمام الياسمين فتتفجر بالنبتة وتخرج الثمرة، فيعلم الله أنها أخرجت تلك الثمرة! {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد:8] ما تحمل من أنثى من أناث البشر أو الحيوانات، أو العجماوات، أو الطيور، أو الزواحف، أو الأسماك، أو الحيات، إلا يعلم الله متى حملت، وهل يتم هذا الحمل، وهل تضع، وهل هذا الحمل من بني البشر سعيد أو شقي، وماذا يصيبه في الحياة، وماذا يأتيه من المصائب، وماذا يحدث عليه من الكوارث، وما يمرُ به من فقر أو غنى {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8].
مر عيسى عليه السلام ببقرة وهي حاملٌ فأتت تضع -وهذا في سيرة عيسى عليه السلام- فاعترض ابنها في بطنها، فأخذت تخور بصوتٍ أدهش أهل القرية، فبكى عيسى رحمةً للبقرة، فأنطقها الله الذي أنطق كل شيء، فقالت: يا عيسى بن مريم! أسألك بالله أن تدعو الله أن يفرج عني كربتي، والله عز وجل ينطق ما شاء، ومتى شاء، بأي لسانٍ شاء!!
يقول سليمان عليه السلام: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل:16] ويقول عليه الصلاة والسلام: {بينما رجلٌ يسوق بقرة، إذ ركبها فضربها فالتفتت إليه، وقالت: ما خلقنا لهذا} والحديث في الصحيح، فسبحان من أنطقها! ويقول عليه الصلاة والسلام في قصة صاحب الذئب، والحديث في الصحيح: {أخذ ذئب على رجل -والرجل من الصحابة- شاة، فلحقه الرجل، فاستلب الشاة من الذئب، فالتفت الذئب وقال: أتأخذ رزقاً رزقنيه الله؟! من يحمي غنمك عني يوم لا حامي لها إلا أنا؟!}.
فقالت البقرة لعيسى: يا عيسى بن مريم أسألك بالله أن تدعو الله أن يفرج عني.
فبكى عيسى ودعا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وقال: اللهم إنك تعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيءٍ عندك بمقدار، اللهم فرج عنها كربتها، فخرج هذا التبيع في الأرض، فإذا هي تنظر!!، وهذا من آياته سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وفي كل شيءٍ له أيةٌ تدل على أنه الواحد
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحدُ
لكن القلوب إذا ما عرفت بارئها، وما استدلت على باطنها، فمن أين تستدل؟ هل سألت الصباح: من جمله؟! هل سألت النسيم: من أجراه؟! هل سألت النجم: من بهاه؟! هل سألت القمر: من رفعه؟! فالصباح الباكر كل شيءٍ فيه يحيا، مع إطلالة الفجر، الزهرة تغرد وتسبح الباري، الطير تغرد وتشدُو وتسبح الخالق، والماء يتمتم بتسبيحه سُبحَانَهُ وَتَعَالى!!
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44].
فيا أيها الناس: أنتم أولى المخلوقات بالتسبيح، وأولى الكائنات بالذكر والاهتداء إلى الواحد الأحد، وإنما نزل هذا القرآن وإنما أتى هذا الكلام ليدل الناس على الله تبارك وتعالى.
فقوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] هذا عامٌ لا مخصص له، وهو مستوٍ على عرشه -كما قلت- بائن عن خلقه، علمه في كل مكان، وكذب من ادعى أن الله حل مع خلقه، وافترى وكذب على الله، وكذب من قال: اتحد الله في خلقه، أو حل في بعض خلقه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، بل الله عز وجل موصوفٌ بصفات الكمال، على عرشه مستوٍ، ينزل كل ليلة في ثلث الليل إلى السماء الدنيا، فينادي فيقول: {هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من داعٍ فأجيبه؟} فإذا طلع الفجر عاد سُبحَانَهُ وَتَعَالى عودةً تليق بجلاله، ونزولاً يليق بجلاله، لكن لا يغيب عنه شيء: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7].
ما تناجى متناجيان إلا وعلم الله ما دار بينهما، وما فكرت أنت فيه إلا وعلم ما فكرت فيه، والشيء الذي قبل أن تفكر فيه يعلم سُبحَانَهُ وَتَعَالى أنك سوف تفكر فيه، فهو يعلم السر وأخفى، قالوا: ما أخفى من السر؟
قيل: الشيء الذي تريد أن تفكر فيه وأنت لا تدري الآن يعلمه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وقف صفوان بن أمية عند ميزاب الكعبة، وقف مع صاحبه عمير بن وهب وهو يحاوره وقال: تقتل محمداً! قال: أقتله لكن من لي بأطفالي وذريتي وزوجتي، قال: أهلك أهلي، وأطفالك أطفالي، الهدم هدمي والدم دمي! اذهب واقتله وأنا أكفيك أطفالك، فذهب وتسلح بسيفه، ولكن غارة الله أقوى من عمير بن وهب:
يا غارة الله جدي السير مسرعة في سحق أعدائنا يا غارة الله
وصل إلى المدينة يحمل قلباً كله حقد وضغينة وبغض، ويريد الانقضاض على سيد البشر ليقتله؛ ليفعل أعظم جريمة وأعظم لعنة في التاريخ، فدخل المدينة ورآه رجل مسدد ملهم عمر بن الخطاب
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
فانطلق إليه عمر وكان رجلاً مسدداً ملهماً، فأخذه بتلابيب ثيابه وسيفه وسلاحه وأتى يجره حتى أدخله المسجد، فرآه صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا عمير بن وهب؟ قال: يا رسول الله! أتيتُ لأفك الأسارى -أسارى بدر - وأزور أصحابي من الأساري، قال: كذبت، وإنما جلست أنت وصفوان بن أمية تحت ميزاب الكعبة، فقال لك كيت وكيت، وقلت له كيت وكيت، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:7].(313/6)
سبب نزول آية التحريم
أتت حفصة وعائشة رضوان الله على الجميع، زوجاته صلى الله عليه وسلم، وقد مر يوماً بجارية له فأكل عندها عسلاً، فسمعت عائشة أنه أكل عسلاً عند الجارية فأخذتها الغيرة، وقيل: عند بعض نسائه، قيل: جاريته مارية، وقيل: جامع مارية وهي جاريته حلالاً له عليه الصلاة والسلام، فقالت عائشة لـ حفصة: إذا أتاك فقولي نشم منك يا رسول الله رائحة مغافير، وكأن نحله جرست العرفط -شجر منتن الرائحة- والرسول عليه السلام يغضب وينكر ولا يرتاح إذا وجد منه رائحة، وقد كان دائماً يفوح مسكاً، إذا مر من الطريق علم الناس أنه مر من الطريق
أرادوا ليخفوا قبره عن مكانه فطيب تراب القبر دل على القبرِ
نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرمُ
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
وكان عرقه كالمرجان والجوهر والدر ينسكب فيؤخذ منه الأطياب، فيصبح أحسن طيب، أخذته أم سليم في قارورة، وخلطت عرقه فيها، وكان إذا مرض أحد من أهل بيتها أخذت قطرة فخلطتها بالماء، ثم غسلت المريض فتشافى بإذن الله.
فدخل على عائشة، وقد جهزت حفصة الكلام أيضاً -هذه جبهة متحدة ضد الرسول عليه الصلاة والسلام، حلف نسائي بيتي يريدون معارضة الرسول عليه الصلاة والسلام- فدخل على عائشة، فقالت: يا رسول الله! أشم منك رائحة، فأخبرته الخبر، فاستاء صلى الله عليه وسلم من هذه الرائحة.
وذهب إلى حفصة فقالت: أشم منك رائحة مغافير كأن نحله جرست العرفط، فحرم النبي على نفسه العسل، وفي رواية حرم الجارية، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] هذه القصة بكل جزئياتها ومدلولاتها، وما دار بين الجارتين والشريكتين والضرتين في البيت، ومن تدخل في القضية ومن المصيب ومن المخطئ، وحلل القضية برمتها في بيتٍ من بيوته عليه الصلاة والسلام، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1].
ثم بين له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن حفصة أو عائشة تقول له: من أنبأك هذا؟ قال: نبأني العليم الخبير!! قال: سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4].
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النحلِ
اغفر لعبدٍ تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأولِ
هذه الأبيات للزمخشري، قيل إنه رئي في المنام، فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: غفر الله لي في ثلاثة أبيات.
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ما من بعوضة تمد جناحها إلا علم الله بذلك، والخلق كل يومٍ في شأن، كم يموت من الألوف! وكم تلد من النساء! وكم تتغير من الحكومات والدول! وكم تنشأ من المستعمرات! وكم تنتصر من جيوش، وكم تهزم! وكم تجوع من بطون! وكم توسوس من أفكار! وكم يضل من قوم وكم يهتدي من بشر! وكم يقرأ من أناس! وكم يستيقظ من خلق وكم ينام! كله في علم الله لا يغيب، قال: فغفر له.(313/7)
الزمخشري وقصة موسى مع الخضر
استطراد بسيط: الزمخشري صاحب الكشاف، عالم في اللغة جهبذ؛ لكنه معتزلي! أتى من خراسان فدخل على أمه فسكن معها، فأخذ عصفوراً وهو طفل؛ فربطه بخيط عنده في البيت يلعب به، ففر العصفور فأمسك الحبل فانقطعت رجله في الحبل، فقالت أمه وهي تبكي: قطع الله رجلك كما قطعت رجل العصفور.
فذهب من خراسان يريد بغداد، فنشبت رجله في الثلج فتجمدت فبترت من الساق! ولعلها من كفارات الدنيا، وقد جاور مكة فسمي جار الله، وأبياته من ألطف ما قيل {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، علمه وسع المخلوقات، وما علم الناس في علمه سبحانه وتعالى إلا كما يأخذ العصفور من البحر بمنقاره مرةً واحدة.
مر موسى والخضر عليهما السلام في رحلة بحرية، طالب العلم مع شيخه؛ وذلك أن موسى عليه السلام خطب في بني إسرائيل فتدفق عليهم بالعلم، قالوا: هل في الأرض أعلم منك؟ قال: ليس في الأرض أعلم مني.
فأوحى الله إليه: بل الخضر أعلم، فسافر إليه، فركب هو وموسى في القارب، فأتى عصفورٌ فأخذ بمنقاره قطرة ماء، فقال الخضر لموسى: يا موسى! أتدري ما مقدار علمي وعلمك في علم الله؟! قال: الله أعلم، قال: كما أخذ هذا العصفور من هذا الماء، هذا علم المخلوق إلى علم الخالق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(313/8)
قصة أبينا آدم عليه السلام
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] الآن قصتنا يا أيها الضعفاء! وقصة أبينا المكدود المكبود، المذنب التائب إلى الله، هذا أبونا الآن معه حديثٌ طويل في القرآن، يبدأ ذكر آدم بهذه الآية، وسيد قطب يقول كما سلف معنا: تبدأ سورة البقرة بنسفٍ وإبادة لبني إسرائيل من اليهود والنصارى، ثم تأتي قصة المعاد، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]
وفي هذه الكلمة مسائل:(313/9)
مدلول كلمة: (خليفة)
أولها: معنى الخليفة، والخليفة قالوا: هو آدم، والصحيح أن الخليفة يعني قوماً يخلفون قوماً، وهذا الذي رجحه ابن كثير وهو الصحيح، جعلنا الله خلائف الأرض، فبعضنا يخلف بعضاً، قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، وأمةً بعد أمة، قال تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [ابراهيم:45] سكنا الدور والقصور وسكنها آباؤنا وأجدادنا ثم أتينا، ويأتي أبناؤنا وهكذا، فكأن الثاني ما اعتبر بالأول، قدم ل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه إناء من خزف ليشرب فيه، فقربه من فمه ثم نظر إليه وقال: [[الله! كم في هذا الكوب من خدٍ أسيلٍ وطرفٍ كحيل]].
يقول: ربما صنع هذا الكوب أو هذا الإناء من ترابٍ تحلل من خدٍ أسيل، أي: جميل، ومن طرفٍ كحيل، يقول أبو العلاء المعري:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي نوح باكٍ ولا ترنم شادي
خفف الوطء ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجساد
يقول: أنت تمشي على التراب، ربما يكون قطعة من جسم أبيك وجدك وأجدادك في هذا التراب الذي تتكبر عليه.
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
صاحِ هذي قبورنا تملأ الر حب فأين القبور من عهد عادِ
يقول: قبورنا ملأت الدنيا فكيف بقبور القرون التي سلفت.(313/10)
جعل آدم خليفة في الأرض
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] هذا حكمةٌ من حكم الله، أن يسكن الأرض آدم، لمقاصد منها: أن يعمر الأرض، كما قال تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61] ومنها: أن يأتي من ذريته الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والشهداء والعلماء، والصائمون والمصلون.
ومنها: أن يبتليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] وقال: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].
ومنها: أن يظهر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قدرته للعالمين، لأنه لا يكون الملك ملكاً -ولله المثل الأعلى- إلا إذا كانت له رعية يتصرف فيهم، يقتل هذا ويعفو عن هذا، ويعطي هذا ويولي هذا، ويعزل هذا، فإذا كان ملك بلا رعية، فعلام يكون ملكاً؟! فالله أراد أن يظهر سلطانه في الأرض وحكمته البالغة، وقدرته النافذة، ويظهر رحمته وعقابه فأتى بآدم.
ومنها: أنه أراد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يظهر غفرانه، وشديد عقابه، فإنه الغفور الرحيم، شديد العقاب، فكيف نعرف أنه غفورٌ رحيم إذا لم يغفر؟ أتأتي إلى ملك من الملوك فتقول: يا حليم وهو ما سبق له أن حلم عن أحد، وتقول: يا جواد، وهو ما سبق أن أعطى أحداً، وتقول: يا قوي، وهو ما سبق أن هزم جنداً، لا، لابد أن تظهر الأسماء والصفات في المخلوقين.
فهو الغفور الرحيم، فلذلك أذنب آدم فظهرت مغفرته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأخرجه من الجنة فظهرت قدرته، وسلط الله على بعض عباده العذاب فظهر أنه شديد العقاب.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} [البقرة:30] هذا مجتمعٌ من الملائكة الأطهار، ومن حكمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه لم يجعل الأرض من الملائكة، ولم يجعلهم من الجن، ولا من الحيوانات، الحيوانات شهوةٌ بلا عقل، والملك عقلٌ بلا شهوة، والإنسان عقلٌ وشهوة.
ابن آدم نفخةٌ من روح الله، وقبضة من التراب، ابن آدم إذا ارتفع بالصلاة والصيام والذكر وقيام الليل وطلب العلم والزهد، أصبح أفضل من الملائكة، وإذا خسئ بالحقارة والنذالة والمعصية، فشرب الخمر، وتناول المخدرات، وتخلف عن الصلوات، وسمع الأغاني الماجنات، وقرأ المجلات الخليعات، وعق الأمهات، وأغضب رب الأرض والسماوات، أصبح أحقر من البهيمة، قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
أتعرف الحمار؟ يصبح أذل منه {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:1 - 8].
بلى، {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] فكرامة الإنسان يوم يكون عبداً لله
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
ذكر بعض المفسرين، أن الملائكة قالت: يارب! لو أنزلتنا في الدنيا ما عصيناك أبداً.
فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
فأنزل الله هاروت وماروت، وهما من الملائكة، فقال: انزلا، كان عندهما عقول، فآتاهما الله الشهوة مع العقل كما يؤتي الإنسان، فلما نزلا في الأرض جلسا في المحكمة يحكمون بين الناس خلفاء، فأتت امرأةٌ جميلة فتنت هاروت وماروت، فبقيت بهما حتى زنيا بها، وفي رواية فقتلاها، ولما قتلاها أتى الشيطان فقال: إنه لا يمكن إلا أن أخبر إلا أن تعبداني، فسجدا له، ولكن الصحيح أنها ليست في قصة هاروت وماروت، بل في قصة رجلٍ آخر، أما هاروت وماروت فوقعا في الزنا فقط، فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فنكسهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في بئر هاروت وماروت في العراق بأرجلهما.
والقصة ذكرها الذهبي بسندٍ ضعيف في سير أعلام النبلاء في ترجمة مجاهد، وذكرها كثيرٌ من المفسرين، ووصل مجاهد إلى هناك ليرى هاروت وماروت مع رجل يهودي، فقال له الرجل: لا تتكلم؛ فإنك إن تكلمت صعقت، قال: فذهبت فرأيت ملكين منكوسين بأرجلهما في بئرٍ مطوية، فقلت: سبحان الله خالقكما! قال: فصعقت فأغمي عليَّ وعلى الرجل، ثم أفقنا بعد حين فقال لي: أهلكتني وأهلكت نفسك.
ومن أراد أن يعود فليعد إلى الذهبي وغيره من العلماء، والمقصود من هذه الآية أن الله علم أنه لا يصلح للأرض إلا الآدميون.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] يخلف بعضهم بعضاً، وبعضهم يقول: معنى خليفة: آدم وحده، ولكن ليس بصحيح، والقرطبي يذهب إلى أن إقامة الخليفة واجب بهذه الآية، وفي استدلاله نظر! لأن الخليفة هنا هم من يخلف بعضهم بعضاً {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] هنا قضايا:
منها: اعتراض الملائكة على الله عز وجل.
فالله يقول للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] فتقول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30].
وهذا ليس اعتراضاً على الله؛ فإنهم كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27].
وإنما أرادوا أن يُظْهِر لهم الحكمة، كأن طالباً يرى الأستاذ يكتب على السبورة جملة، فيقول: يا أستاذ! كيف تكتب هذه الجملة؟! وهذا ليس اعتراضاً على الأستاذ، ولكنه يقول: فسر لي المعنى وما هو المقصود.
ولله المثل الأعلى.
أتجعل فيها من يفسد فيها! عرف الملائكة أنه سيقع فساد في الأرض؛ لأنه قد عمرها الجن فترة فأفسدوا، فظنوا أن آدم سوف يكون هو وذريته كالجن، كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله.
والإفساد هنا: بالفواحش والمنكرات والمعاصي والظلم، وسفك الدماء بغير حق.
ثم يقول: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] أي كأنهم يشيدون بأنفسهم، ويقولون: نحن أولى، نحن أهل التسبيح، نسبحُ ونصلي لك، وقالوا: نقدسك ونستغفرك، وفي صحيح مسلم قال أبو ذر: {ما هو أحسن الذكر يا رسول الله؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته، سبحان الله وبحمده} وعند البخاري: {كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم}.
وفي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: {من قال: سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت كزبد البحر} وفي صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس} وصح عند الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: {من قال: سبحان الله وبحمده، غرست له نخلةٌ في الجنة}.(313/11)
الحكمة في جعل آدم خليفة في الأرض
قالت الملائكة: يا رب! نحن نسبح بحمدك، ونصلي لك، ونطيعك! فأنزلنا في الأرض!! قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] أي: أعلم حكمةً لا تعلمونها، وأعلم سراً لا تدركونه، وأعلم مقصداً لا تفطنون إليه، قال أهل العلم: مما علم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من هؤلاء أنه سوف يكون من ذرية آدم رسلٌ وأنبياء وشهداء، وعلماء ودعاة وصالحون.
إبراهيم وموسى وعيسى ونوح ومحمدٌ عليهم الصلاة والسلام، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي، ومعاذ، وزيد بن ثابت، ومالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير وأمثالهم كثير، هذا مما علم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ويعلم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه سيكون هناك مفسدون، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251].
إبليس وفرعون، وابن الراوندي، وهامان، وقارون، وأبو جهل، وأبو لهب، وأمية بن خلف، وكل رعديدٍ على وجه الأرض، وشامير، ورابين، وريجن، وبيجن، فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم، لكن يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].
هذا هو العلم، أعلم ما لا تعلمون!! والله يعلم ما يعلمون، ويعلم مالا يعلمون، سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن أدب الفتيا -وسوف يمر معنا- إذا سئلت عما لا تعلم أن تقول: الله أعلم.(313/12)
تعليم الله لآدم الأسماء
قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] أراد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يثبت خصيصة لآدم، فعَّلمه الأسماء كلها، كما في الآية.
أسماء البشر والحيوانات والدواب والمخلوقات، وكل شيء، قال ابن عباس: [[علمه اسم كل شيء، البقرة, والحمار، والفرس]] فعلمه سبحانه وتعالى أن هذا اسمه جبل، وهذه سارية، وهذا مسجدٌ، وهذه شجرةٌ، وهذه زهرةٌ، وهذا ماء، وهذا رجل، وهذه امرأة، وهذا طير، إلى غير ذلك من الأسماء، علَّمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من تعليمه مرةً واحدة، هذا هو الصحيح.
وقال ابن كثير يتساءل: هل التعليم شيء لأشياء محدودة في عصر آدم، أم لمطلق الأشياء؟
الصحيح أنه علمه اسم كل شيء، وذات كل شيء، ومعنى كل شيء، هذا هو الصحيح.
ففي الصحيحين من محاجة آدم مع موسى عليهما السلام، أن موسى عليه السلام التقى بآدم! فقال له: يا آدم! أنت أبونا، خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وعلمك أسماء كل شيء، فلماذا أخرجتنا وخيبتنا؟
موسى جريء شجاع! دائماً يستفسر كلَّمه الله عز وجل فما اكتفى بالمكالمة، وهو شرف عظيم، لكنه قال: رب أرني أنظر إليك، فهو جريء عليه الصلاة والسلام، حتى قيل: لا يصلح لبني إسرائيل إلا موسى، ويقول صلى الله عليه وسلم لـ عمر: {أنت أشبه الناس بموسى ونوح عليهما السلام، ولـ أبي بكر: أشبه الناس بإبراهيم وعيسى}.
فموسى يصلح لبني إسرائيل؛ لأن بني إسرائيل كما يقول الأول: إذا رأوا الرجل المخادع خدعوه، أسيادٌ وفجرةٌ عند عدم الصوت، وحميرٌ عند وجود الصوت، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] فلا يقومون إلا بالصوت، ولذلك كان هارون رحيماً، فيحبوه بنو إسرائيل، وموسى كان قوياً في جسمه، وفي إرادته، وفي هيبته، وفي سلطته، كان بنو إسرائيل إذا غاب موسى يغتابونه في المجالس، فإذا وصل سكتوا، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69].
خرج أربعين يوماً فعبدوا العجل، فأتى والصحف معه، فلما رأى العجل ورأى هارون أخذ بلحيته وألقى الألواح من يده، وأخذ يجره أمام الناس!!
والشاهد: أن الله علم آدم أسماء كل شيء، وذوات كل شيء، ومعاني كل شيء، وهي من مؤهلاته لأن يكون خليفة، لأن الخليفة والمسئول لابد أن يكون على بصيرة، ولذلك لما اختار الله لبني إسرائيل طالوت، قالوا: كيف يكون له الملك علينا ولم يؤت سعةً من المال؟ انظر إلى بني إسرائيل الرأسماليين حتى في القرآن وفي القرون السالفة، يقولون: ليس لديه بنوكٌ ولا شيكاتٌ ولا رصيد، فكيف يكون ملكاً؟ {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] ففي العلم عالم، وفي الجسم كذلك طويل، يصلح للملك
يقول شوقي:
والحسن من كرم الوجوه وخيره ما أوتي القواد والزعماء
علم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة، أتى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالحيوانات، والعجماوات، والدواب، والحشرات، قال للملائكة: ما أسماء هذه؟! فقالوا: لا ندري.
ما اسم الفرس؟ قالوا لا ندري، ما اسم الحمار؟ قالوا: الله أعلم، ما اسم الشجرة؟ الله أعلم، قال تعالى: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31] أي: إن كنتم صادقين أنكم أولى بالخلافة في الأرض، أو إن كنتم صادقين أنكم تعرفون أسماء هذه الأشياء، أو إن كنتم صادقين أنكم أعلم من آدم، أو إن كنتم صادقين أن عندكم علماً مكنوناً ليس عند آدم.
قالوا: سبحانك! ما أحسن الرد! أن سؤالنا اعتراض، سبحان الله!
لما ذكر التوحيد والشرك، فقالوا: سبحانك ما اعترضنا يا رب! تنزهت، وتقدس اسمك سبحانك! لا علم لنا إلا ما علمتنا، وهذا أدب طالب العلم أن يقول: لا علم لنا إلا ما علمنا الله، والله أعلم، ولا يتسرع بالفتيا، ولا يفتي بجهل، فإنه سوف يصيبه من الخذلان والحرمان ما الله به عليم، وتضطرب عليه أموره، ويتكدر قلبه، وينطفئ نوره، ويكون جسراً إلى جهنم للناس.
الناس يتورطون في مسائل الفروج والدماء، والطلاق والزوجات والأموال، فيأتون إليه، فيستحي أن يقول: لا أدري، فيقول: أرسلها وعلى الله مخرجها، فيتكلم بلا علم، وقد كان الصحابة من أشد الناس حذراً في الفتيا، وكانوا يتدافعونها ويتغير وجه الواحد منهم، إذا سئل عن مسألة يخاف أن ينزلق فيها، ولذا فمن لم يعرف فليقل: لا أدري.
يقول علي بن أبي طالب: [[ما أبردها على قلبي إذا سئلت عن مسألةٍ فقلتُ: لا أدري]].
وسئل مالك في أربعين مسألة فأفتى في ثمان، وقال في اثنتين وثلاثين مسألة: لا أدري!! قالوا: نضرب إليك أكباد الإبل من العراق، وتقول: لا أدري، قال: اذهبوا إلى الناس، وقولوا لهم: مالك لا يعرف شيئاً.
ومن الخذلان كتمان العلم، بعض الناس يحمله الورع البارد على كتمان الجواب حتى في أسئلة بسيطة.
يقولون له: كم يتمضمض الإنسان؟ فيقول: الله أعلم سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم! قالوا: كم أركان الإسلام فتح الله عليك؟ قال: الله أعلم لا أدري.
فهذا جهل، وهذا تكلم بلا علم؛ فجزاؤه النار، وهذا كتمَ علماً يلجم بلجامٍ من نار، والأوسط أن تتكلم في ما تعرف، وأن تقول في ما لا تعرف: الله أعلم لا أدري!
علمٌ بلا حكمة اضطراب، وحكمة بلا علم يصيبها جهل.
والإنسان يجمع في أصله بين اثنتين: {ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] قال ابن تيمية: ظلوماً يحكم بلا عدل؛ جهولاً يحكم بلا علم.
ولذلك يشترط أن يكون الحاكم عالماً عادلاً، ويشترط في العالم أن يكون عادلاً {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا} [المائدة:8] فإن بعض الناس قد يتكلم بجهل ويحكم بظلم، والعدل والعلم صفتان جميلتان جليلتان.
قال تعالى: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] فسمى الحيوانات والعجماوات والجبال وكل شيء.
(أعلم غيب السماوات والأرض) هنا حذف المضاف للعلم به، أي (وغيب الأرض) والغيب ما يغيب عن العيون، ولا يعلمه إلا الله، والناس لا يعلمون إلاَّ ما يرون، وعلمهم بما يرون ليس علم إدراك! إنما علم مجمل ظاهر، أما الباطن فلا يعلمه إلا الله {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] وقال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
وفيه شرف العلم، وأنه من أعظم المطالب في الحياة، وأن من جلس عند أهل العلم فهو أفضل ممن يتنفل بالصلاة، ومن يقرأ القرآن وحده {وأن من طلب باباً من العلم ليعمل به ويرفع الجهل عن نفسه، فهو أحسن من أن يركع سبعين ركعة!} وهذا الحديث عند الطبراني لكن في سنده نظر، أن تعلم باباً واحداً من العلم، خيرٌ من سبعين ركعة، وقد جاء من حديث أبي ذر.
وهذا يدل على شرف العلم، والعلم الشريف هو قال الله وقال رسوله، والعلم له وسائل:
لا يكفي القراءة وحدها! ولا يكفي الجلوس عند المشايخ! ولا يكفي حضور الدروس والمحاضرات! بل تجتمع الجميع، التدبر والحفظ والجلوس مع العلماء، ولو كانوا أقل منك علماً وبصيرة، فإن الله يمنحك بالجلوس في مجالس الذكر والعبادة فتحاً عظيماً.
يقول معاذ في سكرات الموت: [[ما كنتُ أحب الحياة إلا لمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر]] وكان معاذ يجلس في حلق من هم أقل علماً منه ليفتح عليه من المعارك، ولأن هذا المتكلم قد يحضر مسائل تستفيدها ما سمعتها أنت!!
فعلى المسلم أن يحرص على طلب العلم، وأن يكون عنده وسائل في العلم، والله قد هيأ المسائل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، عندنا الآن الكتب محققة ومطبوعة ومنقحة، والشريط الإسلامي أمره عظيم، وشأنه جليل، وحاسة السمع تقدم على حاسة البصر، بل الإنسان يفهم بما يسمع أكثر مما يقرأ، والله يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] فقدم السمع، فما يُسمع كثيراً سوف يُحفظ.
فالله الله في الحرص على الفائدة، والتدبر في الدين، والحرص على مجالس الخير والدروس والمحاضرات مهما كانت، وأياً كان المحاضر، فإنك لن تعدم فائدة، بل قد تخرج من بعض الدروس بخمسين وستين فائدة.
ذلك لمن أتى بقصد الله عز وجل، وطلب ما عنده.
قال تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] ما تكتمون في صدوركم وسرائركم، والله هو العليم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(313/13)
الأسئلة
هنا بعض الأسئلة،، وأحبذ -أيها الإخوة- أن تكون الأسئلة عن الموضوع الذي يتكلم فيه، لأن الفتيا لها وقت، وهذا يعني لو أن الوقت متسع لكان هناك مجلس قضايا الأسبوع، وتعرض فيها الفتاوى، والاجتماعيات، والمسائل الحادثة في الساحة، كان أفضل، لكن لضيق الوقت حبذا أن تكون الأسئلة عن الموضوع الذي يتكلم فيه، الآيات هذه الذي تكلمنا فيها وما يدور حولها، تكون فيها الأسئلة، فأنا أعتذر للإخوة نظراً لضيق الوقت، وأن الأسئلة متشعبة، تخرج بنا بأحكام في الطهارة، وأحكام في المواريث، وفي الطلاق، وفي الرضاع، ونحن لسنا بصدد هذه الليلة، الدرس درس تفسير، ومن عنده سؤال شفوي في التفسير فليتفضل.(313/14)
ضرب الأمثال
السؤال
قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل:74] كيف إذا أراد العلماء أن يذكروا شيئاً عن الله، يمثلون بمخلوقاته، والله يقول: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل:74]؟
الجواب
معنى الآية: لا تضربوا لله الأمثال، أي: لا تضربوا له مثلاً بالأصنام سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وتدعو لله أنداداً، وتضربوا له أمثلة الأصنام والأوثان، وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، أما إذا ضربت مثلاً فلتقل: ولله المثل الأعلى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(313/15)
أعوان ملك الموت
السؤال
ذكرت أن هناك ملائكة تقبض الأرواح، هل هم ملائكة أو ملك؟
الجواب
الذي ذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة السجدة أنه ملك: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11] فلا أعلم أنهم ملائكة؛ ربما يكون سبق لسان، ولكن أعلمُ ملكاً واحداً، أما اسمه فلا يعلم بسندٍ صحيح، ومن قال اسمه عزرائيل، فليأتنا بدليل، والبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، فشاهدان أو حدٌ في ظهرك، لأنه ما ثبت في النصوص عزرائيل.(313/16)
بعض الأبيات للزمخشري
السؤال
أعد أبيات الزمخشري؟
الجواب
يقصد أبيات البعوض، يقول:
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليلِ
ويرى نياط عروقها في جسمها والمخ في تلك العظام النحل
اغفر لعبدٍ تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأولِ
هو شاعر، وهذه أبياتٌ رقيقة، لكن ترجم له الذهبي فأتى بأبياتٍ له، وقال: أبياته ركيكة لا رقيقة، مات شيخه أبو مضر النحوي فرثاه يقول:
وقائلة ما هذه الدرر التي تساقطها عيناك سمطين سمطين
فقلت هو الدُر الذي قد حشا به أبو مضر أذني تساقط من عيني(313/17)
كتاب الكشاف
السؤال
لمن هو كتاب الكشاف؟ وما رأيكم فيه؟
الجواب
الكشاف كتابٌ للزمخشري، وهو يحمل الاعتزال في طياته، وفيه حياتٌ وعقارب، والرجل مبتدع، ويحمل بدعته، ويؤيدها في كل مقالة، لكن فيه فوائد بلاغية وبيانية ونحوية، واستطراداتٌ طيبة، فنأخذ ما فيه، ونتقي حياته وعقاربه.(313/18)
حوار بين موسى وآدم
السؤال
ما هو الحوار الذي دار بين موسى وآدم عليهما السلام؟
الجواب
كان هناك درس قبل أشهر اسمه: المحاجة، أو: حوار ساخن بين آدم وموسى عليهم السلام لما قال له موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة! فقال: أنت موسى، الذي كتب الله لك التوراة بيده، وكلمك، أتلومني على شيءٍ قد قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني؟! ويقول له في روايةٍ صحيحةٍ أخرى: بكم رأيت الله عز وجل قدَّر عليَّ ذلك؟ قال: قبل أن يخلقك بأربعين سنة، قال: أفتلومني على شيءٍ قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال صلى الله عليه وسلم: {فحج آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى} أي: غلبه، هذا هو الرد، وفيه تفصيل يكون في درس اسمه (موقف أهل السنة بين الجبرية والقدرية) لأنهم يستدلون بهذه الأحاديث.(313/19)
حقيقة لون السماء
السؤال
اللون الذي نراه في السماء أزرق، هل هي السماء نفسها أم هو سطحها؟
الجواب
سواءً كان الذي نراه أزرق هو السماء أو سطحها؛ الله أعلم، إنما نقول: هناك سماء ولا أدري ما لونها، وقد يكون هذا اللون الذي نراه ناتجاً عن البعد الشاسع لا حقيقة، والقرآن لم يثبت مما نراه شيئاً، فإذا أتو بعلمٍ ليس في القرآن، ولا يعارض القرآن، فلا بأس أن نقبله، لأنه علم وصل إليهم.(313/20)
ملك الموت
السؤال
هل ورد في السنة أن ملك الموت واحد، ومعه جنود؟
الجواب
نعم، كما تفضلت هذا وارد، لأنني سُئلت قبل قليل: ملك الموت هل هم ملائكة، أو واحد؟ والصحيح أنه واحد، لكن صحت الأحاديث بأنه ينزل ملائكة معهم حنوط، كما في حديث البراء عند أبي داود بسندٍ صحيح، وغيره من الأحاديث، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:30 - 31] فدل على أن هناك ملائكة يساعدون؛ لكن لا يسمون ملائكة الموت، بل هم أعوان.(313/21)
الشورى
السؤال
هل يستدل بقوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) على الشورى؟
الجواب
{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] الاستدلال بهذا في الشورى بعيد، والله لا يشاور أحداً من خلقه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وما اتخذ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى معاضداً ولا مشاركاً ولا مساعداً ولا معاوناً ولا يستشير أحداً، وينفذ أمره متى شاء، بأي هيئةٍ شاء وبأي كيفية شاء، لأن له نفوذاً مطلقاً، هذا لا يستدل به أبداً، فهو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ذو الكلمة النافذة تبارك وتعالى.(313/22)
مدى صحة تسمية ملك الموت بـ (عزرائيل)
السؤال
هل يصح تسمية ملك الموت عزرائيل؟
الجواب
لا يصح، لأن لفظ عزرائيل ليس بثابت في الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم، عزرائيل اسمٌ اشتهر بين الناس، ولا يصح أنه قال: أرني صورتك لآدم، إنما صح أن محمداً رسولنا صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: {أرني صورتك التي خلقك الله عليها} فصوره الله بستمائة جناح، كل جناح يسد ما بين المشرق إلى المغرب، فأغمي على رسولنا، وصعق عليه الصلاة والسلام، حتى استفاق بعد فترة، وهذا ستمائة لم يستخدم جبريل منها في تدمير قوم لوط وهم أربع قرى فيها ستمائة ألف؛ لم يستخدم إلا جناحاً واحداً، ويوم أتى لتعذيبهم أتى من أول القرى وهي المؤتفكات قبل الوديان والجبال بمسافة أخذها من تحت الأرض حتى رفعها بما فيها من جبال وأودية وأناس وبيوت؛ رفعها إلى السماء الدنيا، وفي بعض الألفاظ الصحيحة: أن الملائكة سمعت صياح أطفالهم ونباح كلابهم، ثم لطم بهم الأرض.
أحد الخطباء سمعته في شريط يقول: جبريل قائد الفرقة الثامنة والثلاثون للكمندوز المتخصصة في النسف والإبادة، ولا بأس بالإشراقات، لكن في حدود المعقول، التخاطب مع الملائكة والرسل يكون في حدود الأدب، ومن أحسن ما يتكلم في هذا المباركفوري صاحب الرحيق المختوم، له كلمات مشرقة، لا تخدش في الأدب، مثل أن يقول:-
- أبو بكر يعلن سياسة حكومته الجديدة بعد الرسول عليه الصلاة والسلام.
- نقل الجثمان والصلاة ومجلس الشورى.
- الرسول صلى الله عليه وسلم في ساعة الصفر في بدر.
- عمر بن الخطاب يلقي كلمة أبي بكر.
فالأساليب العصرية لا بأس باستخدامها، لكن بشرط ألا تخرج عن نطاق الأدب وحدوده، مثل بعض الخطباء يقول: في بدر اتصل عليه الصلاة والسلام مباشرةً باللاسلكي، قال: فأتاه ألف من الكمندوز، فنزلوا في بدر.
هذا فيه شيءٌ من الإساءة والجرح للكتاب والسنة، لابد من الوقار، ولا بأس باستخدام الأساليب العصرية.(313/23)
موقع السبع السماوات
السؤال
هل يصح، وأين توجد السماوات السبع؟
الجواب
أما هل يصح فلك أن تسأل أين توجد السماوات السبع، ولك أن تسأل في ذلك، وأما أين توجد فاترك هذا إلى الأسبوع القادم إن شاء الله.
إما أن توجد في جزر القمر، أو في الهملايا، هي فوقنا {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:17 - 18].
انظر تجد آياته في كل ما يبري بها حُكم الحكيم ويبصرُ
وفي كل شيء له آيةٌ تدل على أنه واحد
فهي فوقك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(313/24)
الصائمون الصادقون
خمس عشرة مسألة أوردها الشيخ في الإخلاص، والمتابعة، والصدق، وصوم القلب والجوارح، واستغلال الأوقات في الدعاء والمناجاة كلمات مضيئة، وأشعار وضيئة، قصص وأقوال وصايا ونصائح، فإذا أردت أن تكون من صنف الصائمين الصادقين فاستنر بهذه المادة.(314/1)
إخلاص العمل لوجه الله
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالهداية الربانية فأنار به سبل الإنسانية، وهدى به البشرية، وزعزع به كيان الوثنية، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته:
شكر الله لأهل الفضل فضلهم، وعلى رأسهم رئيس هذا النادي، وأعضاء هيئته، والمشاركون والحضور، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى كما جمعنا بكم هنا أن يجمعنا هناك في مقعد صدق عند مليك مقتدر {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8] {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106].
عنوان المحاضرة: (الصائمون الصادقون) والداعية المسلم يجتاب النوادي كالمساجد، ويحضر المحافل كالأسواق، ويشهد مجامع الناس، وله أن يشارك ويرى، فما معنا إلا إخوان، وما أتينا إلا إلى خلان، وما زرنا إلا الجيران، نحن وإياهم في هدف واحد، والمقصد هو وجه الله -إن شاء الله- لترتفع لا إله إلا الله محمد رسول الله، فرسولنا أول داعية بعد الفترة، طرق سمع التاريخ وتكلم على منبر الدنيا، جاب الأسواق، وحضر الأندية، وتكلم في مجامع الناس؛ ليبلغ راية الله، يقول محمد إقبال شاعر الباكستان عن الداعية المسلم وعن دوره في الحياة:
أنت كنز الدر والياقوت في لجة الدنيا وإن لم يعرفوك
محفل الأجيال محتاج إلى صوتك العالي وإن لم يسمعوك
أما عناصر هذه المحاضرة فهي تدور على سبع عشرة مسألة:
المسألة الأولى: إخلاص العمل لوجه الله في كل عمل.
المسألة الثانية: المتابعة للإمام الأعظم محمد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثالثة: الصدق وحسن التوجه إلى الباري جلت قدرته.
المسألة الرابعة: قلوب صامت عن السوء، كيف تعيش القلوب في رمضان؟ وكيف تحيا بذكر الواحد الديان؟ وكيف ترفرف على سبحات الرحمن؟
المسألة الخامسة: فهي العيون التي عرفت الصيام، كيف تصوم العيون؟
سهر العيون لغير وجهك ضائع ورضا النفوس بغير ذاتك باطل
المسألة السادسة: فهي ألسنة هجرت اللغو وحبست عن الكلام في غير مرضاة الله فهو صيامها، وسوف نقف عند هذه المسائل بإذن الله.
السابعة: أذن تأبى الخنا والزور، وقاطعت كل أغنية ماجنة، وكل كلمة فحش، وكل كلمة فيها بذاءة.
المسألة الثامنة: يد تمتد بالإحسان وتكف عن الباطل في رمضان وفي غير رمضان.
المسألة التاسعة: فما هي الرِّجل! التي تحمل صاحبها لتقف على ساحة الحق وتحجم عن المنكر؟
المسألة العاشرة: البطون الجائعة في مرضاة المولى.
المسألة الحادية عشرة: أكباد ضمئت لتشرب من الكوثر يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
المسألة الثانية عشرة: الصائمون في جلسة السحر مع رب العزة والجلال، يوم يتجلى لعباده في الثلث الأخير، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داعٍ فأجيبه؟
المسألة الثالثة عشرة: الصائمون يسافرون مع القرآن الكريم في رحلة ممتعة.
أما المسألة الرابعة عشرة: فهي في دقائق الإفطار روعة وجلال، يوم تأتي الشفاه إلى الطعام وتمتد الأيادي إلى فضل الله، إنها ساعة الاستجابة، وللصائم فيها دعوة لا ترد.
المسألة الخامسة عشرة: صلاة التراويح، حشد هائل من المؤمنين يحضرون جلسات الخير والسجدات التي تعتقهم من الرق والعبودية لغير الله.
المسألة السادسة عشرة: الفقراء يمدون أيديهم.
المسألة السابعة عشرة: رمضان مدرسة روحية تربوية.
تلكم أيها الفضلاء النبلاء! أيها السادة الأخيار الأبرار! أيها المستقبلون لشهر رمضان! تلكم المسائل التي نريد أن نتكلم عنها في هذا الدرس بحول الله.
يا رب هب لي بياناً أستعين به على قضاء حقوق نام قاضيها
فمر سري المعاني أن يواتيني ربي فإني ضعيف الحال واهيها(314/2)
الأدلة الدالة على وجوب الإخلاص لله تعالى
أما إخلاص العمل فالمقصد هو الله، وكان أحد الوعاظ إذا جلس في مجلس الوعظ قال وهو يلتفت إلى السماء: إنك تعلم ما نريد قال سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] فما عمل للدنيا يفنى، وما عمل لأجل الناس يذهب للناس قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] وقال عز من قائل: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] صائمان اثنان، هذا جائع وذاك جائع، وهذا ظمئ وذاك ظمئ، وهذا سهر وذاك سهر، ولكن
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم
أما ذاك فتقبل الله عمله؛ لأنه قصد وجه الله، ورضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه أراد بعمله وجه الله، وهذا رد الله عليه عمله كله، فلا قبل جوعه ولا ظمأه ولا سهره ولا صيامه!
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يقول الله عز وجل: من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه} والله يترك من يشرك معه، وهذه هي المراءاة، وفي الصحيحين {من راءى راءى الله به، ومن سمع سمّع الله به}.
إذاً يا أيها الفضلاء! يا أيها النبلاء! لا بد أن نعرف مسألتين في الإخلاص:(314/3)
معرفة الله سبب الإخلاص
أولها: أن نعرف الله، فهو القدير الذي بيده مفاتيح القلوب، والمعطي والمفقر، والمانع والقابض، والباسط والرازق، والمحيي والمميت، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].
إخوتي في الله! يقول عليه الصلاة والسلام: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} كثير من الناس يجودون صلاتهم من أجل الناس، ويصومون من أجل الناس، ويتلون كتاب الله من أجل الناس قال الله فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:22].
فأوصي نفسي -أولاً- وإياكم بمعرفة الباري، من هو الله؟
إن الله تعالى يوم لقيه موسى ليملي عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى دعوة التوحيد، قال: يا موسى! {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ولذلك أعلن شاعر السودان الإيمان في قصيدته وهو يتكلم عن رسالة التوحيد التي تركها كثير من شعرائنا، وصاروا يتكلمون عن الفتاة، والزهرة، وعن الهيام، والشاطئ والماء، ولكن لا يربطون ذلك بالواحد الأحد، أما شاعر السودان فيقول في قصيدة الإيمان:
بك أستجير ومن يجير سواكا فأجر أجيراً يحتمي بحماكا
إلى أن يقول:
أشكو إليك مصائباً أهفو بها يا رب هل من غافر إلاكا
إبليس يخدعني ونفسي والهوى ما حيلتي في هذه أو ذاكا
ثم يقول وهو يتكلم عن الإخلاص والإيمان والتوحيد:
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافكا
والنحل قل للنحل يا طير البوادي ما الذي بالشهد قد حلاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله: كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
فالحمد لله العظيم لذاته حمداً وليس لواحد إلاكا
لا بد أن ندخل المسجد موحدين، والنادي موحدين، والسوق موحدين.
ما هي رسالتنا؟ وما هي أصالتنا؟ ما هو عمقنا؟ ما هو شرفنا في الحياة؟؟
شرفنا وأصالتنا وعمقنا هو لا إله إلا الله محمد رسول الله، نحن لم نخلق للغناء، ولا للرقص والتطبيل والمسرحية الآثمة، والفيديو المهدم، أتعلمون أن أرذل الناس هم هؤلاء المغنون الذين يصدون الناس عن لا إله إلا الله، الذين يقربون الزنا والفحش والبذاءة وقلة الحياء من الأمة!! هؤلاء والله عيب أن يتصدروا المجتمع، وعيب أن يقودوا الشباب! وعيب أن يتصدروا الموكب! وعيب أن يكونوا في أول الركب! هؤلاء لا قيمة لهم؛ لأن أهل القيمة هم أهل الإيمان الذين خاطبهم الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] هم أهل الإيمان
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون لقياه
يا ربُ فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
أضعناه ومزقه شامير ورابين، وأعداء الشعوب؛ يوم تركنا لا إله إلا الله محمد رسول الله.(314/4)
المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم
أما العنصر الثاني فهو متابعة المصطفى عليه الصلاة والسلام، أولاً: اسأل نفسك في صيامك، وصلاتك، وحجك، في هديك، في ليلك ونهارك من هو إمامك؟ من هو قدوتك؟ من هو الذي تحبه في الحياة؟
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
يا خير من دفنت القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
اسأل نفسك من هو قدوتك في الحياة؟ اعرض أعمالك على محمد عليه الصلاة والسلام وعلى أعماله فإنه برهان، زن أقوالك بأقواله فإنه ميزان، اعرض نفسك عليه فإن قبلت فبها ونعمت، إن وافقت النسخة النسخة فقد نجحت وأفلحت، وإن اختلفت النسخة عن النسخة فاعرف أن في البضاعة بهرجاً، وأن في العملة زيفاً، وأن في البضاعة غشاً لا يقبله الله، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
من الذي أحيا القلوب بإذن الله؟
من الذي غرس فيها لا إله إلا الله وكانت ميتة؟ من الذي أخرج للعالم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وأبياً وطلحة والزبير وحسان وابن عباس؟
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم
كنت الإمام لهم والجمع محتفل أعظم بمثلك من هادٍ ومؤتمم
أليس كسافة؟ أليس خزياً وعاراً أن يحفظ بعض الناس تواريخ البشر وينسون تاريخ أعظم البشر! يقرءون سيرة أخس البشر ويتركون سيرة أكرم البشر؟! يحفظون آداب أحقر البشر الأقزام! ويتركون العظيم الذي لم يطرق العالم مثله!
والله لقد شهد الأعداء له، والله لقد اعترفوا بفضله، جولد زيهر المجري الذي هاجم الحديث يتهيب عن الهجوم على محمد صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه عظيم! إنه رجل عبقري! نشر الخير في الأرض "
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شَعْبٌ من الأموات أحياه
أهل الجزيرة، أهل الضأن، والغنم، والإبل، والعمالة، والجهالة، والضلالة، يخرجهم بعد خمس وعشرين سنة ليحملوا لا إله إلا الله في طشقند وسمرقند والهند ويقفون على ضفاف الأطلنطي ونهر الأوار.
بماذا أخرجهم؟ لقد أدبهم ووجههم إلى المنهج السليم؟!
فالمطلوب منا في العنصر الثاني المتابعة في الصيام، ما هو هديه في الصيام؟ وكيف كان صائماً؟ وأحسن من أدلكم على تأليفه في هذا الموضوع هو الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه زاد المعاد.
فهديه صلى الله عليه وسلم في الصيام، أنه كان أصبر الناس على الصيام، يواصل الليالي والأيام ولا يأكل اللقمة ولا يشرب جرعة، فكان الصحابة يحبون أن يواصلوا مثله ولكن هيهات! شتان ما بين الفريقين والواديين والمثلين، هم فضلاء لكنه من نوع آخر!
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
يقول: {إني لست كهيئتكم} ورفض أن يواصلوا معه قالوا: ولم؟ قال: {إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني} يا للعظمة! يا للجلال! الله يطعمك ويسقيك فيكف تكون صائماً؟
قال ابن القيم: ليس طعاماً محسوساً، ولا شراباً محسوساً، طعام المعاني، طعام أرواح الكلمات النيرات التي تتنزل عليه من السماء، طعام الإشراق والحكمة، طعام المعرفة؛ ولذلك يقول الأندلسي يوصي ابنه:
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
قوت الروح القرآن، قوت الروح المعاني، تجد الشاعر الذي يعيش الأحاسيس فينظم قصيدة جميلة فيشبع من قصيدته وجمالها، فينسى الطعام، وينسى الخبز والماء والفاكهة! فنقول: لم؟ فيقول: أنساني جمال التصوير والإبداع في القصيدة، والإشراق في المعاني أن آكل أو أشرب! فما بالك بمن جبريل يتنزل عليه بالوحي والكلام من السماء؟ قال: يطعمني ربي ويسقيني.
قال ابن القيم: يطعمه معاني وكلمات نيرات وحكماً، ثم يستشهد بقول شاعر عربي سافر إلى محبوبته! فنسي الطعام والشراب وأصبح على الناقة يمشي ويقول:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به ومن حديثك في أعقابها حاد
إذا تشكت كلال السير أسعفها شوق القدوم فتحيا عند ميعاد
هذا طعامه وشرابه عليه الصلاة والسلام يوم يواصل، أما الذي يُطْلَبُ منا: هو أن نعيش رمضان كما عاشه عليه الصلاة والسلام، فحياة النوم من الصباح إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى المغرب ليست بحياة، وليس هذا بصيام، يصوم الإنسان وهو يحلم ويرى في المنام أنه صائم وهو لم يصم! لا جاع ولا ظمئ ولا عاش مع القرآن، أهذا صيام؟ من أين أتى هذا الصيام؟ حياة السهر في غير طاعة منذ صلاة العشاء، بل بعضهم يترك صلاة التراويح والقيام ويذهب للسهر حتى صلاة الفجر، يسهر مع أغنية ماجنة، أو عزف على الناي، أو رقصة وعرضة شعبية إلى السحر، يوم يتنزل الله إلى السماء الدنيا!
قلت لليل: هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار؟
قال: لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار
يوم تمتد الأكف: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] من يتوب عليك؟ من يهديك سواء السبيل؟ من يرزقك؟ من يحل مشكلاتك في الحياة؟ من يؤمن مستقبلك إلا الله؟ قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53] {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66] {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] كل المخلوقات يموت إلا الله {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
يا إخوتي في الله! حياة الصيام هي حياة القرآن، حياة تحفظ سمعك وبصرك وقلبك عما لا يرضي الله.(314/5)
الصدق وحسن التوجه إلى الباري
الإخلاص شيء من الصدق والصدق شيء من الإخلاص، لكن الصدق يزيد عليه، الصدق أن تصدق في عبادتك قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] أن تصدق في الكلام، أن تصدق في العمل، يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً} الصدق عجيب! الصدق من أحسن ما يكون!
سجن أحد الأخيار من العلماء في سجن بغداد، وكان الذي سجنه هو الخليفة المهدي بن أبي جعفر المنصور، وسبب السجن أن الخليفة قال له: لابد أن تخبرني أين عيسى بن زيد -وهو من نسل وأحفاد علي بن أبي طالب - وعيسى بن زيد رجل فاضل عظيم، ولكنه اتهم بأنه يريد الخلافة، فأتى الوشاة، وقالوا: هذا الرجل الصالح في بيتك.
فذهبوا به إلى الخليفة، فقال له الخليفة: أخرج عيسى بن زيد.
قال: والله ما كذبت في حياتي، ووالله الذي لا إله إلا هو لو كان عيسى بن يزيد بين جلدي وعظمي ولحمي ما أخرجته، أتقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: اضربوا عنقه.
فاقتربوا بالسيف من عنقه قال: قل لي: أين هو؟ قال: والله لا أكذب أبداً، وهل جزاء الصدق إلا الجنة، اضرب عنقي.
فضرب ففصل رأسه عن جسده، (ذكر هذه القصة ابن خلكان).
أدخلوا رجلا من الصالحين قيل: إنه زر بن حبيش على الحجاج، فقال الحجاج: أين ابنك؟ قال: أنا لم أكذب في حياتي، ولو كذبت كتمت عليك أين ابني فأنا كاذب، ابني في البيت.
فجازاه الله جزاء الصدق بالصدق، ومعنى الصدق: أن تصدق في العبادة وأن تكون موافقة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.(314/6)
المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم
أما العنصر الثاني فهو متابعة المصطفى عليه الصلاة والسلام، أولاً: اسأل نفسك في صيامك، وصلاتك، وحجك، في هديك، في ليلك ونهارك من هو إمامك؟ من هو قدوتك؟ من هو الذي تحبه في الحياة؟
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيببهن ذاك القاع والأكم(314/7)
محمد صلى الله عليه وسلم قدوتنا في الحياة
اسأل نفسك من هو قدوتك في الحياة؟ اعرض أعمالك على محمد عليه الصلاة والسلام وعلى أعماله فإنه برهان، زن أقوالك بأقواله فإنه ميزان، اعرض نفسك عليه فإن قبلت فبها ونعمت، إن وافقت النسخة النسخة فقد نجحت وأفلحت، وإن اختلفت النسخة عن النسخة فاعرف أن في البضاعة بهرجاً، وأن في العملة زيفاً، وأن في البضاعة غشاً لا يقبله الله، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
من الذي أحيا القلوب بإذن الله؟
من الذي غرس فيها لا إله إلا الله وكانت ميتة؟ من الذي أخرج للعالم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وأبياً وطلحة والزبير وحسان وابن عباس؟
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم
كنت الإمام لهم والجمع محتفل أعظم بمثلك من هادٍ ومؤتمم
أليس كسافة؟ أليس خزياً وعاراً أن يحفظ بعض الناس تواريخ البشر وينسون تاريخ أعظم البشر! يقرءون سيرة أخس البشر ويتركون سيرة أكرم البشر؟! يحفظون آداب أحقر البشر الأقزام! ويتركون العظيم الذي لم يطرق العالم مثله!
والله لقد شهد الأعداء له، والله لقد اعترفوا بفضله، جوز سهير الهُجري الذي هاجم الحديث يتهيب عن الهجوم على محمد صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه عظيم! إنه رجل عبقري! نشر الخير في الأرض "
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شَعْبٌ من الأموات أحياه
أهل الجزيرة.
أهل الضأن، والغنم، والإبل، والعمالة، والجهالة، والضلالة، يخرجهم بعد خمس وعشرين سنة ليحملوا لا إله إلا الله في طشقند وسمرقند والهند ويقفون على ضفاف الأطلنطي ونهر الأوار.
بماذا أخرجهم أدبهم ووجههم إلى المنهج السليم؟!(314/8)
هديه صلى الله عليه وسلم في الصيام
فالمطلوب منا في العنصر الثاني المتابعة في الصيام، ما هو هديه في الصيام؟ وكيف كان صائماً؟ وأحسن من أدلكم على تأليفه في هذا الموضوع هو الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه زاد المعاد.
هديه صلى الله عليه وسلم في الصيام، أنه كان أصبر الناس على الصيام، يواصل الليالي والأيام ولا يأكل اللقمة ولا يشرب جرعة، فكان الصحابة يحبوا أن يواصلوا مثله ولكن هيهات! شتان ما بين الفريقين والواديين والمثلين، هم فضلاء لكنه من نوع آخر!
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
يقول: {إني لست كهيأتكم} ورفض أن يواصلوا معه قالوا: ولم؟ قال: {إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني} يا للعظمة! يا للجلال! الله يطعمك ويسقيك فيكف تكون صائماً؟
قال ابن القيم: ليس طعاماً محسوساً، ولا شراباً محسوساً، طعام المعاني، طعام أرواح الكلمات النيرات التي تتنزل عليه من السماء، طعام الإشراق والحكمة، طعام المعرفة؛ ولذلك يقول الأندلسي يوصي ابنه:
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
قوت الروح القرآن، قوت الروح المعاني، تجد الشاعر الذي يعيش الأحاسيس فينظم قصيدة جميلة فيشبع من قصيدته وجمالها، فينسى الطعام، وينسى الخبز والماء والفاكهة! فنقول: لم؟ فيقول: أنساني جمال التصوير والإبداع في القصيدة، والإشراق في المعاني أن آكل أو أشرب! فما بالك بمن جبريل يتنزل عليه بالوحي والكلام من السماء؟ قال: يطعمني ربي ويسقيني.
قال ابن القيم: يطعمه معانٍ وكلمات نيرات وحكم، ثم يستشهد بقول شاعر عربي سافر إلى محبوبته! فنسي الطعام والشراب وأصبح على الناقة يمشي ويقول:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به ومن حديثك في أعقابها حاد
إذا تشكت كلال السير أسعفها شوق القدوم فتحيا عند ميعاد
هذا طعامه وشرابه عليه الصلاة والسلام يوم يواصل، والذي يُطْلَبُ منا: هو أن نعيش رمضان كما عاشه عليه الصلاة والسلام، فحياة النوم من الصباح إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى المغرب ليست بحياة، وليس هذا بصيام، يصوم الإنسان وهو يحلم ويرى في المنام أنه صائم وهو لم يصم! لا جاع ولا ظمأ ولا عاش مع القرآن، أهذا صيام؟ من أين أتى هذا الصيام؟ حياة السهر في غير طاعة منذ صلاة العشاء، بل بعضهم يترك صلاة التراويح والقيام ويذهب للسهر حتى صلاة الفجر، يسهر مع أغنية ماجنة، أو عزف على الناي، أو رقصة وعرضة شعبية إلى السحر، يوم يتنزل الله إلى السماء الدنيا!
قلت لليل: هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار؟
قال: لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار
يوم تمتد الأكف: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] من يتوب عليك؟ من يهديك سواء السبيل؟ من يرزقك؟ من يحل مشكلاتك في الحياة؟ من يؤمن مستقبلك إلا الله؟ قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53] {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66] {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] كل المخلوقات يموت إلا الله {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
يا إخوتي في الله! حياة الصيام هي حياة القرآن، حياة تحفظ سمعك وبصرك وقلبك عما لا يرضي الله.(314/9)
الصدق وحسن التوجه إلى الباري عز وجل
الإخلاص شيء من الصدق والصدق شيء من الإخلاص، لكن الصدق يزيد عليه، الصدق أن تصدق في عبادتك قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] أن تصدق في الكلام، أن تصدق في العمل، يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً} الصدق عجيب! الصدق من أحسن ما يكون!(314/10)
أبو جعفر المنصور وأحد الأخيار
سجن أحد الأخيار من العلماء في سجن بغداد، وكان الذي سجنه هو الخليفة المهدي بن أبي جعفر المنصور، وسبب السجن أن الخليفة قال له: لابد أن تخبرني أين عيسى بن زيد -وهو من نسل وأحفاد علي بن أبي طالب - وعيسى بن زيد رجل فاضل عظيم، ولكنه اتهم بأنه يريد الخلافة، فأتى الوشاة، وقالوا: هذا الرجل الصالح في بيتك.
فذهبوا به إلى الخليفة، فقال له الخليفة: أخرج عيسى بن زيد.
قال: والله ما كذبت في حياتي، ووالله الذي لا إله إلا هو لو كان عيسى بن يزيد بين جلدي وعظمي ولحمي ما أخرجته، أتقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: اضربوا عنقه.
فاقتربوا بالسيف من عنقه قال: قل لي: أين هو؟ قال: والله لا أكذب أبداً، وهل جزاء الصدق إلا الجنة، اضرب عنقي.
فضرب ففصل رأسه عن جسده، (ذكر هذه القصة ابن خلكان).(314/11)
الحجاج وزر بن حبيش
أدخلوا رجلا من الصالحين قيل: إنه زر بن حبيش على الحجاج، فقال الحجاج: أين ابنك؟ قال: أنا لم أكذب في حياتي، ولو كذبت كتمت عليك أين ابني فأنا كاذب، ابني في البيت.
فجازاه الله جزاء الصدق بالصدق، ومعنى الصدق: أن تصدق في العبادة وأن تكون موافقة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.(314/12)
قلوب صامت عن السوء
يا أيها الإخوة!! إن مفهوم الصيام عند كثير من المسلمين أن يترك الخبز والفاكهة واللحم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا صيام في الشريعة، لكن مفهوم الصيام ومقصده ودلالته: أن تصوم قلبك عن السوء، كم امتلأت قلوبنا من السيئات، من الكبر، والعجب، والحقد، والحسد وهذا ليس بصيام، كيف تصوم البطن ولا يصوم القلب؟
كيف يصوم من يعتقد الاعتقادات السيئة الباطلة؟ استهزاء بالكتاب والسنة، واستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم، الاستهزاء بالصالحين، والتكبر على عباد الله، والعجب بما عنده من منصب أو ثروة أو وظيفة أو سيارة أو فلة كيف يصوم؟
والله إن قلوب بعض الناس كقلب فرعون ولو كان يصلي مع الناس، ويصوم شهر رمضان، ويحج البيت العتيق! فإن قلبه مثل قلب فرعون، لا يرى البشر، ولا ينظر إلى الناس، ولا يرد السلام، ولا يبتسم، ولا يعرف من الإسلام شيئاً، صور له شيطانه أنه من أعظم الناس.
خفف الوطء ما أظن أديم الأ رض إلا من هذه الأجساد
صاح هذي قبورنا تملأ الرحـ ـب فأين القبور من عهد عاد
وقد انتشرت ظاهرة الكبر في المجتمع، خاصة فيمن سول له الشيطان منصباً أو مالاً أو ثروة أو وجاهة في المجتمع، أو علماً ومعرفة أو شهادة عالية أو ثقافة، فتجده لا يرى الناس شيئاً.
وللمتكبرين الذين ما صامت قلوبهم علامات منها: سواد الوجه واكفهراره.
وجوههم من سواد الكبر عابسة كأنما أوردوا غصباً إلى النار
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً أهدوك من نورهم ما يتحف الساري
من تلق منهم تقول لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري(314/13)
علامات الصالحين في رمضان
من علامات الصالحين في رمضان وغير رمضان: البسمة، وحسن الخلق، ولين الجانب، والزيارة والاستزارة، ورد السلام، والعشرة الطيبة، أما أن يحشو الإنسان قلبه بالكبر، ويتكبر على عباد الله، ويتغطرس على الناس بما عنده من ماديات فهذا والعياذ بالله لم يصم.
من صيام القلب مسائل:(314/14)
صيام القلب عن الاعتقادات الباطلة
وهي الزندقة والإلحاد، والشكوك الآثمة، وأنا مما أسمع من كثير من الشباب الذين بدءوا في الهداية يجدون وساوس في قلوبهم وخطرات وواردات، وعلاج هؤلاء أمران:
أولهما: تدبر كتاب الله عز وجل صباحاً ومساءً.
ثانيها: الابتهال والدعاء إلى الله الواحد الأحد، ثم الجزم وعدم التردد، يأتي إبليس يشكك في الرسالة والرسول، وفي الخالق وفي اليوم الآخر، وفي الجنة والنار، وهذا ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله.
إذاً من صيام القلب.
أولاً: أن يصوم عن الاعتقادات الباطلة.(314/15)
صيام القلب عن الكبر
ثانياً: أن يصوم عن الكبر، كيف يكون عبداً لله من يتكبر؟ مسكين من يتكبر، ضعيف من يختال على الناس، لم يعرف نفسه ولم يعرف ربه، ولذلك كان السلف الصالح يسمون المتكبرين: حمقى.
قيل لأحد الصالحين: من هو الأحمق؟ قال: "هو من لم يعرف ربه ولم يعرف نفسه".
مر ابن هبيرة -أحد أمراء بني أمية- بجيش عرمرم معه كتيبة خرساء مدججة بالسلاح على خيول متوجة، وعليه ديباج وحرير، أمير نسي نفسه ونسي الله! فقام له الناس جميعاً إلا الحسن البصري لم يقم وبقي جالساً، فنظر إليه شزراً وكبراً: لِمَ لمْ تقم يا حسن وقد قام لي الناس؟
قال: أردت أن أقوم فتذكرت أن فيك ثلاث خصال؛ فما قمت لك - الحسن البصري إمام التابعين، جهبذ علَّامة مُحدِّث زاهد، يُستسقى بدعائه الغمام- قال: أردت أن أقوم لك فتذكرت أن فيك ثلاث خصال؛ فما قمت.
قال: ما هي؟
قال: علمت أنك أتيت من نطفة قذرة -نطفة من ماء {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:7] وتعرف من أين مخرج الماء.
قال: وعلمت أنك تحمل في بطنك العذرة (الغائط).
والأمر الثالث: أنك تصير جيفة مذرة ترمى في التراب كما يرمى الكلاب؛ فما قمت لك، فنكس رأسه خجلاً أمام الناس وذهب وهذه معرفة الموحدين بقدر المتكبرين.
وورد أن المهدي الخليفة العباسي، دخل مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام فقام له الناس جميعاً إلا المحدث الكبير والخطيب الشهير ابن أبي ذئب فما قام له!
فقال الخليفة: يا ابن أبي ذئب! قام الناس جميعاً لي إلا أنت؟ قال: والله الذي لا إله إلا هو إني أردت أن أقوم لك فتذكرت قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فتركت قيام هذا اليوم لذاك اليوم.
قال: اجلس والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت.(314/16)
صيام القلب عن العجب
وذلك بألَّا تعجبه نفسه أو علمه أو ثقافته أو شهادته.
يا أيها الإخوة! هذه الشهادات مهما علت -والله- لا تساوي قيمة الأحذية إذا لم تكن متوجة بالإيمان، والله ليس لها وزن في الدنيا ولا في الآخرة، والله إنها لعنة على صاحبها إذا لم تدله على الإيمان، والمسجد والقرآن، والسجود وخشية الله
ألا بلغ الله الحمى من يريده وبلغ أكناف الحمى من يريدها
وكذلك المناصب ليست بشيء، أعظم منصب في الدنيا تولاه فرعون، قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] ويقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] مات كالضفدع في البحر، أصبح في اللحظات والسكرات الأخيرة يقول: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] أين منصبك؟ أين وظيفتك؟ أين جاهك؟ لا شيء، فلينتبه لهذا.(314/17)
صيام القلب عن الحسد والحقد
ومما يصوم عنه القلب: الحسد والحقد، فإن الحسد خصلة ذميمة، وهي من خصال بني إسرائيل أتى بها الشيطان، ولماذا نحسد يا عباد الله؟! والواجب أن نطهر قلوبنا؛ لأن المقصد من الصيام ليس أن تجوع، فالله ليس بحاجة إلى جوعك أو ضمئك؛ لكنك أنت بحاجة إلى أن تُصفِّي قلبك وترققه.(314/18)
صوم الجوارح(314/19)
صوم العيون
إن كثيراً من الناس -نسأل الله أن يتوب علينا وعليهم- قد تصوم بطونهم، وفروجهم، وتصوم أكبادهم من الماء، ولكن لا تصوم عيونهم، ينظرون إلى الحرام، وإلى عورات المسلمين، وإلى كل مفتونة وإلى كل منظر يغضب المولى تبارك وتعالى، وهذا ليس بصيام، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وورد في الأثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {النظر سهم مسموم من سهام إبليس} وجزاء من غض البصر أن يعوضه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه.
نظر أحد الرجال إلى امرأة فاتنة، فقال له أحد الصالحين، وقد أخبره أنه نظر إلى منظر حرام قال: أتنظر إلى الحرام؟ والله لتجدن غبها ولو بعد حين.
قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة، جزاء للمعصية وعقوبة على ما اقترفت يداه، ولذلك فإن أكثر ما نزاوله ونجده في الحياة من غم أو هم أو حزن أو مصائب أو رسوب أو فشل أو انهزام أو تقهقر أو فقر أو مرض هو بسبب ما فعلناه من الذنوب والخطايا، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] والله يعفو عن الأكثر، ولو يؤاخذنا بما نفعل لما ترك على ظهرها من دابة، فرحماك يا رب، وعفوك يا رب، ورضاك يا رب!!
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم أعتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبتُ في الرق فاعتقني من النار
قال بعض أهل العلم في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] قال: الذين يغضون أبصارهم يرزقهم الله فراسة إيمانية، ولذلك قالوا عن ابن تيمية: إنه كان ينظر بنور الله؛ لأنه غض بصره عن محارم الله، حتى ذكروا عنه أنه كان يعرف الزاني، والكاذب والمخادع من صورهم، حتى يقول الذهبي: كانت عينا ابن تيمية كلسانين ناطقين.
يكاد لسانه يتكلم، بقي عليه شيء حتى يكاد يتكلم، يقول:
وقاد ذهنٍ إذا سالت قريحته يكاد يخشى عليه من تلهبه
يكاد يحترق بالنور، تصور أن إنساناً لا يعرف إلا قيام الليل، والمسجد، والمصحف، وذكر الله، والتوجه إليه سبحانه، والدعاء، والجلوس مع الصالحين، وحب الله ورسوله كيف يكون في الحياة؟!
أما إنسان شذر مذر في كل واد؛ مع الأغنية، والمجلة الخليعة، والجلسة الآثمة، والكلمة الفاحشة، مع النظرة غير المسئولة، ماله رباً، وسيارته رباً، وفلَّته رباً، وسكنه رباً، وشرابه رباً!! كيف يصلح قلبه؟
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
يقول المتنبي: أنا المسئول! أنا الذي نظر، وأنا الذي أصيب، وأنا المقتول وأنا القاتل؛ فمن الذي يحمل الدية؟
يقول في قصيدة عشقية له -الله أكبر عليه من شاعر! لو سخر شعره في خدمة هذا الدين- شاعر العربية، لكنه لم يعرف التوجه، يريد إمرة، مطرود دائماً من سيف الدولة إلى كافور، ومن كافور إلى عضد الدولة يطلب الإمرة، فمات وما كسب إمرة، وما كسب رضا، وذهب إلى الله، يقول في قصيدته:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
والذي يعمل لغير الله يجد مثل هذه الجزاءات، ضرب رأسه وقتل في الصحراء.
دخل أحد الشعراء على سلطان من سلاطين الدنيا، سلطان لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فقال للسلطان:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
هل نظرتم إلى الكلام؟ هل نظرتم إلى الكفر والزندقة والخيبة وقلة الحياء؟
فابتلاه الله بمرض عضال، ما استطاع الأطباء أن يعالجوه؛ ليعلمه الله من هو الواحد القهار، ومن هو الذي بيده مفاتيح ومقاليد السماوات والأرض، ومفاتيح وخزائن كل شيء، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] فأخذ يتقلب كالكلب على الفراش ويبكي، ويقول:
أبعين مفتقر إليك نظرت لي فأهنتني ورميتني من حالق
لستَ الملومَ أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
أنا الذي مدحك ونسي الله، أنا الذي أنزلك في منزلة الله، أنا الذي أشرك بالله في وحدانيته وألوهيته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
إذاً يا أيها الإخوة! هذا صيام العيون، فالله الله! فلتصم عيوننا عن الحرام والخنا، وعن النظر إلى ما يغضب المولى تبارك وتعالى.(314/20)
صوم الألسن
السم الزعاف هو هذا اللسان، القتل كل القتل في هذا اللسان، يقول سفيان بن عبد الله كما في الصحيح: {يا رسول الله! ما تخشى علي؟ قال: كف عليك هذا وأخذ بلسان نفسه صلى الله عليه وسلم} يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: {ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قال: بلى يا رسول الله.
قال: كف عليك هذا وأخذ بلسان نفسه.
قال: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على أنوفهم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟} والحديث صحيح.
سبحان الله! ما أعدى اللسان، سبحان الله! ما أشد ضرر اللسان! لا إله إلا الله كم صرع اللسان من عظيم!
احذر لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من صريع لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان
هذا اللسان عجيب! ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] إذا كنت تمزح أو تتكلم، أو تذكر الله، أو تأتي بفحش أو بباطل، أو لعن، أو هراء، أو غيبة، أو نميمة، أو جور، أو كلام باطل فالملائكة تسجل عليك كل ذلك قال تعالى: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
وفي الأثر: {من صمت نجا} قال ابن مسعود: [[والله ما في الدنيا أحق بطول حبس من لسان]] أبو بكر الصديق، الصالح الزاهد، أبو بكر هو الإسلام، أبهة التوحيد، أبو بكر العظيم إذا ذكر العظماء، ليس الأخسة قَتَلَة الشعوب، وشربة دماء الإنسان مثل: نابليون وهتلر واستالين ولينين وماركس وأذنابهم لا، بل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
يأخذ أبو بكر بلسان نفسه وهو يبكي ويقول: [[هذا الذي أوردني الموارد]] ويقف ابن عباس على جبل الصفا وهو يبكي ويقول: [[يا لسان! قل: خيراً تغنم أو اسكت عن شر تسلم]].
هل قيدنا ألسنتنا؟ هل حاسبنا أنفسنا حين نتكلم في الأعراض وفي حرمات المسلمين، وفي لحوم عباد الله الموحدين؟ الكذب، الغيبة، الفحش، اللعن، البذاءة، قلة الحياء كلها من اللسان، حتى يقول الإمام الغزالي في الإحياء: "تسعة أعشار الذنوب من اللسان" العشر الواحد يوزعه على الأعضاء، أما تسعة أعشار الذنوب فمن اللسان، فهل آن للسان أن تصوم غداً أو بعد غد؟ تبدأ مرحلة من التربية بأن تلقنها درساً لا تنساه في الصيام.
وأنا لا أستطرد كثيراً في هذه المسائل حيث لا يوجد مجال لسردها هنا، وإلا فبحوث اللسان تحتاج إلى محاضرة: الغيبة، النميمة، اللعن والشتم، الإسراف في المزح، الكذب، الهراء، الهمز واللمز، الاستهزاء، السخرية كل ذلك ذنوب وخطايا.
مخازٍ لو جمعن على غوانٍ لما أمهرن إلا بالطلاق(314/21)
أذن تأبى الخنا والزور
وأما كيف تصوم الأذن؟ أو ما هي الأذن التي تريد الصيام؟
هي أذن العبد الصالح، سبحان من ركب فينا الجوارح ثم يحاسبنا عليها! سبحان من جعل التقوى حفظاً له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى! سبحان من يعلم ما يصلح هذا العبد! وهذا الكتاب والقرآن الذي نزل ليصلح هذا العبد، فهو لم ينزل طباً ولا هندسة ولا فلكاً ولا تاريخاً ولا جغرافيا، نزل ليوجه هذا العبد في هذه المعمورة وهذه البشرية إلى الله.
أبو الأعلى المودودي عليه رحمة الله، ذاك الذكي اللماع، العالم الباكستاني الذي يعتبر من صفوة المجددين في الفكر، له كتاب عنوانه " كيف تقرأ القرآن "؟ يذكر في غضونه يقول: نزل القرآن كتاب هداية من السماء.
لم ينزل تاريخاً ولا نزل جغرافيا ولا طباً ولا هندسة ولا فلكاً، وقد وافقه سيد قطب في الظلال على ذلك.
فيا إخواني في الله! إن من حق هذه الأعضاء أن تُحبسَ وأن تُحفظَ ليحفظنا الله عز وجل.
ومما عرف من ذنوب الأذن السماع للباطل، السماع الشيطاني وابن تيمية في كتاب الاستقامة يقسم الاستماع إلى قسمين: سماع رحماني شرعي ديني، وسماع شيطاني طاغوتي إلحادي (أو كما قال) أو كفري أو فسقي أو فجوري على ذاك التفسير.
فأما سماع أهل الإيمان فهو القرآن.
كان عمر رضي الله عنه وأرضاه إذا أحس من نفسه قسوة جمع الصحابة، وقال: يا أبا موسى! اقرأ علينا، وكان يختار أبا موسى؛ لأن أبا موسى رضي الله عنه كان أندى الصحابة صوتاً، فصوته شجي، ونغمته ندية، فكان فيقرأ والصحابة ينكسون رءوسهم ويستمعون إلى القرآن، فتدمع عيونهم ويبكون؛ لا إله إلا الله! كيف عرف الصحابة القرآن؟ كيف عرف ذلك الجيل القرآن وكيف عاشوا مع القرآن؟ لأن القرآن تنزل في حياتهم، يفعل الواحد منهم حادثة فيأتي القرآن يفتيه فيها، يسأل سؤالاً فيأتي القرآن بجواب السؤال، يحضرون المعركة مثل بدر وأحد والأحزاب وحنين فينزل القرآن يخبرهم عن المعركة؛ فلذلك عاشوا حياة القرآن، ومن يقرأ في ظلال القرآن يجد عجباً عجاباً من سبك السيرة في مسار توحيد منهجي خالص.
فيا إخوتي في الله! السماع الرحماني: سماع القرآن، والسماع الشيطاني: سماع الغناء، وأنا أعجب -والله- من كثير من الشباب في جزيرة العرب، جزيرة محمد صلى الله عليه وسلم، جزيرة أبي بكر وخالد بن الوليد سيوف الإسلام، وأسود المعمورة، وحكماء الدنيا، ويأتي مئات الشباب لا همَّ لهم إلا الأغنية الماجنة، كلما خرج من زيف هؤلاء المنتنين الراقصين المغنين الذين عطلوا مسيرة الأمة حتى في الجهاد والتضحيات، والبذل والعطاء.
هل ينقصنا الغناء؟ أينقصنا خيبة؟ أينقصنا رقص وتطبيل؟
انظروا إلى المذكرات التي يصدرها موشي ديان يقول: جيش إسرائيل لا يعرف الموسيقى ولا المرفهات.
فما لنا نحن حياتنا كلها موسيقى وعزف وناي وأغنيات، ومقابلات مع المغنيين والمغنيات النجوم اللامعة؟!! وهي نجوم مظلمة ما عرفت النور ولا عرفت الحياة، فالحياة مع أهل القرآن، مع أهل الإيمان، الحياة مع أهل الدين الذين يريدون الواحد الديان.
فيا إخوتي في الله! لقد آن لنا أن ننهى أنفسنا عن ذلك؛ لأنه كما يقول ابن القيم: إنه بريد الزنا.
وقال أهل العلم: ما استمع إليه إنسان وداوم عليه إلا أحب الفاحشة.
كيف يرضى الإنسان أن تكون أذنه وبيته وسيارته دائماً أغاني وأغاني؟! عشق وهيام، وليته كلام سديد، ولكن -والله- ما هو إلا كلام قذر، تعرُّض للعصم وللذمم، وتعرُّض لحرمات المسلمين في البيوت، وانتهاك للمروءة وللشرف، يأنف بعض الكفار أن يستمع إليه.
يقول عنترة بن شداد الجاهلي الوثني:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
لكن هنا أصبح الشباب ينظر إلى فتاة أجنبية ليس بينه وبينهما عقد قران، ولا كلمة الله الشرعية، ولا تم صلح الزواج، ويتوله بها، ويجعلها ليله ونهاره، وإلهه الذي يعبده ويحبه، ويسجد لها ويقول:
يا من هواه أعزه وأذلني كيف السبيل إلى وصالك دلني؟!
الوصول على يسارك إلى جهنم!!
يقول ابن القيم: دخل ثعلبان في بيت من نافذة صغيرة وهما جائعان -والثعلب كنيته أبو معاوية- دخل وهو جائع، فوجد هو ورفيقه دجاجاً، فسمى وأكل على الطريقة الإسلامية، حتى أصبحت بطنه أكبر من حجمه، وأكل رفيقه ثم أرادا أن يخرجا فما استطاعا، فقال لصاحبه وهو يحاوره: أين نلتقي إذا خرجنا من هذا المكان؟ قال: أموات في المزبلة.
يقول: إن صاحب الدجاج سيكسر رءوسنا بعد قليل.
فيقول ابن القيم كما في مدارج السالكين: إن الذي يضيع حياته في مثل هذا الغناء والهراء سوف يلقى جزاءه عند الله، ونحن لا نقول من عاطفة كما يقول بعض الناس: هؤلاء لا يعرفون إلا كلمة تحريم! وإلا فالعلماء والمثقفون والمفكرون بعضهم يحلل الغناء لا والله، والله ما استندوا إلى دليل لا عقلي ولا نقلي، بل جزم ابن تيمية وابن القيم وعلماء الإسلام كـ الشافعي وأحمد ومالك وأبي حنيفة أنه محرم ولا يفعله إلا السفلة.
قيل للإمام مالك: هؤلاء المطبلون كيف يكونون عندكم؟
قال: عندنا سفلة الناس في المدينة يفعلون ذلك
نصب المنصب أوهى جلدي وعنائي من مداراة السفل
اعتزل ذكر الأغاني والغزل وقل الفصل وجانب من هزل
ودع الذكرى لأيام الصبا فلأيام الصبا نجم أفل
اهجر الغادة إن كنت فتىً كيف يسعى في جنون من عقل
اتق الله الذي عز وجل
واستمع قولاً به ضرب المثل
اعتزل ذكر الأغاني والغزل
وقل الفصل وجانب من هزل
كم أطعت النفس إذ أغويتها
وعلى فعل الخنا ربيتها
كم ليال لاهياً أنهيتها
إن أهنا عيشة قضيتها
ذهبت لذاتها والإثم حل
واتق الله فتقوى الله ما جاورت قلب امرئ إلا وصل
قال هذا ابن الوردي -بيض الله وجهه- في قصائد أهل الإيمان، قصائد أهل التوجه وأهل الأصالة.(314/22)
يد تمد بالإحسان
ومما أوصي به في الصيام الذي يُعرف عند أهل التوحيد والإيمان: صيام اليد، وهو: أن تمد بالإحسان إلى الناس وتكف عن الباطل.
كم من فقير؟ كم من محتاج؟ ولكن الشبعى لا يدرون أن هناك جوعى، والشبعان يظن أن الناس شبعوا كلهم، والريان يظن أن الناس رووا من الماء وهم -والله- يظمئون ويجوعون ولا يعلم بحالهم إلا الله.
فيا أخي في الله! اعتق نفسك من النار بصدقة في رمضان، وحبذا أن يكون لك في كل يوم صدقة ولو شيئاً يسيراً من المال، أو من الطعام، تفطر صائماً، تروي عطشاناً، وتمد يدك ولو بجرعة لبن أو بجرعة ماء.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل رجل في ظل صدقته يوم القيامة حتى يقضى بين الناس} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما أصبح صباح إلا وملكان يناديان يقول الأول: اللهم أعط منفقاً خلفا، ويقول الثاني: اللهم أعط ممسكاً تلفاً}.
يا عباد الله! الصدقة الصدقة، يا إخوتي في الله! البذل البذل، فكم نعرف أناساً ممن لا يظهرون أنفسهم كما قال الله عنهم: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273] ترى ظاهره كأنه غني، وفي بيته ما لا يعلمه إلا الله، أسر طويلة كثيرة غزيرة لا تجد كسرة الخبز في الليل، يتقدمون بمعروضات ورسائل وخطابات تبكي عين اللبيب والحليم والرحيم، فهل من معطٍ؟ وهل من منفق في رمضان علَّ الله أن يتولانا وإياكم برحمته وبواسع بره؟؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {الناس عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله} ولعلك تعتق نفسك بدرهم تتصدق به ينفعك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.(314/23)
الرِّجل! ما لها وما عليها!
وأما الذي أوصي به: فهو الذهاب والإياب في رمضان وفي غير رمضان، لكن في رمضان على الخصوص، نعرف كثيراً من شبابنا -وأنا أركز على الشباب؛ لأن الشباب شعبة من الجنون- يمر بمرحلة خطيرة، مرحلة مدلهمة، مرحلة مظلمة، فلذلك يا أيها الإخوة! وجد كثيرٍ من الناس من يذهب ويأتي على غير طائل، بعضهم كأنه يشبر المدينة ويطوف حول المدينة سبع مرات يقول:
حجي إلى الباب القديم وكعبة الـ ـباب الجديد وبالمصلى الموقف
والله لو عرف الحجيج مقامنا في زندرود عشية ما طوفوا
أو شاهدوا جسر الحسين وشعبه ما وقَّفوا لها أو وقَّفوا
أحد الناس قيل له: حج، قال: لا أنا أحج في زندرود مدينة في شمال إيران - قال: كيف تحج؟
قال: أطوف هناك بمحبوبي، هذا حج غلاة الصوفية المتهالكين، ولذلك وجد من الشباب من يذهب ويأتي على الإشارات بسيارته، دوران وذهاب في غير طائل، أليس لو جلس في مسجد فتدبر آيات الله لكان أحسن له؟
أليس لو جلس مع أهله وأفادهم ونفعهم كان أولى له؟ أو أخذ كتاباً إسلامياً فاستفاد كان أحسن وأحسن، أو زار ثلة من الصالحين أو دعاة أو علماء فاستفاد منهم أما كان أحسن؟
لا إله إلا الله كم ضاعت أوقاتنا! وكم ضيعنا من دقائقنا وثوانينا وساعاتنا
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوانِ
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثانِ
إذا مرت الدقيقة فوالله لا تعود إليك، أبداً فاغتنمها فهي خيوط عمرك.
قال الغزالي: "العمر كالثوب إذا ذهبت لحظة ذهب خيط، فتذهب الخيوط حتى تبقى بلا ثوب" قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94] فالوقت الوقت يا شباب الإسلام! انظر إلى الخواجات! انظر إلى كتاب دع القلق وابدأ الحياة للأمريكي دايل كارنيجي ماذا يقول فيه؟ شيء عجيب!
يذكر عن الأمريكان في حفظ الوقت وفي القراءة والاطلاع حتى -والله- لقد رأيناهم ورآهم كثير من الإخوة الذين ذهبوا إلى بلادهم وهو في القطار، أو السيارة، أو منتظر في الصالة، أو في الطائرة تراه يقرأ كتاباً ولا ينظر إلى الناس! أما العرب فتجدهم هكذا وهكذا!! يأخذون السيارات من طرف الشارع ويصلون بأعينهم إلى الطرف الآخر، حتى يأتي في المنام وتكاد رقبته تنفصل من كثرة ما نظر، يأخذ السيارة من هنا ويوصلها، ثم الثانية والثالثة إشارات وإشارات؛ ولذلك مثل ما يقول عدو الله موشي ديان: "لا يقرءون، وإذا قرءوا لا يفهمون".
لكننا نكذبه، نعم! هم لا يقرءون، فيهم النادر الذي يقرأ لكن إذا قرءوا فهموا، أمة أمية هذا ليس مدحاً لكن هذا هو الواقع.
فيا إخوتي في الله!! أما آن لنا أن نحفظ الأوقات؟ وحفظ الوقت له كلام طويل، وهناك بعض الكتيبات والأشرطة عن حفظ الوقت.(314/24)
صيام الأعضاء الجوفية(314/25)
البطون الجائعة في مرضاة المولى
أما البطون الجائعة في مرضاة المولى؛ فهي التي حرمت الحرام من الدخل الحرام من ربا ونحوه لا يحل لها، جاعت لمرضاة المولى، ذاقت الجوع، ولكنه طيب في سبيل الله.
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
عدنا إلى أبي الطيب المتنبي! دخل على سيف الدولة بن حمدان فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
إلى أن يقول:
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فغضب أبو فراس الحمداني ابن عم سيف الدولة فرمى المتنبي بدواة الحبر وذلك ينشد متحمساً فوقعت في جبينه، فإذا الدم ينزل فضحك سيف الدولة؛ فغضب المتنبي ولسان حاله يقول: كيف تضحك علي؟ لكن انظر إلى الاستدراك قال:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
إن كان يسرك أنه ضربني وأدمى وجهي فهذا ليس له ألم عندي، وهذا من أحسن الكلام! يأخذه الصالحون في قولهم: يا رب! إن كان يسرك الجوع أو يرضيك فلا أجد ألماً للجوع، ولا للظمأ، ولا للسهر، وينبغي دائماً وأبداً أن نتذكر هذه المبادئ، ما دام أن الله يريد أن تجوع في سبيله فجع واظمأ فإنه الأجر والمثوبة.(314/26)
أكباد ظمئت لتشرب من الكوثر
كل الناس يوم القيامة ظمئ إلا من أرواه الله ببرد اليقين، ومن دخل قلبه الإيمان، ونأتي يوم القيامة كالغمام في يوم الزحام، وأمامنا ذاك الإمام العظيم يا له من إمام! محمد عليه الصلاة والسلام، فيشتد الكرب من النفوس، وتدنو الشمس من الرءوس، فلا إله إلا الله كم من محسور! ولا إله إلا الله كم من مثبور! ولا إله إلا الله كم من نادم! ويرد الناس الحوض كالغمام فتردهم الملائكة سبعون ألف ملك، مع كل ملك مرزبة من حديد يذودونهم عن الحوض إلا أهل السنة، فيقول عليه الصلاة والسلام: {يا رب أمتي أمتي، فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؛ إنهم غيروا وبدلوا فيقول: سحقاً سحقاً} أي: هلاكاً هلاكاً، من أراد أن يشرب فليتبع سنة محمد صلى الله عليه وسلم، من أراد أن يشرب من ذاك الحوض المورود الذي من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً -نسأل الله أن يسقينا من ذاك الحوض، وأن يجعلنا ممن يبرد صدره بشربة هنيئة من ذاك الحوض، وأن يجعلنا ممن يبل صدى شفتيه بشربة من كف المصطفى عليه الصلاة والسلام- فمن أراد أن يشرب فليظمأ في ذات الله، وليحتسب الأجر على الله؛ فإنه سيشرب لا محالة إذا صدق في المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام.(314/27)
الصائمون في جلسة السحر مع رب العزة والجلال
مما تعوده كثير من الناس أن يجعل السحر رياضة أو كرة، وأنا في نادٍ، القائمون عليه مسلمون مصلون صائمون، يريدون الخير -إن شاء الله- لهذه الأمة، لكن قلت في مناسبات وقال غيري من الدعاة في نادي الهلال وفي غيره: إن الرياضة نعتقدها اعتقاداً جازماً أنها وسيلة وليست بغاية هذا أمر، والرياضة إذا أصبحت عبادة فهي محرمة، والرياضة والكرة إذا صار فيها تحزبات فريق على فريق، وناد على ناد، وأصبح يشهر البغض والعداء والكلام البذيء والسب والشتم واللعن أصبحت محرمة.
والرياضة والكرة إذا تركت من أجلها الصلاة أصبحت محرمة.
والرياضة إذا تخلف أحد عن الصلاة بسببها أصبحت محرمة.
والرياضة إذا كان اللباس الذي يتزاول بها قصيراً شفافاً يبدي العورة فهي محرمة.
إذاً الرياضة حلال بشروط:
1 - ألا يكون فيها تحزبات؟
2 - ولا ترك ولا تأخير للصلوات.
3 - ولا إبداء للعورات، ولا سب وشتم بين المسلمين والمسلمات.
حينها يكون لا بأس بوقتٍ للترويح والتنشيط وتدريب الجسد، وأما في السحر يوم ينزل الله في الثلث الأخير إلى السماء الدنيا في رمضان وفي غير رمضان فلا يكون، فإنه وقت استغفار، لا بأس أن تلعب ساعة أو ما يزيد عليها لكن عد إلى البيت لتتوضأ وتصلي ركعتين وتتناول المصحف، فحياة الكرة دائماً ليس بصحيح! حتى القائمون عليها لا يريدون هذه الحياة، أظنهم وهم عقلاء لا يريدون الأمة أن تبقى دائماً همها الكرة صباح مساء، مثل بعض الناس يوم أن سمع أن النشيد الإسلامي بلا ناي ولا طبل ولا دف ولا موسيقى مباح، فأكثر منه، والنشيد كالملح في الطعام، فإذا أتيت إلى الطعام وجعلته مالحاً، وأتيت بالدقيق وجعلته مالحاً خربت الوصفة ولا تصلح، ينشد في الباص وفوق الباص وتحت الباص! ينشد قبل الظهر وبعد الظهر، وفي العصر وفي السحر وقبل السحر، وقبل النوم وبعد النوم وفي النوم!! بعض الشباب عنده خمسون شريط نشيد وعنده شريط واحد قرآن! يحفظ كل موضة من الأناشيد، النشيد لا بأس به لكن بشروط ليس هذا مجال لبسطها.
إذاً جلسة السحر تكون في الاستغفار، قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] وقال سبحانه: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17] ما أحسن السحر! لماذا خصص السحر؟ لأن الناس كلهم موجودون في الظهر والعصر، لكن الخواص لا يقومون إلا في ذلك الوقت، وهم معدودون على الأصابع، أخيار الناس يقومون نصف ساعة أو ثلث ساعة يجلسون فيها مع الله عز وجل، يبدون له همومهم وغمومهم وأحزانهم.(314/28)
دقائق الإفطار روعة وجلال
في دقائق الإفطار روعة وجلال وصدق وصفاء، ومما يطلب من المسلم في رمضان أن يتهيأ للإفطار بدعاء، وللصائم دعوة لا ترد، ولا يصح أن يأتي الإنسان من عمله أو يقوم من نومه مباشرة ليأكل تمراً أو ليفطر على ماء دون أن يتهيأ تهيأً نفسياً لهذة الساعة.
فيا أيها الإخوة! مما يطلب منا في دقائق الإفطار: وكثرة الدعاء؛ لأن للصائم دعوة لا ترد، وحبذا أن الإخوة الذين هم في مجموعة أو بيت أن يجتمعوا قبل الإفطار بربع ساعة، أو بعشر دقائق فيذكرون الله ويستغفرون ويدعون، أو يقرءون شيئاً من القرآن، فهي ساعة لا يمكن أن تتكرر فساعة بعد الإفطار لا تكون كساعة قبل الإفطار، قبل الإفطار وأنت صائم عابد جائع ظامئ في سبيل الله، وبعد الإفطار سوف تشبع أو تذهب، فعليك أن تغتنم هذه الدقائق.(314/29)
التراويح والتوبة(314/30)
صلاة التراويح حشد هائل من المؤمنين
أوصي إخواني -وأكرر الوصية- بحضور صلاة التراويح، واصطحاب أهاليهم، حتى النساء يجوز لهن حضور صلاة التراويح، وكثير من المساجد تحفل بالمصلين والمصليات، من المؤمنين والمؤمنات، فأنا أوصي إخواني بحضور صلاة التراويح والصبر؛ فإن الله يتجلى للعباد، لعله أن يجعلك من العتقاء في ليلة من الليالي، فلا تحرم نفسك هذا الفضل، نصف ساعة أو ما يقاربها فقط، ألا تصبر نصف ساعة؟! لقد وجد من الناس من يصبر في العرضات الشعبية ثلاث ساعات أو أربع ساعات، بل بعض القبائل يعرضون من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، وتجده لا يكل ولا يمل، لكن إذا طول الإمام وزاد ثلاث آيات قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" "إن منكم منفرين" وأتى بهذه الأحاديث، فنحن نقول للأئمة: لا تطيلوا ولا تشقوا على الناس، ونقول للمسلمين: صابروا نصف ساعة في جلسة وفي عبادة وفي سجود لله؛ فأوصيكم ونفسي بصلاة التراويح، لا تفوتكم صلاة التراويح، وخذوا إخوانكم وزملاءكم وجيرانكم وحثوا المسلمين فإنكم دعاة حق وخير وسلام.(314/31)
التوبة
أما المسألة الأخيرة: رمضان مدرسة روحية تربوية، ثلاثون أو تسعة وعشرون يوماً نستقبله ضيفاً حبيباً، إن لم تتب فيه فمتى تتوب؟ وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من أدركه رمضان ولم يغفر له} والله إنها خيبة عظيمة وخسارة هائلة إذا دخل رمضان وخرج ثم لم يغفر لك في رمضان
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيباً زارنا في كل عام
قد لقيناك بحب مفعم كل حب في سوى المولى حرام
فاغفر اللهم ربي ذنبنا ثم زدنا من عطاياك الجسام
لا تعاقبنا فقد عاقبنا قلق أسهرنا جنح الظلام
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(314/32)
الأسئلة(314/33)
وصايا لشباب النوادي
السؤال
ما هي نصيحتكم للشباب المنتمين إلى هذا النادي؟
الجواب
أولاً: أسأل الله أن يبارك في هذا النادي والقائمين عليه، وعندي نصائح وهدايا من أخ محب لإخوانه في الله، أحببناكم في الله
آخيتمونا على حب الإله وما كان الحطام شريكاً في تآخينا
أولاً: أوصيهم بتقوى الله.
ثانياً: معرفة الغايات وتمييزها عن الوسائل، فغايتنا الإسلام، وهدفنا رفع هذا الدين، ومقصدنا في الحياة هو: نصرة لا إله إلا الله محمد رسول الله، والوسائل الترفيهية لا بأس بها إذا لم تكن محرمة، إذاً فلابد من التمييز بين الغايات والوسائل.
ثالثاً: بالمحافظة على الصلوات الخمس وعدم تأخيرها لأي مباراة أو لعبة أو تمرين أو مشاركة، الصلاة في أول وقتها رضوان من الله، لا يقبل الله الصلاة في غير وقتها، إذا خرج الوقت فقد لغا العبد وسها ولا يقبل الله صلاته، حتى قال بعض أهل العلم: من تعمد إخراج الصلاة عن وقتها فإن صلاته لا تقبل وهو في تلك الفترة كافر.
نعوذ بالله! فهذه هدية أتت متأخرة فكيف تقبل.
رابعاً: ثم أوصيهم باللباس الإسلامي الساتر، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ جرهد بن رزاح: {الفخذ عورة} والعورة من السرة إلى الركبة، ومن أراد كرة أو تمريناً أو مصارعة فله ذلك، ولكن عليه أن يستتر بستر الله، من السرة إلى الركبة.
خامساً: أوصيهم بألا يجعلوا الأندية تحزبات ولا عداءً مريراً في الأمة والشعوب فيحملون هذا النادي على هذا.
ويذوب بعضهم في حب بعض النوادي حتى يلبس لباس ذاك النادي وشعاره وسيارته، ويسبح بحمده ويصلي له، وقد يستيقظ على حبه وينام على حبه! وهذا ليس بصحيح، هذا ولاء ممقوت ومنبوذ، التوحيد لله، العبودية لله، الحب لله، أما الميل النسبي فهذا أمر آخر.
هذا ما يحضرني من الوصايا، وكذلك أن أزف إلى إخواني دعاء عسى أن يصلحهم الله عز وجل، فأسأله بأسمائه أن يصلح منا الظواهر والبواطن، والنوادي والمساجد، والأندية والمجامع، والأسواق والمحافل، والقلوب والبيوت إنه على كل شيء قدير.(314/34)
قصيدة أمريكا التي رأيت ونشرة الأخبار
السؤال
فضيلة الشيخ! نأمل منك أن تتحف الشباب بقصيدتك التي ألقيتها في أمريكا (الجدية والهزلية) ولك جزيل المثوبة؟
الجواب
هذا مما يناسب الأشعار والأسمار في مثل هذا النادي، فإن عند المسلمين من السمر المباح ومن الكلام اللطيف ما الله به عليم، وما دام أن هذه القصيدة قد طلبت وتكررت، والمكرر قد يكون ثقيلاً على النفوس ولكن
كرر العلم يا كريم المحيا وتدبره فالمكرر أحلى
وهذا ليس بعلم بل هو شعر فنقول:
كرر الشعر يا كريم المحيا وتدبره فالمكرر أحلى
قصيدة جدية اسمها: (أمريكا التي رأيت) أذكر منها بعض الأبيات التي تخاطب الأمة الإسلامية، تخاطبكم أنتم يا فروع الإسلام ويا أصول الدين:
يا أمة ضرب الزمان بها جموح المستحيل
وتوقف التاريخ في خطواتها قبل الرحيل
سكبت لحون المجد في أذن المجرة والأصيل
وسقت شفاه الوالهين سلافة من سلسبيل
يا أمة ضرب الزمان بها جموح الكبرياء
رأس الدعي على التراب ورأس عزمك في السماء
لو كان مهرك يا مليحة من براكين الدماء
لهفا إليك اللامعون وفر منك الأدعياء
يا أمة كم علقوا بكيانها خيط الخيال
وهي البريئة خدرها فيض عميم من جلال
شاهت وجوه الحاقدين بكف خسف من رمال
موتاً أتاتورك الدعي كموت تيتو أو جمال
يا أمة في عمرها لم تحي إلا بالجهاد
كفرت بمجلس أمن من نصب المنايا للعباد
القاتلي الإنسان خابوا ما لهم إلا الرماد
جثث البرايا منهم في كل رابية وواد
ما زرت أمريكا فليـ ست في الورى أهل المزار
بل جئت أنظر كيف ند خل بالكتائب والشعار
لنحرر الإنسان من رق المذلة والصغار
وقرارنا فتح مجيد نحن أصحاب القرار
ورأيت أمريكا التي نسجوا لها أغلى وسام
قد زادني مرأى الضلا ل هوىً إلى البيت الحرام
وتطاولت تلك السنون فصار يومي مثل عام
ما أرضهم أرض رأيت ولا غمامهم غمام
أما القصيدة الهزلية فهي على بحر الرجز، وبحر الرجز حمار الشعراء! وعنوانها: (نشرة الأخبار في السفر إلى أمريكا):
يقول عائض هو القرني أحمد ربي وهو لي ولي
مصلياً على رسول الله مذكراً بالله كل لاهي
قد جئت من أبها صباحاً باكراً مشاركاً لحفلكم وشاكراً
وحملتنا في السما طيارة تطفح تارة وتهوي تارة
قائدها أظنه أمريكي تراه في هيئته كالديك
يا سائل الأخبار عن أمريكا اسمع رعاك الله من يفتيكا
وهذه أخبار هذي النشرة مسافة السير ثلاث عشرة
من الرياض عفشنا ربطنا وفي نيويورك ضحىً هبطنا
أنزلنا في سرعة وحطنا وقد قصدنا بعدها واشنطنا
ثم ركبنا بعدها سيارة مستقبلين جهة السفارة
منزلنا في القصر أعني ريديسون يا كم لقينا من قبيح وحسن
في بلد أفكاره منكوسة تثقله بصائر مطموسة
يقدسون الكلب والخنزيرا ويبصرون غيرهم حقيرا
ما عرفوا الله بطرف ساعة وما أعدوا لقيام الساعة
فهم قطيع كشويهة الغنم جد وهزل وضياع ونغم
من دمر العمال في بولندا ومن أتى بالرق في يوغندا
من دمر البيوت في نزاكي من ضرب اليونان بالأتراكِ
من الذي ناصر إسرائيلا حتى تصب عنفها الوبيلا
استيقظوا بالجد يوم نمنا وبلغوا الفضاء يوم قمنا
منهم أخذنا العود والسيجارة وما عرفنا نصنع السيارة
إلى آخر هذه القصيدة.(314/35)
الاشتراك في النوادي بقصد الدعوة
السؤال
كثير من الشباب جعل الكرة والاشتراك في الأندية وسيلة للدعوة إلى الله، فما رأيك في ذلك؟ وهل سلك النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه الطريقة أو قريباً منها؟
الجواب
إذا رأى العبد المسلم أن المصالح أكثر من المفاسد في مشاركتة في أمر ما فله ذلك، وإذا رأى أن من الصلاح للدعوة الإسلامية أن يشارك في النوادي، وأن يدخل مثل هذه النوادي بشرط ألا يكون فيها محرمات تغضب الله فله ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم دعا في الحرم، وفي الحرم ثلاثمائة وستون صنماً، كان ينظر إليها ورآها ولم يكسرها، كان يقول لكفار قريش: {قولوا: لا إله إلا الله} قالوا: أما هذا فلا؛ (لأن لا إله إلا الله) تغير العالم، كان يرى الخمر يراق في الحرم، كان يسمع أن هناك زنا، لكنه كان يقول: {قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله}
ودخل صلى الله عليه وسلم الأسواق كـ عكاظ ومجنة وذي المجاز وخطب فيها ودعا إلى الله، فإذا رأى الشاب المسلم ووثق بدينه ووثق بأصالته ومبادئه وأنه سيؤثر على زملائه عن طريق النوادي فله ذلك وهو مأجور، وإذا خاف على دينه أو رأى محرمات فهو بالخيار، وهناك قاعدة يقولون فيها: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) والله يتولى والناس أعرف بأنفسهم، وكل ميسر لما خلق له.(314/36)
مسألة ترك الصلاة في غير رمضان
السؤال
بعض الناس -هداهم الله- يصلون في رمضان وإذا انتهى رمضان تركوا الصلاة، ما حكم هؤلاء وهل يقبل صيامهم؟
الجواب
أولاً: اعلموا أن من ترك الصلاة فقد كفر، يقول عليه الصلاة والسلام: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} ويقول: {بين المسلم والكافر ترك الصلاة} وتارك الصلاة كافر لا ينازع في ذلك بحال.
ثانياً: أن بعض الناس وجد وسمع حديث: {رمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة، والعمرة إلى العمرة، كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر} هذا الحديث صحيح لكن في الصغائر أما الكبائر فلا، وبعضهم يترك الصلاة ثم يظن أن رمضان يكفر ذلك لا والله، الكفر لا يكفره شيء، الكبائر لابد لها من التوبة، ثم اعلموا أن رب رمضان هو رب الأشهر الباقية كشوال وشعبان، فاتقوا الله وليتق من يبلغه هذا ربه في أن يكون مؤمناً في رمضان، وفي غير رمضان، فإن الله يراه حين يقوم، وتقلبه في الساجدين.(314/37)
كيف يذكر الله في رمضان من لا يعرف القراءة
السؤال
كيف يعمل الرجل الذي لم يتعلم القراءة تجاه القرآن وخاصة في رمضان؟ وهل وردت أذكار مخصصة في رمضان وإذا كان هذا فاذكرها لنا؟
الجواب
الرجل الأمي الذي لا يقرأ شيئاً من القرآن.
أولاً: عليه وجوباً أن يتعلم الفاتحة، ثم يقوم بما تقوم به صلاته؛ فإذا وصل إلى هذا الحد وهو لا يستطيع القراءة في المصحف، ويحفظ سوراً فليكرر ما معه من قرآن، ولو كرر الفاتحة فكم فيها من أجر، وكم فيها من عبر، وكم فيها من عظات! ثم يسبح ويهلل ويحمد الله، ويصلي ويسلم على رسول الله، ويكثر من الاستغفار، فهذا مشروع عظيم، ومسلك كبير في باب رفع الدرجات والحسنات عند الله الواحد الأحد.
أما الأذكار في رمضان فمنها: عند الإفطار عليه أن يدعو؛ فإن للصائم دعوة لا ترد، وورد في حديث لكن في سنده ضعف ونظر عند بعض الأئمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر قال: {ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله} وورد في حديث أنه كان يقول: {اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت فتقبل مني إنك أنت السميع العليم} وقد تكلم في هذا الحديث، ولكن على كل حال: له شواهد، وعلى العبد أن يدعو بما تيسر علَّ الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
وفي الختام! أشكركم شكراً جزيلاً، وأشكر القائمين على هذا النادي، شكر الله لهم جهودهم، وأعاننا الله وإياهم، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.(314/38)
العقيدة كما فهمها الصحابة
إن الاختلافات التي وجدت في عصرنا حول العقيدة بأنواعها من أسماء وصفات وغيرها من العقائد, لم تكن موجودة في عهد الصحابة رضي الله عنهم, وذلك لأن عقيدتهم صافية على الفطرة لم تدخلها فلسفة ولا كلام, وكانوا يفهمون كلام الله ورسوله بلغتهم العربية, لا يحرفونه ولا يكيفونه ولا يعطلونه.(315/1)
الصحابة هم أعلم الناس
الحمد لله رب العالمين، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة, وأدى الأمانة, ونصح الأمة, وجاهد في الله حتى أتاه اليقين, فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عنوان المحاضرة: (العقيدة كما فهمها الصحابة).
الصحابة بالذات؛ لأنهم أطهر الناس سيرةً, وأعمقهم علماً, وأخلصهم الناس قلوباً, وأصدقهم لهجة, وأزكاهم سريرة؛ لأنهم صحبوا المصطفى عليه الصلاة والسلام, وعرفوا سيرته, وتناولوا التنزيل ولم يبتدعوا في دين الله.
الصحابة بالذات؛ لأن الله اختارهم لصحبة محمد عليه الصلاة والسلام؛ ولأنهم كتيبة الإسلام وحملة القرآن وجيش الإيمان؛ ولأنهم هم المقبولون المزكون من الواحد الأحد زكاهم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، كان عليه الصلاة والسلام يقول كما في الصحيح: {لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه} وفي حديث صحيح آخر: {الله الله في أصحابي, لا تتخذوهم غرضاً فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم}.
ولهذه المحاضرة عناصر:
1 - سبعة أحاديث أطرحها على المسلمين فيها عقيدة بيسر وسهولة ولكنها بعمق وأصالة، فدليل التوحيد عندهم آيات الله الكونية، خلاف أدلة علماء الكلام والمناطقة.
2 - العقيدة عندهم رضوان الله عليهم هي المؤثرة في حياتهم سلوكاً وتطبيقاً وأخلاقاً.
3 - تقبلوا العقيدة بلا اعتراض, وفهموها بلا إشكال، وعملوا بها بلا توقف.
4 - أجمع الصحابة على مسائل المعتقد, وسلموا لمعانيها, ولم يختلفوا بحمد الله في مسألة منها.
5 - معرفة الصحابة لدلائل الأسماء والصفات ومعانيها على ما أراده الله عز وجل وأراده رسوله صلى الله عليه وسلم.
6 - لم يتعمق الصحابة في الألفاظ, ولم يتكلفوا في المعاني, ولم يتنطعوا في المعتقد.
7 - خاتمة عن البدعة والمبتدعين، ثم كلمة إلى النساء الصالحات الحاضرات والغائبات من المسلمات.(315/2)
تعامل الصحابة مع أحاديث العقيدة
اعلموا بارك الله فيكم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كما يقول بعض علماء الإسلام: ما ترك جزئيات العقيدة أو جزئيات الفروع حتى علًّمها الناس, فكيف بأصول الدين التي هي معلومة من الدين بالضرورة؟!!
وهنا سأعرض عليكم سبعة أحاديث, وتصوروا أن الصحابة بجانبكم جلوس, ماذا سوف يقولون في الأحاديث: هل يتقبلونها بالتسليم؟ أم يخالفونها بالتأويل؟ أم يردونها بالإنكار؟ حاشا وكلا.(315/3)
موقف الصحابة من حديث سورة الإخلاص
في مسند أحمد بسند جيد عن أبي بن كعب سيد القراء, وأحاديثه دائماً تتعلق بالقرآن، وهو الذي قال له الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فضرب صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: ليهنك العلم أبا المنذر}.
يقول في المسند: {قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! انسب لنا ربك -أي: اذكر لنا نسب ربك، من هو أبوه؟ من هو جده؟ من أي أسرة هو؟ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- فنزل قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]} سند هذا الحديث جيد، وفيه قضايا:
أولها: (أن قل هو الله أحد) جواب لهذا السؤال.
ثانيها: أن الله لا ولد له ولا والد.
ثالثها: أن هذه الآيات والسور ما اعترضها معترض من المسلمين بل سلم للحال, وما فعلوا كما فعل المناطقة.
وقل هو الله أحد لها طعم عند الموحدين: أتى بعض الصحابة من الأنصار إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام, فقالوا: يا رسول الله! معنا إمام كلما صلى بنا قرأ في كل ركعة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وقد قالوا للإمام: إما يكفيك سورة الإخلاص وإما يكفيك غيرها، قال: أمَّا أنا فلا أزال أقرأ بها في كل ركعة, فإن شئتم أن أصلي بكم صليت, وإن شئتم أن أعتزل اعتزلت، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: {سلوه ماله يقرءوها؟ فسألوه، فقال: إن فيها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بصفة الرحمن، فقال عليه الصلاة والسلام: أخبروه أن الله يحبه لحبه إياها وأن الله أدخله الجنة}.(315/4)
موقف الصحابة من حديث الجارية
الحديث الثاني: حديث الجارية وهو صحيح.
عن معاوية بن الحكم السلمي قال: أتيت بجارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي صغيرة لا تتكلم, فقال لها عليه الصلاة والسلام: {أين الله؟ -سبحان الله أطفال المسلمين يعرفون أن الله في السماء، فالطفل بفطرته وتوجهه يعرف أن الواحد الأحد فوق سبع سماوات- قال: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة}.
بعض المناطقة -وهذا سؤال ورد على الجويني - يقولون: الله ليس في مكان؛ فلا هو فوق العالم ولا تحت ولا داخل ولا خارج وأنكروا أن الله سبحانه على العرش، كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18] فيقولون: إنه ليس في مكان، فقام أحد الحاضرين واسمه الهمداني، فقال: يا إمام! أخبرنا بالضرورة التي نجدها في أنفسنا أنه ما دعا أحد منا ورفع يديه إلا ويجد أن قلبه يتجه إلى السماء, أخبرني كيف أبطل هذه الضرورة؟ فأخذ يضرب على رأسه بيديه، ويقول: حيرني الهمداني! حيرني الهمداني، ونزل وهو لا يزال محتاراً هو وأمثاله، ولو أنه صلح حاله بعد ذلك.
الشهرستاني بحث عن العقيدة لكن أين بحث عنها؟!
لم يبحث عنها في الكتاب والسنة، ولا في صحيح البخاري وصحيح مسلم ولا في السنن والمسانيد, لكنه بحث عنها في كتب اليونان والمناطقة وعلماء الكلام، وفي الأخير يقول وهو في سكرات الموت:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أرَ إلا واضعاً كفَّ حائرٍ على ذقن أو قارعاً سن نادم
يقول: طفت وبحثت وما رجعت إلا بشبهات، فأين أسير؟!
رد عليه الصنعاني صاحب سبل السلام بيض الله وجهه، فقال:
لعلك يا أستاذ ما زرت أحمداً رسول العلا المبعوث من خير هاشم
فوالله لو قد زرته الدهر مرة لما كنت نهباً للنسور القشاعم
أي: لو زرته لاهتديت لكنك طلبت الهداية في غير مكانها، فأخطأت الطريق، الشاهد أن الجارية بفطرتها تقول: (الله في السماء).
يقول عمر: [[كونوا على دين العجائز وغلمان الكتاب]] دين العجائز: يعني الذين نشئوا على لا إله إلا الله محمد رسول الله, ولذلك تجد بعض الناس من حملة الدكتوراه لا يعرف العقيدة, فالعجوز خير منه في العقيدة.
عامي في قرية من القرى ابنه يدرس في الثانوي، أتى ابنه بكتاب لـ سعيد حوى رحمه الله مكتوب فيه فصل: الدليل على وجود الله وسعيد حوى يتكلم مع الملاحدة الذين ينكرون وجود الله, والطالب أخذ الكتاب والعامي هذا ما مر في ذهنه ولو مرة واحدة في حياته أن هناك قوماً ينكرون الله أبداً، قال الابن: اقرأ عليك يا أبتي، قال: أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، الدليل على وجود الله، فرفع الأب يده وضرب ابنه كفاً على وجهه، قال: يا عدو الله تدلل لنا على وجود الله، أما تستحي؟! هذه عقيدة مثل الجبال راسخة:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
فوا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
أعرابي بدوي يصلي في الصحراء، قالوا: لمن تصلي؟ قال: لله الواحد الأحد، قالوا: بمَ عرفته؟! قال: [[البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فليل داج، وسماء ذات أبراج، ألا يدل على السميع البصير]].
مسلم كردي في العراق، موحد، في مزرعة يزرع البطيخ والقرع، جاءه ملحد من الشيوعية فدخل عليه المزرعة -والشيوعية انتشروا في فترة ما قبل الأربعين، يبثون مذهبهم المبني على الإلحاد- فأجلسه صاحبها عند الماء، وهذا المزارع يصلي خمس صلوات ويعتقد اعتقاداً جازماً مثل الجبال أن لا إله إلا الله، فجلس هذا المتحذلق المتأثر بثقافة الإلحاد ودعاه وقال: الخرافة التي تقول: إن الله موجود ألا تعرف أنه لا إله في الكون، فقال المزارع: أنت عاقل أم مجنون؟
قال: بل عاقل، قال: عقلك معك؟
قال: نعم، قال: تعرف من أنت؟
قال: أعرف، قال: أرجوك أن تنتظرني قليلاً وآتيك، فذهب وأتى بعصا فضرب رأسه حتى أنزل نخاعه على الأرض ودماءه، فكان هذا جزاؤه.
سبحان الله! أفي الله شك! فما لهم لا يؤمنون!
ولذلك كان عمر رضي الله عنه وأرضاه يقول: كونوا على دين العجائز.
ولو تحدثت مع شيخ كبير عن دليل القدرة وأن كل شيء بقدرة الواحد الأحد، تجده يقول: ما شاء الله تبارك الله، وقد رأيت شيخاً كبيراً في السبعين أصابه جرح في رجله فقلت: اذهب إلى المستشفى، فقال: لا.
حسبنا الله ونعم الوكيل، الله هو الذي يشافينا -مع العلم أنا نعارضه في بعض الجزئيات ونقول: الذهاب إلى المستشفى طب وطلب الطب مطلوب، وقد تداوى السلف وتعالج محمد صلى الله عليه وسلم لكن انظر إلى توكله على الله- قلت: لا بد من هذا العلاج لأنه جرح غائر في قدمك، قال: لا علاج، أتريدني أعلمك بعلاجها؟
قلت: ما هو، قال: أقوم في آخر الليل وأصلي ركعتين أسأل الله أن يشافيني، هذه عقيدة وتوكل على الواحد الأحد.(315/5)
موقف الصحابة من حديث تقدير الله مقادير كل شيء
والحديث الثالث: يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة} هل قام أحد الصحابة ورفع إصبعه، وقال: يا رسول الله! قبل الخلق أو بعده، قدرها في دفاتر أو في كتيبات.
{خمسين ألف سنة} يعني قبل الخلق ولم يقولوا مثل ما فعل المناطقة، العلة الغائية والعلة السببية، والجوهر، والعرض، والمنفصل، والمتصل: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40] سلموا وأيقنوا وقبلوا لأنه المعصوم عليه الصلاة والسلام.(315/6)
موقف الصحابة من محاجة آدم وموسى
الحديث الرابع: حديث طريف وهو في الصحيح، وهي مقابلة ساخنة حارة بين أبينا آدم وبين موسى عليه السلام, وبينهما في الميلاد آلاف السنوات، لكنهما التقيا التقاء بديعاً رائعاً نقله لنا عليه الصلاة والسلام، وأهل السنة يختلفون في مكان التقائهما بعضهم يقول: في قبورهم، وبعضهم يقول: في البرزخ، والصحيح إن شاء الله أنهم التقوا في السماء.
فالتقى موسى مع أبيه آدم، وموسى عليه السلام كان جريئاً وشجاعاً يسأل أسئلة هائلة، ولذلك لما كلمه الله عز وجل: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143].
{التقى بآدم، فقال موسى: أنت أبونا؟ قال: نعم.
قال: خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، ونفخ فيك من روحه، فخيبتنا وأخرجتنا من الجنة, نهاك الله أن تأكل من الشجرة فأكلتها، قال آدم: من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل، قال: نعم.
قال: أنت الذي كتب الله لك التوراة بيده -وهذا ثابت في الصحيح- وكلمك وشرفك برسالاته, بكم وجدت أن الله كتب علي ذلك قبل أن يخلقني؟ قال: وجدته كتب عليك ذلك قبل أن يخلقك بأربعين سنة، قال: أتلومني في شيء قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة أن آكل من الشجرة فيحكم الرسول عليه الصلاة والسلام بينهما بقوله: فحج آدمُ موسى} يعني غلبه وبعض القدرية يقولون: فحج آدم موسى، يعني بنصب آدم يجعلونه مفعولاً به والغالب يجعلون موسى انتصر على آدم.(315/7)
موقف الصحابة من دعاء الرسول في قيام الليل
الحديث الخامس: كان يقول عليه الصلاة والسلام وهو يقوم الليل -وهو في الصحيحين -: {اللهم أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، وأنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، وأنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، اللهم أنت الحق ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق}.
وفي هذا الحديث معالم منها: أنه سمى الله نوراً، وسماه قيوم السماوات، ورب السماوات, ثم شهد له بالوحدانية, فتلقى الصحابة هذه الأحاديث فوصلت إلى سويداء قلوبهم فربت فيهم معالم من الإيقان.
بعض كتب العقيدة في الساحة ليس فيها آية ولا حديث، وكلها: قال الرازي، وقال الجويني، وقال الغزالي، وقال: ابن رشد، هذه لا تربي العقيدة بل تميت العقيدة في القلوب.(315/8)
أسعد الناس بالشفاعة
الحديث السادس: في صحيح البخاري، قال أبو هريرة: {يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: لقد ظننت ألا يسألني قبلك أحد يا أبا هريرة لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه}.
ولهذا الحديث أحاديث تتبعه لكن انظر إلى الجواب، فلما سمع أبو هريرة لم يستشكل كيف يكون مخلصاً من قلبه؟ وما معنى الشهادة؟ هل يصدق بقلبه وينطق بلسانه أو ينطق بلسانه ويكفي لا.
بل قال: مخلصاً من قلبه، فهم وانتهى.(315/9)
النهي عن الاستشفاع بالله على غيره
الحديث السابع: وهو صحيح {أتى رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله! قحطنا، وجاع العيال، وهلك المال فادع الله أن يغيثنا، فإنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله، فقال عليه الصلاة والسلام: سبحان الله! ويحك إن شأن الله أعظم، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه}.
لا يستشفع بالله: لأنه جعل الشافع وهو الله أصغر حالاً وقدراً من المشفوع إليه وهو النبي صلى الله عليه وسلم, وقد أقره الرسول على جزئية وأنكر عليه جزئيةً أخرى, والمقصود من الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام فرق بين أن يكون هو رسولاً إماماً متبعاً عبداً لله، وبين أن ينزل في منزلة الألوهية، فلا نجفوه، ولا ننزله في منزلة الألوهية، ولكن نجعله وسطاً، وبهذا يقول البرعي وهو شاعر يمني لكنه غالٍ في البدعة، يقول عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم:
يا رسول الله يا من ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاما
فأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاما
أيرضاها محمد عليه الصلاة والسلام وهي شرك؟ أيرضى أن ينزل في منزلة الألوهية؟ لا.
هذه هي الأحاديث السبعة التي وعدت بإيرادها، وقد أوردتها؛ لأن فيها حرارة الإيمان وكلامه عليه الصلاة والسلام له فضل على كلامنا، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، لكن لا بد أن يشرح المتكلم الآيات والأحاديث لضرورة العلم والدروس التي نهجها السلف الصالح في جلساتهم مع أحبابهم.(315/10)
من أدلة التوحيد عند الصحابة: آيات الله الكونية
القاعدة الأولى: دليل التوحيد عند الصحابة آيات الله في الكون، خلافاً لـ علماء الكلام , الذين يقولون: النظر والاستدلال, فقبل أن تشهد أن لا إله إلا الله, لا بد أن تنظر وتستدل وتفكر في العلة والسبب والغاية, وقد علق على ذلك أحد الفضلاء في الجزء الأول من فتح الباري في الحاشية، وقال: الصحيح عند أهل السنة والجماعة: أن المطالب من المكلف إذا أسلم أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، لا النظر ولا الاستدلال، والصحابة آمنوا برسالته عليه الصلاة والسلام بالأدلة الكونية والشرعية.
واسمع إلى أسلوب القرآن الذي يعرضه على الصحابة ومن سار مسارهم، يقول سبحانه: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20] هذا الكلام لو قرأته على أعلم العلماء وعلى الطفل المكلف وعلى العجوز لفهموه؛ لأنه كلام عربي سهل وبسيط وميسر، لكنه عميق, فالعربي الذي خوطب بهذه اللغة يعرف الجمل والسماء والجبال والأرض.(315/11)
حديث ضمام بن ثعلبة وبيان يُسر العقيدة
وفي الصحيحين من حديث أنس أنه قال: قدم ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر- وبنو سعد أخوال المصطفى عليه الصلاة والسلام- فلما قدم ضمام بن ثعلبة هذا عقل ناقته في طرف المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم كان متكئاً بين أصحابه، فقال هذا الأعرابي: أين ابن عبد المطلب؟ لم يقل: الرسول ولا ابن عبد الله لأنه لا يزال مشركاً.
والأمر الثاني: أنه لا يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بشهرة جده.
قالوا: هو ذلك الرجل الأبيض الأمهق المرتفق، فتقدم فقال: {يا بن عبد المطلب، قال: قد أجبتك، قال: إني سائلك ومشدد عليك في المسألة، قال: سل ما بدا لك -وظن المصطفى عليه الصلاة والسلام أن الأسئلة قد تكون فرعية أو جزئية وهو متكئ- فقال: يا رسول الله! من رفع السماء؟ قال: الله، قال: من بسط الأرض؟ قال: الله، قال: من نصب الجبال؟ قال: الله، قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال: آلله أرسلك إلينا رسولاً؟ فجلس عليه الصلاة والسلام، وقال: اللهم نعم، قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال: آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص، أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر، ثم ولّى وفك عقال ناقته وخرج من المسجد، فقال عليه الصلاة والسلام: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا}.
عقيدة فهمها في دقيقتين أو ثلاث دقائق, عقيدة سهلة بلا التواء أو ارتباك أو اضطراب، عقيدة عرفها هذا الأعرابي وهو واقف عند الرسول عليه الصلاة والسلام وشهد بها, وشهد له صلى الله عليه وسلم بالجنة إذا صدق مع الله، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في آياته الكونية: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات:47 - 48].(315/12)
شهادة العلم الحديث على الآيات الكونية
كان عندنا في أبها الدكتور زغلول النجار وهو أحد خمسة من علماء التكنولوجيا في العالم، يقول في هذه الآية: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] قال: ما اكتشفت هذه الكلمة: "إنا لموسعون" إلا في العلم الحديث، اكتشف العلماء في العصر الحديث أن السماء أو الكون يتسع كما تتسع الفقاعة من البالون، أو الكيس المطاطي من البالون كل يوم تتسع اتساعاً هائلاً, هذا مكتشف وضرب عليه أمثلة وأتى بتحقيقات في ذلك.
ويقول في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] قال: وهو الصحيح، لم تعرف العرب مواقع النجوم, فقد أقسم الله بمواقعها والسبب في ذلك: أن العلم الحديث هذا اكتشف أن بعض النجوم تغيرت عن أماكنها، واحترقت وذهبت دخاناً وشظايا في الكون, وما بقي إلا مواقعها وبقي الضوء منها ينطلق مسافة ما يقارب أربعين عاماً ووصل إلينا الضوء, وقد انتهى النجم من مكانه, فأقسم الله بالأمكنة فقال: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:38 - 39] فأقسم بالشمس وبالقمر, فذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن من آياته الشمس والقمر، وفهمها الصحابة رضوان الله عليهم وزادهم إيماناً في ذلك ولم يتكلفوا ولم يردوا هذه النصوص.
قرأت في سيرة سعيد بن المسيب رحمه الله أنه دخل عليه رجلٌ، فقال: يقول: عمر بن أبي ربيعة وهو شاعر من مكة قرشي مخزومي:
وغاب قمير كنت أرجو غيابه وروَّح رعيان ونوَّم سمر
في قصيدة مشهورة له فقال سعيد: قاتله الله، صَغَّر ما عظمه الله، يقول: قمير، والله يقول: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:38].(315/13)
العقيدة عند الصحابة منهج حياة
القاعدة الثانية: العقيدة عندهم هي المؤثرة في حياتهم عملاً وسلوكاً وأخلاقاً ومشاعراً بعكس غيرهم: قرءوا القرآن رضوان الله عليهم فكان يقول لهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى في القرآن: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219] أي: أن تعلم أن الله يراك، فالنتيجة أنه يراقبك، ويقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7].
قال للإمام أحمد لما سئل: "أليس الله في كل مكان بهذه الآية؟ قال: لا.
أما رأيت أنه بدأ الآية بالعلم وختمها بالعلم ألم تر أن الله يعلم، يعني بعلمه وإلا فالله مستوٍ على عرشه تبارك وتعالى.
فالعقيدة عندهم هي المؤثرة في حياتهم عملاً وسلوكاً وأخلاقاً ومشاعر، نعم يوجد عند المتأخرين من يعتقد لكن لا أثر لعقيدته، يعلم أن الله لا إله إلا هو، وأن الله يعلم الغيب وأخفى, ولكنه لا أثر له في حياته وفي عقيدته، لا خوف من الله, ولا مراقبة, ولا خشية, ولا محاسبة للنفس, ولا أمانة, وهذا خلاف المعتقد الصحيح.
المعتقد عند المتأخرين أصبح مجرداً، أصبح يقول: عقيدتنا في الملائكة كذا، وعقيدتنا في الكتب كذا، وفي الميزان كذا، وفي الحوض كذا، ونقول نحن: فما أثر العقيدة هذه التي عاشها الصحابة رضوان الله عليهم؟
هل قرأت حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي والإمام أحمد بسندين صحيحين: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، وإن اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف -وفي رواية- واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك} أين هذه الدروس الحارة؟
لماذا لا تعرض الدروس العقدية عرضاً نيراً مشرقاً على طلبتنا وشبابنا وأمهاتنا وأخواتنا في البيت؟ لماذا لا نعلمهم العقيدة في البيت والمدرسة والجامعة كما علم الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه؟
لأن العقيدة اليوم أصبحت أكثرها ردوداً، قالت المعتزلة ورد عليهم أهل السنة، قالت الرافضة ورد عليهم أهل السنة، قالت الأشاعرة ورد عليهم أهل السنة، حتى يقول بعض الأساتذة الأذكياء من العلماء: تحولت الأقسام في بعض الجامعات إلى أقسام ردود، صحيح لا نغفل الردود، لكن لماذا أولاً لا نعطي أولادنا وجيلنا وطلابنا عقيدة أهل السنة من القرآن والسنة ثم نأتي بالردود فيما بعد؟!
ولذلك تجد الإنسان بعد أن يتخرج من الجامعة يعرف كيف يرد على الفرق, لكن سلوكه في واد، والعقيدة في واد, فتعامله في واد والعقيدة في واد، وهذا هو الخطأ الكبير، أتى عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح- فقال له سفيان بن عبد الله: {يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأله أحداً بعدك، قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم} "آمنت بالله" تليها "ثم استقم" فربط العمل عليه الصلاة والسلام بالمعتقد، وربط العقيدة بالعمل، اعتقد واعمل.
الآن يخاف من عقيدة الإرجاء، فقد أصبح الكثير من الناس مرجئة ولو لم يشعر بذلك, حتى تجد بعضهم لا يصلي في المسجد جماعة، ويقول: الصلاة في الجماعة ربما تكون سنة أو واجباً لكن أهم شيء العقيدة، فنقول: من ضعف عقيدتك ومن مرض عقيدتك أنك لا تصلي في المسجد، وقد يقول: أشهد الله أني أحبه وأحب رسوله, ولكني لا أستطيع الصلاة في المسجد، فنقول: نشهد الله ورسوله أنك كذّاب في محبتك, وأنك لو صدقت لصليت في المسجد.
ولذلك ترى بعض الناس يعتبر بعض السنن والواجبات أنها مسائل جزئية، مثلاً: حلق اللحية: فبعض الناس يقول: أنتم لا تتكلمون إلا في حلق اللحية! ويقول: حلق اللحى وإسبال الثياب قشور, والإسلام سهل ويسير ومشرق ورائع فأنتم لا تعرفون الإسلام، فلهذا نقول: الذي يحلق لحيته، والذي يطول ثوبه، إنما فعل ذلك لنقص عقيدته، فانظر كيف تدخل السلوك في العقيدة مباشرة؛ لأنه لو اطمأن قلبه إلى ما أتى به الرسول عليه الصلاة والسلام لم يتنازل عن هذه السنن , وما كان يحاجج الناس في هذه السنن، وما كانت لتثقل عليه.(315/14)
تقبل الصحابة للعقيدة بلا اعتراض
القاعدة الثالثة: الصحابة تقبلوا العقيدة بلا اعتراض وفهموها بلا إشكال, وعملوا بها بلا توقف! فالرسول عليه الصلاة والسلام لما قرأ على الناس قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] لم يقل صحابي: يا رسول الله كيف استوى؟ إلى أن أتى آخر القرن الثاني، فقام بعض الناس من الذين لبس عليهم من العجم فدخلوا مدسوسين في البلاد الإسلامية وقالوا: كيف استوى؟! وهذا يلزم تجسيمه، وهذا يلزم أن يشغل حيزاً، وهذا يلزم أن يخلو عنه المكان إذا نزل في الثلث الأخير، قلنا: الله حسيبكم! الرحمن يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] مالكم ما سلمتم كالصحابة؟ هل قام أبو بكر وقال: كيف استوى؟ أو قام عمر وقال: هل ينزل إذا استوى؟ سبحان الله!
لا تقل كيف استوى كيف النزول أنت لا تعرف من أين وكيف تبول
هذا أحد علماء السنة يقول للمناطقة: أنت لا تعرف تكوينك: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] لا تعرف كيف تنام، ولا كيف تصحو, فكيف تسأل أسئلة فوق عقلك؟!
قال الشافعي في كلمة حفظت عنه رضي الله عنه وأرضاه، وهي تكتب بماء الذهب: "آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله", هذا هو المطلوب من المسلم.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] تليت هذه على الصحابة كـ ابن مسعود ومعاذ وسهل وجابر وعمر وعثمان فأثبتوا لله يدين تليقان بجلاله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بلا تمثيل ولا تشبيه، ما أولوها بالنعمة بل قبلوها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عربي والقرآن عربي وهو يتكلم بلغتهم, ولو أراد الله أن يقول نعمة، لقال: نعمة، لأن النعمة لا تثنى ولا توصف بمبسوطتين، بل قال: يدان مبسوطتان.
والشاهد هنا أنهم سلموا بلا اعتراض, وعملوا بلا توقف, وفهموا بلا إشكال.
يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي مر معنا: احتج آدم وموسى, قال آدم لموسى: وكتب الله لك التوراة بيده، فأقر موسى واعترف ولم ينكر, والصحابة لم يقولوا كيف كتب وبأي قلم, هل هو بقلم رصاص أم بأحمر؟! هل كتبه في دفتر أو في كتاب؟ كيف كتب؟! سبحان الله! لا نشبهه ولا نمثله ولا نعطله ولا نؤول صفاته: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
في الصحيحين وعند النسائي وابن ماجة وأحمد في المسند قال عليه الصلاة والسلام: {يضحك ربك إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة} يقتل أحدهما الآخر, فيدخل الشهيد المسلم الجنة، ثم يتوب الله على القاتل فيقاتل في سبيل الله فيستشهد فيدخلان الجنة فيلتقيان في الجنة، يقول: أنت أدخلتني الجنة، جزاك الله خيراً قطعت رأسي في الدنيا وأدخلتني الجنة، فالله عز وجل يضحك لهذين.
ماذا قال الصحابة لما تلي عليهم هذا الحديث، هل التفت بعضهم لبعض؟ بل قالوا: آمنا وسلمنا، فهم قد رضوا بالرسول عليه الصلاة والسلام وانتهى الأمر، وبعض المبتدعة يقول: يضحك أي: يرضى، قلنا: سبحان الله! أيعجز النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الفصحاء أن يعبر بلفظة (يرضى) بدلاً عن (يضحك) وهو أعلم بمعناها؟ وهل الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم بين عجم؟ إنه يتكلم في عرب, وأنا لا والله لا أنقص في شأن أحد، فالعجم إخواننا وأحبابنا وهم قد يكونون بالتقوى أفضل منا, وليس عندنا دم ولا عنصرية ولا لغة، فـ سلمان أعجمي وبلال أعجمي وصهيب أعجمي والبخاري أعجمي والترمذي أعجمي وهم إخواننا وأصحابنا، بل سادتنا وعظماؤنا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] لكن في المسألة هذه أقول: الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم بالعربية فيقول: {يضحك ربك} فلم يعترضوا بل سلموا وعرفوا معنى يضحك.
وعند النسائي وأحمد بسند صحيح، قوله عليه الصلاة والسلام: {يعجب ربك من رجل يرعى غنمه برأس شظية يؤذن ويقيم يقول الله عز وجل: يا ملائكتي أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة} بدوي مسلم يرعى غنمه في جبل ما عنده إلا الله، ما هناك هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا محاسبة ولا شرطة ولا حرس، ولما حانت الصلاة توضأ وقام في رأس الجبل يرفع صوته: الله أكبر الله، أكبر الله أكبر، الله أكبر، الله من فوق سبع سماوات يعجب من هذا, فهذا إيمان خالد وإيمان ثابت ويجازيه بأن يغفر له ذنوبه ويدخله الجنة.
في صحيح البخاري قال أبو سعيد لـ ابن أبي صعصعة: {إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهدوا له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم}.
ذكر ابن كثير أن جرير بن عطية الشاعر الخطفي صاحب القصائد المشهورة التي من ضمنها:
إن العيون التي في طرفها حور فتلننا ثم يحيين قتلانا
أذن في الصحراء ثم توفي بعد فترة فرئي في المنام وقيل له: "ماذا فعل الله بك؟ قال: غفر الله لي، قالوا: بماذا؟ قال: أذنت في الصحراء وحدي وأقمت فغفر الله لي بذلك" والشاهد هنا (كلمة يعجب) فلم يقل الصحابة: يا رسول الله كيف يعجب! وإنما سلموا وآمنوا بأنه عجب يليق به سُبحَانَهُ وَتَعَالى، بلا تشبيه ولا تمثيل.
قام عليه الصلاة والسلام في بدر -والحديث صحيح- فقال: {يا أهل بدر إن الله اطلع عليكم، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} لم يقولوا: قالوا كيف اطلع؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام: {يا أهل بدر والذي نفسي بيده ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء فتدخلون الجنة}.
سمع ذلك عمير بن الحمام وكان عنده تمرات لكنه صاحب عقيدة، فهم الحديث لأنه عربي يسمع، فرمى بالتمرات وكان يأكلها من جوع وقال: {يا رسول الله! ما بيننا وبين الجنة إلا أن يقتلنا هؤلاء، قال: إي والذي نفسي بيده، فألقى التمرات وقال: والذي نفسي بيده إنها لحياة طويلة إذا بقيت حتى آكل هذه التمرات} فتقدم فقاتل حتى قتل وانتقل, إلى رحمة الله, إلى جنة عرضها السماوات والأرض، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].(315/15)
إجماع الصحابة على مسائل المعتقد
القاعدة الرابعة: أجمع الصحابة على مسائل المعتقد وسلموا لمعانيها ولم يختلفوا في أي مسألة منها: ولـ ابن القيم كلام يشبه هذا في أعلام الموقعين، يقول: "الصحابة لم يسألوا عليه الصلاة والسلام ولم يختلفوا في مسألة عقدية".
مسائل الأصول لم يختلفوا فيها وإنما سألوه عن مسائل عملية: يسألونك عن المحيض، يسألونك عن الخمر، يسألونك عن الأهلة، يسألونك ماذا ينفقون، يسألونك عن اليتامى، لكن لم يسألوا: كيف يضحك الله؟ أو كيف استوى الله؟ أو كيف يعجب الله؟ أو كيف يد الله أو عن عين الله؟ لا.
بل سلموا بها ولم يختلفوا، فلما أتى المتأخرون أتوا يسألون عنها حتى يقول بعض العلماء: سبحان الله! أما المتأخرون فقد سالوا في موضع الجمود وجمدوا في موضع السيلان، مثل ابن حزم رحمه الله في المحلى، أتى في الصفات فسال قلمه، ويوم أتى في الفرعيات جمد مثل الثلج، أخذ الظاهر وأبطل القياس وأخذ بظاهر الأحاديث، فيقول له بعض العلماء: ليتك يـ ابن حزم سلت في موضع السيلان في الفرعيات، وليتك جمدت في موضع الجمود في الأصول والمعتقد والصفات؛ لأن أهل السنة يقولون: نمرها كما جاءت، وهو لم يمرها كما جاءت.
حتى يقول ابن تيمية: " أبو الحسن الأشعري خير من ابن حزم في الأسماء والصفات" وهذا صحيح وليس شاهدنا ابن حزم , إنما أقول المتأخرين، حتى يقول بعضهم: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، فقال بعضهم: لا.
بل طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم، وطريقة الخلف، أغشم وأظلم وأقتم، وأجهل.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] قالوا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ونقلت أيضاً عن علي بن أبي طالب: [[والله لو كشف لي الله الغطاء فرأيت الجنة والنار ما زاد على ما عندي من إيمان مثقال ذرة]].
آمنوا كأنهم يرون الغيب من وراء ستار رقيق، كان أبو بكر كما ذكره الإمام أحمد عنه في كتاب الزهد يقول: [[يا أيها الناس! استحيوا من الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إني أذهب إلى الخلاء لقضاء حاجتي فأضع ثوبي على وجهي حياء من ربي]].
ولذلك يقول مطرف بن عبد الله بن الشخير ولا يصح هذا حديثاً, وقيل: إنه من كلام الحسن: [[ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل]].
وقال مطرف: [[ما غلبهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صدقة ولا صلاة ولكن بإيمان وقر في قلبه]].
إذاً: أسئلة الصحابة كانت في الفرعيات ولم تكن في الأصول, ولو أن لـ ابن تيمية ملاحظة عن هذا التقسيم يقول: تقسيم الدين إلى أصول وفروع ليس في الكتاب ولا في السنة ولا له أثر، فبعضهم يقول: مسائل الأصول هي المعتقد والفروع هي العبادات والمعاملات, وبعضهم يقول: الأصول ما ثبت بأدلة قطعية والفروع ما ثبت بأدلة ظنية.
ولا أثر لهذا.
إنما أقول القاعدة الرابعة: أجمع الصحابة على مسائل المعتقد وسلموا لمعانيها ولم يختلفوا بحمد الله في مسألة منها.(315/16)
معرفة الصحابة لدلالات الألفاظ ومعاني الأسماء والصفات
القاعدة الخامسة: معرفة الصحابة لدلالات الألفاظ ومعاني الأسماء والصفات فيعرفون من هو الله:
في الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام علم الصحابة دعاء الاستخارة، قال: {إذا هم أحدكم بالأمر فليصلِّ ركعتين من غير الفريضة، وليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم, فإنك تقدر ولا أقدر, وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب}.
والشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أتى بالمناسبة: {اللهم إني أستخيرك بعلمك} علم الناس صفة العلم لله، والاستخارة لا تكون إلا لمن كان يعلم؛ لأن العالم بالشيء يعلم الخيرة فيه، فنسب العلم لله، وما دام أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يعرف عواقب الأمور فهو الذي يعرف سُبحَانَهُ وَتَعَالى الخير من الشر.
وقوله: {وأستقدرك بقدرتك}: أي: ما دام أنك تقدر هذه الأمور فأطلب القدرة منك، ولذلك الصحابة أعلم الناس بمعرفة الألفاظ، وإذا أردت أن تطلب من الله طلباً أن يصرف عنك مرضاً تقول: اللهم إنك رحيم, اللهم إنك الشافي، اللهم شافِ مرضي، يقول يعقوب عليه السلام: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] لم يقل: أحكم الحاكمين، ولا أحسن الخالقين، ولكن المناسبة أرحم الراحمين، فمثلاً: إذا كنت تريد من الله رزقاً، تقول: اللهم إنك جواد كريم ارزقني، لأن الجود والكرم يناسب الرزق، أو تريد من الله مغفرة، تقول: اللهم إنك رحيم غفور اغفر لي، لأن الرحمة والمغفرة تناسب غفران الخطايا والذنوب.(315/17)
عدم التكلف في المعاني عند الصحابة
القاعدة السادسة: لم يتعمق الصحابة في الألفاظ، ولم يتكلفوا في المعاني، ولم يتنطعوا في المعتقد: فعقيدة الصحابة سهلة وعلمهم سهل وسلوكهم سهل، حتى التحصيل العلمي عند الصحابة سهل وبسيط.
ولهذا علي رضي الله عنه وأرضاه -وهو أول حديث عند أبي داود في سننه- وفد إلى أهل العراق , فجمع أهل العراق في الكوفة , فتوضأ أمامهم؛ ليعلمهم مما علمه الله, فلما توضأ قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو وضوئي هذا.
والشاهد أن علم السلف كان سهلاً يسيراً، كان آية وحديثاً:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولي العرفان
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فلان(315/18)
تعامل المتأخرين مع العقيدة(315/19)
خوض المتأخرين فيما سكت عنه الصحابة
القضية الأولى: أقول المتأخرون خاضوا فيما سكت عنه الصحابة، فخاضوا في بعض ألفاظ المعتقد سكت عنها الصحابة: قالوا: الجوهر والانفصال والاتصال، وهذه الأمور سكت عنها الصحابة, وخاض فيها والمتأخرون, فانتبهوا يا طلبة العلم ويا حملة الرسالة أن تنتهجوا نهج هؤلاء, وانتهجوا نهج أصحاب محمد عليهم الصلاة والسلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
المتأخرون أدخلوا ثقافات الأمم الكافرة في المعتقد، مثل بشر المريسي والجعد بن درهم، وجهم بن صفوان، محمد بن الجهم وأسيادهم: كـ سقراط وبقراط وأمثالهم وأضرابهم وأشياعهم, ثم تأتي مدرسة الفارابي ومدرسة ابن سيناء فهؤلاء أشياخهم, أما أهل السنة فشيخهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي ومعاذ وسلمان لكن أولئك أدخلوا ثقافات الأمم الكافرة في المعتقد.
القرآن كلام الله عز وجل تكلم به وأنزله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم حتى أتى المأمون:
ألا قبح الرحمن بغلة فاجر أتتنا تهادى من عراق بخالد
ولا أقول في المأمون شيئاً, ولكن أقول مثلما قال ابن تيمية: "إن الله لا يغفل عن المأمون وسوف يسأله عن إدخاله ثقافات اليونان على معتقد المسلمين" ولو أن البدعة سبقت المأمون، لكن الذي تحمس لها ونصرها بالسيف, وقتل بعض العلماء وحبس وعاند فيها هو المأمون , وشكر الله لبعض الأمراء المسلمين جهدهم من الذين حاربوا البدعة على العكس من المأمون، منهم: خالد بن عبد الله القسري أمير العراق، أتى الجعد بن درهم فأنكر أن يكون الله كلم موسى تكليماً أو اتخذ إبراهيم خليلاً، فقال له الأمير: تب، قال: لا أتوب -انظر إلى إصرار أهل الباطل على باطلهم-.
الآن بعض أهل الحداثة يسهر إلى الساعة الثانية والثالثة ليلاً يدبج قصيدة, ويقدح بها في الإسلام والاستقامة والمسجد والرسول والرسالة، سبحان الله! وتجد المؤمن والداعية وطالب العلم وكأنه ليس عليه من هذه القضايا- قال له: تب، قال: لا.
قال: أخرجوه معي يوم عيد الأضحى، فأخرجوه مكتفاً.
والأمير على المنبر يخطب الناس، قال: يا أيها الناس إن الجعد بن درهم أنكر أن يكون الله كلم موسى تكليماً واتخذ إبراهيم خليلاً, فضحوا تقبل الله أضحيتكم فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم , ثم نزل وأخرج الخنجر, فبرك الجعد وبرك على صدره, واستقبل به القبلة وذبحه، قال ابن القيم شاكراً خالد بن عبد الله القسري:
ولأجل ذا ضحى بـ جعد خالد الـ القسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
يقول: من أراد أن يذبح فليذبح مثلك، البدنة عن سبعة، الناس يذبحون خرافاً وأنت تذبح رجالاً، ومن يريد أن ينصر الدين يفعل مثلك، برك بركبتيه على صدره وأخرج السكين، وقال: باسم الله، وأجزأه عند المتحمسين الأضحية، ولكن لا بد له في السنة من خروف آخر مع هذا الخروف.(315/20)
أخضع المتأخرون لغة الكتاب والسنة للمنطق
القضية الثانية: المتأخرون أخضعوا اللغة العربية لغة الكتاب والسنة للمنطق: والصحابة -كما قلت لكم- يتكلمون بالعربية ويعرفون لغة القرآن, لكن لما تقرأ في كتب المتأخرين في المنطق لا تفهم شيئاً, لا تدري أين أنت! يصيبك دوار وصداع في رأسك، فتقرأ العلة الغائية، والسببية، والجوهرية، والغاية، وما قبل وما بعد، وما فوق وما تحت، حتى تصبح في دوار، بل تعال الآن إلى كتب أهل السنة , أخرج كتاب الإمام أحمد، أو أحد الصحيحين أو في شرح معتقد أهل السنة، تجدها سهلة ميسرة مثل الماء البارد، ولذلك يربو معك العلم ويغذيك تغذية هائلة إذا عكفت عليه.(315/21)
تصعيب المتأخرين فهم العقيدة على الناس
القضية الثالثة: المتأخرون صعبوا فهم العقيدة على الناس فأصبحت العقيدة شائكة: يأتي دكتور تخصصه أربعين سنة ويتكلم ويشرح العقيدة فلا يفهمها الطلاب، ويمتحنون فيرسبون فيها، ابن تيمية ألف التدمرية ليدمغ به المناطقة ولم يؤلفه حتى يفهم بها الناس العقيدة وإنما ألفه لأمور منها: أن يرد بها على من يقول مثل هذا القول، ومنها أن يعرف منهج السلف في ردودهم إذا احتاجوا إلى ذلك، ومنها أن فيها قواعد لـ شيخ الإسلام مزيدة وطيبة هي من قواعد أهل السنة.
أحد الطلاب رسب في العقيدة التدمرية، فقال له أحد الأساتذة: سامحك الله أترسب في العقيدة وأنت مسلم، قال: لأنها التدمرية، والله يقول: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] فأنا ممن دمرتهم، هذا يقصد الرسالة وإلا فالعقيدة ترفع الإنسان وتنجيه في الدنيا والآخرة, لذلك كانت العقيدة سهلة ميسرة, وبإمكاننا أن نسهلها إذا عدنا إلى الكتاب والسنة, وعلمنا الناس المعتقد كأن نقرأ عليهم أحاديث العقيدة ونمرها كما جاءت.(315/22)
الصحابة أهل اتباع لا أهل ابتداع
وقبل أن ننتهي هنا قاعدة وهي: أن الصحابة اتبعوا ولم يبتدعوا، أول خطبة لـ أبي بكر الصديق يقول: [[يا أيها الناس! إني متبع ولست مبتدعاً]].
ولذلك نلاحظ كثرة الأسئلة في كل محاضرة: ما رأيك في المولد النبوي؟ ما رأيك في كذا؟ ما رأيك في كذا، أقول: نعود إلى الأصل.
نقول: من أين نأخذ الشريعة؟
من محمد عليه الصلاة والسلام.
ما هو مصدر التلقي عندنا؟
الكتاب والسنة.
هل فعل صلى الله عليه وسلم المولد؟
لا.
هل فعل الصحابة المولد؟
لا.
هل فعل التابعون المولد؟
لا.
هل قال أحد من الخلفاء الراشدين بسنية المولد؟
لا.
هل وردت آية في القرآن تقول: إن المولد سنة؟
لا.
إذاً: هو بدعة.
من أين جاء المولد هذا؟
جاء من ملك إربل في القرن الرابع أو الخامس أتى به ونشره في العالم الإسلامي, حسيبنا الله عليه وإلا فهي بدعة: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} {ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد}.
يقول بعض العلماء: ما ابتدع رجل بدعة إلا كان لسان حاله يقول: الشريعة ناقصة، يريد أن يزيد في الشريعة، والله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] ويقول المبتدع: لا ما أتممت علينا النعمة، وما أكملت لنا الدين، وما رضيت لنا الإسلام ديناً، هذا المبتدع لسان حاله يقول هكذا، فأقول: الصحابة اتبعوا فلذا لا يفعلون شيئاً إلا بأثر.
طرق أبو موسى الأشعري على عمر الباب -والحديث في الصحيح- فطرق عليه مرة فلم يفتح، فضرب ثانية، فلم يفتح وضرب ثالثة، فلم يفتح فذهب أبو موسى، ففتح عمر الباب, وإذا بـ أبي موسى قد ذهب، فقال: يا أبا موسى! تعال.
فأتى وقال له: لماذا ذهبت؟ قال: يا أمير المؤمنين! سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع}.
لكن عمر أراد أن يتثبت من هذا الحديث فقال عمر: والله الذي لا إله إلا هو, لا أتركك حتى تأتي بشاهد يشهد لك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث -لا بد من السنة- فذهب أبو موسى خائفاً وجلاً إلى الأنصار، وقال: أتيت إلى عمر فطرقت عليه ثلاثاً فلم يأذن لي, ثم أتيته بحديث، فحلف إن لم آتِ بشاهد وإلا يكون لي شأن، وتعرفون عمر إذا حلف:
حتى وضعت يميني ما أنازعها في كف ذي نقمات قوله القيل
قال الأنصار: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا، قم يا أبا سعيد، فقام أبو سعيد إلى عمر وقال: أشهد أني سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع} قال عمر: [[ما كذبتك، ولكن أردت أن أتثبت]] {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260].
فالصحابة يعملون بالسنة في سلوكهم وفي جلوسهم ولا يبتدعون, فمن أدخل في الدين شيئاً وقال: المشايخ أو أجدادنا أو آباؤنا كانوا على هذا، وهذا من حبنا للرسول عليه الصلاة والسلام، نقول: لا.
معنا ومعك سنة صحيحة وكتاب مجيد نتحاكم إليه.(315/23)
قضايا هامة للنساء
كلمتي في ختام المحاضرة إلى النساء، سلام الله عليكن ورحمته وبركاته.
آسف كثيراً أنها وصلتني البارحة في مسجد التنعيم رسائل من النساء يعتبن عليَّ أني ما ذكرتهن في المحاضرة.
وأقول أولاً: أنتن شقائق الرجال، وما نسيناكن لكن المتحدث لا يرى أمامه إلا الرجال فينسى النساء.
ثانياً: إن الخطاب من أوله إلى آخره يدخل فيه النساء، فالله عز وجل خاطب الرجال في القرآن أكثر ودخل النساء في ذلك, ولما ذكر الله الصالحين قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195] النساء أخاطبهن بثلاث قضايا هذه الليلة, ولو أن لهن درساً خاصاً ومحاضرة خاصة وشريط خاص قدم من زمن اسمه: (صفات المرأة المسلمة) عل الله أن ينفع به, وذكرت فيه عشر صفات للمرأة المسلمة، حبذا لو سمعتن هذا الدرس؛ لأنه خاص بالمرأة.(315/24)
أهمية حفظ المرأة للسانها
القضية الأولى: حفظ المرأة للسانها: فكثير من الأزواج والإخوان يشكو من بذاءة بعض النساء والأكثر فيهن صالحات، بل القطاع الكبير فيهن صالحات, ولكنا نخاف على المرأة من اللسان، يقول عليه الصلاة والسلام: {تصدقن وأكثرن من الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار، قالت امرأة: يا رسول الله! ما بالنا أكثر أهل النار؟ قال: تكفرن العشير وتكثرن اللعن} المرأة لسانها لا يقف، حتى الإمام مالك يقول هذا, والمرأة تلقي محاضرات كل يوم ولا ننقص من شخصيتها, فأم الزعماء امرأة، وأم الأدباء امرأة، وأم العلماء امرأة، والمرأة عندنا محترمة, فأمنا المرأة وأختنا وقريبتنا وبنتنا وهن شقائق الرجال, وهي الجامعة الكبرى، وهي التي أخرجت الجمع الذي أمامي من الرجال, وما قدَّم وما ربى إلا النساء, لكن لحرصنا على أمنا وأختنا وبنتنا، نقول: اتقي الله في لسانك، من الغيبة والنميمة، واللعن الشتم، وسب الزوج، والتعرض لحرمات الناس, فمن أكثر ما يقع فيه النساء هذا وهذا له أسباب:
منها: الفراغ عند المرأة, فإنها قد تجلس في البيت بلا عمل فتبقى فارغة, فتستجيب لجارتها أو لقريبتها فتجلس معها فتهتك أعراض المسلمين, فالله الله بحفظ الوقت: بقراءة قرآن, بالنافلة, بقراءة كتاب أو باستماع شريط, بعمل في البيت ينفع الله به.(315/25)
أهمية اختيار المرأة للجليسة الصالحة
القضية الثانية: اختيارها للجليسات: ما أفسد الناس إلا الجليس السيئ, ومن العقبات في طريق الدعوة: الجليس السيئ, وأحذر المرأة من جليسات السوء، وأكثر من أفسد الأسر جليسات السوء الذاهبات والآيبات اللواتي ما تعلمن في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم, وما حملن خوفاً ومراقبة من الله, تجلس مع المرأة فتغويها في زيها وحركاتها وسكناتها وموضاتها, حتى بعضهن تصف بعضهن أنها مطوعة أو متزمتة أو متشددة أو أن هذا خطأ وأنه منهج باطل حتى تردها, والمرأة ضعيفة, إن لم تجد وازعاً من تقوى الله الواحد الأحد, فوصيتي: اختيار الجليسة الصالحة, وأن تؤثري في غيرك, ولا يؤثر غيرك فيك, وأن تكوني داعية أينما حللت وارتحلت.(315/26)
وجوب تربية الأطفال على النساء
القضية الثالثة: تربية الأطفال من المسائل العظيمة والكارثة عند المسلمين: فساد كثير من النشء بسبب التربية في البيت، فالمرأة ليست مسئوليتها عن الطفل أن تغسله وتنظفه وتطيبه وتطعمه وترضعه فقط، بل مسئوليتها أن تغرس الإيمان في قلبه، هي المسئولة عن الطفل أولاً, فلا يغرس لا إله إلا الله في قلب الطفل إلا المرأة، لا يبني صرح لا إله إلا الله في قلب الطفل إلا المرأة، لا يحبب إليه الاستقامة والإيمان إلا أمه، ولا يجعله عبداً لله عز وجل بإذنه إلا أمه.
فوصيتي لكِ أيتها الأم أن تنبتي ابنك نباتاً حسناً على منهج الله في البيت، وأن تدليه على الطاعة، وتحببي له أخلاق وسيرة وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وتؤدبيه في المطعم والمجلس والمنام والصلاة بأدب الإسلام؛ إن كنت تريدين أن تقدمي جيلاً للإسلام، أما أن يرضع الطفل ويكسى ويطعم ثم يخرج إلى الشارع مع كل من هب ودب, فيخرج طفلاً منكوس الفطرة، أعمي الطريقة ليس عنده هداية هذا خطأ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
والله الموفق والمستعان، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(315/27)
الأسئلة(315/28)
حكم صلاة التسابيح
السؤال
ما مدى صحة حديث صلاة التسابيح؟
الجواب
مما عرفته أن حديث صلاة التسابيح في الأخير صحيح, وما اختلف أهل العلم فيما أعلم في حديث كما اختلفوا في صلاة التسابيح، حتى ألف ابن ناصر من علماء القرن السابع كتاب التنقيح في صلاة التسابيح، وألف غيره كتاب الترجيح، والتوشيح , فقد اختلفوا كثيراً، لكن الصحيح أنها صحيحة بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, ويعاد إلى كتاب الأذكار للنووي، وكتب العقيدة وشرحها، والتي ننصح بقراءتها ثلاثة كتب: كتاب التوحيد وشرحه فتح المجيد، الكتاب الثاني المستوى الثاني على الثانوية وما يقاربهم: معارج القبول للشيخ حافظ، الكتاب الثالث لطلبة الجامعات ونحوهم، العقيدة الطحاوية.(315/29)
أسباب الخشوع في الصلاة
السؤال
هذا سائل يشكو من عدم الخشوع في الصلاة, أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
هناك لـ ابن رجب رسالة اسمها: الخشوع في الصلاة، وللخشوع في الصلاة ثلاثة أسباب:
1 - تتدبر ما تقرأ.
2 - تصلي صلاة مودع.
3 - تعلم أنه لا أكبر من الله.(315/30)
نصيحة للشاب
السؤال
نرجو توجيه كلمة للشباب ودعوة لهم؟
الجواب
كل ما قيل في هذه المحاضرة وقبلها وبعدها للشباب، فيا شباب الإسلام! اتقوا الله، والكلام معروف عند الشباب مثل الأسئلة التي تأتي أنا طالب ملتزم, أنا شاب ملتزم، أنا أريد التوبة, هذه معروفة وحتى وصايانا بطلب العلم معروفة عند الكثير لكن المهم العمل.
وأقدم لإخواني وصية صحت عند أحمد في المسند أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى أدخلته الجنة} هذه السورة سورة الملك أهديها لكم، وأطالب نفسي وإياكم أن نقرأها في الأربع والعشرين ساعة ولو مرة في الليل أو في النهار؛ علَّ الله أن يغفر لكم بقراءتها وتدبرها والعمل بها، سورة الملك: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1] تحاج لكم عند الله وتدافع عنكم في القبر وتسعدكم إن شاء الله في الدنيا والآخرة.(315/31)
حقيقة الحداثة
السؤال
ما هي الحداثة؟
الجواب
أقول: هي مذهب من مذاهب أهل الزندقة متخلف جاء لنقض الإسلام وهدمه, وقد سحق, ونسأل الله أن ينهي عناصره, ويبطل كيدهم, ويردهم إلى المنهج الصحيح فلا يعتدوا عليه، وأن يكفينا شرهم، ونسأل الله أن ينصر الإسلام والمسلمين.(315/32)
حكم مجالسة تارك الصلاة
السؤال
ما حكم الجلوس مع أصدقاء تاركين للصلاة؟
الجواب
إذاً ليسوا بأصدقاء:
فإما أن تكون أخي بصدق فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني
فإني لو تخالفني شمالي ببغض ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بيني كذلك أجتوي من يجتويني
أصدقاء تاركون للصلاة ليسوا بأصدقاء: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] الصديق من صدق مع الله وجعل بينه وبين الله صلة, والعدو من قطع ما بينه وما بين الله ولو كان شقيقنا من أبينا وأمنا، لكن يجوز لك أن تجلس مع تارك الصلاة بشرط أن تدعوه للهداية.(315/33)
كيفية ترسيخ العقيدة في النفوس
السؤال
ما هي الوسائل والطرق لترسيخ العقيدة في النفوس؟
الجواب
منها التفكر في آيات الله وفي الكون والسماء والأرض، والنجم والشجر والحجر، والماء الهواء والضياء، لكننا أصبحنا لا نتفكر إلا قليلاً بسبب مغريات العصر, فبجانبك فرن وثلاجة ودفاية وخباز وغسال وسيارة ولا ترى ولا تسمع إلا أصواتها، ذهب الجمال من الكون، ففي عهد الصحابة ينظرون إلى السماء وهي صافية, وينظرون إلى الشجرة والغدير، والزهرة، وكل شيء يدل على الله عز وجل.
ومما يرسخ العقيدة تدبر القرآن وقراءة سيرة محمد صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، وكثرة الذكر ومما يرسخ العقيدة الانتهاء عن المعاصي.(315/34)
مدى صحة إسلام مايكل جاكسون
السؤال
هل صحيح أن مايكل جاكسون أسلم؟
الجواب
لقد قرأت خبر إسلامه من صحيفة عكاظ والعهدة عليها، فألقيت خطبة إسلام مايكل جاكسون، فذكروا بعد ذلك أنه لم يسلم بعد ما قالوا: إنه أسلم، فعلى كلٍ أسلم أو لم يسلم نشهد أن دين الله حق, وقد عرضنا ثلاثة أسئلة للفنانين في بلادنا وسوف تكون محاضرة في مسجد فقيه في العزيزية اسمها رسالة خاصة إلى المغنين والمغنيات، وسوف يأتي شباب منهم الأستاذ مسفر الكثامي، والأستاذ/ يحيى أبو الكرم وآخرون من المغنين الذين تابوا، يدلون بتصريحاتهم وتقريراتهم عن الحياتين التي عاشوها, حياة الضياع والغناء، وحياة النور والهداية: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].(315/35)
حقيقة الجهاد في أفغانستان
السؤال
يقول بعضهم: انتهى الجهاد في أفغانستان ولم يبق إلا مسلم يقاتل مسلماً؟
الجواب
من قال هذا الكلام فقد افترى وكذب, وهو لا يعرف نفسه، وهو أضل من حمار أهله، بل بقي القتال بين المسلمين والشيوعية، نجيب شيوعي مجرم ملحد وهو أجرم من جرباتشوف، ومن مارجريت، والجهاد ما زال, وهم بحاجة إلى مدد وعون.(315/36)
حكم ذكر كلمة "سيدنا محمد" في الدعاء
السؤال
ما حكم من يذكر في الدعاء (سيدنا محمد) أو يفتتحه به؟
الجواب
كلمة "سيد" لم تأت في معرض ذكره عليه الصلاة والسلام في الأدعية، كقول بعضهم في التحيات: (اللهم صلِّ على سيدنا محمد) , هذه بدعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحسن: {إن ابني هذا سيد} فكلمة "سيد" لم يقلها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه في التحيات أو في الدعاء، ونحن نتوقف حتى يأتينا أثر من المعصوم عليه الصلاة والسلام، فلا ندخل ألفاظاً بدعيةً في أذهاننا، مثل أحدهم إذا قام قال: سمع الله لمن حمده، يقول: ربنا لك الحمد والشكر، فكلمة "الشكر" صحيحة أنها لله لكن أنت في عبادة, هل قال محمد صلى الله عليه وسلم "الشكر" هنا؟ ما قالها فلذلك إذا أنكرت على البعض يقول: سبحان الله! تمنعني أن أشكر الله، أنا لا أمنعك أن تشكر الله لكن أمنعك أن تبتدع, لا تأت بألفاظ ولو كانت حسنة عندك في مواطن العبادة، بل لابد أن تتوقف على النصوص.(315/37)
حكم دخول الحمو على الزوجة
السؤال
أسألك بالذي نصب الجبال ومد الأرض أن توضح حرمة دخول أخو الزوج على زوجة أخيه, وأن تنشرها هنا، فإن زوجة الأخ تستقبل أخ زوجها في غياب زوجها, ويدخل ويأكل وينام هل هذا من الشرع, أجب ووضح ذلك؟
الجواب
أنت أجبت في غضون سؤالك، فأنت عرفت أن الأمر هذا محرم, ومخالف لشريعة محمد عليه الصلاة والسلام, وقد سئل صلى الله عليه وسلم في البخاري عن الحمو -والحمو: أخو الزوج- في دخوله والتحدث مع زوجة أخيه قال: {الحمو: الموت} ومعناه الموت الأحمر لأنه مأمون الجانب، ولأن الأخ يقول: أخي لا أظنه يخدعني ولا يخونني، وأخي شقيقي من أمي وأبي ومع ذلك من مأمنه يؤتى الحذر, فيلدغ من هذا المكان، ولأنه كثير الدخول والخروج، ولأنه لا يستراب بدخوله بعين الجيران فلا يقولون: فلان دخل أجنبي، يقولون: أخو الزوج دخل بيت أخيه وجلس مع زوجة أخيه وهو أخوه دخل وخرج، ولكنه على كل حال المسألة خطيرة جداً, ودخوله وكشفه على زوجة أخيه مباشرة من الفواحش والمنكرات ومن الأمور المحرمة, وما علمت أحداً قال به أو أجازه إلا رجل لا يعرف من الشريعة شيئاً.
فلينتبه لهذا، ولنتكيف مع شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ولنحفظ الله في أسرنا، فالإسلام أتى لكرامة المرأة وحشمتها وهي تقول: لا.
أخو الزوج يدخل علي الليل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] إن مما يعارض الشرائع مذاهب الناس وأفكارهم, يقول الله كذا ويقولون: {حسبنا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة:104] فحسيبهم الله عز وجل أن يردهم إليه ويهديهم سواء السبيل.(315/38)
موقف المسلم من النظريات المتعلقة بدوران الأرض حول الشمس
السؤال
ما موقف المسلم أمام النظريات التي تزعم أن سبب حدوث الليل والنهار هو دوران الأرض حول نفسها؟
الجواب
أنا أقول: يا أيها الإخوة! علماء الإسلام على جلالتهم ومكانتهم، وعلماء الشريعة تخصصهم في الشريعة أما علم الفلك فإن له أناساً متخصصين درسوا فيه دراسة، فيأتي أحدهم ويقول الأرض تدور حول الشمس، فيقول العالم الذي تخصصه فقه: لا.
إنها لا تدور، تقول له: لماذا؟ ليس في القرآن ولا في السنة ما يثبت دورانها، نقول: لا.
القرآن لا يثبت ولا ينفي، والقرآن كتاب هداية.
وأنت ليس معك علم فلك.
ولذلك أحد الوعاظ في مسجد، يقول: حسبنا الله على من يقول أن الأرض تدور، قالوا: وما الرد يا شيخ؟ قال: الرد في النقل والعقل، أما في النقل فإن الله عز وجل يقول: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:32] فأرسى الله الأرض بالجبال فلا تدور، والرد العقلي الثاني أني من يوم خلقني الله وأنا في بيتي ما دار بيتي بل هو في مكانه.
سامحك الله وهل هذه ردود؟! ماذا يقول عنك الخواجة الذي قد شاب رأسه والذي يدرس الفلك منذ سبعين سنة ودار حول الأرض ونزل بالمركبة الفضائية حول القمر، ثم يصيح رجل من الجزيرة , لا.
بيتي ما دار منذ خلقني الله!!
إذاً: لابد أن يبقى الإنسان في تخصصه، والإسلام لا ينكر هذه الأمور، بل يقرها إذا وافقت القرآن, وأنا أقول ليس هناك إنكار, بل إنه بعضهم بسبب دوران الأرض -وهو الثابت- يتغير الليل والنهار وقد سمعت من بعض الفضلاء الأتقياء الذين يقوم الليل ويصوم النهار يقول في مجلس: الذين يقولون الشمس تبخر البحر والبحر يتبخر ثم يأتي المطر، هذا خطأ، الله ينزل المطر من السماء لا ينزل من البحر، قلنا: سبحان الله! أثبت العلم ذلك, ومن قدرة الله أن يبخره من البحر ثم يرسل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليه ريحاً ثم يمطر، وهذا أعظم في قدرة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فأوصي من عنده تخصص شرعي ألا يتجاوزه إلى غيره يحتفظ به, وألا يرد شيئاًَ إلا إذا تعارض مع الكتاب والسنة, وألا يدخل نفسه في كل شيء، فلعلم النفس والتربية والفلك والتكنولوجيا أصحابه، ولا يمكن أن يكون بحراً وعلامةً في كل شيء فيورط نفسه فيه, فلينتبه لهذا.(315/39)
حكم الموالد
السؤال
إذا قلنا للناس عن بدعة المولد، قالوا: بدعة حسنة؟
الجواب
ليس هناك بدعة حسنة, كل ما ابتدع فهو بدعة سيئة, وإنما اغتر هؤلاء بقول عمر: [[نعمت البدعة هذه]] لما جمع الناس في صلاة التراويح.
والرد عليهم: أن يقال:
المقصد الأول: صلاة التراويح فعلها عليه الصلاة والسلام ليلتين أو ثلاث, كما في حديث زيد بن ثابت أنه جمع الناس في النافلة في رمضان فلها أصل في السنة.
المقصد الثاني: أن أهل السنة يقولون: المقصود بها: البدعة في اللغة، يعني أني فعلتها في وقت الناس لا يفعلونها، مع أن الصحابة اجتمعوا لها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الصحيح: أن كل ما ابتدع في الدين فهو بدعة سيئة: {من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد} ولو أخذنا بكلام هذا المتكلم أنه بدعة حسنة لشرعنا للناس المستحسنات, وضاع الدين وانطفأت الشريعة, واندست كتب الحديث, وخطب الدجال على المنبر, فيأتي أي إنسان ويقول: هذه بدعة حسنة لأنها توافق الذوق، ويأتي آخر ويقول: في المولد: نحن نذكر محمد صلى الله عليه وسلم وننشد في محبته فنقول لهذا: نحن معكم وأثابكم الله على حبكم له؛ لكن هل فعل ذلك؟ هل رضي هو؟ هل قصر في تبليغ شيء من الدين؟ اذكروا لنا حديثاً واحداً أو آية تدل علىفعلكم، فعله الصحابة والتابعون؟! لا.
فلماذا تستحدثون في دين الله ما ليس منه.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(315/40)
أهمية صلاة الجماعة
إن الحياة في الإسلام هي حياة القلوب، وإن أفضل ما يحيي القلوب المحافظة على صلاة الجماعة في بيوت الله، وفي هذا الدرس بيان حكم صلاة الجماعة، وهل هي واجبة أم مستحبة، وهل هي شرط في صحة الصلاة؟
وهل للمسلم أن يصلي في بيته، وما هو الأفضل في صلاة الجماعة؟ وفضل كثرة الخطى إلى المساجد، والأولى بالإمامة، وحكم صلاة المفترض خلف المتنفل، وحكم تسلسل الجماعة.(316/1)
حياة القلوب في المساجد
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض، جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير، الحمد لله محيي القلوب بعد أن تموت، ومحيي الأرواح بعد أن تهلك، نسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، ونسأله بأنه الحنان المنان أن يحيي قلوبنا، فإنه الذي يخرج الحي من الميت.
وأصلي وأسلم على محيي قلوب البشرية، ومعلِّم الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية، محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، ورضي الله عن كل تابع وصدِّيق، وعابد وزاهد وخيّر، وتاب الله على كل عاص، وهدى كل ضال، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
في روضة من رياض المصطفى صلى الله عليه وسلم، روضة تحيا فيها الأرواح، ومن أراد أن يحيي روحه وقلبه؛ فما له إلا بيوت الله عز وجل، ولهذا فللحديث الذي معنا في هذا الدرس صلة أيما صلة بموضوع المساجد وموضوع القلوب.
والحياة في الإسلام إنما هي حياة القلوب، والحياة الطيبة إنما هي في اللجوء لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وما تحيا القلوب إلا بذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك قال عز من قائل لائماً المعرضين عنه اللاهين عن ذكره، المتلاعبين بأوقاتهم: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
ثم أتى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالرجاء وفتح باب النوال، فقال بعدها مباشرة: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:17].
فكما يحيي الله عز وجل الأرض بعد موتها بالمطر، فكذلك يحيي هذه القلوب بالذكر، ولا تحيا قلوب العباد أبداً إلا بالكتاب والسنة، ومن أراد أن يحييها بغير كتاب الله عز وجل، وبغير سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنما هو يميتها ويهلكها ويفنيها، وفساد القلب كل الفساد هو أن يعرض عن الكتاب والسنة.
عناصر الدرس:
فمع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع حديث طاهر طيب عطر، تفوّه به أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم، ونقله إلينا العابد الزاهد القدوة أبو هريرة حافظ الأمة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {والذي نفسي بيده؛ لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم بالنار، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء معنا} متفق عليه، وزاد الإمام أحمد في المسند {والذي نفسي بيده، لولا الذرية والنساء لحرقت عليهم بيوتهم} وهذا حديث اتفق البخاري ومسلم على أصله، وانفرد الإمام أحمد في المسند بزيادة الذرية.
وهنا ثماني عشرة قضية، وهي من القضايا الكبرى في حياة المسلم:
أولها: ما حكم صلاة الجماعة؟
ثانياً: هل هي شرط في صحة الصلاة؟
ثالثاً: هل للمسلم أن يصلي الصلاة في بيته، ثم ما هو الأفضل في الجماعة، ثم فضل المسجد الأبعد، ثم لا يَؤُم المسلم مع وجود الإمام الراتب، ومن أولى الناس بالإمامة، ومن حضر فريضة وقد صلى الفريضة هل يصلي ويعيد ومن رأى متنفلاً هل له أن يدخل معه في النافلة.
كل هذه القضايا وغيرها سوف تطرق -بإذن الله- وسوف تكون مجالاً للدراسة في هذه الجلسة، ونسأل الله الهداية والسداد والتوفيق والعون.(316/2)
حكم صلاة الجماعة
أما صلاة الجماعة فأهل العلم على فريقين، وإنما أذكر الخلاف ليستفيد منه طلبة العلم، وهم يعرفون هذه الأمور، ولننوه بآراء العلماء، ثم يظهر الراجح والرأي الأصوب بعون الله.(316/3)
القائلون بسنية صلاة الجماعة وأدلتهم
ذهبت المالكية والأحناف إلى أن صلاة الجماعة سنة مؤكدة، وأن من صلَّاها في بيته فقد نقص عليه من الأجر سبع وعشرون درجة، وأما الإثم فليس عليه إثم، وقد سقطت عنه الصلاة، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: {تفضل صلاة الجماعة صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة} هذه رواية ابن عمر في الصحيحين، وفي رواية أبي سعيد: {بخمس وعشرين درجة} فقالوا: ما دام أن الرسول عليه الصلاة والسلام فاضل بين صلاة المنفرد وصلاة الجماعة إذاً فصلاة المنفرد صحيحة، ولو كانت باطلة لما فاضل بينها عليه الصلاة والسلام.(316/4)
القائلون بوجوب صلاة الجماعة وأدلتهم
ورد الجمهور من الفقهاء والمحدثين والمحققين على القائلين بسنية صلاة الجماعة بثمانية أدلة كلها من الكتاب والسنة، وقالوا: بل إن صلاة الجماعة واجبٌ أوجبه الله عز وجل، وأوجبه رسوله صلى الله عليه وسلم على كل مسلم ليس له عذر.
الدليل الأول: استدلوا بقوله تبارك وتعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] ومعنى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] أي: صلوا مع المصلين، فهو من ذكر الشيء ببعض سببه، وإلا فالمعنى: فصلوا مع المصلين واركعوا مع الراكعين، وإلا لقال عزَّ من قائل: واركع مع الراكع، ولكن قال: مع الراكعين.
الدليل الثاني: واستدلوا من القرآن أيضاً بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] وهذه في صلاة الخوف.
فقال الإمام أحمد ومعه ابن تيمية وابن القيم: ما دام الله عز وجل لم يعذر الناس في ترك صلاة الجماعة والسيوف على رءوسهم والرماح تأخذ من أجسامهم وأجسادهم، فكيف يعذرهم وقت الأمن والراحة؟! هذا لا يدخل في المعقول أبداً.
الدليل الثالث: واستدلوا على ذلك بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ} [النور:36] ولم يقل (رجل): {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:37].
الدليل الرابع: واستدلوا بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:18] فمن لم يعمر مسجد الله وبيت الله، فلا يؤمن بالله واليوم الآخر.
الدليل الخامس: واستدلوا بالحديث الماضي -وهو متفق عليه- وهو قوله عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام -وفي لفظ: فأخلِف رجلاً يصلي بالناس- ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ,والذي نفسي بيده لو يجد أحدهم عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين الحديث} والمرماتين: قيل: صفيحة الشاة، وقيل: كتفها، وقيل: هو بين الساعد والعضد، والحاصل أنه عضو من الشاة.
يقول عليه الصلاة والسلام: والله لو أن هؤلاء المتخلفين عن المسجد يجد أحدهم قطعة من اللحم لأتى إلى الصلاة وإلى المسجد ليأكلها، أو دعي لمكان فيه وليمة لحضر؛ لأنه يريد العاجل من الدنيا وشبع بطنه.
فكيف يضيع الأجر العظيم عند الله؟ وهو علامة النفاق، فمن تخلف عن أجور الآخرة وأتى لأجور الدنيا فهذا من علامة النفاق.
الدليل السادس: واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود -وهو حديث صحيح- عن أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من ثلاثة في قرية أو في بادية لا يصلون جماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان} رواه أبو داود ورواه الإمام أحمد وسنده صحيح.
الدليل السابع: واستدلوا كذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لينتهينَّ أناس عن ودعهم الجمع والجماعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين}.
الدليل الثامن: ومن أدلتهم أيضاً: ما في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: {إن الله عز وجل فرض على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سنن الهدى وإن الصلاة من سنن الهدى، ولو أنكم تخلفتم كما يتخلف هذا المنافق في بيته؛ لخالفتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولو خالفتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لهلكتم، والذي نفسي بيده، لقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين من المرض حتى يقام في الصف} وهذا المكان في عهد الصحابة رضي الله عنهم.
ومن أدلتهم أيضاً: ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من سمع النداء ثم لم يجب فلا صلاة له إلا من عذر} روى هذا الحديث أبو داود في سننه، وابن ماجة في سننه، وابن حبان في صحيحه، وقال عبد الحق الأشبيلي الأندلسي: سند هذا ما وراءه في الصحة سند.
وقد قبل شيخ الإسلام هذا الحديث في المجلد الثالث والعشرين من الفتاوى وصححه، وقبله ابن القيم، وقبله الحفاظ، وصححه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وهو حجة في أن من ترك صلاة الجماعة فلا صلاة له إلا من عذر.
وفي سنن البيهقي وهي من أدلة الجمهور، قول علي رضي الله عنه وأرضاه: [[لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد]] وبعض العلماء يرفع هذا الحديث إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وبعضهم يوقفه على علي، والصحيح أنه موقوف.
واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: {جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمى -وفي غير رواية مسلم أنه عبد الله بن أم مكتوم - فقال: يا رسول الله! إني شاسع الدار -أي: بعيد الدار- وبين داري والمسجد هوام وسباع وواد مسيل وليل، وليس لي قائد يلائمني، فهل تجد لي من رخصة؟ فرخص له صلى الله عليه وسلم، فلما ولى دعاه، قال: أتسمع النداء؟ -وفي رواية صحيحة: أتسمع حي على الصلاة حي على الفلاح؟ - قال: نعم.
قال: أجب فإني لا أجد لك رخصة}.
وقال ابن عمر كما عند البيهقي بسند جيد: [[كان الرجل إذا تخلف عن صلاة الجماعة اتهمناه في دينه]].
فالذي يتخلف عن صلاة الجماعة في المسجد وليس له عذر فهو متهم في دينه بلا شك، لما روى الترمذي بسند تكلم فيه أهل العلم؛ لوجود دراج بن أبي السمح وهو رجل ضعيف، قال: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من رأيتموه يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان} فمفهوم المخالفة في الحديث أن من لا نراه يعتاد المسجد فلا نشهد له بالإيمان.
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان أخشى الخلق لله، وأخوفهم لله فلم يترك صلاة الجماعة إلا من مرض أسقطه على فراشه خمس مرات، كلما وثب ليتوضأ سقط على فراشه من الإعياء، فلم يترك جماعة في حياته أبداً عليه الصلاة والسلام، وكان الصحابة بعده يتعاهدون الصلاة جماعة، فإذا تخلف الرجل سألوا عنه، فإما أن يكون معذوراً، وإلا فإنه معلوم النفاق، ويشهدون عليه بالنفاق.
ولذلك كان من أعظم الأعمال في الإسلام -أعظم من الجهاد، وأعظم من الصدقة، وأعظم من أن تهراق الدماء في سبيل الله، وأعظم من أن ينفق المرء ما له غِلقا غِلقاً في سبيل الله، وأعظم من أن يذهب كل ما عندك في طاعة الله- المحافظة على الصلوات الخمس في المسجد.
يقول عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم عن أبي هريرة: {ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط} قالوا: الرباط هو أعظم درجات الإحسان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] فأعلى درجات الإحسان في الإسلام الرباط في المسجد.(316/5)
محافظة السلف على الجماعة
قال عدي بن حاتم رضي الله عنه وأرضاه: [[والله ما دخلت عليَّ صلاة إلا وأنا متوضئ ومتهيئ لها بالأشواق]] وقد ذكر هذا الإمام أحمد في كتاب الزهد، وأيضاً عامر بن عبد الله بن الزبير، وكان من الصالحين الأخيار الذين داوموا على ذكر الله عز وجل، وهذا الرجل نشأ في طاعة الله وهو ابن لـ عبد الله بن الزبير، وكان عنده كتاب دائماً، وكان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه إلى طلوع الشمس، ثم خرج إلى المقابر، يعود من المقابر إلى بيته ثم إلى المسجد، فيقول له الناس: [[ألا تجلس معنا؟ قال: أجلس مع أناس لا يغتابون الأحياء، ولا يؤذون إخوانهم وجلاسهم، فلا أوعظ من قبر ولا أحسن من كتاب، وكان كلما سجد قال: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، فقال له أبناؤه: وما هي الميتة الحسنة يا أبتاه؟ قال: أن يتوفاني الله وأنا ساجد، وقبل أن تأتيه سكرات الموت، أُذِّن لصلاة المغرب، فقال: احملوني إلى المسجد، قالوا: إنك معذور، قال: أسمع حي على الصلاة حي الفلاح ثم لا آتي المسجد!! فحملوه على أكتفاهم فصلى جالساً، فلما أكمل الصلاة وأصبح في السجدة الأخيرة قبضه الله إليه]].
قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
وقال الأعمش وهو في سكرات الموت، وأبناؤه يبكون: لا تبكوا والذي نفسي بيده! ما تركت تكبيرة الإحرام مع الإمام ستين سنة.
وقد ذكرها الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء.
وقالوا عن سعيد بن المسيب: أنه ما ترك صلاة الجماعة -أو ما فاتته- أربعين سنة، وما نظر إلى قفا أحد إلا قفا الإمام.
ومن هذه الأدلة قال أهل العلم: صلاة الجماعة واجبة، ولا يعذر أحد بتركها، ومن صلى وحده بلا عذر فقد أساء وأثم كل الإثم، وأمره إلى الله عز وجل.
وزاد شيخ الإسلام ومجدد الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: "صلاة الجماعة شرط في صحة الصلاة، فمن صلى وحده بلا عذر فلا صلاة له أبداً"، وقد ذكر هذا في الفتاوى، ونقلها عنه أهل العلم، وهذه من أعظم المسائل التي أوردها رحمه الله.
إذاً فصلاة الجماعة واجبة على كل مسلم ولا يعذر أحد بتركها، إلا من له عذر شرعي كما سوف تأتي الأعذار بإذن الله.(316/6)
القائلون بشرطية الجماعة
وأما المسألة الثانية: هل هي شرط في صحة الصلاة؟ فقد تقدم أن ابن تيمية يقول: إنها شرط، وأن الصلاة لا تصح إلا جماعة إلا من عذر، وأما المصلي في بيته فقد أثم، وقد ارتكب شعبة من النفاق، وأمره إلى الله عز وجل ولا نحكم عليه بشيء، وإنما نكل حكمه إلى علام الغيوب: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].(316/7)
أفضل الجماعة ومسائل الإمامة(316/8)
أفضل الجماعة
وأما أفضل الجماعة: فأفضل الجماعة ما كان أبعدها ممشى، لحديث أبي موسى رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أفضل الناس في الصلاة أبعدهم إليها ممشى} وفي لفظ لـ مسلم: {أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى} وهذه الرواية في صحيح مسلم، فكلما ابتعد المسجد عن العبد كان أعظم وأكثر ثواباً.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما وأرضاهما إذا خرج إلى المسجد يقارب بين خطاه حتى كأنه نملة، فقيل له: لماذا تفعل ذلك؟ قال: [[ما رفعت خطوة إلا رفع لي بها درجة، ولا وضعتها إلا حط عني بها خطيئة]].
وأفضل الجماعة كذلك ما كثر عدد مصليها، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وسنده حسن، قال صلى الله عليه سلم: {صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى} فإذا رأيت جماعة كثيرة فحاول أن تكون معهم.
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: " وإنما تفاضلت الجماعات لكثرة القلوب، وكثرة الدعاء؛ فان الله عز وجل يرحم الجمع العظيم، والقوم إذا اجتمعوا من المسلمين لا يشقى بهم جليسهم أبداً "، كما صح به الحديث، فكلما كانت الجماعة أكثر كانت أفضل.(316/9)
الإمام الراتب
وأما الإمامة ومسائل الإمامة فهي باب يدخل في الجماعة.(316/10)
حكم تقديم إمام مع وجود الإمام الراتب
وبعد ذلك مسألة " ولا يؤم مع وجود الإمام الراتب "، والإمام الراتب هو من عُيَّن، وكُلِّف من قبل المسلمين وارتضي في إمامة المسجد، له حسنات إمامته وعليه سيئاتها وإثمها، إن أحسن فله وللمصلين، وإن أساء فعليه، فهذا لا يُتبرع بالإمامة مع وجوده، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ولا يؤمنَّ الرجل الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذنه} ويدخل في السلطان الإمام الراتب الذي عُيّن في المسجد فله أن يصلي بالناس، وليس لأحد من الناس أن يعترض عليه، ولو كان أقرأ منه، أو أفقه، أو أعلم، ولا يؤخره من المحراب، بل يتركه يؤم الناس وهو ضامن؛ فأنت تكله إلى الله عز وجل، وتصلي وراء كل من كان ظاهره الإسلام، قال ابن تيمية رحمه الله: " ترك الصلاة خلف أهل البدع الذين ولوا أمر المسلمين من البدعة " أي: أن من البدعة أن تترك الصلاة خلف رجل ولي الأمر وهو مبتدع، وما زال الناس منذ عهد الصحابة يصلون وراء أئمة الجور، وقد صلَّى ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه -عام سبعين للهجرة- وراء الحجاج بن يوسف الثقفي في منى عندما صلى بالناس، وصلَّى أنس وراءه، وصلى سلمة بن الأكوع وراءه، وصلَّى الأخيار وراءه.
فالذي ظاهره الإسلام تصلي وراءه ولا تسأل عنه، ولا تقل: ما عقيدتك؟ وكيف يستوي الله عز وجل على العرش؟ وماذا تقول في الأسماء والصفات؟ بل من ظاهره الإسلام وظاهره الستر تصلي وراءه.
هذه من المسائل التي أقرها أهل السنة والجماعة.
أما رجل تبرع بالصلاة وهو مبتدع فليس لك أن تصلي وراءه، فهو إذا جاء متبرعاً ويريد أن يتقدم إلى المحراب فلك أن تؤخره، وألا تصلي وراءه؛ فإنه قد تدَّخل في مسألة لا حق له فيها، وليس له مقام في هذا الباب لا من الكتاب ولا من السنة.(316/11)
جواز النيابة عن الإمام الراتب
وأما مع عدم وجود الإمام الراتب؛ فانه يَؤُم غيره إذا تغيب: لمرض أو لعذر آخر، ففي الصحيح عن سهل بن سعد، قال: تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم -الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقوم بمهمات الأمة جميعها: بالجهاد، بالإفتاء، بالتعليم، بالتربية، بشئون الجيش، بكل شأن في شئون الحياة- فأتاه قبل صلاة الظهر قوم من بني عوف، وقالوا: يا رسول الله! أصلح بيننا -وهذه رواية سهل بن سعد - فقام عليه الصلاة والسلام ليصلح بينهم في العوالي، -والعوالي تجاه خيبر شمال المدينة - فتأخر عن صلاة الظهر، فأذن بلال رضي الله عنه وأرضاه، فانتظر الناس دخوله صلى الله عليه وسلم فلم يحضر، فقال بلال لـ أبي بكر: يا أبا بكر! تخلَّف رسول الله صلى عليه وسلم، فهل أُقيم وتصلي بالناس؟ قال: نعم إن شئت، فأقام، فلما انتهى من الإقامة قال أبو بكر -من باب التواضع والتقدير واليسر-: يا عمر! صلِّ بالناس، قال: لا والله لا يصلي إلا أنت، فتقدم يصلي بالناس فلمَّا سوَّى الصفوف وأصبح في الركعة الأولى، أتى عليه الصلاة والسلام ودخل من الباب الذي عند بيت عائشة في ميسرة المصلى، وكان إذا أراد أن يخرج على الناس كشف صلى الله عليه وسلم الحجاب، وخرج عليهم عامداً إلى المحراب، فإذا رآه بلال أقام.
فالرسول صلى الله عليه وسلم توضأ ثم كشف الحجاب؛ فإذا الناس في الصفوف، فارتبك الناس؛ رسول البشرية ومعلِّم الإنسانية صلى الله عليه وسلم يصلي مأموماً اليوم، وهو لم يصلِّ في حياته إلا إماماً- فلما ارتبك الناس أخذوا يصفقون لـ أبي بكر وأبو بكر مواصل، وذلك لسببين:
إما لأنه لم يلتفت، وقيل: لأنه لم يفهم لأنه لا يدري ما الذي حدث ومن الذي دخل، فأخذوا يضربون على أفخاذهم، فلمَّا طال الأمر وعلت الرجَّة في المسجد، التفت رضي الله عنه -وللمسلم أن يلتفت للحاجة في الصلاة ولو في الفريضة، وقد صح بذلك حديث- فالتفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه تبسم صلى الله عليه وسلم وقال: مكانك، فرفع أبو بكر يده إلى السماء ورجع القهقري ففتحوا له فرجة فدخل، فأتى عليه الصلاة والسلام فبنى على الصلاة -وهم لم يركعوا وإنما هم في الركعة الأولى- وصلى فلما انتهى صلى الله عليه وسلم قال للناس: {ما بالكم صفقتم لما دخلت؟ من رابه شيء فليسبح، فإنما التصفيق للنساء} فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يا أبا بكر! {ما منعك أن تصلي حين أشرت إليك} فقال المتواضع الصادق الصديق الزاهد رضي الله عنه وأرضاه: [[ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يصلي بقوم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم]] كان بإمكانه أن يقول: عبد الله بن عثمان، فهو اسمه أو كنيته أبو بكر الصديق، لكن قال: (ابن أبي قحافة) لأن أبا قحافة جده، فأراد أن يصغِّر نفسه فقال: أنا ابن أبي قحافة كيف أصلي بالناس، قال: {فما بالك رفعت يديك} قال: حمدت الله على أنك وثقت فيَّ -أو كلاماً في معناه- وهو يقصد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مكانك} فهذه تزكية من الرسول عليه الصلاة والسلام.
فالرسول عليه الصلاة والسلام حين تخلف صلى أبو بكر بالناس.
وعند ابن خزيمة عن المغيرة بن شعبة وأصل الحديث في مسلم أن الصحابة خرجوا في غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما قمنا لصلاة الفجر ذهب صلى الله عليه وسلم، للحاجة وأبعد في الخلاء عليه الصلاة والسلام -لأنه كان إذا ذهب ليقضي حاجته أبعد حتى لا تراه العيون- فلما توضأ الناس وأذنوا لصلاة الفجر خافوا من أن تطلع الشمس فأقام بلال الصلاة، فلما أقام بحثوا عن الرسول عليه الصلاة والسلام فلم يجدوه.
فقال عمر لـ أبي بكر: تقدم يا أبا بكر فصلِّ بالناس، قال: لا والله، قال: تقدم أنت، قال: لا والله، قالوا: من يتقدم؟ فتقدم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، فصلى ركعة، فلمَّا كان في الركعة الثانية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى، فلما سلموا رأوا الرسول عليه الصلاة والسلام يكمل، فخجلوا أيما خجل، والتفتوا إليه فسلم وتبسم لهم وقال: {أصبتم وأحسنتم}.
فهو إقرار بالكلام وبالابتسام منه صلى الله عليه وسلم.
وصلى أبو بكر في مرض موته عليه الصلاة والسلام، تلك الأيام حتى توفي عليه الصلاة والسلام.
فللمسلم إذا تأخر الإمام وعلم أنه تأخر يقيناً أن يصلي بالناس وليتبرع، وينوي -إذا تقدم إلى المحراب- بعمله وجه الله عز وجل، وأن يحتسب أجره على الله، وأن يعلم أن في الحديث الصحيح: {أن من أمَّ قوماً وهم به راضون، أجلسه الله يوم القيامة على كثيب المسك على ميمنة الرحمن سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وكلتا يديه يمين} فإذا تقدم فليعتقد أن هذه دعوة، وأنه يريد الإفادة، وأنه يريد بها وجه الله عز وجل، فأعظم دعوة أن تتلو القرآن في الصلاة على الناس: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [النمل:92] وإذا عُلم هذا فهذه الأعذار التي تبيح للمسلم أن يتقدم للإمامة إذا غاب الإمام أو مرض.(316/12)
إذا ابتلي بأناس يؤخرون الصلاة عن وقتها
أما حكم من حضر فريضة وقد صلَّى بالناس، وهي أمور تحدث في الأمة أخبر بها صلى الله عليه وسلم، وسوف يعيشها الإنسان، وسوف تمر به في ظروف، وفي أماكن وأزمان، فسوف تصاحب أناساً يؤخرون الصلاة ويميتونها إماتة، حتى لا يصبح لها طعم ولا قيمة، ولا يرضاها الله عز وجل، وترتفع إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيردها على أصحابها، أولئك قوم يتركون الوقت حتى يكاد ينتهي، ثم يقومون وينقرون صلاتهم، قد تُبتلى بهؤلاء في عملك، أو في وظيفتك، أو في أي مكان أو زمان، فما الحل وما المخرج؟
هذه المسألة عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا أبا ذر! ماذا تفعل إذا أدركت قوماً يميتون الصلاة؟ قال: كيف يميتونها يا رسول الله؟ قال: يؤخرونها عن وقتها -فبماذا أجاب أبو ذر رضي الله عنه؟ هل قال: أعتزل وأبقى في بيتي؟ -لا قال: آخذ سيفي -يا رسول لله- فأضرب به حتى يبرد، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: أو خير من ذلك، قال: ماذا؟ قال ما معناه: تصلي في بيتك -صلاة الفريضة -فإذا أتيت معهم فلا تقل: إني صليت فلا أصلي -وهذا عند مسلم - ولكن صلِّ معهم فإنها لك نافلة}.
فالإنسان لا يحبس نفسه ساعة طويلة وتفوته الفريضة، بل إذا علم أنه في جمع أو في مكان وأحرج، فليقم وليصلِّ الفريضة، ثم ينتظر ويصلي معهم نافلة ولا يقل: إني صليت، لئلا يحدث عليه إحراجات، ويحدث عليه تساؤلات؛ لأنه قد يقال له: أنحن كفار أو منافقون حتى لا تصلي معنا؟ فعليه أن يصلي الفريضة ثم يصلي معهم ويجعلها نافلة.
وقد قال عامر الشعبي: رأيت سعيد بن جبير وكثيراً من التابعين يصلون وراء الحجاج وهو يخطب على المنبر، فهو يخطب خطبة الجمعة ويلقي محاضرة مطوَّلة، يمدح فيها عبد الملك بن مروان وبني أمية، وخالاتهم وعماتهم وأصحابهم ودولتهم، فلما أطال عليهم تذمر هؤلاء التابعون فصلوا إيماءً وهم جلوس ثم صلوا معه نافلة؛ لأنه فوت عليهم الصلاة، ولذلك كان هذا من الرسول صلى الله عليه وسلم توجيهاً للمسلم على أن يحافظ على الصلاة في وقتها، ثم يصلي مع الناس نافلة.(316/13)
من صلى في بيته ثم دخل مسجداً والناس يصلون
وعند أبي داود والترمذي عن الأسود بن يزيد، قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر في مسجد الخيف بـ منى -مسجد الخيف مكان تقاسم فيه الكفار على الكفر وهم في منى فأتى صلى الله عليه وسلم ليجعله بيتاً لله عز وجل- فصلى صلاة الفجر، فلما انتهى من الصلاة ومعه الحجاج التفت فإذا في طرف المسجد رجلان لم يصليا، فقال: عليَّ بهما، فأخذ الصحابة هذا بيده وهذا بيده، وسحبوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الأسود بن يزيد: ترعُد فرائصهما -والفرائص هي: اللبة في الفرس بين اليد والرجل، أي: أنها من كثرة الخوف تضطرب هذه الأماكن؛ لأنهم دُعوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام- فقال صلى الله عليه وسلم: {ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: يا رسول الله! إنا صلينا في رحالنا -أي: صلينا في بيوتنا، أو في خيامنا في منى - قال صلى الله عليه وسلم: إذا صليتم في رحالكم وأتيتم والناس يصلون فصلوا فإنها لكم نافلة}.
فالمسلم إذا دخل مسجداً وقد صلى -في أي مسجد آخر- ومرَّ بجماعة وهم يصلون فعليه أن يصلي معهم وتكون له نافلة، ولا يقلْ: إني صليت، بل يدخل معهم ويكتبها الله له نافلة.(316/14)
أي الصلاتين تحسب فريضة الأولى أو الثانية
هل هذه النافلة التي صلَّاها هي الثانية أو الأولى؟
قال ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه عن أبيه: [[هي لله عز وجل يكتب الفريضة بما أراد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى]] وقال غيره وهو الصحيح: الفريضة الأولى؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {صليا فإنها لكما نافلة} أي: الثانية لكما نافلة، فالثانية هي النافلة والأولى هي الفريضة، هذه مسألة.(316/15)
حكم اختلاف نية الإمام عن نية المأموم
هل تجوز صلاة المتنفل بالمتنفل، والمفترض بالمتنفل، والمتنفل بالمفترض؟
أولاً: المتنفل بالمتنفل: إنسان دخلت وهو يصلي صلاة الضحى، فهل لك أن تصلي معه صلاة الضحى؟ أو إنسان يصلي الوتر في آخر الليل هل لك أن تدخل معه لتصلي صلاة الوتر؟ الصحيح -الذي دلَّت عليه النصوص، وهو التحقيق من كلام أهل العلم- أن صلاة النافلة بعد إمام متنفل جائزة، وعلى ذلك دلت النصوص ومنها:
حديث ابن عباس في الصحيح: أنه قام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة يوم بات عند خالته ميمونة، فأخذه صلى الله عليه وسلم وأقامه عن يمينه فصلى به جماعة.
ومنها: حديث أنس قال: {زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت لنا، فقام يصلي بنا، فأخذت حصيراً قد اسودَّ من طول ما لبس -والحصير: الفراش من خصف- فنضحته بالماء، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم} وهي نافلة، فلك أن تصلي نافلة، لكن لا تجعلها دائمة، فإن من داوم على صلاة النافلة جماعة -غير التراويح- فقد ابتدع، فمن يأتي ويجمع الناس كل ضحى النهار، ويقول: صلاة الضحى، ويداوم عليها جماعة فقد ابتدع، لكن أحياناً وأحياناً، أو يجعل الوتر دائماً جماعة فقد ابتدع، لكن أحياناً وأحياناً.
ثانياً: وأما صلاة المفترض بالمتنفل الصحيح أنها واردة وثابتة، ويكفي فيها حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، أنه كان يصلي مع الرسول عليه الصلاة والسلام الفريضة، ثم يعود إلى قومه بني سلمة في قباء فيصلي بهم، فهي له نافلة ولهم فريضة.
ثالثاً: وأما صلاة المتنفل بالمفترض فالحديث الأول -حديث الأسود بن يزيد -: {فإنها لكما نافلة} فهم يصلون نافلة وهو مفترض.
والصلاة أربع صور:
الأولى: مفترض بمفترض.
الثانية: متنفل بمفترض.
الثالثة: مفترض بمتنفل.
الرابعة: متنفل بمتنفل.
وكلها جائزة والحمد لله ودلَّت عليها النصوص.
أما الفريضة: المفترض بالمفترض فهذا واجب.(316/16)
إعادة الصلاة
مسألة: من صلَّى المغرب هل له أن يعيد؟ ذكر ذلك ابن قدامة في المغني والنووي في المجموع، فإذا صليت صلاة المغرب، ثم أتى أناس يصلون، هل لك أن تعيد صلاة المغرب؟ وخصصت صلاة المغرب؛ لأن صلاة المغرب وتر النهار، وهي ثلاث ركعات، فإذا صليت المغرب مرتين أصبحت ستاً فانتهى الوتر، وقد منع قوم من الحنابلة هذه الإعادة، وقالوا: لا تصح؛ لأنها وتر النهار، والصحيح أنك تعيدها، وأنك إذا أتيت جماعة أخرى فلك أن تصلي مرة ثانية، وسوف يبقى وِتْرك هو وترك، ولكنَّ هذه سوف تبقى لك نافلة؛ لعموم الأحاديث السابقة، وهذا واضح إن شاء الله.(316/17)
حكم إعادة الصلاة مع المنفرد
مسألة: إعادة الصلاة مع المنفرد: سواءً العصر أو الظهر أو الفجر، إذا تخلف رجل عن صلاة الفجر فجاء وقد صليت، هل لك أن تعيد معه الصلاة؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس} فكيف تصلي معه؟ لك أن تصلي معه وتعتبر هذه الصلاة نافلة لك، ورد عنه عليه الصلاة والسلام كما عند أبي داود والترمذي بسند جيد: {أن رجلاً دخل بعدما صلى الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: من يتجر على هذا؟ -يتَّجر من التجارة، أي: طلب الأجر- وهذه رواية الترمذي، وفي رواية: من يتصدق على هذا؟ فقام أحد الناس فصلى معه} فإذا أردت أن تتصدق على مسلم فتصلي معه في أي وقت، بعد الفجر، أو بعد العصر، أو في أي وقت جاز ذلك وأجرك عند الله عز وجل.
وهذه المسألة -إعادة الصلاة مع المنفرد- دل عليها حديث أبي داود والترمذي وهو حديث صحيح، فأعد الصلاة مع المنفرد لتتصدق عليه.(316/18)
قطع النافلة للدخول في الفريضة إذا أقيمت
مسألة قطع النافلة للفريضة: وكثير من الناس يبتلون بهذه المسألة، وهي أنهم يصلون نافلة ثم تقام الصلاة، فماذا يفعل إذا أقيمت الصلاة وهو في النافلة؟ هل يكمل النافلة ويدخل في الجماعة أم يقطع النافلة ويدخل مباشرة؟
يقول ابن تيمية رحمه الله: يقطعها مباشرة ولو كان في آخر لحظة من النافلة، أي: حتى لو كنت في التشهد وقد أقام، وتخاف أن تفوتك تكبيرة الإحرام فاقطعها مباشرة وقم للفريضة؛ لأن تكبيرة الإحرام مع الإمام في الفريضة أفضل مما عداها من النوافل.
فهذا رأي ابن تيمية، يقول: اقطعها مباشرة ولو كنت في اللحظات الأخيرة، ولا تتحرَّى وتقول: أتمها ثم أدخل معهم؛ لأن تكبيرة الإحرام سوف تفوتك.
ورأى قومٌ من أهل العلم أنك إن كنت في آخر النافلة وتستطيع أن تدرك الركعة الأولى فأكملها، وإن كنت لا زلت في أول النافلة ولا يمكنك الإدراك فعليك أن تقطع وتدخل.
وقد اشتهر بين الناس أنهم إذا أرادوا أن يقطعوا النافلة سلَّموا وهم وقوف، وهذا ليس من السنة، ولم يأت فيه حديث ولا أثر، بل يقطع الصلاة هكذا ويدخل، أما السلام واقفاً فمن أين؟
ورد السلام واقفاً في صلاة الجنازة فقط، أما في النافلة إذا أردت أن تقطعها فلا تسلَّم عن اليمين واليسار، بل اقطعها وأبطلها وادخل في الفريضة مباشرة.
وتفضيل التكبير على النافلة لحديث: {فإنه من وافق تكبيره تكبيرة الإحرام مع الإمام غفر الله له ما تقدم من ذنبه} وفي البخاري: {من وافق تكبيره تكبير الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه}.(316/19)
ما يحصل به إدراك الجماعة
وهي مسألة شهيرة، وهي من المسائل الغامضة والتي خاضها كثير من أهل العلم وهي مسألة: ما تدرك به صلاة الجماعة؛ وهنا وقفة بسيطة أو كلمة بين قوسين: العجيب أن ابن تيمية رحمه الله هذا المجدد العظيم، يأتي إلى هذه المسائل الدقيقة فيبحثها بحثاً موسعاً ويكتب في بعضها مائة صفحة، حتى إن الذي لا يعرف حياة ابن تيمية يقول: ابن تيمية لم يعرف إلا هذه المسائل، لكنْ إذا نظرت إلى ابن تيمية في مجال الدعوة فإذا التاريخ يمشي مع ابن تيمية، وإذا تأملته في الجهاد فإذا هو الذي نُصب للجهاد، وهو الذي قمع -بإذن الله وبمعونة الله- التتر المغول.
فهذا الشخصية المكتملة تطلب من المسلم ألا يتبجح بشيء، ولا يستهين بشيء؛ لأنه قد تأتي طائفة في المجتمع يقولون: إن الناس يُقتلون، والإسلام يُنتهب، وأنتم في مسائل بمَ تدرك صلاة الجماعة؟ وكيف يُغتسل من الجنابة؟ وكيفية المضمضة والاستنشاق، وكم تحيض المرأة وكم تعتد؟ لكن من عظمة الإسلام أن يعالج هذه المسائل وأن يدقق معها، ثم إنه لا ينسى تلك المسائل الكبرى، فمن الذي أتى بهذه المسائل إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ومن الذي جاهد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ومن الذي حكم بالعدل إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد من هذه المسائل جميعاً، حتى المسائل الدقيقة في الحيض لا بد أن تدرس وأن تفهم للناس.
ثم المسائل الكبرى: مسائل العقيدة، مسائل الجهاد، مسائل توحيد كلمة المسلمين لا بد أن تدرس كذلك، فهذه كلها مطلوبة، وإنما ذكرت هذا؛ لأن مثلي من المقصرين قد يمرُّ على ترجمة ابن تيمية فيقرأ عنه في هذه الجوانب فإذا هو يعيش حياة فيها، وإذا هو في الجهاد، وإذا هو في الزهد، وإذا هو في العبادة فرضي الله عنه وأرضاه.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أدرك من صلاة الفجر سجدة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة، ومن أدرك من صلاة العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك الصلاة} وهذا لفظ مسلم، وفي لفظ: ركعة.
قال الأحناف: تدرك صلاة الجماعة بالتشهد، فإذا دخلت في التشهد قبل السلام فقد أدركت الجماعة، وقال أهل التحقيق من المحدثين وعلى رأسهم ابن تيمية: تدرك صلاة الجماعة بركعة ولا تدرك بأقل؛ فمن أدرك ركعة مع الإمام ومع الناس وهم يصلون فقد أدرك فضل الجماعة وأدرك الجماعة، ومن أدرك أقل منها فلم يدرك الجماعة، فلا بد من ركعة تدركها على الأقل لتدرك فضل الجماعة وأجرها.
ثم يقول ابن تيمية في المجلد الثالث والعشرين من الفتاوى: واعلم أنه ليس هذا مجال النيات؛ فإن من أتى من بيته متطهراً، وأتى والناس قد صلوا وخرجوا من المساجد وهو يريد صلاة الجماعة كتب الله له أجر الجماعة، وهذا صح فيه حديث، فهي على النية، والله يعلم حرص العبد على الخير.
والخلاف في هذه المسألة يفيد أموراً:
في مسألة -مثلاً- من صلَّى الجمعة فأدرك مع الإمام أقل من ركعة، فعلى قول الأحناف يعيد ركعتين وهي صلاة جمعة، وعلى قول ابن تيمية فإنه يعيدها ظهراً؛ لأنه صلَّى أقل من ركعة.
والراجح أن الصلاة لا تدرك إلا بركعة، ودليلهم حديث أبي بكرة في الصحيح: {زادك الله حرصاً ولا تعد} ودليلهم حديث البيهقي عن ابن مسعود -وهو ضعيف حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أدرك الإمام ساجداً فليسجد معه ولا يحتسبها، ومن أدركه راكعاً فليركع معه وليحتسبها} وقد ذكر هذا البليهي في السلسبيل، لكن هذا مع ذاك يؤيد أنها ركعة، ثم ابن تيمية ينظَّر تنظيراً علمياً؛ لأن الركعة هي آخر ما قامت عليه الأحكام، ولأن من ترك الفاتحة وأدرك الركوع نابت عن الركعة، فعلى هذا تدرك أقلها بركعة وهذا هو الصحيح إن شاء الله.
والسنة: إذا دخلت المسجد ورأيت الإمام على حال أن تدخل معه في أي حال كان، هذه هي السنة، فإذا دخلت والإمام يقرأ التشهد فادخل معه، وإذا دخلت وهو ساجد فاسجد، أو راكع فاركع، أما الذي اشتهر بين الناس أنه إذا كان متشهداً فإنه ينتظر حتى يقوم، أو كان ساجداً ينتظر حتى يقوم ويجلس، فهذا خطأ بل اسجد معه وادخل على أي هيئة كان، لكن لا تحتسبها ركعة إلا إذا أدركته في الركوع.(316/20)
متابعة الإمام(316/21)
القراءة خلف الإمام
وهذه المسألة تساقطت فيها عمائم الأبطال، وتكسَّرت فيها النِصال على النِصال، وكتب ابن تيمية فيها ما يقارب سبعين صحيفة، تكلم فيها وأبدى وأعاد، ورأيه معروف.
العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقسام، ولا بد أن نعرض الخلاف ثم الراجح إن شاء الله:
القسم الأول: قوم يقولون: يقرأ بالفاتحة في السرية والجهرية دائماً وهم الجمهور.
القسم الثاني: قوم قالوا: لا يقرأ في السرية ولا في الجهرية وهم الأحناف.
القسم الثالث: قوم يقولون: يقرأ في السرية وأما في الجهرية فلا يقرأ، وهو رأي ابن تيمية شيخ الإسلام.
أما دليل الذين قالوا: يقرأ في السرية والجهرية، فحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه المتفق عليه: {لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ولا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} والحديث الآخر في مسلم: {صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداجٌ خداج خداج} وقيل: خِداج خِداج خِداج أي: باطلة، فهذا دليل من قال يقرأ في السرية والجهرية.
وأما الأحناف فدليلهم على أنه لا يقرأ في السرية ولا في الجهرية وراء الإمام، حديث {من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة} وهذا الحديث رواه البيهقي، والدارقطني، وهذا الحديث ضعيف من جميع طرقه، يقول الشيخ عبد العزيز بن باز: تتبعته من جميع طرقه فوجدته ضعيفاً، فهذا لا يصح بحال.
فهذا دليلهم، وقد ضعَّفه ابن حجر في بلوغ المرام وضعفه الأئمة مثل الدارقطني، والبيهقي، والحاكم، وابن حبان.
واستدل ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] قال: فالفاتحة قراءة فكيف تقرأ والإمام يقرأ.
إذاً فما هو الراجح في هذه المسألة وفي هذه الأقوال الثلاثة؟
أولاً: نبدأ بقول ابن تيمية: إذا صليت في الجهرية فلا تقرأ شيئاً وراء الإمام، لا تستفتح ولا تتعوذ، ولا تقرأ الفاتحة، ولا تقرأ سورة، وإنما تستمع لقراءة الإمام، إلا في حالة واحدة وهي إذا كنت لا تسمع شيئاً كأطرش فليقرأ الفاتحة، أو كنت في مكان لا تسمع قراءة الإمام فاقرأ، واستدل بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] وبقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا قرأ الإمام فأنصتوا} وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، وأبو داود وهو صحيح.
ورد عليه المحدثون وهو رأي الجمهور، وألف فيه البخاري كتاباً اسمه: القراءة خلف الإمام، وهو كتاب مجلد مطبوع، فقال: تقرأ، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} وقوله عليه الصلاة والسلام: {صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج خداج} أي: باطلة، فهذان الحديثان عامان في السرية والجهرية، واستدلوا كذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في سنن النسائي عن البراء بن عازب أنه قال: {صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سلَّم قال: هل قرأ منكم أحدٌ معي؟ قال رجل: أنا يا رسول الله! قال: ماذا قرأت به؟ قال: قرأت بسبح اسم ربك الأعلى، فقال صلى الله عليه وسلم: إني أقول مالي أنازع القرآن} أنازع أي: أجاذب؛ لأن من يرفع صوته خلف الإمام يشوَّش عليه، فلا يستطيع الإمام أن يكمل أو يقرأ، حتى إن بعض الأئمة إذا تنحنح المأمومون وأكثروا أخطأ في الصلاة، وهذا من التشويش والمنازعة.
فقال عليه الصلاة والسلام: {إني أقول مالي أنازع القرآن، من كان قارئاً فليقرأ بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} ولا يزد على ذلك، وهذا هو الرأي الموجه وهو الذي دلت عليه -إن شاء الله- هذه الأدلة الواردة، وقد رجَّحه كثير من العلماء الآن في اللجنة الدائمة للإفتاء، وإن شاء الله أنه هو الموجَّه، وأما ابن تيمية فيعتذر له، وهو مشكور ومأجور في المسألة، ومن ذهب إلى رأي ابن تيمية؛ لأن عنده حديثاً فهو مأجورٌ أيضاً.(316/22)
المتابعة في الأفعال
متابعة الإمام: وهذه واجبة عند أهل العلم، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أما يخشى من يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار} وفي لفظ: {صورته صورة حمار}.
ودخل عمر رضي الله عنه وأرضاه والناس يصلون جماعة، وإذا برجل رفع رأسه قبل الإمام فضربه بالدرة وقال: [[لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت]] فالمتابعة واجبة، ونهى عن صور ثلاث مع الإمام:
الصورة الأولى: أن تسابقه بالحركات هذه حرام، إلا من عذر كأن تسمع صوتاً، فتظن أنه كبر فتركع قبله، وعليك أن تعود بقدر ما ركعت، وتركع بعده، فالمسابقة حرام.
الصورة الثانية: التخلف الكثير حرام، كأن يكون هو في السجود وأنت لا زلت تقرأ الفاتحة ما ركعت، أو يكون قد قام يقرأ وأنت في السجدة الأولى.
الصورة الثالثة: المسايرة والموافقة: يكبر فتكبر معه سيان، وترفع فترفع سيان، هذه كذلك محظورة ومنهي عنها، والمطلوب المتابعة.
فهي صور أربع: المسابقة، والتخلف، والموافقة، والمتابعة، فالمطلوب في الإسلام المتابعة والثلاث الصور منهي عنها ومحرمة.
فليعلم هذا.
هذه دلت عليها نصوص الحديث المتقدم، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم عن أنس: {يا أيها الناس! إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود} وقال البراء بن عازب: {ما كنا نضع رءوسنا على الأرض حتى يضع صلى الله عليه وسلم رأسه على الأرض ساجداً} فليعلم هذا.(316/23)
خاتمة فيها فوائد
من فاتته سجدة ثم لم يتابع الإمام فيها وتخلف بطلت هذه الركعة، وأفتى بهذا الإمام مالك، ويعيدها بعد الصلاة، ومن اضطربت عليه ركعة -مثلاً- فلم يقرأ الفاتحة، أو شوش عليه، أو فاتته ركعة فعليه أن يعديها بعد أن يسلم الإمام.
أما سكوت الإمام إذا قال: (ولا الضالين، آمين) فحديث السكتات نصه عن سمرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: {حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين: بعد أن يكبر تكبيرة الإحرام، وقبل أن يركع} سمرة بن جندب هو صحابي جليل دخل العراق رضي الله عنه وأرضاه، مر النبي صلى الله عليه وسلم بقوم من الصحابة، فقال: {إن أحدكم يحترق بالنار، أو يدخل النار} وهم صحابة كلهم، فكانوا كلهم خائفين، وأتاهم من الخوف ما لا يعلمه إلا الله، منهم سمرة هذا، فأتى يوم جمعة يتدفأ، وقيل: يتجمر من البخور فعثر رضي الله عنه ووقع في النار فأراد أن ينقلب فما استطاع فمات وهو محترق، هذا سمرة صاحب الحديث، قال: [[حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين: بعد تكبيرة الإحرام وقبل أن يركع]] فأُخبر عمران بن الحصين رضي الله عنه وأرضاه وهو معه في العراق، فقال: [[كذب سمرة , كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان يسكت]].
فردوا الخبر لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، قال: ائتوا إلى السيد الإمام الشهم، سيد القراء وسيد المسلمين أبي بن كعب -والعجيب أن عمران الذي في القصة وأُبي كلاهما مبتلى في الحياة، أما عمران فمرض ثلاثين سنة بالمرض ما رفع نفسه عن الفراش حتى صافحته الملائكة على فراشه كما يقول ابن حجر في الإصابة، وأما أبي بن كعب فمرض بالحمى ثلاثين سنة، حتى ما أبقت له -بإذن الله- خطيئة لا كبيرة ولا صغيرة- فردوا الخبر إلى أبي بن كعب، فقال: [[صدق سمرة صدق سمرة]] قال أهل العلم: هذا الحديث مضطرب.
والمضطرب هو: أن يختلف الألفاظ وفيه اضطراب سند واضطراب متن، وممن ضعف الحديث الشيخ الألباني جزاه الله خيراً، وكثير من أهل العلم ضعفوا هذا الحديث، وبعضهم صححه، والصحيح أنه مضطرب، لأنه لو كان صحيحاً لتداعت الهمم والعزائم على نقله للأمة.
إذاً فليس للإمام سكتات، وابن القيم يستحسن في زاد المعاد يقول: لو سكت ليقرأ المأموم لكان حسناً، لكن أين الدليل؟
أما السكتة بعد تكبيرة الإحرام فصحيحة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسكت، ولم نأخذ دليلها من هذا الحديث، لكن من حديث أبي هريرة كما في البخاري {كان صلى الله عليه وسلم إذا كبر تكبيرة الإحرام سكت هنيهة، أي: برهة من الزمن، قال: فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد} فكان يسكت عليه الصلاة والسلام، وهذا سوف يأتي معنا في أدعية الاستفتاح.
إذاً فلا سكوت واجب، ولكن لو سكت لكان أحسن، فيقرأ المأموم بعد أن يقول الإمام: ولا الضالين آمين، وبعض الناس تسمعه وأنت إمام يرتل الفاتحة، ويقرأ بعدها سورة، فيفوته السماع، فعليه أن يقرأ الفاتحة سريعاً ثم يستمع إلى الإمام.(316/24)
الأسئلة(316/25)
معنى إسباغ الوضوء على المكاره
السؤال
ما المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: {إسباغ الوضوء على المكاره}؟
الجواب
معنى إسباغ الوضوء على المكاره هي: أن تعتني بإسباغ الوضوء في أوقات تكون هذه الأوقات كريهة على النفس، من باب قوله صلى الله عليه وسلم: {حفت الجنة بالمكاره}.
والمكاره فسرت بأنها إما أن تكون في شدة برد وأنت مع ذلك تسبغ الوضوء؛ فهذا علامة إيمانك وصدقك، وعلامة إرادة الثواب من الله عز وجل؛ فإن الوضوء في جوٍ باردٍ وشتوي أعظم أجراً من الذي يتوضأ بالماء الحار، علم بذلك أن المكاره من هذه الجهة، وقيل: الجروح التي في الرجل، والتي لا تمنع من الوضوء، فالمكاره هي التي تكون شاقة على النفس، فتسبغ الوضوء فيها، وينصرف إلى البرد أكثر ما ينصرف.(316/26)
من لم يصلِ المغرب ودخل المسجد فوجدهم يُصلون العشاء
السؤال
دخلت المسجد وهم يصلون العشاء وأنا مسافر ولم يسبق لي أن صليت المغرب، فهل أدخل مع الجماعة في صلاة العشاء ثم أصلي المغرب؟ أم أصلي المغرب منفرداً وهم يصلون عشاء؟
الجواب
الصحيح أنك تدخل مع الناس في صلاة العشاء، فتصلي؛ لأجل الجماعة، ثم تصلي المغرب بعدها؛ أفتى بذلك ابن تيمية شيخ الإسلام ومعه جماعة من أهل العلم؛ لأنه لم يرد نص يمنع هذا، ولئلا تفوتك الجماعة فادخل معهم وصلِّ ثم صل، ولأن الترتيب ليس بواجب للفوائت، وللعذر؛ لأنه وجدت لك الجماعة.(316/27)
جواز تبرع أحد المؤمنين بالصلاة نيابة عن الإمام
السؤال
هل يجوز لأحد المأمومين أن يصلي بالناس إذا طلب منه الإمام الرسمي ذلك وليس بمريض؟
الجواب
نعم.
يجوز أن تتبرع إذا رأيت أنك أقرأ من الإمام وأنك أكثر إفادة للناس، وتحتسب أجرك على الله عز وجل، بشرط ألا يجد الإمام في نفسه حرجاً أو ضيقاً؛ لأن بعض الأئمة يستحي، فيقدمك وهو لا يريدك أن تتقدم، فأنت تعرف بالقرائن والسياقات والملامح.(316/28)
حكم الحركة في الصلاة
السؤال
ما حكم الحركة في الصلاة؟
الجواب
من الحركات ما إذا تتابعت أبطلت الصلاة، قيل: ثلاث فما فوق، أما الحركة لحاجة فلك أن تتحرك لحاجة، كأن يحكك شيء في رأسك أو في جسمك فلك أن تحك بهدوء؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام ورد عنه هذا، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه حمل أمامة بنت بنته صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة في الصحيحين، وورد في حديث سهل بن الحنظلة الصحيح عند أبي داود أنه التفت صلى الله عليه وسلم إلى الشعب؛ لإنه أرسل طليعة قوم، وورد أنه فتح الباب في الصلاة عليه الصلاة والسلام لـ عائشة، وورد عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: {اقتلوا الأسودين في الصلاة، الحية والعقرب} وابن عمر رضي الله عنه قتل الثعبان وهو يصلي، ثم عاد فأكمل صلاته.
فأنت إذا لمحت عقرباً أو حية -فإنه كما قال ابن مسعود: [[ما سالمناها منذ حاربناها]] فتذهب وتقتله إذا كان قريباً منك- ثم تعود لصلاتك، وحديث: {اقتلوا الأسودين} حديث صحيح، ومن الحركات في الصلاة أن يُسلِّم عليك مسلم فترد عليه بالإشارة، قيل لـ بلال: {كيف كان صلى الله عليه وسلم يرد عليكم إذا سلمتم عليه؟ قال: كان يبسط يده وهو يصلي هكذا} والحديث أصله في مسلم وهو عند الحاكم من حديث أسماء وسهيل وبلال.
ومن أراد أن يعود إليه فليعد إليه في بلوغ المرام لـ ابن حجر، وليعد إليه في مظانه من الكتب التي هي أصل في رواية الحديث.
أما التشميت فليس بوارد؛ لأنه عطس صحابي منهم فشمته معاوية بن الحكم السلمي كما في صحيح مسلم، قال: رحمك الله، قال: فالتفت إليَّ الناس، فقلت: ويلي ماذا فعلت؟! فلما سلّم عليه الصلاة والسلام دعاه، وقال له: {إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي الذكر والتسبيح وقراءة القرآن} فعلم أنه أنكر صلى الله عليه وسلم التشميت، ولم ينكر على ذاك لأنه حمد الله.(316/29)
اتخاذ محراب في المسجد
السؤال
هل كان المحراب موجوداً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف نوفق بين هذه وبين الأثر الوارد اتقوا مذابح اليهود؟
الجواب
الأثر ليس بصحيح، وسنده: ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.(316/30)
قطع الصلاة لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق
السؤال
هل يجوز قطع الصلاة لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق؟
الجواب
نعم.
إذا رأيت أعمى يتردّى، أو كاد أن يتردى فاقطع صلاتك واذهب إليه، أو رأيت طفلاً وأنت في الصلاة ورأيته يحترق فاذهب واقطع صلاتك، فعل ذلك السلف وما أنكر أحد من أهل العلم هذه المسألة.(316/31)
إطالة الصلاة مع كراهية الناس ذلك
السؤال
شخص يعترض على الإمام أنه يطول الصلاة، وبقية الناس يرغبون أن يطول القراءة، فما الحكم؟
الجواب
على الإمام أن يراعي هذا الشخص المنفرد وحده ولا يراعي الكثرة، يقول عليه الصلاة والسلام لـ عثمان بن أبي العاص، كما في سنن أبي داود، قال: قلت: يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، قال: {أنت إمامهم واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً} واقتد بأضعفهم، معناه: أضعف واحد في الجماعة، تقتدي به وتجعل صلاتك عليه، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا صلَّى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة} وفي رواية: {الكبير} فإذا كان فيهم ضعيف أو شيخ كبير، أو مريض فاقتد به واجعله هو قدوتك في الصلاة وإن أحب الناس التطويل؛ لأن الصلاة هي لهؤلاء حتى يستطيعون الحضور.
يقول عليه الصلاة والسلام: {إني لأدخل في صلاتي فأريد أن أطيلها؛ فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي} فهو يراعي حال المرأة عليه الصلاة والسلام، وحديث معاذ: {أفتان أنت يا معاذ! أفتان أنت يا معاذ}.(316/32)
اقتداء المأمومين بعضهم ببعض
السؤال
يسأل الأخ في مسألة من دخل وقد صلى الناس وقام يكمل هو والمأمومين معه، هل يقتدي بعضهم ببعض؟ أم يصلي كل واحد منهم وحده؟
الجواب
الصحيح في هذه المسألة أن يقتدوا بواحد منهم ويصلون ويكون لهم إماماً، حتى ولو لم ينووا، يعتبر واحد منهم إماماً لهم فيقتدون بصلاته، ولو اقتدوا به فلما ركع ثم علم أنهم يريدون الاقتداء به فجعل نفسه إماماً صحَّ لسببين:
أولاً: إن صلاة الجماعة تقدم على صلاة الفرادى.
الأمر الثاني: أنه لم يرد من الرسول عليه الصلاة والسلام أي مانع في هذه المسألة، وقد أفتى بها ابن تيمية في الفتاوى هذه المسألة، فيجعلونه إماماً ويصلون بصلاته.(316/33)
صلاة العشاء خلف من يصلي التراويح
السؤال
هل يجوز أن يصلي العشاء خلف من يصلي التراويح؟
الجواب
نعم.
صل العشاء خلف من يصلي التراويح مفترض بمتنفل؛ كما فعل معاذ رضي الله عنه وأرضاه.(316/34)
حكم الصلاة خلف من عنده مخالفة شرعية
السؤال
بعض الأئمة عندهم مخالفة شرعية، مثل حلق اللحية وتطويل الثوب، ومثلاً تناول المحرمات كالدخان فما الحكم؟
الجواب
إن كان إماماً راتباً فصلِّ وراءه؛ لأنه تحمل أمر الأمة، وقد حُمِّل المسئولية وهو ضامن؛ لأنه راتب يلحق بأهل المعاصي وأهل البدع، وهذه فتوى كثير من أهل العلم، وإن كان متبرعاً فلا تصل وراءه، خاصة حليق اللحية؛ لأنه متلبس بالمعصية؛ ولأن وجود أهل السنة وراءه كيف يصلون به وهو ظاهر المعصية فلا تصل وراءه.(316/35)
حكم التنكيس في القراءة
السؤال
ما حكم تنكيس القراءة في الصلاة؟
ذهب الأحناف إلى أن التنكيس ليس وارداً ولا جائزاً، والتنكيس هو: أن يقرأ في الركعة الأولى بآخر القرآن، مثلاً: سورة الناس، وفي الركعة الثانية يأتي من أعلى القرآن من عند سورة عم يتساءلون مثلاً، قالوا: لا يجوز؛ لأن المصحف وضعُه توقيفي على هذا الترتيب.
وذهب أهل العلم ومنهم الإمام البخاري وعلقه في الصحيح إلى أنه جائز وهو الصحيح لأسباب:
أولاً: لأن الترتيب ولو كان توقيفياً في المصحف فلا تتعلق به القراءة.
الأمر الثاني: أن هناك أدلة دلت على أنه قدم بعض السور وأخرت بعض السور، منها حديث حذيفة: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران} قالوا: على ترتيب مصحف ابن مسعود.
ثالثاً: حديث ابن مسعود: [[لقد أتيت المفصل الذي يقرأ به صلى الله عليه وسلم]] فكان يأتي بسورة من جزء عم في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية بسورة من تبارك.
ومنها حديث في البخاري في كتاب الصلاة تعليقاً إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه، قال البخاري: " وكان عمر رضي الله عنه يصلي بالناس، فقرأ في الأولى سورة الكهف، وفي الثانية سورة يوسف أو يونس "، فأين الكهف عن يونس ويوسف.
رابعاً: أثر عن بلال رضي الله عنه وأرضاه أنه جمع في الصلاة من سورٍ قدم بعضها على بعض، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: {كُل كثير طيب} فلك أن تنكس وأن تقرأ وأن تقدم، لكن الأولى على ترتيب المصحف، بشرط ألا تطيل الثانية أكثر من الأولى؛ لأن بعض الناس يأتي في الأولى فيقرأ سورة النصر، ويأتي في الثانية ويقرأ سورة ق، وهذا من قلة الفقه؛ لأنه لا بد في الركعة الأولى أن تكون أطول من الثانية، وأن تكون الركعة الثانية على النصف من الركعة الأولى.
لك أن تنكس، وأنا إنما ذكرت الأمر الجائز، ليس الجائز هو الأولى؛ لأن هناك فرقاً بين الأولى والجائز، فالجائز ما فُعل ليُبين أنه ليس مكروهاً ولا حراماً، والأولى ما فعل ليبين أنه يقدم على غيره، فالأولى أن ترتب، والجائز أن تنكس.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(316/36)
عوامل محبة الله
إن محبة الله غاية كل مسلم ولا تكون محبة الله للعبد إلا بأمور منها: قراءة القرآن، فمن قرأه وتدبره وفهم معانيه وعمل بما فيه؛ كان له عاملاً من عوامل المحبة الإلهية.
ومن عوامل المحبة قيام الليل، والخوف من الله، ومن سعى وأخلص ليكون محبوباً عند الله بلغه الله ذلك وجعله من أحبابه.(317/1)
كيف تكون محبة الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]
اللهم صلِّ وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل المذكور في التوراة والإنجيل.
اللهم صلِّ وسلم على معلم البشرية، وهادي الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الأبرار، أيها الأخيار: سلام الله عليكم ورحمته الله وبركاته.
وبعد:
ففي مجلسٍ من مجالس الإيمان، وفي روضة من رياض اليقين، نتعلم فيها كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، نعيش لحظة من لحظات العمر، بل من أغلى ساعات العمر، لأن العبد إذا لم يعش مثل هذه الساعات مات قلبه، والقلب إنما غذاؤه آيات الله وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وموضوعنا هذه الليلة: موضوع (عوامل محبة الله عز وجل).
كيف تحصل على محبة الله؟
كيف تنال رضوان الله تعالى؟
كيف تكون عبداً لله عز وجل؟
إن أعظم المطالب في الإسلام أن تكون حبيباً لله، وأن تكون قريباً منه، وأن تكون من أحبابه وأوليائه.
ولذلك جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الولاية قسمين: المقتصد والسابق بالخيرات، ففي الحديث المتفق عليه عند الشيخين البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يقول الله تبارك وتعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بأحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} وهذا الحديث هو حديث الولاية، شرحه الأئمة في كتبهم وهو من أعظم الأحاديث في الإسلام، وللإمام الشوكاني شرحٌ عجيب عليه في كتاب قطر الولي في شرح حديث الولي، وشيخ الإسلام ابن تيمية يتعرض لهذا الحديث ويقول كلاماً ما معناه: قسم الحديث المؤمنين إلى قسمين: مقتصدٌ وسابق بالخيرات، فالمقتصد: هو الذي يؤدي الفرائض، وهي أعظم ما يؤدى من حقوق الله عز وجل على العبد، والسابق بالخيرات: هو الذي يتقرب بالنوافل إلى الله تبارك وتعالى.
ولذلك يرى -رحمه الله رحمة واسعة- أن الآية التي تقول: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] يرى أن كل هذه الأصناف يدخلون الجنة، وعند الترمذي بسندٍ فيه نظر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ: {{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] قال: كل هؤلاء الأصناف في الجنة} وهذا الحديث من حديث عائشة رضي الله عنها في الترمذي كما أسلفت، والخلاف بين أهل العلم هل الأصناف الثلاثة الظالم والمقتصد والسابق يدخلون الجنة؟ والذي عليه التحقيق -إن شاء الله- من كلام الأئمة أنهم في الجنة، وهذه بشرى لنا لأننا نعد أنفسنا من الظالمين لأنفسهم.
قال مسروق لـ عائشة رضي الله عنها وأرضاها كما في طريق الهجرتين [[يا أماه! لأنها أمٌ للمؤمنين، من هم السابقون بالخيرات؟ قالت: السابقون بالخيرات من مضى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقتصدون من لحقوهم أو من تبعوهم بإحسان -أو كما قالت- والظالم لنفسه أنا وأنت]] وهذا تواضعٌ منها رضي الله عنها وأرضاها.(317/2)
عوامل محبة الله عز وجل
وعوامل محبة الله عز وجل تحصل بأمور، من أعظمها وأكثرها نفعاً، وأجلها فائدة وقربى وزلفى من الله عز وجل، القرآن الكريم، وهذه المناسبة مناسبة القرآن، ومع طلبة كتاب الله عز وجل، لأنه الكتاب العظيم الذي وصى به صلى الله عليه وسلم، فلا نجاح للأمة ولا فلاح إلا بتلاوته وتدبره، ويوم ترى الأمة تعرض عن القرآن، وتأخذ عوضاً عن القرآن يرميها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بالجدل، وعند أبي داود بسندٍ حسن: {ما أعرض قومٌ عن كتاب الله إلا أوتوا الجدل} وهو من حديث ابن عمرو مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم.
فتعيش الأمة سخيفة التقاويم والمبادئ والتعاليم يوم تعرض عن القرآن والسنة، تكون مجالسها عقيمة لا فائدة فيها ولا نفع، ولا عائد يعود عليها في دنياها ولا في أخراها، والأمة التي تتلقى ثقافتها من غير القرآن، أمةٌ لا عقل لها ولا تدبير ولا مجد، ولذلك بالاستقراء من حياة السلف الصالح والقرون المفضلة، لما عكفوا على الكتاب وعلى السنة كانوا أجدر العصور وأخلصها وأصدقها وأمجدها عبادةً وزهداً وإقبالاً على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ولما أعرضنا -إلا من رحم الله- عن القرآن ماتت قلوبنا، وفقدنا ذاك النور والإشعاع والإقبال على الله عز وجل.
والرسول صلى الله عليه وسلم أتى ليعلم القرآن: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل:92] فهو فمهمته أن يتلو القرآن على الناس، ولذلك منع في أول عصره، وحياته عليه الصلاة والسلام -الحياة الدعوية وحياة الرسالة- كتابة الحديث، لئلا يتشاغل الناس بالحديث عن القرآن.
فتعالوا نرى حياة الصحابة مع القرآن، كيف عاشوا مع القرآن؟
وكيف تألقوا مع القرآن؟
وكيف عملوا بالقرآن؟
وكيف حولوا حياتهم مع القرآن؟ في صحيح مسلم عن سعد بن هشام بن عامر رضي الله عنه وعن أبيه وجده، فأبوه وجده من الأنصار الذين شهدوا بدراً وأحداً.
تلك المكارم لاقعبان من لبن شيبا بماء فعاد بعد أبوالا
إذا افتخر المفتخر فليفتخر ببلائه في الإسلام، وبقدمه في خدمة الدين، وفي رفع لا إله إلا الله، أما الذي يفتخر بنسبه وأسرته وعراقته ومنصبه وجاهه ووظيفته، فهذه افتخارات فرعون وأبنائه وأذنابه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
دخل ثلاثة من الشباب على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، وهو الزاهد العابد وخليفة الإسلام، فقال: [[من أنتم؟ قال: أحدهم أنا ابن الأمير فلان بن فلان على الكوفة، فسكت عمر وأشاح بوجهه، وقال للآخر: من أنت؟ قال: أنا ابن فلان الذي كان في جيش الوليد قائداً، وقال الثالث: أنا ابن قتادة بن النعمان الذي حضر أحداً فقلعت عينه فسالت على خده فردها صلى الله عليه وسلم بيده، ثم قال الفتى:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
]]
فدمعت عينا عمر بن عبد العزيز وقال: حياك الله وبياك.
تلك المكارم لاقعبان من لبن شيبا بماء فعاد بعد أبوالا(317/3)
اهتمام النبي بالقرآن والحث عليه
قال هشام بن سعد بن عامر سألت عائشة رضي الله عنها وأرضاها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: {كان خلقه القرآن} وهي أبلغ كلمة بعد كلام الله عز وجل في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان قرآناً يمشي على الأرض، إذا قرأت القرآن فكأنه ترجمة حية للمصطفى صلى الله عليه وسلم، فالله يقول له في القرآن: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ويقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ويقول له: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] ويقول له: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
الرسول صلى الله عليه وسلم علم الناس كيف يعيشون بالأحاديث التي لا يقرأها المسلم إلا ويتحرك قلبه إلى المصحف، في صحيح مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه قال: يقول عليه الصلاة والسلام: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} وهذا من أبلغ الأحاديث في الإسلام، وإذا شفع لك القرآن فنعمة وقرة عينٍ لك، ويا سعادة قلبك ويا شجى روحك يوم تأتي والقرآن يقودك إلى الجنة، يشهد لك أنك أحللت حلاله وحرمت حرامه، ووقفت عند حدوده، وأنك آمنت، وعملت بمحكمه وآمنت بمشابهه.
وعن عثمان رضي الله عنه وأرضاه كما في البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه} إي والله! خيرنا وأمجدنا وأعزنا وأشرفنا من عاش مع القرآن، فهذه أوسمة أنزلها الله في الأرض، ليست أوسمة أهل التراب، ولا أهل المادة الذين يشرفون الإنسان بقدر جاهه أو منصبه أو ولده.
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام ينزل الناس على قدر قربهم من القرآن، فكان يكرمهم على قدر حفظهم لكتاب الله عز وجل وتلاوتهم له، وعلى قدر حفظهم لهذا الكنز الذي أنزله الله هدايةً للناس.
يقول أنس: {أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سريةً تغزو في سبيل الله} فهي خرجت ترفع لا إله إلا الله، يوم يقاتل الناس على الحطام، ويحاربون على الأعلام والأوسمة كان صلى الله عليه وسلم يقاتل لترتفع لا إله إلا الله.
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
فلما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم السرية: {سألهم: أيكم يحفظ القرآن؟ فسكتوا، قال: أيحفظ أحدكم شيئاً من القرآن؟ قال رجلٌ منهم: أنا يا رسول الله! قال: ماذا تحفظ؟ قال: أحفظ سورة البقرة، قال: اذهب فأنت أميرهم} هذه مؤهلات أهل الإسلام وأهل لا إله إلا الله، وأهل الإقبال على الله، ما دام أنك تحفظ سورة البقرة وهي في صدرك، وأنت تعيش معها وتعمل بمقتضاها، فأنت أمير الجيش.
ويقول جابر رضي الله عنه وأرضاه: {كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن القتلى يوم أحد أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير إلى رجلٍ أنه أكثر حفظاً قدمه تجاه القبلة، ثم وضع الناس بعده} ويوم أحد يومٌ جعله الله عز وجل من أيامه التي شهد الله فيه للصالحين من عباده، ويوم أحد يوم أهل القرآن هو ويوم اليمامة، والد جابر بن عبد الله عبد الله بن عمرو الأنصاري كان ممن يحفظ كثيراً من القرآن، فنفعه القرآن أيما نفع، فهو لم يتوسد القرآن، وما جعل القرآن تأكلاً أو طلباً للمعاش وللمنصب وللجاه في الناس؛ لأن من الناس -نعوذ بالله أن نكون منهم- من يقرأ ليقال: قارئ، وفي صحيح مسلم: {}.
أما عبد الله بن عمرو الأنصاري ما قرأ القرآن ليقال قارئ، لكن قرأ ليرفعه القرآن، وليقوده ويصلح حاله.
حضرت معركة أحد فاغتسل في الصباح ولبس أكفانه.
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
فلما لبس الأكفان سأل الله الشهادة، وأوصى ابنه جابر بالنساء وكن سبعاً، وحضر المعركة وقتل في أول الناس، لأنه صادق: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] فعلم الله أنه كان صادقاً، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من سأل الله الشهادة بصدقٍ بلَّغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه}.
وفي صحيح البخاري في كتاب الجهاد، وفي كتاب الجنائز ذكر البخاري (باب البكاء على الميت) ثم أورد طرفاً من القصة، فلما قتل أتى ابنه جابر يبكي عنده، قال: {فكان الناس ينهونني ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني}.
وفي تفسير قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171] قال عليه الصلاة والسلام: {يا جابر! أتدري ما فعل الله بأبيك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: والذي نفسي بيده! لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان فقال: تمن يا عبدي! قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمن، قال: أتمنى أن ترضى عني، فإني قد رضيت عنك، قال: إني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً، فجعل الله روحه وأرواح إخوانه من الشهداء في حواصل طير ترد الجنة، فتشرب من مائها وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش حتى يرث الله الأرض وما عليها}.(317/4)
أهل الله وأحباؤه هم أهل القرآن
وهم أهل القرآن، وهم أحباب الله وخاصته، كما في الحديث الذي رواه ابن مسعود، وابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه من هؤلاء الخواص، وما كل أحدٍ من الناس يوفق لمحبة الله عز وجل، فبعض الناس يسعى إلى بعض البشر، ليأخذ وينال محبتهم وتقديرهم، وينال رضاهم وإعجابهم، والله عز وجل هو الحبيب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي حبه ينفع ومدحه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ينفع، كما في الحديث أن وفد بني تميم أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وينادونه من وراء الحجرات ويقولون: مدحنا زينٌ وذمنا شين، فخرج عليه الصلاة والسلام قال: لا.
الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي مدحه زين وذمه شين، فهو إذا أحب العبد سبحانه قربه ونجاه، وجعله من الصلحاء في الدنيا والآخرة، وإذا كره العبد مقته وأذله وأخسأه وحقره، وطرده وأبعده فلا ينفعه الناس جميعاً.
ولذلك معاوية رضي الله عنه وأرضاه، عندما كتب إلى عائشة: [[أن اكتبي لي موعظة وأوجزي، فكتبت له أمَّا بَعْد: فإني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس}]].
وهذا معروف، فإن الحب لا ينزله في القلوب إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا ينشر القبول إلا الله.
ولذلك يقول البخاري في كتاب الرقاق: (باب المقة من الله) والمقة معناها: الحب، ثم أورد الحديث الصحيح الذي اتفق عليه الشيخان، واللفظ للبخاري: {إن الله عز وجل إذا أحب العبد نادى يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض} وبمفهوم المخالفة من يبغضه الله عز وجل يخبر جبريل أنه يبغضه فيبغضه جبريل ثم تبغضه الملائكة، ثم يوضع له البغض في الأرض.
وابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه من أحباب الله، يقول كما في الصحيحين: {قال لي عليه الصلاة والسلام: اقرأ عليَّ القرآن، قلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري} فـ ابن مسعود يستحي من معلم الخير، فهو تلميذٌ من تلاميذه وطالبٌ من طلابه، والقرآن إذا وفق بعبدٍ صالح بصوت محزن وبخشية كان له التأثير العجيب في النفوس، يؤثر ما لا تؤثره المحاضرات ولا الخطب ولا الأمسيات ولا كثرة الكلام، لأننا أصبنا بترف في الكلام، وبتخمة في المقال، فكم يتحدث وكم يتكلم، لكن التربية ليست التربية كما كانت في عهده صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يسمعهم القرآن غضاً طرياً كما أنزل.
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: {من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً فليقرأه على قراءة ابن أم عبد} وهذه البشارة التي ذهب بها أبو بكر إلى ابن مسعود وسابقه عمر بها إلى ذاك الرجل رضي الله عنه وعنهم جميعاً، قال عليه الصلاة والسلام: {اقرأ عليَّ القرآن} فيخجل ابن مسعود، لأنه حسنة من حسنات الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان راعي غنم؛ لكن الإسلام إذا علَّم الرجال جعل كل رجلٍ أمة من الأمم، ولذلك كان يقول أحد السلف أن ابن مسعود أمةً قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين، كان مولى لهذيل يرعى لهم الغنم، فلما علمه صلى الله عليه وسلم القرآن صار أعجوبةً في الإسلام، فبدأ يقرأ القرآن من سورة النساء، حتى بلغ قوله سبحانه تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] أقبلت دموعه صلى الله عليه وسلم، دموع التأثر والخشية، لأنه أعرف الناس وأعلمهم بالله، وأقرب الناس إلى الله.
ولذلك يقول البخاري في كتاب الإيمان، (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أعلمكم بالله) وهذا حديث له صلى الله عليه وسلم، يدل على أن معرفة القلب عمل، فهو يرد على المرجئة الذين يقولون: يكفي اعتقاد القلب عن العمل، فيرد عليهم بأن الاعتقاد يدخل في العمل، وأن الدين كله عملٌ، اعتقاد وقول وعملٌ.
فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم لما سمع هذه الآية وقال: {حسبك الآن، قال: ابن مسعود فنظرت فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام} وابن مسعود يتشرف ويذكر نعمة الله عز وجل عليه، فبماذا يذكر نعمة الله هل يقول: إنه من أسرة بني عبد شمس؟ أو من بني عبد الدار، أو بني هاشم؟ لا.
هل يتمدح بماله؟ لا مال.
هل يتمدح بجسمه؟ لا.
جسمه كالطائر، يوازي الإنسان وهو جالس.(317/5)
النبي صلى الله عليه وسلم يسمع القرآن من أصحابه
ولذلك أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه صعد شجرة ليأخذ منها سواكاً للرسول صلى الله عليه وسلم، فلما صعد الشجرة أخذت الرياح تلعب بالشجرة وعليها ابن مسعود على غصن، فأخذ الصحابة يتضاحكون من دقة ساقيه؟! قال صلى الله عليه وسلم: {أتضحكون من دقة ساقيه، والذي نفسي بيده! إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد}.
إن المسألة مسألة إيمان ويقين وإقبال على الله، ولو كانت المسألة مسألة أجسام، فإن المنافقين أعظم الناس أجساماً، لكن العجيب أن الله ذمهم بكبر الأجسام وبضخامة الأعضاء؛ {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:4].
لا بأس بالقوم من طولٍ ومن قصرٍ جسم البغال وأحلام العصافير
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] ولكن ليست ثابتة وإنما مسندة، فهي لا تعتمد على نفسها، فبعض الخشب يعتمد على نفسه، لكن هؤلاء من فشلهم وانهزامهم وتأخرهم وغبائهم وبلادتهم وخبثهم كالخشب التي لا تعتمد على نفسها مسندة: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4] ابن مسعود لم يملك من هذه الأمور والمعطيات شيئاً، بل ملك إيماناً وفي ذلك يقول: [[أخذت سبعين سورة من فيِّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينازعني فيها أحد، والله الذي لا إله إلا هو، لو أعلم أن رجلاً تبلغه الإبل يعلم أكثر مني في القرآن لركبت إليه]].
فهذا ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه الذي قرأ سورة الرحمن في منتدى مكة، المنتدى الجاهل الكافر المشرك يوم أتى ليسمعهم القرآن فضربوه حتى أدموه، وأخذ أبو جهل يعصر أذن ذلك الداعية ابن مسعود، ويلطمه على وجهه وهو لا يسكت، بل يرفع صوته بسورة الرحمن، ولكن أنصفه الله من الفاجر أبي جهل، فهو الذي احتز رأسه في معركة بدر وأتى يسحبه بأذنه، فيقول صلى الله عليه وسلم: {هذه بتلك}.
الرسول عليه الصلاة والسلام كان أحلى لياليه أن يعيش مع القرآن، وهكذا الصحابة أيضاً، لم تشغلهم المؤلفات ولا الردود والمقولات، ولا الجرائد والمجلات، بل كان الكتاب الوحيد الذي يتشاغلون به هو القرآن، فإذا دخلت بيت المهاجري والأنصاري وجدت القرآن معلقاً في البيت ووجدت السيف بجانبه، سيف يفتح البلاد وقرآناً يفتح القلوب.
ولذلك في حديث أبي موسى أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج يستمع قراءة أبي موسى وكان قد أوتي مزماراً من مزامير آل داود، أعجوبة في الصوت، يسري صوته إلى القلوب فيخاطب الأرواح مباشرة، فخرج صلى الله عليه وسلم ووضع جسمه على مشرفة على المسجد، ومسجده قريبٌ من بيته صلى الله عليه وسلم، فأخذ أبو موسى يقرأ، وفي الصباح قال عليه الصلاة والسلام: {لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود} ولقي أبو موسى فأخبره، فقال: {لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود، قال: يا رسول الله! أئنك كنت تستمع لي؟ قال: إيه والذي نفسي بيده، قال: -وهذه رواية صحيحة-: والذي نفسي بيده، لو علمت أنك كنت تستمع لي لحبرته لك تحبيراً} يعني: جودته وحسنته حتى يكون أكثر تأثيراً وإيصالاً وأكثر ذلك عجباً.
والقرآن كله عجب: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن:1] يقول سيد قطب رحمه الله: عجباً حتى الجن يتذوقون القرآن وهو ليس بلغتهم! ولذلك قالوا كما في سورة الأحقاف، كما حكى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاق:29 - 31] فهؤلاء مؤمنو الجن، قد تفوقوا على كثيرٍ من الناس الذين لا يفقهون ولا يعلمون ولا يفهمون: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:31 - 32].
وكان هذا في وادي نخلة يوم عاش صلى الله عليه وسلم ليلة القرآن، والحديث ولو أن بعض أهل العلم، قالوا: معضل في سنده، لما عاد صلى الله عليه وسلم ودعا أهل الطائف فكذبوه وآذوه وشتموه، وليتهم يوم ردوه تركوه، لكن رموه بالحجارة، فلما عاد نزل في وادي نخلة بين الطائف ومكة، وشكى صلى الله عليه وسلم حاله إلى الحي القيوم الذي ترتفع إليه الشكوى، ثم قام عليه الصلاة والسلام يصلي، فأتى الجن -جن نصيبين كما عند ابن كثير وغيره- فلما استمعوا القرآن أسلموا وآمنوا: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] ثم رجعوا منذرين إلى قومهم رافعين لا إله إلا الله محمد رسول الله.(317/6)
حال القلب الخالي من القرآن
وكانت منازل الصحابة كما أسلفت بقدر قربهم من هذا الكتاب، وبقدر حفظهم للقرآن، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الذي ليس في صدره شيء من القرآن كالبيت الخرب} وهذا الحديث عند الترمذي، والبيت الخرب الذي تسكنه الغربان والحيات والعقارب وكلما هب ودب وهو أشبه بالقلب الذي لا يسكنه القرآن، ففيه نفاق ووساوس وخطرات وواردات وعشقٌ ووله، وأغانٍ ماجنات، ونظرات سيئات، ومطاردة للداعرين والداعرات، فهذا هو القلب الذي أخفق من لا إله إلا الله، ولم يسكنه القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يبشر أصحابه بمنازلهم، وبقربهم من القرآن.(317/7)
من حملة القرآن أبي بن كعب
فسيد القراء أبي بن كعب من الأنصار رضي الله عنه وأرضاه، في سيرته وفي سيرة هؤلاء هدى ونور بإذن الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] ويذكر عنه بعض المترجمين أنه مرض بالحمى ثلاثين سنة؛ لأنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: {يا رسول الله! هل يكفر عنا ما يصيبنا من المصائب، قال: نعم.
حتى الشوكة يشاكها العبد} ومصداق هذا حديث صحيح: {ما يصيب المؤمن من هم ولا نصبٍ ولا وصبٍ ولا غمٍ ولا حزنٍ ولا مرض حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه} فسأل الله أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه أن يكفر عنه بهذه الحمى، فمكث ثلاثين سنة، لكن ما عطلته عن حجٍ ولا عمرة ولا عن فريضة ولا جهاد.
يقول له صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث في صحيح مسلم: {يا أبي! إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [البينة:1]} فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من فوق سبع سموات يسمي أُبياً باسمه! وهو صحابي من الصحابة، فأي شرف لهذا الإنسان! تصور بنفسك أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سماك في الملأ الأعلى، لكن أُبياً سماه الله، قال: {يا رسول الله! أوسماني الله باسمي في الملأ الأعلى؟ قال: إي والذي نفسي بيده، فدمعت عينا أبي وبكى وقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم سورة البينة}.
وفي صحيح مسلم أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يسأل أبياً ليمتحن قربه من القرآن، وكثرة محفوظاته ومعرفته وفطنته، فالذي علمه هو صلى الله عليه وسلم، قال: {يا أبا المنذر! أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فأخذ صلى الله عليه وسلم كفه وضرب في صدر أبي وقال: ليهنك العلم أبا المنذر} إيه والله هذا العلم الذي يغبط عليه، هذا العلم النافع الذي لم يُشَبْ ولم يَخلَق، ولم يمزج، فكان سيد القراء رضي الله عنه وأرضاه.
صلى الرسول صلى الله عليه وسلم -وهذا دليلٌ لأهل الفقه من الحنابلة وغيرهم بالفتح على الإمام في الصلاة إذا أخطأ أو تجاوز آية- صلى وتجاوز آية، وهو صلى الله عليه وسلم ما ضن بشيءٍ من القرآن، وما فاته شيءٌ منه، بل نشهد الله عز وجل، ثم نشهد ملائكته والناس أنه قد أدى الرسالة كاملةً، ما نقص حرفاً واحداً وما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً ولا سوء إلا حذرنا منه، فتجاوز عليه الصلاة والسلام آية، فلما سلم، قال الناس: {يا رسول الله! هل نسخت تلك الآية؟ قال: لا.
قالوا: ما قرأتها يا رسول الله، قال: أين أبا المنذر؟ -فالرسول صلى الله عليه وسلم يسأل أهل التخصصات- قال: لبيك يا رسول الله وسعديك! قال: أكما يقولون؟ قال: نعم.
قال: لماذا لم تفتح عليَّ في الصلاة، قال: ظننت أنها نسخت}
فالرسول صلى الله عليه وسلم بلَّغ القرآن كاملاً.
لكن الشاهد: كيف عاش الصحابة مع القرآن؟ وكيف تأثروا بالقرآن؟ فعند ابن أبي حاتم في تفسيره، في سورة الغاشية، أن الرسول عليه الصلاة والسلام مر بامرأة تقرأ في جنح الليل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فوضع صلى الله عليه وسلم رأسه على صائر الباب وهي تردد ولا تدري أنه يستمع لقراءتها، وتقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] وتبكي، فأخذ صلى الله عليه وسلم يبكي ويقول: {نعم أتاني نعم أتاني} حديث الغاشية وحديث يوم القيامة وهو حديث عجيب، ورهيب، ومرعب، يقول الله: {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية:1] فيجيب ويقول: {نعم أتاني}.(317/8)
تأثر الصحابة بالقرآن
وكان فضل الصحابة كما أسلفت على قدر قربهم من القرآن، وكانوا أكثر الناس تأثراً بالقرآن وحياةً مع القرآن، ذكر ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة عمر أنه مرض من آية حتى عاده الصحابة منها، وفي بعض الروايات أن هذه الآية هي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24 - 26] فكتاب الله عز وجل مطالبه عظيمة، ولا يمكن أن يحب العبد الله عز وجل حتى يحب القرآن، ولذلك قال ابن مسعود: [[لا يسأل أحدكم عن حبه لله ولكن ليسأل نفسه عن حبه للقرآن]] فأنت كلما أحببت القرآن، كلما أحببت الله، وبقدر حبك للقرآن تكون محبتك لله تعالى.
وفي الصحيح أن أسيد بن حضير رضي الله وأرضاه، وهو محضر الكتائب وأحد الأعلام من بني عبد الأشهل، قام يقرأ سورة الكهف، فأخذت فرسه تجول في رباطها وفي آخيتها، فقطع صلاته وأخذ ابنه يحيى؛ لأن الفرس كادت أن تطأه بحوافرها ثم نظر فإذا ظلة على رأسه، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {وقد رأيتها؟ قال: نعم.
قال: والذي نفسي بيده، إنها الملائكة نزلت لسماع قراءتك، ولو قرأت لأصبحت الملائكة يراها الناس لا تتوارى عنهم}.
وهذا حديث في الصحيح بنحو هذا اللفظ.
ليل الصحابة كان مع القرآن ولما ذهبت ليالينا بغير القرآن في السمر الذي لا ينفع، والقيل والقال، وفي الجدل المقيت الذي لا يقربنا من الله، والذي لا ينفعنا في الدنيا ولا في الآخرة إلا من رحم الله، وهذا عند الأخيار، أما عند الأشرار فنعوذ بالله من ذلك، فهي ليالٍ حمراء فلا تسأل عنها وليالي معصية، يشهدون الله على فجورهم وخبثهم وغلتهم وقلتهم، ثم يمضي عليهم الليل الذي كان من أسعد الأوقات عند السلف.
وقليلٌ من يعيش منا مع القرآن، وقليل منا من يتأثر بالقرآن ويحيي ليله بتلاوته.
فكان عليه الصلاة والسلام لا يفوته ورده من الليل مع القرآن، وقد سئلت عائشة عن قراءته صلى الله عليه وسلم قالت: {ربما أسر وربما جهر} كل ذلك يفعله عليه الصلاة والسلام.
وفي تلك الليلة التي رواها ابن عباس وهي في صحيح البخاري قال: {بت عند خالتي ميمونة فأتى عليه الصلاة والسلام فدخل البيت بعد صلاة العشاء، ونمت في عرض الوسادة، قال: نام الغُليم؟ قالت: نام، فأتى صلى الله عليه وسلم إلى الفراش فدعا وذكر الله ثم نام، قال: حتى سمعت غطيطه، وعند البخاري خطيطه، والخطيطة صوت يحدثه النائم إذا استغرق في النوم -ثم استيقظ صلى الله عليه وسلم -وما نام ابن عباس - فلما استيقظ عليه الصلاة والسلام أخذ يعرك النوم من عينه ويقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191] حتى أكمل العشر الآيات، ثم قام عليه الصلاة والسلام فخرج خارج البيت فلحقه ابن عباس بماء في إناء، ووضعه عند الباب، وعاد صلى الله عليه وسلم وقال: من وضع لي هذا الماء؟ -يسائل نفسه- وابن عباس يحفظ الكلمات التي قيلت في تلك الليلة- ثم قال عليه الصلاة والسلام: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} فكانت هذه أبرك ليلة من ليالي ابن عباس رضي الله عنه وعن أبيه وأرضاهما.
وأتى صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة فقال: {اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض وما فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض وما فيهن، ولك الحمد أنت ملك الأرض والسموات، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت} ثم قام يصلي عليه الصلاة والسلام فأتى ابن عباس يصلي معه صلى الله عليه وسلم في ليلة طويلة، وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالقرآن طويلاً.
يقول ابن مسعود: قام صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي فقمت معه فقرأ حتى هممت بأمر سوء، قالوا: ما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأن أدعه.
وقال حذيفة: {صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فافتتح سورة البقرة، قلت: يركع عند المائة، فقرأ، قلت: يختمها ثم يركع، فقرأ وافتتح النساء فقرأها فقلت: يختمها فافتتح سورة آل عمران، فقرأها، إذا مر بآية تسبيح سبح، أو آية رحمة سأل أو آية عذاب تعوذ} فهذه صلاته صلى الله عليه وسلم.(317/9)
عوامل القرب من الله
ومن الأسباب التي تقرب العبد من الله تبارك وتعالى:(317/10)
تلاوة القرآن
السبب الأول: تلاوة القرآن والعيش في ظلاله وتدبره وتكراره والعمل به.(317/11)
التجرد من الدنيا
والسبب الثاني: التجرد عن الدنيا والزهد فيها، وهذا دل عليه حديث ابن ماجة عن سهل بن سعد قال: {أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، قال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس} فمن أعظم ما يقرب العبد إلى الله عز وجل أن يخرج حب الدنيا من قلبه، فإذا أخرج حب الدنيا من قلبه وأسكن حب الله في قلبه أحبه الله عز وجل، وحب الله لا ينال إلا بأن تكون عبداً لله.
والعبودية معناها: الخضوع والذل والاستسلام والحب له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن الحب وحده لا يكفي، فمن عبد الله بالحب وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف فهو حروري، إلى ذاك التقسيم.
لكن لابد أن تجتمع كل هذه الأصناف، لتكون عبداً لله، ولذلك شرف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذكر العبودية، لأنه أحب الناس إلى الله وأذل الناس لله، وأخشاهم لله، ولذلك قال الله له في موقف التشريف بالإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] وقال له في الإنذار: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] وقال له في الإنزال {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] وميزة السلف الصالح علينا في هذا الجانب أنهم تجردوا من الدنيا، وأن الدنيا كانت في أيديهم ولم تكن في قلوبهم، ولذلك أحبهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وكان عليه الصلاة والسلام يحذرهم، بل يحذرنا نحن كذلك من محبة الدنيا ومن مغبة جمعها وعبادتها، لأن من الناس من يعبد الدرهم والدينار، ومنهم من يعبد الخميصة والخميلة، ومنهم من يعبد الوظيفة والمنصب، قال عليه الصلاة والسلام: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش} وذلك لأنه عبد: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] فكل من أحب شيئاً غير الله واستسلم واستخدم في حبه فقد عبده من دون الله، فإن العبادة هي الحب، فكيف يعبد الله أحد لا يحب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟!(317/12)
نماذج من السلف
ومن نماذج السلف الصالح التي عاشوها في الحب والتجرد من الدنيا، ما ذكر أهل السير في ترجمة محمد بن واسع الأسدي، وهو من التابعين الكبار الذي جمعوا بين العلم والزهد والعبادة، وقد خرج مع قتيبة بن مسلم في الشمال تجاه كابل، التي سلبت من المسلمين لما ماتت في قلوبهم لا إله إلا الله، واستولى عليها الملحد المستعمر، لما ماتت جذوة القرآن في القلوب، ووصلوا إلى تلك المشارف، ولما صف قتيبة بن مسلم الجيش وقابله الكفار قال قبل المعركة: التمسوا لي محمد بن واسع العابد الزاهد، فأتوا وإذا محمد بن واسع قد توضأ واتكأ على رمحه، ورفع سبابته إلى السماء يتمتم ويدعو الحي القيوم بالنصر: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] فعادوا وأخبروا قتيبة بن مسلم فتهلل وجهه وقال: والله الذي لا إله إلا هو! لأصبع محمد بن واسع خيرٌ عندي من مائة ألف سيفٍ شهير ومائة ألف بطل طرير، وبدأت المعركة ونصر الله المسلمين، وانتهت المعركة وقدمت الغنائم من الذهب والفضة إلى قتيبة بن مسلم، وكان يرى الكُتُل من الذهب والفضة والجواهر والكنوز تقدم إليه، فكان يقول للقواد: أترون أن أحداً من الناس يعطى هذا فيرده؟ قالوا: لا.
ما نرى أحداً من الناس يعطى شيئاً من الذهب والفضة ثم يرده، قال: والله لأرينكم رجالاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذهب والفضة عندهم أقل أو أرخص من التراب، فقال: عليَّ بـ محمد بن واسع، فذهبوا إليه وهو يصلي في خيمته، فقالوا: يا محمد بن واسع! إن قتيبه يدعوك، قال: مالي ولـ قتيبة، ما خرجت إلا لوجه الله عز وجل، فليتركني قتيبة أحمد الله عز وجل على ما أعطى من النصر، قالوا: أمرك الأمير؛ فأتى إلى قتيبة قال: خذ هذا يا محمد بن واسع! كتلة من الذهب تقدر بآلاف الدراهم والدنانير، وظن قتيبة أنه لا يأخذها فحملها معه، فتغير وجه قتيبة وقال في نفسه: اللهم لا تخيب ظني في محمد بن واسع، وأرسل بعض الجنود يبحثون وراءه أين يضع هذا المال، ولما خرج من الخيمة عرض له مسكين يطلب الناس في الجيش، وسأل محمد بن واسع فأعطاه كل الذهب، وذهب إلى خيمته.
فاسترد قتيبة هذا المال بشيءٍ من الدراهم من المسكين وقال لوزرائه وقواده: أما أريتكم أن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يرون الذهب والفضة كالتراب!
فأين ذلك الجيل؟! أين تربية المساجد التي تركت في الأمة تربيةً بينةً ظاهرةً شاهرة؟
أين هذا الجيل الفريد الذي تربى على مائدة القرآن، إننا نشكو حالنا إلى الله عز وجل يوم سكنت محبة الدنيا في قلوبنا، فأصبحت شغلنا الشاغل، فقد أخذت أوقاتنا ومجالسنا وسمرنا وأنديتنا ومسائلنا وبحوثنا حتى كأننا خلقنا للدنيا، والله عز وجل خلقنا لهدفٍ شريف، فخلقنا وبعثنا أمة لتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.(317/13)
ربعي يمثل المسسلمين
وقصة ربعي تتكرر كثيراً، وهي قصة لا تمل.
كرر العلم يا جميل المحيا وتدبره فالمكرر أحلى
فهي كلما كررت كانت هي وأمثالها دروساً لا تنسى للأمة.
فهذا رستم قائد كسرى أنوشروان يرسل في القادسية إلى سعد بن أبي وقاص، خال رسول صلى الله عليه وسلم، وسعد هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو الذي دمر إمبراطورية كسرى، وداس جماجم الطغاة بقدميه رضي الله عنه وأرضاه، وسعد هو الذي قال له صلى الله عليه وسلم: {اللهم أجب دعوته وسدد رميته} وهو الذي يقول عنه: علي رضي الله عنه وأرضاه كما في البخاري [[ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي أحداً بأبيه وأمه إلا سعد بن أبي وقاص، فإنه كان يقول له يوم أحد: {ارم سعد فداك أبي وأمي}]] وهذه القصة في سير أعلام النبلاء في ترجمة سعد.
ولما حضرته الوفاة بكت ابنته عائشة فقال: [[ابكي أو لا تبكي؛ فوالله الذي لا إله إلا هو! إني من أهل الجنة]] قال الذهبي معلقاً: صدقت وهنيئاً لك، ونشهد بالله أنه من أهل الجنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة، وكان يقول: {يا رسول الله! ادع الله أن أكون مجاب الدعوة، قال: يا سعد! أطب مطعمك تستجب دعوتك} فالسبب العظيم هو إطابة المطعم، فلا يأكل ربا، ولا رشوة، ولا غشاً، ولا حيلة، فيكون نظيف المدخل والمخرج والملبس، فأطاب مطعمه فأجاب الله دعوته.
ولذلك لا بأس أن نسترسل مع سعد وأمثاله الأخيار، في كتاب الصلاة من صحيح البخاري يقول: باب هل يسمى مسجد بني فلان.
أي: هل لك أن تسمي المسجد بآل فلان؟ ثم أتى بالحديث الذي يقول: سابق الرسول صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي ضمرت والتي لم تضمر، وكانت الخيل التي لم تضمر إلى مسجد بني زريق، ثم أتى بحديث سعد، أنه رضي الله عنه وأرضاه كان أميراً على أهل الكوفة من قبل عمر، وأهل الكوفة قومٌ مشاغبون، وقومٌ إرهابيون، وثوار دائماً، ينقمون على كل أميرٍ لهم ولو كان من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
اختار عمر رضي الله عنه وأرضاه سعد بن أبي وقاص الأمير المؤتمن، فشكوه في كل شيء حتى في الصلاة، وفي مسند أحمد أنهم شكوه وقالوا: إنه لا يجيد أن يصلي، فيقول سعد: يا عجباً لبني أسد فوالله الذي لا إله إلا هو إني أدخلتهم الإسلام بسيفي هذا وأصبحوا يعيرونني أني لا أحسن الصلاة؟!! فأرسل عمر، محمد بن مسلمة ومعه أحد الصحابة، وقال: [[سل أهل الكوفة ماذا ينقمون على سعد]] فذهبوا من مسجدٍ إلى مسجد ليسألون عن عدل سعد، وعن صدقه ووفائه، وعبادته، فكلهم يثني خيراً.
حتى وصلوا إلى مسجد بني عبس، وهذا الشاهد من القصة للبخاري فدخلوا المسجد فسألوا عنه فأثنوا خيراً إلا شيخاً أضله الله على علم، قام وقال: أما إن سألتم عن سعد بن أبي وقاص فوالله إنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، ولا يخرج مع السرية، فقال سعد وهو جالس: [[اللهم إن كان قام رياءً وسمعة فأطل عمره وأطل فقره وعرضه للفتن]] فطال عمره وطال فقره، قال عبد الملك أحد رجال البخاري في السند: فوالله الذي لا إله إلا هو، لقد رأيته في السكك وهو شيخٌ كبير سقط حاجباه على عينه يتعرض للبنات يغمزهن ويقول: شيخٌ مفتون أصابتني دعوة سعد.
الشاهد أن سعداً أرسل ربعي بن عامر إلى رستم ليفاوضه فأتى ربعي إلى رستم في القصة المعروفة التي اشتهرت وتكررت كثيراً، فقال رستم: ماذا خرج بكم؟ هل انتهت عليكم النفقة؟ لأن كسرى كان ينفق على العرب البدو، وكان يعطيهم نفقة، فيكفون أذاهم في الجزيرة، قال: انتهت عليكم النفقة وتأخرت عليكم فتريدون قتالنا؟ سوف نعطيكم النفقة وعودوا من حيث جئتم، فقال ربعي: [[لا.
إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].
وبعد ثلاثة أيام أو أربعة دخل سعد المدائن باثنين وثلاثين ألفاً من الجيش ودكدك الذين كفروا: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45] لما رأى سعد رضي الله عنه وأرضاه حصون وقصور كسرى قال: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:25 - 29].(317/14)
رجوع الناس لدينهم
الدنيا إذا لم تقربك من الله عز وجل فهي بُعْدٌ لك من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ونحن بحاجة إلى تكرار الخطب والمواعظ والدروس والتربية والتوجيه التي تعمل على رد الناس إلى الله، لأنه وجد من الناس من أصبح عبداً للدنيا، وقته كله مع الدنيا حتى لا يستطيع حضور مجالس العلم والدعوة، ولا يتفرغ للذكر وتلاوة القرآن بسبب الدنيا، فنحن بحاجة إلى تكرار الدرس دائماً وأبداً لعل القلوب أن تصحو من سباتها وغفلتها، يقول ابن عمر رضي الله عنهما كما في البخاري في كتاب الرقاق: {أخذ صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل}.
دخل سالم بن عبد الله الحرم وحذاؤه في يده، وهو عالم المسلمين، وعالم الدنيا، وأحد الفقهاء السبعة في المدينة، دخل يطوف بالبيت معتمراً، فدخل هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي معه حرسه وجنوده، فلما رأى سالماً عرف أنه عالم المسلمين فأخذ بيده وقال: يا سالم! هل لك إليَّ حاجة؟ فاحمر وجه سالم وقال: أما تستحي؟! قال: ولم؟ قال: تقول لي هذا في بيت الله، فسكت، فلما انتهى تصدى له خارج الحرم هشام بن عبد الملك وأعاد عليه الكلام، فقال سالم: أمن حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: من حوائج الدنيا فإني لا أملك الآخرة، قال: أما الدنيا فوالله الذي لا إله إلا هو، ما سألتها ممن يملكها فكيف أسألها منك؟!
هذا هو سالم بن عبد الله الذي ما سأل الدنيا من الله عز وجل فكيف يسألها من الناس، والتجرد معناه أن تأخذ ما ينفعك من الدنيا وألا تشغلك بل تكون عوناً لك على طاعة الله.
ابن تيمية يعرِّف الزهد كما في المجلد العاشر من فتاويه، وهو أحسن تعريف عند أهل السنة والجماعة للزهد، لأن بعض الناس يعرف الزهد أن تتخلى عن الدنيا، وهذا ليس بصحيح، وبعضهم يقول: أن تزهد في الحرام وهو تعريف نسب حتى للإمام أحمد، إذا كان الزهد هو الزهد في الحرام لكان أكثر الناس زهاداً.
فيقول ابن تيمية في تعريف الزهد: "الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة" وأما ما ينفع فإن الزهد فيه ليس بصحيح، أما ما لا ينفعك ولا يقربك من الله فليس بحق وليس بمطلوب.(317/15)
قيام الليل
العامل الثالث من العوامل التي تقرب من الله عز وجل: قيام الليل، ونشكو حالنا إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في قيام الليل، وقد وصف الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عباده فقال: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن مؤمني أهل الكتاب: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113] فمدحهم بالتلاوة في آناء الليل، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يحث الناس على قيام الليل.
وقيام الليل يحصل ولو بركعتين قبل الفجر، ولو بما يقارب النصف أو الثلث ساعة لتكون من الذاكرين الله في تلك الساعة، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال: {ينزل ربنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل، فيقول: هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من داعٍ فأجيبه؟} نزولاً يليق بجلاله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لا نكيفه أو نمثله، ولا نشبهه أو نعطله.
وهذه الساعة تفوت كثيراً من الناس، ومن فاتت عنه فهو محروم أو مخذول إلا من مرض أو سهر لخيرٍ لابد منه أو سفر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {يا عبدالله -يقصد ابن عمر - لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل ثم ترك قيام الليل} وهذا الحديث في الصحيح، يقول ابن عمر: {كان الصحابة إذا رأى أحدهم رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتمنيت أن أرى رؤيا لأقصها على الرسول صلى الله عليه وسلم -وهذا حديث صحيح- قال: وكنت شاباً أعزب أنام في المسجد لا أهل لي، قال: فنمت في المسجد فرأيت فيما يرى النائم أن رجلان أخذا بيدي وذهبا بي إلى بئرٍ مطوية فأشرفت عليها فخفت، فقالا لي: لا ترع لا ترع -أو لم ترع لم ترع، ضبطت كذلك قال: ثم أخذت قطعة من الإستبرق أو الحرير لا أشير بها إلى مكان في الروضة الخضراء إلا طارت بي، فلما أصبحت أخبرت أختي حفصة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصتها على الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: نِعْم عبد الله لو كان يقوم من الليل} قال نافع مولاه: [[فكان ابن عمر لا ينام من الليل إلا قليلاً وكان إذا سافر يصليثم يقول: يا نافع! انظر هل طلع الفجر، فإن قال: لا.
استمر في الصلاة، وإن قال طلع أوتر بركعةٍ ثم استقبل صلاة الفجر]].(317/16)
الأمور التي تعين على قيام الليل
والأمور التي تعين على قيام الليل ذكرها أهل العلم، منهم الغزالي في الإحياء ومنها: قلة المعاصي في النهار، فإنه لا يقيد العبد إلا الخطايا والذنوب، قال رجل للحسن: يا أبا سعيد! لا أستطيع قيام الليل؟! قال: [[قيدتك خطيئتك ورب الكعبة]] ومنها: الورد الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وفاطمة وهو تسبيح الله ثلاثاً وثلاثين، والتحميد ثلاثاً وثلاثين، وتكبير أربعاً وثلاثين وهو في الترمذي، يقول علي: [[طرقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وفاطمة ليلاً، فقام بيننا حتى وجدت برد قدميه، فقال عليه الصلاة والسلام: {ألا أدلكما على خير لكما من خادم؟ -لأن فاطمة سألت من رسول الله صلى الله عليه وسلم خادماً من السبي- قالا: بلى.
قال: إذا أخذتما مضجعكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادم} ولذلك يرون أن مناسبة الخادم للحديث أن هذا قوة تغني الإنسان في جسمه وبدنه عن مثل الخادم، ومن كررها كانت عوناً له على قيام الليل إن شاء الله.
ومن الأسباب كذلك: ألا يسهر العبد؛ لأن سهر كثير من الناس الآن في غير مرضاة الله، وكيف يقوم الليل من يسهر إلى الثانية عشرة والواحدة، وهذا الوقت هو وقت قيام السلف الصالح، ونحن نبدأ فيه النوم.
ومن الأسباب التي تعين على قيام الليل: القيلولة في النهار لتستعين بها على القيام ومرضاة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فقيام الليل سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وشعيرةٌ إسلامية لما فاتتنا فاتتنا حرارة الإيمان ومحاسبة النفس والإقبال على الله عز وجل.(317/17)
التفكر في آيات الله
ومن الأسباب التي تعين على محبته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: التفكر في آيات الله، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191] فكلما نظرت في شيء دلك على الله.
وفي كل شيءٍ له آية تدل على أنه واحدٌ
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
ففي كل لمحة ونظرة وشجرة وفي كل زهرةٍ وجبلٍ، وفي كل تل آية من آيات الله، لكننا لا نتفكر، فكم من آية نمر عليها ولا نعتبر، إلا من وفقه الله في التفكر: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20] فالتفكر من أعظم ما يقودك إلى عبادة الله عز وجل، وهذه عبادة الصالحين الذين يتفكرون في الآيات البينات، ويتفكرون في المخلوقات، وفي عجيب صنع رب الأرض والسماوات، فيعودون بإيمانٍ ويقين، وحبذا لو جعلنا رحلاتنا ونزهاتنا الكثيرة في التفكر في آيات الله، لا يمر الإنسان بالشجرة إلا وكأنها تكلمه وتدله على الله الذي لا إله إلا هو في كل شيء، فهذا عاملٌ كبير ينبغي ألا يفوت المؤمن، ولابد من استصحابه دائماً وأبداً، ومن أحسن ما يتفكر فيه العبد ويتدبر آيات الله الكونية والشرعية.
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
والنحل قل للنحل يا طير البوادي من الذي بالشهد قد حلاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله: كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
فالحمد لله العظيم لذاته حمداً وليس لواحدٍ إلاكا
فكل آية تدل على الله عز وجل، فلينتبه لها المسلم.(317/18)
الأسئلة(317/19)
حكم من يرد الحديث حتى يوافقه العلم
السؤال
ما هو القول في إنسان يدعي أنه مسلم، وإذا ذكرت له حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقبله، بل يقول: إذا وافق العلم قبلناه، وإذا خالف تركناه، لأن العلم اليوم أكثر معرفة؟
الجواب
من يفعل هذا ففي قلبه شك وشبهة، وفي قلبه نفاق.
والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أخبرنا عن المنافقين الذين استهزءوا بالكتاب والسنة وبالرسول صلى الله عليه وسلم، أو جعلوا الكتاب والسنة عرضة للاستهتار أو أنهما قابلان للقبول وللرفض، قال: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] وإذا فعل هذا واعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله فهذا تكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فهو كافر كافر كافر، ولابد له من العودة إلى الدين فقد ارتد عن منهج الله عز وجل، وعن دين الله عز وجل.
وعلى سبيل المثال كما تفضل الأخ: بعض الناس الذين في قلوبهم شبهة كـ أبي رية وغيره من الكتاب الذين أصبحت قلوبهم ظلمات بعضها فوق بعض، ممن ردوا حديث الذباب، وبعض الأحاديث وقالوا: لا توافق العلم، فخابوا وخسروا.
وهل يحتاج حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي هو وحيٌ يوحى لا ينطق عن الهوى إلى أن نحاكمه إلى الأطباء وآراء الخواجات ومع ما صدر من البشر، أهل النقص والاضمحلال؟! إن فعل ذلك معناه انسلاخ وقلة إيمان ونفاق، والذي خار في عقله وقلبه، ونعوذ بالله من هذا الفعل.
فلا يفعل هذا إلا من هو منافق، وعليه أن يتوب إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولذلك ذكر الإمام الذهبي في ترجمة ابن الراوندي الملحد الكلب المعفر الذي ألف كتاب الدامغ على القرآن ليدفع به القرآن، وقد كان يقرأ الحديث، وهو فيلسوف من فلاسفة الإسلام، ولكن أضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وبصره، وذكره ابن تيمية وقال: إن كان صح عنه ما يقول فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، كان يجعل الأحاديث النبوية على ما يريد، فإذا وافقت رأي سقراط قبلها، وإذا خالفت ردها، وألف كتاب الدامغ على القرآن ليدفع به القرآن ليرد على بعض الآيات، يقول: هذه بعض الآيات لا توافق الآيات الأخرى، وهذا لا ينفع معه إلا درة وسيف عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وعند الدارمي أن صبيغ بن عسل أو ابن عُسل أتى فجلس في طريق الجيش الذي يجهز في العراق، فقال: أيها الناس! كيف يقول الله: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً} [الذاريات:1 - 2] ويقول: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} [النازعات:1 - 2] كيف نؤلف بين هذه وهذه؟ وأخذ يضرب القرآن بعضه ببعض -وهذا الحديث في أول سنن الدارمي في كتاب السنة- قال بعض الصحابة: نخبر عمر حتى يجيب عمر عليك، فإجابات عمر من نوعٍ آخر، وأخبروا عمر رضي الله عنه فقال: عليَّ به، فاستدعى الرجل وقبل أن يأتي هيأ له عمر رضي الله عنه ضيافةً تليق به وبأمثاله من الشباب، عراجين النخل بلها في الماء، فهذا عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وقال: أين السائل؟ فقال: هأنا يا أمير المؤمنين! قال: تعال، ثم أمر رجلين بمسكه فضربه حتى أغمي عليه، ولما استفاق ضربه حتى أغمي عليه، فلما استفاق ضربه حتى أغمي عليه، ثم استفاق الرجل فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد دوائي فوالله قد برئت.
فأخرج عمر وساوس الشيطان من رأسه.
فالذي يفعل هذا حكمه السيف، فمن يعرض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وميراثه على الآراء ويقول: إذا وافقنا قبلناه، فهو جالس على أريكة يثني رِجْلاً على رِجْل ويقول: إذا وافقنا قبلنا وإذا خالف العلم والطب رددناه.
كيف يرد حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهذا معناه أنه يرد الإسلام؟! ومعناه أنه يكفر بالله رب العالمين! وقد أخبر صلى الله عليه وسلم هذا في حديث المقداد بن عمرو وفي أحاديث أخرى: {أنه يوشك أن يجلس رجل شبعان ريان على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: حسبنا القرآن، ما وجدنا في القرآن أحللناه حلالاً وما وجدنا في القرآن حراماً حرمنا، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه} وفي بعض الألفاظ: {ومثليه} لكن (مثله) أستحضر أنها صحيحة، أما (مثليه) فتحتاج إلى بحث، فإذا علم فهذا فحكمه -ونسأل الله العافية- ولن يفعل هذا إلا من في قلبه نفاق وكفرٌ ورجس.(317/20)
التوجيه إلى حفظ القرآن والعلم
السؤال
كيف توجهنا إلى حفظ القرآن ثم الفقه فيه، ثم طلب العلم؟
الجواب
هذا يحتاج إلى كتب وجلسات طويلة وأحسن من ألف لطلبة العلم كتاب صيد الخاطر لـ ابن الجوزي، فقد أتى بمنهج وبرنامج لطالب العلم كيف يطلب العلم، وكتاب أدب الطلب ومنتهى الأرب للشوكاني، وكتاب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي، لكن الظاهرة عند كثير من الشباب أنهم يبدءون بالمتون قبل القرآن، سبحان الله! كيف يقدمون مالم يقدمه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، تجد أحدهم يتشاغل بمتن زاد المستقنع أو الرحبية وهو لم يحفظ شيئاً من القرآن وهذا خطأ، فهو استفراغ للجهد والعقل والطاقة والوقت وهو لم يحفظ كتاب الله عز وجل.
فأنا أوصي نفسي وإخواني بحفظ كتاب الله، وإذا حفظ كتاب الله فقل على المتون السلام، إذا جاء بعد القرآن شيء فليكن بعده الحديث، وإذا شاء غيره فزيادة في الخير، لكن إذا كان ولابد فلا يبدأ ولا يقدم على القرآن شيئاً، بل لابد أن يكون القرآن هو المقدم، وحفظ القرآن له أسباب، ومن أعظم أسباب حفظ القرآن والعون على حفظ القرآن: تقوى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] والمسألة الثانية: كثرة الاستغفار، وكثرة التوبة.
ذُكر عن ابن تيمية أنه كان يقول: إنها لتعجم عليَّ المسألة -يعني: تشتد وتصعب- فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل فيفتحها الله عليَّ.
والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول للرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكره بالحكم: {لتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] ثم قال له في آخر الآيات: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:106] قال بعض أهل العلم يؤخذ منه أن من أراد أن يستنبط أو يفقه أو يفهم فعليه بكثرة الاستغفار.
ومن أسباب حفظ القرآن: التقليل من الحفظ، فالتقليل والمداومة أصلٌ عظيمٌ من أصول الحفظ، فإن أكثر ما يصاب به الشباب مسألة الإحباط، أن يأتي أحدهم إلى عشرين آية أو ثلاثين أو سورة كاملة فيجهد نفسه حتى يقصها يوماً من الأيام ثم لا يكون له روح في حفظ آيات أخر، فعلينا أن نقلل.
وقد كان الصحابة كما في حديث أبي العالية يأخذون القرآن خمساً خمساً، ثلاث آيات في اليوم أو أربع أو خمس وتكرر كثيراً.
ومما يعين على حفظ القرآن: أن يقام بهذا المقروء في النوافل، وفي الصلوات المفروضات وفي قيام الليل.
ومما يعين على حفظه: أن يكون هناك وقت للمراجعة والمدارسة مع الإخوان أو مع نفسه.
ومما يعين على حفظه: معرفة التفسير، لأن تفسير المعاني وأسباب النزول ودلالة الألفاظ وغريب القرآن تعينك بإذن الله على حفظه، فإن من يحفظ التذييل في الآيات يعرف أن الآية لابد أن يكون آخرها هكذا (لعلكم تعقلون) (لعلكم تذكرون) (لعلكم تفقهون) لا تأتي إلا بمناسبة معرفة المعنى، وهذه يقع فيها كثير ممن لا يعرفون معاني الآيات، فيذيل من عنده في بعض المناسبات، ولو عرف المعنى لأعانه على حفظ القرآن بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(317/21)
الفتور في قراءة القرآن والعبادة
السؤال
إنني أشعر ببعد عن كتاب الله، على غير ما كنت قبل سنتين، فلقد سافرت إلى الخارج للدراسة في خلال تلك السنتين وعندما عدت شعرت بنقصٍ في عبادتي وفي الخشوع في الصلاة، وتلاوتي لكتاب الله عز وجل، فبماذا تنصحني؟
الجواب
أنصحك ونفسي بتقوى الله عز وجل، وقبل الكلام عن مسألة التلاوة والحفظ أتكلم عن مسألة السفر إلى الخارج فهي من أعظم ما مني به المسلمون في هذا الزمن، والسفر كما سمعتم في رسالة الشيخ عبد العزيز بن باز أن من أعظم أضراره أنه يهون المعاصي، وأضرار عظيمة أيضاً منها: أن مسألة الولاء والبراء يصبح فيها غبش عند المسافر إلى الخارج، فبعد أن كان يرى أن الكافر عدو لله في بلاد الإسلام، يراه بعد فترة كأنه أخٌ له حميم، من القلب والروح.
والمسألة الثانية: أنه يرى الكبائر أصبحت صغائر، يوم كان يتحدث في المجتمع المسلم عن الصغائر أصبح هناك لا يتكلم إلا عن الكبائر وخفت المعاصي عنده.
المسألة الثالثة: أنه أصبح لا يحجبه عن المعاصي شيء، فهو ينظر إلى النساء ببرود، وتجد من يسافر إلى هناك يصبح النظر عنده شيئاً عادياً إلا عند من رحم الله عز وجل، فيصبح من المسائل التي لا يتحدث فيها، فهو يقول: أصبح الناس في كفر ونحن نتحدث في النظر، إلى غير ذلك من المفاسد، إلا سفر لضرورة من دراسة تنفع المسلمين، أو الاستشفاء، أو لعلمٍ لابد منه، أما غير ذلك فإن المرض العضال والسم الزعاف في السفر إلى الخارج.
أما ما ذكرت من شكواك وبعدك عن القرآن فكلنا ذاك الرجل، لكن أدلك على كثرة الاستغفار والتوبة وكثرة الدعاء في أدبار الصلوات والسجود، وكذلك لا تشدد على نفسك في كثرة التلاوة؛ لأن بعض العبادة تكره إلى النفس، والرسول صلى الله عليه وسلم دل ابن عمرو إلى أن يقرأ القرآن في شهر فنازله حتى أوصله إلى سبع ليالٍ، ونحن -والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه- لا نشكو من كثرة العبادة إنما من قلتها، فلا ما ندعو الناس إلى أن يخففوا على أنفسهم، فأحاديث الرخص موجودة عند الناس، فلا يحفظ الناس إلا أحاديث الرخص، إذا أتى أحدهم يقوم الليل، قال له الشيطان: إن لعينك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، لكن لو نام عشرين ساعة ما قال له الشيطان: إن لربك عليك حقاً.
فنحن نحفظ أحاديث الرخص بأسانيدها، أما أحاديث العزيمة وأحاديث الإقبال والهمم ما تحفظ إلى عند بعض الناس.
فأنا أقول: ليكن لك وردٌ من القرآن ميسر يناسب سفرك ومرضك وانتقالك، كجزء من القرآن أو جزئين في اليوم تتدبره وتتلوه، فالقصد والمداومة أصلٌ عظيم في العبادة، فالقصد القصد تبلغ ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وهو منهج أهل السنة في عبادتهم وتفقههم وتدبرهم لكتاب الله عز وجل.
ثم أوصيك كذلك بأن تبتهل إلى الله -وهو ما أسلفته في الكلام- لأنه الذي يفتح سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه قد تأتي بعض القلوب تقرأ القرآن فلا تفقهه بسبب كثرة معاصيها، فإذا دعا الإنسان وابتهل وخاصة في السجود وأدبار الصلوات ويوم الجمعة، وفي المناسبات والنفحات التي يتعرض فيها لرحمة الله فتح الله على العبد، فأنت ادع ولا تمل، وسوف يفتح الله عليك.(317/22)
مشكلة عدم التعاون مع رجال الهيئة
السؤال
أنا أخوكم من الرياض أتيت إلى أبها، ورأيت الشباب هنا غير متعاونين مع رجال الهيئة، ويتهربون منها، فأرجو إرشادهم إلى ذلك؟
الجواب
مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تتوقف عليَّ ولا على هيئة، وإنما الأمة مطالبة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواءً توظف العبد أو لم يتوظف، فهي وظيفة من رب العالمين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] وقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79] {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17].
فمسألة الأمر بالمعروف لا تتوقف على هيئة وإنما الهيئة أكثر مسئولية؛ لأنها أوكلت كثيراً من الناس عن هذا الشيء، فإذا لم تقم بواجبها وأداء حقها أصبحت أكثر ذنباً ومأثمة ومسألة عند الله عز وجل وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان}.
فأدعو إخواني في الله إلى الدعوة في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا منكر، وليكن عندهم حصيلة من العلم الذي ينفعون به الناس، ويستصحبون الإخلاص ليدفع بهم الله ويجعل لهم قبولاً، فإن العمل إذا لم يكن فيه إخلاص لم يجعل الله فيه قبولاً، وليكن غرضهم للدعوة للناس باللين، يقول الله لموسى وقد أرسله إلى شيخ الطغاة المتمرد على الله فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] فباللين وبالحكمة ينفع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
أما التعليق بالهيئة فهذا ليس بصحيح، بل كل إنسان مسئول أن يأمر بقدر جهده وطاقته، والشيطان دخل علينا بأمور، يقول: كيف تتصدر للناس؟ وكيف تدعو ولم تتمكن في العلم؟ حتى أصبح كثير من طلبة العلم، يحملون علماً جماً وكثيراً ولكن ما أنفقوا منه، والعلم إذا لم ينفق منه ذهبت بركته، فكثير من القرى فيها كثير من الدعاة وطلبة العلم العدد الضخم ولكن يشكون من الجهل، وأخذتنا هذه المحاضرات الطنانة الرنانة التي نعرضها على الناس، والناس لا يريدون كثرة علم ولا علم تخصص ولا علم سند، بل يريدون أن يعرض الإسلام سهلاً ميسراً كما عرضه الصحابة.
وفي سنن أبي داود عن عبد خير وهو من أول الأحاديث في الطهارة: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه يوم أن وصل إلى الكوفة جمع الناس، فلما اجتمعوا قام فتوضأ أمامهم، ولما انتهى قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فهذا هو العلم، تعليم الناس الوضوء، والغسل من الجنابة، والصلاة والحج، فليس هناك ألغاز ولا أحاجي ولا شؤم مدسوس، فهذه هي الدعوة التي يدعى إليها، وهذا هو العلم الذي يريده الناس، وهو علم ميسرٌ ومسهل، وهذا هو علم السلف، لأن امتياز علم السلف باليسر والأصالة والعمق، وأما هذا العلم، أي: الذي يظهر بكلمات لا أثر لها وإنما تبدي الثقافة وتبدي مدى التعمق في الطلب فهذا ليس بصحيح، وهذا ليس له أثر، يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [[عليكم بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم أخلص الأمة قلوباً وأبرها، وأصدقها لهجة، وأقلها تكلفاً، وأعمقها علماً]] فالعلم هو علم السلف، علم ميسر مسهل، فهل عزيز علينا أن يقوم أحد من الناس فيتوضأ ثم يقول: هكذا وضوء الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يصلي للناس كما في حديث سهل، فيقول هكذا صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
إن العلم سهل ميسر، وإننا نحتاج إلى تبليغه للناس، وإن الشباب بحاجة إلى أن يدعوا ليبارك الله في الجهد، خاصة لأن على منطقتنا لائمة، ومسئولية بسبب كثرة الاصطياف، وكثرة الوافدين، وهؤلاء يأتي فيهم مزيجٌ من أهل الخير، ومن غيرهم ممن يحتاجون إلى توعية، وإنا ندعو إخواننا وشبابنا إلى التعاون ورفع كلمة لا إله إلا الله عز وجل، وإلى التأثير في الناس بالحكمة والموعظة الحسنة عل الله أن يبارك في الجهد وأن يصلح الحال، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(317/23)
التوسل بالأعمال الصالحة (2)
في قصص الأولين عبرة، ونحن في هذا الدرس مع قصة من قصص بني إسرائيل، وفيها من العظات والعبر والدروس المتعلقة بالعمل والاعتقاد شيئاً مفيداً، إنها قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار.(318/1)
حديث الثلاثة النفر الذين انطبقت عليهم الصخرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإن أبعد الناس عن الله أكثرهم معصية، وإن أقربهم إليه تبارك وتعالى أكثرهم طاعة، وإن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، إنما نسبهم التقوى وصلتهم القربى، ومعين قربهم تقوى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله(318/2)
وعود الله لعباده المؤمنين
أيها الناس: يقص علينا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أحسن القصص، ومنها قصة قوم سلف بهم الدهر، ووقعوا في ورطة من الورطات، وفي نكبة من النكبات، وفي مصيبة من المصائب، فما أنجاهم الله إلا بعد أن توسلوا بأعمالهم الصالحة.
والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وعد المؤمنين بالهداية، فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] والله تبارك وتعالى وعد المؤمنين بالنصر فقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52] والله تبارك وتعالى وعد المؤمنين بالتثبيت فقال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] والله تبارك وتعالى وعد المؤمنين بالحياة الطيبة في الدنيا وبالنعيم المقيم في الجنة فقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عمر رضي الله عنه وعن أبيه قال: قال عليه الصلاة والسلام: {انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم}:
أي: من الأمم السالفة التي جعل الله أخبارهم عبرة لنا فقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] علنا نفهم أو نعقل، وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:111] لكن لمن كان له قلب لمن كان له عقل لمن كان يعتبر.(318/3)
التجاء العبد إلى الله في الشدة وكفره بالنعمة في الرخاء
{انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى كهف في الجبل، فآووا إلى الغار وقد أمطرت السماء، فانطبقت صخرة من الصخرات على فم الغار فسدَّته}:
يا ألله! لم يبق منجى ولا ملتجى ولا مفر من الله إلا إليه، ومن الذي ينجي العبد في الأزمة إلا الله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].
فأصبحوا في ورطة لا يعلمها إلا الله، لا أنيس، ولا قريب، ولا ولد، ولا صاحب، ولا عشيرة، ولا قبيلة.
جلس الثلاثة وضمهم الليل الدامس، وليس عندهم من الطعام والشراب ما يكفيهم، وهم في صحراء مقحلة وقفر، إن صوتوا لا يسمع صوتهم إلا الله، وإن بكوا لا يسمع بكاءهم إلا الله، وإن صاحوا لا يسمع صياحهم إلا الله، فتشاوروا.
والعبد إذا ضاقت به الضوائق أخلص التوحيد لله الواحد الأحد.
والعجيب أن العبد وقت الرخاء يتمرد على الله، ويعصيه ويتعدى حدوده، وينتهك حرماته إلا من رحم الله، لكن إذا أُخِذَ بزمامه وشد عليه خناقه عاد إلى الواحد الأحد: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65].
فالشاب قوي البنية، الصحيح، المتكامل العضلات يفجر إلا من رحم الله، ولا يصلي مع الجماعات إلا من وفق الله، ولكن إذا أصبح في المستشفى على السرير الأبيض عاد بقلبه إلى الواحد الأحد.(318/4)
إجابة الله عباده المؤمنين في الشدة
فتشاور الثلاثة ماذا يفعلون، فقال أحدهم: {والله لا ينجيكم من مكانكم هذا إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم}:
إن كنتم أحسنتم في الرخاء فالله يجيبكم في الشدة؛ لأن الله يجيب من يطيعه في الرخاء وقت الشدة.
أما رأيتم يونس بن متى عليه السلام يوم ضاقت به الحِيَل، وأُلْقِي في اليم، يوم أصبح في ظلمة الليل فرد إلهامه ورشده إلى الله فقال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فقال الله عنه: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144].
{إنه لن ينجيكم إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم}:
ومعنى ذلك: أن لهم رصيداً من الأعمال الصالحة وقت الرخاء، أما الذي ليس له رصيد من العمل الصالح فبماذا يدعو ويتوسل؟ أيقول لله: أنا فلان بن فلان من آل فلان؛ الأسرة العريقة على مر التاريخ؟ أو أبي كان أميراً أو وزيراً أو تاجراً؟ ليس بين الله وبين خلقه نسب، بل النسب التقوى، ولذلك لما أدرك الموت شيخ الطغاة فرعون قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] ففعل في الدعاء كما فعل يونس؛ لكن شتان ما بين الرجلين، ذاك عبد صالح وهذا عبد فاجر، فقال الله لفرعون: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] أنسيت جرائمك يا لعين؟! أنسيت خبائثك على مر التاريخ يا خبيث؟! لا تنفعك الشهادة في هذا الموضع، فأهلكه الله ومزقه وأرداه.(318/5)
توسل الثلاثة بصالح أعمالهم
{قال أحدهم: لن ينجيكم إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم -الصخرة مطبقة، والليل دامس، والقريب بعيد، لا طعام ولا زاد-؛ فقام الأول فاستقبل قبلتهم وقال: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران - أب وأم عجوزان، أكل عليهما الدهر وشرب، شابت نواصيهما، واحدودبت ظهورهما، وقاربهما الفناء- اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً -والغبوق عند العرب: اللبن يُشرَب في المساء، أي: لا أقدم عليهما أحداً من الناس حتى أطفالي، أي: مِن بِرِّي بوالدي لا أقدم أحداً من الناس عليهما- وإنك تعلم -يا رب! - أنه نأى بي طلب الشجر يوماً من الأيام -أي: ذهبت أرعى في الصحراء إبلي وما أتيت إلا بعد أن ناما- فلم أَرُحْ عليهما إلا بعد أن ناما، فحلبت غبوقهما، وأتيت إليهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما -يا للبر! يا للسماحة! يا للين! من يفعل هذا منا مع أبيه وأمه؟ وقف باللبن والكوب في يده وأبوه وأمه نائمان، والصبية يتضاغون عند قدمه من الجوع، أبناؤه وفلذات كبده وشذا روحه وقلبه يتضاغون عند قدمه يريدون اللبن في الإناء- قال: فلم أوقظهما ولم أسق الصبية حتى طلع الفجر -من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر والإناء في يده واللبن فيه، والصبية يتضاغون عند قدمه يكادون يتفطرون من السغب، وكره أن يوقظ أباه وأمه لئلا يعكر عليهما المنام- فلما استيقظا سقيتهما، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً لا يستطيعون الخروج منه}:
ثلث الصخرة انفرج، صخرة مدلهمة عظيمة تحركت بقدرة الله، ولكن لا يستطيعون الخروج لأنه بقي اثنان لهما دعاء.(318/6)
فضل بر الوالدين
والشاهد: أن بر الوالدين الذي انتهك وضيع في هذه الأزمان إلا فيمن رحم الله، فتجد الأب إذا شاخ ازدراه ابنه، واستهزأ به، وجفاه وتغلظ عليه وتأمر، فلا يطيعه أبداً، يرى أن نفسه قد كبرت وأنه قد أصبح من الرجال الذين لا يحتاجون إلى أن يتأمر عليهم أحد من الناس، سبحان الله! أبوك وأمك اللذان تعبا لترتاح، وسهرا لتنام، وجاعا لتشبع، وظمئا لتروى.
روى الطبراني بسنده: أن رجلاً قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال: يا رسول الله! أشكو إليك شكاية، قال: ما لك؟ -شيخ كبير يبكي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: ما لك؟ قال: يا رسول الله! أشكو إليك ابني، قال: ما فعل بك؟ قال: ربيته يا رسول الله، فلما كبر تغمط حقي وأغلظ لي، وجفاني وتنكر لي، وبلغ به العقوق أن لوى يدي وراء ظهري، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: أقلت في ذلك شعراً؟ -والعرب كانت تنفس عن أحزانها وهمومها بالشعر- قال: نعم.
قال: ماذا قلت فيه؟ قال: قلت فيه:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهل
يقول: ربيتك صغيراً وحفظتك حتى كبرت.
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبِتْ لسقمك إلا شاكياً أتململ
يقول: إذا زارك المرض فكأنه زارني أنا، فلا أنام وأنت المريض.
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبُوَّتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
ليتك يوم ما بررتني ولنت لي وتسهلت لي وأكرمتني؛ حفظت أذاك عني وفعلت كالجيران، لكن زيادة في النكاية آذيتني وشتمتني وعصيتني.
قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24].
فيا سرور مَن بَرَّ أبويه! ويا حبور من بر أبويه يوم أن يشيبا؛ ويقتربا من القبر، يوم يكون أملهما بعد الله أنت، فتتقرب إلى الله ببرهما، حينها يفتح الله لك باب الجنة، ويسدل عليك رحمته، ويجعل أبناءك بارين بك، ويتولاك في الدنيا والآخرة.(318/7)
فضل العفة ومخالفة الهوى
{وأتى الرجل الثاني وقال: اللهم إنك كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فراودتها عن نفسها فأبت -استعصمت بحبل الله، امرأة تقية صَيِّنَة دَيِّنَة- قال: فألمت بها سنة قحط وفقر -والفقر والجهل قريبان من المعصية- قال: فعرضت عليها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، فلما فَعَلَتْ واقْتَرَبْتُ منها قالت لي: يا عبد الله، اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، قال: فقمت عنها وأنا أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك ففرِّج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً لكن لا يستطيعون الخروج منه}:
وهذه هي العفة، وهذه هي أسوة يوسف عليه السلام يوم ابتلاه الله فرفع منزلته بالعفة والأمانة، عرضت له الملكة الجميلة نفسها في القصر وهو شاب أعزب من أجمل الناس، فتذكر لقاء الله، وموعوده، وعذابه الذي: {لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26] فقال: {مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:23] فمن يقول منا -يا شباب الإسلام- اليوم معاذ الله؟! من إذا نظر إلى المرأة الجميلة في السوق غض طرفه وقال: معاذ الله؟! من إذا سمع نغمة اتصال من امرأة أجنبية قال: معاذ الله؟! من إذا حدثه الشيطان وسوَّل له قال: معاذ الله؟! من إذا عرض عليه الفيلم الماجن الذي ضيع عقول الشباب ودينهم ومروءتهم قال: معاذ الله؟! من إذا رأى المجلة الخليعة قال: معاذ الله؟! من إذا سمع الأغنية الماجنة قال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23]؟!
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل طرفةً ولا أن ما يخفى عليه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب
إي والله! من لم يحفظ الله في الرخاء لا يحفظه في الشدة.(318/8)
فضل الأمانة والتسامح
{وتقدم الثالث فقال: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أُجراء -خُدَّام- قال: فحاسبتهم فأعطيتهم أجورهم إلا رجلاً واحداً منهم ذهب مغاضباً وترك أجرته، فأخذت أجره فثمَّرته له وبعت واشتريت له، حتى أصبح له من المال والغنم والإبل والرقيق شيء كثير، ثم أتاني بعد سنين فقال لي: يا عبد الله! اتق الله وأعطني حقي الذي عندك، قلت: خذ هذا المال فإنه مالك، قال: أتستهزئ بي؟ -مِن كثرة المال- قلت: لا والله لا استهزئ بك، قال: فساقه فلم يترك منه شيئاً؛ اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون}.
فيا لسعادة الصلحاء وقت الرخاء، يوم ينجيهم الله في الأزمات! ويا لفرحة من قدم لنفسه في الساعات الثمينة الغالية! وهذا مصداق لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي بسند حسن، وهو حديث مذهل مدهش، يقول أحد العلماء كما ذكر ذلك ابن رجب: " ما قرأت هذا الحديث إلا أصابني الذهول منه، حيث يقول الرسول عليه الصلاة والسلام لـ ابن عباس: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
عباد الله: أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(318/9)
كرامات الأولياء
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(318/10)
شرطا الكرامة
عباد الله: في الحديث السابق كرامة من كرامات الأولياء، وكرامات الأولياء أثبتها أهل السنة والجماعة؛ لكن بشرطين كما يقول شيخ الإسلام وعلم الأعلام ابن تيمية رحمه الله في المجلد الحادي عشر من فتاويه قال: يشترط في الكرامة شرطان:
الشرط الأول: أن تكون على طاعة، أو تكون ثمرة ونتيجة لطاعة، فتحصل على يد رجل طائع لله عز وجل؛ لا فاجر ولا كاهن ولا مشرك ولا ساحر ولا منجم؛ لأن هؤلاء أعداء الله وأعداء رسله عليهم الصلاة والسلام، وقد يحدث لهم خوارق وأمور تخالف عادات الناس، وأمور يحدثها الله عز وجل فتنة وابتلاء لهم.
فلا بد للكرامة أن تكون على طاعة، وأن يكون صاحبها على الكتاب والسنة، قال الشافعي رحمه الله تعالى: لا تغتروا بالعبد ولو طار في الهواء وسار على الماء حتى توازنوا عمله بالكتاب والسنة.
أو كما قال.
والشرط الثاني: أن تستغل هذه الكرامة في مرضاة الله، وفي رفع دعوة الله عز وجل، وفي نصرة دينه وحماية أوليائه.
والله عز وجل يجعل الكرامات للأولياء بسبب إخلاصهم.(318/11)
قصة الإسرائيلي الذي أودع الدنانير في خشبة في البحر
وقد ورد في صحيح البخاري في كتاب الوكالة: أن رجلاً من بني إسرائيل لقي آخر فاستسلفه ألف دينار، فقال له ذاك الرجل: ما أعرفك فهل لك من شاهد، قال: ما أجد شاهداً، قال: ابحث عن شاهد، قال: ليس لي من شاهد إلا الله، قال: كفى بالله شاهداً بيني وبينك، قال: فهل لك من كفيل يؤدي عنك المال -أو يغرم المال أو يكفلك في حضورك؟ - قال: ليس لي من كفيل، قال: ابحث عن كفيل، قال: والله لا أجد كفيلاً إلا الله، قال: كفى بالله كفيلاً.
فأخذ الألف دينار وذهب بها وركب البحر، فلما ركب البحر ونزل في قريته مكث ما شاء الله من الأعوام، فلما أتى الموعد أخذ الألف دينار ليردها إلى صاحبها، فأتى إلى شاطئ البحر فلم يجد سفينة ولا قارباً؛ فبقي على شاطئ البحر ثلاثة أيام يسأل ويبحث حتى أيس من السفن والقوارب، وفي الأخير تذكر أن الضامن هو الله، وأن الكفيل هو الله، وأن الشاهد هو الله، فأخذ عوداً من خشب فنقر العود وأدخل فيه الدنانير ثم كتب عليه رسالة، وجعل العود في البحر وقال: اللهم إنه استشهدني فلم أجد شاهداً إلا أنت وطلبني كفيلاً فلم أجد كفيلاً إلا أنت، اللهم فأدِّ هذا المال إليه، ثم ضرب العود في البحر، فساقه علام الغيوب -الحافظ الحكيم وأسرع الحاسبين، الشاهد والكفيل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وكفى بالله وكيلاً وكفى بالله كفيلاً- حتى وصل إلى الشاطئ الآخر.
وخرج ذاك الرجل في نفس الموعد يتحرى لأن بينه وبين ذاك الرجل موعداً، فرمى البحر بهذه الخشبة إلى الرجل فأخذها وقال: آخذها حطباً لأهلي، وأيس من ذاك الرجل، فلما ذهب إلى بيته كسر الخشبة فوجد فيها ألف دينار ووجد الرسالة فقال: كفى بالله وكيلاً وكفى بالله شهيداً} وهذه كرامة.(318/12)
كرامة صاحب عقد المرجان
وذكر ابن رجب في طبقات الحنابلة عن أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي قال: " ونقل عن رجل من الصالحين أنه قال: سافرت يوماً من الأيام إلى مكة حاجاً قال: فانتهت نفقتي وانتهى طعامي وزادي، وأصبح بي من الضر والجوع شيء لا يعلمه إلا الله، قال: فذهبت ألتمس الطعام والشراب والزاد في مكة، فبحثت في الأرض في مزبلة هناك فانكشف لي عقد ثمين فيه در وجواهر، كل جوهرة تساوي الآلاف من الدنانير -عقد يساوي ميزانية هائلة- قال: فحملت العقد وبي من الفرح مالا يعلمه إلا الله، قال: وذهبت به حتى دخلت الحرم، وإذا برجل ينادي من وجد لي ضالة وصفها كذا وكذا قال: فإذا هو العقد الذي هو عندي، قال: فتقدمت فسألته فأتى بأوصاف هذا العقد، قال: فاتقيت الله فدفعت له العقد قال: فوالله ما ناولني درهماً ولا ديناراً.
قال: ثم ذهب وتركني، قال: فلما انتهيت ركبت البحر في سفينة قال: فلما أصبحت في السفينة جاءتنا ريح شديدة لا يعلم قوتها إلا الله، فكسرت السفينة، وغرق أصحابي جميعاً، وبقيت على خشبة ثلاثة أيام بين الموت والحياة، وأنا أسبح الله وأذكره، قال: فرمت بي الخشبة على جزيرة، قال: فنزلت الجزيرة فدخلت مسجداً هناك في القرية، فأتيت فوجدت مصحفاً أقرأ فيه، فقال أهل القرية: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم.
قالوا: علمنا القرآن ونعطيك أجراً، قال: فعلمتهم القرآن، قالوا: أتجيد الخط؟ قلت: نعم.
قالوا: علمنا الكتابة، قال: فلما استأنست بهم قالوا: إن هنا ابنة صالحة يتيمة، وقد كان أبوها من الصالحين، نريد أن تتزوجها، قال: فلما تزوجتها ورأيتها وإذا بذاك العقد الذي وجدته في مكة في نحرها، قلت: يا أمة الله! أريني العقد، قال: فسلمتني العقد! فوالله الذي لا إله إلا هو، إنه ذاك العقد؟ قلت: ما خبر هذا العقد، قالت: حججت مع أبي سنة كذا وكذا وقد جمع أمواله ودنانيره ودراهمه واشترى هذا العقد، فهو مالنا وميراثنا وكنزنا، قالت: ثم ضاع منه فوجده رجل من الصالحين فسلمه لأبي؛ فكان أبي كلما صلى صلاة يقول: اللهم وفق بين ابنتي وذاك الرجل الصالح، قال الرجل: فوالله الذي لا إله إلا هو، إني أنا الرجل الذي وجدت العقد ".
إن من يحفظ الله يحفظه، ومن يستهدِ بالله يهدِه، ومن يستكفِ به يكفِه.
وهذه من السنن الكونية الخلقية القدرية، ومن السنن الأمرية الشرعية التي أوردها الله في الكتاب والسنة، ولا يضيع إلا مَن ضيَّعه الله، فاستهدوا بالله يهدكم، واستحفظوا الله يحفظكم، واستكفوا به يكفكم، وتوكلوا عليه يكفكم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(318/13)
خاتمة
عباد الله: وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم إلى ما تحبه وترضاه يا رب العالمين، اللهم اجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك؛ برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم وفق أئمتنا لما تحبه وترضاه، اللهم أعنهم على تحكيم كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم ونصرة دينك.
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(318/14)
من آداب النبوة (2)
تواصلاً لما بدأه الشيخ من عرض لآداب الرسول صلى الله عليه وسلم من كتاب الأدب في صحيح البخاري، يتحفنا في هذه المادة بآداب أخرى هامة يستهلها بالحديث عن صلة الأخ المشرك.
ثم ذكر قصة وفد بني تميم مستخرجاً منها بعض الفوائد والآداب، ونبه على المخالفات التي وقع فيها ذلك الوفد كما تكلم عن استحباب التجمل في الإسلام بما ليس محرماً.
كما احتوت هذه المادة على باب آخر هو باب رحمة الولد وتقبيله، تكلم فيه الشيخ عن التعامل مع الأطفال ذاكراً مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم وتعامله مع الحسن والحسين رضي الله عنه.(319/1)
شرح حديث البخاري في صلة الأخ المشرك
الحمد لله الذي شرح صدور أهل الإسلام للسنة فانقادت لاتباعها، وارتاحت لسماعها، وأمات نفوس أهل الباطل بالبدعة بعد أن تمادت في ابتداعها، وتغالت في نزاعها، والصلاة والسلام على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أشهد أن الله حق، وأن وعده حق، وأن النبيين حق، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق.
عباد الله: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:100 - 102].
ومعنى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران:101] أي: كيف تزيغون وعندكم الكتاب والسنة؟
وكيف تضلون وبين أظهركم الكتاب والسنة؟
إنه شيء عجيب مذهل، ونحن هذه الليلة مع آداب النبوة في الحلقة الثانية، مع المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يؤدب الناس بالأدب الذي أدبه الله به، فمع البخاري في مسيرته الرائدة الحافلة الموجهة، التي شقت طريقها ما يقارب أحد عشر قرناً في الأمة الإسلامية.
يقول رحمه الله تعالى في كتاب الأدب (باب صلة الأخ المشرك): حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا عبد العزيز بن مسلم، قال: حدثنا عبد الله بن دينار، قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: {رأى عمر حلة سيراء تباع، فقال: يا رسول الله! ابتع هذه والبسها يوم الجمعة، وإذا جاءك الوفود، قال عليه الصلاة والسلام: إنما يلبس هذه من لا خلاق له، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم منها بحلل، فأرسل إلى عمر بحلة، فقال: كيف ألبسها وقد قلت فيها ما قلت؟! فقال عليه الصلاة والسلام: إني لم أعطكها لتلبسها، ولكن تبيعها أو تكسوها، فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم} هذا الحديث له قصة وفيه قضايا.(319/2)
قصة هذا الحديث
أما قصته فكما قرأناها؛ فقد كان عمر رضي الله عنه وأرضاه، يريد أن يظهر الداعية عليه الصلاة والسلام بمظهر الجمال والجلال والكمال، وكانوا يحبونه عليه الصلاة والسلام أكثر من أنفسهم، وفي صحيح البخاري أن عمر قال: {يا رسول الله! والله إنك أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي، فقال عليه الصلاة والسلام: لا يا عمر! -أي: ما وصلت تلك المنزلة التي أريدها منك، فالدين يريد منك أن تكون أكبر من هذا- فقال: لا.
حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال: فو الله الذي لا إله إلا هو إنك الآن أحب إلي حتى من نفسي} وصدق، ونشهد الله أنه كان أحب إليهم من أنفسهم.
وفي الصحيحين من حديث أنس، قال: قال عليه الصلاة والسلام: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما}.
فـ عمر أتى بهذه الحلة، وهذه الحلة لـ عطارد بن حاجب بن زرارة وهو تميمي، وفد المدينة بحلل يبيعها، وكانت هذا القصة في السنة التاسعة كما بين ذلك الحافظ ابن حجر، فأتى وفد تميم في السنة التاسعة، يريدون الإسلام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أرادوا الإسلام، وكانوا عقلاء دهاة نبلاء، وكان بنو تميم آنذاك قرابة عشرة ألف، وكانت تضرب من نجد إلى بادية السماوة في العراق.
فقالوا: نريد أن نفد على هذا الرسول عليه الصلاة والسلام مسلمين، فاختاروا أحلمهم وهو قيس بن عاصم، وهذا قيس بن عاصم أحلم العرب، وهو: {سيد الوبر} كما قال عليه الصلاة والسلام، وفي أثر في سنده ضعف أن قيساً هذا لما وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: {يا رسول الله! دنا أجلي، ورق عظمي، ولاح شيبي؛ فأوصني بوصية جامعة، فقال له صلى الله عليه وسلم: يا قيس! إن مع الغنى فقراً، وإن مع القوة ضعفاً، وإن مع العزة ذلة، يا قيس! إن لكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، يا قيس! إن معك قريناً يدفن معك وأنت ميت، وتدفن معه وهو حي، فهو عملك فأقلل منه أو أكثر} فترقرقت دموع قيس بن عاصم وكان في السبعين.
وقد عقد له البخاري ثلاثة أبواب في كتاب الأدب المفرد، وله حديث عند أبي داود في اغتسال المشرك إذا أسلم، وهو من سادات العرب، وهو أول من قتل الموءودة كما سلف معنا في الدرس الماضي، سامحه الله وغفر الله له فقد أسلم, وهو الذي يقول فيه الأول:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من ألبسته منك نعمةً إذا زار عن شحط بلادك سلما
وما كان قيس موته موت واحد ولكنه بنيان قوم تهدما(319/3)
مخالفة وفد بني تميم للآداب الإسلامية
أخذ بنو تميم أحلم العرب وهو قيس هذا وعطارد بن حاجب خطيب العرب كان من بني تميم، وأخذوا شاعرهم وهو الزبرقان بن بدر، وأخذوا حكيمهم وهو عمرو بن الأشهل، فوفدوا سبعة، ثم طرقوا المدينة فدخلوا وقت القيلولة، والإسلام يعلم المسلم التربية الحسنة وحسن التصرف، ثلاث عورات لا يجوز الدخول فيها، قبل صلاة الفجر، وحين نضع ثيابنا من الظهيرة، وبعد صلاة العشاء، هذه أوقات لا يدخل فيها على أحد ولا يزار فيها أحد، فهي أوقات حرجة، خاصة بهدوء المؤمن وراحته مع أهله وأطفاله.
ولكن هؤلاء لم يتعلموا تعاليم الإسلام، وما سكب في أرواحهم رحيق الإيمان، وما تدربوا في مدرسة القرآن، فأتوا بعد صلاة الظهر السبعة، وأتوا يصيحون من وراء الحجرات: يا محمد! يا محمد! يا محمد! اخرج إلينا، فما سمعوا راداً يرد، وفي الأدب المفرد للبخاري: {من بدا جفا} وقال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [التوبة:97] لأنهم تربوا مع التيوس والكلاب، ولذلك يقول الشاعر علي بن الجهم لما دخل على المتوكل يمدحه، وكان ابن الجهم بدوياً:
مرحباً مرحباً قليل الخطايا من كثير العطا قليل الذنوب
أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب
فأرادوا قتله، فقال المتوكل: اتركوه، وأنزلوه في الكرخ سنة، وهو بلد جميل فياض ناعم في حضن بغداد، وفيه نهر دجلة يعانق نهر الفرات، فأنزلوه سنة ثم أتى بعد سنة، فاستفتح قصيدته الرائعة، التي يقول في أولها:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وهي طويلة، والمقصود أنهم أهل جفاء فقالوا: يا محمد! اخرج إلينا، فمدحنا زين وذمنا شين، فقال عليه الصلاة والسلام: {ذلك هو الله} أي: إن الله إذا مدح مدح، وإذا أثنى أثنى، وإذا ذم ذم، فالممدوح من مدحه الله، والمذموم من ذمه الله، والمحبوب من أحبه الله، والمكروه من كرهه الله، ثم أنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:4 - 5] ومع ذلك فالله يغفر ويرحم
فخرج صلى الله عليه وسلم ورأي هذا الوفد وكأنهم النجوم، خيرة قومهم وقاداتهم، الواحد منهم يستطيع أن يقود قبائل من الناس.
من تلقَ منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
فقال عليه الصلاة والسلام: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد الإسلام، ولكن قبل أن نسلم بين يديك نشترط عليك شرطاً، قال: ما هو الشرط؟ قالوا: لا نسلم حتى نفاخرك وتفاخرنا، قال: كيف؟ قالوا: يأتي شاعرنا يفاخر شاعرك، وخطيبنا يغالب خطيبك، فمن غلب رأينا ذلك، وهذه سنة الجاهلية، إذا وفدوا عند الملوك تمادحوا وتفاخروا في حلبة المصارعة، ليروا المنتخب الذي يفوز بين يدي الناس حتى يرى الناس فضله.
قال عليه الصلاة والسلام: حيهلا وسهلا، الأمر سهل، عنده خطيبٌ يمكن أن يدمرهم تدميراً، وعنده شاعر حسان بن ثابت لا يبقي في ميدانهم عوجاً ولا أمتاً، فنازلهم صلى الله عليه وسلم، وهذا عقد له البخاري أبواباً، وهو في أسد الغابة لـ ابن الأثير بأسانيد ثلاثة.(319/4)
مفاخرة وفد بني تميم عند الرسول صلى الله عليه وسلم
فجلس صلى الله عليه وسلم في المسجد، وجمع الناس، وحضر الأطفال والنساء، فقال: ليقم خطيبكم، فقام عطارد صاحب الحلة، وهو صاحبنا هذه الليلة، وكان خطيباً مصقعاً كأنه الرعد يتقاصف، فأخذ المنبر وقام يمدح بني تميم، وبنو تميم قبيلة كبيرة عظيمة شهيرة، ولكن الفضل لمن رفعه الإسلام، والفضل بالتقوى، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فكانت أكثر قبائل العرب.
فقام فمدح قبيلته فلما انتهى، قال عليه الصلاة والسلام: أين ثابت بن قيس بن شماس، وهو الذي قتل في اليمامة رضي الله عنه وأرضاه، فقام يرد على الخطيب، فقال: الحمد لله الذي رفع السماوات بلا عمد، وبسط الأرض في أحسن مدد، الذي خلق الإنسان في كبد ثم أخذ يأخذهم بفواصل الكلام حتى كأنه الصواعق تنزل على رءوسهم وعرقهم يتصبب، ولما انتهى، قالوا: غلب خطيبك خطيبنا.
ثم قام الزبرقان شاعرهم وقال:
نحن الكرام فلا حي يضارعنا منا الملوك وفينا تنصب البيع
فلما انتهى، قال صلى الله عليه وسلم: كيف أنت يا حسان؟ أتستطيع أن ترد عليه في الحال، أو نمهلك حتى تفكر؟ فالموقف صعب، يحتاج إلى مهلة، ويحتاج إلى تخمير الرأي، لكن حساناً كان من أشعر العرب فقام؛ فرد عليهم ارتجالاً بما يقارب ستين قافية من أروع الشعر، يقول فيها:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنناً للناس تتبع
يقول: المكرمات عند الرسول عليه الصلاة والسلام، وليست عندكم
يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
حتى انتهى، فقالوا: وغلب شاعرك شاعرنا فأسلموا، فجاء عطارد هذا بحلة من ديباج، وقيل: من حرير، فأراد أن يهديها مع حلة أخرى، فرفضها صلى الله عليه وسلم، فتعرض عمر رضي الله عنه وأرضاه للحلة، فرآها في السوق تباع، وكانت جميلة، ويريد عمر كل جميل للرسول عليه الصلاة والسلام، فأخذها من السوق وأتى بها إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! خذ هذه الحلة، تلبسها لصلاة الجمعة وللوفود، أي: لأنك قائدنا ومعلمنا ومربينا، وإذا استقبلت الوفود نريد أن تظهر بمظهر القوة.(319/5)
موقف الإسلام من الملابس وحكمه عليها
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر الجمال، ولم يقل له: أنا لا ألبس الجميل أنا متواضع أنا أريد الزهد، فالزهد لا يدخل في هذا، بل أقره على هذا المبدأ ولكن أنكر عليه الحلة التي من حرير، وقال: {إنما يلبس هذه من لا خلاق له} قال أهل العلم: من لا حظ له عند الله في الآخرة؛ لأن الكافر يأكل ويشرب بالحلال والحرام، ولكن يلقى الله ولا نصيب له عند الله.
والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يحرم اللباس الجميل، وقد يظن بعض الناس أنه إذا استقام والتزم في الإسلام، فعليه أن يلبس ثوباً ممزقاً، وغترة قذرة، وأن عليه ألا ينظف حاله، ولا يظهر بالجمال، وهذه دروشة لا يعترف بها الإسلام، وأين الجمال إلا في الإسلام؟! وأين الروعة إلا في الإسلام؟! وأين النظافة إلا في الإسلام؟! وأين القوة إلا في الإسلام؟!
أما رأيت الله كيف جمل الكون؛ وعند الترمذي بسند حسن: {إن الله جميل يحب الجمال} وعند مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال رجلٌ يا رسول الله: {إني أحب أن يكون لباسي جميلاً، ونعلي جميلة، أفمن الكبر ذلك يا رسول الله؟ قال: لا.
إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس} بطره: رده ودحضه، وغمط الناس: أي: ازدراؤهم واحتقارهم.
فالكبر لا يدخل في اللباس، والروعة لها مقام في الإسلام، ولذلك كان ابن عباس يلبس حلة بألف دينار كما في ترجمته، فقالوا له في ذلك، قال: أريد أن أظهر نعمة الله عليَّ، وأعز دين الله الذي أرسل به محمداً عليه الصلاة والسلام.
وكان مالك بن أنس يلبس أحسن الحلل، وهو من أتقى الناس، فقالوا له في ذلك، قال: أريد أن أنصر هذا الدين بهذا اللباس، ليقف بمنظر الإسلام منظراً عزيزاً جميلاً يحبه الله ويرضاه.
إذاً قال له صلى الله عليه وسلم: {إنما يلبس هذه من لا خلاق له} فعاد عمر بالحلة؛ لأنها محرمة، ولم يرد على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أتى يبين لهم، وأتى يعلمهم الحلال والحرام.
وبعد فترة دعي عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام دائماً يعيش مع أبي بكر وعمر في مشاوراته وجلساته وسمراته، دائماً يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فهو يحب الشيخين حباً جماً؛ لأن بهم بني الإسلام بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: {رأيت البارحة كأن الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، ومر علي عمر بن الخطاب بقميص يجره في المنام، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ -ما معنى ذلك؟ وما تفسير ذلك؟ - قال: الدين} دين عمر رضي الله عنه يستره ظاهراً وباطناً، ولذلك من رأى عليه قميصاً في المنام، قال أهل العلم: فتأويله الدين، فإن رآه قصيراً فلقصر دينه، وإن رآه قذراً فلغش في تدينه، وإن رآه أبيض طويلاً فلصلاحه ولخيريته إن شاء الله.
ويقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {رأيت البارحة كأنني أشرب من لبن، حتى رأيت الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم} أي: علم الخشية، وعلم قال الله ورسوله.
ولذلك كان عمر من أعلم عباد الله بالله، والعلم في الإسلام معناه: الخشية، ولذلك كان يكفكف دموعه دائماً من خشية الله، لا يسمع الآية إلا ويتأثر، وذكر عنه المؤرخون أنه كان إذا صلى الفجر وقرأ سورة يوسف، لا يسمع الناس إلا نشيجه وبكاءه من القراءة، فهذا العلم هو الذي فسره عليه الصلاة والسلام يوم فسر اللبن في المنام، فلما أُتي الرسول عليه الصلاة والسلام بحلة، دعا عمر بن الخطاب، وقال: خذها، فقال: يا رسول الله أتيتك بحلة عطارد وقلت فيها ما قلت، واليوم تعطيني هذا الحلة فقال: {إني لم أعطك إياها لتلبسها، ولكن لتبيعها أو تكسوها} فلا يشترط في الهدية أن تلبسها، لكن بعها أو أهدها، قال أهل العلم: أي لغير الرجال المسلمين.
وعند الإمام أحمد بسند جيد في المسند، وعند النسائي كذلك بسند آخر، عن علي رضي الله عنه وأرضاه، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وأخذ قطعة من ذهب بيده اليمنى، وقطعة من حرير بيده اليسرى، وقال: {هذان حلالٌ لإناث أمتي، حرامٌ على ذكورها} فليعلم هذا، فالذهب والحرير بأنواعه حلالٌ للنساء، خلافاً لمن قال: لا يجوز لبس الذهب إلا مقطعاً؛ لأن هذا الحديث متقدم، وخلاف إجماع أهل العلم في إباحة الذهب للنساء، فهذا أمر.(319/6)
بعض قضايا الحديث
فلما أُتي بالحلة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أعطاها عمر، قال: فأرسلها عمر إلى أخ له مشرك في مكة.
وفي الحديث قضايا، أولاً:(319/7)
معنى حلة سيراء
ما هي الحلة السيراء في الحديث؟ الحلة: لباس كالثوب، يلبسه الملوك، والأغنياء والوجهاء في العرب، وكانت تنسج في اليمن، ومنها ما ينسج في الشام بالقطن، وأجودها ما نسج في اليمن بالحرير، وكانوا لا يراعون ذلك، بل كانوا يلبسون ما حرم لأنهم بلا دين، ولذلك يقول حسان في الغساسنة:
يمشون في الحلل المضاعف نسجها مشي الجمال إلى الجمال البزل
الضاربين الكبش يبرق بيضه ضرباً يطيح له بنان المفصل
يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل
حسان يمدح أولئك بالكرم، يقول: حتى كلابهم لا تنبح من كثرة الضيفان، وفي الأخير ارتاحت بحمد الله لم تعد تنبح من كثرتهم، ثم قال: يمشون في الحلل، وكان العرب يتمادحون بمن يجر إزاره، فلما أتى الإسلام نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال كما في الأحاديث الصحيحة: {إن الله لا ينظر إلى من جر إزاره خيلاء} وقال: {وما أسفل من الكعبين من الإزار في النار}.(319/8)
مشروعية التجمل للجمعة
واللباس يوم الجمعة فيه إشارة إلى أن المعهود والمستقر عند الصحابة، أن الخطيب والمصلي يوم الجمعة عليه أن يلبس لباساً جميلاً، وهذا في أحاديث كثيرة، تدل على أنه يلبس أحسن ما يجد، بينها صلى الله عليه وسلم في أكثر من ستة أحاديث، فعلى المسلم أن يتجمل ليوم عيد المسلمين وهو يوم الجمعة ويلبس أحسن لباس.(319/9)
من هم الذين لا خلاق لهم؟
القضية الثالثة: من هم الذين لا خلاق لهم؟ الذين لا خلاق لهم: الذين باعوا أخراهم بدنياهم.
الذين لا خلاق لهم هم الذين ما عاشوا لا إله إلا الله، وما استظلوا بمظلة لا إله إلا الله.
الذين لا خلاق لهم هم الذي ظنوا أن الحياة حياة بطون وفروج؛ فعموا وصموا عن لا إله إلا الله.
الذين لا خلاق لهم هم البهائم والذين يعيشون في مسالخ البهائم، حياة مجون وسخط وسفه وزنا وربا وغناء، لا توجه، ولا ذكر، ولا تلاوة، ولا توبة، نعوذ بالله من ذلك.
هؤلاء الذين لا خلاق لهم، لا يسألون عن الحرام ولا عن الحلال، فهم لا خلاق لهم يلبسونها في الدنيا، ولكن حرام عليهم -والله- أن يلبسوها في الآخرة، والجزاء من جنس العمل.
من استمع الغناء في الدنيا حرمه الله سماع غناء الجنة، وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول من حديث ابن عباس، وحديث أبي هريرة: {إن في الجنة جوارٍ يغنين يقلن: نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنا له وكان لنا} ولذلك ينظم ابن القيم أثراً لـ ابن عباس؛ لأن ابن عباس سئل عن غناء أهل الجنة، قال: إذا اشتهى أهل الجنة غناء، أرسل الله عليهم في الجنة ريحاً باردةً مائسة، قال: فتحرك أغصان الجنة فيسمع لذلك صوت، يطربون له طرباً لا يجدون كلذته أبداً، قال ابن القيم في منظومته النونية الكافية الشافية للانتصار للفرقة الناجية:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
وصدق رحمه الله.
وكذلك من شرب في إناء الفضة، حرمه الله عز وجل الشرب في آنية الفضة وكذلك الذهب، وفي صحيح مسلم عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من شرب في آنية الفضة، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم} نعوذ بالله من ذلك، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة، ولا تشربوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة} فحق على الله عز وجل أوجبه على نفسه أن من ترك شيئاً له عوضه خيراً منه.
فإني أدعو نفسي وإياكم لترك هذه المحرمات ليعوضنا الله خيراً منها في الجنة.(319/10)
حكم الهدية للمشرك
والقضية الرابعة: الهدية للمشرك، هل يجوز أن يهدى للمشرك؟ لأن في حديث عمر رضي الله عنه أنه أرسلها إلى أخيه وكان مشركاً، قال أهل العلم: إن كان يطمع أن يسلم هذا المشرك فله ذلك؛ لأن هذا تأليفٌ لقلبه، وتحبيبٌ له في الإسلام، فأنت إذا رأيت من رجل ضال أو مشرك أوكافر أن فيه لمسات قبول، وفيه إقبال على الإسلام، فلك أن تتحفه وتهديه، ولك أن تهش وتبش في وجهه، علَّ الله يرزقه الهداية إلى الإسلام.
ذكروا في ترجمة عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وأرضاه، قال الذهبي عنه في تذكرة الحفاظ: والله! إني لأحبه لما جعل الله فيه من الزهد والورع والجهاد، قالوا: كان له جارٌ يهودي، فكان ابن المبارك إذا اشترى لحماً بدأ باليهودي، فأعطاه قبل أن يعطي أهله، وإذا أخذ فاكهة بدأ باليهودي قبل نفسه، وإذا كسا أبناءه كسا أبناء اليهودي قبل أبنائه، فجاء بعض التجار إلى اليهودي، وقالوا: نشتري بيتك، قال: بيتي بألفي دينار، ألفٌ قيمة البيت، وأما ألفٌ فقيمة جوار عبد الله بن المبارك، فسمع عبد الله بن المبارك فتأثر من هذه الكلمة، فأعطى اليهودي ألف دينار وقال: هذا قيمة الدار ولا تبعها، ثم التفت ابن المبارك إلى القبلة، ورفع يديه، وقال: اللهم اهدِ هذا اليهودي إلى الإسلام، فأصبح الصباح وقد أتى إلى ابن المبارك، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فكانوا بأخلاقهم وبتعاملهم يدعون إلى الله عز وجل.
وبعض الناس يخلط في مبدأ الولاء والبراء بين الود وبين حسن التعامل، إذا رأى الخواجة قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، اللهم دمره، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، وبعضهم إذا رأى الخواجة كان على النقيض من ذلك، حياه وبياه، وقام يهز أكتافه بين يديه، وأين هذه الآية من آيات الله التي أخرجها لنا، وقد أتى هذا من أمريكا ولندن، فهذا لا يُرتضى وهذا لا يُرتضى.
أما الأول الذي قام أمام هذا بالعنف وبالغلظة، فهذا ليس في كتاب الله وليس في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله يقول لبني إسرائيل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] والناس هنا كلمة عامة، وحسن التعامل مطلوب حتى مع الكافر.
ذكر الغزالي أن رجلاً كافراً صاحب ابن مسعود، فلما فارقه إلى طريق الكوفة، قال له عبد الله بن مسعود: روفقت بالسعادة أو كلمة تشبه ذلك، فقيل لـ ابن مسعود: أتقول هذا لكافر؟! قال: سبحان الله! رافقني ساعة، والله يقول: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] ففرق بين المودة وحسن التعامل، فالمودة حرام؛ لأنها من الولاء والبراء.
وعند أبي داود بسند صحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله؛ فقد استكمل الإيمان} فالمقصود أن الحب والبغض والعطاء والمنع يكون لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أما المودة فلا تكون إلا لوجهه، فلا يواد الكافر وهذا أمر، وأما حسن التعامل فهو أمر آخر، كأن تتبسم له عله يُظْهر إقباله للإسلام، وعله يرتاح لهذا الدين وهذا التعامل، وعلَّ الله أن يهديه.
ولا يوجد نص واحد يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم عبس وبسر في وجه المشركين أو أغلظ لهم في الكلام، بل قال الله عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
والمقصود أنه لا بأس بهذه الأمور تأليفاً للكافر ومنها الهدية، ولذلك أهدى صلى الله عليه وسلم في حنين لبعض الناس ممن لم يسلم بعد، أو ممن هو حديث عهدٍ بالدين، فأهدى لهم من مائة ناقة، يتألف قلوبهم عليه الصلاة والسلام.
فإذا علمت أن هذا ألفةٌ للقلب فلك أن تهديه، ولك أن تقدم له خدمات عل الله أن يهديه ويرزقه الدخول في الدين.
وبعض الناس لا يرضى ذلك فيأتي بهذا الكافر، فيبسط له البساط، ويرحب به، ويواليه، ويزوره، ويؤاكله ويشاربه، لا على مقصد الدعوة للإسلام، إنما هو معجب بالكافر لأنه أتى من أوروبا، فهذا لا ترضى طريقته، وهذا يرد عليه ويبين له أنه وهن في دينه، وهزيمة في عقيدته، وفشل في ولائه وبرائه، فعليه أن يتقي الله عز وجل، لا يوالي إلا من والى الله، ولا يحب إلا من أحب الله، ولكم أن تعودوا إلى المجلد العاشر من فتاوى ابن تيمية، وقد تكلم عن الولاء والبراء كلاماً طيباً، ومن أحسن ما تكلم به في مسألة أن الناس يوالَوْن بقدر ما فيهم من الطاعات، ويعادَوْن بقدر ما فيهم من المعصية.(319/11)
نفي التعارض بين الزهد واللباس الجميل
ومن القضايا في هذا الحديث: أن اللباس الجميل لا يعارض الزهد، وقد مر هذا في غضون الحديث، فـ الحسن البصري دخل عليه فرقد السبخي، فرأى عليه ثوب صوف ممزقاً، فأشاح الحسن البصري بوجهه، قال: لعلك ظننت أن الرسول صلى الله عليه وسلم حبذ الصوف، والله! إني أخاف عليك أن تفتتن بهذا اللباس أخوف علي ممن يلبس البرد، أي: الحلل، يقول: أخاف أن تفتتن باللباس الممزق، ويفتنك الله به أكثر ممن يلبس الجميل، وهذا موجود.
وبعض الناس يلبس لباساً ممزقاً ليظهر بين الناس أنه زاهد ومتقشف، وهذه شهرة والشهرة ملعونة، ولكن أحسن الأمور أوسطها، وهو أن تلبس ما يلبسه مجمل جمهور الناس، فلا تلبس الغالي الذي يلفت نظر الناس، ولا تلبس الرخيص الذي يلفت نظر الناس.
قال النووي في رياض الصالحين: ويكره أن يقتصر من اللباس على ما يزري به نفسه أو كما قال.
ولذلك في سنن ابن ماجة بسند فيه نظر، قال: {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم لباس الشهرتين} ولباس الشهرتين: أن يشتهر الإنسان باللباس فلا يلبس إلا اللباس الراقي كبراً وعلواً وعتواً وتجبراً في الأرض، ولعن صلى الله عليه وسلم كذلك، إن صح هذا الحديث وقد تكلم عنه ابن القيم في كتاب اللباس- من يلبس الوضيع الممزق ليظهر نفسه أنه ناسك، ويعلم الله أنه ليس بناسك وإنه لَفاجر، ويظهر نفسه أنه زاهد وليس بزاهد، ويظهر نفسه أنه متقٍ وليس بمتقٍ، والتقوى ليست باللباس، وليست في المعطيات، وليست في الدور ولا في القصور، بل التقوى في القلوب، يقول عليه الصلاة والسلام: {التقوى هاهنا وأشار إلى صدره}.
ولذلك قد يأتي يوم القيامة بعض الأغنياء، يدخلون الجنة لأحدهم قصر في الجنة كالربابة البيضاء، وبعض الفقراء يدخل النار، فلا يظن كل الفقراء أنهم في الجنة، وأن كل الأغنياء أنهم في النار، فإن الله عز وجل يعامل الناس بالتقوى، وابن تيمية يناقش مسألة: (هل الأفضل الغني الشاكر أو الفقير الصابر) وقد تكلم فيها العلماء بكتب ومجلدات، وأتى ابن تيمية فقال: ليس يفضل هذا لغناه ولا هذا لفقره، وإنما أفضلهما أتقاهما، فأفضل الناس أتقاهم لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا أمر.
وقد انتهينا من قضايا هذا الحديث وليس هناك إلا قضايا فرعية لا يحتمل المقام أن نبسطها أكثر مما ورد.(319/12)
فوائد من حديث تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم لولده إبراهيم
ثم قال البخاري رحمه الله تعالى: باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، التقدير في الكلام محذوف، معناه تقبيل الوالد لولده ومعانقته، وقال ثابت عن أنس: {أخذ النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه}.
أولاً: رحمة الولد ومعانقته وتقبيله، الرسول عليه الصلاة والسلام رحمة كما قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ومن رحمته عليه الصلاة والسلام أنه كان يقبل الأطفال ويعانقهم ويمازحهم ويحملهم؛ لأن جبابرة العرب لم يكونوا يستصحبون الأطفال في مجالسهم، ولا كانوا يحملون الجواري على أكتافهم، بل كانوا يقتلون الجواري، فلما أتى الرسول عليه الصلاة والسلام بين لهم أن من الرحمة رحمة الأطفال، ولذلك من حقوق أهلك عليك وأطفالك عليك أن يكون لهم سعة من يومك وليلك ووقتك، تعانقهم، وتقبلهم، وتداعبهم، وتمازحهم؛ لأنهم يشتاقون لدخولك والجلوس معك.
وهذا ما يفعله صلى الله عليه وسلم، حتى لا يعتذر أحدٌ أنه مشغول بوظيفته وعمله، فو الله لا يبلغ عشر معشار أعمال المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأمور الأمة تدار على كتفه: الجهاد الإدارة السياسة الإفتاء التعليم الخطابة تربية الناس إعطاؤهم وهدايتهم ودعوتهم هداية الناس، كلها على كتف المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك وجد وقتاً يأخذ فيه الأطفال ويداعبهم.
فإذا كان على الدابة حمل هذا أمامه وهذا خلفه، وإذا جلس في المجلس وأتت المرأة تستفتيه، أخذ صلى الله عليه وسلم ابنها وقبله ومازحه وعانقه، فليعرف هذا، وليعلم هذا، وسوف يأتي بسط هذا.(319/13)
ترجمة موجزة لثابت البناني
وثابت من التابعين، اسمه ثابت بن أسلم البناني من أتقى الناس، كان يقال في المثل: أتقى من ثابت البناني، وأزهد من ثابت البناني وهو من رجال البخاري ومسلم، ومن أكثر من روى عن أنس رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا ثابت أورد عنه أهل السير أنه سافر إلى خراسان في غرض له، فلما رجع قال له الناس: هل أعجبتك الحدائق والبساتين؛ لأن خراسان كانت من أجمل البلاد وهي في جنوب إيران، قال: والله ما كأني رأيت البساتين ولا الحدائق ولا الأنهار، ما أعجبتني إلا عجوز مررت بها تصلي ركعتي الضحى، وذلك أنه مر عليها، وقلبه مشغول بشيء آخر: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [النحل:107] فبعض الناس يستحب الحياة الدنيا ويرتاح لبناء القصور ثم يقول: الحمد لله أن بنينا هذا القصر، وارتحنا ونلنا سعادتنا في الحياة الدنيا.
أين أنت يا عبد الله؟ كيف ترتاح؟ الدنيا كلها أوصاب وهموم وأحزان وكربات، يموت ابنك، وتموت زوجتك، ويمرض جسمك وتموت، وإذا وصلت سبعين سنة فأنت بطل، لكن لا تصل، وما وصل السبعين إلا من قد ذهب بصره أو سمعه أو تساقطت أضراسه.
يا متعب الجسم كما تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
فالمقصود أن ثابتاً كان من أعبد الناس، بكى حتى قال بعض الناس: يوشك أن تختلف أضلاعه، وقالوا: مر بمساجد الكوفة فكان كلما مر بمسجد، دخل فيه فصلى ركعتين، فقال له الناس: مالك؟ متى تصل إلى بيتك إذا كنت كلما مررت بمسجد صليت ركعتين، قال: كلما مررت بمسجد تذكرت العرض على الله، وتذكرت الموت، فقلت: ربما أوخذ قبل أن أصلي ركعتين فأغتنم حياتي.
يقول أنس: إنَّ في الناس مفاتيح خير وفيهم مفاتيح شر، فـ ثابت البناني من مفاتيح الخير.
قال: (عن أنس) وهو أنس بن مالك خادم الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد مرت ترجمته في أكثر من مرة، وهو الذي قدمته أم سليم هدية للمصطفى صلى الله عليه وسلم، فما كان في التاريخ أعظم من هدية أم سليم للرسول صلى الله عليه وسلم، أهدت ابنها، وقالت: هذا ابني يخدمك يا رسول الله، فخدم المصطفى عليه الصلاة والسلام عشر سنوات، وهي أحسن سنوات عمره.
حتى يقول: {خدمت الرسول عليه الصلاة والسلام عشر سنوات، والله ما قال لي في أمر فعلته: لِمَ فعلته؟ وفي أمر لم أفعله: لِمَ لَمْ تفعله؟} فكانت أرقى وأسعد حياته هي التي عاشها في تلك العشر السنوات.
قال: {أخذ النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه} وهو إبراهيم بن محمد، ابن الرسول عليه الصلاة والسلام.
والرسول عليه الصلاة والسلام رزق من البنات أكثر من البنين؛ لأنه لم يكن يشب له أبناء، بل كانوا يتوفون لحكمة أرادها الله، قال بعض أهل العلم: من هذه الحكم أنه خاتم الأنبياء والرسل عليه الصلاة والسلام، فلو ترعرع له ابن وشب، لكان نبياً، والله جعله خاتم الأنبياء، فرزق عليه الصلاة والسلام إبراهيم من مارية، فلما بلغ قيل: السنتين، وقيل: حولها، كان يذهب إليه صلى الله عليه وسلم في بيت مارية، فيأخذه ويقبله ويشمه ويعانقه، ويمازحه عليه الصلاة والسلام.(319/14)
الصبر على المصائب وفضل الاسترجاع
وفي مرة من المرات دعي صلى الله عليه وسلم، لماذا دعي؟ قالوا: إبراهيم في سكرات الموت، سبحان الله! كان من أحب الناس إلى قلبه، وهو في السنتين، ليس بالكبير الذي تذهب محبته، ولا بالصغير الذي لم تبدأ محبته، لكن في سن كأنه لا يمشي إلا على كبدك أو قلبك، فأراد الله أن يجعل قلب الرسول صلى الله عليه وسلم خالصاً له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
أتى صلى الله عليه وسلم وإبراهيم في سكرات الموت فأخذه، ودموعه تهراق عليه الصلاة والسلام، وهو يقول: {تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون} أي: لا نتسخط على القضاء والقدر، فالله هو الذي أعطى، والله هو الذي أخذ.
أُثر عن داود عليه السلام، وكان ملكه ملكاً عظيماً كما سماه الله عز وجل، والذي قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] داود قيل: كان له قبل سليمان أربعون ولداً، فصلى مرة من المرات؛ فأراد الله أن يبتليه، ويختبر إيمانه، ويرفع درجته، ويمحص يقينه، ويرى هل يشكر أم لا، فسلم داود من الصلاة؛ فوجد الأربعين أمواتاً جميعاً! قال: حسبي الله ونعم الوكيل، إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قال: اللهم أبدلني خيراً منهم.
وفي صحيح مسلم عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أصيب بمصيبة فقال: اللهم اؤجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها} قالت أم سلمة: فلما توفي أبو سلمة زوجها وأحب الناس إليها، قالت: تذكرت هذا الحديث فقلته، قلت: اللهم اؤجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها، ثم قلت في نفسي -تقول هي في نفسها- من خير من أبي سلمة؟ قالت: فأبدلني الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم فتزوجها المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فلما قال داود عليه السلام: وأبدلني خيراً منهم، أبدله الله بسليمان، وجعله الله نبياً وأتاه الحكم، وكان فقيهاً عاقلاً عابداً من العباد الكبار، ملك الدنيا فلم يملك قبله ولا بعده ملك مثل ملكه! حتى يقول: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] فأجرى له الله الريح، وسخر له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الجن والإنس والطيور والسباع والزواحف، وبسط قصته في موضع آخر.
إنما المقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل إبراهيم وعانقه رحمةً به، والرسول صلى الله عليه وسلم كان من أرحم الناس.
أتت ابنته زينب فأرسلت إليه أن ابنها قد حضرته الوفاة فليحضر، وهذا الحديث صحيح، وكان مشغولاً صلى الله عليه وسلم بوفد من الناس، فقال: {أرسلوا إلى زينب وقولوا لها: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فقالت زينب: والله ليأتين أبي} وتقوِّل على أبيها: أي: تدل بحبها مع أبيها، رضي الله عنها، والبنت لها إدلال على أبيها، تحلف عليه وتجزم عليه، والله ليأتين أبي؛ لأنها في مصيبة رضي الله عنها وأرضاها، وتريد أن يشاركها المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ولا بد من شكوى إلى ذي قرابة يواسيك أو يسليك أو يتوجعُ
فقام عليه الصلاة والسلام وقام معه الناس، انظر من رحمته صلى الله عليه وسلم حتى الوفد قاموا معه، ومنهم سعد بن أبي وقاص، ومعاذ، وذكر عبد الرحمن بن عوف، فوقف صلى الله عليه وسلم، فقال: ائتوني بالطفل، فأتوا به ونفسه تقعقع كأنها في قربة، فأخذه صلى الله عليه وسلم يحتضنه وهو يبكي عليه الصلاة والسلام، حتى سمع له نشيجاً ونحيبا.
فيقول ابن عوف: {ما هذا؟ قال: رحمة جعلها الله في قلب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء} فالرسول عليه الصلاة والسلام من أرحم الناس، فهو يتبسم وقت التبسم، ويبكي وقت البكاء، وله لباس في كل حالة كما وصفه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالكمال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] قال بعضهم: إنك لعلى دين عظيم.
فسيرته صلى الله عليه وسلم عظيمة كاملة، فمن أراد الاهتداء فعليه بها، فإنَّه صلى الله عليه وسلم الموجه الذي لا يضل أبداً.(319/15)
حديث يبين فضل الحسن والحسين
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل -رجال البخاري ومسلم من أولياء الله، ومن العباد والزهاد، رفع الله قيمتهم وعبادتهم، ورفع ذكرهم بحفظهم لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم- قال: حدثنا مهدي، قال: حدثنا ابن أبي يعقوب عن أبي نعيم، قال: {كنت شاهداً لـ ابن عمر، وسأله رجلٌ عن دم البعوض، فقال: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق فقال: انظروا إلى هذا يسألني عن دمِ البعوض، وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هما ريحانتاي من الدنيا}.
القصة: يقول هذا الراوي: كنت عند ابن عمر، وبعض الروايات بينت أن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان في منى، فأتاه رجلٌ من أهل العراق، فقال: يا بن عمر! قتلت بعوضة، وهو محرمٌ، فانظروا ورعه، قتل بعوضة في الهواء، فقال: يا بن عمر! قتلت بعوضة فما علي؟ يسأل، يحذر أن تكون عليه بدنة، أو بقرة، أو دجاجة، فقال ابن عمر: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا، وفي لفظ: قاتلكم الله يا أهل العراق قتلتم ابن بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسألون عن بعوضة.
وهذا أمر، قالوا فيه: إن ابن عمر رضي الله عنه أولاً تعجب، ولو أنه أفتى الرجل فيما بعد، لكن لم تذكر الفتوى، فلا بد أنه علمه لأنه لا يكتم العلم، لكن تعجب من هذا السؤال، ورع مظلم، وبعض الناس ورعه بارد كما قال الإمام أحمد.
إذا ذكر الكافر الماركسي الملحد قال: أستغفر الله، لا تغتابوا أحداً في مجلسنا، وإذا أتى ذكر جاره، أو ذكر الدعاة، وبعض طلبة العلم، أو بعض الصالحين والأخيار وقع فيه، فإذا قيل له: استغفر الله، قال: أنا ما أغتابه ولكن أبين شيئاً موجوداً فيه، أما الملحد فأنا أستغفر الله، نبرئ ألسنتنا من أن نغتاب الملحدين، ريغان، وماركس، ولينين، وشامير، وأمثالهم من أعداء الله، فهذا ورع مظلم وبارد، فبعض الناس يتحرز في قطرات وفي أشياء ويركب من الذنوب أمثال الجبال.
فهو يقول: أنتم قتلتم الحسين، أو نسيتم قتل الحسين، والجرح في كبد الأمة يوم ذبحتموه كما تذبح الشاه؟! ابن الرسول عليه الصلاة والسلام الذي يقول فيه وفي الحسن: {هما ريحانتاي من الدنيا} وصدق عليه الصلاة والسلام: {الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة} كان الحسن عمره خمس سنوات يوم توفي عليه الصلاة والسلام أو قريباً من ذلك، وعمر الحسين قريباً من أربع، قيل: بينهما سنة.(319/16)
صورة من حب الرسول صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام لا يجلس في مجلس أو في مجمع أو يرى أطفالاً إلا ويقول: عليَّ بـ الحسن والحسين، وكان إذا أراد أن يخرج في ضاحية من ضواحي المدينة، سلم على فاطمة، وقال: علي بـ الحسن والحسين، وفي سنن النسائي بسند جيد، عن أبي بصرة الغفاري، قال: {صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -إما الظهر وإما العصر- قال: فمكث صلى الله عليه وسلم ساجداً طويلاً -حتى في بعض الروايات أن هذا الرجل رفع رأسه ينظر أين الرسول عليه الصلاة والسلام، أي: أبطأ عليه في السجود؛ فرفع ينظر- قال: فلما سلم صلى الله عليه وسلم، قال: لعلي أبطأت عليكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: إن ابنيَّ هذين ارتحلاني} أي أن الحسن والحسين، صعدا على ظهره، رأيا المنظر، فصعدا على المصطفى عليه الصلاة والسلام، قال: {إن ابني هذين ارتحلاني فكرهت أن أوذيهما} فمكث صلى الله عليه وسلم حتى نزلا من على ظهره.
وفي الصحيح: باب هل يقال سيد، فذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخطب الناس على المنبر، فأتى الحسن وعمره خمس سنوات وثوبه طويل فكان يعثر فيه، فقطع الخطبة عليه الصلاة والسلام ونزل وأخذ يشق الصفوف، حتى أخذ الحسن، وقبله، واحتضنه، وأجلسه بجانبه على المنبر، وأخذ يكلم الناس وهو يضع يده على رأس الحسن، يمرها ويقول وهو ينظر إليه: {إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين} وهذا في الصحيح، وبالفعل كان سيداً من السادات، أصلح الله به بين الفئتين العظيمتين، بين جيش علي بن أبي طالب، وجيش معاوية رضي الله عنهما، جيش العراق وجيش الشام التقيا، فكان جيش العراق مائة ألف، وجيش الشام ثمانين ألفاً، التقيا، وقصد الجيشين أن تسفك الدماء، وتضرب الجماجم، ويكون المعترك أحمر قانياً.
فلما التقوا أتى الحسن رضي الله عنه، فتنازل عن الخلافة، وقال لـ معاوية: خذها لك (ول حارها من تولى قارها) وحقن دماء المسلمين، وكان سيداً حقن الله به الدماء.(319/17)
قصة مقتل الحسين رضي الله عنه
فالشاهد: أن ابن عمر يذكر أهل العراق بقتل الحسين.
والحسين بن علي رضي الله عنه خرج من مكة وعمره يناهز الستين يوم قتل، وكلمه ابن عباس وابن عمر ونصحاه ألا يخرج إلى العراق، قال: لا.
العراق فيه الخير، وسينفع الله بخروجي، وكان الخليفة في ذاك الوقت هو يزيد بن معاوية، وهذا عبيد الله بن زياد، هو الوالي على الكوفة من قبل يزيد بن معاوية، وهذا عبيد الله بن زياد هذا نسأل الله العافية ضالٌ مضل، أمره إلى الله عز وجل، لا يروى عنه، فليس أهلاً لذلك وليس بثقة.
يقول أحد العلماء: هل أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يروي عن عبيد الله بن زياد بعدما فعل بـ الحسين، ما فعل، فأرسل عبيد الله بن زياد جيشاً يقارب ثلاثة آلاف أو أكثر، وقال: اعترض الحسين بن علي، إما أن تردوه إلى المدينة، وإما أن تقتلوه، لا تتركوه يصل أبداً إلى العراق، فالتقوا بـ الحسين وكان معه أهله، منهم علي بن الحسين زين العابدين ابنه وكان من العباد الكبار، فالتقوا بـ الحسين، قال: اتقوا الله أنا ابن بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، أتقاتلونني؟ وهم مسلمون! قالوا: أمرنا عبيد الله بن زياد، وأدمغتهم أدمغة حمير لا تفهم، وهو يقول: ابن بنت رسول الله وهم يقولون: أمرنا عبيد الله.
قال: أقول: أنا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا تقولون لله يوم القيامة إذا قال: قتلتم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا ننتهي، إما أن تعود إلى المدينة، أو تأتي نسلمك إلى عبيد الله بن زياد!! قال: أما عبيد الله فو الله لا أسلم نفسي إليه؛ لأنه فاجر؛ نسأل الله العافية: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134].
قال: اتركوني اذهب إلى يزيد، قالوا: ولا نتركك، قال: اسقوني من الماء، قالوا: ولا نسقيك، فحجزوه عن الماء في الصحراء، وبدأ القتال في اليوم الثاني بعدما فشلت المفاوضات، وكان الحسين من أشجع الناس، فأخذ السيف يقاتل، وأخذ أهل العراق يكبرون، يكبرون على أنهم قتلوه، فضربوه رضي الله عنه وأرضاه وقتلوه، حتى يقول الشاعر:
جاءوا برأسك يا بن بنت محمد متزملاً بدمائه تزميلا
ويكبرون بأن قتلت وإنما قتلوا بك التكبير والتهليلا
يكبرون على أن قتلوك، وجدك الذي أتى بالتكبير إلى الناس، لو لم يأتِ عليه الصلاة والسلام للناس ما عرف التكبير والتهليل، يوم قتلوك يكبرون على أنهم انتصروا، وذهبوا برأسه رضي الله عنه وأرضاه إلى عبيد الله بن زياد، فأخذ عبيد الله بن زياد عصاً -انظر إليه نسأل الله أن يحاسبه بما فعل- أخذ عصا وجلس في ديوانه وحوله بعض الوزراء وقواد الجيش، وأخذ العصا يشير بها إلى أنف الحسين، ويتكلم لهم، فأتى بعض الصحابة يتباكون في مجلسه، قالوا: ارفع عصاك، والله الذي لا إله إلا هو لقد رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يقبل هذا الموضع الذي تضع العصا عليه، ويقول في الحسن والحسين: {هما ريحانتاي من الدنيا} فالمقصود هذا شاهد الحديث.
قال ابن عمر: [[انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم]] وعند ابن كثير في ترجمة الحسين، أن ابن عباس كان في مكة يوم قتل الحسين، فقام ابن عباس في الظهيرة بعد صلاة الظهر يبكي، وهو في مكة، قال له أهله: مالك يا بن عباس؟! قال: قتل الحسين اليوم، قال: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو يقول: يا بن عباس! أما رأيت الأمة ماذا فعلت؟ قتلت ابني، هذا ذكره ابن كثير بأسانيد.
فـ ابن عمر يذكر هذا، ويقول: تتورع عن قتل بعوضة، وأنتم ما تورعتم عن قتل البطل الشهير.
قال: وسمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {هما ريحانتاي من الدنيا} يقولون: معناه هما تحفتاي من الدنيا، أو هما الشيء الذي آخذه من الدنيا؛ لأن الدنيا لا أحبها، ولا أريد بهجتها، لكن لو كنت أحب شيئاً من الدنيا فهو الحسن والحسين، وقال بعضهم كـ الزمخشري في الفائق، ريحانتاي: معناها الباقة من الورد، فكأنهما أشبه بالريحان؛ كما قال أبو العتاهية:
ياللشباب المرح التصابي روائح الجنة في الشباب
فيقول عليه الصلاة والسلام: هما أشبه بباقة الورد، فما أخذت من الدنيا إلا الحسن والحسين.(319/18)
فضل تربية البنات والإحسان إليهن
ثم قال البخاري رحمه الله تعالى: إن عروة بن الزبير أخبره -أخبر الراوي- أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته قالت: {جاءتني امرأة عندها ابنتان تسألني فلم تجد عندي غير تمرة واحدة فأعطيتها، فقسمتها بين ابنتيها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته، فقال: من ولي من هذه البنات شيئاً فأحسن إليهن كن له ستراً من النار} وفي لفظ: {من يل}.
عائشة رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق، المطهرة، المبرأة من فوق سبع سماوات كانت جالسة في بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم، فدخلت عليها امرأة تسأل من مال الله عز وجل، ومن عطاء الله، وكانت جائعة وابنتاها جائعتان، وكان بيته صلى الله عليه وسلم كبيت أحد الفقراء ليس فيه شيء، حتى تقول عائشة: ربما يمر علينا الهلال بعد الهلال لا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار، إنما طعامهم الأسودان التمر والماء، فكان عليه الصلاة والسلام في بيته متقشفاً، وربما يأكل اللحم إذا وجده والخبز والتمر، وكان يهدى إليه صلى الله عليه وسلم اللبن، فكان مع جيرانه صلى الله عليه وسلم من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم.
فدخلت هذه، فبحثت عائشة في بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم، فما وجدت إلا تمرة واحدة، سبحان الله! نعيش اليوم في نعم جليلة، لا نستطيع شكرها، نسأل الله أن يبلغنا شكرها، وما حقها إلا أن نثني على الله بها، فإن الله إذا أنعم على العبد يريد أن يثني العبد على الله بنعمه، ويريد سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن تشكر؛ قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] ويوم يرى الله العباد يأكلون ويتمتعون ويسرحون ويمرحون ثم لا يشكرونه يسلبهم النعم، ويبتليهم بالفقر والجفاف والجوع والحرب المدمر.
فقامت فما وجدت إلا تمرة، فهل تقدم التمرة أم لا؟ ورد في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها ذات مرة ما وجدت إلا عنبة فأعطتها فقيراً، قال لها رجل: العنبة ماذا فيها؟ قالت: إن فيها ذرات كثيرة، والله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلْق -أو طلِق، أو طليق-} أي: لا تحقر شيئاً من المعروف، ولا تظن أن هذا لا يحسب لك، حتى ولو أن تتبسم في وجوه المسلمين، وأن تهش وتبش، فإن هذا من المعروف.(319/19)
رحمة الأم بأبنائها
فإذا عرف هذا فإنها قامت فأعطتها تمرة، فأخذت هذه المرأة التمرة، وانظر إلى حنانها، هي جائعة فقسمت التمرة قسمين، وأعطتها ابنتيها؛ لأنها لا تستطيع أن تعطيها واحدة أو تأكلها وتترك البنتين، فقسمت التمرة قسمين؛ فذهبت المرأة ودخل صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستغرب، كلما دخلت امرأة قال: من هذه التي كانت عندك.
حتى يكون على معرفة بمن يدخل بيته، وعلى معرفة بأمته، وعلى معرفة بالرجال والنساء، حتى يعرف أحوال المجتمع وشئون الناس.
وفي صحيح البخاري أن الحولاء بنت تويت، كانت تعبد الله عز وجل، حتى يقولون: كانت تربط حبلاً تتعلق به إذا فترت في قيام الليل، فلما ذهبت من عند عائشة، قال صلى الله عليه وسلم: من هذه المرأة التي كانت عندك؟ قالت: هذه الحولاء بنت تويت، صائمة، قائمة، عابدة، ناسكة، وذكرت عائشة من شدة عبادتها، فقال عليه الصلاة والسلام: {مه، عليكم من الأعمال بما تطيقون، فو الله لا يمل الله حتى تملوا} مه! أي: لتكف عن فعلها، نحن لا نحب التشديد في العبادة حتى يكره الإنسان العبادة وينقطع، وقد يخل بالواجبات: {مه؟! عليكم من الأعمال بما تطيقون، فو الله لا يمل الله حتى تملوا} وكان أحب العمل إليه ما داوم عليه صاحبه وإن قل.(319/20)
حث النبي على كفالة البنات خاصة
فهذه المرأة لما خرجت، سأل صلى الله عليه وسلم عائشة عنها، قالت: هذه المرأة أعطيتها تمرة فقسمتها بين ابنتيها، فقال عليه الصلاة والسلام: {من ولي من هذه البنات شيئاً فأحسن إليهن كن له ستراً من النار} والبنات أمرهن عجيب، أضعف الناس قلوباً، وأكثر الأحاديث في البنات وتربية البنات؛ لأن الرجال أشداء وأقوياء، وباستطاعتهم إذا كبروا أن يشبوا ويقوموا بأنفسهم، أما البنات فلا بد لهن بعد الله من راعٍ.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {من عال جاريتين فرباهن وأدبهن وأحسن تربيتهن، ثم زوجهن، كان جاري في الجنة} ويقول: {أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين} ويشير صلى الله عليه وسلم بإصبعيه.
والعجيب أن الله تعالى رزق الرسول صلى الله عليه وسلم البنات وكبرن معه أكثر من الأولاد، فالأولاد لم يستمروا في حياته صلى الله عليه وسلم كثيراً، فكان له أربع عليه الصلاة والسلام: فاطمة أصغرهن، وأم كلثوم، وزينب، ورقية، والثلاث توفين في عهده صلى الله عليه وسلم وفي حياته، وبقيت فاطمة بعده ستة أشهر.
قال بعض العلماء: من الحكمة في ذلك ألا يجدن خصاصة بعده صلى الله عليه وسلم، أو فقراً، أو مسكنة، أو أذى، أو شراً، فتوفين قبله صلى الله عليه وسلم، ثم لحقت فاطمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حضرته سكرات الموت، كانت فاطمة تقول -كما في البخاري - {واكرب أبتاه، قال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم} فأسر إليها كلمة، فقال عليه الصلاة والسلام: {أنتِ أول الناس لحاقاً بي} وقيل: أول أهلي لحاقاً بي، فسرت بهذه الكلمة، وقال: {ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين}.
فقال عليه الصلاة والسلام: {من ولي من هذه البنات شيئاً فأحسن إليهن، كنَّ له ستراً من النار}.(319/21)
أحاديث أخرى في فضل رحمة الولد
وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: {من لا يَرحم لا يُرحم}.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها، جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تقبلون الصبيان فما نقبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة} أما الحديث الأول -حديث أبي هريرة فإن- الأقرع بن حابس وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن ذلك في السنة التاسعة، وهو من وفد بني تميم السابق، وهو سيد من ساداتهم، أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم يتألفه مائة ناقة في حنين، مع أناس آخرين من وجوه الناس وصناديد الناس، وترك الأنصار وهم الذين قاتلوا معه في الغزوات رضي الله عنهم وأرضاهم.
فلما أعطى هؤلاء الذين دخلوا الإسلام قريباً اجتمع الأنصار، وقالوا: غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي هؤلاء، وسيوفنا تقطر من دمائهم ويتركنا، فذهبت هذه المقالة وشاعت حتى وصلت الرسول عليه الصلاة والسلام، فدعا سعد بن عبادة، قال: يا سعد ما مقالة بلغتني عنكم؟ قال: ما هي يا رسول الله؟ فأخبره، قال: هو كما سمعت يا رسول الله، قال: كيف أنت من هذه المقالة؟ أتقرها، أو تنكرها؟ لأنه كان سيدهم، قال: هل أنا إلا من قومي يا رسول الله، يقول دريد بن الصمة:
وهل أنا إلى من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
قال: أنا منهم، قال: اجمعهم لي في الحديقة، وهي حديقة كبيرة كالبستان، فاجتمع الأنصار رضوان الله عليهم، قال: ولا يأت غيركم، أي: لا يدخل هذه الحديقة إلا الأنصار، فاجتمعوا، فقام عليه الصلاة والسلام، فأشرف؛ فسلم عليهم، قال: هل أحدٌ من غيركم معكم؟ قالوا: معنا فلان أمه منا، قال عليه الصلاة والسلام: {ابن بنت القوم منهم} ثم قام عليه الصلاة والسلام فتكلم، قال: {يا معشر الأنصار! أما أتيتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ أما أتيتكم فقراءً فأغناكم الله بي؟ أما أتيتكم متفرقين فجمعكم الله بي؟} فأخذوا يقولون: لله المنة، لله المنة، لله المنة، وفي بعض الألفاظ، لله المنة ولرسوله، فقال: {يا معشر الأنصار! والله لو شئتم لقلتم، فصدقتم وصدقتم، أتيتنا طريداً فآويناك، وأتيتنا شريداً فنصرناك، وأتيتنا فقيراً فأغنيناك} ثم رفع صوته صلى الله عليه وسلم وقال: {يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، والله لو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، رحم الله الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار} فأخذوا يبكون حتى اخضلَّت لحاهم، ثم قالوا: رضينا بالله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً ونصيباً.
فـ الأقرع هذا صاحب المائة ناقة أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة فرأى صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن، فيقول الأقرع: تقبلون الأبناء عندكم؟ وكأنه اكتشف شيئاً جديداً!! أي: عندنا لا نقبل الأبناء، ويبشر الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: عندي عشرة من الأبناء ما قبلت واحداً منهم، ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما أشجعك! أو ما أصبرك! فيقول صلى الله عليه وسلم: {أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟! من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ} فالرسول عليه الصلاة والسلام يقبل الأطفال، وهو شاهد الحديث من الترجمة للبخاري.
والأقرع بن حابس أعرابي من بني تميم فيه جلافة رضي الله عنه وأرضاه، وأسلم وحسن إسلامه، فالمقصود أن فيه جفاءً، ونحن نقدر كل من أسلم ولو صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة واحدة، لكن الجفاء ما زال فيه وفي أمثاله، وقد وصفهم الله بذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] هذا أمر.
فقضايا الحديث تدور على أن من الرحمة ملاطفة الأطفال والأهل ومداعبتهم وممازحتهم، ولا يعارض ذلك التقوى؛ لأن بعض الناس يقول: كيف يكون المتقي متقياً، وهو يمازح في مجلسه الأطفال؟! أتقى الناس، وأخشى الناس، وأعلم الناس، وأخلص الناس مازح ولاعب الأطفال، وهو في التقوى لا يوصل إلى مرتبته عليه الصلاة والسلام.(319/22)
أحاديث تبين فضل الرحمة
وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: {قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من لا يَرحم لا يُرحم}.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها، جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {تقبلون الصبيان فما نقبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة}.
أما الحديث الأول، حديث أبي هريرة؛ فإن الأقرع بن حابس وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم والظاهر أنه في السنة التاسعة، وهو من وفد بني تميم السابق، وهو سيد من ساداتهم أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم يتألفه مائة ناقة في حنين، مع أناس آخرين من وجوه الناس وصناديد الناس، وترك الأنصار وهم الذين قاتلوا معه في الغزوات رضي الله عنهم وأرضاهم.
فلما أعطى هؤلاء المشركين الذين دخلوا الإسلام قريباً اجتمع الأنصار، وقالوا: {غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي هؤلاء الكفار، وسيوفنا تقطر من دمائهم ويتركنا، فذهبت هذه المقالة وشاعت حتى وصلت الرسول عليه الصلاة والسلام، فدعا سعد بن عبادة، وقال: يا سعد! ما مقالة بلغتني عنكم؟ قال: ما هي يا رسول الله؟ فأخبره، قال: هو كما سمعت يا رسول الله، قال: كيف أنت من هذه المقالة؟ -أتقرها أو تنكرها؟ لأنه كان سيدهم- قال: وهل أنا إلا من قومي يا رسول الله} يقول دريد بن الصمة:
وهل أنا إلى من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
أمرتهم وأمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
قال: {اجمعهم لي في الحديقة ولا يأتي غيركم -وهي حديقة كبيرة كالبستان- فاجتمع الأنصار رضوان الله عليهم، فاجتمعوا، فقام عليه الصلاة والسلام، فأشرف؛ فسلم عليهم، قال: هل أحدٌ من غيركم معكم، قالوا: معنا فلان أمه منا، قال عليه الصلاة والسلام: ابن بنت القوم منهم، ثم قام عليه الصلاة والسلام فتكلم، فقال: يا معشر الأنصار! أما أتيتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ أما أتيتكم فقراءً فأغناكم الله بي؟ أما أتيتكم متفرقين فجمعكم الله بي؟ فأخذوا يقولون: لله المنة، لله المنة، لله المنة -وفي بعض الألفاظ، لله المنة ولرسوله- فقال: يا معشر الأنصار! والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم، أتيتنا طريداً فآويناك، وأتيتنا مخذولاً فنصرناك، وأتيتنا فقيراً فأغنيناك} ثم رفع صوته صلى الله عليه وسلم وقال: {يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ والله! لو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، فأخذوا يبكون حتى اخضلَّت لحاهم، ثم قالوا: رضينا بالله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً}.
فـ الأقرع هذا صاحب المائة الناقة أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة فرأى صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن، فيقول الأقرع: تقبلون الأبناء عندكم، وكأنه اكتشف شيئاً جديداً!! أي: عندنا لا نقبل الأبناء، ويبشر الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: عندي عشرة من الأبناء ما قبلت واحداً منهم، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما أشجعك! أو ما أصبرك! فيقول صلى الله عليه وسلم: {أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك، من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ} فالرسول عليه الصلاة والسلام يقبل الأطفال، وهو شاهد الحديث من الترجمة للبخاري.
والأقرع بن حابس أعرابي من بني تميم فيه جلافة رضي الله عنه وأرضاه، وقد أسلم وحسن إسلامه، فالمقصود أن فيه جفاءً، ونحن نقدر كل من أسلم ولو صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة واحدة، لكن الجفاء لا زال فيهم، وقد وصفهم الله بذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] فهذا أمر.
فقضايا الحديث تدور على أن من الرحمة ملاطفة الأطفال والأهل ومداعبتهم وممازحتهم، ولا يعارض ذلك التقوى؛ لأن بعض الناس يقول: كيف يكون المتقي متقياً وهو يمازح في مجلسه الأطفال؟ أتقى وأخشى وأعلم وأخلص الناس مازح ولاعب الأطفال وهو في التقوى لا يوصل إلى مرتبته عليه الصلاة والسلام.(319/23)
بيان سعة رحمة الله سبحانه وتعالى
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، قال: {قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا.
وهي تقدر على ألا تطرحه، قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها}.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان جالساً يوماً من الأيام وعنده سبي، والسبي: ما يؤخذ من الكفار، وفي السبي نساء فيهن امرأة ضاع ابنها في وسط السبي، وهي كافرة، فتذهب بثديها وفيه لبن تبحث عن طفلها، فلما وجدت هذا الطفل ألصقته ببطنها بحرارة وأسى ولوعة وحزن، فلما رأى الصحابة هذا المشهد أراد صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم درسا ًعن رحمة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فقال: {أترون أن هذه تطرح ابنها في النار} أي: أتظنون هذه تطرح ولدها في النار على ما رأيتم من رحمتها له، قالوا: لا يا رسول الله وهي تقدر على ألا تطرحه، بل تحاول كل المحاولة ويمكن أن تموت دون أن تطرحه، قال عليه الصلاة والسلام: {لله أرحم بعباده من هذه بولدها} سبحان الله! الله عز وجل أرحم بالناس وبعباده المؤمنين من هذه بولدها.
ولذلك ذكر في ترجمة حماد بن سلمة، أحد الأخيار الصلحاء، أنه لما حضرته سكرات الموت، أتى بعض إخوانه يزورونه، فقال: حسنوا ظني بربي؛ لأن في الحديث: {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه} وهو حديث صحيح من حديث جابر، فقال له أحد العلماء: يا حماد! والله الذي لا إله إلا هو لو خيرت بين أن يحاسبني أبي وأمي، أو يحاسبني ربي، لاخترت حساب الله عز وجل، سبحان الله! فرحمة الله وسعت كل شيء، والحديث شاهد على هذا.
فالمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يصور لهم أن رحمة الله أكبر مما يتصور الإنسان: {لله أرحم بعباده من هذه بولدها} فيا لرحمة الله عز وجل، لكن رحمة الله لعباده الذين يتقونه، ويريدون وجهه، ورحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لمن يطلب الرحمة صباح مساء، ولمن يكثر من التوبة والاستغفار.
قال: {إذ وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار، قلنا: لا وهي تقدر على ألا تطرحه} العجيب أن الأم تجد تجاه ابنها من الرحمة ومن اللطف ما لا يجد أي أحد من الناس؛ لا أب ولا أخ ولا غيره.
في الحديث الصحيح، حديث صهيب في القوم الذي فتنوا في سبيل الله عز وجل، وابتلاهم الله عز وجل، حيث أحرقوا في النار في الأخدود، قيل: إنهم من نجران، وكان آخر من أتى امرأة معها صبي بين يديها لا يتكلم، فاقتربت، فلما رأت النار خافت على ابنها؛ لأن قومها كانوا يوردون النار، وكان الملك يجمعهم بالجنود حتى يسقطوا في النار، فلما رأت النار وهي تضطرم أمامها، نظرت إلى ابنها فخافت عليه أكثر من نفسها فأحجمت عن النار، فأنطق الله هذا الابن وقال: يا أماه أقدمي؛ فإنك على الحق، فسقطت بابنها في النار.
وللفائدة: فإن كثيراً من المفسرين ذكروا أن الله عز وجل كان يقبض أرواح هؤلاء المؤمنين قبل أن يصلوا إلى النار، فيقبضها في الجو، حتى لا تجد ألم وحرارة النار، ليسكنهم الله جنة عرضها السماوات والأرض، وهذه من الرحمة العظيمة.
قال: {لله أرحم بعباده من هذه بولدها} وصفة الرحمة من أعظم صفاته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وله رحمة تليق بجلاله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وكل الصفات والأسماء تثبت له كما وردت، بلا تشبيه ولا تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل، فنقرها ولها كيفية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم بها.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {جعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الرحمة مائة جزء؛ أمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً، وأنزل جزءاً واحداً في الدنيا، من هذا الجزء يتراحم الناس فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه أو أن تؤذيه} والتسعة والتسعون ينزلها الله عز وجل يوم القيامة.
ولذلك ذكر ابن تيمية في كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام، أن المكفرات عشرة، يقول: من فاتته هذه العشر ولم يجد واحداً منها فليبكِ على نفسه، فقد شرد على الله شرود الجمل على أهله، أو العبد الآبق على سيده.
منها، والشاهد في آخرها: المصائب المكفرة، والحسنات الماحية، ودعوات المؤمنين لك بالخير إذا أصلحت خلقك وأحسنت معاملتك، فدعوا لك بالخير، وشفاعتهم لك وقت الجنازة، وما تلقاه في سكرات الموت، وسؤال منكر ونكير في القبر، والهول بين يديه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يوم القيامة، وما تلقاه في العرصات، وشفاعة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فإذا لم تجد هذه تأتي رحمة أرحم الراحمين، بعد أن تنتهي هذه التسع، يقول الله عز وجل: ابحثوا لعبدي هل له حسنات، قالوا: لا حسنات، هل له مصائب في الدنيا؟ قالوا: لا مصائب، هل أتته سكرات الموت فخففت من ذنوبه؟ قالوا: ذنوبه أعظم، هل فتنة وعذاب القبر كفاه؟ لأن بعض الناس من المسلمين يكفيه عذاب القبر نعوذ بالله من عذاب القبر، ومن يتحمل العذاب ولو ساعة، بعضهم يعذب في قبره أسبوعاً أو شهراً أو سنة، وبعضهم يعذب حتى يبعث الله الناس ليوم لا ريب فيه.
فيقول: هل كفاه عذاب القبر؟ فيقولون: ما كفاه، فإذا انتهت هذه، هل يدخل في الشفاعة؟ قد لا يدخل، فتأتي رحمة أرحم الراحمين، وربما لا يستحق رحمة أرحم الراحمين فيدهده على وجهه في النار، نعوذ بالله من ذلك.
فهذه رحمة الله عز وجل التي أنزلها بين الناس وبها يتراحم الناس.
وأرحم الناس بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
فنسأل الله عز وجل أن يرحمنا برحمته، وأن يتولانا وإياكم في الدارين، وأن يجعلنا وإياكم ممن أحبه، وأحب رسوله، وأحب كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(319/24)
الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأطفال
إن الإسلام أعطى الطفل أهمية كبيرة، بحيث جعل له أحكاماً تختص به، وخير من تعامل مع الأطفال الرسول صلى الله عليه وسلم، فيا ترى كيف كانت تربية الرسول صلى الله عليه وسلم للأطفال وتعامله معهم؟
وما هي مكانتهم عنده عليه الصلاة والسلام؟
وكيف كانت رحمته بهم؟
وما هي الأحكام الخاصة بالطفل؟
إجابة هذه التساؤلات تجدها في ثنايا هذا الدرس.(320/1)
النبي صلى الله عليه وسلم وتعامله مع الأطفال
الحمد لله رب العالمين، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ، يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ معلم البشرية وهادي الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية.
صلى الله وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل المذكور في التوراة والإنجيل، المعلم الجليل المؤيد بجبريل، وعلى آله وصحبه ومن سار على منهجه إلى يوم الدين، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، شكر الله لعميد هذه الكلية وللأساتذة الكرام، ولكم أيها الحضور.
وعنوان هذه المحاضرة: (الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأطفال) وإذا كان الحديث عن محمد عليه الصلاة والسلام فإنه حديث جميل، وإذا كان المجلس معه، فإنه مجلس أنس وبركة.
نسينا في ودادك كل غال فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرف نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
لكننا سنأخذ جانباً واحداً من حياته العظيمة عليه الصلاة والسلام، وهو جانب "الطفل" كيف كان يربي الطفل، كيف كان يحنو على الطفل، وكيف غرس في الطفل الإيمان:
يا طفل غرد في تبسم أحمد وابسم ضياء جبينه المتلالي
واسعد برؤية خير من وطئ الثرى راعي اليتامى قائد الأبطال
يا طفل في قلب الرسول مكانة لك قد حباها سيد الأجيال
دينٌ حوى نهج التكامل والوفا للشيب والفتيات والأطفال
وعناصر هذه المحاضرة:
العنصر الأول: مكانة الطفل في قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
العنصر الثاني: تربيته عليه الصلاة والسلام للأطفال.
العنصر الثالث: رحمته بالأطفال عليه الصلاة والسلام.
العنصر الرابع: من أحكام الأطفال.
العنصر الخامس: الأطفال الكبار، أهل الاهتمامات العالية السامية المرتفعة التي غرسها محمد عليه الصلاة والسلام.(320/2)
مكانة الطفل في قلب النبي صلى الله عليه وسلم
العنصر الأول: وهو مكانة الطفل في قلب محمد عليه الصلاة والسلام:
فقد كان للطفل في قلبه مكانة وأي مكانة! ألبسه عليه الصلاة والسلام حلة التقوى، وحنك الأطفال بيده صلى الله عليه وسلم، وأرضعهم التوحيد، وجعلهم عليه الصلاة والسلام يشرقون على نور لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ينشأ الطفل في عهده عليه الصلاة والسلام وأكبر قضاياه في الحياة أن ينصر دين الله، وأن يرفع كلمة لا إله إلا الله، وأن يسجد جبينه لله.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
ووجد الطفل في الرسول عليه الصلاة والسلام الكف الحانية، والدمعة المؤثرة، والبسمة الرقيقة، والدعابة الحية، ووجد الطفل في الرسول عليه الصلاة والسلام الأب المربي، والشيخ الجليل، والمعلم النبيل، فكان أطفال الصحابة ينهجون نهجه عليه الصلاة والسلام في حركاته وسكناته، إنه مؤثر جد مؤثر، يقول تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] عجيب أمره عليه الصلاة والسلام.
ما بنى جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمة من عفاء(320/3)
تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم عند ولادة الطفل
تعال إليه عليه الصلاة والسلام وهو يأمر من الغرسة الأولى بالهدى الإسلامي، ويأمر أن يكون الالتقاء بين الرجل وزوجته على سنته عليه الصلاة والسلام، ففي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم رزق بمولود لم يضره الشيطان أبداً} من أول التقاء بين الرجل وزوجته والتوحيد يسري في عروق هذه الدعوة وهذه التربية الفذة، ثم يولد الطفل، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري أنه قال: {ما من مولود إلا وقد نزغه الشيطان إلا عيسى عليه السلام} أما ترى الطفل كيف يبكي، كان في بطن ضيق وخرج إلى أرض فسيحة ثم بكى، ولذلك صور الشعراء، هذا الموقف المحزن المبكي:
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
ما أجمل العبارة؟ يوم أتت بك أمك تبكي، عجباً وأنت خرجت من الضيق إلى السعة، وأنت خرجت من حياة ضيقة -في مفهوم الناس- إلى حياة أوسع، إلى الدور والقصور والماء والهواء، لكنك خرجت تبكي.
ولدتك أمك باكياً مستصرخاً والناس حولك يضحكون سرورا
يستبشرون بقدومك ويهنئون أباك ويبشرونه، فيقول الأول:
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
فتتحول الحال ويبكون عليك إذا فارقت الحياة.
وقال الثاني: وقد ذكره العلماء:
ويكفيك من ضيق الحياة وبؤسها دليلاً بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنه لفي بطن أمٍ كان في العيش يسعد
ما له يبكي؟
ليس إلا ألأنه وجد بطن الأم عنده أحسن، يوم نزل إلى دنيا الطاغوت والظلم والبعد عن الله إلا من اهتدى بهدى محمد عليه الصلاة والسلام، وقال أبو العتاهية:
أذان الطفل في الميلاد دوماً وتأخير الصلاة إلى الممات
دليل أن محياه قليل كما بين الإقامة والصلاة(320/4)
سنة الأذان في أذن المولود وفوائده
من السنة أن يؤذن في أذن الطفل ولكن لا صلاة، أذان بلا صلاة، ويصلى عليه إذا مات صلاة الجنازة، ولكن بلا أذان، فالأذان يوم ولد والصلاة أخرت إلى أن مات، دليل على أن الفترة قصيرة جد قصيرة، أدركها من أتت عليه سكرات الموت {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام:31].
ويولد الطفل على التوحيد، على كلمة لا إله إلا الله، فما من طفل في العالم إلا ويولد وفي قلبه لا إله إلا الله محمد رسول الله، أول ما يقع رأسه على الأرض، يقع على العقيدة الحية، وعلى الرسالة الخالدة، يقع موحداً مؤمناً على الفطرة، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30] لا يولد شيعياً ولا علمانياً ولا يهودياً ولا نصرانياً، ولكن يولد الطفل حنيفاً مسلماً، صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} إذاً فهو مسلم، أول ما يولد الطفل أو الطفلة على هذا الدين الحنيف الذي أتى به رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو دين الأنبياء والرسل عليهم صلاة الله وسلامه، فإذا وقع الطفل في الأرض كان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يؤذن في أذنه، والحديث في الأذان في أذن الطفل سنده حسن عند أبي داود وغيره.
أذن الرسول عليه الصلاة والسلام في أذن الحسن، ابن بنته وسبطه عليه الصلاة والسلام، فينادي في أذنه بالنداء الخالد، هذا الذي نعلنه كل يوم خمس مرات من على منائرنا، مبادؤنا تعلن واضحة جلية جهاراً نهاراً من على المأذنة، كل يوم خمس مرات يقول في أذنه: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله حيا على الصلاة حيا على الصلاة حيا على الفلاح حيا على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله.
هل سمعتم كلاماً أجمل من هذا، هل سمعتم رسالة وتعليماً أروع من هذا؟!
قال أهل العلم: إنما أذن عليه الصلاة والسلام في أذنه لمقاصد.
منها: أن يلهمه الله التوحيد وأن يكون على الفطرة.
منها: أن الأذان إعلان للإسلام.
منها: أن الأذان يطرد الشيطان، وفي السنة إذا أحسست بوجود جن أن تؤذن فإنهم يهربون من الأذان، كما صح ذلك عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام.
أما الإقامة فحديثها ضعيف، ولكن يكفي الأذان الذي يخترق الأذن ليصل إلى القلب، فيغرس أشجاراً من الإيمان واليقين والإخلاص، وطفل ينزل من بطن أمه فيتلقى بالأذان طفل سعيد في الحقيقة، وطفل طيب الأعراق، وطيب الأصل والمنشأ بإذن الله.
أما الطفل الذي يستقبل بالموسيقا، أو يستقبل بالهتاف الماجن، أو بألعوبات سخيفة، أو بالهوايات الماجنة التي رمي بها أطفالنا، كان الطفل في عهده عليه الصلاة والسلام يربى على حب العقيدة، على أن يبذل روحه رخيصة في سبيل الله، على أن يشتري جنة عرضها السموات والأرض بميثاق من الله، فأتت التربية السخيفة فجعلت من الطفل إذا قوبل قال: هوايته جمع الطوابع، والمراسلة، وصيد الحمام.
عجباً لهؤلاء الأطفال مالهم صدوا عن الفطرة! أهكذا تربية أسامة وابن عباس وابن عمر، الذين امتطوا صهوة التاريخ, ونطقوا على لسان الزمن بلا إله إلا الله محمد رسول الله؟!(320/5)
سنة تحنيك الأطفال وفوائده
كان عليه الصلاة والسلام يحنك الأطفال، والتحنيك: أن يأخذ عليه الصلاة والسلام تمراً، أو شيئاً من الحلوى أو نحوها فيدخل إصبعه الشريفة في فم الطفل قبل أن يأكل شيئاً.
كانت المرأة المسلمة إذا أنجبت طفلاً بعثت به إلى معلم الخير في لفائف، ليكون أول ما يباشر بطنه ريق محمد عليه الصلاة والسلام، الريق المبارك الصافي، والريق الطيب، فيأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام الطفل بحنان وبرحمة فيقربه منه، ثم يأخذ تمرة فيمضغها في فمه الشريف، ثم يعطيها الطفل ويسمي ويدعو الله له بالهداية، والصلاح والاستقامة.
قال أنس كما في الصحيح: [[ولدت أم سليم ابناً لها]] هذا الابن أخ لـ أنس من أمه، ابن لـ أبي طلحة، فلما ولدته قالت: [[اذهب به إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام]] فأخذ أنس الطفل وذهب به إلى معلم الخير، فاستقبله صلى الله عليه وسلم.
هل تدرون أين كان الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظة؟
أكان في قصر!!
أم في دار!!
أم في بستان!!
لا كان يطلي بيده الشريفة إبل الصدقة، أشرف من خلق الله، وأروع من صوَّر الله، وأفضل من أوجد الله، فسلَّمه الطفل، فأخذ عليه الصلاة والسلام تمرة فأعطاها الطفل، فأخذ الطفل يتلمظ التمرة بشغف وحب، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: {انظروا لحب الأنصار للتمر} يقول: حتى هذا المولود أشبه أباه، والأنصار أهل نخل وتمر، لا يرضى أحدهم إلا أن يستفتح نهاره بسبع تمرات، فأتى هذا الطفل مثل أبيه.
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
نعم! الأنصار يحبون التمر، ويحبون المجد، ويحبون لا إله إلا الله، والأنصار استشهد منهم (80%).
قدموا أرواحهم رخيصة في سبيل الله، فهذا الابن أحب التمر كما أحبه أهله من قبل، فجعلها عليه الصلاة والسلام دعابة وأرسلها للتاريخ فكاهة.
ثم إذا حنكه عليه الصلاة والسلام برَّك عليه ودعا له، ثم رده إلى أمه فكانت هذه ساعة الميلاد التي هي من أحسن ساعات هذا الطفل في الحياة، أن يلتقي بمعلم الخير، وأن يمس بيده على جسده.
قال سعد بن أبي وقاص في حديث صحيح: {زارني النبي عليه الصلاة والسلام فوضع يده عليَّ فوالله لا أزال أجد برد يده إلى الآن} بعد ثلاثين سنة.
ألا إن وادي الجذع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا(320/6)
أهمية اختيار الأسماء الطيبة للمولود
وكان عليه الصلاة والسلام يُسمي الأطفال، لكنه كان يختار أسماء شرعية إسلامية، تقود الطفل إلى جنة عرضها السموات والأرض، وكان يقول كما في الصحيح: {أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن} رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة بأسانيد صحيحة، وكان يقول في الصحيح {أصدق الأسماء: همام وحارث}.
قال ابن تيمية: إنما قال: همام؛ لأن الإنسان يهم بقلبه، والحارث دائماً يزاول بحركته، فجمع بين الاسمين عليه الصلاة والسلام، والعرب كانت تحب الأسماء القوية اللاذعة، ولذلك يسمون أبناءهم بأسماء الأسود.
أما رأيت إلى اسم حمزة ألا تدري ما معنى حمزة؟ إنه اسم للأسد، ولذلك كان حمزة بن عبد المطلب أسد، وللاسم دور في المسمى، وكان يسمى علي حيدرة، كانت أمه تلاعبه وهو طفل فيقع على رأسه في الأرض فيقع على جمجمته فلا يبكي لأنه نشأ على البطولة من صغره، نشأ محنكاً على الصراع، ونشأ قائداً عسكرياً منذ أول ليلة، فكان إذا وقع تقول:
نفسي فديت حيدرة كليث غابات كريه منظره
وكان يقوله في معركة خيبر لما خرج له مرحب قائد الكفار من يهود خيبر خرج مرحب وبيده سيف، وهو يقول: من يبارز، من يبارز؟ ويرتجز:
قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فقال عليه الصلاة والسلام: {اخرج يا علي} أليس من مدرسة محمد عليه الصلاة والسلام! فخرج فجاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً.
خذ ما رأيت ودع شيئاً سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
فقال:
أنا الذي سمتني أمي حيدره
كليث غابات كريه المنظره
أكيلكم بالسيف كيل السندره
ثم ذبحه كذبح الدجاجة.
وكذلك كان العرب يحبون التسمية بصخر، ولد لـ علي كما صح في الحديث ولده الحسن فسماه صخراً، فسماه عليه الصلاة والسلام حسناً، وولد له الحسين فسماه صخراً، فسماه حسيناً، وولد له محسن فسماه صخراً، فسماه عليه الصلاة والسلام محسناً.
العرب أمة شجاعة، من أسمائهم: حرب، وصخر، وأمية، وحيدرة، وحمزة، ونحو ذلك، ولكن انحرفت التربية فيما بعد، فسموا الولد فيما بعد: دلال، فاختلط الولد بالبنت، فما يُدرى أهو ولد أو بنت، فأصبح دليلاً مدللاً في كلامه وخطواته، متكسراً في ألفاظه ولحظاته وسكناته وحركاته.
أو سموه اسماً لا طائل من ورائه، مثل: صنيهيت، لا فعل ماضي ولا فعل مضارع ولا اسم ولا حرف، وآخر سموه: شليبيح، آخر: جورج، وجورج اسم وثني مجرم، يسمى به أعداء الله، أو بوش، أو جرباتشوف، أو ما سار في مسارهم، أو اسماً لا معنى له، لا في العربية، ولا في الإنجليزية، مثل (نيو) رجل يقول: أحد الناس سمى ابنه (نيو) نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ما معنى نيو؟ وهل هو حرف أو اسم.
وكذلك التسمي بأسماء تغضب المولى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، كعبد الكعبة وعبد الشمس وعبد النبي وهذا تعبيد لغير الله عز وجل.
تكاثرت الضباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
الاسم في منهجه عليه الصلاة والسلام يكون معبداً لله، وأخنع الأسماء يوم القيامة، رجل تسمى بملك الملوك، لا ملك إلا الله، مثل شاهنشاه، أو ملك الأملاك، أو سلطان السلاطين، أو قاضي القضاة، أو نحو ذلك، وتفصيل هذا في مكان آخر، وسمى عليه الصلاة والسلام بعض أبنائه بأسماء الأنبياء، أتاه إبراهيم فسماه بإبراهيم الخليل عليه السلام، وكان بينه وبين إبراهيم خيط من النور، وكان أشبه الناس بإبراهيم: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران:68] وسمى ابناً لـ أبي موسى الأشعري بإبراهيم.
وكان يغير الأسماء عليه الصلاة والسلام، غير اسم غاوي إلى راشد، وظالم إلى مقصد، وعاصية إلى جميلة، وغير برة إلى زينب، قال: تزكي نفسها، ونهى عن تسمية يسار، كما في سنن أبي داود بسند صحيح، ونجيح ورباح، لأنه يقال: أثم رباح؟ فيقولون: لا، وأثَمَّ نجيح؟ فيقولون: لا، أثم يسار؟ فيقولون: لا، هذه التسمية في معالمه عليه الصلاة والسلام، وهي من حقوق الطفل على أبيه كما قال عليه الصلاة والسلام، أن تحسن أدبه واسمه، فإنا ندعى يوم القيامة بأسمائنا وأسماء آبائنا.
ولذلك كان ينبغي على المسلمين أن يتكنوا بالكنى الجميلة التي كان يكني بها محمد أصحابه، كان يقول: يا أبا حفص يا أبا الحسن والكنية أمرها عجيب، قال الشاعر اليمني:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب
كذاك أدبت حتى صار من خلقي أني وجدت ملاك الشيمة الأدبا
الكنية الحقة التي أتى بها عليه الصلاة والسلام.(320/7)
استحباب حلق رأس الطفل والعقيقة عنه
ومن السنة في الطفل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أمر بحلق رأس الطفل تفاؤلاً بأن يزيل الله خطاياه، أو أن ينشأه الله على توحيد صاف، وأن يكون خالياً من الذنوب والخطايا، فإن الحالق في النسك إذا حج واعتمر، قالوا: تفاؤلاً بأن يزيل الله خطاياه كما أزال شعره، كذلك المولود ينشأ نشأة جديدة ويكون طاهراً مزكى، ويتصدق بوزنه ذهباً للمساكين وهذه حكمة عظيمة ربما أدركناها أو لم ندركها.
وأمر عليه الصلاة والسلام بالعقيقة عن الغلام كما في الصحيح شاتان، وعن الجارية شاة واحدة، وكان يكره عليه الصلاة والسلام العقوق، وصح عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: {كل غلام مرتهن بعقيقته}.
فمن السنة أن تَذْبح شاتين اثنتين مكافأتين إذا ولد لك مولود ذكر وأما الأنثى فشاة واحدة، حكمة بالغة ومقصد نبيل، استبشاراً بهذا المولود، ولينشأ على بر وصدقة، ولتطعم جيرانك وإخوانك استبشاراً بنعمة الله، فإن الولد الصالح من أعظم النعم، قال زكريا عليه السلام: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] فرزقه الله يحيى، والولد الصالح حياة، والولد الصالح أثر، واتصال لك بالنور، وخلود، والولد الصالح يدعو لك بعد الممات فيزيد في عملك الصالح صلاحاً وفي خيرك خيراً، وفي برك براً، والولد الصالح يدركك في الشيخوخة فيقيم من عضدك، ويقوي من ساعدك، ويكون لك نعم الأثر، والولد الصالح جناح، قال البخاري في الصحيح في كتاب الجهاد: (باب من طلب الولد للجهاد) ثم أتى بقصة سليمان الحبيب عليه السلام، لما قال: {لأطوفن الليلة على مائة امرأة -وفي لفظ- على سبعين، كلهن يلدن مجاهداً في سبيل الله} لكنه ما قال إن شاء الله فما ولدت إلا امرأة نصف ولد أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
والولد الصالح من أعظم النعم إذا ولد على الفطرة، وأنشئ نشأة طيبة، فكان من شكر المنعم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن تعق عنه عقيقة، وأن تطعم جيرانك وأحبابك، وأن تستبشر بهذا الفتح العظيم الذي رزقك الله إياه؛ لأن العقم نقص، ولكن العقيم، كل العقيم من عقم عن العمل الصالح وأفلس في التقوى.(320/8)
مداعبته عليه الصلاة والسلام للأطفال
كان عليه الصلاة والسلام يداعب الأطفال بعد أن يصبحوا في سن المداعبة ويفهموا الكلام، فكان يداعبهم عليه الصلاة والسلام بالبسمة، الحانية والفكاهة المباحة.
والفيافي حالمات بالمنى تتلقاك بتصفيق مثير
أنت للطفل أبٌ في مهده عجباً من قلبك الفذ الكبير
ما أوسع قلبك الكبير للأطفال! وما أوسع قلبك للجواري أن تحملهن! وما أرحمك حين تمازح الأطفال! إنه الخلود والعظمة، ولك أن تتحدث عن عظمته عليه الصلاة والسلام في جانب الطفل، في سنن النسائي عن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه، قال: {صلينا مع الرسول عليه الصلاة والسلام، إما صلاة الظهر، أو صلاة العصر، فتأخر عليه الصلاة والسلام في السجود} أتدرون ما السبب؟ الحسن بن علي ابن بنته، رأى الرسول عليه الصلاة والسلام ساجداً فارتحله، انظر إلى المنظر، رسول البشرية يسجد في الأرض عليه الصلاة والسلام فيرتحله طفل، فيمكث عليه الصلاة والسلام ولا يقوم من السجود، وبعد أن نزل الحسن قام عليه الصلاة والسلام، وصلى وسلم واعتذر من الناس، وقال: {يا أيها الناس لعلي تأخرت عليكم في سجودي، إن ابني هذا ارتحلني وأنا في الصلاة، فخشيت أن أرفع من السجود فأوذيه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، رواه النسائي بسند صحيح، فهل وجدتم رحمة كهذه، وحسن تعامل كهذا التعامل، طفل يرى الرسول عليه الصلاة والسلام ساجداً فيأتي ويرتحله ويصعد على ظهره والناس في السجود، فلا يؤذيه ولا ينتهره ولا يزجره، فكيف لا يحبه الأطفال؟!
إن بعض الأطفال اليوم إذا رأوا بعض الناس يخافون ويصيحون ويصيبهم الهلع والفزع، بعض الآباء لا يقبل أطفاله، وبعضهم إذا انتهر أطفاله أغمي على أحدهم، وإذا دخل عليه أبوه في البيت يقول بلسان حاله: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فتعال إلى محمد عليه الصلاة والسلام، وتعال إلى دعابته وإلى سهولته ويسره، وقد جاء في الصحيحين: {أنه كان لـ أنس أخ يكنى أبا عمير وكان له نغر يلعب به} أي طائره الذي كان يلعب به في البيت، ومع أن هذا الطفل كان صغيراً، وعقله ما زال صغيراً ورأس ماله هذا النغر، فلما زار النبي صلى الله عليه وسلم أم سليم وجد أبا عمير حزيناً فسأل عن حاله، فقالوا: مات طائره الذي كان يلعب به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مداعباً: {يا أبا عمير! ما فعل النغير؟} يقول: أحسن الله عزاءك في هذه المصيبة، فيشارك الطفل الأحزان.
ولا بد من شكوى إلى ذي قرابة يواسيك أو يصليك أو يتوجع
قال الزنادقة: أهل الحديث لا يفهمون شيئاً يروون أحاديث لا معاني لها، قال ابن القاص الفقيه الشافعي: مثل ماذا يا أعداء الله؟ قالوا: مثل حديث، {يا أبا عمير! ما فعل النغير؟} ليس فيه فائدة، ولا يفيد حكماً، ومع ذلك تروونها في البخاري وفي مسلم وفي أبي داود وأحمد والطبراني، وليس فيها فائدة، قال ابن القاص الفقيه الشافعي: قاتلكم الله، في هذا الحديث ستون فائدة، ثم سردها، وعودوا إلى فتح الباري لـ ابن حجر، ذكر منها ابن حجر عشرين فائدة:
منها استحباب تكنية الصغير، وتكنية من لا ولد له، وتصغير الاسم في التحبب.
وملاعبة الأطفال، والأنس مع الطفل، وزيارة الطفل في بيت أهله للمصلحة.
ومنها أن اللعب المباح إذا كان لغرض شرعي صحيح فإنه يؤجر عليه العبد، ومنها جواز أخذ الطفل للطائر، وحبس الطيور في البيوت ولا بأس بها، ومنها ربط الخيط في رجل الطائر وأنه ليس من التعذيب، وغيرها من الفوائد، وهذا ليس مجال بحثنا.
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
أم المعاني التي قد أتيت بها أرى بها الدر والياقوت متصلا
أتته طفلة صغيرة اسمها أم خالد يقولون في الصحيحين: كانت تأخذه جارية فتطوف به في سكك المدينة، لأنه سهل ميسر خلقه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ليكون قدوة للناس، فأتت أم خالد فوجد عليها قميصاً أصفر فقال: سنه سنه، هذا في البخاري في الصحيح، وسنه بلغة الحبشة أي: حسنة؛ لأنها عاشت مع أمها مع أهل الهجرة الأولى في الحبشة، فكانت هذه الطفلة تعرف كلمة سنه، فقال: سنه سنه أي: حسب هذا الثوب حسن، فاستأنست الطفلة وما نسيت هذه الكلمة، أتظن أن دعابة منه عليه الصلاة والسلام سهلة، أتظن أن بسمة منه يجود بها لإنسان سهل، لا والله بعض الناس اليوم يحفظ كلمة من بعض الزعماء أو السلاطين يقول: كلمني وقال لي مباشرة، فكيف لو كلمك محمد عليه الصلاة والسلام.
وعند أحمد بسند حسن، أن الرسول عليه الصلاة والسلام صف عبد الله، وعبيد الله، وكثير أبناء عمه العباس وهم ثلاثة صغار، بين كل واحد والثاني سنة، صفهم أمامه عليه الصلاة والسلام ثم ذهب صلى الله عليه وسلم وقال: {من يسبق إليَّ فله كذا وكذا} وهذا في المسند بسند حسن، فأخذوا يتسابقون فسبق أحدهم فأعطاه جائزة، سبحان الله! ربما قال قائل: لو قلنا له: افعل هذا مع أطفالك، لقال: وقتي ضيق، وهو ضيق بالترهات، ولو عرفت معاني التربية والخلود في سيرته عليه الصلاة والسلام، لأعطيتها هذه الساعة الثمينة، إن معنى المسابقة هذه، أن يغرس التوحيد في قلوبهم والإيمان والتربية الحسنة، وبمثل هذه الوسائل استطاع عليه الصلاة والسلام أن يصلح أمة الصحراء، أمة لا تعرف إلا الضب والجعلان، حتى جعلها أمة ربانية تتكلم بالوحي، وتنشد على منائر الدنيا: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وجاء في صحيح مسلم عن أنس قال: {كان الرسول عليه الصلاة والسلام أحسن الناس خلقاً} والله يقول عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] كان عليه الصلاة والسلام أحسن الناس خلقاً {قال: فأرسلني في حاجة، وأنس طفل صغير في العاشرة أو نحوها، قال: ثم مر بي وأنا ألعب مع الأطفال، فأخذ بأذني يضاحكني وقال: أما ذهبت يا أنس؟! قلت: أذهب إن شاء الله} فذهب، قال أنس في الحديث: {والله لقد خدمت الرسول عليه الصلاة والسلام عشر سنوات، ما قال لي في أمر فعلته لم فعلته، ولا في أمر لم أفعله لِمَ لم تفعله} وكان يقول: لو فعلت كذا وكذا.
وأنس معروف بأنه خادم للرسول عليه الصلاة والسلام، مع أنه حر من الأنصار، ويوم هاجر عليه الصلاة والسلام، أتت أمه - أم سليم -فألبسته وطيبته، وقالت: يا رسول الله، أنس أحب الناس إلى قلبي، هو هدية يخدمك، ادع الله له يا رسول الله فقال: {اللهم أكثر ماله وولده وأطل عمره واغفر ذنبه} فطال عمر أنس حتى قارب المائة، وقيل: بل زاد على المائة، وهو من أواخر الصحابة موتاً، ورزقه الله البنين حتى أنه يقول: [[دفنت من صلبي يوم قدم الحجاج الكوفة ما يقارب مائة نفس]] وكان كثير المال، وهو مغفور الذنب إن شاء الله.
{وثبت أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام كان يحمل الحسن والحسين على عاتقه، وهذا الحديث عند أبي يعلى بسند حسن، فرآه عمر فقال: نعم الفارس فارسكما} وفي بعض الروايات يقول: الفرس، ولكن الصحيح: الفارس، فقال عليه الصلاة والسلام: {ونعم الفارسان هما} أنعم بـ الحسن وأنعم بـ الحسين، لكن جدهم صلى الله عليه وسلم هو العظيم.
نسباً كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
وكانت فاطمة بنت قيس تأتيه عليه الصلاة والسلام تستفتيه، فيأخذ طفلها من يديها ويجلسه ليسمع السؤال قبل أن يفتي، ومرة أخذ الطفل فبال، فنضح بوله عليه الصلاة والسلام، أي خلق! وأي تواضع! وأي سماحة! قال جابر: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعيناه إلى الطعام، فإذا الحسن يلعب مع الصبيان، فمر عليه الصلاة والسلام أمامنا، فأسرع إلى الحسن وأخذه وقبله، وقال: اللهم إني أحبه، اللهم أحبب من يحب الحسن} نشهد الله أنا نحب الحسن، نسأل الله أن يحشرنا في زمرته، وزمرة جده محمد عليه الصلاة والسلام، رواه الطبراني بسند حسن، وعند الضياء في المختارة أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يلاعب زينب بنت أم سلمة، وله صلى الله عليه وسلم بنت اسمها زينب، فكان يقول يا زوينب يا زوينب، ويلاعبها ويطارحها ويمازحها عليه الصلاة والسلام.(320/9)
كيفية تربية النبي عليه الصلاة والسلام للأطفال
العنصر الثاني تربيته عليه الصلاة والسلام للأطفال.
المعلم الأول من تربيته عليه الصلاة والسلام للأطفال، أنه رباهم على الإيمان.(320/10)
إباحة اللعب التي لا تخل بالأدب للأطفال
الثاني: أنه لبى لهم أغراضهم ومقاصدهم الإيمانية المباحة، فلم يحجر عليهم الدعابة، لأن بعض الناس إذا رأى أطفاله يلعبون أو يصيحون، أو ينشدون في البيت غضب عليهم، وقال: يضيعون أوقاتهم، تريد من طفل أن يكون كـ ابن حجر، أو ابن تيمية في الحفاظ على وقته، لا.
إنه لابد أن يضحك، ولا بد أن يغرد، ولا بد أن ينشد، فاجعل لعبه في حدود الشرع، واجعل نشيده في حدود الأدب، واجعل لعبه في حدود المباح، لكن سيره على منهج التوحيد، وخذ بناصيته في أوقات الجد، وأعطه المؤهلات التي لا بد منها، لأن فيه غريزة حب اللعب والدعابة.(320/11)
تعليم النبي صلى الله عليه وسلم الآداب الشرعية للأطفال
الثالث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحوط الطفل بسياج من الآداب الشرعية، عند الولادة وعند التحنيك والعقيقة والنوم واليقظة، وعند الأكل، والشرب وسوف يأتي هذا، صح عنه عليه الصلاة والسلام عند أحمد وأبي داود أنه قال: {مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع} وفي هذا فوائد:
الفائدة الأولى: أن بداية الأمر في السبع، لكنه أمر بلا ضرب، تأمره وتدعوه وتحفزه وتحبب إليه المسجد والصلاة.
الفائدة الثانية: أن بداية التعزير العاشرة، إذا ترك الصلاة في العاشرة فهو دليل على تهاونه، فقد أدرك وأبصر وعرف، فخذه بالشدة إذا خالف أمر الله.
الفائدة الثالثة: إذا بلغوا العاشرة فرق بينهم في المضاجع؛ لأن من العلماء من عاد الضمير (وفرقوا بينهم) إذا وصلوا العاشرة، ومنهم من قال: في السابعة، ومن احتاط في السابعة فهو أحسن، ألا ينام الأطفال ذكوراً مع الذكور، ولا أولاداً مع الأولاد، وبعضهم يأخذ العموم في الأصناف، فيجعلها أربعه أقسام، فيقول: لا ذكران مع ذكران، ولا بنات مع بنات، ولا أبناء مع بنات، فإن هذا يؤدي عند النوم إلى مفاسد نبه عليها الشارع، ومن لم يعتبر بذلك وينتهي عن هذه الفعلة فسوف يقع في محاذير.
ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل على المائدة ومعه غلام اسمه: عمر بن أبي سلمة، فلما دنا أخذت يده تطيش في الصحفة، فجمع له النبي صلى الله عليه وسلم له الأدب في جملة قصيرة، وقال: {يا غلام! سمِّ الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك} أي قل: بسم الله لتبدأ أكلك، وعند لبس اللباس، وشرب الشراب، وعند الجماع، ودخول البيت ودخول المسجد، وعند الأمور المحمودة: سمِّ الله.
وكل بيمينك، أي: لا تأكل بيسارك إلا لعذر شرعي، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله}.
دين يعلم الإنسان حتى آداب الأكل، وآداب الاستجمار , والطهارة، وآداب كل جزئية من جزيئات الحياة، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فمن لم يرض بدينه فلا أرضاه الله، ومن لم يكتف بمنهجه فلا كفاه الله، ومن لم يستشف برسالته فلا شافاه الله.
يقول أحد علماء السلف: من ظن أنه سيهتدي بهدى غير الهدى الذي أرسل به محمداً عليه الصلاة والسلام، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وعند النسائي والترمذي بسند فيه ضعف يقول عليه الصلاة والسلام لـ أنس: {يا بني إياك والالتفات في الصلاة فإنه هلكة} لأن أنساً كان طفلاً، وربما كان يلتفت، فقال: يا بني، وهذا تحبيب، أما رأيت لقمان عليه السلام يوم أوصى ابنه ماذا قال؟ قال: يا بني! وتستخدم لغير الابن فيقال تحبيباً: يا بني، وإبراهيم لما دعى أباه قال: يا أبتي! فكررها أربع مرات في سورة مريم.(320/12)
تعليم النبي صلى الله عليه وسلم العقيدة للأطفال
فكان عليه الصلاة والسلام يصل إلى تربية الطفل بأقرب سبب وبأدنى عبارة، وبأقرب حبل، وكان له عليه الصلاة والسلام في جانب العقيدة مع الأطفال مواقف، يقول ابن عباس، والحديث عند أحمد والترمذي {: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار} نعم.
يركب الحمار ويفتح الدنيا، نعم يركب الحمار ويصل بالقلوب إلى الله، نعم يركب الحمار وهو أعز من خلق الله {فقال: يا غلام! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله! قال: إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} هذا الحديث محاضرة، وهذا الحديث أعظم وصية طرق الدنيا، شرحه ابن رجب شرحاً ما سمع الناس بمثله، وتواصى العلماء على النصيحة به لأبنائهم وأحبائهم وأصدقائهم، وضع صلى الله عليه وسلم حقنة في قلب ابن عباس، فبقي ابن عباس موحداً حتى لقي الله.
وصح عند البخاري والدارمي {أنه عليه الصلاة والسلام كان يمر بالصبيان كي يسلم عليهم، يقول: السلام عليكم ورحمة الله} وهذا من التواضع العظيم، لأن المتكبر لا يسلم على الأطفال، ولا يسلم على الناس، بل ينتظر من يسلم عليه، والمتكبر أبخل الناس بالسلام، لكن من العجيب أن يأتيه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من حيث لا يحتسب، يريد العلو فيقول الله له: اخسأ فلن تعدو قدرك {يحشر المتكبرون يوم القيامة على هيئة الذر يطأهم الناس بأقدامهم} وهو حديث صحيح، المتكبر بخيل، يعطيك رءوس أصابعه في المصافحة، يبخل ببسمة على وجهك، ويبخل بالسلام عليك.
وجوههم من سواد الكبر عابسة كأنما أوردوا غصباً على النار
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً أهدوك من نورهم ما يتحف الساري
تروى وتشبع من سيماء طلعتهم بوصفهم ذكروك الواحد الباري
من تلق منهم تقل لا قيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري(320/13)
رسم النبي صلى الله عليه وسلم الكلمات المؤثرة في قلوب الأطفال
كان عليه الصلاة والسلام يصلي بالليل فأتاه ابن عباس يصلي معه، وقصة هذا الليل قصة هادئة بطيئة النجوم هادئة السحر، يعيشها ابن عباس ويرويها البخاري ومسلم، وهي من أحسن الليالي في حياة ابن عباس، يقول ابن عباس: بت عند خالتي ميمونة، فدخل بعد صلاة العشاء في بيتها؛ لأنه يعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام سوف يأتيها في ليلتها، فنام في عرض الوسادة، لم يكن عنده صلى الله عليه وسلم إلا فراش قصير في بيت ضئيل:
كفاك عن كل قصر شاهق عمد بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيم
فدخل وتناوم ابن عباس وما نام، لكن يريد أن يرى ماذا يفعل الرسول عليه الصلاة والسلام من عبادة الليل، لأنه رآه في النهار، ويريد أن يراه في الليل:
نامت الأعين إلا مقلة تذرف الدمع وترعى مضجعك
فدخل عليه الصلاة والسلام، ولفظ البخاري قال: {نام الغليم؟} قالت ميمونة: نام، قال أهل العلم: فيه دليل على أن من أخبر بظنه فليس بكاذب، فإنه ما نام، لكن رأته وظنت أنه نام، قال: فذكر صلى الله عليه وسلم ربه ثم نام، حتى سمعت غطيطه، ثم قام إلى الماء فقضى حاجته، فقربت له ماء، فقال: من وضع لي الماء؟ فلما علم أنه أنا قال: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} هذه من أحسن الليالي ولنا عودة، ولكن الشاهد: فتوضأ ابن عباس فقام عن يسار الرسول عليه الصلاة والسلام، والسنة أن المأموم الواحد يقف على يمين الإمام، فأرسل عليه الصلاة والسلام يده في النافلة في الليل إلى أذن ابن عباس، أرسلها على الأذن لا على الكتف، قال ابن حجر: وفيه أنه لا بأس بفرك الأذن للطفل للتعليم، لكنه بغير إيذاء؛ لأن ما زاد عن حده انقلب إلى ضده، فرك لا يؤذي ولا ينزل الدم، ثم جعله عليه الصلاة والسلام عن يمينه ولـ ابن عباس محفوظات في تلك الليلة حفظها من أول مرة، منها الدعاء العظيم: {اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، لك ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق، ولقاؤك حق وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق والساعة حق، اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، أو لا إله غيرك} هذه ليلة ابن عباس وهي تربية خالدة.
مر عليه الصلاة والسلام -والحديث في البخاري - فوجد ابن عمر في السوق، فأخذ بكتفه، وقال: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} هذه وصية ما نسيها ابن عمر حتى مات.
يعطونه الخلافة، فتذكر حديث {كن في الدنيا كأنك غريب} يقدمون له الذهب والفضة فتذكر حديث {كن في الدنيا كأنك غريب} يسجد عند المقام ويبكي وهو في السجود ويقول: [[اللهم إنك تعلم أني ما تركت الخلافة إلا من مخافتك يا رب العالمين]]
وفي البخاري وغيره: مر عليه الصلاة والسلام، فوجد الحسن يأكل من تمر الصدقة وبنو هاشم محرمة عليهم الصدقة؛ لأنها أوساخ الناس وهم أطهار، قلوبهم طاهرة وبطونهم طاهرة، فـ الحسن طفل صغير، فاقترب من التمر وأخذ تمرة يمضغها، فقال صلى الله عليه وسلم: {كخٍ كخٍ أما تدري أنا لا نأكل الصدقة، أما تدري أنها لا تحل لنا الصدقة} وكخٍ كخٍ ضبطت بخمسة ألفاظ، وهذا لفظ تستخدمه العرب زجراً للطفل عن عمل شيء ما يريد أن يعمله، فأخرج التمرة وهي ممضوغة من فمه، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إنها أوساخ الناس} يريد أن ينشأ باطنه طاهراً، أطب مطعمك تستجب دعوتك.(320/14)
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأطفال
رحمته بالأطفال عليه الصلاة والسلام: مات ابنه إبراهيم وهو في سن الطفولة، وعمره سنتان وأشهر، وقيل أقل، فأخذه عليه الصلاة والسلام وقد أصبح جنازة بين يديه ودموعه تهراق -بأبي هو وأمي- وقال: {تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون} ذكر ابن تيمية هذا المقطع وله كلام جميل حول هذا الحديث.
فقد سُئل ابن تيمية عن: الفضيل بن عياض أن ابنه مات فضحك، والرسول عليه الصلاة والسلام مات ابنه فبكى، فمن الأكمل: هل هو الضحك وقت موت الطفل أو البكاء؟
قال ابن تيمية: الحمد لله -ثم أتى بجواب ما سمع الناس بمثله- قال: الفضيل بن عياض ما اتسع قلبه لوارد الرضا من قدر الله ولوارد الرحمة على موت ابنه فما استطاع إلا بالصبر والرضا فضحك، والرسول عليه الصلاة والسلام رضي وصبر ورحم فبكى رحمة، ودمعت عيناه وحزن قلبه رحمة، ورضي وسلم، وهذا جواب سديد.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
وفي الصحيح {أن ابنته زينب رضي الله عنها أرسلت إليه أن يأتي إليها، فإن ابنها في سكرات الموت، والرسول عليه الصلاة والسلام مشغول بوفود العرب، قال: أبلغوها مني السلام، وقولوا لها: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء بأجل مسمى، فمروها فلتصبر ولتحتسب، فأخبروها، قالت: والله ليأتين -يعني ابنته تتقول عليه والبنت لها شفاعة عند الوالد- فقام عليه الصلاة والسلام، وقام معه جل الصحابة، فقدم له الطفل ونفسه تقعقع كأنها في شن، فأخذت دموعه تهراق عليه الصلاة والسلام، فيقول ابن عوف أو غيره: ما هذا يا رسول الله؟! قال: هذه رحمة يضعها الله في قلب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء}.
وفي البخاري ومسلم أن الأقرع بن حابس، وهو صنديد من صناديد بني تميم، لا يعرف تقبيل الأطفال، بل يعرف السيف والناقة والحرب والقتال، فقال للنبي حين قبل ولده الحسن تقبلون الأطفال عندكم؟ قال: نعم، قال: والله إن عندي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم! - كان يظن أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول شكراً لك- قال: أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك، أي: ما دام أن الله نزع الرحمة من قلبك فماذا أملك أنا.
تقبيل الأطفال رحمة، وكان يفعله صلى الله عليه وسلم كثيراً، وهذا من قربه صلى الله عليه وسلم من القلوب، وصح عنه عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري أنه قال: {إني لأدخل في صلاتي فأتجوز فيها مما أسمع من بكاء الطفل خشية أن أشق على أمه} يدخل في الصلاة فيريد إطالة الصلاة فيسمع في الصفوف الأخيرة بكاء الطفل، وأمه تحترق عليه أسفاً ورحمة فيتجوز بالصلاة رحمة بالطفل وبأمه، عليه الصلاة والسلام.
وعند الترمذي وابن حبان، أنه صلى الله عليه وسلم رفع الحسن والحسين قال: {هذان ريحانتاي من الدنيا، اللهم أحب من يحبهما} فاللهم إنا نحب الحسن والحسين بحب محمد عليه الصلاة والسلام، يقول ابن تيمية في مقتل الحسين، قال: ومقتله من أعظم المصائب على المسلمين، وعلى المسلم إذا تذكر تلك المصيبة أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا يعرف حب الحسين إلا نحن، نحبه في الله، لأنه من عباد الله ومن أوليائه، ولقرابته بالرسول عليه الصلاة والسلام، يوم قتلوا الحسين، بعض قتلة الحسين يقولون: الله أكبر الله أكبر قتلنا الحسين، فيقول أحد الأولياء:
جاءوا برأسك يا بن بنت محمد متزملاً بدمائه تزميلا
ويكبرون بأن قتلت وإنما قتلوا بك التكبير والتهليلا
يكبرون والتكبير خرج من صدرك، يكبرون والتكبير أتى من لسانك، يكبرون على أعظم المصائب، وهذا استطراد.
وفي الصحيحين من حديث أبي قتادة، قال: {صلى بنا صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي -قيل العصر وقيل الظهر، والواضح أنها الظهر- فحمل أمامة بنت زينب على كتفه عليه الصلاة والسلام -تصور المشهد: إمام البشرية يحمل طفلة ويصلي بالناس صلاة الفريضة بالمسجد، أي رحمة، وأي عطف، وأي سهولة- قال: فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها} كانت أمها مشغولة، وكانت الطفلة تبكي، وأقيم للصلاة فأخذها عليه الصلاة والسلام رحمة، وصلى بها فسكتت معه عليه الصلاة والسلام يقولون: إن الشوكاني صلى بالناس في صنعاء، فلما سجد سقطت عمامته، فقام فأخذ العمامة وردها، فأنكر عليه الناس، وقالوا: تحمل العمامة وأنت في الصلاة، قال: حمل العمامة أخف من حمل أمامة، فللإنسان أن يفعل ذلك، لأن الشافعي يقول: ضيعت السنة بالأفعال الخاصة، كلما أتينا بحديث قالوا: خاص به صلى الله عليه وسلم، كلما أتى أثر قالوا: خاص، حتى ذهبت الشريعة ما بقي إلا نتف منها للأمة، وأما البقية فله عليه الصلاة والسلام.(320/15)
من أحكام الأطفال
العنصر الرابع: من أحكام الأطفال: أعرضها عرضاً موجزاً:(320/16)
التطهير من بول الطفل
أن الرسول عليه الصلاة والسلام سن كما في سنن أبي داود والترمذي ومستدرك الحاكم بأسانيد صحيحة أنه قال {ينضح من بول الغلام ويغسل من بول الجارية} ما لم يأكل الغلام الطعام، فإذا أكل غسل من بوله، فالطفل قبل أن يأكل الطعام ينضح على بوله فقط، ولكن الجارية يغسل بولها غسلاً، والترمذي يتساءل في سننه عن هذا؛ قال: يقول الشافعي: لأن حواء خلقت من ضلع آدم فهي من لحم ودم، وأما الطفل فهو من تراب، لأن أصل أبيه من تراب، ونقول للشافعي: هذه كالوردة تشم ولا تعك، لأنه ليس بمعصوم ولا تلقاها من وحي، لكن قالها بنظر، فرحمه الله وغفر الله له، ولا يتوقف عليها حكم شرعي ولا عمل اعتقادي.
على كل حال إذا أكل الطفل الطعام غسل غسلاً من بوله، أما الجارية قبل أن تأكل الطعام وبعد أن تأكل الطعام فيغسل غسلاً.(320/17)
تعليم الأطفال الصلاة
ومر معنا في الحديث الصحيح: {مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع} وذكرت في ذلك كلاماً.(320/18)
إمامة الصبي وجهاده
إمامة الصبي، أي: متى تصح إمامته؟
في صحيح البخاري أن عمر بن سلمة أم قومه وعمره ست سنوات، لكن أطفالهم كانت عقولهم كبيرة، بعض الأطفال في هذه الأيام يبلغ العشرين وهو سفيه، ويبلغ الثلاثين وهو سفيه، ويبلغ الأربعين ولا عقل له، مستهتر بدين الله وبشرائعه، وليس العمر بالسن، لكنه بالعقل والفهم عن الله عز وجل.
دخل الناس يبايعون عمر بن عبد العزيز، وفيهم طفل صغير، فسلم وأراد أن يتكلم، قال عمر بن عبد العزيز: دونك يا غلام ففيهم من هو أكبر منك! فقال: يا أمير المؤمنين! لو كان الأمر بالسن كان في المسلمين من هو أولى منك بالخلافة؟
هل رأيت رداً أحسن من هذا، يقول: أنت عمرك ثمانية وثلاثون، وفي المسلمين من عمره مائة، ومائة وعشرون سنة وما تولى الخلافة، كنا زحزحناك عن الخلافة ووضعنا من هو أكبر منك، عن عمر:
تعلم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علم كمن هو جاهل
المرء لا يولد عالماً، وجاء في البخاري وإنما العلم بالتعلم، وتعلم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الكبر، هذا في باب العلم، وهذا فيه رد على ديكارت وكانت الكلاب الذين يقولون: سن الكبر لا يصلح للعلم حتى ضيعوا علينا التعليم، نقول للإنسان: تعلم، يقول: أنا في الأربعين لا أتعلم، لأن سن الحفظ ذهب مني، أبو بكر تعلم وهو شيخ، وعمر تعلم وهو في شيخوخة وكبر، وأصبحوا علماء الدنيا.
وهنا مسألة أخرى وهي: متى يجاهد المسلم، ومتى يحمل السلاح؟
بين أهل العلم خلاف، ولكن الإمام أحمد يراه في الخامسة عشرة، للحديث الذي في الصحيحين قال ابن عمر: {عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني، وعرضت عليه يوم الخندق وعمري خمس عشرة سنة فأجازني} والعجيب أن بينها سنتان؛ لأن أحد في الثالثة والخندق في الخامسة، فكيف يقول أربعة عشر وخمسة عشر، قالوا: جبر كسراً أو حذف كسراً.
قال سمرة بن جندب: [[كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض الأطفال للجهاد -يريد أن يرى من هو القوي منهم فيقبله- قال: فعرضت عليه فردني]] فبكى سمرة -لا إله إلا الله- بعض المقاتلين اليوم من العرب، يحملونهم اليوم بالسلاسل ويتخاورون يبكون إذا ذهبوا إلى الجبهات، والأطفال من الأنصار يبكون لأنه ردهم عليه الصلاة والسلام، فلما رد سمرة، وقبل رافع بن خديج، قلت: {يا رسول الله! تقبل رافع بن خديج، وأنا أصرعه، فقال: صارعه أمام الناس، فتصارع هو ورافع وقد أجاز صلى الله عليه وسلم رافعاً، فصرعه سمرة، فأجاز سمرة أيضاً}.
وأما سن الرواية والتحمل فيختلف باختلاف الأشخاص يقول موسى بن هارون أحد المحدثين: إذا فرق بين الدابة والحمار، وبعضهم قال: إذا ميز الخير من الشر، وهذا أمر نسبي أن يميز الخير من الشر، وبعض الحمقى يميز الخير من الشر، حتى يقول ابن تيمية: ليس الذكي الفطن الذي يعرف الخير من الشر، فجل الناس يعرفونه، لكن الذكي الفطن من يعرف خير الخيرين وشر الشرين، هذا الذكي الفطن، وقال بعضهم: في الخامسة لأن الحسن حفظ حديث {دع ما يريبك إلى ما لا يريبك} في الخامسة، ولا يهمنا هذا، لأن الطفل إذا ميز وأصبح عاقلاً ويدرك ما يقال له، أصبح مستعداً للتحمل في السادسة أو في السابعة.(320/19)
الأطفال الكبار
العنصر الخامس وهو الأخير: الأطفال الكبار:
أطفال نعيش معهم في التاريخ لكنهم كبار، كبار في إيمانهم، وكبار في مقاصدهم، وفي منهجهم وحياتهم، يعيشون بأجسام أطفال لكنهم كبار في معتقداتهم وطموحاتهم ومقاصدهم، واليوم عندنا كبار في السن لكنهم أطفال في نواياهم، ولعلي عرضت هذا كثيراً وكررته ولكن معذرة إلى ربكم، يلقى أحياناً في بعض الجرائد والمجلات مقابله مع الأطفال، فيقول الطفل: هوايته المراسلة، متى كان أحفاد أسامة ومعاذ وأبي هوايتهم المراسلة، متى كانت هوايتهم جمع الطوابع؟! متى كانت هوايتهم صيد الحمام ومطاردة الدجاج؟!
ما كانت هوايتهم إلا رفع لا إله إلا الله، وتقديم أرواحهم في سبيل الله، فأصبح العالم منكوساً بالتربية الضحلة السخيفة، ومغن آخر شب على جمع الطوابع والمراسلة، فلما أصبح في الأربعين ألقوا معه مقابلة، قالوا: كيف شققت طريقك في الحياة؟
يقول رجل مثله، قال: بدأت من الصفر، هذا المغني بدأ من الصفر وهو ينزل تحت الصفر، قال: وصابرت واحتسبت وثابرت حتى وصلت إلى هذا المستوى، مستوى والله لا تحمد ولا تشكر عليه، والموت خير منه، ولا يحسد عليه الإنسان.
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان عليّ ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
فاللهم لا شماتة!
فالمغنون ما زالوا في دائرة الإسلام ما لم يكفروا بمكفر، ولكنهم مخطئون مذنبون وما زلنا ندعوهم، ونناديهم ونهتف بهم أن يعودوا إلى المسجد والقرآن والرسالة الخالدة، وإلى الدرس والمحاضرة؛ لأنهم أبناؤنا وإخواننا، فانظروا إلى ابن عباس في ليلة ميمونة -وقد مر معنا -يحفظ الحديث ويصلي، ويقدم الوضوء، ويحرص على الأذكار وهو في العاشرة أو دون ذلك، من يفعل من أطفالنا ذلك، إلا من رحم ربك.(320/20)
أسامة بن زيد
أسامة بن زيد عمره ثماني عشرة سنة ويعطيه صلى الله عليه وسلم قيادة الجيش بعد وفاته، وفي الجيش أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، من يستطيع أن يكون قائد جيش وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، أساطين التاريخ وعلماء الدنيا وعظماء المعمورة، وأسامة القائد؟ فلما تولى القيادة ذهب أبو بكر يشيعه، فأراد أسامة أن ينزل من على الفرس فأخذ أبو بكر بمجامع ثوبه وقال: [[والله لا تنزل ووالله لا أركب، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله]] عجيب! كأن أبا بكر ما غبر قدمه، كأنه أول ساعة فقط، وهو من يوم أسلم وقدمه مغبرة في سبيل الله، ودمه ودموعه ووقته وماله وكل لحظة من حياته في سبيل الله، فهل غبرنا أقدامنا؟ وهل قدمنا مثل جزء جزء من أجزاء ما قدم أبو بكر الصديق؟ والشاهد أسامة، هذا الطفل الكبير، كبير في الحقيقة، يسوس أمة وعلماء وصحابة، يقدم نفسه في سبيل الله، ويقود الجيش وهو في الثامنة عشرة من عمره.(320/21)
عبد الله بن الزبير
عبد الله بن الزبير شاب عظيم، وخليفة عظيم، وعالم جليل، يقول الذهبي: كان من أعبد الناس -صدق أو لا تصدق- ذكر الذهبي بأسانيد جيدة أنه كان يسرد سبعة أيام صوماً، وكان يفطر في اليوم الثامن، كان من أقوى الناس على العبادة، دخل الحرم، فوجد السيل قد اقتحم الحرم، فخلع ملابسه ولبس إزاراً وطاف في السيل سبعة أشواط فهو الوحيد الذي طاف في التاريخ بالبيت سباحة.
ابن الزبير كان غلاماً عظيماً، مر عمر فهرب الأطفال ووقف ابن الزبير، قال عمر: [[لماذا لم تهرب؟ قال: ما ارتكبت ذنباً فأخاف منك، وليست الطريق ضيقة فأوسع لك]] هذه كلمات محفوظة يحتاج الطفل من أطفالنا شهراً، تكتبها له، ثم تحفظه إياها، ثم يرددها عليك ليقولها مباشرة: ما ارتكبت ذنباً فأخافك، وما كانت الطريق ضيقة فأوسع لك.(320/22)
أبو محذورة المؤذن المعروف
أبو محذورة كان غلاماً وفي مسند أحمد أنه خرج يرعى الغنم، فسمع مؤذن الرسول عليه الصلاة والسلام، وأبو محذورة كان مشركاً آنذاك، خرج في ضاحية ضواحي مكة آنذاك، ووراء الجبل كان الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة، فسمع أبو محذورة بلالاً فأذن استهزاءً، فقال صلى الله عليه وسلم: {عليّ بأولئك الأطفال} فذهب الزبير وأحد الصحابة وأحضروهم، فلما حضر، قال: من أذن منكم آنفاً، فسكتوا، قال: أذن، فأذنوا، حتى وصل الأذان والنداء إلى أبي محذورة، فإذا نداؤه عجيب وصوته غريب، فدعا له صلى الله عليه وسلم بالهداية، فقال أبو محذورة: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه قال أهل العلم: لم يحلق أبو محذورة بعدها رأسه، حتى وصل شعره إلى قفاه ونزل على ظهره؛ لأن البركة في تلك اليد يوم مست ذاك الرأس، وكان صوته جميلاً، حتى يقول المكي:
أما ورب الكعبة المعمورة وما تلا محمد من سورة
والنغمات من أبي محذورة لأفعلن فعلةً مشكورة
ويقولون في النظم الفقهي:
أذن ترسل وأقم محدورة فعل بلال وأبي محذورة
أصبح مؤذناً وهو طفل في العاشرة أو ما يقاربها، وأصبح مباركاً، وبقي في الأذان كما عند بعض العلماء ثمانين سنة، وهو يرفع نداء الحق، ويدعو الناس إلى بيت الله عز وجل: عمر مديد طيب وطاهر.(320/23)
محمد بن القاسم
وطفل آخر عمَّر وقته بطاعة الله عز وجل: محمد بن القاسم الشهير الذي فتح السند والهند، والذي قتل ملوك السند، والذي قدمت له الأصنام من ذهب فرفض، أتاه ملوك الهند بأصنام من ذهب، فقالوا: هذه لك وعد عن بلادنا، قال: سبحان الله أرتشي عن الجهاد في سبيل الله! لا والله، حتى يقول محمد إقبال:
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهـ دمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
كنا نقدم للسيوف رءوسنا لم نخش يوماً غاشماً جبارا
كان عمر محمد بن القاسم؟ سبع عشرة سنة، وتحته أكثر من مائة ألف من الجنود، وقال بعض العلماء: قاتل جيشاً عدده أكثر من ستمائة ألف، كتائب كالجبال ومحمد بن القاسم في السابعة عشرة من عمره، بعضهم الآن في الثلاثين يقول صغير، كلما ارتكب خطأ يقول: أنا صغير، يموت وهو صغير، لأنه صغير المبادئ والطموحات، والمستقبل هذا طاغوت مستكلب، يسمون المستقبل: تأمين ووظيفة ومنصب وسيارة وفلة، وهذا ليس مستقبل المسلم، مستقبل المسلم رضا الله، مستقبل المسلم الشهادة في سبيل الله، ومستقبله جنة عرضها السموات والأرض.
يأتى أعرابي من الصحراء ويقدم له الرسول صلى الله عليه وسلم غنيمة، فقال: ما على هذا بايعتك! قال: {بايعتني على ماذا؟! قال: أن يأتيني سهم فيقع هنا ويخرج من هنا، قال: إن تصدق الله يصدقك} فقتل في سبيل الله، لأنه صدق الله عز وجل.
محمد بن القاسم يقول فيه الأول:
إن السماحة والنجابة والندى لـ محمد بن القاسم بن محمدِ
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة يا قرب ذلك سؤدداً من مولدِ
ما أقرب هذه الطفولة وما أقرب أنك فتحت فيها بلاداً وعمرتها بلا إله إلا الله! طفل دخل السند والهند، طفل رفع لا إله إلا الله، طفل، وحرق الأصنام، وداس الطاغوت، ورفع الحق في منائر الأرض، وفتح تلك البلاد التي ما كنا لنفتحها نحن.(320/24)
أبناء الخنساء
أطفال السلف كبار، حضر أربعة أطفال في معركة القادسية، وهم أبناء الخنساء النخعية، فقالت: يا أبنائي، والله ما غدرت أباكم ولا خنت خالكم، والله إنكم لأبناء رجل واحد، فإذا لقيتم المعركة فيمموا أبطالها، واستقبلوا وطيسها، عسى الله أن يقر عيني بقتلكم في سبيل الله.
أي أم تلك الأم! وأي معلمة وأي جامعة؟! تقدموا فلبسوا الأكفان، وقاتلوا فقتلوا الأربعة، قبل صلاة الظهر، وأتوا بالخبر السار إليها فدمعت عيناها من الفرح.
طفح السرور عليّ حتى أنني من عظم ما قد سرني أبكاني
وقالت: الحمد لله الذي أقر عيني بقتلهم في سبيل الله، هذه هي الحياة التي يريدها محمد عليه الصلاة والسلام، يريد لهذا الطفل حياة وتوفيقاً ونجابة وسؤدداً.
نعم عاش عليه الصلاة والسلام مع الأطفال هذه المراحل، ونحن نقول كما بدأنا لكل طفل مسلم: إن كنت أيها الوالد ويا أيتها الأم، ويا أيها الطفل؛ تريدون الله والدار الآخرة فدونكم المبادئ، ودونكم الدستور الخالد، والرسالة الرائدة، والتعاليم الربانية، أنشئوهم على لا إله إلا الله، لقنوهم لا إله إلا الله، علموهم الرسالة والسنة في القيام والقعود والنوم والأكل والشراب واليقظة وكل شئون الحياة، لأنكم أنتم المسئولون أمام الله عنهم:
يا طفل غرد في تبسم أحمد وارسم ضياء جبينه المتلالي
واسعد برؤية خير من وطئ الثرى راعي اليتامى قائد الأبطال
يا طفل في قلب الرسول مكانة لك قد حباها سيد الأجيال
ديناً حوى نهج التكامل والوفا للشيب والفتيان والأطفال
وبهذه الأبيات ننهي هذا الدرس، مع شكري لكم، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(320/25)
الأسئلة
.(320/26)
بأي شيء يكون التحنيك
السؤال
هل التحنيك يكون بالتمر فقط أم بالعسل أم بأشياء أخرى؟
الجواب
إذا فقد التمر فله أن يحنك بريقه وهذا التحنيك يطلب من الصالحين، لما يرجى من آثارهم الطيبة وهم أحياء، بشرط أن يكونوا من أولياء الله عز وجل، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] وهم الصالحون والمصلون والصائمون والعابدون والصادقون والذاكرون، فإنه لا يعرف الصلاح بالعمائم المكورة ولا بالعكازات ولا بالجبب، الصلاح بالعمل الصالح، وبتقوى الله، وبالسير على منهج رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن وجد تمراً فبها ونعمت، وإلا فبريقه أو بشيء من حلوى أو سكر أو عسل أو نحوه، إنما المقصود أن يحنك الطفل بآثار من أثر رجل صالح يخاف الله، لأنه وقعت طلسمة في هذا الباب، مزج بين الصالح والطالح، والسني والبدعي، والولي والمنحرف , فساروا في غبش، فعند كثير من الناس أصبح الإمام المعتبر والعالم السني مثل البدعي المخرف المشعوذ، وهذا من فساد الرؤية، ومن غبشها وانطماسها، فعلى المسلم أن يعرف أولياء الله، وهم يعرفون بالعمل والتقوى، ويعرفون بسمات الصالحين، ليس لهم إمام إلا محمد عليه الصلاة والسلام، وجماعتهم جماعة المسلمين، وبيتهم المسجد، وهم لا يريدون إلا وجهه:
{دعها فإن معها سقاءها وحذاءها، ترد الماء، وترعى الشجر حتى يلقاها ربها}.(320/27)
البنات وفضل تربيتهن
السؤال
تحدثت عن الأطفال الذكور ولم تتحدث عن البنات وفضل تربيتهن؟
الجواب
على كل حال خذ ما عند الأطفال وانقله على البنات؛ لأن الله عز وجل إذا ذكر الرجال فيدخل فيهم النساء قطعاً إلا ما استثنى في ذلك، وقد ذكر النساء في سور، بل خصص سورة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هي سورة النساء، ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195] وهناك قاعدة ما ذكر فيها الرجال مما لا يختصون به فيدخل في عموم ذلك النساء، وإلا فالنداء أتى: (يا أيها الذين آمنوا) (يا أيها الناس) فيدخل في ذلك النساء، وورد التفصيل فقال: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، وأما البنات فصحيح أن هناك أحاديث ربما لا يتسع المجال لذكرها، ولا لذكر الأطفال، لكن أتيت بجمل علها أن تكون منارات وأعلاماً على الطريق، وإلا فقد ورد: {فمن عال جاريتين، فهو رفيقي في الجنة} وفي رواية: {كانت له حجابة من النار} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ولكن أقول لك: خذ هذه الآداب وانقلها للبنات إلا ما اختص به الأبناء.(320/28)
حق تسمية الطفل
السؤال
لمن يكون حق تسمية الطفل لوالده أم لوالدته؟
الجواب
الظاهر في ذلك أنه إذا كانا مسلمين فالحق للوالد؛ لأنه القيم في البيت والمسئول والراعي، وإذا كان الأب كافراً والأم مسلمة فللأم، وبالعكس للمسلم منهما أن يسمي، ولا يؤتى الكافر ولاية في التسمية على الطفل، أما إذا كانا مسلمين فللأب التسمية بشرط أن يكون هذا متبعاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وصالحاً، أما إذا كان فاجراً منحرفاً، يخالف منهج الله في التسمية، فلا، وتقدم الأم في ذلك.(320/29)
بيان صحة وضعف بعض الأحاديث
السؤال
هناك بعض الأحاديث نريد من فضيلتكم أن تتفضل لبيان صحتها من ضعفها، {خير الأسماء ما عبد وحمد} {الحجر الأسود من الجنة} {إن الله كريم يحب الكرم ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها} {بيت لا تمر فيه جياع أهله} {زمزم طعام طعم وشفاء سقم} {زينوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً}؟
الجواب
حديث: {خير الأسماء ما عبد وحمد} هذا الحديث لا يصح عند أهل العلم، وهو حديث ضعيف باطل فلينتبه له، لا يصح من لفظه عليه الصلاة والسلام، ويصح الحديث الآخر: {أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها همام وحارث}.
وحديث: {الحجر الأسود من الجنة}: رواه أحمد بسند صحيح.
وحديث {إن الله كريم يحب الكرم ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها}: هذا يرويه الطبراني وصححه الألباني فيما صح من الأحاديث، والله أعلم إذا كان فيه شيء، لكن الألباني كفى به حجة في هذا الباب، ولو أنه ليس بمعصوم.
وحديث: {بيت لا تمر فيه جياع أهله}: يرويه مسلم وأحمد في الصحيح، مسلم في الصحيح عن عائشة.
وحديث: {زمزم طعام طعم وشفاء سقم}: أما (طعام طعم) كذا في هذه اللفظة فهو في صحيح مسلم، وأما (شفاء سقم) فهو عند أحمد والطبراني وسنده صحيح.
وحديث: {زينوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً}: يرويه الحاكم وابن حبان وهو صحيح على كل حال، وهذه عرضت في درس من دروس السبت، ولكن لأنها لم تسجل وما أعيدت كان لزاماً أن تعرض كما أرسلها الأخ في محاضرة كهذه.(320/30)
من القائل
السؤال
نرجو أن تخبرنا من قائل البيت المشهور:
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
الجواب
أما هذا البيت فأنا سمعته وحفظته في أمسية شعرية وما أعرف من قاله وزدت له بيتين، البيت يقول:
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
فقلت:
أم المعاني اللاوتي قد أتيت بها أرى بها الدر والياقوت متصلا
لو ذاقها مدنف قامت حشاشته ولو رآها بعيد داره لسلا(320/31)
قصيدة (سبحان من يعفو)
السؤال
ما هو الكتاب الذي أنزل فيه قصيدة اليمني:
سبحان من يعفو ونهفو دائما
الجواب
أنا سمعتها من شريط مسجل للحضراني، وقد أجرى معه أهل كلية الشريعة مقابلة وقد توفي رحمه الله قبل سنوات، وملقي المقابلة الدكتور/ عبد الله المصلح، فسمعت القصيدة وهي رائعة في باب التوحيد اسمها الجوهرة رد بها على ابن دريد صاحب:
يا ظبية أشبه شيء بالمها ترعى الخزام بين أشجار النقا
إلى أن يقول:
والناس ألف منهم كواحدٍ وواحدٌ كالألف إن أمر عنا
فيقول هذا اليمني:
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولا يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
لطائف الله وإن طال المدى كلمحة الطرف إذا الطرف سجا
كم فرج بعد إياس قد أتى وكم سرور قد أتى بعد الأسى(320/32)
هل تجزئ شاة كبيرة عن شاتين
السؤال
هل تجزئ شاة كبيرة عن شاتين صغيرتين في المولود؟
الجواب
السنة شاتان، ولا يغلبك البخل على شاة واحدة، فالدنيا فانية واستعن بالله، وتعوذ بالله من الشيطان، فإنه هو الذي يمسك على يدك، أسأل الله أن يفتح عليك وأن يجعلك كريماً، وأحسن من بحث ذلك ابن القيم في تحفة المودود، هل يشترك في عقيقة الإنسان سبعة؟ قال: لا، وهل ثلاثة؟ لا.
السنة اثنتان ولا يزيد عليها، وشاة للبنت.
وهنا مسألة للفائدة: هل الأفضل أن تقسم للناس؟ أو أن يدعى لها الناس، قالوا: بحسب الملابسات والمصلحة، إن كان الفقراء لا يملكون طبخاً ولا ملحاً، فادعهم في بيتك أحسن، وإن كانوا يريدون في بيوتهم فقسمها وأنت أبصر.(320/33)
اختيار الأسماء
السؤال
يوجد من الأسماء: كمبارك أو مشبك، فإذا سأل أحد هل فيكم مشبك أو هل فيكم مبارك؟ فيقول: ليس فينا مبارك وليس فينا مشبك، ما الحكم في هذا؟
الجواب
مبارك ورد صفة في القرآن {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] لكنها صفة، وما أستطيع أن أقيس الحديث هذا، الله أعلم، في أبي داود: لا يقول أحدكم لغلامه رباحاً ولا يساراً ولا نجيحاً؛ لأنه يقال: أثم هو؟ فيقال: لا، فأما أن أقيسه فلا أستطيع؛ لأنه القياس سيطرد في اسم سعيد، وعلي وغيرها من الأسماء، فأنا أحجم عن هذا والله أعلم.(320/34)
تأخير الأذان في أذن الطفل
السؤال
اليوم أكثر النساء ينجبون أولاداً وهن في المستشفيات، فلا تستطيع الأم أخذ ولدها لتؤذن في أذنه، فما الحكم لو كان الأذان بعد يوم أو يومين؟
الجواب
لا بأس في ذلك إن شاء الله، لا أدري هل الرسول صلى الله عليه وسلم أذن في أول يوم، لكن أصل الأذان وارد وما دام تعذر في اليوم الأول فيؤذن حفظاً على السنة في اليوم الثاني أو الثالث وهكذا.(320/35)
مواقف أهل الدعوة من المنشورات التي فيها بعض آيات الله
السؤال
هناك بعض المنشورات تخبر بأن هناك اكتشافاً للفظ الجلالة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) رئيت في صورة أخذت بالكمبيوتر لرئة إنسان، الرئة اليمنى، هل هذا حقيقة أم هي خزعبلات، ونوع من الغزو الفكري؟
الجواب
عرض هذا السؤال مرات، وأقول: عندنا ثلاثة مواقف لأهل الدعوة لا بد أن يقفوها أمام هذه الورقة، وأمام أمثالها من المنشورات:
أولاً: هل صحيح ما هو موجود فيها، فإنه لابد أن نتثبت من هذه الأمور والواردات والنظريات التي تعم وتطم دائماً، هل هذا ثابت حقيقة؟ ويسأل عن هذا أهل التخصص، وقد تكلم مع أحد الأطباء المستقيمين في مستشفى عسير، وقد وعد أن يبحث المسألة بحثاً علمياً، لأن تخصصه في الحنجرة، ويأتي بخبر، وأعطِ القوس باريها، وأهل التخصص هم أجدر بذلك، فإنه أحياناً قد تكون الصورة الظل للأمر النير الواضح، وبالعكس.
الأمر الثاني: خلق الإنسان أعظم من هذه الكتابة التي في الحنجرة قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] ما أدهشنا وما أقعدنا على ركبنا إلا هذه الكتابة، وأيدينا تتحرك بقدرة المحرك، وأعيننا تبصر، أما بقي علينا من الآيات المؤثرة إلا هذه الكتابة الجامدة المصورة في اللحم، وخلقنا أعظم؟ إنه خلق معجز والله، فلماذا لا نتفكر في الأصل ونعود عن المحتمل الذي لا ندري عن صحته وعن غلطه؟
الأمر الثالث: نخشى إن سلمنا كل شيء أن نسلم بالخطأ، فمثلاً: قدر أننا أتينا فسلمنا بلا إله إلا الله بأنها مكتوبة في الحنجرة، وغداً قد يأتينا ويقول: لا إله والحياة مادة، وسيقال لنا: مثل ما آمنتم بهذا آمنوا بهذا، ديننا ليس مجالاً للنظريات، ولذلك حذر العلماء أن يجعل القرآن والسنة مجالاً للنظريات، إذا اكتشفوا شيئاً قالوا: صدق، هذا القرآن يؤيده، وبعد شهر وإذا به يعلن أن النظرية خطأ، قالوا: في القرآن شيء، ليس الإسلام للنظريات، الإسلام ثابت وحق، كل شيء خاضع للقرآن والسنة، ونحن نبقى على الأصل ونقول: الحمد لله، ليس هناك زيادة ولا يأبه بها الإنسان وهذا أمر عادي.
أنا رأيت بعض العوام هللوا وكبروا في المسجد يوم رأوا الورقة، وهم يوم يتلى عليهم القرآن ويذكر لهم آيات الله في الكون صباح مساء في المسجد يهزون رءوسهم ويفكرون في التخطيط والخلطة والإسمنت.(320/36)
التسمية باسم " عبد رب الرسول "
السؤال
ما رأيك في اسم قائد المجاهدين الأفغاني: عبد رب الرسول؟
الجواب
عبد رب الرسول أحسن من عبد الرسول، فإنه كان فيما يقال: عبد الرسول، فحوله إلى عبد رب الرسول، وهو وارد لا شك فيه والحمد لله، فرب الرسول هو الله، وسياف عبد لله.(320/37)
حكم وضع المرّ على رأس المولود وتعليق القلادة عليه
السؤال
ما حكم وضع المرَّ وغيرها على رأس المولود، وما حكم تعليق القلادة في عنقه أو في يده؟
الجواب
أورد ابن القيم مثل ذلك وبعض الأطباء، لكني لا أعرف أثراً في ذلك؛ لأن الخلاف بين أهل العلم في كلمة (يسمى) كأن يقول: همام وهو أحد الرواة في الصحيح، وقد كان ألتق، وأثرم، يقول: (يدمى) بدل (يسمى) فكانوا يدمون رأسه، حتى أهل الحديث قالوا: هذا خطأ ليس في الرواية (يدمى) إنما هي (يسمى) وعلى كل حال، إن ثبت في الشريعة فالأمر جائز وعلى العين والرأس، وإن كان من باب الطب فهو جيد.
أما تعليق التمائم فلا يجوز، لا من القرآن ولا من السنة، وهو من فعل المشركين وأهل الوثن، والمشعوذين والكهنة والعرافين، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من تعلق تميمة فلا أتم الله له} ورأى رجلاً في يده حلقة {قال: ما هذه؟ قال: أخذتها من الواهنة، قال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً} وصح عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه، فقد كفر بما أنزل على محمد ومن أتى عرافاً أو كاهنا فلم يصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً} ورأى رسول الله رجلاً علق في طفله شيئاً من أوراق وخيوط، فقطعها عليه الصلاة والسلام في الطواف، فهذه ليست واردة لا من القرآن ولا من غيره، وهو القول الأصح عند علماء أهل السنة، ومن فعل ذلك فقد أساء وتعدى وظلم، ولا يحرز إلا الله بالأذكار الشرعية وقراءة القرآن؛ بالرقية الواردة عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم.(320/38)
حكم اصطحاب الأطفال إلى المسجد
السؤال
البعض يصطحب أولاده الصغار، والبعض لا يصطحب أولاده الكبار إلى المسجد؟
الجواب
الناس في هذه القضية طرفان ووسط، منهم من حول المسجد إلى روضة أطفال، لكي تطبخ المرأة في البيت وتأخذ راحتها، فيأخذ الأطفال، ويأتي بهم إلى المسجد فيلعبون ويصرخون حتى يشغلوا المصلين، وهذا يؤخذ على يده وينصح ويؤدب.
وفي الطرف الآخر من جانب، حيث يترك أبناءه في البيت ولا يأمرهم بالصلاة، فهو مسيء ويؤخذ على يده وينصح ويؤدب، والوسط هو أن يأتي بهم في السن المعهودة وهي السابعة ونحوها، لقوله صلى الله عليه وسلم: {مروا أبناءكم بالصلاة لسبع} بشرط أن يؤدبه ويلقنه الأدب ويقيمه في الصف ويلاحظه في المسجد.(320/39)
تغسيل الأم لطفلها وأحكامه
السؤال
ما حكم تغسيل الصبيان من قبل أمهاتهم، وهل هذا ينقض الوضوء، وما حكم نجاسة الطفل؟
الجواب
أما تغسيل الطفل، ففي هذه القضية مسألتان:
المسألة الأولى: هل المرأة إذا مست عورة الطفل ينتقض وضوؤها؟ إذا كان أقل من السابعة فالصحيح من أقوال أهل العلم، أنه لا ينتقض وضوؤها، ولو مست فرجه وهي متوضئة، ولا يؤخذ بالعموم في ذلك، وهي فتوى لبعض علمائنا الآن.
المسألة الثانية: أما إذا مست النجاسة بيدها، فالصحيح أنه لا ينتقض وضوؤها؛ لأن لمس النجاسة لا ينقض الوضوء، لكن تغسل النجاسة.(320/40)
آخر قصائد الشيخ عائض
السؤال
يطلب أحد الحاضرين آخر ما نظمت من الشعر؟
الجواب
إنها قصيدة لمدح الرسول صلى الله عليه وسلم، أردت فيها معارضة المجرم البردوني اليمني، أحسن هو في قصيدته إحساناً جيداً ولكن لا نرضاه ولا نرضى قلبه ولا معتقده، ولا دينه ولا طريقته، هو قومي بعثي أعمى القلب والبصيرة، كل شر فيه، ولكنه شاعر في الذروة، يقول في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام:
نحن اليمانين يا طه تطير بنا إلى روابي العلا أرواح أنصار
أنا ابن أنصارك الغر الألى سحقوا جيش الطغاة بجيش منك جرار
إذا تذكرت عماراً وسيرته فافخر بنا إننا أحفاد عمار
فقلت في قصيدة (صوت من الغار):
نور من الغور أم صوت من الغار أم نغمة الفكر أم تاريخ أسرار
يا عيد عمري ويا فجري ويا أملي ويا محبة أعماري وأخطاري
تطوي الدياجير مثل الفجر في ألق تروي الفيافي كمثل السلسل الجاري
الشمس والبدر في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار
أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبار
فما لقومي بلا وعي قد انتكسوا أصغوا لصيحات عربيد وخمار
يبيع ذمته المعهود في وثن والدين ينهار منه في شفاً هار
شادوا الدنانير هالات مزخرفة جماعها لا يساوي ربع دينار
لو بيع في السوق ما حازوا له ثمناً ولو شروه لكان الغبن للشاري
جمع الطوابع من أسمى هوايته ذو همة بين خباز ونجار(320/41)
حكم ضرب الأطفال
السؤال
هناك استفسار حول قوله عليه الصلاة والسلام: {مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر} ويتساءل كيف تنكر التربية الحديثة ضرب الأطفال والحديث يوحي بذلك؟
الجواب
الضرب هنا هو أصل، والأمر به وارد لكنه أمر نسبي، ونحن نعود إلى الأمر النسبي، الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد الضرب، إنما أجازه، وعلماء الغرب وأمثالهم قد ينكرون أصل الضرب، وهذا ليس بصحيح، بل ورد في السنة أنه أمر لا بد منه في باب التعزير ونحوه، وإن كانوا ينكرون الكثير منه فحتى الإسلام ينكر الكثير منه، فأقول: أصل الضرب هو المعهود بالعرف، لأن الأمر إذا أطلق في الشريعة، ولم يكن له عهد معروف نعود إلى عرف الناس، فالضرب يكون بالمعروف، والقاضي شريح يخصصه عند بعض الشراح بأنه سوطان وبعضهم يقول أربعة أسواط.(320/42)
نصيحة لمن لا يحسن التعامل مع أولاده
السؤال
لدي أطفال وفيهم الكثير من الأذى وأحياناً أغضب عليهم وأدعو عليهم، فماذا تنصحني في ذلك؟
الجواب
أنصحه أن يستعيذ بالله من الشيطان، وأن يتقي الله فيهم، وأن يكون رحيماً بهم، ويصاحبهم كثيراً، ويراعي عقولهم وإدراكهم، وأرى أن يأتي بالوسائل المحببة كالقرآن وسماعه، والشريط والذكر الإسلامي، يدخل بيته ذكر الله، ثم عليه بالدعاء في السحر وفي السجود لهم بالصلاح.
اللهم أصلحنا وثبتنا واهدنا سواء السبيل، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(320/43)
أحداث مكة
الفرق الضالة ذات العقائد المنحرفة؛ من أعظم الأدواء التي فتكت في جسد الأمة قديماً وحديثاً، ومن أخطر هذه الفرق فرقة الرافضة، وأعمالهم الشنيعة في المسلمين عبر التاريخ لا تزال آثارها إلى اليوم، وفي هذا الدرس بيان لحقيقتهم، وبعض أصول اعتقادهم، ودسائسهم بالمسلمين وكيفية التعامل معهم.(321/1)
ضرورة البصيرة بخطط الأعداء والمنافقين
الحمد لله القائل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206].
والصلاة والسلام على رسول الله القائل: {افترقت النصارى على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت اليهود على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة، كُلها في النار، إلا فرقةٌ واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كانت على ما كنتُ عليه أنا وأصحابي} وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أمَّا بَعْد:
أيها الناس! فإن الله امتنّ على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث بين له سبيل المجرمين، ومخططات الملحدين، وأسس عقائد المنحرفين ليتجنبها صلى الله عليه وسلم، فقال عز من قائل: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
أي: نخبرك بهم، ونفصل لك أخبارهم، لتستبين لك طريقهم لتكون على وضوح، ولذلك يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[من لم يعرف الجاهلية لم يعرف الإسلام]] والله يقول في بعض الفرق المنحرفة الضالة:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * 6000016>فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:8 - 10].
وهؤلاء أمثال الرافضة الذين تستروا بستار الإسلام، وادعوا لا إله إلا الله، ودخلوا في مظلة المسلمين، ولكنهم يخادعون الله، ويخادعون الذين آمنوا، في قلوبهم مرض الفتنة والبغي والظلم والولوغ في الدم على مر التاريخ، ويقول الله في شأن من هذا شأنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204].
يتكلم بالإسلام، ويدافع علانيةً عن الإسلام، لكنه في الخفاء يطعن في الإسلام!! ويكيد لأهل الإسلام ولحملته: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204] قيل: يقول: الله شهيد على ما أنوي، أو يشهد الله على ما في قلبه من الخبث، والخداع، والدسيسة والنفاق: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة:205].
تصدر التدمير والإبادة، والنصب والقتل، والاعتداء والهمجية: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] وإذا قيل له: اتقِ الله، خف الله، راقب الله؛ أخذته العزة بالإثم، وادعى أن الصواب عنده، وأن الحق بيده، وأنه مصيب، قال الله عز من قائل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206] فتكفيهم النار مصيراً ومثوى.
وكان لزاماً على المسلم بهذه المناسبة، وبالأحداث الأخيرة لا تزلفاً، ولا تقرباً من أحد، ولكن تقرباً من الله الحي القيوم أن ينصح للمسلمين، وأن يبين مبادئ هؤلاء المجرمين، وأن يفضح خططهم، وأن يبين مقاصدهم، وأن يعرض للناس شيئاً من أفكارهم، ليكونوا على بصيرة.(321/2)
حقيقة الرافضة
والسؤال الذي يعرض نفسه: من هم الرافضة؟ وما هي أصول عقائدهم؟ وما هي أسس مقاصدهم ومخططاتهم؟
الرافضة: مذهب عقدي منشقٌ عن أهل السنة والجماعة، أنشأه اليهودي عبد الله بن سبأ الذي قدم من اليمن، غالى هذا اليهودي في حب أهل البيت ظاهراً وعلناً، حتى ألَّه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، سبحان الله وتعالى عما يصفون! وتعالى عما يقولون عُلواً كبيراً! انشق هذا المذهب العقدي بخبثٍ وبحقدٍ على الصحابة الأخيار.
ومن أصولٍ معتقدهم: أن أئمتهم اثني عشر إماماً معصومون، لا يذنبون ولا يخطئون، ولا ينسون، وهم أفضل عندهم من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ذكر هذا القبرصي في رسائله، والخميني في كتبه.
ومن أصول عقائدهم كذلك: التقية، وهو النفاق عند الإسلام والمسلمين، ونسبوا إلى جعفر الصادق رضي الله عنه وأرضاه -وهو براءٌ من هذا القول- أنه قال: التقية مذهبي وديني ودين آبائي، من لم يقم بها فليس مني، ذكره موسى جار الله صاحب كتاب الوشيعة في نقد عقائد الشيعة.
ومن أصول معتقدهم كذلك: التبرؤ من أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، شيخي الإسلام، وقطبي هذا الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهم وأرضاهم، وسموا في كتبهم أبا بكر بالجبت، وسموا عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين بالطاغوت، وهذا مذكورٌ في الكافي للكليني.
ومن أصولهم: التبرؤ كذلك من عائشة، الصديقة بنت الصديق، المبرأة من فوق سبع سماوات، ووصفوها بالفاحشة، وادعوا أنها زنت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، برأها الله مما يقولون، وقد ذكر ذلك صاحب كتاب الخطوط العريضة.
ومن أصولهم كذلك: لعن الصحابة، الذين ما وقفوا مع علي رضي الله عنه وأرضاه في موقعة الجمل وصفين، وادعوا أن الصحابة كفروا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أصولهم كذلك: أن القرآن الذي بأيدينا ناقص، ولا يعتمد عليه، ولا يوثق به، ولا يقرأ، ولا يحفظ، ولا يتدبر، ولا يعمل به في الجملة، لأنه محرف، وقد ذكر ذلك الطبرسي، وهو من علمائهم وأئمتهم في كتابه فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب، وادعوا أن الكتاب الموثوق به، والقرآن المعتمد عليه سوف ينزل مع المهدي المنتظر، الإمام الثاني عشر عندهم الذي قالوا لنا: إنه أفضل الناس جاهاً، وأنه حج معهم هذه السنة، وأنه عرف بـ عرفة، وأنه وقف بـ مزدلفة، وأنه بات بـ منى، وأنه سوف يظهر قريباً.
ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: " هم أضل الناس في المنقولات، وأجهل الناس بالمعقولات " وقال عامر الشعبي رحمه الله: " إذا دخلت حياً من أحياء الرافضة، فقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث " وقال أيضاً: والله الذي لا إله إلا هو! لولا أني على وضوءٍ وأخشى أن ينتقض وضوئي، لأخبرتكم ببعض كلام الرافضة، وقال: قاتل الله الرافضة، لو كانوا من الطيور لكانوا رخماً، ولو كانوا من الوحوش لكانوا حمراً، سخطوا على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولعنوهم وقد عدَّلهم الله ورضي عنهم، وتبرءوا من الصادقة الصديقة بنت الصديق، وقد زكاها الله وعدلها، واتهموا الصحابة وقد زكاهم الله، وكفل أقوالهم في أكثر من موضع، وخرجوا على جماعة المسلمين، وسلوا سيف البغي والعدوان، وحقدوا وحسدوا.(321/3)
من دسائس الرافضة في التاريخ
أما دسائسهم في التاريخ، فإن أبا لؤلؤة المجوسي جدهم الأكبر، الذي يترضون عنه في كتبهم، هو قاتل عمر رضي الله عنه وأرضاه، والذي قدم أكبر جريمة في تاريخ الإسلام، يوم قدم بالحقد والموت، وسمَّ خنجره، وقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
مولى المغيرة لا جابتك جابيةٌ من رحمة الله ما جادت غواديها
فلما سقط عمر رضي الله عنه حمله الصحابة، وعلموا أن هذا تدبيرٌ من المجوسية التي تعادي أتباع الرسل عليهم لصلاة والسلام، قال أنس: [[لما قتل عمر رضي الله عنه وأرضاه، ظننا أن القيامة قامت]] وقال علي بن أبي طالب، أبو الحسن الذي نحبه ونتولاه، ونعتقد أن حبه من أوثق عرى الدين، لا كما يزعمون، فإنهم أعداؤه، والمتخلفون عنه، والمخالفون له، دخل على عمر رضي الله عنه وأرضاه، فبكى علي طويلاً وعمر مطعون وقال: [[رضي الله عنك وأرضاك، والله لطالما سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك]] ثم قال له: [[والله ما أريد أن ألقى الله في عمل عاملٍ إلا كعملك الذي تلقى الله به]] وقال بعد أن توفي عمر: [كفنت شهادة الإسلام في أكفان عمر]].
وثبت عن علي رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح أنه قال: [[من فضلني على أبي بكر وعمر، لأجلدنه حد المفتري؛ ثمانين جلدة]] وهم الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه وأرضاه.
فمؤسس مذهبهم، وزعيم نحلتهم عبد الله بن سبأ، هو الذي دبر قتلة عثمان، وقد قتلوه وهو صائم، وهو يقرأ القرآن، فضربوه بالسيف رضي الله عنه وأرضاه، فنزل دم الشهادة من جبينه -الدم الزاكي، الدم الطاهر، دم العبادة والزهد- على المصحف، ووقع على قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137].
قتلوه وهو صائم في أشهرٍ حرم:
ضحوا بأشمط عنوان السجود له يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
ومن دسائسهم كما يقول ابن كثير، أن ابن العلقمي وهو الرافضي الخبيث المجرم، مهد لـ جنكيز خان قائد المغول التتر، وأدخله بغداد، وأخذ ابن العلقمي يخرج اليهود والنصارى لئلا يقتلوا، ويقدم أهل السنة إلى القتل، حتى استباح المغول بغداد ثمانية أيام، فقتلوا فيها ثمانمائة ألف، في كل يومٍ مائة ألف، وقتلوا الخليفة، وهدموا المساجد، وأحرقوا المصاحف، وقالوا: هذه المصاحف كتبها الزبير وطلحة، وما نزل بها جبريل عليه السلام.
ومن دسائسهم في التاريخ: أنهم قدموا السفن -كما قال المؤرخون- للصليبين في قبرص، وفي الساحل، وفي عكا، لما نازلهم صلاح الدين الأيوبي، وقدموا الأطعمة، والأدوية، والماء، حتى هزمت ديار المسلمين، واستبيحت كرامتهم، وهدمت مساجدهم، ومزقت مصاحفهم.
ومن دسائسهم كذلك: أن فرقتهم الغالية، وهي التي انشقت من الإسماعيلية، قرينةً موسوية، التي تحكم نفسها في طهران وتبث سمومها، هذه فرقة القرامطة، استباحت بيت الله عز وجل، وقتلت الحجيج وأخذت الحجر الأسود، الذي بكت من أخذه الثكالى واليتامى والمرضعات في حجورهن، أخذوه على سبعة جمال، كل ما ركبوه على جملٍ أصيب الجمل بالجرب فمات، حتى وصلوا إلى القطيف، وبقي معهم ما يقارب العشرين سنة، وفي الأخير ضربوه بالفئوس حتى كسروا جزءاً منه، ثم أعادوه إلى المسجد الحرام.
ومن دسائسهم وهي فوق الحصر ما فعلته فرقة النصيرية في سوريا، التي قتلت المسلمين، واستباحت دماءهم، وذممهم، وأطفالهم، وأعراضهم، ووافقت الصهيونية العالمية، ومهدت لإسرائيل، وعاونتها، واستباحت ديار المسلمين، ثم يأتي موقفهم المخزي المشين من الجهاد الأفغاني، حينما ادَّعوا ظاهراً أنهم مع المجاهدين، وهم في الباطن مع الملحدين.
هم يفرشون لجيش البغي أعينهم ويدَّعون وثوباً قبل أن يثبوا
الحاكمون وواشنطن حكومتهم واللامعون وما شعوا وما ضربوا
لهم شموخ المثنى ظاهراً ولهم هوىً إلى بابك الخرمي ينتسب
وفي الآونة الأخيرة -كما حدثنا الثقاة- فصلوا بين إمدادات المجاهدين في الجنوب، وبين الجهاديين في الشمال، لئلا يجد المجاهدون إمدادات من بعدهم، ولا من خلفهم، فما كان من المجاهدين الأفغان إلا أن استعانوا بالله، ورأوا موعود الله، وعادوا إلى قرى الرافضة المجرمين فدمروها بالسلاح، ودكوها بالصواريخ، وجعلوها أثراً بعد عين، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
ومواقفهم كثيرة، فهم صانعوا إسرائيل، ومدوا جسور الود في الخفاء معها، وصالحوا أمريكا، وأخذوا السلاح منها، وهدموا بها مدن الإسلام وأطفال المسلمين، ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: " دين الرافضة خليط، شابه اليهودية في الغلو، والمجوسية في عداوتهم لأتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وشابه النصرانية في الجهل ": {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
وهذا الكلام لابد منه؛ لأنهم يدَّعون الإخاء معنا، ويريدونه بألسنتهم، ولكنهم يشهدون الله على ما في قلوبهم من بغض:
فإما أن تكون أخي بصدقٍ فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني
فإني لو تخالفني شمالي ببغضٍ ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بيني كذلك أجتوي من يجتويني
وآخر ما قدموه من مسرحياتهم الحاقدة الفاجرة ما فعلوه بالحجاج الذين أتوا شيوخاً وأطفالاً ونساءً محرمين ملبين، ينادون بالتوحيد لله، قد تجردوا من كل شيء.
أتوا إلى مهبط الوحي وإلى مهوى أفئدة المسلمين الذين أجابوا داعي الله إبراهيم عليه السلام بقوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] فلما أتى الحجاج ملبين من كل فجٍ عميق، أتوا هناك وأحرموا، وتجردوا، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أن الله عز وجل، يتجلى للحجيج يوم عرفة، فيقول: يا ملائكتي! انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين، أشهدكم أني غفرت لهم} فحرمة الحاج أعظم من كل حرمه، خاصةً في الشهر الحرام، في البلد الحرام، في اليوم الحرام، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها، ولا ينفر صيدها، فمن استحلها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين}.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا} وقد وقصت أعرابياً ناقته فمات؛ فقال صلى الله عليه وسلم: {غسلوه بماء وسدر، وكفنوه في إحرامه، ولا تغطوا رأسه ولا وجهه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً} أي: يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
فما بعد استحلالهم هذا المكان في هذا الشهر، في هذه الأيام فرصةٌ للمصالحة، كيف ونحن نتولى أئمة الإسلام، وخلفاء المسلمين، والصحابة وهم يلعنونهم، وكيف ونحن نتعبد الله بالقرآن وهم يذمونه ويدعون نقصانه؟ كيف ونحن نتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، وهم يتبعون أئمتهم؟ بالله، وايم الله، لقد ذكروا أئمتهم يوم عرفات في هذا الحج المنصرم أكثر مما ذكروا الله وهذه عبادة لغير الله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23].
أما موقفنا السليم معهم، وواجبنا هو شيءٌ أعظم من التنديد والشجب، والاستنكار؛ لأن هذا لا يغني في مصيرنا ولا في مسيرتنا ولا في مستقبلنا.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(321/4)
واجبنا تجاه دعوات الرافضة
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين، وقدوة السالكين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً؛ أمَّا بَعْد:(321/5)
أولاً: الغضب لله ورسوله
عباد الله! إن واجبنا مع هذه الدعوات المغرضة، الملحدة الماكرة، مع كل ما يخالف دين الله، ليس أن نغضب لأنفسنا، ولا أن تقيدنا العاطفة لأنفسنا تحت ستار الإسلام كلما تعرض لنا، لا.
بل واجبنا أن ننصر دين الله تبارك وتعالى، وأن نغضب لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن نقوم بحماية كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لوجه الله، ولأن هذا واجبنا، ولأن هذا هو أساس بقائنا وحمايتنا واستقرار أمننا، فأول واجباتنا تجاه هذه الدعوات وهذه الأفكار والمبادئ الهدامة،؛ أن نعود إلى كتاب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يكفي الشجب والاستنكار والتنديد، إن ما يشجب به هؤلاء الأعداء، أن نأتي إلى القرآن فنحفظه أبناءنا، ونضوَّغ به حياتنا، ونغذي به أرواحنا، ونعطر به بيوتنا، وأن نقرره بكثافةً في مدارسنا، وأن نقرن معه السنة المطهرة: الصحيحين سنن أبي داود الترمذي النسائي ابن ماجة.
هذه الأصول الستة تستصحب القرآن في الدراسة والمجالس، وفي المساجد والخطب والأندية، إن كنا نريد الأمن والنصرة، واستبقاء حياتنا ورفاهيتنا، وبقائنا غانمين سالمين؛ فلننشر هذه السنة مع القرآن نشراً قوياً، ونحميها حماية لا بد منها لنحمي أنفسنا نحن، وهذا هو المطلوب.(321/6)
ثانياً: تعليم القرآن والسنة
الأمر الثاني: أن ينزل علماء أهل السنة، وعلماء المسلمين إلى الناس في المساجد، وأن يدرسوا الناس كتاب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وأن تهيأ لهم السبل، وتفتح لهم الأبواب، وتتاح لهم الفرص، ليتحدثوا مع العوام والطلاب والجيل والناشئة، فيكررون عليهم الآيات والأحاديث، فهذا هو النصر، وهذا هو البقاء؛ لأن هؤلاء الرافضة، وأولئك الفجرة يدرسون في مساجدهم معتقداتهم ومذاهبهم ومخططاتهم، يدرسونها على المنابر، وفي المساجد والمجالس، وهم مشغولون بها على كل المستويات في البيت، ومع جيل الطلبة، ومع العوام والتجار والفلاحين، ومع أعضاء حكومتهم ودولتهم.
فما جزاء من هذا فعله بنا إلا أن يأتي علماؤنا فينزلون من بيوتهم، ويتركون أطفالهم ولو ساعة من نهار ومعيشتهم ليرفعهم الله، ويجعلهم ممن يبينون الحق وينشرونه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160].
فدعوة لعلماء الإسلام إلى النزول إلى الناس، والتحدث معهم، وشرح كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(321/7)
ثالثاً: الاهتمام بالكتاب والسنة ودراسة العقائد
الأمر الثالث: أن يهتم الأساتذة، والمربون، والمعلمون، والموجهون، والدعاة بكتاب الله عز وجل وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا شبعنا من كلام الذكر، وأصبحنا كلنا إنشائيين، شبعنا من المترادفات، ومن زيادة الكلمات، وأعداؤنا يدرسون كتبهم الصفراء وأصول معتقداتهم، فلا جمع لكلمتنا، ولا نصرة لصفنا، ولا لم لشعثنا؛ إلا بكتاب الله عز وجل، ثم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أن توضح وتدرس، وتفهم، وتشجع الناس على حضور دروسها ومجالسها، وبث أخبارها، وتنويع المجالس بها، فإن هذا هو البقاء، وهذا هو النصر الأكيد، وهذا هو بإذن الله الأمن والاستقرار.
نسأل الله عز وجل أن يشغل كل من أراد إشغالنا بنفسه، وأن يجعل كيده في نحره، وأن يرده على أعقابه خاسراً.
عباد الله: وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم:
{من صلَّى عليَّ صلاةً واحدة، صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد وعلى آله، صلاة وسلاماً في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام المسلمين، اللهم أعز الإسلام المسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر اليهود وأعوانهم من المستعمرين، إنك على كل شيءٍ قدير يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، اللهم سددهم على الحق، اللهم انصر بهم الحق، وانصرهم بالحق يا رب العالمين، اللهم وفق إمام المسلمين لكل ما تحبه وترضاه، اللهم ألهمه رشده ووفقه، وخذ بيده إلى كل خيرٍ إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرةٍ، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك يارب العالمين، اللهم انصر عبادك الموحدين المجاهدين في أفغانستان وفلسطين، وفي كل صقع من البلاد يارب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(321/8)
دواء القلوب المريضة
القلب هو المضغة التي في الجسد إن صلحت صلح سائر الجسد، وإن فسدت فسد سائر الجسد.
وأمراض القلب جد خطيرة، لذا تعرض الشيخ حفظه الله لها، وعرض أسبابها وكيف تعالج، وبين أن ذكر الله هو أعظم أعمال القلوب والتي بها يبلغ النائم في فراشه درجة الصائم القائم، وللذكر فوائد عديدة تعرض لها الشيخ في أثناء الحديث عن القلوب ودوائها.(322/1)
أسباب مرض القلوب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها السامعون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نسأل الله لنا ولكم ثباتاً وقبولاً وهدايةً وسداداً, ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يزيدنا فقهاً في هذا الدين, وأن يجعلنا من المتمسكين والمتشبثين به, إنه ولي الهداية والقادر عليها.
إخوتي في الله: عنوان هذه المحاضرة: (دواء القلوب المريضة).
الأجسام تمرض ومرضها سهل يسير، وقد فتح الناس لها مستشفيات وعيادات وصيدليات, وقد قام الأطباء والممرضون والصيادلة بعلاجها, ولكن القلوب مرضها هو الخطير, وهو المدمر وهو المهلك وهو الذي ينتهي بصاحبه إلى نار تلظى.
والأطباء هم الرسل عليهم الصلاة والسلام والعلماء المخلصون والدعاة النابهون, وسوف أستعرض معكم هذه الليلة في دواء القلوب المريضة مسيرة -إن شاء الله- في عناصر, وسوف يكون هناك في آخر المحاضرة تنبيه مهم أوجهه إليكم وإلى كل سامع، علّ هذا التنبيه أن يصادف قلباً أو سمعاً أو يصادف من يعيه ويعمل به إن شاء الله.
لهذه المحاضرة عناصر:
مرض القلوب على قسمين: (مرض شبهات - ومرض شهوات) وقد تحدث القرآن عن القسمين وعن المرضين وعن الصنفين.
أسباب مرض القلوب, وهي ستة أسباب:
السبب الأول: وهو أفتكها وأخطرها وأشنعها وألعنها وأبغضها: الشرك بالله.
فهو الذي يمزق القلب, ويودي بصاحبه إلى نار جهنم خالداً مخلداً فيها, لا يخرج منها أبد الآباد, ولا يجد نعيماً ولا لذة ولا روحاً ولا رائحة خلود ولا نعيماً ولا قرة عين أبداً.
الشرك -والعياذ بالله- قال تعالى فيه: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة:72].
السبب الثاني: المعاصي.
فهي تمرض القلب وتجعله محموماً لا يعي ولا يفهم.
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل لم يهده الهاديان السمع والبصر
بل تجعل القلب مضطرباً لا يسكن إلى شيء.
السبب الثالث: الغفلة.
وقد ذم الله أصحابها وأهل الغفلة هم الذين أعرضوا عن تعلم الوحي والذكر ومجالس الخير والتفقه في الدين فهؤلاء أهل غفلة وسوف يأتي تفصيل أمرهم إن شاء الله.
السبب الرابع: الإعراض.
وأهل الغفلة آخرون غير المعرضين, فأهل الغفلة الذين سمعوا الوحي والقرآن والخطب والمواعظ لكن على قلوبهم حجاب وغفلة ما استفادوا من هذا وما أفادوا وما نتج فيهم الخير فهؤلاء أهل غفلة, وأهل الإعراض هم الذين ما تعلموا العلم الشرعي ولا تفقهوا في الدين ولا سألوا عن أمور الدين، وسوف تأتي الأدلة والأحاديث والنصوص في ذلك.
السبب الخامس: الاشتغال بالدنيا.
بحبها وبصرف الوقت لها وسوف يأتي تفصيل ذلك.
السبب السادس: كثرة المباحات والإسراف في المطعومات والملبوسات والمشروبات.
ثم نصل إلى سهام تمزق القلوب، ونقف مع هذه السهام التي مزقت قلوب كثير من الناس, ثم ننفذ إلى آيات الدواء التي في القرآن والتي عالج الله بها قلوب المسلمين ورحم الله بها أرواح المؤمنين، ثم الأحاديث التي تحدث الرسول عليه الصلاة والسلام فيها عن هذا العلاج والدواء، وهو طبيب القلوب بأبي هو وأمي.
ثم أخبار الذاكرين لله, وفي الأخير: الأنبياء وذكرهم, وفوائد الذكر ثم ننتهي إلى التنبيه الذي أشرنا إليه أولاً.(322/2)
أقسام مرض القلوب
أيها المسلمون: الله قسم مرض القلوب إلى قسمين وهذان القسمان ذكرا في القرآن:(322/3)
مرض الشبهة (النفاق)
وهو مرض لا علاج له إلا أن يسلم صاحبه ويدخل إلى الإسلام وإلا فنار جهنم جزاءً موفوراً لا حل له ولا شفاعة من الأنبياء والرسل، وإنما جزاؤه أن يخلد في النار, وهذا المرض هو النفاق، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة:10] هذه في سورة البقرة، وهم المنافقون الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر وهم موجودون في كل قرية ومدينة وملة وعصر وزمان ومكان, فنسأل الله المعافاة من هذا المرض.
وهذا المرض إذا دخل له علامات:
1 - تعطيل الصلوات جماعة وإن صلّى صلّى رياءً وسمعة: {يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء:142].
2 - لا يذكر الله إلا قليلاً, بل يذكر شهوته وطعامه وشرابه وأصحابه وأحبابه وسكناه أكثر من ذكر الله، قال تعالى: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
3 - يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم, يمدحون الإسلام والصالحين والذكر، ويعلم الله ما في قلوبهم من بغض للإسلام والدين والمساجد والذاكرين، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206] فهذا المرض الفتاك ذكره الله بأنه مرض وهو مرض النفاق.
قال ابن تيمية لأحد علماء المنطق من المنافقين: " تب إلى الله، أكثر من الذكر، قال: لا أستطيع, قال: ماذا تحس به؟ قال: أحس على قلبي بظلمات بعضها فوق بعض ".
ويغلو هذا المرض في بعض القلوب إلى أن يصل بدرجة البغض إلى كل ما يمت إلى الإسلام بصلة حتى وصل الحال ببعض الزنادقة في القرن الخامس إذا سمع المؤذن يؤذن فقال: طعنة وسم الموت, وهذه القصة ذكرها ابن تيمية في كتاب الاستقامة.
وبلغ ببعضهم إلى أن استهزأ بالقرآن، ومنهم: القاسم بن عبيد الله؛ وهو زنديق ملعون، أحد وزراء بني العباس, دخل عليه أحد العلماء فقال: ذكرني ببعض الحكم؟ فأعطاه آيات, قال: هذا من بقرتكم وآل عمرانكم، أعطنا من حكم سقراط وبقراط , لعنه الله, يقصد بقوله بقرتكم وآل عمرانكم سورتي البقرة وآل عمران, فكان جزاؤه اللعنة وسبب هذا المرض أنه أعرض عن القرآن وعن الوحي.
الآن في شبابنا اليوم من لا يقرأ القرآن، ولا يقرأ الحديث، ولا يحضر دروس العلم ولا حلقات العلم، وعنده كتب أعداء البشر ككتاب بائعة الخبز كتاب مترجم أمريكي، وكتاب الإنسان لا يقوم وحده، وكتاب كيف تنهي يومك؟، وكتاب كيف تسيطر على عقلك؟ , فيبقى في هلوسه وفي هوس قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] وقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124].
بشرى لكم أيها الجالسون والسامعون! لا تزدادون جلوساًَ ولا حضوراً ولا سماعاً إلا وتزدادون معه إيماناً, ولا يزداد المعرض إعراضاً إلا يزداد كفراً ونفاقاً ولعنة, قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:125].
أحد المناطقة من أهل الزندقة اعترض على شرع الله, واسمه ابن الراوندي وقد ذكرته كثيراً وكان فقيراً، وذكياً لكن ليس بزكي, ذكي العقل -تجد بعض الطلبة يحل المسألة الجبرية ويفهم المعادلات ويجيد حتى لغة الكفار الإنجليزية وغيرها بلبل لكن زنديق- يقول الذهبي في ترجمة ابن الراوندي: " ذكي وليس بزكي ", فيقول في آخر الترجمة: " فحيا الله البلادة بالتقوى، ولعن الله الذكاء بالفجور.
وكان هذا الخبيث عند المسلمين يسمى الكلب المعفر، كان هذا الرجل يأكل كسرة خبز، فمر به أحد التجار من المسلمين عبد -وكلنا عبيد لله- مولى عنده خيول وبقر وإبل وغنم، فالتفت إلى السماء -يعني: يتكلم مع الله- قال: أنا ابن الراوندي الذكي من أذكياء العالم وهذا المولى تعطيه الخيول والإبل والبقر أين العدل؟ سبحان الله! ثم رمى الخبز في النهر, سبحان الله! كيف يصل القلب إلى درجة السخط والبغض حتى يتبلد صاحبه فيصبح كالحمار؟! قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
فقسم الله عز وجل الأمراض إلى قسمين: مرض الشبهات وهو مرض الزندقة والنفاق، نسأل الله العافية والمعافاة، وهذا يأتينا -الآن- في أدب الحداثة , أناس تستروا بالأدب وقالوا: حداثة وأسلوب تجديد في الشعر، وهم يريدون قلع الإسلام من جذوره، ويستهزئون بالقرآن وبالرسول عليه الصلاة والسلام وبالدين وبالمساجد, وهذه ثورة عارمة على ديننا ومقدساتنا وملتنا وبلادنا, فهؤلاء في مقام الزندقة وجزاؤهم السيف, ليس لهم حل إلا السيف أو يتولاهم الله بتوبة.(322/4)
مرض الشهوات
وأما مرض الشهوات فذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في قوله: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] قال أهل العلم: هذا المرض هو مرض الشهوة, مرض الزنا وحب الفاحشة, والله يوصي النساء ألا يخضعن بالقول لأنهن إذا خضعن وترققن بالقول طمع المنافق, وطمع الذي في قلبه حب للفاحشة مهما كان ولو كان متأهلاً ومتزوجاً، لكن إذا سمع صوت المرأة ففي قلبه فاحشة وحب للشهوة، والعياذ بالله حتى يقول أحد الشعراء في كلام المرأة:
وكلامها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي حدثت ود المحدث أنها لم توجز
هذا ابن الرومي عاش حياته على هذه اللخبطات, لخبطات بعضها فوق بعض, إنسان تجد حياته دائماً يكتب الشعر بعد صلاة الفجر وفي الليل وفي آخر الليل، حياته فقط يطبل ويزمر ويغني ويرقص! ويموت بحصيلة لا شيء؛ حيث قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
الخليل بن أحمد: أحد الصالحين من عباد الله، لكن من أذكياء الناس, بلغ به من ذكائه إلى أن يقول: لأضعن -إن شاء الله- حساباً -يعني: معادلات في الحساب- تذهب به الجارية إلى البقال فلا يظلمها -يعني: البنت الصغيرة تذهب إلى صاحب الدكان فلا يظلمها لأنها تعرف الحساب- فأخذ يتفكر في هذه المعادلات، ودخل وهو يتفكر فالتطم بالسارية في المسجد فوقع على قفاه فمات! والخطأ منه ليس من السارية خطأ عليه (100%)؛ لأن السارية ما أخطأت ما مشت مكانه, كان هو الذي افترض علم العروض من 15 بحراً, كان يأتي في بيته فيقول: تن تن تن على التفاعيل, تن تن تن مفاعلتن مفاعلتن فعول مفاعلتن مفاعلتن فعول, فعولن فعولن فعولن, فعولن، مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن, حتى اكتشف خمسة عشر بحراً, فما هناك قصيدة تأتي إلا وتضعها على أحد بحوره، وقد اكتشف بعض الأدباء بعده البحر السادس عشر.
هذا الأديب الذكي كان في بيته يتنتن على أصابعه ويضع علم العروض، فدخل ابنه فرآه يتنتن فذهب يولول ويصيح على أمه قال: جن أبي أصبح مجنوناً, فيقول لابنه:
لو كنتَ تعلم ما أقول عذرتني أو كنتُ أجهل ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعلمت أنك جاهل فعذرتنا
يقول الخطيب البغدادي: توفي الخليل فرئي في المنام قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي, قالوا: بماذا؟ أبعلم النحو وبالعروض وباللغة؟ قال: لا.
والله ما نفعني ذلك شيئاً، ما نفعني الله إلا بسورة الفاتحة كنت أعلمها عجائز في قريتي.
الشبلي: أحد أئمة الصوفية، كان عنده أذكار هو وصوفيته وليس بذكر شرعي، وإنما يجلسون حلقات في المساجد يقولون من ذكرهم: حي حي حي! أي: الله حي, وليس هذا بذكر شرعي, ذكر بدعي, فيأتون أحياناً فيتحلقون، لأن الله يقول: {إِلَّا هُوَ} [البقرة:255] فقالوا: "هو" هذا اسم الجلالة الأعظم, فكانوا يجتمعون ويقولون: هو هو هو هو هو قال بعض أهل العلم: هذا نباح كلاب وليس بذكر, توفي قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: طاحت تلك الإشارات وانمحت تلك العبارات، وما بقي لنا إلا سحرات أو ركعات في الأسحار، غفر الله لنا بها وهو الواحد الغفار.
زبيدة امرأة هارون الرشيد أم الأمين ذهبت تحج وكانت قافلتها أولها في أول بغداد وآخرها في آخر بغداد , ذهبت تحج فرأت الحجيج في ظمأ وفي تعب وفي ضنك, فأجرت عين زبيدة التي تعرفونها الآن, وأنفقت عليها ملايين الآلاف من الدراهم والدنانير, وتوفيت, رآها ابنها أو أحد قرابتها وهي في هيئة حسنة -الحمد لله ما أتانا من فضل فمن الله وما أتانا من تقصير فمن أنفسنا- قال: يا أماه ما فعل الله بك؟ قالت: كدت أهلك وأذهب هباءً منثوراً, قال: بماذا؟ قالت: ما تشاءمت وما كاد يهلكني إلا عين زبيدة , قال: سبحان الله! أسقيت الحجيج وأرويتهم الظمأ وتهلكك؟ قالت: إني قصدت بها رياء الناس, قال: فماذا نفعك؟ قالت: نفعتني ركعتان في السحر كنت إذا أسحر الليل توضأت وخرجت في شرفات القصر فأشرفت فنظرت إلى النجوم فقلت: لا إله إلا الله أقضي بها عمري, لا إله إلا الله يغفر بها ربي ذنبي, لا إله إلا الله أدخل بها قبري, لا إله إلا الله أقف بها في حشري, فأنقذني الله بهاتين الركعتين.
فهنيئاً لمن أخلص واجتنب النفاق والرياء والسمعة وكان على صراط مستقيم.
الشاهد أن مرض الشهوة ومرض الشبهة يحدث لكثير من الناس: فأما مرض الشبهة فقد تكلمنا عنه, وأما مرض الشهوة ومرض حب الفاحشة يتصل بالهاتف بامرأة معصومة دينة فترخي صوتها فتقع الشهوة في قلبه, ويتمنى أن يفعل الفاحشة, يطرق الباب عليها فترخي صوتها فيطمع في الفاحشة, وهذا كالذئب الضروس العادي لا يعصمه إلا الإيمان, وقد سئل ابن تيمية عن مرهم ذلك, قال: المرهم أن تبتعد عن مواطن الريبة هذا أولاً, الثاني: أن تكثر الذكر, الثالث: أن تدعو وأنت في السجود: يا مقلب القلوب والأبصار! ثبت قلبي على دينك.(322/5)
تفصيل أسباب مرض القلوب(322/6)
الشرك والشك يجعل الإنسان حيواناً بلا عقيدة
وهذا يمزق القلب حتى يصبح الإنسان ليس له قلب, ويعيش كالحيوان وكالبهيمة, قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] ويصبح الإنسان في درجة الحيوان بل الحيوان أشرف منه، فيعيش بلا عقيدة وبلا إيمان ويأكل ويشرب ويغني ويرقص ويزمر، لكن ليس له عقيدة، فحظه في الدنيا الهم والغم والرعب والهلاك، وحظه في الآخرة الخلود في نار جهنم، والعياذ بالله!
قال نوح عليه السلام لابنه وهو في سكرات الموت: يا بني! لا تشرك بالله, أرأيت مثل من أشرك؟ قال: لا.
قال: مثل من أشرك كمن أخذ سيفاً فقطع جسمه إرباً إرباً, وقيل في مثله وهذا في القرآن: كمن هوى من السماء فتخطفه الطير فتمزقه مزقاً مزقاً وقطعاً قطعاً أو تهوي به الريح في مكان سحيق.(322/7)
المعاصي تمرض القلوب
إن المعاصي تستحوذ على القلب حتى تحجب عنه الرؤية ولا يسمع ولا يعي ولا يفهم ولا يعقل، فيصبح كتلة من لحم, فيه نبض من دم لكن لا يعي شيئاً، قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13].
والمعاصي قال عنها سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] والمعاصي بأقسامها تجتمع على قلب الإنسان حتى تفتك به فتكاً ذريعاً، فلا يحب الخير ولا الذكر ولا الدعوة ولا العلم ولا يتفقه في الدين, ويصبح رجلاً شهوانياً كالثور أو كالحمار أو أي حيوان, وقد ذكر الله صاحب المعاصي في القرآن، فقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176].(322/8)
الغفلة تصيب القلب بالمرض
والغفلة -يا عباد الله- يعيشها الإنسان ولو كان في وسط المدينة وبين العلماء والدعاة, وتجد الإنسان مبهوتاً يسمع الذكر والموعظة والخطبة، ولكنه لا يتغير في سلوكه شيء, وهذا لأنه غفل عن ذكر الله عز وجل, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ * إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:97 - 98].
ولهذا وصف أبو هريرة الرجل الغافل بأنه يدخل المسجد فيشدق الشيطان لحيه، فينظر إلى سقف المسجد ولا يذكر الله, وهذه صور كثيرة, قد تجد الإنسان يدخل قبل الصلاة بنصف ساعة, فينقر ركعتين -على كلام الشيخ كشك هبد بركعتين- يقول أحد الناس من جهة مصر من الصعيد تاب الله عليه فاهتدى فأخذ يصلي وعنده غنم, فلما صلّى الصلاة الأولى ماتت شاة بقضاء وقدر من الله عز وجل, صلّى العصر فماتت الثانية, صلّى المغرب فماتت الثالثة، صلى العشاء فماتت الرابعة، صلى الفجر فماتت الخامسة, الغنم بها مرض والرجل يظن أنها ماتت بسبب الصلاة, فترك الصلاة ولكن ما بقي إلا شاة واحدة فأخذت تقفز وتضبح وتصيح من الجدار وهي مربوطة بحبل فأخذ يسحبها ويجرها ويقول: اسكتي والله إن لم تسكتي وإلا أهبدك بركعتين!! يقول: تتوبين وإلا أهبدك بركعتين تلحقك بالدار الآخرة!!
وبعض الناس يدخل المسجد يهبد بركعتين وهي من أثقل الأشياء عليه, حتى تجده متثاقلاً من الصلاة، الذي يقتني الغناء والطرب والموسيقى والمجلة الخليعة والمسلسل تجده يصلي، لكن يظهر عليه الاكتئاب والقلق والفتور والبرود؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول عن المنافقين: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] {سئلت عائشة: كيف كان صلى الله عليه وسلم يقوم لصلاة الليل؟ قالت: كان إذا سمع المؤذن وثب} وثباً -كالأسد- يقف واثباً عليه الصلاة والسلام, قال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] وقال: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص:45] أي: يأتون إلى الصلاة بحرارة, إنسان يأتي بارداً لا يقبل، ولله المثل الأعلى: لو أن مسئولاً جالس وأتاه إنسان يقدم له هدية أو معروضاً فأتاه فمشى مشية المتباطئ ثم نظر له ببرود ثم أعطاه باليسرى المعروض وهو على أمتار وما صافحه ولا سلم عليه, هذا يرده على وجهه ولا ينظر إليه ولا يلتفت -ولله المثل الأعلى- تجد من الناس من إذا أتى إلى المسجد فهو أول من يخرج وآخر من يدخل, فإذا دخل المسجد وقف في طرف الصف وحتى وقفته ليست معتدلة, ثم يضع يديه ويبدأ في تفكيره واحتكاكه وإخراجه لنقوده وشروده وفي مذكراته وإنهاء شغله فتطول الصلاة, وأول من يخاصم في المسجد هو إذا طوّل الإمام قال: حسبنا الله ونعم الوكيل! الدين يسر, الرسول يقول: {من أَمَّ منكم بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف والصغير وذا الحاجة} فيحفظ أحاديث الرخص، أما أحاديث العزائم فلا يحفظ منها شيئاً, فهذا يأتي إلى المسجد قال أبو هريرة: [[فإذا انتهى نظر أعلى السقف]] لا تجده يسبح أبداً، بل يأخذها فرصة إذا تكلم جاره معه تكلم, ولذلك تجد في المساجد من يتكلم بين الأذان والإقامة دائماً لا يقرأ ولا يسبح وإنما كلام دائم, يسلم، يا فلان! متى قدم ولدك؟ يتأخر هنا تزوجت ابنتك ماذا أتى لفلان؟ سمعت بأمطار وإلى الأسعار والأمطار، الأخبار، الأشجار، التجار، الفجار، كلها أصبحت في المساجد, وهذه علامة الغفلة عن الله وعن أمره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(322/9)
عدم حب مجالس الخير يزيد في مرض القلب
تدعوه إلى درس وإلى محاضرة قال: الحمد لله الناس عندهم خير وتعلموا، الإعلام يبث، والصحف تعلم، والتلفاز والراديو لم يعد هناك جهل!! سبحان الله! سعيد بن المسيب علامَّة التابعين وسيد التابعين يجلس مع مولى في المدينة يتعلم منه قالوا: ما لك وأنت عالم الناس تجلس معه وهو من تلاميذك؟ قال: لأن الله يغشى هذه المجالس بالرحمة فأريد أن يغشيني معهم, هم القوم لا يشقى بهم جليسهم, الله يقول لهذه المجالس: {انصرفوا مغفوراً لكم فقد أرضيتموني ورضيت عنكم, فتقول الملائكة: يا رب! إن فيهم فلاناً إنما أتى هكذا} لأن بعض الناس يأتي لا لغرض المحاضرة ربما يريد مفتاح السيارة ومفتاح زميله لكن تورط زميله في الصف الأول فينتظر متى يقوم, أو رأى السيارات اجتمعت وأغلقت عليه طريق سيارته ولا يخرج إلا في آخر الدرس فجلس، قال: {وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم}.
وقف سفيان الثوري يوم عرفة فبكى, يوم الحج الأكبر يوم يتجلى الله للناس, فقال: [[يا رب! إنك تغفر للجليس بجلسائه اللهم فإني لا أعلم أفجر مني في أهل الموقف اليوم، اللهم فاغفر لي معهم]] سفيان الثوري؛ سيد التابعين، زاهد الدنيا, أمير المؤمنين في الحديث، يقول: إنه أفجر أهل عرفات!
يقول عبد الله بن المبارك -وهذه ليست قصيدة الشافعي -:
أحب الصالحين وأنا لست منهم وأبغض الفجار وأنا أفجر منهم
سبحان الله يا هذا التواضع!! ابن المبارك يقول أحد تلاميذه: سافرنا معه فرأيناه يقرأ كما نقرأ في المصحف, ويصلي كما نصلي, ويصوم كما نصوم, قلت في نفسي: سبحان الله! يصلي ابن المبارك كما نصلي، ويصوم كما نصوم، ويقرأ القرآن كما نقرأ القرآن، فلماذا رفعه الله علينا؟! قال: أتى ليلة من الليالي ونحن في غرفة فانطفأ علينا السراج, فذهبنا نلتمس السراج فأتينا به فلما أسرجناه فإذا دموعه من رأس لحيته, قلنا: ما لك؟ فأخذ يكفكف دموعه قال: والله تذكرت القبر بهذا البيت, فقال التلميذ: فعلمنا أن الله رفعه بالخشية.
يقول الذهبي في كتاب قضِّ نهارك مع ابن المبارك -كتاب ذكروا عنه لكني ما رأيته مطبوعاً لكنه مكتوب في ترجمته: قض نهارك مع ابن المبارك - حج من خراسان فقال لأهل خراسان: من يريد منكم الحج؟ فأخبروه قال: من يريد الحج منكم فليدفع نفقته التي يحج بها, فدفعوا النفقة فوضع كل إنسان نفقته في صرة فأخذ نفقاتهم فوضعها في صندوق في بيته وأغلق عليها, وأخذ من ماله وكان تاجراً غنياً أغناه الله عز وجل فأنفق عليهم في طريق الحج حتى ذهبوا إلى مكة , ثم زاروا مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم, ثم قال: اشتروا لأصحابكم هدايا من أموالكم كأنه ينفق عليهم من مالهم, فاشتروا هدايا لأهلهم, فلما عادوا إلى خراسان ضيفهم جميعاً ثم أخرج الصندوق فوزع عليهم أموالهم جميعاً, قالوا: كيف وقد صرفناها؟ قال: الله يبارك للحاج في نفقته, وهو لم يصرف من أموالهم درهماً, والحجة الثانية حج بها من خراسان , كان أهل خراسان إذا خرج ابن المبارك يبكون كلهم من أطفال ونساء حتى اليهود, يقول:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها نجمها وهلالها
إذا ذكر الأخيار في كل بلدة فهم أنجم فيها وأنت هلالها
خرج بهم فأصبح عند الكوفة يريد الحج، فخرجت امرأة ضعيفة مسكينة فأتت إلى مزبلة فوجدت غراباً أو طائراً ميتاً في المزبلة فأخذته, وذهبت إلى البيت فقال: الله المستعان! قم يا فلان فاسألها لماذا أخذت هذا الغراب؟ فطرق عليها الباب قال: لماذا أخذت الغراب؟ قالت: والله ما لنا طعام منذ ثلاثة أيام إلا ما يلقى من ميتة في هذه المزبلة, فرجع وأخبر ابن المبارك فبكى! وقال: سبحان الله! نأكل الفالوذج -وهي حلوى من الدقيق والماء والعسل- وهؤلاء يأكلون الغربان الميتة, عودوا بالقافلة واصرفوها لأهل هذه القرى وأخلف الله عليكم وأستودعكم الله في حجتكم في هذه السنة أي: لا حج, فصرفوا جميع القوافل بما عليها من ثياب وحبوب وزبيب ولحم وبر، وعاد بالجمال ليس عليها شيء إلى خراسان وترك الحج, فنام أول ليلة, ورأى قائلاً يقول في المنام: حج مبرور وسعي مشكور وذنب مغفور, فرضي الله عنه وأرضاه وعن أمثاله من الصادقين المخلصين.
وإنما تكلمت عن هذه النماذج لأنها دائماً توصلك إلى رضوان الله الواحد الأحد, وتقربك من طاعته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فالغفلة تعتري القلوب يوم أن تعرض عن طاعة الله عز وجل، وتجدها في الناس بألسنتهم لا يحبون الذكر ولا استماع الخير ولا القرب من المذكرين والواعظين, يقول عطاء بن أبي رباح: [[مجلس الذكر يكفر سبعين مجلساً من مجالس اللغو]] كم جلسنا مجالس اللغو، كم استمعنا للغناء، كم ضعنا في حياتنا، مجلسك مرة واحدة هنا أو هناك في مجلس من بيوت الله يكفر عنك سبعين مجلساً من مجالس اللغو, فهنيئاً لكم، أنتم في روضة من رياض الجنة.(322/10)
الإعراض عن التفقه في الدين من دواعي مرض القلوب
الإعراض عن تعلم العلم وعن التفقه في الدين وعن معرفة سنن سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام:
تجد بعض الناس يعرف كل شيء إلا الدين, ويفهم كل شيء إلا أسرار الصلاة وأسرار عبادة الله عز وجل, ربما يستطيع أن يهندس السيارة وأن يخلعها وأن يشلحها مسماراً مسماراً, لكن إذا أتيت به إلى حديث قال: لا أدري أنا مهنتي لا أطلب الحديث, أنا لست مطوعاً! أنا خلقني الله هكذا اتركني آكل وأشرب والله عز وجل غفور رحيم, والله ينظر إلى أعمالنا وإن كنا مقصرين, ولا يغرك الذي يتكلمون ويتحدثون! نحن نعرفهم!
فتجده معرضاً عن تعلم العلم، قال عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وكان منها أرض إنما هي أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فسقوا وزرعوا, وكان منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك كمثل من نفعه الله بما بعثني به فعلم وعلَّم, ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به} رواه البخاري عن أبي موسى وهو عند مسلم أيضاً.
والرسول عليه الصلاة والسلام قسم الناس في هذا الحديث ثلاثة أقسام:
1 - قسم علم وتعلَّم وعلّم الناس فهو في منزلة بعد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
2 - وقسم تعلم لنفسه وتفقه في الدين، فهو كالروضة الغنّاء أو كالغدير أو كالوادي الطيب الذي حبس الماء، فالناس يسقون أو يشربون منه لأنه في مكانه لا يأتيك منه إلا كلمة طيبة, إن زرته في بيته وجدت كلمة أو موعظة أو اهتداء أو أمراً حسناً, أقام بيته وأصلح شأنه، فله الشكر وله الثناء الحسن, لكن ما تعدى إلى الآخرين, وما وصل نفعه إلى الناس.
3 - وقسم لا نفع نفسه ولا انتفع به بيته ولا ولده ولا تفقه ولا تعلم ولا عرف أمور دينه ولا علم الناس, فهذا بمنزلة الأرض السبخة؛ انظر الأراضي الآن التي تأتي على شواطئ البحار المالحة، لو نزل المطر عليها صباح مساء ولو ألف سنة ما أنبتت ولا أثمرت.
فنسأل الله أن يجعلنا من الأرض الطيبة وأن ينظر إلينا بنظر خير، فإنه قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} والمعرض عن الله هو الذي لا يتعلم العلم, ولا يحضر مجالسه, ولا يستفتي العلماء ولا يتفقه في الدين, ويشمله قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: وهو من كفار قريش عندما أسلم فدخل في أستار الكعبة أو ثوب الكعبة فاستتر به رضي الله عنه وأرضاه قال: فخفت على نفسي فدخلت في ثوب الكعبة أستتر بستارها, فمرّ ثلاثة أو أربعة من المشركين كثيرة شحمة بطونهم قليل فقه قلوبهم, فيقول أحدهم للآخر: أتظن أن الله يسمعنا إذا تكلمنا؟ قال زميله له: إذا رفعنا أصواتنا سمعنا وإذا خفضنا لم يسمعنا -أي: الله عز وجل- هذا في الإعراض والغفلة.
قال عمار بن ياسر: {أرسلني صلى الله عليه وسلم لأعلم أناساً في البادية في غدير الخضمات تجاه المدينة، فذهبت إليهم فعلمتهم القرآن والحديث والسنن, فإذا بأناس معرضة قلوبهم، ميتة أرواحهم لا يريدون القرآن ولا العلم ولا الذكر, إنما همهم رعي الإبل ومطاردتها، فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: دعهم, أي: ما أراد الله أن يسمعهم خيراً} حتى تجد من الناس من اهتماماته صباح مساء الدنيا وليس له هم ولو نصف ساعة في هذا الدين.(322/11)
الاشتغال بالدنيا من أسباب مرض القلب
من أسباب مرض القلوب: الاشتغال بالدنيا وتقديمها على الدين, ونحن لا نقول: الدنيا حرام, ولا نقول للناس: لا تبنوا بيوتاً ولا تشتروا سيارات ولا تتزوجوا، هذا لا يقوله أحد من العلماء, وإنما نقول: يا أيها المسلمون! أعدوا العدة للقاء الله عز وجل, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] وقال: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد
فما هو زادك عند الله عز وجل؟ لكن أما كثرة الانصراف إلى الدنيا، أما إعطاؤها الاهتمامات والساعات الطويلة ليل نهار, وجعل الدين دقائق معدودة, فهذا من أسباب مرض القلب -والعياذ بالله- فيصبح القلب مريضاً, حتى تجد بعض الناس لا يرتاح للذكر في المجالس, يريد أن تحدثه عن العقار، عن البيع والشراء، عن الشركات السياحية، عن الصرافة، عن الأسعار، عن الأشجار، وعن الأخبار، لكن الدين لا يريدك أن تحدثه عنه, وهذا من غفلة القلب ومن الإقفال عليه ومن إعراضه عن مولاه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ حيث قال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].(322/12)
كثرة المباحات والإسراف فيها تجعل القلب مريضاً
فكثرة الأكل والشراب، وكثرة الضحك والخلطة بالناس، وكثرة المزاح والنظر والنوم كلها تجعل القلب مريضاً وتزيد من مرض القلب، شافى الله قلوبنا وقلوبكم.(322/13)
الأسهم التي تمزق القلب(322/14)
النظر إلى المحرمات سهم من سهام إبليس
أما السهام التي تمزق القلب فهي ثلاثة سهام, كل سهم إذا انطلق على القلب مزقه وأحرقه وقطعه تقطيعاً.
إن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه سهم مسموم من سهام إبليس, من غض بصره أبدله الله حلاوة إيمان أو إيماناً يجد حلاوته في صدره, والنظر هذا قد يصيب الإنسان بنظرة واحدة تضيع عليه دنياه وأخراه, وقد ذكروا في تراجم بعض الناس أنه نظر إلى امرأة فأصابه مرض العشق فتولّه فترك الصلاة فأتاه المرض حتى مات على الفراش.
وذكر ابن القيم: أن رجلاً نظر إلى امرأة لا تحل له، فتولّه قلبه، فأخذ يمرض يمرض حتى حضروه في سكرات الموت -والذين ماتوا بالعشق كثير, حتى قال ابن عباس: [[أعوذ بالله من العشق]]-- فلما أتوا يقولون له: قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ وحمام منجاب هذا حارة في بغداد طريق محبوبته هذه التي عشقها هناك.
مجنون ليلى لما أعرض عن ذكر الله عز وجل وعن الرضا والسكون إلى الله أصابه الله بمرض العشق فمرض حتى مزق ثيابه ومات مرمياً في صحراء نجد , حتى يقول من ضمن أبياته:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنكِ النفس بالسر خاليا
وإني لأستغشي وما بي غشوةٌ لعلَّ خيالاً منكِ يلقى خياليا
فبكى حتى بكى له الناس, ثم مزق ثيابه ثم أكل بعض جسمه ثم مات, فهذه خاتمة سيئة وهو بسبب سهم النظرة.
دواؤها: أن تغض بصرك، وأن تسأل الله العافية والمعافاة والسلامة، وأن تكثر المطالعة في كتاب الله عز وجل, وأن تصرف قلبك عن هذه الأفكار والوساوس والهموم.(322/15)
الغناء سهم فتاك
وكم فتك الغناء في مجتمعاتنا من بيوت؟! وكم خرب من أسر؟! ولا إله إلا الله كم صرف من إرادات؟!! وكم عطّل من قلوب؟! وكم ضيع من شباب؟! يتمثل في الموسيقى, وفي الأغنية التي يصحبها الشريط أو الفيديو أو المسلسل أو المسرحية أو العرض أو حفلة سمر فيها غناء, ولذلك سَخَّر الشيطان بعض جنوده في شباب، فحملوا معهم أعواداً وقضوا لياليهم في طرب, رأيناهم بأم أعيننا ونصحنا بعضهم لكنهم كانوا يرون هذه النصائح أنها لا داعي لها وأنها من التدخل في شئون الغير, وأنها من الجرح لشعورهم.
ولكن إذا بلغتهم النصيحة فقد بلغت, فكلامي لمن عرف مستقبله عرف حياته، فلا يصرف حياته في هذا الأمر, يلقون مقابلة مع بعض المغنيين: كيف شققت طريقك في الحياة؟!! كيف حصّلت هذا المستوى الراقي؟!! يسمونه نجماً وليس بنجم.
الحاكمون وواشنطن حكومتهم اللامعون وما شَعُّوا وما غربوا
فيقولون: كيف لمع نجمك؟! قال: بدأت من الصفر وشققت حياتي وصابرت وثابرت حتى بلغت إلى هذا المستوى!! مستوى والله لا تحسد عليه!! مستوى الموت أحسن منه, مستوى عيب وخيبة وندامة وقلة مروءة, أفمستوىً أن تصبح طبالاً مزمراً مغنياً تصرف قلوب الناس عن هداية الله وعن القرآن الكريم وعن ذكر الله عز وجل إلى هذا المستوى؟! أي مستوى هذا؟!!
فينخدع كثير من الشباب فيصبحون إلى هذا المستوى, فحذار حذار! من الغناء, والذي أنبه عليه في الآخير سوف يتجلى لنا في دورنا وفي مجتمعنا كمسلمين, لأن أمامي مئات الناس كلهم دعاة وأعلم بذلك إذا حملوا الحماس والغيرة، وهو الذي سوف أتحدث عنه بعض وقت إن شاء الله.(322/16)
الغيبة والنميمة تفتك بالقلب
إن الغيبة والنميمة وما يدخلها من فحش ومجون وبذاء تفتك بالقلب وتضيع طريقه عن الله عز وجل قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وقال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
ووجد -أيها الإخوة الكرام- أن كثرة الكلام تقسي القلب قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[إياكم وكثرة الكلام بغير ذكر الله فإنها قسوة]] وقال علي: [[عجباً لكم! عندكم الداء والدواء ولا تستخدمون الدواء]] أو كلمة تشبهها, الداء الذنوب, والدواء ذكر الله عز وجل.(322/17)
دواء القلوب(322/18)
ذكر الله أنفع دواء
نأتي الآن إلى دواء القلوب وعلاج القلوب، وتعالوا نتعاهد سوياً ونضع الأكف بالأكف ونبدأ مسيرة التوبة والصدق مع الله عز وجل، فما هو العلاج؟
أجمع العقلاء من علماء الإسلام أن أكبر دواء، وأحسن بلسم وأنه علم الولاية، وأنه النهر المضطرب بالماء العذب، وأنه الظلال الوارفة، وأنه البلسم الشافي بإذن الله هو ذكر الله, فتعالوا كما قال أحد العلماء لتلاميذه وإخوانه وأصحابه: تعالوا نتعاهد على ذكر الله صباح مساء قياماً وقعوداً وعلى جنوبنا قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] وقال: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
دخل أبو مسلم الخولاني وهو أحد الصالحين من التابعين، وكان لا يفتر لسانه أبداً عن ذكر الله, يقول في بعض الآثار، وهو حديث لكن في سنده نظر: [[اذكر الله حتى يقول الناس: إنك مجنون]] وفي بعضها: [[اذكروا الله حتى يقول المنافقون: إنكم مجانين]] لأن الذاكر في المجلس أو في المكان تراه يتمتم فيقول الذي لا يعرف الذكر: هذا يتمتم ويهلوس, أو موسوس, أو مجنون.
فـ أبو مسلم هذا كان لا يفتر لسانه من ذكر الله وشفتاه أيضاً, دخل على الأسود العنسي الذي ادعى النبوة في صنعاء في اليمن , فقال له الأسود: أتشهد أني رسول الله؟ قال: كذبت عدو الله, رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام, قال: والله لأحرقنك بالنار -أو حلف بآلهته- فجمعوا له حطباً وأرادوا أن يلقوه فكتفوه وحملوه فقال: حسبي الله ونعم الوكيل, وقع في النار فإذا هي برد وسلام, ثم خرج من النار؛ فقال الأسود العنسي: هذا ساحر, أخرجوه من اليمن لا يسحر علينا الناس, ثم وصل إلى المدينة فاستقبله أبو بكر وعمر وعانقاه وقالا: [[مرحباً بالذي جعله الله كالخليل إبراهيم في هذه الأمة]].
ودخل على معاوية بن أبي سفيان ومعاوية خليفة ومعه وجهاء الناس، فأخذ أبو مسلم يتمتم بذكر الله عز وجل, فقال معاوية: أبك جنون يا أبا مسلم؟ قال: بل حنون يا معاوية.
ولذلك كان يقول أهل العلم في بعض السير والتفاسير: إن موسى عليه السلام لما أتى يطرق الباب على فرعون أتى يدعوه إلى الله عز وجل, أتى يبصره بالهداية, أتى موسى راعي غنم كان يرعى الضأن عنده عصا وإزاره ورداؤه من صوف, يقول الله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] قال أهل العلم: كان على سور فرعون ستة وثلاثون ألف حارس, فأتى موسى عليه السلام في الطريق فلما وصل إلى الباب الأقصى من باب القصر ضربه بالعصا بقوة, فقال له الحارس: أمجنون أنت؟ قال: عندي دواء المجانين, أنا لست مجنوناً لكن أتيت أحمل دواء المجانين, فقالوا لفرعون: عندنا مجنون عند الباب يضرب الباب ويقول: يريد أن يدعوك إلى إله ومعه أخ له, لأن موسى يقول: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:29 - 32] لماذا؟ قال: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً} [طه:33] بدواء القلوب التسبيح {ونذكرك كثيراً} [طه:34].
فقال فرعون: أدخلوه نضحك عليه هذا اليوم, يريد أن يتمتع ويضحك على هذا المجنون, فدخل فكانت القصة.
فالشاهد: أن دواء الجنون ودواء الإعراض هو ذكر الله عز وجل, ويقول سبحانه: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35].(322/19)
متى يكون الإنسان المسلم من الذاكرين الله كثيراً؟
أجاب ابن الصلاح ونقل جوابه كما في كتاب الأذكار أنه قال رحمه الله: من ذكر الله في الأذكار الشرعية صباحاً ومساء، وأدبار الصلوات، وعند الطعام وعند القيام من الطعام، وعند النوم، وعند الاستيقاظ من النوم، وعند دخول المسجد والخروج منه وذكر السفر والأذكار الشرعية الثابتة فهو من الذاكرين الله كثيراً.
وقال بعضهم: وقد نسب لـ ابن عباس، وهو في كتاب الأذكار: أن تذكر الله حضراً وسفراً، وفي حلك وإقامتك، وفي السراء والضراء, وقال بعضهم وهو اختيار الغزالي: ألا يزال لسانك رطباً من ذكر الله دائماً وأبداً.
روى عبد الله بن بُسر والحديث للترمذي {أن رجلاً قال: يا رسول الله! وإن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيء أتشبث به؟ قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} وهذا أحسن الكلام وأجمع العبادة!
وقال ابن تيمية في المجلد العاشر من فتاويه لما سئل عن أفضل الأعمال؟ "يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال, ولكن فيما أعلم أن أفضل الأعمال وهو شبه إجماع بين أهل العلم أنه ذكر الله عز وجل, قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ".
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41 - 42] وقال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39] وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24].
فوصيتي لنفسي ولكم أن تدخلوا ذكر الله في بيوتكم.
وما هي الأذكار الشرعية؟ أدلكم على الأذكار للنووي وكتاب الوابل الصيب لـ ابن القيم , وكتاب الكلم الطيب لـ ابن تيمية , هذه الكتب الثلاثة سوف تدلكم بإذن الله على الأذكار صباح مساء، وإذا أخذها الواحد منكم فسوف يتعلم منها الذكر وسوف يكون -إن شاء الله- على بصيرة.(322/20)
بعض الأذكار الشرعية
ولا بأس أن أذكر بعض الأذكار؛ لأن منكم ربما يأخذ هذا الشريط الذي تسجل فيه هذه المحاضرة فيسمع أهله وقرابته وجيرانه وإخوانه.(322/21)
أذكار من السنة
من الأذكار الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم التي كان يقولها ويرددها كثيراً وهو في صحيح البخاري عن شداد بن أوس -وهو سيد الإستغفار، وأوصيكم به- أن يقول: {اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} حديث صحيح.
ومنها: الحديث الذي سنده حسن وهو يمحي أكثر الشرك أو جله ودقه وأكثره وأقله ولا يبقي من الشرك ذرة: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم}.
ومنها: الحديث الثالث الصحيح الذي يجمع لك أفضل ما يقوله الناس في أيامهم ولياليهم وهو: {سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته} تقول هذا ثلاث مرات.
ومنها: الحديث الحسن إذا قلته مرة أعتق الله ربعك من النار, وإذا قلته مرتين أعتق الله نصفك من النار, وإذا قلته ثلاثاًَ أعتق الله ثلاثة أرباعك من النار, وإذا قلته أربعاً أعتقك الله من النار, وهذا الحديث صحيح السند أو حسن تقول في الصباح والمساء وهو: {اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك ورسلك وجميع خلقك أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك} تقوله أربع مرات إذا أصبحت وأربع إذا أمسيت.
وتقول إذا أصبحت ثلاثاً: {أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق}.
وتقول إذا أصبحت ثلاثاً وإذا أمسيت ثلاثاً: {باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء هو السميع العليم}.
وتقول إذا أصبحت ثلاثاً: {رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولا}.
وتقول ثلاثاً إذا أصبحت وثلاثاً إذا أمسيت: {اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور}.
وإذا أمسيت تقول: {اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير}.
والدعاء الثابت الصحيح: {اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره على مسلم}.
ومن الذكر أن تقول: {أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه} ثلاث مرات, ومنها ثلاث مرات: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}.(322/22)
أذكار من القرآن
أما من القرآن فأوصيكم بآيات تقرءونها صباح مساء يعصمكم الله من الصرع, صرع الجان الذي يتلبس بكثير من الناس لقلة ذكرهم, ويعصمكم من الحوادث المزرية والانقلابات, ويعصمكم من المعاصي الكبار التي يقع فيها كثير من الناس لقلة ذكرهم, ومن الهموم والغموم والأحزان والمشكلات, فعليكم بالفاتحة, والخمس آيات الأول من سورة البقرة, وآية الكرسي, وآخر آيتين من سورة البقرة, وأول آل عمران, وآخر التوبة سبع مرات {حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] وآخر الحشر {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23] إلى آخر السورة هذه الآيات, ومنها {ألم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:2 - 3] وسورة الإخلاص ثلاثاً, وسورة الفلق ثلاثاً, وسورة الناس ثلاثا, إذا فعلت ذلك حفظك الله سراً وظاهراً وعلانية، وحفظ عليك إيمانيك لا يمسك جان ولا تأتيك -إن شاء الله- مصيبة أو كارثة تضيع عليك دينك, ولا تحدث وورطة أو يأتيك هم وغم وجرّب ذلك فهو دواء القلب من مرضه.
أما الرسول عليه الصلاة والسلام فيوصينا بأذكار ويبين لنا فائدة الذكر ويقول للصحابة وهم في طريق مكة والمدينة: {سيروا هذا جمدان سبق المفردون, قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات} رواه مسلم , والذاكرون الله كثيراً الذي يذكرون الله دائماً وأبداً في كل مكان، وسوف أبين فوائد الذكر بحول الباري.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم عند البخاري عن أبي موسى: {مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحي والميت} وقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] أي: بذكر الله.
وقوله عليه الصلاة والسلام: {لَأَن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس} رواه مسلم وفي لفظ: {أو غربت}.
ومنها: في البخاري قوله عليه الصلاة والسلام: {من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة؛ كتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له عدل عشر رقاب، وكانت حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل بعمله أو زاد على ذلك} ومن قالها عشر مرات كان كمن أعتق أربع رقاب: {من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت كزبد البحر} وعند الترمذي بسند صحيح: {من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة}.(322/23)
فوائد الذكر
وأسهل الأعمال ذكر الله عز وجل, فتعالوا إلى فوائده.(322/24)
ذِكر الله يرضي الرحمن ويطرد الشيطان
فلا يطرد الشيطان ولا تذهب قوته ولا سخونته ولا تمرده إلا بذكر الله, يقول ابن عباس: [[الشيطان كالحية جاثم على القلب إذا ذكر العبد مولاه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى خنس وسكت، وإذا غفل عن ذكر الله وسوس]].(322/25)
الذِّكر ينمي الحسنات ويمحو السيئات
فلا أرفع في الميزان يوم القيامة من ذكر الله, قال أبو الدرداء: [[من داوم على ذكر الله دخل الجنة وهو يضحك]].(322/26)
ذِكْر الله يشرح الصدر ويوسع القبر
فإن قبور الذاكرين وسيعة وفسيحة, وصدروهم منشرحة طيبة, وروائحهم جميلة, ومبادئهم أصيلة, وعليهم هالة من النور؛ لأنهم ذكروا الواحد الأحد.(322/27)
ذكر الله يحفظ الأوقات ويجمع الشتات
فلا يحفظ الوقت كذكر الله, تذكره في السيارة وفي الطائرة وفي السفينة وأنت جالس وأنت ماش وأنت على جنبك, وأما المصلي فإنه قد لا يصلي إلا في بعض الأحيان, قد لا يستطيع أن يصلي وهو على فراشه أو في الطائرة أو في السفينة، والصائم قد يشق عليه الصيام، والمنفق والمتصدق قد تشق عليه النفقة والصدقة, لكن هذا الذكر أسهل موجود وأغلى مفقود وهو أرفع شيء.
فتعالوا نتواصى به ونستمر عليه, فإن الذاكر يغلب المنفق ويغلب الصائم ويسبق كل أحد من الناس؛ لأن أفضل العبادة ذكر الله تبارك وتعالى.(322/28)
ذِكْر الله يجلب أعظم الفوائد ويعين على الشدائد
إذا صعدت الجبل فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله, وإذا حملت الثقل، وإذا أتتك ملمة ومدلهمة ومصيبة فقل: حسبنا الله ونعم الوكيل! وإذا رأيت منظراً من مناظر الطبيعية التي أوجدها الله وخلقها أعجبك فقل: سبحان الله! وإذا رأيت نعمة في نفسك فقل: الحمد لله, وإذا تذكرت ذنباً فقل: أستغفر الله! وإذا أتتك مصيبة فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون! هذه جميعاً تعينك على الشدائد وتجمع لك أعظم الفوائد, ولكن أين من يتنبه؟!(322/29)
الذِّكر أسهل الأعمال ولكنه أشرف الخصال
ما أسهل الذكر! وأنت على فراشك يمكن أن تسبق الصائم وتسبق المنفق والمصلي, وأنت على فراشك يمكن أن تغلب الذي يجهد نفسه في بعض الأعمال؛ لأنك ذكرت الله بحضور قلب, فعليك بالذكر.(322/30)
الدوام على ذكر الله حصن وحبل من الحق متين
فلا تأتيك الوساوس، وما ظهرت الأمراض النفسية وفتحت المستشفيات إلا من قلة ذكر الذاكرين وإعراضهم عن الوضوء والصلاة، وقراءة القرآن والأذكار الصباحية والمسائية، وعن الدعاء؛ فأصيبوا بالهموم والغموم حتى بلغوا درجة الهلوسة والجنون، نسأل الله الحفظ والرعاية.(322/31)
التعود على الذِّكر يكسو الوجه جلالة ومهابة وحلاوة
والذاكرون يوم القيامة وجوههم بيضاء نقية، ويوم تبيض وجوه وتسود وجوه، فوجوه الذاكرين عليها نضره, وفي الحياة يعرف الذاكر بذكره وهدوئه, ويعرف الشقي البعيد الذي لا همَّ له إلا الغناء ومجالس اللهو والزور بما عليه من قترة.
هذا ما حضرني في هذا الباب وهي محاضرة "دواء القلوب المريضة" علّها أن تسمع ولعل الله أن ينفع بها , ولعل الله أن يجعلها معيدة لكثير من القلوب والأرواح إلى الله عز وجل.(322/32)
الدعوة إلى الله وتعليم الجاهل أمور الدين واجب كل مسلم
الأمر الأول: التنبيه الذي أشرت إليه في هذا المقام هو موجه إليَّ وإليكم، وهو خطأ مرتكب وتقصير حاصل, وقد كتب إليّ بعض الدعاة والإخوة وبعض طلبة العلم بما رأوا من تقصير كثير من الناس في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وقد عمّ الجهل ولو أن هناك وسائل للثقافة وللمعرفة وللعلم ولكن هناك جهل مطبق, بل في بعض الأمكنة رأيناهم ووجدناهم لا يجيدون قراءة الفاتحة, وبعضهم ما عرف أن الغسل من الجنابة واجب إلا بعد ردح من عمره حتى تجاوز الخمسين, ووجد التقصير من كثير من الناس أنه يحمل معرفة ولو قليلة ولكنه يستأثر بها فلا يعلم بيته ولا جيرانه ولا يكون رسول خير إلى الناس, ويمر به الوقت الطويل ولا يكسب واحداً في ميزان الحسنات.
فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لـ علي بن أبي طالب: {والذي نفسي بيده، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
أفلا تريد -أيها المسلم- أن تكسب رجلاً واحداً تهديه، كان عاصياً فتدله على طريق الاستقامة، كان منحرفاً فتدعوه إلى طاعة الله عز وجل, كان شقياً فترده إلى المسجد وإلى القرآن، هذا الذي نلمسه وهو تقصير حاصل, وأنا أعرف أن كثيراً من الإخوة عندهم التزام وعلم ومعرفة وقدرة ولكنهم لا يحملون غيرة ولا حماساً لها, أنا لا أقول: أن تتحدث، لكنك ربما تأتي بالناس إلى مجالس العلم إلى المحاضرات إلى الدروس, كأن تأتي بمجموعة من الشباب معك معرضين, أو تدعوهم لحضور درس أو محاضرة، فلعل الله أن يسمعهم الحق فيهتدوا فيكونوا في ميزان حسناتك: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
ومن الناس من يسكن في حي أو حارة أو قرية فلا يكون له أثر, يصلي مع الناس ويذهب إلى بيته ويقول: نفسي نفسي!! وهذا تقصير حاصل، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {بلغوا عني ولو آية} ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] فالبيان أن تدعو وأن تدل الناس على دليل الاستقامة علّهم أن يكونوا في ميزان حسناتك.
الأمر الثاني: وهو أنني أشرت في الدرس الماضي إلى أن هناك قرى مجاورة لـ أبها وما حول أبها من البوادي وأرض تهامة وفيها من الجهل المطبق ما الله به عليم, وأمامي مئات الناس هنا والوسائل ميسرة، وقد أنعم الله علينا في هذه البلاد بنعمة رغد العيش, والأمن, وسهولة المواصلات, ذلك من فضل الله ثم بجهود ولاة الأمر فإنهم سهلوا طرق الدعوة والمواصلات وأمور الانتقال من مكان إلى مكان.
فيا أيها الإخوة: كثير منكم ينزل بأهله إلى تهامة أو إلى البحر أو إلى البادية وكثير منكم يذهب في نزهة، ألا يجعل من مهمات هذه النزهة أن يعلم الناس ويفقههم في أمور دينهم, وهذا لا يكلفه كثيراً, قراءة الفاتحة, تعليم الصلاة, وتعليم الوضوء, وبإمكانه أن يعتق بهذا العمل رقبته من النار, وأن يضمن الجنة بهذا العمل, وقد رأينا ورأى الإخوة ممن نزل وشاهد من الدعاة وطلبة العلم شيئاً عجيباً لا يسكت عنه, جهل مطبق, اختلاط, وانتشار فاحشة الزنا, وترك الصلوات, وانتشار المخدرات, وكثرة اللعنات -نعوذ بالله من ذلك- بل لا يفهمون كثيراً من أمر الإسلام، كأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبعث في الجزيرة , فلما عُلِِّموا أخذ بعضهم بعد أن تاب يبكي يقول: كيف أنتم مجاورون لنا في أبها وضواحيها ولا تخبروننا بهذا؟ ذنوبنا وذممنا معلقة بكم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
فيا أيها الإخوة: انزلوا إلى هؤلاء وعلموهم, ونسقوا مع مكتب الدعوة فإنه يستقبل وينسق وعندنا إخوة هنا عصر كل جمعة ينزلون إلى القرى وهذه الأمكنة ليعلموهم ويقودوهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض, وما أعلم أن أحداً من الجلوس أمامه عذر مطلقاً, إن قال: لا أعرف الفاتحة فليس بصادق, إن قال: لا أعرف أن أصلي, فليس بصادق, وإن قال: لا أعرف أن أتوضأ فليس بصادق, بل الجميع يعرفون الأمور البسيطة الميسرة من أمور هذا الدين, لكن أين الغيرة؟ وأين الحماس؟ وأين نشر العلم؟!
أصحيح أن في الجزيرة العربية أرض محمد صلى الله عليه وسلم مهبط الوحي أرض القداسات أرض الحرمين أناس لا يعرفون الفاتحة ولا الصلاة ولا يعرفون أن الاستغاثة بالأموات شرك؟ وأن هناك مشعوذين وسحرة وكهنة؟! أنتم المسئولون!! اللهم فاشهد اللهم فاشهد اللهم فاشهد أني قد أخبرت هؤلاء أن يكونوا دعاة وآمرين بالمعروف ناهين عن المنكر, هذه موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.(322/33)
الأسئلة(322/34)
حديث: من شغله القرآن عن ذكري
السؤال
ما صحة حديث: {من شغله القرآن عن ذكري وعن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين}؟
الجواب
هذا الحديث رواه الترمذي وأخطأ ابن الجوزي رحمه الله خطأً بيناً حين وضعه في كتاب الموضوعات , بل هو حديث حسن.
ومعناه موفق وحسن أيضاً؛ فإن من اشتغل بالقرآن كان أعظم ممن دعا الله وذكر الله بذكر مجرد؛ لأن قراءة القرآن أعظم في الأوقات المطلقة, فهو حسن ولم يصب ابن الجوزي حينما جعله في كتاب الموضوعات.(322/35)
سماع الشريط الإسلامي من الذكر
السؤال
هل الاستماع إلى الشريط الإسلامي يعتبر من الذكر؟
الجواب
نعم.
هو من الذكر بحول الباري بل ما رجع كثير من الناس وخاصة الشباب إلا بواسطة الأشرطة وسماعها, وقد يجمع لك الشريط مادة هائلة من العلم؛ لأن المحاضر يجمع من كتب وثقافات وأمثلة ونصوص وبراهين فتسمعها وأنت رائق البال، وربما إذا كررته كان أحسن وأحسن حتى ترسخ المعلومات وتحفظ النصوص, بل من أعظم الذكر، ووصيتي لكم بسماعه وإهدائه للمسلمين لعل الله أن ينفع به.(322/36)
الأحاديث الموضوعة
السؤال
سأل بعض الإخوة عن أحاديث أوردتها يقولون إنها ضعيفة؟
الجواب
أقول لهم: نعم.
ذكرت بعض الأحاديث التي أوردتها في الأذكار, لكن اعلموا أن فضائل الأعمال يقبل فيها الحديث الضعيف بثلاثة شروط:
1 - ألا يكون الضعف شديداً.
2 - ألا نعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله.
3 - أن يكون مندرجاً تحت أصل من أصول الإسلام.
فهذه الأحاديث في الأذكار مندرجة تحت أصل, قال ابن تيمية في المجلد الثامن عشر من فتاويه وينقل عن الإمام أحمد أنه قال: " إذا أتى الحلال والحرام تشددنا وإذا أتت الفضائل تساهلنا ".
فالأذكار لا بأس بالحديث الضعيف فيها بهذه الشروط الثلاثة التي أوردتها فليعلم ذلك.(322/37)
حكم شرب الدخان
السؤال
ما حكم شرب الدخان؟
الجواب
شرب الدخان محرم, وهو من الخبائث ويدخل في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وخبثه ثبت بأمور: بإهلاكه للجسم، وبإضاعته للمال، وبنتونة رائحته، وبأنه كريه لمن شمه, ولما ثبت عنه من أمراض أنتجها, فهذا الدخان محرم، نص على تحريمه كثير من أهل العلم، ولا يدمن عليه إلا رجل واهم محروم من الخير إلا أن يتوب ويراجع حسابه مع الله عز وجل, والمتاجرة فيه محرمة, وبيعه للناس محرم, وإيجار الدكان أو المكان الذي يباع فيه أو المحل محرم، وأخذ الأجرة عليه ومزاولة البيع فيه حرام، فليعلم ذلك.
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وهدانا الله وإياكم سواء السبيل, وتولانا الله وإياكم في الدارين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(322/38)
فضل السواك
السواك مطهرة للفم مرضاة للرب، وجاء الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيه قولاً وفعلاً، وبأساليب شتى، فتارة يحذر من تركه بالإخبار عن بني إسرائيل أنهم تركوا السواك فزنت نساؤهم، وتارة يقول: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) وفي هذا الدرس تفصيل لهذه السنة وما يتعلق بها.(323/1)
السواك: فضائله وأحكامه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد
فمعنا في هذا الدرس بابٌ من أبواب كتاب الجمعة، وهو (باب السواك) وما ورد فيه، وفيه إحدى وعشرون مسألة:
فضل السواك، عند الوضوء وعند الصلاة، وعند دخول البيت، وعند القيام من النوم، وبين الناس.
تسوكه صلى الله عليه وسلم في مرض موته.
التسوك بسواك الغير.
صاحب سواكه صلى الله عليه وسلم والمتكفل به من الصحابة.
الأراك خير السواك.
التسوك بالإصبع وما ورد فيه.
السواك للصائم وتفصيل هذه المسألة وتحقيق ما ورد فيها من خلاف.
بنو إسرائيل وتركهم للسواك.
التيامن في السواك.
غسل السواك.
فضل ماء السواك.
متى يتأكد السواك؟
ثم التسوك بالريحان وشجر العطور، وما ذكر أهل العلم في ذلك.
ثم أسنانه صلى الله عليه وسلم من آثار التسوك، وما ورد في شمائله في هذه الشعيرة.
فوائد السواك.
متى يجتنب السواك أو متى يترك؟
ثم نختم الباب إن شاء الله بالأحاديث الصحيحة في باب السواك، والأحاديث الحسنة، والضعيفة.(323/2)
نبذة من حياة علي بن أبي طالب
وقبل أن نبدأ في هذا الدرس أحب كما هو الغالب في مثل هذه الدروس أن نتعرض إلى صحابي واحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ونحرص أن يكون هذا الصحابي أحد الذين لهم أحاديث في هذا الباب، وهو أبو الحسن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه، وربما سلف معنا في مناسبات ماضية، لكنه لا يستغنى عن سيرهم دائماً وأبداً، وتكرر وتعاد ودائماً تمر على الأسماع لما جعل الله لهم من صلاحٍ وخيرٍ وزهدٍ وبركة، وله حديثٌ في هذا الدرس سوف يمر معنا رضي الله عنه، فمن الجميل والمفيد أن نتعرض لبعض شمائله رضي الله عنه وأرضاه.(323/3)
نشأة علي بن أبي طالب
هو أبو الحسن علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحد السابقين إلى الإسلام، بل هو أسبق فتىً في تاريخ الدعوة المحمدية إلى رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، كفر أبوه بالله العظيم وأبى أن يقول لا إله إلا الله، وأتى عليٌ رضي الله عنه وأرضاه فانطلقت لسانه بلا إله إلا الله {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [آل عمران:27] فخرج علي رضي الله عنه من صلب أبي طالب الكافر الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله.
مات أبوه فأتى عليٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! الشيخ الضال قد مات فماذا أفعل به؟ لم يقل أبي؛ لأنه لا يتشرف بأبوة كافر، ولم يقل: أبو طالب لأنه لا يكنى مثله لأن التكنية مدحٌ وتبجيل.
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقبُ
ولكن قال الشيخ الضال، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يواريه بالتراب، لا غسل، ولا تكفين، ولا صلاة، ولا تشييع، ولا استغفار، لأن مصيره سيء.
أما علي رضي الله عنه فبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضع من ثدي النبوة، ويسمع الحكمة ويلقنها للناس.(323/4)
علي ينام على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة
ولما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى مكة أراد أن يترك علي بن أبي طالب هذا الأسد في براثنه يتركه في فراشه، فأمره أن ينام على فراشه، وذهب صلى الله عليه وسلم، ولما أحدقوا ببيته جعل الله عليهم عمى وسكراً فلم يروه لما خرج، ونثر التراب على رءوسهم وهو يقول: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} [يس:9] فلما خرج صلى الله عليه وسلم ترك علياً فأحدقوا به فلم يخف رضي الله عنه وأرضاه، ولحق بالرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، والأمر الذي يميزه به بين الناس شجاعته النادرة وزهده وصدقه وإخلاصه مع الله تبارك وتعالى.(323/5)
علي ومرحب اليهودي
أما شجاعته فحدث عن الليث ولا حرج، اسمه حيدرة، سمته أمه: حيدرة، وحيدرة اسمٌ من أسماء الأسد، فإن للأسد عند العرب تسعة وتسعين اسماً، من أسمائه حيدرة، فكانت أمه تلاعبه وتسميه: حيدرة، وتهدهده، فلما عاش نسي الأسماء إلا حيدرة، استخدمه في أوقات الأزمات وفي ساعة الصفر، وعند احتدام الخطر.
خرج مرحب اليهودي من حصنه في المدينة، في خيبر ولمع بسيفه وسط المسلمين وقد ألقى الدروع عنه، وهو يناشد المسلمين من يبارز؟ من يبارز؟ ومرحب هذا يهودي ماكرٌ فاجر ولكنه من أشجع الناس، أخذ يرتجز ويلاعب سيفه بيده ويقول:
أنا الذي سمتني أمي مرحب شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن توسم في أصحابه وكلهم أحجم لأنهم يعرفون الخطر، ولأن المسألة معناها أن ينهزم الإنسان أو يقتل في مثل هذا المكان أمام الناس، الذي يتواجد فيه جماهير تشجع وتنظر جميعاً رجالاً ونساءً وأطفالاً إلى المتبارزين الاثنين، فقال صلى الله عليه وسلم: {من يبارز؟} فقال علي رضي الله عنه: أنا يا رسول الله، فسكت صلى الله عليه وسلم، فقال: في الثانية: {من يبارز؟ فقال: أنا، فقال الثالثة: من يبارز؟ فقال: أنا، قال: اخرج} فخرج وسل سيفه وهو شابٌ كالأسد وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة كليث غابات كرية المنظرة
أكيلكم بالسيف كيل السندرة
فلما التقى هو ومرحب، اعترضت بينهما شجرة وأخذا يتصاولان كالليثين فرأى علي رضي الله عنه أن من الحكمة أن يقطع دابر الشجرة ليبقى ذاك مجرداً في العراء، فقطعها علي رضي الله عنه بأول ضربة ثم ثنى الثانية فقتل بها مرحباً، فكبر الناس.
ولذلك يقول محمد إقبال في هذا المشهد:
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
أم من رمى نار المجوس فأطفأت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الذي باع الحياة رخيصةً ورأى رضاك أعز شيءٌ فاشترى
وعاد رضي الله عنه وأرضاه منتصراً.(323/6)
علي وعمرو بن ود
وفي معركة الخندق أتى عمرو بن ود، وهو أشجع العرب على الإطلاق، يسمى: بيضة البلد، أي أنه كان الرجل الوحيد في الشجاعة بين العرب في الجاهلية، فأتى يقول: من يبارز؟ من يبارز؟، فدعي علي رضي الله عنه؛ فخرج له، فقال عمرو بن ود لـ علي: لا أريد أن أقتلك لأنك شاب صغير، وقال علي: [[وأنا والله أريد أن أقتلك لأنك كافر]] فأخذا يتصاولان حتى غطى الغبار عليهما، ثم انكشف الغبار فإذا علي على صدر ذاك الكافر قد قتله.(323/7)
علي في بدر
وتأتي مرات وكرات وفي بدر كان علي يقرأ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] فتدمع عيناه، ويقول: أنا أول من يجثو عند الله يوم القيامة للخصوم، أنا ومن بارزني يوم بدر (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي المسلمون والكافرون في بدر، فلما أتى يوم بدر دعا صلى الله عليه وسلم؟! بعد أن سمع صياح القرشيين وهم يقولون: من يبارز؟ من يبارز؟ يا محمد، أخرج لنا ثلاثة من أصحابك، فقال: الأنصار أهل المدينة رضي الله عنهم وأرضاهم قالوا: نخرج لهم يا رسول الله، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم استحى أن يكون أول القتلى من الأنصار، فأراد أن يجعله في قرابته ليري الناس أنه يؤثر صلى الله عليه وسلم، وأنه يتحمل المعضلات، فجعلهم كلهم من أبناء عمومته المتبارزين، فقال: {قم يا حمزة، قم يا علي بن أبي طالب، قم يا أبا عبيدة بن الحارث} فقام الثلاثة فقتلوا الثلاثة المشركين.(323/8)
مكانة ومنزلة علي عند النبي صلى الله عليه وسلم
وفي تبوك خرج صلى الله عليه وسلم ورأى أنه سوف يبقي علي بن أبي طالب بعده عند أزواجه وأهله، صلى الله عليه وسلم لأنه شجاعٌ يحميهن من المنافقين والكفار واليهود، فلما أبقاه وجلس مع القوم في مجالسهم وقالوا لـ علي: {ما أبقاك صلى الله عليه وسلم إلا استثقالاً منه -انظر إلى الكلمة الكاذبة الآثمة، يستثقل صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ميمنته دائماً وسيفه الذي يصول به، ولكن الكلمة تؤثر في النفس- فقال علي رضي الله عنه: الله المستعان!! أيستثقلني رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: نعم، ما تركك إلا لأنك قد أثقلت عليه، فأخذ عليٌ رضي الله عنه سيفه وسلاحه وخرج ولقي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الصحراء، فقال: يا رسول أتركتني استثقالاً مني، إن الناس يقولون ذلك، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، وقال: أتركتك استثقالاً منك؟! أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي} فرضي الله عنه وأرضاه، وكانت هذه الكلمة من أعجب الكلمات في حياته، وعاد إلى المدينة.(323/9)
علي فاتح خيبر
وفي فتح خيبر لما عجزوا عن فتحها فقام صلى الله عليه وسلم من الليل فبشرهم، فقال: {لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله} قال عمر: [[فما أحببت الإمارة في حياتي إلا يومئذٍ]] وفي الصباح كلٌ ينتظر أن تسلم له الراية وكلٌ ينتظر أن يدعى ليعطى العلم، فدعا صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال: أين أبو الحسن؟ فأتي به وهو لا يرى مد يده لأن به رمد رضي الله عنه في عينيه، وهو يقاد قوداً حتى أوقف أمام الرسول صلى الله عليه وسلم فتفل صلى الله عليه وسلم في عينيه فإذا هو يرى كل شيءٍ على حقيقته، فقال صلى الله عليه وسلم: {خذ هذه الراية واذهب على رسلك، وليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإن أبوا فقاتلهم، واستعن بالله ولا تعجز وعليك أن تدعوهم إلى الله، فلأن يهدي الله بك رجلاً خيرٌ لك من حمر النعم}.(323/10)
تولي علي للخلافة وموته شيهداً
وانطوت أيام علي رضي الله عنه فكان صادقاً ثابتاً أميناً حتى تولى الخلافة رضي الله عنه وأرضاه فكان من أزهد الناس، وأعبدهم وأخطبهم، رجل الكلمة الذي يؤديها حارة إلى القلوب رضي الله عنه وأرضاه، يحرك بكلماته الناس، ويؤثر في القلوب، ويقود الناس إلى الله عز وجل.
فلما أراد الله عز وجل أن يرفع قدره رزقه الشهادة في آخر حياته، خرج يصلي صلاة الفجر وهو بـ الكوفة في العراق، فأخذ يوقظ النائمين في المسجد، وأتى إلى الخارجي الخبيث، اللعين عبد الرحمن بن ملجم، وهو قد وضع سيفه تحت بطنه عمداً ونام عليه على بطنه فركله علي رضي الله عنه برجله ولا يدري أنه سوف يقتله، وقال: [[قم إن هذه ضجعة يبغضها الله، إنها ضجعة أهل النار]] أي: نومة أهل النار على وجوههم، فقام الرجل، وأما علي رضي الله عنه فقام يصلي سنة الفجر فقام هذا الخبيث بسيفه الذي قد سمه شهراً كاملاً، أدخل السيف في السم حتى أصبح السيف أزرقاً، ثم أتى إلى جبهة الإمام فضربها بالسيف فقال علي رضي الله عنه: [[الله المستعان! إنا لله وإنا إليه راجعون! {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157]]] فحمل إلى بيته ووضع على فراشه، فأُتي بـ عبد الرحمن بن ملجم هذا القاتل، فقال علي رضي الله عنه: [[ما لك قاتلك الله قتلتني؟ قال ابن ملجم: إني أقسمت أن أقتل بهذا السيف شر الناس! قال علي: والله لنقتلنك بهذا السيف فأنت شر الناس]] فقتل ابن ملجم بسيفه لأنه شر الناس، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ علي في حياته صلى الله عليه وسلم: {أتدري من أشقى الناس؟ قال: لا يا رسول الله، قال: أشقى الناس عاقر الناقة والذي يقتلك}.
ولما أُتي لـ علي بلبنٍ رضي الله عنه وأرضاه وهو مريض قال له ابنه الحسن: [[يا أبتاه! اكتب وصيتك فإنا نخاف أن تموت هذه الليلة لأننا نرى المرض قد اشتد عليك]] فقال علي: [[والله لا أموت هذه الليلة، والله لا أموت من المرض، ولا أموت حتى تدمى هذه وأشار إلى لحيته، ومن هذه وأشار إلى جبهته]].
رضي الله عن علي وعن أصحابه وأقرانه من الصحابة وحشرنا معهم في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.(323/11)
أحاديث السواك وأحكامه
يقول الإمام البخاري في كتاب الجمعة، وقد أسلفنا أن هذا الحديث في هذا الدرس سوف يكون عن السواك وما ورد فيه من أحاديث صحيحة، وحسنة، وضعيفة، وعن أقوال أهل العلم، وعن ما جاء فيه من فضلٍ وسنة، وأوقاتٍ وتأكيد ونهي، إلى غير تلك من المسائل التي سوف تعرض بإذن الله، ومدار هذا الدرس على ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة}.
والحديث الثاني: حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أكثرت عليكم في السواك، أكثرت عليكم في السواك}.
والحديث الثالث: حديث حذيفة قال: {كان النبي إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك}.
وقد أسلفنا أن في هذا الدرس إحدى وعشرين مسألة:(323/12)
المسألة الأولى: فضل السواك وما جاء فيه من آثار
من أفضل السنن التي أتى بها صلى الله عليه وسلم سنة السواك، ولا يحافظ على السواك إلا من يحافظ على سنته صلى الله عليه وسلم، وهو من أحسن ما يتجمل به الناس، ولذلك كانت العرب في جاهليتها أو بعضهم يستاك ويعدونه من أشرف الخصال، وأوصت امرأة جاهلية ابنتها فقالت: عليكِ بالماء البارد والسواك فإنه هو جمال المرأة.
والسواك أعجب وأجمل وأفيد من الطيب، ومن أنواع العطور، ومن جمال الملابس، ومن كل ما تجمل به الرجل أو المرأة، قال صلى الله عليه وسلم: {السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب} رواه الترمذي وابن خزيمة والإمام أحمد وهو حديث صحيح.
مطهرة: مصدر أي أنه يطهر به الفم من الأذى والقذر والروائح كما سوف يأتي.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} وفي لفظ {عند كل وضوء} وذلك لفضله ولشدة ما ورد فيه.
وفي حديثٍ عند البيهقي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {صلاة بسواك خيرٌ من سبعين صلاة بلا سواك} وهذا الحديث ضعيف ولو أن ابن القيم يقول: لا مانع أن يكون هذا الحديث صحيحاً، وأن العبد إذا تسوك وأتى الله بروائح طيبة، وأزال الأذى من فمه يضاعف الله له الأجر والمثوبة، هكذا قال، ولكن الأحاديث لا تصحح بالاستقراء أو بالاستنباط ولا تصحح بالسياقات، ولا بالقرائن وإنما تصحح بالسند، والرجال، وبما قيل فيها على علم الدراية والرواية، فهذا الحديث ضعيف كما سوف يمر معنا.(323/13)
المسألة الثانية: فضل السواك عند الوضوء
ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء} هذا لفظ في صحيح البخاري، وبعضهم علق هذا اللفظ، ولكنه صح من كلامه صلى الله عليه وسلم أن السواك مع كل وضوء وارد ومسنون ومستحب، فمن السنة للمؤمن أن يتسوك عند كل وضوء لأنه من الأمور التي تستحب عند الوضوء، لأن الوضوء إزالة نجسٍ وحدثٍ وقذر، وكذلك السواك، وعند أحمد في مسنده عن علي رضي الله عنه: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم تمضمض ثم تسوك بإصبعه} أي: أدخلها في فمه يتسوك بها صلى الله عليه وسلم، وهذا سوف يأتي في مسألة التسوك بالإصبع.(323/14)
المسألة الثالثة: فضل السواك عند الصلاة
أمر به صلى الله عليه وسلم، وذهب إسحاق بن راهويه وبعض أهل الظاهر، إلى أن السواك واجبٌ عند كل صلاة، والصحيح عند الجمهور أن السواك سنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صرف الأمر من الوجوب إلى السنية بقوله: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} فاقتضت المشقة أن ينفي صلى الله عليه وسلم الأمر، فلوجود المشقة انتفى الأمر وانتفى الوجوب عن الأمة بذلك، وهذا من تسهيله وتيسيره للأمة.(323/15)
المسألة الرابعة: السواك عند دخول البيت
وأما السواك عند دخول البيت، فقد قال شريح بن هانئ: {سألت عائشة رضي الله عنها ماذا كان يبدأ به صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ -ما هي السنة التي يبدأ بها صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: كان يبدأ صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته بالسواك} لأن السواك طهارة، ولأنه سوف يتحدث مع أهله، ولأنه عبادةٌ وسنة، لهذا كان صلى الله عليه وسلم يتسوك حينما يدخل بيته.
وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.(323/16)
المسألة الخامسة: استحباب السواك عند القيام من النوم
عن حذيفة في الصحيح: {كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك} ولكن في مسند أحمد {من الليل والنهار} وحديث عائشة: {ما استيقظ صلى الله عليه وسلم في ليلٍ أو نهار إلا تسوك عليه الصلاة والسلام} والسبب أن النائم تتغير رائحة فمه بالمتغيرات، فكان من الجميل والمستحب عند المسلم أن يتعاهد فمه ليزيل الروائح التي علقت به من آثار الطعام وكذلك بعد المنام، فكان عليه الصلاة والسلام أنظف الناس، وأجملهم وأحسنهم، فكان إذا استيقظ بدأ بسواكه، بل العجيب في ذلك أنه كان يوضع له صلى الله عليه وسلم سواكه عند رأسه، وماء الوضوء فإذا استيقظ بدأ بالسواك ثم توضأ، ولا عليك أن تتوضأ ثم تستاك، أو تستاك ثم تتوضاً؛ والأمر في ذلك فيه سعة إن شاء الله.(323/17)
المسألة السادسة: السواك بين الناس
بعض أهل العلم يرى أن السواك من باب إزالة الأذى، فهل يجمل بالمسلم أنه إذا جلس بين الناس أن يتسوك في المجلس؟ أو جلس في مكتبه؟ أو جلس في الفصل مع زملائه؟ أو جلس في المسجد مع الناس؟ أو في محفل عام أن يخرج السواك ويتسوك؟ هل هذا يتعارض مع الآداب العامة؟ لأن هذا فيه إزالة قذر، فهل في الأمر شي؟ الصحيح أنه من السنن المستحبة ومن أشرف الخصال، وأنه لا شيء فيه، فيجوز للمسلم أن يتسوك أمام الناس، وفي مجامعهم، وإنما قلت هذا الكلام لأن بعض أهل العلم يقولون هذا، حتى إذا رأوا الرجل يتسوك وهم جلوس يقولون: ماذا حدث؟ تتسوك أمامنا! ويقول أحدهم لبعضهم وهو يدرسهم في الفصل: أدخل هذا السواك وإذا ذهبت إلى بيتك فتسوك.
وهذا مخالفٌ لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يتسوك بين أصحابه، قال أبو موسى في الصحيحين: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مع الناس وسواكه على طرف لسانه وهو يتهوع يقول: {أع أع} عليه الصلاة والسلام، وقد قلصت شفتاه} والسواك على شفتيه قد قلصت أي أنها ضمرت من السواك أو أن السواك دخل على الشفة، فجعلها تتقلص بسبب أن سواكه صلى الله عليه وسلم على طرف لسانه، وإنما يقول: {أع أع} يتهوع لأنه كان صلى الله عليه وسلم يسوك لسانه طولاً وعرضاً فاقتضى ذلك أن يتهوع عليه الصلاة والسلام، فدل على أن السواك من أشرف الخصال حتى لو كان بين الناس، قال عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، يوصي أبناءه الخلفاء الملوك، قال: إذا جلستم مع الناس فتسوكوا عرضاً، ولم يقل طولاً.
يقول أهل العلم أنه هكذا وأنه لا يتسوك طولاً لأنه ليس لائقاً في العادة، وسوف تأتي هذه المسألة وهي هل يتسوك طولاً أو عرضاً، وهل يتسوك باليمين أم باليسار؟(323/18)
المسألة السابعة: تسوكه صلى الله عليه وسلم في مرض موته
من حرصه صلى الله عليه وسلم على تطبيق السنة، وعلى النظافة والطيب أنه في مرض موته الذي ألم به صلى الله عليه وسلم لم ينس السواك، كان رأسه في حضن عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وقد ألم به مرض الموت وقد اقتربت منه سكرات الموت، فدخل عليها أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر الذي دفن في مكة، ومرت به وهو في المقبرة كما روى الترمذي فلما رأت قبره بكت طويلاً لأنه كان لبيباً وفياً معها صادقاً، وكان يخدمها كثيراً، وهو الذي ذهب بها يعمرها، أي يأخذ معها عمرةً من التنعيم فلما مرت به عند مقبرة (ريع الحجون) في مكة بكت طويلاً وتمثلت بقول متمم بن نويرة في أخيه:
وكنا كندماني جذيمة برهةً من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وعشنا بخيرٍ في الحياة وقبلنا أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
فلما تفرقنا كأني ومالك لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وهذه من أعجب القصائد، بل هي سيدة القصائد أو سيدة المراثي عند المسلمين، يقول: بكت عيني اليمنى -كان أعور-:
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم اسبلتا معا
يقول نهيت اليمنى أن تبكي وقلت لها: افعلي كاليسرى لا تبكي، فبكت اليسرى قبل أن تتعظ اليمنى، إنما الشاهد أن عبد الرحمن دخل على عائشة في مرض موته صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم -وهذا في الصحيح- ما استطاع أن يتكلم صلى الله عليه وسلم؛ لأن المرض اشتد عليه صلى الله عليه وسلم فأخذ يبده نظره، يبده: أي يعمد بنظره إلى عبد الرحمن كأنه يقول: هات!
قلوب العارفين لها عيونٌ ترى ما لا يراه الناظرونا
تكلم عليه الصلاة والسلام بعينيه فأتت عائشة فأخذت السواك من فم أخيها فقضمته قالت: {قضمته أي أزالت ما تسوك به، ولو لم تزله لتسوك عليه الصلاة والسلام من تواضعه ولينه ويسره ثم سلمته للنبي صلى الله عليه وسلم فأخذه بيده فتسوك كأشد ما كان يتسوك في الحياة الدنيا} فهو لم يتركه حتى في مرض موته صلى الله عليه وسلم، ولذلك يستحب ولو في أحرج المواقف أن تتعاهد هذه السنة المطهرة منه صلى الله عليه وسلم.(323/19)
المسألة الثامنة: حكم التسوك بسواك الغير
هذا وارد، ولكن النفوس لا تقبل إلا من قريب عزيز، كزوجة مثلاً، لهذا كانت عائشة تقول: {كان صلى الله عليه وسلم يعطيني سواكه لأغسله} وقبل أن تغسله تبدأ به فتتسوك لأن آثاره صلى الله عليه وسلم مباركة، فهذا الأمر وارد عند أهل العلم، وقد ناقشوا هذه المسألة؛ هل الأثر المستعمل يقاس على الماء المستعمل؟ هل هو طاهر أم لا؟ أو يصبح طاهراً في نفسه غير مطهر لغيره؟ هل يقاس السواك في ذلك بهذه المسألة؟
ولذلك عقد البخاري في كتاب الوضوء (باب استعمال فضل وضوء الناس.
وقال أمر جرير بن عبد الله البجلي) أهله أن يتوضئوا بفضل سواكه أو كما قال.
وفي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: {أراني أتسوك بسواك، فجاءني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبر، فدفعته إلى الأكبر منهما} فهذا الأمر وارد، والرسول صلى الله عليه وسلم تسوك بسواك عبد الرحمن صهره صلى الله عليه وسلم ابن أبي بكر، فلا لائمة في ذلك، ولذلك عقد البخاري (باب: دفع السواك إلى الأكبر) يعني الأكبر فالأكبر، لكن قد تتأذى أو تأبى النفوس ذلك.(323/20)
المسألة التاسعة: صاحب سواكه صلى الله عليه وسلم
الرسول صلى الله عليه وسلم خُدم من أصحابه رضوان الله عليهم وأرضاهم ولهم الشرف أن يخدموه، ولذلك كان شرف ابن مسعود في الحياة الدنيا بعد تبليغه للرسالة، وخدمته للرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون تجهيز السواك وإحضاره ومهمة البحث عنه منوطة به ومسندة إليه، فكان هو الرجل المعروف الذي يحضر السواك للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يقول أبو الدرداء لأهل العراق [[أليس فيكم صاحب السواك، والنعلين والوساد؟!]] أو كما قال، فكان رضي الله عنه يصعد الشجر فيأخذ للرسول صلى الله عليه وسلم السواك أو يأخذ من أصول الأراك وهو أحسن ما يتسوك به، وتعرفون في السير أنه صعد شجرة فهبت الريح، ومالت بجسمه النحيل الخفيف الهزيل، لكنه يحمل قلباً كبيراً نبيلاً شريفاً قوياً، فتضاحك الصحابة من دقة هذا الجسم، فقال صلى الله عليه وسلم: {أتعجبون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد} فـ ابن مسعود كان صاحب سواكه صلى الله عليه وسلم.(323/21)
المسألة العاشرة: الأراك خير سواك
تفنن أهل الأدب في ذلك، وقالوا: لا نرى إلا أنه السواك الذي يقدم على كل نبتٍ من نبات الأرض، ومدح شعراؤهم من يتسوك بالأراك، وعدوه من أعظم الخصال، وفيه ميز، وقد أثبت أهل الطب في هذا العصر أن الأراك من أعظم المواد في قتل الجراثيم وفي إزالة أمراض الفم، وإزالة القذى والأذى والروائح المنتنة منه، بل هو بلسمٌ شافٍ، وألف بعضهم في ذلك كتباً، ودل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح {من أخذ شيئاً من غير حقه طُوِقَهُ من سبع أرضين، قالوا: يا رسول الله، ولو كان شيئاً يسيراً؟ قال: ولو كان قضيباً من أراك} قال بعض أهل العلم: أي مسواك، وفي بعض الآثار أنه كان ينتقي له صلى الله عليه وسلم من الأراك أسوك أو سوك على وزن كتب، قال ابن قتيبة: تُنطق سوك على وزن كتب.(323/22)
المسألة الحادية عشرة: حكم التسوك بالإصبع
قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها كما في الطبراني: {يا رسول الله الرجل يذهب فوه -أي: تسقط أسنانه- ماذا يفعل؟ -أي هل يتسوك؟ - قال: نعم، قالت: كيف يا رسول الله؟ قال: ليتسوك بإصبعه} وهذا الحديث ضعفه ابن حبان، والصحيح أنه ضعيف وسوف يأتي معنا.
وفي المسند عن علي قال: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل يديه، ثم تمضمض واستنثر ثلاثاً ثم غسل وجهه ثلاثاً} وقال في المضمضة {فتمضمض بإصبعه صلى الله عليه وسلم} وهذا الحديث قد مر معنا في دروس ماضية، وهذا الحديث يقبل التحسين، ولو أن بعض أهل العلم قد ضعفوه كما سوف يأتي.(323/23)
المسألة الثانية عشرة: حكم السواك للصائم
هل يتسوك الصائم؟ وهل السواك لا يخدش عليه صيامه؟ وهل يفرق بين السواك الرطب والسواك اليابس؟ وهل يتسوك أول النهار وآخر النهار، أم أول النهار فقط؟ أم ماذا؟
الصحيح في ذلك أن الصائم يستحب له أن يتسوك أول النهار وآخره بالسواك الرطب واليابس، وأنه لا شيء فيه، ولا حرج، بل هو أفضل وهو السنة، والدليل على ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء أو عند كل صلاة} وجه الاستدلال بهذا الحديث في هذه المسألة أنه عمم المقال هنا، فهل هو في اختصاص الحال؟ أو اختصاص بعض الوقت؟ لأن العموم في الزمان كالعموم في الأفعال والأفراد.
فعمم صلى الله عليه وسلم عند كل صلاة، ولم يقل إلا للصائم في أول أو في آخر النهار، والدليل الآخر: حديث عامر بن ربيعة، في سنن الترمذي، قال: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي ولا أعد يتسوك وهو صائم} هذا الحديث حسن رواه الترمذي، فدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يتسوك أول النهار وآخره، وأما حجة الذين قالوا بالسواك أول النهار وترك السواك آخره فلهم حجتان اثنتان: دليلٌ نقلي من المصطفى صلى الله عليه وسلم، ودليلٌ عقلي وهو تنظير، وهؤلاء هم الشافعية.
فعندهم حديث وهذا من باب النقل، وعندهم تنظير وهذا من باب العقل، والعالم إذا أعوزه الدليل النقلي فعليه أن يأخذ دليلاً عقلياً ليحاج به.
وهذه مسألة في أصول الفقه.
فأما دليلهم النقلي فقوله صلى الله عليه وسلم: {استاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي}.
وأما دليلهم العقلي فهو التنظير، قالوا: يقول عليه الصلاة والسلام: {ولخلوف} قال القاضي عياض: بضم الخاء لا بفتحها (خُلوف) {ولخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك} فقالوا: الخلوف هذا وهو رائحة من الفم، إذا تسوك العبد فإنها تزول، فلا يتسوك في آخر النهار، لأنه سوف يزول هذ الخلوف الذي يحبه الله.
والرد عليهم: أما بالنسبة للحديث الذي استدلوا به فلا يصح فقد رواه البيهقي وفي سنده من لا يعتمد، ولا يصحح حديثه ولا يقبل؛ لأن حديثه ضعيف ضعفه أهل العلم وعدد من الحفاظ، وأما قولهم إنه يزيل الخلوف، فالرد عليهم وهو رد ابن القيم حيث يقول: إن الخلوف يأتي من المعدة، ولا يأتي من الفم، والله ليس في حاجة -يعني لهذه الروائح التي يأتي بها العبد- بل الله عز وجل طيب يحب الطيب، جميلٌ يحب الجمال، يحب الروائح الطيبة، أما الخلوف هذا فإنه يأتي بسبب الجوع، ينبعث من المعدة إذا خلت من الطعام، فلا دخل للفم فيه، وهذا رد موجه، وصحيح يؤخذ به، فاقتضى أن السواك في أول النهار وفي آخره سيان، وهناك حديث {استاكوا إذا كنتم صياماً أول النهار ولا تستاكوا بعد العصر} لكنه ضعيف كأخيه السابق، وورد عند ابن ماجة: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستاك أول النهار وآخره} وقد علقه البخاري في صحيحه من كلام ابن عمر، قال: وقال ابن عمر: {كان صلى الله عليه وسلم يتسوك أول النهار وآخره} وهذا الحديث أورده البخاري معلقاً.
وللفائدة نقول: الحديث المعلق هو الذي سقط من أول إسناده مما يلي المحدث شيخه فأكثر، أو سقط السند كله فهذا معلق.
والمرسل -على المناسبة- هو: أن يُسقَط الصحابي من السند ويصل التابعي الحديث بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ومرسل منه الصحابي سقط وقل غريب ما روى راوٍ فقط
والمنقطع؟ ما سقط من سنده راوٍ فأكثر، ويشمل المعلق والمعضل والمرسل ويشمل ما سقط منه السند كله أو سقط راوٍ واحد أو أكثر رواته فهذا يسمى منقطعاً.
والحديث المعضل؟ هو: ما سقط منه راويان بموضع ما على التوالي، يعني الرجل وشيخه، الرجل وتلميذه، فهذا معضل.
والحديث المقطوع -وهو غير المنقطع- وهو ما وقف على التابعي فمن بعده.
والموقوف: ما وقف على الصحابي.
والمرفوع: هو المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وما هو الحديث المدبج؟ نعم، هو أن يروي الرجل عن آخر والآخر عنه.
وما روى كل قرينٍ عن أخه مدبجٌ فاعرفه حقاً وانتخه
وبقي فيه مسائل وأحكام، ولكن ليس هذا المقصود من الدرس وإنما توقفنا لأنه عرض لنا هذا العارض، فأردنا أن نوضحه أكثر.(323/24)
المسألة الثالثة عشرة: بنو إسرائيل وتركهم للسواك
بنو إسرائيل تركوا السواك، والرسول صلى الله عليه وسلم شنع عليهم، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للصحابة: {ما لكم تأتوني قلحاً! استاكوا فإن بني إسرائيل تركوا السواك فزنت نساؤهم} نسأل الله العافية، ولذلك قال ابن عباس: [[يا عجباً لأحدكم أيريد أن تتجمل له زوجته وهو لا يتجمل لها!]] وكثير من الناس يريد من المرأة أن تتجمل وهو لا يتجمل لها، ويريد أن تتطيب وهو لا يتطيب، فلها من الحقوق مثل ماله، فاقتضى ذلك أن يعتنى بالسواك، ولذلك لو ألف مؤلفٌ كبير في السواك لما أنصف، ولو بيع بأغلى الأثمان لكان رخيصاً، لأنه من أعظم خصال الرجل، وتركه يؤدي إلى الأذى وإلى تأذي المنادى من رائحة الفم، والمحادث والمسار، فعلى المؤمن أن يعتني بهذه الخصلة، وأن تكون نصب عينيه.(323/25)
المسألة الرابعة عشرة: التيمن في السواك
قالت عائشة: {كان صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وفي طهوره وفي شأنه كله} هل قالت: في هذا الحديث وفي سواكه؟ لا.
قالت وفي شأنه كله، هل ثبت في سواكه؟ نعم، ثبتت عند أبي داود من طريق إبراهيم بن إسماعيل قال: {وفي سواكه وفي شأنه كله} ما هو الذي نفهمه من التيمن في السواك؟ هل المقصود باليد اليمنى أو من يمين الفم؟ من يمين الفم، هذا قول بعض أهل العلم، ومنهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز يرى أنه يمين الفم، التيمن هو يمين الفم، وأن السواك باليسرى، لكن يبدأ باليمين، يقول: "يحمل على هذا المحمل" وسبقه إلى ذلك ابن تيمية شيخ الإسلام في المجلد الحادي والعشرين الصفحة 108 من الفتاوى يقول: بل القواعد أو الظواهر الشرعية تدل على أن السواك باليسرى، ثم أتى بتنظير على أن السواك من باب إزالة الأذى، فهو كالاستنجاء والاستجمار والاستنثار، فتزال هذه كلها باليسرى فيتسوك العبد باليسرى، ولكنه لم يأت بدليل، وهو ليس معصوماً، إنما المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم، وهنا من باب التبيين فالسؤال الذي يقول: لماذا لم يأت ولو حديثٌ واحد منه صلى الله عليه وسلم يذكر أنه تسوك صلى الله عليه وسلم باليسرى؟ أنا أدري أنه سوف يرد راد ويقول: لماذا لم يأت حديث أنه تسوك باليمنى؟ يعني مسكوت عنه، فما هو الجواب؟
نقول: إن الأصل استخدام اليمنى دائماً، الرسول صلى الله عليه وسلم يستخدم اليمنى دائماً، مثلاً يقولون: كتب الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة، هل ننتظر حتى يقولون كتب بيمينه صلى الله عليه وسلم، لا.
لأن الناس يكتبون بأيمانهم، أو صافح صلى الله عليه وسلم وفد الأزد.
هل يقال: صافحهم بيمينه صلى الله عليه وسلم؟ يمينه هذه لا دلالة لها إذا أتت كما يقول أهل العلم إنما هي للتأكيد، يقول عز من قائل: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] هل يطير الطائر بغير جناحيه، لكن هذه جاءت لا مفهوم لها إلا للتأكيد، ولا طائر يطير بجناحيه، وإلا فإنه لو قال: (ولا طائر يطير إلا أمم أمثالكم) لفهم بأنه بجناحيه فالمعهود أنه صلى الله عليه وسلم يستخدم اليمنى دائماً، فلا ننتظر حتى يقول لنا قائل: كان يتسوك بيمينه لأنه سوف يسألنا: وأين دليلكم أنتم أنه يتسوك بيمينه صلى الله عليه وسلم؟
لكن نقول المعهود الذي ينقل وهو معروف ومشهورٌ من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه يتسوك بيمناه، وأما اليسرى فإنها خلاف العادة، ولذلك لو أشار صلى الله عليه وسلم باليسرى، قال: رأيته أشار باليسرى لأنها خلاف العادة، أو قال: رأيته شرب واقفاً صلى الله عليه وسلم، لكن هل نقل إلينا؟ قال: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم أكل جالساً، لأنه معروف أنه يأكل وهو جالس صلى الله عليه وسلم، أو يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نام على جنبه، أجل أين ينام؟! أو رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يمشي على رجليه، لأنه معروف هذا، فاقتضى أنه ليس باليسرى فيبقى على اليمنى.
والأمر الثاني: أنه من باب التكريم، فإن كان من باب التكريم فهو يستاك باليمنى وهو رأي النووي وابن حجر والشافعية، أنه باليد اليمنى وهو الذي يظهر والله أعلم، وهو من الأحسن والأطيب أن يتسوك خاصة عند الصلاة وعند قراءة القرآن باليمنى وعندما يقابل الناس لأن اليسرى لها مواطن، وإذا قابل الناس وهو يتسوك باليسرى فإن فيه شيء وفيه غضاضة، والأولى أن يتسوك باليمنى هذا ما ظهر لي في هذه المسألة.
ونقول: إذا كان في المجامع وعند الصلاة فإنه يتسوك باليمنى لطهارة اليمنى، ولأنه يقابل الناس، فكأنها الأحسن، ولو تسوك باليسرى فليس عليه شيء والمسألة أسهل من ذلك، لكن من باب مناقشة المسائل بالتعمق والتدقيق فيها، فإن بعض أهل العلم مثل ابن تيمية وهو شيخ الإسلام الذي لم تشغله القضايا الكبرى عن القضايا الصغرى بل تكلم فيها لأن بعض الناس الآن يقول: الناس صعدوا سطح القمر وأنتم محاضرة من المغرب إلى العشاء في السواك وما ورد فيه! وهذا نقول له: إن من جلالة هذا الدين أن يأتي بهذه الأحاديث كلها، ومعلم الخير صلى الله عليه وسلم عالج أكبر المسائل والمشاكل وأعظم مهمات الدين كما عالج هذه الصغار، أما هؤلاء فلم يجلسوا معنا ولم يصعدوا سطح القمر!
ثم إن بعض الناس يقول: المسألة ليست مسألة سواك، المسألة مسألة عقيدة.
لا.
مسألة سواك وثياب ولحية وغيرها، هذا الدين كما أتى به صلى الله عليه وسلم، أما تكلم صلى الله عليه وسلم في أكثر من عشرين حديثاً في السواك؟ بلى، هل شغله التكلم عن السواك أن يبلغ دعوة الله، وأن يصلح الأمة ويجمع شملها ويرفع راية الجهاد؟ لم يشغله ذلك، فاقتضى أن يعطي كل مسألة حقها ولا بأس بالتخصص والتعمق حتى في صغار المسائل.(323/26)
المسألة الخامسة عشرة: غسل السواك
هذا نقوله من باب التلطيف، تقول عائشة رضي الله عنها: {كان صلى الله عليه وسلم يناولني سواكه فأغسله} فاقتضى أن من السنة أنه كلما مر على السواك وقت طويل على استخدامه فللعبد أن يغسله وينظفه حتى يعود نظيفاً إلى فمه، لأن بعض الناس يظن أنه إذا تسوك فإن السواك لا يأتيه شيء، يعني أنه لا يتأثر فيربطه بعمامته، ويبقى مدة طويلة جداً وهو يقول: السواك لا يتأثر والحمد لله، حتى يحمر ويبيض ويسود، حتى تنظر إليه وكأنه ليس بشجر ولا بحديدٍ ولا بنحاس، فاقتضى أن يغسل بالماء وبالنسبة للفرشاة أو ما يستعمل بدل السواك فهذه ليست واردة ولا ينصح بها، لأنها تؤثر على اللثة ولا تزيل جميع أمراض الأسنان كما قال أهل الطب، ولكن السواك أشرف وأرفع وأنبل وأفيد وأحسن، لا لأنه سنة فحسب، لكن للفوائد التي من ورائه.(323/27)
المسألة السادسة عشرة: فضل ماء السواك هل يتوضأ به؟
إنما ذكرته لأن البخاري ذكره، فقال: وأمر جرير بن عبد الله أهله أن يتوضئوا بفضل سواكه أي: أنه أتى بإناء فوضع فيه ماءً ثم وضع السواك فيه، فهل له أن يتوضأ بهذا الماء، هل يعد هذا الماء مستعملاً؟
الجواب
يجوز له أن يتوضأ به ويغتسل به ولا شيء فيه؛ لأنه طاهر، والماء على الصحيح قسمان: نجس وطاهر، أما أنه طهور ونجس وطاهر، فهذا ليس عليه دليل كما يقول ابن تيمية لعدم وروده في السنة.
ففضل السواك يتوضأ ويغتسل به، وقد وضع جرير بن عبد الله سواكه في فضل ماء ثم توضأ به، وكذلك هي السنة، فلا شيء فيه بإذن الله، فليفهم ذلك، فالماء المستعمل الذي يخرج من المتوضئ إذا توضأ لك أن تتوضأ به أنت، وإذا وقع على وضوئك فلا يُبطل وضوءك وليس كما يقوله بعض أهل الفقه، أو بعض أهل المذاهب، لا، بل تتوضأ به وليس عليك حرج.(323/28)
المسألة السابعة عشرة: متى يتأكد استحباب السواك؟
يتأكد في مواطن عند القيام من النوم -وقد أسلفنا ذلك- لتغير الفم، وعند تغير الفم بطارئ يطرأ على الإنسان فيجد فمه متغيراً، فليباشر بالسواك.
وعند الوضوء: إذا أتى يتوضأ إما قبل الوضوء وإما بعده، وكان بعض الصالحين إذا أتى ليتوضأ تسوك ثم توضأ.
وعند الصلاة: أي عند القيام إلى الصلاة أو عند الإقامة ليكون ملابساً للحالة الراهنة التي يقوم الناس فيها، إذا أقيمت الصلاة فليبدأ الإنسان بالتسوك.
وعند تلاوة القرآن: وفي بعض الأحاديث أن الملك من الملائكة إذا قام العبد يقرأ أو يصلي وضع فمه على فمه، فعليه أن يعتني بهذا الأمر.
وعند طول السكوت، لأن السكوت يغير رائحة الفم، فليتسوك.
وعند كثرة الكلام، لأن بعض الناس إذا جلس أزعج أو أرعد وأزبد، وتكلم طويلاً ولو لم يكن فيه فائدة، كالتحدث عن حادث سيارة، أو بيت سقط على أهله، أو رجل تزوج، فأتى بقصة الزوج من أولها إلى آخرها، من صلاة الفجر إلى قرب وقت صلاة الظهر، فاقتضى ذلك أن يتسوك وأن يتعاهد هذا، قالوا: من كثرة الكلام، وكذلك الجوع الشديد كالصائم.
وبعد الطعام، قال ابن عمر كما في كتاب الزهد للإمام أحمد: [[لئن أتسوك بعد الطعام خير لي من وصيف]] أي من خادم، ومن سنن الصالحين بعد الطعام ثلاثة أمور:
غسل اليدين، وحمد الله، والسواك والتخلل بالمخاليل، هذه وأما حديث {حبذا المتخللون من أمتي} فلا يصح حديثاً، بل إنه حديث ضعيف أو واهٍ مكسر الأضلاع.(323/29)
المسألة الثامنة عشرة: حكم السواك بالريحان
يحذر ابن القيم من السواك بالريحان ومن بعض العطور، أي من بعض الشجر التي فيها عطور كالزهور لأنها تورث الجذام أو البرص!! فيحذر منها.
والسنة أن يتسوك ببعض الأشجار، كالأراك، وكالعرعر، وكالطرفاء وما يدخل في ذلك، أما أبو نوس والزهور والرياحين فإن ابن القيم يقول: أثبت أهل الطب أنها تورث الجذام، أو البرص بالفم.(323/30)
المسألة التاسعة عشرة: أسنانه صلى الله عليه وسلم وما ورد فيها
قال: أسنانه كانت كأنها البرد عليه الصلاة والسلام من كثرة ما يتسوك، وقيل: كان إذا تبسم تبسم عن مثل الجمان، والجمان هذا دقيق اللؤلؤ أو أشرف اللؤلؤ، جمان منظم، وهذا أمدح ما يمدح به الناس، لذلك كان الشعراء في الجاهلية يمدحون بها كما كان في الإسلام، كما يقول خالد بن يزيد بن معاوية: وقد ذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمته:
تبسمت فأضاء الليل فالتقطت حبات منتثر في ضوء منتظم
لا حرج أن ينشد ويقال ويستشهد به، ولسنا بأروع من ابن برير الذي عبأ تفسيره بهذه الشواهد ولا من الذهبي وابن تيمية.
يقول: يعني عجباً من هذا العقد التي انتثر فأضاء الليل لما تبسمت، فلما أضاء الليل قال: قامت تلتقط الدر وهي تتبسم في ضوئها، وهذه من قصيدة لـ خالد بن يزيد من أعظم القصائد يسميها الذهبي: (الطنانة الرنانة).
فأسنانه صلى الله عليه وسلم كانت كأنها البرد، مما أعطاه الله، لأن الله كمل صورته باطناً وظاهراً، وأصلح مظهره ومخبره، فوجهه أحسن الوجوه، وفمه أحسن الأفواه، وأسنانه أحسن الأسنان عليه الصلاة والسلام، صلح باطناً وظاهراً.
محاسنه هيولى كل حسنٍ ومغناطيس أفئدة القلوب(323/31)
المسألة العشرون: فوائد السواك
عدها ابن القيم حتى أربى بها حول الثلاثين، وابن حجر يوافق على ثمانية عشرة، وأما غيرها ففيها كلام، فمن فوائده:
يزيل رائحة الفم، ويطرد النوم، وهذا مجربٌ بالاستقراء في الغالب، فمن غلبه النوم أو أراد أن يذاكر بعد صلاة الفجر فعليه أن يستخدم السواك كثيراً، فإنه ينشط ويطرد النوم؛ ولذلك القائم ليصلي في الليل عليه بالسواك.
وينهي البلغم، وهذا مجرب، لذلك أكثر الناس بلغماً الذي لا يتعهد السواك أي لا يستخدم السواك كثيراً.
ثم يعين على إخراج الحروف، ولذلك كان من السنن لمن يتلو القرآن أن يتسوك قبل أن يتلو القرآن ليعين على مخارج الحروف ويخرجها بقوةٍ وبرشد، كذلك يرضي الرب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للحديث المتقدم عند ابن خزيمة والترمذي وأحمد {مطهرة للفم مرضاة للرب}.
أيضاً يبيض الأسنان وهذا معروف لا يستشهد ولا يستدل عليه.
كذلك ذكر ابن القيم وكثير من الأطباء أنه يساعد على الهضم، فمن تعشى فأكثر وأغلقت الصيدليات أبوابها فليقم وليأخذ السواك وليدر في بيته وليستعن بالله وليكثر من ذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ليهضم طعامه، فهذا مجرب.
وتضاعف به الصلاة، وقد مر معنا الحديث الضعيف: {صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بلا سواك} رواه البيهقي وضعفه.
ويعين على التلاوة والذكر وهذا أمر معروف فإن الذاكر يستعين بالسواك على ذكر الله عز وجل.
فهذه بعض فوائد السواك وإلا فهي كثيرة جداً ومن أراد التوسع فليرجع إلى كلام ابن القيم وابن حجر.(323/32)
المسألة الحادية والعشرون: مواطن يجتنب فيها السواك
مواطن يجتنب فيها السواك ولا يستاك العبد فيها، هذه المواطن ثلاثة:
أولها: في أثناء الصلاة، فهو محرم في أثناء الصلاة، وإنما قلت هذا لينبه لأن بعض الناس قد يجهل بهذا الحكم، فيظن أن قوله صلى الله عليه وسلم: {عند كل صلاة} أي قبل الصلاة وأثناء الصلاة وبعد الصلاة، فيتسوك في الصلاة، وقد يأتي جاهل لم يسمع بهذا الحديث فيفعل ذلك، ولذلك تكلم بعض الناس في حياته صلى الله عليه وسلم في أثناء الصلاة، فالتسوك أثناء الصلاة محرم.
ثانيها: في أثناء استماع خطبة الجمعة، وهذا وارد عند كثير من الناس، الخطيب على المنبر وهو يتسوك بالسواك، وهذا من باب اللغو واللهو واللعب، والتشاغل عن الخطيب ولا يؤمن أن يفوت عليه أجر الحضور في الصلاة والخطبة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من مس الحصى فقد لغى} ومس الحصى ليس لأجلها إنما العلة التشاغل، والذي يأخذ السواك يوم الجمعة والخطيب يخطب كالذي يمس الحصى ويتشاغل ما الفرق بينهما؟ فلا يفعل في أثناء الخطبة، لكن للمسلم أن يتسوك بين الخطبتين، إذا جلس الخطيب يخرج سواكه ويستخدمه لأنه ليس وقت خطبة، ولا وقت استماع، فليتنبه لهذا الأمر، لأنه مشهور ونرى كثيراً من الناس أثناء الجمعة يخرج بعضهم سواكه ويتسوك وينظر إلى الصفوف، ويفكر، ويشرد ذهنه، فلا ينبغي له ذلك، لأن مس الحصى كالتشاغل بالسواك، هما سيان.
ثالثهما: في أثناء تلاوة القرآن، فله أن يتسوك قبل التلاوة لكن إذا أخذ المصحف وأصبح يقرأ القرآن فلا يتشاغل عنه بالتسوك، وهذا فيه كراهة؛ لأن فيه تشاغل وتلهٍ عن القرآن.
إذاً؛ هي ثلاثة مواطن:
1 - في أثناء الصلاة وهو محرم.
2 - في أثناء خطبة الجمعة واستماعها من المأموم وهو محرم أيضاً، وربما يكون فيه شقٌ من الكراهة، إن لم نقل بالتحريم، لكن التحريم وارد، لأنه كمس الحصى.
3 - عند أو في أثناء التلاوة، وهو يتلو كتاب الله عز وجل نظراً لأنه ينافي التدبر، ويُتشاغل به عن سماع كتاب الله.(323/33)
الأحاديث الصحيحة والحسنة والضعيفة في السواك
بقيت مسألة وهي: ما هي الأحاديث التي وردت في كتاب أو في باب السواك بحد ذاته؟ أقول: الأحاديث فيه على ثلاثة أضرب، أحاديث صحيحة، وأحاديث حسنة، وأحاديث ضعيفة.
فالصحيح ما اتصل رواته بنقل العدل الضابط، الثقة عن مثله إلى آخر السند، وخلا من شذوذٍ وعلةٍ قادحة.
وأما الحديث الحسن: فهو ما رواه العدل الخفيف الضبط -ليس التام- عن مثله إلى آخر السند.
والحديث الضعيف: ما لم تكن شروطه كشروط الصحيح والحسن.
أ- الأحاديث الصحيحة في فضل السواك:
فأما الأحاديث الصحيحة في باب السواك فهي على حد علمي خمسة أحاديث وربما تزيد، لكن التي جمعتها خمسة أحاديث، فليتنبه لها.
أولاً أحاديث عائشة ولها حديثان وحديث لـ أبي هريرة، وحديث لـ أبي موسى، وحديث لـ حذيفة.
فأما حديث عائشة الأول: فقالت: {كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته بدأ بالسواك} رواه مسلم عن شريح بن هانئ، والحديث الثاني لـ عائشة: قوله صلى الله عليه وسلم: {السواك مطهرة للفم مرضاة للرب} رواه الترمذي وأحمد وابن خزيمة، وهو حديث صحيح.
والحديث الثالث: لـ أبي هريرة: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة،} وفي رواية: {مع كل وضوء} رواه البخاري ومسلم.
والحديث الرابع: حديث حذيفة: {كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك} رواه البخاري.
وحديث أبي موسى: {أتيت إلى رسول صلى الله عليه وسلم وسواكه على طرف لسانه وقد قلصت شفتاه وهو يتهوع يقول: أع أع} هذا الحديث صحيح رواه البخاري.
واعلموا أن السواك في الحمام لا بأس به، ولم يرد نهيٌ فيه، وهو من باب إزالة الأذى، فللمسلم أن يتسوك في الحمام.
هذه خمسة أحاديث صحيحه عنه صلى الله عليه وسلم تحفظ بطريق التبويب أو بطريق المسانيد، أن تذكر في هذا الباب تقول: لـ عائشة حديثان، ولـ حذيفة حديث، ولـ أبي موسى حديث، ولـ أبي هريرة حديث، فتبقى محفوظة إن شاء الله ومعلومة.
ب- الأحاديث الحسنة في فضل السواك:
وأما الأحاديث الحسنة في هذا الباب فهي ثلاثة أحاديث، هي في درجة الحسن.
الحديث الأول: حديث عائشة: {كان صلى الله عليه وسلم لا يستيقظ من نومٍ ليلاً أو نهاراً إلا تسوك} رواه أحمد، وأبو داود وسنده حسن.
والحديث الثاني: حديث عامر بن ربيعة الذي مر معنا: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي ولا أعد يتسوك وهو صائم} رواه الترمذي وأحمد وأبو داود ودرجته حسن.
الحديث الثالث: حديث علي رضي الله عنه وأرضاه قال: {توضأ صلى الله عليه وسلم فمضمض ودلك أسنانه بإصبعه عليه الصلاة والسلام} رواه أحمد وهو حديثٌ حسن.
جـ- الأحاديث الضعيفة في فضل السواك:
وأما الأحاديث الضعيفة بحفظ الله فهي أربعة أحاديث في كتاب أو في باب السواك.
أولها حديث {صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بلا سواك} رواه البيهقي والحاكم في المستدرك وفي سنده محمد بن إسحاق، وعلة محمد بن إسحاق التدليس، صاحب سيرة ابن إسحاق، وقد دلس في هذا الحديث، والتدليس: أن يوهم السامع أنه سمع هذا الحديث من شيخ قد سمع منه ولكنه لم يسمع هذا الحديث، فيقول: عن فلان، فيظن الناس أنه سمع هذا الحديث لأنه دائماً يسمع منه، فيدلس والتدليس هو التمويه والزخرفة.
والحديث الثاني: حديث عائشة الذي رواه ابن ماجة، وهو ضعيف عن عائشة {من خير خصال الصائم السواك}.
والحديث الثالث: {إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي} رواه البيهقي وسنده ضعيف، أو في سنده رجل ضعيف.
الحديث الرابع: قالت عائشة: {قلت يا رسول الله: الرجل يذهب فوه أيستاك؟ قال: نعم، قلت: كيف يصنع؟ قال: يدخل إصبعه في فيه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ويغني عنه حديث علي الحسن في التسوك بالإصبع، وهذا الحديث ضعيف رواه الطبراني، وفيه عيسى بن عبد الله الأنصاري ضعفه ابن حبان.
فلتفهم هذه الأحاديث الصحيحة والحسنة والضعيفة، ومن أراد أن يحقق مسألة فعليه أن يجمع النصوص ثم يصححها، ثم يجمع أقوال أهل العلم، ثم يرجح ثم يخرج بالقول الصحيح من المسألة هذا هو الصحيح.
وفي ختام هذا الدرس نتوجه إلى الله سبحانه أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن ينفعنا بما علمنا، وألا يجعل علمنا وبالاً علينا، وأن يهدينا سواء السبيل، وأن يفقهنا في ديننا.
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(323/34)
مدرسة الأموات
البعث والنشور من أعظم قضايا الإيمان، بل هو ركن من أركانه، آمن به من آمن، وكفر به من كفر، وقد بعث الرسول عليه الصلاة والسلام إلى قومه، وهم ينكرون البعث والنشور، ولا يؤمنون به، فعالج هذه القضية ليل نهار والقرآن ينزل عليه يعضده في أمره، وما ذكر فيه الإيمان بالله إلا ذكر الإيمان باليوم الآخر، وقد عالج القرآن هذه القضية مرة بالمصارحة ودمغ الباطل، ومرة بالاستقراء والمقارنة، ومرة بالقصص؛ فأخرج الله للأمة على يد الرسول صلى الله عليه وسلم جيلاً لا يشكون طرفة عين في البعث والنشور.(324/1)
القرآن يعالج الكفر بالبعث والنشور
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السموات والأرض، جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ باني صرح الفضيلة، ومزعزع كيان الرذيلة، وصاحب الشفاعة والوسيلة والأخلاق الجميلة، والمناقب الجزيلة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
أيها الناس: كانت العرب قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام لا تؤمن بالبعث والنشور، وترى أن اليوم الآخر خرافة، وأن البعث بعد الموت أسطورة، وأن النشور من القبور خيالٌ لا يمكن أن يصدق، وأكذوبة تأباها العقول، فأتى عليه الصلاة والسلام يعالج هذه القضية ليل نهار، فاستهلكت نصف دعوته.
كان القرآن إذا ذكر الإيمان بالله وحده ذكر الإيمان باليوم الآخر، وعالج القرآن هذه القضية مرة بالمصارحة بدمغ الباطل والشرك قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7].
ومرة بالاستنتاج والمقارنة قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:9 - 11].
ومرةً ثالثة بضرب الأمثلة والقصص العظيمة التي تبين لنا كيف يحيي الله الأموات، أما الكفار فرفضوا رفضاً قاطعاً أمام الرسول عليه الصلاة والسلام أن يؤمنوا باليوم الآخر، قال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] يموت بعضنا، ويولد بعضنا، ويميتنا الدهر؛ وليس هناك يوم آخر ولا بعث ولا نشور {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون:82] أهذا كلام يصدق؟ أإذا أصبحنا رفاتاً وحمماً ورماداً من يعيدنا لنكون أحياء؟
ويأتي المجرم الكبير العاص بن وائل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وتبلغ به السخرية والاستهزاء والتبجح على الله ورسوله عليه الصلاة والسلام أن يأتي بعظم أجوف -عظم إنسان- فيحتُّه أمام الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ثم ينفخه أمام الوجه الشريف، والعينين الجميلتين، ويقول: يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذا بعد أن كان رفاتاً؟ فيقول عليه الصلاة والسلام: {نعم.
ويدخلك الله النار} السؤال واحد بجوابين، كان الجواب أن يقول: نعم.
أو لا، لكنه قال: {نعم.
ويدخلك الله النار} فيأتي جواب القرآن صريحاً، صادقاً، عظيماً قوياً قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} [يس:78] ولم يسم من ضرب المثل؛ لأنه تافه حقير صغير {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] من يعيدها يوم تصبح رفاتاً وتراباً، ورماداً؟! {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79] الذي خلقها من العدم، وأوجدها بعد أن لم تكن شيئاً، هو المتكفل بإعادتها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لتكون أمةً جديدةً حية تحاسب بين يدي الله.(324/2)
قصص تعالج الكفر بالبعث والنشور
أما القصص: فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بعد قصصٍ جميلة من قصص القرآن: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] هذا عند كثير من المفسرين رجل صالح من بني إسرائيل، أو نبي، خرج بحماره ومعه عنبٌ ولحم على هذا الحمار، وهو طعامه في السفر، فمر على قرية قريبة من بيت لحم في فلسطين، فوقف على القرية وكان عهده بالقرية وهي حية ناطقة، سميعةً بصيرة، تغرد أطيارها وتهتز أشجارها، وتلمع ورودها، وينبس أحياؤها، وإذا بالقرية خامدة ميتة، لا بشر ولا حيوان، ولا طيور ولا شجر، قرية هوت على عروشها، وتهدمت منازلها، فأخذ كفاً بكف وضرب اليمنى على اليسرى، وقال وهو ينظر إلى السماء: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:259] يقول: كيف يحيي الله هذه الأرض؟! كيف يعيدها؟! أين البشر، أين الأحياء، أين العجماوات، أين الشجر والزهر والورد؟ لا شيء، فأراد الله أن يجري عليه عملية الإحياء.
يقول بعض العصريين: أدخله الله بحماره المختبر، هكذا؛ ليرى هو بنفسه كيف يميته الله ويميت حماره، ويحييه الله هو وحماره، فأماته الله وأمات الحمار مائة سنة، أما خُرجهُ وعنبه ولحمه فما أصابه شيء، لم يتعفن، ولم تصبه آفة، ولم تتغير رائحته، بقي في آنيته في خُرجِ حماره مائة سنة.
قال أهل العلم: أماته الله في الضحى وبعثه بعد مائة سنة في وقت العصر، فلما بعثه الله نظر إلى الشمس، وقال: تأخرت في منامي وانقطع عني السفر، فأوحى الله إليه: كم لبثت مكانك؟ قال: (يَوْماً) ثم أدركه الورع والصدق، فقال: (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).
قال الله له: أين حمارك؟ قال: لا أدري؛ فنظر فوجد جلد حماره قد بَلي من كثرة السنين التي مرت، وإذا عظام الحمار ناخرةٌ باليةٌ هامدة، أصبحت رماداً، وإذا خُرجُه بطعامه وعنبه ولحمه.
قال الله عزوجل: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} [البقرة:259] فقال الله للرفات كوني عظاماً، فتركبت عظام الحمار؛ يداه ورجلاه، وصلبه وهيكله، بلا لحم، وبلا عصب، ولا دم، وبلا عيون، ولا آذان، فلما استقامت العظام أمامه؛ أمر الله اللحم أن يكسى على العظم، ثم ركب الله جلد الحمار، ثم عينيه، ثم أذنيه، ثم نفخ فيه الروح، فهز الحمار رأسه، قال: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} [البقرة:259].
وقال سبحانه: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259] لم يتغير، من الذي جعل الطعام الذي من طبيعته التغير أن يبقى مائة سنة لا يتغير؟!! وجعل الإنسان والحيوان الذي قد يعيش مائة سنة يموت ويبلى ثم يعود حياً؟!! إنه الله.
ثم قال: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] فلا يخطر على بالك وسواس الجاهلية، ولا خرافة الإلحاد والزندقة أن الله لا يبعث من في القبور.
قصةٌ ثانية: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} [البقرة:126] وهذا إمام التوحيد، وشيخ العقيدة، لا يشك أبداً، ولا يتطرق إليه الشك، إيمانه كالجبال، هو الذي أتى بلا إله إلا الله، وهو الرجل الذي كان يقول وهو بين السماء والأرض، يوم قذف به إلى النار، وقد أتاه جبريل وهو بين السماء والأرض، يقول له: يا إبراهيم! ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم، فلما اقترب من النار، قال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
خرج إبراهيم عليه السلام مسافراً من أرض العراق.
قال بعض العلماء: وصل إلى دجلة، وقيل: الفرات، فوجد بقرةً منحورةً على ضفة النهر، وهذه البقرة أتت إليها نسور السماء والصقور والغربان والذئاب والكلاب والسباع تنهش منها، كل ينهش منها نهشة حتى تركنها عظاماً، فالتفت وقال: يا رب! أتعيد هذه من بطون الوحوش يوم القيامة؟ كيف تعيدها وقد أصبحت هذه البقرة جزراً، وأصبحت نهباً ونهشاً في بطون العجماوات {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة:126] هو مؤمن، ولكن يريد أن يرى بعينه كيف يحيي الله الموتى: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة:126] أأنت شاك إلى الآن؟ أرسلناك بالتوحيد والعقيدة وأنت تسأل هذا السؤال؟!.
يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري وقد وصل إلى هذه الآية، وتبسم وقال: {رحم الله إبراهيم، نحن أحق بالشك من إبراهيم} معنى ذلك: لو كان يشك لكنا نحن نشك؛ لأنه أعظم منا إيماناً، وهذا من باب التواضع وهو يريد أن يبرئ إبراهيم عليه السلام.
{قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:126] قالوا: ليس الخبر كالمعاينة، قال الله: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} [البقرة:126] أربعة أصناف أخذها إبراهيم.
قالوا: من البط والوز والحمام وطائر من عنقاء مغرب، وما علينا إلا أن تكون طيراً كما قال القرآن، أربعة أصناف، فقال الله: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة:126] أي: ضمَّهنَّ، وقيل: قطِّعهُنَّ، فقطع رءوس الأربعة الطيور، ثم نثر لحمها وعظامها وريشها، وخلط بعضها ببعض، ثم جعلها على أربعة جبال وعلى كل جبلٍ قطعة من هذه الطيور، وأخذ رءوس الطيور الأربعة بيده، ثم نزل في بطن الوادي، قال الله: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:126] فنزل فقال: أيتها الطيور! إن الله يأمركِ أن تأتي، فأقبلت أرجلها، وأيديها، وأجنحتها، وريشها، ولحمها، كل طائر يركب في جسمه ورأسه ولا يركب في رأسٍ آخر.
فلما أصبحت في يده وركبت فرفرفت فأطلقها فطارت ونفرت بإذن الله.
هذه قضية البعث والنشور، وهي قضيةٌ كبرى، لا بد أن تعالج في أندية الناس ومجالسهم صباح مساء حتى يعيشوها حياةً واقعيةً يرونها رأي العين؛ ليصلح إيمانهم، وتستقيم أحوالهم، وتصلح أخلاقهم.(324/3)
أهل الكفر يعالجون قضية الإيمان باليوم الآخر
قضية اليوم الآخر قضيةٌ عالجها حتى أهل الكفر، هذا الفيلسوف وعالم النفس الألماني كانت يقول في قانون الوجود: إن في النظر إلى الحياة دليلاً على أن هناك يوماً آخر؛ لأن مسرحية الوجود لم تنته بعد، قيل له: كيف لم تنته مسرحية الوجود؟ قال: لأننا نرى في الحياة ظالماً ومظلوماً، وغالباً ومغلوباً، ثم يموت الظالم والمظلوم، والغالب والمغلوب فلا ينتقم من هذا لهذا، ولا ينتصر لهذا من هذا، دليل على أن هناك يوماً آخر سوف يكون فيه إكمال هذه المسرحية.
شهد الأنام بصدقه حتى العدا والحق ما شهدت به الأعداء
وسوف يكون هناك تعريج على حياة الصحابة، وموقفهم من اليوم والآخر، جعلنا الله وإياكم من المؤمنين الصالحين الصادقين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم(324/4)
الصحابة والإيمان باليوم الآخر
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد: فقد رفع عليه الصلاة والسلام قلوب أصحابه إلى درجة أن ترى اليوم الآخر كأنها تراه رأي العين.
أثر عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: [[والذي نفسي بيده! لو كشف الله لي الغطاء، ورأيت الجنة والنار، والحوض والصراط والميزان، ما زاد ذلك على ما عندي من إيمان مثقال ذرة]] معنى ذلك: أنه أصبح يتصور اليوم الآخر كيومه الذي يعيشه الآن، وهذا الفارق بيننا وبين الصحابة؛ أن إيماننا إيمان ظن، وإيمانهم يقين، وأنهم يعملون لليوم الآخر كما نعمل نحن ليومنا الحاضر، وأنهم كانوا يتمنون على الله أن يبقي نعيمهم ولذتهم وسعادتهم لليوم الآخر، ونحن نتمنى أن يعجل لنا ربنا سعادتنا وراحتنا ونصرنا في هذه الدار، وكانوا يعيشون طموحاً ليومٍ آخر، إذا رأوا قصور أهل الدنيا تمنوا من الله قصوراً في الجنة، وإذا رأوا بساتين أهل الدنيا سألوا الله بساتين وحدائق الجنة، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} [الفرقان:10].
مر عمر رضي الله عنه وأرضاه على جابر بن عبد الله، وقد اشترى جابر لحماً من السوق لأهله، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[يا جابر! ما هذا؟ قال: لحمٌ يا أمير المؤمنين، قال: أتأكل اللحم دائماً؟ قال: اشتهيته -يا أمير المؤمنين- فاشتريته، قال: أكلما اشتهيت اشتريت؟! والذي نفسي بيده! إني لأعلمكم بأحسن المطاعم، لكن أخشى أن أعرض على الله مع قومٍ قال فيهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20]]] كان عمر يؤجل أكل اللحم ولذائذ المطعومات والمشروبات والملبوسات ليوم العرض الأكبر، كان يرى أنه إذا قدم شيئاً واستهلك شيئاً إنما هو على حساب نعيمه وسعادته عند الله عزوجل.
ويحضر الصحابة بدراً، ويخرجون صفوفاً للقاء العدو، ويسلون السيوف، ويقول عليه الصلاة والسلام لهم: {يا أهل بدر! إن الله قد اطلع عليكم فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، يا أهل بدر! والذي نفسي بيده! ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء فتدخلون الجنة} فيأتي عمير بن الحمام الأنصاري -الذي كان يأكل التمرات من الجوع- فيقول: يا رسول الله! أسألك بالله ما بيننا وبين الجنة إلا أن يقتلنا هؤلاء؟ قال: إي والذي نفسي بيده، فألقى التمرات من يده، وأخذ غمد السيف فكسره على ركبته، وقال: بخٍ بخٍ إنها لحياة طويلة إذا بقيت حتى آكل هذه التمرات، فتقدم وقتل فلقي الله شهيداً، لماذا؟
لأنه صدَّق موعود الله عز وجل، وعلم أن هذا يقين لا شك فيه.(324/5)
علامات عدم اليقين باليوم الآخر
إن من علامات التسويف وعدم اليقين باليوم الآخر: الركون إلى الدنيا والتلذذ بها، وطلب طول العيش والبقاء، حتى إن البعض يهرب من الموت، ولا يحب مرور ذكره على مسمعه؛ لأنه تنغيص للحياة.
وتجد بعض الناس يتضايق كثيراً يوم تعاد عليه أنباء الموتى، وأخبار القبور والوعيد والزجر في القرآن، ويقول: دعونا نأكل ونشرب في أمنٍ وسعادة.
إن بعضهم ركن إلى وظيفته ومنصبه وحياته؛ حتى نسي اليوم الآخر تماماً، ولو كان يصلي، ويزكي، ويَحج ويعتمر.
قيل للفضيل بن عياض: كيف ذكرك للآخرة؟ قال: والله ما رفعت رجلاً إلا ظننت أني لا أضعها.
وقال الربيع بن خثيم: إنني أنتظر الموت مع تردد الأنفاس.
كلما أُخرِج نفساً أرى أن الله سوف يقبض روحي قبل أن يعود إليَّ النفس.
هذا فارق بيننا وبين السلف، ومن أعظم ما يذكرنا لقاء الله واليوم الآخر، تدبر القرآن، والوقوف مع آياته، وعجائبه، وزيارة القبور التي شهدت مصرع العظماء والزعماء والأغنياء والشرفاء والنبلاء.
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر
تروح وتغدوا بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور
هذه قضيته عليه الصلاة والسلام الثانية الكبرى مع قضية التوحيد، قضية البعث والنشور، والتي آمن بها بعض الناس بلسانه ولم يؤمن بها وجدانه وعمله.
فنسأل الله لنا ولكم إيماناً صادقاً، ويقيناً ثابتاً، وإسلاماً واضحاً، وثباتاً على الحق حتى نلقى الله.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صل على نبيك وحبيبك، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه يا رب العالمين.
اللهم اهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وثبتنا على الحق حتى نلقاك.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، التي تدلهم على الحق وتجنبهم الباطل.
اللهم أصلح شباب المسلمين.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون لإعلاء كلمتك في كل مكان.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(324/6)
الرد على شبهة
الحق والباطل دائماً في صراع، ودعاة الباطل دائماً يكيدون للإسلام، ومن مكائدهم التشكيك في نبوة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، ومن هؤلاء رشاد خليفة، والخميني، والقذافي.
ولا ينبغي لأهل الحق أن يقفوا ساكتين بل ينبغي لهم أن يردوا على افتراءاتهم حتى لا يغتر بها عوام الناس.
ومما يجب أن نذكره للناس معجزات الرسول كانشقاق القمر، والإسراء والمعراج، ونبع الماء من بين أصابعه، وقبل ذلك كله معجزة القرآن الكريم.(325/1)
من دلائل النبوة
الحمد لله الذي شرح صدور أهل الإسلام للسنة، فانقادت لاتباعها، وارتاحت لسماعها، وأمات نفوس أهل الباطل بالبدعة بعد أن تمادت في ابتداعها، وتغالت في نزاعها، والصلاة والسلام على من اتصلت به أنوار الهدى بعد انقطاعها، والذي ارتفعت به كلمة التوحيد في شمولها واتساعها، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، شهادةً أدخرها لي ولكم ليوم العرض الأكبر على الله، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: سمعتم، أو قرأتم ما فعل المبطلون المجرمون في مقالاتهم، وفي نشراتهم، وفي صحفهم من اعتراض على نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، واتهام له أن نبوته أتت بالصدفة، وتزعَّم كبر ذلك وإجرام ذلك ما يسمى بـ رشاد خليفة، وهو رجل مبتدع ضال، أضله الله على علم، يعيش في أمريكا، وله حزب كبير، وله أتباع وطائفة، أنكر السنة، ثم أنكر نبوة النبي عليه الصلاة والسلام، واتفقت هذه المقالة مع آخر كتاب صدر للخميني المبتدع الضال، والذي قال فيه: إن نبينا عليه الصلاة والسلام كانت نبوته صدفة واتفاقاً وأخذها ولم تكن له.
وثالثة الأثافي صاحب الكتاب الأخضر الذي قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام رجل بدوي بسيط، وإنه لعب على البدو بالمقالات حتى ظنوه نبياً، وليس بنبي، وليس الغريب أن يصدر هذا الكلام عن هؤلاء المجرمين: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيرا ً) [الفرقان:31] ولكن الغريب أن يقف أهل الحق، وأهل الفكر، وأهل العلم، وأهل القلم جامدين خامدين لا يكتبون، ولا يردون، ولا يخطبون، ونبوة نبينا عليه الصلاة والسلام كالشمس، بل أعلى وأوضح من الشمس في رابعة النهار.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمدٍ وينكر الفم طعم الماء من سقم
الرسول عليه الصلاة والسلام ثبتت معجزات نبوته بالآيات الكونية والشرعية والسماوية والأرضية، والرسول عليه الصلاة والسلام له أكثر من ألف معجزة، والرسول عليه الصلاة والسلام سخر الله له الكون حتى جعل له من الكون آيات ومعجزات، فالقمر شق له، الشجر جاءت تمشي إليه، والحمامة وقفت على رأسه، والعنكبوت نسجت على غاره عليه الصلاة والسلام، والماء نبع من بين أصابعه الكريمة، والغزال توقف له، علَّم الناس بعلم من علم الغيب الذي علَّمه الله إياه، فقد دبرت له أكثر من عشر محاولات اغتيال، ويخبر بمن دبرها وصنفها، ومن أنتجها وأخرجها.(325/2)
القرآن أعظم معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وأكبر معجزة لرسولنا عليه الصلاة والسلام معجزة القرآن الكريم، الذي مر عليه ما يقارب خمسة عشر قرناً، وهو لا يزداد إلا قوةً ونصراً وتأييداً من رب العزة سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
تحدى الله به أفصح أمة نطقت بالضاد، أمة الخطباء، أمة الأدباء، أمة الشعراء، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] وقال عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [الأحقاف:8] وفي آية ثالثة: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:34].
نزل عليه الصلاة والسلام إلى الحرم، فاجتمع إليه سادات قريش، وخطباء قريش، وأدباء قريش، فقال بعضهم لبعض: أرسلوا رجلاً منكم إلى هذا الرجل الذي سب آلهتنا، وسفه آراءنا، وذم أجدادنا، واسألوه ماذا ينقم علينا، فأرسلوا عتبة بن ربيعة فلما وصل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: {ماذا تريد يا محمد منا؟ إن كنت تريد زوجةً زوجناك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك، وإن كنت تريد مالاً سودناك وأعطيناك، فقال عليه الصلاة والسلام: أفرغت يا أبا الوليد قال: نعم، قال: اسمع، فلما أنصت اندفع عليه الصلاة والسلام يقرأ عليه سورة فصلت، فلمَّا بلغ قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] قام عتبة ووضع يده على فم الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: أسألك بالله وبالرحم، ثم عاد، فإذا وجهه مغبرٌ مقيتٌ كسيفٌ، فقال له الكفار: لقد جئتنا بغير الوجه الذي ذهبت به} وحين سأل المشركون الوليد بن المغيرة أن يقول في القرآن شيئاً قال: لقد سمعت الشعر هزله ورجزه، وسمعت السحر نفثه ورفثه، وسمعت الشعوذة، وسمعت الكهانة، والله ما هو بسحر، والله ما هو بشعر، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، إن له لحلاوة، وإن أعلاه لمورق، وإن أسفله لمغدق، فقالوا: لا تفارق مجلسنا حتى تقول في القرآن شيئاً، فعبس بوجهه وبسر، وتلفت ماذا يقول، فقال: إن هو إلا سحر يؤثر، فقال الله له: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً} [المدثر:11 - 13] كان فقيراً ممحلاً، فآتاه الله من الأموال حتى إنه كان يقسِّم الذهب بالفئوس، وآتاه عشرة من الأولاد {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:15 - 26] جهنم يدخلها؛ لأنه كذَّب بآيات الله.
فهذا القرآن تحدَّى الله العرب أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من سوره أو بسورة أو بآية من آياته، فلم يستطيعوا، ولذلك كان القرآن أعظم معجزة لرسولنا عليه الصلاة والسلام.(325/3)
انشقاق القمر
خرج صلى الله عليه وسلم إلى الناس، وقد اجتمعوا في الحرم، فقال: {يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله؛ تفلحوا} فقال له أبو جهل ويحلف باللاَّت والعزى لا نؤمن لك حتى يشق له القمر، فيقول عليه الصلاة والسلام: أفإن شقَّ الله لي القمر أتؤمنون بي؟، قالوا: إي وكرامة عين لك، فنظر عليه الصلاة والسلام إلى القمر ليلة أربعة عشر وهو في كبد السماء، وقد امتلأت الدنيا من جماله وصفائه وبهائه، والناس ملء الحرم، فدعا الله أن يشق له القمر، فانشق القمر قسمين فلقتين فاتجهت فلقة إلى عرفات وفلقة إلى جبل أبي قبيس، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، وهم ينظرون ويرون ويبصرون، فماذا كان ردهم؟ نفضوا ثيابهم، وقاموا من مجالسهم، يقولون: سحرنا محمد، سحرنا محمد، ولذلك سوف يوردهم الله النار يوم القيامة، ويقول لهم وهم يرون النار: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15].
ويقول الله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:14 - 15] يقول الله جل ذكره: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:1 - 5].(325/4)
الإسراء والمعراج
ومن معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام معجزة الإسراء والمعراج، بات عليه الصلاة والسلام في بيته في مكة، نام على فراشه، فأتاه جبريل، وقال: إن الله يأمرك أن تتهيأ ليسرى بك إلى بيت المقدس، ومن بيت المقدس إلى السماء السابعة ليكلمك الله، فتهيأ عليه الصلاة والسلام، وركب البراق، وهو دابة تشبه الفرس، تضع حافرها عند انتهاء بصرها، وذهب معه، فقطع مع جبريل مئات الأميال في لحظة من ليلة، فوصل بيت المقدس، فدخله في الليل، أول دخوله إلى القدس، إلى القدس السليب، إلى القدس الذي ضيعه المسلمون يوم ضيعوا لا إله إلا الله.
فدخل صلى الله عليه وسلم وربط الفرس، فجمع الله له الأنبياء والرسل كلهم -كما يقول ابن كثير وغيره- فلما التفتوا من يصلي بهم قدَّموا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فصلى بهم ركعتين.
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم
كنت الإمام لهم والجمع محتفلٌ أعظم بمثلك من هاد ومؤتم
لما خطرت به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر، أو كالجند بالعلم
حتى بلغت مكاناً لا يطار له على جناح ولا يسعى على قدم
وقيل: كل نبي عند رتبته ويا محمد هذا العرش فاستلم
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من الركعتين، نظر إلى وجوه الأنبياء والرسل، إلى أفضل من خلق الله، وأشرف من خلق الله، وأصدق من بعث الله، فأراد أن يسألهم كما قال الله له في سورة الزخرف: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] أراد أن يسألهم فرأى الجلالة، ورأى الصدق والإخلاص في وجوههم فاكتفى بالمنظر عن السؤال.
ثم صعد هو وجبريل عليهما السلام إلى السماء الدنيا، وبينها وبين الأرض مسيرة خمسمائة عام، وجرم السماء خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، فطرق جبريل، فقيل له: من؟
قال: جبريل وعرفوه، قالوا: من معك؟
قال: محمد عليه الصلاة والسلام، ومر عليه الصلاة والسلام بإخوانه الأنبياء والرسل، يسلم عليهم واحداً واحداً، رأى يوسف عليه السلام، وقد أوتي شطر الحسن، ورأى يحيى بن زكريا، ورأى آدم في سماء الدنيا، وعن يمينه أسودة، وعن يساره أسودة يلتفت إلى اليمين فيضحك، ويلتفت إلى اليسار فيبكي، فقال لجبريل: من هؤلاء؟
قال: أما الذين عن يمينه فأهل الجنة، وأما الذين عن يساره فأهل النار نعوذ بالله من أهل النار، ورأى هارون، ورأى موسى في السادسة، فسلم عليه وكلمه، ورأى إبراهيم أبا الأنبياء في السابعة، فكلمه وآنسة ولاطفه حتى وصل صلى الله عليه وسلم إلى بساط حديث القدس، ولم ير ربه، قيل له: {هل رأيت ربك يا رسول الله؟ قال: نور أنى أراه} وكلمه الله، وفرض عليه الصلوات الخمس، الصلوات الخمس كانت خمسين، فاستحيا صلى الله عليه وسلم أن يراجع ربه، فلمَّا عاد إلى موسى في السادسة، قال: كم فرض الله عليك؟
قال: خمسين صلاة، قال: إن أمتك لا تطيق ذلك، وقد جربت أنا بني إسرائيل بأقل من ذلك، فعد إلى ربك، فراجع صلى الله عليه وسلم ربه حتى خفف الله علينا إلى خمس صلوات، فهي في الأجر خمسون، وأما في العمل فهي خمس، فجزى الله موسى عنا خير الجزاء.
ورأى صلى الله عليه وسلم الجنة والنار، وعاد إلى الدنيا، عاد إلى مكة، عاد إلى بيته في مكة، وأمسى في فراشه، وفي الصباح خرج يصلي صلى الله عليه وسلم فاجتمع كفار قريش يتضاحكون يقول أبو جهل: ماذا حدث لك يا محمد البارحة؟
يستهزئ ويستهتر ويضحك، ولكن سيعلم الظالمون لمن عقبى الدار، فقال عليه الصلاة والسلام: حدث البارحة أمر عجيب عظيم، قالوا: ماذا حدث؟
قال: أسري بي إلى بيت المقدس في فلسطين، وصليت بالأنبياء، فتمايلوا من الضحك، وانظروا إلى مرارة الموقف، ومرارة التكذيب، والرسول صلى الله عليه وسلم فريد غريب ما له ناصر إلا الله، ولا له مؤيد إلا الله، يضحكون عليه، فيقول أحدهم وكان شيخاً كبيراً في السن أظنه الوليد بن المغيرة قال: يا محمد! ما جربنا عليك كذباً، إن كنت صادقاً وأنه أسري بك؛ فنحن نعرف بيت المقدس سافرنا إليه في التجارة، وعرفناه باباً باباً، فصِفْ لنا بيت المقدس وذهابه صلى الله عليه وسلم كان في ظلمة الليل الدامس، ولم ير الأبواب كلها، ولم ير النوافذ والسواري، فعرق صلى الله عليه وسلم، وأصابه من الكرب ما الله به عليم؛ لأنه إذا لم يستطع فمعناه أنه يكذب!
وكيف يكذب على الدنيا وعلى المعمورة؟! فقرب الله له بيت المقدس حتى رآه في ناحية الحرم، فأخذ يصفه باباً باباً، ونافذةً نافذةً، فقال: والله ما زدت ولا نقصت شيئاً.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: سوف تقدم قافلتكم غداً التي أرسلتموها للتجارة غداً يتقدمها جمل أورق، عليه غرارتان، ورعى منكم رعيان في وادي كذا وكذا، وسوف يقدمون غداً، وقد انكسرت رجل ناقة من نوقهم، وانتظروا الصباح، فقدمت القافلة، وعليها الجمل الأورق وعليه غرارتان، وأتى رعيان الإبل، فسألوهم ماذا حدث؟
قال راعٍ منهم: انكسرت رجل ناقتي {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] وهذه ثلاث معجزات من ألف معجزة للرسول عليه الصلاة والسلام.
لقد شهدت السماء بنبوته، ولقد شهدت الأرض برسالته، ولقد آتاه الله من الآيات والمعجزات ما هو كفيل بدمغ كل مفترٍ على الله، ودجال على الله {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(325/5)
من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله.
أمَّا بَعْد:
لقد ظهرت معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام الكونية كمعجزاته الخُلقية والخَلقية، تصوروا إنساناً يعيش (63) سنة، فلا يكذب كذبة، ولا يغدر غدرة، ولا يخون خيانة، ولا ينظر نظرة سيئة، ولا يخالف مخالفة، والرسول عليه الصلاة والسلام من رآه لأول وهلة، علم أنه رسول الله، يقول أبو هريرة وقد سئل عنه: {والذي نفسي بيده، كأن الشمس تجري في وجهه} ويقول أنس: {والذي نفسي بيده، لقد نظرت إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى البدر ليلة أربعة عشر، فلوجهه صلى الله عليه وسلم أجمل وأحسن وأبهى من البدر ليلة أربعة عشر}.(325/6)
قصة ابن سلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم
رآه عبد الله بن سلام أحد أحبار اليهود، وهو يروي القصة، قال: رأيت الناس انجفلوا -أي: اجتمعوا في سوق المدينة- فكنت فيمن اجتمع، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من مكة مهاجراً، قال: فزاحمت حتى رأيت وجهه، فلمَّا رأيت وجهه إذا وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب -وجهه وجه صادق، وجهه وجه مخلص، وجهه وجه منيب- قال: فسمعت كلامه فإذا هو يقول: يا أيها الناس! أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام، فقلت: يا رسول الله! أسألك عن ثلاث - وهذا الرجل عالم من علماء بني إسرائيل علمهم الله في التوراة أموراً علمها رسول الله عليه الصلاة والسلام - قلت: يا رسول الله! أسألك عن ثلاث لا يعلمها إلا نبي، قال: اسأل، قلت: ما أول ما يأكل أهل الجنة إذا دخلوا الجنة؟ ولماذا يشبه الولد أباه، أو أمه؟ وما هي أول علامات الساعات الكبرى؟ قال: أول ما يأكل أهل الجنة إذا دخلوا الجنة زيادة كبد الحوت، وأما لم يشبه الولد أباه أو أمه، فماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فإذا علا هذا على هذا أشبه أباه، أو أمه، وأما أول علامات الساعة الكبرى، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، قلت: والذي بعثك بالحق نبياً إنك لرسول، والله لا يعلمها إلا رسول، فأنا يا رسول الله! من أحبار اليهود ومن علمائهم، اجعلني في هذه المشربة -غرفة وراء الرسول عليه الصلاة والسلام- واجمع اليهود، واسألهم عني قبل أن تخبرهم أني آمنت وأسلمت، فأدخله صلى الله عليه وسلم، وجمع اليهود، وقال: كيف ابن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وفقيهنا وابن فقيهنا، قال: أفرأيتم إن آمن وأسلم، قالوا: أعاذه الله من ذلك، قال: فإنه آمن، فخرج عليهم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وسيئنا وابن سيئنا، وخبيثنا وابن خبيثنا، فأنزل الله قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10] ويقول الله لهم: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].(325/7)
حمرة ترفرف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم
{تأتي حمامة، والرسول عليه الصلاة والسلام جالس بين أصحابه، فترفرف على رأسه - كما في سنن أبي داود - فيقول عليه الصلاة والسلام: أتدرون ماذا تقول هذه؟ - عندها فراخ وعش- قالوا: ما ندري يا رسول الله! قال: إنها تشكو إلي أن رجلاً منكم أخذ فراخها من فجع هذه بفراخها؟ ردوا عليها فراخها، قال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله! فأعاد فراخها في عشها، فعادت مرفرفة شاكرة} ولذلك يقول أحد الأدباء:
جاءت إليك حمامةٌ مشتاقةٌ تشكو إليك بقلب صبٍ واجفِ
من أخبر الورقاء أن مكانكم حرمٌ وأنك ملجأٌ للخائفِ(325/8)
جمل يشكو لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي السير بأسانيد جياد، {أن جملاً من جمال الأنصار شرد في مزرعة، ودخل صلى الله عليه وسلم المزرعة، فرآه الجمل، فيأتي إليه ويضع خده في الأرض، وتدمع عين الجمل، فيقول عليه الصلاة والسلام: أتدرون ماذا يقول هذا الجمل؟ قالوا: لا والله، قال: والذي نفسي بيده، إنه ليشكو إليَّ ظلم صاحبه، يجيعه ويظمئه ويحمله مالا يطيق، ثم أتى إلى الرجل فوعظه وأدبه وعلمه} ولذلك يقول الله له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].(325/9)
الماء ينبع من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم
يظمأ الصحابة، وينقطع ماء الغسل والوضوء عنهم، فيأتون بصحفة فيقدمونها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهم سبعمائة، أو أكثر، فيقول: هل عند أحد منكم ماء؟ فيقول أحد منهم: عندي ماء في شن -في قربة صغيرة- فيقول: تعال به، فيصب على أصابعه الشريفة والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: بسم الله، فتثور أصابعه كالأنهار تمتلئ الصحاف ويتوضأ السبعمائة، ويشربون، ويغتسلون، ويسقون خيولهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول: أشهد أني رسول الله.
إي والله أشهد أنك رسول الله، أشهد أنك رفعت علم الإنسانية، وأنك أوضحت معالم البشرية، وأنك دكدكت أركان الوثنية.(325/10)
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم بين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وما ذاك إلا لأنهم تربوا على يد المعلم الجليل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخرجوا من مدرسة النبوة.
ومن هؤلاء الخلفاء الراشدين، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي الذين قادوا الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومنهم سعد بن أبي وقاص، خال رسول الله وقائد معركة القادسية، ومنهم حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، ومنهم أيضاً إمام العلماء معاذ بن جبل.(326/1)
أبو بكر الصديق رضي الله عنه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المؤمنون: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
هذا درس رمضاني بعنوان: "رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه"
وهؤلاء الرجال هم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، وأئمة أهل الإسلام.
أولاً: الصحابي الجليل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وأبو بكر أول الخلفاء الراشدين وأول العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم وأرضاهم.
أبو بكر لم يملك شيئاً من ميزات الدنيا إلا أنه عبدٌ لله، وكان أول من أسلم من الرجال، وقدَّم ماله للرسول صلى الله عليه وسلم حتى كان صلى الله عليه وسلم يقول: {لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرحمن} عليه الصلاة والسلام.
هو تيمي من قريش، لم تكن أسرته بتلك القوية العريقة، ولكن رفعه إسلامه وإيمانه، يقول عمر: قلت في نفسي لأسبقن أبا بكر هذا اليوم، فأخذ نصف ماله فذهب به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال-: يا رسول الله! خذ هذا النصف من المال، قال: ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم نصف المال، فجاء أبو بكر فتصدق بماله كله، فقال صلى الله عليه وسلم: ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قال عمر: والله لا أسابق أبا بكر بعدها أبداً.
وكما هو معلوم أن النار لها سبعة أبواب أعاذنا الله من النار {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192].
وللجنة أبواب ثمانية؛ نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الداخلين من تلك الأبواب.
بشرى لنا معشر الإسلام أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {ما بين المصراع والمصراع في الباب الواحد كما بين أيلة إلى صنعاء -وأيلة هي بيت المقدس الذي يرضخ اليوم تحت الاحتلال، هذا مقدار الباب الواحد- وإنه يأتي يوم القيامة وهو كظيظ من الزحام} فنسأل الله أن يجعلنا ممن يزاحم في ذاك الباب، فقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {إن للجنة أبواباً ثمانية فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة} يعني من أكثر من الصلاة حتى اشتهر بها، ولا يقصد مجرد الصلوات الخمس؛ لأن كل إنسان يصلي الصلوات الخمس، لكن يقصد عليه الصلاة والسلام الذي يتنفل حتى يعرف بالصلاة، قال: {فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! أيدعى أحد من تلك الأبواب الثمانية؟ قال: نعم.
وأرجو أن تكون منهم} هو يدعى يوم القيامة من الأبواب الثمانية، هو أول المصلين، ومع الصائمين في أولهم، ومع الذاكرين في مقدمتهم، ومع المجاهدين رضي الله عنه وأرضاه.
وفي الأثر المشهور: والله ما فاقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بإيمان وقر في قلبه، فميزة أبي بكر على غيره من المسلمين أنه يعبد الله كأنه يراه، وفي كتاب الزهد للإمام أحمد أنه قال وهو على المنبر: [[يا أيها الناس! استحيوا من الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إني لأذهب إلى الخلاء فأضع ثوبي على وجهي حياءً من الله]] بلغت منزلة مراقبته لله أنه يستحي منه في وقت قضاء الحاجة، لأنه يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهذه درجة الإحسان.
وقد امتاز أبو بكر رضي الله عنه كذلك بالخشية، وهذا الذي ينبغي أن نستحضره في هذا الشهر الكريم، خشية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، لأن المقصد من الصيام والصلاة هو خشية الله تبارك وتعالى، فامتاز أبو بكر من بين الناس بشدة خشيته لله، يذكر عنه الإمام أحمد في كتاب الزهد يقول: دخل أبو بكر مزرعة رجل من الأنصار بعد موت الرسول، وفي أثناء دخوله إذا بطائر يطير من شجرة إلى شجرة، فجلس أبو بكر يبكي، قال له الصحابة: مالك يا خليفة رسول الله؟ قال: ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت طائراً أرد الماء وأرعى الشجر ثم أموت لا حساب ولا عقاب
فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حيٍ
ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شيّ
ومن ميز الصالحين هضم النفس، تجد المصلي الصائم المتصدق العابد يهضم نفسه، وتجد المعجب المغرور المنافق يمدح نفسه، قال البخاري في كتاب الصحيح: وقال الحسن البصري: "ما خافه -أي النفاق- إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق".(326/2)
من مواقف أبي بكر الصديق المشرفة
وأبو بكر رضي الله عنه وقف مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي أخطر مواقف تاريخه الرسول صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر معه، وأنا أذكر ثلاثة مواقف:
الموقف الأول في الغار:
وصاحب الغار إني سوف أذكره وطلحة بن عبيد الله ذي الجود
دخل صلى الله عليه وسلم الغار هارباً من قريش، فأعلن الكفار حالة الاستنفار في مكة، وسدوا الطرق الداخلة إلى مكة والخارجة، فدخل عليه الصلاة والسلام مع صاحبه أبي بكر في الغار، وجلس عليه الصلاة والسلام هو وأبو بكر حتى طوق المشركون الغار.
ولكن حينما أراد الله أن يحفظ رسوله سخر عنكبوتاً فنسجت بيتاً على فم الغار، ومن العادة أن الإنسان إذا دخل الغار شق بيوت العنكبوت، وأتت الحمامة وبنت عشها في فم الغار وباضت في هذا العش، فأتى كفار قريش معهم السيوف تقطر حقداً وضغينةً على المصطفى عليه الصلاة والسلام، أرادوا الدخول وإذا ببيت العنكبوت، وإذا بعش الحمامة، فوجموا وقد نظم هذا المعنى بعضهم فقال:
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطم
ثم صعدوا على ظهر الغار فأخذ أبو بكر ينظر فيرى أقدامهم فيقول: يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى موطن قدميه لرآنا، فيتبسم عليه الصلاة والسلام تبسم الواثق الذي امتلأ قلبه إيماناً وثقة بالله، الذي يتبسم للمستقبل، يحفر الخندق في المدينة وتقع مسحاته عليه الصلاة والسلام على الصخر ويبرق من الصخر بارق فيقول: {تفتح لي قصور كسرى وقيصر إن شاء الله} فيضحك المنافقون ويقولون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، ولكن والله فتحها الله عليه وفتح ما هو أكبر وأكثر، فوصلت جيوشه إلى أسبانيا وإلى السند وإلى الهند فيقول: {يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما} وخرج من الغار بسلامة الله وحفظه ورعايته: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ولذلك يقول أحد العلماء من المفكرين: الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لـ أبي بكر في النكبات: إن الله معنا، أتاه الفقر من كل جانب فقال: لا تحزن إن الله معنا، أتته بعض الغلبة أو ما تسمى بالهزائم فقال: لا تحزن إن الله معنا، اجتمع عليه اليهود والمشركون والمنافقون فقال: لا تحزن إن الله معنا.
والموقف الثاني في بدر: قام عليه الصلاة والسلام قبل معركة بدر بليلة واحدة، ومعركة بدر تصفية بين الحق والباطل، فوقف الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو في الليل حتى سقط برده من على كتفيه وهو يقول: {اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض بعد اليوم} ثم أخذ يدعو عليه الصلاة والسلام ويبتهل إلى الله، فأتى أبو بكر فرد عليه البردة وقال: كفاك مناشدة لربك يا رسول الله! فو الله لينجزن الله لك ما وعدك.
قال أهل العلم: كان الرسول صلى الله عليه وسلم أعرف بالله، فإن الله عز وجل يحب الملحين بالدعاء، ويحب المتضرعين والباكين، ويحب الذين يخلصون ويكثرون في الدعاء، بخلاف المخلوقين فإن أحدهم إذا ألححت عليه في الطلب غضب، أما الله فإنه كلما دعوته رضي عنك، وإذا رأيت العبد يكثر من الدعاء والابتهال فاعرف أنه مؤمن، واعرف قيم الناس وميزان الناس بكثرة دعائهم.
الموقف الثالث: يوم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة وتبعه سراقة بن مالك فكان صلى الله عليه وسلم يمشي في الطريق ويقرأ القرآن ويلتفت، فيقول أبو بكر: يا رسول الله! الطلب وراءنا، قال: يا أبا بكر! لا تحزن إن الله معنا، ثم دعا على فرس ذلك في قصة طويلة، قال أهل العلم: فكان أبو بكر يأتي مرة عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم ومرة عن يساره ومرة أمامه ومرة خلفه، فيقول صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! مالك مرة عن يميني ومرة عن شمالي ومرة أمامي ومرة خلفي؟ قال: يا رسول الله! أذكر الرصد -الكمين- فأتقدم ليأتيني ولا يأتيك، وأذكر الطلب فأكون خلفك وأخاف أن تؤتى عن يمينك فأتيامن، وأخاف أن تؤتى عن يسارك فأتياسر أو أتشامل أو كما قال.
وتولى الخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هزيل الجسم حتى أنه كان يوتر قبل أن ينام، لكن في قلبه همة عالية تنسف الجبال، صنع الله الذي أتقن كل شيء، ولما توفي عليه الصلاة والسلام كان أبو بكر غائباً عن المدينة فقد كان له مزرعة، فكان في مزرعته في عالية من عوالي المدينة معه فرس وإذا بـ المدينة ترتج بالبكاء، واختلط بكاء النساء بالأطفال والرجال، فأعظم مصيبة في تاريخ الإنسان، موت الرسول عليه الصلاة والسلام.
وإذا أتتك من الأمور مصيبة فاذكر مصابك بالنبي محمدِ
وأتاه الخبر وهو في المزرعة، فركب فرسه ومعه عصا، وأتى إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وإذا الناس يموجون مثل البحر لا تسمع ماذا تقول لسانك من كثرة البكاء، قال: مالكم؟ قالوا: توفي الرسول عليه الصلاة والسلام، فسكت وما كلم أحداً وقال: الله المستعان إنا لله وإنا إليه راجعون! فثبته الله، وشق الصفوف حتى وصل إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة التي هو مدفون فيها صلى الله عليه وسلم.
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
فدخل وكشف الغطاء عن وجه الرسول عليه الصلاة والسلام فإذا هو قد مات، فقبل وجهه، ودمعت عينا أبي بكر على وجه المصطفى عليه الصلاة والسلام ثم قال له: [[بأبي أنت وأمي؛ طبت حياً وطبت ميتاً، أما الميتة التي كتبت عليك فقد ذقتها، ولكن والله لا تموت بعدها أبداً]] ثم خرج على الناس فسكتهم وأتى إلى عمر رضي الله عنه عند المنبر في المسجد، وقد سل عمر سيفه وقال: [[من زعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مات ضربت عنقه بهذا السيف، إنما يغيب صلى الله عليه وسلم بعض الأيام كما غاب موسى يكلم ربه]] كما يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف:142].
فأتى أبو بكر وعمر يخطب وقال: اسكت يا ابن الخطاب! ثم ارتقى أبو بكر المنبر وقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد:
فمن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ثم قرأ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]
فخر عمر مغشياً عليه من البكاء، يقول عمر بعد أن رشوه بالماء واستفاق: والله الذي لا إله إلا هو كأني ما سمعت هذه الآية إلا ذاك اليوم، ثم قام أبو بكر رضي الله عنه فخطب الناس خطبة في اليوم الثاني، فما استطاع من البكاء أن يتكلم، يتصور ذكريات الشباب والفتوة والحياة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، يتذكر من كان إماماً بهم وخطيباً، ويتذكر المسجد ومن بناه، ويتذكر هذا الدين ومن أتى به، فإذا هو قد مات، فما استطاع أن يتكلم لأنه يتدفق بالبكاء فقام عمر فتكلم كلمة أبي بكر وأثنى على أبي بكر.(326/3)
منجزات أبي بكر الصديق في عهد الخلافة
واستمر أبو بكر رضي الله عنه في الخلافة سنتين وستة أشهر وقيل أكثر أو أقل، لكنه ما بقي إلا فترة وجيزة، ومع ذلك فقد أنجز فيها منجزات نذكر بعضها ثم نخلص بدروس بعد ذلك إن شاء الله.
منها حروب الردة فقد ارتدت العرب أو أكثرها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقوم من العرب يقولون: الرسالة قد انتهت بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله قد ماتت، وقوم يقولون: الكتاب هذا قد انتهى بموت هذا الرسول ولو كان رسولاً حقاً ما مات، فارتدوا على أعقابهم كافرين، وطائفة من العرب ما ارتدوا وإنما أنكروا الزكاة، قالوا: كانت تدفع للرسول عليه الصلاة والسلام وقد مات، إذاً فلا ندفعها، حتى يقول شاعرهم:
رضينا رسول الله إذ كان بيننا فما بالنا نرضى بحكم أبي بكر
أيملكها بكر إذا قام بعده فتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فقام أبو بكر في يوم الجمعة وقال: [[ما رأيكم في من منع الزكاة؟ فقام عمر وقال: لا نقاتلهم ونأخذهم بالتي هي أحسن، وقال للصحابة: ما رأيكم؟ فقالوا: لا نقاتلهم، وقال للمسلمين من المهاجرين والأنصار: ما رأيكم؟ قالوا: لا نقاتلهم، وقال للعرب من المسلمين: ما رأيكم؟ فقالوا: لا نقاتلهم، فقام رضي الله عنه وسل سيفه وصعد المنبر وقال: والذي نفسي بيده لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، فقال عمر: فلما رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر لقتالهم علمت أنه الحق]] فقاتلهم وانتصر عليهم رضي الله عنه.
ومضى في زهدٍ وعبادةٍ، وفي تقوى لله، وكان رضي الله عنه يتميز بالخشية كما تقدم، فإنه يقوم يصلي بالناس فلا يدرون ما يقول من البكاء.
وفي صحيح البخاري لما مرض صلى الله عليه وسلم مرض الموت قال: {مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس} فتقول بنت أبي بكر عائشة: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام لم يسمعه الناس من البكاء، قال: {مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس}.
وحضرت أبا بكر الوفاة فمرض حتى مات يوم الإثنين، وفيه قال: متى توفي الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قالوا: يوم الإثنين، قال: ما هو هذا اليوم؟ قالوا: يوم الإثنين، فقبض في ذاك اليوم، ولما أتته سكرات الموت أتته ابنته عائشة فاقتربت منه وقالت: يا أبتاه! صدق الأول يوم يقول:
لعمرك ما يغني الثواء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فالتفت إليها مغضباً وقال: يا بنية! لا تقولي ذلك ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [قّ:19 - 22].
وقال: إذا أنا مت فاذهبوا ببغلتي هذه، واذهبوا بثوبي إلى عمر وقولوا لـ عمر: يا عمر! اتق الله لا يصرعنك الله مصرعاً كمصرعي، فذهبوا إلى عمر بالبغلة والثوب -هذا ميراث أبي بكر من الدولة الإسلامية، هذا الذي خلفه من تراثه وتجارته وكان أتجر الناس، لأنه قدم كل شيء في سبيل الله- فبكى عمر حتى جلس وقال: أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر.(326/4)
دروس من حياة أبي بكر رضي الله عنه
ونأخذ من هذا الدرس دروساً:
أولها: أن التفاضل بخشية الواحد الأحد، وليس بكثرة الصيام ولا الصلاة، ولا الزكاة ولو أنها من أسباب الخير؛ لكن إذا لم تؤد إلى الخشية فيبقى التفاضل بها نسبياً فأفضل الناس أخشاهم لله.
الأمر الثاني: أننا مهما فعلنا فلن نوازن ولو قلامة ظفر من فضل الصحابة رضوان الله عليهم، ولو أنفق أحدنا مثل أحد ذهباً أو فضة ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه.
الأمر الثالث: أن نوافل الأعمال هي المقربة من الواحد الأحد وهي التي تقرب العبد إلى الله، لا أسرته ولا وظيفته، ولا جاهه، ولا منصبه، لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {قال الله تبارك وتعالى -في الحديث القدسي- ما تقرب إلي عبد بأحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه}.
الأمر الرابع: أن التوكل على الله عز وجل لا ينافي الأخذ بالأسباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر تحصن بالدروع وأخذ السيوف والرماح صلى الله عليه وسلم، وكذلك أبو بكر، ومع ذلك يقول: {يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟} يقول بعض العلماء: ترك الأسباب قدح في العقل، والاعتماد عليها قدح في الشرع، والسلامة أن تجمع بين التوكل والسبب، وحتى نفهم هذا أضرب مثلاً بطالب يريد أن ينجح في الامتحان، قلنا له: ذاكر، فإذا ترك المذاكرة وقال: أنا أنجح متوكلاً على الله بدون مذاكرة ففي عقله شيء، وإذا اعتمد على المذاكرة ونسي الله فهذا قدح في الشرع.
وإذا قال: أنا أنجح بلا مذاكرة، ولا توكل على الله فقد قدح في العقل والشرع، ويمكن أن يصل إلى درجة النفاق، وإذا أخذ بالتوكل والسبب فذاكر وتوكل على الله، فهو المؤمن الكامل، وكذلك كان أبو بكر قال بعض أهل العلم: ومن شدة توكل أبي بكر على الله عز وجل أنه أنفق أمواله في سبيل الله وما خاف العنت، وقال بعض أهل العلم: إذا خفت لأنك ما بلغت هذا المستوى فلك أن تبقي بعض مالك، لأنه لا يصل إلى درجة أبي بكر إلا القليل من الناس، رضي الله عنه وأرضاه.
فهو أفضل الناس بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعتقد أهل السنة والجماعة أنه الصديق الأكبر وأنه أول الصحابة فضلاً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي خلافاً لأهل البدعة.
وقد روى ما يقارب مائة وثلاثة وثلاثين حديثاً أو قريباً من ذلك كما في مسند الإمام أحمد، وفيه كذلك فائدة أن العلم ليس بكثرة الرواية، وأن الخوف من الله ليس بكثرة الكلام وإنما هو بخشية الله الواحد الأحد.
أسأل الله أن يجمعنا وإياكم بـ أبي بكر الصديق، وأن يرينا وجه أبي بكر الصديق، وأن يجعلنا ممن يجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق.(326/5)
عمر بن الخطاب
ثانياً: عمر بن الخطاب وسنتعلم منه الزهد:
في درس رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه نتعلم الزهد والعدل والشجاعة، الزهد في سيرة رجل، والشجاعة في سيرة إمام، والعدل في سيرة حاكم، وكلها تجتمع في سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
هو أبو حفص أسلم متقدماً قيل: في الثامنة عشرة من عمره أو التاسعة عشرة، كان قبل أن يسلم ميتاً لا يعرف الحياة، لأن الحياة في كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم معناها الحياة بالإيمان والقرآن: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
كان شجاعاً رضي الله عنه، أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام متوشحاً سيفه يريد البطش بالمسلمين، فسمع أن أخته أسلمت فاستمع لقراءتها، ثم دخل فضربها فأدماها، فقال: ناوليني الصحف، قالت: أنت مشرك نجس لا أناولك شيئاً من القرآن حتى تتطهر، فقرأ شيئاً من القرآن، وقرأ تلك الليلة: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} [طه:1 - 4].
فدخل الإيمان قلبه، وامتلأ بلا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فبايعه على نصرة هذا الدين، فكان إسلامه نصراً لهذا الدين، ولشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.(326/6)
من فضائل عمر وسيرته
أما فضائله فكثيرة، وقبل أن أتعرض لسيرته أتعرض إلى بعض فضائله:
في الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {عرض علي الناس البارحة -يعني: في المنام- وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله -يعني ما تفسير ذلك؟ - قال: الدين} فدينه رضي الله عنه أصبح سابغاً ساتراً كالثوب الأبيض عليه.
وفي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: {أتيت البارحة بلبن فشربت حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم} فهو من أعلم الناس؛ لكن بخشية الله تعالى.
أما من كراماته فما ذكر صاحب تاريخ داريا بسند صحيح قال: وقف عمر رضي الله عنه يخطب الناس يوم الجمعة، وبينما هو في الخطبة إذ قطع الخطبة فجأة ثم رفع صوته يقول: يا ساريةُ الجبلَ يا ساريةَ الجبلَ! يا ساريةُ الجبل! فلما نزل قال الصحابة: مالك؟ قال: كشف الله لي الغطاء فرأيت جيش المسلمين في العراق ورأيت العدو قد حاصر سارية فناديته أن يعتصم بالله ثم بالجبل، وبعد شهر أتى سارية منتصراً فقالوا: هل أحسست بشيء؟ قال: في يوم الجمعة من شهر كذا سمعت صوت عمر والناس على المنابر يناديني يا سارية الجبل! فاعتصمت بالله ثم بالجبل فنصرني الله.
أما سيرته فحدث عن العدل وحدث عن الخشية وحدث عن الزهد ولا حرج.
أما في الزهد فقد ضرب المثال الأروع، يقولون: من يوم تولى الخلافة إلى أن توفي وعليه ملحفة واحدة يرقعها كلما تمزقت، وقد أتى سفير فارس إلى المدينة ليفاوض عمر، فدخل المدينة مع وفدٌ على مستوى عال، يريد أن يخاطب عمر بن الخطاب الذي دوى صيته في العالم، فسأل أين قصر عمر؟ قالوا: لا قصر له، قال: أين هو؟ قالوا: هذا بيته، وإذا هو بيت من طين، فذهب إلى البيت فضرب على الباب، فقال أهل عمر: ليس هنا، التمسه في المسجد فإنه ينام الضحى في المسجد، فذهب إلى المسجد والوفد معه وأطفال المدينة وجواري المدينة يلاحقون أهل فارس لأن عليهم الديباج والحرير في منظر بهيج ما رئي في الحياة، فما وجدوه في المسجد ودل الصحابة على مكانه فوجدوه تحت الشجرة نائماً ودرته -العصا- بجانبه، فوقف عليه هذا فأخذ يرتعد وأخذ يقول: هذا الخليفة؟ قالوا: هذا الخليفة، فقال: حكمت فعدلت فأمنت فنمت، يقول حافظ إبراهيم:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عطلاً وهو راعيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
إلى أن يقول:
فقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم ونمت نوم قرير العين هانيها
وفي عام الرمادة وهو عام القحط والجدب وقف على المنبر فقرقرت بطنه من الجوع وهو في الخطبة، فقطع الخطبة وقال لبطنه: [[قرقري أو لا تقرقري، فوالله لا تشبعي حتى يشبع أطفال المسلمين]].
وقال للناس في خطبة من الخطب وهو يتكلم إليهم: يا أيها الناس! اسمعوا وعوا، فقام سلمان الفارسي وقال: والله لا نسمع ولا نعي، قال: ولم يا سلمان؟! قال: أتكتسي ثوبين وتكسونا من ثوب واحد -كان يوزع من الغنائم من ثوب- فقال لابنه عبد الله: يا عبد الله! قم فأجب سلمان، قال: أما الثوب الثاني فإنه قسمي مع المسلمين أعطيته والدي، فقال سلمان: الآن قل نسمع وأمر نطع، فقال عمر: يا أيها الناس! ما رأيكم لو رأيتموني اعوججت عن الطريق هكذا، فقام أعرابي في المسجد وقال: يا أمير المؤمنين! والله لو رأيناك اعوججت عن الطريق هكذا لقلنا بالسيوف هكذا، فتبسم وقال: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من لو مال عن الطريق هكذا لقالوا بالسيوف هكذا.
أما معالم سيرته رضي الله عنه في العدل، فإنها تأخذ مجلدات ومؤلفات، ومن شاء فليطالع ما كتب الأعداء فضلاً عن الأصدقاء، فالإنجليز كتبوا في سيرته وعدله.
أما خشيته فلا إله إلا الله ما أخشاه لله! أخذ البكاء في خديه خطين أسودين، كان يقرأ غالباً في صلاة الفجر سورة يوسف، فإذا وصل إلى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] توقف حتى يسمع له نشيج وللمسجد غمغمة من البكاء، ومر بـ أبي بن كعب في صلاة التراويح، وعمر هو الذي جمع الناس وإن لم يصل معهم صلاة التراويح، بل كان يصلي في آخر الليل، وفي أثناء صلاة التراويح كان يجوب المدينة وينزل من سكة ويصعد الأخرى ويقف عند مفترقات الطرق، وعند مجامع الناس، وعند الأرامل، والأطفال، قال: والله لو أخذت شاة من المدينة لظننت أن الله يسألني يوم القيامة عنها، مر بـ أبي بن كعب وهو يقرأ في صلاة التراويح: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24 - 26].
قالوا: فألقى الدرة وهو في السكة يسمع القرآن ووقع على الأرض، قال ابن كثير: فعاده الناس من مرضه شهراً كاملاً رضي الله عنه وأرانا الله وجهه في مستقر الرحمة، فقد كان صادقاً مع الله، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحدث أنه لو كان أحد نبياً بعده لكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأجزل مثوبته.(326/7)
زهد عمر رضي الله عنه
أما تقشفه فإنه تعلمه في مدرسة الرسول عليه الصلاة والسلام، دخل على الرسول صلى الله عليه وسلم في مشربة، والرسول صلى الله عليه وسلم نائم على حصير قد أثر في جنبه، وما في المشربة -الغرفة- إلا شيء من شعير معلق، فأتى عمر ينظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فوجد الحصير قد أثر في جنبه فدمعت عينا عمر، فقال له صلى الله عليه وسلم: مالك يا ابن الخطاب؟ قال: يا رسول الله! ملوك فارس والروم في عيش هنيء وهم أعداء الله، وأنت حبيب الله في هذا العيش، قال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ قال: بلى.
فأخذ من ذلك درساً لا ينساه.
يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: اشتريت لحماً من السوق وذهبت به إلى أهلي، وإذا بـ عمر مقبلاً فخبأت اللحم تحت إبطي -حتى الصحابة يخافون منه، لأنه يحاسب الأمراء، ويحاسب الناس؛ ممن اشتريت؟ وماذا شريت؟ وماذا تريد؟ - فلقي جابراً فأمسكه فقال: ما هذا يا جابر؟ قال: لحم اشتهيته فاشتريته، قال: أكلما اشتهيت اشتريت! والله إني أعلمكم بما آكل ولكني أخشى أن أعرض على الله يوم القيامة فيقال لي: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الاحقاف:20].
ودخل عليه الحارث بن زياد أحد الأمراء، وقد كان يوم عرفة يحاسب أمراءه على الأقاليم، أمير العراق، أمير الشام أمير مصر أمير اليمن، وكان يأتي بالرعية ويقول: تكلموا عن أميركم وواليكم -في حوار مفتوح- فأتى إليه الحارث بن زياد في المدينة فرأى عمر يأكل خبز الشعير بالزيت، فقال: يا أمير المؤمنين! إنك أحق الناس بالعيش الهنيء والمركب الوطيء قال: ثكلتك أمك، والله لا تتولى لي ولاية، ظننت أنك تعينني على طريق الآخرة فإذا أنت تهوشني أو تهرشني على الدنيا، فعزله.
وفي المدينة وهو جالس مع الصحابة رضوان الله عليهم من بقية العشرة المبشرين بالجنة، وعلماء الصحابة وهم ملء المسجد، وإذا برجل مصري يدخل ويبكي، فقال عمر: مالك؟ قال: ابن أميرك على مصر ضربني، قال: ولم؟ قال: سابقته على فرس فسبقته فقال: أتسبقني وأنا ابن الأكرمين، فضربني.
قال عمر: والله لأقتصن لك منه، ثم قال: عليَّ بـ عمرو بن العاص فأرسل إليه وحبس المصري القبطي عنده، فوصل عمرو بن العاص وابنه محمد فجمع عمر الصحابة كلهم ثم أخذ درته، وقال للصحابة: والله لا يحول بيني وبين عمرو بن العاص أحد، هذا الوالد، أما حساب الولد فسوف يأتي فيما بعد، فقام يضربه فيقول عمرو بن العاص داهية العرب: الله الله في رأسي، فقال: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً]] انظر إلى هذه الكلمة التي تسجل من نور، ثم قال للمصري: خذ العصا واضرب ابن الأكرمين، فأخذ يضربه فيصيح قال: اسكت فإنك أنت ابن الأكرمين -يستهزئ به- فلذلك علَّم رضي الله عنه بسيرته وبكلامه العدل.(326/8)
عبادة عمر رضي الله عنه
أما عبادته: فأعظم عبادة الصدق مع الله، وقف عند الجمرات في آخر حجة حجها وقال: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتةً في بلد رسولك، قال له الصحابة: من يريد الشهادة يا أمير المؤمنين يخرج إلى قتال الأعداء، ولا يقتل في المدينة قال: هكذا سألته وأسأل الله أن يلبي لي ما سألت، وعاد إلى المدينة، وفي أول ليلة رأى في المنام كأن ديكاً نقره ثلاث نقرات، فذهب في الصباح إلى أسماء بنت عميس الخثعمية زوجة جعفر بن أبي طالب زوجة الشهداء، هذه المرأة الصالحة ما تتزوج رجلاً إلا ويقتل شهيداً، حتى قال بعض الصحابة: من أراد الشهادة فليتزوج أسماء، قيل تزوجها ثلاثة أو أربعة كلهم قتلوا في سبيل الله، كانت تعبر الرؤيا.
قال: يا أسماء! قالت: نعم.
قال: رأيت البارحة كأن ديكاً ينقرني ثلاث نقرات فما تأويل رؤياي؟ قالت: يقتلك رجل من العجم، فاستودع الله نفسك يا أمير المؤمنين! فذهب فصعد المنبر آخر جمعة فأخذ يبكي ويقول: يا أيها الناس! من ظلمته أو شتمته أو اغتصبت شيئاً من ماله فليقتص مني قبل ألا يكون درهم ولا دينار.
وفي صباح السبت وما أدراك ما صباح السبت؛ قام ليصلي الفجر، ولما قرأ في الركعة الأولى من سورة يوسف بكى وبكى الناس فركع، وتقدم له أبو لؤلؤة المجوسي بخنجر سمه شهراً كاملاً حتى أصبح الخنجر أزرق من السم، والسبب أنه حاقد، وأن وراءه عصابة من أهل فارس وأخذ له حجة أن عمر رضي الله عنه ما حكم بينه وبين مولاه، فضرب أمير المؤمنين ثلاث طعنات فوقع صريعاً على الأرض، وهو يقول: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، فحمل، وأكمل الصلاة ابن عوف وعاد أبو لؤلؤة فقتل سبعة أو ستة ثم قتل نفسه، أما عمر فحمل على أكتاف الرجال فكان يفتح عينه وهي تمتلئ بالدموع ويقول: هل أتممت الصلاة؟ قالوا: لا.
فيقول: الله المستعان، وصل إلى بيته ووضع على الأرض فوضعوا رأسه على مخدة فقال: انزعوا المخدة من تحت رأسي علَّ الله أن يرحمني، ثم قال له ابن عباس: طوبى لك يا أمير المؤمنين! أسلمت فكان إسلامك نصراً، وهاجرت فكانت هجرتك فتحاً، وتوليت فكانت ولايتك رحمة، أسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك، قال: يا ليتني نجوت كفافاً لا لي ولا علي، ثم فاضت روحه بعد أن أكمل صلاة الفجر رضي الله عنه.
وسيرته طويلة طويلة ولا يمل الإنسان من سيرة عمر، يقول ابن مسعود: إذا ذكر الصالحون فحيهلاً بـ عمر.
قل للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها(326/9)
دروس وعبر من سيرة عمر
وفي سيرته دروس:
أولها: أنه لا ينبل العبد ولا يقرب من الله إلا بالصدق والإخلاص، وقد تجلت هذه في سيرته.
الدرس الثاني: أن الزهد من أعظم الأعمال عند الله عز وجل، زهد أهل السنة لا زهد أهل البدعة، وهو الزهد في الحرام والمكروه، والزهد في المباح الذي يشغلك عن طاعة الله، قال ابن تيمية: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة.
هذه الكلمة تحفظ، لأن بعض الناس الآن يزهد في الثياب، وربما لا يشتري سيارة، ولا يسكن فلة، ثم يتعطل عن كثير من الفرائض والعبادات بسبب ترك هذه الأمور، وهذا ليس من الزهد، إذ الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، أما ترك ما ينفع في الآخرة فحمق، وكل شيء لا ينفعك في الآخرة؛ مثل كثرة الثياب والسيارات، وكثرة المال إذا لم تنفق منه في مرضاة الله، أما إذا أنفقت من المال وخدمك في الآخرة ورفع درجتك فليس تركه من الزهد بل من الحمق.
الدرس الثالث: العدل؛ وهذا على مستويات أدناها أن تعدل -كما يقول ابن تيمية - بين طالبين أو بين تلميذين، لو عرض لك تلميذان لتصحح لهما فظلمت أحدهما لقيت الله يوم القيامة ظالماً، والظلم يدخل على رب الأسرة بأن يحكم بين بناته أو أطفاله فيقدم هذا ويؤخر هذا، وقد أتى والد النعمان بن بشير إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أريد أن تشهد أني أعطيت النعمان هذا المال، قال: ألكل ولدك أعطيت ذلك؟ قال: لا، قال: استشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ومن الظلم ظلم القضاة، وظلم المسئولين على كافة مستوياتهم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}.
ومن الدروس: أن الرؤيا الصالحة للمؤمن من المبشرات، ولكن لا تبنى عليها أحكام، فإذا رئيت لك رؤيا صالحة فاحمد لله، أو رأيت لرجل من الصالحين رؤيا فأخبره بها فهي من المبشرات التي تركها صلى الله عليه وسلم لنا.
ودرس أخير: أن عمر عند أهل السنة والجماعة هو في المرتبة الثانية بعد أبي بكر، ثم عثمان ثم علي؛ هذا ترتيبهم عند أهل السنة ولو خالف أهل البدعة، لأن أهل الرفض نسأل الله أن يعافينا مما أصابهم يسمون أبا بكر الجبت، ويسمون عمر الطاغوت، أولئك {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104].(326/10)
عثمان بن عفان
ثالثاً: أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ونتعلم من سيرته ثلاث مسائل:
أولها: الحياء.
وثانيها: البذل.
وثالثها: الخشوع.
الحياء والبذل والخشوع كلها في سيرة عثمان رضي الله عنه.
كان صلى الله عليه وسلم جالساً في بيته معه أبو بكر وعمر بل ورد في الرواية عن عائشة أنه كان صلى الله عليه وسلم كاشفاً عن فخذه، وقيل عن شيء من ساقه، فدخل أبو بكر فما تزحزح صلى الله عليه وسلم عن مكانه، ودخل عمر فما غير مجلسه، فلما دخل عثمان ستر صلى الله عليه وسلم رجله، فلما انتهوا قالت عائشة: يا رسول الله! دخل أبو بكر فما تغيرت، ودخل عمر فما حولت مجلسك، ثم دخل عثمان فرأيتك تسترت، قال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة.
فالرجل الذي تستحي منه الملائكة هو عثمان بن عفان، يقول: والله ما مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول عنه أهل السير: ما اغتسل إلا جالساً حياء من الله، هو في الظلام يغتسل لكن معه الله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] والاغتسال واقفاً حلال ومباح، لكنه يجلس حياء من الله:
حياء من إلهي أن يراني وقد ودعت دارك واصطفاكا(326/11)
خشوعه رضي الله عنه
ونتعلم من عثمان رضي الله عنه مع الحياء الخشوع، فقد كان ابن عباس رضي الله عنه إذا قرأ: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] يقول: ذاك عثمان بن عفان، وقال المروزي في كتابه قيام الليل: صح عن عثمان وصحح هذا السند ابن حجر في فتح الباري أنه قام بالقرآن في ركعة واحدة من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر في الحرم، والقصة مفادها أنه دخل الحرم وهو متلثم لئلا يراه إلا الله، وهو أمير المؤمنين الخليفة الذي إليه السلطة العليا في الدولة الإسلامية، فدخل وكان يحفظ القرآن، فاقترب من المقام بعد صلاة العشاء فكبر، فقرأ القرآن من أوله، وانتهى ومؤذن الفجر يؤذن، في ركعة واحدة.
يقول أهل السير: وقد صح عنه أنه كان يفتح القرآن بعد صلاة الفجر فيقرأ حتى صلاة الظهر فيقول الصحابة: لو خففت على نفسك يا أمير المؤمنين! فيقول: لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من القرآن، فهذا درس في الخشوع، والثابت عنه أنه كان يتوضأ في الليل ثم يقرأ ويصلي ويبكي، ثم يعود ينام قليلاً، فما يأتيه النوم من الخوف، ثم يقوم ويتوضأ، وهكذا حتى يطلع الفجر، فهو القانت بالقرآن، وهو المتدبر للقرآن، يقول حسان في مرثيته لـ عثمان بعد أن قتل:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
يقول: هؤلاء المردة الفجرة ضحوا برجل عنوان السجود في وجهه، أشمط أي: شيخ لأنه بلغ الثمانين، يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً، وسوف نأتي إلى مصرعه في آخر هذا الدرس إن شاء الله.(326/12)
بذل عثمان رضي الله عنه
أما البذل فلا تسأل عنه، فهو من أكرم الناس يريد بذلك ما عند الله، ويشتري الجنة بماله، وله مواقف نبيلة في الإسلام لا يفعلها إلا مثله من الأخيار، وحينما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجهز جيش تبوك وهو ثلاثون ألفاً، ارتقى عليه الصلاة والسلام المنبر في شدة الحر وقال لتجار الصحابة وأغنيائهم: من يجهز جيش تبوك وله الجنة! فسكت الناس لأنه ثلاثون ألفاً يحتاج إلى إبل وخيول ومال كثير، فمن يجهزه ضمن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة.
وكما سبق معنا أن ابن القيم قال: أنزل الله عقداً من السماء أملاه بنفسه، ووقع عليه محمد صلى الله عليه وسلم، وقبض الثمن الله، أما الثمن فأرواح المؤمنين، وأما السلعة فالجنة، وأما الشاهد فجبريل، قال فبايع محمد صلى الله عليه وسلم الصحابة في مجلس العقد، فانفض المجلس والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تفرقا فقد وجب البيع، فقال عليه الصلاة والسلام: من يجهز جيش تبوك وله الجنة؟ فسكت الناس، فقام عثمان وسط الناس بشخصه كأنه النجم، أو كأنه العلم وسط الناس وقال: أنا يا رسول الله! فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: {اللهم اغفر لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم}.
يقول: لو فعل الذنوب فإن هذه الجبال من الحسنات تأتي عليها فلا يضره ما يفعل، وهو لن يفعل شيئاً؛ لأن الله ثبته بالقول الثابت، لبذله في سبيل الله وبيعه نفسه من الله، وظمئ الصحابة فقال عليه الصلاة والسلام: {من يشتري بئر رومة وله الجنة؟}.
مشاريع الخير ليست تلاوة فقط، وليست ركعات، وليست تسبيحات، وليست صلاة ليل فقط، بل هي إيصال النفع للمسلمين، وهي أن تحيي أرواحاً، وتملأ بطوناً، وتروي أكباداً، هذا هو الإسلام قال: {من يشتري بئر رومة من اليهود وله الجنة؟} فاشتراها عثمان، فكان الصحابة يشربون من عطش ويبكون ويقولون: سقى الله ابن عفان من سلسبيل الجنة، غاب عن بدر، ولماذا غاب عن بدر؟ لأنه يمرض بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد زوجه أغلى شيء في حياته بعد هذا الدين، فمرضها فماتت، فزوجه عليه الصلاة والسلام الثانية فمرضت وماتت، وأخذ صلى الله عليه وسلم في مجلس الحزن بعد موت الثانية يقول: {يا عثمان! والذي نفسي بيده لو كان عندنا غيرها لزوجناك} ثم كناه صلى الله عليه وسلم (ذا النورين) ويستحق كل خير، وتخلف عن بيعة الحديبية والسبب أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يفاوض كفار قريش لما أراد أن يزور مكة، فوقف له كفار قريش بالمرصاد، وأصبح قاب قوسين أو أدنى من المعركة والقتل، فقال صلى الله عليه وسلم: {من يذهب يفاوض قريش؟ قم يا ابن الخطاب} يعني: عمر، فقال عمر: يا رسول الله! أنا رجل صاحب فعائل في قريش -وصدق، أي: أنا لساني وسيفي فعلت أفعاعيل، وسوف ألقى جزائي بالمرصاد، هذا معنى الكلام- وأسرتي ضعيفة يا رسول الله! فأرسل رجلاً تحبه قريش وأسرته تحميه، قال: من هو؟ قال: ابن عفان فقال عليه الصلاة والسلام: {قم يا عثمان} فقام على جمل أحمر ووصل إليهم فحبسوه في الضيافة ثلاثة أيام، وأتى الخبر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأن عثمان قتل، وما قتل ولكنهم يضيفونه وتكرمه أسرته، فقال عليه الصلاة والسلام: عليَّ بالناس، فاجتمعوا جميعاً وظن أن عثمان بل تأكد أن عثمان قتل، فبايعهم على الموت، فلا حياة ولا استقرار ولا أمن حتى ينتصف من دمائهم، فلما وصل إلى بيعة عثمان قال صلى الله عليه وسلم: {وهذه عن عثمان}.
قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:18].
وتوفي عليه الصلاة والسلام وبقي عثمان على العهد ينفق أمواله في سبيل الله، وإذا أظلم الليل وسكنت المدينة خرج وهو خليفة بالطعام على ظهره يطرق على الأيتام والمساكين والأرامل ويعطيهم الحبوب، والزبيب، والدقيق، والتمر ثم يعود يصلي إلى الفجر، يقول أحد السلف: والله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت عثمان يطعم الناس الثريد -والثريد الخبز مع اللحم- وإنه ليأكل خبز الشعير مع الزيت وهو خليفة!
كان وجهه كفلقة القمر من كثرة تلاوته للقرآن، ومن انكب على القرآن والذكر فبإذن الله بعد سنوات يكون ووجهه كالنور، لأن القرآن نور على نور: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
وصعد صلى الله عليه وسلم جبل أحد معه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وقيل الزبير، فارتج جبل أحد والحديث صحيح، سبحان الله! من جعل الجبال ترتج لهؤلاء النفر، ولهؤلاء الجيل الذين ساروا على الأرض؟ لا أطهر منهم إلا الأنبياء والرسل، سبحان الله! من جعل جبل أحد كما في صحيح البخاري {يحبنا ونحبه} يقول سيد قطب: الله أكبر حتى الجبال تحب المؤمنين، والمؤمنون يحبون الجبال، نعم.
وبعض الجبال تكره المؤمنين والمؤمنون يكرهونها.
{جبل أحد يحبنا نحبه} وهو من جبال الجنة، وجبل عير من النار، فالرسول صلى الله عليه وسلم يحب هذه الجبال لمعانٍ الله أعلم بها، وهذا قديم عند العرب حتى يقول مجنون ليلى:
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
يقول يأتي إلى قرية ليلى وليست فيها ليلى فيأتي يقبل الجدران، والسكك، والحوائط لأنها سكنها يقول:
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
فالمؤمنون يحبون هذا، والشاهد أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ أحد: {اثبت فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد} وبالفعل كان عثمان من الشهداء.(326/13)
فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه
أتته شهادته وهو يقرأ القرآن على فراش الموت، عاش ثمانين سنة كلها في سبيل الله، وثار عليه ثوار والله الحكم العدل يحكم بين عباده في مقعد صدق عند مليك مقتدر؛ في يوم العرض الأكبر: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
صام في آخر يوم من حياته لله عز وجل، وكان كثير الصيام، ونام قبل العصر فاستيقظ وقال لأهله: أنا أفطر في الجنة إن شاء الله هذه الليلة، قالوا: كيف؟ قال: رأيت الرسول عليه الصلاة والسلام وأبا بكر وعمر فقال لي صلى الله عليه وسلم: يا عثمان! سوف تفطر عندنا الليلة، وبعد صلاة العصر بدأ الهجوم واقتحام منزله رضي الله عنه من ثلة من الثوار المتمردين على الدولة الإسلامية من مصر، من لفائف وسفل وثوار ومتمردين مشاغبين، تجمعوا ثم اقتحموا منزله، وكانوا قبلها بيوم منعوا عنه الطعام والشراب، وحاصروه وكان صائماً فرئي كما في السير أنه قال: أتيت بدلو ماء بارد فشربت وأنا في النوم حتى رويت، وأما في اليوم الآخر من حياته رضي الله عنه فاقتحموا منزله ودخلوا عليه وهو يقرأ: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137] حتى وقعت دماؤه على هذه الآية، ضرب بالسيف على رأسه، ما قاتل أبداً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يا عثمان! إنك سوف تقمص قميصاً فإذا أراد الناس أن تنزعه فلا تنزعه} والقميص هي: الخلافة، وقال بعض أهل العلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصاه قال: لا تدافع عن نفسك، كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل، فما دافع، وقال للحسن بن علي والحسين وعبد الله بن الزبير وهم يذبون عنه: أسألكم بالله إن كان لي عليكم طاعة فإني أمير المؤمنين أن تتركوني وتتركوا الناس، ولن أدافع عن نفسي، فاقتحموا عليه فضربوه بالسيف فرفع صوته فقال: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137] وسالت دماؤه على المصحف، يقول أحمد شوقي:
جرحان في كبد الإسلام ما التأما جرح الشهيد وجرح بالكتاب دمي
يقول: جرحان في الإسلام ما التأما، جرح عثمان وجرح القرآن في كبد الأمة الإسلامية لم يلتئم بعد.
ولف رضي الله عنه ودفن ليلاً في البقيع ولم يكن في مقبرة الرسول صلى الله عليه وسلم أو قريباً من الغرفة التي دفن فيها صلى الله عليه وسلم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر دفنوا متقاربين متجاورين، القبر الأول قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن عند أكتافه يبدأ رأس أبي بكر ومن عند أكتاف أو صدر أبي بكر يبدأ عمر، وأتي ب عثمان ليدفن هناك فمنع الثوار دفنه فدفن في البقيع.
وفي البخاري من حديث سعيد بن المسيب أن أبا موسى قال: {خرج صلى الله عليه وسلم فالتمسناه أين يذهب قال: فوجدناه قد خرج إلى مزرعة رجل من الأنصار فأتيت فوجدته قال: فدخلت وراءه وقلت: لأكونن حارس رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم، لا يدخل أحد إلا بإذن، وهو وحده صلى الله عليه وسلم قال: فأتى إلى بئر رجل من الأنصار فدلى رجليه في البئر وجلس عليه الصلاة والسلام.
قال: ولما جلست عند الباب قلت: يا رب! تعال بأخي أبي عامر، عله أن يدرك شيئاً أو دعوة في هذه الخلوة، قال: فإذا بطارق يطرق قلت: من؟ قال: أبو بكر، قلت: انتظر أستأذن لك من رسول الله، قلت: يا رسول الله! أبو بكر، قال: ائذن له وبشره بالجنة، قال: فأذنت له فأتى على يمين الرسول عليه الصلاة والسلام فدلى رجليه في البئر كما فعل صلى الله عليه وسلم، -لأنهم يشاركونه في الحركات والسكنات لأنه المعلم العظيم- قال: فطرق الباب طارق، قلت: من؟ قال: عمر بن الخطاب - انظر إلى هذين يعيشان سواء، شيخا الإسلام، هذا الأول وذاك الثاني دائماً؛ حتى وضع حجر أساس مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أتى صلى الله عليه وسلم بالحجر فوضعها فقام أبو بكر فوضع الثانية وعمر وضع الثالثة فعرف الناس أن رجل الساعة أبو بكر ثم عمر وهكذا قال: ائذن له وبشره بالجنة، قال: فأذنت له، فأتى حتى جلس عن يسار الرسول صلى الله عليه وسلم فدلى رجليه في البئر، قال: فإذا بطارق قلت: من؟ قال عثمان، قلت: انتظر استأذن لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فاستأذنت له فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه.
قال: فأتيت فقلت: ادخل يبشرك الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبك، قال: الله المستعان} -وهي في صحيح البخاري، وهي كلمة حارة ومحزنة، (الله المستعان) أي: لا يستعان إلا بالله عز وجل- فدخل القف -هكذا يسمى- فوجده قد امتلأ فأتى فقابل الرسول عليه الصلاة والسلام وأبا بكر وعمر ثم دلى أرجله مقابلاً لهم.
قيل لـ ابن المسيب: فما أولت ذلك؟ قال: قبورهم، وأصاب فإنهم مجتمعون في مكان واحد وهو نازح في البقيع رضي الله عنه.(326/14)
دروس من حياة عثمان
وسيرته طويلة رضي الله عنه لكن أخذت منها نقاطاً نتعلم منها الخشوع والبذل والحياء.
أما الحياء فكله خير كما قال عليه الصلاة والسلام، وتعريفه من سيرة عثمان: أنه ما صدك عن المحارم، فالحياء الذي يصدك عن المحارم هو الذي يحبه الله، أما الذي يمنعك عن طلب العلم، أو التفقه في الدين، أو سؤال العلماء، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فليس من الحياء في شيء بل هو الخجل المذموم.
وفي البخاري موقوفاً على مجاهد بن جبر المفسر قال: لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر، فلا ينبغي أن يكون بينك وبين العلماء حاجز؛ أن تقول: أستحي أن أسأله أو أن أناقشه في أمور منزلية، أو عائلية أو شخصية، لا.
بل اسأله {إنما شفاء العي السؤال} كما قال عليه الصلاة والسلام، وقالت عائشة: [[نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين]] وكان أكثر الناس حياء موسى عليه السلام وهو القوي الأمين، حيي لكن عن المحارم، بنت الرجل الصالح -قيل شعيب وقيل غيره- لما أتت تدله على منزل أبيها قال: تعالي ورائي، انظر إلى الأمين الذي يحفظ الله في الغيب، حتى لا ينظر إلى شيء منها، فكانت وراءه فكانت تقول: خذ يمينك، خذ يسارك، الطريق من هنا، الطريق من هناك حتى وصل إلى بيت أبيها، قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26]
أما القوة فزحزح الصخرة ولا يستطيع لها عشرة، وأما الأمانة فرأته في الطريق، ولذلك رزقه الله عز وجل الرسالة الخالدة ورفع الله اسمه، وأنتم تسمعون في صلاة التراويح ما نقرأ صفحات إلا ويطالعنا حديث موسى، نعيش كما قال سيد قطب: معركة نسف وإبادة مع بني إسرائيل في هذه الليالي، يا بني إسرائيل، ولقد أرسلنا موسى، وإذ قال موسى، وواعدنا موسى، حتى قال بعض علماء الإسلام: كاد القرآن أن يكون لموسى، هذا هو الحياء المطلوب في الإسلام.
وأما البذل: فهو البذل في سبيل الله بلا رياء ولا سمعة، بعض الناس يبذل للرياء والسمعة ملايين مملينة أو ألوفاً مؤلفة، ولكنه في الخير من أبخل الناس، وهذه صفة اليهود: {يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37]
والبذل ليس فقط بالمال، بل قد يكون بالجاه؛ بأن تبذل جاهك عند المسئول شفاعة للناس، وقد يكون بالبسمة الحانية الرقيقة لإخوانك المسلمين، وقد يكون بأن تجود بوقتك لزوارك وضيوفك وللدعوة، يقول ابن القيم عن رجل: من كرمه أنه يسامر ضيفه ولا ينام حتى ينام الضيف.
متيم بالندى لو قال سائله هب لي فديت كرى عينيك لم ينم
أي: لو قال له الضيف أرجوك لا تنام لقال: لن أنام هذه الليلة، فهذا الكرم بالوقت، والكرم بالعلم، وهو أن يبذله لمستحقيه، وقد ذكر الله عز وجل ذلك في كتابه.
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود
وأما الخشوع فهو سيرة عثمان الدائمة، فالقرآن والبكاء، والمناجاة في السحر حين ينزل الله في الثلث الأخير فيعطي من سأل، ويغفر لمن استغفر، ويتوب على من تاب هي ديدنه.
سلام على عثمان في الخالدين، وألحقنا الله به في الصالحين، وأجلسنا معه في مقعد صدق عند رب العالمين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، يوم يتقبل الله عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.(326/15)
علي بن أبي طالب
رابعاً: علي بن أبي طالب.
أبو الحسن رضي الله عنه وأرضاه رابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو بمكانة هارون من موسى من الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي غزوة خيبر قال عليه الصلاة والسلام للصحابة قبل أن يناموا: {لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه}.
قال عمر ما أحببت الإمارة إلا في تلك الليلة، لأن من مواصفات هذا الأمير أنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وفي الصباح قال عليه الصلاة والسلام: أين علي بن أبي طالب؟ قالوا: يا رسول الله! هو مريض بالرمد، والله ما يرى مد يده، قال: عليَّ به، فذهبوا فأخذوا بيديه يقودونه حتى وقف بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام، فبصق في عينيه، لأن ريق الرسول عليه الصلاة والسلام فيه بركة، وفيه من الخير ما الله به عليم، فإذا هو يبصر وقبلها يقول: اذهب، قال: والله يا رسول الله! ما أرى مد يدي، وقال: ادن مني، فدنا فتفل في عينيه فإذا هو يبصر، وقال: اذهب علَّ الله أن يفتح عليك، ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم، فذهب يهرول إلى حصن خيبر فنزل له مرحب اليهودي بطل من أبطال اليهود الشجعان، والشجعان في اليهود قليل لأن اليهود من أجبن الأمم في الأرض، لكن قد تأتي نادرة، ولكل قاعدة شواذ، فجاء مرحب هذا فنزل بالسيف وعليه لأمة، وكان كبير الجسم وأخذ يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
وما درى مرحب أن أمامه علي بن أبي طالب، وما درى أن أبا الحسن له بالمرصاد، شاب يشرب الموت مثل ما نشرب الماء، فنزل علي بن أبي طالب وقال:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة
وحيدرة اسم الأسد، وللأسد عند العرب تسعة وتسعون اسماً، منها حيدرة، وقد كانت أمه تلاعبه وهو صغير وتقول: حيدرة، فقال:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة
كليث غابات كريه المنظرة
أكيلكم بالسيف كيل السندرة
فاختلفا ضربتين، ثم ضربه علي بن أبي طالب فأطار رأسه كأنه ما خلق له رأس، وعاد يكبر ويهلل ويكبر معه المسلمون ويهللون.
وخرج عليه الصلاة والسلام إلى تبوك فأراد رجلاً أميناً ليكون على أهله وقرابته وعلى نساء المدينة، فاختار علي بن أبي طالب وقال: أنت خليفتي في المدينة، فلما خرج صلى الله عليه وسلم من المدينة جاء المنافقون إلى علي، وانظر إلى أهل الغش والدسائس قالوا: ما تركك إلا تثاقلاً منك، فلبس سلاحه يريد أن يخرج إلى الغزوة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فلقيه وهو يبكي ويقول: يا رسول الله! تثاقلت مني وتركتني، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: {أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي} فأعاده إلى المدينة
وفي سيرة علي ثلاث مبادئ:
المبدأ الأول: مبدأ الشجاعة.
المبدأ الثاني: مبدأ الزهد.
والثالث: مبدأ الفصاحة.(326/16)
شجاعة علي رضي الله عنه
أما الشجاعة: فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يبارز جيشه جيش الكفار، انتدب علي بن أبي طالب، فحين أتى عمرو بن ود في الخندق وهو من أشجع الأبطال في العرب فقال: من يبارز؟ من يبارز؟ فسكت الصحابة، فقال علي: أنا يا رسول الله! وعلي في تلك الفترة في الثانية والعشرين أو الثالثة والعشرين من عمره، فيلتفت عليه الصلاة والسلام ويقول: إنه عمرو بن ود، قال: ولو كان عمرو بن ود، وفي المرة الثانية قال: من يبارز؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: إنه عمرو بن ود، قال: ولو كان عمرو بن ود، وفي الثالثة يخرجه عليه الصلاة والسلام فخرج يكبر، فلما التقيا قال عمرو بن ود: من أنت؟ قال: علي بن أبي طالب، قال: حيهلاً بك يا بن شيخ الأباطح، لأن أباه أبا طالب شيخ مكة، ثم بدأ الصراع، يقول عمرو بن ود قبل المبارزة: والله ما أريد أن أهريق دمك وحلف بلاته وعزاه، فقال علي: ولكني والله الذي لا إله إلا هو أريد أن أهريق دمك، فاختلفا ضربتين وخيم الغبار على البطلين ثم انكشف الغبار وإذا علي رضي الله عنه على صدر ذاك، وذبحه كما تذبح الشاة، وعاد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
وفي بدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، يوم تجلى الله إلى أهل بدر قال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، قال كفار قريش: أعطنا ثلاثة نبارزهم فكان منهم علي بن أبي طالب فإنه من أشجع الناس، وفي قلبه شجاعة الله بها عليم، يقولون: كان يخوض معارك العراق كما ذكر ذلك ابن جرير وغيره فكان يأتي في الضحى فيقول بالسيف هكذا فيتقاطر الدم على كفه، ويقول به هكذا فيلمع مع الشمس، وكان إذا بارز رجلاً خلع درعه ونازله بلا درع، وهو الذي يقول:
أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر
جلس عند جدار يقضي بين رجلين وهو الحاكم، وكان أميراً للمؤمنين، وإذا بالجدار يريد أن ينقض عليهم، فمر رجل فقال: يا أمير المؤمنين! الجدار يريد أن ينقض عليكم، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالوا: فلما قضى بين الاثنين وقام انهد الجدار مكانهم.
وكلمة (حسبنا الله ونعم الوكيل) هي شعار الموحدين، قال ابن عباس: [[حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم يوم قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
فقد كان شجاعاً لأنه موقن بلقاء الله، ويعرف أنه لا يتقدم على أجله ولا يتأخر.(326/17)
زهده رضي الله عنه
أما زهده في الدنيا فحدث عنه ولا حرج، فقد عاش الفقر، أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب ابنته فاطمة التي والله لو كانت الدنيا ذهباً وفضة ما تساوي إصبعاً من أصابع فاطمة، ومحمد إقبال شاعر الباكستان يقول في فاطمة:
هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟ من ذا يساوي في الأنام علاها
أبوها محمد صلى الله عليه وسلم، وزوجها علي بن أبي طالب، أبناؤها الحسن والحسين.
أما أبوها فهو أكرم مرسل جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي زوج لا تسل عنه فما أزكى شمائله وما أنداها
إيوانه كوخ وكنز ثرائه سيف غدا بيمنيه تياها
في روض فاطمة نما غصنان لم ينجبهما في الكائنات سواها
أتى علي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يخطب ابنته فخجل علي ولم يتكلم في الموضوع، لأنه أمام سيد البشرية ومعلم الإنسانية ومزعزع كيان الوثنية صلى الله عليه وسلم:
حياء من إلهي أن يراني وقد ودعت دارك واصطفاكا
فجلس، فقال صلى الله عليه وسلم: ماذا تريد يا بن أبي طالب؟ كأنك تريد فاطمة، قال: نعم.
قال: هل عندك مهر تدفعه؟ قال: لا والله يا رسول الله! ما عندي شيء.
لا شيء عنده؛ لكن له قلب يؤمن بالله، وعنده رسالة خالدة، ودم يقدمه لخدمة هذا الدين، ونفس أغلى من الدنيا وما فيها، ولذلك يهون الذهب، وتهون الفضة، ويهون المنصب والوظيفة، ولا تساوي بلا إيمان الحذاء التي نطؤها.
قال: ما عندك شيء؟ قال: ما عندي شيء، قال صلى الله عليه وسلم: التمس لعلك تجد شيئاً، فنكس رأسه يفكر، لا خزائن ولا بنوك، لا شيكات ولا وظائف، ولا شيء، قال: يا رسول الله! عندي الدرع الحطمية التي أخذتها، درع مكسرة في البيت يلبسها علي في المعركة، لأنه عسكري دائماً ليل نهار.
فقال عليه الصلاة والسلام: عليَّ بها، قال علي: فأتيت بها والله ما تساوي درهمين فعقد له صلى الله عليه وسلم وقال: {بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير} وبدأ الحياة في بيت متواضع أظنه والله أعلم على طول الرجل كما وصف، وفراشه فرو متواضع يقول: {زارنا صلى الله عليه وسلم أنا وفاطمة على فرو حتى وجدت برد قدميه صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أدلكما على خير لكما من خادم؟ قالوا: بلى.
قال: تسبحان الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدان الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبران الله أربعاً وثلاثين عند النوم، فذلكما خير لكما من خادم}.
فهذا أحسن من جارية، وممن يخدمكم، فكان علي يأتي في الصباح إلى هذا الفرو فيضعه على الفرس، وفي الليل يفترشه وفاطمة ليناما عليه، لكن: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} [الإنسان:8 - 13].
هل سمعت أبلغ من هذا الكلام، والله إنه ليهزنا ويقيم شعر الرأس من بلاغته: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} [الإنسان:12 - 13] الآيات.
يقول علي: انتهى طعامنا من البيت أنا وفاطمة فقالت في الصباح: اذهب فالتمس لنا طعاماً، وليس لديهم مزرعة ولا وظيفة ولا مال، ولا بيت مؤجر ولا مساهمات في شركات، قالت فاطمة: اذهب فالتمس لنا رزقاً علَّ الله أن يرزقك هذا اليوم -للبطون فقط- قال: فأخذت عليَّ فرواً من البرد ثم تسللت إلى أرض اليهود، فدخلت على يهودي وهو يسني على السواني، وكانوا ينزحون الماء من البئر على الجمل، فقال اليهودي: يا غلام! وهو لا يدري من هو؛ إنه أبو الحسن من عظماء الدنيا، يا غلام! قال: نعم.
قال: أتنزع لي غرباً بتمرة؟ قال: نعم.
أنزع فكان علي كلما نزع غرباً أعطاه اليهودي تمرة حتى ملأ يديه، ويوم ملأ يديه ذهب، فلقيه صلى الله عليه وسلم فقال: أين كنت يا بن أبي طالب؟ فأخبره، فقال: أين التمر؟ فأراه فدعا له صلى الله عليه وسلم بالبركة، وأكل منه تمرة، والبركة ما بقي من أكله صلى الله عليه وسلم تعادل الدنيا، فذهب إلى فاطمة فأخذ يأكل معها، فتلك حياة علي رضي الله عنه حياة الزهد.
ولذلك تولى الخلافة ومكث فيها خمس سنوات، وكان يأتي يوم عيد الفطر وقيل عيد الأضحى فيوزع بيت المال على الفقراء ويترك أهل بيته، يصلي ثم يكنس بيت المال، لا يترك الزبيب ولا الحبوب ولا المال، فيكنس البيت ثم يصلي ركعتين ثم يبكي ويقول: اللهم اشهد أني ما تركت درهماً ولا ديناراً ولا تمرة، وأتى في ليلة من الليالي فدخل على أهله بعد موت فاطمة في العراق فقال: هل عندكم شيء؟ قالوا: ما عندنا شيء، فخرج بسيف الرسول صلى الله عليه وسلم ذي الفقار، قال: يا أهل العراق! قاتلكم الله، أموت جوعاً وأنا أمير المؤمنين بين أظهركم، والله ما في بيتنا خبزة ولا تمرة؛ من يشتري مني هذا السيف، فلطالما كشفت به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفعوا له بعض المال أو اقترض بعض المال رضي الله عنه.(326/18)
فصاحة علي رضي الله عنه
أما فصاحته: فهو الخطيب حقاً، خطيبٌ كالسيل، وهو لم يدرس في جامعة ولا كلية ولا مدرسة، لكن علمه الله عز وجل الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وتربى في بيت النبوة، ورضع من ثدي الرسالة، يأتي يوم الجمعة فينهل بالخطبة فيبكي الناس، وتقشعر الأبدان من كلامه، لأن كلامه صادق مؤثر.
وفي ذات يوم سئل: يا أمير المؤمنين! كم بين العرش والأرض؟ لم يمترها رضي الله عنه بل قال: بين العرش والأرض دعوة مستجابة، وهذا من أحسن ما يقال، دعوة مستجابة بين العرش والأرض، ولذلك تسري في ظلام الليل ويقول الله عز وجل لدعوة المظلوم: {وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين} قيل له: كم بين الشرق والغرب؟ وهو لم يمتر الشرق والغرب، قال: مسيرة الشمس يوماً، لأنه فصيح جد فصيح، والرجل صاحب نسك، وكان يوقر الصحابة خلافاً لمن يدعي حبه الآن ممن تأثموا بحبه، لأنهم رفعوه فوق منزلته التي لا يرضاها هو، بل صح عنه بالتواتر أنه كان يقول على منبر الكوفة: خير هذه الأمة أبو بكر ثم عمر رضي الله عنه وعنهم.
وكان يقول: كان الرجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حدثني بحديث استحلفته، فإن حلف صدقته؛ أي: إذا جاء صحابي إلى علي بن أبي طالب يحدثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: احلف أنك سمعت هذا الحديث، قال: فإذا حلف صدقته فعملت به ونفعني الله به ما شاء، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر -أي: أن علياً لم يستحلف أبا بكر وأبو بكر لو تكلم عن أهل الدنيا لصدق وبر -قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من أذنب ذنباً فتوضأ وصلى ركعتين واستغفر الله من ذاك الذنب، غفر الله له ذاك الذنب}.
فخذوا هذا الحديث هدية بالمجان، والحديث صحيح في المسند: ولا يلزمك أن تذهب إلى الحاكم وإن أصبت حداً، لا.
بل كما في الحديث وأورده ابن حجر في بلوغ المرام: {من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله} فأنت إذا أذنبت ولو بذنب كالجبل ثم راجعت نفسك، ورأيت أنك تعرض على الله وأنك محاسب، وأنك ضعيف؛ فقمت فتوضأت وصليت ركعتين واستغفرت الله غفر الله لك ذاك الذنب، ومصداقه قوله وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136].
وفي البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على فاطمة، وأنت إذا سألت المرأة وقلت أين هو، يعني: زوجها -قالت: {غاضبته فخرج إلى المسجد} - انظر الحياة؛ لا نعيش في الخيال، بعض الناس إذا رأى إنساناً يغاضب أهله قال: هذا ليس مسلماً، كيف يغاضب أهله؟ لكن هذه حياة الواقع، ومن يعيش حياة الناس ويرى المشكلات التي تدور يرى أن الناس لن يبلغوا درجة الملائكة، {فأتاه صلى الله عليه وسلم فوجده نائماً والتراب على جنبه، فأخذ ينفضه برجله صلى الله عليه وسلم ويقول له: قم أبا تراب! قم أبا تراب!} فكانت أحب كنى علي بن أبي طالب وأحسن من أن تقول له: يا أبا الحسن، وأهل الشام لما تقاتل هو وإياهم كانوا يقولون: أبا تراب فكان يفرح بهذه الكنية، كما يقول الأول:
وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
يقول: يا ليت كل مسبة مثل هذه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي كناه، وفي صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قام من الليل، فذهب إلى علي وفاطمة فأيقظهما فقال: ألا تصليان، ثم رجع إلى بيته فصلى عليه الصلاة والسلام وانتظر هل يسمع الباب يفتح، وهل يسمع من يتوضأ، لأنههما قريبان منه، فما سمع فعاد فقال لـ علي: ألا تصليان؟ فقام علي يعرك عيونه من النوم ويقول: يا رسول الله! إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أمسكها وإن شاء أرسلها، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54].
وتولى الخلافة بعد عثمان، وأقام زهداً وعبادة وصدقاً مع الله، فكان يأتي في ظلام الليل الدامس يصلي ويبكي، ويقول كما في حديث ضرار بن الحارث: [[يا دنيا يا دنية! طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها، زادك حقير، وعمرك قصير، وسفرك طويل، آهٍ من قلة الزاد، وبعد السفر، ولقاء الموت]] وكان شاعراً مجيداً من أفصح الناس، لكنه ما اشتغل بالشعر، بل انصرف إلى القرآن والحديث، لأن الشعر وحده ليس برسالة، يقول في مقطوعات له من أحسن ما يقال:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الموت نبنيها
فاعمل لدار غدٍ رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
هذه من أحسن كلمات الموحدين، وبقي على الصفاء والزهد والعبادة، وبقي يتحسر على حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
حتى مرض قبل موته بأسابيع فقال له ابنه الحسن وهو أكبر أبنائه: يا أبتاه! أوصِ لنا، واكتب لنا كتاباً فإني أخاف أن تموت الليلة، قال: والله لا أموت الليلة.
كيف يحلف أنه لا يموت الليلة؟ هل عنده صك أنه لا يموت الليلة؟ نعم.
قال: والله ما أموت من هذا المرض؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد أنني لا أموت موتاً حتى تخضب هذه من هذه، يقول: أنا ما أموت على الفراش، ولن أموت إلا بالسيف، والله ما كُذِّبت ولا كَذَبْتُ، فشفي من مرضه واستمرت به الحياة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تدري يا علي من أشقاها؟ قلت: يا رسول الله! قاتل الناقة، قال: وتدري من أشقاها؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أشقاها من يقتلك} فأتى عبد الرحمن بن ملجم أحد الخوارج الخبثاء الحقراء، مبتدع ضليل مارد فاجر، أتى إلى امرأة اسمها الرباب فطلب الزواج منها وكانت جميلة فقالت: أتزوجك بشرط أن تقتل علي بن أبي طالب، فأخذ يسم سيفه بالسم شهراً كاملاً حتى أصبح السيف أزرق، ثم أتى في صلاة الفجر، وكان علي بن أبي طالب يوقظ الناس لصلاتهم، ودخل المسجد ووجد هذا الفاجر قد اضطجع على سيفه، جعله تحت بطنه في الطول وانبطح عليه، فأتى يركله بقدمه ويقول: إن هذه ضجعة أهل النار، فاستيقظ وقام علي يكبر فلما كبر لركعتي الفجر قام ذاك الفاجر فاستل السيف فضرب علياً في جبهته، ووقع الدم في لحيته ووقع على الأرض، وقال: حسبي الله ونعم الوكيل، ورفع إلى البيت رضي الله عنه، وأتى الناس يشهدون قال: الله الله لا يقتل إلا قاتلي، أي لا تزيدون في القتل، وأخذ أبناؤه يقولون: أوصنا، قال: أوصيكم بما وصى به إبراهيم ويعقوب بنيه: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]
جزاك الله عن الإسلام خير الجزاء، ما أحسن الكلمات! وما أصدق العبارات! وما أعطر السيرة والحياة الخالدة، ذلك هو أبو الحسن علي بن أبي طالب رابع الخلفاء.(326/19)
دروس من سيرة علي بن أبي طالب
نستفيد من هذه السيرة دروساً:
أولها: الزهد؛ وهو منزلة عالية، وهو الذي فارق بيننا وبين الصحابة، فالصحابة زهدوا في الدنيا فرفعهم الله وجعل الجنة مثواهم، ونحن أحببنا الدنيا فأخذت أوقاتنا وليالينا وأيامنا إلا من رحم ربنا.
وثانيها: أن الشجاعة في ذات الله هي المحمودة، وأنه لا يمدح الجبان، ومن استخدم شجاعته في رضى الله كانت له شرفاً في الدنيا وذخراً في الآخرة، وبعض الناس شجاعته على جيرانه وإخوانه وأرحامه، حتى أن بعض القبائل ليس لديهم كلام إلا صبحنا آل فلان، ومسينا آل فلان، وضربنا آل فلان، وقاتلنا آل فلان وهم مسلمون، فهذه ليست بشجاعة، هذه معصية يحاسبون عليها عند الله، إنما الشجاعة على الكافر عدو الله، والشجاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما العنصريات، وشجاعة التفاخر على المسلمين فليست بشجاعة.
وثالثها: أن الصدق في الكلمات دليل على صدق القلوب، فصادق القلب يجعله الله صادق اللسان، ولذلك كان علي بن أبي طالب صادقاً في كلماته، يقول ابن كثير: (باب في كلماته الحاصلة التي إلى القلوب واصلة).
ورابعها: أن من تقلل من هذه الدنيا فما عند الله له خير وأبقى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] فقد ذهب علي بن أبي طالب، وذهب أبو بكر، وذهب عمر، وذهب عثمان، وذهب فرعون، وذهب قارون: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].
ستعلم أينا أهدى سبيلاً إذا عرضت على الله الأمور(326/20)
سعد بن أبي وقاص
خامساً: سعد بن أبي وقاص.
كنيته: أبو إسحاق، أسلم قديماً يوم سمع لا إله إلا الله محمد رسول الله، وسعد بن أبي وقاص قيل: هو الثالث في الإسلام وقيل: الرابع، وعلى كل فهو بالمنزلة العليا عند الله عز وجل، ولما أسلم غضبت أمه وكانت وثنية مشركة، فتهددته بكل شيء، وأضربت عن الطعام والشراب، وتألت ألاَّ تأكل ولا تشرب حتى يرجع ابنها عن دين الإسلام إلى الكفر، فحاول إقناعها فلم تقتنع، وحاول معها فلم تستجب، قال: [[يا أماه! والله الذي لا إله إلا هو لو أن لك ألف نفس فخرجت نفساً نفساً ما عدت عن ديني، فكلي واشربي أو دعي]] قالوا: فاستمرت ثم أكلت وشربت وأظنها أسلمت فيما بعد، والقصة في صحيح مسلم، فأنزل الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15].
فلما استمر رضي الله عنه في الإسلام كان يمين الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو من خئولة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: {هذا خالي فليرني امرؤ خاله} يقول: من عنده خال مثل هذا فليبرز لنا خاله الذي كخالي هذا.
كان شديد البنية، متماسكاً، قائداً عسكرياً يصلح لقيادة الجيوش، ولذلك ولاَّه عمر رضي الله عنه الجيش الإسلامي الذي فتح العراق، واجتاح دولة الأصنام والعمالة والضلالة، دولة المجوس، دولة كسرى، إمبراطورية التخلف، اجتاحها ودخل الإيوان، ولما رأى إيوان كسرى، قال: الله أكبر! فانصدع الإيوان، فقال وعيناه تدمع من الفرح، وبعض الناس عيناه تدمع من الفرح:
طفح السرور علي حتى أنني من عظم ما قد سرني أبكاني
قال: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:25 - 29].
يقول سعد: {يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، قال: يا سعد! أطب مطعمك تستجب دعوتك} أي: ليكن مطعمك وملبسك وشربك حلالاً، ليستجيب الله دعاءك، وفي صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم: {ذكر الرجل أشعث أغبر يطيل السفر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له} فالمرابي والغشاش والمرتشي لا يستجيب الله دعائهم، ثم قال عليه الصلاة والسلام ل سعد: {اللهم أجب دعوته وسدد رميته}
فما كان يدعو بدعوة إلا تأتي كفلق الصبح، وإذا رمى كانت بإذن الله لا تخطئ أبداً.
وفي معركة أحد كان عليه الصلاة والسلام عنده كنانة، والكنانة تشبه الحقيبة فيها السهام، فكان يأخذ صلى الله عليه وسلم السهم ويعطيه فيضرب سعد المشرك فتقع في عين المشرك أو في رأسه ولا تخطئ، فكان يتبسم عليه الصلاة والسلام، ويقول: {ارم سعد فداك أبي وأمي، ارم سعد فداك أبي وأمي}.
من يقول: فداك أبي وأمي؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يظفر بكلمة فداك أبي وأمي إلا سعد، قال علي بن أبي طالب ما سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يفدي أحداً بأبويه إلا سعد بن أبي وقاص يقول: {ارم سعد فداك أبي وأمي} فكان يرمي فتصيب بإذن الله عز وجل.
وأما إجابته الدعاء: فقد كان الله يستجيب دعوته؛ لأنه كان طيب المطعم والسريرة، والعمل والأخلاق، شاب لكنه يريد الله والدار الآخرة، ولاَّه عمر رضي الله عنه على الكوفة أميراً، وكان أهل الكوفة مشاغبين، يشتكون أميرهم ولو كان من الملائكة، فقال لهم عمر: كيف أميركم؟ وكان عمر يجمع الناس في الحج من الأقاليم والمدن، ويسألهم: كيف أمراؤكم؟ فإذا شكوا من الأمير أتى بالأمير وأوقفه أمامهم وحاسبه وهم يرون، فقال: كيف سعد؟ قالوا فيه خير، ولكن شكوا بعض الأمور، فأرسل لجنة يرأسها محمد بن مسلمة أحد الأنصار الكبار الصادقين، وقال: اذهب إلى أهل الكوفة وسلهم عن سعد، فذهب يمر بمساجد الكوفة، كيف سعد بن أبي وقاص الأمير؟ قالوا: من أحسن الناس، عبد صالح، فذهب حتى وصل إلى مسجد من مساجد الكوفة فيها شيخ كبير أضل الله عقله، فقال: كيف سعد بن أبي وقاص؟ فقام هذا الشيخ وقال: أما إن سألتنا عن سعد بن أبي وقاص فإنه لا يخرج في السرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، هذه ثلاث مثالب.
فقام سعد وهو يسمع الكلام، فقال: [[اللهم إن كان عبدك هذا قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن]] قال: فاستجاب الله دعوته، فاستمر في الحياة حتى سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري يغمزهن في شوارع الكوفة، ويقول: شيخ مفتون أصابتني دعوة سعد.
وخرج سعد بن أبي وقاص من المسجد بعد أن صلى الجمعة، فإذا برجل يسب علي بن أبي طالب وقد قتل علي، فقال: لا تسب أخي، قال: والله لأسبنه، قال: لأدعون عليك، فلم ينزجر فقال: [[اللهم اكفنا هذا الظالم]] هذه القصة ذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء، وبينما هذا الساب الذي سب علياً واقف مكانه وإذا بجمل أتى من ناحية الكوفة لا يلوي على شيء، فتأخر الناس عنه فاقترب من الرجل ثم لطمه بيده أو برجله فإذا الرجل ميت على الأرض، وهذا سنده صحيح.
وكان سعد رضي الله عنه من أقوى القواد، ولما أرسله عمر قال: يا سعد بن وهيب! لا يغرنك قول الناس إنك خال الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، فكان يوصيه بتقوى الله عز وجل، وبطلب ما عند الله.(326/21)
سعد بن أبي وقاص في القادسية
ولما أراد عمر أن يرسل الجيش وهو ما يقارب ثلاثين ألفاً إلى القادسية للمعركة، فشاور الصحابة، فكان كثير منهم يرى أن يخرج أمير المؤمنين قائداً للجيش، فخرج عمر ولبس السلاح، وأصبح القائد عمر، ولما وصل إلى ضاحية من ضواحي المدينة نزل يستعرض الجيوش، أتت جيوش من اليمن وجيوش من الجزيرة من غطفان وتميم، فلحقه علي بن أبي طالب قال: يا أمير المؤمنين! أرى ألاَّ تخرج قائداً وابق في المدينة، فإنه إذا هزم الجيش كنت وراءهم ردءاً وعوناً لهم ومدداً، وإنك لو ذهبت وهزمت سحق الإسلام واجتيحت عاصمة الإسلام، وصدق رضي الله عنه، قال عمر: من ترى أن نولي؟
قال: نفكر، فذهب الصحابة طيلة الليل وعمر في الخيمة يفكرون من الذي يولونه مكان عمر بن الخطاب يقود الجيش، وإذا ب عبد الرحمن بن عوف أقبل يهلل، فقال عمر: مالك؟ قال: وجدت الأسد في براثنه، قال: من هو؟ قال: سعد بن أبي وقاص، قال: أصبت أصاب الله بك الخير، فأتى بـ سعد فولاه رضي الله عنه فذهب، وقاد الجيش، وكانت معركة القادسية من أعتى المعارك في الإسلام، قائدها سعد بن أبي وقاص، وأصابه مرض رضي الله عنه في مقاعده حتى ما كان يستطيع أن يجلس، فكان يصعد على الحصن فيتكئ على صدره وبينه وبين الحجر وسادة، وكان يدير الجيش من فوق الحصن، ولما قطعوا جسر دجلة كانت تمر القوافل والكتائب الإسلامية؛ الخيول ثم الجمال ثم يمر الأبطال من طرف الجسر ليقاتلوا الأعداء، فقطع أهل فارس الجسر، فإذا بالناس في النهر، فغرق منهم مئات وماتوا، فنظر سعد ودعا الله عز وجل أن ينجي جيش الإسلام وقال: يا خيل الله اركبي، أي امشي في النهر، فسمعته الخيل، والجمال، وجمَّد الله النهر، فما أصبح ثلجاً تنزلق عليه الأقدام، ولا ماء تغوص فيه، وإنما أصبح كأنه يبساً، لا تخاف دركاً ولا تخشى، فمر الجيش حتى نزل في الجهة المقابلة، واستمرت المعركة ثلاثة أيام كأنها من أيام الله الكبرى التي تمر بالأمم، حتى ذهل كثير من الناس، وشاركت الفيلة، وفقد بعض الناس أبناءهم وأعمامهم، وأتى القتل الرهيب الذي لا يعلمه إلا رب السماوات والأرض، وفي تلك الأيام أرسل رستم قائد فارس: جاسوساً وقال: اذهب وادخل في جيش المسلمين وانظر ماذا يفعلون في الليل، وادخل في جيشنا وانظر ماذا يفعلون، فذهب هذا الجاسوس في الليل فدخل في جيش المسلمين فوجد فرقة تقرأ القرآن، ووجد طائفة تبكي وتدعو الله، ووجد طائفة أخرى ركعاً لله، ووجد آخرين سجداً، ووجد آخرين يتذاكرون العلم والحديث والفتيا، ووجد سعداً يبكي في الليل ويرفع يديه ويطلب الله النصر، وعاد إلى جيش فارس فوجد طائفة يعاقرون الفتيات في الزنا، ووجد آخرين بكاسات الخمر، ووجد آخرين في نوم عميق يغطون، وفي سباتهم يعمهون، فعاد فأخبر رستم فعض أصابعه، وقال: هزمنا، هذه أول الهزائم، وفي صباح اليوم الثاني قال رستم: أخرجوني لأرى المسلمين هؤلاء، فأخرجوه فنظر، فإذا هم الألوف المؤلفة ورأى سعداً إذا كبر كبروا، وإذا ركع ركعوا، وإذا رفع رفعوا، وإذا سجد سجدوا، فأخذ القائد الفارسي يعض أصابعه، ويقول: علَّم محمد الكلاب الأدب، كذب عدو الله، بل علم محمد صلى الله عليه وسلم الأسود الأدب.
وفي اليوم الثالث أرسل إلى سعد قال: أرسل لي شاباً من جنودك أتكلم معه، يريد أن يعرف ما الذي حصل للعرب، فقد كانوا قبل ذلك بدواً، والآن يريدون يفتحوا أرض كسرى وقيصر.
قال سعد: من نرسل؟ قالوا: أنت أبصر، قال: قم يا ربعي بن عامر! شاب في الثلاثين من عمره، لا تغير من هيئتك شيئاً واخرج إلى رستم قائد فارس الذي يقود مائتين وثمانين ألفاً، فادخل عليه وتكلم معه، فأخذ هذا الصحابي رضي الله عنه أسماله البالية، وثيابه الممزقة، ورمحه في لفائف في قماش حتى الرمح ليس له خبء، وذهب بفرس كبير هزيل قحم عجوز، فأخذ يقوده وليس عنده حرس ولا موكب ولا أُبَّهة، ولا تاج ولا ثياب مثل ثياب الناس حتى دخل، فقيل: يستأذن عليك رسول سعد بن أبي وقاص، قال: أدخلوه، وقبل أن يدخلوه قالوا: أتى رستم فلبس تاج الذهب وألبس أمراءه والحاشية والبطارقة مثله ليرهب ربعي بن عامر، فدخل ربعي برمحه يخرق الوسائد التي وضعها ليعلمه أن الدنيا تافهة لا تساوي عندنا شيئاً، فقال له رستم: لماذا خرجتم؟ إن كنتم جياعاً أعطيناكم الأموال، وإن كنتم عراة كسوناكم، وإن كان بكم حاجة أعطيناكم حوائجكم، قال ربعي: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فقال رستم مستهزءاً: جئتم تفتحون الدنيا بهذا الفرس المعقور وهذا الرمح المثلم، وهذه الثياب الممزقة! لسان حاله: الذي يفتح الدنيا، ويصارع الدول عنده جيش، قال: فأعاد عليه الكلمة فغضب وأقسم بآلهته لا تخرج حتى تحمل تراباً من تراب إيواني هذا، وكان ساكناً في الصحراء وعنده سرادق، فحملوه في صحفة أو قصعة أو طست أو صحن تراباً فأخذه على رأسه وركب الفرس، فقال البطارقة ل رستم: مالك؟ إن معنى تسليمك التراب أنه يحتل الأرض، قال: أدركوه، فذهبوا وراءه فوجدوه قد دخل في جيش المسلمين، قال سعد: ما هذا الذي على رأسك؟ قال: تراب من ترابهم، قال: نصرنا ورب الكعبة، وفي اليوم الرابع أتى سعد رضي الله عنه وقال: انتهت المفاوضات يعني باءت بالفشل، وما بقي إلا السيف الأملح، قال سعد: إني مصلٍّ الفجر وسوف أكبر بعد الصلاة تكبيرة، فإذا كبرت التكبيرة الأولى فاركبوا الفرسان، فإذا كبرت الثانية فاستقبلوا الأعداء، فإذا كبرت الثالثة فالقتل، فكبر الأولى فركب الخيالة على الخيول وأهل الجمال والمغامرون والمنازلون والمبارزون، وكبر الثانية فاستقبلوا الأعداء، وكبر الثالثة فبدأ القتل، واحتدمت المعركة ثم هزموهم بإذن الله، وكان من فشلهم أنهم كانوا يسلسلون كل عشرة بسلسلة لئلا يفروا، فكان إذا قتل واحد من العشرة أخذوا يسحبونه، فإذا قتل الثاني لم يستطيعوا أن يسحبوه فيسقط معهم الثمانية فتدوسهم الخيل، حكمة بالغة، وقدرة نافذة فما تغني النذر، حتى امتلأ بهم النهر ومر سعد رضي الله عنه في كتيبته الخاصة به حتى وصل إلى المدائن أرض الخبث وعاصمة الكفر، فافتتحها ورأى إيوان كسرى الذي بقي عليه ألف سنة ففتحه بـ (الله أكبر) ثم جلس فيه يقرأ القرآن رضي الله عنه.
واستمر في حياته مجاهداً حتى عزله عمر بقرار، وكان عمر رضي الله عنه يريد أن يبقى الصحابة أصفياء أوفياء بلا دنيا ولا مهاترات، فاعتزل رضي الله عنه ورجع إلى المدينة وقال له عمر: يا أبا إسحاق! ما عزلناك خيانة فيك، ولكن أضن بك على الدنيا أو كما قال، وأتى أهل الكوفة فقالوا: سعد بن أبي وقاص لا يحسن الصلاة، فقال عمر: تعال يا سعد! يقول أهل الكوفة: إنك لا تحسن الصلاة، فضحك سعد، وقال: سبحان الله! يعيرني بنو أسد أني لا أعرف أصلي، وقد أدخلتهم في الإسلام بسيفي هذا، وصدق، قال: ماذا تفعل؟ قال: أركد في الأوليين وأخفف في الأخريين، هذا الحديث في الصحيحين، قال عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق.
وقتل عمر فبقي على العهد وتولى عثمان وبقي على العهد، ولما قتل عثمان اختلفت الأمة وأتت الفتنة فاعتزلها وذهب إلى الصحراء رضي الله عنه معه قطيع غنم، وصنع بيتاً من شعرٍ -خيمةً- وسكن هناك يقرأ القرآن ويبكي، فيأتي ابنه ويقول لأبيه: مالك ترعى الضأن والناس يتقاسمون الملك؟ قال: اغرب عني والله إني أولى الناس بالخلافة وإن الخلافة أولى بي من قميصي هذا، يقول: لو كنت أريد الخلافة كنت أطلبها ولكني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي} وهذا الحديث في صحيح مسلم.
ولما أتته سكرات الموت أتت ابنته عائشة وقالت: يا أبتاه! تموت في الصحراء وحدك بعد أن رافقت الرسول عليه الصلاة والسلام، وصاحبت أبا بكر وعمر وعثمان؟ قال: يا بنية! لا تبكي علي؛ والله إني من أهل الجنة، قال الذهبي معلقاً في السير: صدق هنيئاً له ومريئاً ونحن نقسم بالله أنه من أهل الجنة، فقد أخبرنا محمد عليه الصلاة والسلام، يقول: {أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وابن عوف في الجنة والزبير في الجنة وطلحة في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة وسعيد بن زيد بن نفيل في الجنة وأبو عبيدة في الجنة} فنشهد أنهم من أهل الجنة، وذهب إلى الله، فلما سمع بجنازته بكت عليه المدينة المنورة وقالت عائشة: [[مروا بسعد علينا في البيوت حتى ندعو له]] أي: أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين، فمروا بجنازته والبكاء يلاحق الجنازة، لأنه فاتح القادسية، وصاحب تلك المعارك الهائلة في الإسلام، فسلمت عليه عائشة ودعت له وبكت كثيراً وذهب إلى لقاء ربه.(326/22)
دروس وعبر من حياة سعد بن أبي وقاص
ونأخذ من حياته دروساً:-
أولها: أن إجابة الدعوة مقترنة بطيب المطعم، فمن أراد أن يستجيب الله دعاءه فليكن مطعمه، وملبسه، ومشربه، ومسكنه حلالاً، وإلا فلا يطمع في إجابة الدعاء.
الدرس الثاني: أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإذا أمرك الوالدان أو غيرهما بمعصية أو بمنكر، أو فاحشة فلا طاعة في ذلك، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15].
الدرس الثالث: أن الله عز وجل ادخر للمؤمن أكثر مما في الدنيا، وأن الدنيا ليست غاية؛ لأن بعض الناس مقاييسهم ضحلة، ونظرتهم ضيقة، ينظرون إلى من أمده الله بصحة أو مال أو ولد أو عقار فيقولون: هذا لمنزلته عند الله، وهذا خطأ في الفهم وضلال في التوجه، لأن الله عز وجل قد يحرم عبده المؤمن من الدنيا فيبقى فقيراً كـ سعد رضي الله عنه، يقول سعد ولا بأس أن نعود إلى كلمة له: [[والله الذي لا إله إلا هو لقد أتت علي أيام في أول الإسلام ما لنا طعام إلا ورق الشجر، ولقد كنا نأكل من أوراق الشجر حتى تشرمت أشداقنا -أصبحت مثل أشداق الجمال من أكل أوراق الشجر- قال: فانتهى ورق الشجر حتى وجدت جلد ميتة فأخذته فأحرقته بالنار ثم سحقته ثم شربته على الماء]] هل بقي وراء هذا جوع؟ ولكن ادخر الله لهم الجنة، مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ومن سيرة سعد نأخذ أن الفضل في الإسلام بالبلاء الحسن والأسبقية، وليس بالتبجح بالكلمات، فإن أكثر الناس قدماً عند الله أكثرهم بذلاً وعطاء وعبادةً، وزهداً ودعوة وإخلاصاً وكرماً، فهذا هو المقدم عند الله، فلا للأسرة، ولا للمنصب، ولا للمال، ولا للولد.
الدرس الخامس: اعتزال الناس عند الفتن، فإذا أتت الفتن والخصومات والمشاكل في القرى أو المدن فالأسلم للمؤمن أن يعتزل الفتنة، إما أن يبقى في بيته ولا يحضر إلا الجماعات والجمعة والعيد، وإما أن يخرج إلى قرية أخرى.
وعند البخاري من حديث أبي سعيد: {يوشك أن يكون خير مال المرء المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن}.
فسلام على سعد في الخالدين، وجمعنا الله به مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ونسأل الله أن يثبتنا كما ثبت عباده المؤمنين.(326/23)
ابن عباس
سادساً: ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، فمن هو هذا؟
إنه شاب نشأ في عبادة الله، وهو من أذكى الناس، وفتح الله عليه فتحاً لا يدور في الخيال ولا يخطر بالبال، علمه كالبحر، حتى قيل فيه لما ذكر علمه: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]
هو عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والده العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أسلم من صغره، وأوى إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان حافظاً لله منذ نعومة أظفاره، ركب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم على حمار، وبينما هما يمشيان في الطريق إذ قال عليه الصلاة والسلام: {يا غلام! قال لبيك وسعديك قال: يا غلام! قال: لبيك وسعديك، قال: يا غلام! قال: لبيك وسعديك، قال: إني أعلمك كلمات} هذه الكلمات -أيها المسلمون- تجمع أصول الإيمان، وأصول الإسلام، وأصول الوصاية، وهو من أعظم الأحاديث في الإسلام: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك،، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء إلا قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} رواه الترمذي بسند صحيح ورواه أحمد وزاد: {واعلم أن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسراً، وأن الفرج مع الكرب} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث حديث عقدي في التوحيد، وفيه قضايا:
أولها: أنه لا يضر ولا ينفع إلا الله، والمجلد الأول من فتاوى ابن تيمية حول هذه المسألة، وهو أنه لا يضر ولا ينفع إلا الله، وكثير من الناس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بلسانه، ويصلي، ويصوم، ويحج، ويعتمر، ولكنه يخاف الناس أكثر من الله، ويرهب الناس أكثر من الله، ويحب الناس أكثر من الله، ويخشى أن ينقطع رزقه من طريق الناس، فيخشى الناس أكثر من خشيته لله، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك} فالمسألة الأولى: أنه لا ينفع إلا الله.
والمسألة الثانية: أنه لا يضر إلا الله، والله لو اجتمعت الدنيا عن بكرة أبيها لتضرك ولم يرد الله ذلك؛ فلا يمكن أن تصاب بضرر، ومصداق ذلك: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
والقضية الثالثة: أن من يحفظ الله يحفظه الله، ومفهوم المخالفة أن من ضيع أوامر الله يضيعه الله، واقرأ تاريخ الناس، وتصفح تاريخ ابن كثير وتاريخ ابن جرير وتاريخ ابن الأثير لتجد سيرة الرجل من أول حياته، فإذا وجدته في أول حياته معرضاً عن الله لا يصلي، ويستهزئ بالقرآن، فستجد في الأخير الطامة الكبرى؛ بأن يخزيه الله خزياً ما بعده خزي، ويكتب عليه اللعنة، ويأتيه من النكال والهوان والعذاب والأذى ما الله به عليم، واقرأ سيرة الرجل الآخر الذي قيل فيه: كان صالحاً يحافظ على الصلوات الخمس، ويحب القرآن والصدقات، فستجد العاقبة له، والعاقبة للمتقين.
حفظ الله بالتقوى؛ أن تحفظ حدود الله وتحفظ جوارحك مع الله، يحفظك الله وقت الهرم، والشدة، والكرب، والحاجة، والموت، يوم العرصات، يوم الزحام، يوم العرض الأكبر على الله، فـ ابن عباس أخذ هذا الدرس وبدأ يحفظ الله من صغره.(326/24)
حرص ابن عباس على معرفة حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته
وفي ليلة من الليالي -والحديث في الصحيحين - أحب أن يرى ما هو برنامج الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته، لأنه يرى الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد، ويراه في الحج، ويراه في العمرة، لكن أحب أن يرى ماذا يفعل عليه الصلاة والسلام في البيت، فتوخى ليلة ميمونة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها خالته، فدخل بعد صلاة العشاء مباشرة، وأتى عليه الصلاة والسلام وابن عباس في الفراش وتلحف باللحاف، وتظاهر أنه نائم ولم ينم.
نامت الأعين إلا مقلة تذرف الدمع وترعى مضجعك
أراد أن يأخذ أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه الصلاة والسلام فرآه، وكانوا ينامون مبكرين بعد صلاة العشاء، فقال لـ ميمونة: نام الغليم؟! والغليم تصغير الغلام للتحبيب يقول: قليبي تصغير قلبي للتحبيب، قالت: قد نام يا رسول الله! هذا الحكم على الظاهر وإلا فهو في الباطن ما نام، بل هو يسمع وينقل لنا هذه الكلمات بعد موته صلى الله عليه وسلم قال: فأتى عليه الصلاة والسلام إلى فراشة فذكر الله، وهلل وكبر ودعا، ثم سبح قال: فأخذ يسبح هوياً من الليل، أي: كثيراً من الليل، يسبح وهو على الفراش، لأنه أخشى وأبر من أوجد الله على الأرض، وأكرم من صور الله، قال: ثم نام حتى سمعت غطيطه، وفي رواية البخاري خطيطه، يعني: من النوم، وبقي ابن عباس يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم نائم، قال: فقام بعد أن نام جزءاً من الليل فجلس، ما كان عندهم سُرج ولا كهرباء، بيت من طين إذا نام الإنسان فيه كان رأسه في طرف البيت ورجلاه في الطرف الآخر، ولكنه بيت من حول مجرى الإنسانية، ومن هدى البشرية، وزعزع كيان الوثنية، بيت أشرف من صوّر الله وخلق، لأن الدنيا لا تساوي عنده شيئاً، فقد أتى جبريل عليه السلام بخزائن الدنيا من ذهب وفضة، وقال: أتريد أن أدعو الله أن يحول لك هذه الجبال ذهباً؟ قال: لا.
أشبع يوماً وأجوع يوماً حتى ألقى الله.
قال ابن عباس: فاستيقظ صلى الله عليه وسلم والدنيا مظلمة، فأخذ ينظر إلى السماء صلى الله عليه وسلم ويقرأ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].
إلى أن ختم العشر الآيات، وانظر إلى هذا الذكي اللماع كيف يحفظ الآيات والأدعية، والحركات والسكنات، وعمره بين الثامنة والعاشرة، ثم قام عليه الصلاة والسلام وابن عباس يرقب بسمعه وبصره وقلبه، قال: فخرج عليه الصلاة والسلام، ثم أتى، خرج لحاجته يريد الوضوء، فقام ابن عباس إلى شن معلق بالبيت -قربة- فسكب ماء؛ لأنه من فقهه أن من خرج لحاجته يريد ماء، فسكب في الإناء ثم وضعه ثم عاد فنام، فأتى عليه الصلاة والسلام وهو يذكر الله، فنظر إلى الماء وإلى الإناء، فقال: من وضع لي الإناء؟ يسائل نفسه لأنه في الليل وحده، ثم عرف أنه ابن عباس فقال: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} من الذي يدعو؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم، فهي دعوة مستجابة، فاستجاب الله له في تلك اللحظة، لأنه أبر الخلق، فقام فتوضأ عليه الصلاة والسلام، ثم أتى إلى المصلى وابن عباس لا زال يحفظ الحركات، والأدعية، والكلمات، قال: فاستقبل القبلة ثم كبر ثم قال: {اللهم ربنا لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت}
من يستطيع أن يستوعب مثل هذه الكلمات؟! ثم أخذ يدعو فحفظ ابن عباس، فلما استمر في الصلاة قام ابن عباس فتوضأ ثم أتى عن يسار الرسول صلى الله عليه وسلم، والسنة أن المأموم المنفرد يقف عن يمين الإمام، لكن ابن عباس أتى عن يسار المصطفى عليه الصلاة والسلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم حرك يده ثم وضعها على أذن ابن عباس ففرك أذنه وهو غلام صغير، ثم حوله عليه الصلاة والسلام حتى وضعه عن يمينه في الصلاة، فصلى عليه الصلاة والسلام ما شاء أن يصلي، واستمر معه هذا الفتى وظفر بدعوة، ونستفيد من تلك الليلة أموراً:
منها: أن لقيام الليل دعاءً خاصاً، وهو هذا الدعاء الثابت في الصحيح.
ومنها: أن دعاء الاستفتاح فيه خلاف تنوع لا خلاف تضاد، فلك أن تدعو بما ورد في السنة من أدعية الاستفتاح.
ومنها: أن المأموم الواحد يقف عن يمين الإمام لا عن يساره.
ومنها: أنه لا بأس بالحركة اليسيرة في الصلاة للحاجة.
ومنها: كما قال ابن حجر: أنه لا بأس بفرك أذن المتعلم من يد المعلم؛ لأنه أزكى له أن تفرك أذنه، لكن فرك في حدود المعقول، فلا تفركها حتى يخرج الدم فيتوب ألا يفهم، هذه بعض فوائد الحديث.
فخرج ابن عباس تلك الليلة وبدأ تأثير الدعوة في حياته: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} تستمر معه، كان لا يُسأل عن آية من آيات الله في المصحف إلا وينفجر كالبحر من العلم، يقول أحد تلاميذه: وقف ابن عباس يوم عرفة في الحج عند الصخرات على ناقته قال: فبدأ والحجيج أمامه ألوف مؤلفة يفسر سورة البقرة من صلاة الظهر إلى صلاة المغرب ما تلعثم، ولا سعل، ولا تنحنح، ولا توقف، قال: والله الذي لا إله إلا هو لو سمعته اليهود والنصارى لأسلموا عن بكرة أبيهم، يتفجر كالبحر ومن يوقف البحر إذا انفجر؟! كان من أفصح الناس، زد على ذلك أنه كان من أجمل الناس، قال عطاء بن أبي رباح أحد تلاميذه: والله الذي لا إله إلا هو لقد نظرت إلى القمر ليلة أربعة عشر في السماء وإلى وجه ابن عباس، فوالله الذي لا إله إلا هو لوجه ابن عباس أجمل من القمر ليلة أربعة عشر، كأن نوراً يتلألأ على وجهه من الحسن.
وكان كذلك رجلاً ذا لباس حسن، وفيه أن الإسلام لا يعترف بالدروشة؛ إنسان يريد أن يستقيم وقد أمده الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بثياب ولباس حسن، فيأتي ويأخذ مقطعات من عهد السلطان عبد الحميد ويقول: هذا هو التواضع والزهد، أسأل الله أن يرفع لي درجتي!! لا.
لا يعترف الإسلام بهذا، فهذا ابن عباس كان من أخشى الناس، وكان يلبس بردة حمراء مخططة بألف دينار، ووجهه كالقمر، ثم يتطيب الطيب حتى يقول أحد التابعين: رأيت على رأس ابن عباس طيباً لو كان لأحد لكان مالاً، أي: ميزانية؛ لأن الله عز وجل مده بالمال والعلم، فكان يخرج على الناس بالبردة حتى أنكر عليه الخوارج وقالوا: كيف تلبس هذا؟ لأن الخوارج كانوا يلبسون ثياباً ممزقة، ويحتقر الصحابة صلاتهم إلى صلاتهم، وقراءتهم إلى قراءتهم، لكن لا فهم عندهم ولا استنباط، ولا فقه في الدين قال: أنا أفهم أم أنتم بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: أنت، قال: فلقد رأيته في البرود الحبرة التي تساوي كذا وكذا.(326/25)
برنامج ابن عباس اليومي
أما برنامجه اليومي فكان إذا أصبح الصباح يجلس في الحرم عند الكعبة، فيبدأ بعد صلاة الفجر يدرس أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قام فصلى ركعتين ثم قال: علي بأهل التفسير؛ فيأتي أهل التفسير من الأمة الإسلامية، فيسألونه فيتفجر كالسيل الجرار أو كالبحر الزخار، فيقول: ارتفعوا، علي بأهل الحديث، فيفتي أهل الحديث، ثم يقول: ارتفعوا، علي بأهل الفقه فيأتي أهل الفقه، ثم يقول: علي بأهل الأدب وأهل الشعر، وقد قيل في سيرته: إنه كان يحفظ ثمانية عشر ألف بيت من الشعر، ويحفظ قصائد مطولة من أول مرة، جلس عنده شاعر مكة عمر بن أبي ربيعة المخزومي، فألقى عليه قصيدة مرة واحدة فقال ابن عباس: إني قد حفظتها، قال: أعدها علي، فأعادها من أولها إلى آخرها وهي التي يقول فيها:
أمن آل نعم أنت غادٍ فمبكرٌ غداة غدٍ أم رائح فمهجر
إلى أن يقول:
وغاب قمير كنت أرجو غيابه وروح رعيان ورقد سمر
ويوم وصل البيت هذا إلى سعيد بن المسيب سيد التابعين قال: قاتل الله عمر بن أبي ربيعة صغر ما عظم الله، يقول الله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يّس:39].
أي أن الله سماه قمراً وهو يقول: قمير.(326/26)
صور من كرم ابن عباس
ثم كان أكرم الناس، يقول ابن تيمية: بعض الناس يجود بالعلم وبعضهم يجود بالمال، أما ابن عباس فكان يجود بالمال وبالعلم، فقد كان يجلس في الحرم فإذا أتى وقت الإفطار قال لأهل الحرم من المسلمين جميعاً: هلموا إلى الفطور المبارك، فيأتي إلى بيوت آل العباس لأنهم من أسرة بني هاشم، أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم التي ما على الكرة الأرضية أسرة أشرف منها، لا في آسيا ولا في أفريقيا ولا في أمريكا، ولا في أستراليا؛ لا يوجد أشرف من بني هاشم، فكان يذهب بالناس فيأتون إلى لباب البر، ولباب العسل، وقد وضع على الناس فيأكلون ثم يغسلون وينزلون الحرم، فيدرسهم إلى الظهيرة ثم يصلي الظهر ثم يقول: هلموا إلى الغداء المبارك، فيذهبون وإذا اللحم بالخبز قد وضع في قدور وصحاف فيأكلون ثم يعودون إلى الحرم، فكان يبذل العلم والمال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
ولم يكسبه علمه غروراً، لأن بعض الناس إذا تعلم اكتسب بهذا العلم غروراً وعجباً، حتى تجد بعضهم يجعل الشهادة الجامعية أو نحوها وهي لا تساوي قرشين، يعلقها في البيت على برواز من زجاج، لكن انظر إلى أثرها في واقعه وحياته وعقيدته وسلوكه ومنهجه، ماذا تنفعك هذه الشهادة؟ إن كنت تفتخر بها فالخواجة حصل على شهادات البروفيسور، والشهادة العالمية، وجائزة نوبل، وهو في مسلاخ الكلب، وأبو بكر وعمر خرجا إلى الدنيا لا يحملون شهادة أول ابتدائي، ولكنهم فجروا طاقة الإنسان، ووجهوا الإنسان، وفتحوا بإذن الله عقل الإنسان، فبعض الناس ربما يكسبه العلم عجباً، حتى وجد أن بعض الناس ما أكسبته الثقافة إلا فجوراً وعتواً وتمرداً على آيات الله، وبعضهم أكسبته الثقافة تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، يقول عز من قائل في هذا الصنف: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} [الأعراف:175 - 176].(326/27)
صور من خشية ابن عباس
وكان ابن عباس من أخشى الناس لله، وقد ذكر عنه أهل السير والتراجم وغيرهم أنه كان يقف في الحرم من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر ليقرأ آية واحدة يرددها إلى صلاة الفجر ويبكي، والآية هي من سورة النساء قول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123].
فكان يبكي لأن بعض المؤمنين قالوا: ربما يخفف الله عنا لأنا من أمة محمد، مثلما يفعل الجهلة الآن؛ يرتكبون من الكبائر أمثال الجبال فإذا نصحته قال: أمة محمد مرحومة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي}.
وأنت ما تدري أيها المسكين هل تدخل في أهل الشفاعة، أم أنك تحرم من الشفاعة أصلاً، أم أنك لاستهزائك وتهتكك في الحدود وانتهاكك لحرمات الله لا يمكن أن تدركك شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام أبداً، لكن ابن عباس يقرأ هذه الآية فيتأمل اليهود والنصارى يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، فيقول الله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] ما هو الرد؟ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة:18].
لماذا أخزاكم؟ ولماذا حعل منكم قردة وخنازير؟ ولماذا لعن كثيراً منكم؟ ولماذا هزمكم في كثير من المعارك؟ {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18]
فكان ابن عباس فيه خشية لله عز وجل، يقول عطاء: رأيت جفني ابن عباس كأنهما الشراكين الباليين من كثرة البكاء، الرجل جميل وجهه كالقمر، لكن من كثرة البكاء من خشية الله! إذا قرأ القرآن -لأنه عالم رباني- أصبحا كالشراكين الباليين في الحزام الذي يكاد ينقطع، ونسب إلى عمر أنه أخذ الدمع في خديه خطين أسودين من كثرة ما يبكي، ولذلك سبقوا غيرهم لكثرة خشيتهم لله عز وجل.(326/28)
صور من حلم ابن عباس
أما حسن أدبه، وكمال خلقه، فكان من أحلم الناس، صدره كالبحر، أتاه رجل في الحرم فسبه أمام الناس فتبسم ابن عباس، وقال للرجل: كيف تسبني وفي ثلاث خصال، قال الناس لـ ابن عباس ما هي الثلاث الخصال يا ابن عباس! قال: [[والله الذي لا إله إلا هو ما نزل قطر في بلاد المسلمين إلا فرحت به، وليس لي فيه ناقة ولا جمل]] انظر محبة الخير للناس، وبعض الناس الآن يكره إذا رأى جاره أو أخاه رزقه الله مالاً أو عقاراً أو ولداً، فهذا من أحقد الناس وأحسد الناس وفيه شبه من اليهود في قلبه، وقد وجد في بعض المجتمعات -والله- أن أحدهم إذا رزق بوظيفة، أو بنى عمارة فكأنها على قلبه ما كأنها على الأرض، قال ابن عباس: [[أما أنا فما سمعت بقطر نزل في أرض إلا فرحت به، وليس لي فيه جمل ولا ناقة، قال: ولا فهمت آية من كتاب الله إلا وددت أن الناس يعرفون منها ما أعرف، ولا سمعت بقاضٍ عادل إلا دعوت الله له وليس لي عنده دعوى]] فدعا الناس ل ابن عباس بالخير، وهذا ما يسمى صفو النفس وكمالها حتى تبلغ إلى الدرجة القصوى.
ولذلك فقد شهد صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة ثلاث مرات أنه من أهل الجنة، فنام معه صحابي ورأى صلاته فلم يجد كثرة صلاة في الليل، ولا كثرة ذكر قال: مالك؟ قال: هو ما رأيت غير أني أبيت وليس في قلبي غل على أحد، فرحم الله ابن عباس رحمة الأبرار.(326/29)
معاذ بن جبل
سابعاً: معاذ بن جبل، أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام، كان يشهد العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرجع إلى قومه ويصلي بهم إماماً وهم مأمومون، ويجعل صلاته الثانية نافلة له ولهم فريضة، وفيه دليل على جواز ائتمام المفترض بالمتنفل، وأنتم ترون بعض الناس إذا أتى متخلفاً ونحن في التراويح والنافلة لا يدخلون معنا وهذا خطأ، بل الأحسن والسنة أن يدخل ولو كان مفترضاً ونحن متنفلون، فإمامة المفترض بالمتنفل واردة لحديث معاذ هذا وهو صحيح، وإمامة المتنفل بالمفترض واردة لحديث الأسود بن يزيد عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم كان في مسجد الخيف، ثم مال فوجد رجلين فأنكر عليهما يوم تركا الصلاة وقال: {مالكما؟ قالا: صلينا في رحالنا، قال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما والناس يصلون فصليا معهم؛ فإنها لكما نافلة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فهنا أربع صور صحيحة، إمامة المفترض بالمفترض وهذا بالإجماع، وهو الذي نفعله، إمامة المتنفل بالمفترض وإمامة المفترض بالمتنفل، وإمامة المتنفل بالمتنفل وكلها واردة، وعلى كل صورة حديث وإنما ذكرتها للفائدة.
وكان معاذ رضي الله عنه يطول بأصحابه إذا صلى بهم، فشكاه أحدهم بعد أن ترك الصلاة معه، وقد كان كما في بعض الروايات يقرأ سورة البقرة أو بعضها في صلاة العشاء، فأتى رجل كان يشتغل في النخل مجهداً، ثم دخل بيته فتوضأ وأتى يلحق معاذاً، فانتظر ركوعه وإذا هو يقرأ وكلما انتهى من مقطع من القرآن بدأ بالمقطع الآخر، معاذ عالم وفاهم وقلبه منشرح للعبادة نشيط، ولكن ظروف الناس تختلف؛ فيهم الضعيف والصغير وذو الحاجة والمريض، فمال هذا الرجل وانفصل فصلى وحده، ثم ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سأل معاذ عنه ماله ما صلى معنا؟ قالوا: ترك الصلاة معك وصلى وحده قال: هو منافق، فذهب الرجل فشكاه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فتغير الرسول صلى الله عليه وسلم وغضب غضباً شديداً واستدعى معاذاً ليحاكمه وقال: {أفتان أنت يا معاذ! أفتان أنت يا معاذ! أفتان أنت يا معاذ؟! اقرأ بالليل إذا يغشى وسبح اسم ربك الأعلى؛ فإنه يصلي وراءك الكبير والصغير والمريض وذو الحاجة} فأخذها معاذ درساً في التيسير ومراعاة الناس في الإمامة، ومراعاتهم في أحوالهم وحاجاتهم، وهو العدل الذي أتى به سُبحَانَهُ وَتَعَالى، لكن حمل بعضهم لسوء فهمهم إلى التخفيف المفرط الذي يضيع روح الصلاة وخشوعها وهدوءها، فهؤلاء مخطئون في صلاتهم.
وأرسله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، لما أتى وفد اليمن فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى أصحابه ليرسل أحدهم، ومن مواصفات الذي يرسل إلى اليمن أن يكون عالماً، وداعية وفقيهاً، وهي مجتمعه في معاذ رضي الله عنه، فهو عالم وداعية وفقيه، فأرسله صلى الله عليه وسلم وودعته أمه وهي تبكي فقال: يا أماه! أَمْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منه بد، فذهب، وودعه عليه الصلاة والسلام، وعند الترمذي أنه قال: {يا معاذ! اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} وهو حديث حسن، وعند الذهبي في سير أعلام النبلاء بسند جيد: {يا معاذ! اذكر الله عند كل شجر وحجر ومدر} وبقي في اليمن حتى توفي عليه الصلاة والسلام ثم أتى إلى المدينة.
وللفائدة فهناك شريط منشور بين الناس وقد سمعتموه عن وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بصوت ملحن وهذا لا يصح، وفيه أحاديث مكذوبة وموضوعة على المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومن ضمن الشريط قال: فدخل معاذ على أبي بكر فأنشد، قال: من بالباب؟ ثم ألقى محاضرة عند الباب، فأنشد معاذ قصيدة وأبو بكر قصيدة، وعمر قصيدة، وعثمان قصيدة، وعلي قصيدة، وكل هذا ليس بصحيح ولا حدث، والذي أتى بهذا الشريط عامي لا يفقه في الإسلام ولا في السنة شيئاً، فليتنبه له.
وقبل أن يذهب معاذ إلى اليمن كان له مع الرسول عليه الصلاة والسلام موقف، ففي الموطأ يقول: {يا معاذ أحسن خلقك للناس} ويظهر أنه كان فيه حدَّة، فالرسول عليه الصلاة والسلام أتى يداوي هذه الأمراض بعلاج من عنده عليه الصلاة والسلام علمه الله إياه، خرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، فذهب هو والمصطفى عليه الصلاة والسلام والجيش، فاقتربت راحلة معاذ من راحلة الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر الليل، فأخذها معاذ فرصة ليسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، فقال عليه الصلاة والسلام: {يا معاذ لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه} والحديث في الترمذي وعند أحمد بسند صحيح {تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، ثم قال: ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، قال: بلى.
قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير، الصوم جنة} يعني غطاء ووقاء وستر من النار {والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا عليه الصلاة والسلام {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16]-إلى آخر الآية- ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ -يعني: ما يجمع لك أمرك ذلك- قال: بلى.
يا رسول الله! قال: كف عليك هذا وأخذ بلسانه -أي: احبسه وألزمه بالخير وجنبه الشر- قال: يا رسول الله! إنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم -أو قال: على وجوههم- إلا حصائد ألسنتهم} وهذا الحديث أصل من أصول أهل الإسلام، وجعله النووي في الأربعين النووية، وفيه قضايا:
أولها: لا عبادة إلا بتوحيد، ولا خير ولا بر إلا بعقيدة صحيحة.
ثانيها: التدرج في التعليم، فلا تبدأ بتعليم الناس السنن وتنسى الفرائض، كأن تأتي إلى أناس لا يصلون الصلوات الخمس فتحدثهم في اللحى، وتقصير الثياب، فلو ربوا لحاهم وهم ملاحدة أو زنادقة فإن ذلك لن ينفع.
ثالثها: أن أبواب الخير طرق إلى الجنة، وأن الناس يتفاضلون بالنوافل، ولذلك قال عز من قائل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32] فالسابقون بالخيرات هم أهل النوافل، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي في الصحيحين عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى قال: {ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها} الحديث.
رابعها: أن اللبيب العاقل الفقيه قد يخفى عليه بعض المسائل، فـ معاذ خفي عليه أن الكلام من اللسان يؤاخذ به العبد، فأخبره عليه الصلاة والسلام أن أكثر ما يدخل الناس النار الألسنة، وتسعة أعشار ذنوبنا وخطايانا من اللسان، فالكذب من اللسان، والغيبة، والنميمة، والاستهزاء، والبذاءة، والفحش، واللعن، وقذف المحصنات، والبهتان، والزور، كل هذه من ذنوب اللسان، ولذلك قال بعضهم: تسعة أعشار الذنوب من اللسان والعشر يوزع على بقية الأعضاء.(326/30)
حديث معاذ في التوحيد ومسائله
ولـ معاذ حديث هو أصل في التوحيد والعقيدة، ركب مع الرسول صلى الله عليه وسلم على حمار اسمه يعفور وقيل عفير، وسيد الخلق وأبرهم وأشرفهم يركب الحمار ولكنه يقود القلوب إلى باريها.
يركب الحمار ولكنه أوجد رسالة خالدة أبد الدهر.
يركب الحمار ولكنه أرسل كتائبه ترفع لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتبني العدل والسلام والإيمان.
يركب الحمار ولكنه زرع في الدنيا الإيمان والحب والطموح.
يركب الحمار ولكنه أخرج من الجزيرة العربية الساذجة علماء وشهداء وأدباء والله ما اكتحلت عين الدهر بمثل مرآهم؛ كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
أتطلبون من المختار معجرة يكفيه شعب من الأموت أحياه
ومن هذا يستفاد التواضع في ركوب الدابة، وفيه أن صاحب الدابة أولى بصدرها، وفي الحديث جواز الإرداف على الدابة إذا لم تتضرر، وفيه أنه لا بأس بأن يحدث الفاضل المفضول في مسائل تخص الأمة، قال صلى الله عليه وسلم: {يا معاذ! قال: لبيك وسعديك يا رسول الله! قال: أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم} وفيه أن من لا يعلم شيئاً فليكل علمه إلى الله، وهل يجوز لنا أن نقول بعد وفاته صلى الله عليه وسلم: (الله ورسوله أعلم) كأن تسأل أنت في مسألة اليوم فتقول: الله ورسوله أعلم، وقد مات الرسول عليه الصلاة والسلام، الصحيح عند أهل العلم أنك تقول: الله أعلم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته لا يعلم شيئاً، أما في حياته فقد كان الصحابة إذا سئل أحدهم في مسألة وصعبت عليه قال: الله ورسوله أعلم، لكن إذا سئلت أنت في مسألة ولم تعرفها فقل: الله أعلم فقط، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يعلم بعد موته شيئاً، لأنه ميت في قبره موتاً الله أعلم به، لكن حرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وللفائدة صح الحديث في أجساد الأنبياء ولم يصح لفظ الشهداء، وقد سمعنا بعض الخطباء يقول: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء والشهداء، فزيادة الشهداء ليست صحيحة.
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
لكن للفائدة فهو صلى الله عليه وسلم لا يشفع في قبره ولو كان يشفع كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية أو يستسقى به لفعل عمر ذلك وترك العباس، فهل ذهب إلى القبر وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: قد قحطنا يا رسول الله! فادع الله أن يسقينا، لا.
بل ترك ذلك وذهب إلى العباس وقال: إنك عم الرسول عليه الصلاة والسلام فادع الله أن يسقينا، وقال في دعائه: اللهم إنا كنا إذا قحطنا استسقينا برسولك فتسقينا، وإنا نستسقي إليك بعم رسولك فاسقنا، ولذلك تجد الخرافيين وأهل النقص والبدعة يشكو أحدهم مرضه كما أتى البرعي من اليمن ووقف في الروضة وهو شاعر اليمن المخرف البدعي:
وهو من أقوى الشعراء صراحة، لكنه مخرف، يقول:
يا رسول الله يا من ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاما
فأقلني عثرتي يا سيدي في اكتسابي الذنب في خمسين عاما
يقول أنا مذنب وعمري خمسون عاماً، وأريد أن تقيلني عثرتي هذا اليوم في الروضة، وهو عليه الصلاة والسلام لا يملك ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا ينجح أحداً ولا يشافي أحداً ولا يمرض أحداً، ولا يغني أحداً ولا يفقر أحداً، أتى برسالة بلغها إلى الناس وانتهى، ويقول البوصيري وهو شاعر لكنه خرافي أيضاً:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يازلة القدم
يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ كل الخطأ وأساء كل الإساءة: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3]
ولذلك سر التوحيد تعظيم الله، وسر الشرك تعظيم غير الله، ومن أراد أن يتوسع في هذا الباب فعليه بالمجلد الأول من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ووالله إن هذا المجلد لو كتب بماء الذهب ما أُنصف، فإن فيه رقائق وهو يرفع القلب، ويصل القلب بالباري، ويخبرك من أنت ومن هو الله، ويفصل لك بين الخالق والمخلوق، ويفتح لك أبواباً في التوحيد ما سُمعت، وما كتبها إلا ذاك الإمام من الكتاب والسنة.
فقال: {ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم مضى برهة وقال: يا معاذ! قال: لبيك وسعديك يا رسول الله! قال: أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً} عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث كما يقول أهل العلم مسائل قد تربو على عشرين مسألة:
منها طرح الإمام المسألة على التلميذ ليفهم ما عنده ولو كان العالم فاهماً لها.
ومنها: أن من لا يعلم شيئاً يكل علمه إلى الله، ولذلك يخطئ كثير من طلبة العلم يوم يتقحمون الفتيا لئلا ينكسر جاه أحدهم، فيسأل عن مسألة، فيجيب لأنه إذا قال: لا أدري سيقول الناس: سبحان الله! درس في الشريعة، وأصول الدين، ولا يدري! وهذا خطأ فاحش، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[ما أبردها على قلبي إذا سئلت مسألة لا أعرفها فقلت: لا أدري]] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116].
ومنها: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أتى بالتوحيد وهي رسالة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام جميعاً وهو حق الله على العبيد كما ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد.
ومنها: أن من أتى بالتوحيد ثم أتى بذنوب فهو إلى الله؛ إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه، لكنه لا يخلد في النار، فـ أهل السنة يقولون: إن أهل الكبائر مسلمون ولا يخلدون في النار إن دخلوها، والخوارج أخرجوهم من الملة، وقد أخطئوا في ذلك، فصاحب الكبيرة نخشى عليه العذاب ونرجو له الرحمة من أرحم الراحمين، وقد يدخل النار سنوات أو مئات الأيام والأشهر فالله أعلم، هذا معتقد أهل السنة في أهل الكبائر، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي} وفي القرآن أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31].
وإذا سمعتم أحاديث الكفارات في السنة فهي كما قال أهل العلم من أهل السنة: كلها للصغائر، أما الكبيرة فيشترط لها التوبة، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: {الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، والعمرة إلى العمرة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما لم تؤت كبيرة} فأخرج هذا الاستثناء الكبيرة، ولذلك لا تكفر الكبيرة إلا بتوبة، وأما الصغائر فتكفر بما ذكر فليتنبه العبد؛ لأن بعض الناس الآن يصلون في رمضان وتجد المساجد الآن مزدحمة بالناس يصلون ويقرءون القرآن فإذا سألت بعضهم من الجهلة قالوا: لأنه كفارة ما بينه وبين رمضان الماضي، وقد ارتكب كبائر كالجبال لا يكفرها رمضان ولا يأتي عليها، فليتنبه لهذا.
وأما معاذ رضي الله عنه فشارك في اليرموك، وقاتل قتالاً شديداً، وقرأ سورة الأنفال على الناس حتى أبكاهم، وكان فصيحاً رضي الله عنه خائفاً من الله، وحضرته الوفاة في عسقلان في أرض فلسطين، وسبب ذلك أنه سأل الله أن يموت شهيداً فأتاه الطاعون {والطاعون شهادة لكل مسلم} كم صح عنه صلى الله عليه وسلم، جاءه كالدرهم في كفه فحك هذا المكان فقال له الصحابة: شافاك الله يا معاذ! قال: لا.
اللهم إنك تكبر الصغير وتبارك القليل، اللهم بارك في هذه القرحة ثم قيل له: لماذا؟ قال: كرهت الحياة وسئمت العيش.
عمره يوم توفي ثلاث وثلاثون سنة فقط، كل هذا العلم والجهاد والتضحية في ثلاث وثلاثين سنة.
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر
ولو كان يعطى من أعمار بعض الناس أعطي والله مقل العيون، حضرته الوفاة وأتته سكرات الموت قبل صلاة الفجر، فقال لابنته: اخرجي وانظري هل طلع الفجر، فخرجت وقالت: لم يطلع، فعاد فقال: اخرجي وانظري هل طلع الفجر، قالت: طلع، قال: اللهم إني أعوذ بك من صباح إلى النار، هذا اليوم الذي يستقبله معاذ أول يوم من أيام الآخرة، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] وهذا أول يوم من المرحلة التي يقدم بها على عمله عند الله، ثم التفت وقال: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الحياة لغرس الأشجار ولا لجري الأنهار ولا لرفع القصور، ولا لعمارة الدور وإنما كنت أحب الحياة لثلاث لمزاحمة العلماء بالركب في مجالس الذكر، ولمجالسة أقوام ينتقون لي أطيب الكلام كما ينتقى أطيب الثمر، وأن أعفر وجهي ساجداً لك في التراب وفي لفظ آخر في قصته وسيرته قال: بدل انتقاء أطايب الكلام كانتقاء أطايب الثمر قال: وأن أصوم الهواجر، وهي شدة الحر ثم فاضت روحه إلى مولاها وانتقل من الحياة في ثلاثة وثلاثين سنة كلها جهاد وعلم وعبادة: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
هذه من سيرة معاذ المختصرة، ومن أراد أن يعود إليها باستفاضة فليراجع سير أعلام النبلاء المجلد الأول للذهبي فقد دبج في سيرته كلاماً أحسن من سبائك الذهب ومن عقود اللؤلؤ والمرجان.(326/31)
دروس وعبر من سيرة معاذ
ونستفيد من سيرة معاذ دروساً:
أولها: ينبغي على الإمام كما مر معنا في الصحيحين أن يتوخى حال المأمومين قوة وضعفاً وشيخوخة وحاجة ومرضاً، فلا يطول عليهم التطويل الممل، ثم لا يقصر تقصيراً مخلاً بل يكون وسطاً كما كان عليه الصلاة والسلام.
ثانيها: أنه قد يخفى على العالم بعض الأمور فإنه قد خفي على معاذ وهو من أعلم الناس بعض المسائل وما نقص من قدره لأن علم الصحابة علم الخشية: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ثم ألحقوا علم الجزئيات فقد يخفى على أحدهم جزئية ولا تنقص من قدره بل إذا قال: (لا أدري) ازداد ثقة عند الناس وتمكناً في فنه وعلمه.
ثالثها: أن العلماء يتفاضلون، وأفضل علماء الأمة فيما نعلم أو قائدهم خلا الخلفاء الراشدين معاذ بن جبل، فقد حسن عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أنه قال: {معاذ يأتي يوم القيامة أمام العلماء برتوة}.
رابعها: أن طريق الجنة عمل عندنا، وليس كما قال غلاة الصوفية من تصوف فصفا، ومن أخذ الوفاء حتى تدرع بالوفاء، هذه كلمات ما أنزل الله بها من سلطان وخزعبلات: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] طريق الجنة عندنا في سورة يونس: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63].
طريق الجنة عندنا في سورة الأنبياء: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:101 - 103].
وطريق الجنة في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:30 - 31].
هذا أبو إسحاق الأندلسي يوصي ابنه ويقول في طريق الجنة:
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
وناد إذا سجدت له اعترافاً بما ناده ذو النون بن متى
إذا ما لم يفدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا
وإن ألقاك فهمك في مغاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
وأنا أكرر مسألة هي معلومة لديكم أن الفارق بين علم السلف والخلف هي خشية الله، ولذلك لم يرتفع علماء الصحابة إلا بخشية الله، كان أحدهم لا يحفظ إلا ثلاثين حديثاً أو عشرين أو أربعين ولكنه من أعلم العلماء قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ووجد في المتأخرين من يحفظ القرآن كاملاً وآلاف الأحاديث ولكنه فاسق {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} [الأعراف:175 - 176].
سلام على معاذ في الخالدين، ورضي الله عنه مع الصديقين والشهداء والصالحين، وألحقنا الله به في جنة المكرمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(326/32)
السراج المنير
من هو السراج المنير؟!
إنه معلم الأمة وقائدها المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو الرحمة المهداة.
والشيخ تعرض هنا لذكر صفاته صلى الله عليه وسلم، وكيف كانت عبادته، وأخلاقه، ودعوته، ومعاملاته، فكان بحق سراجاً منيراً.(327/1)
النبي صلى الله عليه وسلم يربي الأجيال أعظم تربية
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، وصلى الله على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، وصاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
ولو أنه حسن فريد عذرته ولكنه حسن وثان وثالث
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وما دام أن الحسن ثلاثة، فأتقدم وأنثر على رءوسكم باقة من الشعر ثلاثة أبيات، ولكنها لا تعبر إلا عن الحب والوداد والصفاء وتعبر عن الإيمان وعن الحب والطموح.
سلام الله أرفعه إليكم بأشواقي وحبي والتحية
وأرفع من ربى أبها سلاماً إلى الأحساء في أحلى هدية
ونادي الفتح أبلغه سلامي وشكري والوفاء بما لديَّه
إن كان من شكر فلله الواحد الأحد، ثم لأهل الفضل؛ لأنّا أمة نقول للمحسن: أحسنت، وللمسيء: أسأت، فقد أحسن هذا النادي يوم جعل من رسالته الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وأعلن تفوقه في عالم الإيمان ليقول للناس: إن الرياضة بلا إيمان ملعبة، وإن القلب بلا إيمان كتلة لحم ميتة، وإن العين بلا إيمان مقلة عمياء، وإن اليد بلا إيمان إشارة شلاء، وإن الكتاب بلا إيمان كلام مصفف، وإن القصيدة بلا إيمان كلام ملفف، فلا حياة إلا بالإيمان، ما جئنا لنلعب وما جئنا لنهدي إلى العالم الرياضة، فهم الذين أهدوا لنا الرياضة ولكن جئنا لنعيد الرياضة باسم الإيمان، وندخلها إلى العالم بالإيمان، ونعلم العالم أننا أمة الإيمان والحب والطموح.
وعنوان هذا اللقاء المفتوح: السراج المنير وهو محمد عليه الصلاة والسلام، والله وتالله، وايم الله ما طرق العالم أفضل منه، ولا أنبل ولا أعدل ولا أجل منه أبداً، يعلم ذلك من يعلمه، ويجهله من يجهله {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
يا أمة كانت ضائعة قبل الإسلام، هو الحديث الليلة عن رسولكم الذي أتى بالإسلام.
يا أمة كانت تلعب بالعرض والدم والنار! هذا هو رسولكم صلى الله عليه وسلم يذكر هذه الليلة.
إن البرية يوم مبعث أحمدٍ نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
فأمدها مدداً وأعلى شأنها وأزال شانئها وأصلح بالها(327/2)
تربية لأبي بكر وعمر
من جعل أبا بكر الصديق يصبح أول خليفة يبايع على الكتاب والسنة فتبكي القلوب قبل العيون؟ من جعل عمر بن الخطاب يقف ببردته الممزقة يوم الجمعة، وبطنه يقرقر من الجوع، فيقول لبطنه: [[قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين!]]؟
من جعل كسرى وقيصر الذين حكما أكبر دولتين في الأرض إذا ذكر عمر بن الخطاب في دواوينهم أغمي عليهم؟
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
اليوم وفي هذه الليلة، أريد أن أتحدث عنه صلى الله عليه وسلم، لكن أصابني الدهش، وأصابني الذهول من أين أبدأ؛ وفي أي مكان أنتهي؛ وفي أي باب ألج إلى عظمته صلى الله عليه وسلم؟!
إنني لا أتحدث عن عظيم فحسب، بل معلم للعظماء ولا عن عالم فحسب، بل أستاذ للعلماء، ولا عن أديب فكفى، بل مخرج للأدباء.
أي عظيم للدنيا أو مصلح، إنما هو ورقة من شجرته عليه الصلاة والسلام:(327/3)
عقبة بن نافع رباه النبي صلى الله عليه وسلم
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
الرسول عليه الصلاة والسلام أدهشتني وأدهشتكم عظمته ولا تدهش إلا من يؤمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، جباهنا كانت في الأرض مدسوسة قبل مبعثه، فلما بعث رفع جباهنا، وانطلقنا بعد خمسٍ وعشرين سنة على الجبال وعلى المحيطات نرفع لا إله إلا الله، وقف عقبة بن نافع بفرسه على المحيط الأطلنطي يقول للماء: يا ماء! أوراءك أرض؟ والله، لو أعلم أن وراءك أرض لخضت البحر إليها لأنشر اسم الله العظيم هناك(327/4)
ربعي بن عامر
يدخل ربعي بن عامر أحد الصحابة في القادسية على رستم قائد أنو شروان الضال المبتدع الخرافي الجاهل، فيضحك رستم، يضحك من العرب!! الذين كانوا بدواً لا حضارة لهم ولا ثقافة ولا معرفة، يطاردون الضب والجعلان، ويأكلون الخنافس، وينامون على وجوههم في الصحراء
القوميون اليوم يقولون أنهم أهل تاريخ من قبل البعثة، وكذبوا لعمر الله، والترابيون يقولون: تاريخنا قديم من عهد عنترة، وحاتم الطائي، عنترة والله ما سفك إلا دماءكم، وحاتم الطائي إن أطعم بغاله وحميره فما كان يؤمن بالله.
فلما أتى صلى الله عليه وسلم دفع هذا الجيل ليأخذ منبر العالم، ويتكلم إلى المعمورة، ولذلك يصل ربعي بن عامر في ثيابه الخلقة التي ما غيرها -ما فتحنا الدنيا والله بعتاد هائل على الشعوب، لكن بإيمان وحب وطموح- فدخل على رستم وقال رستم وهو يضحك لوزرائه، ويلتفت إلى المسلم: أتريد أن تفتح هذه الدنيا بفرسك المعقور ورمحك المثلم، وبثيابك البالية؟! قال ربعي: [[نعم.
إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]] وانتصر الإسلام وارتفعت لا إله إلا الله.(327/5)
قصة محمد بن واسع
قتيبة بن مسلم يحاصر كابل، فلما حضر قال: أين محمد بن واسع؟ ومحمد بن واسع عابد زاهد عالم، قالوا: هو في طرف الجيش، قال: اذهبوا إليه وانظروا ماذا يفعل، فذهبوا ونظروا، فإذا هو يذكر الله ويدعو الله وإصبعه تشير إلى السماء، فعادوا إلى قتيبة فدمعت عينا القائد قتيبة، وقال: والذي نفسي بيده لأصبع محمد بن واسع، خير عندي من مائة ألف سيف شهير، ومن مائة ألف شاب طرير.
وانتصر الإسلام يوم عرفنا الله، والأمة التي لا تعرف الله يعرفها نفسه بالأعداء، ويدعك أنفها في التراب حتى تعرفه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وثقافة بلا إيمان والله لا تنتج إلا خسارة ودماراً وانهزامية، وأدب بلا إيمان ضياع لمعطيات الشعوب والأمم، ورياضة بلا إيمان ضحك على العقول، وضحك على العقلاء والعلماء وعلى الأمم جميعاً، يوم أتى صلى الله عليه وسلم كان الناس بحاجة إلى مصانع، ومأكولات، ترك ذلك وبنى مسجده من طين، وبدأ من مسجده يبث الثقافة الهائلة والحضارة العامرة، يعلم في مسجده صلى الله عليه وسلم، أخرج أكبر العلماء وأجل المفسرين، وأكبر الأدباء، فما حصر مسجده في مهمة، إن بعض الناس قد ينكر استخدامنا لبعض الوسائل، ويقول: كيف تحضر هذه الوسائل في مثل المسجد؟ إننا نقول له: يا أيها المسلم! أنترك هذه الوسائل للكافر ليتعدى بها علينا ويبث بأفكاره في مجتمعاتنا بالوسائل ونبقى على الوسائل البدائية الساذجة القديمة؟ لا.
والله لا يسبقنا، نحن أمة الإيمان والحب الطموح.
الرسول صلى الله عليه وسلم يعقد مهرجاناً أدبياً في مسجده ويحضر الشعراء في مسجده ويقرب المنبر بيديه الشريفتين لـ حسان ويقول: {اهجهم وروح القدس تؤيدك} الرسول صلى الله عليه وسلم يعقد الندوات، ويحول المسجد إلى دار قضاء يفاوض القضاة ويطرح الأحكام والفتيا.
الرسول صلى الله عليه وسلم يجعل من المسجد مجلس شورى، ويجعل صلى الله عليه وسلم من المسجد تعليماً وتربية وثقافة، من أين أدخل عليه صلى الله عليه وسلم؟
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران:159] الله يزكيه من فوق سبع سموات ويقول له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] عظيم صبرك، وعظيم حلمك وكرمك، كيف استطعت على أمة العرب التي هي كقرون الثوم متشاكسة متضاربة متحاربة متحاقدة، كيف جمعت بينها وألفت بين قلوبها؟ قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
إن أكبر معجزة أن يأتي صلى الله عليه وسلم إلى أمة أمية، إلى أمة جاهلة وهو أمي، فيبني منها أعظم حضارة في تاريخ الإنسان.
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه
من جعل الرجل من الصحابة يتذكر عظمة الله في كل ساعة وفي كل طرفة؟
عمر بن الخطاب يمر على راعي غنم ويقول لراعي الغنم: [[يا أيها الراعي! بعني شاة من غنمك، قال: إنها لسيدي وإن سيدي لا يسمح بذلك، قال: قل لسيدك أكلها الذئب، قال الراعي: الله أكبر يا عمر! أين الله؟ فبكى عمر حتى جلس، وقال: إي والله أين الله؟]] فمن علم الراعي مراقبة الواحد الأحد؟(327/6)
النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للمخلوقات كافة
الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أول عنصر معي في هذه الليلة، يبدأ الدعوة فكيف طرح الدعوة؟ إنه رحمة مهداة، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين حتى يقول بعض المفكرين الإسلاميين: عجيبة الدعوة تعلن عالميتها في أول أيامها رسالته صلى الله عليه وسلم -أي والله، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] وهذا عموم، يقتضي أنه رحمة علية الصلاة والسلام للمسلم وللكافر وللحيوان وللإنسان، وسأضرب أمثلة لذلك(327/7)
بكاؤه لموت ابنه إبراهيم
يأتي عليه الصلاة والسلام إلى ابنه إبراهيم وهو في السنتين، والابن فلذة الكبد وشذا الروح، يموت إبراهيم بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيبكي وتدمع عيناه الدموع الحارة الساخنة، ويقول وهو في ساعة الفراق: {تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون} يُدفع له ابن بنته فيبكي عليه الصلاة والسلام، فيقولون: مالك يا رسول الله؟ يظنون أن العظماء لا يبكون، والعظماء لهم وقت للبكاء ووقت للصفاء، ووقت لرفع الراية إلى السماء، بكى عليه الصلاة والسلام فقالوا: مالك تبكي؟ فقال: {رحمة وضعها الله في قلب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء}.(327/8)
التجوز في الصلاة من أجل الأمهات
يصلي بالناس فيسمع بكاء الطفل في آخر المسجد، يتذكر الأم والمرأة المسلمة، فيتعجل في صلاته، ويسلم ويقول: {إني أريد أن أطيل في صلاتي فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي؛ كراهة أن أشق على أمه} هذه الأحاديث عند البخاري ومسلم.
يأتي عليه الصلاة والسلام برحمته بالناس حتى في الصلاة، يقول: {يا أيها الناس! من أمَّ منكم بالناس فليخفف فإن فيهم الكبير والصغير والضعيف، وذا الحاجة} يأتيه معاذ وقد طول في الصلاة حتى شكى إليه؛ فيغضب عليه الصلاة والسلام لأن استجلاب القلوب لا يأتي بالعنف والشدة ويقول له: {أفتان أنت يا معاذ؟ أفتنان أنت يا معاذ؟}.(327/9)
رحمته بالحيوان والكفار
أما رحمته بالحيوان فيروي ابن مسعود في حديث حسن: {أن حمرة -وهي نوع جميل من أنواع الطيور- رفرف على رأسه عليه الصلاة والسلام وهو جالس تحت شجرة، فقال لأصحابه: أتدرون ما لهذا الطائر؟ قالوا: لا.
قال: إنها تشكو، وقال: من فجعها بأفراخها؟ ردوا عليها أفراخها، ثم أعاد إليها صلى الله عليه وسلم أفراخها في عشها} فرجعت طليقة.
جاءت إليك حمامة مشتاقة تشكو إليك بقلب صب واجف
من أخبر الورقاء أن مكانكم حرمٌ وأنك ملجأ للخائف
الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة حتى للكافر قال تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] وفي حديث حسن أنه صلى الله عليه وسلم دخل مزرعة رجل من الأنصار فأتى جمل مجهود، فضرب بجرانه الأرض أمام المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: {إن هذا الجمل يشكو إليَّ ظلم صاحبه} أليست رحمة؟
إي والله رحمة، رحمة بالطفل المسلم {يأتي صلى الله عليه وسلم بـ أمامة بنت زينب -كما في الصحيحين من حديث أبي قتادة - ويصلي وهي على كتفيه في الفريضة، فإذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها} إنه الرحمة المهداة والنعمة المسداة صلى الله عليه وسلم.(327/10)
دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم
والعنصر الأول: كيف عرض صلى الله عليه وسلم دعوته للناس.
أولاً: عرض دعوته بأساليب ثلاثة، بالأصالة والعمق، واليسر والسهولة بلا تعقيد.
إننا إذا تكلمنا مع الناس في الدعوة والعلم اليوم، نطنطن بالكلام ونرجف بالحديث، نأتي بكلام فوق المستوى، نقول للناس: العقيدة تنطلق من أطر وتنبثق في بوتقة، وتنصهر في بوتقة، ولا يعرفون الأطر ولا يعرفون الانبثاق، ولا يعرفون البوتقة.(327/11)
قصة ضمام بن ثعلبة
في الصحيحين من حديث أنس، قال: {قدم ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر، والرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد، فأتى هذا الرجل فعقل ناقته في طرف المسجد، ومضى يخترق الصفوف، وهو يقول: أين ابن عبد المطلب؟ -هو الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ابن عبد الله ولكنه أشهر في العرب بجده من أبيه، لأنه كما قال في حنين:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
قال الصحابة: هو ذاك الرجل الأبيض الأمهق المرتفق -الأمهق: المشوب بحمرة، المرتفق: المتكئ، فنادى الأعرابي لأنه ما تعلم الأدب والإيمان، ولا الحب والطموح، والله يقول: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63]-.
قال: يا ابن عبد المطلب! يا ابن عبد المطلب! -فأخذ صلى الله عليه وسلم بلين ولطف، ويسر وسهولة، لأنه يسبي القلوب، لكن إلى باريها تبارك وتعالى- قال: قد أجبتك، قال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة -أي: عندي سؤال خطير، وبالفعل أعظم سؤال في تاريخ البشرية! وأجل سؤال في تاريخ الإنسانية هو هذا السؤال! أعظم أطروحة وقعت على الأرض- إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: سل ما بدا لك؟
قال: يا رسول الله! من رفع السماء؟ قال: الله، قال: من بسط الأرض؟ قال: الله -هذه مسلَّمات- قال: من نصب الجبال؟ قال: الله، قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال، آلله أرسلك إلينا رسولاً؟ وكان متكئاً فتربع واحمر وجهه من عظم السؤال، ثم قال: اللهم نعم.
قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟ وأخذ يسأله عن أركان الإسلام فلما انتهى، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، آمنت بما جئت به، أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر، والله، لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص، ثم ولى -والرسول صلى الله عليه وسلم، يتابعه بالنظرات والبسمات والارتياح- ويقول: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا} هذه هي الجنة، هذا هو الطريق الميسور الذي بينه صلى الله عليه وسلم، ليكون قدوةً لدعاة العالم، ومن هذا الدرس، أو من هذا الحديث، نأخذ ثلاثة دروس:
أولها: أن اليسر لا بد أن يصاحب الداعية في طرحه لقضاياه ودعوته بين الناس.
ثانيها: البداية بالأولويات والكبار من المسائل.
ثالثها: أن من أتى بالفرائض واجتنب المحرمات، دخل الجنة بإذن الله.
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
لمن؟ لمن أحسن العمل بالكتاب والسنة.(327/12)
قصة الأعرابي الذي أخذ ببرد النبي صلى الله عليه وسلم
الرسول عليه الصلاة والسلام في مجلس آخر يتكلم مع الصحابة، وفجأة دخل أعرابي، يأتي إلى أكرم من خلق الله، وإلى أعظم من عبد الله وأكرم من أوجد الله فيسحبه ببردته -والحديث في الصحيحين - وبردته صلى الله عليه وسلم كانت نجرانية حاشيتها غليظة، فأثر ذلك برقبته، سحبه سحباً، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم غير مغضب، كان وجهه بساماً، إن وجهه طليق، يقول جرير بن عبد الله في صحيح البخاري: {ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا وتبسم في وجهي} هكذا يكون المسلم، وهكذا تكون الدعوة؛ قيل لأحد العلماء: ما هو السحر الحلال؟ قال تبسمك في وجوه الرجال.
وأحد الشعراء يذم قوماً بانقباض الوجه وبالغضب وبالتزمت، ويمدح قوماً ببسطة الوجه فيقول:
وجوههم من سواد الكبر عابسة كأنما أوفدوا غصباً إلى النار
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً أهدوك من نورهم ما يتحف الساري
من تلق منهم تقل لا قيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
نعود إلى الحديث: أنه دخل أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسحبه ببردته؛ فالتفت صلى الله عليه وسلم، يضحك كما في رواية أنس سبحان الله! لا تغادره البسمة حتى في هذا الموقف، أي نعم؛ فقال أعطني -والكلام أسوأ من الفعل- قال: أعطني من مال الله الذي عندك لا من مال أبيك ولا من مال أمك، ما هو الداعي لجرح الشعور؟ لماذا يفترض هذه الأسئلة؟ فهمَّ الصحابة أن يقتلوه، وعمر متهيء وجاهز كل لحظة أن يقتله، كان عمر رضي الله عنه وأرضاه، إذا رأى رجلاً يخالف، قال: يا رسول الله! دعني أضرب عنقه، ولو فتح له صلى الله عليه وسلم الباب لقتل نصف الناس، لكنه صلى الله عليه وسلم يهدئ ويقول: دعه يا عمر! ويأخذه صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فيعطيه ثياباً وحباً وزبيباً؛ لأنه ما أراد حباً وإيماناً وطموحاً، فلما أعطاه قال: أحسنت إليك؟ قال: نعم.
جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، قال: اخرج إلى أصحابي وأخبرهم بما فعلت بك ليذهب ما يجدونه في صدورهم عليك، فخرج وقال أمام الصحابة: أحسنت إليك يا أعرابي؟ قال: نعم جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، ثم عاد إلى قبيلته وقال: أيها الناس! أسلموا، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة -أو الفقر- فأسلموا عن بكرة أبيهم، فيقول صلى الله عليه وسلم محللاً القصة، ومعلقاً على الحدث أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الأعرابي؟ قالوا: لا ندري، قال: كرجل كانت له دابة فرت منه، فأخذ يلاحقها فلما رأى الناس هذا الرجل يلاحق الدابة، ذهبوا يبحثون عن الدابة فما زادت إلا فراراً، فقال لهم: يا أيها الناس! اتركوني ودابتي، فإني أعلم بها فأخذ شيئاً من خضار الأرض ولوح للدابة به فأتت وربطها واستسلمت له، فلو تركتكم وهذا الأعرابي لكفر ودخل النار، قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].(327/13)
الأصالة والعمق في دعوته صلى الله عليه وسلم
إن عظمته صلى الله عليه وسلم تأتي من عرضه للدعوة، باليسر والسهولة، والأصالة والعمق، والأصالة هي وضع الأمور مواضعها وكان صلى الله عليه وسلم يعرف التخصصات، فيأتيه الرجل يسأله عن أفضل عمل فينظر إليه صلى الله عليه وسلم، في سنن الترمذي عن عبد الله بن بسر: {أنه أتى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله} لأنه شيخ كبير، شيخ دنف وقرب من المقبرة لا يستطيع الصيام، ولا يستطيع كثرة الصلاة.
يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم غيلان الثقفي -والحديث صحيح وهو رجل تام البنية- فيقول: {يا رسول الله! دلني على أفضل عمل؟ قال: عليك بالجهاد في سبيل الله} يأتيه رجل له والدان مقعدان، فيقول: أريد أن أجاهد، قال: {أحي والداك؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد} أي أسلوب في الأصالة هذا الأسلوب.
إن كثيراً من الناس يعرضون الدعوة عامة بدون النظر إلى ظروف الناس وطاقاتهم وملابساتهم، أما هو صلى الله عليه وسلم فكان أصيلاً في إيصال المعلومة إلى أذهان الناس.
أما العمق فإنه صلى الله عليه وسلم كان عميقاً في أداء رسالته للناس، يرسل معاذاً إلى اليمن، والحديث في الصحيحين، قال: {إنك سوف تأتي قوماً أهل كتاب} -انظر إلى قضية أهل كتاب أي: فاعرف من تخاطب، واعرف أنك في مجتمع متعلم- {فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة} ثم أخذ يتدرج معه صلى الله عليه وسلم، حتى انتهى، هذه نبذة من عرضه لدعوته للناس، لكن تعالوا ننظر إلى عبادته صلى الله عليه وسلم.(327/14)
عبادة المصطفى صلى الله عليه وسلم
يا أيها المسلمون! يا شباب الصحوة! يا روافد الخير! يا طلعات اليُمن! يا من حمل أجدادهم لا إله إلا الله، محمد رسول الله للبشرية! يا من قال فيهم شاعر الإسلام محمد إقبال وهو يحييهم:
نحن الذين استيقظت بأذانهم دنيا الخليقة من تهاويل الكرى
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أم من رمى نار المجوس فأطفئت فأبان وجه الصبح أبيض نيراً
يا أيها الشباب الصاعد! ويا أيها الشيوخ المقبلون على الله! يا أيتها الفتاة التي عرفت إيمانها وحبها وطموحها! أقرب الطرق إلى الله طريق العبادة، مدح الله الأنبياء فختم مدحهم فقال: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73] وأصلح زوجة زكريا له فبماذا أصلحها؟ لأنه طويل أو عريض أو بدين أو سمين، لا والله، قال: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:90] السبب: {إنهم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] حفظ الكنز على الولدين في سورة الكهف فقال: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82] فحفظ الله الكنز، لأن أباهما كان صالحاً.(327/15)
النبي صلى الله عليه وسلم يوصف ويمدح بالعبادة لله
يمدح الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فما قال له: يا أبا القاسم، وما قال له: يا أيها الهاشمي، ولا قال له: يا ابن عبد المطلب، إنما قال له: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1].
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
شرفك في عبادتك، وقربك من الله في عبادتك، جاء في صحيح مسلم عن ربيعة بن مالك رضي الله عنه قال: {كنت أبيت مع النبي صلى الله عيله وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال: يا ربيعة! سل، قلت: أسألك مرافقتك في الجنة؟ قال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود}
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريباً
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليباً
كم تكرر هذه الأبيات، ولكن تكرر وتكرر.
كرر العلم يا جميل المحيا وتدبره فالمكرر أحلى
ابن تيمية دخل على ابن قطلوبك، قال: يا ابن تيمية! أتريد ملكنا؟ أتريد مالاً؟ فابتسم ابن تيمية ابتسام المستعلي بإيمانه، وقال: والله، ما ملكك ولاملك آبائك وأجدادك، يساوي عندي فلساً.
إن ابن تيمية يريد الجنة، ويريد رضا الله، وما عند الله.
وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان: {فإنك لن تسجد لله سجدة، إلا رفعك بها درجة}.(327/16)
ميزة العبادة عند النبي صلى الله عليه وسلم
تميزت عبادته صلى الله عليه وسلم بثلاث خصائص:
أولها: اليسر وهي في الدعوة كذلك.
ثانيها: الجودة، قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] وجد من الناس من يصلي في اليوم خمسمائة ركعة، غلاة الصوفية صلوا خمسمائة ركعة، لكن بعضهم كان ينام واقفاً، يصلي ويصلي حتى ينعس واقفاً، وهذه ليست عبادة، يقول ابن الجوزي في تلبيس إبليس: مروا على رجل يصلي الفريضة من الصوفية وهو ينعس قالوا: مالك؟ قال: ما نمت البارحة، أصلي النافلة، قال له أحد العلماء: أتسهر في نافلة حتى تنعس في فريضة؟ وذكر الخطابي في كتاب العزلة: أن أحد غلاتهم وجهلتهم حجب عينه بورقة، قالوا: مالك؟ قال: إسراف أن أنظر بعينين إلى الدنيا.
هذا هو فقه العجائز، فقه عجائز نيسابور، هذا هو الورع البارد، يقول: إسراف أن أنظر بعينين إلى الدنيا، والله يقول وهو يمتن على العبد: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ.
وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ.
وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] فكيف يجعل الله له عينين وهو يريد عيناً واحدة، إنه الجهل، فميزة عبادته صلى الله عليه وسلم، الجودة مع اليسر.
والمسألة الثالثة: مراعاة الأحوال:
فكانت ميزته في الجهاد جهاداً، وفي الصلاة خشوعاً، وفي الذكر اطمئناناً وسكينة، وفي التعليم تفهيماً.
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بؤسها(327/17)
بكاء النبي صلى الله عليه وسلم من خشية الله
يقف عليه الصلاة والسلام -والحديث عند ابن أبي حاتم بسند جيد- على باب امرأة من الأنصار، وذلك يوم كانت المرأة المسلمة المصلية في الليل، يوم كانت تتذكر موعود الله، يوم كانت المرأة المسلمة كالدرة في بيتها، والإسلام جعل المرأة درة محمية مصونة مرعية مشرفة مكرمة.
يقول استالين هذا الروسي اليهودي: المرأة شيطانة، وكذب فإنه هو الشيطان الرجيم، ولينين يقول لها: فتانة لا يكون لها نصيب في المجتمع، والجاهليون الوثنيون المشركون من قريش وغيرهم لا يجعلون لها حظاً في الميراث، ولا يجعلون لها سمة ولا شارة ولا كلاماً.
وغاندي المجرم الهندي، يأتي إلى المرأة ويقول: متى كانت المرأة إنسانة؟ سبحان الله! والله عز وجل يقول في كتابه: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] والله يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] وهذا استطراد لا بد منه في مثل هذا المكان، فيوم كانت المؤمنة مرعية في بيتها تعرف الله، وتربي الأجيال، وتخرج العلماء والدعاة من البيت.
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم نبت إن تعاهده الحياء بالري أورق أيما إيراق
{يمر عليه الصلاة والسلام، ببيت من الأنصار ويسمع من وراء الباب عجوزاً تقرأ وتردد ولا تدري أن الرسول صلى الله عليه وسلم يسمع لها، فتردد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] وتبكي؛ فأخذ يبكي معها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: نعم أتاني كلما قالت هل {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] يقول: نعم أتاني، نعم أتاني}.
عجوز، فأين أبطال الإسلام وأين شباب الإسلام من قيام الليل؟
قلت لليل هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار
قال لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار
وفي سنن أبي داود بسند صحيح، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، قال: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء} والمرجل هو القدر إذا استجمع غلياناً.
وعند ابن مردويه والطبري {أن الرسول عليه الصلاة والسلام، مر به بلال قبل صلاة الفجر، فسمع المصطفى عليه الصلاة والسلام، يقرأ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ.
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] ثم يقول عليه الصلاة والسلام ل بلال: أنزلت علي آيات ويل لمن قرأها ولم يتدبرها}.
الرسول صلى الله عليه وسلم يعيش مع القرآن، لأن تربيته مع القرآن وكتابه الوحيد هو القرآن، وعظمته في القرآن.
القرآن يوم كان كتاب المسلم الوحيد، القرآن يوم عرفنا قيمته، يوم كنا نجعله المصدر الوحيد، فتحنا الدنيا، ووزعنا الهداية على البشر.
في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: {قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليَّ القرآن، قلت: يا رسول الله! كيف أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟ -يالعظمة راعي الغنم الذي أصبح بعد عشر سنوات من أكبر العلماء في الدنيا، من رعي الغنم إلى قيادة الأمم والتعليم، والتوجيه، والإسداء، والتربية- قال: إني أحب أن أسمعه من غيري فبدأ يقرأ من سورة النساء حتى بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال عليه الصلاة والسلام: حسبك الآن، قال: فنظرت فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام} إن أمة هجرت القرآن، ومالت إلى المجلة الخليعة والأغنية الماجنة لا تستحق النصر ولا الفتح، ولا تستحق أن تقود البشرية.
اسمع لـ ابن القيم في الغناء:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
يا أيتها الأمة! التي تريد لقاء الله، وفتحه ونصره! لا تتلذذي بلذاذة الأوتار والعيدان، لماذا تنتصر إسرائيل؟ إخوان القردة والخنازير، لماذا يضربون الأطفال بالهراوات والشيوخ والنساء ثم لا يكون معنا إلا شجب وننديد واستنكار؟!!
فأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارها الخطب
إذا تبدت لنا الميراج تقصفنا سعت لتسقطها الصيحات والخطب
ظنوا القنابل أبواقاً مزخرفة والطائرات هي الإترنج والعنب
كيف انهزمنا، وما تلك بعادتنا سيخبر السيف عنا والقنا السلب
نعم نصرنا لأن الله غايتنا وليس يمنعنا من ربنا سبب
إن من يعرف الله يعرفه الله، وإن من يحفظ الله يحفظه الله.
أما ذكره فكانت حياته ذكر، والذكر أصبح من أرخص موجودٍ عند المسلمين لكن من يذكر؟!
ملهيات وأغنيات، مغنين ومغنيات، ماجنين وماجنات، أحياء وأموات، ولا يذكر الله إلا الخلص الذين يسحبون أنفسهم من أوهاق المجتمع، ويريدون وجه الله، ويقولون: لبيك يا ربنا
وا إسلاماه! وا إسلاماه! هؤلاء هم الذاكرون الله كثيراً والذاكرات، هنيئاً لهم الذكر.
يقول ابن القيم: كان الرسول صلى الله عليه وسلم: كل كلامه ذكر، أنفاسه، وعمله وقيامه وجلوسه ونومه لربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
وناد إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن متى
صلى الله وسلم على من أنقذنا من النار، صلى الله وسلم على من قادنا إلى بر الأمان، صلى الله وسلم على من رفع رءوسنا وكانت مخفوضة، وأنار عقولنا وكانت ضيقة مظلمة، وفتح عيوننا وكانت مقفلة.(327/18)
تواضعه صلى الله عليه وسلم
أما الرسول عليه الصلاة والسلام في جانب التواضع، وهو جانب يحتاجه كل داعية وكل طالب علم وكل مسلم، والله رفع رسوله صلى الله عليه وسلم، بالتواضع.(327/19)
الحث على التواضع
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:37] وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيحين أنه قال: {من تواضع لله رفعه، ومن تكبر على الله وضعه} وصح عنه في صحيح مسلم عن عياض بن حمار أنه قال: {إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد} التواضع سمة الأخيار، التواضع صفة الأبرار، التواضع إشارة الذين يريدون عقبى الدار، كلما تواضعت كلما ارتفعت، ولذلك من شعر بمركب النقص تكبر على عباد الله، ومن شعر بمركب الوفاء تواضع لعباد الله، الدر يغوص في البحر ولكن الجيف تطفوا على الماء.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث بنعمة الله عليه في التواضع: {لو دعيت إلى كراع -أو ذراع- لأجبت، ولو أهدي إلي كراع -أو ذراع- لقبلت} والحديث صحيح.(327/20)
أكل المصطفى على التراب تواضعاً
يأكل صلى الله عليه وسلم على التراب، وهو أشرف من خلق الله، فتقول امرأة: انظروا إليه يأكل كما يأكل العبد، ويجلس كما يجلس العبد، قال: وهل هناك أعبد مني؟
وفي مسند أحمد بسند حسن {رجل اسمه ابن قيلة يأتيه، فلما رأى بهاء وجلالة الرسول صلى الله عليه وسلم، أخذ يرتعد، فقال عليه الصلاة والسلام: هون عليك، فإني ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة} نعم.
أنت ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة، ولكنك رفعت للإسلام علماً، وبنيت للمسلمين دولة، ودكدكت بلا إله إلا الله حصون الوثنية.
الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته وتواضعه يزور الفقير، يجلس مع الأرملة، يمسح رءوس الأطفال؛ لأنه رحمة للعالمين؛ ولأنه بعث للناس كافة بهذا الدين لينقذهم من النار.
في صحيح البخاري عن أنس قال: {كان لي أخ اسمه أبو عمير مات له نغر كان يلعب به، فزاره عليه الصلاة والسلام، يواسيه في هذه المصيبة ويقول: يا أبا عمير ما فعل النغير} صلى الله وسلم عليه.(327/21)
جوانب أخرى من حياته صلى الله عليه وسلم(327/22)
جانب الصبر في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم
أما جانب الصبر في حياته -وهذا هو الجانب الذي يريده الداعية والشاب- فالصبر لا أحسن منه.
قيل لـ ابن تيمية شيخ الإسلام: بم تنال الإمامة في الدين؟ قال: بالصبر واليقين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] قال الإمام أحمد: بحثت عن الصبر في القرآن، فوجدته في أكثر من تسعين موضعاً.
الصبر ما أحسنه! لو كان رجلاً لكان حكيماً، ولو كان شجرة لكانت يانعة القطاف، ولو كان زهرة لكانت طيبة الشذى، الصبر زادك إلى لقاء الله، وهو ثلاثة أقسام:
صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على المصائب.
وأصبر الناس محمد عليه الصلاة والسلام، تضرب بناته في أول الرسالة والدعوة فيصبر، ويقول الله له: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5] فيصبر ويتبسم، لأن الله يقول له: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5] يحوط عليه الكافر المستعمر من يهودي ومشرك ومنافق في الأحزاب، فيتبسم لأن الله يقول له: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
والصبر سوف يطول بنا ولكني أخرج من هذا الحديث إلى مسائل:
أولها: يا أيتها الأمة الخالدة! التي عاشت بالجهاد! وعاشت بالتضحية.
يا أمة ضرب الزمان بها جموح المستحيل
وتوقف التاريخ في خطواتها قبل الرحيل
سكبت لحون المجد في أذن المجرة والأصيل
وسقت شفاه الوالهين سلافة من سلسبيل(327/23)
اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو طريق النجاح والفلاح
يا أيتها الأمة! يا أيها الرجال الأبرار! يا أيتها النسوة التي يردن الله والدار الآخرة! أدعوكم في هذه الجلسة، وهو سر الحديث، وبيت القصيد في هذا الحديث إلى اتباع محمد عليه الصلاة والسلام.
أرض لم تشرق عليها شمس رسالته أرض ملعونة، قلب لا يصله النور قلب مغضوب عليه، فيا أيها الناس كافة ذكراناً وإناثاً! قدوتكم محمد عليه الصلاة والسلام، والله لا تدخلوا الجنة حتى تتبعوه، وحتى تدخلوا من بابه وحتى تأتوا من سنته.
يا من عطل سننه، أخذ شيئاً وترك شيئاً، لقد أخطأت خطأ بيناً.
إن الكمال في اتباعه، وإن الجلال في الاقتداء به، السمو والجمال والعظمة في جعله قدوة.
يا مدعي حب طه لا تخالفه الخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهويناً
خذها جميعاً تجد خيراً تفوز به أو فاطرحها وخذ رجس الشياطينا
يأتون إلى رجل قزم -ملحد فاجر- كـ هتلر ونابليون فيذكرون تاريخه، ويذكرون سموه وعبقريته، وحبه وإيمانه وطموحه، وهو لا حب ولا طموح ولا إيمان، خسيس من الأخسة، مجرم من المجرمين، سفك الدماء، ولعب بالأعراض، وينسون محمداً عليه الصلاة والسلام، الذي أنقذ الله به البشر، وهدى به الإنسانية.
يا رب! أشهدك وأشهد من حضر هذه الليلة، أننا لا نعلم مصلحاً أعظم من رسولك صلى الله عليه وسلم، وأننا نخبر الناس جميعاً أن من أراد الجنة فليسلك طريقه عليه الصلاة والسلام.
الرسول عليه الصلاة والسلام، يوم يقف في البيت ليعلم أهل البيت أنه رسول للبيت، ويقف على المنبر خطيباً ويعلم الخطباء أنه رسول للخطباء، وللمجاهدين أنه للمجاهدين، وللقادة والساسة أنه قائد ومعلم لهم.
ويا أيتها المرأة! قدوتك رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم ربى عائشة ويوم ربى أسماء، وزينب.
منا الفواطم ربات العلاولنا كل الزيانب من أهل وعمات
يأتي إلى عائشة فيربيها بالقرآن صلى الله عليه وسلم، ويأتي إلى ابنته فاطمة فأول ما يرضعها التوحيد.
يا من ربى ابنته وطفلته على الموسيقى والأغنية الماجنة، لقد هدمت بيتك ومستقبل أطفالك، ولعبت على البشرية وضحيت بمستقبل الأمة، إن فاطمة بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، سقاها صلى الله عليه وسلم التوحيد مع اللبن، يقول محمد إقبال في فاطمة:
هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟ من ذا يساوي في الأنام علاها
أما أبوها فهو أشرف مرسل جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي زوج لا تسل عنه فما أزكى شمائله وما أنداها
إيوانه كوخ وكنزه ثرائه سيف غدا بيمينه تياها
أي جيل ذاك الجيل؟! إن من يربي بيته على التوحيد، ومن ينقذ بيته من الضلالة ويرده إلى الإيمان، هو من أعظم المصلحين في العالم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
يا من يصلي الصلوات الخمس ووضع يده على صدره وترك بيته تعشعش فيه الشياطين وتفرخ، والأبالسة! أي رسالة أديتها للإسلام؟ يا من سمح بالأغنية الماجنة تعصف في البيت بدل القرآن الكريم وسورة طه ومريم! أي صلاة تصليها؟
يا من سمح للمجلة الخليعة المتهتكة أن تسكن بيته، وأتى ليصلي وأبدل مكان المصحف المجلة! أي صلاة تصليها؟
يا من ترك أبناءه مع كل من هب ودب وتركوا الإيمان والحب والطموح والرسالة، أي صلاة تصليها؟(327/24)
التربية على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وحبه
يا أيها المسلمون! يا أمة لا إله إلا الله! نحن لا نعترف بالدروشة، الإسلام عميق يجعلك مسلماً في البيت وفي السوق وفي البقالة وفي المكتب وفي الوظيفة، هذه حياة المسلم، وهذه أصالته.
ويا أيتها الأم التي أرضعت طفلها اللبن: أرضعيه لا إله إلا الله محمد رسول الله، أرضعيه الإيمان والحب والطموح، لينشأ مسلماً {كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانة} أنتِ المسئولة، والله لو علَّمت طفلك الإيمان، ما زاغ وما ألحد ولا أصبح حداثياً زنديقاً.
والله لو علمته الإيمان، ما تفسخ وفسق وعهر وتفلت عليك وعلى أبيه وعلى البيت.
والله لو لقنته الإيمان لخرج باراً رشيداً عاقلاً مسلماً جبهته في السماء، والله لو لقنته الإيمان لخرج داعية تبكي تحت أرجله أعواد المنابر، ينفع الإسلام والمسلمين، وينفع المستقبل الذي هو لهذا الدين.
وأنت أيها الأب! أنت بعكازتك لا تجدي ولا تربي، إن الضرب لا يدخل به التوحيد للقلوب، وإن الحبس لا يعلم به الناس الإسلام، وإن السوط والحديد ليس من منهج الأنبياء والرسل، إن معنى الإسلام أن تدخل الإسلام والحب والطموح فتغرسه في صلاتك وصدقك وأمانتك ووضوحك.
قل لي بالله أيها الأب! كيف تصلي وتقبع كالعجوز في بيتك، والمسلمون أعلنوا تفوق الإسلام يوم صفوا الصفوف في المسجد، تعال إذا سمعت الله أكبر الله أكبر فأثبت إيمانك بالدخول إلى المسجد، وإن لم تفعل فقد أثبت فشلك وانهزاميتك، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود: [[أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى، وإن الصلاة من سنن الهدى، والله لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأيتنا يؤتى بالرجل من المرض يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف]] مريض، لكنه ما استطاع أن يصلي في البيت.
فيا شباب الإسلام! يا أهل العضلات! يا أهل الأوقات! يا أهل المطعومات والمشروبات، والفلل والمركوبات! هذا هو الإسلام في المسجد، إسلام صفوف، إسلام إعلان وعمل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].
عامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، كان يرفع كفيه مع كل صباح، قالوا: مالك؟ قال: أسأل الله الميتة الحسنة؟ قالوا: ما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد، فحضرته سكرات الموت في صلاة المغرب وهو في البيت، فسمع أذان المغرب، قال: احملوني إلى المسجد، قالوا: أنت في سكرات الموت والله عذرك.
قال: سبحان الله! أسمع حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح ولا أجيب داعي الله! لا والله.
فحملوه على الأكتاف، هذا هو الحب والإيمان والطموح، وأنزلوه فصلى مع الناس، فلما أصبح في آخر سجدة قبض الله روحه فسبحان الله.
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
يقول سعيد بن المسيب: [[الحمد لله: والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام في جماعة منذ أربعين سنة]] هنيئاً لك وحياك الله، هذا هو الإيمان والحب والطموح.
يقول الأعمش سليمان بن مهران راو في الصحيحين سماه الذهبي: شيخ الإسلام، يقول لأبنائه وهم يبكون عليه: ابكوا أو لا تبكوا، والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الجماعة ستين سنة.
رحمك الله، والله لقد أحسنت إلى نفسك وما أحسنت إلا إلى نفسك.
نعم.
من تردى تردى على نفسه، ومن أحسن أحسن إلى نفسه، فهنيئاً لأولئك الملأ.
سعد بن أبي وقاص يقول عنه الذهبي لما حضرته الوفاة، من الذي لا يعرف سعداً، الذي لا يعرف سعداً كأنه لا يعرف شيئاً.
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قلت تعرفن الفتى قلن نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر
أحد العشرة المبشرين بالجنة، الذي دكدك إمبراطورية كسرى، دخل المدائن فلما رأى إيوان العمالة والضلالة والدجل، قال: الله أكبر فانصدع الإيوان، وأخذت تدمع عيناه ويقول: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان:25 - 26] سعد بن أبي وقاص الذي يقول: يا رسول الله! ادع الله أن أكون مستجاب الدعوة، قال: {يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة} ثم قال عليه الصلاة والسلام له: {اللهم أجب دعوته وسدد رميته} فحضر غزوة أحد -والحديث في الصحيحين - كان يأتي بأسهمه في أحد إلى الكفار فيطلق السهم فلا يقع إلا في عين كافر، لأنه مسدد الرمية، فانتشى عليه الصلاة والسلام، وفرح وأخذ يتبسم ويعطيه الأسهم، ويقول: {ارم سعد فداك أبي وأمي}.
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
هؤلاء أبطال الإسلام، سعد لا بأس أن أقف معه قليلاً:
حضرته الوفاة وهو في الغابة أو في الصحراء، فبكت ابنته عائشة، فقال: {ابكي أو لا تبكي، والله إني من أهل الجنة}.
قال الذهبي: صدقت هنيئاً لك.
ونحن نقول: نشهد بالله أنك من أهل الجنة؛ لأنها بشهادة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
إن تاريخاً ليس فيه محمد ولا أصحابه، تاريخ وثنية وتاريخ تخلف، وتاريخ ملعون.
يقول الذهبي في ترجمة ابن الراوندي الفيلسوف المحسوب على الإسلام، قال: بسم الله الرحمن الرحيم، ابن الراوندي الكلب المعثر ابن الراوندي الملحد، لأن ابن خلكان ترجم لـ ابن الراوندي فذكر أدبه وشعره ونسي عمالته، وضلالته وإلحاده، فيقول ابن كثير: ابن خلكان، ترجم لـ ابن الراوندي وترك إلحاده كأن الكلب ما أكل له عجيناً، ما كأنه اعتدى على حرمات الإسلام، ولذلك نأتي الآن نصفق للأدباء وهم ضلال زنادقة، ونمدح كثيراً من المغنيين وهم الذين أفسدوا الأمة، وما قدموا لها شيئاً، هم الذين سفكوا دم الأمة، وأذهبوا مروءتها، وهم الذين أخذوا لباسها وجلالها وعظمتها، إي والله، هذا هو المعهود، ولذلك يأتي ابن سيناء في بعض الأقسام العلمية، فيقولون: قسم ابن سيناء، ابن سيناء فرخ من فروخ الصابئة، وذنب من أذناب المجوس، يقول ابن تيمية عن كلمة عنه: إن كان صح عنه ما يقول، فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين.
هذا ابن الراوندي ألف كتاب الدامغ على القرآن، قال الذهبي: كان ذكياً، نعم.
من أذكياء العالم، لكنه قال: لعن الله الذكاء بلا إيمان، وحي الله البلادة بالتقوى، بليد مؤمن أحسن من ذكي عبقري كافر، لأن الكافر في مسلاخ الحمار والكلب، أرأيت الحمار والكلب هو لا يقدم خيراً لنفسه، ولا لأمته.
فيا أيتها الأمة! كيف نجعل من الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة؟
أن نلقن أبناءنا حب الرسول صلى الله عليه وسلم ونعلمهم بعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم.
حدثني بعض الإخوة أن في البوادي في بلادنا من يأتون إلى كتاب عنترة بن شداد، بدو فيدرسون أبناءهم على السرج سيرة عنترة بن شداد ماذا فعل عنترة بن شداد؟ أسك أصم لا يعرف شيئاً، كان يذبح ويجلد بلا شريعة وثني، فيعلمونه فينشأ هذا الطفل وأعظم شخصية عنده في الحياة عنترة بن شداد، والجارية تودد والزير سالم، والجساسة، وفلانة وفلانة خزعبلات لماذا؟
لأنهم ما وجدوا من الدعاة الذين يعرضون لهم الدعوة في البوادي، نحن اشتغلنا بالماجستير والدكتوراه، نقابل بين نسخة بولاق، ونسخة دار الشروق، وضاعت الأمة، بين بياض بالأصل، بل سواد في الأصل -أنا لا أقول: إن هذه الرسالة لا تنفع، بل هي مطلوبة وجديرة، ولكن من لتعليم الأمة؟ ومن لتعليم الجهاد؟ من لهؤلاء البدو الرحل لإخراجهم من الضلالات والجهالات وتعليمهم الوضوء؟
إذا أتينا نحاضر البدو قلنا: تنطلق دعوة الإسلام وديكتاتورية الدعوة في الإسلام من أطر، لا يفهمون الأطر، ولا ديكتاتورية ولا بوتقة، يفهمون (قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم) الحديث طويل وطويل، ولكن للأسئلة مكان ولها دور، وخير المتكلمين من سكت والناس يقولون: ليته يتكلم، وشر المتكلمين من يتكلم والناس يقولون: ليته يسكت، فأعوذ بالله أن أكون من الثاني.
قال الجدار للوتد لم تشقني قال اسأل من يدقني
فشكر الله لكم:
زاد معروفك عندي عظماً وهو في نفسك مشهور خطير
تتناساه كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور كبير
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(327/25)
الأسئلة(327/26)
حكم الجهاد في أفغانستان
السؤال
هل الجهاد في أفغانستان فرض كفاية أم فرض عين؟ وما هو قول الشيخ فيمن تبع فتوى الدكتور عبد الله عزام؟ وهل هو برضا الوالدين أو بغير رضاهما؟
الجواب
سلام على الجهاد والمجاهدين، وسلام الله على المجاهدين الأفغان، الذين افترشوا الأرض والتحفوا السماء، الذين أعلنوا: إن القوة للإسلام والعظمة لهذا الدين، الذين ذلوا الكافر أمام شعوب الأرض:
يا أمة النصر والأرواح أثمان في شدة الرعب ما هانوا ولا لانوا
هم الرعود ولكن لا خفوت لها خسف ونسف وتدمير وبركان
كم ملحد ماجن ظن الحقوق له زفوا له الموت مراً وهو مجان
وبلشفي أتى كالعير منتخياً رأى المنايا فأضحى وهو جعلان
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ
أما الجهاد في أفغانستان يطلب من كل مسلم، وأنا لا أدخل في فرض العين، ولا في فرض الكفاية، لكثرة التذبذب والصراع بين أهل العلم وأهل الفكر في ذلك، ولا نزيدها شيئاً.
تكاثرت الضباء على خراشٍ فما يدري خراش ما يصيد
إنما أنا أدعو إلى الجهاد، أما قول الشيخ عبد الله عزام، أنه لا يستأذن من والديه، فالشيخ نجله ونحبه لأنه قال وفعل وصدق، وكثير من الناس يقول ولا يفعل، أما هو بنفسه وماله وأهله ذهب إلى هناك، وأما بدون إذن الوالدين فليس بصحيح، بل النصوص تدعو إلى إذن الوالدين، إنسان يذهب ويترك أباه وأمه يبكيان في البيت، إنسان يرمل أسرته وليس لهم عائل بعد الله إلا هذا، ليس بجهاد {ففيهما فجاهد} والحق لا بد أن يقبل بالدليل، قال تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148].
فلا بد من الدليل ولا دليل، والشيخ نحترم رأيه، لكن هذا نقوله بإذنه سبحانه والعون من الله -أنه لا بد من إذن الوالدين، فإذا لم يأذن الوالدان فلا جهاد.(327/27)
لا حضارة للعرب قبل الإسلام
السؤال
قلت في بداية حديثك: إنه ليس للعرب حضارة قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك هناك كتاب يقولون غير ذلك، فما موقفنا من هؤلاء الكتاب من الناحية العامية والتاريخية؟
الجواب
قبل أن أجيب على السؤال الثاني، أناديكم أيها الإخوة! أن تقفوا من الجهاد الأفغاني موقف المناصر من لم يستطع أن يجاهد بنفسه فبماله، ومن لم يستطع بماله، فبالدعاء في ساعة الجمعة، وفي أدبار الليل، وفي السحر، وفي أدبار الصلاة.
وانتصار المجاهدين انتصار المسلمين، ورفع لا إله إلا الله، وبذل المال والتضحية به في سبيله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
أما ما ذكر الأخ أنني قلت: إنه ليس للعرب حضارة، فأنا أعني الحضارة التي كانت مفهومة ذلك الوقت عند الناس، حضارة اليونان، حضارة فارس، أما الشذر والمذر الذي ذكره الأخ، أنهم كانوا يقولون شعراً أو أدباً، فهذا ليس بحضارة، امرؤ القيس يقول في نجد قصيدة، ويأتي الغطفاني ويقول قصيدة أخرى، وزهير في أرض الحجاز يقول قصيدة ثالثة، هذه ليست بحضارة، أُمة لم تعرف الرقي ولا الأدب ولا السلوك، ولا التطور، ولا الثقافة، ولا المنهجية ولا النظام ليست بأمة متحضرة، يقول رستم وهو ينظر إلى جيش المسلمين قبل القادسية، ينظر إليهم صفوفاً وهم ثلاثون ألفاً، يصلون وراء سعد، يعض أصابعه رستم ويقول: علم محمد الكلاب الأدب.(327/28)
قضايا في الرياضة
السؤال
بماذا تنصح لاعبي الكرة جميعاً ومن يلعبون الرياضة، وقد وردت أسئلة في هذا المنوال كثيرة، ويتعلق بعضها بما هو السروال الذي يتمشى مع الشريعة الإسلامية في لبسه في أثناء تأدية الرياضة، وهل تنصح بمزاولة الرياضة للشباب المسلم؟
الجواب
هذا السؤال ذو شقين، أما أهل الرياضة، فأنا أناديهم من هذا المكان الطاهر ومنهم من هم معي خاصة المشرفين على نادي الفتح، ومن أمثالهم من الأندية أن يتقوا الله في رسالتهم، وألا يجعلوا الغايات وسائل والوسائل غايات، أنا قلت في أول الحديث: إن الرياضة ليست غاية للمسلمين، هي وسيلة، وأسألهم بالله أن يدخلوا الإيمان مع الرياضة ومع الأدب لنبقى مؤمنين، لا عب مؤمن لا بأس به بالشروط، أما من ناحية ما يلاحظ على الأندية، فكأن الملاحظات تدور على ثلاثة أوجه:
الولاء والبراء: ففي كثير من الأندية يكون الولاء والبراء للنادي، حتى يوالي ويعادي عليه أكثر من ولائه لله القهار ومن عدائه لأعداء الله، أصبحت حياته للنادي، يموت له ويعيش له، يقول: أنا مع النادي حتى الموت، وهذا ليس بوارد، أنت مسلم أنت مؤمن، أنت تحمل رسالة، فأما أن توالي وتعادي على النوادي، فالولاء والبراء عقيدة من عقيدة أهل السنة والجماعة لا تصرف لغير الله، وصح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان}.
المسألة الثانية: لوحظ في بعض الأندية ترك الصلاة والعياذ بالله، أو تأخير الصلاة عن وقتها، وهذا منكر وإثم عظيم.
والمسألة الثالثة: اللباس، اللباس الساتر في الإسلام لعورة الرجل والتي أتت به الأحاديث من السرة إلى الركبة، أما بعض العلماء يوم قال العورة المغلظة، فنحن لسنا في المغلظة الآن {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه:121] في وقت كان يلومهم الله على هذا لأن الخطيئة أنزلت عنهم لباسهم، ولكن بسنن الدارقطني: عورة الرجل من السرة إلى الركبة، وفي حديث جرهد الذي هو حسن، قوله صلى الله عليه وسلم: {غط فخذك، فإن الفخذ عورة} ويستدل بعضهم بحديث أنس في صحيح البخاري: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجرى فرسه في زقاق خيبر فانكشف فخذه} قيل في
الجواب
هذا فعل، وقوله صلى الله عليه وسلم يقدم على فعله.
الجواب الثاني: أنه انكشفت لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجري ما كان متعمداً ومتهيئاً ومترسلاً في فعله.
الجواب الثالث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم له في بعض الأمور أشياء وليست لأمته؛ فهذه التي تلاحظ، وأنا أنصح بإدخال الإيمان في النوادي.
وأما مسألة هل ندخل النوادي أم لا؟ فلا بأس أن ندخلها دعاة ونحمل رسالة علَّ الله أن يهدي بنا ويسمع وينفع بنا، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم في السير {أتى إليه ركانة، فقال: يا محمد! لا أسلم حتى تصارعني، وكان من أقوى العرب، فقام عليه الصلاة والسلام ليصارعه، فصرعه من أول مرة، ثم صارعه صلى الله عليه وسلم، فصرعه مرة ثانية، ثم ثالثة، فقال ركانة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله} كل وسيلة مباحة يخدم بها الدين، وترفع بها راية لا إله إلا الله، وينفع بها الناس لا بأس بها، أما أن نبقى في المساجد وننتظر من الناس أن يأتوننا، فالناس لا يأتوننا، بل نحن نأتي الناس لأننا دعاة، الذين أتوا المسجد أتوا ليصلوا نقوم عليهم بعد الصلاة نقول: صلوا يا جماعة الخير، صلوا بارك الله فيكم، ما أتوا إلا ليصلوا، لكن الذين يصلون في بيوتهم ينبغي أن تذهب إليهم هذا هو المطلوب، وهذا هو الوارد.(327/29)
حكم مشاهدة التلفاز
السؤال
أيضاً وردت أسئلة كثيرة عن حكم مشاهدة التلفاز، وبالأخص المسلسلات والأغاني وما شابهها خصوصاً في النساء التي يقضين الوقت الكثير في البيوت، فما حكم ذلك فضيلة الشيخ؟
الجواب
التلفزيون سلاح ذو حدين، لا يحكم به لجرمه، فهو من حديد وبلاستيك ومن أغطية ومن قماش، وأجهزة، وإنما يحكم بالمادة التي تعرض فيه، فكلما عرض فيه محرم فهو محرم لهذا التحريم الذي ورد فيه؛ من أغنية ماجنة، ومسلسل خليع، وتمثيلية فاجرة تهدم الأمة، أما مادة طيبة؛ قرآن، حديث، حلقة، فلا بأس به، على أن من الناس قناعاتهم الخاصة، للناس من يتورع من إدخاله في بيته، وهذا أمر محمود لأنه قد لا تضبط برامجه، وقد يساء استعماله، وقد يأتي حتى من برامج الخير التي فيه، بأن تفتتن المرأة بمن تنظر إليه، فأنا رأيي فيه أنه بالمادة التي تعرض فيه، والله أعلم.(327/30)
المسجد لا يحل للحائض ودور المرأة في الإسلام
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تدخل المسجد وهي حائض، وأيضاً هل للمرأة دور كبير في الإسلام؟
الجواب
المرأة لا تدخل المسجد وهي حائض، لعموم الأحاديث التي نهت عن ذلك، منها حديث أبي داود بسند جيد عن علي رضي الله عنه وأرضاه، قوله صلى الله عليه وسلم: {إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب} وفي صحيح البخاري، عن عائشة قالت: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلي لي رأسه من المسجد وأنا في بيتي وهو معتكف وأنا حائض فأرجل رأسه} فلم يسمح لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدخول المسجد، وإنما سمح للجنب أن يعبر المسجد، لقوله سبحان وتعالى: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43].
أما المكث في المسجد فليس للجنب ولا للحائض، ويجوز للحائض أن تعبر إذا لم تجد الطريق إلا أن تعبر من باب إلى باب، ولكن لا تمكث ولا تجلس، وإذا أرادت أن تسمع لمحاضرة، فلتعتزل في مكان خارج المسجد لقول أم عطية: {أمر العواتق وذوات الخدور أن يشهدن الصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يحضرن الخير ويعتزلن المصلى}.(327/31)
حد تقصير الثوب وحكم إطلاق اللحية
السؤال
ما هو الحد الذي يجب على المسلم أن يعمله فيما يتعلق بتقصير الثوب وإطلاق اللحية، وأيضاً: هناك جانب من الأسئلة يسأل عمن يستهزئ بمن يربي لحيته ويقصر ثوبه، وهي من أوامر الله سبحانه وأوامر رسوله؟
الجواب
أما الحد في الثوب، فإزار المؤمن إلى نصف ساقه، ولك من نصف الساقين إلى ما فوق الكعبين، أما ما فوق نصف الساقين فليس بثوب بل فنيلة وقد قلت ذلك كثيراً، أن يجعل ثوبه إلى ركبتيه، فليس بثوب يسمى فنيلة، والفنيلة شيء والثوب شيء آخر، وقد يكون ليس بساتر للعورة إذا سجد، فإلى نصف الساق فوق الكعبين لأنه صح فيها حديثان:
الحديث الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: {لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء} قالوا: من جر ثوبه خيلاء فعاقبته أنه لا ينظر الله إليه، وقوله صلى الله عليه وسلم: {ما زاد عن الكعبين ففي النار} فهو خيلاء وغير خيلاء، لأن بعض الناس يسبل اليوم، فإذا قلت له: لماذا تسبل؟ قال: أنا لا أسبل خيلاء، أسبل بلا خيلاء، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، لما قال لـ أبي بكر: {إنك لست ممن يفعل ذلك} -يعني خيلاء- فهم يعتبرون بهذا وقد أخطئوا النجعة وما أصابوا، فإنه من استرخى إزاره تحت الكعبين فهو في النار هذا أمر.
وأما اللحية فيبقيها على هيئتها ولا بأس بمشطها، وتنسيقها، وترسيلها وتطييبها حتى يظهر بمظهر طيب، وأما من يستهزئ بهذه الشعائر، فهذا عليه أن يتوب فقد نافق نفاقاً اعتقادياً، ووصل إلى درجة الكفر، قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ.
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66].
وقد بلي الإسلام بمثل هؤلاء الأشكال؛ ما وجدوا حرباً في المجتمع إلا حرب شباب الخير والهداية والنور، جعلوهم عرضة لهم في كل مجلس، (متطرفون) -كلمة وزعتها الصهيونية العالمية - وتبثها كثير من الإذاعات، متطرف لأنه متمسك، لأنه عرف طريق الجنة، متطرف لأنه عرف الإيمان والحب والطموح، أما المطبل والمزمر والماجن والسكير والعربيد ليس بمتطرف بل هو معتدل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].(327/32)
الخشوع لا يشترط فيه إخراج الدموع
السؤال
هل يجب في الخشوع لله استخراج الدموع أم لا؟ وهل يؤجر مثل ما يؤجر مخرج الدموع؟
الجواب
الباكي من خشية الله مأجور بنصوص كثيرة، منها: {عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خيشة الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله} وذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى النصارى وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة:83] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:57 - 62] وذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنبياءه فقال: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58] فوصفهم بالبكاء، أما أن يشترط البكاء في الخشوع فليس بشرط، فبعضهم لا يبكي لكنه محكم لكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله ونفسه وبيته، وكثير من الناس يبكي لكنه مخالف بأقواله وأفعاله في المجتمع، فالبكاء ليس بشرط؛ لكنه زيادة في الخير والأجر والمثوبة، أما الخشوع فواجب: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2].
وهذا أمر لا بد أن يتنبه إليه ولكن على المسلم أن يجر الدموع، فإذا لم تدمع عيناه عليه أن يتباكى، كما قال عمر.(327/33)
الزوج هو الذي يختار زوجته
السؤال
هل اختيار الزوجة يأتي حسب اختيار الزوج أم الوالدين، وحتى لو كان في ذلك غضبهما أو زعلهما، فما الحكم؟
الجواب
الزواج ليس على اختيار الوالدين لكن على اختيار الزوج، والزوجة يختارها الزوج لا الوالدان، لأنها ليست بسيارة ولا أرض، هي زوجة تكون عشيرته، وقريبته، وسكنه في الحياة، فكيف يتدخل الوالدان، لهم إن شاء الاستشارة، أما أن يقولا: اترك هذه أو هذه فلا، وهذا الزواج قد يصبح زواجاً فاشلاً، يزوج إنسان بامرأة لا يرغبها ولا يحبها، وفي الأخير ينهار معها في حياته ويقصم حياتها، ولذلك جعل رسول الله النظر وقال: {لينظر إلى ما يدعوه إلى النكاح منها والزواج بها} عليه أفضل الصلاة والسلام.(327/34)
حكم المدخنين والجلوس مع المتهاون بالصلاة
السؤال
ما حكم المدخنين، وما حكم أصدقاء المدخنين، فهل يجوز لهم دخول منازلهم أو المبيت معهم أو النوم معهم؟ وأيضاً: حكم المتهاون في أداء صلاة الفجر في المسجد مع الجماعة، خصوصاً بالنسبة للطلاب الذين يسكنون في السكن الجامعي، حيث أن هناك بعض الطلبة يذهبون إلى الصلاة مأجورين، وبعضهم ينام، فما حكم السكن معهم؟
الجواب
الدخان فيما ظهر وهو القول الصحيح أنه محرم بعموم النصوص في الكتاب والسنة، منها قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].
وبإجماع العقلاء أن الدخان من الخبائث، إذا علم هذا فالمدخن مرتكب للإثم، ملوم وليس مشكور، آثم فاسق، لكنه لا يبلغ إلى درجة الكفر، أما زيارته بقصد إصلاحه فلا بأس، ولك أن تجفوه من باب جفاء أهل المعاصي، ولكن لك أن تجيب دعوته إذا دعاك إلى طعام، إذا كان يصلي أو يصوم، وتنبهه على هذا الخطأ، لأننا إذا هجرنا كل من فيه معصية تركنا المجتمع كل المجتمع، ولك أن تنام عنده، ولا تنسى دعوته إلى الصراط المستقيم.
أما أهل السكن ومن تخلفوا عن صلاة الفجر فقد ارتكبوا إثماً، في صحيح مسلم، عن جندب بن عبد الله البجلي، قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه من ذمته بشيء أدركه، ومن أدركه كبه على وجهه في النار}.
والتخلف عن صلاة الفجر من علامات النفاق، وهي من فعل المنافقين، والإخوة الذين في السكن إن كان لهم مصلى في السكن يجتمعون فيه هذا من الأصلح، وبقاؤهم في المصلى ليجتمع إليهم الشباب، فلهم ذلك، إن كان المتخلف يريد أن يصلي في المصلى فله ذلك، وأما إن كان هذا المتخلف لا يصلي في المصلى ولا في المسجد، فاذهب أنت إلى المسجد، ومن تخلف عن صلاة الجماعة فهو فاسق أيضاً، وقد دل أكثر من ثلاثة عشر حديثاً صحيحاً على وجوب صلاة الجماعة، وأنه لا يترك الوجوب بأي حال إلا بعذر شرعي.(327/35)
التساهل في الحجاب
السؤال
وردت أسئلة كثيرة عن حكم من يتساهل في عدم أمر زوجته بالتحجب عن غير محارمها، وخصوصاً أقاربه وأهله، وفيمن يتساهل عن ذلك الكثير وحتى لو كانت الزوجة من المحجبات؟
الجواب
هذه مسألة وجدت حتى أصبحت ظاهرة بين بعض الملتزمين، أن يترك الحبل لزوجته على الغارب، فتجالس أقاربه وهم أجانب، تجالس أخاه، وتجالس ابن عمه فتقع في الإثم، وهذه المرأة أمانة في عنقك، وأكبر ما تنجيها من العار والدمار والنار أن تحجبها وتسترها وتصونها، فعليك أن تتقي الله في حجاب المرأة، وقد دلت النصوص على وجوب الحجاب وأنه هو الأسلم في الوجه، لا كما يقول بعض الناس: إن الوجه لا يحجب، فإن معنى ذلك: أن محاسن المرأة ومفاتن المرأة تعرض على الناس، وهذا ليس مقصوداً في الإسلام، فإن جمال المرأة وروعتها في وجهها، فعلى الإخوة أن يتقوا الله في ذلك.
ظاهرة أخرى، أن الحمو أخو الزوج يتساهل في دخوله على زوجة أخيه يستأذن منها، يدخل في بيتها، والرسول صلى الله عليه وسلم، سئل كما في صحيح البخاري عن الحمو، قال: {الحمو الموت} ولأنه لا يشكك فيه، ولكن يأتي الخطر من جانبه.(327/36)
كيف تكون المحبة والتضحية لرسول الله صلى الله عليه وسلم
السؤال
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم معاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم، لذلك بان حبهم وتضحيتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، فنالوا رضوان الله ورسوله ونحن كيف يكون حبنا وتضحيتنا للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو موارى في التراب؟
الجواب
نعم.
كما تفضل السائل أكبر أو أعظم صحابة أحبوا صاحبهم هم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، يأتي أبو دجانة فيتترس على الرسول عليه الصلاة والسلام، وتقع الأسهم على ظهره ويقول: [[نفسي لنفسك الفداء يا رسول الله]] الصاحب سعد بن معاذ الذي يقول: [[يا رسول الله! صل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وأعط من شئت، واحرم من شئت، والذي نفسي بيده! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد]].
الصحابية نسيبة الأنصارية تأتي فيقول عليه الصلاة والسلام: {ما التفت إلى ناحية إلا وجدتها تسترني من السهام} أبو عبيدة يأتي إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام، فيرى حلق المجن قد غارت في جبينه الطاهر، فينزعها بثنيتيه فتتساقط، وكان أحسن جميل عمله في الإسلام، الصحابي الخامس: {يأتي فيمص الدم من الرسول عليه الصلاة والسلام -وهذا اسمه سعد بن مالك بن سنان الخدري: أبو سعيد، والحديث صحيح- فيمص الدم فيقول له صلى الله عليه وسلم: مج الدم -يعني: أخرج الدم- فيقول: والله، لا أمجه أبداً، فيبتلعه ويشربه}.
الذهبي في سير أعلام النبلاء يروي بسند صحيح أن عبد الله بن الزبير {أعطاه صلى الله عليه وسلم فضلة دم حجامة -الحجامة التي احتجمها صلى الله عليه وسلم أعطاه في صحن، وقال: اذهب به فاجعله في مكان لا يراه أحد، فذهب به، فلما اختفى بين البيوت وعُمْرُ عبد الله بن الزبير عشر سنوات شرب الدم؟ وعاد بالصحن والرسول صلى الله عليه وسلم يدري، قال: أين وضعت الدم؟ قال: وضعته في مكان لا يراه أحد، قال: ويل لك من الناس، وويل للناس منك؛ ولن تمسّك النار} وهذا الحديث صحيح، فأما ويل لك من الناس، فإنك قد خالطت دمي بدمك فسوف تصاب بمثل ما أصبت، لأن العظماء محسودون، يقول زهير:
محسدون على ما كان من نعم لا ينزع الله منهم مالهم حسدوا
إن العرانين تلقاها محسدة ولا ترى للئام الناس حسادا
وأما قوله: {وويل للناس منك} فإنك سوف تكون عظيم، لأن دمي في دمك وسوف يتضرر بك قومك، لا تمسك النار في الآخرة، كيف تمسه النار وقطع دم الرسول صلى الله عليه وسلم سرت في شرايينه؟! ولذلك كان عظيماً، وقتله الحجاج بن يوسف ورفع على المشنقة وأصبح في ريع الحجون عند المقبرة للرائحين والغادين، حتى صدقت عليه القصيدة وليتها فيه، التي قالها أبو الحسن الأنباري، في أحد الوزراء يوم صلب على باب بغداد، قال:
علوٌ في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
علو في الحياة والممات: يقول كنت عالياً في الحياة، ويوم مت كنت عالياً ما دفنوك.
كأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلات
كأنك واقف فيهم خطيباً وهم وقفوا قياماً للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء كمدهما إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن يواروا فيه تلك المكرمات
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا عن الأكفان ثوب السافيات
هذا الفداء وهذا التطراد، كيفما تقدم حبك للرسول صلى الله عليه وسلم، نحن والله لا نطالب أنفسنا وإياكم بأن نفعل كما فعلوا:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع
نطلب أن نربي لحانا كما كان صلى الله عليه وسلم يربي لحيته، وأن نقصر ثيابنا، وأن نشتري مساويك، وأن نحافظ على الصلاة، ثم نعود إلى بيوتنا لنأكل ونشرب، ولكن نطالب أنفسنا ألا نرتكب حراماً، هذا إسلام قدم لنا طازجاً جاهزاً، ما علينا إلا أن نتبع وأن نتمسكن وإذا سمعنا قنبلة أو غارة قلنا: {أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق} فنحن نطالب أنفسنا باتباعه وحبه من هذا المسلك، في صحيح البخاري: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال وقد سأله أعرابي: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: وما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: المرء يحشر مع من أحب} قال أنس: [[فنحن والله نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحب أبا بكر وعمر وإن لم نعمل بأعمالهم]].
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة(327/37)
الديمقراطية لم يأت بها النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
نسمع في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عاش مع أصحابه الديمقراطية الحقة، فما المقصود بـ الديمقراطية الحقة؟
الجواب
هذه من كيس السائل، الديمقراطية من كيسه صنفها وألفها وأخرجها للناس، الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ديمقراطياً، ولم يكن ديكتاتورياً، إنما كان حنيفاً مسلماً ولم يكن من المشركين، الرسول صلى الله عليه وسلم كما يقول أحمد شوقي:
الاشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوى القوم واللأواء
كذب.
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن اشتركياً، كان حنيفاً مسلماً ولم يكن من المشركين، أما الديمقراطية فمعناها الشورى، ولذلك يقول أحمد شوقي:
فالحكم عدل والخلافة بيعة والأمر شورى والحقوق قضاء
وهذا صحيح، فنسميها شورى ولا نسميها ديمقراطية، لأن في الناس حكماً فيدرالياً، وهو الذي يجعل منصباً واحداً في مجالس معه كمجلس الشيوخ والنواب، وديمقراطياً برلمانياً، وديكتاتورياً أن يستقل هو بالمسئولية، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام، وكان هو الذي يشير ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] وأما الديمقراطية فخذها في جيبك وإذا خرجت فارمها خارج المسجد.(327/38)
حديث (من سب صحابتي فقد سبني)
السؤال
هل هذا الحديث صحيح: {من سب صحابتي فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله، ومن سب الله فقد كفر}؟
الجواب
هذا الحديث موضوع فلا يصح عن الرسول وهو كذب وليس من كلامه صلى الله عليه وسلم، وإنما في المسألة حديثان، حديث صحيح وحديث حسن:
الحديث الصحيح: قوله صلى الله عليه وسلم {لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه} والحديث الحسن في سنن الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: {الله الله في أصحابي، الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم عرضاً، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم}.(327/39)
بر الوالدين
السؤال
أحب أن أهدي لك هذا البيت:
أهلاً وسهلاً بالضيف يأتي بيته الثاني الرحيبا قد فتحنا قبل فتح الباب للضيف قلوبا
أما السؤال فأقول: كيف أكون باراً بوالدي؟
الجواب
شكراً على بيتك وإن دل على شيء، فإنما يدل على إيمانك وحبك وطموحك، وأنا أقول فيك وفي هذه الشبيبة أنكم أشبه بقول القائل:
هينون لينون أيسار بني يسر صيد بهاليل، حفاظون للجار
لا ينطقون عن الفحشاء إن نطقوا ولا يمارون إن ماروا بإكثار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
أما قولك كيف تكون باراً بوالديك:
فعليك أن تطيعهما في طاعة الله عز وجل؛ فإن أمراك بمعصية فلا تطعهما، كلما أرادا شيئاً لا يغضب الله عز وجل فنفذ هذا الأمر وشرط البر الرضا، أن يرضى الوالد وترضى الوالدة عنك، إذا رضيا عنك فقد كنت باراً بوالديك، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23].(327/40)
الفكر وأقسامه
السؤال
ذكر فضيلتكم في محاضرة العلم الأصيل والعلم الدخيل أنكم كنتم تكثرون في بداياتكم القراءة في الفكر، فما هو المقصود بقولكم: الفكر، نرجو توضيح ذلك؟ مع ذكر بعض الكتب المؤلفة في الفكر وما المقصود بها؟ وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الفكر طغى عند المسلمين لما اضطروا إلى الرد على المفكرين الغربيين وأمثالهم من أعداء الإسلام من المستغربين والمستشرقين، والفكر ليس بعلم، هو قضايا واقعية وحوداث جدت بالأمة تراد أن يرد عليها، شبه وضعت في الساحة، بعض الردود من القرآن والسنة، وبعضها ردود عقلية، الفكر أشبه شيء بعلم المنطق، والفكر قسمان:
قسم محمود، وهو ما دافع أهله عن الإسلام والمسلمين فجزاهم الله خيراً، كما فعل الأستاذ سيد قطب، وأبو الأعلى المودودي، وأبو الحسن الندوي، وغيرهم من العلماء فجزاهم الله خيراً.
وفكر لا رسالة له، كتابة جزئية، كما تجد بعض الصحفيين يكتب في مسائل ويشغل بها الناس ويقيم الدنيا ويقعدها، فهذا لا خير فيه، الفكر بقسميه، أما الثاني فحرام، حرام أن تكون رسالة المسلم في الحياة الفكر الثاني الذي ليس له رسالة، والفكر الأول يؤخذ بقدره ويكون الأصل العلم (قال الله، قال رسوله) والتحقيق، والدليل، والجلسات الهادئة، لأن الفكر لا يمكن أن يستمر معك، والإسلام يعترف بالعلماء ولا يعترف بالمفكرين.(327/41)
كيفية اكتساب العلم
السؤال
ما هي قصتك في اكتساب العلم، أرشدنا أفادك الله، فنحن نريد أن نتأسى بك؟
الجواب
الإنسان صعب أن يتكلم عن نفسه، وما أنا إلا عبد فقير ذليل:
إلهي لا تعاقبني فإني مقر بالذي قد كان مني
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني
فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومني
إذا فكرت في ندمي إليها عضضت أناملي وقرعت سني
إنما عليكم أن تبحثوا عن ابن تيمية والعظماء العباقرة العمالقة، ابن القيم، ابن كثير الإمام أحمد، مالك، الشافعي الصحابة، واقرءوا تراجمهم في مثل سير أعلام النبلاء للذهبي.(327/42)
قصائد من تأليف الشيخ عائض
السؤال
نطلب من الشيخ أن يمتعنا بقصائده مثل التي قالها في سماحة الشيخ ابن باز أو التي قالها في فضيلة الشيخ ابن عثيمين، أو التي قالها في أمريكا أو عن المجاهد الكبير عبد رب الرسول سياف، فنترك الشيخ ليلقي ما عنده؟
الجواب
قصيدة أمريكا قصيدتان، هزلية وجدية:
أما الجدية: أمريكا التي رأيت:
يا أمة ضرب الزمان بها جموح المستحيل
وتوقف التاريخ في خطواتها قبل الرحيل
سكبت لحون المجد في أذن المجرة والأصيل
وسقت شفاه الوالهين سلافة من سلسبيل
هذه الأمة الإسلامية أجدادكم يعني:
يا أمة ضرب الزمان بها جموح الكبرياء
رأس الدعي على التراب ورأس عزمك في السماء
لو كان مهرك يا مليحة من براكين الدماء
لهفا إليك اللامعون وفر منك الأدعياء
يا أمة كم علقوا بكيانها خيط الخيال
وهي البريئة خدرها فيض عميم من جلال
شاهت وجوه الحاقدين بكف خسف من رمال
موتاً أتاتورك الدعي كموت تيتو أو جمال
يا أمة في عمرها لم تحي إلا بالجهاد
كفرت بمجلس أمن من نصب المنايا للعباد
القاتلو الإنسان خابوا ما لهم إلا الرماد
جثث البرايا منهم في كل رابية وواد
ما زرت أمريكا فليـ ست في الورى أهل المزار
بل جئت أنظر كيف ند خل بالكتائب والشعار
لنحرر الإنسان من رق المذلة والصغار
وقرارنا فتح مجيد نحن أصحاب القرار
ورأيت أمريكا التي نسجوا لها أغلى وسام
قد زادني مرأى الضلا ل هوىً إلى البيت الحرام
وتطاولت تلك السنون فصار يومي مثل عام
ما أرضهم أرض رأيت ولا غمامهم غمام
أما الهزلية فاسمها: نشرة الأخبار:
يقول عائض هو القرني أحمد ربي وهو لي ولي
مصلياً على رسول الله مذكراً بالله كل لاهي
قد جئت من أبها صباحاً باكراً مشاركاً لحفلكم وشاكراً
وحملتنا في السما طيارة تطفح تارة وتهوي تارة
قائدها أظنه أمريكي تراه في هيئته كالديك
يا سائل الأخبار عن أمريكا اسمع رعاك الله من يفتيكا
وهذه أخبار هذي النشرة مسافة السير ثلاث عشرة
من الرياض عفشنا ربطنا وفي نيويورك ضحى هبطنا
أنزلنا في سرعة وحطنا وقد قصدنا بعدها واشنطنا
ثم ركبنا بعدها سيارة مستقبلين جهة السفارة
منزلنا في القصر أعني ريديسون يا كم لقينا من قبيح وحسن
في بلد أفكاره منكوسة تثقله بصائر مطموسة
يقدسون الكلب والخنزيرا ويبصرون غيرهم حقيرا
ما عرفوا الله بطرف ساعة وما أعدوا لقيام الساعة
فهم قطيع كشويهات الغنم جد وهزل وضياع ونغم
فواحش قد أظلمت منها السما والأرض منها أوشكت أن تقصما
من دمر العمال في بولندا ومن أتى بالرق في يوغندا
من دمر البيوت في نزاكي من ضرب اليونان بالأتراك
من الذي ناصر إسرائيلا حتى تصب عنفها الوبيلا
استيقظوا بالجد يوم نمنا وبلغوا الفضاء يوم قمنا
منهم أخذنا العود والسيجارة وما عرفنا نصنع السيارة
ثم أتينا لمباني الكونجرس ولم نجد مستقبلاً ولا حرس
بها ملايين حوت من الكتب في كل فن إنه هو العجب
ومعنا في ركبنا العجلان أكرم به مع العلا جذلان
وصالح المنصور من بريدة يشبه سعداً وأبا عبيدة
ومعنا عبد العزيز الغامدي ابن عزيز صاحب المحامد
والشهم عبد القادر بن طاشي ذو القلم السيال في انتعاش
فهو أبونا في مقام الترجمة لأننا صرنا صخوراً معجمة
ثم هبطنا في مطار دنفرا جلودنا في البرد صارت كالفرا
ثم دخلنا عند تكسس في دلس عند شباب كالنجوم في الغلس
وهل أتاك إذ حضرنا الرابطة كم ضم من ساقطة ولاقطة
من عالم وفاهم وشاعر وأحمق وناهب وقاصر
وكل من يعمل للإسلام أخٌ ولا عبرة بالأسامي
شعبهم لم يعبد الله الصمد ولم يردد قل هو الله أحد
لن يعرف النصر ولا لن يعرفه اضحك له وغطه بالمنشفه
أما قصيدة سياف فاسمها المدوية:
سياف في ناظريك النصر يبتسم وفي محياك نور الحق مرتسم
وفيك ثورة إسلام مقدسة بها جراح بني الإسلام تلتئم
حطمت بالدم أصناماً محجلة وصافحت كفك العلياء وهي دم
ثأرت لله والدين الحنيف فلم يقم لثأرك طاغوت ولا صنم
على جبينك من سعد توقده وخالد في رُأَى عينيك يقتحم
قامت عزائمك الكبرى لمعركة بها بني العرب ودوا أنهم عجم
حلق إذا شئت فالأرواح طائرة فعن يمينك من عاهدت كلهم
وصغ من المهج البيضاء ملحمة يظل يقرأها التاريخ والأمم
موتاً على صهوات البيد يعشقه أهل البسالة في عليائهم شمم
لا موت من تسكر اللذات فطنته حياته في الورى سيان والعدم
سياف خذ من فؤادي كل قافية تجري إليك على شوق وتستلم
قد صغتها أنت إسلاماً ومكرمة وفي سواك القوافي أشهر حرم
منك المعاني ومني نسجها وأنا نظم وأنت على ألفاظها حكم
أنفاسها منك إلا أنها مثلاً وروحها فيك إلا أنها كلم
بها حياء إذا سارت لحضرتكم ماذا تقولوا ويكفي أنك العلم
حب ولكن شعري لا يحيط به من ذا يبلغه عن خاطري لكم
لمن تركت القصور الشم في دعة لمن تركت نعيماً كله ألم
لمن تركت المقاصير التي رفعت لكل أرعن للذات يلتهم
سواك يرشف كأس من سلافته وأنت ترشف كأساً ماؤه الكرم
كادت معاليك أن ترويك معجزة لكن تواضعك الأسمى لها كتم
كأنما أنت كررت الألى ذهبوا هذا صلاح ومحمود ومعتصم
السائرون وعين الله ترقبهم الخائضون وبحر الهول مضطرم
الواهبون نفوساً أفعمت ورعاً الشاربون رحيق الموت إن هجموا
الساجدون ونار الحرب موقدة الذاكرون وزحف الهول محتدم
أكفانهم نسجوها من دمائهم على مطارفها النصر الذي سلموا
ماتوا ولكنهم أحياء في غرف من الجنان وذابوا لا فقد تلموا
سارت إلى الحرب أرواح مكرمة لو لم تسر لسرت نار الفنا لهم
لعل في الموت سراً كيف يعشقه جيل فكم شربوا منه وكم طعموا
الميت الشهم يوصي الحي في لهف والحي يغبط موتاهم ويغتنم
صاغوا الترانيم من صوت المدافع إذ سواهم يحتويه الناي والنغم
فكل أصيد منهم هب منطلقاً كالنجم كم من شياطين به رجموا
لو خاطب الموت فرداً واحداً وهم مليون شهم لأموا الموت واستهموا
قنابل الموت صيغت من جماجمهم فالموت أصبح من غاراتهم يدم
والطائرات على صيحاتهم سقطت صرعى وربانها فوق الربى سحموا
يكبرون فتهتز الربى فرقا ويهتفون فيسعى النصر نحوهم
من كل أطلس عزرائيل يشبهه في فيلق النصر لا يبكون ميتهم
تلك المكارم لا دنيا مزخرفة قد مازج الماء منها الذل والندم
يا رب أنت ولي المسلمين ومن سواك من هذه الأصنام ينتقم
أنزل على جندك الأسمى ملائكة وراء جبريل روح القدس ينتقم
ثبت قلوباً بك اللهم قد علقت ساروا إليك وماتوا فيك واعتصموا
بيض الوجوه على الرمضاء قد سجدت إليك وحدك أنت المالك الحكم(327/43)
آخر قصيدة أنشدها الشيخ
السؤال
هناك طلب من الشيخ بأن يلقي آخر قصيدة أنشدها؟
الجواب
لا أدري ما هي آخر قصيدة إلا مقطوعات:
مقطوعة في جبيل وهي مقتبسة من مقتطفات قديمة:
يا مجمع الخير حيوا لي محياه نداء حق من الفصحى سمعناه
وفي جبيل لقاءات وأمنية مع الشباب الذي قد طاب مسعاه
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلاينا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
وأختتم بقولي:
سلام الله أرفعه إليكم بأشواقي وحبي والتحية
وأرفع من ربى أبها سلاماً إلى الأحساء في أحلى هدية
ونادي الفتح أبلغه سلامي وشكري والوفاء بما لديه
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.(327/44)
دور الأدب في معايشة النكبات
إن الأدب في اللغة العربية هو البيان الساحر الذي يبين الحقائق والمستشكلات، وقد كان للأدب بين العرب مكانة ومنزلة، والإسلام أشاد بالشعر والبيان، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشجع شعراءه، فيذبون عن الإسلام، وكذلك أصحابُه مِن بعده، ومَن بعدهم.
إن الأدب الذي يوافق المكارم ويصفها، ويمدح الكرم والجود، ويصف الشجاعة هو الأدب الباقي، والأدب الذي يتألم لما يحصل للمسلمين هو الأدب الرائع الجميل، فلابد أن نحييه وننشره ونحافظ على بلاغته وفصاحته.(328/1)
الكلمة ما لها وما عليها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أمَّا بَعْد:
فإن الكلمة تحكم الكون منذ البدء.
فسِّر وجود الكون يكمن في كلمة، أليس الخالق -تبارك وتعالى- يقول لخلقه: (كن فيكون) وبالكلمة نحيا.
أليست حياتنا سلسلة كلمات تحمل عقائد وشرائع وعهوداً ومواثيق وعقوداً وإجراءات وبالكلمة ندين؟
أليس مفتاح الإيمان كلمة أو عدداً من الكلمات؟
ألسنا نتعبد الله بكلمات؟
أليس نهاية المطاف كلمة أو عدداً من الكلمات؟
أوليس أنه قد تقتلنا كلمة واحدة، وترفعنا كلمة، وتخفضنا كلمة، وتبكينا كلمة، وترضينا كلمة، وتغضبنا كلمة؟
إذاً: فالكلمة سلطان لا ينازع في عالم البشر، فحين نفرح نخف إلى الكلمات نستسرها فرحتنا وبهجتنا وسرورنا، وحين تضيق علينا السبل ويتملكنا الكرب لا نجد إلا الكلمات، ننفس بها عن همومنا، ونفرج بها كربنا، فنجهر بالدعاء إلى الله القادر تارة، ونبث شكوانا للخلائق تارة أخرى، وكل ذلك بكلمات منثورة ومنظومة.
والأدب أيها الأحبة في الله! هو الكلمة في أرقى صورها الجمالية، وهو الشعر، والقصة، والرواية، والخطبة، والخاطرة، والمقالة؛ فما موقع أرقى أشكال الكلمة من حياتنا؟
إن موقعها في الصميم، وأمة بلا أدبٍ أمة بلا حياة، أمة جافة خاوية، وأدبٌ لا يمثل أمة أدبٌ جاف خاوٍ.
ودور الأدب في الحياة مما لا يجادل فيه، فإذا اشتدت الخطوب، وقطب الزمان حاجبيه، ففي الأدب ملجأ ومتسع، ونحن المسلمين نعتز دائماً بموقف الأدب من الرسالة الشريفة، حيث وقف الشعراء مع الرسول صلى الله عليه وسلم في ضيقه، ونصروه وآزروه ونافحوا عنه بتشجيع منه عليه أفضل الصلاة والتسليم.
ونحن نعتز كذلك بتراثنا الأدبي العظيم الذي نستجلي فيه وبه وقفات شرفية لأدبائنا وشعرائنا مع أمتهم، وقد ترك أُدباؤنا الأوائل نتاجاً عظيماً في صدر الإسلام وعهد الفتوحات، وتركوا لنا مثل ذلك بعد سقوط الأندلس، وخلال الحروب الصليبية، وفي هذا العصر وجد أدبٌ متميز واكب الأحداث العظام في الحربين العالميتين وفي فلسطين وأفغانستان وغيرهما، وكما نلمسه هذه الأيام مواكباً للأحداث المؤلمة الحاضرة.
أيها الأحبة في الله: لتجلية أكثر لدور الأدب في معايشة النكبات، دعاكم النادي الأدبي في الرياض إلى هذه المحاضرة التي تسعدنا جميعاً أن يتحدث إلينا فيها مفكرٌ وأديب إسلامي هو الشيخ: عائض القرني.(328/2)
الأدب في غير موضعه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:24 - 25].
والصلاة والسلام على من قال فيه ربه: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69] فهز بفصاحته البلغاء، وأسكت بمنطقه الشعراء، وأفحم ببيانه العرب العرباء، وعلى آله وأصحابه اللُّسَّن المفوَّهين، والكماة الباسلين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وشكر الله لأهل الفضل فضلهم، وعلى رأسهم الأستاذ الجليل والأديب النبيل عبد الله بن إدريس رئيس النادي الأدبي في الرياض، أدام الله سعوده، وسدد جهوده، وقد دعاني لإلقاء هذه المحاضرة بعنوان: (دور الأدب في معايشة النكبات) وهي تحمل الرقم (302) فلبيت دعوته، وأقول له كما قال أبو الطيب المتنبي لـ سيف الدولة:
أتاني رسولك مستعجلاً فلباه شعري الذي أدخر
ولو كان يوم وغىً قاتماً للبَّاه سيفي والأشقر
أصرف نفسي كما أشتهي وأملكها والقنا أحمر
أيها الحضور! الأدب كلمة مؤثرة حية تبعث في الشعوب الحياة، عاشها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بنفسه متكلماً وسامعاً، وخطيباً وفقيهاً ومفتياً، وقبل أن أبدأ اسمحوا لي بكلماتٍ سطرتُها، ومعذرة إن ندَّ بيان أو اختل لفظ.
سيدي علل الفؤاد العليلا أحيني قبل أن تراني قتيلا
إن تكن عازماً على قتل روحي فترفق بها قليلاً قليلا
الأدب الراقي سوف أذكره بعد هذه الأسطر؛ لكن أتحدث عن أدبٍ رخيص، وعن أدبٍ متبذل، وعن أدبٍ ليس مقصوداً في الإسلام.
نعيش اليوم أدباً في مجموعة لا تحمل مبدأً، ولا يتعامل مع قضيتنا الكبرى، ولا يتحمس لرسالتنا الخالدة.
أدباً غلب عليه التذبذب، ويبدل المواقف بحسب المنافع والأغراض.
أدباً يسترضي الخواطر، ويجامل على حساب الحق.
فإذا قائله أول من يُكَذِّبُه ولا يؤمن به، أدباً مزوقاً مستهلكاً، مجته الآذان، وعافته القلوب، وتمردت عليه الأجيال؛ لأنه لا يلبي حاجتها، أدباً يجعل السارق محترماً، والأمين خائناً، والسفاك فاتحاً عظيماً، وإمام المسجد متطرفاً مريباً، والمتزلج على الثلج وجامع الطوابع حكيماً عبقرياً.
أدباً سهلاً لسذج البادية، تلطيخ صحف الأمة بساقط القول ومتبذل الهراء، فأصبح دراويش الأعراب حملة فكر، وروَّاد قلم، في حين أَفَلَ نجمُ الطليعة وغاب شمس الرواد وأصحاب المبادئ.
إذا عَيَّرَ الطائي بالبخل مادر وعيَّر قساً بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت كسيفة وقال الدجى للبدر وجهك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل
أدباً مجمركاً! عليه الوصاية، يصف الزوارق البحرية في شواطئ اللهو والضياع، ويبكي على موت أرانب الصحراء، ويحدثنا عن امرئ القيس وتدمر، والأمة تغرق في بحور الدماء، وتئن تحت سياط الجلادين، وتموت في زنزانات الطغاة الدجاجلة، وتحاصر بطوابير الملحدين المرتزقة.(328/3)
مِن شعراء السوء
أدباً فصل الأمة عن دينها، فالتطور في نظره: ألاَّ تذكر المسجد ولا المصحف، ولا تفكر في الكعبة ولا في زمزم، ولا تتغنى بـ بدر ولا حطين، ولا تتلهف لـ عمر وخالد والرشيد والمعتصم.
أدباً مهمته: توسيع البطون للمتآكلين به من أموال اليتامى والأرامل واللاجئين.
أدباً نتيجته: ميدالية ذهبية، أو سيارة فاخرة، أو كلمة شكر من الجنرال، أو ابتسامة من أمير المؤمنين.
ولذلك قام طاغية العراق فحكم بالإعدام على ابنه تزويقاً وإلهاءً وضَحِكاً على ذقون الشعوب، هو ما حكَّم الشريعة، وهو داس المصحف بقدمه، وهو قد كفر برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، ولكنه تظاهر بالعدالة ليقتص من ابنه القاتل السفاح، فقام شاعر العراق عبد الرزاق عبد الواحد يقول للسفاح ويستبكي عينه التي ما بكت من خشية الله:
أكان هذا امتحان الله نقبله لكن معاً كلنا لله نمتثلُ
يا سيدي كل نفس قبلك امتحنت حتى الأئمة والأسباط والرسلُ
ولم يقل رب إسماعيل قدمه لكن فداه ألا تفديه يا رجلُ
ماذا يقول العراقيون لو سئلوا ماذا يقال لـ صدَّام الذي حملوا
بين الضلوع ومن أصفاهم دمه وحبه وإلى أحلامه دخلوا
هذا الذي ملأت فلاَّحةٌ فمَه خبزاً ومن كلهَّ من كفه أكلوا
ماذا يقال أجل جاءت مسددة وهكذا أبداً تأتي بها الغيلُ
لكننا يا كبير القوم نفزع أن تقول أهل العراق اليوم ما فعلوا
لقد صنعت سلاماً فارفقن به أعط السلام سلاماً أيها الرجلُ
فماذا كان؟
قامت الجماهير تبكي على هذه العدالة، وتشيد بسيادة الرئيس، وتناديه أن يفدي ابنه -كبشه- بكبش سمين وبالفعل، فهذا هو الأدب المنافق المزور الذي ضلل الأمة، أدب أخرج أفراخ العلمانية أبرياء أمام الشعب، نجوماً في وسائل الإعلام، أبطالاً في مسيرة الأمة، وجعل الأعلام خونة، والناصحين غششه، والأتقياء أهل خطورة.
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
أدب طارد الجنس، وطلب الشهرة، وحرص على الظهور.
فأين أدبنا؟! وأين شعرنا؟! وأين إبداعنا؟! وأين طموحاتنا؟! وأين دموعنا؟!(328/4)
الأدب الذي نريد
نريد أدباً جميلاً طموحاً عفيفاً، أدباً يستفيد من روعة السبع المثاني والقرآن العظيم، أدباً يلهب حماس الأمة فيوقظ الغافل، وينبه البليد، ويزجر العاصي، أدباً يعيد لنا مجدنا ويذكرنا تاريخنا، ويحمل مبادئنا.
أدباً يوصلنا بالماضي، ويحثنا إلى المستقبل، في ظلاله نعيش، في ظلال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
وفي أحيائه نحيا تحت أفياء لا إله الله محمد رسول الله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6].
أدبٌ يزكي النفس من أوضارها ويرتل التوحيد في أذن الملا
فرسولنا عليه الصلاة والسلام عاش الأدب بكل معاني هذه الكلمة، عاش الأدب فجاشت روحه، ودمعت عينه، وعاشت نفسه مع الأدب، ففي صحيح مسلم عن عمر بن الشريف قال: {رُدِفْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتحفظ لـ أمية بن أبي الصلت قلت: نعم.
قال: هيه أنشدني، فأنشدته بيتاً، قال: هيه، فأنشدته ثانياً، فما زال يقول: هيه حتى أنشدته مائة بيت، ثم علق محمد عليه الصلاة والسلام، فقال: آمن لسانه وكفر قلبه}.
كان عليه الصلاة والسلام يجيد الأدب، فإذا تكلم بذَّ الفصحاء، يقول عليه الصلاة والسلام: {أوتيت جوامع الكلم} أحيا من الأمة الخام، أمة الصحراء، أمة الأرانب والضب، أحيا منها أمة فريدة تكتب باسم الله في قرطبة، وتصلي في إشبيلية، وتسجد في ضفاف دجلة والفرات.
يقول الزبيري قاضي اليمن وهو يمدح بلاغة المصطفى عليه الصلاة والسلام:
ما بنا جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمة من عفاء
يقول: ما قال كلمة إلا أحيا جيلاً، وما خطب خطبة إلا جهز جيشاً، وما أرسل عبارة إلا فتح مدينة، هذا هو الأدب الذي سيطر به عليه الصلاة والسلام على العقول وملك به الأفئدة.(328/5)
الأدب في الإسلام
وكان عليه الصلاة والسلام يجعل من مسجده منتدىً، فيظهره للأنظار، ويقرب المنبر لـ حسان، ويقول: {اهجهم وروح القدس يؤيدك}.(328/6)
موقع الشعر من حياة النبي صلى الله عليه وسلم
يسأل النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت: {كيف أنت والمشركين؟ -أي: كيف بك إذا جُمِعْنا مع المشركين في صراع أدبي رهيب- فأخرج حسان لسانه متحدياً وضرب أرنبة أنفه، وقال لسانه: يا رسول الله! والله لو وضعته على حجرٍ لفلقه، وعلى شعرٍ لحلقه، فدعا له} فأرسل القوافي كالقنابل، وأرسل الأبيات كالسهام، يقول قبل غزوة الفتح مهدداً الشرك والوثنية والإلحاد والزندقة:
عدمنا خيلنا إن لَمْ تروها تثير النقع موعدها كداء
أي: نسأل الله ألا يعيد هذه الخيول إلى رحابها وإلى بيوتنا إن لم تصف الحساب معكم، وإن لم تعلن نتيجة النصر مع الباطل.
تظل جيادنا متمطراتٍ تلطمهن بالخُمُر النساء
فيتبسم عليه الصلاة والسلام، ويسأل أبا بكر النسابة الحافظ للشعر، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يحفظ الشعر، وعدم حفظه للشعر كمالٌ فيه، إذ لو حفظ الشعر؛ لقالوا: نسج القرآن شعراً وإن الأمية فيه كمال، إذ لو كان كاتباً؛ لقالوا: كتب القرآن بيده، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69] وقال سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48].
فيقول لـ أبي بكر وهو يرى خيول خالد قد فتحت من كداء بـ مكة ونساء مكة يخرجن الخمر يلطمن الخيل، فيتبسم عليه الصلاة والسلام لتحقيق قول حسان، ويقول: {يا أبا بكر! كيف يقول حسان؟ فيعيد عليه الأبيات}
ويسمع القائد العظيم أبيات الحماسة والصدق والنبل فيتأثر بها، ويشهد الرسول عليه الصلاة والسلام بدراً وينتصر انتصاراً رائعاً سجله التاريخ، فيأتي حسان ويشارك، فقد كان حسان يقصف بلسانه والأبطال يضربون بأسيافهم، فيقول للحارث بن هشام الذي فر من المعركة - وهو أخو أبي جهل - فبعد أن تغزل حسان، واستفتح بالرقة والعاطفة الجياشة، قال:
إن كنت كاذبةَ الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجى بفضل طمرة ولجام
يقول للمحبوبة: إن كنت كاذبة فأنجاك الله -عز وجل- كما أنجى الحارث بن هشام، الذي ترك الأبطال في بدر وفر، فوقعت هذه الأبيات وخزاً وسيفاً على الحارث، وقد أسلم وخرج إلى اليرموك ليبيع دمه وليطهر أوضاره من هذه، وليكتب في سجل الخالدين، وتوفي عليه الصلاة والسلام وترك لنا شعراء ثلاثة، والله عز وجل يسطر في الشعراء آيات بينات: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء:221].
هل نخبركم بالدجاجلة؟ هل نخبركم بالمرتزقة المنافقين؟ هل نخبركم بباعة المبادئ؟
{تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:222] الذي لا يحمل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:223] يتشدقون عند الكيانات والأشخاص، يمدح من ذم أمس، ويذم من مدح أمس.
عندما أتى شعراء المصطفى عليه الصلاة والسلام الثلاثة: حسان، وكعب، وابن رواحة يبكون ويقولون: {يا رسول الله! نحن الشعراء وأنزل الله فينا ما تعلم! فنزل جبريل بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [الشعراء:227]} إلا الذين آمنوا بلا إله إلا الله، إلا الذين توضئوا ودخلوا المسجد، إلا الذين حملوا المصحف، إلا الذين أيدوا الرسالة التي أتى بها عليه الصلاة والسلام، إلا الذين تطهَّروا من أوضار التخلف والحزبية للباطل، والركوع للآثم الفاجر: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227].(328/7)
اهتمام الصحابة بالأدب
تولى أبو بكر الخلافة فيجعل الأدب المؤمن في حياته جزءاً كبيراً، بل هو نفسه من مواصفاته ومن مؤهلاته أنه كان خطيباً نَسَّابةً أديباً.
في اليوم الأول يعقد مجلس في دار بني ساعدة، وكاد هذا أن يتحول إلى كارثة، وكاد أن يصبح نكبة من النكبات التي أستعرضها لكم هذه الليلة، كاد أن يكون هذا المجلس معناه تغيير مسار الخلافة، كان الأنصار يريدون به أن يتولوا زمام الحكم أو يشاركوا الخليفة خلافته، فتحرك أبو بكر إليهم ومعه عمر وأبو عبيدة وأسكتهم؛ لكن ما سكتوا، وأراد عمر أن يحد القول لكن ما نفع إحداد القول؛ فما هي الحاجة؟ وما هو الموقف؟ وما هو الحل؟
الحل هو أن يتكلم أبو بكر، والحل أن ينطق بالكلمة اللينة التي قالها الله لموسى يوم أرسله إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
قال أبو بكر: [[يا معشر الأنصار! آويتم وواسيتم ونصرتم وأكرمتم، فجزاكم الله عنا خير الجزاء، والله ما مثلنا ومثلكم أيها الأنصار إلا كما قال طفيل الغنوي:
جزى الله عنا جعفراً حيث أشرفت بنا نعلنا في الشارفين فزلَّتِ
هم خلطونا بالنفوس وألجئوا إلى غرفاتٍ أدفأت وأظلتِ
أبوا أن يملونا ولو أن أُمنا تلاقي الذي يلقون منا لَمَلَّتِ
فتهللت وجوههم، وانشرحت صدورهم، وحيوا القائد العظيم، وقاموا فبايعوه.
إن الكلمة المؤدية المؤمنة الصادقة تغير أفكار الشعوب وتوجه طاقات الأمم.
ويتولى عمر الجاد الخلافة، فلا يتبسم لأنه صارم، فالشيطان يسلك فَجَّاً، وعمر يسلك فَجَّاً آخر، وإن الأعداء تهاب عمر، وإن الأكاسرة والقياصرة على منابرهم وفي دواوينهم يخافون من سمعة عمر وهو في المدينة، كما يقول محمود غنيم:
يا مَن يرى عمراً تكسوه بردتهُ والزيت أدمٌ له والكوخ مأواهُ
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاهُ
لكن يرتاح للأدب، وأنا أورد قصة طريفة: أرسل عمر رضي الله وأرضاه النعمان بن عدي أميراً على ميسان قريباً من البصرة، فتولى الإمرة، وكان النعمان صحابياً؛ لكن يجيش الشعر بما لا يستطيع أن يحمله، وينفذ المصدوق وربما قال الشاعر ما لم يعمل، كان هذا الصحابي خفيف الدم، لطيف الشذا، جلس مع أصحابه في سمر، وقال:
فمن مبلغ الحسناء أن حليلها بـ ميسان يُسقَى مِن زجاجٍ وحَنتمِ
إذا كنتَ ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلمِ
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدمِ
ما معنى الأبيات؟
لما ولاه عمر يقول: من يبلغ زوجتي في المدينة أنه تطور بي الحال بعد ثورة (14) سبتمبر وأصبحتُ بعد أن كنت أنام على الرصيف أصبحت أميراً، وبعد أن كنت أشرب الماء الحار أشرب الخمر، ولا أشربه إلا في الحنتم والزجاج:
فمن مبلغ الحسناء أن حليلها بـ ميسان يُسقَى مِن زجاجٍ وحَنتمِ
إذا كنتَ ندماني: إن تريد أن تسمر معي وعازم على السمر، فلا تسقني في الكاسات الصغيرة، ابحث لك عن كأس كبير:
إذا كنتَ ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلمِ
ثم قال: لعل خوف عمر يدخل معه حتى في الجوسق:
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدمِ
ولم يفعل ولم يشرب الخمر، وما كان له أن يشرب الخمر وقد آمن بالله، وما كان له أن يشرب المسكر وقد عاهد الله وباع نفسه إلى الله.
وتصل الأبيات إلى عمر، ويقرأ عمر رضي الله عنه الخبر، ويستدعي أميره، وعمر ليس عنده كل شيء على ما يرام، وليس عنده أنصاف الحلول، كان في الحج يؤدب العمال بالعصا، وكان يتفقد الأمراء، ويسيس سياسة الأمة، ويقبل الرأي الموجَّه والعقل السليم والكلمة الصادقة الحارة.
يوافقه أعرابيٌ على المنبر يوم الجمعة وعمر يتحدث للناس، فيقول عمر أيها الناس! ما رأيكم إن رأيتم فِيَّ اعوجاجاًَ، فيقوم الأعرابي فيسل سيفه، ويقول: يا أمير المؤمنين! والذي نفسي بيده! لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا، فيتبسم الزعيم، ويقول: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر، من لو حاد عن الطريق قوموه إلى الطريق بحد سيوفهم أو كما قال.
استدعى الأمير، وقال له: ما قولك:
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادنا بالجوسق المتهدم
الحد عليك، وقد ساءني والله، قال: يا أمير المؤمنين! لا تعجل علي، والله ما شربت الخمر، وإنَّما قال الله عز وجل: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224 - 226] قال عمر: أما الحد فقد أسْقَطَتْهُ عنك بهذه الآية، ولكن والله لا تلي لي عملاً، ثم عزله.
وكان عمر ينشد هذه الأبيات، -كما قال أهل التاريخ- ويستأنس بها؛ لأنها جميلة ورائعة، فما جعل ما فيها من خدش يسكت عمر أن ينشدها لجمالها، بل هو العاطفة والأدب والرقة رضي الله عنه وأرضاه.(328/8)
دور الشعر الإسلامي في النكبات
يستمر الحال، وتتوالى النكبات على المؤمنين، فيعيش الشعراء مع النكبة يصورونها، لا يعيشون تحت الأرض والأمة تعيش فوق الثريا، فهم لا يعيشون في البر والأمة تعيش في البحر، ولا يضحكون مع لعبات البلوت والكيرم والأمة تُسحقُ جماجمُها بدبابات الغزاة.(328/9)
أبو تمام والمعتصم
استشار المعتصم المنجمين: ما رأيكم في فتح عمورية؟
فقال المنجمون: العقرب نزل في كوكب الذنب ولا نصر في هذه الفترة، فقال: آمنت بالله وكفرت بكم، ثم جهز جيشاً عرمرماً.
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
وتوجه على بركة الله، ولما انتصر عاد ليسمع ماذا يقول شاعر الإسلام أبو تمام وهو يسجل عمورية بأبدع ما يقال، فافتتح بين يدي المعتصم هذا الرجل العملاق الذي نصر المرأة المسلمة التي لُطِمَت هناك، وقالت: وا معتصماه! ولكنها تردد اليوم في أفغانستان بالآلاف، وفي فلسطين، ولكن لا معتصم، ولا متوكل، ولا طارق، ولا صلاح الدين.
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتمِ
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصمِ
قال:
السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
ثم ضحك على المنجمين، وقال: أين فتواكم الرخيصة؟ أين العمالة؟ أين الكذب على الله وعلى الدين وعلى الرسالة؟ أما انتصر؟ أما ذَبح الأبطال؟ أما مزق أديم الكماه؟
فالنصر في شهب الأرماح لامعة بين الخمسين لا في السبعة الشهبِ
هذا هو النصر، ثم قال بروحٍ إسلامية:
رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يصبِ
الله الذي رمى بك أيها المعتصم؛ لأنك ساجدٌ لله، ما كنت بعثياً ولا علمانياً ولا ناصرياً ولا ماركسياً، وإنما كنت حنيفاً مسلماً: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يصبِ
ثم يثني عليه بالإيمان، ويقول:
تدبير معتصم بالله منتقم لله مرتقب في الله مرتغب
ويسجل الإسلام لـ أبي تمام قصيدته الرائعة الإسلامية البديعة التي حملت روح الإسلام، وإنَّا لفي حاجة إلى شاعر في النكبات ينشد مبادئنا، ويمسح جراحنا، ويكفكف دموعنا، ويقيلنا من العثرة، لسنا بحاجة إلى أدب يصف القائد ولا سيارته ولا شارته ولا طابوره، ولا يتهجم تهجم الحطيئة على أعدائه، إن هذا الأدب سوف يموت، وبالفعل مات قبل أيام، وما كتب اليوم يموت غداً.(328/10)
المتنبي وسيف الدولة
وتستمر القافلة، وتأتي نكبات لنا وعلينا، ويأتي شاعر الدنيا أبو الطيب المتنبي - ولولاه لَمَا ذُكِر سيف الدولة - فيقف مع سيف الدولة بالوغى، ويحشد معه بقوافيه، ويمجده تمجيداً رائعاً، ينتصر في معركة - في شمال الروم - أمام الروم، فيقف أبو الطيب المتنبي فيحيي سيف الدولة القائد قائلاً:
وقفت وما في الموت شكٌ لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
أي شجاعة مثل شجاعتك؟
ومَن ينام في عين الأسد؟
ومن الذي يخصي الأسد؟
أنت في قلة قليلة تبارز قوة الروم (الصليبية العالمية) وأنت وحيدٌ! مَن يفعل فعلك؟!
وقفت وما في الموت شكٌ لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسمُ
من يضحك إلا أنت في المعمعة؟ من الذي يتبسم والسيوف تقصف الرءوس إلا أنت؟
ثم يتذكر أبو الطيب الإسلام، ولو أن عليه ملاحظات كما يقول ابن تيمية وابن القيم فيقول:
وما كنت قرناً هازماً لقرينه ولكنه التوحيد للكفر هازمُ
أنت فقط ما قتلتَ رجلاً واحداً، إنما انتصرتَ للمبادئ، إنما (لا إله إلا الله) غَلَبَتْ (لا إله والحياة مادة) إنما بيت:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
غَلَبَ:
آمنت بـ البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثانِ
إذاً هو التوحيد، والمتنبي يبكي عيون الناس.
يقولون: إن الصاحب بن عبَّاد غضب على المتنبي؛ لأنه لم يمدحه أبداً، وقد رفض لأنه لا يمدح إلا الملوك (الحجم الكبير) وقد حاول فيه واسترضاه فرفض فقال ابن عبَّاد: لا ينشدني أحدٌ شعراً لـ أبي الطيب إلا قتلته، فماتت أخت ابن عبَّاد فأتته ستون رسالة مصدرة ببيتين لـ أبي الطيب المتنبي يقول فيها:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ فزعت بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
قال: لمن هذا؟
قالوا: لـ أبي الطيب.
قال: هذا كالشمس انتشر، أنشدوا شعره أو كما قال.
إن المبادئ الإيمانية ترصع بالأدب، والأدب إذا لم يكن في خدمة مبادئنا، أو في خدمة أي مبدأ كان فلا عبرة به، ولا حياة له، ولا نريده.(328/11)
الشعر في نكبة الأندلس
تسقط الأندلس، ونصاب بنكبة؛ قلوبنا ودموعنا وأسرارنا وتاريخنا هناك، هل سمعت بنكبة سقوط الأندلس؟ آهٍ يا تلك الأيام! وآهٍ يا تلك المعالم!
بنفسي تلك الأرض ما أحسن الربا وما أحسن المصطاف والمتربعا
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
دفنا علماءنا في الأندلس وتاريخنا وليالينا وسمرنا وقمرنا ونجومنا، دفنا أشجاننا وعتابنا هناك ثم عدنا بلا مصير.
يا ليلة الجزع هلَّا عدت ثانية سقى زمانك هطال من الدِّيَمِ
عسى الله أن يعيدنا إلى الدنيا، يبكي العالَمُ الإسلامي الأندلس، ولكن بكاءهم ناقص في جانب بكاء أبي البقاء الرندي، فاسمع إليه وهو يستفتح قصيدته باكياً متأثراً صارخاً من ألم النكبة التي عاشها الأطفال والنساء، والكيان والدعاة والعلماء، كما يعيش أهل الكويت اليوم، يعيشونها مرارة كمرارة أهل الأندلس.
لكل شيء إذا ما تم نقصانُ فلا يغتر بطيب العيش إنسانُ
ويمضي مع القافلة، ثم يقول ونغمته في الإيمان، ومسجده لا يفارقه، ومصحفه في جيبه:
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوانُ
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ
من منكم لا يعرف بغداد؟
بغداد الحب والجمال والطموح.
بغداد أرض أحمد بن حنبل، والشافعي، وابن الجوزية، والجيلاني.
بغداد أرض المنصور، والرشيد والمأمون والمعتصم.
بغداد أرض أبي تمام والبحتري وأبي العتاهية تصاب بنكبة التتار، يوم انحرف أهلها في مرحلة عن الصلاة، وعن إقامة الإيمان، وعن لا إله إلا الله، وعن التحاكم إلى شرع الله، وأصبح العلماء في الطابور السادس، وأصبح الأوباش والجواري وباعة القيم والرخصاء في الطابور الأول، أصيبت بنكبة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [الطلاق:8 - 9].
ويبكي الناس ويقوم شاعر فيخاطب بغداد وهي أطلال والدماء تسيل، والأطفال تحت سنابك الخيل، وكُتُبُ دار الحكمة رُمِيَت في نهر دجلة، فيقول:
من ذا أصابك يا بغداد بالعين ألست كنت زماناً قرة العين
أستودع الله قوماً ما ذكرتهم إلا تحدر ماء العين من عيني
إنه بكاء، وإنه الأدب الذي يتقطع لوعة وحسرة، وهو الأدب الذي نفقده يوم أصبح الكلام بغير حماس، وبغير إحساس، يخرج لكن من اللسان فهو لا يخرج من القلب.(328/12)
الشعر وموت العظماء
ومن النكبات المدلهمة -أيها البررة-:
موت العظماء، وقتل النبلاء، يقول ابن دريد:
والناس ألف منهم كواحدٍ وواحدٌ كالألف إن أمر عنا(328/13)
أعظم العظماء محمد صلى الله عليه وسلم
موت بعض الناس موتٌ لأمة، وموت أمة لا يساوي موت واحد، وأعظم العظماء محمد عليه الصلاة والسلام، وأكبر الزعماء وإنسان عين الدنيا رسولنا وحبيبنا عليه الصلاة والسلام، يموت كما يموت الناس: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
وينتقل إلى الله لكن مبادئه لم تنتقل، مليار مسلم اليوم سبَّاباتُهم تشهد أن لا إله إلا الله، وفي عنق كل مسلم يدٌ بيضاء للرسول عليه الصلاة والسلام كما يقول شوقي:
المصلحون أصابعٌ جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاءُ
يقول البردوني، أعمى القلب والبصر، شاعر اليمن ولا زال حياً: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23].
يقول قصيدةً يحيي فيها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، قصيدة تبكي العيون وتثير في القلب شجون الله أعلم بها من شجون، ويهاجم الطغاة المتمردين على شريعته، فيقول:
بشرى من الغيب ألقت في فم الغار وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرارِ
بشرى النبوة طافت كالشذى سحراًَ وأعلنت في الدنا ميلاد أنوارِ
ثم يقول في آخر القصيدة:
نحن اليمانين يا طه تطير بنا إلى روابي العلا أرواح أنصارِ
أنا ابن أنصارك الغر الألى سحقوا جيش الطغاة بجيش منك جرارِ
إذا تذكرتَ عمَّاراً وسيرته فافخر بنا إننا أحفاد عمَّار
إنها بديعة، وإنها جزلة، وإنها مؤثرة؛ لكن ربما يخرج الورد من الشوك، مات عليه الصلاة والسلام، ولكن كأن الأمة ماتت يوم موته.
لعمرك ما الرزية فقد مالٍ ولا شاةٌ تموت ولا بعيرُ
ولكن الرزية موتُ شهم يموت بموته بشرٌ كثيرُ
ويتولى عمر إلى الله ويذهب، ويُرثى بمرثية، ويبكيه شاعر مسلم، وربما نسب هذا إلى الجن؛ لكن دعونا في عالم الإنس حتى يأتينا سندٌ جيد أن الجن قالوه:
جزى الله خيراً من إمامٍ وبارَكَتْ يدُ الله في ذاك الأديم الممزقِ
من هو عمر؟
يقول أبو البقاء أحد علماء الأندلس: كُفِّنَت سعادةُ الإسلام في أكفان عمر، كان حاجزاً أو عازلاً لا يخترقه الصوت، فلما قتل دخلت الفتن، وبصبص الأذناب، وتكلم المرتزقة، وتصدر السفلة، لما قُتِل ذهب ذاك اللموع الذي عاشته الأمة الإسلامية؛ فنسأل الله أن يعيد مجدنا كما كنا:
كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يملكنا شعبٌ ملكناهُ
المقصود من هذا: أن الأدب المؤمن الملتزم يحول الأنظار والأفكار، ويحيي الأمة فتعيش مع الأدب رسالة خالدة، وأشجاناً ولوعة وأسى.(328/14)
محمد بن حميد الطوسي قائد الجيش
محمد بن حميد الطوسي: بطل لم يتجاوز عمره السادسة والثلاثين، قاتل في جيوش المعتصم وكان قائد الجيوش في عهد المعتصم، خرج مع الروم فقاتل من بعد الفجر إلى صلاة المغرب.
يقولون: كان يأخذ السيف فيقاتل به حتى تتكسر شظاياه من على رءوس الأبطال، فيأخذ السيف الآخر، ومع الغروب فتر فاجتمع عليه الكماة فقتلوه، فأتى أبو تمام ليشارك في المصيبة، فسجل قصيدة مبكية في محمد بن حميد الطوسي، لما سمع المعتصم قال: والله ما مات من قيلت فيه هذه القصيدة.
يقول أبو تمام:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذرُ
توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السفر السفرُ
ثم يقول عن محمد:
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبرُ
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندسٍ خضرُ
فتىً كلما فاضت عيون قبيلة دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكرُ
ثم يقول عنه -حتى لا يُظَن أنه فر من المعركة أو عَجِزَ عن القتال-:
وما مات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتلت عليه القنا السمْرُ
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمْرُ
ويستمر أبو تمام في هذه الإشادة ويلقيها عند المعتصم، وتسيل دموع المعتصم ويقول: والله ما مات من قيلت فيه هذه القصيدة.
فهو ما زال باقياً حياً.
دخل وفد غطفان على عمر فقال عمر: أمنكم أحدٌ من أبناء هرم بن سنان الذي مدحه زهير؟
قال رجل: أنا يا أمير المؤمنين.
قال: ماذا قال فيكم زهير؟ وماذا أعطيتموه؟ قال الابن: مَدَحَنا وأعطيناه مالاً.
قال عمر: ذهب والله ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم.
من يستطيع من الشعراء أن يقول كما قال زهير في هرم:
قومٌ أبوهم سنان حين تندبهم طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قومٌ بآبائهم أو مجدهم قعدوا
محسَّدون على ما كان من نعم لا ينزع الله منه ما لهم حسدوا
إلى آخر ما قال هذا هو الخلود، ولذلك لا زلنا نتناشدها اليوم ونحيا معها.
أما أدَبُ:
أنا ذبابة الليمون أطير من شجرة إلى شجرة
سيارتي مازدا يا سبور أنت سيارتي
عشت في رحلة في الروابي
أو كما قال.
يا وانت ونيتها يوم صليت وانت غراباً طارداً حمامة
فعلى كل حال! لكلٍ مشارب؛ لكن نريد الخلود والروعة والإبداع أن يتجلى بأدب الأمة، وسوف أعرج على هذا الكلام إن شاء الله.(328/15)
الوزير ابن بقية ومرثية الأنباري
ابن بقية وزيرٌ عباسي، أطعمَ الناس وكسا العلماء، فحسده عضد الدولة؛ لأنه أخذ عليه الاسم الإعلامي، وأصبح رمزاً دائماً، فالصحف الصباحية تحيي ابن بقية في عهد العباسيين، وتركت السلطان عضد الدولة؛ فأتى عضد الدولة فتربص بهذا الوزير حتى أوقعه في حديقة، وأغلق عليه وأرسل عليه الفيل فركضه حتى مات، وفي الصباح تفاجأت الأمة الإسلامية بهذا الكريم الوزير الباذل التقي، وإذا هو مصلوب عند باب الطاق في بغداد، وقد صُلِبَ جثمانُه على خشبة الصلب، فيأتي أبو الحسن الأنباري أحد العلماء والأدباء العاشقين لـ ابن بقية فينظر إلى الجثمان، وإذا هو مصلوب فيقول:
علوٌ في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزاتِ
عجيب أمرك حتى في الموت ما يدفنونك في الأرض، دائماً تحب الخلود والعلو، انظر إلى الروعة والإبداع، يقول ابن خلكان: وأجزم جزماً أنه لا توجد مثلها مرثية يقول:
علوٌ في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزاتِ
كأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصِّلاتِ
الناس الذين حول الجذع والجثمان كأنهم يمدون أيديهم لتعطيهم الدنانير في الدنيا.
كأنك قائم فيهم خطيباً وهم وقفوا قياماً للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء كمدهما إليهم بالهباتِ
ثم قال:
ولما ضاق بطن الأرض عن أن يواروا فيه تلك المكرمات
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا عن الأكفان ثوب السافياتِ
يقول: ضاقت الأرض أن تواري مكارمك ولموعك وسطوعك وكرمك، فجعلوك في الجو، إلى آخر تلك القصيدة البديعة.(328/16)
من أشعار النكبات
أصابت مصر هزة أرضية بالذنوب والخطايا، فنحن لا نقول كما يقول الطبائعيون الماديون: قشرة أرضية انكسرت، نعم.
ولكن من الذي كسرها:
تقضون والفلك المسير سائرٌ وتقدرون فتضحك الأقدار
من الذي يبدي ويعيد، ويعز ويذل، ويخلع ويعزل، ويقوي ويضعف، ويعطي ويمنع؟
إنه الله.
هز مصر في عهد الفاطميين زلزال، فخاف الخليفة الفاطمي وقيل الحاكم بأمر الله وقيل ابنه- من هذه الهزة، فأتاه العلماء، وقالوا: احذر من سخط الله، هذه بسبب الذنوب، فحاول أن يتوب، فدخل عليه شاعر، وقال: لا ليست بالذنوب.
ما زُلْزِلَت مصر من كيدٍ ألمَّ بها لكنها رقصت من عدلكم طربا
يا سلام على الخيبة! وعلى قلة الحياء من الله! وعلى قلة المبادئ!
شاعر الأندلس الحسن الذي ذكره الذهبي وترجم له، ثم فضحه في آخر الترجمة، يقول: مبدع! لكنه كلب دخل على السلطان، يقول:
ما شئت لا ما شاءت الأقدارُ فاحكم فأنت الواحد القهارُ
فعلمه الله مَن هو الواحد القهار! أصابه مرض عضال حتى كان يتقلب على فراشه، ويقول:
أبعين مفتقرٍ إليك نظرت لي فأهنتني وقذفتني من حالق
لستَ الملوم أنا الملومُ لأنني علقت آمالي بغير الخالقِ
الأدب الذي يجعل من السفاك حليماً حكيماً، ومن المجرم عبقرياً فاتحاً: يا درة الزمان! يا فاتح الدنيا! يا بركة الوقت! بوجودك سالت الأمطار، وكثرت الأشجار، ورخصت الأسعار، وبردت درجات الحرارة.
فيقولون: إنه لما سمع عضد الدولة -وكان فتاكاً- بما قيل في ابن بقية، وكذلك ما قيل في الديلمي الذي مدحه أبو الطيب المتنبي بقصيدته الرائعة التي يقول فيها:
فداً لك من يقصر عن فداكا فما ملك إذاً إلا فداكا
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٌ تبين من بكى ممن تباكا
يقولون: يقول عضد الدولة: والله الذي لا إله إلا هو لوددتُ أني قُتِلْتُ وصُلِبتُ وقيلَتْ فيَّ هذه القصيدة، فما دام المسألة مسألة مجد وشهرة وددت أنها قيلت فيَّ (علو في الحياة وفي الممات).(328/17)
نكبة ابن عبَّاد الأندلسي
ويُنكب المعتمد ابن عبَّاد سلطان الأندلس، وقد غلب عليه الترف، وغلب انحرافه عن الجادة، وكثَّر الجواري في بيته، والدفوف والطنابير، والعزف على الموسيقى، وسماع الغناء الغربي من غناء الإفرنجة، والكأس بعد الثانية ليلاً، فأراد الله أن يؤدبه فاستنجد بـ ابن تاشفين في تونس ليجيره، فدخل بجيش جرار، ظاهره من قبله الرحمة وباطنه من قبله العذاب!!
دخل بجيش موحد فلما نصره الله على الغزاة في الأندلس أنزله ابن عبَّاد يضيفه في الحدائق والقصور والدور ويرحب به ويكرم فخامته على هذا النصر، وكان ابن تاشفين كالأسد ينظر في مداخل المدينة وفي مخارجها ومتى يستولي، وبعد ثلاثة أيام هجم على ابن عبَّاد وقيده، وسَلَب مُلكه، وأخذ دوره، ودمر قصوره، وعاث في حدائقه، ونقله إلى أغمات محبوساً، لقد كان شجاعاً ابن عباد، ولكنه إذا نزل القدر عمي البصر.
أي يومي من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه وإذا ما جاء لا يغني الحذر
{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم:45].
تقلد ابن تاشفين زمام الحكم، وادعى أن أهل الأندلس استنجدوا به، وأنه يريد أن يقيم حكومة ليبرالية في الأندلس بدل ابن عبَّاد، وأن ابن عبَّاد كان ديكتاتورياً مستبداً ظالماً، فمرت الأيام وإذا ببنات ابن عبَّاد يصلنه في السجن حافيات باكيات كسيفات جائعات، فيبكي عند الباب، ويودع البنات وقلبه يتقطع، وهو يقول:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعةً يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
ما هذه الحياة؟!
برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
إلى آخر ما قال، وهي بديعة أبكت الناس.
ابن اللبانة شاعر الأندلس زار ابن عبَّاد في أغمات؛ فأدخل عليه في السجن، فلما رآه يقول: رأى عليه كساء بلا إزار، فبكى ابن اللبانة بكاءاً عظيماً، ثم قال:
تنشَّق رياحين السلام فإنما أخض بها مسكاً عليك مختما
وقل لي مجازاً إن عدمت حقيقة فقد كنت ذا نعم وقد كنت منعما
ثم يقول:
بكاك الحيا والريح شقت جيوبها عليك وناح الرعد باسمك معلما
وهي قصيدة بديعة أوردها الذهبي ومجَّدها، وعلى كل حال إنما هذه نتيجة الصدوف، والمقصود: كيف عاش هذا الأدب الحي؟ وكيف أحيا في هذه الأمة الروح؟ رثى نفسه، ورثى حياته، ورثى بناته، وأتاه الشاعر يسليه بقصيدة معه وأبكاه، وبكت الأمة مع ابن عبَّاد ولولا هذه القصائد ما سمعنا بـ ابن تاشفين ولا بـ ابن عبَّاد.(328/18)
من مرثيات متمم بن نويرة في أخيه مالك
روى الترمذي عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها أنها: [[مرت بقبر أخيها عبد الله بن أبي بكر فسلمت عليه وقالت: يا عبد الله! مثلي ومثلك كما قال متمم:
وكنا كندماني جذيمة برهة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وعشنا بخيرٍ في الحياة وقبلنا أصاب المنايا رهط كسرى وتُبَّعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاًَ ً لطول اجتماعٍ لم نبت ليلة معا
ثم بكت وأودعت، هذه الأبيات تكتب بماء الذهب.
سمع عمر الأبيات فبكى، وقال: [[يا متمم! والذي نفسه بيده لوددت أني شاعر، فوالله ما هبت الصبا من نجد إلا جاءتني بريح زيد.
يا متمم! إن زيداً أسلم قبلي وهاجر قبلي وقُتل قبلي]] ثم بكى عمر.
يقول: يا ليتني أجيد الشعر! يا ليتني أعرف صنع القصائد لأرثي أخي زيداً الذي قُتل في اليمامة في حرب مسيلمة الكذاب، هذا متمم سطر لأخيه مالك قصائد تبكي القلوب قبل العيون يقول:
لعمري لقد لام الحبيب على البُكا رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبرٍ رأيته لقبر ثوى بين اللوى في الدكادك
فقلت له إن الشجى يبعث الشجى فدعني فهذا كله قبر مالك
إلى آخر ما قال.
وما زلنا الآن بعد خمسة عشر قرناً نتأثر به ونتوج به خطبنا، وأمسياتنا وندواتنا، أما شعر الأسمنت ودرجات الحرارة، والصيدليات المناوبة، وشعر البطيخ والكوسة، والأسعار، والمحيطات، والجغرافيا، والعواصم، فإنه يموت سريعاً حتى ربما ينظر إليه بنظرة فإذا رأيت المطلع، قلت: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق).
ابن زيدون يبكي الأندلس أسرة في الأندلس، أما ابن جهور أو بني الأحمر فنُكِبوا نكبة ما بعدها نكبة.
أتى ابن زيدون وسلم عليهم في السجن، وقدم لهم أعظم هدية أنه عزاهم فقال:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح والصور
أنهاك أنهاك لا آلوك موعظة عن نومة بين ناب الليث والظفر
إلى آخر ما قال وفيها شريط مسجل لأحد الأدباء شرحها شرحاً وافياً، وعلى كلٍّ فقد ذكرهم بالله في آخر القصيدة، وهذا هو الفرق بين الشاعر الملتزم المؤمن المصلي، وبين الشاعر المجرم المنحرف.(328/19)
نكبة البرامكة
إن من أعظم النكبات في التاريخ نكبة البرامكة، وقيلت فيهم قصائد تربوا على العشرين قصيدة يقول يحيى بن خالد البرمكي حين أُدخل السجن ومكث فيه سبع سنوات لا يرى الشمس وقتل أبناؤه جميعاً، ودخل عليه أحد الناس بعد النعيم الذي كان فيه البرامكة في عهد هارون الرشيد، فقد كانوا في نعيم لا يعلمه إلا الله، وقد بلغ فيهم الترف أنهم يموهون القصور بماء الذهب، مثلما فعل شاه إيران يقولون: كان السيفون عندهم في دورة المياه من ذهب، بطرت معيشتها: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16].
أصبح الكافر -الآن- يسير النعمة لمبادئه وماديته أعظم مما يفعل كثيرٌ من المسلمين في تبديد الثروات والأموال، يدخل هذا الرجل على البرمكي، فيقول: يا يحيى! ما هذا بعد النعيم؟
قال: دعوة مظلوم سرت في ظلام الليل غفلنا عنها وما غفل الله عنها.
لا إله إلا الله! يقول أحد أهل العلم: أسأل الله أن يغفر له في هذه الكلمة: دعوة مظلوم سرت في ظلام الليل غفلنا عنها وما غفل الله عنها.
سجن المهدي أبا نواس في السجن، فأرسل له قصيدة يقول فيها:
أما والله إن الظلم شؤمٌ وما زال المشوم هو الظلوم
إلى ديان يوم الحشر نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
فبكى وأطلقه.
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:52] استبداد، ونكاية بالشعوب، وقتل للصوت الحر، وعدم سماع الرأي الآخر، وقتل الإرادات، وتحطيم المبادئ باسم الحكمة، فالبرامكة فعلوا ذلك ولكن هذا الرجل نسأل الله أن يغفر له حين قال هذه الكلمة.
قيل لـ علي بن أبي طالب: [[كم بين العرش والتراب؟ قال: دعوة مستجابة]].(328/20)
من أشعار المعاصرين في النكبات(328/21)
نكبة فلسطين
يُنكب المسلمون في فلسطين نكبة دامية لم يسمع التاريخ بمثلها، ولا زلنا الآن نعيش النكبة أربعين سنة، ومعاملات فلسطين في هيئة الأمم لا يحملها ثلاثة حمير، كل يوم شكوى، والعرب إذا شكوا إسرائيل، يقولون: دولة توسعية لها نوايا سيئة في المنطقة -الغيبة حرام- أإسرائيل لها نوايا توسعية؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
واليوم تسعون مليوناً وما بلغوا نضجاً وقد عصر الزيتون والعنبُ
لهم شموخ المثنى ظاهراً ولهم هوى إلى بابك الخرمي ينتسبُ
إذا تبدت لنا الميراج تقذفنا سعت لتسقطها الصيحات والخطب
شجباً ونكراً وتنديداً بغارتها الله كم نددوا يوماً وكم شجبوا
يقول موشي ديان في مذكراته الحكم والسيف من أراد أن ينتصر فليقاتل العرب، قلنا له: نعم يا مجرم، قاتلك عرب وما قاتلك مسلمون، وإلا لو كان صلاح الدين وخالد وطارق لكنت رأيت.
يقول المجرم نزار قباني -لا حياه الله ولا بياه- وإنما أستشهد بشعره استشهاداً، وأقول: إذا رأيته فابرُك على صدره وتعوذ بالله من الشيطان، وأنا أوصيكم ألا تدخلوا نتاجه، فإنه عقيم ومسموم، وقد حادَّ الله وسب رب العزة والجلال، ورأيت له قصيدة تقطع القلوب، لكنه أبدع في هذه القصيدة، يرثي جمالاً المجرم -جمعه الله به على يساره في جهنم- يقول:
نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصر
وليمون يافا يابسٌ في حقوله هل شجرٌ في قبضة الظلم يثمر
رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ
تناديك من شوقٍ مآذنُ مكة وتبكيك بدر يا حبيب وخيبر
تعال إلينا فالمروءات أقفرت وموطن آبائي زجاجٌ مكسر
يطاردنا كالموت ألف خليفة ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصر
حقيقة أبدع!! ولكنا لا نقبله؛ لأنه يعيش بلا مبدأ، يعيش بلا إيمان، ولا يعرف المسجد، فهو متخلفٌ زنديق، عدوٌ لله ولرسوله وللمؤمنين، نمقته ونشهد الله على بغضه، ونسأل الله أن ينصفنا ورسالتنا ورسولنا وقرآننا منه، يقول في مقطوعة أخرى:
دمشق يا كنز أحلامي ومروحتي أشكو العروبة أم أشكو لك العربا
أدمت سياط حزيران ظهورهم فقبلوها وباسوا كف من ضربا
وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا
وإني أحيي -بالمناسبة- فضيلة الدكتور زاهر بن عواض الألمعي، فهو من شعراء الصحوة الإسلامية ومن روادها، وقد أتحفنا بحضوره، وأنا أقول هذا من باب أن نقول للمحسن: أحسنت، وللمسيء: أسأت، وسبق تحية الشيخ عبد الله بن إدريس ومعي مقطوعات العشماوي وسوف أوردها، وعسى الله أن يكثر من الصف الإسلامي أحبابنا وإخواننا أهل الطهر والوضوء والسجود والقرآن والسنة نحييهم.
يقول في أطفال الحجارة:
طفلٌ صغيرٌ والمدافع حوله مبهورة والغاصبون تبرموا
في كفه حجرٌ وتحت حذائه حجر ووجه عدوه متورم
من أنت يا هذا ودحرج نظرة نحوي لها معنى وراح يتمتم
أنا من ربوع القدس طفلٌ فارسٌ أنا مؤمنٌ بمبادئي أنا مسلمُ
سكت الرصاص فيا حجارة حدثي أن العقيدة قوة لا تهزم
إلى آخر ما قال.(328/22)
نكبة الكويت
وتُنكب الكويت ويدخل صدَّام، ويتمزق الأطفال، وتُسحق الشريعة، ويُكفَر بالله، ويتجمع العالم فيندد به، فما هي آثارها في أدبنا وفي شعرنا؟
قام كثيرٌ من الشعراء إلى صدَّام الذي زكوه بالأمس، وأثنوا عليه، ونادوه يا فاتح الدنيا! ويا رمز النصر! ويا إله الخلود!! بل شاعرة كانت تناديه بـ (يا إله المجد)!! وكانت تقول: الآخرون سكارى يصيدون الحبارى، وكان كثير منهم يبوس كف المجرم وما علموا، وقد علموا أنه قتل الأكراد أجداد صلاح الدين، واكتشفوا فيما بعد أنه عميل، وإلا قد زكوه وطهروه وأثنوا عليه، ومصيبة الكويت أرسلتُ فيها رسالة:
كتبتها بدموعي قبل أرسلها وصغتها من دمي روحاً وريحانا
ماذا أقول وجرحي من جراحكم فما أصابكم والله أبكانا
وتصاب الكويت فلا يجدون لهم إخوة إلا نحن وأمثالنا، نقولها ولا فخر: إخاء الدين ونسب العقيدة، ورسالة لا إله إلا الله، ويأتون إلينا فنواسيهم والفضل لله، ونحييهم والمنة لله، ونعانقهم والخير خير الله:
ألهفي لشعبٍ بات في خير نعمة وأصبح في هولٍ من الليل يمرج
سيصغي له من عالم الغيب ناصرٌ ولله أوسٌ آخرون وخزرج
وتستمر المسيرة، ويأتي أدبه ليشيد بمبادئه ويعيش معه، وزولا، شاعر فرنسا كان يعيش مبادئ ديقول لحظة بلحظة، وحاييم ناتشمان أيضاً، شاعر اليهود.
تقول جولد مائير في مذكراتها (ص: 68): إن هذا الشاعر ما حاد عن المبادئ حتى في حرب (1967م) أرادوا أن يدخل بأشياء وبعدها في الصلح، ولكن كان ينادي أن تكون دولة إسرائيل من خيبر إلى حيفا ويافا، فهو شاعر مبادئ.
يقول شاعر مبادئ البعث:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
ألا أهلاً بكفر يؤلف بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
وعلم البعث الذي سارت به الطوابير يقول:
آمنت بـ البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني
لكن قد اكتشفنا صدَّام في آخر الليل أنه كان مجرماً، عجباً! كيف اتخذناك صديقاًَ؟ وحسبناك أخاً براً شقيقاً؟! أليس بكافرٍ قبل الغزو؟! أليس بعدوٍ لله؟! أما داس المصحف؟! أما قتل الأبرياء؟! أما كان نجساً؟! لماذا تذبذبنا في المواقف؟ متى كان صدَّام صديقاً لنا؟ متى كان باراً رشيداً شقيقاً قريباًَ؟
والله إنه من أبعد البعداء، وقد اكتشفنا أنه كان عميلاً لإسرائيل، وأنه كان يكلمها في الخفاء، ويسالمها في الدجنة، ولكن هكذا يفعل الأدب، ولو صالحنا صدَّام، والله الذي لا إله إلا هو لظهرت أقلامٌ وأدباء كانوا يذمونه، فمدحوه، وقالوا: يا فاتح المشرق والمغرب.
وأنا أحفظ نماذج لكني أستعفيكم من ذكرها إبقاء على القلوب أن تُخدش، علَّ الله أن يتوب عليهم إلى المبدأ المسلم، فالأدب يسير بمبدأ (لا إله إلا الله) فهي تنطلق من رسالة, أما أدب الهواية فهذا الأدب كجمع الطوابع وركوب الخيل، وهواية المراسلة، والسفر إلى لندن وباريس، والتزلج على الثلج، فالأدب رسالة، والأدب إيمان، والأدب كلمة يسألك الله عنها، والأدب أن تخدم به هذا الدين وأن تجعله فيما يرضي رب العالمين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(328/23)
حدود الشاعر المسلم
يقول الشاعر المسلم وهو يذكر بلاده -لأن الوطنيين الآن قالوا: حدودنا إقليمنا وما غيرها من البلاد فليست لنا، لا.
فـ بغداد لنا، بغداد أرض المعتصم، وأحمد، والمتوكل، والكويت لنا، وطاشقند لنا، وقرطبة لنا؛ لكن فقدناها لما فقدنا لا إله إلا الله، يقول:
وأين ما ذكر اسم الله في بلدٍ عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
بـ الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
هذه بلاد المسلم، وهذه عقيدته، وهذه رسالته:
بلادي كل أرضٍ ضج فيها نداء الحق صداحاً مغنى
إذا كابول أعيتها جراحٌ ففي صنعاء إخوان المثنى(328/24)
قصيدة للشيخ عائض بعنوان: (بين الأمس واليوم)
وهنا قصيدة قلتها في هذه الأحداث بعنوان: (بين الأمس واليوم) قلت فيها:
صوتٌ من الغور أم نورٌ من الغار أم ومضة الفكر أم تاريخ أسرار
هذه في مدح الرسول عليه الصلاة السلام، وهو أعظم من مدحي، وأقول كما قال أحمد شوقي لما مدح الرسول عليه الصلاة والسلام:
أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك غير أن لي انتسابا
يقول: أنا تطفلت على جنابك الشريف.
صوتٌ من الغور أم نورٌ من الغار أم ومضة الفكر أم تاريخ أسرار
يا عيد عمري ويا فجري ويا أملي ويا محبة أعمار وأقطار
تطوي الدياجير مثل الفجر في ألَقٍ تروي الفيافي كمثل السلسل الجاري
الشمس والبدر في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار
أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبار
فما لقومي بلا وعيٍ قد انتكسوا أصغوا لصيحات عربيدٍ وخمار
ما جاءهم من صلاح الدين موعظة فما انجلت عن حماهم وصمة العار
هم الأسود ولكن في حظائرهم هم الثعالب عند الفاتك الضار
لهم لموعٌ ولكن لا شموس لهم لهم سلاحٌ ولكن غير بتار
جمع الطوابع من أسمى هوايتهم أعلى مفاخرهم من يوم ذي قار
الشاربون دماء الجيل في دعة الراقصون على ناي وأوتار
الساهرون على كأسٍ وأغنية العاكفون على طبلٍ وقيثار
هل حرروا القدس من صهيون أو حضروا يوم الوغى وارتدوا أسياف أحرار
هل طهروا المسجد الأقصى وهل طهرت أكفهم ويحهم ليسوا بأطهار
هل أعلنوا الحرب إسلاماً وتضحيةً هل واصلوا سيل سلمان وعمَّار
تبرأت منهم الأجيال وانسحبت جيوشهم وعليها وصمة العار
وطاردتهم جيوش البغي فانحسروا يروون ملحمةً للقط والفار
تبكي المنابر منهم كلما هتفوا لأن في يدهم سكين جزار
عروبة ليس للإسلام في دمها وحيٌ وليس عليها فطرة الباري
عروبة برئت منها جحافلنا ما لم تتوج بإيمانٍ وأذكار
أروي حياة رسول الله أبعثها شذاً تفوح بآمالٍ وأزهار
يخشى إعادتها لصٌ ويحذرها نذلٌ تربى على أنغام غدار
لأن مجد رسول الله تذكرة على جبين العلا كالكوكب الساري
عدلٌ وفضلٌ وإحسانٌ ومرحمة وحيٌ ونورٌ وتخليدٌ لأعمار
يغرد المجد في بستان شرعته في هيبة النور لا تغريد أطيار
أصحابه عبروا التاريخ وانتصروا وحدثوا طلعة الدنيا بأسرار
في قندهار دماء من عروقهم تكفي طموحاً لمهزومٍ ومُنهار
سل نخل بيسان والحمراء ما فعلوا اقرأ مكارمهم يا أيها القاري
ثم اكتفينا بآمالٍ وفلسفة نيل العجائز أو أخبار سُمَّار
عاش الفريق ولا ذلٌ يفارقه تيجان أوهام لا تيجان أحرار
عاش اللواء وكم قد باع ألوية قالوا عقيد ولا عقدٌ لختار
فن الهزيمة سهلٌ كم تعلمه جيش الموسيقى بطبلاتٍ وأزيار
أبكي وأضحك من أفعال صبوتهم يا ألف صدَّام بل يا ألف عمَّار
شادوا الدنانير هالات مزخرفة جمَّاعُها لا يساوي ربع دينار
يبيع قيمته بالرخص من سفهٍ والدين ينهار منه في شفاً هار
دروسٌ من هذه النكبة في عالم الأدب، النكبة التي حلت بشعب الكويت حلت بكل مسلم، أمن وسكينة وهدوء في الليل وفي الصباح دمار.
يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
هذا بشار يقول: يا نائم على الأغنية والموسيقى ربما تصحو على دبابة ومن يدريك!
أليس الصبح بقريب؟! {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
يقول عبد الله بن المبارك الزاهد العابد الولي أمير المؤمنين في الحديث: قصيدة عدي بن زيد خيرٌ عندي من قصر طاهر بن الحسين.
وطاهر بن الحسين أمير عباسي كان في خراسان له قصرٌ عجيب، لكن القصيدة التي يقول فيها عدي بن زيد والتي ذكرها ابن كثير وابن خلكان وأثنوا عليها ثناءً حسناً يقول:
أيها الشامت المعير بالدهـ ـر أأنت المبرأ الموفورُ
يا من يعرينا بالمصايب! يا من يعيرنا بالنكبات! أتظن أنك سوف تسلم: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم:45] {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27].
يقول عدي:
أين كسرى كسرى الملوك أنوشروان أم أين قبله سابور
إلى آخر ما قال عدي بن زيد، وهو جاهلي لكن ما كان يشرب الخمر، نزل مع النعمان بن المنذر في نزهة، فقال: أبيت اللعن، هل تسمح لي بالكلام؟
قال: تكلم، قال: هل تدري ما تقول هذه الشجرة أيها الملك؟
قال: ما أدري! وهل يتكلم الشجر؟
قال: تقول:
رب ركبٍ قد أناخو حولنا يخلطون الماء بالخمر الزلال
قد مضوا حيناً وساروا زمناً وساروا جثثاً تحت الرمال
فبكى النعمان ورفع الخمر، فهذا نذير أمة، يقول: يا نعمان! لا تضيع حياتك في الخمر، فهذه الشجرة تخبرك أن قبلك ملوك سكنوا وجلسوا هنا، وضحكوا وشربوا لكن ذهبوا.(328/25)
ما يستفاد من النكبات
يقول صاحب كليلة ودمنة، عبد الله بن المقفع: أرسل الأسدُ الحيوانات تجمع له صيداً، فأتت بغزال وأرنبٍ وظبي، قال: من يقسم بيننا؟
فأتى الذئب -الذئب دائماً فيه عجلة سامحه الله- فقال: أنا، قال: تفضل يا أبا حسل -وقيل: أنها كنية الضب- قال: أما الأرنب فللثعلب أبي معاوية، وأما الظبي فلي، وأما الغزال فلك، فالغزال أكبرها، فغضب الأسد ومد ذراعه فخلع رأس الذئب فإذا هو ميت، قال: من يقسم؟
قال أبو معاوية الثعلب: أنا، قال: تفضل، قال: أما الأرنب ففطورٌ لك، وأما الظبي فغداء لك، وأما الغزال فعشاء، لك قال: أحسنت، بارك الله فيك، من علمك هذه الحكمة؟ قال: رأس الذئب المخلوع.(328/26)
عدم الوقوع في نفس المشكلة بتفادي الأسباب
ومقصود صاحب كليلة ودمنة أنه يخاطب السادة، يقول: اعتبروا بما حل بجيرانكم قبل أن يحل بكم، ورأس الذئب المخلوع درسٌ عظيمٌ {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
إياك أعني واسمعي يا جارة!!
يقول ابن القيم: نزل أعرابي يسأل عن بعير له ضاع، قال: مَن القوم؟
قالوا: بنو سعد، فارتحل إلى الوادي الآخر، قال: مَن القوم؟
قالوا: بنو سعد، فارتحل إلى الوادي الثالث، قال: مَن القوم؟
قالوا: بنو سعد، قال: في كل وادٍ بنو سعد! فصارت مثلاً.
والمعنى: في كل دارٍ مصيبة.
وهكذا فعل الله بالأيام وبالساعات وبالحوادث، والمقصود هو: سرعة تغير الحال، فليس عندنا عهد من الله، فالعهد الذي بيننا وبين الله أن نطيعه ونتولاه وننصر دينه.
أرسل عمر إلى القادسية سعد بن وهيب، فقال: [[يا سعد بن مالك بن وهيب -لم ينسبه لأبي وقاص-: لا يغرنك قول الناس: إنك خال رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فإن الله ليس بينه وبين أحدٍ من خلقه نسب؛ فإن أحبهم إلى الله أتقاهم]] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] متى كانت الشعارات الكاذبة تبرئة لأصحابها؟
متى كان المجرم الذي يَلِغ في الدم ولياً لله؟
متى كان المتكلم أمام الجماهير بالعدالة وهو ظالم قريباً من الله؟
هذا المجرم يدعي حماية المقدسات والشريعة والإسلام والجهاد وأمثاله كثير: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18].(328/27)
الاستفادة من المصيبة في إصلاح الأحوال
دريد بن الصمة أوصى قومه فقال لهم: أرى ألا تتوقفوا هنا لقسمة الغنائم، فإن العدو مقبل، قالوا: لا يوجد عدو، وأصروا على الاقتسام هناك، فداهمهم العدو واجتاحهم، وقَتل منهم من قَتل، فيقول دريد:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ
فقلتُ لهم ظنوا بجيش مدجج سراتهم في الفارسي المسرَّدِ
قال: سوف يصبحكم جيشاً عرمرماً، يلبس الفارس والقائد منهم البازوك والكلاش نكوف وغيرها -من سلاح زمانهم- لكن ما أطاعوه، قالوا: أنت مهلوس، وفي الصباح اجتاحهم، قال:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزيةُ أرشدِ
وهذا منطقٌ جاهلي: لا.
أنا لست من الضالين، وأنت لا تقل في الدنيا: نفسي نفسي، أنت مسئول أن تصلح وأن تدعو، وتوجه وتأمر وتنهى، ثم تتبرأ من أعداء الله، أما أن تكون مع الأمة ومع الرأي العام ومع الجماهير فهذا ليس مبدأً إسلامياً، بل هو خطأ.(328/28)
الاستعداد وترك التَّرَفُّه
استفدنا من هذه النكبة: أن علينا أن نستعد وأن نترك التَّرَفُّه، والشهيق والزفير، وحمامات السباحة، ومطاردة الحمام، والتزلج على الثلج، وبيع الأوقات الغالية في البلوت والكيرم، والأغاني الساقطة، فلن يبقى معنا إلا مبادئنا وإرادتنا ورجولتنا، تقول أم الملك الأندلسي حين ضيع ملكه:
ابكِ مثل النساء مُلكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجالِ
أنت الذي ضيَّع مجده ومبادئه وخلوده.
ذكر ابن كثير: أن معاوية بن أبي سفيان حضر صفين فخرج علي بن أبي طالب وتعرفون من هو علي أشهر ما فيه أنه حيدرة الأسد يقول:
أنا الذي سَّمتني أمي حيدره
كَلَيْثِ غاباتٍ كريه المنظره
أكيلكم بالسيف كيل السندره
كان إذا خرج الأبطال وضعوا الدروع في الأرض علامة: (خطر ممنوع الاقتراب!!) أخرج السيف يوم صفين وقال: [[مَن يبارز؟ قال المسلمون: بارز أنت يا معاوية، قال والله لا أقدر عليه، ثم ردها على عمرو بن العاص، وقال: يا عمرو بن العاص! بارز الرجل، قال: لا أريد، قال: عزمت عليك أن تبارزه، فخرج عمرو، فلما رأى علياً وضع درعه وسيفه، قال: (مكرهٌ أخاك لا بطل!!) وبدأت المعركة وفر معاوية، ولما وقف في الصحراء تذكر ابيات ابن الإطنابة الحجازي، الرائعة الجميلة التي حثَّته على حفظ المبادئ وحفظ أصالته ورجولته وإيمانه.
يقول ابن الإطنابة الحجازي وهو جاهلي أراد أن يفر لكن أبى عار الفرار قال:
أبت لي عفتي وأبى حيائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقدامي على المكروه نفسي وضربي هامة الرجل السميح
وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
ذكرها معاوية فعاد إلى المعركة وانتصر بآخر المطاف]] والمقصود أن أهل المبادئ ولو كانوا أهل جاهلية يثبتون على مبادئهم، فالنار نار، والموت موت.
لبَّث قليلاً يشهد الهيجا جمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل
أما التلوي، وتضييع الوقت، فليس من دأبنا.(328/29)
النكبات تربي الرجال
إن هذه النكبة علمتنا أن علينا أن نكون رجالاً، وأن نعد للموقف عدته، وأن نحفظ عهد الله، وأن نسير أمورنا على منهج: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فالشعر خالد، والأدب إذا وجه بهذه الوجهة الصحيحة أصبح أدباً رائداً، أمَا تعرف أن الجاهلي يتحول من بخيل إلى كريم بسبب أبيات؟
يقولون عن المحلَّق إنه كان أبخل العرب، عنده ثمان بنات نشبن في حلقه لم يتزوجن؛ لأن العرب تعفو عن كل شيء إلا عن بخل البخيل، كُن عند العرب الجاهليين ما كنت: كن مجرماً، كن سكيراً، خماراً، مجرماً، ضائعاً؛ لكن لا تكن بخيلاً! فـ المحلق لم يتقدم إليه رجل يخطب بناته، فهن ثمان، فذهب فشاور امرأته: ما رأيكِ في هؤلاء الثمان البنات؟
قالت: اذهب إلى الأعشى، شاعر العرب وضيفه وأعطه هدية علَّه يمدحك، فيسري مديحه في العرب فيتزوجون بناتك، فذهب فاستدعى الأعشى، وضيفه وذبح له ناقة، وكساه جلباباً، وأعطاه دنانير، وخرج الأعشى ولما ركب الناقة طَرِب وقال:
لعمري لقد لاحت عيونٌ كثيرةٌ إلى ضوء نارٍ باليفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق
وذهبت هذه الأبيات كالسحر وكالماء وكالضياء حتى بلغت آذان العرب، فقالوا: فما أتى شهرٌ إلا وقد تزوجن بناته جميعاً، الأدب الذي يحول أفكار الناس وأنظارهم.
أبو نعامة قطري بن الفجاءة خارجي حضر المعركة، ولما رأى القوم كادوا أن يفروا تماسك، وقال وهو في المعركة، وأحسنُ الشعر ما كان وقت المعمعات:
أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحكِ لن تراعي
فإنكِ لو سألتِ بقاء يوم على الأجل الذي لكِ لم تطاعِ
فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاعِ
إلى آخر ما قال، ثم قُتِل في المعركة، لكن قُتِلَ شريفاً، فإن قتل المرء وهو مقدمٌ صابرٌ محتسبٌ على مبادئه أحسن من أن يؤخذ وهو فارٌ هارب يترك حذاءه وأهله وعرضه، وهذا هو العار.
يقف حسين بن الحمام الجاهلي في المعركة ويقول:
وليس على الأعقاب تدمى كُلومُنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
يقول: أنا لا أموت إلا مقبلاً، وهذه شارة الإيمان التي علمها الله أولياءه.(328/30)
الشعر وتخليد المواقف ونزع الأحقاد(328/31)
صلاح الدين بن أيوب
يوم انتصر صلاح الدين خطب شمس الدين الحلبي الجمعة في بيت المقدس فمدح صلاح الدين.
وذلك أنه لما ترك العرب مبادئهم وتولوا إلى التصفيق والصفير، وترصيع البيوت والمنازل والحدائق، نقل الله الرسالة ومبادئها إلى الأكراد وانتصر صلاح الدين، ودخل يوم الجمعة، وأذن المؤذن في بيت المقدس، فبكى المسلمون جميعاً مما أثاره ذلك الأذان من خلودٍ وذكريات في أذهانهم، قام الخطيب شمس الدين -وكان شاعراً- فابتدأ بحمد الله وأثنى عليه، وذكر النصر، ثم قال لـ صلاح الدين:
تلك المكارم لا قُعبان من لبنٍ وهكذا السيف لا سيف بن ذي يزن
إلى آخر ما قال، يقول: هذا هو التاريخ والمجد، وهذا هو الجيش، هذا هو اللموع والسطوع، وهذا هو الخلود لك ولأمثالك.
تلك المكارم لا قُعبان من لبنٍ وهكذا السيف لا سيف بن ذي يزن
وعاش صلاح الدين في ضمائرنا، وسوف يعيش إن شاء الله، وعسى الله أن يجمعنا به في دار الكرامة.
لـ أبي الصلت، والد أمية بن أبي الصلت من أهل الطائف من ثقيف مدحٌ لـ سيف بن ذي يزن يقول فيه:
تلك المكارم لا قُعبان من لبنٍ شيبا بماء فعادا بعدُ أبوالا
اجلس بـ غمدان عليك التاج مرتفقاً في قصر غمدان حالاً دونه حالا
إلى أن أتى إلى هذا البيت.
وأنا أذكر قصة، فأستطرد لذكر المكارم والخلود والمبادئ:
دخل ثلاثة من الشباب على عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الزاهد رضي الله عنه وأرضاه، مجدد أمر الأمة الإسلامية وحافظ مبادئها في القرن الأول، فجلس الشباب الثلاثة، فقال للأول: أنتَ ابنُ مَن؟ قال: أنا ابنُ الأمير الذي كان أميراً لـ عبد الملك بن مروان على الكوفة.
فماذا تعني هذه عند عمر بن عبد العزيز؟ لا شيء.
المؤهلات عند عمر بن عبد العزيز غير هذا، فالنسب عند عمر بن عبد العزيز هو: لا إله إلا الله؛ التقوى، الصلاة، قيام آخر الليل، صيام ثلاثة أيام من كل شهر، حمل الرسالة، نصرة دين الله، أما ابن أمير أو وزير أو جنرال في حرب (1967م) أو في العدوان الثلاثي، فهذه كلها خزعبلات، فسكت عمر بن عبد العزيز وأشاح بوجهه.
وقال للآخر: وأنتَ ابنُ مَن؟ قال: أنا ابن شريك بن عرباء، الوزير الذي كان عند الوليد فسكت.
وقال للثالث: وأنتَ ابنُ مَن؟ وكان الثالث -ابن أنصاري- ابن قتادة بن النعمان، الذي شارك مع الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة أحد، فضُربت عينه بالسيف فنزلت إلى خده فردها المصطفى عليه الصلاة والسلام بيده- فقال:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فرُدَّت بكف المصطفى أحسن الردِ
إلى آخر القصيدة، فدمعت عين عمر بن عبد العزيز وقال:
تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ شيبا بماء فعادا بعدُ أبوالا
ومعنى البيت يقول: أمية بن أبي الصلت: يا سيف بن ذي يزن! تحريرك العرب من أبرهة وأذناب أبرهة والملاحدة والمرتزقة هذا هو المجد، فما هو مجدنا نحن معشر العرب؟
يخرج الواحد منا من الخيمة بقعبان من لبن في كفه فيعطيها، فنقول: هذا أكرم الناس، هذا هو الكرم؛ لكن أكرم من سيف بن ذي يزن وأحسن منه من ثبت على مبادئه وهو صلاح الدين الأيوبي.
تلك المكارم لا قُعبان من لبنٍ وهكذا السيف لا سيف بن ذي يزن
أيها الإخوة الكرام! ومن شعر المبادئ: لماذا كان يقاتل الأشتر؟
تقدم الأشتر إلى محمد بن طلحة بن عبيد الله أحد أبناء الصحابة، فإذا هو سَجَّادٌ ولِيٌّ لله، فأراد قتله، فقال: لا تقتلني، قال الأشتر: ولِمَ لا أقتلك؟ قال: أتقتلون رجلاً يقول: ربي الله، فسل الأشتر سيفه وقتله، ثم لما قتله قال:
وأشعث قوامٍ بآيات ربه قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
شققت له بالسيف جيب قميصه فخر صريعاً لليدين وللفم
على غير شيء غير أن ليس تابعاً علياً ومن لا يتبع الحق يندم
يذكرني (حم) والرمح شاجرٌ فهلا تلى (حم) قبل التقدم
قتلته لأنه ما تبع علياً على المبادئ، فأنا أقاتل من أجل أن تنتصر راية علي، إنهم أهل المبادئ.(328/32)
كعب بن زهير مع النبي صلى الله عليه وسلم
أيها الإخوة! الأدب يُسِّل السخيمة في النكبات، وسوف أجعلها آخر فقرة لتبدأ المداخلات.
غضب الرسول عليه الصلاة والسلام غضباً شديداً، وكان إذا غضب غضب.
وإذا وعدت وفيت فيما قلته لا من يكذب فعلها أقوالها
أنت الشجاع إذا لاقيتَ كتيبة أدبت في هول الردى أبطالَها
غَضِبَ على كعب بن زهير لأنه هجاه فأهدر دمه في العرب، وذهب كعب في القبائل يمضي النهار، وينام الليل حتى وصل إلى أبي بكر الصديق فقال له: أعندك شيء من الشعر، كما يقول عمر بن الخطاب: [[الرجل يقدم بين يدي حاجته شيئاً من الشعر]] فأتى في صلاة الفجر وسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم -وهذه تروى في السيرة- فقال: يا رسول الله! اسمع مني، قال: قُلْ، فقال:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ مُتَيَّمٌ إثرها لم يفْدَ مكبولُ
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ومَن سعاد؟
قال: زوجتي، قال: لم تَبِنْ إذاًَ، فهي ما زالت معك.
ثم استطرد قائلاً:
إن الرسول لنورٌ يستضاء به مهند من سيوف الله مسلولُ
إلى أن قال:
نُبِّئتُ أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمولُ
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة الـ ـقرآن فيها مواعظٌ وتفصيلُ
وسل سخيمته ورضي قلبه عليه الصلاة والسلام وأعطاه بردته، وأطلق قياده وجعله حراً بسبب تلك الأبيات الرائدة التي حملت مبدأً وحباً.(328/33)
النابغة والنعمان
ويغضب النعمان على النابغة الذبياني ويتوعده، ويأتي النابغة إلى النعمان ويقول له في مجلس محتجب والسيف يكاد يقطر في يد النعمان دماً، يريد أن يفتك بـ النابغة فيقول:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني وتلك التي أهتم منها وأنصب
إلى أن يقول:
حلفت فلم أترك لنفسي كريبة وليس وراء الله للمرء مذهبُ
لئن كنت قد بلغت عني وشاية لمبلغك الواشي أغش وأكذب
فعفا عنه.
وهذا دور الأدب أن يحول الغضب إلى رضا، ويجعل الناس يغيرون قراراتهم الفاسدة إلى قرارات صحيحة، وأن يوجهوا الأفكار من الخطأ إلى الصواب، وألا ينادي بالاستقرار والاستمرار على الريبة ولسان الحال: (كل شيء على ما يرام) وهو ليس على ما يرام.(328/34)
الحسن بن هانئ وعلي الرضي
يقول الذهبي كان علي بن موسى الرضا ولي عهد المأمون ممدوحاً عند الشعراء وهو من أحفاد علي بن أبي طالب مدحه الناس إلا الحسن بن هانئ فاستدعاه وقال: [[لماذا هجرتني ولم تمدحني؟ فاعتذر بقصيدة هي من أجمل الأبيات -يقول الأصمعي: أجزم جزماً أنه ما قيل في المديح كهذه الأبيات- يقول الحسن بن هانئ في علي بن موسى الرضا:
قيل لي أنت واحد الناس في كل معنى من الكلام بديهي
لك في جوهر الكلام بديعٌ يجتنى الدر من يدي مجتنيه
فعلام تركتَ مدح ابن موسى بالخصال التي تجمعن فيه
قلت لا أهتدي لمدح إمامٍ كان جبريل صاحباً لأبيه
هذا إبداع، يقول ابن هاني: قيل لي: أنتَ واحد الناس معكوسة، لكن الذهبي غيرها فغيرتها معه يقول:
قيل لي: أنت واحد الناس في كل معنى من الكلام بديهي
لك في جوهر الكلام بديعٌ اجتنى الدر من يدي مجتنيه
فعلام تركتَ مدح ابن موسى بالخصال التي تجمعن فيه
قلت: كيف أهتدي لمدح إمامٍ كان جبريل خادماً لأبيه
قال الذهبي: ليس بخادم ولكنه صاحب، وهو الصحيح فهذا هو الإبداع، ورضي عنه علي بن موسى وأيده وأصبح شاعراً من شعراء الدعوة.(328/35)
خاتمة في موضوع الأدب(328/36)
الشعر النبطي
أيها الكرام: أختتم محاضرتي هذه بأمور:
الأمر الأول: يلاحظ في أدبنا طغيان الشعر النبطي، فأنا أعرف أن للشعر النبطي قراء، ولكن ليس معقولاً أن يوجه الإعلام والصحف كلها للشعر النبطي، وهذا يعني أننا صرنا بَدْواً كلنا، تحولت الأمة إلى شعر نبط.
إن الشعر النبطي الذي في نجد لا يناسب الشعر النبطي الذي في الجنوب ولا الذي في الشمال ولا في الحجاز، لكن الذي يناسب الأمة من شرقها إلى غربها: الشعر العربي الفصيح، شعر القرآن والسنة، فهو الشعر الذي يعيش معنا في ضمائرنا، وهو المفهوم الواضح البيِّن، أما أن نرى كل صحيفة نفتحها فيها عشرات الصفحات بقصائد قيلت في مكان ما، فإن ذلك خسارة من وجهة نظري، ونحن الآن نعيش الرأي شورى، فمَن عنده كلام فليتفضل، وهذا ميدان للمصارعات، وسوف يرى مَن يتقدم ماذا يُقال له.
وأما النتائج التي جنيناها من الشعر النبطي فقد كملت، ومعي بعض الإخوة القائمين على الصحف، وسألناهم عن الإنتاج: أين روعة شعر المتنبي وأبي تمام وزهير ومحمد إقبال وشعراء الدعوة قديماً وحديثاً؟
لماذا يُقَدَّم للأمة شعرٌ فيه كلمات لا يدري هل هي من فعل أمر أو مضارع، أو هي من الحروف؟ وهل هي عربية أو فرنسية أو إنجليزية أو بشتوية؟ فهذا ليس بصحيح، فالأمة لا زالت راشدة وواعية ومثقفة، عندها أقلام وأدباء.(328/37)
الشعر الحر
الأمر الثاني: انتقلنا من النبطي فوقعنا في الشعر الرخيص (الحر) عندما مر بـ عمر مولاه وابنه؛ وإذا المولى والابن ينشدان نشيداً، قال عمر: [[مَن الذي ينشد منكم؟ قالا: ما أنشدنا، قال: أنشِدْ أنتَ، فأنشَدَ، وقال للآخر: وأنتَ أنشِدْ؟ فأنشَدَ، فقال: أنتما مثل حمارَي العبَّادي]] فـ العبَّادي رجل جاهلي عنده حماران، قيل له: أيهما أخس حمارَيك؟
قال: هذا ثم هذا، ونحن خرجنا من النبط فوقعنا في الحر الذي ليس له ضابط، لا بقافية ولا وزن، وبهذا أصبح كل الناس شعراء.
أنا ذبابة الليمون
أطير من شجرة إلى شجرة
أنام على زورق تحت الأفق
نمت مرة
فانزلقت حذائي
من على الدرج
حلمت أن البحر كفي
هذا الكلام ليس بشعر.(328/38)
الفرق بين الشعر والنظْم
هناك فرق بين الشعر والنظم، فالشعر شيء والنظْم شيء آخر، وبعض أهل الخير من طلبة العلم والعلماء ينظُمون قصائد ويقولون: لماذا لا تنشر ولماذا لا يعجب بها الناس؟
و
الجواب
لأنه نظْم! فهناك فرقٌ بين النظْم والشعر، الشعر أسلوب وخيال وإبداع.
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
غضب الإمام محمد بن علي بن دقيق العيد مجدد الشافعية والمالكية في القرن السادس، العالم الكبير الفقيه، ذكره ابن خلدون في المقدمة، وغيره وذلك لأنه يريد أن يكون شاعراً لكنه ليس بشاعر يقول ابن دقيق العيد:
واختلف الأصحاب في وصلنا فرجحوا نجواك وهو الصحيح
فـ (اختلف) عبارة فقهية، و (الأصحاب) عبارة فقهية، و (رجحوا) عبارة فقهية، (وهو الصحيح) عبارة فقهية، فلذلك يموت شعر العلماء بسبب أنه نظْم.
أحد الإخوة جلس معنا في مجلس وأرغمنا وأغضبنا وأغضبناه بسبب قوله: لماذا لا تجعلون ابن القيم أشعر من أبي الطيب المتنبي؟! وهل الفضل عند الله بالشعر؟! وهل المنزلة عند المسلمين بالموهبة؟
لا.
قلنا: اسمع إلى شعر المتنبي واسمع إلى شعر ابن القيم.
المتنبي يقول في الحمَّى:
وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي
أبنت الدهر عندي كل بنت فكيف نجوت أنتِ من الزحام
إذا ما فارقتني غَسَّلَتْنِي كأنَّا بائتَين على حرام
واسمع لـ ابن القيم رحمه الله يقول:
إسناده حسن ومصداقٌ له في الترمذي فافهمه بالبرهان
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
والله إن ابن القيم أحب إلينا من ملء الأرض من أمثال المتنبي؛ ولكن ذاك شاعرٌ لا يُبْلَغُ هامتَه وهذا ناظم عالم فلا ندخل هذا في هذا، ففرق بين النظم وبين الشعر، ولذلك نسمع صحفنا دائماً والمجلات، خاصة مجلة اليمامة أكثر المجلات اعتذاراً كلما ضاق بها الحال، قالوا نعتذر لسوء أو لعدم إقامة الوزن وربما تكون من أبدع ما يكون لكن ما ندري عنهم، وعلى كل حال شكر الله سعيهم، ولكن ربما أنهم يصدقون في كثير مما يقولون إنها مكسرة الأضلاع، فكثير من القصائد موجودة غير موزونة ولا مقفاة.
أيها الإخوة الكرام! دور الأدب: أنه كلمة مؤثرة تصل إلى القلوب وتعيش على المبادئ، وعندنا الكلمة الأدبية، وعندنا إيمان وخلود ويدعو إلى المسجد وإلى الفضيلة وإلى المصحف، وليس ضياع وقت ولا ترضية خواطر ولا استجابة لنزوات المغرضين، ولكنها وقوف مع الحق أينما وقف.
وانتهت محاضرة: (دور الأدب في معايشة النكبات).
وأشكر رئيس النادي مرة ثانية وأشكركم والآن يفتح المجال للتعليق والمداخلات.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(328/39)
مداخلات(328/40)
مشاركة الأستاذ يحيى المعلمي
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فقد فاجأتني هذه الدعوة الكريمة من أخي وزميلي الأستاذ أحمد بن يحيى البحكلي ولعله قد لاحظ أني أثناء استماعي للمحاضرة كنت أستمع بقلبي وبعقلي، وكنت أتمتم بيني وبين نفسي مردداً كلمات الإعجاب لهذا السيل الدافئ من العبارة البليغة الفصيحة المؤمنة؛ التي شنف أسماعَنا بها فضيلةُ الأستاذ الكريم الأخ عائض القرني، الذي ألوم نفسي كثيراً على أني لم أسْعَ إلى التعرف عليه قبل الآن، وإن كنت قد عرفته وقد قرأت كثيراً من أقواله وكلامه وأحاديثه.
وقد استمعت إلى كثير من الأشرطة التي تفضل بتسجيلها وعمت فائدتها الناس جميعاً، ولقد أعجبني كثيراً تدفقه في الاستشهاد بالآيات الكريمة وبالأحاديث النبوية الشريفة وبالأشعار الطريفة الجميلة، ولقد كنت أظن أنه بعيدٌ عن مجال الأدب والشعر ككثيرٍ من أساتذتنا الأفاضل العلماء الكرام، ولكن ثبت لي ما قدمه به أستاذنا الكبير الشيخ عبد الله بن إدريس إذ قال عنه إنه يملك ناصية البيان، فعلاً إنه يملك ناصية البيان الأدبي كما ملك ناصية البيان الديني، فزاده الله توفيقاً، وشكر له مسعاه، ونفع بعلمه وبأدبه لنا جميعاً.
وشكراً لكم والسلام عليكم.(328/41)
مشاركة الدكتور ناصر بن سعد الرشيد
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
فلقد قدمت طلباً للتعليق قبل أن أسمع الكلمة التي قالها محاضرنا الليلة وهي: من أراد أن يعلق فليسمع، فكأن الشيخ يتحداني ولو علمت ذلك لما تقدمت، لكني سأحتال لنفسي وأتجنب غضب الشيخ عليَّ؛ لأني لن أتحداه هذه المرة، وإنما هناك نقطتان أشار إليهما الشيخ ويبدو أن الوقت لم يسعفه لأن يبلورهما؛ فبراءة للذمة أردت فقط أن أوضحهما.
النقطة الأولى: تتعلق بشخصية المعتمد بن عبَّاد: والحقيقة أن المعتمد بن عبَّاد تعرضه كتب النصوص الأدبية على أنه رجلٌ مترف فقط، وتقدمه لنا من خلال زوجته اعتماد البرمكية، ومن خلال نكبته، وقد يكون هذا صحيحاً، وقد قدمت النصوص جوانب غير مضيئة من شخصيات إسلامية مضيئة، كما قدمت لنا بعض الجوانب من حياة الرشيد، وكما قدمت لنا بعض الجوانب من حياة عبد الحميد السلطان، وقد ظلم الأدب كثيراً من الشخصيات الإسلامية العظيمة، وقد عظَّم كثيراً من الشخصيات الإسلامية التي ليست بعظيمة.
وقد أشار الشيخ جزاه الله خيراً إلى تخليد المتنبي لـ سيف الدولة الحمداني، والحقيقة التاريخية أنه لا مقارنة بين سيف الدولة الحمداني وكافور الإخشيدي مطلقاً، فـ كافور الإخشيدي كان رجلاً مشهوراً بالعدل والشجاعة وبغير ذلك، وسيف الدولة الحمداني له ما له وعليه ما عليه، ولن أتعرض لهذا الرجل لأني لا أحب أن أشوه سمعة أحدٍ من علمائنا أو قوادنا أو شخصياتنا.
لكن المعتمد بن عبَّاد من الرجال الذين لم يعرضوا العرض المطلوب، وأنا أردت فقط أن أنبه على ذلك؛ لأن شخصية المعتمد بن عبَّاد لا نحتاجها، ولا نحتاج أن نعرف حقيقته مثلما نحتاج أن نعرفها اليوم، وما أريد أن أقوله عن هذه الشخصية أني أحيلكم على النصوص التاريخية حتى تروا موقف هذا الرجل من الأزمات، ولا أريد أن أقول أكثر من هذا حول شخصية المعتمد بن عبَّاد إلا أن المؤرخين لهذه الشخصية أثنوا عليه ثناءً كبيراً، ووصفوه بأنه البطل الصنديد الغيور على الإسلام، والذي رفض العروض التي انهالت عليه من هنا وهناك لتحمي عرشه، ولا أريد في حقيقة الأمر أن أستشهد لكم لعظمة هذا الرجل، لكني أتمنى أن ترجعوا إلى الكتب والمصادر الأصيلة التي كتَبَت عن ابن عبَّاد هذا وسترون فيه رجلاً مسلماً عظيماً.
وأرجو هذه المرة ألا تسألني عما قصدت؛ لأني لا أستطيع أن أقوله حقيقة لهذا الموقف؛ ولكن من أراده فسيجده.
النقطة الثانية: هي أيضاً لست أدري عتاب للشيخ أم لا! لأنه في حقيقة الأمر قارن بين نص للمتنبي ونص لـ ابن القيم، لا شك أنه لا مقارنة بينهما، ولكن أيضاً سنداعبك أيها الشيخ الجليل وأنت شاعر وعجيب، أنك في حقيقة الأمر لم تنصف الرجل؛ لأنك قارنت بين قصيدة وجدانية للمتنبي وهي قصيدة في وصف الحمَّى بأبيات مِن الكافية الشافية ابن القيم وشافيته التي قالها في العقيدة ولا أظن أن في هذا إنصاف لـ ابن القيم، فيجب علينا أن نتحرى الإنصاف والعدل حينما نقارن بينهما، وأنا في حقيقة الأمر لا أرى أن ابن القيم يرقى إلى المتنبي، ولكن ابن القيم أيضاً رجلٌ جدير بأن يُدْرَس أديباً، ويُدْرَس ناقداً، ويُدْرَس بلاغياً، ولو لم يكن له سوى البيت المشهور الذي سرى بين الناس دون أن يعلموا مَن القائل:
إذا طلعت شمس النهار فسلمي فإنها إشارة تسليمي عليكم فسلموا
أي: أنها أمارة تسليمي فسلموا، ولو لم يكن إلا هذا البيت لكفى.
وصلى الله على محمد.
الرد: أولاً: أشكر الأستاذ الأديب يحيى المعلمي، وأسأل الله عز وجل أن يغفر لي تقصيري، وأعرف أن مقصده تربوي، وحث الهمم على الاستزادة، وإلا فأنا أصغر مما قال.
ثانياً: أشكر فضيلة الدكتور ناصر الرشيد وأقول له كما قال ابن القيم في قصيدته التي أستشهدُ منها ببيت:
أما والذي شق القلوب وأوجد المحبة فيها حيث لا تتصرمُ
وحملها جهد المحب وإنه ليضعف عن حمل القميص ويعلمُ
لأنتم على بعد الديار وقربها أحبتنا إن غبتمُ أو حضرتمُ
أنت من أحباب قلوبنا، وقد جلست معه وسعدت بالمجلس وعرفت غيرته على دين الله، وانتماؤه لـ (لا إله إلى الله) فأنا أتحمل عنه ما قال، وأعفو عنه إن كان خطر شيء ما
وإذا الحبيب أتى بذنت واحدٍ جاءت محاسنه بألف شفيع
وسوف أراجع -إن شاء الله- ترجمة ابن عبَّاد، وأما المقارنة فلي وجهة نظر وله وجهة نظر، والمسألة ديموقراطية.(328/42)
مشاركة الشيخ عبد الوهاب الطريري
الحمد لله وبعد:
أولاً: إن كلماتك شيخنا -أمتع الله عمرك كما أمتعت ليلتنا هذه، وأسعد الله حياتك كما أسعدت ساعاتنا هذه- روعة أدبية في الحديث عن الأدب، ورحلة تاريخية محفوفة بشوارد الأبيات وبديع الكلمات، ومليح القصص، وسداد الرأي، وحسن التوجيه، وإن كنت أرى أنه ينبغي أن يكون لهذه الكلمة عنواناً آخراً غير عنوانها الذي أتينا نسمع الموضوع تحته.
ثانياً: القضية الأخرى قضية الشعر الغث الرث؛ الشعر النبطي المشحون بالإطراء الساذج والمديح الرخيص شحناً، إنه محرمٌ شرعاً، ممجوجٌ ذوقاً، مردودٌ عقلاً، وهو طرح غير حضاري في زمن غير زمن النقائض والمعلقات، فمسئولية مَن تخليصنا من هذا النوع؟
هذا النوع من القصائد التي ينْظُمها ناظِمُها ويعلم أنها كذب، وينشرها ناشرها ويعلم أنها تزلفٌ فارغ.
أما نحن فنعرض عنها ونستغفر الله، وإن مسئولية ذلك على الذين بسط الله أقلامهم وألسنتهم على ساحتنا الفكرية، فعليهم أن يجعلوا في سلة المهملات متسعاً لهذا النوع من الثقافة الفكرية.
ثالثاً: إلى متى تظل عقولنا تخادع أو تفتن من خلال غتامة التعبير والغموض المطلسم في مقالات تظلم أمام عيوننا، لا يتغير فهمك لها إن بدأتها من أولها أو آخرها، ربما يشعرك غموضها وعجزك عن فهمها بالرهبة، لكن إذا أدركتها أصابع النقد تبين أن وزنها قشة، وقيمتها صفر.
أسأل من يكتب هذا النوع إذا كان من أصحاب الشهادات الجامعية فما فوق أن يعلنوا عجزهم عن فهم هذا الكلام؟
وأعجب كيف يكتب كاتب مقالة سريرية في مجلة لنا كبرى، حتى إذا استنكرَتْ قارئة عليه مقالَهُ، ردَّ بأنه يرمز بكتابته لها إلى الوطن، عجباً لمثل هذا النوع من الأدب! أيعلن هوية هذا الوطن ويعبر عن عشقه! أي مبادئ تعلن لها بمثل هذا الكلام؟!
والسلام عليكم.(328/43)
مشاركة الشيخ محمد القحطاني
قبل البداية أنا كتبت في ورقة التعليق اسمي بدون لقب وأنا في هذا المكان وفي هذه الدرجة، كتبت محمد بن دريم القحطاني ولم أكتب الشيخ فالألقاب نؤمن بأنها وسيلة للدفاع، أو لحث الإنسان أن يرتقي بمستوى الدفاع عن القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى درجة التضحية في زمنٍ افتقدنا فيه التضحية خاصة من أصحاب هذه الألقاب.
وما أودُّ قوله باختصار:
نحن لا نؤمن في زمن التقنية والتكنلوجيا والصناعة والذرة والرقي بكل مفاهيم الرقي والتقدم لـ أوروبا وأمريكا؛ أن نلتزم بالثرثرة، وتركيب الجمل، وزخرفة الكلمات، في وقت يُداس فيه شرف الأمة، ويُطعن فيه القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحطم قيمة الأخلاق إلى درك الحضيض إلخ.
أقول: أنا أسأل الأدب الملتزم واللا ملتزم، الأدب بكل الصفات التي يحلو لكثيرٍ من الإخوان أن يعلقوها على الأدب المعاصر: ماذا قدم لهذه الأمة؟
فالعلم والثقافة سببان رئيسيان للارتقاء بمستوى الإنسان والمجتمع والفرد والأمة والعالم من درك الحضيض إلى قمة الفضيلة، ومن قاع التبعية والاستعباد والذل إلى قمة القيادة والريادة والسمو.
ففي عام: (1914م) حتى عام (1919م) قضى طه حسين فترة نقاهة في باريس وعاد من بعدها بالثقافة الفرنسية كتبعية مطلقة للاستشراق والتغيير، ثم إلى هذه اللحظة نحن نتكلم في الندوات، نتكلم في بطون الكتب، ونتكلم بالألفاظ الطيبة النقية الطاهرة، لكن تصاغ المناهج التعليمية والتربوية عكس ما نسمعه في مثل هذه اللقاءات، فالذي يدرس الآن في كثير من المناهج التعليمية وخاصة على مستوى الجامعات هو الأدب التغريبي والاستشراق.
وأنا لا أحتاج لأن أستشهد بكثير من هذه الأمور، إنما مما قاله أحد دكاترة الأدب في جامعة الملك سعود: إذا لم يكن المثقف حداثياً فلا يستطيع أن يكون مثقفاً هذا أمر، فالذي نريده من هذه الأمور أن نرتقي من مستوى الكلمة الطيبة إلى مستوى العمل، وأن يكون لنا منبراً، وأن تكون هي اللفظة الدارجة على ألسنتنا عندما ندرس هذا الجيل معنى الأدب، وأن تستفيد هذه الأجيال من الأدب، فنحن نسمع كثيراً لكن الواقع يشهد عكس ذلك.
إن المناهج التربوية والتعليمية لا تعكس على الإطلاق أدباً رفيعاً وإن كان هناك قلة في مثل هذه المناهج أو الأماكن التربوية، الحكم بالشريعة للعموم وليس للخصوص، ما صنع الأجيال المعاصرة الآن يجعل لي الحق في الاستشهاد، الثقافة والعلم والأدب المعاصر هو الذي أحط وأوصل الأمة إلى درجة السقوط، ونحن مررنا بمرتبة الخواء الفكري ومرحلة الانبهار والإعجاب، ثم مرحلة التقليد للغرب ولثقافة أوروبا التي أتت من بعد القرن الرابع عشر حتى هذه اللحظات، لوثة بعد لوثة كما ذكر سيد قطب رحمه الله، ثم مرحلة السقوط ونحن نعيشها الآن، فمن المسئول عنها؟
هل هو الأدب الذي ارتبط ونسمع أنه مرتبطٌ بالقرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
كلا.
إنه الذي ارتبط بجميع المذاهب والنظريات الأدبية المستوردة من الغرب، ففي هذا المقام نسأل القائمين على النادي الأدبي بوجه خاص والقائمين على النواحي الأدبية أن يوجهوا الكلمة الصالحة الطيبة الطاهرة المرتبطة بالقرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم توجيهاً عملياً صادقاً مخلصاً عبر المناهج التعليمية، أما أن يُدرَّس بدر شاكر السياب، وطه حسين فلا.
أنتم تعلمون وقائع وشواهد التاريخ، فضلاً عن شواهد التاريخ والأحداث المعاصرة على رداءة الأدب المعاصر ممثلاً بـ الحداثة أو الرجعية.
وأن نجلس نتسلَّى بالعبارات الطيبة فقط في المحاضرات وفي الندوات هذا أمر لا يسكت عليه على الإطلاق، فنحن نعيش في مرحلة يجب أن تتكافأ فيها الجهود حتى نكون كلنا عمليين بالقرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم ننبثق في جميع تصوراتنا كلها من القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم سواءٌ في الأدب، أو التقنية أو التكنولوجيا أو أي صناعة فكرية أساسها كلمة، ثم تأتي بكلمة ترفع من مستوى الأمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
الرد: أولاً: أشكر فضيلة الشيخ عبد الوهاب بن ناصر على تعقيبه، وعلى جمله المفيدة والمتوعية والبصيرة، وهكذا عودنا -لا نقولها مجاملة- ووددت أن النص الذي معه كان في محاضرتي، لكن سبقني.
وكذلك الأخ محمد القحطاني أشكره كذلك، وأقول له: ماذا بيدك وبيدي؟! ما نملك إلا الكلمة، أتريد مني أن أغير مجال الأدب أو المقررات أو الإعلام؟! أتريد أن نلغي المحاضرات؟! أتريد أن أذهب بالبندقية لأقتل صدام حسين أو أصنع حنفية أو طائرة أو صاروخاً، فأنا أملك الكلمة وغيري يملك الهندسة، والثالث يملك الإعلام، والرابع يملك الأدب، على كل حال قد علم كل أناس مشربهم، فإن كان عندك تغيير أنت فتفضل.
واعذر حبيبك إن فيه فهاهة نبطية ولك العراق وماؤها(328/44)
الأسئلة(328/45)
الأدب وشخصية صدَّام
السؤال
إن أدباء الأمة الإسلامية كثيرون -ولله الحمد- ولكنهم لم يتبينوا حقيقة شخص طاغية كـ صدام حسين إلا بعد أن غزى الكويت، فعلى من تقع المسئولية في هذا التضليل أو هذا الجهل الذي ساد هذه القضية؟
الجواب
تقع المسئولية على من يملك المسئولية، على من أظهر صدَّاماً قبل اليوم ومدحه وجعله فاتحاً عظيماً وعبقرياًَ، ثم حطه وسفَّه به هذه الأيام، فهي تقع على من يستمع له من الناس، وتقع على من يحسن أن يتكلم وأن يقول؛ وسوف يسأله الله عن فعله، وقد أشرت أنا إلى أن حَمَلة المبادئ لا يتغيرون، هم يموتون ويقدمون جماجمهم عن مبادئهم.
بعض الناس لو صادقه صدَّام عاد إليه وسلم على رأسه في المربد، وقبَّل يده ونسي أنه بعثي علماني كافر ملحد بالله، أما أهل الخير فمواقفهم من قبل الغزو وما بعده واحدة، والله كنا نعلم أنه عفلقي مجرم، وأنه عدو لله وأنه لا يؤْمَن جانبُه، وأنه خائن قبل أن يدخل الكويت، وما زادتنا فيه الأيام إلا بصيرة لأنا عرفنا لا إله إلا الله وعرفنا الولاء والبراء.(328/46)
موقف الشيخ عائض من الشعر النبطي
السؤال
موقف الشيخ عائض من الشعر النبطي فيه بعض القسوة، رغم وجود كثير من نماذج هذا الشعر فيها دعوة إلى الله وسمو بالأخلاق، ودعوة إلى مكارم الأخلاق، فكيف يرى الشيخ عائض هذا الجانب من هذا النوع من الشعر؟
الجواب
على كلٍّ أنا لا أنكر أن فيه بعض الإبداع والفضائل، فحتى كلام العجائز فيه دعوة إلى الفضائل والمبادئ، لكني أنكر أن يكون هذا أدباً خالداً للأمة وأن يكون مرآة لها، وأن يكون طموحاً وأملاً لها ولأدبائها وأقلامها وإعلامها وصحفها، فلا يصلح أن نبيع أفكارنا بهذا المستوى.
أوليس في الأمة علماء وأدباء ومفكرون حتى نأتي برجل لا يعرف الفاتحة ولا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ولم يصلِّ في الشهر إلا مرتين أحياناً، ونقول: تفضل يا شاعر الأمة ويا أستاذها فيخلط علينا أفكارنا وأمتنا ومقدراتنا، فهو بعشر ريال يمدح وبسحب عشرة ريال يذم، لا يحمل مبدأ ولا عنده فكر ولا قلم وأنا لا أستصغر أحداً، وإلا فأنا أحفظ شعراً نبطياً، وقلت قصيدتين لكني استغفرت الله عز وجل، ففيه الطيب وفيه كلمات تعجب.
أقول: الله الله في رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام وفي هذه اللغة الحية التي أثبتت وجودها وخلودها أن تطفأ بهذا الشعر النبطي، وأن تتحول الأمة إلى أمة لا تعي الشعر ولا تفهمه ولا تستسيغه، حتى لو ألقيت على جمهور من الناس قصيدة للمتنبي فلن يتفاعلوا وسينامون، ولو أتيت برجل من البادية وألقيت من خزعبلاته كل عشرة أبيات بقرش أصغوا وبكوا وسبحوا وحَمَدوا، وهذا من فساد الأمزجة؛ لأننا نحن أطعنا طه حسين فتحولت مقدرات الناس إلى شعر نبطي، حتى الدكاترة الذين في الجامعات أصبحوا يشعرون، فالحمد لله الذي حولهم من عربية إلى نبطية، أصبح في جريدة عكاظ يفتتحها بقصيدة نبطية بتوقيع الدكتور فلان متخصص في قسم اللغة والبيان والأدب، على كل حال هذا ما تم توقيعه.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ومعذرة.
سامحن بالقليل من غير عذل ربما أقنع القليل وأرضى
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(328/47)
وقفات مع حديث الولي
حديث الولي اهتم به العلماء شرحاً واستنباطاً لما فيه من الأحكام والفوائد الجمة.
والشيخ في هذا الدرس ذكر مسائل وأحكام كثيرة تتعلق بهذا الحديث، ومن أهم مسائله: أهمية الفرائض، فضل النوافل، وحكم تركها، حكم السنن القبلية والبعدية، وتطرق إلى حكم بعض الصلوات كصلاة الوتر، والتسابيح، ركعتا الوضوء.(329/1)
حديث الولي
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
معنا في هذا اللقاء حديث الولي، وهذا الحديث من أعظم الأحاديث في الإسلام وسوف نتعرض للقضايا التي فيه بإذن الله، وقد أفرده الإمام الشوكاني بمصنف منفرد، وبحث فيه أهل العلم، وأُورد نصه في هذه الجلسة لنسمع هديه صلى الله عليه وسلم، وكلامه العذب:
عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قال الله تبارك وتعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب عبدي إليَّ بأحب مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه} متفق عليه.
هذا حديث قدسي يسمى حديثاً إلهياً، والحديث القدسي تعريفه عند أهل المصطلح:
هو ما كان لفظه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه من الله جل وعلا، فالذي تلفظ وتكلم به هو رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وأما المعنى فهو من الواحد الأحد، وهو يختلف عن القرآن، فالقرآن لفظه ومعناه من الله تبارك وتعالى، والحديث النبوي لفظه من الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً الوحي على ثلاثة أقسام:
قرآن، وحديث قدسي، وحديث نبوي.
- فالقرآن: لفظه ومعناه من الواحد الأحد.
- والحديث القدسي: معناه من الله ولفظه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- والحديث النبوي: معناه ولفظه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القرآن معجز، والحديث القدسي ليس بمعجز فلا نتعجز به ولا نتعبد به ولا يتلى في الصلاة، ولفظه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه من الله.
حديث الولي فيه مسائل، وأعظم مسألة هي مسألة النوافل التي سوف نتعرض لها.(329/2)
النوافل مهمة للولاية
ما هي النوافل التي وقتها عليه الصلاة والسلام، وهل تصلى كلها في البيت أم لا؟
وهل هناك سنن تقضى إذا فاتت أم لا؟
وما درجة أحاديث السنن التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم؟
وما هي السنن التي خالف فيها العلماء: كـ ابن تيمية وابن القيم، وأنكروا أن تكون سنة؟
هذه المسائل تقارب اثنتي عشرة مسألة، ويدخل فيها الوتر وصلاة الضحى، وقبل ذلك يقول الله عز وجل: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] فما هو الحسن في العمل يا ترى؟
قال أهل العلم: الحسن في الذوات: الجودة، والحسن في المعاني: الجمال.(329/3)
العمل المقبول سبيل الولاية
وهذا كلام لا نحتاجه كثيراً، ولكنا نحتاج إلى تفسير الآية قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] قال أهل العلم: أحسن العمل ما توفر فيه شرطان اثنان:
الشرط الأول: أن يكون خالصاً لوجه الله.
الشرط الثاني: أن يكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن أخلص لله في عمله ولم يتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مبتدع، ففي المبتدعة من هو مخلص، ففي الرافضة من هو مخلص، وفي المرجئة من هو مخلص، وفي المعتزلة من هو مخلص، وفي القدرية من هو مخلص، ولكنه ضال مبتدع.
ومن تابع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمله ولم يخلص فهو منافق مُراءٍ، في المنافقين من يقتدي بالرسول عليه الصلاة والسلام، وفي المنافقين من يتبع السنة، ولكنه لا يقصد بعمله وجه الله.
وابن تيمية له كلام طويل يقع في أكثر من مائة صفحة في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
، وسبب تفسير هذه الآية: أن ابن تيمية رحمه الله أُتي به مقيداً من بلاد الشام
قيده النفعيون الماديون، وسجنه الأشاعرة، والمعتزلة المبتدعة، وأهل التصوف المنحرف، وسجنه كذلك النصيريون، سجنه أعداء الإسلام، فهذا الرجل فتح جبهات على أعداء الإسلام، فلما أُتي به مقيداً إلى مصر، دخل المسجد وهو مقيد وكان من أعلم علماء الدنيا، بل هو من أذكى أذكياء العالم، يقول المزي: ما قبل ابن تيمية بخمسمائة سنة أعلم منه! ونحن نقول: ما بعد ابن تيمية إلى الآن أعلم منه!! فدخل فلما فكوا الوثاق من يديه سأله العلماء في مصر أن يتكلم لهم كلمة بعد صلاة العصر.
وكان كما يقول ابن كثير: كان العلماء إذا جلسوا، أصبحوا تلامذة عند ابن تيمية، قال: واجتمع علماء مصر وما كانوا والله إلا ذرات صادفت جبلاً، أو قطيرات صغيرة صادفت بحراً، فابتدأ بعد صلاة العصر في {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة:5] ما تلعثم ولا توقف، ولا انتظر حتى صلاة المغرب، وهذه المقامة تسمى (مقامة الاستعانة) فيقول: من عبد الله ولم يستعن به فهو مشرك في عمله، ومن استعان بالله ولم يعبده فهو ضال مضل كذلك، والناس في ذلك على أربعة أقسام:
- قسم يعبد الله ويستعين به وهم المؤمنون.
- وقسم يعبد الله ولا يستعين به، وهم أهل الدنيا، وأهل الهوى والشهوات.
- وقسم يستعين بالله ويعبد غيره وهم المشركون.
- وقسم لا يعبد الله ولا يستعين به، وهم الملاحدة الذين ينكرون الصانع والخالق تبارك وتعالى.
إذاً الحسن في العبادة يتركز على الإخلاص وعلى متابعة سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
يقول صلى الله عليه وسلم: {يقول الله: من عادى لي وليا ً} سبق معنا في مناسبات ولا نقف كثيراً عند لفظ الولي، وأحسن تعريف هو ما ذكره الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في قوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] فهذا تعريف الأولياء في الكتاب والسنة.
ولـ ابن تيمية كتاب اسمه (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) عرف الأولياء، وقال: ليس لهم لباس ولا رداء خاص، ولا مراسيم ولا طقوس خاصة، وإنما قد يوجد الولي مع الفلاحين فهو فلاح، ومع التجار ومع الجند، ومع الحرس، ومع الطلاب، ومع الحكام، ومع المسئولين، بل هو موجود في كل طبقات الناس، الذي يؤمن بالله ثم يتقي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(329/4)
في فقه النوافل(329/5)
الفرائض قبل النوافل
فيقول عليه الصلاة والسلام: قال الله تبارك وتعالى: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه} من الخطأ وقلة الفقه أن يُهتم بالنوافل أكثر من الفرائض، ولذلك تجد بعض الناس يهتم بقيام الليل ويخشع فيه أكثر من اهتمامه وخشوعه في صلاة الفجر، ويهتم بصلاة الضحى أكثر من صلاة الظهر، ويهتم بنوافل الصيام أكثر من صيام رمضان، وهذا من قلة الفقه، ونحن لا نقول بألا يكثر المسلمون من النوافل، لا بل الكثرة مع الجودة بلاغ وتمام كمال وجمال، بل المطلوب الجودة والحسن، ولذلك يقص ابن الجوزي في كتاب (تلبيس إبليس) أن كثيراً من غلاة الصوفية كانوا يصلون في النهار أربعمائة ركعة، فإذا أتت صلاة الظهر صلوا وهم في نعاس ونوم، لأنهم فتروا بعد صلاتهم أربعمائة ركعة من الضحى، وهو عمل شاق في هذه الصلاة حتى صلاة الظهر، فإذا دخلت عليه الفريضة إذا به قد تعب وكلَّ وملَّ، وهذه الفريضة هي التي خاطب الله بها الناس، ونادى إليها، ومدحهم بالخشوع والخضوع فيها، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ أبي هريرة: {أدِّ الفرائض تكن أعبد الناس وفي لفظ: اتق المحارم تكن أعبد الناس} وكلا اللفظين صحيح موجه، ومعناهما مقبول عند أهل السنة والجماعة.
قوله: {ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به}.(329/6)
أفضل النوافل
أما النوافل: فهي ما سوى الفرائض، فللصلاة وللصيام وللزكاة وللحج نوافل، والذي أريد أن أتحدث عنه في هذا اللقاء نوافل الصلاة، لنكون على بينة.
ولنعرف ما هي النوافل التي كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم؟
ثم ما هي الأحاديث والنوافل التي لم يصح فيها حديث أو حديثها ضعيف، أو أبطل أهل العلم العمل بتلك الأحاديث؟
أولاً: يدور حول هذه المسألة اثنان وثلاثون حديثاً، هي بين صحيح وحسن، أما الأحاديث الضعيفة فهي تربو عن السبعين، ونذكر بعض هذه الأحاديث:
{يقول ربيعة بن مالك الأسلمي: وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذه القصة في مسند أحمد وأصل الحديث في صحيح مسلم، لأن البخاري ومسلم، يأخذون أصل الحديث والرواية، والإمام أحمد يفصل فيورد القصة، وقد يفعله البخاري - قال: فلما انتهينا إليه صلى الله عليه وسلم، قال: ألكم حاجة؟ قال: فأما إخواني فقد سألوا رسول الله حوائجهم فقضاها -كانت حوائجهم في الدنيا، طلبوا لباساً وطعاماً، وطلبوا أموراً أخرى- قال: وأنت؟ قلت: أريد أن تناجيني يا رسول الله -يعني تسرني بالكلام- قال: خلوت به عليه الصلاة والسلام، فقال: ألك حاجة؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: وما هي؟ قلت: أريد مرافقتك في الجنة -هذه أعظم حاجة في تاريخ الإنسان، ولم يسمع الإنسان بمثل هذه الحاجة، ومن لم تكن هذه حاجته فليست له حاجة، وليس لله فيه حاجة- قال: مرافقتك في الجنة يا رسول الله! قال: أوغير ذلك؟ -يريد أن يرى عليه الصلاة والسلام هل هو عازم ومصمم على هذا الطريق- قال: لا والله يا رسول الله! قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود} وهذه رواية مسلم، وعنده من حديث ثوبان: {فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة} فكان هذا الصحابي العظيم لا يركب ناقته إلا متوضئاً فإذا نزل من ظهر ناقته صلى ركعتين، فلما سئل عن ذلك قال: {إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: أعني على نفسك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة}.
وكثير من أهل العلم من المحدثين والفقهاء يقولون: إن أفضل النوافل هي الصلاة، وهذا سؤال يطرح: ما هي أفضل النوافل عند أهل السنة والجماعة؟ هل هي نافلة الجهاد، أم الصيام أم نوافل الصدقة أم نوافل الذكر أم غيرها؟
اختلف أهل العلم في ذلك: ذهبت طائفة إلى أن أفضل النوافل هي الجهاد، واستدلوا بحديث ابن عباس: {إلا رجلاً خرج بماله ونفسه ثم لم يرجع منهما بشيء} في العشر من ذي الحجة، فقالوا: الجهاد أفضل نافلة.
وقال قوم: الصيام أفضل عمل، واستدلوا بحديث أبي أمامة عند أحمد بسند جيد، قال: {عليك بالصيام فإنه لا عدلَ له} أي لا مثيل له.
وقال قوم: أفضل عمل: صلاة النافلة، واستدلوا على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: {اعملوا ولن تحصوا، واعلموا أن أفضل أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن} والحديث صحيح، قالوا: فالصلاة هنا أفضل النوافل.
وقال قوم: بل أفضلها الذكر.
فما هو تحقيق المسألة إذاً؟
يرى ابن القيم ويستشف أن الله عز وجل يفتح على بعض الناس ما لا يفتحه على البعض الآخر، وقد يفتح على أحد الناس في الصلاة ما لا يفتحه على من يصوم، ويفتح على الذاكر ما لا يفتح على المجاهد، قال: وأبواب الجنة ثمانية، ويدعى كل أهل عمل من باب ذلك العمل الذي عملوا به، فمن كان من أهل الجهاد دعى من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصلاة فمن باب الصلاة، ومن كان من أهل الصوم فمن باب الصوم، فهو يرى أن الله يفتح على بعض الناس، ولذلك تجد بعض الناس قد فتح الله عليه بالمال، فهو يتصدق ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، لا يفتر من الصدقة، فهذا من باب الصدقة، وبعضهم في الجهاد وحديثه في الجهاد وأشواقه في الجهاد، وبعضهم في الذكر جالساً وقائماً، فهو على ذكر دائماً.
ولكن ابن تيمية العالم العبقري العملاق، يرى غير ما يرى ابن القيم:
ففي المجلد العاشر من الفتاوى يُسأل عن هذا وكأن رأيه إن شاء الله هو الأقوم وهو المحقق.
يقول: شبه إجماع بين أهل العلم أن أفضل نافلة هي ذكر الله عز وجل، بل هي أفضل من نوافل الصيام ومن نوافل الجهاد، ومن نوافل الصدقة، واستدل على ذلك بأدلة منها:
قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَر} [العنكبوت:45] وقال: هذه قد أخطأ فيها طائفة من المفسرين، لأن للصلاة فائدتين، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] والفائدتان هما:
- أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
- وتعينك على ذكر الله.
قال: وإعانة الصلاة على ذكر الله أعظم من نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر، وهذا رأي سديد، يقول: ولم أجد من المفسرين أحداً يقول هذا الكلام، فـ ابن تيمية يقول هذا بعد أن قرأ أربعمائة تفسير، فلم يجد هذا الكلام في أحدها لأنه كان قبل أن يقرأ المصحف يستغفر الله أكثر من ألف مرة، ثم يسأل الله الفتح فيفتح الله عليه ما لا يخطر بالخيال ولا يدور بالبال، فيأتي بهذا الفهم، إذاً فهو يقول: نوافل الذكر أو المداومة على الذكر شبه إجماع بين أهل العلم أنها أفضل عمل.(329/7)
السنن الرواتب
{يقول ابن عمر رضي الله عنه وعن أبيه: حفظت من رسول الله عليه وسلم عشر ركعات} الصحابة حياتهم خصصوها للحفظ من الرسول والتلقي منه عليه الصلاة والسلام، بل كان الواحد منهم لا يعيش مع الرسول عليه الصلاة والسلام إلا ساعة واحدة قبل الوفاة، أو رآه في غزوة، أو رآه في سفر أو مر به الرسول عليه الصلاة والسلام في قريته أو في باديته، ففي هذه الساعة حاول أن يحفظ شيئاً ولو حركة ليبلغها إلى الأمة، والذي نقل عنه من الحديث صلى الله عليه وسلم مائة وأربعة وعشرين ألف حديث، نقل إلينا كل واحد منهم جزءاً، حتى إن الواحد منهم، رأى الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: {رأيته وفي يده خاتم أبيض} فنقل إلينا بالسند، حدثنا فلان عن فلان عن فلان إلى الصحابي أنه رأى في يده صلى الله عليه وسلم خاتماً.
ويأتي أحدهم ويقول:
{رأيت رسول لله صلى الله عليه وسلم وفي لحيته شعرات بيض} وهو شاب كانت في لحيته شعرات بيض، وقال أحدهم: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وضع يده على عمامته هكذا} هكذا نقلت إلينا، ولذلك يقول جولد زيهر المجري المستشرق: يكفي المسلمين معجزة هذا الحديث، أن يقدموه للبشرية لتدخل في الإسلام، يكفي الحديث النبوي هذا أن يقدم معجزة للناس ليدخلوا في دين الله زرافات ووحداناً، لأننا نقول الآن لليهود: ائتوا لنا بحديث واحد أو بقصة أو بكلمة أو بموقف لموسى عليه السلام بالسند، أعطونا عن فلان عن فلان، وعن فلان، أعطونا عن إسحاق رابين وعن ريجن وعن فلان، حتى تصلوا إلى موسى عليه السلام، فلا يأتون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
بل علومهم ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
ونقول للمسيحيين: أعطونا عن عيسى عليه السلام فلا يأتون عنه بشيء، أما نحن فإن الإنسان إذا تحدث منا يوم الجمعة وأتى بحديث فللمصلين أن يحبسوه عند درجات المنبر ويقولون من أين هذا الحديث؟ ومن أين نقلته؟ وفي أي كتاب؟ ومن رواه ومن خرجه وما درجته؟ وهذا حق شرعي لكل واحد منا أن يوقف الإمام أو العالم مهما بلغ علمه.
لأننا أمة حفظ الله وحيها من السماء قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وحديث ابن عمر: {حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات} في الصحيحين، وحديث الصحيحين يقول عنه ابن تيمية: إذا اتفق الشيخان على حديث، فيفيد جزماً أنه صحيح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا غالب الظن، وربما أفاد القطع {حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر وفي لفظ للشيخين: في بيته -وزاد مسلم - وركعتان بعد الجمعة في بيته عليه الصلاة والسلام} هذه عشر ركعات كان يحافظ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(329/8)
فائدة النوافل وحكم تركها
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثالث والعشرين من الفتاوى:
ما حكم من داوم على ترك السنن الرواتب؟
قال: فاسق ترد شهادته.
والنوافل هي عشر ركعات، وما فائدتها؟
قال أهل العلم: فائدة النوافل قبل الصلاة، أن تكون قدوماً على الله عز وجل كالهدية بين يدي السلطان، ولله المثل الأعلى، فإنك إذا أردت أن تطلب من مسئول أو رئيس طلباً ما فإنك تحضر بعض الأشياء من الهدايا وغيرها، والذي لا يملك هدايا ينظم له قصيدة عصماء وهذا هو الممدوح بها، ويطريه ويثني عليه ثم يقدم طلبه كما يفعل العرب، يأتي أحدهم بمائة وخمسين بيتاً، ويجعل للممدوح بيتين في آخر القصيدة وأما مائة وثمانية وأربعون بيتاً فيصف بها ناقته، ويصف المشارب والأرض التي مر بها، ثم يمدحه وفي الأخير يقول: أعطني.
فلله المثل الأعلى فإنك حين تدخل عليه، لا بد أن تصلي له ركعتين أو أربعاً، لتدخل عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وقال بعضهم: لا.
بل جعل الله السنن الرواتب ليجبر عمل العبد يوم القيامة وقيل: في القبر، فإذا نقص عمله في الفريضة، قال الله عز وجل: انظروا هل له من نافلة؟ فيُنظر فإن كان له من نافلة جبر الله كسره ونَقْصَ صلاته بتلك النافلة، فالله الله في النوافل.
قال: (ركعتان قبل الظهر) فهل سنة الظهر ركعتان قبلها، أم أربع؟ وكيف نجمع بين هذا الحديث وحديث أم حبيبة عند مسلم قالت: {قال صلى الله عليه وسلم: من صلى في يومه وليلته ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة، ثم قالت وهي تحسب، أربع ركعات قبل الظهر} وحديث عائشة عند الخمسة، والخمسة هم: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وأحمد، قالت: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر، وأربع ركعات بعدها حرمه الله على النار} فكيف يقول ابن عمر: ركعتان قبل الظهر، وأم حبيبة تقول: أربع قبل الظهر، وعائشة تقول: أربع، فتحقيق المسألة أن يقال:
الذي داوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ركعتان، قبل الظهر، وربما نشط عليه الصلاة والسلام فصلى أربع ركعات قبل الظهر، أما سنته الدائمة فإنه داوم على ركعتين.
فسنة الظهر ركعتان قبلها ولك أن تزيد، بل أكثر السنن التي يزاد فيها أربع ركعات قبل الظهر، لحديث أم حبيبة: {ثنتي عشرة ركعة} لأنها قالت: {أربع قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر} وقالت عائشة: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى أربع ركعات قبل الظهر وأربع ركعات بعدها حرمه الله على النار}.
إذاً فالذي داوم عليه صلى الله عليه وسلم ركعتان قبل الظهر، وربما زاد عليه الصلاة والسلام، وأورد صاحب المنتقى، أبو البركات ابن تيمية، هذا جد شيخ الإسلام ابن تيمية، فـ ابن تيمية اسمه أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، فـ عبد السلام هذا هو صاحب المنتقى.
وأبو شيخ الإسلام كان عالماً، ولكن يقول الذهبي: جده كان قمراً، وأبوه كان نجماً، وابن تيمية شمس، فمحونا آية الليل وجعلنا آيه النهار مبصرة، فلذلك كانوا علماء.
داهية الدواهي والطامة الكبرى أنساهم جميعاً، فاقتضى أننا إذا أتينا نعرف الجد نقول: صاحب المنتقى أبو البركات، جد شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول جده: ثبت أن الرسول عليه الصلاة والسلام دخل إلى المسجد في الظهر وصلى ولم يتنفل، شغل بعض الأوقات عليه الصلاة والسلام، فدخل وإذا الوقت قد حان، فقال لـ بلال: أقم وقام بلال فأقام الصلاة ودخل في الفريضة عليه الصلاة والسلام، وابن تيمية يرى أن من فاتته النافلة قبل صلاة الظهر فله أن يقضيها بعد صلاة الظهر، على قاعدة قضاء النوافل، وسوف نأتي بها إن شاء الله، لكن ابن القيم يقول في زاد المعاد: كان عليه الصلاة والسلام يحافظ على أربعين ركعة، ليلاً ونهاراً، ومن داوم على قرع الباب أربعين مرة يوشك أن يفتح له، فالاستئذان ثلاث مرات، فإذا لم يفتح لك فعد، فكيف بك وأنت تقرع باب الواحد الأحد أربعين مرة.
والأربعون التي داوم عليها صلى الله عليه وسلم: فالفرائض سبع عشرة ركعة، وغيرها العشر التي ذكرها ابن عمر من الرواتب، فمجموعها سبع وعشرون، وثلاث عشرة ركعة في صلاة الليل، ففي رواية أنها ثلاث عشرة ركعة، فهذه أربعون ركعة كان يصليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الركعة الواحدة تعادل آلاف الآلاف من ركعات كثير من الناس.
وأتى بعده صلى الله عليه وسلم قوم غلو في العبادة فأسرفوا وأكثروا على أنفسهم، فكان يصلي الواحد منهم ثمانمائة ركعة.
ولذلك لامهم كثير من أهل العلم، وقالوا: أين سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الاقتصاد في العبادة وفي الحسن؟ ابن القيم يقول في مدارج السالكين -المسألة ليست كثرة-: وجرب على نفسك إذا صليت ركعتين، وأحضرت قلبك فيها وخشعت وخضعت، كيف أنها تكون شاقة عليك، لا تستطيع أن تأتي بركعتين بعدها، لكن إذا بقيت المسألة سجود وركوع وقيام بلا خشوع، وقلب الإنسان في السوق أو في الدكان أو في الفصل، فإنه يستطيع أن يأتي بمائة ركعة، فهي أبسط من الماء.
قال: وجرب إذا أخذت المصحف وقرأته وألزمت نفسك أن تتبع كل آية، وتتدبر ماذا يراد من مقاصدها، أو كما قال، كيف تكون عليك الختمة شاقة!! لا تختم القرآن إلا بكل كلفة! أما إذا بقي الإنسان يقرأ هذرمة فإنه يختم والحمد لله في أيام معدودة ويعود ليقرأ من جديد.
فالمسألة بالحسن والتدبر والتعقل والفقه في الدين، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها، وربما قضى عليه الصلاة والسلام النوافل التي تفوته.
والسؤال الذي نطرحه الآن: من فاتته نافلة الظهر حتى أتت صلاة العصر فهل له أن يصلي النافلة بعد صلاة العصر، مع أن بعد صلاة العصر إلى المغرب وقت نهي، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس}؟
والصحيح في هذه المسألة إن شاء الله أن من فاتته سنة الظهر أو بعض النوافل، فله أن يصليها بعد العصر، فإنها من ذوات الأسباب.
ثانياً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قضى النافلة.
ثالثاً: أن من تعود على ترك النوافل، ربما خدشت فريضته، فكان عليه أن يقضي النافلة في هذا الوقت، وإنما نهى صلى الله عليه وسلم عن تحري الصلاة وهذا ليس من التحري، لكن لا يداوم الإنسان على صلاة النافلة بعد العصر لكن يفعلها مرة.
وقد فاتت النافلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى ركعتين بعد العصر، فسأله بعض الصحابة عن هاتين الركعتين، قال: {شغلني وفد عبد القيس عن الركعتين بعد صلاة الظهر فقضيتهما الآن} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فهذا الأمر وارد.(329/9)
فضيلة النافلة في البيت
وركعتان بعد صلاة الظهر، وربما صلى صلى الله عليه وسلم أربع ركعات بعد صلاة الظهر، فهل هي في بيته أم لا؟
يقول ابن عمر: كانت في بيته، والسنة في صلاة النافلة أن تكون في البيت لبعض الأمور وهي:
يقول عليه الصلاة والسلام: وهذا لفظ مسلم، {اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً} وهذا من حديث جابر، وفي حديث عند مسلم {فإن الله جاعل فيها خيراً} أي: من صلاتكم.
إذا علم هذا فإن كانت المصلحة أن تصلي في بيتك السنة، فهو أفرغ لقلبك وتطبيق للسنة فافعل، وإذا كنت إماماً يقتدي بك الناس فإذا انصرفت إلى بيتك ولم يحملوا أنك سوف تتنفل في بيتك، فخرجوا من المسجد وقالوا: الحمد لله ليس علينا نافلة ما دام أن الإمام لم يصل، والله عز وجل نسخ السنة، فهذا ليس بصحيح وليس بوارد.
ولذلك يقول الشافعي: أستحب النوافل في المسجد من أجل الناس، فإذا كان هذا فصلِّ في المسجد ليراك الناس، وليس هذا من الرياء ولكنه من الدعوة إلى الخير.
فهذه السنة التي كان يصليها الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته، لكن الإمام أحمد سئل عن سنة المغرب، هل تكون في المسجد؟
قال: لا أظن أنها تجزئ في المسجد، وشدد فيها كثيراً، وقال: السنة أن يسن المغرب في البيت، فأما المغرب فهي من أكثر السنن التي أتت فيها النصوص أن تصلى في البيت، وأما غيرها فلك أن تصلي في المسجد، وافعل الأروح لقلبك والأخشع لك، فإن بعض الناس قد يخشع في المسجد أكثر من بيته فليفعل الأخشع له.(329/10)
حكم سنة العصر والمغرب القبلية، وبعدية المغرب والعشاء
وأما سنة العصر، فذكر أبو داود، والترمذي، والإمام أحمد، وابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله من صلى أربع ركعات قبل العصر}.
وهذا الحديث تكلم فيه أهل العلم وقالوا: فيه محمد بن مهران وهو ضعيف لا تقوم به الحجة، ودفع هذا الحديث ابن تيمية دفعاً عجيباً، وقال: لا يصح، وقال: هو من فعل علي وأيده ابن القيم على هذا، ولكن الأستاذ الشيخ الألباني صحح هذا الحديث، وهو حجة في تصحيحه إلا في بعض الأمور التي خالف بها أهل العلم وجل من لا يخطئ، لكنه محدث، وبعد أن عُلم ذلك فمن صلى لقصد أن تصيبه الدعوة هذه فهو مأجور مشكور، ويكتب الله له الأجر ولو لم يرد فيها حديث لدخل في العموم {إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة} و {أعني على نفسك بكثرة السجود} لكن أن تكون سنة راتبة فليست بسنة راتبة قبل العصر.
أما المغرب، فعن عبد الله بن مغفل المزني، قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة: لمن شاء} كراهية أن يتخذها الناس سنة، فأما قبل المغرب قد سُئل الحسن البصري عن ركعتين قبل المغرب، فقال: حسنتين لمن أراد الله بهما، وقال سلمة بن الأكوع لما صلى عند المصاحف في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم: كان عليه الصلاة والسلام يتوخى هذا المكان قبل صلاة المغرب فيصلي فيه.
إذاً المغرب ورد فيها حديث ولكنها ليست بسنة راتبة، لأن ابن مغفل من الصحابة الذين يعرفون مدلولات الحديث يقول: يقول صلى الله عليه وسلم في الثالثة: لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة، ولو سكت عليه الصلاة والسلام لداوم عليها الناس فصارت سنه.
والعجيب كثرة التحفظ في النوافل، حتى يقول: نخاف أن تكون سنة، وبعض الناس يقول: لماذا لا يترك الرسول صلى الله عليه وسلم الباب مفتوحاً، حتى يتنفل الناس ويكثروا؟ نقول: لا ليبقى الدين توقيفياً وليبقى على الوحي، وليبقى على التشريع لا على التبديع! لأنه لو فتح الباب لصلى الناس قبل المغرب وبعده، وبعد العصر، وبعد الفجر وفي كل وقت، وقالوا: لا نتقيد ما دام قال عليه الصلاة والسلام: {إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة} فعلينا أن نصلي في كل وقت، فأوصد صلى الله عليه وسلم هذا الباب، ثم قال ابن تيمية، في سبب آخر: ولتبقى بعض الأوقات مريحة للعبد، ليرتاح فيها ويهدأ لئلا يسأم ويمل من العبادة.
لأنك إذا صليت الفجر فإنك تنتظر الظهر، فتبقى في عملك حتى يأتي الظهر، ثم العصر، ثم المغرب وهكذا.
بعد المغرب فقد ورد أنه كان يصلي ركعتين بعد المغرب في بيته عليه الصلاة والسلام، وكان يقرأ فيهما: قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، ,وأمَّا بَعْد العشاء فركعتان، وورد أربع، وورد ست ولك أن تصلي ركعتين أو أربعاً أو ستاً، فقد صحت بذلك الأحاديث، والغالب ركعتان.(329/11)
نوافل غير متعلقة بالفرائض(329/12)
سنة الوضوء
من توضأ في أي وقت، فهل له أن يصلي ركعتين؟
الجواب
يقول شيخ الإسلام: لمن توضأ بعد الفجر أو بعد العصر أن يصلي ركعتين، والدليل على ذلك حديث معاذ ولفظه عند الترمذي يقول صلى الله عليه وسلم: {دخلت الجنة، فسمعت دفي نعلك يا بلال! في الجنة، ورأيت قصراً أبيض، قلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من العرب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا من العرب، قالوا: من قريش، قال صلى الله عليه وسلم: أنا من قريش، قالوا: لـ عمر بن الخطاب فقال -في الصحيح- فأردت أن أدخله فذكرت غيرتك يا عمر! فدمعت عينا عمر رضي الله عنه، وقال: أمنك أغار يا رسول الله!!} قال الترمذي: حديث صحيح، والحديث في البخاري ومسلم، ولكن تصحيح الترمذي يستأنس به في هذه القصة الطويلة، وإنما قال صلى الله عليه وسلم لـ بلال: {فما الذي أدخلك الجنة؟ قال: يا رسول الله! والله ما توضأت وضوءاً في ساعة من ليل أو نهار، إلا صليت ركعتين} فمن توضأ فله أن يصلي ركعتين في أي ساعة.(329/13)
ركعتا التوبة
إذا أذنب العبد فنظر إلى منظر لا يحل له، أو تكلم بغيبة، أو أتى بفحش من القول، أو عصى الله بمعصية.
إن مخرجه التوبة والاستغفار، لكن هناك حديث: {أن عليه أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله، فإن الله سيغفر له ذلك} وهذا الحديث في مسند أحمد بسند صحيح.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: كان الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حدثني حديثاً استحلفته، فإذا حلف صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر، لا أستحلف أبا بكر.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من عبد يذنب فيتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر الله له ذلك الذنب} ثم قرأ رضي الله عنه وأرضاه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:136].
فعلم من هذا الحديث أن للتوبة صلاة، فمن أذنب ذنباً فليتوضأ وليصلِّ ركعتين، وليستغفر الله على ذلك الذنب علَّ الله أن يغفر له ويتوب عليه.(329/14)
صلاة التسابيح
وهناك صلاة التسابيح ولكن ما هو موقف أهل السنة، أو المحدثين من هذه الصلاة؟
ورد عند الترمذي وعند غيره من المحدثين: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لعمه العباس بن عبد المطلب: {يا عم! ألا أحبوك، ألا أمنحك، ألا أعطيك -أحبوك: أهدي لك، وأمنحك: أبذل لك- قال: بلى.
يا رسول الله! قال: إذا أردت فتوضأ وصل ركعتين -ثم وصف له صلى الله عليه وسلم التسبيحات- قال: بعد أن تكبر تكبيرة الإحرام، قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله خمس عشرة مرة، وقل بعد أن تركع خمس عشرة مرة، وبعد أن ترفع خمس عشرة مرة -في كل انتقال خمس عشرة مرة من هذا الذكر ففي الركعة خمسة وسبعون تكبيرة وتهليلة وتحميدة.
في الصلاة ثلاثمائة من هذه الكلمات الطيبات- افعل ذلك في عمرك مرة أو قال: في اليوم مرة، أو في الأسبوع مرة، أو في الشهر مرة أو في العام مرة، فإن لم تستطع، ففي العمر مرة، يغفر الله لك ذنبك} وقد ألف ابن ناصر الدين وهو محدث في القرن السابع رسالة اسمها (الترجيح في صلاة التسابيح) وأتى بهذا الحديث وقال المحقق:
انقسم أهل العلم إلى أربعة أقسام في هذا الحديث: قسم صححوه، وهذا موجود، وقسم حسنوه، وقسم ضعفوه، وقسم قالوا بوضعه.
فأما ابن تيمية فقال في سند الحديث ظلمات بعضها فوق بعض، وتبعه في ذلك أئمة كبار، وحسنه بعضهم وضعفه الآخرون، وصححه البعض الثالث، والصحيح أن هذا الحديث ليس بصحيح.
وليتنا نقوم بما صح عنه صلى الله عليه وسلم حتى نأتي لهذا الحديث، وذلك لثلاثة أمور:
أولاً: في سنده رجال تُكُلِّم فيهم.
ثانياً: كيف لا تشتهر السنة، بين الناس وتنشر بين الملأ، ويتناقلها الجيل بعد الجيل، وهي مما تتوفر الهمم والدواعي على نقلها.
ثالثاً: إن في الأحاديث الصحيحة غنى عن الأحاديث الضعيفة على فرض أنه ضعيف فكيف إذا كان موضوعاً، ففي الحديث الصحيح غنية، وهل قمنا بالأحاديث الصحيحة التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم كصلاة الليل، وكركعتي الضحى، والنوافل التي سنها صلى الله عليه وسلم!! فكيف نذهب إلى هذا؟ وما أظنه إلا عند خواص الناس، فهذه تسمى صلاة التسابيح وليعلم أن الحديث لا يصح فيها بحال، فلا تفعل، وليكتف العبد بما صح.(329/15)
قاعدة الإمام أحمد في الحديث الضعيف
وعلى سبيل الفائدة فهناك كلمة تقال من كثير من المحدثين وقد قيلت في مناسبات: أن الحديث الضعيف إذا كان في الفضائل، قالوا: نتساهل فيه، وهذه كلمة منقولة عن الإمام أحمد، يقول: إذا جاء الحديث في الحلال والحرام تشددنا، وإذا جاء الحديث في الترغيب والترهيب والفضائل تساهلنا، فما معنى هذا الكلام؟ يشرحه ابن تيمية، يقول: ليس المعنى أننا نقول في الفضائل والترغيب والترهيب هذه سنة، فنسنن للناس بأحاديث ضعيفة، فلا يقوم بالحديث الضعيف مستحب ولا سنة، فهذه القاعدة شريفة ومن أعظم قواعد مصطلح الحديث.
ومعنى ذلك أن نقول: إن الحديث إذا كان في فضائل الأعمال، إن عمل به لا على أنه سنة؛ وله أصلٌ من أصول الدين الصحيحة يندرج تحتها فيدخل فيها، مثال ذلك:
في الكلم الطيب ذكر حديثاً، يقول صلى الله عليه وسلم فيه: {من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتبت له: ألف ألف حسنة، ومحيت عنه: ألف ألف سيئة} هذا حديث ضعيف، والمخرج أن نقول: إذا كان الحديث ضعيفاً، فلا يكون العمل به مسنوناً، ولا يكون من السنة أن إذا دخلت السوق أن تقول: لا إله إلا الله الدعاء.
فليس هذا من المستحب، لكن يقال: إن من فضائل الأعمال إذا دخلت السوق لتؤجر، أن تقول: لا إله إلا الله الدعاء، وذلك لأن قواعد الدين وأصوله تحبذ الذكر، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35].
فإذا دخلت السوق فقل: لا إله إلا الله واطمع في أجر الله ليكتب لك ألف ألف حسنة، ويمحو عنك ألف ألف سيئة، لا لأنه سنة، أو مستحب، لأن السنة لا بد أن يكون فيها حديث صحيح أو حسن.(329/16)
أنواع السنن
السنة الراتبة: هي المرتبة التي تفعل وقتياً وزمنياً، بالترتيب أو بالمداومة، فهذه تسمى راتبة لأنها مرتبة.
وأما السنن الطارئة التي كان يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم، فمنها سنن كمالية ومنها سنن ناقصة:
السنن الكمالية: كسنَّة ركعتي الاستخارة.
وسميت كمالية؛ لأن فيها ركوعاً وسجوداً وقراءةً وذكراً، وأما السنن الناقصة: فكسجود التلاوة وسجود الشكر، فهذه سنن ناقصة، لأنه ليس فيها قراءة ولا ركوع، وإنما هي سجود فحسب.
وفي صحيح البخاري في كتاب الذكر: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم الصحابة دعاء الاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن، وقال إذا عزم أحدكم على أمر إلخ ثم علمهم الدعاء: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب ثم يذكر حاجته إلى آخر الحديث} فيحفظ هذا الحديث ويعمل به متى ما اشتبه على المرء أمران كلاهما حسن، أما أن يشتبه أمر محرم وأمر واجب ويقول: لا أدري.
أستخير الله عز وجل، هل أصلي العشاء في البيت أو أصلي في المسجد؟ هذا الأمر ظاهر لا يحتاج إلى استخارة، أو يقول: أستخير الله عز وجل هل أحضر مجلس الذكر أو أبقى في بيتي؟ أو أستخير الله عز وجل هل أصلي الفجر أو أنام حتى طلوع الشمس؟ لا.
لا خيرة بين عمل واجب وعمل محرم.
وكذلك لا خيرة بين عمل فاضل وعمل مفضول، كأن تستخير الله عز وجل في أن تقرأ القرآن!! أو أن تجلس مع أناس يتحدثون في حديث عام!! لا.
بل اقرأ القرآن.
إذاً فالاستخارة تأتي في عمل اشتبه فلا تدري ما الأصوب فيه، مثل أن تذهب لحج النافلة أو تذهب إلى الجهاد مثلاً!! وأنت لا تدري؛ هل الخيرة في هذا أو هذا؟ ومثل أن تدرس في هذا القسم أو في هذا القسم، ومثل أن تقرأ في هذا الكتاب أو في هذا الكتاب، فتستخير الله عز وجل، فالاستخارة هذا بابها، مثلاً: اضطربت في أمر أو أتاك ارتباك في بعض الأحوال فعليك أن تستخير الله عز وجل، والاستخارة تأتي بعد السلام من التشهد أو بعد التشهد وقبل السلام وقيل في السجود، والأفضل أن تأتي بعد التحية إذا صليت وتشهدت، فتأتي بدعاء الاستخارة، ثم ما توجه قلبك إليه فافعله.
وبعض الناس يشتكي ويقول: أنا أستخير الله ولا يظهر لي شيء!!
الجواب
استخر الله واستشر الناس، لأنه ما ندم من استخار الله وشاور المخلوقين، فإذا استخرت الله عز وجل فافعل الأمر الذي أنت تفعله، فهو الذي اختاره الله لك ولو لم يظهر لك شيء؛ لأن هذا هو القدر والقضاء في الأفعال، والله عز وجل إذا علم أنك استخرته سوف يصوبك ولو لم يظهر لك رجحان، والعمل الذي فعلته هو الذي أراده الله -إن شاء الله- هذا هو الذي يظهر من هذه النصوص.(329/17)
صلاة الوتر وأهميتها
ومسألة الوتر قد مرت فيها مسألة، وهناك أمور يحسن أن نذكر بها لبعض النصوص التي وردت؛ لأنها في صلاة التطوع، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {أوتروا يا أهل القرآن} ويقول عليه الصلاة والسلام: {لا وتران في ليلة} ويقول: {صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة} إذا علم هذا فلك أن تصلي الوتر بعد العشاء مباشرة.
والدليل على ذلك ما أورد ابن حزم في المحلى أن بعض الصحابة كانوا يصلونه بعد العشاء منهم معاوية روي أنه صلى ركعة بعد العشاء، وسئل ابن عباس عنه فقال: إنه فقيه.
ولك أن تصليها قبل النوم إذا خشيت ألا تقوم من الليل، ودليلها ما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: {أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت: ركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام} ولك أن تصليها في الليل، في جوفه أو آخره، وهذا أجملها وأحسنها، وهو وقت نزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا، فينادي هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيبه؟
وأقل الوتر ركعة، ولا حد لأكثره، وكره بعض أهل العلم الوتر بركعة، وقالوا: لا بد أن يكون قبلها ركعات، ولكن الأولى أن يكون قبلها أربع ركعات، أو ست ثم تأتي بركعة، أما أن يصلي الإنسان العشاء ثم يصلي ركعة، فهذا خلاف الأولى، وإن فعله بعض الصحابة فهو لبيان الجواز.
وفرق بين الأولى وبين بيان الجواز: فبيان الجواز أن يأتي إلى أمر يُفعل مرة كما يفعله صلى الله عليه وسلم فيبين أنه جائز، والأولى الذي داوم عليه صلى الله عليه وسلم، إذاً فالأحسن أن تصلي ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، أو أكثر.(329/18)
قضاء الوتر
ومن فاته الوتر فليقضه من النهار، يقول عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من فاته حزبه أو شيء من حزبه من الليل فصلاه من بعد طلوع الشمس إلى صلاة الظهر كتب الله له كأنما صلاه من الليل}.
فإذا فاتك وردك من قراءة القرآن في الليل أو ذكر أو صلاة فافعله من بعد طلوع الشمس إلى وقت صلاة الظهر.
وأما قضاء الوتر: عند الخمسة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقضاء الوتر على حالته، فقال: {من لم يصله في الليل فليصله في النهار}.
ولكن في صحيح مسلم عن عائشة قالت: {كان صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، فإذا نام من سفر أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة} فكيف نجمع بين الحديثين؟
هناك حديث يأمر بأن نصلي الوتر على هيئته، فإن كان يصلي ثلاث ركعات ونام فيصلي في النهار ثلاث ركعات أو خمس، وحديث عائشة يقول: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها شفعاً} كان وتره إحدى عشرة ركعة، فيصليها ثنتى عشرة ركعة، فما المخرج من هذا.
تحقيق المسألة -إن شاء الله-: أن من فاته وتره فعليه أن يصليه شفعاً في النهار، ولا يصليه وتراً لثلاثة أمور:
أولها: أن الحديث الذي يقول بقضائه وتراً عند الخمسة لا يبلغ صحة الحديث الذي رواه مسلم عن عائشة.
ثانيها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا وتران في ليلة} لكي لا يجتمع وتران في ليلة واحدة، وكذلك وتر اليوم صلاة المغرب، فإذا أوترت أنت ضحى فقد أوترت في اليوم وترين، لأن صلاة المغرب وتر النهار.
ثالثها: لفعله عليه الصلاة والسلام، وصرحت به عائشة، فكان يصلي ثنتي عشرة ركعة، إذاً من فاته وتره فليقضه في النهار، ولو لم يتذكر الوتر إلا بعد شهر فلك أن توتر.
الليلة عند العرب إذا أطلقت، فهي من غروب الشمس إلى الصباح، أي: إلى صلاة الفجر أو إلى طلوع الصبح، هذه هي الليلة {لا وتران في ليلية} هذا هو اللفظ الصحيح، وإنما اختلف أهل العلم في قوله صلى الله عليه وسلم: {صلاة الليل مثنى مثنى} واختلفوا في لفظ: {صلاة النهار مثنى مثنى} هل هو صحيح أم لا؟
ادعى ابن حبان والحاكم وابن سيرين، وغيرهم من أهل العلم أنها صحيحة، وقال غيرهم: لا يصح هذا اللفظ وهو شاذ.
قال الخطابي في سنن أبي داود: وهي زيادة ثقة فتقبل، إذا علم هذا فإن صلاة النهار مثنى مثنى، ولكن تبقى مثنى مثنى، ولا يوتر لها، فوترها صلاة المغرب، وأما صلاة الليل مثنى مثنى، وزيادة إذا خشيت الصبح فأوتر بركعة، ولم يقل إذا خشيت الظهر أو العصر.(329/19)
الأسئلة(329/20)
حكم صلاة الوتر
السؤال
هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يترك الوتر أحياناً؟
الجواب
لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم الوتر حضراً ولا سفراً، بل كان يوتر على راحلته عليه الصلاة والسلام، وإنما اختلف أهل العلم هل ترك صلى الله عليه وسلم الوتر ليلة المزدلفة، لما نام عليه الصلاة والسلام في المزدلفة بعد عرفة؟ والصحيح أنه ترك الوتر تلك الليلة.
وذلك أنه قبل العشاء صلى ركعتين ثم نام ولم يقم إلا في صلاة الفجر، فأما في السفر، يقول ابن القيم: ما تركه صلى الله عليه وسلم حضراً ولا سفراً، فكان يقصر الصلاة صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين، وكان يترك النوافل العشر التي ذكرنا، لكن في الليل كان يقوم فيصلي صلى الله عليه وسلم، وربما صلى على الراحلة تتجه به في أي اتجاه، ولو كان مستدبراً القبلة، فعلى المسلم ألا يترك الوتر في السفر، فإنه ما تركه عليه الصلاة والسلام، ولذلك أوجبه الأحناف والصحيح أنه ليس بواجب، ولو كان واجباً لعد مع الصلوات الخمس، والأعرابي الذي أتى من نجد وسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن الصلوات: {قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا.
إلا أن تطوع} ولو كان غيرها واجباً لذكره، فلا يترك الوتر حضراً ولا سفراً.(329/21)
حكم صلاة الوتر بعد أذان الفجر
السؤال
هل يجوز الوتر بعد أذان الفجر؟
الجواب
هذه المسألة بحثت، وأهل العلم فيها على قولين اثنين:
القول الأول: إنه ليس لك أن تصلى الوتر؛ لأنه إذا طلع الفجر فلا نافلة إلا ركعتي الفجر.
وتستقبل صلاة الفجر، ووقت الوتر قد انتهى في الليل، ثم استدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: إذا خشيت الصبح فأوتر بركعة، فأنت قد حل بك الصبح، فليس عليك وتر الآن إلا أن تقضيه في النهار.
والقول الثاني: عليك أن تصلي لأنه وقت، ولأنه قضاء، ولأنه من ذوات الأسباب وهذا الذي رجحه ابن تيمية فقال: ليس هناك مانع، وهذا يفعل في الندور، لكن من تعود يمنع منه، كإنسان يتعود دائماً كلما طلع الفجر وأذن يوتر يومياً فلا.
لكن نادراً في الأسبوع أو في الشهر مرة فيفعله، ولا شيء عليه.(329/22)
بيان وقت صيام الثلاث الأيام البيض
السؤال
ما هي الثلاث البيض؟
الجواب
الثلاثة الأيام في حديث أبي هريرة وحديث أبي الدرداء وحديث أبي ذر، ليست الأيام البيض، بل الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق القول فيها، ولذلك ذكر ابن حجر فيها أحد عشر قولاً لأهل العلم في الثلاثة الأيام البيض، منهم من قال هي في وسط الشهر، ومنهم من قال: في أول الشهر، ومنهم من قال: في آخر الشهر، ومنهم من قال: من كل عشرة أيام يوم، والصحيح أنها لا تتقيد ولو صمتها في أيام البيض لكان أفضل، ولو طرأ لك سفر أو عارض، أو أمر فلك أن تنثرها في أي وقت شئت.(329/23)
البدعة والتحذير منها
السؤال
ما حكم الزيادة في الدين من غير دليل؟
الجواب
إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا يتعبد بالهوى أو بتشريع من أنفسنا، فإن الإسلام مبني على الاتباع لا على الابتداع، فما أتانا به النص نعمل به، وما لم يأتنا نتوقف فيه.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد} وقد جاء رجل عند سعيد بن المسيب -أحد العلماء التابعين- وإذا به يصلى قبل الفجر، فصلى ركعتين ثم سلم، ثم صلىْ ركعتين، ثم صلىَ ركعتين، فقال سعيد بن المسيب رحمه الله: [[والله إني أخشى أن يعذبك الله بالنار، فقال الرجل: يا سبحان الله! يعذبني الله على أني صليت له، قال: لا يعذبك الله لأنك تصلي له، ولكن يعذبك على البدعة]].
لأنه زاد صلاة ليست في وقتها، فلو كان الدين بالرأي لقلنا ماذا كان في صلاة التسابيح؟ فنحن نقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر، وكلها حسن، ولكن المسألة توقيفية، لا يتحرك الإنسان فيها خطوة، إلا بأمر من الله، وأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(329/24)
حكم تحية المسجد
السؤال
هل للخطيب أن يصعد المنبر دون أن يصلي ركعتين؟
الجواب
إذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال.
تقول للناس مثلاً -وهذه أمثلة يضربها ابن تيمية - فنقول مثلاً: لو لم يخطب الخطيب الخطبة الثانية؟ فنقول: الخطبة الثانية سنة، فتقول أنت: يحتمل أنه سقط يوم الجمعة من المنبر، فهذا احتمال، لكن أين الدليل؟
أبو البركات جد ابن تيمية في المنتقى يقول: لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم، قال لـ بلال: أقم الصلاة فلم يصلِّ، وأتى بهذا السؤال، وقال أهل العلم: ربما صلى في بيته، فإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال، وليس هناك دليل في الاحتمال، فنبقى على الأصل.(329/25)
حكم الصلاة في أوقات الكراهة لغير سبب
السؤال
لماذا اعترض ابن المسيب على الرجل مع أنه قد يكون صلى لسبب؟
الجواب
لا.
لأن سعيد بن المسيب رحمه الله لما صلى هذا الرجل لم يصلّ لسبب فقد صلى ثمان ركعات أو عشر ركعات ليست لأسباب، فالداخل يصلي ركعتين سببها تحية المسجد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من دخل المسجد فليصل ركعتين} فعندك سبب ومعك حديث بيدك، ولك أن ترد على سعيد بن المسيب تقول: حديث أبي قتادة في الصحيحين كذا وكذا وتأتي به، لكن الرجل ليس عنده حديث، يصلي ثمان ركعات فيقول ابن المسيب: [[أخشى أن يعذبك الله في النار]] فما استطاع أن يأتي بدليل، قال: لا.
لا يعذبني الله في النار لأنني أعبده، ثم إن ابن حزم في المحلى يقول: من أتى المسجد في الفجر فليصل ركعتين تحية المسجد وركعتين سنة الصبح.
فرد عليه العلماء وقالوا: لا.
النوافل تتداخل، فالتحية تدخل في سنة الصبح.(329/26)
صلاة الوتر
السؤال
قلت: إن بعد صلاة العشاء ركعتين وخمساً فهل علينا شيء إذا صلينا ركعتين دون الثلاث الأخرى، وهل تكفي الركعتان؟
الجواب
قلت: إنما السنة ركعتان بعد العشاء، كان يصليها صلى الله عليه وسلم من غير صلاة الليل، وليس معنى ذلك أن تصلي ركعتين ثم تنام ويكفيك ذلك، فإن الوتر شيء والسنة بعد صلاة العشاء شيء آخر، فأنا أذكر هنا السنة التي بعد العشاء فهي ركعتان، وأما الوتر وقيام الليل فهو شيء آخر.(329/27)
صفة الوتر في السفر
السؤال
كيف تكون صفة الوتر في السفر؟
الجواب
الوتر في السفر على هيئة الحضر إن كان خمساً فخمس، أو كان ركعة فركعة فهو على هيئة الحضر.(329/28)
قراءة سور مخصصة في الوتر
السؤال
هل هناك سور معينة في الوتر؟
الجواب
ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ السور الثلاث في الركعات الثلاث، في الركعة الأولى: سبح اسم ربك الأعلى، وفي الركعة الثانية: قل يا أيها الكافرون، وفي الركعة الثالثة: قل هو الله أحد.
وفي حديث ضعيف عند الطبراني {أنه كان يقرأ المعوذتين} كان يزيدهما مع الإخلاص، ولكن الصحيح أنه كان يقرأ: (قل هو الله أحد) وحدها، والأفضل أن توتر بهذه لأنها السنة التي سنها صلى الله عليه وسلم.(329/29)
موضع دعاء الاستخارة
السؤال
ما هو وقت دعاء الاستخارة؟
الجواب
دعاء الاستخارة له ثلاثة مواطن، إما في السجود، وإما بعد التشهد قبل السلام، وإما بعد السلام إذا رفعت يديك، وأولاها وأحسنها وأجلها بعد التشهد قبل السلام.(329/30)
الصلاة بعد الوتر
السؤال
ما حكم الصلاة بعد الوتر؟
الجواب
هذا أورده ابن القيم وتحدث عنه ابن تيمية فقال: الركعتان اللتان وردتا بعد الوتر هما بمنزلة اللتين بعد صلاة المغرب جبراً للوتر، فكان يفعلها صلى الله عليه وسلم أحياناً جالساً، فللإنسان أن يصلى ركعتين بعد الوتر لتجبر الوتر ولا يحتسبها من صلاة الليل، ولا يداوم عليها، ولا تنقض الوتر بإذن الله.(329/31)
حد التشهد الأوسط
السؤال
ما حكم من توقف في التشهد الأوسط على (أشهد أن لا إله إلا الله)؟
الجواب
السنة في هذا أنه يكمل التشهد الذي ورد وصح عنه صلى الله عليه وسلم، وبعض الناس يزيد الصلاة الإبراهمية على الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا ليس بصحيح، فالسنة أنه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما بتر الشهادة فهو خلاف السنة، لكن إن شاء الله لا تبطل شهادته إن كان جاهلاً.(329/32)
دعاء القنوت في الصلوات
السؤال
ما حكم ترك دعاء القنوت؟
الجواب
دعاء القنوت هو: الدعاء في الركعة الأخيرة بعد الوتر، وهو دعاء الوتر، هذا الدعاء ورد في الترمذي من حديث الحسن بن علي، قال: {علمني رسول الله دعاء الوتر، أن إذا قلت: سمع الله لمن حمده أقول: اللهم اهدنا فيمن هديت} وهذا الحديث فيه ضعف.
لكن السنة لك أن تدعو وأن تترك، والرسول صلى الله عليه وسلم ما داوم في الوتر دائماً بالدعاء حتى في رمضان، ولا يظن بعض الناس أنه إذا صلى الإمام في رمضان ثم سجد ولم يدع بهم؛ أنه خالف السنة، بل قد أتى بالسنة، حيث دعا بعض الليالي وترك في بعضها، ومن ادعى المداومة فقد أخطأ السنة، وبعض الناس يرتاح للدعاء في السجود، فيطيل السجود ويكون أروح لقلبه، فله أن يدعو في السجود ويترك القنوت.(329/33)
حديث: أفعمياوان أنتما
السؤال
هل هذا حديث (أفعمياوان أنتما؟) وما صحته؟
الجواب
هذا حديث: {أفعمياوان أنتما} وهو عند الترمذي، وعند غيره من أصحاب السنن {أن عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه وأرضاه، دخل على أم سلمة، ومعها إحدى نساء الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: احتجبن عنه، فقالتا: يا رسول الله إنه أعمى، قال: أفعمياوان أنتما}.
هذا الحديث صححه بعض أهل العلم وضعفه البعض الآخر، والذين ضعفوه لهم فيه علل ثلاث، قالوا: فيه انقطاع، وفيه سعيد بن مدرك، وفيه ابن المنصور كذلك، والراوي الذي روى عن عائشة لم يدركها، فهي علل ثلاث، وقد رأيت كلام الألباني في إرواء الغليل يقول: القصة صحيحة، لكن هذا اللفظ ليس بصحيح، هذا كلام الألباني، والذين صححوه، صححوه لمجموع طرقه، والذي يظهر والمرجح، ولكل إنسان وجهة نظر ونظرة خاصة لأنها قاعدة في مصطلح الحديث (التصحيح والتضعيف يقبل الاجتهاد) فلا يُلام إنسان أن يصحح حديثاً يوم الجمعة، ثم يأتي خطيب ويقول: هذا حديث ضعيف، فإنه يقبل الاجتهاد، كما يجتهد الإنسان في الفروع، ومدارك الناس تختلف، ومشاربهم تتفرق، ثم إن بعض الناس يصل عندهم من العلم وجمع الطرق، ما لا يصل عند الآخر.
إذا علم هذا فإن الظاهر في هذا الحديث الضعف، وهو ضعيف بلا شك، ودل على ضعفه حديث صحيح وفيه يقول صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة بنت قيس لما أمرها أن تعتد من زوجها: {اعتدي عند أم شريك ثم قال: إنها امرأة يغشاها الناس -أي: يأتيها الناس وكانت كبيرة- فقال: اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين عنده ثيابك ولا يراك}.
فدل على أنه لا يلزم المرأة أن تحتجب عن الأعمى؛ لأنه يترتب على ذلك مسائل، منها: أن الأعمى له أن يدرس النساء ويخاطبهن ويعلمهن، وله أن يجلس بينهن لمصلحة بوجود المحارم، ولا يحتجبن عنه، فهذا هو الذي دلت عليه المسألة وهذا الذي يستفاد من الحديث.(329/34)
الاجتهاد وشروطه
السؤال
ما هي شروط الاجتهاد؟
الجواب
هذه مسألة تدخل الإنسان في حيص بيص، وأتى بها أهل العلم في كتب كبار وصغار، ومجلدات ورسائل، وهذا ليس أوان بحثها، والذين وضعوا شروط الاجتهاد دخلوا في الاجتهاد، فشروط الاجتهاد بالاجتهاد، حتى قال بعض العلماء: كيف يضعون شروط الاجتهاد وهم قد اجتهدوا أصلاً في وضع هذه الشروط، ومن الذي قال لهم هذه الشروط، ويقول ابن الوزير اليمني العالم الكبير، صاحب كتاب العواصم والقواصم: بعض الناس يشترط في شروط الاجتهاد شروطاً لو طبقت على أبي بكر وعمر لما انطبقت عليهم، قالوا: يحفظ متناً في الفقه ومتناً في أصول الفقه، ومتناً في المصطلح ومنظومة في كذا وكذا، ويحفظ لا أعلم كم ألف من الحديث، ثم بعدها يصبح مجتهداً، فلو طبقت هذه الشروط على أبي بكر لما انطبقت، فهو لا يحفظ منظومات، وإنما أعطاه الله تعالى نوراً من عنده.
إذاً فشروط الاجتهاد تختلف، وليس هذا أوان بحثها، لكن الذي عنده شيء من اللغة وشيء من النحو، وفتح الله عليه في معرفة الشريعة، وأصبح يعرف صحة الحديث من ضعفه، وترك كلام الأئمة فله أن يوازن بين الأدلة لا أنه مجتهد لكن يتبع الدليل، أما أن يأتي إنسان متهور، فيقول: هذا الحديث قاله مالك، فهل ما دام أنه قاله مالك فقد انتهى الأمر؟ وما هو دليل مالك؟ فليست مسألة اجتهاد وتقليد، لكن مسألة الدليل، أما عوام الناس فيسألون العلماء، والعامي دليله مفتيه، وللبحث بقية، ومجاله واسع، كما يقول بعض أهل العلم: تساقطت فيه عمائم الأبطال وتكسرت النصال على النصال.(329/35)
التوازن في حياة الشباب
طلب العلم أمر مهم، وفرض محتم، ولكن قد تشوبه بعض الأمراض التي ينبغي التنبه لها؛ منها عدم الاهتمام بتزكية القلب وخشوعه، أو عدم الاهتمام بما يخدش المروءة، أو يفتي المرء بما لا يعلم، أو يطغى جانب العلم أو الدعوة على بقية مناحي الحياة، وهذا الدرس معالجة لذلك.(330/1)
أهمية التوازن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ سلاماً أزكى من المسك، وأنقى من ماء الغمام، وأبيض من الفجر، سلاماً ثابتاً ثبات مبادئكم، صادقاً صدق إيمانكم، راسخاً رسوخ معتقدكم.
ما أسعدني هذه الليلة أن أجلس بين أيديكم، أشكر أخي وزميلي الشيخ/ عبد الله الشهراني على مقدمته، وأشكركم على حضوركم.
سبب السعادة أمران:
الأمر الأول: أنني ألتقي أنا وإياكم هذه الليلة تحت النسب الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام، نسب لا إله إلا الله محمد رسول الله، فنحن وإياكم نزاع من القبائل، التقينا لا على سبب ولا على حسب ولا على نسب إلا نسب لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله عليه الصلاة والسلام: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62 - 63].
لما جلست ورأيت الجمع تذكرت بعض الاجتماعات في مثل ليالي رمضان لكنها من نوع آخر، هناك شباب يجتمعون مثلما تجتمعون، لكنهم يجتمعون على سهرات حمراء، وموسيقى حالمة وبلوت وضياع، فقلت: يا سبحان الله! كم بين الواديين والفريقين والحزبين!! فأسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن سلك بهم طريق الهدى وهم أتباع محمدٍ عليه الصلاة والسلام.
نعم.
كما سمعتم عنوان المحاضرة: التوازن في حياة الشاب المسلم.
نحن بحاجة إلى هذا الموضوع نزن به أعمالنا وأقوالنا ونشاطنا، نحن بحاجة إلى أن يكون الشاب فقيهاً قبل أن يكون مندفعاً ذا عاطفة، أن يكون فقيهاً في دين الله عز وجل، وصحيحٌ أن في أول الطريق يحدث للإنسان شيء من العاطفة أو عدم الاتزان، أو تغليب جانب على جانب، وسوف أدور في هذه الليلة في مسائل:
منها الروحانية في حياة الشاب، وجذوة القلب، وتوقد الروح، أن يعيش هذا الدين.
ومنها طلب العلم وطرق تحصيله ومحاذيره.
ومنها الجرأة على الفتيا وتغليط أهل العلم، والتشنيع بالزملاء والإخوة.
ومنها التوازن وهو لب المحاضرة، كيف توازن بين العبادة: النوافل كقراءة القرآن، وبين أن تكون داعية، وبين حضور المراكز الإسلامية، وبين حقوق الوالدين وحقوق الأصدقاء والحقوق العامة.
أتحدث لكم عن مسائل نعيشها، كخوارم المروءة التي لا يسلم منها إلا الفطناء، وأخطاء في منهج طلب العلم، والالتزام الظاهر على حساب التزام الباطن، ومنها الآداب العامة التي يخل بها كثير من الناس.
أيها الإخوة الفضلاء
الرسول عليه الصلاة والسلام ربى أصحابه، ووجد في المنهج الأول الذي عاشه النبي صلى الله عليه وسلم أخطاء من هؤلاء في أول الطريق فبَصَّرهُم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد وجد شباب أرادوا أن يغلبوا جانب العبادة على جانب طلب العلم، وعلى جانب التفكر والتأمل، والدعوة؟
ووجد من يقول: والله لأصومن النهار ولا أفطره، وآخر يقول: لأقومن الليل ولا أنامه، وثالث يقول: لا أتزوج النساء، ورابع يقول: لا آكل اللحم، فاستدعهام صلى الله عليه وسلم لأنهم أرادوا تنظيم مبدأ جديد؛ لأنه هو المنظم وحده عليه الصلاة والسلام، ليس للإنسان أن يقترح بين يدي الله عز وجل ولابين يدي رسوله عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1].
فليس لك أن تقترح أو تأتي بشيء؛ إنما عليك أن تتوقف أمام الشرع، فأخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم: {أن من رغب عن سنتي فليس مني} أولاً هو القدوة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
يصلي فيقول: {صلوا كما رأيتموني أصلي} يحج عليه الصلاة والسلام فيقول: {خذوا عني مناسككم} إذاً لا بد أن يتبع.
وعند الدارقطني وقال النووي: رويناه في كتاب الحجة بسند صحيح، يقول عليه الصلاة والسلام: {لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به} إذا علم هذا فالواجب علينا أن نتقيد بالشرع، وتقيدنا بالشرع يجعلنا نفكر في حركاتنا وسكناتنا، هل توافق الشرع أم لا.(330/2)
أسباب فقد الروحانية في حياة الشباب
من المسائل التي نعيشها مثلاً: فقد الروحانية من القلوب، قلة البكاء والخشية، عندنا علم كثير وكلام وخطب؛ لكن ليست عندنا خشية لله إلا في القليل النادر، من علامات الساعة عند كثير من أهل العلم؛ أن ينزع الخشوع حتى لا ترى خاشعاً، ولها أسباب.(330/3)
المعاصي تضعف الخشوع
ومن أعظم أسبابها المعاصي، فإن الناس خاصة في الأزمان المتأخرة بعد انكماش نور النبوة وقلة العلماء والمربين يقعون في المعاصي، حتى أنك تفاجأ بشاب ملتزم يخبرك بأمره ثم يتحسر ويتقطع لبوادر بدرت منه.
أولاً: لا نقول إن الناس معصومون.
ثانياً: نقول لمن أخطأ: تب إلى الله.
ثالثاً: ولا نقر الناس على خطئهم نقول: إذا أخطأت فالبشر يخطئ ولست بمعصوم والله غفور رحيم، وإذا أخطأت فعد إلى الله لكن هذا تقرير، والواجب أن يزجر، فسبب عدم الروحانية: قسوة القلوب، أعني المعاصي: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13].
ورأيت عبد الغني المقدسي، وذكره صاحب طبقات الحنابلة، أنه ذكر حديثاً عن أبي بكر الصديق يقول: [[مر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه برجل يقرأ القرآن ويبكي، فقال أبو بكر: هكذا كنا حتى قست قلوبنا]] فالذي يظهر أنه لابد أن يقسو القلب أحياناً، ولكن ذلك لا يكون مستمراً ولا دائماً، حتى أنك تعلم أن بعض الناس تمر به السنة ولا يبكي، ويسمع القرآن فلا يتأثر، بل بعضهم أصابته روحانية غريبة؛ يبكي وقت الأناشيد ولا يبكي من القرآن، ويهتز إذا سمع بيت شعر وتسيل دموعه، بينما يسمع القوارع من كتاب الله عز وجل صباح مساء فلا يتأثر.
ترجم الذهبي لرجل من أهل خراسان عالم عجمي يقول: قرأ القرآن من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس فما تأثر، فلما ذهب إلى بيته سمع طفلاً لجيرانه ينشد قصيدة فبكى وقال لنفسه: صدق أهل خراسان حين اتهموني بأنني زنديق، وهذا من التواضع، وهو ليس بزنديق إن شاء الله، بل هو من المؤمنين، لكن اتهم نفسه عندما قال: كيف أبكي من هذه الأنشودة ولا أبكي من القرآن؟!(330/4)
كثرة المباحات تنزع الخشوع
من أسباب فقد هذه الروحانية: كثرة المباحات؛ فإننا نكثر من المزاح على حساب الجد، وهذه ظاهرة في الشباب، المزح اليدوي والمزح باللسان، وكثرة الزيارات من غير طائل، وكثرة الكلام الفارغ، ومجريات الحياة، وأخبار الناس، حتى أنك تجد طالب العلم إذا زارك في بيتك وفتحت له كتاباً وقلت: هيا بنا نقرأ، لم يزرك مرةً ثانية، وجرب أي شاب يأتي في سبيل البسطة، وعلى سبيل السعة والترويح، يأتيك ليزورك ليوسع صدره ويضيق عليك صدرك، أي أنه يعمل أعماله ويقرأ فيرى أن يجعلك فرجة له، فيطرق عليك الباب ويدخل، يريد منك أن تخبره بالقصص، وأن تمازحه، وأن تمضي معه الوقت؛ لكن جهز له موضوعاً قبل أن يدخل من فتح الباري وتقرأ ثلاث صفحات متواصلة، وناقشه، مرة ثانية يتثاقل من زيارتك، وهذا من طبيعة النفوس، ودليل على عدم الجدية لا في التحصيل ولا في ضبط الوقت.(330/5)
كثرة الخلطة وتأثيرها على الخشوع
من أسباب فقد الروحانية كذلك: كثرة الخلطة؛ فإن ابن القيم جعلها داءً؛ إلا خلطة الصالحين وطلبة العلم والإخوة والأخيار، فإن كثيراً ما يختلط الناس على غير طاعة، بل والله إن خلطة كثير منهم تظلم القلب، بل رؤية بعض الناس تجعل قلبك قاسياً؛ مر الحسن البصري فرأى قصور المترفين فغمض عينيه فقالوا: مالك؟ قال: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131].
وقرأت أن أحد الصالحين رأى سلطاناً مترفاً يمر على فرس فغض بصره وقال: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَار} [هود:113].
قال أحد حاشية الظلمة لـ سفيان الثوري: يا أبا سعيد! هل أنا من أتباع الظلمة والله يقول: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود:113] قال: لا.
أنت لست من الحاشية، قال: ممن؟ قال: أنت منهم.
أنت من الظلمة مباشرة، لست من الحاشية لأن الحاشية هم المشجعون والمطبلون، والمتعاطفون، فالمقصود أن هذه الأسباب تجتمع على القلب حتى يصير قاسياً.(330/6)
طلب العلم
المسألة الثانية طلب العلم: وأنا أنهى وأحذر الإخوة من أن يستجيبوا لكل من ثبطهم عن العلم، يقولون: إنما نحن دعاة لا علماء، وكيف يدعو الإنسان بدون علم، وهل هناك أشرف من طلب العلم، هل كان محمد صلى الله عليه وسلم إلا عالماً معلماً، وهل أنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى قوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] وقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] وقوله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] إلا على النبي صلى الله عليه وسلم.(330/7)
فضل طلب العلم وشرفه
أيها الإخوة: طلب العلم أفضل ما يكون، وإنما يشرف المركز الصيفي بكثرة الدروس فيه وكثرة تحصيل الطلبة.
قال أحد الأدباء من المدن القريبة: أذهب أربعين سنة في طلب الأدب، هذا الأدب والشعر والدواوين، يقول: والله فاتت مني أربعين سنة كما يفوت خاتم الشحيح إذا سقط في الأرض، قال: ثم عدت فأتهنى لشباب هم الآن في الثانويات والجامعات بدءوا يطلبون الحديث ويخرجون الأحاديث، يقول: يا ليتني أدركت الأربعين وجعلتها في طلب الحديث وتخريجه، وترجم الذهبي لـ ابن عبد الباقي الأنصاري العالم في القرن الرابع، يقول: كان محدثاً مفكراً نحوياً، خطيباً، أديباً، عنده علم الفلسفة يقول ابن عبد الباقي: تبت من كل علم إلا من علم الحديث.
ومقصودي: أن العلم هو علم قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، ويعجب الإنسان في نفسه -ولا يريد الإنسان أن يتحدث عن نفسه- لكن قبل سنوات كنت أظن أن العلم هو دواوين الشعر، اثنان وعشرون ديواناً كانت عندي، وكنت أظن أن العلماء هم الشعراء، في الليل والنهار قصائد، حتى أكتشف في الأخير أن هناك رجلاً اسمه البخاري، وابن تيمية، وأحمد، وأن هؤلاء الشعراء لا يساوون شيئاً.
فطلب العلم أشرف شيء، والأمة إنما تنتهي إذا لم يبق فيها علماء.(330/8)
مدلول كلمة (المفكرين)
ما معنى كلمة (مفكرون)؟ هل سمعتم في القرآن كلمة (مفكرين) إلا اشتقاق يتفكرون أو التفكر؛ لكن (مفكرون) من أين أتتنا؟! في الإسلام علماء وجهلة فقط أما كلمة فكر فدخيلة علينا، تجد المفكر الآن يتكلم ست ساعات لا قال الله ولا قال الرسول عليه الصلاة والسلام هذا يسمى مفكراً، والمفكر أحياناً لا يصلي صلاة الجماعة مع الناس، وإذا قلت له: صل صلاة الجماعة مع الناس، يقول: أنا أنظر للأمة، قلنا: لماذا لا تقوم الليل يا فضيلة المفكر؟
قال: القضية ليست قضية قيام الليل.
قلنا: ما هي القضية؟ قال: هي قضية حياة الإسلام ورسوخه في الأرض.
قلنا: ولماذا لا تطلق لحيتك؟
قال: القضية ليست إطلاق اللحية.
قلنا ماهي القضية؟!
قال: القضية أكبر من ذلك، عموم الدين وشموله في مناح الحياة.
يلبس دبلة الذهب، ويترك صلاة الجماعة، ويحلق لحيته، ويسدل ثوبه، فإذا حدثته في هذه القضايا، قال: لا، هذه قضايا تسمى قشور الدين، وإذا كلمك فلا تفهم كلامه، مثل كلام المناطقة، الذين يقول فيهم الإمام الشافعي: رأيي فيهم أن يطاف بهم في القبائل والعشائر ويجلدوا بالجريد والنعال ويقال: هذا جزاء الذين تركوا علم الكتاب والسنة وأتوا إلى هذا.
ثم إن العلم شيء، والثقافة العامة شيء آخر، بعض الإخوة يدرس الجرائد اليومية ويحفظها ويتدبرها وقد يبكي منها، ثم يظن أنه من العلماء الراسخين في العلم، وبعضهم ليس عنده في المكتبة إلا دوريات ومجلات وجرائد، هذه ليست علمية، ثقافة عامة تصلح، للأمي وللعالم؛ لكن ما تكسبك علماً، العلم قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، ولذلك يراد الآن بالعالم الإسلامي كما يقول أحد المفكرين: أن يكون هناك لطلبة العلم مستوى من الثقافة يشتركون فيه جميعاً، لذلك تجد في الجامعات الحذف في المقررات، أحياناً تجد الفقه مجرد عشرين ورقة أو ثلاثين فقط، يحذف باب كامل، والأحاديث المخرجة، ويحذف منه نقاط، حتى يخرج الشباب مثقفين فقط، أما علماء فهذا ليس مقصوداً، وربما صُرح في بعض المناهج بذلك حتى يكون عند الناس طبقة واحدة من المثقفين جرياً على عادة الغرب.(330/9)
أخطاء في الطلب
ومما يقع فيه كثير من الشباب وهو أمر غير محمود أنهم قدموا على القرآن غير القرآن، الآن يحفظ بعضهم الرحبية، والبيقونية، ولا يحفظ كتاب الله بل بعضهم حفظ القرآن، ثم انشغل بالمتون، حتى ترك القرآن، وترك أم المتون وأباها ورأسها وتاجها كتاب الله، فالله الله في حفظ القرآن، وأقول: إن كتاب الله عز وجل يغني عن غيره، فإن كان ولا بد أن تحفظ متناً واحداً فعليك بكتاب الله، ثم تزود بعد ذلك، فالخطأ الشنيع -يا أيها الإخوة- أن يهدر كتاب الله عز وجل بسبب متون أخرى، أو بحفظ أشياء أخرى، وأنا أرشح كتاب الله عز وجل للحفظ ومختصر البخاري للزبيدي، ومختصر مسلم للإمام المنذري، فهذه هي المتعة وهي الحياة، وأنا أعتقد أن من حفظ هذا وتدبر وتأمل سوف يصبح عالماً له أثر وله مستقبل بإذن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.(330/10)
عدم الانضباط في فن واحد من العلم
من الأخطاء كذلك في طلب العلم: عدم الانضباط في فن واحد، وعدم المسار الصحيح في التلقي، تجده يدرس اليوم فقهاً وغداً حديثاً، ينتقل من كتاب إلى كتاب، فيحصل معلومات عامة من كل بحر قطرة، عنده حديث من فتح الباري، وعنده مسألة من المغني وعنده تحقيق وخلاف من نيل الأوطار، وعنده حفظ يحفظه في بلوغ المرام، وعنده مراجعة في رياض الصالحين؛ يقول ابن القيم في الفوائد كما قال الأول:
ومشتت العزمات ينفق عمره حيران لا ظفر ولا إخفاق
وكثير من الشباب حيران لا ظفر ولا إخفاق، لارسب رسب، ولا نجح نجح إنما هو بين بين، ليس متأكداً أن يكون عالماً، وليس متأكداً من أن يكون جاهلاً، يقول:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
قرأت في السير في المجلد التاسع عشر، وجعلت على ذلك علامة حتى لمن أراد أن يراجع في سير أعلام النبلاء أن جد ابن العربي قرأ صحيح البخاري سبعمائة مرة ذكره الذهبي وكان أحد النظار في النحو لا أدري أهو ابن الشجري أم ابن الخشاب يقولون: كنا ندخل عليه البيت وهو يقرأ في كتاب سيبويه ونخرج وهو يقرأ، وكان إذا سافر أخذه معه، وإذا نزل، أو حل أو ارتحل أخذه معه، حتى كاد يحفظه عن ظهر قلب، هذا هو الصبر والجلد، أعرف شخصاً في الرياض عالماً قرأ المحلى لـ ابن حزم بتركيز وتأمل وعمق خمس مرات، وهذه تخرج علماء، قضية الصبر والإلحاح والجلد على التحصيل، وانظر لمن يشتغل في الأمور العامة، كصانع الطوب مثلاً، والفلاح والنجار والخباز والغسال، عندهم من الجلد والصبر، وعندهم من الجهد والعرق ما ليس عند طلبة العلم.
فيا أيها الإخوة: الله الله في عدم الملل:
اطلب ولا تضجر من مطلبٍ فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بطول المدى على صميم الصخر قد أثرا
وقرأت في ترجمة أبي إسحاق الشيرازي من الشافعية، صاحب المهذب، أنه يقول: كنت إذا أردت أن ألقي درساً على تلاميذي كررت الدرس مائة مرة، وقال: كنت أحفظ القياس في شبابي فأكرر القياس الواحد ألف مرة، هكذا ذكره النووي وذكره عنه كذلك الذهبي؛ هذه مسألة.(330/11)
التعجل في الفتيا
المسألة المهمة كذلك ألا يتعجل طالب العلم في الفتيا، فإنها مهلكة، وكان الصحابة يتدافعونها يقول تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116] وفي حديث مرسل: {أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار}.
فيا أيها الإخوة: الله الله في التوقي في شأن الفتيا، و (لا أدري) نصف العلم، وقال علي بن أبي طالب: [[من فاتته (لا أدري) أصيبت مقاتله]] وقال الشعبي: من أجاب الناس عن كل ما يسألونه فإنما هو مجنون، وذكر ابن القيم في إعلام الموقعين أن الإمام مالكاً كان إذا سُئل عن مسألة تأمَّل وجلس وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وكان بعض العلماء إذا سُئل عن مسألة جلس وقرأ الفاتحة، وبعضهم يقول: الله المستعان، وبعضهم يؤجل السائل يوماً حتى يتأمل المسألة، هذا من باب عدم السرعة في الفتيا.
وكان الصحابة يتدافعون الفتيا؛ يقول أحد التابعين لبعض التابعين: إنكم لتفتون في مسائل لو عرضت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر.
فيا أيها الإخوة! الحذر الحذر من الفتيا، أنا أعرف بعض الشباب يفتون في الطلاق بالثلاث، وأنا لا أتوقع مجلساً من الشباب فيه ثلاثون شاباً، أو أربعون شاباً تعرض عليهم المسألة ويسكتون جميعاً ويقولون لا ندري؛ لا بد أن يتبرع منهم رجل ويصرمها تصيب أو تخطئ، وقد حذر ابن الجوزي في كتاب صيد الخاطر من خوف طالب العلم على جاهه، فإنه يأتيه الشيطان ويقول له: جاهك سوف ينسحق أمام العامة، فاحذر فيقال: ما رأيك يا فضيلة الشيخ في مسألة الطلاق ثلاثاً في دفعة واحدة وفي مجلس واحد؟ وهذه مسألة حيص بيص، المسألة أوقفت ابن تيمية في السجن أشهراً، وجرى عليها خلاف طويل عريض، ابن تيمية يقول في أول كتاب الطلاق في الفتاوى، فيها أربعة أقوال: وقرأتها في كتاب هيئة كبار العلماء، وجدت فيها بحثاً يقارب ثلاثمائة صفحة، ثم خلصت الهيئة العامة لهيئة كبار العلماء بعد أن اجتمعت ودرست الأمر وخرجت بنتيجة فيما يقارب خمس صفحات، ومع ذلك يأتي الطالب ويفتي بسهولة.
وكذلك مسائل الدماء والأنساب والأبناء صعبة؛ فحذار حذار من التسرع وماذا عليك؟ يقول ابن عمر: لرجل لا أدري، لا أدري، فقال الرجل: كيف أنت ابن عمر وأنت لا تدري؟ قال: اذهب إلى الناس وكل من لقيته فقل: ابن عمر لا يحسن شيئاً، ووفدوا إلى مالك فسئل أربعين مسألة فأجاب عن ثمان في رواية، وقال في ثنتين وثلاثين: لا أدري، وكان علي بن أبي طالب يقول: [[ما أبردها على قلبي إذا سئلت عما لا أدري، فقلت لا أدري]] وأمر الله رسوله بأن يقول: لا أدري أما قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لرسوله {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] المتكلف: هو الذي يكلف نفسه بما لا يستطيع.(330/12)
الوسوسة في الفتيا
وهناك الوسوسة؛ فغير مطلوب من الإنسان أن يوسوس في الفتيا التي هي من البديهيات والفتيا فيها تنفع العامة، كرجل يسأله بدوي كم أتوضأ الوضوء فيقول له: الله ورسوله أعلم، لماذا لا تفتيه يا فضيلة الشيخ؟ يقول: الورع، وقد كان الصحابة يتدافعون الفتيا، هذه مسألة جاهزة وسهلة، كتمت علمك، لأن الحذر من طرفين اثنين:
الطرف الأول: التسرع، وهو القول على الله بغير علم قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم}) [الإسراء:36] {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ} [النحل:116].
الطرف الثاني: طرف الكتمان: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160].
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].
وفي السنن بسند صحيح: {من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار}.(330/13)
التوازن في الحياة
من المسائل التي يمر بها الشباب وما استطاع إلا القليل أن ينضبط فيها مسألة التوازن في الحياة، أن يوفق بين متطلبات الدين والدنيا، أن يكون وسطاً، ألا ينقص جانبٌ من حياته جانباً آخر، الآن علماء الفلسفة يرون أن الدخول إلى الجنة من باب النظر والتأمل، والصوفية يرون أنها في الزوايا فقط، والمجاهدون يرون بأخذ السيف فقط، وطلبة العلم يرون بالتحصيل، والفقهاء يرون بالفتيا.
وانظر إلى أهل البضائع: إذا جئت إلى مفكرٍ أو داعيةٍ يهتم بالجهاد والذهاب إلى أفغانستان، تجد خطبه في الجمعة ومحاضراته عن الجهاد والمجاهدين، وعن الشهداء وكراماتهم وما وقع في أرض الجهاد، ويرى أن الإسلام هو الجهاد، ويأتي طالب علم عاشق للعلم، وحديثه ودروسه وخطبه في طلب العلم، تناقشه في الجهاد فيسكت ولا يتفاعل معك، تأتيه في العبادة فلا يتفاعل معك، إنما في طلب العلم ليلَ نهار، وتأتي إلى العابد في النوافل يريد الحديث أن يكون فيه، والذي جمع الجميع هو محمد عليه الصلاة والسلام، وأعتقد أن تغليب جانب على حساب الجوانب الأخرى نقص
ربما في الإنجاز وربما في القدرة العلمية، وربما في الطاقة، كلٌّ ميسر لما خلق له: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً} [الرعد:17] فكل شيء بقدر.
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
إذا علم هذا -أيها الإخوة- فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أتى بحياة وسطية، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] وأنا ذكرت قصة الشباب الذين أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأرادوا أن يجعلوها صلاةً وصياماً وقراءة قرآن ويتركون جميع الحقوق، حق الضيف، وحق العين، وحق الأهل، وربما يجعلون الحق كله لله ويتركون هذه الحقوق، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأحدهم وهو ابن عمرو: {إن لربك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حق حقه} هل سمعت أحسن من هذا التوازن؟!(330/14)
أفضلية العبادة وعلاقتها بالزمان والمكان
رأيت لـ ابن القيم في مدارج السالكين منزلة الوقت أو منزلة تشبهها لعلكم مررتم بها، يقول: الواجب على المسلم أن يعطي كل وقت حقه، إذا نزل بك ضيف لا تتشاغل إلا بالضيف؛ لأن عبادتك وقت نزول الضيف الضيافة، أما أن تأتي بالضيف وتدخله في المجلس وتذهب أنت إلى المصلى تتنفل، فقد قصرت في حقوق الضيف، تقول: لا.
صلاة النافلة أفضل من جلوسي مع الضيف، المطلوب منك أن تضيف الضيف، ويقول صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه} سمعت الأذان، فواجبك أن تردد مع المؤذن، فإذا قلت: قراءة القرآن أفضل، قلنا: هي في العموم أفضل، لكن في هذا الوقت بخصوصه الأفضل متابعة المؤذن، كما أن قراءة الفاتحة في القيام أفضل، وأما الركوع فأفضل أن تقول: سبحان ربي العظيم.
فالحكمة أن تؤدي كل عبادة في وقتها، لكن المشكلة أن كثيراً من الشباب لم يعرفوا كيف يوازنون بين هذه الأمور، تجد أحدهم إن أراد الدعوة ترك بيته وراءه، وترك والديه وخرج للناس في كل مكان، ولننظر -مثلاً- في المشاكل التي بسبب المركز الصيفي يقول الأب: مادام الابن يذهب إلى المركز الصيفي ويترك طاعتي وطاعة أمه وإخوانه، ويترك أغراضه وأعماله ولا يقوم معنا، فلا أريد المركز ولا أريد أن يسجل فيه، لأنه إذا كان ناتج المركز الصيفي العقوق فلانريده.(330/15)
التوازن في الحب والبغض وإعطاء كل ذي حق حقه
بعض الإخوة إذا أحب زميلاً تعلق به وحبه كحب مجنون ليلى ل ليلى يزوره في كل يوم، ويركب معه في السيارة، ويتصل به، ويرتحل معه، ويضيفه حتى يمله، ثم تكون القطيعة، يقول علي بن أبي طالب -ولو أن الألباني يجعل هذا حديثاً ويصححه، وفيه نظر، ولسنا بأعلم من الشيخ لكن البخاري جعله في الأدب المفرد من كلام علي رضي الله عنه لا من كلام الرسول [[أحبب حبيبك هوناً ما، فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك يوماً ما؛ فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما]] وهذا أمر معلوم تجد بعض الناس إذا أحب زميلاً له تعلق به تعلقاً شديداً، ثم إذا حصلت بينهما جفوة كان من أعدى الناس عليه، ولو أنه خفف في الأول لما كان أحرج في الثاني، وهكذا العكس.
بعض الشباب يقدم حقوق زملائه على حقوق والديه، يقول أحد الآباء لابنه: قدرني على الأقل مثل أحد زملائك أو ربع ما تقدر زملاءك، أنت تضيفهم وتسافر معهم، وتبذل مالك لهم وتقول الحب في الله، الحب في الله، صحيح لكن له حدود، ويجب أن تحب والديك أكثر، وأن تطيع والديك أكثر، وأن تقوم بأعمالهم.
فمن المشاكل عند كثير من الشباب أن الوالدين لا يستجيبون للشاب إذا دعاهم إلى الله عز وجل ورسوله وإصلاح الأخطاء، وذلك لأنهم لا يجدون له أيادي بيضاء في البيت، يقول له أبوه: كيف أستجيب لك وأنت ما أوصلتني المستشفى، ولا قضيت أغراضي ولا حضرت ضيفي، ولا قمت بدعوة فلان ولا وقفت معنا؟ والرسول إنما قيد الناس بالجميل، وبالمعروف وبالأيادي البيضاء فكان له أعظم الأثر عليه الصلاة والسلام فيهم.
أرى -أيها الإخوة- أن طالب العلم يقتصر على ما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام من النوافل؛ قيام الليل مع الوتر، صلاة الضحى، أما ما وجد من قصص العباد وكتب التراجم من القرن السادس إلى الآن فأخاف أن تكون حجر عثرة في تربية الشباب، قرأت في صفة الصفوة أن عابداًَ كان يصلي في اليوم ثمانمائة ركعة ويمدحه ابن الجوزي، وذكر ابن القيم في مدارج السالكين.
قال: كان فلان يصلي خمسمائة ركعة في اليوم، ومدحه، وعلق على ذلك الشيخ محمد حامد فقي -لا شلت يده- فقال: فأين عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم حسبها بالدقائق، وقال: وأين حقوق الأهل؟! وأين التأمل؟! وأين تدبر القرآن والصدقة؟!
وأنا رأيت المحدثين دائماً يفعلون كما يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم مثل شيخ الإسلام ابن تيمية فهل سمع أحد أنه يزيد على هذه النوافل! هذا مع أن العبد لا يستطيع أن يقوم بما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم.(330/16)
الموازنة بين العلم التعليم الدعوة كآفة الحقوق
إنه ينبغي عدم إرهاق النفس وتكليفها ما لا تطيق حتى تفرط في بعض الواجبات؛ فمثلاً الدعوة إلى الله عز وجل من أحسن الأعمال، وليس معنى الدعوة أن تترك بر الوالدين، وصلة الرحم وحقوق نفسك وأهلك وزوجتك.
بعض الدعاة الذين لهم أهل وأطفال تتصل زوجته وتشكو أنها لا تراه ليلاً ولا نهاراً، وكلما سألته أن يقف معها يقول: أنا مشغول بالدعوة، فما هي هذه الدعوة؟
وإلى متى تظل هذه الدعوة؟
وما هي النتائج؟ كان أكثر الناس شغلاً بالدعوة هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكبر من كان له أثر في الدعوة محمد عليه الصلاة والسلام، والذي أصلح أكثر البشر هو محمد صلى الله عليه وسلم، مع ذلك كان له تسع نساء، وكان يلاعب الأطفال، وينام في وقت النوم، ويصحو في وقت اليقظة، ويمازح الصحابة، ويستقبل الضيف، ويجاهد ويفتي، وهذا هو التكامل في الحياة.
ومن كان كل يومه دعوة، فليرنا الناس الذين استجابوا لدعوته، وهل قد استجاب له الشرق الأوسط كلهم أم أنه منشغل بشابين أو ثلاثة منذ عهد السلطان عبد الحميد، وكلما قلت له: يا أخي لماذا لا توازن في حياتك، فتجلس مع والديك، يقول: تربية الشباب، فإذا قلت له: كم معك من الشباب؟ قال: عندي اثنان والحمد الله! وأنا لا أسخر، فإن نوحاً عليه السلام استجاب له رجل، وبعض الأنبياء لم يستجب لهم أحد، ولست عليهم بمسيطر، ولست مكلفاً بإصلاح الكرة الأرضية ولا حتى أهل أبها، وإنما عليك البلاغ بقدر جهدك واستطاعتك مع مراعاة التوازن في الحياة حتى لا يطغى جانب على جانب.
وقد سمعت بعض الشباب يقول: أنا لا أتزوج، قلت له: لماذا؟ قال: تزوجت الدعوة
الله الله!! وهل الدعوة تتزوج، زواج الدعوة حرام، ولا يجوز الخلوة بها إلا مع ذي محرم، وبعضهم إذا قلت له: مالك يا أخي ما تزوجت وقد بلغ عمرك أربعة وعشرين قال: تزوجت أفغانستان، الله أكبر! فالمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّة} [الرعد:38].
قال الإمام أحمد لبعض تلاميذه: لماذا لا تتزوج؟ قال: إبراهيم بن أدهم مات ولم يتزوج -انظر كيف قفز إلى إبراهيم مباشرة، وخلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكره- فقال له الإمام أحمد: أُوَّه والله يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّة} [الرعد:38].
وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم ومعجم الطبراني، ومسند أحمد: {كان صلى الله عليه وسلم يحمل أمامة فإذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها} بينما بعضهم يقول ما هؤلاء الأطفال؟ يشغلونا عن الدعوة والجهاد!!
فلابد أن تتزوج، ولابد أن تعبد، ولا بد أن تدعو، ولا بد أن تجاهد، هذه هي وسطية هذه الأمة.
وطلب العلم الآن بين إفراط وتفريط، إما طالب علم أغلق عليه بيته فلا يرى الشمس في الشهر إلا مرة، فهو دائماً في الحواشي، وهو مأجور على كل حال؛ لكن ماهي ثمرة العلم؟ هل أثر في أحد؟ يمكن أن يموت ولم ينفع أحداً، فإذا قيل له: شارك الناس في الدعوة ولو يسيراً، قال: لا طلب العلم فريضة، قلت: يا أخي! هؤلاء فيهم خير، قال: هؤلاء يضيعون الأوقات، ثم يموت فيموت علمه معه:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
فالمقصود من العلم النفع المتعدي، ولذلك كان أحسن من النافلة، لأنك تنفع به الناس:
هو العضب المهند ليس ينبو تصيب به مضارب من أردت
وكنزٌ لا تخاف عليه لصاً خفيفُ الحمل يوجد حيث كنتا
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا
أنا جربت في نفسي إذا وقف الإنسان عن المحاضرات والدروس شهراً نسي الآية التي كان يستشهد بها.
أحد الدعاة وقف عن الدعوة أربعة سنوات، قال: نسيت القرآن ونسيت الأحاديث، ونسيت المواعظ التي كنت أقولها، قال: وجربوني مرة في مجلس فتكلمت خمس دقائق ثم حممت ثم توقفت، ولذلك تجد الذي لا يدعو ولو كان عالماً كبيراً في السبعين من عمره فإنه لا يستطيع أن يتكلم، يقول: (الحمد الله) ثم يقف ربع ساعة (والصلاة والسلام على رسول الله) ثم يتوقف، لأنه ما عاش تبليغ هذا الدين للناس.
ومن الناس وهو الطرف الآخر من ترك العلم ظهرياً، وقال: المقصود الدعوة، فنقول: يا أخي! احفظ مختصر مسلم للمنذري، قال: لا إذا حفظنا مختصر مسلم فقد زادت نسخة في البلد، عجيب! كيف زادت نسخة في البلد؟! قال: إنَّ حفظ هذه المتون تربك الدعوة إلى الله عز وجل ونحن دعاة لا علماء.
وهذا خطأ، بل زاد عالم من علماء المسلمين وهذه الأسماء اللامعة: ابن حجر، ابن تيمية، ابن القيم، ابن رجب، أبو إسماعيل الهروي، وأمثالهم يحفظون المتون.
فما هو التوازن؟
هو التحصيل في وقت يكون منضبطاً لا يطغى على الحقوق والواجبات، فلابد من وقت لأهلك تجلس معهم ووقت لوالديك تقضي فيه حوائجهم وتجلس معهم، وتزورهم وتسمع كلامهم ويسمعون كلامك؛ هذا في الأربع وعشرين ساعة.
واعلموا أن المشكلة ليست من قلة الوقت ولكن من عدم ترتيب الوقت، الآن تقول لأحد الشباب: لماذا يا أخي لا تحفظ القرآن؟ قال: يا أخي! والله ما وجدت وقتاً، هذا خطأ، لأنني أعرف من المخالطة أن البعض يجلسون من بعد صلاة العصر إلى صلاة المغرب على إبريق من الشاي، يأخذون أخبار البلد، من طلق من النساء، وبمن تزوج ومن مات، وهذا الوقت يحفظ بعض الحفاظ فيه ثلاثين حديثاً، وكان الإمام الدارقطني يحفظ في الجلسة ثلاثين حديثاً، بينما هذا الشاب يقول: يا أخي! والله ما وجدت وقتاً لمراجعة القرآن.
والبعض إذا قيل له: لماذا لا تراجع القرآن؟ قال: انشغلنا بالدعوة عن القرآن، وهل الصحابة ما حفظوا القرآن لأنهم انشغلوا بالدعوة، وكلمة الدعوة أصبحت كلمة (مطاطية) أصبحت مظلة يتظلل بها كل أحد، حتى من أراد أن يفر من والديه ويترك البيت قال: لا.
يا والدي لا تكن حجر عثرة في طريق الدعوة، يا والدي! اتقِ الله، دعني داعية أصلح هذه الأمة، هذه حفظكم الله الحقوق العامة.(330/17)
التخصص وأهميته
الوقت عندنا رخيص يصرف بدون ثمن، تجد الناس يحرصون على الدراهم والدنانير، هل رأيت من حين خلقك الله عشرة ريالات في الطريق وأنت تمشي؟ الآن لو نظفت أبها في هذه الليلة من أولها إلى آخرها ما عثرت على ريال واحد في الطريق، بينما تجد من يقضي الساعات الطوال في غير طائل، وفي غير طاعة وذكر.
والوقت -يا أيها الإخوة- أغلى من الذهب والفضة، وهو الحياة؛ فحذار حذار من ضياعه، اعلموا أن الله خلقنا وإياكم بصفات كل صفة لا تشابه صفات الآخرين، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها، وهي كلام لـ علي رضي الله عنه ولو أن بعض العلماء رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويغنينا حديث الترمذي: {لا يكون أحدكم إمَّعة} نحن الذين في الصالة عددنا يقارب مائة وخمسين إلى مائتين، اعلموا أنه لا أحد منا يشابه الآخر في صفاته جميعا أبداً، ومنذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة لا تجد اثنين يتشابهان في الصفات والمقومات والخصائص: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148] {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] {كل ميسر لما خلق له} فانظر استعدادك للدعوة وهل تريد أن تكون خطيباً أو أنك مؤهل لتكون كاتباً، ولذلك تجد بعض الشباب يقحم نفسه في أمور ما خلق لها أصلاً، ثم لا يكشف ذلك إلا في سن الثلاثين، فالشاب يريد أن يكون مفتياً وخطيباً وأديباً وكذلك داعية، فإذا وصل إلى الثلاثين تبين له أنه لا يستطيع أن يخطب ولا يستطيع أن يؤلِّف ويستطيع أن يفتي.
تعال اليوم إلى بعض المفتين في بلادنا ودعه يعظ الناس ربما لو تلكم ساعتين ما بكت عينك، لأنه ليس بخطيب، تعال إلى بعض الخطباء في أصقاع العالم الإسلامي يريد أن يفتيك في مسألةٍِ فلا يستطيع.
الرسول صلى الله عليه وسلم آمن بهذا وجعله منهاجاً لأصحابه، فـ خالد بن الوليد، لا يفتي في الفرائض، وما سمعت في حياتي أن خالد بن الوليد شارك في مسألة، لم يقل للجدة كذا، ولا لبنت الابن كذا، ولا لابن الابن، شارك في قتل بعض النفوس، وفي فصل الرءوس عن الأكتاف، فإذا ذبح الكفار ترك الميراث والتركة لـ زيد بن ثابت يقسمها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {أفرضكم زيد} وخالد بن الوليد سيف سله الله على المشركين، وعلي بن أبي طالب قاض، ومعاذ بن جبل أعلم الأمة بالحلال والحرام، حسان، هل سمعت أن حسان يفسر القرآن، كيف يدخل الجنة حسان؟ يدخل بطريق القافية، والشعر الجميل:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
فأنا أقول -أيها الإخوة! - من أجاد منكم في باب، ومن نفع الله به الدعوة في باب، فليمسك هذا الباب وليحرص على تنمية موهبته، أنا أعرف بعض الإخوة خطاطين -مثلاً- أنا أوصي الخطاط أن ينظم وقته، وأن يكون له وقت محدد لهذه الموهبة التي فتح الله عليه بها، لينفع الإسلام من هذه الطريق، أحد الإخوة شاعرٌ فلا يميت هذه الموهبة، باب فتحه الله عليك لا تغلقه، اشتغل بهذه الموهبة لكن لا تجعلها تأخذ عمرك، وعليك بتنسيق كلماتك، وحاول أن تطالع وتقرأ حتى تكون شاعراً يخدم لا إله إلا الله محمد رسول الله.
بعض الإخوة خطيب؛ فعليه أن يتصدر ويخطب وأنا أقترح على المركز وربما فعل ذلك أن تكون هناك حصةٌ لأهل المواهب، تسمى حصة المواهب، محاضرة ودرس عام، فيصنف الشباب في كل فصل إلى أهل المواعظ وأهل الأدب وأهل التحصيل المبرزين، وأهل الخط.
وهناك قضية أخرى، ولا أظنها في هذا المركز وأنا قد شاركت في بعض المراكز فوجدتها فيه: فالنشارة والنجارة مضيعة للوقت، نحن لا نريد نجارين وخشابين، نحن دعاةٌ وطلبةُ علم، يبقى الواحد يصنع دولاباً في شهرٍ فيضيع القرآن والحديث، وتسمع الأصوات وكأنك في منجرة من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، وهذا ينصب الخشب وهذا يسحب المنشار، ويقولون: (مهنة في اليد أمان من الفقر) قلنا: لماذا؟! قال: الإسلام دين علم، دين نجارة، ودين خشابة، ودين نظافة، ودين خبازة، وهذا فن، لا.
أنتم تعرفون ونحن نعرف أن المراكز الصيفية اشتغلت كثيراً بهذه الدواليب، وأنا أقول: الحمد لله والشكر لله نذهب إلى المنجرة ونشتري دولاباً بخمسين ريالاً، ولا نشغل الشاب شهراً كاملاً ويخرج نجاراً، لا نريد هذا، وكذلك الاعتناء بالخياطة.
أما صنع الطعام فإلى الآن ما رأيت شيئاً، ولو أنهم في المدارس الابتدائية يعلمونهم صنع الطعام، أحضر حفنة من البيض مع قليل من الزيتون مع قليل من الملح مع أشياء أخرى! هذا للنساء ليس للرجال، فاقتراحي أن يكون في المركز أهل المواهب، فكل من عنده موهبة ننميه ونلاحقه ويكون له درس محدد حتى نخرج للناس، الأمة لم تخرج خطباء، كل الخطباء الموجودون بجهدهم الشخصي، لكن في بعض البلدان مثل تركيا عندهم معهد الخطباء، وهناك معهد الأدباء، ومعهد الخطاطين، والواجب أن نقوم بهذا نحن أنفسنا فنعتني بهذه المواهب ونركز عليها، ثم لا نزدري موهبة الآخر، وبعض الناس يجمع الله له مواهب يضرب في كل غنيمة بسهم، فتجده أديباً، كاتباً، خطاطاً، مؤلفاً، مفتياً.(330/18)
تنبيهات مهمة(330/19)
بعض الأخطاء التي يقع فيها الشباب
نحن عندنا خير والحمد لله لكن الالتزام أحياناً قد يكون ظاهراً في تربية اللحى وتقصير الثياب، وفي السواك، وبعض السنن، وهذا شيء جميل ويا مرحباً به، لكن -يا أيها الإخوة- أعمال القلوب مهملة كالخوف والرهبة والرجاء والخشية والخشوع والتأمل، قد تفاجأ حين تجد شاباً ملتزماً في الظاهر، مطيلٌ لحيته مقصر ثوبه لكن فيه عجب، وتفاجأ بشاب آخر متكبر، ولذلك يشكو إلينا بعض الشباب يقولون: فلان من أكبر الناس وجربناه حتى إذا جلس معك في المجلس كأنه يتصور أنه مالك بن أنس حتى يقول: لا يا شيخ! أنا طالعت هذه المسألة والذي ظهر لي والله أعلم أن رأي أهل العلم خطأ فيها، قال: وقد قرأت بنفسي وعقبت وعندي بحثٌ قد حققته في تلك المسألة، ولذلك تجده يقول: (قلت، وأنا، وعندي، ولي) وهذا من العجب.
وقد رأيت رسالة موجودة في الأسواق في بعض تصحيحات الحديث لشباب نعرفهم يقول في أولها: وقد استدركت على الشيخ الألباني هذه المسألة وخطأته من ثلاثة أوجه، قال وَهِمَ ابن حجر وقد وقع لي أن سبب وهم الحافظ كذا وكذا! من أنت؟! يقولون: وقعت البعوضة على النخلة، ثم أرادت أن تطير فقالت للنخلة: تماسكي أنا أريد أن أطير قالت: والله ما أحسست بكِ حين وقعتي فكيف أحس بكِ إذا طرتي؟ أناس يفنون أعمارهم مثل الألباني وابن حجر في علم الحديث، ويأتي شاب في يوم واحد ويدرك خطأً، فيبقى في المجالس يقول: الشيخ الألباني أخطأ في الحديث ونبهت عليه، وقد كتبت في ذلك بحثاً، وكلما جلس بعض الشباب وهو يعرف شهر بن حوشب، أنه راوية ضعيف، فكلما جلس يقول: أيها الإخوة! ما رأيكم في شهر بن حوشب ثقه أم ضعيف؟ قالوا: لا ندري، قال: لا.
قال فيه ابن حجر كذا وقال ابن حبان: فيه كذا، فينتقل إلى المجلس الثاني، يسرح لحيته ويقول: ما رأي الإخوة في شهر بن حوشب، فيسمونه شهر بن حوشب، مثل حماد الراوية أديب في عهد هارون الرشيد، قالوا: كان لا يعرف إلا داحس والغبراء، يتفاوض أهل العلم والفتيا في المجلس، فيأتي هو ويقول: ما رأيكم في داحس والغبراء؟! من الذي يجيد خبر داحس والغبراء؟! فسموه داحس والغبراء، وقال هارون الرشيد: أما حماد الراوية فإذا خرجتم به من داحس والغبراء فلا يعرف شيئاً، وهذا يسمى التقوقع على مسائل محددة.
وقد مرت بنا فترة كان فيها كثير من الشباب لا يعرفون إلا تحريك الإصبع، ولقد جلست مع شاب أكثر من ساعة وهو يسألني في هذا البحث ويتصل وهو حريص على ذلك، وكأنه يسأل عن ركن من أركان الإيمان، أو معتقد يدخل به الجنة أو النار وأنا لا أهوِّن من شأن هذه المسألة، لكن نعطيها حجمها، كما أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم من وقته حديثين حديث ابن الزبير وحديث وائل بن حجر ومع ذلك يقول: ما أدري يا أخي هل أحركها في التشهد أو في الدعاء؟ قلت: الذي يظهر في التشهد، قال: في نفسي شيء، ولو حركتها في التشهد ولم أحركها في الدعاء ما أخذت بعموم الحديث؟ ثم يستحدث لك مسائل، ويخرج ويدخل ويجعلها مثار بحث في المجلس، وهذا خطأ.
والذي يظهر الآن من علم الشباب أنهم يبدءون بالطهارة إلى باب الحج فقط، ومنهم من يبدأ بالطهارة إلى نواقض الوضوء، الآن ثلاثة أرباع أبواب الفقه لا يعتني بها، اسأله مثلاً في المساقاة، اسأله في الإجارة، اسأله في الربا، اسأله في البيع، اسأله في الجنايات، في الحدود، فلن يجيبك بمسألة، وهذا تقصير.
أيها الإخوة: لا بد لمن أراد أن يدرس الفقه أن يكمل هذه الأبواب جميعاً.(330/20)
المروءة وبعض خوارمها
هناك بعض الأمور أنبه عليها حتى نكون مظهراً من مظاهر الخير للأمة.
أيها الإخوة: مسألة خوارم المروءة -أعاذنا الله وإياكم من خوارم المروءة- يظن بعض الناس أن الإسلام فقط أن تجتنب المحرم وتفعل الواجب، وهناك أمور أخرى من يفعلها قد تخرم مروءته، الآن على سبيل المثال تجد بعض الشباب يأكل في السوق، هل هناك نهي عن الأكل في السوق، أنا لا أعرف تحريم الأكل في السوق، بل بعض الشافعية أخذوا من قوله سبحانه: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] جواز الأكل في السوق، وهذا فيه نظر؛ لأن الواو في الآية ليست واو حال إنما هي واو عاطفة، يعني يأكل الطعام، وكذلك يمشي في الأسواق، لكنه من خوارم المروءة عندنا.
قد تمر بشاب يمثل الصحوة الإسلامية والناس ينظرون للملتزمين نظر اعتبار، ولو أن بعض الفسقة لا يقدر؛ لكن ينظر باعتبار، حتى إذا قطعت شيئاً فإنه يقول: تقطع وأنت مطوع!! يعني لو كان فاسقاً كان معذوراً وترمي من نافذة السيارة الفاين فيقول: ترمي الفاين وأنت مطوع أي: ما كان ينبغي لك، دليل على أن المجتمع يقدر هؤلاء وأن لهم اعتباراً خاصاً، ومع ذلك ترى بعض الشباب يستهين بخوارم المروءة، أنا أعرف بعض الشباب يأتي مثلاً بلا غترة؛ يأتي هكذا مع الشباب رائحاً غادياً ولحيته طويلة، ويركب معهم، صحيح هذا ليس محرماً لكن في عرفنا نحن في البلد هنا أنه لا بد أن تلبس غترة حتى تصلح من هندامك، فلا تأت بهيئة درويش، هذه الجهة عند الأذن والجهة الأخرى عند القدم، والبعض إذا قلت له: مالك يا أخي لا تصلح من هيئتك! قال: {البذاذة من الإيمان} حديث حسن، فإذا الغترة مطوية بغير نظام والأزرار مقطعة ما فيها إلا واحد ويشبكه مع الأعلى!! هذ لا يصلح وجاء في في حديث حسن: {أصلحوا لباسكم حتى تكونوا شامة في الناس} {والله جميل يحب الجمال} أما أن يأتي الطالب بهيئة مزرية ويقول: إنه من الشباب الملتزم والله -يا إخواني- نخشى أن المنافقين يضحكون عليه، أنا رأيت بعض المنافقين يستهزئ، يقول: انظر الثياب، انظروا الغتر، انظر كذا وكذا.
إن سيد المتجملين هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان إذا مر من مكان عرف من ريح الطيب أنه مر وكان يلبس الجميل، وكان صلى الله عليه وسلم يعتني بمظهره وينظر إلى المرآة كما جاء في كثير من الأحاديث فلماذا لا نتبعه؟!(330/21)
نماذج من خوارم المروءة
وحذار من أن الإنسان يأتي بهذه الخوارم، منها: أن البعض في صلاة الفجر يأتون بثوب النوم المخطط، هذا الذي كأنه من نيجيريا، يأتي بثوب النوم، ولو دعاه سلطان من الناس لتجمل قبل الدعوة بيوم، والبعض في الأعراس يأتي كأنه تحفة، الإنسان لابد أن يعتني بمظهره.
منها أنه يشاهد بعض الإخوة وهو يمشي في الطريق يبصق عن اليمين وعن اليسار في طريق المارة، وهذا شاب يمثل الإسلام! أحياناً تجده يدخل عجولاً مهرولاً في مشيته، وهذا لا يليق؛ لأن الإنسان يقدر بالعقل والاتزان، وليس كل ما لم يذكر في القرآن ولا في السنة معناه أن يترك ويهمل، لا.
قد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم من سيرته الكثير.
وأعرف كذلك نماذج كثيرة من خوارم المروءة كما قلت في المثل، كثير من الناس يشرب الماء وهو ماش في السيارة، أو يشرب الببسي ثم يرمي العلبة وراءه فتقع على سيارات الناس، ثم يكتشفون هذا الوجه النير الطاهر فيقولون: كيف تفعل هذا؟ أليس هذا خطأ؟ بلى.
منهم من يقطع الإشارة -مثلاً- ويقول هذه إشارة المرور لم تذكر في الكتاب ولا في السنة، ما هذا الفقه؟! وقس على ذلك.
والذكي يعرف وإلا فهناك نماذج كثيرة من خوارم المروءة يقع فيها كثير من الناس، ومنها ما هو سوء أدب كأن تجد بعض الشباب ولو كانوا طلبة علم وشاركوا في المراكز وهم دعاة في نفس الوقت لا يقدرون الكبير، أنا حضرت مجالس يدخل طالب علم مشهور بطلب العلم أو قاضي أو عالم أكبر منه سناً، فيجلس الطالب لا يقوم أبداً تقول: لماذا لا تقوم للشيخ يا أخي؟ قال: الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن في هذا الموقف لا أدري يتسنى للإنسان أن يبقى في صدر المجلس وتنظر إلى رئيس المحاكم -مثلاً- أو إلى عالم من العلماء وهو عند الأحذية بين الأطفال.
أنا رأيت بعض الشباب كذلك يدخل بعض الشيوخ الكبار فيقوم المجلس كله ويبقى هو جالس، وهذا والله لا يصلح، أنا أدري أن عندهم أدلة لكن الأدلة على خلاف ما يقولون، وربما المسألة اجتهادية، وفرضاً أنه مصيب وأنا مخطئ في الدليل؛ لكن هل من اللائق أن يقوم مجلس فيه خمسون لشيخ من المشايخ الكبار، ولا يقوم طالب العلم معهم؟! ليس بالصحيح.
ولـ ابن تيمية إشارة إلى هذه المسألة وأن حق المسلم مقدر، وأن المسائل المرجوحة هذه قد يكون المرجوح أعظم في بعض المناسبات -مثلاً- في المسجد إذا أتت محاضرة أتينا لبعض المشايخ في بعض المحاضرات والصف الأول فيه شباب، قلت: يا أخي! من فضلك مشايخ وضيوف أتوا قال: من العصر وأنا هنا، ما أقوم من هنا أبداً قلت: يا أخي! بالتي هي أحسن، قال: ولا أقوم، فجعلنا بعض الضيوف في الصف الثاني، انظر إلى الشكل والمظهر.
كذلك كثير من الشباب لا يعطي المشايخ الكبار قدرهم كالتقبيل على الرأس -لا تظنوا سوء نحن كلنا شباب، لكن أقصد العلماء الكبار- يقبل أحدهم على رأسه ويحترمه وألا تتكلم بين يديه.
من سوء الأدب أن تعرض المسألة في المجلس وفيه من هو أعلم منك، فلا تتلكم حتى يتكلم هو، ويقفز لك شاب من الثانوية بينما المشايخ موجودون، قال: الذي تطمئن إليه نفسي في هذه المسألة بعد ما رجعت إلى ابن تيمية وابن القيم أن فيها كذا وكذا، هذا لو سكت ولو مات كان أحسن، ثم الناس لن يقبلوا بكلامه أولاً، والأمر الثاني: أنه تعدى على حرمة ومكانة هؤلاء، وقس على ذلك.
أيها الإخوة الكرام: المقصود من هذا كله أن نكون متزنين في حركاتنا وسكناتنا ولا تأتي هذه إلا بتربية، وأرى أن أحسن ما يربي بعد تدبر كتاب الله عز وجل مطالعة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتراجم العلماء، وأنا أرشح سير أعلام النبلاء للذهبي أن تتأملوا آداب العقلاء والفطناء والعلماء حتى يعرف الشاب كيف يتعامل مع الناس، كيف يزور وكيف يجلس، العقل، الأدب، الهدوء، الاتزان، حسن التصرف.
أنا أذكر لكم مثلاً حياً: قبل البارحة اتصل بنا شاب -والمؤذن يؤذِّن- يسألني في مسألة، فلم يجد من أربعة وعشرين ساعة إلا وقت الأذان يقول: ما رأيك في نزيف الأنف، يفطر أم لا؟! فلا بد أن يعرف الإنسان كيف يتصل، ومتى يزور ومتى يأتي.
إنسان يزورك قبل صلاة المغرب، ويوقفك عند الباب، وتقول تفضل ويقول: لا أنا مستعجل، فلماذا توقفه الآن في هذا الوقت، أو إنسان يتصل بك مع الأذان، أو عند النوم في الهاتف، لا بد أن يكون الإنسان محافظاً على نفسه ويعتني بتصرفاته، وبزياراته وباتصالاته، وقد كررت كثيراً.
مما يقول الإنسان من كثرة الإحراج الذي يواجهه من الشباب أن لو كان ذلك من العامة والجهلة لكانوا معذورين، لكن ما بالك بهذه الصفوة المختارة، النخبة التي تربي الناس فتأتي منهم هذه الأخطاء.
على كل حال أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية والرشد والسداد، وأن يزيدنا وإياكم بصيرة وتقوى، وهداية، وأن يجعلنا وإياكم من المقبولين، وأن ينفعنا بما سمعنا، وأكرر شكري لكم، ونطلب منكم الدعاء في ظهر الغيب، وصلى الله على محمد وسلم تسليماً كثيراً.(330/22)
الأسئلة(330/23)
ظاهرة ضعف حفظ القرآن وعلاجها
السؤال
بعد أن هداني الله تعالى إلى طريق الحق والحمد لله، أعاني من مشكلة حفظ القرآن الكريم فبماذا تنصحني حفظك الله؟
الجواب
أولاً: إنني أبشركم أن هناك بحثاً لأحد طلبة العلم سوف يخرج بعنوان (كيف تحفظ القرآن) وهو بحث قيم بإذن الله عز وجل؛ أسأل الله عز وجل أن ينفع به، وهذا الأخ طالب علم في المدينة المنورة، ولكن مما يعرف بالاستقراء والتجربة وسماع بعض الحفاظ، أن مهمة حفظ القرآن ليست بالسهلة.
ثانياً: تريد من الإنسان إخلاصاً وتجرداً لله، ثم أن تبتهل إلى الله في سجودك وأدبار الصلوات أن يزيدك وأن يوفقك ويعينك على حفظ كتابه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
الأمر الثاني: أن تقتصد في الحفظ فتأخذ آيتين، فإن زدت فخمس آيات في اليوم، كرر عليها كثيراً كثيراً حتى تتصورها كالفاتحة.
الأمر الثالث: أن يكون لك زميل تحفظان معاً.
الأمر الرابع: أن يكون لك وقت للمراجعة، وحبذا لو راجعت في النوافل.
الأمر الخامس: أرى أن تطالع التفسير ولو مختصراً حتى تفهم معنى الآية؛ لأن فهم معنى الآية يعنيك على حفظها.
ثم منها: كثرةُ الاستغفار، ثم أن يكون لك مصحف واحد.
ثم منها أن تختار الوقت المناسب كوقت السحر أو بعد الفجر، ثم منها: أن يكون المكان الذي تحفظ فيه هادئاً ومغلقاً، أي ألا تكون فيه مناظر مزعجة وملفتة للنظر، إلى غير ذلك والله والموفق.(330/24)
الحوار والفتيا والفرق بينهما
السؤال
يقول السائل: ما رأيكم أن بعض طلبة العلم في مجلس، ثم تعرض قضية في الفقه أو غيره ثم يعطي كل منهم ما يعرف في المسألة، وتناقش حتى يظهر الحقُّ أو تبحث؛ فهل هذه هي الفتيا والقول على الله بغير علم؟
الجواب
يختلف النقاش العلمي عن مسألة الفتيا، فالفتيا: أن يأخذ منك سائل ما تدلي به من علم، أي أن يعتمد عليك فيحلل ويحرم بسببك وبفتياك، أما المناقشة فلو أخطأت مع زملائك فهم لا يأخذون قولك لأنها وجهة نظر ولا بأس بذلك، فإنه مما ينمي العلم، وهي المذاكرة، ولو أوردت حديثاً ضعيفاً وبان أن رأيك خطأ، لكان لا ينبني على كلامك شيء، سوف يرد عليك زميلك ويلاحظ عليك؛ فالمباحثة مطلوبة، وهي إحياء العلم، وكان الإمام أحمد، يباحث أبا زرعة -حسب ظني- حتى طلع الفجر، وقالوا تماسك الفضيل وابن المبارك يتساءلان عند باب الحرم حتى أذن الفجر، فالمذاكرة واردة وهي طيبة، وخاصة إذا كانت في مكتبة، وكانت الكتب قريبةً حتى تبحثون بقرب من كلام أهل العلم.(330/25)
ضابط الحكم الشرعي على المسائل
السؤال
هل التسرع في إصدار حكم كقول القائل: حلال أو حرام أو جائز ونحوه هل هذا قول على الله بغير علم مع أن مصدر الحكم ليس عليه دليل، أو مصدر الحكم ليس عن دليل، بل قد يكون هناك خلاف أو أدلة أخرى لا علم له بها، وما ضابط إصدار الأحكام الشرعية على المسائل الملقاة على السائل.
الجواب
أيها الإخوة: أدعوا نفسي وطلاب العلم ألا يتسرعوا في كلمتين؛ في قول: حلال، وفي قول: حرام.
يقول سبحانه: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل:116].
لأنَّ تَسرعك وقولك هذه الكلمة توقيع عن رب العالمين، ولذلك سمى ابن القيم كتابه: إعلام الموقعين عن رب العالمين أي أفهم يوقعون ويمضون عن الله عز وجل، ثم إذا لم يكن هناك نص يحرم المسألة، فلا يجوز لك أنت حتى تتيقن وتبلغ درجة الإفتاء في المسائل المختلف فيها، أما مسائل ظاهرة التحريم مثل الزنا وشرب الخمر، والسرقة، فإنك تقول: حرام ولا تتلافى، كما تقول شرب الماء حلال، مصافحة الرجل للرجل حلال، فهذه بائنة لكن هناك مسائل مختلف فيها هي التي أحذر كل التحذير أن تتسرع في التحليل والتحريم، كان الإمام أحمد لخوفه من الله يقول: أرجو، أكره، أخشى، لا أدري، وكذلك مالك، وذكر ابن القيم فصلاً في إعلام الموقعين عن تحرزهم في الفتيا، وصعب أن تقول: حلال، وصعب أن تقول: حرام، حتى رأيت بعض المنافقين يهاجمون كثيراً من طلبة العلم أنهم يقولون: حرام، يقول أحدهم: كل شيء حرام ويعلم الله أنه ما قاله أحد، ولا يقوله طالب العلم، لكن من التجريح، سمعت أحدهم يضحك مع زملاء له ويقول: خطيب قام فقال: الدخان حرام، والموسيقى حرام، والتبرج حرام، كل شيء حرام!! وهل يقول هذا عاقل؟ فمثل المسائل الظاهرة يتكلم طلبة العلم، وأرى أن الذين في المنطقة يجتمعون حتى يتحد رأيهم على كلمة، وأما المختلف فيها فيحيلونها إلى العلماء، حتى لا تتضارب الأقوال ويهتز موقف الشباب أمام الناس.(330/26)
الفتوى بغير دليل ولا برهان
السؤال
يسألني بعض الشباب عن بعض المسائل وأنا أعرفها، ولكن لا أحفظ الدليل فهل أجيب أم لا؟ وشكراً.
الجواب
إذا بلغ طالب العلم إلى الدرجة أنه بحث المسألة وقتلها بحثاً وتأكد واطمأن قلبه فلا بأس، وذكر النووي في أول مجموعه أنه لا يلزم المفتي أن يذكر الدليل للعامي أو الذي لا يسأل الدليل لا يلزمك، لكن إذا طلب طالب علم منك أن تذكر له الدليل فتبحث، الكثير من المسائل قد لا يستحضر طالب العلم الدليل فيها، نعلم -مثلاً- نحن الآن جميعاً أن قدر المضمضة في الوضوء ثلاث مرات، لكن أعرف أن كثيراً ممن هو جالس الآن لو قلت له: ما هو دليل المضمضة ثلاث مرات من الأحاديث النبوية لا يستحضر أن يقول حديث عثمان في البخاري ومسلم وهو برواية: وتمضمض ثلاث مرات واستنثر، وحديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وحديث أبي هريرة وحديث عائشة؛ لا يستطيع لكن يعرف الجميع أنها ثلاث مرات.(330/27)
مشكلة النسيان
السؤال
يقول أنا شاب كثير القراءة وأحبها كثيراً حتى أنني قد أقرأ الكتاب المكون من مائتي صفحة في الصباح وأنتهي منه بالليل دون أن أترك كلمة واحدة، وأحس بعد الانتهاء أني قد فهمته، ولكن بعد مرور الوقت أنسى كل ما قرأت ماذا أفعل؟
الجواب
أولاً -يا أخي- تشكر على القراءة، وأنا أوصيكم بكثرة القراءة، من أراد العلم والتوسع فليقرأ أكبر قدر من الكتب التي يجدها، يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: إنه قرأ في وقت الشباب ما يقارب من عشرين ألف مجلد؟ ويقول: إذا رأيت كتاباً جديداً كأني ظفرت بكنز، فكثرة المطالعة مطلوبة ولا يخلو كتاب من فائدة.
الأمر الثاني: سرعة القراءة تكون موهبة وأنا رأيت مقالة في مجلة البيان عن القراءة السريعة، وعن مالها وما عليها، أو فن القراءة السريعة، أو شبه هذا، فأعجبني الموضوع، وهو جيد، والقراءة السريعة موهبة وممن كان سريع القراءة ابن حجر، لأنها ولو لم تفهم لكنها تجمع لك شتات الموضوع وتكون عندك موهبة وملكة، والذي يقول: ما فهمت شيئاً، ليس بصحيح، يأتي يوم تسأل في مسألة تعرف أنها في الكتاب أو تبحث عن حديث أو عن رجل تعرف أنه مر بك، وعلى كل حال قل إنك فهمت (1%) من الكتاب، فكم في الكتاب من مسألة قد تكون ألف مسألة، فإذا فهمت عشر مسائل فهو خير كثير، لكن على كل حال: أرى أن تكثر من الاستغفار حتى لا تنسى كثيراً، وأن يكون عندك قلم وقت القراءة، لتلخص ما قرأت أو تكتب بعض الفوائد أو تفهرس المقروء.(330/28)
الملل من القراءة
السؤال
إني أجد في نفسي تحمساً للقراءة، ولكني عندما أفتح كتاباً وأقرأ فيه شيئاً قليلاً أمله ولا أستطيع إكماله فما الحل؟
الجواب
كثير من الإخوة يرى أن القراءة أمر سهل، فإذا ناسب نفسه يجعلها متعة؛ فإن استطاع أن يقرأ فبها ونعمت، وإن لم يستطع تركها، ولذلك تجد بعض الإخوة عنده مكتبة كاملة ما قرأها، ويعرف المؤلف والعنوان، والطبعة، طبعة دار الشروق أو بولاق، ويمسح بيده هكذا، ينظر هل هذا مصور أم مخطوط؟! هذه ما تنفع، قراءة العناوين والمؤلفات ما تنفع حتى تدخل أنت في صلب الكتاب، ولا يحصل المسلم على خير الدنيا والآخرة إلا بالصبر، فلا بد أن تجاهد نفسك، علماً أن النفس إذا دعوتها لتقرأ فتح الباري -مثلاً- دعتك إلى قراءة العقد الفريد، أخبار وأسمار وأشعار وأحياناً ترهات تنفعه في وقت الملل، لكن النفس أمارة بالسوء، والنفس تهوى لا تريد أن تجالد؛ فما معك إلا الصبر، واصبر لأنك سوف تصل بقراءتك هذه إلى ما تتمنى إن شاء الله، ورحم الله من يقول:
اطلب العلم وحصله فمن يعرف المطلوب يحقر ما بذل
تصور الآن الذين صبروا في شبابهم، كيف تجدهم الآن، تجد كبار الناس يسلمون على رءوسهم، العالم إذا مر أو جلس لا ينظرون لنسبه، أنا رأيت علماء من الموالي، ومر في التاريخ مثل عطاء بن أبي رباح مولى عبد، وكلنا عبيد الله، أسود، مهلهل الشعر، أهنس، ما عنده من الدنيا درهم، وقف سليمان بن عبد الملك يريد أن يستفتيه في الحرم فقال لـ سليمان: لا أفتيك خذ دورك مع الناس فقال سليمان لأبنائه وهم خلفاء ملوك: يا أبنائي! عليكم بطلب العلم، والله ما ذللت في الحياة إلا لهذا العبد، بسبب العلم.
إذا تصور الإنسان أنه سوف ينفع الله به لا لرئاسة الدنيا لكن ينفع الله به ويصلح على يديه، ويكون مرجعاً للناس ثقة.
الآن أضرب مثلاً: الشيخ عبد العزيز بن باز، الآن تجد في البادية في تهامة في القرى، بل في أمريكا في المراكز الإسلامية رأيت الخلاف في مسائل محتدماً على أشده، والناس من نواحي الكرة الأرضية من بلاد الإسلام، فيقوم شاب عند المايكروفون، يقول: قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز فيقولون: اسكتوا نسمع ما يقول، فإذا سمعوا لقوله سلموا له وارتفع الخلاف، وهذا أمر حصل عليه بالسهر، وكذلك غيره من كبار أهل العلم الذين مروا في التاريخ.(330/29)
الفكر والمفكرون
السؤال
فضيلة الشيخ: هل يعني كلامك عن الفكر والمفكرين وقراءة الصحف أن نقرأ المتون والمطولات والمختصرات، ونترك الواقع وما يحدث حولنا، وكيف نحصل فقه الواقع، ثم ما قولك في أقوال سيد ومحمد قطب وغيرهم؟
الجواب
أنا لا أعني هذا حفظك الله لا من قليل ولا من كثير، وأنا أهتم بهذه الكتب التي ذكرت ولا بد للإنسان أن يطالع ما يكتب، ويطالع الصحف، لكن ما أقصد أن يكون متخصصاً في فن الصحافة، يحفظه من أوله إلى آخره ويترك القرآن والحديث؛ لأنه طغى هذا الجانب على بعض الناس، وأنا ما قصدت هذا، لا بد من معرفة الواقع: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
والداعية إذا ما عرف الواقع أخطأ وأساء في تصرفه، أما كتب من ذكرت من سيد ومحمد، فأثابهم الله فقد أحسنوا كل الإحسان، وليسوا بمعصومين، وأعرف أنه لا يسلم عالم من خطأ أو زلل، وهم أرادوا الخير فيما ظهر لنا، وهذا ما نعتقده وندين الله به أنهم ما قصدوا إلا الخير وما قصدوا الإساءة للإسلام والمسلمين، وإن أتى خطأ فهم بشر، فعلى كل حال نرى أن يستفاد منهم، وأن يدعى لهم في ظهر الغيب، وأن ينبه على الخطأ الذي يوجد في كتبهم، حتى يكون الإنسان على بصيرة، ويكون طالب العلم على برهان.(330/30)
النعي وحكمه في الإسلام
في هذه المادة تعرض الشيخ لحديث نعي النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي، واستخرج منه عدة فوائد، وتطرق إلى بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بأحكام النعي والبكاء على الميت؛ كمثل حكم الصلاة على الميت في المسجد وفي المقبرة، وحكم الصلاة على الغائب، ومسائل أخرى.(331/1)
الحديث في نعي النجاشي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
لا زلنا في كتاب الجنائز من صحيح البخاري ولا زلنا نعيش مع البخاري وهو يثلج الصدور، ويشنف الآذان، ويعطر الأنفاس بتبويباته الشائقة، وبتدبيجاته الرائعة، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
يقول رحمه الله تعالى: باب الصفوف على الجنائز، أو بابٌ: الصفوف على الجنازة (على القطع) قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال حدثنا معمر، عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {نعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه النجاشي، ثم تقدم فصفوا خلفه فكبر أربعاً}.
هذا الحديث في كتاب الجنائز فيه مسائل:
الأولى: فائدة ترجمة البخاري.
الثانية: بعض رجال السند ولطائف الإسناد.
الثالثة: علم من أعلام النبوة في إخباره صلى الله عليه وسلم بموت النجاشي.
الرابع: حكم الصلاة على الميت في المسجد ويأتي هذا عرضاً.
الخامس: الصلاة على الغائب وفيه سبعة مذاهب لأهل العلم.
السادس: النعي وحكمه في الإسلام؛ محذوره وممدوحه، وجائزه ومكروهه.
السابع: البكاء وأقسامه.
الثامن: نختم بمسألة البكاء على الميت وهل يعذب بها، وفيها ستة مذاهب لأهل العلم، وعلى الطريق مناظرة بين ابن عمر أوردها البخاري وبين ابن عباس، وتشترك عائشة رضي الله عنها وأرضاها بحديث من المعصوم صلى الله عليه وسلم.(331/2)
تراجم رجال حديث نعي النجاشي
قال البخاري: باب (الصفوف على الجنائز) أو على الجنازة.(331/3)
ترجمة مسدد بن مسرهد
مسدد هذا مر معنا في مناسبات كثيرة وأكثركم يعرفه، أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء بسند فيه ما فيه أن اسم مسدد شيخ البخاري: مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن مرعبل.
يعني: أنه مولى، والاسم عجمي، قال الحافظ أبو نعيم الفضل بن دكين: هذا الاسم يضاف له بسم الله ويرقى بها الملدوغ من العقرب، وهو من الشيوخ الأجلاء للبخاري، بل البخاري من المكثرين عنه، وقال عنه في الصحيح: مسدد كاسمه -أي: أن الله سدده في حياته وفي روايته- وللاسم أثر على المسمى، والله عز وجل -كما أتى رسوله صلى الله عليه وسلم بتلك الشريعة- أمر أن يحسن الاسم، وكره صلى الله عليه وسلم المكروه من الأسماء.(331/4)
ترجمة يزيد بن زريع
يزيد بن زريع من الرواة المقلين، اي: من لم يرو عنهم مسدد إلا قليلاً.(331/5)
ترجمة معمر بن راشد
معمر بن راشد الصنعاني وهو شيخ عبد الرزاق قال عنه: أصبح معمر على لساني كالماء.(331/6)
ترجمة الزهري
الزهري هو: الإمام العلم محمد بن مسلم بن شهاب الزهري الحافظ شيخ مالك، والنجم إذا ذكر في الرواية فهو مالك.(331/7)
ترجمة سيد التابعين سعيد بن المسيب
قال: عن سعيد بن المسيب سيد التابعين، كما قال ابن كثير في البداية في ترجمته، والإمام أحمد كما روي عنه متوقف في سادات التابعين قال: هم ثلاثة: سعيد بن المسيب وأويس القرني، والحسن البصري.
وأتى بعض أهل العلم فقال: أما في العلم فـ سعيد، وأما في الرقائق والمواعظ فـ الحسن، وأما في الزهد فـ أويس القرني.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {نعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه النجاشي ثم تقدم فصفوا خلفه فكبر أربعاً}.(331/8)
فوائد من ترجمة البخاري للحديث
أما فائدة تبويب البخاري فظهر لأهل العلم فائدتان من هذا التبويب: (الصفوف على الجنازة) وهما:(331/9)
الإبهام من أجل لفت الأنظار
البخاري رحمه الله كما يقول الزين بن المنير: يبهم الإجابة على الأبواب لفائدة، ليترك الأنظار لأهل العلم لتتحرك ولتجيد السر في التبويب، وهذا من فقهه رحمه الله، أو لأن المسألة خلافية لم يتحقق رأي راجح له أو لغيره.
قال: الصفوف على الجنازة، أي فضلها وثوابها، أو ما ورد فيها، أو الآثار التي وردت في فضل الصفوف على الجنائز، أو ثَوابٌ ذَكَره صلى الله عليه وسلم للصفوف على الجنازة.
كل هذه محتملة من تبويب البخاري قال ابن حجر: يشير البخاري رحمه الله إلى قولٍ أثر عن عطاء [[أنه سئل هل نصف على الجنائز؟ قال: لا.
بل تستغفرون وتدعون له]] روى هذا الأثر عبد الرزاق في مصنفه، قال البخاري راداً عليه: الصفوف على الجنازة؛ وذلك لورود أحاديث تنص على أن الصفوف على الجنازة سنة.(331/10)
التنبيه على أن المسألة خلافية
والأمر الثاني: كأنه يشير إلى الحديث الذي ليس على شرطه من حديث مالك بن هبيرة مرفوعاً: {من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب} حسن هذا الحديث الترمذي، ورواه أبو داود وصححه الحاكم، ومعناه: وجبت له الجنة والحالة المسكوت عنها تعني: من المسلمين كما هو معروف.
وفي تصحيح الحاكم له نظر، فهو من رواية محمد بن إسحاق صاحب السيرة وهو مدلس، وقد عنعن في هذا السند عند الحاكم فكيف يصححه الحاكم، وتصحيحه ليس بجيد كما أشار بعض أهل العلم إلى ذلك؟!
فهذا تبويب البخاري ينص على المسألتين، وهناك أحاديث تغني عن هذا الحديث الذي أورده ابن حجر في الشرح وهو حديث جابر في صحيح البخاري: {فصفنا صلى الله عليه وسلم فكنت في الصف الثاني} وفي رواية {كنت في الصف الثالث} فدل على أنه صلى الله عليه وسلم صفهم صفوفاً.
وتوفي ابن لـ ابن عباس رضي الله عنهما في عسفان، فقال لـ عكرمة: ناد الناس، فلما ناداهم صفهم رضي الله عنه ثلاثة صفوف، فعلم أنه على أثر رضي الله عنه، وكأنه يعتضد بحديث مالك بن هبيرة في ثلاثة صفوف، فالأجر والمثوبة في تعداد الصفوف، وهو مقصود في الإسلام لهذا الحديث ولحديث جابر، ولأن فيه تكثيراً للصفوف وحكماً أخرى.
وهنا مسألة: هل الأفضل إذا كان الناس في صحراء أن يكونوا صفاً واحداً أم يتوزعوا صفوفاً؟
الذي يميل إليه أهل العلم من المحدثين وأورده ابن حجر أن الصفوف أولى ولو اتسع المكان للناس.(331/11)
من علامات النبوة الإخبار ببعض الغيبيات
العنصر الثالث: علم من أعلام النبوة في إخباره صلى الله عليه وسلم بموت النجاشي كما يأتي بيانه.(331/12)
الإخبار بموت النجاشي
كان عليه الصلاة والسلام في المدينة، والنجاشي في الحبشة، فلما توفي قال عليه الصلاة والسلام: {لقد توفي اليوم رجل صالح في الحبشة، فقوموا بنا لنصلي عليه} والحبشة كما تعلمون تبعد عن المدينة أميالاً كثيرة، ولا يخبر به صلى الله عليه وسلم إلا بإخبار الله من علم الغيب، فهو علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وهذه معجزة.(331/13)
موت زيد وجعفر وابن رواحة
وقد تكررت له صلى الله عليه وسلم هذه المعجزة في أكثر من مرة، فيخبر بموت أناس في نفس اليوم الذي ماتوا فيه، ففي الصحيحين عن أنس وابن عمر وعائشة قالا: {لما قتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة في معركة مؤتة، أخبر عليه الصلاة والسلام بهم في ذلك اليوم وهو بالمسجد، وكان يتكلم للناس، وجلى الله عز وجل له المكان فكان ينظر إلى المعركة ويحدث الناس عن المعركة حركة حركة وسكنة سكنة، فيقول: أخذ الراية الآن زيد فقتل، ثم انتحب صلى الله عليه وسلم قال: أخذها جعفر وقتل، ثم أخذها ابن رواحة فقتل، ثم جمع صلى الله عليه وسلم الناس وقام خطيباً على المنبر فحدثهم بقصة قتلهم في سبيل الله، ثم قال: رأيتهم عرضوا علي وقد أدخلوا إلى الجنة على أسرّة، وفي سرير عبد الله بن رواحة ازوراراً لأنه تلبث قليلاً} رضي الله عنه، وكان صائماً آنذاك وقد دنت الشمس إلى الغروب، وأراد أن يفطر بشيء لكي يتقوى به في المعركة فسمع الدعاء من أطراف الصفوف -لأنه الأمير الثالث- وقالوا: حي هلاً يـ ابن رواحة! خذ الراية فتلعثم لا يدري هل يأكل شيئاً ليتقوى به في سبيل الله أو يقدم على الموت، فأخذ عرقاً من لحم فلاكه فما وجد له طعماً لأنه يسمع السيوف تتكسر، والرماح تسقط على رءوس الأبطال، ويسمع الناس في غمغمة، وقد قتل القائدان المقدامان جعفر وزيد، فنزل -وكان شاعراً رضي الله عنه- وأخذ سيفه فسله وقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
ثم تقدم فأخذ الراية فقتل مع الغروب رضي الله عنه، وأما جعفر فإنه استمات في سبيل الله وقد تقدم بالراية وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها
طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
كافرة بعيدة أنسابها
علي إن لاقيتها ضرابها
فضربت يمينه حتى قطعت، فأخذ الراية بشماله فقطعت، فضم الراية إلى صدره بعضديه فكسرت الرماح في صدره فهوى شهيداً في سبيل الله، فأبدله الله جناحين يطير بهما في شجر الجنة من شجرة إلى شجرة في مقعد صدق عند مليك مقتدر: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
وأما زيد فكان قائدهم في أول المعركة فقتل رضي الله عنه، وهو من الشهداء الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، الشهداء منهم من كلمهم الله كفاحاً كما في الحديث الصحيح الذي استحسن سنده ابن كثير: {أن الله جمعهم فقال: تمنوا علي قالوا: نتمنى أن تعيدنا إلى الدنيا فنقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمنوا قالوا: نتمنى أن ترضى عنا فإنا قد رضينا عنك، فجعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر ترد الجنة فتشرب من مائها وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش حتى يرث الله الأرض ومن عليها}.(331/14)