قصة عبد الله بن المبارك
يقولون عن ابن المبارك وقد خرج من الحرم يريد الغزو في سبيل الله، وابن المبارك هذا رجل عجيب، هو زاهد وعابد ومحدث ومجاهد، وأنا اتلوا أخبارهم، ولو كنتم تعرفون ذلك، لكن قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:111] وأولئك آبائي، لكن نتلو أخبارهم علها تكون درساً للقلوب.
ابن المبارك يقولون عنه، أنه خرج في ذات يوم من خراسان للحج، وكان يسكن في مرو، فخرج بالقافلة، فلما وصل إلى الكوفة، ويريد بيت الله حاجاً، وإذا بامرأة خرجت من الكوفة، وأخذت غراباً ميتاً من مزبلة، فقال لمولاه: اذهب إلى هذه المرأة، واسألها لماذا أخَذَت الغراب الميت، فذهب إلى المرأة وسألها، قالت: والله ما في بيتنا قليل ولا كثير من قليل طعام، والله ما نأكل منذ ثلاثة أيام إلا ما يُلقى في هذه المزبلة من المَيْتَة، فعاد إلى ابن المبارك فأخبره فدمعت عينا ابن المبارك، فقال: نحن نأكل اللحم والفالوذج، وهم يأكلون الغربان الميتة، اصرفوا هذه القافلة بجميعها بحبوبها وزبيبها ولحمها وثيابها وجِمالها في أهل الكوفة، وعودوا لا حج لنا هذه السنة.
وعاد إلى خراسان ونام أول ليلة، فرأى قائلاً يقول في المنام: حج مبرور وسعي مشكور، وذنب مغفور، يقال لـ ابن المبارك: لماذا تخرج إلى الجهاد وتترك الحرم؟ قال:
بُغْضُ الحياة وخوفُ الله أخرجني وبيعُ نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
ومن شب على شيء شاب عليه، ومن عاش على شيء مات عليه، ومن قضى حياته في اللهو مات على اللهو.
يقول ابن القيم في كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: وكان هناك رجل مطبلاً ومغنياً ومزمراً -وبعض الناس حياته تطبيل وتزمير وعرضات ورقصات- لا يعرف من الذِّكْر شيئاً قالوا له: قل لا إله إلا الله، قال:
يا رب سائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب
فمات عليها.
ويقول ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين، قالوا لرجل من التجار، وكان هائماً بالتجارة، والتجارة ليست حراماً، لكن التجارة يوم أن تصد عن منهج الله، وعن الصلاة والاستقامة، والخوف من الله، ويوم أن توصل صاحبها إلى الربا والغش والخيانة والتكبر فلا حيَّاها الله، قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37] قالوا لتاجر: قل لا إله إلا الله، قال: "خمسة في ستة كم تصير" تصير إلى جهنم إذا لم تتق الله، أنت تصير برأسك إلى جهنم، إن لم تعد وتقل: لا إله إلا الله.
قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
حياة السلف كانت مع الله، وكانت أموالهم لله، وكان إنفاقهم وسعيهم وكدهم لله، صحيح كان من السلف تجار وأغنياء، لكن مالهم كان بأيدهم، ونحن أموالنا في قلوبنا، وقف عليه الصلاة والسلام على المنبر وقال: {من يجهز جيش تبوك وله الجنة؟ فسكت الناس.
قال: من يجهز جيش تبوك وله الجنة؟ فقام عثمان وقال: أنا يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم اغفر لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان، فإني عنه راض} حياة، ليس كـ التصوف الهندي، إن بعض الناس -الآن- يرى أن الدين كل الدين أن ينقطع عن الحياة وعن التجارة، والزراعة، والكسب، ويرى أن عكوفه في المسجد هي الحياة، لا.
الحياة أن تكسب ولكن في رضوانه، وتنفقها في رضوان الله، وفيما يقربك من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
يقول ابن كثير: دَخَلَت المدينة قافلة عددها سبعمائة جمل، محملة بالحبوب والزبيب، فكانت القافلة لـ عبد الرحمن بن عوف -أحد العشرة المبشرين بالجنة- فقال لتجار المدينة: [[من يشتري هذه القافلة؟ قالوا: نحن، قال: كم تعطونني في الدرهم، قالوا: نعطيك في الدرهم درهماً - أي: مضاعفاً - قال: وجدت من زادني، قالوا: نعطيك درهمين، قال: وجدت من زادني، قالوا: ثلاثة، قال: وجدتُ من زادني، قالوا: نحن تجار المدينة، ولم يزدك أحد، قال: وجدت الله زادني في الدرهم عشرة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، أشهدكم أنها في سبيل الله على فقراء المدينة، بزبيبها وحبها وثيابها وجِمالها في سبيل الله]] إنها الحياة يوم يعرفها الإنسان، فيتقرب بها إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ويجعلها طريقاً إلى الله.(292/8)
حفظ الأوقات وضياعها بين السلف والخلف
إن من المؤلم لقلوبنا ضياع أوقاتنا، وأعظم قضايا الساعة هي ضياع الأوقات، عند الكبار والصغار إلا من رحم ربك، نهب الأوقات {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ} تجد الإنسان صحيح الجسم فارغاً، ولكن لا ذِكْر ولا قرآن ولا عِلْم.
يَذكر الذهبي وابن كثير بأسانيد صحيحة: أن الإمام أحمد -إمام أهل السنة والجماعة - كان يصلي في اليوم والليلة من غير الفرائض ثلاثمائة ركعة.
يقول: كان ورد الإمام أحمد من غير الفرائض ثلاثمائة ركعة، يركعها لله.
وكان خالد بن معدان يسبح في اليوم مائة ألف تسبيحة، وذكروا عن غيرهم من الأئمة شيئاً عجباً، ومن أراد أن يطالع فليقرأ سير أعلام النبلاء، ليجد عبادة السلف، وليجد كيف أفنوا أعمارهم في طاعة الله، وكيف تقربوا إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
إن ضياع الأوقات معصية عصي الله بها في الأرض يوم لم يعرف قيمة الزمن؛ لأننا وجدنا الثقافة الغربية أتت إلى الجيل، وقالت: الحياة طفش وزهق، وكيف تقضي حياتك، ويومك، مثل ما يفعل دايل كارنيجي وأمثاله، يجعلون من اللهو هذا قضاء للحياة، وأن اللعب والتسلية والسباحة المفرطة، ومطاردة الحمام والدجاج، كلها تسلية للعبد، وكان أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام يقال للواحد منهم: مَن إمامك؟ فيقول: محمد، فيقال: ماذا تريد؟ فيقول: الجنة، فيقال: ما هي هوايتك؟ فيقول: الموت في سبيل الله، فيقال: أين بيتك؟ فيقول: المسجد.
{دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وترعى الشجر}.
في بعض الصحف المحلية، يُلْقُون مقابلة مع شباب في الثانية عشرة والثالثة عشرة، فيقولون له: ما هي هوايتك، فيقول: جمع الطوابع والمراسلة، وصيد الحمام.
جمع الطوابع: هل هذه هواية المسلم؟ هل هذه حياة من آمن بالله؟
المراسلة وجمع الطوابع وصيد الدجاج والأرانب: أهذه حياة من آمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً؟ لا.
هذه حياة كانت والديكارت، أذناب الشعوب أعداء البشر، الثيران الذين فهموا كل شيء إلا الإيمان، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] إذا علم هذا فإن مقصد الحياة حفظ الوقت.
الأمر الثاني: تجديد التوبة دائماً وأبداً، يقول ابن عباس فيما يُؤثر عنه: [[اصبحوا تائبين، واجلسوا تائبين، فإنكم لا تنفكون من ذنب]] أو كما قال.
وهذا حالنا، نروح ونغدو في الذنوب والخطايا، ولكن باب التوبة مفتوح، ينادينا الله سبحانه: يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم.
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا واغفر أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
وجد بين الأجيال من بلغ الأربعين وهو لا يعرف المسجد، ومنهم من ألغى صلاة الجماعة من حياته، ومنهم من ألغى صلاة الفجر من برنامجه اليومي، هؤلاء ماذا يقولون في سكرات الموت؟!
الأعمش سليمان بن مهران، راوي الصحيحين، الجهبذ العلامة شيخ الإسلام، لما حضرته الوفاة بكت ابنته، فقال لها: [[ابكي أو لا تبكي فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام في الجماعة خمسين سنة]].
وسعيد بن المسيب في سكرات الموت يقول: [[والله ما أذن المؤذن من أربعين سنة، إلا وأنا في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام]].
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
لكن الحياة لما مالت عن منهج لا إله إلا الله، وعن تربية الكتاب والسنة، لأن بعض المقررات الدراسية درسناها ودرسها زملاؤنا كأنه في الرابع الابتدائي أو الخامس، درسنا (طه والطبلة) بدل أن يدرسونا {طه} {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2] كان للطلبة طبلةٌ يُضرَب عليها، فحفظنا هذه فخرجت علوماً باردة ليس فيها تأثير ولا حرارة ولا نور، فأخرج الجيل صلاة الجماعة من حياته، وتخرج الجيل من الثانوية والجامعة ومهمته الوظيفة والسيارة والزوجة، وهل سمعت برجل يقول: أًريد الشهادة في سبيل الله؟ يقول أنس بن النضر رضي الله عنه في يوم أحد: [[إليك عني يا سعد بن معاذ! والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة من دون أحد]] فقاتل حتى قتل، ويأتي جعفر الطيار، ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام يوم مؤتة فيتناول السيف فيقاتل به، فيقطعون يمينه، وتتعلق يده اليمنى بجلدة من جلده فيضعها بين رجليه ويتحامل عليها حتى يقطعها، ثم يأخذ السيف باليسرى فيقطعونها، فيضم الراية على صدره، وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
علي إن لاقيتها ضرابها(292/9)
أحوالنا مع حقوق الجار
مَن الذي صرف الناس عن المسجد؟ من الذي جعل قضايا الناس دنيا؟ اهتمامات جانبية، وجدال يصل إلى السماء، والجار لا يسلم على جاره، حتى أهل قرى، الجار لا يعرف ما يقع لجيرانه ولا يسأل عنهم، بل لا يسلم على جاره ولا يسلم على أخيه من أجل قطعة أرض {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] هناك من لا يعرفون المواعظ، وخطبة الجمعة تمر عليه مر الرياح، ولا يستفيد منها، لأنه قطع رحمه، فأصم الله سمعه، وأعمى بصره، وأصبح قلبه مغلفاً، قطيعة الرحم هذه كادت السماء أن تتشقق منها، قطيعة الرحم ذنب من أكبر الذنوب وهو أكبر ما ابتليت به القرى والقبائل، بل يوجد في بعض القبائل أن من دساتيرهم الأرضية الطاغوتية حرمان المرأة من ميراثها، ويعدون المرأة إذا طلبت الميراث أنها تعدت على سلوم القبائل فيلومونها، وبعضهم حلف على ميراث قريبته وأخته يميناً فاجراً وسلبه.
بل قد تجد البعض يسبحون ويصلون ويعتمرون، لكن الواحد منهم يبغض جاره أكثر من بغضه لليهود والنصارى، ويتمنى موتهم صباح مساء، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم} ما معنى أفشوا السلام بينكم؟ هل يعني سلام والقلب يغلي، ونحن نتقلب على فرشنا ونتمنى الموت لجيراننا وقبائلنا؟! أين الإيمان؟! أين أثر لا إله إلا الله؟! أين أثر رسالة محمد عليه الصلاة والسلام؟! يقول الله لرسوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ويقول له سُبحَانَهُ وَتَعَالى يمدحه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ويقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]
يدخل عليه الصلاة والسلام يوم الفتح، ومع أن كفار مكة أخرجوه من داره، وضربوا بناته، وقاتلوه في أكثر من عشرين معركة، وسلبوا عقاره حتى بقية الدور باعوها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل ترك لنا عقيل من دار، فيدخل صلى الله عليه وسلم، ويأخذ بحلق باب الكعبة منتصراً.
وعنده جيش جرار قوامه عشرة آلاف مقاتل مدرعين بالسيوف، ويقف أعداؤه أمامه، فيقول: {ما ترون أني فاعل بكم، يقولون: أخٌ كريم وابنُ أخٍ كريم - الآن أصبح أخاً كريماً، أنسيتم الصحائف السوداء، الذبح والسفك والهجاء - فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء} عفا الله عنكم، اسمع يا تاريخ!
اسمع يا دهر! فكان جزاؤه أن قام أبو سفيان يبكي ويقول: لا إله إلا الله ما أرحمك! ولا إله إلا الله ما أحلمك! ولا إله إلا الله ما أبرك! فقال الله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
ويُروَى عنه صلى الله عليه وسلم في أثر أنه قال: {إن الله أمرني أن أصل من قطعني، وأن أعفو عمن ظلمني، وأن أعطي من حرمني} هذا محمد عليه الصلاة والسلام، الرجل الذي عرف معنى الحياة فعاشها، أما هذه البغضاء التي طغت على قلوبنا، وأفسدت علينا الطاعات والنوافل، فنشكو حالنا إلى الله، ولن تنفع القربات حتى نزيل الضغينة والحقد والبغضاء من قلوبنا.(292/10)
الألفة والتآخي بين المسلمين
في الحديث الصحيح: {كان عليه الصلاة والسلام جالساً مع أصحابه في المسجد، فقال: يخرج عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة، فخرج رجل حذاؤه في يده اليسرى، ولحيته تتقاطر بالماء، فصلى ركعتين، وفي اليوم الثاني أخبر به صلى الله عليه وسلم، وهكذا في اليوم الثالث، فذهب معه صحابي وقال: أريد أن أبيت معك هذه الليلة، فبات معه، فوجد صلاته كصلاة الناس، وعبادته كعبادة الناس، وذكره كذكر الناس، فبعد ليلتين قال: ما أردت إلا أن أرى عملك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنك من أهل الجنة، فماذا كنت تعمل؟ قال: ما أنا بكثير صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكن والله ما نمت ليلة من الليالي وفي قلبي غش أو غل أو حقد على أحد} هي القلوب التي وعت لا إله إلا الله فصلحت.
في الأعياد نرى كثيراً من القرى لا يزور بعضهم بعضاً بسبب قطعة من الأرض، أو بسبب مجرى ماء، أو بسبب طريق أو شجرة، أو مبلغ زهيد من المال؛ لأن (لا إله إلا الله) لم تتمكن من القلوب، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103]
إن من أعظم إبداعاته في الرسالة ومن روعته في منهجه، يوم أتى بتأليف القلوب في الأرض، الله تعالى يقول: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] يقول أحد المفكرين العصريين -وهو معروف صاحب تاريخ رجال من التاريخ - يقول: نحن العرب مثل قرون الثوم، إذا كشفت القرن ظهر لك قرن آخر، والناس في القرى والقبائل -عموماً- كل يريد الزعامة على الآخر، وكل يريد أن يكون له الحق والتقدمة، وعندما أتى صلى الله عليه وسلم، لم يكن للعرب مُلْك ولا رئاسة ولا إمبراطورية، كلهم فوضى، فأتى بالبسمة الحانية، وبالمعانقة، والبشاشة، وبالقول اللين حتى جمعهم، قال الله عنهم: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] يقول أبو تمام:
إن يختلف ماء الغمام فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دينٌ أقمناه مقام الوالد
هذا الدين أتى بـ بلال من الحبشة وهو عبد رقيق، فأدخله في الإسلام فيصبح سيداً من السادات، وأبو جهل كان يَعُدُّ بلالاً لا يساوي فلسين، وكأنه مثل الدابة تماماً، فلما أسلم بلال أصبح سيداً من السادات، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {دخلت الجنة البارحة فسمعت دف نعليك يا بلال! فماذا كنت تصنع؟ قال: ما توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت ركعتين} هنيئاً لـ بلال الجنة!
يقول ابن القيم في كتاب مدارج السالكين، قيل لـ سلمان الفارسي: [[مَن أبوك يا سلمان؟ قال: أبي الإسلام.
قيل: ومَن هو إمامك؟ قال: محمد.
قيل: وما هو بيتك؟ قال: المسجد.
قيل: وما هي عصاك؟ قال: التوكل.
قيل: وما هو زادك؟ قال: الزهد]].
{دعها فإن معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر، حتى يلقاها ربُّها} سلمان الفارسي كان فارسياً، لكن رفعه الله بالتوحيد والإيمان، جلس مع أسر عربية تفتخر بالقبائل، وهذا من عيوبنا أن نقدس الناس بحسب أعراقهم وأنسابهم، لا على حساب الدين، والله يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] ونحن نقول: أكرمنا فلان بن فلان، ويتمادح كثير من الناس في المجالس، بأنه ذبح أنفساً معصومة، والله عز وجل قد ذكر ذنب قتل النفس، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل امرئٍ مسلم، لكبهم الله في النار على وجوههم} وصحح مثل هذا الألباني وغيره وقال: {ولزوال الدنيا بأسرها أهون عند الله من قتل امرئٍ مسلم} لأن بعضهم يقول: قتلت عشرة، وبعضهم قتل عشرين ويخبر بدستوره الأسود في الجاهلية، ولو أنه تاب واستغفر؛ لكان خيراً له عند الله عز وجل، قيل لـ سلمان: من أبوك؟ قال:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
أبي الإسلام، أنا عشت لهذا الدين , وأموت لهذا الدين، وهذه حياة المؤمن التي يريدها الله عز وجل، أما هذه البغضاء الحالقة، كما يقول عليه الصلاة والسلام: {لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين} وفساد ذات البين من أشر ما يمكن، وهو الذي يهدم الجماعات، ويشتت الأسر، ويقطع البركة، ولعل من يتدبر القرآن ويسأل الله الثبات يهديه سواء السبيل، قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].(292/11)
صور من حياة السلف في الأخوَّة
يقول ابن كثير وغيره: كان لـ عبد الله بن الزبير مزرعة في المدينة، ابن حواري الرسول عليه الصلاة والسلام، وبجانب المزرعة مزرعة لـ معاوية، وهو خليفة في الشام في دمشق، فأتى عمال معاوية فدخلوا في مزرعة ابن الزبير فغضب ابن الزبير - وبينه وبين معاوية شيء مِن قبل! لكن أتت هذه وفتحت باله - فلما دخل عمال معاوية في مزرعة ابن الزبير كتب ابن الزبير رسالة حارة ساخنة لـ معاوية، يقول فيها: يا بن آكلة الأكباد، إما أن تمنع عمالك من دخول مزرعتي وإلا سوف يكون لي ولك شأن - ابن الزبير واحد من الرعية رَدَّ على الراعي، والراعي سلطان وخليفة، فأخذ معاوية الرسالة - وكان من أحلم الناس - فقرأها، وقال لابنه يزيد: يا يزيد! ما رأيك في هذه الرسالة؟ - ماذا ترى أن الجواب؟ - قال: أرى أن ترسل جيشاً أوله في المدينة وآخره عندك يأتون برأسه - وكان معاوية يستطيع أن يفعل ذلك، ولكنه فعل خيراً من ذلك زكاة وأقرب رحماً - فكتب رسالة يقول فيها: يا ابن حواري الرسول عليه الصلاة والسلام، ويـ ابن ذات النطاقين، السلام عليك، أمَّا بَعْد: فلو كانت الدنيا بيني وبينك لهانت، إذا أتتك رسالتي هذه، فخذ عمالي إلى عمالك، ومزرعتي إلى مزرعتك.
فأتت الرسالة إلى ابن الزبير فبكى حتى بل الرسالة بالدموع، وذهب وقبَّل رأس معاوية فقال: لا أعدمك الله رأياً أحلك في قريش هذا المحل.
حياة السلف كانت على القرآن ولكننا نتنازل في كل شيء إلا مع أقاربنا وأرحامنا وأصهارنا وجماعتنا.
أسد عليَّ وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
ومن معاني الحياة التي أتى بها عليه الصلاة والسلام: أن حياة العبد محسوبة عليه، وعند الترمذي بسند صحيح: {لا تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: وذَكَرَ: وعن عمره فيم أبلاه}.
الدقائق والثواني أين صرفتَها؟ أين ذهبتَ بها؟ ماذا فعلت يوم كذا وكذا؟ قال تعالى: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] فنسأل الله لنا ولكم الثبات، وأن يجعل حياتنا في مرضاته.(292/12)
عاقبة المعاصي
أيها الناس: ومما أفنى حياتنا، ونحن نعيشها - ولعلها خفت -: مسألة التهالك في الطرب، والإسراف في اللغو واللعب على حساب الدين، بل بعضهم يحفظ من القصائد مائة قصيدة أو أكثر، ولكنه لا يحفظ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ويعيش معها ويكررها، وأنا أقول: تناشد الشعر ليس حراماً، فالرسول عليه الصلاة والسلام تناشد الشعر واجتمع، وكان الصحابة يتناشدون؛ لكن قضاء المجالس والتجمعات في طرب ولهو وغفلة وإعراض عن منهج الله، فإنه لمنذر بقسوة القلوب، ونسيان علام الغيوب، وكثرة الذنوب، وإن هذا لعلامة اللهو واللغو.
مر الحسن البصري بشباب يرقصون يوم العيد، قال: [[إن كنتم مقبولين فما هذا عمل الشاكرين، وإن كنتم مطرودين، فما هذه توبة المحرومين]] ومعنى كلامه، أي: إن كنتم قبلكم الله، فلماذا لا تشكرون الله، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] وإن كنتم مطرودين فلماذا لا تبكون على خطاياكم، فنحن أحد رجلين، إما رضي عنا وأصلحنا فالواجب أن نزيد من شكره سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وإما أننا أناس غضب الله علينا وخذلنا، فالواجب أن نبكي على خطايانا.
قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] والبلدان التي حولنا، كانت أنعم منا وأرغد وأسعد، لكن كفرت بمنهج الله، كانت المرأة عندهم تخرج كالسلع، تسام في الفنادق والحوانيت، وفي الليالي الحمراء، وكان الخمر يباع عندهم مثل ما يباع الماء ولا يزال، لا قرآن ولا سنة، يقول شاعر بعض البلدان المجاورة يوم مهرجانهم:
هبوالي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين بُرْهُمِ
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ
ويصفقون له، ويحملونه على الأكتاف، فأراهم الله ما هي جهنم، وأيقظهم الله على أصوات الصواريخ، ودكدك منازلهم بأصوات المدافع {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].(292/13)
عاقبة الكفر بالنعم
يقول سيد قطب في في ظلال القرآن يتحدث عن سورة سبأ، وينتقل بنا القرآن إلى قرية نائمة من قرى اليمن إلى سبأ، هذه قرية سبأ قرية رغيدة، مثل هذه المنطقة الجنوبية، هواء طلق، وماء عذب، وأطيار تزغرد، وحدائق غنَّاء، وبساتين وارفة، ونعمة من كل ما سألنا الله أعطانا، ونعمة الجو نعمة لا تُنْكَر، يقول الله لبني إسرائيل {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} [الأعراف:160] يمتن الله عليهم ويقول جوهم طيب، درجة الحرارة عندهم معتدلة، يقول: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} [الأعراف:160] يقول الله عن تلك القرية الآثمة، قرية سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] أسلوب القرآن بديع، يقول بعضهم: " يا ليت الناس يذوقون ما أذوق - وأظنه سيد قطب يقول في سورة الرعد - ليتهم يفهمون ما أفهم من هذا الأسلوب البديع، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] يذكر في التفسير: أن كل رجل من سبأ كان عنده بستانان، عن يمين بيته وعن يساره، العذق الواحد لا يحمله إلا فرسان، يقولون: كانت تذهب المرأة بالمكتل على رأسها، فيمتلئ من كثرة ما يتساقط من الثمار والشجر، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] اسمع الأسلوب: {فَأَعْرَضُوا} [سبأ:16] كيف أعرضوا؟ يقولون: أدمج سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وعمم وأطلق الإعراض ولم يفصل؛ لأن إعراضهم أكبر من أن يُتَحَدَّث عنه، أعرضوا عن طاعة الله، أعرضوا عن تحكيم شرع الله، أعرضوا عن قبول الهداية، صموا وعموا: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:16 - 17].
وقد ورد من حديث أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {كان فيمن كان قبلكم ثلاثة، أقرع وأبرص وأعمى، أراد الله أن يمتحنهم وأن يبتليهم، فأرسل الله إليهم ملكاً من الملائكة، فأتى الأقرع، قال: ماذا تريد؟
قال: أريد شَعَراً جميلاً فقد قذَّرني الناس، فسأل الله أن يمنحه شعراً جميلاً فأنبت الله الشعر على رأسه.
قال: ماذا تريد من المال؟
قال: قال الإبل - الرجل مغرمٌ وعاشق للإبل - فسأل الله له، فرزقه ناقة عشراء فولدت حتى ملأت وادياً.
ثم ذهب إلى الأبرص، وقال: ماذا تريد؟
قال: جلداً حسناً، ولوناً جميلاً فقد قذَّرني الناس.
قال: اللهم رد عليه لونه وجلده، قال: ماذا تريد من المال؟
قال: البقر.
قال: اللهم ارزقه بقرة، فرزقه الله بقرة حاملةً، فوضعت فملأت وادياً من الأبقار.
وذهب إلى الأعمى، قال: ماذا تريد؟
قال: أن يرد الله عليَّ بصري.
قال: اللهم رد عليه بصره.
قال: ماذا تريد من المال؟ قال: الغنم.
فرزقه الله شاة حتى ملأت وادياً.
ثم أتى المَلَك في صورة مسكين -امتحان من الله- عليه ثياب رثة، وفي حالة بائسة، فوقف أمام الأقرع -الأول- فقال: أنا رجل مسكين انقطعت بي السبل ولا معين لي إلا الله، ما تعطيني هذا اليوم، أسألك بالذي رد عليك شَعَرك والذي منحك هذا المال، أن تعطيني هذا اليوم.
قال: الحقوق كثيرة، والمال مالي، وورثته كابراً عن كابر.
قال: كأني بك كنت أقرعاً وفقيراً.
قال: لا.
لم أكن أقرعاً ولا فقيراً.
قال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت، فصيره الله إلى ما كان.
ثم ذهب إلى الأبرص.
قال: لا.
المال مالي ورثته أباً عن جد والحقوق كثيرة.
قال: كأني بك كنت أبرصاً وفقيراً.
قال: لا.
لم أكن أبرصاً ولا فقيراً.
قال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت، فصيره الله إلى ما كان.
ثم ذهب إلى من كان أعمى فسأله، قال: أما أنا فقد كنت أعمى فرد الله عليَّ بصري وكنت فقيراً فأغناني الله، أما اليوم فوالله لا أشكرك على شيء تركته، خذ ما أردت واترك ما أردت، المال مال الله.
قال: أنا رسول الله أخبرك أن الله رضي عليك، وسخط على صاحبيك}.
وهذا شكر النعم.
أسأل الله لي ولكم الثبات والسلامة والهداية والرشد، وأسأل الله أن يصلح منا الظاهر والباطن، وأن يصلح ولاة أمورنا، وأن يوفقهم، ويهديهم سواء السبيل، وأن يرزقهم البطانة الصالحة الناصحة، التي تدلهم على الخير، وتخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، وأسال الله لنا ولكم الستر في الدنيا والآخرة، والعون والسداد، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(292/14)
التوحيد أولاً!
من أجل كلمة التوحيد أنزلت الكتب، ومن أجلها أرسلت الرسل، ومن أجلها نصبت الموازين، ومن أجلها خلقت الجنة والنار.
وفي هذه المادة بيان لأهميتها، وآثارها، ونواقفضها، ومقتضياتها(293/1)
أهمية التوحيد(293/2)
التوحيد هو أول ما يدعى إليه
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض، جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالتوحيد، فهدى به الله البشرية، وأنار به أفكار الإنسانية، وزلزل به كيان الوثنية، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
سلام الله عليكم سلاماً لا ينقطع إلا بانقطاع دمع العين، ولا ينتهي إلا بانتهاء النفس بعد شكر الله، أشكركم شكراً جزيلاً، لأنكم أهل الأصالة والطموح، أما الأصالة، فإن منطقتكم وبلادكم هذه كانت وما زالت مصدر إشعاع، وهي رصيد للإسلام، وهي قوة لهذا التوحيد الذي بعث به محمد عليه الصلاة والسلام، أنتم الذين كنتم ولا زلتم ترسلون الدعاة للدنيا ليعلموا الناس ويفقهوهم ويخرجوهم من الظلمات إلى النور، فهي أصالة عريقة، ولا غرو أن ينشأ الابن على ما نشأ عليه أبوه.
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه وتغرس إلا في مغارسها النخل
وأما طموحكم فحضوركم هذا ينبئ عن غيرة لدين الله، وحب لـ" لا إله إلا الله " واتباع لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
أهل الفن يجتمعون على فنهم، وأهل الطرب يجتمعون على طربهم، وأهل اللغو واللهو يجتمعون على لغوهم ولهوهم، وأنتم جئتم هنا لتقولوا: البقاء لـ" لا إله إلا الله " والعزة لـ" لا إله إلا الله " والأصالة والطموح لـ" لا إله إلا الله " وأشكر كل من ساهم في إحياء هذا اللقاء المليء بالآباء وبالإخوة والمحبين, وعنوان هذه المحاضرة "التوحيد أولاً".
قبل أن نبدأ في أمورنا، وأعمالنا وعباداتنا ومعاملاتنا، التوحيد أولاً.
قبل أن نتكلم مع الناس، ونفقه الناس، التوحيد أولاً.
منهج الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام هو التوحيد، كل نبي وكل رسول يقول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]
بعث محمد عليه الصلاة والسلام من الأرض الجرداء المرداء السوداء، فقال الله له: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:9] فقبل أن تدعو الناس، اعلم أنه لا إله إلا الله، وقبل أن تفهم الناس، وتجاهد وتأدب الناس، فاعلم أن لا إله إلا الله.
وعند أحمد في كتاب الزهد بسند جيد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {يقول الله تبارك وتعالى: عجباً لك يا ابن آدم، خلقتك وتعبد غيري، ورزقتك وتشكر سواي، أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي، خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد.
فلا إله إلا الله ما أضل الإنسان! وأجهله! وما أعمى الإنسان يوم يعرض عن توحيد الواحد الديان! يقول سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]
فالتوحيد أولاً إخلاصاً، واعتقاداً، وتوجهاً، وعملاً وحياةً قبل أن نبدأ في أمورنا، وقبل أن نتناول أعمالنا، هذه رسالتنا في الحياة.
وقد ورد عند الإمام أحمد في كتابه المسند في باب الإيمان بسند صحيح عن أبي بن كعب قال: {جاء المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: انسب لنا ربك، فأنزل الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]}.(293/3)
حال الأمة مع التوحيد
وقبل التوحيد، وقبل لا إله إلا الله، كنا أمة عربية مبعثرة جاهلة عمياء؛ تطوف بالصنم , وتسجد للوثن، وتشرب الخمر، وتنهب وتسلب، لا حضارة، ولا طموح، ولا ثقافة، ولا عرفان، فلما بعث الله فينا محمد عليه الصلاة والسلام رفع رءوسنا بين الرءوس، وشرح صدورنا بلا إله إلا الله، وبنى لنا منارة من الحضارة:
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
هذا الرجل العظيم عليه الصلاة والسلام الذي سكن بيت الطين، وما شبع من خبز الشعير ثلاثة أيام متواليات؛ فتح بجيوشه الدنيا.
الأعراب الذين كانوا يشركون ويخونون ويكذبون، لما كتب في قلوبهم رب العزة لا إله إلا الله، خرجوا بالسيوف من الجزيرة، فصلوا على ضفاف دجلة، وسجدوا على ضفاف النيل والفرات، وسبحوا بحمد الله في أسبانيا، وسمرقند وطاشقند والهند والسند بماذا؟
بلا إله إلا الله، بالتوحيد الخالص، وهذه هي العقيدة التي يوم وهنت في قلوبنا وضعفت ومرضت؛ هزمنا أمام العالم.
يا مجد يا كنز أحلامي ومروحتي أشكو العروبة أم أشكو لك العربا
أدمت سياط حزيران ظهورهم فقبلوها وباسوا كف من ضربا
وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا
لكن لك الحمد يا رب! عاد شيخونا، وعاد شبابنا، وعاد جيلنا إلى الله مرة ثانية، عادوا يكتبون لا إله إلا الله في قلوبهم، جربوا الأغنية، وقرءوا المجلة الخليعة، وطالعوا الفيديو المهدم، وسافروا، وبحثوا عن السعادة، فلم يجدوها إلا في لا إله إلا الله.
إذاً أول الطريق: التوحيد، وهو الذي يثبتك في الأزمات، وهو عنوان السعادة في الدنيا والآخرة، وهو كفارة السيئات , وهذه البلاد لا تصلح إلا بالتوحيد، ومنذ أن جاء المجدد العظيم محمد بن عبد الوهاب رحمه الله واستفاقت هذه الجزيرة على لا إله إلا الله، وهي تزداد من حُسْنٍ إلى أحسن، ومن أصالة إلى أصالة، ومن مجد إلى مجد.(293/4)
التوحيد سر من أسرار الله في القلوب
المسألة الثانية: إن التوحيد هو سر من أسرار الله أنزله في القلوب، التوحيد ليس علوماً تقال في الأذهان، أنا أعرف رجلاً عامياً يحفظ الفاتحة وسوراً صغيرة، لكن التوحيد في قلبه أرسخ من الجبل، جاء ابنه -وابنه يدرس في المتوسطة- وعنده الكتاب المقرر في التوحيد، مكتوب فيه" الدليل على وجود الله" الأب لا يستطيع أن يتفاهم مع هذه القضايا، وجود الله مثل وجوده هو، أو أعظم، أو وجود الجبل أمام عينيه، فيقول لابنه: ما هذا الكلام؟ قال: هذا الكلام يقول الدليل على وجود الله، قال: هذا كلام الكفار، الله لا يحتاج إلى تدليل على وجوده، لا تقل هذا الكلام
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فيا عجباً كيف يُعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
قيل للإمام أحمد إمام أهل السنة رحمه الله ما هو التوكل! قال: التوكل مثل توكل إبراهيم عليه السلام.
وتوكل إبراهيم أن جعله النمرود بن كنعان في المنجنيق، ورمى به إلى نارٍ أوقدها، فلما أصبح إبراهيم عليه السلام في الجو، واقترب من النار، جاءه جبريل عليه السلام، فقال: يا إبراهيم! ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم، فلما اقترب من النار، قال إبراهيم: حسبنا الله ونعم الوكيل، فجعلها الله برداً وسلاماً عليه.
قال ابن عباس معلقاً كما في صحيح البخاري: [حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم، فجعل الله له النار برداً وسلاماً، وقالها محمد عليه الصلاة والسلام يوم قيل له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174]]](293/5)
تصحيح لا إله إلا الله
ولا يزال بعض الناس يصلي، ويصوم ويحج، ويعتمر، ولكنه مشرك حقيقة، كيف يكون مشركاً؟ يتعلق قلبه بغير الله في النفع والضر، والعافية والشفاء من المرض، وغيرها من الأسباب، يقول عليه الصلاة والسلام كما صح عنه: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه، فقد كفر بما أنزل على محمد} ويقول عليه الصلاة والسلام: {من أتى عرافاً، أو كاهناً، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً} ليبقى الشافي الله، والمعافي الواحد الأحد، والنافع الله، والضار الله.
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
وقل للنحل يا طير البوادي ما الذي بالشهد قد حلاكا
فسبحان الله! آياته في الكون، في الزهر، في الماء، في السماء، في الهواء، في الإنسان، في كل شيء، هذه من أسرار التوحيد، لكن المشركين قالوا: لا.
{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] كيف يجمع سبعة آلهة في إله واحد؟!
أين تذهب اللات والعزى؟!
وأين تذهب مناة؟!
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19].
جاء حصين بن عبيد، جاهلي مشرك، قبل أن يسلم، فقال له عليه الصلاة والسلام، والحديث عند أبي داود في السنن: {كم تعبد يا حصين؟! قال: أعبد سبعة، قال: أين هم؟! قال: ستة في الأرض، وواحد في السماء.
هم يشهدون أن الذي خلق السماوات والأرض الله، والذي أجرى الهواء الله، والذي سير الماء الله، لكن يقولون: لا بد من الآلهة، هذا الإله يستشفون به، وهذا لقضاء الحاجات، وهذا للأسفار وهكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {من لرغبك ولرهبك قال: الذي في السماء، قال: فاترك التي في الأرض، واعبد الذي في السماء، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله}
هذا هو التوحيد، والتوحيد معناه: أن تعيش به في حياتك مراقبة لله، لأن بعض المرجئة يقولون: يكفي أن تقول: لا إله إلا الله، انظر بوش، وريجان، وبيجن، وأعداء الله، يقولون: لا إله إلا الله، لكنها على اللسان كذباً وزوراً، بعض الناس يقول: لا إله إلا الله، ولكن لا يعرف المسجد، والقرآن، ولا يغضب لدين الله، ولا يحب أولياء الله، ولا يتبع رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول: لا إله إلا الله، لكن ليله سهرة حمراء، وقرآنه الأغنية، وأتباعه الشياطين والمردة والفسقة، وعداؤه متأصل لأولياء الله وأحباب الله، يقول: لا إله إلا الله، ولكن لا يعرف من سيرته عليه الصلاة والسلام شيئاً، لا قليلاً ولا كثيراً، يقول: لا إله إلا الله، وهو معجب بأعداء الله، وبالمناوئين لشرع الله.
يا مدَّعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهويناً
خذها جميعاً تجد فوزاً تفوز به أو فاطرحها وخذ رجس الشياطينا
نقول: لا إله إلا الله، لكن لو صدقنا في لا إله إلا الله ما تخلفنا عن الصلوات الخمس جماعة، لأن مفهوم لا إله إلا الله: أن تقوم إلى الصلاة يوم تسمع: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ولو صدقنا في لا إله إلا الله ما تعاملنا بالربا، ولا لبسنا من الربا ولا شربنا، ولو صدقنا في لا إله إلا الله، ما جعلنا مجالسنا للأغنيات الماجنات، وللفسق والانحراف عن منهج الله.
إذن نحتاج إلى تصحيح لا إله إلا الله، ويوم نصدق في لا إله إلا الله لا نخاف إلا من الله.(293/6)
أثر لا إله إلا الله في التوكل على الله
يدخل عليه الصلاة والسلام -والقصة عند ابن اسحاق وابن هشام في السيرة - في غار ثور فاراً من المشركين، طاردوه بالسيوف، والرماح يريدون اغتياله، فدخل في الغار معه أبو بكر {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] فطوق المشركون الغار، وأرادوا دخول الغار، فأرسل الله عز وجل العنكبوت، فنسجت بيتها، وأرسل الحمامة، فبنت عشها على فم الغار، فأتى شباب مكة يريدون دخول الغار، وإذا العش والبيت في فم الغار، قالوا: لم يدخل محمد الغار:
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم
فصعدوا على ظهر الغار، وأخذوا ينظرون إلى داخل الغار، وأبو بكر يرتجف، ولكن الموحد الكبير أستاذ العقيدة وشيخ التوحيد محمد عليه الصلاة والسلام، الذي أتى بلا إله إلا الله بجانبه كالجبل، قال أبو بكر: يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى موطئ قدميه لرآنا، فقال عليه الصلاة والسلام وهو يتبسم: لا تحزن إن الله معنا.
هذا هو التوحيد، لا تحزن إن الله معنا، ومن كان الله معه، فمن يخاف، ولماذا يخاف؟ ومن يرهب؟ ولماذا يرهب؟ لأن مدده وسنده.
يقولون كما يذكر الذهبي وغيره: حضر خالد بن الوليد معركة اليرموك، كان جيش خالد ثلاثين ألفاً، وجيش الروم أكثر من مائتي ألف.
يوم قاتلنا بلا إله إلا الله، لم نغلب الناس بالجيوش ولا بالعتاد، لكن غلبناهم بالتوحيد، يقول محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عامي موحد يغلب ألف مخلط.
فحضر خالد بن الوليد، فخرج الروم كتائب كالجبال، قال أحد المسلمين: يا أبا سليمان يا خالد! ما أكثر الروم وما أقلنا! قال خالد: لا.
والله ما أكثرنا وما أقل الروم! قال: يا أبا سليمان، نفر اليوم إلى جبل سلمى وجبل آجا - يعني في حائل - قال خالد: لا والله، إلى الله الملتجأ، حسبنا الله ونعم الوكيل، فقاتل خالد، فنصره الله نصراً مؤزراً {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].
أتى عليه الصلاة والسلام، فعلم الصحابة التوحيد تعليماً عملياً، طبقها في حياتهم، علمهم أن الله معهم، علمهم أن الله يراقبهم، علمهم أن الله يطلع على أسرارهم، يبيع الواحد في السوق سمنه وعسله وبضاعته فيراقب الله، يسافر أحدهم والله معه بعلمه، يتكلم أحدهم أو يخاصم أو يدعي والله نصب عينيه كما قال صلى الله عليه وسلم: {اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك}.
هذا هو التوحيد، يقول أبو بكر، كما ذكر عنه الإمام أحمد في ترجمته في كتاب الزهد: [يا أيها الناس، استحيوا من الله حق الحياء، فوالذي نفسي بيده إني لأخرج لقضاء حاجتي، فأضع ثوبي على وجهي حياءً من ربي]] هذا أبو بكر لأنه أصبح في منزلة الإحسان، أو درجة الإحسان العظمى: {اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تره؛ فإنه يراك}.
وعلمهم عليه الصلاة والسلام أن الله معهم بعلمه كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] بعلمه {وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:7] بعلمه سبحانه.
يقول أهل السير بأسانيد صحيحة: جلس عمير بن وهب - جاهلي من كفار مكة جلس تحت ميزاب الكعبة مع صفوان بن أمية، فقال عمير بن وهب: يا صفوان، أما ترى ماذا فعل بنا محمد، يعني في معركة بدر، قتل آباءنا وإخواننا، وأرحامنا، يا ليت لي من يكفيني بأهلي ومالي، وأذهب إليه، فأقتله في المدينة، قال صفوان: أنا أكفيك مالك وأهلك، واذهب إليه، فاقتله، فسم عمير بن وهب سيفه بالسم شهراً كاملاً، حتى أصبح السيف أزرق، ثم ذهب يمشي في الليل، وينام في النهار، حتى وصل إلى المدينة، ليقتل محمد عليه الصلاة والسلام.
يقول الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] الذي يحفظك من الناس هو رب الناس.
وصل عمير بن وهب، فلما اقترب رآه عمر، ورأى الشر في وجهه، فأخذه بتلابيب ثوبه، وأدخله على الرسول عليه الصلاة والسلام، قال له عليه الصلاة والسلام: يا عمير بن وهب، ماذا جاء بك؟ قال: جئت أزور إخواني الأسارى -أسارى بدر- قال عليه الصلاة والسلام: كذبت، وإنما جلست أنت وصفوان بن أمية تحت ميزاب الكعبة يوم كذا وكذا، فقلت أنت كذا وكذا، وقال لك كذا وكذا، فقلت له: أنا أقتل محمداً وما كان الله يخلي بيني وبينك لتقتلني، قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، فمن الذي أعلمه؟ قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].(293/7)
جزاء تحقيق التوحيد
التوحيد أولاً، ليعيش المسلم وقته وعمره، في صلاته، في سوقه، في دكانه، في مكتبه، في فصله، بالتوحيد، هذا هو معنى التوحيد.
أما قراءة التوحيد مجرداً في كتاب التوحيد والطحاوية ومعارج القبول، ثم تجريده من الواقع، فهذا ليس بصحيح ولا نافع، فإن أكثر المعلومات يعلمها الكافر ولا يعمل بها، فلا تنفعه عند الله.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] خولة بنت ثعلبة أتت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام تشتكي زوجها، قالت عائشة: والله ما كنت أسمع كلامها في طرف البيت، فسمع الله كلامها من فوق سبع سماوات، فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] عقيدة التوحيد تؤخذ من القرآن، وتؤخذ بياناً من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ليعيش العبد صادقاً مع الله، متوكلاً على الله، كما كان إبراهيم عليه السلام، وكما كان رسولنا صلى الله عليه وسلم.
يقول عليه الصلاة والسلام: {واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك} لماذا؟ لأن كل شيء بقضاء وقدر، والذي أجرى الأمور وسيرها وقدرها هو الله.
فيوم تعلم ذلك ترسخ العقيدة في قلبك، وتكون صامداً أمام الحوادث والأزمات، متوكلاً على الله، وهذه هي عقيدة الصحابة، والتي انتصروا بها- بإذن الله- توحيدهم توحيد الباري تبارك وتعالى لا يتعلقون إلا بالله.
حضر السلف الصالح لفتح كابول عاصمة أفغانستان، كابول التي ضيعناها يوم ضيعنا لا إله إلا الله، كابول التي ذهبت من أيدينا رخيصة، يوم رخصت في قلوبنا لا إله إلا الله، كابول التي تنادينا لندخلها بلا إله إلا الله، ونحن لن نرجع فلسطين، وكابول، ولن نستعيد مجدنا وكرامتنا إلا بلا إله إلا الله.
العرب قاتلوا إسرائيل أربعين سنة، فما انتصروا؛ لأن بعض جيوش العرب كانت تسير المسيرة الصباحية، والهتاف لهم في الصباح يقول:
آمنت بـ البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ماله ثاني
هذا هتافهم على الموسيقى في الصباح.
فأراهم الله من هو الديان، وأخبرهم الله من هو الواحد الأحد الذي يضر وينفع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
حضر السلف الصالح في تطويق كابول جيش عرمرم، فطوقوا كابول، فقال قائدهم قتيبة بن مسلم -رحم الله قتيبة، ورضي الله عن قتيبة، يقولون: كان قبل المعركة يمرغ وجهه بالتراب ويبكي ويقول: اللهم انصرنا نصراً من عندك، رضي الله عنك ورفع منزلتك-.
رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
يقولون: لما حضر قال: التمسوا لي محمد بن واسع العابد الشيخ الكبير، لكن موحد، قال: اذهبوا، فابحثوا لي عنه، فوجدوه صلى ركعتين، ورفع إصبعه إلى السماء يطلب النصر من الله- إصبع التوحيد- لا إله إلا الله، فرجعوا إلى قتيبة، قالوا: وجدناه يدعو للجيش بالنصر، وقد رفع إصبعه، فبكى قتيبة بن مسلم، وقال: والله الذي لا إله إلا هو، إن أصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف سيف شهير، ومن مائة ألف شاب طرير، وفتحوا كابول بإذن الله، وأذنوا في مآذنها، ورفعوا لا إله إلا الله.
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا(293/8)
عاقبة تضييع التوحيد وإهماله
لما ضيع الناس التوحيد في عقائدهم، وفي عباداتهم ومعاملاتهم، خسروا سعادة الدنيا، وأتاهم من الهموم والغموم ما الله به عليم، لأنه كما يقول ابن تيمية رحمه الله: يقرن الله بين الاستغفار والتوحيد؛ لأن العبد دائماً يقصر، ولا يكمل تقصيره إلا التوحيد.
يقول سبحانه في الاستغفار والتوحيد: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] وقال حكاية عن ذي النون بن متى عليه السلام لما وقع في البحر، وأصبح في ظلمات ثلاث: ظلمة الماء، وظلمة الليل، وظلمة الحوت، فمن يدعو ذو النون، هل يدعو زوجته؟ هل يدعو قبيلته؟ هل يدعو أسرته؟ هل يدعو ولده؟ لا.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
فقال كلمة وهو في بطن الحوت، بين ضلعي السمك، قال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، يقول سبحانه بعدها مباشرة: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88] وأخرجه الله، فالتوحيد والاستغفار هو العقيدة المثلى التي يعيشها المسلم في حياته في الجزئيات، لكن فسدت عقائد بعض الناس، فخسروا سعادة الدنيا والآخرة.
كان عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري إذا اهتم يقول: {لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم} وكان يقول إذا قام من الليل كما في صحيح مسلم من حديث عائشة: {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم}.
يقول بعض العلماء: قرن عليه الصلاة والسلام في هذا الدعاء دعاء الله بأشرف أسمائه، ثم بأشرف مخلوقاته، ثم طلبه سبحانه أن يهديه سواء السبيل.
هذا هو التوحيد.
وعند البخاري عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قام يصلي صلاة الليل التي ضيعها كثير من الناس، يوم ضيعوا مفهوم لا إله إلا الله، صلاة الليل التي استبدل بها كثير من الناس السهرة الماجنة، والمجلة الخليعة، والرقصات، واللهو، والغيبة، والنميمة، صلاة الليل التي هي إيمان وحياة.
فكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من الليل يقول: {اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض، ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت}.(293/9)
أسباب فساد العقيدة
عقائد الناس فسدت بأسباب، من هذه الأسباب:
تقديس بعض الناس كمشايخ الصوفية، وصرف بعض العبادات لهم، واعتقاد النفع والضر منهم، أو بعض المشعوذين أو السحرة، أو الكهنة الذين صدوا عن منهج الله، عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لأنهم أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام.
أحد هؤلاء الصوفية وهو البوصيري يقول:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند نزول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
يقول: ألوذ بك، وأعوذ بك، شافني وعافني واغفر ذنبي، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يغفر الذنب، ولا يملك ضراً ولا نفعاً، إنما هو بشر يأتيه الوحي ويبلغ الرسالة، ويهدي الناس بإذن الله، لكن لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
والصوفي الآخر يقول عند قبر الرسول عليه الصلاة والسلام:
يا رسول الله يا من ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاما
فأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاما
يقول: يا رسول الله! أنا أذنبت خمسين سنة، أريد منك أن تقيلني عثرتي، وتغفر لي ذنوبي، فلا إله إلا الله كم خدشوا وجه التوحيد، وكم غيروا معالمه، وجماله وإبداعه، هذا سبب فساد العقيدة.
وعند أبي داود في السنن بسند جيد: {أن وفد عامر بن صعصعة وفدوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فجلسوا عنده، فقالوا: أنت سيدنا، وابن سيدنا، وأفضلنا فضلاً، وأطولنا طولاً، وكذا وكذا، فغضب عليه الصلاة والسلام، وقال: يا أيها الناس، قولوا بقولكم، أو ببعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان} خاف أن يطروه فيرفعوه عن منزلته، لأنه بشر قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [فصلت:6] بشر يأكل ويشرب، وينزل السوق {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] فهو بشر عليه الصلاة والسلام فأراد عليه الصلاة والسلام أن يخبرهم أنه بشر.
أتاه أعرابي من الصحراء، قال: {يا رسول الله! جاع العيال، وضاع المال، وانقطع الغيث، فاستسقِ لنا الله، فإننا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فقال عليه الصلاة والسلام: سبحان الله! سبحان الله! سبحان الله! ويحك! ويلك! أجعلتني لله نداً إن الله أعظم من ذلك إن شأن الله عظيم، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه} أصاب في قوله: نستشفع بك على الله وهو حي، وأخطأ في قوله: ونستشفع بالله عليك، لا.
لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، لأن الله أعظم وأكرم وأجل، وقطع عليه الصلاة والسلام الطرق الموصلة إلى الشرك، أو تسهيله أو إلى إماتة التوحيد في القلوب.
يقول عمر في الصحيح: {كنت في قافلة مع أناس من الصحابة، فحلفت بأبي، قال عليه الصلاة والسلام: أيها الناس، إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، قال عمر: فوالذي نفسي بيده، ما حلفت بأبي ذاكراً ولا آثراً} أذكره عن نفسي، أو آثره عن أحد، انتهى.
وجاء في السنن: {أن أعرابياً قال: ما شاء الله وشئت، فقال: بل ما شاء الله وحده، ويلك أجعلتني لله نداً!}.
فسبحان الله! ما أعظم العقيدة والتوحيد والأسماء والصفات يوم ترسخ في قلوب عباد الله!(293/10)
أعداء التوحيد
واعلموا بارك الله فيكم، أن للتوحيد أعداء:(293/11)
من أعداء التوحيد إبليس وفرعون
ومن أول أعدائه إبليس عليه لعنة الله، رفض لا إله إلا الله، ورفض أن يسجد لرب لا إله إلا الله، وسار على منواله فرعون، وكل من سار على موكب فرعون.
يقول فرعون في التوحيد: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ويقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] فأجراها الله من فوق رأسه.
نعم، دخل عليه موسى عليه السلام- رسول التوحيد- قال: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الاسراء:102] وقبلها من الذي علم موسى التوحيد؟ الله، أول لقاء بين موسى وبين ربه في المكالمة، يقول له: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} [طه:11] {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14].
أعظم تعريف عند أهل السنة والجماعة لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه الله الذي لا إله إلا هو {يَا مُوسَى} [طه:11] {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] هذا هو التعريف العظيم.
يقولون سيبويه صاحب الكتاب في النحو رحمه الله توفي، فرئي في المنام، قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة، قالوا: بماذا؟ قال: لأني لما وصلت إلى لفظ الجلالة "الله" قلت: الله أعرف المعارف، فأدخله الله الجنة.
فيقول الله لموسى -يعلمه التوحيد في أول لقاء-: يا موسى إنني أنا الله
أي: قبل أن تدعو فرعون، وقبل أن تتحرك بالدعوة، وقبل أن تؤدب الناس.
يا موسى قبل أن تجاهد في سبيل الله، يا موسى قبل أن تقيم دولتك في الأرض اعلم أنه لا إله إلا الله.
يعلمها الناس، ولا بد أن كلنا جميعاً، يعلمها المسلم، ويعلمها الأستاذ في فصله، والمزارع في مزرعته، والتاجر في دكانه، والجندي في مهمته، كل يعلم هذه القضية لنعيش حياة الإيمان، وإذا ما علمناها، فسوف تبقى حياتنا مضطربةً متمزقةً بعيدةً عن الله.
دخل موسى على فرعون، فقال: يا ملعون يا فاجر، أنت تدري في قلبك أن الذي خلق السماوات والأرض الله، لكنك تعاميت: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الاسراء:102].
يقول ابن تيمية عند هذه الآية: لم ينكر الخالق في الظاهر إلا فرعون، وإلا فالأمم جميعاً أقروا بالخالق أنه الله.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] وكفار قريش: أبو جهل وأبو لهب وأمية بن خلف إذا ركبوا في السفينة، وأرسل الله عليهم الريح الصرصر، وتمايلت بهم السفينة، يقولون: الله الله، قال سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] أي: وقت الأزمات والشدائد، لكن إذا خرجوا إلى البر تساهلوا في مسألة لا إله إلا الله.
يوجد منا اليوم من يصلي ويصوم ويحج ويعتمر، لكن يخاف من البشر أعظم من خوفه من الله، كثير من الناس، يخاف من مرءوسه في العمل أن يحاسبه على تغيبه، ولكنه لا يستشعر مراقبة الله عز وجل، ولو خلا له الحال لفعل لأفاعيل، وما خوفه إلا من البشر، لا من رب البشر.(293/12)
من أعداء التوحيد: النمرود
ومن أعداء التوحيد: النمرود بن كنعان، حتى بلغ من عتوه قوله بأنه سوف يقتل ربه! دخل عليه إبراهيم عليه السلام - إمام التوحيد- قال الله عز وجل عن هذه القصة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258] لم يقل إبراهيم: ربي عليم، لأن هذه قد تكون أسماء مشتركة فلو قال: عليم، لقال النمرود: وأنا عليم، ولو قال: ربي حي، قال: وأنا حي، لأن لله حياة تليق بجلاله، وللمخلوق حياة تليق به، ولله علم يليق به سبحانه، وللمخلوق علم، وهذا أمر معلوم، فأتى إبراهيم عليه السلام بصفة لا ينازع فيها المخلوق ربه، قال: ربي الذي يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟! فأخرج مسجونين محبوسين، وقال: هذا أحييه أطلقه وأعفو عنه، وهذا أميته فأقتله، فذبحه -وهذا خطأ وليس إحياءً ولا إماتةً، قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر، واندحر ورسب والله لا يهدي القوم الظالمين.(293/13)
دروس مهمة في التوحيد
هنا دروس مهمة؛ منها:(293/14)
تغير الكون بأمر الله
أن التغيرات في الفلك بأمر من الله عز وجل.
تقضون والفلك المقدر سائر وتقدرون فتضحك الأقدار
وملاحدة علماء الفلك لا يعترفون بهذه القضية، يقولون: إذا وقعت زلزلة أو بركان قالوا: السبب انصداع في القشرة الأرضية، لكن من قدر هذا وكتبه وقضاه؟!(293/15)
علم الكيمياء والتوحيد
كثير من علماء الكيمياء لا يعيشون التوحيد في علومهم، وفي بعض المقررات الموجودة في الساحة عبارة، يقولون: المادة لا تستحدث ولا تفنى، وهذه من كيس استالين ولينين وفرعون , وأما محمد عليه الصلاة والسلام فهو منها براء، وهي تخالف التوحيد.
"المادة لا تستحدث ولا تفنى" قصدهم (لا تستحدث) أنها قديمة، فيثبتون مع الله قديم والله عز وجل هو الأول والآخر: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].(293/16)
التعلق بغير الله
دخل بعض الشعراء يمدح سلطاناً، وبعض الناس ينسى الله في بعض المواقف، هذا الشاعر مدح السلطان، ولكنه جرح التوحيد، وخلع الإسلام عند الباب، يقول الحسن بن هانئ في السلطان:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
لا إله إلا الله! جل الله! يقول: أنت الذي يحكم لا الأقدار، لا قضاء ولا قدر، أنت تفعل ما تريد.
فخرج من قصر السلطان، فابتلاه الله بمرض عضال، يقولون: كان يعوي كالكلب على فراشه، أعيا الأطباء في فراشه، وأعيا العواد، وأخذ يتقلب الليل والنهار، وعرف أن المرض بسبب البيت الشعري، علمه الله من هو الواحد القهار، فزاره السلطان الممدوح، ووضع يده على صدره، وقال: ماذا أصابك؟ قال:
أبعين مفتقرٍ إليك نظرتني فأهنتني وقذفتني من حالقِ
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
يقول: أنا لا ألومك، ألوم نفسي، لأنني مدحتك بشيء يقدح في التوحيد والعبودية والألوهية، إنما أنا الملوم، لأنني تعلقت بغير الله، ومن تعلق بغير الله وكله الله إليه.
وفي السنن بسند صحيح: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً في يده خيط قال: ما هذه؟! قال: أخذتها من الواهنة، قال: ألقها، فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فألقاها} وقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {من تعلق بتميمة فلا أتم الله له} أي: لا أتم الله أمره ولا صحته ولا عافيته؛ لأنه جرح التوحيد، بتميمة عبارة عن قرطاس يعلق، أو كتاب يكتب فيه، أو خيط يربط ليشفى به المريض أو من به العيب، وهذا هو الصحيح، قطعاً للعلائق ولو كان من القرآن، فإن الصحيح عند أهل العلم من جمهور أهل السنة، أنه لا يعلق شيء من القراطيس والكتابات بالنحور ولا بالصدور، ولو كان من القرآن؛ لأنه جرح لمعالم التوحيد، لأنه التوحيد أولاً، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].(293/17)
التفكر في آيات الله الكونية
أيها المسلمون: أقف معكم في بعض الآيات في التوحيد وأشرحها.
يقول ابن كثير: رئي أبو نواس في المنام، والمنامات عندنا لا نتركها تركاً، ولا نجعلها أصلاً، ولا نعلق عليها أحكاماً، والذين قالوا: لا نأخذها ولا نذكرها، أخطئوا، والذين قالوا: نعتبرها أصولاً وأحكاماً أخطئوا، والوسط أنها مبشرات، وقد ذكرها عليه الصلاة والسلام والسلف.
هذا الشاعر رئي في المنام، قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قالوا: بماذا؟ قال: بقصيدتي في النرجس وهي قصيدة اسمها النرجسية في ديوان أبي نواس، يذكر توحيد الله في الورود؛ لأن الله خلقه في الكون {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191].
والتوحيد أمر عجيب! هناك بعض الكبار لا يكتبون ولا يقرءون، لكن توحيدهم أعظم ممن يحمل رسالة الدكتوراه، فبعض الناس عنده دكتوراه لكن لا يصلي في المسجد، عنده فقط تصحيح المخطوط، وطبعة بولاق على دار الشروق، وأخر صلاة المسجد حتى الشروق! فما صلى لأنه مشغول برسالته، وسوف يجد الرسالة العظمى تنتظره عند الله، فليست المسألة بكثرة المعلومات التي تصب في سلة الأذهان، إنها سلة مهملات، لا تقيم وزناً في حياة العبد.
بعض الناس لا يقرأ ولا يكتب، لكن قرأ التوحيد في الكون.
وكتابي الفضاء أقرأ فيه سوراً ما قرأتها في كتاب
يقرأ التوحيد في السماء والأرض.
الرسول صلى الله عليه وسلم أمي لا يكتب ولا يقرأ، وأول ما أنزل الله إليه قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1].
قال أهل العلم: أين يقرأ عليه الصلاة والسلام، هو لم يقرأ ولم يكتب، قالوا معنى الآية: اقرأ في كتاب الكون، اقرأ في السماء اللامعة، اقرأ في النجوم الساطعة، اقرأ في الجدول والغدير، اقرأ في الماء النمير، اقرأ في الشجر، اقرأ في القمر، اقرأ في كل شيء.
يقول أبو نواس:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
يقول لماذا لا تتفكر في الأرض؟ {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:9 - 11] قال:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجينٍ شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
فأدخله الله الجنة، لأنه وحّده، وعرف أنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في هذا الكون، هذه قضية لا بد أن تفهم.
خرج أهل اليمن من صنعاء، يطلبون الغيث من الله، وكان معهم شيخ علم أمامهم، فلما استسقى بهم، ألقى قصيدة اسمها" قصيدة الاستسقاء" منظومة على وزن منظومة ابن دريد: يا ظبية أشبه شيء بالمها، يقول:
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولا يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
لطائف الله وإن طال المدى كلمحة الطرف إذا الطرف سجى
كم فرج من بعد يأسٍ قد أتى وكم سرور قد أتى بعد الأسى
إلى أن ذكر الاستسقاء، فما انتهى منها إلا والناس يبكون والغيث يملأ البلاد، هو التوحيد الخالص، وهو التوحيد الذي يجعلك تترك فراشك لتقوم لصلاة الفجر في شدة البرد.
هذا التوحيد عاش مع أبنائنا، وبعض شبابنا في أمريكا وبريطانيا ودول الغرب، وهم بين دول الكفر، عندنا شاب طالب علم من الجزيرة، خرج بلا إله إلا الله ملئ قلبه، ما خرج بالغناء الماجن، ولا خرج بهل رأى الحب سكارى مثلنا، بل خرج بلا إله إلا الله، ووصل إلى لندن هناك، وكان مع أسرة إنجليزية، يعمل معهم، ويسكن معهم، وكان إذا حانت صلاة الفجر بتوقيت لندن، قام إلى الصنبور وفتح الماء وتوضأ، وقام يصلي، فتقول له عجوز إنجليزية: مالك تقوم في هذه الساعة؟! قال: أصلي، قالت: لو أخرت قليلاً؛ فإن الجو بارد، قال: لو أخرت ما قبل الله مني صلاتي! فهزت رأسها، وقالت: هذه إرادة تكسر الحديد، إرادة لا إله إلا الله، وقوة لا إله إلا الله، أن تجعل الشاب هناك وهو يعيش بين المعاصي والمنكرات والشهوات، يعيش كأنه من الصحابة، والله وجد هناك من يعيش في تلك البلاد الآثمة البغيضة اللعينة، وهو يقوم الليل ويصوم الإثنين والخميس، ويقرأ القرآن، ويدعو، ويجوب الولايات كلها، للدعوة إلى سبيل الله، لصدق لا إله إلا الله، ووجد عندنا هنا عند الركن والحطيم من لا يصلي الصلوات الخمس، حكمة بالغة، وقدرة نافذة، فما تغني النذر؛ لأن أولئك حملوا التوحيد الخالص الذي أتى به عليه الصلاة والسلام، وأما هؤلاء، فإنهم ركنوا إلى الشهوات والفروج والبطون فنسوا معالم لا إله إلا الله.(293/18)
مقتضيات التوحيد
أيها المسلمون: التوحيد لا فيه قضايا.(293/19)
ترديد لا إله إلا الله كثيراً
القضية الأولى: أن نكثر من ترداد هذه الكلمة صباح مساء:
الله أكبر كل هم ينجلي عن قلب كل مكبر ومهلل
يقول حبيبنا صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: {من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له عدل عشر رقاب، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل عمل بعمله، أو زاد عليه}(293/20)
تدبر معنى لا إله إلا الله
ثانياً: أن نتدبر معنى لا إله إلا الله!
وأن نفهم محتواها، وأن نعيش معها بقلوبنا، لأنها هي الكلمة التي زلزلت من أجلها الأرض، وجاء الطوفان من أجل لا إله إلا الله، والصيحة، والريح الصرصر، والحاصب، والبركان، كلها أتت من أجل إقامة لا إله إلا الله، وكان إرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام، ونزول الكتب، وخلق الجنة والنار والصراط من أجل لا إله إلا الله، فلابد أن نعرف معنى لا إله إلا الله، إن معناها: أن لا معبود بحق إلا الله، ولا نافع ولا ضار إلا الله، ولا مقصود إلا الله، ولا كاشف للضر إلا الله، ولا شافي ولا معافي إلا الله الذي يجب أن نرهبه أعظم من كل من نرهب، ونخاف منه أعظم من الناس جميعاً، هذا هو التوحيد.(293/21)
تطبيق لا إله إلا الله في الواقع
ثالثاً: أن نعيش لا إله إلا الله عملاً، وأخلاقاً، وسلوكاً، فإذا عشنا لا إله إلا الله، ليس بنا حاجة إلى علم النفس، أو علم التربية من الغرب، إلا من باب الاستقراء والسبر والمقارنة، لا نأخذ علومهم على أنها مادة نفتقر إليها، لا وألف لا.
لكن للسبر والمقارنة والاستقراء فقط، وإلا عندنا لا إله إلا الله، عندنا الدستور الخالد، عندنا القرآن والسنة.
من بلادي يطلب العلم ولا يطلب العلم من الغرب الغبي
وبها مهبط وحي الله بل أرسل الله بها خير نبي
قل هو الرحمن آمنا به واتبعنا هادياً من يثرب
يقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: {والذي نفسي بيده، لا يسمع بي يهودي، ولا نصراني، ثم لا يؤمن بما أرسلت به، إلا دخل النار} هم عالة علينا، هم فقراء إلى ثقافتنا وحضارتنا، نحن معنا القرآن.
فتحنا بك الدنيا فأشرق نورها وسرنا على الأفلاك نملأها أجرا
سمعتك يا قرآن والليل واجم سريت تهز الكون سبحان من أسرى
يقول ابن تيمية نظر الله وجه ذاك الرجل العملاق العظيم حقاً، الموحد الذي داس المبتدعة والخرافيين والزنادقة والملاحدة بقوة لا إله إلا الله، يقول: من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدي غير هدي الله الذي أرسل به محمد عليه الصلاة والسلام، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ويقول في مختصر الفتاوى: كل أرض لا تشرق عليها شمس الرسالة فهي أرض ملعونة، وكل قلب لا يرى نور هذا الدين فهو قلب مغضوب عليه، لا إله إلا الله عمل، يخرجك من فراشك تسمع: الله أكبر، فتخرج إلى المسجد لصلاة الفجر، لماذا جلس شبابنا في الفرش وما قاموا لصلاة الفجر؟ لماذا يأتي الوالد العجوز يقوم قبل الفجر بساعتين، وابنه القوي المتين صاحب البنية والعضلات لا يقوم؟! لأن قلب ذاك حي بلا إله إلا الله، وقلب هذا ميت بالغناء والمجون والبعد عن منهج الله.
وعند الطبراني: يضحك ربك لثلاثة: ذكر منهم رجل خرج في قافلة مسافراً، فلما نزلوا في آخر الليل نامت القافلة جميعاً إلا هذا الرجل ما نام، قام إلى الماء البارد يتوضأ ويصلي ويبكي ويدعو الله، فجمع الله الملائكة، وباهى بهذا الرجل، وقال: يا ملائكتي انظروا لعبدي، ترك فراشه الوفير، ولحافه الدفيء، وقام إلى الماء البارد يتوضأ ويدعوني، أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة، هذه لا إله إلا الله.
لا إله إلا الله يوم ترسخ في القلوب لن تترك الصلاة من أجل لعبة أو تسلية أو رحلة أو نزهة، ويوم ترسخ فينا لا إله إلا الله: لا نأكل الربا ولا نتعامل به؛ لأن لا إله إلا الله تقول: الربا حرام، يقول عليه الصلاة والسلام رسول لا إله إلا الله في صحيح مسلم: {لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه}
ويوم ترسخ لا إله إلا الله في قلوبنا نعمل بها، فنغض أبصارنا.
يقول أحد الصالحين: نظرت مرة إلى امرأة فجأة، قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة، وهذا من آثار الذنوب والمعاصي.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيانِ
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
هذه لا إله إلا الله، لا إله إلا الله عمل وحياة، يأتي الإنسان التاجر يزن بضاعته، ويزن تمره وحبه، ويبيع قماشه، فيتذكر لا إله إلا الله، ولذلك كان الصحابة في الأسواق صحابة بلا إله إلا الله، وفي المسجد صحابة بلا إله إلا الله، أما أن نأتي ونميت لا إله إلا الله ففي وقت الصلاة عباد أخيار، ولكن عندما نخرج الأسواق ننسى أو في الخصومات، والمعاملات.
لماذا كثر الكذب؟ لأن لا إله إلا الله ماتت.
لماذا كثرت الغيبة؟ لماذا قطع الأرحام؟
لماذا عُقَّ الوالدان؟ لأن لا إله إلا الله ماتت.(293/22)
تقوية التوحيد بالتفكر في مخلوقات الله
رابعاً: أن نعيش لا إله إلا الله في الكون بالتفكر والتأمل والتدبر، تنظر إلى الماء، فتتفكر من أجرى الماء، وتنظر في الهواء، فتتفكر من سير هذا الهواء، والسماء والأرض.
{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] والله يعرض التوحيد في القرآن بأسلوبين:
أسلوب الابتداء، وأسلوب القصص والأمثال:
يصف لك الورد، والحدائق، والبساتين، فيردك إلى التوحيد، يصف لك الجبال، والسماء، والأرض، فيردك إلى التوحيد، فلا بد أن نعيش لا إله إلا الله في حياتنا قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].(293/23)
تدبر لا إله إلا الله في القرآن
خامساً: أن نعيش لا إله إلا الله في القرآن، فنتدبر آيات الله على مفهوم لا إله إلا الله، مفهوم التوحيد الصادق، فإن بعض المبتدعة يحفظ القرآن، لكن تجده صوفياً غالياً يدور في القبور، ويذهب إلى المشعوذين والسحرة والكهنة، وهو حافظ لكتاب الله، لم ينفعه القرآن؛ والسبب أنه ما أخلص لا إله إلا الله، وما عرف لا إله إلا الله.
أيها المسلمون: هذه معالمنا نفقهها ونعلمها، نعلم أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، ونعيش التوحيد أولاً، ثم نعيش عبادتنا ومعاملاتنا وسلوكنا وأخلاقنا ثانياً.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(293/24)
الأسئلة(293/25)
قصيدة: سأعود للدنيا
السؤال يقول: أريد أن تسمعنا آخر قصيدة؟
الجواب
آخر قصيدة اسمها "سأعود للدنيا":
القلب يملي والمدامع تكتب ومشاعري مجروحة تتصبب
النجم يشهد أنني سامرته سحراً وطارحني بهم كوكب
ما عشت في دنيا السعادة ماجناً كلا ولست بعود سلوى أطرب
أبداً وما بعت الغرام شبيبتي طوعاً ومثلي في الشبيبة أشيب
حرمت ليل الوالهين وصغت من دمعي نشيداً للخلود يرتب
يا من رماني بالسهام تكسرت في أضلعي فسهامكم تتخضب
يكفيك ظلمي يا ظلوم فعش به دهراً فإني في انتظارك أنحب
نم ما استطعت فلن أنام ومهجتي مجروحة وربوع روضي مجدب
دعني فلي في الليل أسهم دعوة سحراً تضج إلى السماء وتندب
مهدودة العبرات ساخرة الجوى بحرارة الإخلاص لا تتهيب(293/26)
موضع سجود السهو
السؤال
متى يكون سجود السهو قبل السلام، ومتى يكون بعد السلام؟
الجواب
عموماً من جعل السجود دائماً بعد السلام فقد أصاب، وليس في الأمر مخالفة بإذن الله، لكن في المسألة أولى وأحسن , ومن جعله قبل السلام دائماً فقد أصاب، لكن الأولى والأحسن كما يقول ابن تيمية: أنه إذا كان السهو عن زيادة فبعد السلام، كأن زاد خامسة في صلاة رباعية، وإذا كان عن نقص، فهو قبل السلام، هذا هو الصحيح على الأحاديث باختصار، ونكتفي بهذا، لأنه شبه قاعدة وهو رأي الإمام مالك.(293/27)
زكاة الحلي الملبوس
السؤال
هل على الحلي التي تلبسها النساء زكاة أم لا؟
الجواب
قبل أن أجيب عن هذا السؤال، يا أيها الإخوة تعلمون أن أهل العلم يختلفون في الفروع، وقد ذكر ابن تيمية في مختصر الفتاوى جملة طيبة يقول: هذا وإجماع الأمة حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، فأهل العلم يختلفون في الفروع، لكن في الأصول لا يختلفون، والحمد لله قد أجمعوا على الأصول وعلى المعتقد، فما اختلفوا بحمد الله أبداً، وللعلماء عذر إذا اختلفوا، من أعذارهم أنه ربما يصل الدليل لعالم ولا يصل العالم الآخر، ومنها أن يكون هذا الحديث صحيح عند هذا العالم، ضعيف عند العالم الثاني، ومنها أن يكون الحديث ثابت عند هذا منسوخاً عند ذاك، ومنها أن يفهم هذا العالم غير ما يفهم ذاك العالم، فهذه أعذار.
أما زكاة الحلي؛ فالصحيح أن في الحلي الملبوس للمرأة من ذهب وفضة زكاة، لعموم قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] ولقوله عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: {ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاته، إلا صفحت يوم القيامة صفائح، ثم تكوى بها جبهته، وجنبه وظهره} وعند أبي داود والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بسند حسن: {أن امرأة أتت رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي يديها سواران من ذهب، قال: أتؤدين زكاته؟ قالت: لا.
قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار؟ فألقتهما، وقالت: هما لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام} وعند أبي داود وصححه الحاكم: {أن أم سلمة كانت في يديها أوضاح، فقال صلى الله عليه وسلم: أتؤدين زكاته؟ قالت: أكنز يا رسول الله! قال: أتؤدين زكاته؟ قالت: نعم.
قال: فليس بكنز} فالصحيح أن في الحلي زكاة على رأس الحول يثمن، ويدفع من ثمنه في الألف خمسة وعشرين، وفي المائة ريالين ونصف، هذا هو الصحيح والراجح عند أهل العلم.(293/28)
المسافة التي تقصر فيها الصلاة
السؤال
ما هي مسافة السفر التي تقصر فيها الصلاة؟
الجواب
المسافة على الصحيح لم تحدد، ويقول ابن تيمية: ما سمي سفراً فهو سفر، فإن الله لم يحد في كتابه مسافة، ولا رسوله عليه الصلاة والسلام، وإنما بعضهم: ثلاثة فراسخ، أو ثلاثة برد، أو أربعة برد، لا.
لم يحد الله عز وجل ولا رسوله عليه الصلاة والسلام مسافة، وإنما ما سمي عند الناس وفي اللغة والعرف سفراً فهو سفر، لأن الله يقول: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء:43] ولم يحدد مسافة، فمن حدده بمسافة فقد خالف الدليل، فمن قال: سوف أسافر إلى الطائف، هذا صحيح، لأن العرف يصدقك، والناس يصدقونك، هذا يسمى سفر، لكن إذا قلت أسافر إلى الباحة، ليس بسفر، وهذا ليس بوارد، إذن فما سمي سفراً فهو سفر.(293/29)
الغسل من الجنابة
السؤال
كيفية الغسل من الجنابة؟
الجواب
الغسل الكامل أن تتوضأ وضوءك للصلاة قبل أن تغتسل من الجنابة، كما فعل عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة وميمونة، ثم تبدأ فتغسل رأسك، والمرأة تنقض شعرها في الحيض على الصحيح إذا كان لها ظفائر وجدائل، ولا تنقض شعرها عند غسل الجنابة، يكفيها أن تروي الرأس، فإذا أتيت إلى شعرك فاروه، ثم أفض عليه ثلاث مرات، ثم اغسل ما ارتفع من جسمك قبل أسفله، ويمينك قبل أيسرك، هذا الغسل الكامل أما الغسل المجزئ، فهو أن ترش جسمك بالماء، وتنوي الوضوء فيدخل فيه، إلا إذا مسست فرجك، فإنك تعيد الوضوء، هذا هو الصحيح.(293/30)
معنى حديث (النهي عن بيعتين في بيعة)
السؤال
ما معنى حديث: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة}؟
الجواب
هذا الحديث في سنن أبي داود، وهو حديث حسن, ومعنى نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، عند بعضهم: هو أن تقول هذه السلعة (السيارة) بثلاثين ألف الآن، أو بأربعين ألف بعد شهر، وهذا خطأ ليس هذا المراد في الحديث، يقول ابن القيم: معنى: نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، هي بيع العينة، وهي أن تبيع سلعة من رجل بدين بنسيئة؛ مثلاً سيارة بستين ألف بعد سنة يدفعها، ثم تشتري السيارة منه نقداً بأربعين ألف، هذا محرم، وقد يفعله بعض الناس في المعارض، يبيعون سيارات للناس بدين، ثم يدفعون لهم نقداً لحاجة أولئك للنقد، ويريدون السيارة يترجعونها، هذا بيع باطل، وهو بيع العينة، وقد قال عليه الصلاة والسلام في سنن أبي داود: {إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه إلا أن تراجعوا دينكم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فهذا معنى البيعتين في بيعة، أما الصورة التي يذكرها بعض العلماء فهي جائزة كأن تقول: هذه سيارتي إن كنت تدفع الآن فهي بثلاثين ألف، أو بعد شهرين بأربعين ألف، فجائز، قال أهل العلم: زيادة الثمن من أجل زيادة الأجل جائزة؛ لأن عقلاء العالم يعرفون أن النقد ليس كالدين أبداً، من ينقد لك القيمة ليس كمن يدين، فلك أن تزيد الثمن من أجل زيادة الأجل.(293/31)
ضعف حديث (الدعاء مخ العبادة)
السؤال
ما صحة حديث {الدعاء مخ العبادة}؟
الجواب
حديث: {الدعاء مخ العبادة} رواه الترمذي بسند ضعيف، وفي سنده دراج أبو السمح، يروي عن أبي الهيثم الشامي، وروايته عن أبي الهيثم ضعيفة، لكن صح عنه عليه الصلاة والسلام عند الحاكم أنه قال: {الدعاء هو العبادة.(293/32)
حكم زيادة: إنك لا تخلف الميعاد
السؤال
ما حكم زيادة " إنك لا تخلف الميعاد" بعد الأذان؟
الجواب
" اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آت محمد الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، إنك لا تخلف الميعاد" زيادة صحيحة، وابن حجر يرى أنها حسنة، والبيهقي يحسنها، وبعض الناس مثل الألباني يقولون: ضعيفة، لكن الصحيح إن شاء الله أنها صحيحة ثابتة فتقال.(293/33)
ضعف حديث: (رجعنا من الجهاد الأكبر إلى الجهاد الأصغر)
السؤال
ما صحة حديث {رجعنا من الجهاد الأكبر إلى الجهاد الأصغر}؟
الجواب
حديث ضعيف، قال ابن تيمية: لا أصل له، بل هو باطل.(293/34)
ضعف حديث: (قيدوا العلم بالكتاب)
السؤال
ما حكم حديث: {قيدوا العلم بالكتابة}؟.
الجواب
حديث موضوع.(293/35)
حديث: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر)
السؤال
ما حكم حديث: {من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر؛ لم يزدد من الله إلا بعداً}؟
الجواب
الحديث باطل لا أصل له، بل العبد الذي يصلي ولو كان مذنباً، أقرب إلى الله من العبد الذي لا يصلي.(293/36)
حكم من خلط العمل الصالح بالسيء
السؤال
أنا رجل أصلي وأصوم، ولكني أسمع الأغنية، وأطالع المجلة، فهل يقبل الله عملي؟
الجواب
أنت من الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، والله يحاسبك بصلاحك، وبما فيك من سيئات، ولكن نصيحتي لك أن تصلح عملك، وأن تصحح مسيرتك، وأن تجتنب الغناء، فإنه محرم بالإجماع عند أهل العلم، وهو يورث النفاق، والبعد عن الله، ويورث قسوة القلب، ويقطعك عن ذكر الله عز وجل، وعن ذكر الآخرة، وكذلك المجلة الخليعة، ورفقة السيئين قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].(293/37)
خطر غلاء المهور والرشوة والإسراف
السؤال
ابتلينا في منطقتنا بغلاء المهور، وكذلك الرشوة، والمبالغة في الولائم، أرجو التعليق على ذلك؟
الجواب
أما غلاء المهور، فهو من شر ما ابتليت الأمة، وكان له عواقب ونتائج منها:
أن الله لا يبارك في هذا المهر الذي يحوزه الوالد، حتى وجد أن من أفقر الناس من يتاجر في بناته، عنده ثمان بنات، ويأخذ في الواحدة مائة ألف، وهو من أفقر الناس، لأن الله لا يبارك في هذا، وبارك الله في أقلهن مهراً، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه، فزوجوه، إلا تفعلوا؛ تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
غلاء المهور من عواقبه عزوف كثير من الشباب والفتيات عن الزواج، وهذا أمر سبب ارباكات في مجتمعنا، وسبب ويلات منها والعياذ بالله: المعاصي، ومنها كذلك: تفويت الزواج على كثير من الشباب والشابات، وهذا أمر خطير، وبعض الآباء لم يفهموا هذه القضية، ولم يتأملوها، ولم يفقهوا فيها، إنما همهم المال، فوصيتي تقليل المهر، والمساعدة للمتقدمين، ووصيتي للشباب أن يتقدموا ويعفوا أنفسهم بالزواج، وألا تكون الدراسة، وبعض الأسباب الدنيوية عائقاً عن الزواج، فإن الزواج أهم عند المرأة من مواصلة دراستها، فهو الحياة الحقيقة، والحياة بغير الزواج للمرأة أو الرجل ليست بكاملة.
وأما بالنسبة للرشوة: {لعن صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي} وفي بعض الروايات {والرائش} وتعرفون كم أفسدت من الحقوق، وكم عطلت من الأحكام، وكم صرفت من الواجبات، وكم أدمت من قلوب.
الرشوة إذا وجدت في مجتمع ضاع الضعيف؛ وأخذ مال المظلوم؛ وانتهكت المحارم.
الرشوة إذا وجدت؛ فسد الأمر، ونسأل الله عز وجل أن يصلح لنا ولكم البطانة، وأن يتولانا وإياكم، فإن من عواقب الرشوة أنها أكلٌ حرام {كل جسد نبت من السحت، فالنار أولى به}
وأما المبالغة في ولائم الرياء والسمعة فإن أثرها وخيم، وصاحبها يدخل في عموم الحديث: أول من تسعر بهم النار ثلاثة، منهم الجواد الذي صنع الولائم في الدنيا وأكرم الناس يستدعيه الله عز وجل يوم القيامة، فيقول: يا فلان بن فلان أما منحتك المال؟ أما أعطيتك؟ قال: بلى يا رب، قال: فأين ذهبت به؟ قال: أطعمت الجائع، وكسوت العاري، وأنفقت في سبيلك، قال الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: إنما فعلت هذا ليقال جواد، وقد قيل، فخذوه إلى النار، فيأخذونه فيسجرون به النار، ونعرف والله كثير من الناس ذبح في بعض الولائم خمسين رأساً من الغنم، ويوم طلب يتبرع في أفغانستان وبعض المساجد رفض، وهذا يدل على أنه ما فعل ذاك إلا رياءً وسمعةً ومجاملةً، وطلب مديح الناس، فجزاؤه عند الله والعياذ بالله!
حاتم الطائي أنفق أمواله كلها، فيقول ابنه: {يا رسول الله، أينفع أبي أمواله التي أنفق، قال: لا.
إن أباك طلب شيئاً فأصابه} طلب الرياء والسمعة والصيت، فأعطاه الله السمعة والصيت , وليس له أجر عند الله {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].
وصيتي بالاقتصاد في الولائم، وأن تكون الوليمة على قدر المدعويين, وأن يختصر في الزواجات حتى تكون أقل تكلفة على الناس، وعلى المتزوجين؛ لأن العرف إذا ساد بالتكليف، كلف الفقراء والمساكين ما لا يستطيعون مجاراة للناس.(293/38)
حكم العرضة المقرونة بالزير والمزمار في العرس
السؤال
ما الحكم في العرضة المقرونة بالزير والمزمار، وشعر المدح في أهل المعرس، أو القبيلة بما ليس فيهم؟
الجواب
هذه مسألة من أكثر ما سئلت عنها، وهي موجودة في المنطقة، ونحن نعرف، لأننا من أهل هذه المنطقة، نعرف هذه العرضات، وما يصاحبها من زير وزلفة ودف وطبل، وقد سألت عنها شخصياً سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز، ومعي الشيخ/ سعيد بن مسفر في الطائف، قال الشيخ: الذي يظهر أنها محرمة لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} وهذه من المعازف، فلا يجوز الزير للرجال، ولا الدف، ولا الطبل، ولا الزلفة، ولهم أن يعرضوا بنشيد وبقصائد بدون طبل ولا زلفة، وقلنا لبعض الناس، قالوا: مالها طعم بدون زلفة وزير هذه ما تصلح، قلنا: أهم شيء الشريعة، يقول ابن القيم: بعض الناس فسدت أفهامهم، فعارضوا الشريعة بالعادات: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] فلهم أن يعرضوا بدون دف، ولا طبل، ولا مزمار، فيقول الشيخ: إنها من أدوات العزف، وفي مسند أحمد قال: والكوبة، والكوبة هي: مثل الدف والطبل والمزمار.
أما النساء، فيجوز لهن في الأعراس الضرب بالدف بالأيدي - الدف: الذي من وجه واحد- أما الزيرة هذه، فهي من الزأر الذي يأتي بالجنان، هو خمر العقول، حتى بعض الناس إذا سمع الزير هذا يغمى عليه، وبعضهم يقوم بلا شعور، فهذا دليل على أنه يخمر العقول، وهو العلة في تحريم المعازف التي حرمها رسول الله عليه الصلاة والسلام.
أما شعر المديح، فسوف يوقف الله كل عبد بما قال، والشعراء غالبهم إنما يأتون أجراء بالمال، فيمدحون صاحب البيت، ولو كان لا يعدل قرشين، أو ريالين، فيقول: أنت حاتم الطائي، وأنت فعلت، وأنت صنعت، وأنت بركة العصر، ودرة الدنيا، ومجدد هذا القرن، وهو لا يساوي شيئاً، وعلمهم عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، وهم في جانب آخر يواشون ويناكتون بين القبائل، ويحيون العصبيات الجاهلية، حتى سمعنا من كثير من كبار السن أن بعض القبائل تقاتلت من أجل قصائد قيلت في العرضات، فهؤلاء إثمهم على الله، وهم من مشعلي الفتنة؛ لأنهم يمدحون بعض القبائل على بعض، ونحن ليس عندنا قبلية، ولا عصبية، جمعنا الله بلا إله إلا الله تحت لواء واحد، وعقيدة واحدة، وفي مسيرة وقيادة ولاة الأمر، وفقهم الله لما يحبه ويرضاه قال الله: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103].(293/39)
حال عصاة الموحدين في القبور
السؤال
ما حال العصاة الموحدين في قبورهم، أفي عذاب دائم، أم يعذبون فترة وينقطع عنهم العذاب؟
الجواب
معتقد أهل السنة والجماعة: أن الموحدين قد يعذبون، وأنهم لا يخلدون في النار، وأن الموحدين قد يدخلون النار بذنوبهم، كشارب الخمر، والزاني والسارق، قد يدخل النار بذنبه، لكنه لا يخلد في النار، خلاف معتقد الخوارج والمعتزلة.
وهل يعذبون في قبورهم؟
نعم، يعذب الموحد إذا كان مذنباً، كتب الله عليه العذاب فترة من الفترات، منهم من يعذب يوماً أو أسبوعاً أو سنة، نسأل الله العافية, أو أكثر أو أقل بحسب ذنبه، والظاهر في حديث صاحب العصا عن ابن عباس في الصحيحين التي قسمها عليه الصلاة والسلام على القبرين، الظاهر أنهم موحدون , وهذا هو الصحيح، لكن أحدهم كان لا يستبرئ من البول، والثاني كان يمشي بين الناس بالنميمة، فبذنوبهم عذبوا، قال عليه الصلاة والسلام: {فأرجو أن يخفف عليهما ما لم تيبسا} يعني العصا.(293/40)
حقيقة الحجاب الشرعي
السؤال
ما هو الحجاب الشرعي للمرأة المسلمة؟
الجواب
أن تغطي ما ظهر من زينتها بما فيها الوجه والكفين إلا في الصلاة، فإن المرأة عورة إلا وجهها وكفيها في الصلاة، لحديث عند الحاكم عن عبد الله بن جعفر، وهو صحيح: {المرأة عورة إلا وجهها وكفيها في الصلاة}.(293/41)
حكم تربية اللحية وحلقها
السؤال
ما حكم تربية اللحية وحلقها؟
الجواب
تربية اللحية واجب، وحلقها محرم، وكل الناس يعرفون الحكم، والحمد لله، لا ينقصنا عدم معرفة الأحكام، لكن ينقصنا معرفة التوحيد أولاً.(293/42)
حكم الكشف على غير المحارم
السؤال
أنا عندي سبعة أبناء، وأنا منهم، والمشكلة أننا في بيت واحد، ويكشف إخواني على زوجتي، وإذا قلت لأبي: إن هذا حرام، يقول: إن هذا ليس فيه شيء، وإذا قلت له: إني سوف أذهب، يقول: لا.
ولن أرضى عنك؟
الجواب
والدك مخطئ في هذه المسألة، وأنت المصيب، وعليك أن تنصحه بالتي هي أحسن، ونسأل الله أن يهدي والدك، وأن يدله سواء السبيل، بل الصحيح أنه لا يجوز للإنسان أن يكشف على غير محارمه، ومنها زوجة الأخ، فإن هذا من المحرم، وقد وصف صلى الله عليه وسلم الحمو أخو الزوج بأنه الموت.
والناس يتساهلون كثيراً في البيوت بأخي الزوج فيدخل على زوجة أخيه، ويجلس معها ويشرب معها الشاي، وهو الموت، لا يأتي ولا يلدغ إلا من جانبه؛ لأن جانبه مؤتمن، فيأتي السوء منه والعياذ بالله!
ووصيتي أن تفصل بينك وبين غير المحارم، ولا بأس باجتماعك بإخوانك الرجال في مكان والنساء في مكان، ولا تطع والدك؛ لأن هذا معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، لكن بالتي هي أحسن.(293/43)
حكم الصدقة علىآل البيت وتعظيم الصوفية
السؤال
يوجد عندنا إمام وشيخ، وسمعنا منه بعض الأمور، وهو إمام لمسجد، يقول منها: إنه لا يأكل الصدقة، لأنه من أهل البيت؟
الجواب
والله ما أدري، قد يكون من أهل البيت، إن كان شريفاً فهو من أهل البيت، فالله أعلم، فيراجع إلى حفيظة نفوسه، وإلى نسبه، ويتأكد منه.
السؤال
الثاني يقول: إنه يتمنى أن يكون شعرة في رأس أحد الصوفية؟
الجواب
نعوذ بالله، هذا التمني ليس وارداً، والصوفية فيهم وفيهم، لكن عموماً هذه الفرقة فيها خزعبلات، وعليه أن يتمنى أن يهديه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سواء السبيل، وأن يريه الله الحق، وأظن أن هذا فيه مرض، فما دام يتمنى هذه الأماني ففيه نظر!(293/44)
حكم من انتسب إلى غير نسبه
السؤال
ما حكم من اتخذ أماً غير أمه، يقول لصلاحها وتقواها؟
الجواب
يعني أخذ عجوزاً، وتبناها أنها أم له وهي ليست بأمه، هذا خطأ، ولا يجوز، لا يجوز سرقة الأمهات! عليه أن يعود إلى أمه، قال عليه الصلاة والسلام: {من ادعى إلى غير أبيه، فالجنة عليه حرام} وفي لفظ حديث علي: {ملعون من ادعى إلى غير أبيه، أو من انتسب إلى غير أبيه} وكذلك أمه، فلا يجوز له أن ينتسب إلى غير أمه، إلا من باب التوقير كأن يقول للعجوز: يا أماه، أو يقول لأحد الشيوخ الكبار: يا أبتاه، وهو ليس بأبيه، من باب التوقير جائز، لكن الادعاء والانتساب حرام.(293/45)
عدم السماع للأشرطة والمحاضرات وذمها
السؤال
هناك من لا يسمع أشرطة المشايخ، ويقول: إنها بلا روح، وهي لا تنفع؟
الجواب
ربما أنه ملغم، هو ضدها، ولذلك يظن أنها لا تنفع، وإلا فهي نافعة، وقد نفع الله بها في المشرق والمغرب، وبعض الملاحدة سمعها، فأصبح يصلي.
وكيف يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
أجمعت الناس جميعاً أنها نافعة، وهذا يقول ما هي بنافعة.
وهذا مثل رجل ذكره أبو سليمان الخطابي في كتاب العزلة: أن أحد الصوفية أخد لصقة، فألصق على عينه اليسرى، قالوا له: مالك؟ قال: إسراف أن أنظر إلى الدنيا بعينين، خلق له عينين، وهو يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8 - 9] وهو يقول: إسراف أن أنظر إلى الدنيا بعينين، وسمعنا أن أحد الناس يقول: لا أركب السيارة؛ لأن آجال الناس في السيارة، ويظن أن الذي لا يركب السيار يتأخر سنة أو سنتين، والله عز وجل يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] الذي في السيارة والطائرة.
مات المداوي والمداوى والذي صنع الدواء وباعه ومن اشترى
فذكروا -هذا نقل عن بعض الشباب- أنه كان دائماً يركب الحمار فقط، حتى عند الإشارات تراه بالحمار صباح مساء، الناس في السيارات وهو على الحمار، إما ورعاً، وإما خوفاً من السيارات، قالوا: فأتته سيارة في صباح مبارك، فشلته والحمار، فمات!
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار(293/46)
حكم العرضة في العرس
السؤال
هل العرضة حلال؟
الجواب
العرضة ذكرت لكم قول سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام(293/47)
حكم الغناء
السؤال
سمعت أحد الأشخاص هنا يقول: إنه يجوز الاستماع إلى الغناء ولا يحرمه؟
الجواب
هذا يظهر عليه أن عفشه بائر، يحتاج إلى أنه يدعى له بالهداية، أو ثلاث ضربات بالكورباج، نسأل الله أن يتوب علينا وعليه، لكن ينصح، وأظنه ليس في هذه المنطقة، إنما قد ينقل من بعض المناطق والحمد لله، لأنا نعلم أن هنا علماء ويستفاد منهم ومشايخ خير، وما أعلم صوفية في هذه المنطقة، فهي إن شاء الله بريئة براءة الذئب من دم يوسف.(293/48)
حكم الركعتين في غير المسجد كالمصلى وغيره
السؤال
دخل بعض الناس في هذا المصلى قبل الغروب، وعند دخولهم قاموا وصلوا تحية المسجد؟
الجواب
ليس لهذا المصلى تحية مسجد، لأنه ليس مسجداً، فمن دخل قبل الغروب يجلس مكانه ولا يتنفل ركعتين؛ لأن النافلة إنما هي للمساجد، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديث أبي قتادة: {إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} وهذا ليس مسجداً، هذا مصلى، ولذلك ما أمرنا يوم العيد أن نصلي، بل نأتي يوم العيد ونجلس بدون نافلة.
قبل أذان المغرب، والوقت وقت نهي، يقول عليه الصلاة والسلام: {لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس} إلا لمن دخل في مسجد، هذا هو الصحيح.
أيها الإخوة الكرام: نكتفي بهذا القدر من الأسئلة على أمل أن نعود إليكم، وأن نراكم، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية، ونسأله سبحانه أن يجمع بيننا وبينكم في دار الكرامة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(293/49)
مقامات العبودية
إن القوة كل القوة في عبودية الله، والعزة كل العزة في عبوديته سبحانه وتعالى، فهو السند والركن والمرتجى، وهو القوة التي لا تُغلب ولا تُهزم.
وإن أولى مقامات العبودية عبودية الخوف من الله تعالى، فهو الذي نغص على أهل النوم نومهم، وعلى أهل الراحة راحتهم، وهو الذي جعل الكثير من السلف الصالح لا يذوقون النوم في الليل إلا قليلاً، يبيتون لربهم ركعاً وسجداً، خوفاً من عذابه سبحانه وتعالى.
والمقام الثاني من مقامات العبودية: الإخلاص لله عز وجل والصدق معه، فمن صَدَقَ الله فسَيْصْدُقُه الله، كما قال عليه الصلاة والسلام.(294/1)
مقامات النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً.
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله غيرك.
في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظَمَتك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
والصلاة والسلام على من بعثه ربُّه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، أنار الله به أفكار البشرية، وهدى به الإنسانية، وزعزع به كيان الوثنية.
رفع رءوسنا وكانت مخفوضة، وشرح صدورنا وكانت ضيقة، وأسمع آذاننا وكانت صُمَّاً، وفتح عيوننا وكانت عُمْياً.
إن البرية يوم مبعث أحمدٍ نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جَبَتِ الكنوزَ فكسرت أغلالها
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
سلام الله عليكم يوم اجتمعت قلوبكم على لا إله إلا الله، وتآخت أرواحكم على ضوء لا إله إلا الله، واتحدت مسيرتكم تحت ظل لا إله إلا الله.
إن أشرف المقامات -أيها الإخوة الأبرار! - هو مقام العبودية لله، أن تكون عبداً لله هذا هو شرفك في الدنيا والآخرة، ولذلك ذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى رسوله صلى الله عليه وسلم في أشرف المواطن بأشرف الأوسمة والألقاب والصفات، فسماه ووصفه بالعبد في الإسراء والمعراج فقال سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1] ووسمه بالعبودية في مقام التنزيل، فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] ووسمه في مقام الدعوة والتبليغ والتبشير والإنذار فقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] فشرفك في الحياة أن تكون عبداً لله؛ لتنتسب إلى الله.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكِدتُ بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرَّت أحمد لي نبيا
أن تكون داخلاً مع عباد الرحمن تحت هذه الياء - ياء النداء -:
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
فالقوة كل القوة في العبودية لله، والعزة كل العزة في العبوديته لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، إنه السند والركن سُبحَانَهُ وَتَعَالى والمرتجى، وهو القوة التي لا تُغلب ولا تُهزم.
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
روى ابن كثير عن طاوس بن كيسان - العابد العالم الكبير الزاهد النحرير - قال: [[دخلت الحرم فصليت ركعتين عند المقام فلما سلمتُ إذا بي أسمع جَلَبَة ورائي فالتفت فإذا بـ الحجاج وحرسه يصلون عند المقام، فلما سلَّم الحجاج من ركعتيه، جاء أعرابي من اليمن فمرَّ مِن قِبَل الحجاج فخطفَ ثوبُه حَرْبةً عند الحجاج وأوقعها بجانبه، فأخذ الحجاج بثوب هذا اليمني الأعرابي وسأله: ممن أنت؟ قال: أنا من أهل اليمن، قال: كيف أخي محمد؟ - ومحمد أخو الحجاج بن يوسف، وكان والياً على اليمن، وكان ظالماً غاشماً - قال: تركتُه سميناً بطيناً، قال: ليس عن صحته أسألُك، إنما أسألك عن عدله، قال: تركته غشوماً ظلوماًَ، قال: أما تعرف أني أنا الحجاج بن يوسف؟ قال الأعرابي: أتظن أنه بانتسابه إليك أعز مني بانتسابي إلى الله؟! قال طاوس فما بقِيَتْ شعرةٌ في رأسي إلا قامت]] إنها عبودية الانتساب إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وقوة المؤمن يوم ألا يعرف ولا يجد ولياً ولا سنداً إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.(294/2)
عبودية الخوف من الله سبحانه وتعالى
ولذلك ذكر الذهبي في ترجمة ابن أبي ذئب - المحدث الموجه باني الأجيال - أن المهدي الخليفة العباسي دخل المسجد النبوي والناس جلوس وطلبة العلم في حلقاتهم، فلما رأوا الخليفة قاموا إلا ابن أبي ذئب لم يقم من مكانه، فقال المهدي للعالم ابن أبي ذئب: أما عرفتني؟ لِمَ لَمْ تقم لي؟ فقال ابن أبي ذئب: والله لقد هممت أن أقوم لك، فتذكرت قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فتركت القيام لذاك اليوم.
فهؤلاء أناس عرفوا مقام العبودية.
ومن أعظم مقامات العبودية: الخوف من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
فقد أثنى الله على الخائفين، ومدح المخبتين، وذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى المنيبين إليه بأحسن الصفات، وأجل القربات والطاعات، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] وقال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] ولذلك يقول بعض أهل العلم: كل شيء تقرب منه تأمنه إلا الله، فكلما اقتربت من الله خفت منه، أما يقول عز من قائل عن العلماء المخلصين: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فذكرهم بالخشية والخوف وقربهم منه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ولذلك كان أكثر الناس خوفاً ووجلاً وخشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لـ ابن مسعود، وهو أحد تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأبرار، وأحد خريجي تلك المدرسة التي ما عرفت البشريةُ مدرسةً مثلَها، مدرسة حياة الإنسان، وصنع الأجيال، ورقي القلوب، وزيادة الأرواح إلى بارئها سُبحَانَهُ وَتَعَالى، لأننا -أيها الإخوة الأخيار! - قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم كنا أمواتاً، ما كانت عندنا حياة؛ لا حضارة ولا معرفة، لا رُقي ولا تقدم ولو دجل الدجالون من القوميين وأذنابهم فليس عندنا حضارة ولا رقي ولا ثقافة إلا بدعوته صلى الله عليه وسلم، فمن تلك الفترة بدأ تاريخنا، ولذلك يقول عز من قائل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] فبدأنا الحياة يوم أتى صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] أو مَن كان ميتاً في جهله ومعصيته، وشهوته وشبهته كمن أحياه الله بالإيمان.
والشاهد من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ ابن مسعود، هذا التلميذ البار الحبيب النجيب؛ الذي كان قوة متفجرة في توجيه الأمة، وإن كان هزيلاً في جسمه ضعيفاً في بنيته ضئيلاً في هيكله لكنَّ ديننا لا يعترف بالأجسام، وإنما يعترف بالقلوب والأرواح، فلما أتى صلى الله عليه وسلم جعل من هذه القلوب مادة قوية توجه الناس، وتضيء للحائرين، يقول أهل السير عن ابن مسعود: كان ضئيل البنية إذا وقف بجانب الرجل القاعد وازاه في القامة.
{صعد مرة شجرة فأخذت الريح تهز هذه الشجرة وهو على أغصانها، فتضاحك الناس من دقة سافيه -فبيَّن صلى الله عليه وسلم أن الضحك ليس له مجال هنا- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من دقة ساقية؟ والذي نفسي بيده إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد} بالإيمان واليقين والاتصال بالله.
قال له صلى الله عليه وسلم: {اقرأ علي القرآن - كما في الصحيحين - قال: يا رسول الله! أأقرأ عليك القرآن وعليك أُنزل؟ - هذا هو الأدب والحياء، وهذا خجل من أهل الفضل - قال صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليَّ القرآن فإني أحب أن أسمعه مِن غيري، فقرأ رضي الله عنه على الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول يستمع، فلما بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] أخذ صلى الله عليه وسلم يبكي، ويقول: حسبك الآن} حسبك فقد أبلغت، وحسبك فقد أثرت، وحسبك فقد وصل الكلام مكانه ومستقره، هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأتم الله عليه نعمته ظاهرة وباطنة، لكنه ما اغتر وما انخدع وما زاده ذلك إلا عبادة وخوفاً.
كان يقوم عليه الصلاة والسلام في الليل يستمع إلى الصحابة وهم يقرءون القرآن:
عُبَّاد ليل إذا جنَّ الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأُسْدُ غابٍ إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
استمع صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى في الليل وهو يقرأ القرآن بصوته الشجي الندي مع الصدى العجيب، وفي الصباح قال له صلى الله عليه وسلم: {يا أبا موسى! لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقرائتك، لقد أوتيتَ مزماراً من مزامير آل داوُد، فقال أبو موسى رضي الله عنه وأرضاه: أكنت تستمع إليَّ يا رسول الله؟ قال: إي والذي نفسي بيده، قال: والله لو كنت أعلم أنك تستمع إليَّ لحبرته لك تحبيراً} أي: حسنته وزينته وجملته بالصوت الحسن، فكان عليه الصلاة والسلام يحب أن يسمع القرآن؛ لأنه يذكره بالخوف والخشية من الله تبارك وتعالى.
وفي تفسير ابن أبي حاتم بسند حسن، قال أبو هريرة: {ذهب صلى الله عليه وسلم ذات ليلة بعد أن أظلم الليل، فمر بسكة من سكك المدينة وإذا بعجوز تقرأ القرآن، فوضع صلى الله عليه وسلم رأسه على صائر الباب، وأخذ يستمع إليها - عجوز مُسِنَّة كبيرة طاعنة في السن لكن قلبها حي مع الله - فأخذت تردد قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] وكانت ترددها وهي لا تدري أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستمع إليها، ويقول: نعم أتاني نعم أتاني، كلما قالت: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] قال: نعم أتاني، نعم أتاني، نعم أتاني}.
لقد عرف السلف الصالح مقام الخوف فجعلوه من أعظم المقامات الموصلة إلى الله، ولذلك لام الله عز وجل ومَقَتَ البشرية جمعاء على عدم خوفهم من الله؛ إلا بقايا من أهل الكتاب.
رُوي في كتاب الزهد للإمام أحمد بسند جيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {عجباً لك يا بن آدم! خلقتك وتعبد غيري! ورزقتك وتذكر سواي! أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي! خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد!} وهذه صفة العبد إذا تمرد على الله وخرج على حدود الله وترك رقابة الله.(294/3)
رقابة الله عز وجل
الرقابة هي أول درجات الخوف، وقد أُثِرَ عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: [[والله ما نظرت إلى عورتي حياءً من ربي، ولا اغتسلت واقفاً حياءً من الله عز وجل]].
كأن رقيباً منك يرعى جوانحي وآخر يرعى مسمعي وجناني
ولذلك كتب الأندلسي لابنه وهو يوصيه بتقوى الله:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
ولو أنا قلنا جميعاً: إن الذي خلق الظلام يرانا، ما عصينا وتمردنا على الله، وما انتهكنا حدود الله، وما فجرنا؛ لكن رقابة الله قلت في كثير من القلوب والنفوس.
يقول ثعلب الأديب - كما في بعض التواريخ - دخلت على الإمام أحمد رحمه الله، فقال: من أنت؟ قلت: أديبٌ أحفظ شيئاً من الشعر، قال: أسمعني، قال: قلت: يقول أبو نواس:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعة ولا أن ما تُخفي عليه يغيب
قال: فترك كتبه ومحبرته، وأغلق على نفسه حجرته، ثم -والله- سمعته يبكي وهو يردد البيت:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكنْ قلْ عليَّ رقيب
فهذه هي رقابة الله عز وجل.(294/4)
خوف أبي بكر الصديق
يقول الإمام أحمد في كتاب الزهد بسند حسن أُثِرَ عن أبي بكر الصديق الخليفة المجاهد العابد، الذي وصفه صلى الله عليه وسلم، وأفاض عليه أحسن الأوسمة، أوسمة التبجيل والتوقير، المجاهد يوم الردة، والمتولي للخلافة في الساعة الحرجة رضي الله عنه وأرضاه، قال الإمام أحمد: أُثِرَ عنه أنه دخل مزرعة أحد الأنصار فأخذ يتلفت في النخيل، فإذا بطائر يطير من شجرة إلى شجرة، فجلس رضي الله عنه يبكي ويقول: [[طوبى لك أيها الطائر! ترعى الشجر وترد الماء ثم تموت فلا حساب ولا عقاب]] يقول هذا وهو مشهود له بالجنة، بل قال له عليه الصلاة والسلام كما في كتاب الصحيح للإمام البخاري في كتاب الجهاد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن للجنة أبواباً ثمانية، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر - بهمته العالية وتشوقه إلى رحمة الله -: يا رسول الله! أيُدْعى أحد من تلك الأبواب جميعاً؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: إي والذي نفسي بيده، وأرجو أن تكون منهم} فهذه هي الهمم العالية.
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
لأن أهل الدنيا اهتماماتهم دنيوية، يهتمون بالمناصب والوظائف، والصدارة وحب الظهور، وحب المال، وأما المؤمن فهمته دائماً متعلقة برضا الرب سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
فـ أبو بكر الصديق لما حضرته الوفاة - كما في سيرته - أتته ابنته عائشة المطهرة المبرأة من فوق سبع سماوات فقالت: [[يا أبتاه! صدق الأول الذي يقول:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فالتفت إليها كالمغضب وقال: يا بنية! لا تقولي ذلك ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:19 - 20]]].
فلما توفي -وكان الخليفة- وقد كان ذهب الأمة وفضتها الأمة تحت يديه، فلما بحثوا عن ميراثه ما وجدوا إلا بغلة وناقة وثوبين فأخذها عمر إلى بيت المال وهو يبكى، ويقول: [[أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر!]].
وروى ابن القيم في كتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين: أن عمر رضي الله عنه كان يترقب أبا بكر بعد صلاة الفجر، فكان يراه إذا صلى الفجر يخرج من المسجد إلى ضاحية من ضواحي المدينة كل يوم، فيتساءل: ما له يخرج؟ ثم تبعه مرة من المرات، فإذا به يدخل خيمة، فلما خرج أبو بكر دخل بعده عمر فإذا في الخيمة عجوز حسيرة كسيرة عمياء، معها طُفَيلات لها، فقال لها عمر: من هذا الشيخ الذي يأتيكم - وهي لم تعرفه - قالت: هذا شيخ لا أعرفه، يأتي كل يوم فيكنس بيتنا ويصنع لنا فطورنا ويحلب لنا شياهنا، فقال عمر: أتعبتَ الخلفاء بعدك يا أبا بكر! إي والله، أتعب كل خليفة إلى قيام الساعة بهذه العبادة، والاتصال بالله؛ مَن كنا لولا هذا الدين؟
إننا أمة نتخاطب مع النصوص ومع الخوف من الله عز وجل.(294/5)
خوف عمر من الله عز وجل
يقف عمر يوم الجمعة في عام الرمادة وبطنه تقرقر من الجوع فيقول: [[قرقر أولا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]] يقف يوم الجمعة وبُرْدَتُه مرقعة أربع عشرة رقعة، وكسرى وقيصر يهتزون منه خوفاً:
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواهُ
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاهُ
لما خفنا الله خافت منا الأمم، وخاف منا الفجرة والمردة، فلما خفنا منهم ولم نخف من الله خوفنا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى منهم، وإلا فنحن ما انتصرنا على الأمم إلا يوم أتينا بلا إله إلا الله، ونشر أجدادُنا لا إله إلا الله، وساروا بلا إله إلا الله على البحار، وما حاربناهم بشيء إلا بهذه العقيدة.
دخل ربعي بن عامر على رستم في القادسية ورستم في وزارته وإمارته، ومعه الذهب والفضة، والإكليل والديباج وزخرف الدنيا، فيدخل ربعي وعليه ثياب ممزقة، وفرس هزيل، ورمح مُثلَّم، لكنه يخاف الله ويرجو رحمة الله، ويتصل بالله -القوة العتيدة التي لا تُغلب- فيضحك رستم من هذه الهيئة، ويقول: جئتم تفتحون الدنيا بهذا الرمح المثلم، وبهذه الثياب الممزقة، وبهذا الفرس الهزيل؟! فقال ربعي: [[إي والله، إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسـ ـمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
كنا نكبر فتهتز لنا قصور الأعداء، ولذلك يذكر أن من شدة خوف سعد بن أبي وقاص لله - كما يروي الذهبي وابن كثير - أنه لما رأى قصر كسرى الضلالة والعمالة، والبطالة والعطالة كسرى الصد عن الله، لما رآه سعد حين فتح القادسية قال ودموعه تتساقط من فرحة النصر:
طفح السرور عليَّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
وقرأ قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:26 - 29]]].
كان الصحابة أقرب الناس من الله، وأخوفهم منه سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ فقربهم وأفضليتهم ومصداقيتهم بالخوف من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.(294/6)
خوف عثمان رضي الله عنه من الله عز وجل
[[كان ابن عباس إذا قرأ قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] بكى وقال: ذاك عثمان بن عفان]] فقد كان من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر يقطع الليل بالتسبيح وقراءة القرآن.
حتى يقول حسان رضي الله عنه وأرضاه وهو يتعجب من مقتل عثمان محيي الليل الشهيد العظيم، قال:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
ولذلك روى المروزي في كتاب الوتر وذكره ابن حجر في كتاب الوتر من صحيح البخاري بسند صحيح أن " عثمان رضي الله عنه قام ليلة من الليالي بركعة واحدة من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر فقرأ في هذه الركعة القرآن كاملاً ".
خوفُه من الله أهَّلَه إلى هذه المرتبة.
فيا أمة الرسالة! نحن بحاجة إلى أن نراجع حسابنا مع الله في مقام عبوديتنا معه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وأن نحاسب أنفسنا، أين نحن من أولئك الرجال والطراز الرفيع الذين ما عرفت الإنسانية مثلهم رضوان الله عليهم؟ هذا خوفهم مع عظيم أعمالهم الصالحة التي عملوها، ونحن ماذا قدمنا؟ وماذا فعلنا؟
يقف عليه الصلاة والسلام قبل معركة تبوك على المنبر فيقول للمسلمين وهم في المسجد: {من يجهِّز جيش العسرة وله الجنة؟ فيسكت الناس - لأن التكاليف باهظة وغالية لا يجهزها إلا رجل يريد الله والدار الآخرة - فيقول صلى الله عليه وسلم ثانية: من يجهز جيش العسرة وله الجنة؟ فيسكتون، فيقول ثالثة: من يجهز جيش العسرة وله الجنة؟ فيقوم عثمان من بين الصفوف ويقول: أنا يا رسول الله! أجهز جيش العسرة - بماله وملكه وجِماله وأحلاسه في سبيل الله - فتدمع عيناه صلى الله عليه وسلم ويقول: اللهم اغفر لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض}.
وإنما نسرد أخبار هؤلاء وسيرهم لأنها عبرة، ولأن الله جعلهم قدوة، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
فمن أراد العبادة والاتصال بالله فعليه بسير الصحابة:
كن كالصحابة في زهد وفي ورع القوم هم ما لهم في الناس أشباه(294/7)
خوف علي رضي الله عنه من الله عز وجل
وتربى الأمة بـ علي رضي الله عنه وأرضاه، فيكون مثالاً للخليفة الزاهد العابد الخائف من الله، يقف على المنبر - كما يقول ضرار بن الحارث الصدائي - ويأخذ بلحيته ويقول: [[يا دنيا، يا دنية! غرِّي غيري، طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها، زادُك حقير، وسفرُك طويل، وعمرُك قصير، آهٍ من قلة الزاد، وبُعد السفر، ولقاء الموت]].
إن الصحابة عندما تجردوا لله، وخافوا من لقائه؛ بلغهم الله ما أرادوا، وأعطاهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ما تمنوا.(294/8)
حقيقة الخوف من الله عز وجل
فالمسلم هو الذي يخاف من الله، فما هو الخوف إذاً؟
أحسن من عرَّف الخوف ابن تيمية شيخ الإسلام رحمه الله، الداعية الكبير، يقول: " حد الخوف ما حجبك عن المعاصي، وما زاد فلا يُحتاجُ إليه "، وصدق رحمه الله.
حد الخوف: ما حجبك عن المعاصي، وما زاد فلا يحتاج إليه، لا خوف غلاة الصوفية الذين أدى بهم خوفهم إلى ترك الطعام والشراب والنكاح، وهذا لا يطلب في الإسلام لكن حد الخوف ما حجبك عن المعاصي.
ومن كثرة خوف عباد الله الصالحين لربهم، أثمر الخوف فيهم الاستقامة وترك المعاصي، والخوف الذي لا يجعل صاحبه يترك المعصية ليس بخوف، إنما هو كلام باللسان، ولذلك يقول الحسن - كما في الموطأ -: [[ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل]].
كلٌّ يجيد العبارة والتذوق، أو الكلام وتلميع العبارة، لكنَّ الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، ولذلك يظهر الإيمان وآثار الخوف بالأعمال الصالحة.(294/9)
خوف عبد الله بن وهب من الله عز وجل
يروي الذهبي في المجلد الثامن من سير أعلام النبلاء في قصة عبد الله بن وهب المصري العالم الكبير الزاهد أنه ألف كتاب أهوال يوم القيامة فقال له أصحابه: اقرأ علينا الكتاب، قال: أما أنا فوالله لا أستطيع أن أقرأ الكتاب، لكن مروا أحدَكم أن يقرأه، قالوا: ابنك يقرأ علينا الكتاب، فبدأ ابنه يقرأ الكتاب الذي ما سمع الناس بمثله في بابه، فأُغْشِي على عبد الله بن وهب، قال الذهبي: وبقي ثلاثة أيام مغمىً عليه، ومات في اليوم الرابع، واقرءوا ترجمته، فهو عالم مصر محدثها وزاهدها، أُغْمِي عليه ثلاثة أيام لما قرئ عليه كتابه الذي ألفه، وفي اليوم الرابع فارق الحياة.
وأُثِر عنه أنه كان يغتسل يوم الجمعة فسمع ابنه الصغير يقرأ قوله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر:47] فأُغْمِي عليه وسقط وهو يغتسل.
إن هؤلاء اتصلت قلوبُهم بالله، وقلَّلوا من المعاصي، وأكثروا من التوبة والإنابة، والرجوع والعودة إلى الله؛ فأعطاهم الله ما تمنوا.(294/10)
خوف عبد الغني المقدسي من الله عز وجل
يقول صاحب طبقات الحنابلة في ترجمة عبد الغني المقدسي المحدث الكبير الشهير، صاحب كتاب الكمال في أسماء الرجال الذي ما أُلف في علم الرجال مثله قال: " أُثِر عنه أنه سُجِن وسُجِن معه كافر يعبد الشمس، فقام عبد الغني المقدسي في الليل - وكان من عادته أنه لا ينام في الليل - قام يتوضأ ويصلي ركعتين فإذا جفَّ وضوءُه عاد إلى الوضوء مرة ثانية، ويقرأ ويبكي حتى الصباح، وهذا الرجل الكافر ينظر إلى هذا المشهد، وينظر إلى هذا العالِم الزاهد الكبير، وهو يصلي ويبكي حتى قرب الفجر، فلما أصبح الصباح ذهب هذا الكافر الذي يعبد الشمس إلى المسئول عن سجنه، وقال: أطلقني فإني آمنت بالله وشهدت أن محمداً رسول الله، قال: ولماذا؟ قال: والله لقد مرت عليَّ ليلة ما مرت عليَّ ليلة في حياتي مثلها، لقد تصورت أن القيامة قامت لما رأيت هذا الرجل يصلي ويبكي.
فنحن كنا ندعو الناس بأعمالنا قبل أقوالنا، وبزهدنا وبتقوانا وباتصالنا بالله عز وجل؛ فأثمرت جهودُنا، وأثمر علماؤنا الثمرة الطيبة الخيِّرة في الأمة، وربوا الأجيال، ولذلك كان الخوف دائماً أعظم المنازل عند أهل العلم.(294/11)
خوف ابن المبارك من الله عز وجل
يقول محمد بن القاسم -وهو أحد تلاميذ ابن المبارك -: سافرتُ مع عبد الله بن المبارك فرأيته في السفر، فقلت: سبحان الله! يصلي كصلاتنا ويقرأ كقراءتنا ويصوم كصيامنا ورفع الله له الذكر الحسن في الناس، ورفع الله مكانته في العالمين، فبماذا هذا؟ قال: فدخلنا حجرة ونحن مسافرون، فانطفأ السراج علينا، فذهبنا نلتمس سراجاً نستضيء به، وأتينا ابن المبارك بالسراج وهو في الظلام فإذا هو يبكي ودموعه تتحدر من رأس لحيته، قلنا: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: والله لقد ذكرت القبر في هذه الغرفة المظلمة الضيقة فكيف بالقبر.
والموت فاذكره وما وراءهْ فمنه ما لأحد براءه
وإنه لَلفيصل الذي بهِ ينكشف الحال فلا يشتفِي
والقبر روضة من الجنانِ أو حفرة من حفر النيرانِ
إن يك خيراً فالذي من بعدهِ أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
أيها المسلمون! إننا بحاجة إلى مراجعة أنفسنا بالرقابة مع الله، وفي تدبر أيام الله، والاستعداد للقاء الله عز وجل، قبل أن نصل إلى حفرة نستَعْتِبُ فلا نُعْتَب، ونطلب العودة فلا نُعاد، ونرجو الرجعة فلا نرجع أبداً.(294/12)
خوف ابن عمر رضي الله عنه من الله عز وجل
كان ابن عمر - فيما أُثِر عنه ونَقَل عنه ذلك بعض المفسرين - أنه إذا قرأ قوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54] يبكي ويقول: [[اللهم لا تحل بيني وبين ما أشتهي، قالوا: ماذا تشتهي يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أشتهي أن أقول: لا إله إلا الله في قبري أخاف أن يُحال بيني وبينها]] هل سمعتم بمقبور يقول: لا إله إلا الله؟ هل سمعتم بميت يصلي في قبره؟ وهل سمعتم بمدفون يصوم في قبره؟ {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54] ولذلك ذُكر في ترجمة علي رضي الله عنه أنه مر بمقابر الكوفة فقال: [[السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنتم سلفنا ونحن الأثر، أما ظهور مقابركم فجميلة، لكن يا ليت شعري ما في بواطنها! ما هي أخباركم؟ أما أخبارنا فالبيوت سُكِنَت، والزوجات تزوَّجت، والأموال قُسِّمت، هذه أخبارنا، فما أخباركم؟ ثم بكى، وقال: سكتوا ولو نطقوا لقالوا: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى]].(294/13)
خوف عمر بن عبد العزيز من الله عز وجل
وذكر ابن كثير في ترجمة عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد الشاب الذي قاد الأمة وهو لم يتجاوز الأربعين، لما علم اللهُ صدقَه وإخلاصَه بلَّغه الله ما تمنى.
يقول ابن كثير: أُثِر عن عمر بن عبد العزيز أنه صلى صلاة العيد، ومعه أمراء ووزراء بني أمية فقربوا له المراكب ليركب، فقال: [[ما أنا إلا رجل من المسلمين، ثم مضى، فلما مر بالمقبرة وقف عندها وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أيتها القبور! كم فيك من خد أسيل، وطرفٍ كحيل، ثم قال: ما كأنهم ضحكوا مع من ضحك، ولا لعبوا مع من لعب، ولا تمنوا مع من تمنى، ثم رفع صوته باكياً وقال: يا موت! ماذا فعلتَ بالأحبة؟! فأجاب نفسه بنفسه وقال: يقول: أكلتُ العينين، وذرفتُ بالحدَقَتَين، وفصلت الكفين عن الساعدين، والساعدين عن العضدين، والقدمين عن الساقين، والساقين عن الركبتين]].
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
فاعمل لدار غداً رضوانُ خازنها والجار أحمد والرحمان بانيها
قصورها ذهبٌ والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها
من أراد أن يعمل فليعمل لدار البقاء، ودار الغناء ودار الحياة، لا فيها هم، ولا حزن ولا غم، من أراد ذلك فعليه بمركب الخوف.
وفي مسند الإمام أحمد بسند حسن أن: {الجواري (الحور العين) في الجنة ينشدن الحور العين -فيقلن: نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنا له وكان لنا}.
إنهن يتغنين بصوت جميل لمن ترك الغناء واللذات في الدنيا، أما من استمع هنا وتمنى ولها فلا يستمع هناك؛ لأن الله يقول: {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26].
لذلك يقول ابن القيم:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصانِ
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزانِ
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
يا أيتها الأذن التي تريد النعيم: لا تستمعي إلى اللغو الأثيم.
يا أيها القلب الذي يريد أن يرضى عنه الله، وينشرح برضوان الله، لا تنغمس في الخطايا.
يا أيتها العين التي تريد أن تنظر في الجنة: لا تنظري إلى الحرام.
إن مركب الخوف كان أقرب المراكب عند السلف الصالح وصولاً إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فهم أقرب الناس إلى الله بالخوف منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وطلب ما عنده.(294/14)
خوف ابن عباس رضي الله عنه من الله عز وجل
كان ابن عباس رضي الله عنهما يقوم الليل بآية واحدة ليس إلا هي، وهي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة النساء: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123] فيبكي حتى الصباح خوفاً من الله.
يقول تلميذه عطاء بن أبي رباح: [[والله لو رأيتم ابن عباس وعيناه - أو جفناه - كالشراكين الباليين من البكاء والله لقد رأيته يبكي وهو يقرأ قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123]]].
ولذلك ذكر عنه المترجمون: أنه لما حضرته الوفاة في الطائف أُدْرِج جسدُه في أكفانه - رحمة الله على ذلك الجسد - ثم عُرِض على الصلاة، فإذا بطائر يقع على أكفانه، وسُمع هاتف يقول: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
ذُكرت هذه الحادثة في البداية والنهاية، ومعنى الآية: أن النفس تدخل في عباد الله وفي جنة الله؛ لأنها رضيت بالله رباً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً، فجزاؤها عند الله أن يرضى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عنها.(294/15)
أشد الناس خوفاً من الله عز وجل
كان السلف أشد الناس خوفاً من الله؛ لأنهم أعرف الناس به.
وجاء في كتاب الإيمان في صحيح البخاري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن أخوفكم وأعلمكم بالله أنا} وصدق عليه الصلاة والسلام، فهو أخوفنا لربه، وهو أخشانا لمولاه وأقربنا منه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
روى ابن مردويه بسنده عن بلال قال: {مررت قبل صلاة الفجر أوْذِنُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فإذا هو يبكي، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما الذي يبكيك؟ قال: يا بلال! أنزلت عليَّ آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]}.
إن وقاية عذاب النار وغضب الجبار تكون بالخوف منه سُبحَانَهُ وَتَعَالى وبمراقبته جل وعلا.
إن العبيد إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرارِ
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النارِ
فالعتق من النار بالخوف من الواحد القهار، ومراقبته سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وأُثِر عن إمام أهل السنة والجماعة، أحمد بن حنبل أنه كان إذا جلس في البيت وحده تربع وجلس وعليه السكينة والخشوع، فإذا ظهر أمام الناس لا يرى عليه ذاك الخشوع، فسئل عن ذلك فقال: "إن معي رقيباً يجالسني"، وصدق رحمه الله، فإن الله عز وجل كما في الحديث القدسي الصحيح يقول: {أنا جليس من ذكرني} وفي حديث أبي هريرة: {من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه}.
حتى يقول الإمام الشافعي: " لما ودَّعت الإمام مالك، قلت: أوصني يا أبا عبد الله! قال: إن عليك نوراً؛ فلا تطفئ نورك الذي أعطاك الله بالمعصية، ولا يردعك عن المعاصي والذنوب إلا الخوف من الله عز وجل ومراقبة الله، ولذلك يتحسر المتحسرون عند السكرات.
وفي صحيح مسلم في كتاب الإيمان عن ابن شماسة المهري، قال: [[حضرت عمرو بن العاص لما حضرته الوفاة وهو في مصر فأخذ يبكي طويلاً ويحول وجهه إلىّ الجدار، فأخذ ابنه عبد الله الزاهد يرجيه ويحسِّن ظنه بالله، ويقول له: يا أبتاه! أما أسلمت؟ أما ولاك رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش ذات السلاسل؟ أما فتحت مصر؟ أما حسَّنت منقبتك في الإسلام؟ وهو لا يزداد إلا بكاء، قال: فلما طال الحوار بينهما التفت إلينا عمرو بن العاص وقال: يا أيها الناس! - وقد قلصت دموعه من عينيه - إني عشت حياتي على طباق ثلاث:
كنت في الجاهلية لا أعرف الإسلام، وكان أبغض الناس إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو تمكنت منه لقتلته، فلو مِتُ على تلك الحال لكنت من جثي جهنم.
ثم أسلمت - وهذه أحسن الذكريات عند عمرو بن العاص، داهية الإسلام وأرطبون العرب، الذي رمي به أرطبون الروم - قال: فقدمت المدينة، فلما رآني صلى الله عليه وسلم حيا بي، وقال: أهلاً وسهلاً، وهش في وجهي وبش وأجلسني وقال: ابسط يدك لأبايعك، فلما بسط صلى الله عليه وسلم يده قبضتُ يدي، فقال صلى الله عليه وسلم: ما لك يا عمرو! قلت: أشترط، قال صلى الله عليه وسلم: وماذا تشترط؟ فقلت: أشترط أن يغفر لي ما أسلفت في الجاهلية، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: أما تدري يا عمرو! أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها؟ قال عمرو: فأسلمت، فوالله ما كان من أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له، والله لو سألتموني الآن أن أصفه ما استطعت أن أصفه، فلو مت على تلك الحالة لرجوت أن أكون من أهل الجنة.
ثم تخلفتُ بعده فلعبِتْ بي الدنيا ظهراً لبطن، فوالله ما أدري هل يؤمر بي إلى الجنة أم إلى النار! ولكن معي كلمة أحاجُّ لنفسي بها عند الله: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم قبض يده عدا السبابة، وأُدخِل في أكفانه ويده مقبوضة، وأُدخِل قبره ويده مقبوضة]].(294/16)
سكرات الموت
إن سكرات الموت تبين مواقف المراقبة والمحاسبة عند المسلم الذي كان يحاسب نفسه، فلذلك يبشر بالخير عند سكرات الموت.
ورد في ترجمة معاذ رضي الله عنه وأرضاه قصة، وقبل أن أحكي القصة لا بد أن يعرف شباب الإسلام معاذ بن جبل، ولا بد أن يعيشوا معه ومع أمثاله، فبمثل سيرهم يرفع الله قدرنا ورءوسنا، ويشرح صدورنا، فهذا معاذ الذي توفي وعمره ثلاث وثلاثون سنة لكنها كلها جهاد وعبادة، وزهد ودعوة، وفتح الله على يديه اليمن، وكان سبب وفاته أن أصيب بقرحة في يده من الطاعون - كما يقول أهل العلم - فأخذ الناس يدعون له بالشفاء، قال: [[والله لو كان شفائي أن أمس أذني ما مسست أذني، ثم قال: اللهم إنك تكبر الصغير، وتكثر القليل، اللهم بارك في هذه القرحة]] فأخذت القرحة تتفشى في جسمه، ثم توفي.
فالقصة أنه لما حضرته الوفاة قال لابنه: [[اخرج فانظر هل طلع الفجر؟ فخرج ورجع، وقال: لم يطلع الفجر إلى الآن، قال في المرة الثانية: اخرج وانظر هل طلع الفجر؟ فخرج، فقال: نعم طلع، قال: اللهم إني أعوذ بك من يوم صبيحته إلى النار، اللهم إنك كنت تعلم أني لم أحب الحياة لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولا لعمارة الدور، ولا لرفع القصور؛ ولكني كنت أحب الحياة لثلاث - اسمع إلى القلب الحي، وانظر إلى حياة أهل العلم وأهل الصلاة والاستقامة، واسمع إلى تربية محمد صلى الله عليه وسلم - ولكني كنت أحب الحياة لثلاث:
لمكابدة الهواجر في الصيام -والهواجر: شدة الحر- ولقيام الليل، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر]].
فتوفي رضي الله عنه وأرضاه وعرف مصيره أنه -إن شاء الله- من المقبولين، لِمَا رأى من قرائن الخير.(294/17)
الندم عند الموت
ومن فرَّط في حياته ندم عند الوفاة، ولذلك يقول عبد الحق الإشبيلي في كتاب العاقبة: " نُقِل عن المعتصم أنه لما حضرته الوفاة بكى كثيراً -وهو في سكرات الموت- وقال: والله! ما ظننتُ أن عمري قصير، ولو كنت أظن أن عمري قصير ما فعلت ما فعلت من المعاصي ".
عجباً! أما كان يعلم أنه سوف يلقى الله؟ أما كان يعلم أنه سوف يُصرع في هذا المصرع؟ يقول: والله لو كنت أعلم أن عمري قصير ما فعلت ما فعلت من المعاصي.
ولذلك نَدِمَ.
وجاء في سيرة عبد الملك بن مروان كما في سير أعلام النبلاء: أنه قال عند وفاته وهو في سكرات الموت، وكان يسمع غسَّالاً ينشد: [[يا ليتني كن غسالاً، يا ليتني ما ملكت أمر الأمة، يا ليتني ما توليت الخلافة]] فأُخبر سعيد بن المسيب رحمه الله أو غيره فقال: [[الحمد لله الذي جعلهم يفرون عند الموت إلينا، ولا نفر عند الموت إليهم]].
إنه موقف الصدق للصادقين، وموقف الصلاح للصالحين، وموقف الندم للمتندمين والمفرطين، فساعة الموت يُذَل فيها الجبار، ويُذعِن فيها الكافر، ويُسلِّم فيها العنيد، ويفتقر فيها الغني، فلذلك عرفوا أنهم فرطوا لما حضرتهم الوفاة.
وهذا الوليد بن عبد الملك لما حضرته الوفاة بكى طويلاً وقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] فلا بقاء إلا لمن أحسن حياته بطاعة الله عز وجل، وتزوَّد بالصالحات وأنهى عمره بالخوف من الله ومراقبته.
فهذه منزلة الخوف.
وإنما بدأت بها لحاجتنا إلى هذه المنزلة، ولأننا بأشد الحاجة للعودة بالخوف إلى الله عز وجل، وإلا فالرجاء مبذول ومطلوب وموجود، وليس الناس بحاجة أن يبين لهم الرجاء إلا في بعض الحالات؛ لأنهم ما قصروا في الرجاء وما فاتتهم منزلة الرجاء، بل أسرفوا فيها، لكنهم بحاجة إلى خوف.(294/18)
عبودية الإخلاص مع الله والصدق معه عز وجل
والمنزلة الأخرى من مقامات العبودية، والتي وَجَبَ أن تقدم قبل الخوف هي: منزلة الإخلاص مع الله والصدق معه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وإننا من أشد الناس حاجة إلى أن نتذكر الإخلاص والصدق، فلا عمل ولا قبول ولا ثواب ولا أجر ولا عاقبة إلا لمن أخلص لله عز وجل، ولذلك يقول عز من قائل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] ويقول تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] والخالص: الذي نُقِّي من شوائب الرياء والسمعة، ولم يقصد غير الله عز وجل، قال سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].
فالله الله في الإخلاص! فإنه الطريق العامر وهو الباب المفتوح إلى الله عز وجل، فلا قبول إلا بإخلاص ومتابعة، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام لـ معاذ - كما عند المنذري وغيره -: {يا معاذ! أخلص عملك يكفك القليل} فالكثير مع الرياء لا خير فيه ولا بركة، والقليل مع الإخلاص كثير مبارك بإذن الله.(294/19)
لكل امرئ ما نوى
رُوِي عن أبي هريرة في الحديث الصحيح عن شفي الأصبحي قال: {دخلت المدينة فوجدت الناس مجتمعين على أبي هريرة فقلت: مَن هذا؟ قالوا: أبو هريرة، قال: فزاحمت حتى جلست بجانبه واقتربت منه، وقلت له: يا أبا هريرة! قال: نعم.
قلت: حدثني بحديث سمعته أنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعته من رجل آخر غيره، قال: فبكى ثم رفع طرفه وقال: والله لأحدثنك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعته من رجل غيره، قال: ثم اندفع يحدث، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم منهم عالماً حاسبه الله عز وجل وأحضره وقال: علمتك العلم ولقنتك الحكمة فماذا فعلت؟ فقال هذا: يا رب! علَّمت الجاهل ونفعت الناس، ودعوت في سبيلك، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: إنما تعلمت ليقال عالم وقد قيل، خذوه إلى النار، فيسحبونه على وجهه حتى يلقى في النار، ثم يؤتى بالجواد الكريم فيقول الله عز وجل: أما خولتك مالاً؟ فيقول: نعم يا رب! قال: فماذا فعلت؟ وهو أعلم، قال: أطعمت الجائع، وأعطيت المسكين، وبذلت أموالي في سبيلك، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: إنما فعلت ليقال: جواد، وقد قيل، خذوه إلى النار، فيسحبونه على وجهه حتى يلقى في النار، ثم يؤتى بالشجاع فيُفعل به هكذا}.
ولما أُخْبِر معاوية بهذا الحديث بكى حتى خضَّبت دموعُه لحيتَه وقال: [[صدق الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]]] فمن أراد الرياء راءَى اللهُ به، كما في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة: {مَن راءَى راءَى اللهُ به، ومَن سَمَّع سَمَّع اللهُ به} ومَن أراد الظهور مُنِحَ الظهور؛ لكن لا حظَّ له عند الله، ومن أراد المنزلة عند الناس ولم يرد ثواب الله أعطاه الله ما تمنى في الدنيا وحرمه ثواب الآخرة: {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26].
وفي صحيح مسلم عن عدي بن حاتم أنه قال: {يا رسول الله! إن أبي كان يُقْرِي الضيف، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الحق، فهل ينفعه ذلك عند الله شيئاً؟ - يقصد أباه حاتم الطائي الجواد المشهور- فقال صلى الله عليه وسلم: لا.
إن أباك طلب شيئاً فأصابه فلا حظَّ له عند الله} طلب الذكر في الدنيا والمنزلة، وطلب الصيت فحصل عليه، وإلى اليوم فإنا نسمع ويتردد في جنباتنا بعد قرون مديدة حاتم الطائي؛ لأنه طلب الدنيا فأعطاه الله ما تمنى، لكن لا حظَّ له في الآخرة، وحيل بينه وبين ما يشتهي عند الله؛ لأنه ما طلب الآخرة وما أرادها، قال تعالى: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] يعطي من أراد الدنيا من الدنيا، ويعطي من أراد الآخرة من الآخرة.
وكذلك ابن جدعان القرشي، كان من أكرم كرماء العرب، وهو الذي يقول فيه أمية بن أبي الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إنَّ شيمتك الحياءُ
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناءُ
ففي صحيح مسلم أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: {قلت: يا رسول الله! إن ابن جدعان كان ينفق، وكان كريماً، فهل ينفعه ذلك عند الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا، والذي نفسي بيده، إنه لم يقل مرة من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين} ما مرت على لسانه هذه الكلمة، ولا تذكر الآخرة، فكيف ينفعه هذا العمل؟
يذكر أهل السير وأرباب التاريخ أن زبيدة امرأة هارون الرشيد التي أجرت عين زبيدة المشهورة في مكة للحجيج، فشربوا وسَقوا بعد ظمأ وحاجة للماء، لما تُوفِّيت رآها ابنها الأمير في المنام، فقال: " يا أماه! ماذا فعل الله بك؟ قالت: كدتُ أهلك -كدت أعذب عذاباً ما يعذبه الله أحداً من الناس- قال: لماذا؟ قالت: ما نفعني بعد الفرائض إلا ركعتين في السحر، كنت إذا ركعت ركعتين في السحر أقول: لا إله إلا الله أقضي بها عمري، لا إله إلا الله يَغْفِر بها ربي ذنبي، لا إله إلا الله أقف بها في حشري، لا إله إلا الله أدخل بها قبري، قال: يا أماه! وعين زبيدة! أما نفعتكِ؟ قالت: والله ما نفعتني أبداً، قال: ولماذا؟ قالت: لأني ما أردت بها وجه الله ".
وقد ذُكرت هذه القصة في سيرتها وفي ترجمتها لمن أراد أن يرجع إليها.
فكل عمل لا يراد به وجه الله قليل وزهيد وحقير، لا نفع فيه ولا بركة، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] ولذلك كان الصدق والإخلاص هو الباب الأول من أبواب الدخول إلى العبودية الحقة، فهو يقترن مع مقامات كثيرة لكنه شرط أكيد في صحة الأعمال، فلا عمل لمن لا إخلاص له، ولا إخلاص لمن لا متابعة له.
وواجبنا في الإخلاص أن نصدق النية مع الله عز وجل، يقول عز من قائل: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21].
{أتي أحد الأعراب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فأسلم وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم، فأتت الغنائم فأعطاه صلى الله عليه وسلم من الغنائم، فقال الأعرابي: غفر الله لك يا رسول الله! ما بايعتك على الغنائم ولا على أخذ شئ من المال، قال: فعلامَ بايعتني؟ قال: بايعتك على أن يأتيني سهم غرب - أي: طائش - فيقع هنا ويخرج من هنا، فيقول عليه الصلاة والسلام: إن صدقتَ الله فسيصدقك الله.
فلما أتت المعركة قتل الأعرابي، فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم السهم وقد وقع في لبته وخرج من قفاه فقال: صدقتَ الله فصدقكَ الله}.(294/20)
عظم شأن الصدق مع الله
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
إن منزلة الإخلاص لا بد للعبد أن يحققها؛ ليقبل الله سبحانه وتعالى منه طاعته، وليجيبه، وليجعله من المقبولين عنده تبارك وتعالى، ولذلك من نوى نية ثم لم يستطع أن يعمل بما نوى من العمل الصالح كتب الله سبحانه وتعالى له أجر ما نوى، على حد الحديث الذي قَبِلَهُ ابن تيمية في مختصر الفتاوى: {نية المؤمن خيرٌ من عمله} ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة: {من سأل الله الشهادة بصدقٍ بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه} وهذا من الصدق؛ لأن من طلب الصدق وحققه حقق الله له ما تمنى.
وتعلمون أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما حج وقف في الأبطح ورفع يديه، وقال: [[اللهم انتشرت رعيتي، ورق عظمي، ودنا أجلي، فاقبضني إليك غير مفرطٍ ولا مفتون، اللهم إني أسألك شهادةً في سبيلك وموتة في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم، فقال له الصحابة: يا أمير المؤمنين! إن من يطلب الشهادة يخرج إلى الثغور، فقال: هكذا سألت واسأل الله أن يلبي لي ما سألت]]
فلمّا وصل إلى المدينة طعن في صلاة الفجر، وفي أحسن وقت، وفي أجلَّ مقام، وفي أحسن مكان، طُعن بعدما صلَّى الركعة الأولى ودخل في الثانية بيدٍ غادرة فاجرة، ما تقربت إلا إلى النار بقتله، وتقرب هو رضي الله عنه إلى الله سبحانه وتعالى، فوقع يقول: [[حسبي الله، لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم]] وعلم أنها الشهادة التي سألها رضي الله عنه وأرضاه، لما توفي يقول أنس: [[والله لقد خفنا خوفاً وحزنا بعد وفاة عمر حزناً ما حزناه أبداً إلا على وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاة أبي بكر]] فلما وضع في بيته، وضعوا رأسه على مخدة فقال لابنه: [[انزع المخدة من تحت رأسي وضع رأسي على التراب علَّ الله أن يرحمني]] فدخل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه وقال: [[طوبى لك يا أمير المؤمنين! لطالما سمعت رسول الله يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك، فقال عمر: يا ليتني نجوت كفافاً لا لي ولا عليَّ]].
فالشاهد: أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما صدق في تمني الشهادة، وصدق في طلب مرضاة الله أعطاه الله عز وجل، وبلغه الله تلك المنزلة، وهذا مأثور بالاستقراء والنقل، والمشاهدة والأثر من جميع من أخلص لله سبحانه وتعالى وصدق مع الله.(294/21)
بالصادقين فتحت كابل
حضر محمد بن واسع الأزدي العابد الشهير، والعالم الكبير معركة فتح كابول، يوم أن ذهب أجدادنا ينشرون لا إله إلا الله في تلك البقاع، يوم أن وزعوا الهداية على البشرية في خمسٍ وعشرين سنة ما طلبوا مالاً، ولا غنيمة، ولا جاهاً، ولا منصباً، وإنما طلبوا رضوان الله.
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنـ ـهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا
فبلغ محمد بن واسع مدينة كابول مجاهداً في المعركة، وقد كانوا عبَّاداً في المحراب، وخطباء على المنابر، ومفتون في المحافل، وحملة سيفٍ في الجهاد في سبيل الله.
وكان قائد الجيش قتيبة بن مسلم القائد الشهير فقال قتيبة قبل المعركة والناس مصطفون للقاء موعود الله، ولمناجزة أعداء الله، قال القائد قتيبة: ابحثوا عن محمد بن واسع، والتمسوه لي، فذهبوا يلتمسونه؛ فوجدوه قد شخص بطرفه إلى السماء، ورفع سبابته واتكأ على رمحه وهو يقول: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت! اللهم انصرنا عليهم، فلما رجعوا وأخبروا قتيبة بن مسلم قال: نصرنا ورب الكعبة، والله لإصبع محمد بن واسع خيرٌ عندي من ألف سيفٍ شهير، ومن ألف شابٍ طرير.
لماذا؟ لأن النصر من عند الله.
فلما بدأت المعركة نصر الله جنده على أعدائه؛ لأنهم صدقوا معه، وأخلصوا له الدعاء والإنابة، فأعطاهم ما تمنوا من الشهادة والنصر والتمكين {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17].(294/22)
صلة بن أشيم والأسد
صلة بن أشيم يقول ابن كثير وكل من ترجم عنه: خرج إلى خراسان مجاهداً، فقال أحد أصحابه: لأراقبنَّ صلة اليوم ماذا يفعل في الليل، هل ينام كما ينام الناس؟ قال: فلما صلى العشاء أتى إلى فراشه فخاتلنا حتى ظن أنا نمنا، وأنا ما نمت -هذا الراوي- قال: ثم سلَّ نفسه من فراشه وتوضأ ودخل في غابة، فدخلت بعده واختفيت وراء شجرة فقام يصلي ويدعو ويبكي ويتبتل، وفي أثناء الصلاة وإذا بأسدٍ خرج من الغابة إلى صلة بن أشيم فاقترب منه، فوالله ما استعجل في قراءته، ولا قطع صلاته، ولا التفت، وإنما بقي على خشوعه كما كان، قال: فلما سلم التفت إلى الأسد وقال: يا حيدرة! -للأسد- إن كنت أمرت بقتلي فها أنا دونك، وإن كنت لم تؤمر فاذهب وابحث عن رزقٍ لك ودعني أناجي ربي، قال: فزأر الأسد زأرةً اهتزت لها الغابة، ثم ولَّى وترك صلة يصلي إلى الفجر، قال: فلما اقترب الفجر قال: اللهم اغفر لي، أَوَمثلي يسأل الجنة؟ اللهم أعذني من النار.
فلما صدقوا الله عز وجل، ووجد مثل هؤلاء في الجبهات، ومع الجيوش، وعند الكتائب؛ نصر الله الأمة ورفع رايتها؛ لأنهم صدقوا مع الله في عبادتهم، وفي علمهم وجهادهم.(294/23)
ابن المبارك وإخلاصه في الجهاد
تعلمون أن الخليفة العباسي لما نادى بالجهاد خرج العالم المجاهد الزاهد عبد الله بن المبارك من مكة، ترك الإفتاء في مكة وخرج يجاهد في سبيل الله، ركب بغلته وأخذ السلاح على البغلة، فقال له تلاميذه: أتترك الإفتاء وتترك الحرم وتخرج إلى الجبهة؟ قال:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى لأعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
فلما وصل إلى المعركة، وحضر ضرب أعناق الأبطال، نزل بسيفه وتلثم، فأخذ يقرع الأبطال، وأخذ يضرب رءوس الكفار، فيقول القائد: من هذا؟ قالوا: لا نعرفه، قال: التمسوا لي إياه، فذهبوا فلما وصلوا إليه وهو ملثم عرفوه بشارته وأخبروا الخليفة، قال: ادعوا لي ابن المبارك، فذهبوا إلى ابن المبارك ودعوه، قال ابن المبارك: لا أريد أن يعرفني إذا عرفني الله عز وجل.
وأتته رسالة وهو في القتال من الفضيل بن عياض يقول: تترك الإفتاء، وتترك الحرم، وتخرج إلى الجبهات؟! يخرج صدقاً وإخلاصاً لطلب مرضاة الله، فيرد عليه ويقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ
إن كانت العبادة مجرد صلاة وركعات في المسجد، ثم يقف الإنسان ولا يكون لهذه الصلاة دوراً في حياته وفي صدقه، وأخلاقه وفي تعامله وتوجهه، وفي بناء بيته وتربية أبنائه، وفي تعامله مع الناس، فما الصلاة إذن؟
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضبُ
الدم أغلى من الدمع، إن كنت تبكي فدماؤنا تتحدر من نحورنا، ولذلك صدقوا الله فصدقهم الله.
فالصدق والإخلاص مقام، بل هو أول مقام من مقامات العبودية، ولا بد معه من متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا هو العمل المقبول والمطلوب عند الله، وهو العمل الذي يثاب عليه صاحبه، فالله الله في قصد الله في العمل، وتصفية الأعمال من الرياء والسمعة! فإنها عدوة الثواب، وإنها مطردةٌ للأجر والمثوبة من الله عز وجل.(294/24)
أسباب الخلوص من الرياء
والرياء داءٌ فتاك، يدخل على العابد في عبادته، وعلى العالم في علمه، وعلى الداعية في دعوته، وعلى الكريم في بذله، وعلى المجاهد في جهاده، ولا خلوص من هذا الرياء إلا بثلاثة أسباب:
السبب الأول: أن يعتقد العبد أن النافع الضار هو الله عز وجل، وهو الذي يعطي ويمنع، ويحيي ويميت، ويرزق ويعدل، وهو الذي بيده مقاليد الأمور سبحانه وتعالى، فلماذا يتوجه إلى الناس؟!
والسبب الثاني: أن يعتقد أن الدنيا ومن عليها زائلون، وأنه سوف يلقى الله فيوفيه عمله، ويوفيه حسابه، إن أحسن فبالإحسان يجازى، وإن أساء فبالإساءة يعاقب.
والسبب الثالث: أن يستحضر دائماً عظمة الله، ويدعو بالدعاء الخالص، بدعاء الاستغفار، ودعاء المثوبة، ودعاء الكفارة، فيقول دائماً وأبداً كلما أصبح وأمسى: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم} فحياة القلوب هي في العبودية.(294/25)
دعوة للرجوع إلى الله
يا أيها الأخيار! وعلينا بالرجوع إلى الله عز وجل لنشرف أنفسنا لأننا كنا خير أمةٍ أخرجت للناس، يوم كنا نسجد على التراب وأرواحنا تسري إلى الله عز وجل، يوم كان الشهيد منا -من أجدادنا، من الذين فتحوا الدنيا- يأتي فيغتسل قبل المعركة ويلبس أكفانه، ويقول لطفيلاته وأطفاله: أستودعكم الله لن أعود إليكم، كما فعل عبد الله بن عمرو الأنصاري، فيقتل في المعركة، ثم يقول جابر {: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جابر! أتدري ماذا فعل الله بأبيك وإخوانه الشهداء؟ قلت: لا يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده لقد كلَّمهم كفاحاً بلا ترجمان، فقال: تمنوا عليّ، قالوا: نتمنى أن تعيدنا إلى الدنيا فنقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمنوا، قالوا: نتمنى أن ترضى عنا فإنا قد رضينا عنك، قال: فإني أحللت عليكم رضواني لا أسخط عليكم أبداً، قال: فجعل الله أرواحهم في حواصل طيرٍ خضر ترد الجنة، فتأكل من أشجارها، وتشرب من مائها، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش} قال ابن كثير: سند هذا الحديث حسن.
فأنزل الله مصداق ذلك قوله عز من قائل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
يا رب نفسي كبت مما ألمَّ بها فزكها يا كريمٌ أنت هاديها
هامت إليك فلما أجهدت تعباً رمت إليك فحنت قبل حاديها
إذا تشكَّت كلال السيف أسعفها شوق القدوم فتدنو في تدانيها
حتى إذا ما كبت خوفاً لخالقها ترقرق الدمع حزناً من مآقيها
فإن عفوت فظني فيك يا أملي وإن سطوت فقد حلت بجانيها
إن لم تجرني برحبٍ منك في سفري فسوف أبقى ضليلاً في الفلا تيها
اللهم رد الأمة إليك رداً جميلا، اللهم أغث قلوبنا بغيث الرحمة والغفران والرضوان.
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، أحينا حياةً طيبة، حياةً صادقة، حياةً مخلصة، حياةً متقبلة، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم رد شباب الإسلام إليك رداً جميلا، اللهم تب عليهم، اللهم كفر عنهم سيئاتهم، اللهم أصلح بالهم، اللهم اهدهم سبل السلام، اللهم وجههم وجهةً صالحةً في الدنيا والآخرة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(294/26)
الأسئلة(294/27)
صحة أثر: [ما أمن النفاق إلا منافق]
السؤال
ما صحة الأثر القائل: [[ما خافه -أي: النفاق- إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق]]؟
الجواب
الحمد لله، هذا الأثر لا بد أن يُعتنى به، وأن يفهم، وهو عن الحسن البصري رحمه الله، كما علَّقه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان، قال: [[ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق]] يعني: ما خاف النفاق إلا مؤمن، ولا أمن النفاق إلا منافق، فالمؤمن دائماً يخاف النفاق، ويخاف من الرياء والسمعة، ودائماً يتوجد ويوجل، ودائماً يحاسب نفسه خوفاً من النفاق أن يكون فيه، فهو دائماً يخاف هذا الأمر؛ لأنه مؤمن، وأما المنافق فيمضي قدماً لا يلوي على شيء، وإن قلت له: نخاف أن يكون عملك رياءً، قال: ليس في عملي رياء، ولا سمعة، ولا نفاق، أنا مخلص.
فمن ادعى الإخلاص يُخشى عليه من النفاق.
وفي صحيح البخاري في كتاب الصلاة بوب البخاري باب: الصلاة كفارة، عن حذيفة قال: قال لنا عمر ونحن جلوس عنده: {أيكم يحفظ قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال: قلت: أنا، قال: إنك عليها لجريء، قال: سمعته يقول: فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصوم والصدقة، قال عمر: لست عن هذا أسألك، لكن أسألك عن الفتنة التي تموج موج البحر، قال: قلت يا أمير المؤمنين! ليس عليك منها بأس، إن دونك ودونها باباً، قال: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال قلت: بل يكسر، قال عمر: ذاك أولى ألا يُغلق أبداً، قيل لـ حذيفة: علم عمر من هو الباب؟ قال حذيفة: إي والله كما أن دون الليلة البارحة} فالباب معناه عمر، وإنما الشاهد في القصة قول عمر: في غير رواية البخاري: [[يا حذيفة! أسألك بالله أسماني رسول الله من المنافقين؟!]] يا لله العجب! إذا كان عمر مسمى من المنافقين فمن المخلص إذاً؟! ومن المقبول إذاً؟! لكن هذا الخوف من الله، الخوف من النفاق [[فدمعت عينا حذيفة وقال: لا والله ما سماك من المنافقين ولا أزكي أحداً بعدك]].
فمعنى أثر الحسن البصري: ما خافه -أي النفاق- على إيمانه إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق أي: لم يخف من النفاق.
ولذلك يقول ابن مسعود كما أثر عنه: [[إن المؤمن ينظر إلى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يسقط عليه، والمنافق والفاجر ينظر إلى ذنوبه كأنه ذبابٌ طار على أنفه فقال به هكذا]].(294/28)
علامات أولياء الله
السؤال
من هم أولياء الله عز وجل، وهل لهم علامات تعرف بهم؟
الجواب
أولياء الله عز وجل عرفهم سبحانه وتعالى في كتابه فقال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] فالولاية: هي الإيمان والتقوى، ولها تعريفات أخرى، كتعريفات بعض أهل المقامات وبعض أهل الغلو والتنطع، الذين ارتقوا من الأحوال إلى المقامات، والذين عبروا من الواردات إلى الفقرات والسكنات، وهذه ليست بتعريفات، بل هذه جهالات وسفسطات، بل التعريف المقبول والصادق: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يقول الله عز وجل: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} وهذا يسمى حديث الولي، شرحه الشوكاني في قطر الولي على حديث الولي، وهو من أعظم الأحاديث عند أهل الإسلام، وهذا يبين الولاية فيما تحصل عليه، فهي تحصل في أداء الفرائض، وفي اجتناب النواهي، وبالتزود بالنوافل.
فعلامات أولياء الله: امتثال أمر الله، والانتهاء عن نهي الله عز وجل، والوقوف عند حدود الله، واحترام حرمات الله عز وجل، وأن يتحلوا بالسنة ظاهراً وباطناً، فهؤلاء أولياء الله سواءً لبسوا القباء أو العباء، فالإسلام لا يعترف بالطقوس التي أحدثها بعض أهل الغلو وأهل التنطع والتعمق، وإنما يعترف بلباس السنة، وبالإخلاص وإقبال القلب إلى الله عز وجل فهذه علاماتهم، من كان على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو وليٌ من أولياء الله عز وجل، سواءً كان سلطاناً، أو تاجراً، أو فقيراً، أو فلاحاً، أو جندياً، أو طالب علم، أو في أي مكان من الأمكنة، وشروط الولاية فيه فهو وليٌ من أولياء الله عز وجل.(294/29)
حكم تعذيب النفس إذا فعلت معصية
السؤال
هناك بعض الزهاد إذا فعل معصية يضرب قدميه أو يحرق أصابعه، أو يعاقب نفسه بعقابٍ شديد، فما حكم هذا العمل؟ أليس من الإلقاء بالتهلكة؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
يتهيب المجيب في مثل هذه المسألة؛ لأنها ذكرت عن عمر رضي الله عنه، ففي البداية والنهاية عن أنس قال: [[سمعت عمر يضرب نفسه بعصا من وراء حائط، وهو يقول: يا عمر! والله إن لم تتقِ الله ليعذبنَّك الله]] وعمر من الخلفاء الراشدين رضي الله عنه وأرضاه.
لكن المعلوم من النصوص كتاباً وسنة، أننا ما أمرنا بمعاقبة أنفسنا إذا فعلنا معصية، وإنما أمرنا أن نتوب إلى الله عز وجل، وأما الذين كانوا يعاقبون أنفسهم -وهي من الآصار والأغلال التي رفعها محمد صلى الله عليه وسلم عنا- فهم بنو إسرائيل.
اليهود كانوا يعذبون أنفسهم، ويقتلون أنفسهم؛ كما قال سبحانه وتعالى: {اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:66] فهي كفارة ذنوبهم وخطاياهم، أما نحن فأمرنا أن نتوب ونستغفر ونندم، وأن نعمل الحسنات التي تذهب السيئات، وأما أن نضرب أنفسنا فليس بوارد وليس بمسنون ولا مشروع، لا كتاباً ولا سنة.
وإرهاق النفس بهذا من أعمال أهل الرهبنة {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] ولذلك من خزعبلاتهم: أنه ذكر عن بعض النصارى أنه نظر إلى امرأة فاقتلع عينه التي نظر بها بإصبعه.
وهذا هو الخرافة والجهل في أمر الله عز وجل، وبعضهم فعل معصية فوقف في الشمس سنة، فهذه كلها من الضلالات التي أمرنا باجتنابها؛ لأنهم قومٌ ضالون عبدوا الله بلا علم، والواجب على المسلم أنه إذا أذنب أن يستغفر ويتوب ولا يضرب نفسه، ولا يظمئ، ولا يجوع، بل عليه أن يندم ويعمل صالحاً قال عز وجل: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] وقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] وفي مسند الإمام أحمد بسندٍ صحيح عن علي رضي الله عنه قال: كان الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا حدثني بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلفته، فإن حلف صدقته، وحدثني أبو بكر -وصدق أبو بكر - ما استحلف أبا بكر - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من عبدٍ يذنب فيتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله من ذاك الذنب إلا غفر الله له ذاك الذنب}.(294/30)
العبد بين الخوف والرجاء
السؤال
أيهما يقدم الخوف أم الرجاء؟ وهل يخاطب الناس بالخوف أم بالرجاء؟
الجواب
قول الجمهور في هذه المسألة وهو الصحيح: أن العبد في الحياة يكون بين الخوف وبين الرجاء، ويكون له الخوف والرجاء كجناحي طائر، لا يغلِّب الرجاء فيقع في الأمن من مكر الله، ولا يغلب الخوف فيقع في القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله عز وجل، بل يكون معتدلاً؛ عنده الرجاء والخوف، والنووي له رأيٌ أظنه انفرد به يقول: يغلب في الحياة جانب الخوف، ويغلب عند الموت جانب الرجاء، وطاوس بن كيسان كما يروي عنه ابن كثير في ترجمته كأنه يرى: أن الرجاء يغلب حتى في الحياة، وأما عند سكرات الموت فالأولى للمسلم أن يغلب جانب الرجاء لحديث جابر الصحيح مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم: {لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه} فلا بد من إحسان الظن.
وأما سؤال السائل: هل يخاطب الناس بالخوف أو الرجاء؟
فهذا يختلف باختلاف المواقع والناس والأحوال، فمن كان مقبلاً على المعاصي، متهتكاً في الحرمات، متجاوزاً لحدود الله، فيخاطب بالخوف، ومن كان منيباً تائباً، مقبلاً نادماً، كثير الإقبال والشفقة والخوف؛ فيخاطب بالرجاء، وقد جعل الله لكل شيءٍ قدره.(294/31)
قبول التوبة من العبد وإن عاد للذنب
السؤال
إني شابٌ قد هداني الله عز وجل، ولكن المعاصي التي ارتكبها كثيرة، ثم أتوب بلهفةٍ وندم، ولكن لا أجلس على ذلك كثيراً ثم أعود وأرتكب المعاصي مرة أخرى، ولا أدري ماذا أفعل! أرجوكم أن ترشدوني إلى طريقةٍ تدلني إلى الطريق الصحيح، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أنت أصبت كل الإصابة بأنك كلما أذنبت تتوب، وهذا واجب المؤمن، يقول ابن القيم: إن للمسلم أحوالاً ثلاثة لا بد أن يتقلب فيها:
حال الصبر، وحال الشكر، وحال الاستغفار، فاستغفارٌ عند الذنب، وشكرٌ عند النعمة، وصبرٌ عند المصيبة، فأفلح من إذا أنعم عليه شكر، ومن إذا أذنب استغفر، ومن إذا ابتلي صبر، فأنت من المحسنين في هذا الجانب؛ أنك كلما أذنبت استغفرت، وأما قولك: أنك تعود، فالذنب حتمٌ على العبد، لكن على العبد أن يخلص نيته في التوبة ليرزقه الله توبةً نصوحاً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] والتوبة النصوح قالوا: هي الخالصة من شوائب إرادة العمل لغير وجه الله، وقيل: النصوح التي لا رجعة بعدها، وفي سنن الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما أصرَّ من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة} وأورد ابن رجب في جامع العلوم والحكم عن ابن حبان من حديث عائشة قالت: {جاء حبيب فقال: يا رسول الله! إني أذنب، قال: تب إلى الله، قال: ثم أعود، قال: تب إلى الله، قال: ثم أعود، قال: تب إلى الله، قال: إلى متى يا رسول الله؟! قال حتى يكون الشيطان هو المدحور} فنحن أمرنا كلما أذنبنا أن نستغفر، وفي المجلد العاشر من الفتاوى لـ ابن تيمية في وصيته لـ أبي القاسم المغربي يقول: إن الذنب كالحتم على العبد، فعليه كلما أذنب أن يستغفر ويتوب إلى الله عز وجل، وهذا واجب العبودية.
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا أذنب العبد فقال: اللهم اغفر لي؛ غفر الله له سبحانه وتعالى وقال: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر؛ أشهدكم أني غفرت له، أو غفر له سبحانه وتعالى، ثم عاد فأذنب فقال ذلك، فقال سبحانه تعالى هذه المقالة، وفي الثالثة يقول سبحانه وتعالى: فليعمل عبدي ما شاء} والصحيح في معنى هذه الكلمة: {فليعمل عبدي ما شاء} أنه ما دام أنه يُذنب ويستغفر ويتوب إلى الله؛ فإنه سوف يغفر له، ليس معنى ذلك أن يكون في نية العبد أن يذنب ثم يستغفر دجلاً وكذباً، وخداعاً ومكراً على الله عز وجل وفي نيته أن يعود، لا.
بل يكون في نيته التصميم على ألا يعود، فإذا وقع في الذنب فليتب مرة ثانية، وليحاول أن يتوب ولو عاد في اليوم سبعين مرة.
وعلامة الخير فيك أنك تحس بهذه الأمور، وأنك تحاسب نفسك، وأنك تريد الطريق إلى الله، فأبشر ثم أبشر {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفك ما علمتني الطلبا(294/32)
حكم صلاة ركعتين بعد التوبة
السؤال
هل تكفي التوبة أم لا بد أن أصلي ركعتين؟
الجواب
لا أعلم مشروعية ركعتين إلا في حديث علي عن أبي بكر مرفوعاً في الصحيح، ومن حديث علي في مسند أحمد وسنده صحيح، فإن فعل العبد وصلى ركعتين فبها ونعمة، وإذا استغفر وتاب بلا ركعتين فعليه أن يتوب جازماً من قلبه بأن لا يعود، بأن يكون نادماً على ما فعل، عازماً على ألا يعود، فإن كان من حقوق العبيد استباحهم وطلب المسامحة منهم، ورد ما لهم من حقوق، وعليه أن يفعل الحسنات {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فالركعتان إنما وردت تفضلاً لمن أرادها، لكن ليست شرطاً في التوبة والندم.(294/33)
ما يؤخذ على كتاب إحياء علوم الدين والكتب التي تغني عنه
السؤال
ما تقولون في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي؟ وما هي الكتب المرشحة في موضوع مقامات العبودية؟
الجواب
إحياء علوم الدين كثر الكلام فيه، وقد سئل عنه ابن تيمية، وأجاب بجوابٍ سديد، إنما ملخص القول في إحياء علوم الدين: أن أبا حامد محمد بن محمد الطوسي الغزالي من أهل الخير والاستقامة إن شاء الله، لكنه قليل البضاعة في الحديث؛ فأتى ببعض الأمور التي لا يوافق عليها، وربما تجمل الملاحظات في إحياء علوم الدين في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن العقيدة لا تؤخذ من إحياء علوم الدين، فهو أشعري العقيدة، يتفلسف في بعض النظريات وبعض استقرائياته إذا أوردها، ويعجب بأن ينقل من مشايخه الذين أخذ عنهم؛ فلا تؤخذ عنه العقيدة.
الأمر الثاني: أن بضاعته مزجاة في الحديث النبوي وقد قال ذلك عن نفسه، فهو يأتي بأحاديث لا سند لها، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، وليست بصحيحة ويبني عليها بعض الأمور ثم يستنتج الاستنتاجات ويستخرج الفوائد والأحاديث في أصلها باطلة، وقد علق عليه العراقي؛ وخرج أحاديثه لكن هناك حاجة إلى أن ينتبه له.
الأمر الثالث: أنه معجب كل الإعجاب بـ الصوفية وبكراماتهم التي ربما لا يوافقون عليها، وبشطحاتهم وإشاراتهم ووارداتهم، وخطراتهم وسكناتهم، وهذا لا يوافق عليه، فلا يوافق إلا ما وافق عليه الكتاب والسنة، أو وافق عمل الصحابة.
هذا مجمل القول فيه، وأنا أنصح: ألا يقرأه المبتدئ حتى يتمكن من تدبر كتاب الله عز وجل، وقراءة الكتب الستة، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، ثم إذا أراد أن يطالع فيه فليطالع.
وأما الكتب التي ترشح في هذا المجال بعد كتاب الله عز وجل فـ الكتب الستة، من أراد البصيرة بعد الكتاب العزيز، ومن أراد الفوز والفلاح والنجاح فعليه بـ الصحيحين والسنن، وما سار في مسارها من كتب أهل العلم، ثم كما أسلفت كتب ابن تيمية، وكتب ابن القيم، وكتب ابن كثير، وكل ما لذ وطاب من كتب أهل العلم، بعد استشارة أهل العلم، ومن جمع هذه الكتب فقد جمع خيراً كثيراً.(294/34)
سبب ما ورد عن بعض السلف من السقوط والغشيان عند سماع القرآن
السؤال
فضيلة الشيخ ذكرت تعريف الخوف لـ ابن تيمية، وهو قوله: حد الخوف ما حجزك عن المعاصي والباقي لا حاجة فيه، ثم ذكرت بعده خوف عبد الله بن وهب، وكيف كان يُغشى عليه لمجرد سماعه لبعض الآيات، فكيف توفق بين القولين؟ ثم كان الرسول صلى الله عليه وسلم أخوف البشر ومع ذلك لم يكن يغشى عليه فما تحميل ذلك؟
الجواب
لا يقتضي من التعريف أن ينطبق على أحوال الناس، والتعريف الذي ذكرته لـ ابن تيمية موجود، وهو من أحسن ما عرف فيه الخوف: حد الخوف ما حجزك عن المعاصي وما زاد فلا حاجة له.
وقلت: إن سيد الخائفين وأجلهم عليه الصلاة والسلام هو الذي عرف الله عز وجل، وهو أقربنا منزلة إلى الله، فهو أخوف الناس، أما هؤلاء النماذج الذي ذكرت مثل بعض المحدثين، والزهاد، والعباد، فإن وارد الخوف غلب عليهم، وقد سئل ابن تيمية عنهم قال السائل فيما معناه: كيف نرى أن بعض التابعين غلب عليهم الخوف حتى غشي على بعضهم وصعق بعضهم، ولا يوجد ذلك في الصحابة؟
قال: الصحابة تحملوا وارد الخوف فكانوا أقوى قلوباً، وأما هؤلاء فلم يتحملوا الخوف فسقطوا وغشي عليهم، فهذا هو الجواب.
والشاطبي في الموافقات يقول: إن الشريعة تخاطب جمهور الناس كما عُلم ذلك، لكن قد يرى من بعض الناس من يزيد عنده الرجاء أو تزيد عنده العبادة على ما أثر، فيصل إلى هذه المنازل، ولسنا مطالبين بتقليد عبد الله بن وهب ولا غيره فيمن صرع، لكن نعذرهم في ذلك، وهذا من إيمانه وإخباته، ونقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر خوفاً منهم، وأعلى منزلة عند الله عز وجل، وكذلك الصحابة بعده، فهذا هو الجواب، ولذلك سئل ابن تيمية في الفتاوى عن الفضيل بن عياض؛ لأنه ذكر عنه أنه لما مات ابنه علي دفنه ثم ضحك في المقبرة، والرسول عليه الصلاة والسلام لما دفن ابنه إبراهيم قال: {تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون}.
فكيف يتبسم الفضيل ويضحك، والرسول صلى الله عليه وسلم تدمع عينه ويحزن قلبه؟!
الجواب
قال شيخ الإسلام: الصبر واجب والرضا مستحب على الأصح من أقوال أهل العلم، والرسول صلى الله عليه وسلم جمع بين الرضا والصبر وبين الرحمة، رحم ابنه إبراهيم فدمعت عينه وحزن قلبه، لكن الفضيل ما استطاع أن يجمع بين الرضا والحزن أو الرحمة، أراد أن يرحم، فإذا رحم ابنه تدمع عينه ويحزن، وأراد أن يجمع بين الرضا فما استطاع فأخذ مقام الرضا، فمقام الرسول صلى الله عليه وسلم أجل وأرفع وأعلى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].(294/35)
أسباب تفاوت العبادات
السؤال
ما هو الأمر الذي يتفاوت به فضل العبادة؟
الجواب
فضل العبادة يتفاوت بالحسن والإخلاص وليس بالكثرة، قال عز من قائل: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ولم يقل: أكثر عملاً، فالجودة هي المطلوبة في العبادة وحسن العمل كما قال الفضيل: هو أصوبه وأخلصه، قالوا: يا أبا علي! ما أصوبه وأخلصه؟ قال: الخالص أن يكون لوجه الله عز وجل، والصواب أن يكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففضل العبادة يتفاوت بالإخلاص وبالحسن وليس بالكثرة، ولذلك يقول ابن القيم في مدارج السالكين: قد يقوم عبدان في صفٍ واحد -مصليان في صفٍ واحد- هذا بجانب هذا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، لما في قلب ذاك من إخلاص وإنابة وخشوع وخضوع.
ولذلك بعض التابعين كانوا يصلون في اليوم ثلاثمائة ركعة كما أثر عنهم، أو مائة ركعة وليسوا بأفضل من الصحابة، والصحابة أقل منهم نوافل كما عُهد ونقل، لكنهم كانوا أخلص وأصدق، وأصوب وأحسن {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] فالكثير مطلوبٌ إذا وافقه الصدق والإخلاص، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ ربيعة بن كعب الأسلمي: {أعني على نفسك بكثرة السجود} وقال في حديث ثوبان: {فإنك لن تسجد لله سجدةً إلا رفعك بها درجة} فالكثرة تحمد إذا وافقت الإخلاص والصدق والصواب.(294/36)
حكم محبة الثناء الحسن من الآخرين
السؤال
ذكرت في قصة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم حينما علم أنه سمع قراءته البارحة: {لو علمت أنك تسمع قراءتي لحبرتها لك تحبيراً}.
فهل فعل أبي موسى هذا يدخل في الرياء؟
الجواب
فعل أبي موسى هذا رضي الله عنه وأرضاه لا يدخل في الرياء، ولكم أن تنظروا إلى كلام ابن حجر على هذا الحديث، واستنباط الإمام مالك رحمه الله تعالى، فإنه استنبط من قصة ابن عمر لما سأله صلى الله عليه وسلم عن الشجرة التي تشبه النخلة، ما هي؟ قال ابن عمر: {فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت أن أقولها، فلما أخبرت أبي - عمر - قال عمر: وددت أنك قلتها وأنه لي كذا وكذا أو أني فعلت كذا وكذا} قال الإمام مالك: يؤخذ من هذا أن محبة الخير أو الثناء الحسن لا يدخل في باب السمعة، ومثل هذا فعل أبي موسى، فإن من تكلف أمراً ليصلح به الله سبحانه وتعالى وليكون وسيلةً خيرة نفع الله به وليس من الرياء، وذكر ذلك ابن القيم في طريق الهجرتين، وذكره في مدارج السالكين، وقال من ذلك: إن الخطيب يجمل كلامه، ويحسن أسلوبه ليقبل الناس عليه، وكذلك المقري يحسن صوته ومن نغمته ونبرته ليؤثر في الناس، ولذلك نحن مأمورون أن نحسن ونزين القرآن بأصواتنا، وفي حديث عنه صلى الله عليه وسلم: {ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت} وقال: {زينوا القرآن بأصواتكم} على ما في الحديث من ضعف، لكن ليس هذا من باب الرياء والسمعة لكن هذا من باب الحسن والجودة، والرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا خطب على المنبر كما في صحيح مسلم عن جابر: {يشتد صوته صلى الله عليه وسلم، ويشتد غضبه، وتحمر عيناه} فاشتداد صوته، وأداء النبرة للخطابة من باب التأثير والتكلف فيها لتقبل فهذا لا بأس فيه، ولا شائكة ولا شائبة، ولا رياء إن شاء الله.(294/37)
خطورة من يأمر بالمعروف ولا يأتيه
السؤال
إني شابٌ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه، فهل أترك الأمر والنهي خشية النفاق، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
نسأل الله أن يصلح حالنا وحالك، وإني أدعو نفسي وإياك وكل سامع إلى أن نجعل هذه الآية نصب أعيننا: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] وتصدر هذه الفعلة من طالب العلم أو من الداعية إذا كان واجهة للناس أو قدوة، ثم يأتي بهذا العمل، يقول عز من قائل في سورة الأعراف: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176] فالمطلوب أن نحاسب أنفسنا جميعاً ولا نقول إلا ما نفعله، هذا في الفرائض، أما النوافل فأمرها فيه سعة، فهي أوسع من أمر الفرائض، ولذلك سأل سائل الإمام أحمد: هل لا أدعو إلى شيء حتى أكمل في العبادة والنسك؟ قال: لو توقف كلٌ منا إلى أن يكمل ما دعا إلى الخير أحد.
لكن علينا أن نسدد ونقارب، فلا نخل بالفرائض ولا نرتكب الكبائر، أما في الأمور المستحبة؛ فإنك تدعو إليها ولو لم تعملها ليكتب الله لك الأجر وتحاول أن تفعل، وليحذر كلٌ منا أن يكون من الذين يدعون إلى الخير ولا يأتونه ويدعون إلى الشر وهم يأتونه، ففي صحيح مسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه قال: {ذكر صلى الله عليه وسلم أن رجلاً يلقى في النار فتندلق اقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في رحاه، فيجتمع عليه أهل النار، فيقولون: يا فلان! ألست أنت الذي كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! قال: بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه} فنعوذ بالله من هذه المنزلة، فعلى الإنسان أن يحاسب نفسه ويسدد ويقارب؛ ويعمل ليعلم أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له سبحانه وتعالى وصواباً.(294/38)
حكم من بلغ ولم يصم
السؤال
امرأة تسأل وتقول: قد بلغت وأنا في سن الحادية عشرة، ولم أصم في السنة الأولى التي بلغت بها، هل علي كفارة أم صيام؟
الجواب
هذه المرأة تسأل تقول: أنها بلغت ثم لم تصم في هذه السنة، الذي أعلمه أن عليها أن تصوم، لأنها لما علمت وعرفت وجب عليها أن تصوم؛ لأنه أدركها سن التكليف، وقد دخلت في سن يتوجب عليها أن تصوم ثم فرطت فعليها أن تقضي هذا الصيام، وإن دخل عليها رمضان آخر؛ فعليها أن تصوم وتكفر عن كل يوم بإطعام مسكين، هذه فتوى ابن عباس رضي الله عنه في الكفارة لمن تجاوز رمضان آخر، ولا أعرف حديثاً مرفوعاً صحيحاً جاء في مسألة إضافة كفارة الإطعام مع الصيام إذا تجاوز رمضان، أما هي فتصوم.(294/39)
حكم ترك الضحك وهجر الملذات
السؤال
بعض الخائفين نقل عنهم ترك الضحك وهجر الملذات، فهل هذا من الإسلام؟
الجواب
هذا نقل عن كثير، وبعضهم يقول: أين أنتم من فلان ما رفع طرفه إلى السماء أربعين سنة؟ والآخر يقول: أينكم مني ما أكلت رطباً خمسين سنة؟ يعني البلح، وآخر يقول: ما مددت رجلي، والآخر يقول: ما فعل وفعل، وهؤلاء يرد عليهم بالسنة؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام وقع في عهده من أشباه هؤلاء القوم ثلاثة، قال أحدهم: {أما أنا فأقوم ولا أنام، والآخر قال: لا أتزوج النساء، والثالث قال: أصوم ولا أفطر، فاستدعاهم صلى الله عليه وسلم، وقال: إني أعلمكم، وأشدكم لله خشية -وفي لفظ: لأنا، عليه الصلاة والسلام- وإني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني}.
ترك الضحك ليس من السنة بل يضحك للحاجة، والرسول عليه الصلاة والسلام ضحك حتى بدت نواجذه في بعض الحالات لكن باقتصاد، ولا يكثر من الضحك للحديث الصحيح حديث أبي هريرة يقول صلى الله عليه وسلم: {ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب} فليقتصد الإنسان في هذا الأمر، وليلتفت ويتفكر في آيات الله في السماء، ويمد رجليه، ويأكل الرطب، وينام ويقوم، ويتزوج النساء، ويصوم ويفطر، وعليه بالسنة.(294/40)
ضوابط الهجر وشروطه
السؤال
إن لي أشقَّاء لا يصلون والعياذ بالله، وهم على معاصٍ كبيرة يا شيخ! ولقد نصحتهم فلم يستجيبوا لي، ولقد هجرتهم فهل فعلي هذا صحيح؟ ومتى يفضل الهجر؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
واجبك على حالتين:
الحالة الأولى: أن تصبر في النصيحة وتحتسب، وتواصل معهم بالكلمة اللينة والطيبة والصبر والتودد؛ علَّ الله أن يهديهم سبحانه وتعالى ولا تيأس، فإذا فرغ صبرك ورأيت أنه لا حيلة لك بهم فعليك بالمقام الثاني وهو الهجر، فتهجرهم لئلا تكون شريكاً لهم، أو موافقاً لهم، أو مواداً لهم، والهجر واردٌ في الإسلام وهو من أسباب الردع للعصاة، وقد نص عليه الأئمة.
والرسول عليه الصلاة والسلام هجر كثيراً من العصاة؛ كما فعل بالمتخلفين في تبوك؛ فإنه هجرهم صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بهجرهم، فعليك أن تهجرهم، ولكن لك أسباب غير أسباب الزيارة أن ترسل لهم رسائل، أو تتصل، أو تصلهم ببعض الناس من الدعاة والأخيار علَّهم يؤثرون فيهم، وتدعو لهم بظهر الغيب علَّ الله أن يصلحهم.(294/41)
مراتب الخوف والكتب التي تتحدث عن ذلك
السؤال
ذكرت جزاك الله خيراً أن المرتبة الأولى من الخوف هي المراقبة، فما المراتب الأخرى؟ وما هي الكتب التي تنصح بقراءتها في هذا الموضوع خاصة؟
الجواب
هذه المنازل كما تعرفون والمقامات والأحوال إنما عددت في القرن الثالث فما بعد، وإلا فالصحابة رضوان الله عليهم ما عددوها كهذا التعداد، كأركان الصلاة، وشروطها، وأركان الوضوء وشروطه وفروضه فإنها لم تعدد عند الصحابة هكذا وإنما عددت فيما بعد، فأعمال القلوب كفروع الفقه، فقلت: إن المرتبة الأولى من مراتب الخوف: المراقبة، وهي أول شيء، ثم لا يقتضي أن يكون بعدها مراتب، لكن مرتبة المراقبة فالعمل فالمرابطة ويسمونه الحسبه، وقد ذكر هذا الغزالي في الإحياء، وأنا قلت لكم: التحفظ من هذا الكتاب، ومن أحسن من كتب في هذا المجال ابن القيم صاحب طريق الهجرتين ومدارج السالكين، وينتبه للكتب الأخرى فإن فيها الغث والسمين -غير كتب الشيخين- وابن تيمية في المجلد العاشر وفي المجلد الحادي عشر من فتاويه فإنه أتى بهذه المقامات وذكر كثيراً من هذه الأحوال، وأقر هذا الكلام، فلينتبه لهذا.(294/42)
ما يعين على استحضار الخوف
السؤال
ما هي الأمور التي تعين على استحضار الخوف من الله عز وجل؟
الجواب
الأمور التي تعين على استحضار الخوف من الله عز وجل هي:
أولاً: المحافظة على الفرائض والتزود بالنوافل، وهي أول أسباب الولاية لحديث أبي هريرة المتقدم.
ثانياً: تدبر القرآن، فإنه كلام الله عز وجل وأحسن ما عبد به سبحانه وتعالى هو هذا الكلام، فتدبر الكلام من أسباب الخوف.
ثالثاً: ملازمة الذكر دائماً وأبداً {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فالذكر من أسباب الولاية:
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
وناده إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن متى
رابعاً: تذكر الموت، والاعتبار بالمقابر وزيارتها؛ فإنها من الأسباب العظيمة في توريث الخوف عند العبد.
خامساً: مجالسة الصالحين والأخيار وموانستهم وزيارتهم، وموادتهم ومراسلتهم، وطلب دعائهم إلى غير ذلك، وبمفهوم المخالفة: مقاطعة الفجار والأشرار والعصاة.
وأسأل الله عز وجل أن يتقبلنا وإياكم في هذه الليلة المباركة، وأنه كما جمعنا في هذا المكان الطاهر الطيب أن يجمعنا في مستقر رحمته، وأن يتقبل منا أحسن ما عملنا، وأن يتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(294/43)
واجب الأمة بعد زوال الغمة
إن من أعظم النعم؛ نعمة الحماية والأمن والاستقرار، ولا بد من شكر هذه النعمة بتحكيم شرع الله في الأرض وبالرجوع إلى طاعة الله، وكثيراً ما يرفع الطغاة شعارات كاذبة من أجل استعطاف الناس، وكثير من الناس من يضحي من أجل عقيدته، سواءً كانت حقاً أو باطلاً.(295/1)
حقيقة الغمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً:
يا رب حمداً ليس غيرك يحمد يا من له كل الخلائق تصمدُ
أبواب كل مملكٍ قد أوصدت ورأيت بابك واسعاً لا يوصدُ
الصالحون بنور وجهك آمنوا عافوا بحبك نومهم فتهجدوا
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123] لمن الخطاب؟ لمحمدٍ عليه الصلاة والسلام الذي حمل النصر الحقيقي للأمة، الذي رفع رأسي ورأسك ورأس أبي وأبيك، ورأس جدي وجدك، بنى المنائر والمنابر، وبنى المعاهد والجامعات بلا إله إلا الله:
دعها سماويةً تجري على قدرٍ لا تفسدنها برأيٍ منك منكوسِ
عنوان هذه المحاضرة: واجب الأمة بعد زوال الغمة.
ولها عناصر:
الأول: نعمة الحماية والاستقرار، وأثرها على الناس.
الثاني: من الناصر؟ من الذي نصرنا؟ من هو هذا الذي أيدنا وخذل عدونا؟
الثالث: شكر المنعم تبارك وتعالى بماذا يكون؟
الرابع: إقامة شرع الله في الأرض، جزاء تمكينه ونصره تبارك وتعالى.
الخامس: البناء العقدي المتين.
السادس: دروسٌ من الأزمة والغمة.
ليست الغمة أن تقاتل الشعوب من أجل مبادئها ومن أجل نصرة أفكارها الحقة، فذلك فريضةٌ في القرآن وواجبٌ في السنة، وليست الغمة أن تدفع الأمة أبناءها ليقدموا أرواحهم، ويقدموا جثثهم قرابين لله الواحد الأحد، فعلى جثث حمزة ومصعب وخبيب قامت لا إله إلا الله.
وليست الغمة أن نقف في وجه الكافر، وفي وجه المعتدي والظالم، ونقول له: قف؛ فقد وقف صلى الله عليه وسلم في وجه أبي جهل، وأبي لهب، ووقف موسى في وجه فرعون، ووقف إبراهيم في وجه النمرود!!
وليست الغمة أن نخوض المعارك، فنحن أبناء المعارك ولدتنا كابراً عن كابر:
فإن الماء ماء أبي وجدي وبئري ذو حفرت وذو طويتُ
وما يخوض المعارك إلا نحن، ومن علم الناس القتال إلا نحن؟ ومن الذين سكبوا دماءهم رخيصةً في سبيل الله تعالى إلا نحن؟! وليست الغمة أن تشدخ رءوسنا تحت الدبابات، وتقطع أكتافنا تحت المجنزرات.
ولكن الغمة ما هي؟
الغمة: أن تحيد الأمة عن مبادئها وتعيش خواءً عقدياً، والغمة أن تنطمس: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] من نفوس الأمة!
والغمة: أن تنحرف الأمة عن ولائها لله وتبرئها من أعداء الله!
والغمة: أن تعيش الأمة ذاهلةً ضائعة لا تدري أي طريقٍ مستقيم رسمه محمد عليه الصلاة والسلام.
والغمة: أن تقدم الأمة شبابها إلى الملاهي والمنتديات الحمراء والمقاهي عباداً للمعصية وعشاقاً للنزوة، مصفقين للعبة!!
هذه هي الغمة.
ولكن لنستمر في مسلسل هذه المحاضرة، والله المستعان وعليه التكلان.
يا رب هب لي بياناً أستعين به على قضاء حقوقٍ نام قاضيها(295/2)
بعض مظاهر نعمتي الحماية والنصر
من الذي يحيمنا؟ أي جيش يحمينا إذا أراد الله ألا نحمى؟ أي قوةٍ تمنعنا وتحرسنا؛ إذا أراد الله أن يخذلنا؟: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57].
أما مكننا في الحرمين؟ أما أصبحت ثمرات العالم تجبى إلينا من أنحاء الأرض، من الصين، وفرنسا، وبريطانيا، والدنمارك؟! ألسواد عيوننا؟ ألدعاياتنا العالمية؟ ألحبهم لنا؟ لكن لدعاء شيخنا في العقيدة، وأستاذنا في المبادئ، إبراهيم الخليل عليه السلام الذي يقول: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
فما دام أنا مقيمون على هذا العهد والميثاق فأبشروا بالاستقرار والأمن والسكينة، فإذا أخلفنا كان الخلف جزاء ما فعلنا، وكان النقض جزاء ما أبرمنا.
ويتخطف الناس من حولهم.
انظر إلى الشعوب وإلى المدن: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنْ الْقُرَى} [الأحقاف:27] أما تخطفوا؟!
أما عاشوا الذلة؟!
أما عاشوا التشتت؟!
أما أصبحوا ينامون على زمجرة الصواريخ ويستيقظون على أزيز الطائرات؟!
أما قتلوا بالألوف؟!
أما عاشوا الجفاف والمجاعة التي ما ذقناها؟!
لماذا؟
لأسرارٍ سوف أذكرها:
{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4] من هو رب هذا البيت؟
الواحد الأحد الذي أطعمهم من جوع، أي صحراء صحراؤنا؟ لا ترى فيها بساتين ولا حدائق، صحراء قاحلة، لا أنهار! لا مروج ولا بحيرات، صحراء يموت فيها الظليم، صحراء يهلك فيها النعام، ولكن أغاث الله أهلها! {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ} [الحج:41].
وهذا وعدٌ من الله وقسم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحج:41] أي: جعلناهم متمكنين قائمين على خيرات الأرض وثرواتها، واقفين على أوامرها، متمكنين منها ومن أهلها، ماذا يفعلون؟ {أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41]
وهذه هي مواصفات العباد الصالحين الموحدين، أما أن تعكس الآية بعد التمكين إلى أمة تجعل من النصر طرباً ولهواً ولعباً، ومن التمكين في الأرض مظاهرات صاخبة يختلط فيها الرجال بالنساء، وتنتهك فيها الحرمات، وتضيع فيها حدود الله، فهذا ليس بشكر المنعم تبارك وتعالى.
وقد أخبر عليه الصلاة والسلام -كما في الحديث الصحيح- أنه رأى رؤيا في المنام، حيث رأى أن الأرض زويت له، المشرق والمغرب وهو نائم، ورؤيا الأنبياء وحي، فعلم أن ملك أمته يبلغ ما زوي له عليه الصلاة والسلام، وهذا قد وقع، وقد دخل أتباعه يصلون في قرطبة، ويعبدون الله في السند والهند ويكبرون على ضفاف الفرات والنيل، ثلاثة أرباع الدنيا فتحت بلا إله إلا الله:
وأينما ذكر اسم الله في وطنٍ عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
بـ الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
وأخبر عليه الصلاة والسلام -في الصحيح- لـ عدي بن حاتم {أنه سوف تمر الظعينة من صنعاء إلى حضرموت لا تخاف إلا الله والذئب على غنمها} وبالفعل يرتحل المرتحل من الجزيرة ولا يخاف، يحمل الذهب والفضة، بل يحمل روحه، ولا يخاف قتلاً ولا سلباً ولا نهباً بنعمة لا إله إلا الله.(295/3)
من هو الناصر؟
من الناصر؟ من الذي نصر؟ {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123] ما ينصر إلا الله، وهذا الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: ما هو عددكم في بدر؟ أي سلاحٍ كنتم تحملونه؟ أي قوةٍ كنتم تحملونها؟ لا شيء.
لكن نصركم الواحد الأحد في بدر وفي غيرها وأنتم أذلة، الكفار ثلاثة أضعاف المؤمنين ومع ذلك انتصر رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، لماذا؟ لأن القائد الأعلى للقوات المسلحة في بدر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وتحت قيادته جبريل عليه السلام، يقول حسان في أشرف بيتٍ قالته العرب:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمدُ
قال الأصمعي: أجزم جزماً أن هذا أشرف بيتٍ قالته العرب، يقول: يا عرب! يا دهر! يا تاريخ! قواتنا المسلحة في بدر، قائدها محمدٌ عليه الصلاة والسلام، وتحت لوائه من القادة جبريل عليه السلام، فأروني قيادةً في الدنيا كهذه القيادة؟ لا أحد.
وقف صلى الله عليه وسلم في بدر، والجيش الإسلامي قد نام تلك الليلة، يقول علي كما في السيرة لابن اسحاق: {نظرت ليلة بدر فما رأيتُ إلا نائماً إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني رأيته مستقبلاً القبلة يدعو ويبكي حتى أصبح الصباح}.
نامت الأعين إلا مقلة تذرف الدمع وترعى مضجعك
ماذا كان يقول في الليل؟
يقول: {اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم نصرك الذي وعدتني} هو يتحرى نصر الله ليفتح ثلاثة أرباع الكرة الأرضية؛ لأصلي أنا وإياك ونرفع سباباتنا بلا إله إلا الله!
وسقطت بردته من على منكبيه، فجاء أبو بكر وقال: {يا رسول الله! كفاك مناشدتك لربك} وكان الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم بالله، وكان متيقناً أنه لا ينال ما عند الله إلا بكثرة الإلحاح والمسألة وصدق اللجوء والضراعة والشكوى، كما قال موسى فيما يصح عنه، وهو يسجد ويبكي: {اللهم إليك المشتكى، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك} {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
وهذه الدقائق الحارة، دقائق النصر، الدقائق التي تقف فيها بين لحظة وأخرى تتحرى النصر، اسمها ساعة الصفر: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] من الذي يجيب المضطر إذا دعاه؟ هناك آيات لا يشاركها أوصاف للواحد الأحد، لا يشاركه فيها أحدٌ من الناس: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] وهذه تسمى ساعة الصفر.
واسمحوا لي أن أخرج عن المحاضرة بعض اللحظات.
جئت مع بعض الإخوة اليوم من أبها ولما اقتربنا من الرياض، تعطلت بعض أجهزة الطائرة فلم نستطع الهبوط في المطار وبقينا ساعة في سماء الرياض، وكلما أتينا المدرجات -تسع مرات- عاد بنا الكابتن وأعلن أنه لا يستطيع الهبوط، أتدرون في أي شعورٍ كنا؟ أما النساء اللواتي معنا فانهمرت دموعهن بالبكاء، وأما نحن فأصبحنا في عالم القبر: من ربك؟ وما دينك؟ وما نبيك؟ وتيقنا من الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وكتبنا بعض الأسماء في ورقة، تعريف بنا؛ لأننا نسينا تعريفاتنا في الحقائب، فكتبناها حتى يجدنا الناس إذا أصبحنا جثثاً على الأرض، فنحن في الصباح ارتحلنا من أبها، ثم أصبحنا في مصيبة لا يعلمها إلا الله، وذقنا طعم التوحيد الحار هذا اليوم، وعرفنا مقدار لا إله إلا الله! وعرفنا من الذي ينجي من الكرب: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] وعرفنا قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65].
فتجردنا إلى الله وسألناه كما سأل أهل الغار ربهم، وما وجدنا معنا إلا التوحيد!!
هذا هيامي وتقصيري وأعمالي فقلتُ عم صباحاً أيها الطلل البالي
ونزلنا بعد أن ظننا أننا من أهل الآخرة، ولكننا عرفنا أن التوحيد ينتصر في هذه الوقفات، وعرفنا أن كارل ماركس ملعون، وأنه خان الله ورسوله والمؤمنين، وأن (لا إله والحياة مادة) تحترق في هذه الدقائق الغالية.(295/4)
الرسول والصحابة في ساعة الصفر
الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة عاشوها: {وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] إذا كان أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، يظنون بالله الظنون إلى درجة أنهم ظنوا أن الله لا ينصرهم، فكيف بنا؟!
يحفر صلى الله عليه وسلم فيقدح الشررُ من الآلة التي يضرب بها، ويقول: رأيت قصور كسرى وسوف يفتحها الله عليَّ، فيقول المنافقون: ما شاء الله! لا يجرؤ أحدنا أن يبول من الخوف، ويفتح الله له قصور كسرى وقيصر}
وبالفعل صدق الله ورسوله، وهذا هو الصحيح الوارد الثابت في التاريخ والكتاب والسنة.
يقول صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس بعد انتصاره في الفتح: {الحمد لله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده} وأثبت الله هذه القضية، وأنها تغيب عن كثيرٍ من الناس، فينسبون النصر لغير الناصر تبارك وتعالى، ونصرنا بآل فلان وآل علان وهذا كذب ودجل: {إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160].
إذا خذلكم الله من ينصركم؟ كان العدو ليس سهلاً، مليون مقاتل، يا أخي! مليون جندي! مليون يحملون السلاح الفتاك، ألوفٌ من الدبابات، والمجنزرات والآليات، ولكن دعاء الصالحين أسكته وبكته وفضحه، دعاء أهل الحرمين، ودعاء القنوت في المساجد، الأكباد الحرى، الدمعات الحارة، الدعاء الصادق إلى ذي العرش والجلال والجبروت، إلى من على العرش استوى، كم من مسلم دعا: اللهم اخذله، اللهم أسقطه، اللهم اقصم ظهره، فقل لي: لعلها دعوةٌ واحدة قبلت والملايين رفضت، فقصم الله ظهره، فضيحةٌ ما بعدها فضيحة، وعارٌ ما بعده عار:
فمن في كفه منهم قناةٌ كمن في كفه منهم خضابُ
وتولوا خاسرين نادمين حقيرين، ولنا عودةٌ في هذا الموقف، يقول سبحانه: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10].
وترى التوحيد يهتز عند بعض الناس بما يسمعون ويقرءون، خاصةً إذا فصلوا عن قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، فينسبون النصر لغير الناصر، وينسبون الشكر لغير المنعم، وينسبون الجميل لغير المتجمل، فتعالى الله ما نصرنا إلا هو وحده فله الحمد وله الثناء الحسن دائماً وأبداً ليلاً ونهاراً.
خرج صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألف مقاتل من المسلمين، وكان هذا من أكبر الجيوش فيما أعلم في تاريخ الدعوة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام، فخرجوا إلى حنين وكان العادة أنهم من المئات إلى الألف فما دون، فالتفت بعض الصحابة فرأى الجيش ضخماً مسلحاً عرمرماً، فتبسم وقال: [[لن نغلب اليوم عن قلة]] فأراد الله أن يخبر الصحابة أنه ليس النصر بكثرة الجيش أو بقلته، ولما بدأت ساعة الصفر وابتدأت المعركة وأتى أهل هوازن مع مالك بن عوف، وأطلقوا السهام، فرَّ الجيش جميعاً ما بقي إلا ستة.
أين الكثرة؟! أين الكتائب؟! أين الميمنة والقلب والميسرة؟! لا شيء.
ونادى عليه الصلاة والسلام في الناس، ورجعوا وانتصروا فأنزل الله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25].
فمن الذي نصركم؟ إنه الله.
فلله الحمد.
كان عليه الصلاة والسلام يقول قبل المعارك: {اللهم منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم} فينتصر عليه الصلاة والسلام.
وهذا سليمان عليه السلام رأى جيشه فقال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40].
يوم ننتصر نقول: الحمد لله، ونشهد أن لا إله إلا الله، أما هذه الإشارة فإنها من كيس ريجول الفرنسي، وهي لاغية في عهد محمد عليه الصلاة والسلام لا حظ ولا دخول لها في بلاد المسلمين، نحن إذا أشرنا أشرنا بالوحدانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
من الفكاهات الإسرائيلية التي وضعت يقولون: طارق عزيز بعد ما هزم جيش العراق، دخل على صدام حسين، فأشار إليه بالسبابة والوسطى -يعني: علامة النصر- فظنها علامة النصر وتبسم وقال: انتصرنا، قال: لا.
بقي أنا وأنت.
وسندها معلول، قال سبحانه: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات:173].(295/5)
نصرة الله لموسى عليه السلام
ولما حضر موسى عليه السلام، قال بنو إسرائيل لما اقتربوا من البحر: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62] أي: معي قوةٌ لا تغلب، وهذه قضية سوف أقررها في العنصر الرابع، ولا أستفيض فيها هنا، حتى نعرف أنحن أم غيرنا الأقوياء؟ والقوي مع من؟ ومن الذي ينبغي له أن يخاف ويقف دائماً على أعصابه؟ ومن الذي يجب عليه أن يطمئن بنصر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟ قال: {كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62].
تدرون كم كان مع فرعون؟! يذكر ابن جرير: أن جيش فرعون ألف ألف، وقيل: ستمائة ألف، فالتفت بنو إسرائيل إلى جيش فرعون -وهذا في تاريخ ابن جرير - قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] وأنا أنسبها لـ ابن جرير وهي على عهدته وذمته ومن أحيل على مليء فليحتل، فقال الله عز وجل لموسى: اضرب البحر، وكان متأخراً في آخر الجيش، فقال لهارون: اضرب البحر يا هارون! فأخذ هارون العصا وضرب البحر، قال البحر: من هذا الجبار الذي ضربني، فقال الله عز وجل: أنت -يا موسى- اضرب البحر، اليد غير اليد والعصا غير العصا:
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
فضرب البحر فنجاه الله، وفي آخر لحظة قال فرعون: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90].(295/6)
الطغاة يتعلقون بالإسلام وقت الهلاك
وهذا مثل دجاجلة العرب.
العجيب أنهم في ساعات الصفر ووقت الهلاك يتعلقون بالإسلام!
يتعلقون تعلقاًَ يوم الرزية والحساب
بمعالمٍ فيها عروش قد بنوها من خراب
فإذا أحسوا بالرزية تعلقوا بالانتساب
أتاتورك لما خاف من ثورة الأتراك تعلق بالإسلام والجهاد، والخميني ظهر فنادى بالجمهورية الإسلامية وآية الله، وحجة الإسلام، وروح الله والكتاب والعدل، ثم ذبح الدعاة والعلماء وسحق الإسلام وابن بلا، في الجزائر كان يذبح المسلمين، فلما أنزله أبو مدين، وأدخله السجن بدأ يحفظ القرآن وخرج ينادي الشعب في الجزائر يقول: أعيدوني للحكم؛ لأعيد لكم حكم الله، كذلك رجل العراق لما أحس بساعة الصفر نادى بالجهاد ويقول: أنتخيك يا رب، يقول: أدعو نخوتك، سبحان الله! فهذه أمة دائماً على هذا الطراز وما اتخذت درساً، كل يومٍ وهي تراوح مكانها: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53].(295/7)
ضرورة شكر المنعم تبارك وتعالى
قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
بما يشكر النصر؟ نحن ما نصرنا أنفسنا، نصرنا الله لأن الله أراد لنا النصر، والله لو اجتمعت قوات الدنيا على أن تنصرنا ما نصرتنا! لكن الذي أمره في كلمة كن فيكون نصرنا سبحانه، ما جزاء النصر؟ أن نفعل كما فعل صلى الله عليه وسلم، حيث دخل يوم الفتح فخفض رأسه وبكت عينه عليه الصلاة والسلام ودخل متواضعاً لله وكان إذا فتح عليه الفتوح يسجد سجود الشكر، وقد عقدها أهل العلم أبواباً في كتب الأحكام، باب سجود الشكر: وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه خبرٌ يسره، سجد لله شاكراً.
فالشكر لا يكون بالحفلات الحمراء، حفلات اختلاط الرجال بالنساء وتضييع المبادئ وتضييع لا إله إلا الله، وحفلات التعدي على حدود الله، وحفلات يهيم بها الشعب يصفق ويغني ويطبل ويرقص وينسى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
فهذا كفرٌ بالمنعم سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهي حرامٌ في دين الله أن تحدث، فعلى من نصرهم الله أن يشكروه ويثنوا عليه ويحمدوه كما فعل عليه الصلاة والسلام، قال سبحانه: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:145].
وما هو معنى الشكر؟ له معانٍ ثلاثة:
1 - أن نعلن الشكر بألسنتنا، وأن نردد: والحمد لله رب العالمين دائماً وأبداً.
2 - أن يظهر الشكر على جوارحنا في عباداتنا وسلوكنا وأخلاقنا ومعاملاتنا.
3 - أن نحمل الشكر معتقداً في القلب، فنحمل معتقد التوحيد الذي أتى به رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.(295/8)
من شكر المنعم إقامة شرع الله في الأرض
المقصود من تمكين الإنسان في الأرض؛ ليكون خليفة، والخليفة هو من يحكم بما أنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26].
فمن لا يحكم بما أنزل الله فليس له حق الخلافة في الأرض ولا التمكين ولا الاستقرار في الأرض، وهو ظالمٌ وعميلٌ ودجالٌ ودخيلٌ لا حق له في البقاء، ولا حق له في العيش والاستقرار على وجه الأرض: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] فمن كان ظهيراً للمجرمين فما شكر نعمة المنعم.
قال سبحانه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41].
فجزاء التمكين في الأرض؛ إقامة الشرع: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50] فلا لا للعودة إلى الدستور، ولا للعودة إلى القوانين الوضعية، ولا للعودة إلى خزعبلات البشر، فهذا حرام وهو نقض للميثاق وكفرٌ بالنصر واعتراض على الناصر تبارك وتعالى.(295/9)
البناء العقدي المتين
جربنا أنفسنا في الأزمات، فوجدنا أننا نحتاج إلى جرعات من العقيدة، من لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنا أدري وأنتم تدرون أننا ندرس ونحفظ قوله عليه الصلاة والسلام: {واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك} ولكن إذا حصحص الحق ضاعت هذه الكلمات، نحفظها في الأذهان ولا نبرهن عليها في الأعيان، ويقول عليه الصلاة والسلام، فيما صح عنه: {واعلموا أنه لا تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقها وأجلها} هل سمعتم أن أحداً قتل قبل أن يقدر الله قتله؟ هل سمعتم أن أحداً ذهب إلى الله ولم يستكمل أكل رزقه؟ لا.
قال سبحانه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51] وهذا هو الصحيح، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145].
هل اعترفنا بهذا؟ إن هذا لا يعرفه إلا مثل علي بن أبي طالب.(295/10)
علي بن أبي طالب والعقيدة
يقول أبو الحسن: [[والله لو كشف الله لي الغطاء فرأيت الجنة والنار، ما زاد على ما عندي من إيمان مثقال ذرة]] وهو لم يتعلم درساً لا زرع ولا طه والطبلة، وإنما تعلم: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1 - 3].
علي بن أبي طالب أنزل الدرع الذي عليه في صفين ومعنى تصرفه هذا أنه إن كتب الله له أن يموت فلا يغني الدرع، وإن كتب الله له الحياة فلماذا يلبس الدرع؟ وأخذ الأسباب وارد، والرسول صلى الله عليه وسلم لبس الدرع وبارز فيه، ويقول: {اعقلها وتوكل} كما صح عنه عليه الصلاة والسلام، لكن هكذا علياً أراد أن يلقن الأمة درساً، فقال له ابنه محمد بن الحنفية: يا أبتاه! تبارز بلا درع؟،قال:
أيّ يومي من الموت أفر يوم لا قُدِّر أم يوم قُدِرْ
يوم لا قُدِّرَ لا أرهبه ومن المقدور لا يُغني الحذر
فهذه أبياتٌ في التوحيد: أي يومي من الموت أفر: متى أفر؟ يوم لا قدِّر أم يوم قُدِرْ: يوم لا قدر: يعني الموت؛ لا أرهبه، وإذا ما جاء لا يغني الحذر.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] فاسمع إلى الصفات، صفتان عظيمتان: الحي الذي لا يموت وغير الله يموت: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:36].
فلا بد أن نقف طويلاً مع هذه الآية، ولا بد أن نجعلها تعيش معنا في دمنا ذرةً ذرة، وأن ندخلها قلوبنا وأسماعنا وعيوننا وأبصارنا!
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36] وكل ما غير الله فهو دونه، انظر إلى الكيانات؟ والسلاطين والدنيا؟ كلها دون الله، لكن من يعرف هذا؟ إن هذا يعرفه مثل علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وشيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنهم يدرسون العقيدة واقعاً ويدرسونها منهجاً ربانياً.
علي بن أبي طالب كان جالساً تحت جدارٍ يقضي بين خصمين من أهل الكوفة، فمرَ رجلٌ فقال: يا أمير المؤمنين! احذر الجدار أن يسقط عليك، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فلما انتهى من القضية بين الرجلين قام وخرج بهم، فلما مضى عن الجدار انهد الجدار مكانه.
فحسبنا الله ونعم الوكيل مبدأ كبير يجب أن نحمله فعلاً وقولاً وحياة: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
فإذا فاجأك الخبر، فقل: حسبنا الله ونعم الوكيل، ومهما أبرم الناس، ووضعوا من العراقيل، ودرسوا المكائد والخيانات، فإن حسبنا الله ونعم الوكيل تقصمها بإذن الله؛ لأن الله معك، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النمل:70] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].(295/11)
ابن تيمية وتضحيته من أجل العقيدة
ذكر ابن عبد الهادي تلميذ شيخ الإسلام: أن ابن تيمية رحمه الله لما وصل إلى الاسكندرية، خرج الناس يريدون القصاص من ابن تيمية، لماذا؟ ألأنه سرقهم؟ هل أخذ أموالهم؟ هل سفك دماءهم؟ لا.
بل كان يريد أن يقيم لا إله إلا الله في الأرض، فكل شيء يهون عند ابن تيمية إلا (لا إله إلا الله) يمكن أن يتفاوض على أمور الدنيا، أما أمور الدين فلا.
فتجابه مع البطائحية، وجابه الغلاة والزنادقة، وجابه المعطلة والجهمية، وجابه النصيرية والمعتزلة والأشاعرة، فكلهم خصومه:
وقفتَ وما في الموت شك لواقفٍ كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاحٌ وثغرك باسمٌ
ولو تحدث ابن تيمية عن التيمم والمسح على الخفين وبيع العينة ستين سنة لما اعترض عليه أحد، لكن ابن تيمية تحدث عن معلومات أخرى يجب أن يفهمها الناس، وعاش ابن تيمية لتعيش لا إله إلا الله، فعاش في أذن الدهر، وفي لسان التاريخ، وعلى منبض الدنيا لتعيش لا إله إلا الله، كان دائماً يعيش لتعيش مبادؤه.
يقول: فلما خرج له الناس، قال ابن عبد الهادي: يقول التلاميذ: الناس يريدون قتلك، فنفخ في يديه، وقال: والله كأنهم الذباب أمامي؛ لأنه لا يقطف الرأس إلا من ركبه، فهذه الصناعة الإلهية، وهذا الجثمان إذا لم يكتب الله أن يقطف فلا يقطفه أحد من الناس: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلا} [آل عمران:145].
الكفار نصبوا كميناً حول بيت الرسول عليه الصلاة والسلام، خمسون شاباً تقطر سيوفهم دماً يريدون قتله، وأراد الله ألا يقتل، ليس عنده حراسة إلا حراسة الله، يقول أحمد شوقي:
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فإن الحوادث كلهن أمانُ
فلاحظته عناية الله، وأجرى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى نصره له، وقال لـ أبي بكر في الغار: {لا تحزن إن الله معنا}
فهذه قضايا التوحيد وهذا البناء العقدي المتين، الذي نريد أن نعيشه في الأزمة، وقبل الأزمة، وبعد الأزمة.
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52].(295/12)
احرص على الموت توهب لك الحياة
يذكر في السيرة -وفي هذا شيء من المبالغة، ولكن ذكروه- أن خالد بن الوليد رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، خاض ما يقارب مائة معركة، ومع ذلك ما قتل وإنما مات على الفراش؛ لأن الواحد الأحد كتب له أن يموت على الفراش وألا يقتل في المعركة.
ورأيت بعض العلماء كما في البداية والسير وغيرها ذكر أن أحد الصالحين ترك أكل الأرز، وقالوا له: لِمَ؟ قال: لأني أخاف أن أجد فيه عظماً فينشب في حلقي فأموت.
فأتى ابنه في آخر حياة هذا الرجل، فأتى بأرز وصفاه من العظام، وقال: يا أبتاه! كُل الأرز فإني قد نقيته من العظام، كل من فضل الله عز وجل، قال: باسم الله، فنشب في حلقه عظمٌ فمات.
وبعض الناس عنده تحفظ إلى درجة الوسوسة، ولو وثق برعاية الله مع أخذ الأسباب وتوكل على الله، ما يهمه شيء.
يقولون: فلان من الناس لا يركب السيارة خوفاً من الحوادث، وعنده حمار، في الصباح، يقف بالحمار عند الإشارة، وتجده ذاهباً وراجعاً بحماره، لماذا؟ قال: خوفاً من هذا الحديد، كأنه ما بقي في الدنيا إلا هذه النفس النفيسة أن تموت، قالوا: وأرسل الله عليه سيارة فتصدمه وحماره، فمات:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمارُ
فالمقصود: أن بعض الناس تبلغ بهم الوسوسة في بعض القضايا حتى يأتيهم خوف من البشر.
وهذه قضية موجودة في الرأي العام، ونستقرئها ونعيشها في أنفسنا: أننا كثيراً نخاف من البشر أكثر من خوفنا من رب البشر.
فالآن تصور أن الناس إذا أرادوا أن يتحدثوا عن بعض القضايا، وهم في المجلس فإنك ترى الواحد منهم وهو ينظر إلى النافذة، وينظر في وجوه الجالسين، وينظر في الأجهزة التي أمامه، وينظر عن يمينه وخلفه، ولكن وأنت تغتاب أما نظرت إلى الله؟! وأنت تنم وتشهد الزور وتعصي الله عز وجل أما خفت من الله وهو الرقيب سبحانه؟! وهو الذي معك أينما كنت: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة:7].(295/13)
غير المسلمين يضحون من أجل مبادئهم الباطلة
ويوجد في غير المسلمين -حتى من شباب الصحوة- من يضحي أكثر من المسلمين من أجل مبادئهم، والآن ينتشر شباب الاشتراكية، وشباب الماركسية:
ماركسيون والجماهير جوعى فلماذا لا يشبع الفقراء
وحدويون والبلاد شظايا كل جزء من جسمها أجزاءُ
فهذا واقع الأمة.
ولذلك تجد الاشتراكيين والبعثيين يضحون تضحيات، لماذا يشدخون بالدبابات في العراق والكويت؟ إن هذا من أجل مبادئهم.
آمنت بـ البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني
لكن تجد في الصالحين من يخاف خوفاً عظيماً حتى يدخله الوسوسة، فتجده يخاف من البشر، ويخاف من أن يقول كلمة الحق! وما هي أسوأ الاحتمالات؟ أن يذهب رأسه!!: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران:157].
وهذا مقصد نبيل.(295/14)
لا بد من الابتلاء
يقول المسلم الأول:
وليس على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
رأيت في ترجمة لـ أبي الأعلى المودودي رحمه الله، المؤلف الباكستاني الشهير أنه سجن كثيراً في سجن أيوب خان، يقول أحد الشعراء وقد طرد من دولة عربية إلى ميونخ في ألمانيا
في قصيدة يقول فيها:
نفسي فدتك أبا الأعلى وهل بقيت نفسي لأفديك من أهلٍ ومن صحب
أما استحى السجن من شيخٍ ومفرقه نورٌ لغير طلاب الحق لم يشبِ
يقول: ألا يستحي السجن منك يا أبا الأعلى، تسجن وأنت في الثمانين!!
وقد قام العلماء في العالم الإسلامي وكتبوا لـ أيوب خان برقيات وأنذروه وخوفوه بالله عز وجل، فقدم عرضاً لـ أبي الأعلى وهو في السجن وقال: يا أبا الأعلى! اكتب لنا تنازلاً واعتذاراً حتى نمسك ماء وجهنا أمام العالم الإسلامي، فوصلت الورقة إلى أبي الأعلى، فشقها ورماها في السلة، وقال: إن كنتُ سجنتُ بحق فأنا أصغر من أن أعترض على الحق، وإن كنتُ سجنت بباطل، فأنا أكبر من أن أستخذي للباطل وبقي حتى أخرجه الله عز وجل.
وهذا هو عالم التضحيات، أمام المد البعثي والماركسي والنصراني واليهودي لا يثبت أحد إلا ويجعل أمامه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:36].
يقول الحجاج لـ سعيد بن جبير: والله لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى، قال: لو علمت أن ذلك إليك، لاتخذتك إلهاً.
وهذه عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
والله لا يبعث نبياً ولا رسولاً من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، حتى يبتليهم بالمصائب والكوارث والمحن والفتن إلى درجة أن يعلم الواحد منهم أنه لا إله إلا الله، ولا نافع ولا ضار ولا محيي ولا مميت إلا الله، ولذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19].
فهذه قضيةٌ كبرى، فتجد بعض الأخيار يريد أن يدعو ولكن بشرط ألاَّ يمس، ويريد أن يدعو ولكن بشرط ألاَّ يبتلى، ويريد أن يدعو ولكن لا يهضم شيء من حقه، وهذا خلاف سنة الله عز وجل في الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.(295/15)
دروس من أزمة الخليج
دروسٌ من الغمة التي مرت بالمسلمين:(295/16)
وجود خواء عقدي في الأمة
الأمر الأول: اكتشفنا خواءً عقدياً في الأمة، وقلة توكل، وأمة لا تتوكل تخاف الموت، وأنا أعرف أناساً في قرىً بعيدة يبعدون عن المعركة ما يقارب ألف ميل، ويكاد أحدهم أن يموت هناك، في مسجد في جدة كنت أتحدث في وقت الحرب -خطر ممنوع الاقتراب- فكان الحديث من أول الليل إلى آخر صلاة العشاء عن التوكل والصمود والشجاعة والبذل والعطاء، والناس جمعٌ حافل، فمرت سيارة فانفجر إطارها وسمعنا له دوياً فكاد الناس يخرجون من الأبواب الأخرى، قلنا: وما هي فائدة المحاضرة من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، وأين الشجاعة؟ وكيف لو كان غير انفجار الإطار.
المقصود: أن الأمة اكتشفت أنها تعيش ضعفاً في التوكل، وأنت تجد أن الشعوب المحاربة لا تخاف ولو كانت وثنية لأنها تعودت.(295/17)
ولي المؤمنين هو الله
الأمر الثاني: أن علينا أن نعلم أن ولينا هو الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] فعلينا أن نوثق الصلة به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يمد بيننا وبينه حبالاً من الرحمة والكرم والجود، وأن يجعلنا أقرب الناس إليه.(295/18)
لابد أن تعرف عدوك
الأمر الثالث: علينا أن نعرف عدونا، ولا تكن مواقفنا حسب المزاج أو المصالح، فمواقفنا مع: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فإن هؤلاء الذين كانوا أصدقاء لنا بالأمس أظهروا عداوتهم؛ لأنهم لا يحملون لا إله إلا الله، فكانوا أفتك الناس وأحقدهم وأبغضهم، وأقول: فعل البعثيون بـ الكويت ما لم تفعل إسرائيل بـ فلسطين، فأين إخوان العروبة؟ وأين الوحدة والاشتراكية؟ وأين الدم العربي؟ وأين القروي؟ وقوله:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهمِ
فيا حبذا كفر يؤلف بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ
وتركوا لا إله إلا الله، وتوحدوا على دم العروبة؛ فماذا نفعتهم العروبة؟ فهذا العربي يفعل بالعربي ما فعل!! قتل للنساء وسحق للأطفال، وهتك للحرمات، واستعداءٌ ينبي أن وراءه حقداً مريراً لا يعلمه إلا الله، فأين العروبة؟
العرب بلا إسلام أصفار، وما أنتجوا شيئاً في التاريخ إلا بهذا الدين، كما قال عمر: [[نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]].(295/19)
الدعوة إلى الله تحتاج إلى أفعال
الأمر: أن علينا ألا نبقى دعاة كلامٍ للناس، بل مع كلامنا نقدم خدمات للعالم وللناس، وهذا نقصٌ نعيشه جميعاً، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يؤلف الله عليه قلوب الناس بكلامه وخطبه ومحاضراته فقط، بل بأخلاقه وتعامله.
ولعلك تجد صالحاً في حيٍ من الأحياء، يقف سلبياً عن مشاكل الحي وحوائجه ومتطلباته، ثم يأتي يوم الجمعة، فيلقي عليهم خطبةً عصماء، فلا يتقبلونها؛ لأنهم ما وجدوا له أيادٍ بيضاء قدمها إليهم، مثل ماذا؟ زيارة المريض، الوقوف مع الناس في مناسباتهم: تفقد الجار إطعام المحتاج، زيارة المسكين، السؤال عن الغائب عن المسجد، الوقوف مع المنكوبين، فهذه تساوي آلاف المحاضرات.
الأمر الثاني: اكتشفنا سلبيةً يعيشها كثير من الناس حتى من الصالحين، مثل ماذا؟ تجد أن عنده عواطف، حباً لله ولرسوله وللمؤمنين، لكنه لا يقدم شيئاً، يفرغ هذه العاطفة في خطب رنانة مشحونة بالإبداع وبالكلام المسجوع، وبالأسلوب الضخم، والغضب، والتفجر، ثم يخرج فلا ينتج شيئاً، ولو أنه حبس هذه الكلمات، واقتصد في هذه الألفاظ، وفرّغ طاقته في عملٍ منتج ودعوة، أو إهداء شيء طيب من الكتيبات والأشرطة، أو القيام على أحوال الناس، أو بأي وسيلةٍ تنفع الإسلام لكان خيراً من هذا الزبد: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17]
واكتشفنا أن الكفر ملةٌ واحدة، وأنهم أعداءٌ لنا جميعاً، وأنه يجب علينا أن نؤاخي من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأما الناس فمهما ناصروا فلمبادئهم ولمصالحهم والله أعلم، لكننا نحن لا بد أن نحمل الولاء، وأن نعرف أن هذه الأمة مقدسة، قدسها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالتوحيد الذي أنزله على رسوله عليه الصلاة والسلام، ثم علينا كذلك أن نعد أنفسنا للموت، وألا نخاف من شبح الموت، فنعد الطفل وهو صغير للأيام الحاسمة والساعات المهلكة، ونعلمه كيف يستقبل الموت برحابة صدر.
يقول أهل السير: كانت فاطمة أم علي بن أبي طالب وهو طفل وتقول:
بأبي وأمي حيدره كليث غاباتٍ كريه المنظره
وحيدرة الأسد، فكانوا يقولون وهو طفل: إذا سقط على الأرض ووقع على رأسه فإنه لا يبكي!!
ولكن تجد بعض الأطفال في الثانية عشرة لا يستطيع أن يخرج بعد صلاة العشاء من البيت، خوفاً من شبح الموت، فـ علي رضي الله عنه يحضر المعارك دائماً ويقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غاباتٍ كريه المنظره
أكيلكم بالسيف كيل السندرة
وهذه هي التي عاشها أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما نحن نعيش شبح الموت.
وقد شارك في ذلك بعض الوسائل فخوفونا من بعض الناس ورسموا له أنياباً وضروساً وعيوناً، حتى رأيناه في المنام، فخاف الأطفال والنساء والكلاب والقطط من هذا المخلوق وهو ضعيف لا يساوي شيئاً.
فعلينا أن نبني أنفسنا على ألا نخاف الموت وأن نعرف أننا أبناء الحروب، ورثناها كابراً عن كابر، وأن من أجدادنا خالداً، وسعداً وصلاح الدين وطارقاً.(295/20)
الموالاة والمعاداة من أجل الله فقط
ومن الدروس المستفادة أيضاً: أنه يجب أن تكون مواقفنا واحدة لا تتغير، نوالي من والى الله، ونعادي من عادى الله، وبذلك نرتاح ونريح أنفسنا وضمائرنا وعالمنا من التذبذب والتردد.(295/21)
الطغاة من حكام المسلمين يشوهون الإسلام
واكتشفنا كذلك: أن الغرب يفهمون عنا أن الإسلام هو إسلام أتاتورك وإسلام ابن بلا، وإسلام الخميني وصدام حسين، ولذلك الأمريكان والبريطانيون والفرنسيون أظنهم يحجمون عن دخول الإسلام بسبب هؤلاء الرموز، فهم يظنون الإسلام هؤلاء الأربعة وهم ما علموا أن الإسلام هو أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأحمد، وأبو حنيفة، ومالك، ونور الدين، وصلاح الدين، وعمر بن عبد العزيز:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ
ملكنا بأقطاب السماء عليكمُ لنا قمراه والنجوم الطوالعُ
أما هؤلاء فبراء من الإسلام، وهؤلاء شوهوا سمعته ووجهه وسيرته ولموعه، فالإسلام منهم بريء، وهم منه برآء، ويجب علينا أن نبرئ الإسلام من هؤلاء، وأن نخبرهم بإسلامنا ونقدمه واقعاً عملياً، لأننا نتكلم بالإسلام على المنابر، ولكن الإسلام في دنيا الواقع قليل من يطبقه ويعلنه، وقليل أن يخبر به الناس فيسمعون مبادئ ربانية وكتاباً خالداً، وسنةً مطهرة، وينظرون إلى أحوالنا فإذا نحن في وادٍ والإسلام في واد، فينكصون ويتركون الدين، ويعودون على أدبارهم مرتدين.
ثم أختم هذه المحاضرة بحمد الواحد الأحد، فأحمده على مسائل لا تعد ولا تحصى، منها: أنه كسرَ ظهر البعث، ولله الحمد، واللهِ لقد سرنا أن يمرغ وجهه بالتراب!
ما ربع ميَّة معموراً يطيف به غيلان أبهى ربى من ربعها الخرب
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخرابُ لها أعدى من الجربِ
رمى بكَ الله جنبيها فحطمها ولو رمى بكَ غير الله لم يصبِ
فلله الحمد، ففي الأمس انكسرَ ظهر الشيوعية في أفغانستان، واليوم ينكسر البعث في الكويت، فما أحسنه من خبر! وقد سرنا كثيراً، وبيض وجوهنا، وهذه نقولها بشماتة ونحن نشمت مثلما فعل بعض الصالحين، زاروا أحمد بن أبي دؤاد وهذا أحمد أهل البدعة، الذي كان سبباً في جلد الإمام أحمد بن حنبل، فدعا عليه الإمام أحمد فقال: اللهم عذبه في جسمه، فشلَّ نصفه وبقي نصفه حياً، فكان يتعذب ولا ينام الليل، قالوا: كيف تراك يا أحمد بن أبي دؤاد؟ قال: أما النصف هذا فلو وقع عليه ذبابٌ فكأنما القيامة قامت، وأما نصفي هذا فلو قرض بالمقاريض ما أحسست به، فزاره بعض الصالحين من وجهاء السنة، وقالوا: يا أحمد بن أبي دؤاد! والله ما زرناك مسلمين ولا عائدين ولا داعين، ولكن شامتين.
فنحن نقول: الحمد لله الذي لطخ وجه البعث بالتراب، ونسأل الله أن يكسر ظهور البقية وأن يبقي هذا الدين، وإنني أتصور -بإذن الله- أن هذا هو فجر الإسلام، وهذا هو المستقبل لهذا الدين، أن ينفر عبابه البحار والمحيطات، ليعيد لنا أمجاد عقبة بن نافع، وصلاح الدين، وطارق:
رفيق صلاح الدين هل لك عودةٌ فإن جيوش الروم تنهى وتأمرُ
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ
تناديك من شوقٍ مآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيب وخيبر
ويبكيك صفصاف الشام ووردها ويبكيك نخل الغوطتين وتدمر
فهذا مجدنا: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40] وإن شاء الله أنه مستقبلٌ خالد، وانتصارٌ ساحق، وغداً ينكسر ظهر اليهودية العالمية، والصليبية العالمية، وتبقى لا إله إلا الله في الأرض؛ لأن مصير الأرض للا إله إلا الله، والذي خلق الأرض هو الذي أنزل لا إله إلا الله، فاعلم أنه لا إله إلا الله، نسألك نصراً أكيداً، ومجداً مجيداً، وتوحيداً خالصاً، وعبادةً حقة.
اللهم اجمع شملنا، ووحد كلمتنا، وارفع رايتنا، ولمَّ شعثنا، وأخسئ عدونا، وكبد شيطاننا، وثقل ميزاننا، وفك ارتهاننا، يا أرحم الراحمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(295/22)
الأسئلة(295/23)
لا نرى عودة إلى الله من قبل الناس
ؤال: فضيلة الشيخ: نسمع من بعض المتعجلين أننا لم نرَ بعد تغيراً في سلوك الناس ورجعةً إلى دين الله، وقد فاتهم أن سنة التغيير لا تأتي بين عشيةٍ وضحاها، حبذا لو وجهتمونا وإياهم إلى الواجب على الجميع تجاه ذلك.
الجواب
الحمد لله:
أولاً: عمر الصحوة التي نعيش فيها قليل وقصير، وما لها إلا سنواتٍ معدودة، فأنت قبل سنوات لا تجد هذه الجموع، ولا هذه الوجوه الغالية، ولا هذه القلوب الحارة الصافية، ولا هذه الطلعات والسجدات.
ثانياً: البناء صعب والهدم سهل.
أرى ألف بانٍ لم يقوموا لهادم فكيف ببانٍ خلفه ألفُ هادمِ
فالبناء صعب، خاصةً في هذا العصر لأسباب منها: ضعف البُناة، والدعاة فيهم ضعف ما دام أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقوى البُناة، وأقوى من بنى، ومع ذلك استمر يعلم الناس ثلاث عشرة سنة؛ لا إله إلا الله، فكيف بنا وبأمثالنا من الدعاة الضعفاء، إذا ألقيت كلمة، تشيد فيها بلا إله إلا الله، ألقيت بعدك ألف أغنية ومسلسل، وألف مجلة خليعة وألف مقهى، وألف ليلةٍ حمراء:
أرى ألف بانٍ لم يقوموا لهادمٍ فكيف ببانٍ خلفه ألف هادمِ
ثالثاً: أن في الناس خيراً، ومن سنن الله في الكون ألا يصلح الناس جميعاً: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112] {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية:22] {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:107] فمن حكمة الله عز وجل أن يبقى الصراع: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ} [البقرة:251].
إذاً فالصراع لابد منه، وقضية أن يعيش المسجد بلا مقهى، وأن يعيش الصالح بلا طالح، وأن يعيش القرآن بلا قانون وضعي؛ غير ممكنة فهكذا الصراع، والدين هذا يعيش مع الصراع، والله أنزله ليصارع به الأديان الوضعية، والعاقبة للمتقين، ولو كانت تفض الساحة فارغة لفرغت للرسول عليه الصلاة والسلام، وسوف تسمعون غداً المعاناة التي عاشها في أهله وفي نفسه وقلبه، وفي سمعته وعرضه، وفي جيشه ومبادئه، وفي منبره وكتبه وفي سنته إلخ.
تلك المعاناة التي ما عاشها أحد من البشر أبداً.
إذاً فالناس فيهم خير والحمد لله، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: صلى الله عليه وسلم {من قال: هلك الناس فهو أهلكهم} ضبطت عند الحفاظ كـ الخطيب البغدادي وغيره أهلَكُهم بالرفع، وأهلَكَهم بالنصب، فإن ضبطت بالرفع، فمعنى ذلك: أشدهم هلاكاً؛ لأنه معجب بنفسه، وإن ضبطت بالنصب، فمن باب المصدر معناه: أنه هو الذي أهلكهم بفعله هذا أو أنه فعل ماضي، فأهلكهم بفعله، لأنه كلما قال: هلك الناس؛ هلك الناس ووقعوا في الخطايا.
قال عثمان رضي الله عنه: [[ودت الزانية أن تزني بنات الناس، وودَّ السارق أن يسرق الناس]].(295/24)
التكاسل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
فضيلة الشيخ: كثيرٌ من الناس يرون منكراً ولا يغيرونه، وهذا يدل على عدم تنفيذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره} فما هي نصيحتكم لهم، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
من أكثر ما منيت به الأمة الإسلامية موت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياتها، وميزة الأمة ومن خصائصها العظيمة التي تتميز بها بين الأمم، أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
وعند ابن حبان من حديث أبي ذر مرفوعاً قال: {أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أقول الحق ولو كان مراً} والحق مُر، قد يذهب بالرءوس، وقد يزهق النفوس، وقد يضايق في رزقه، وقد يضيق على العبد، ولكن قل الحق ولو كان مُراً، لكن في قالبٍ من اللين: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
وقد عاشت الأمة إهمالاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتولت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم به فئة من الناس، والآخرون ينظرون كأنه ليس لهم سوقٌ وليس لهم مكانة ولا وزن ولا عليهم مسئولية فانهدت سمة الأمة وضاعت مبادئها، وتردى حالها والعياذ بالله.
وكيف نعود للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
أولاً: له آداب، من آدابه كما يقول شيخ الإسلام في المجلد الثامن والعشرين من الفتاوى: آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفصلة، وهي من أحسن ما كُتب، قال: ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف ونهيك عن المنكر بلا منكر، ويجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون بصيراً بما يأمر به وبصيراً بما ينهى عنه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
قال أهل التفسير: على بصيرة؟! أي: على علم.
وقيل: على إيمان، وقيل: على إخلاص، والظاهر -والله أعلم- أن على علم أحسن الكلمات.
إذاً يجب على الداعية أمور:
أولاً: أن يعلم ماذا يدعو إليه ويعلم المعروف ويعلم المنكر.
ثانياً: أن يكون عمله خالصاً لوجه الله عز وجل، لا يريد إلا أن تكون كلمة الله هي العليا، وقصده من هذا الكلام والغضب والتغيير؛ أن تكون كلمة الله هي العليا، فإن بعض الناس يتشفى في المدعوين؛ لدخائل في نفسه فينهاهم ويأمرهم، ففي الظاهر أنه يريد إقامة الدين، وفي الباطن يريد أن يتشفى هو، فلا يجعل الله له قبولاً.
ثالثاً: أن يكون ليناً: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
دخل رجل على هارون الرشيد فقال: يا هارون! قال: نعم.
قال: اسمع مني كلاماً شديداً، قال: ولمَ الشديد! والله لا أسمع، والله لا أسمع، والله لا أسمع، أرسل الله من هو خيرٌ منك، لمن هو شرٌ مني فقال له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
رابعاً: أن يتدرج الداعية والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر فيما يأمر به وينهى عنه، فإن بعض الناس يركز على صغار المسائل قبل كبارها، ويعطي المسألة أكبر من حجمها، بل البعض -مثلاً- يجعل من تربية اللحية، كأنها مسألة الساعة، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما بعث إلا ليربى الناس لحاهم، فتجده يطيل المحاضرة والكلمات والخطب ويتكلم دائماً عن تربية اللحية وفضل تربية اللحية وما جاء في عقاب من حلق لحيته ويتباكى ويبكي، وهذا قد أعطاها أكبر من حجمها وأكثر من حقها:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى
فالمسألة لها حجمٌ يليق بها، ولإسبال الثوب حجمٌ يليق به، وللسواك، ولجلسة الاستراحة {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3] وهذا منهج القرآن أن يأتي بالمسألة في حجم، وأختها في حجمٍ آخر، والرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين أرسل معاذاً فقال: {ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله} ثم تدرج بالمدعوين، إلى أن أوصلهم إلى آخر أركان الإسلام، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وبقيت مسألة أختتم بها هذا الكلام، ربما يفهم من كلامي أني أهون من شأن بعض المسائل في الإسلام، وهذا خطأ.
وأنا أظن أن الصحيح هو الوسط، فلا إلى أقصى اليمين ولا إلى أقصى الميسرة، فبعض الناس يجعل من هذه القضايا قضايا كبرى في حياة الناس، فلا يتكلم إلا عن هذا، بل تجد أن بعضهم يذهب إلى أناس لا يصلون، فيأمرهم بتربية لحاهم وبتقصير ثيابهم وبخصال من السنة وهم لا يصلون، يقول ابن تيمية: إن الطبيب إذا اشتكى المريض من جسمه مرضين مختلفين داوى الأخطر.
فالسرطان قبل الزكام، وهذا أمرٌ معلومٌ عند العقلاء.
الأمر الثاني: أن بعض الناس يقولون: هذه قشور اللحى قشور والثياب قشور والسواك قشور نريد اللباب.
وهم القشور أنفسهم، فليس في الإسلام قشور بل كله لباب، ولكن تعطى المسألة حجمها والحمد لله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269].(295/25)
حكم مصاحبة العاصي
السؤال
لي صديقٌ أحبه في الله، لكنه يفعل بعض المعاصي، وقد نصحته مراراً فيقول لي: إني لا أفعل المعاصي، فما قولك -يا شيخ- فيَّ وفيه، وما لنا من توجيهٍ منك؟
الجواب
أولاً أحبكم الله الذي أحببتمونا فيه، وأقول لكم كما قال ابن القيم رحمه الله:
أما والذي شق القلوب وأوجد الـ ـمحبة فيها حيث لا تتصرم
وحملها جهد المحبة وإنه ليضعف عن حمل القميص ويألم
لأنتم على بعد الديار وقربها أحبتنا إن غبتمُ أو حضرتمُ
أما ما ذكر الأخ، فأنا لي معه ثلاث وقفات:
الوقفة الأولى: ما دام أن الله ثبته أو حفظه سبحانه وتعالى، فعليه ألا يعجب بنفسه، ولا ينظر إلى العاصي هذا بنظرة احتقار، فإن هذه متلفة ومهلكة لهذا الداعية ويخشى عليه، وعليه خطرٌ كبير، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام: {أن رجلاً من العباد من بني إسرائيل كان يمرٌ به فاسق فيقول: يا فلان! اتقِ الله - خف الله تُب إلى الله- قال: دعني وربي، أبعثت عليَّ رقيباً؟ فقال له مرةً ثانية: خف الله قال: دعني وربي، وفي الثالثة، قال: يا فلان! خف الله، قال: دعني وربي، قال: والله! لا يغفر الله لك، فقال سبحانه: من الذي يتألى عليَّ؟ -من الذي يحكم؟ من الذي يقبل ويرد؟ من الذي يعافي ويشافي؟ من الذي يتوب على من تاب؟ إنه الله، أتحلف وتغلق طريقاً فتحه الله وتقطع حبلاً أمده الله!! - من الذي يتألى عليّ؟ أشهدكم أني غفرت لهذا، وأحبطت عمل هذا} فليستأنف العمل!!
فلا ننظر إليهم بازدراء للمعاصي؛ لأننا لا ندري ماذا يختم لنا ولهم، ولا ندري هل قبلت أعمالنا أم لا، ولا ندري ما مطويات نياتهم، ولو أننا نحكم بما ظهر.
الوقفة الثانية: أن عليك أن تدعوه بينك وبينه، ولا تفضحه ولا تخدش حياءه أمام الناس، يقول الشافعي:
تعمدني بنصحك في انفرادٍ وجنبني النصيحة في الجماعه
فإن النصح بين الناس نوعٌ من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعه
فحاول ألا يشعر الناس أنك تنصحه، وحاول أن تهدي له النصح، في ثوبٍ من الستر.
الوقفة الثالثة: أنت ما بعثت عليه رقيباً، فلا تدخله بالقوة والجبروت والهرواة في الاستقامة: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] إنما أنت منذر.
ما عليك إلا البلاغ، فقدم له الهداية فإن قبلها فبها ونعمت، وإلا فالله المستعان! فالهادي هو الله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].(295/26)
ضرورة التعرف على صفات المنافقين
السؤال
نرجو من فضيلتكم تنبيه المسلمين للرجوع إلى الكتاب والسنة في التعرف على صفات المنافقين، الذين يمتطون مذاهب شتى، ويضللون الناس ليل نهار، حتى يفرق الناس بين الناصحين والخادعين؟
الجواب
العودة إلى الكتاب والسنة مطلب الجميع، وهي كلمة ثابتة، وهذه هي التي نتذاكر بها دائماً وهي تدخل في عموم قوله سبحانه تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] فمن أعظم ركائز تقوى الله العودة إلى الكتاب والسنة.
ثانياً: لا بد للناس من صراع، ولابد للحق من أعداء، ولابد للناصحين من أنداد، وهذه سنة الله تعالى كما سلف، فلابد مع آدم من إبليس، ومع موسى من فرعون، ومع إبراهيم من نمرود، ومع محمد صلى الله عليه وسلم من أبي جهل، حتى يرث الله الأرض ومن عليها: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].(295/27)
العلماء والأحداث
السؤال
أين هي كلمة العلماء -أهل الحل والعقد- وأين صوتهم في هذه المسألة وفي هذه الأزقة، لتعرف الأمة المخطئ من المصيب؟
الجواب
القضايا التي يشير إليها الأخ وقد فهمتها:
أولاً: نطالب علماءنا في البلاد؛ أن يقضوا بقضاءٍ يسألهم الله عليه يوم القيامة في هذه المسائل، أن يقولوا كلمتهم، فالأمة تتحرى ماذا يقول علماؤنا؟ فقد قالوا في مسائل أصغر منها، وقد قالوا في مسائل أبعد منها، فعليهم أن يقولوا كلمتهم، إما على هؤلاء أو هؤلاء؛ لأنهم أهل الذكر وأهل الحل والعقد: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
وهذا طلب باسمي وباسمكم أرفعه إلى كبار العلماء بأن يقولوا كلمتهم الصحيحة الواضحة في هذه المسألة: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160].
ثالثاً: لابد في هذه المسائل، أن يكون أحد المتخاصمين والمتضادين مخطئاً، فإنه يستحيل أن يكون كلٌ منهم مصيباً؛ لأنه كلٌ يتكلم في طرف القضية، فلا بد أن نفهم من هو المخطئ؟ ومن هو المتجني على الأمة؟ ومن هو الذي يريد بالأمة محقاً وخسارة؟ ومن هو الذي يريد بالأمة مستقبلاً عقيماً؟ أو منهجاً ضالاً؟ لابد أن يكشف ويبين.
وهذا الذي عندي في هذا المسألة، مع العلم أني أسأل الله أن يرد ضال المسلمين، وأنا أعلم أنه ليس للدعاة مع غيرهم عداوات شخصية، فليس هناك جورٌ في قسمة ميراث بين الدعاة وبين غيرهم، وليس هناك ثروات ومناصب وممتلكات، ومتشاكسون فيما بينهم، لا.
بل هذا من أجل لا إله إلا الله محمد رسول الله:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألمُ(295/28)
معنى المائلات المميلات
السؤال
ورد في الحديث المائلات والمميلات، فالرجاء منكم الإيضاح من هن المائلات والمميلات، وما المقصود بهذا، هل هو المتشبه في ربطة الشعر أم غير ذلك؛ أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا الحديث كما تعلمون في صحيح مسلم، وقد أخطأ ابن الجوزي رحمه الله خطأً بيناً، حيث أخذ هذا الحديث ووضعه في الموضوعات، ولامه أهل العلم، بل هو صحيح كالشمس، ولأهل العلم كلام في معنى المائلات المميلات، ولكن الذي يظهر والله أعلم أن من أقرب المعاني أن المائلات: النساء اللواتي يملن رءوسهن فتنةً ودلالاً وإغراءً لقلوب الرجال وإظهاراً للفتنة، ومميلات لغيرهن أو لقلوب الرجال، هذا الذي يظهر من المعاني، مميلات بأنفسهن مائلات لقلوب الناس إليهن، وهذا مصدر الفتنة، فإن أول الحديث يشرح آخره.
وهذا وجد في هذا العصر، فإنه وجد التشبه بالكافرات في صف النساء: تلفيف الشعر وتكويمه على الرأس كأنه أسنمة البخت.
والإمالة في المشية، وهذا ما يسمى مشي الكعاب، ومشي التبختر، ومشي التبجح، ومشي العهر -والعياذ بالله- وإمالة قلوب الرجال، كل مفتونٍ وفاسق، وقد تم هذا وحدث وهو من علامات الساعة، وقد نظمها بعض أهل العلم في بعض المنظومات، وأما المعاني الأخرى، فيكفينا من هذا المشهور حتى يحفظ.(295/29)
أدعية في السجود، وقضايا الإيمان
السؤال
ما هو أفضل ما يدعو به الإنسان في السجود في منتصف الليل؟ وبعضنا يقول: والله، فهل هذا حلف أم لا؟ وفي بعض الحالات تحلف الأم على ابنها بقولها: والله العظيم، فهل هذا حلف يجب تنفيذه من الأم على ابنها، وتقول: أقسم بالله -مثلاً- فهل هذا من أنواع الحلف؟ وهل يجب فيه عند الحنث التكفير، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
أما أفضل الدعوات التي يدعى بها الله في السجود وغيره، فهو ما علمنا به معلم الخير عليه الصلاة والسلام من الكلمات الجوامع التي كان يدعو بها ويترك ما سواها، ومن أعظمها وقد نص عليها أنس في الحديث الصحيح: {كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء كثيراً، ويعلمه أصحابه: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} والدعاء الذي في مسند أحمد من حديث العباس بن عبد المطلب أن الرسول عليه الصلاة والسلام علمه أن يقول: {اللهم إني أسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة} فالعفو والعافية من أحسن ما يسأل، ومثل ما صح عنه عليه الصلاة والسلام، أنه كان يقول في السجود: {اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب والأبصار! صرف قلبي إلى طاعتك} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فهذه الدعوات من أجمل ما يكون وهي أربع جمل أو خمس، ويدعو الإنسان بما أعجبه إذا كان دعاء شرعياً لا إثم فيه ولا قطع رحم ولا تعدٍ وإساءة.
أما قول السائلة، أنها تقول: والله فإن كان قصدها القسم والمنع من شيء أو الحث عليه، فهذا يرجع إلى نيتها وعليها إذا لم تفعل ذلك الكفارة فقد حنثت، وأما إن كان قصدها لغو يمين، لا والله وبلى والله، في معرض كلامها وما قصدت شيئاً أن تحضره، ولا شيئاً أن تحرضه أو تمنعه فهذا كما فسرت عائشة اللغو وهو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، وهو لغو يمين وليس عليه كفارة.
وأما أقسم بالله فهو يمين، وكثير من العلماء يرى في هذه الجمل مثل: يعلم الله عز وجل أنه يمين، وأنه من أغلظ الإيمان، لأنه نسب علماً إلى الله عز وجل، وهو في نفسه مفترٍ على الله عز وجل لأنه تقول على الله عز وجل بما لا علم له، ثم إن هناك جملاً تجدونها منتشرة بين الناس، ولو أن كبار العلماء قد بينوا هذه المسائل، مثل: الطلاق، إذا قصد به اليمين، ولا يقصد به تطليق الزوجة فقد أفتى شيخ الإسلام وابن القيم، والشوكاني، وابن عبد البر وغيرهم كثير أن فيه كفارة مثل: الحرام الذي يمنع به أو يحنث به ففيه كفارة، إلى غير ذلك.(295/30)
حكم اقتناء التلفاز
السؤال
يوجد لدي تلفزيون ومحافظ عليه المحافظة التامة من أن يشاهد فيه تمثيليات أو يسمع فيه أغاني، إنما أسمع فيه الأخبار وبعض الأحيان يشاهد الأطفال أفلاماً كرتونية، فهل هذا حرام؟ وهل هذه الأفلام مضرة على الأطفال أم لا.
أفدني جزاك الله خير الجزاء؟
الجواب
أولاً: أشكرك على محافظتك المحافظة الطيبة على هذا الجهاز، ونسأل الله أن يحفظك قائماً وقاعداً على جنبك.
الثاني: هذا الجهاز مركب من أدوات وحديد وخشب وأجهزة، ولا يحكم على هذه الأمور، إنما يحكم على ما يعرض فيه، ولكنه لما كثر ما فيه مما لا يحمد، ومما يسيء كالأغاني التي أفسدت: {فما أسكر كثيره فقليله حرام} والمسلسلات المهدمة، والتمثيليات الغير هادفة، وهذه مما جرب أنها تهدم الأخلاق والمعتقد وأنها تفسد البيوت وخيره قليل بل نادر، فأنا أنصحك بالابتعاد عنه من باب النصيحة؛ لأني أرى أنه مضيعة للوقت، إلا أن يوجه توجيهاً سليماً، ويكون فيه ندوات مفيدة، ومحاضرات قيمة، ويعرض فيه التوحيد الخالص الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، والعلم النافع، وحلقات العلم، ويعرض فيه برامج تنفع الأمة في دينها ودنياها، فذاك الوقت فيه كلام إن شاء الله، لكن هذا ما تبرأ به الذمة.(295/31)
مشكلة القسوة في القلوب وحكم ركوب المرأة مع السائق
السؤال
أنا أشكو من قسوةٍ في قلبي فبماذا تنصحني؟
وما حكم الركوب مع السائق في داخل المدينة، ومعنا طفلٌ لما يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، أفيدونا وجزاكم الله خير؟
الجواب
أما دواء القسوة، فقد ذكر في كتبٍ كثيرة، ومن أحسن من ذكرها صاحب مدارج السالكين رحمه الله، فمما يعالج به من قسوة القلب: الاستغفار والتوبة من الخطايا التي تقسي القلب، والإقلال من المباحات، وزيارة القبور، وتذكر الموت، والجلوس مع الصالحين، وتدبر كتاب الله عز وجل، وكثرة الذكر من تهليلٍ وتكبيرٍ وتحميد، والصيام، فإنه يخلي المعدة ويخلي القلب للتفكر، فهو من أحسن ما يكون، ثم توفيق أرحم الراحمين، والجلوس في السحر في الثلث الأخير لمسائلة الله عز وجل، في وقت الإجابة، فعسى الله عز وجل، أن يلين قلوبنا وقلوبكم لذكره.
أما ما ذكرت من مسألة الركوب مع السائق، فإذا كان معها طفل لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، فإن كان فوق العاشرة وهو عاقل مميز، فأرى أنه أصبح محرماً ولها أن تركب مع وجود مثل هذا؛ لأن في الخامسة عشرة ونحوه ليس بطفل، بل قد أصبح فتىً وشاباً، ومثله محرم والحمد لله، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، وفي البخاري: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} وهنا ما حصلت الخلوة والحمد لله.(295/32)
قضية مهمة في الولاء والبراء
السؤال
أيها الشيخ الحبيب إلى القلوب! أنا من إحدى الدول العربية المقيمين هنا، ونحن نحب الشعب السعودي، ونحب هذا البلد -بلد التوحيد- ولكن نتعرض للغمز واللمز والإساءة -أحياناً- من بعض الناس، وذلك لمواقف دولنا السياسية، فيا حبذا لو كلمةً توجيهية لإخواننا هؤلاء؟
الجواب
أيها الإخوة الكرام: هذه مسألة خطيرة، ويجب التنبيه عليها، ويجب بيانها للناس؛ لأنه وقع كثيرٌ من الناس في ذنوبٍ عظيمة بسبب بعض تصرفاتهم الغير مسئولة، ماذا يربطنا بالناس؟ ما هي علاقتنا بهم؟ ما هي الأواصر التي جمعتنا بالشعوب؟ هي لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
أتى محمدٌ عليه الصلاة والسلام ونحن شذر مذر، شعوباً وقبائل، فجمع صهيباً الرومي إلى سلمان الفارسي إلى بلال الحبشي إلى أبي بكر القرشي، فجعلهم تحت مظلة لا إله إلا الله، من الذي أتى بـ سلمان من أرض فارس، ولسان حاله يقول: {سلمان منَّا آل البيت} وترك أبا جهل وأبا لهب يدخلون النار؟
إذاً فالقرابة لا تقرب، والبعد لا يبعد إذا اقتربت القلوب من لا إله إلا الله: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62 - 63].
أولاً: الذي يجمعنا بهذه الشعوب هي العقيدة الإسلامية، فمن حملها وأجاد حملها، فهو أخونا وحبيبنا ولا ننظر إلى أيّ مواقفٍ أخرى، فإن علاقتنا بهم هي علاقة هذا الدين، نكرمهم ونحييهم ونستقبلهم ونقوم معهم، وإن انصرفوا عن منهج الله وعن هذه العقيدة انصرفنا عنهم وهجرناهم وأبغضناهم، فموقفنا مع الإسلام أينما دار الإسلام درنا.
ثانياً: المسيء يقال له: أسأت، والمحسن يقال له: أحسنت، ولا يعمم على الناس، وإن من أعظم الفرية أن تحمل القبيلة ذنب شاعر أو ذنب قائل، فيحمل الناس أخطاء بعض الناس: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء:15] في الناس صالحون وفي الناس طالحون، فالصالح نحييه ونقول: أحسنت، والطالح نبغضه ونقول: أسأت.
ثالثاً: ليس بيننا حدود جغرافية ولا أقاليم:
وأينما ذكر اسم الله في بلدٍ عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
وهذه هي مملكة محمد عليه الصلاة والسلام، كان المسلم ينادي الله أكبر في بغداد، فيجيبهم من كابل وطنجة، وقرطبة، والسند، وصنعاء، والرياض، ومكة، فالمملكة مملكة محمد عليه الصلاة والسلام، كتب على علمها لا إله إلا الله، ووثيقتها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
فلا دماء، ولا أعراف، ولا لغات، ولا ألوان، وإنما هذا هو الدين:
إن كِيْد مطِّرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالدِ
أو يختلف ماءُ الغمام فماؤنا عذبٌ تحدر من غمامٍ واحدِ
أو يفترق نسبٌ يؤلف بيننا دينٌ أقمناه مقام الوالدِ
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103].
ونسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكتب النصر لأوليائه وأن يرفع كلمته وأن يُؤيد دينه.
وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.(295/33)
وجهاً لوجه
لقاء أجراه الدكتور عبد الرحمن العشماوي مع فضيلة الشيخ عائض بن عبد الله القرني بعد فترة إيقاف الشيخ, تناول فيها مجموعة كبيرة من القضايا في أكثر من ثلاثين سؤالاً كان من أهمها: (حكم دخول المجالس النيابية -أهم أعمال الشيخ في فترة إيقافه- مشروعات الشيخ القادمة) إضافة إلى مجموعة من القضايا الخاصة بفقه المرحلة والقضايا التربوية وقضايا دعوية أخرى.
كما تطرق إلى أسباب تقصير أهل السنة في دعوتهم، وقضايا اجتماعية كظاهرة العنوسة، واسترسل الشيخ في قضية الجهاد, وما هو فقه المرحلة فيه متمثلاً في الجهاد الأفغاني والبوسنة والهرسك والصومال, وختم هذا اللقاء برأي الشيخ في بعض الشخصيات إلى آخر ما ذكر في ثنايا هذه المادة.(296/1)
تحية وترحيب بالشيخ عائض
العشماوي:
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسال الله عز وجل أن يوفقنا جميعاً إلى كل خير، وأن يرزقنا جميعاً الإخلاص في القول والعمل، إنه سميع مجيب.
أيها الأحبة: إن طريق الدعوة إلى الله طويل، وإن الأمة الإسلامية على مدى تاريخها العريق تنتج لنا في كل عصر دعاة إلى الله، يحسنون التعامل مع الكلمة الطيبة التي صورها لنا القرآن الكريم التصوير الذي نعرفه جميعاً، وشبهها لنا بتلك الشجرة العريقة التي تسافر جذورها وجذوعها في الأرض، وتشمخ أغصانها في السماء.
وقد كنا نقرأ عن بعض وعاظ المسلمين في تاريخنا، كـ ابن الجوزي رحمه الله تعالى، ونستغرب أحياناً ما يقال من كثرة من يحضر مجالس وعظهم، حتى إذا هيأ الله لنا في هذا الزمن عدداً من الإخوة الكرام، من شيوخ الشباب ووعاظهم الذين فتح الله تعالى عليهم، فأحسنوا التعامل مع الكلمة، وأحسنوا توظفيها في طريق الدعوة؛ فرأينا مجالس وعظهم ودعوتهم ودروسهم تضج وتعج بآلاف المستمعين المتابعين والمتعطشين؛ أدركنا أن ما روى لنا التاريخ عن مجالس ابن الجوزي ليس غريباً ولا عجيباً.
ونحن في هذا اللقاء الطيب الذي نرجو أن ينفعنا الله به جميعاً، وأن يجعل مجلسنا من مجالس الذكر التي تحفها الملائكة وتغشاها الرحمة.
نحن في هذا اللقاء المبارك نلتقي مع داعية مبارك من دعاة عصرنا، مع شاب شيخ, فهو شاب لأن سني عمره تقول لنا ذلك، وشيخ لأن ما تلقاه من العلم وما بذله في سبيل الدعوة يؤهله أن يحمل هذا اللقب، وأنتم تعلمون أن لقب الشيخ في هذا الزمن قد اتخذ معنىً آخر غير المعنى الذي كان يقصد به من قبل، ولعل شيخنا وداعيتنا وأخانا الكريم، الشيخ عائض بن عبد الله القرني يعذرنا عندما نطلق عليه هذا اللقب، فهو ليس من باب قول الشاعر:
زعمتني شيخاً ولست بشيخ إنما الشيخ من يدب دبيبا
نرحب في بداية هذا اللقاء بـ أبي عبد الله ونقول: أهلاً وسهلاً بك يا شيخ عائض!
القرني: حياك الله وبياك، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية.(296/2)
تقديم وتعريف بالشيخ عائض
العشماوي:
أخي الكريم: تعود الناس في مثل هذه اللقاءات على سؤال تقليدي معروف؛ ألا وهو أن يقدم من نلتقي به نفسه لإخوانه، وكان من المفروض أن نقدمك نحن، لكن نرجو أن تقدم أنت نفسك جزاك الله خيراً؟
القرني:
في البداية: أحمد المولى تبارك وتعالى على أن جمعنا في هذا المكان الطيب العطر بوجودكم، وأسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وهو رب جبريل وميكائيل وإسرافيل, فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، وهو الذي يحكم بين عباده أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه, إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وأشكر تسجيلات السرة بـ الكويت على إجراء هذا اللقاء، علَّ الله أن ينفع به، وأن يجعله في ميزان الحسنات، ثم أشكر فضيلة الدكتور والأديب الشاعر عبد الرحمن بن صالح العشماوي على أن التقى بي وأسمع إخوانه وأحبابه صوته من خلال هذا اللقاء.
وتقديم النفس وارد شرعاً ومطلوب عقلاً وممنوح طبعاً، وقد قدم الله نفسه للعالمين، كما قال أحد الفضلاء في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لموسى في أول لقاء {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه:14].
وكان عليه الصلاة والسلام يقدم الوفود بأسمائهم، وعند الترمذي بسند فيه نظر: {إذا عرف أحدكم أخاه فليسأله عن اسمه وعن نسبه، فإنه أصل المودة} وعند مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من القوم؟ قالوا: ربيعة، قال: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى} وكما في شريف أدبكم يقول العزي:
أحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب
فلا بد من تقديم ولو أنه مكرر، ولكن لعل أن يكون فيه شيء من الفائدة:
أخوكم في الله: عائض بن عبد الله القرني، من مواليد عام (1379هـ) في بلادي بالقرن، ودرست في الابتدائية بمدرسة آل سليمان، ثم المعهد العلمي بـ الرياض وأبها، ثم كلية أصول الدين، ثم حضرت الماجستير في البدعة وأثرها في الدراية والرواية بجامعة الإمام، وها أنا على مشارف إنهائي -إن شاء الله- لرسالة الدكتوراه، والتي هي تحقيق لكتاب المفهم بشرح صحيح مسلم للقرطبي.(296/3)
رسالة الماجستير
السؤال
نحن نرحب بك، وأنا متأكد أن الإخوة جميعاًَ يرحبون بك، ويعلنون فرحتهم بهذا اللقاء.
فضيلة الشيخ: نريد قبل أن نبدأ في النقاط الأخرى أن نسأل عن رسالة الماجستير: هل طبعت في كتاب أم لم تطبع؟
الجواب
نعم.
طبعت رسالتي للماجستير في كتاب، وقام بطبعها دار الطرفين بـ الطائف ضمن مجموعة، وخرج منها الجزء الأول، وهي الآن في متناول الأيدي.
وحاولنا أن نأخذ منها ما يصلح للمتخصصين فانتقيناه وجمعناه في جزء واحد.(296/4)
أعمال الشيخ عائض في فترة إيقافه
السؤال
الشيخ عائض القرني! يعلم الإخوة أنك في هذه الفترة قد توقفت عن مزاولة نشاطك في التدريس والوعظ وأيضاً العمل في الجامعة، وهناك سؤال يطرأ على البال: فترة الإيقاف يبدو أنها ليست فترة عقيماً، بل ربما تكون فترة خصبة، فهل استفدتم من هذه الفترة جزاكم الله خيراً؟
الجواب
لعله من المفيد أن يطالع العبد بعينين، بعين إلى القضاء والقدر، وعين إلى الأسباب المعلومة، فيعلم أن ما قضاه الله وقدره، وهو الخير كل الخير للعبد، سواء كرهه أو أحبه، والله يقرر ذلك ويقول: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] وعند أحمد في المسند عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للعبد قضاءً إلا كان خيراً له} قيل لـ ابن تيمية: حتى في المعصية؟ قال: نعم.
بشرطه من الانكسار والندم والتوبة والاستغفار، فالمقصود: أن العبد لا يكره من أمر الله شيئاً، ورب ضارة نافعة.
والنظر الآخر إلى الأسباب، فإنه كما يقول الغربيون في مثلهم: اجعل من الليمون شراباً حلواً, فإن أهل الإسلام يقولون: ليس الذكي الفطن الذي يزيد من مكاسبه أو مرابحه، ولكن الذكي الفطن الذي يحول الخسائر إلى أرباح وهذا يعلمه المسلم من حياته، فإنه ليس هناك أبواب مغلقة إذا كان باب الله مفتوحاً، وليس هناك حبال مصرمة إذا كان حبل الله ممدوداً، فالمجال واسع أمام الداعية مهما أوقف من بعض المجالات، أو أغلق أمامه بعض الأبواب، لأن عدد الطرق إلى الله كعدد الأنفاس، من الكلمة، أو اللقاء، أو التأليف، أو اتصال القلب بالله عز وجل، أو تجديد التوبة، أو العمل الصالح، أو اصطفاء الأخوة، أو المجالس المصغرة، أو الكلمات والقصائد، أو غير ذلك، وهي أسباب كثيرة يعلمها من ينهج هذا المنهج.
فلعل من حلم الله ورحمته أن يقدر على العباد أقداراً هي في صالحهم، وأُدرك من الأسرار أن اختيار الله عز وجل للعباد أحسن من اختيار العباد لأنفسهم، فمثلاً: عن تجربتي الشخصية الضيقة القليلة؛ وجدت أن في هذا خيراً كثيراً، فمن ذلك: العودة إلى التأمل والتدبر والتفكر، ومدارسة ما سبق إن كان هناك أخطاء في الطرح، والتزود في العلم, فإنا لا زلنا -كما تفضلتم في اللقاء- في مقتبل العمر، وهذا يحتاج إلى طلب، وكثرة نصوص، ورحابة في المعرفة.
ومنها: أن يسلم الإنسان لقضاء الله وقدره، فيذعن وينال درجة العبودية في الاستسلام لقضاء الله عز وجل.
ومنها: أن يتأمل إخوانه من الدعاة والوعاظ فيجلس مستمعاً بعد أن كان متكلماً، ومنصتاً بعد أن كان متحدثاً.
ومنها: أن يراجع ما كتب وما قرأ بالتمحيص والتشذيب والتهذيب.
وأما عن هذه الفترة فقد رأيت فيها مكاسب، منها: ما قد سبق ذكره.
ومنها: أن هناك ما أنجز كرسالة الدكتوراه والحمد لله، فقد أشرفت على الانتهاء منها، ولو لم يكن هذا الإيقاف لأخذت الرسالة عمراً مديداً طويلاً يبلغ الأربع السنوات.
ومنها: خطب الجمعة المسك والعنبر، وقد انتهيت من مجلدين اثنين بتصحيح وتنقيح أرضاه والحمد لله، ولو أنه في عمل العبد قصور.
ومنها: ديوان قدم له الدكتور عبد الرحمن بعنوان (أبو ذر في القرن الخامس عشر).
ومنها: ثمان رسائل منها: الترياق والأشواق، وإعادة البناء، وفن الخطابة، وأمراض الوعاظ وغير ذلك من الرسائل.
ثم كان في قراءة متسعة في كثير من الكتب، خاصة مع وجودي في الرياض، فإني أدركت أن هذا البلد رحب, وأكثر معرفة وثقافة, وأنه رافد من مرافد الخير، وقد أدركت ذلك لما طالعت فيه كثيراً من المكتبات، ورأيت كثيراً من العناوين, وأدخلت كثيراً من الكتب، فرأيت كل المصلحة فيما حدث، وما على العبد إلا أن يذعن ويسلم، ولله الخيرة ولرسوله وليس للناس.(296/5)
أسباب اختيار الرياض موطناً بعد الإيقاف
السؤال
جزاك الله خيراً وبارك الله فيك؛ وقد أتيت على مجموعة من الأسئلة التي كنا نريد أن نوجهها إليك حول هذا الموضوع، وهذا من فضل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى على الإنسان أن يحسن اغتنام فرص وقته، ونسأل الله أن ينفعك وينفع بك، وأن يزيدك فضلاً وعلماً إنه على ذلك قدير.
من رياحين الجبال الخضراء إلى خزامى الصحراء انتقل الشيخ عائض بعد الإيقاف، فيطرأ سؤال أحياناً على ذهن المتأمل والمتابع لك لماذا اختار الشيخ الرياض بدلاً من أبها في هذه الفترة؟
الجواب
على كل حال يمكن أن أجيب بمقطع بيت:
ما زال الهوى نجداً وإن زار الحجاز وأتهما
وإذا عوقب العبد -أحياناً- بحرارة تهامة، أو بصلافة الجبال؛ فإنه ينتقل إلى الصحراء حيث الرحب والخزامى والأفخوان والهواء والنسيم العليل.
والحقيقة أن هناك أسباباً منها:
أولاً: أن أهل الرياض أو من يسكن نجداً عموماً لهم في قلبي منزلة خاصة، فهم أهل وعي قديم، وتوحيد أصيل، وغيرة واتجاه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وهذا بحد ذاته قاسم مشترك بيننا وبينهم.
ثانياً: أن هذا البلد فيه من العلماء والأساتذة الفضلاء والمفكرين والأدباء ما يمكن أن يجعلها الإنسان فرصة في أن يتحدث وأن يزور ويزار، ويلتقي بهذه العقول النيرة، فيكتسب إلى عمره أعماراً، وإلى عقله عقولاً.
ثالثاً: وجود الجامعة، حيث أن لي بها صلة بسبب الرسالة، ثم المكتبات العامة الرافدة، ثم الدروس العلمية المتخصصة، كدرس أحضره في مسند أحمد عند سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وبعض الدروس الفقهية التي أحضرها لبعض العلماء من هذا ومن غيره أحببت أن أقيم في الرياض حيث أني أرى أن أكبر منطقة أو مدينة يظهر فيها الوعي والدعوة والصحوة هي الرياض فحسب.
والحقيقة دائماً أن المدن الكبيرة التي يقطن فيها العلماء تحظى بعناية كبيرة.(296/6)
معاني أبها عند الشيخ
السؤال
ولكننا نظل نسألك لأنك تجمع إلى كل ما ذكرنا صفة الشاعرية، والعاطفة الجياشة، وهنالك بيت شعر يقول:
يعز على الإنسان مسقط رأسه ولو كان قسراً لا يرد به قدى
من هذا المنطلق: ماذا تعني مدينة أبها بالنسبة لـ أبي عبد الله؟
الجواب
على كل حال في أبها، أو في الجنوب خاصة مراتع الصبى، وملاعب الطفولة، وميادين الشباب، ولا يمكن أن يفارقها الإنسان أو يمحوها من ذاكرته؛ لأن هذا صعب، وسوف يعيش هذا في مخيلته ما دام يشعر بالحياة ويمشي على الأرض، ولها شيء خاص في الذهن؛ فإن هناك والدي وإخوتي وبقية الأهل والعشيرة، وأنا أتوق إليها بين زمن وآخر.
والحقيقة أني أحب الأدب؛ ولذلك فإنني لما مررت ببعض الأحداث الصغيرة التي هي عندي قد تكون كبيرة، لكن على كل حال سمعت منكم وأنتم تقولون:
قالوا قدمت إلى الرياض فمرحباً أهلاً وبورك منك ذاك المقدما
ثم قلتم:
ما زال الهوى نجداً وإن زار الحجاز وأتهما
وسمعت شاعراً آخر من تلك الجبال وهو يلاطفكم القول:
ولكن في السراة لكم حمى
فالحقيقة أنه في السراة هناك أشجان، ودموع لا تمحى وذكريات لا تنسى، ولكن على كل حال الزيارة واردة، وأنا لست بالجافي إن شاء الله.(296/7)
من ديوان الطموح
السؤال
من ضمن ما ذكرت نظمك الشعر في هذه الفترة، فهل هنالك شيء منه؟
الجواب
كتبت ما يقارب خمس أو ست قصائد، بعضها أرضى عنه بذوقي، وبعضها قد يلاحظ عليها، منها قصيدة بعنوان: ولنا ألف شاهد وهي من آخر ما كتبت، وهي موجودة في الديوان الذي سيصدر قريباً إن شاء الله، منها:
العيون المراض بعض العذاب وسكار الهوى رصيف الرضاب
وعيون من الجوى رانيات وجفون من الهوى كالجواب
مهج في الغرام تقتل عمداً من لحاظ سهامها في صواب
همم الحق تنطح العزم نطحاً من يقين لا ناطحات سحاب
إلى آخر ما قلت.(296/8)
فكرة مبسطة عن كتاب (أمراض الوعاظ)
السؤال
فضيلة الشيخ! هنالك رسالة لكم بعنوان: أمراض الوعاظ، ويبدو أنها لم تطبع بعد، فهل لكم أن تعطونا فكرة عن هذه الرسالة؟
الجواب
هذه الرسالة أكملت، وهي في ما يقارب خمسين صفحة، واستفدتها من التجربة والاستقراء والصبر، لأنني عشت فترة غير واعظ، ومكثت برهة من الزمن غير متحدث، فرصدت وأخذت أراقب عن كثب ما يقوله إخواني وزملائي من الوعاظ؛ فأدركت بعض الملاحظات الكبيرة التي قد تصل إلى أربعين أو واحد وأربعين ملاحظة، واختصرت بعض الأشياء، والحقيقة أن الذي يتكلم ويباشر ويتحدث إلى الناس قد لا يدرك الخطأ الذي يقع فيه، ولكن المتفرج والمراقب يدرك من الأشياء والنقد والعوار -أحياناً- ما يحتاج إلى أن يبثه إلى إخوانه.
وأنا لست في مكان المستعلي على إخوانه وزملائه، لكني -إن شاء الله- في مكان الناصح المسدد الذي يعرض المسألة بدون ذكر أسماء، وقد أدركت -مثلاً- أن كثيراً من الوعاظ عنده شهية في الحديث والكلام، فهو يريد أن يتكلم بأي شيء، وقلبه ينازعه بأن يتحدث بكل مسألة، وفي كل مكان ومجلس، وهذا عيب يحتاج إلى أن يسدد ويصفى؛ لأن السلف كانوا يكرهون كثرة الكلام، وكانوا يتخولون الناس بالموعظة.
وأدركت أن بعضهم يلقي الكلام على عواهنه، دون تحضير مسبق، ويدعي أن الله سوف يفتح عليه، ويبدأ في الكلام، ثم يجمع كشكولاً أو قاموساً من الأحاديث والموضوعات دون رتابة، وهذا إلغاء وعدم احترام لعقول الجمهور.
أيضاً: الأحاديث الموضوعة يتساهل كثير من الوعاظ فيها، حتى أني كنت أسمع في مجلس رجلاً يعظ الناس في حديث علقمة وحديث ثعلبة، وأحاديث ما أنزل الله بها من سلطان، ولا توجد في كتب أهل العلم، ويترك الصحيحين والمسانيد والمعاجم.
ومنها أيضاً: العلو الذي يقع فيه بعض الناس، وهو استعلاء وإسقاط للآخرين، فيقول: كنت وقلت وكتبت ورأيت ولي كتاب في ذلك وسبق أن تحدثت ولي ردود وهذه ترجمة للنفس، والحقيقة أن هناك ملاحظات كثيرة، لكن أقول: لعل من الجدير أخي الواعظ أن تقرأ هذا الكتاب حتى تعلم، وقد قرأه بعض الفضلاء ووصلتني منهم بعض الملاحظات؛ علها أن تكون مفيدة، فإن كان فيها سداد فمن الواحد الأحد، وإن كان فيها خطأ فمن نفسي والشيطان, والله بريء من ذلك، ورسوله معصوم, والرسالة تحت الطبع إن شاء الله.
العشماوي: ومثل هذ أرى أنه من النقد الذاتي المطلوب، وهو خطوة طيبة جداً، ونحن بحاجة إلى أن ننقد خطواتنا، فحبذا لو نزل الكتاب حتى ولو كان فيه بعض الأخطاء، أو بعض التجاوز، والإنسان من طبعه النقص, ونتمنى أن نجدها مطبوعة إن شاء الله قريباً.(296/9)
آخر محاضرة للشيخ
السؤال
ما آخر الأشرطة التي سجلت لكم؟
الجواب سجل شريط بعنوان: (هموم داعية) سجلته تسجيلات الشرقية ونزل إلى الأسواق، وهناك (أمراض الوعاظ) وهو نفس الكتاب ملخص في شريط سجل بتسجيلات في الرياض.(296/10)
مشروعات الشيخ
السؤال
هل هنالك في الذهن مشروعات دعوية؟
الجواب
في الذهن أشياء، ولكن كما يقولون: العين بصيرة واليد قصيرة ولكنه لا يزال العبد في خير ما دامت همته تحدوه، وكان عنده طموح, سواء حصل هذا أو لم يحصل وكما قال الإمام أحمد لابنه عبد الله: انوِ الخير وإن لم تفعله، وفي حديث يحسنه كثير من العلماء: {نية المرء خير من عمله} فهناك أشياء منها: جمع شرح للمسند، وهي في أشرطة سبق أن شرحت في أبها وهي ما يقارب مائة وثلاثة أشرطة، والآن هي في أربعة مجلدات في دار في الرياض، تهذب وتنقى وتصفى لتخرج.
ومنها: شرح لـ مختصر البخاري للزبيدي، أقوم به في البيت، وفكرت مع بعض الإخوة من طلبة الحديث أن نقوم بتلخيص واختصار مفيد ومحقق لـ فتح الباري، وقد بُدئ في ذلك خطوات، لأني أرى أن فتح الباري كتاب لا تستغني عنه المكتبة، وهو يحتاج إلى شيء من التقريب؛ لأن العصر عصر معقد، وهو عصر سرعة يحتاج إلى أن يكون في متناول اليد.
ومنها: بعض الأمور الخاصة التي قد تكون شبه ذاتية، كمراجعة بعض المتون، وحفظها عند بعض المشايخ، وحفظ بعض الأحاديث بكثرة، وحفظ القصائد المختارة في الحماسة لـ أبي تمام , وبعض الكتيبات, أو أختار شيئاً من ذلك حتى ينمي الإنسان ذاكرته.(296/11)
الموقف الشرعي من الفرقة والشقاق
أبا عبد الله! اعذرنا، فنحن سنتنقل في الأسئلة في موضوعات مختلفة الحقيقة أن المراقب للساحة يجد بلا شك فرقة وشقاقاً بين بعض الدعاة، أو بين كثير، يتمثل هذا الشقاق في الردود والنقد الموجه من بعضهم لبعض، وأنت تعلم أن قضية النقد مطلوبة، لكن النية في هذا النقد، أو طريقة طرح النقد هي المسألة التي قد يختلف عليها خاصة أنه يتعلق بشريحة عريضة من الشباب وعامة الناس فما الموقف الشرعي للمسلم أمام هذا الأمر؟
الجواب
على كل حال! الخلاف وارد، والاختلاف مذموم، والله عز وجل قد ذكر الخلاف وأقره، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم, والناس يحصل بينهم خلاف لاختلاف طبائعهم ومشاربهم, وفهومهم وأذواقهم، وما يتطلعون إليه لكن الاختلاف مذموم؛ لأن فيه فرقة وشقاقاً، وضعفاً للأمة، فالذي نشكوه نحن هو الاختلاف؛ وأن تكون النية الحادية للمخالف أو للمعترض أو للراد لغير وجه الله عز وجل، أو لا يريد الإصلاح، وإنما يريد بها التشفي، خاصة أن السلف الصالح حذروا من الأقران، ومن داء المعاصرة، ومن الحسد الذي وقعت فيه الأمم، فرأينا وشممنا أن بعض الناس يريد بنقده إسقاط الآخرين؛ لأنه -أحياناً- يتعرض لذنوبهم الشخصية، وعيوبهم وصفاتهم التي لا تعلق لها بالمسألة، ولا تعلق لها بالقضايا المطروحة فيعلم من ذلك ويفهم أن هذا لا يريد الإصلاح، وهناك مسائل نعرضها هنا منها:
أولاً: لماذا يطالب في النصح أن يكون سراً -وهذا هو المطلوب- لفئة، ولكن الفئة الأخرى تعلن عيوبها وذنوبها على المنابر؟! فنطلب السواء في هذا بأن تكون النصيحة سراً، إذا كان هو الأصلح والأنجح سواء للدعاة أو غيرهم.
ولماذا يسلط كشاف النقد ومجهر الجرح على الدعاة فقط، وعلى ما يمكن أن يغلطوا فيه، وهم لا يسلمون من الغلط، فهم ليسوا من المعصومين، ثم تترك فئات وشرائح من الناس هم أكثر ضرراً، وأكثر محاربة لله ولرسوله وللمؤمنين، كالباطنيين الإسماعيليين الذين يوجدون في جزيرة العرب، ولهم أطروحات كافرة ملحدة على طريقة ابن سينا والفتوى وغيرهما، أيضاً الصوفية الذين شوهوا صورة الإسلام، ولهم أطروحات، ولهم زوايا وقصائد، ومقاصير ومجامع، وأيضاً الرافضة ومشربهم المنحرف عن منهج الله، وأيضاً العلمنة وهي إطراح الدين، وإزواؤه في المسجد، ونبذه من الحياة، وهم يوجدون بثقلهم ووسائلهم وأطروحاتهم.
ومنها: الشهوانيون والفجرة وأهل المنكرات وكذلك أهل الحداثة فلماذا يسلم هؤلاء جميعاً ويبقى الدعاة هم أهل الاعتراض عليهم، والردود والجرح وتسجيل الأشرطة ضدهم، وتنغيصهم في مسيرتهم؟!
ثانياً: هل جُلس مع هؤلاء الدعاة، وعُرف ما عندهم، أو تلتمس له عذراً فما أعلم أنه جُلس معهم، واستمع رأيهم والتمس لهم العذر؟ فإن السلف يقولون: لا تبدأ أخاك حتى تعلم ما عنده، بل يفاجأ الواحد منهم بنزول مجموعة من الأشرطة والكتيبات والمنشورات ضده، وهذا محرم شرعاً، ومذموم طبعاً.
ثالثاً: لماذا لا تعد حسنات هؤلاء الأخيار الأبرار؟!
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
والله قد طالب المسلم أن يكون عادلاً حتى مع خصومه من الكفار، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] فكيف بالمسلم الموحد؟ بل بالداعية؟ بل بالعالم الذي قصده الحق؟! لماذا لا تذكر محاسنهم مع العلم أن محاسنهم كالجبال، وغلطهم بسيط سهل ينغمر في بحار حسناتهم، ولذلك يقول الأول:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
هذا هو المطلوب، وأنا أقول لإخواني الذين يتابعون هذه الردود: أن عليهم أن يشتغلوا بأنفسهم، وبتربية أرواحهم، وبالاشتغال بما يصلح الأمة، كطلب العلم الشرعي، وحفظ المتون، والاشتغال بتربية العامة ووعظهم، وفتح مدارس تحفيظ القرآن، وإهداء الشريط الإسلامي وأقول للذين يريدون أشرطة في فن الردود وحسب: أين الأشرطة في العقيدة، والآداب، والسلوك والسير والعبادة والمعاملة؟ إن هذا فيه وقفة ونظر، وإنه ينبئ عن مقصد الله أعلم به.(296/12)
حكم دخول المجالس النيابية
العشماوي: جزاك الله خيراً نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وعلى أية حال لو كانت القضية قضية نقد بناء، فهي مطلوبة حقيقة، والردود بالحق مطلوبة، لكن لعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يصلح الحال.
السؤال
ننتقل إلى سؤال آخر، يبدو أنه يبتعد بنا قليلاً، لكن نريد أن نأخذ رأيك في هذا الأمر، ونحن نعيشه جميعاً، وهو ما يجري في العالم الإسلامي، حيث كثر القيل والقال والاختلاف حول دخول المجالس النيابية والبرلمانية في بعض أنحاء العالم الإسلامي، وذلك عن طريق الانتخابات فماذا ترون في هذا الأمر؟
الجواب
إن المسائل النظرية والاجتهادية التي لم ترد فيها نصوص قاطعة يجوز للعقل أن يجول فيها، ويجوز للإنسان أن يتحدث عنها، وأن يجتهد؛ لأنه لا يخالف إجماعاً، ولا يعارض نصاً، ودخول المجالس النيابية والانتخابات والبرلمانات مما تكلم فيه العلماء، فمنهم من حرم ذلك، ومنهم من أجازه، ولبعضهم أشرطة وكتب في هذا، وآخر من سمعت سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في مجلة الإصلاح، تكلم فيها عن هذه القضية، وقبله الأستاذ عبد المجيد الزنداني له في ذلك شريط، والشيخ عبد المجيد الريمي، وكثير وكثير كالشيخ القرضاوي، وغيرهم من المشايخ والمفكرين والدعاة، ولذلك إن قلت قولاً في هذه المسألة فما أتيت بجديد، سواء كان خطأ أو صواباً؛ لأني مسبوق إلى هذه المسألة.
ولكن هناك بعض الضوابط: أولاً: أن العبد ينظر للأصلح، كما قيل:
إن اللبيب إذا شكا من جسمه مرضين مختلفين داوى الأخطرا
فينظر إلى المصلحة المتحققة من دخوله، أو من رفضه، فإن كان في دخوله هذا المجلس مصلحة للدعوة وللإسلام بقصد الاجتهاد ومشاورة الإخوان فلا يتوقف في ذلك، لأنه الأصلح بأن يكون له ثقل وميدان وقدم في العمل الإسلامي.
ثانياً: ألا تعمم هذه القضية على الجواز أو التحريم، فإن البلدان تختلف، وقد وجد في بعض البلدان والشعوب أنه لو لم يدخل الدعاة في المجالس والبرلمانات، لضربت الدعوة وسحقت تماماً، لأن الأنظمة قد تكون دكتاتورية ظالمة غاشمة بطاشة، فلو لم يدخل الدعاة بأسماء ومقاعد ليكون لهم ثقل ووزن وصوت وإلا فالدعوة سوف تجتاح، وقد رأينا ذلك وسمعناه وعرفناه، فمثل هؤلاء لا يتوقفون لأن في ذلك نصراً للإسلام وخيراً.
ثالثاً: هذه المسألة تختلف باختلاف الأشخاص الذين يمثلون الأمة أمانة وصدقاً وعلماً واطلاعاً، فالواجب أن يختار أحسن الناس.
رابعاً: أن ينتبه لمسألة ألا يتنازل عن شيء من دين الله عز وجل، الذي هو واجب، ولا أقصد المباحات أو الأمور التي يختلف فيها الناس، أو أمراً مستحباً في تركه مصلحة محققة, وإنما أقصد الواجبات أو الفرائض التي فرضها الله على عباده، أو عدم تحليل ما حرم الله عز وجل, فأرى أنه لا يتنازل بأي حجة كانت سواء لمسايرة أو ملاينة فإن هذا مداهنة محرمة بلا شك.
وعموماً فإن البلدان التي لا يحصل فيها صوت للإسلام إلا من خلال المجلس النيابي أو البرلمان أو الانتخاب؛ فإن للمسلم أن يدخل في ذلك، وهذا أمر مباح إن شاء الله، وقد قاله كثير من العلماء والفضلاء، وهو الأصلح للدعوة والدعاة في تلك البلدان، ولا يشترط لإعلاء كلمة الله أن يكون بعد قتال وجراح, وبعد أن تسيل الدماء، بل قد يكون هناك انتصار بالطرق السلمية التي ترتفع فيها راية الله، لأن المقصد أصلاً من الدعوة ومن المنهج الرباني أن تكون كلمة الله هي العليا، وليس المقصد أن يكون هناك جماعة ومؤسسة ووزراء ونواب ومقاعد، إنما المقصد أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، فإذا حصل هذا بالطرق السلمية فهو أحسن وأوفر للمسلمين، وأقل خسائر، وأعظم فائدة، وهذا هو المرجو.
وبعض الناس من الخطوط الأخرى يطالبون بالجهاد، ويقولون: لا ندخل صناديق الاقتراع، ولا نريد البرلمانات يؤدي إلى أن تفصل الجماجم والرءوس، وأن تسيل الدماء، وأن تمتلئ المستشفيات بالجرحى، وبعدها يأتي النصر ويعتقد أن هذا هو الطريق.
ونقول: لا.
الطريق الأحسن هو الأسهل، والأقل خسائر، وهذا هو الأنجح إن شاء الله.
وقد يكون ذلك الطريق ضرورياً في بعض الأحيان.(296/13)
ملخص رأي ابن باز في الانتخابات
قلت: إن الشيخ عبد العزيز بن باز له رأي في هذا الموضوع، وأنا مرة سمعت المناظرة بين الشيخ عبد المجيد الزنداني والشيخ عبد المجيد الريمي، وأشار الشيخ الزنداني إلى رأي الشيخ ابن باز مستشهداً به، فهل لنا أن نعرف ملخص هذا الرأي؟
الجواب
على كل حال، الشيخ في مجلة الإصلاح يقول: لا حرج من دخول العلماء للمجالس النيابية، ولكن بشروط، فيظهر أن الأصل عند الشيخ أنه يجوز ذلك، لكن بشروط، ولعل من الشروط بعض التي ذكرتها، لكن الشيخ لا يمنع منعاً قاطعاً، بمعنى أنه لا يحرم تحريماً باتاً كما يفعل بعض الناس، فإن بعضهم يقول: لا تبحث في المسألة ولا تناقش فيها لأنها محرمة، ولأنه ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة.
وسبق أن كان معي بعض الإخوة من الدعاة في أفغانستان، وجلسنا مع أحد القادة الكبار، فقال: لا يجوز الدخول في البرلمان -لأن حكمتيار كان يطلب الانتخابات- وكان ذلك القائد وزيراً في الحكومة فقلنا: لماذا؟ قال: لأن البرلمانات والانتخابات لم توجد في كتاب الله عز وجل.
قلنا: وأنت وزير من الوزراء وليس في الكتاب والسنة لا رئيس وزراء ولا وزير خارجية! قال: هذه من المصالح المرسلة!! قلنا: وتلك من المصالح المرسلة فالأحاديث والنصوص تقبلها -والحمد لله- في عمومها.(296/14)
إيضاح مقولة الشيخ: (من أوجب على الناس) والتراجع عنها
السؤال
جزاك الله خيراً تأذن لنا أبا عبد الله! إن شاء الله أن ندخل في بعض الأسئلة التي أثير حولها بعض الكلام: قلتم كلمة في شريط بعنوان (فر من الحزبية فرارك من الأسد) وأنا تعجبني هذه الكلمة في الحقيقة لأن فيها توظيفاً لغوياً جميلاً، وقد أحدثت لبساً عند بعض الناس، وهي قولكم -كما روي لي- (من أوجب على الناس أن يكون أحدهم سلفياً أو إخوانياً أو تبليغياً فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل) هل هذا صحيح؟
الجواب
الحقيقة أن الكلمة هذه فظيعة ومخيفة، وقد وددت لو أني تركتها من الأصل، لأنه أحياناً قد يكون للإنسان مقولة، ثم يتكلف بأن يرد عنها ويعتذر حتى يثبت في المقولة، وإلا فإن المسلم لا يستنكف أن يقبل الحق أو يعود عن الباطل إذا تبين له ذلك، كما قال عمر: [[لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فبان لك الحق في خلافه أن تعود عنه]] وأنا قلت هذا، وسبق أن جلست مع بعض المشايخ في هذه المسألة واتصل بي بعض الإخوة، وبينت في بعض الأشرطة، لكن الذي يظهر أنه ما بان إلى الآن.
فأنا على أحد أمرين:
الأول: إما أن أوضحه ويقبل الناس توضيحي له، وإن كان أحدث لبساً فإنني أنسحب عن هذه الكلمة، ولم يحصل شيء والحمد لله، فإن انسحبت عن هذه الكلمة فلن تنسخ آية من القرآن، ولن يلغى حديث من أحاديثه عليه الصلاة والسلام؛ فإن من قضاة الإسلام من كان يقضي في المجلس ثم يسمع الدليل، فيعود فينثر القضية من أولها إلى آخرها.
فأقول: قصدي بذلك الذي يوجب على المسلم أن يكون منتمياً إلى فئة من هذه الفئات، أو جماعة من هذه الجماعات، ويجعله وجوباً عليه بحيث أنه لو ترك هذا الانتماء كان آثماً, هذا الذي أقصده, فإنه مخالف لمنهج الله عز وجل، ومثل هذا يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وأنا قلت هذا لأن ابن تيمية يقول في الفتاوى -والناس يعلمون ذلك- من أوجب على الناس أن يكون أحدهم حنبلياً أو مالكياً أو شافعياً أو حنفياً فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وهذه ثابتة عن ابن تيمية، وبعض العلماء عذرني وقال: هذه كهذه؛ لأن الأصل ألا يشرع الإنسان إلا شرع الله عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116].
لكن المسألة التي نوقشت فيها مسألة: من الذي أوجب على الناس هذا؟
قلت: لم يوجبه أحد, ولا يلزم من إلقاء الحكم أن يكون له أصل في الواقع، فإنه قد يلقى الحكم أحياناً وقد لا يوجد في واقع الناس مكان لتطبيق الحكم فيه، وأنا أضرب مثلاً من كتاب الله عز وجل: فقد جعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى من شروط الرجم على الثيب الزاني أن يشهد عليه أربعة، قال بعض العلماء: لم يرد في تاريخ الإسلام؛ أنه وجدت قضية نقلت للناس أن أربعة شهدوا الفاحشة في الزنا ونقلوها للعلماء، ولم يوجد أبداً منذ أن بعث عليه الصلاة والسلام إلى الآن فالحكم ما زال في كتاب الله، ولكن تطبيقه على واقع الناس لم يوجد بعد.
فأقول: لو قال أحد هذا مرضاً وهو لم يحصل، فإنه يفعل به هكذا، وإن كانت الكلمة خشنة وأحدثت لبساً فإني أقول: العودة عنها أسلم، وأنا الآن أعلن أنه إذا كان فيها خطأ وغلط فإني أتوب إلى الله وأستغفره، وما أنا إلا مصدر من مصادر النقص التي تحتاج إلى تسديد من الله تعالى.(296/15)
فقه هذه المرحلة في نظر الشيخ
العشماوي: هذا يكفينا ويكفي من يريد الحق ويبحث عنه.
السؤال
لا شك أن لكل مرحلة من مراحل الدعوة فقهاً دعوياً إذا صحت العبارة، فيا ترى ما هو فقه هذه المرحلة من مراحل الدعوة، فيما يتعلق بالواقع؟
الجواب
أحب أن أشير إلى مسألة وهي: ألا نندم على ما مضى، فقد ينهج الداعية نهجاً في طرحه وأسلوبه، ثم يظهر له أن أسلوبه كان خطأ، أو يوحى إليه أن الذي سلكه ليس بصحيح، وهذا فيه نظر، لأنه قد يكون هو الصحيح، وعين الحكمة هو الذي فعله من قبل، إذا ناسبت المرحلة التي سبقت هذا النوع أو الثوب الذي طرحه من ثياب الدعوة.
وأحياناً قد يفعل الإنسان هذا ثم ينقص جهده، وهذا كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل:92] فلا يصح للإنسان أن يعود على مسيرته، وجهده وجهد إخوانه من الدعاة بالخطأ, لأن هذا ليس بالصحيح لأمور:
أولاً: لأنه قضاء الله وقدره.
ثانياً: لأن الذي حدث قد يكون عين المصلحة, فإن لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى له الحكمة المطلقة.
فعليه ألا يزري بمنهجه ومنهج إخوانه إلا في بعض الجزئيات من جزئيات الخطأ والغلط التي لا يسلم منها أحد، ثم إن الحياة مراحل للدعوة كما فعل عليه الصلاة والسلام، فإنه كان له طرح معين في مكة، فقد كان يدعو إلى المعتقد، ويحارب أهل الوثن، فلما وصل إلى المدينة لينشئ دولته الإسلامية الرائدة الخالدة، كان له أسلوب وطرح آخر معالجة لقضايا الأحكام، والآداب، والسلوك، وأسس فقه الفتوح والجهاد، وكلها مستوحاة من كتاب الله عز وجل، ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمرحلة التي نعيشها الآن من وجهة نظري، وقد يكون هذا صواباً أو خطأ، لكني أرى بالاستقراء والإلمام من كلام بعض العلماء أن هذه المرحلة تحتاج إلى تعميق للتربية، وتأصيل للعلم، بأن نعمق تربية الكتاب والسنة في قلوب الناس وعقولهم، ونشربهم روح الدين؛ بحيث لا نتباطأ لهم في توضيح الإسلام وقضاياه, لأن كثيراً من الدعاة وقع في خطأ وهو تلغيز في الإسلام، أو وصفة سحرية للدين، أي أنهم جعلوا الدين أحاجي وألغازاً وصعبوه وهذه طريقة علماء أهل الكلام وأهل المنطق كما يقول ابن تيمية، وإلا فالدين سهل بسيط، وقد طالب الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي في كتابه (طبيعة الإسلام) بهذا، وسبق أن جلست معه أنا وبعض الفضلاء منهم: الأخ عبد الوهاب الطريري، والأخ سلمان العودة، وبعض الإخوة فقال: إن من المسائل التي يسعى هو لتوضيحها للدعاة وللناس: أن يبسطوا دين الله لخلقه، وأن ييسروه، ويسهلوه، بأن يكون معلوماً للكبير والصغير، للأعرابي وللحاضر، للأمي وللقارئ، وهي طريقة القرآن، فإن القرآن يوم يسمع ويتلى لأول وهلة يفهم منه كل بحسبه؛ لكن ليس هناك آية لا يستطيع أحد أن يفهم منها شيئاً.
تعميق التربية، وتأصيل العلم، وجمع الكلمة تحت مظلة أهل السنة والجماعة، وإيجاد جيل يحمل المبدأ، ويغار لدين الله عز وجل، ويغضب للدين من انتهاك الأعراض والوقوع في المحرمات ويأسى لإخوانه في العالم الإسلامي يعيش قضية عالمية ربانية وهي قضية الإسلام هذا هو فقه المرحلة التي أراها وقد تحتاج إلى شيء من البسط، لكن لعجالة اللقاء ذكرتها في نقاط.
فالجانب التربوي وتأصيل العلم الشرعي؛ بأن نكون طلبة علم، نتربى على الخوف من الله عز وجل، وعلى حبه وحب رسوله، ولا يكون عندنا جفاف فكري؛ أن يكون فكراً نيراً, فاهماً، ولكن مع قلب جاف.(296/16)
التربية في ظل الازدواجية
السؤال
لا بأس أبا عبد الله! أن نواجهك ببعض الأسئلة، لأن اللقاء يبدو أنه وجه لوجه: مما يلاحظ وجود الازدواجية، فنحن نريد أن نربي، لكن المجتمع فيه عدة قنوات لا يخدم بعضها بعضاً، فعندما نربي أبناءنا مثلاً: على خلق فاضل، على حجاب المرأة المأمور به شرعاً، على قضايا خلقية معينة؛ نفاجأ بأن الإعلام يصدمنا في هذا الجانب، وبعض الجوانب التربوية تصدمنا، فهل تستطيع أن تعالج ببعض الكلمات هذه القضية, قضية الازدواجية في المجتمع؟
الجواب
هي -كما تفضلتم- الازدواجية وهي اسم عصري، وقد سماها السلف: المدافعة، وكتب عن سنة المدافعة بعض الناس من الفضلاء والعلماء الكبار، وهي أنه لا بد من صراع بين الحق والباطل، على مستوى الجماعات والدول, والشعوب والأفراد، وهذه أرادها الله قدراً، وجعلها الله تعالى سبباً، وأنزلها واقعاً، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] هذا على الأفراد.
وأما على المجتمعات فقد قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الحج:40] وفي المخلوقات سنة المضادة والمدافعة: الليل والنهار، الحار والبارد، الحلو والحامض، وهكذا.
فأولاً: لا بد أن يعترف الداعية بأن هذا لا بد أن يوجد، وأن يقع، وأن يكون.
وثانياً: لابد أن أهل الأرض أكثرهم عصاة ومنحرفون، وهذه سنة الله, فقد قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] فدلت النصوص والواقع على أن أكثر أهل الأرض كفار، وأن القليل من المسلمين سنيون، والقليل من السنين مخلصون، وهده سنة من سنن الواحد الأحد.
أما ما ذكرت فهذا هو الصحيح، وهي أكبر مأساة يعيشها الدعاة، لأن الواحد منهم يجدد ويحاول أن يصلح وأن يضع لبنة، فإذا بمن يهدم أكثر من الذي يبني الصحيفة، والشاشة، والمذياع، والشارع، والمرأة العارية، والكأس، وجلسات اللهو، والليالي الحمراء، والشبه التي تطرح، وهي شبه إلحادية تخرج الناس عن الملة والدين، وكلها تحارب الدعوة فما الحل إذاً؟
الحل: أن يعلم أن عليه أن يؤدي الكلمة والأمانة التي عنده، سواء استمع الناس إليه أو لم يستمعوا، فإن الأنبياء أعظم منه وأخلص، ومع ذلك لم يهتد على أيدي بعضهم ولو واحداً، قال الله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد:7] {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] وغيرها آيات كثيرة.
ثالثاً: أن يعلم الداعية أن جهده هذا لن يضيع عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فإن أجره محسوب ثم لا ييأس فإن الثمرة قد لا تتأتى الآن, وكم من كلمة تقال أو موعظة أو خطبة ولا يستمع لها مستمع، ثم ينتبه لها العقل بعد فترة، فيهتدي بسببها، ولو أن المجال يتسع لذكرت بعض النماذج من الكلمات التي ألقيت في بعض المناسبات من بعض الدعاة والعلماء، وانتبه لها بعض السامعين بعد سنوات واهتدوا بها بإذن الله، لأن الكلمات تنفذ، وهي مؤثرة، وقد لا تؤتي أكلها إلا بعد حين.
ثم نقول: ليس واجباً على المسلم أن يدفع الشر كله حتماً، لكنه يقلص ويحد ويقلل منه إذا لم يستطع دمغه كله, وهذا تحقيق للمصلحة العظمى بارتكاب الضرر الأصغر.(296/17)
حكم التوفيق بين فرق العالم الإسلامي
السؤال
جزاك الله خيراً تكلمت عن قلة أهل الخير إلى جانب أهل الشر، وهذا كما ذكرت أمر واقع، والحقيقة أنه قد ظهرت دعوات في هذا الزمن تركز على قضية التوفيق بين فرق العالم الإسلامي، فإن بعضهم يدعو إلى الوفاق العقدي أو ما يسمى توسيع المسارات العقدية، وعدم التضييق على الناس في جزئيات العقيدة، وهي مسائل تطرح هذه الأيام بكثرة، خاصة عند بعض العقلانيين -الذين يؤمنون بالاتجاه العقلاني- فما هو تعليقكم فضيلة الشيخ على هذا الموضوع؟
الجواب
لقد وجد فعلاً ما يسمى بالاتفاق العقدي، وقد كتب بعضهم كتابات وسماها: (الأخوة الإنسانية) وذكره بعض المفكرين في كتاب تراثنا العقلي بين الفكر والشرع ودعوا إلى أخوة إنسانية للناس جميعاً، بل بعض المفتين الكبار أجريت معهم مقابلة في لندن , وقال أحدهم وهو مفتٍ في تلك البلاد: إن الأديان لا خلاف بينها، وإن الإسلام يحترم الأديان، وكلها ديانات سماوية محترمة وهذا عوار مكشوف، والدين عند الله الإسلام, قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] فهذا باطل بالإجماع أصلاً، ولا يجوز أن يقال مثل هذا الكلام في توحيد الأديان، وأن الأديان كلها سماوية محترمة، فهذا ليس بصحيح، بل هو باطل ومنكر من القول وزور.
بقيت مسألة وهي: إن أهل الإسلام طبقات ومذاهب، ولكن المسيرة الحقة الصحيحة التي يدعى إليها هي مذهب أهل السنة والجماعة، وهي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والأئمة، ولكن المخالفين درجات، فمنهم القريب من أهل السنة، ومنهم البعيد عنهم، ولا يجوز أن يصنفوا تصنيفاً واحداً.
فمثلاً: الأشاعرة بالنسبة لـ أهل السنة مبتدعة، عند ذكر السنة والبدعة، ولكن إذا ذكر أهل السنة والرافضة فـ الأشاعرة من أهل السنة، وهذا من كلام ابن تيمية، وأنا مسئول عنه، بل ذكر عن ابن تيمية -وهذا محقق- أنه قال: والبلد الذي ليس فيه إلا أشاعرة فهم أهل السنة والجماعة في ذلك البلد ولا يعني ذلك أني أدافع عن الأشاعرة والماتريدية، ولكني أقول: إنهم لا يصنفون في حجم وخطأ الرافضة، وأنا استفدت ذلك لأن رسالتي في الماجستير البدعة وأثرها في الرواية والدراية واكتشفت من كلام السلف وأخبارهم ومقولاتهم أنهم يصنفون البدعة إلى مكفرة ومفسقة، وإلى غليظة وخفيفة، وإلى كبرى وصغرى، وإلى بدعة المعتقد والعمل، والعبادة والسلوك، وهكذا.
فأنا أنصح الذين يتسرعون في كل من هو مشتبه ويصنفونه من أهل البدع، وأحياناً يكفرونه بالبدعة، وأن يكون حكمهم تفصيلياً جزئياً، يقع على أشخاص الناس أنصحهم بالمذهب الذي عليه أهل السنة والجماعة وهو الصحيح بلا شك، وهو ما كان عليه السلف الصالح، المذهب السلفي الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا يجوز أن يدعى إلى مذهب آخر، ثم نبين لأهل البدع أخطاءهم في موقفهم من أهل السنة.
فمثلاً: المعتزلة خطؤهم أعظم من خطأ الأشاعرة، والرافضة أخطر من المعتزلة، والباطنية الإسماعيلية أخطر من كثير من الرافضة، فعموماً لا بد أن يفهم الناس والناشئة هذا، وهذا ما أريد أن أبينه.
فلا يصح أن يقال مثلاً: نجتمع على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
ولو كان صاحبها يقصد خيراً، لكن الكلمة -أحياناً- قد يفهم منها بعض الناس أن يجمع الناس جميعاً بطوائفهم وفرقهم ويقال: لا فُرقة، ولا تذكر السنة، ولا مذهب السلف لأنه يفرق، فتأتي مثلاً بالسلفي والمعتزلي والجبري والقدري والأشعري والماتريدي، وتقول: كلهم مسلمون، وهم يصلون، ويجمعون بينهم هذا ليس بصحيح، فإن ابن تيمية بيّن ذلك، وبيّن أن المنهج الصحيح هو منهج أهل السنة والجماعة منهج السلف الصالح الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو الصفاء العقدي الذي لا بد أن يدعى إليه.(296/18)
الغربة أنواعها ووصايا لأهلها
نعم.
لقد أصبحنا نقرأ ونسمع كثيراً من يقول: إن مظلة الإسلام كبيرة، ويمكنها أن تحتوي هذه الفرق والطوائف، والحق كما بينت جزاك الله خيراً.
السؤال
الغربة كلمة لها دلالتها ولها إيحاءاتها، بل لعلها أدبياً وشعرياً تعطي ظلالاً بعيداً جداً، وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم غربة المسلم في آخر الزمن، وفي هذا الزمن يشعر المسلم الملتزم أنه يعيش غربة بلا شك، فعندما يلتفت يميناً وشمالاً ويبحث عن مذهب أهل السنة والجماعة والإسلام المتكامل السليم الصحيح يجد أنه يعيش غربة، خاصة عندما يحرص المسلم على اتباع السنة المطهرة فماذا يقول الشيخ عائض بن عبد الله القرني لهؤلاء الغرباء؟
الجواب
كما تفضلت، فإن الاسم الشرعي لهذه المسألة: الغربة، وقد سماها الرسول صلى الله عليه وسلم الغربة، فقال لـ ابن عمر في الصحيح: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} وقال فيما صح عنه: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود الإسلام غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء} ويسميها بعض المعاصرين: (العزلة الشعورية) والاسم الشرعي أحسن ظلالاً, وأندى لغة, وأقرب للمعاني التي يعيشها الناس.
وهؤلاء الغرباء متفرقون في الأرض -كما قال الإمام النووي - يوجدون في العلماء، والأمراء، والسلاطين، والعامة، وفي الفلاحين، والجنود، وبمجموعهم تتحقق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، فإنها لا بد أن تكون كاملة، ولا تنقطع في أي فترة من الفترات، بل إنها مستمرة كما قال صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي الله بأمره} وهذه لا بد من ظهورها، سواء وجدت دولة إسلامية قوية أو لم توجد، انتصر المسلمون أو لم ينتصروا، فهذه الطائفة متحققة، لأنها تحمل الملة والدين.
وهؤلاء الغرباء عليهم أمور:
أولاً: أن يحمدوا الله عز وجل على التفرد، وهو كما قال الهروي: لا تخاف من وحشة التفرد، فإنها دليل على العظمة.
فالانفراد دائماً دليل على عظمة الإنسان إذا كان في الحق، كما يقول المتنبي:
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
ثانياً: أن يعلموا أن قدوتهم في هذه الغربة محمد عليه الصلاة والسلام، فإنه يوم ألقى بنوره في الأرض، وبدا صلى الله عليه وسلم وسطع سطوع الفجر على الناس، كان هو الغريب الوحيد الذي يقول للناس: قولوا: لا إله إلا الله ثم تبعه الغرباء.
ثالثاً: أن يعلموا أن هذه نعمة من الله واصطفاء واجتباء بجعلهم من هؤلاء الغرباء، ولم يجعلهم من هؤلاء الهمل الذين يعيشون بغير مبادئ، وليس عندهم طموحات لإنقاذ النفس والناس، وإنما همُّ أحدهم فرجه وبطنه, قال تعالى عنهم: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
رابعاً: على الواحد منهم أن يلبس لباس الغرباء، فقد قال عنهم ابن القيم: اسمهم السنة، لا يعرفون إلا بها، وبيوتهم المساجد، وعكازهم لا حول ولا قوة إلا بالله، ونداؤهم الزهد، ومطيتهم التوكل، وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم ويريدون وجهه: {دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها}.
فهؤلاء هم الغرباء الذين يتبعون محمداً صلى الله عليه وسلم، والواحد منهم يصلح الله به فئاماً من الناس، لأنه صاحب حق، والناس أهل باطل والحقيقة أن الغربة مجزَّأة كما ذكرها ابن القيم في مدارج السالكين:
فهناك غربة في المعتقد؛ فصاحب العقيدة الحقة غريب بين المتلوثين عقدياً، والمعاقين عقلاً وفطرة، فتجده موحداً صادقاً، وتجد غيره مخلطاً علمانياً، أو حداثياً، أو يسارياً ملحداً، أو نصرانياً، أو يهودياً وهو موحد يعرف الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويعتقد عقيدة الإسلام.
وهو غريب في صلاته، لحسنها وسوء صلاة الناس، وغريب في تعامله؛ لأنه صادق، وغيره خونة وغشاشون ومرابون وغريب في علمه، وغريب في ثيابه وهندامه، وفي كلامه إلى غير ذلك من أنواع الغربة التي ذكرها.
وبالمناسبة أطلب من الدكتور عبد الرحمن قصيدة في الغربة، ولعله سبق أن قال شيئاً، ولكن هذا الموضوع حي ونافذ، وله أنداء أدبية، وله وقع في النفوس، وجلال في القلوب، فأحب أن تكون هناك قصيدة تصاغ بهذا المبدأ وتهدى للغرباء.(296/19)
وسائل الدعوة ليست توقيفية
العشماوي: جزاك الله خيراً ومنكم تطلب أيضاً وبارك الله فيكم.
السؤال
شيخ عائض! الوسائل الدعوية كثيرة، وقد توقف البعض في استخدام بعض الوسائل والأساليب بحجة أنها لم تكن موجودة على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فماذا ترون في هذه المسألة؟
الجواب
والحلال والحرام يؤخذ من الكتاب والسنة، ولا يجوز لأحد -كما أسلفت- أن يحلل أو يحرم من عند ذاته، وكل أحد يحتج لقوله إلا الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يحتج بقوله على الناس، فمن أتى إلى وسيلة وقال: هذه محرمة؛ لأنها لم توجد عند الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لم يصب؛ لأنه وجدت وسائل جعلها السلف من لوازم الطريق، واستخدموها واستغلوها فيما يرضي الله عز وجل كالكتابة فإنها أتت متأخرة، وبعضهم كان يخالف في كتابة العلم، وتدوين الدواوين، وتجنيد الجنود، وترجمة الكتب، وبناء القناطر، وفتح الطرق، وتوسيع الجوامع كما في العهد الأموي، إلى غير ذلك مما جد ولم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أجازه العلماء لأن فيه مصلحة؛ والمصلحة حدها: أن تكون حلالاً في شرع الله، وكثير من الوسائل مباحة، ولو استغلت استغلالاً جميلاً لكان فيها نصرة للإسلام وتوسيع لدائرته في الأرض.
والوسائل بحد ذاتها -كالوسائل الإعلامية- ليست محرمة لذاتها، فإنها من حديد وخشب ومواد فلا تحلَّل ولا تحرم، إنما يناط الحكم بما يلقى فيها ويطرح، فهي كالآنية فحسب, يحكم عليها بما يوضع فيها، فالإناء لا يحرم لأنه إناء من زجاج أو غيره، ولكن يحرم إذا وضع فيه شيء من المسكر، ويحل إذا وضع فيه شيء من الماء، وهكذا.
فهذه الوسائل الناس فيها طرفان:
منهم من حرمها؛ لأنهم رأوا أنه يبث فيها الفاحشة والمنكر والمعصية، فأجروا عليها التحريم.
ومنهم من يرى أنها حلال؛ لأنها تستغل في نشر الدين، وتوعية الناس.
وأقول: إنها لو وجهت توجيهاً سليماً لكان الأحسن أن تستغل وأن يدخل فيها، وتزاول الدعوة فيها، وهو الأحسن، ولو لم توجد في عصر الصحابة.
ذكر صاحب المذكرات في المجلد الثاني، أن استالين قال: أعطوني شاشة أغير بها وجه العالم وهذا أمر صحيح، وأتعجب من المسلمين! المليار لا يملكون شاشة إسلامية صافية نقية توجه الناس والأجيال، ولا يملكون إذاعة أخاذة، ولا يملكون صحيفة يومية يتكلمون فيها بالحق، بدين محمد صلى الله عليه وسلم، بتراثه، بخلوده، بنوره، هذا هو العجب!! وما نزال نطالب المسلمين أن تكون لهم إذاعة وتلفاز، وقنوات من الفكر، وأن تكون لهم مجلات تعبر القارات، وصحف يومية يقرؤها الناس جميعاً، كبيرهم وصغيرهم.
أما من يطالبنا بأن نبقى على الوسائل القديمة كالدعوة في خطبة، أو موعظة، أو كلمة في منتدى، فنقول له: رأيك هذا غير مقبول، وليست المصلحة فيه فحسب، ويبقى هذا رأيك الخاص.(296/20)
الدعوة مجالها واسع
العشماوي: قد يكون من التفريط أن نترك هذه الوسائل، والحقيقة أن المسلمين بحاجة إلى الشاشة والإذاعة الإسلامية، وبصرف النظر عن إذاعات القرآن الكريم الموجودة في بعض الدول الإسلامية، لأنها مخصصة للقرآن الكريم، ووجودها إلى جانب إذاعة عامة فيه شيء، لكن أضرب مثلاً، وتوجد الآن في صيدا في لبنان إذاعة يسمونها: (إذاعة الهلال) قام بها مجموعة من المسلمين، وهي إذاعة طيبة تعتبر نموذجاًَ للإذاعة الإسلامية المنتظرة، تقدم فيها كل البرامج الإذاعية بطريقة فنية، فليس فيها موسيقى، والمقاطع أناشيد إسلامية، وقد سمعت أنا على شريط كاسيت مجموعة من برامجها وهي برامج جيدة.
فأقول: هذا نموذج ناجح موجود، والبرامج تخرج بدون أي محاذير شرعية، فلو يسر الله وعممت لكان لها فضل كبير.
القرني: أنا بالمناسبة ذكرت مسألة، وهي: أنه يوجد في بعض البلدان الأوروبية مثل ألبانيا قنوات استؤجرت ساعةً بأربعمائة دولار في الإذاعة العامة للشعب الألباني، وبث منها، وفي فرنسا قنوات تؤجر، فوصيتي لمن يسكن هناك من الإخوة طلاب العلم المبعوثين أن يسلكوا هذه المسالك، فما الذي يمنع أن يجتمع مجموعة فيكون لهم قناة أو إذاعة أو يشتروا ساعات على سبيل المثال؟! وقد رأيت كثيراً من الأدباء والذين يطرحون بعض الأفكار في إذاعة لندن يأخذون ربع ساعة في الأسبوع بالأجرة، ويبثون ما يريدون.
فلو أنه تصدى مفكر، أو عالم، أو أديب، أو داعية فأخذ من هذه الإذاعة جزءاً للبث الإسلامي وتوجه أفكاره النيرة الحقة للعالمين، فيسمعوا دين النبي صلى الله عليه وسلم في أكبر الإذاعات انتشاراً في العالم لكان هذا خيراً عظيماً.(296/21)
غثائية الأمة
العشماوي: هذه دعوة طيبة، وأنا أضم صوتي إلى صوتك، لعل الله أن ينفع ويسخر بعض أصحاب رءوس الأموال من المسلمين للعمل بها فهو موضوع في الحقيقة مهم جداً، وأنا أذكر في هذه القضية رجاء جارودي أيام ما أسلم وكانت مشكلة صبرا وشاتيلا، فقد اشترى صفحة كاملة من إحدى الصحف الفرنسية، وعرض فيها قضية صبرا وشاتيلا، وتعاطف الناس معه تعاطفاً كبيراً فلو استغلت هذه الزاوية فإن لها دوراً كبيراً.
السؤال
فضيلة الشيخ! يقولون: إن الأمة الإسلامية أمة كم لا أمة كيف، وقد تحققت فيها الغثائية التي أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن من يقولون هذا القول يريدون أن يثبتوا أنها مسألة واقعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بها، فما دامت واقعة فلماذا نحاول أن نصلح؟ فهل توافقون صاحب هذا القول؟
الجواب
فرق بين الموافقة وبين الإنقاذ، الموافقة في الحكم ونتيجة الحكم، فأرى رأيه في أن هناك غثائية في هذه الأمة، والغثائية متحققة في مسائل وصور ونماذج والعدد الهائل من طنجة إلى نيودلهي عدد يصل إلى مليار ومائتي مليون كلهم يدعون الإسلام، ولا يؤثر هذا العدد في صنع القرار السياسي والاقتصادي والإعلامي في العالم.
بل إذا نظرنا إلى رءوس الشياطين ورءوس الطواغيت الخمسة الذين يديرون فيتو النقض في مجلس الأمن، ليس فيهم ولو دولة مسلمة لها حق الإبرام والنقض.
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستشهدون وهم شهود
سياسة العالم الاقتصادية تسير كلها بالربا، وليس هناك من مسيرة ولا قرار لهذه الدول ذات الملايين المملينة أو تأثير في إطفاء نار الربا.
والطرح الإعلامي الهش على هؤلاء الملايين الذي يمارس عليهم صباح مساء وليس لهم تأثير والمآسي التي يعيشونها دون أن يوجد من بعضهم لبعض نصرة، والبوسنة والهرسك، والصومال، وأفغانستان، وألبانيا , والجمهوريات الإسلامية، كل هذه الدول تعيش مآسي، وبعضهم يصرخ من الظلم، ولكن لا يجد نصيراً له، وهذه هي المسألة الغثائية.
وأذكر أن أحدهم يقول:
عدد الحصى والرمل في تعدادهم فإذا حسبت وجدتهم أصفاراً
من كل مفتون على قيثارة كل وجدت بفمه بيقاراً
أو كاذباً خدع الشعور بدجلة عاش السنين بعلمه ثرثاراً
أو عالم لو مالقوه بدرهم رد النصوص وكذب الأخبارا
فأقول: الجماعة التي كانت في عهده صلى الله عليه وسلم كانت قليلة بالنسبة لأمم الأرض، ولكن سرى هذا التأثير إلى أن دوخت إمبراطوريتين كبيرتين عظيمتين وأزالتهما من الأرض، ودخل دينه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أرباع الكرة الأرضية.
وأنا أوافق أن في الأمة غثائية في الفكر والمعتقد والسلوك والأخلاق وفي العدد، ولكن لا أوافق على النتيجة؛ لأنها توحي بالإحباط واليأس وهي محرمة، بل جعلها صاحب الطحاوية كفراً.
فقال: واليأس من روح الله كفر، والله تعالى يقول: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87].
وعلى كل حال لا ييأس العبد من روح الله أو من انتصار الإسلام، أو من العاقبة، وليعلم أن العاقبة للمتقين، وسوف يظهر دينه على الأديان، والفجر المشرق إن شاء الله لأوليائه مهما احلولك الظلام، فالفجر قريب، وقد قالت العرب: إذا اشتد الحبل انقطع.
قال تعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:6] وسوف يكون البديل والأطروحة الحقة هو دين الله، وقد رأينا ذلك في أمور، منها: انسحاق الشيوعية بمطرقة لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لأنها خالفت الفطرة, قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ} [الروم:30] وقال أحد العلماء في كتيب له بعنوان: (قراءة في سقوط الشيوعية) تحقق فيهم قول المولى تبارك وتعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].
- اتساع رقعة الإسلام، فإنه في هذا القرن أكثر بكثير من ذي قبل، فإن المصائب والكوارث سبب للسؤال عن الإسلام والتحدث عنه، حتى كتب في جريدة الرياض كاتب أمريكي اسمه: جوزيف سيسكو وقال: إننا فهمنا من الأحداث التي وقعت: ما هو الإسلام الذي يدعو إليه محمد عليه الصلاة والسلام، فـ البوسنة والهرسك جعلت الناس يتساءلون عن هذا الحدث والأطروحة، وعن مسألة الإسلام ما هي، وقضية أفغانستان , وهذا فيه نصر بإذن الله، ولو أن ظاهره أنه مصيبة وكارثة على المسلمين.(296/22)
المال عصب الدعوة
السؤال
ننتقل إلى موضوع مادي، وهو أن بعض الشباب الملتزم بالشرع يصدف ويعزف عن جمع المال، بحجة الزهد والانقطاع، فهل هذا منطق سليم؟ وما النظرة الشرعية في ذلك؟
الجواب
ليعلم أن الإسلام لا يعترف بالدروشة، والتصوف الهندوسي الذي ألقي على المسلمين، كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره، وهذا سبق إليه كثير من أهل العلم القدامى والمعاصرين والذين نقلوا إلى الناس الأحاديث الموضوعة في الزهد والانقطاع إلى الله، والتبتل الذي لم يرد في الإسلام: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] ليس لذلك أصل في الإسلام، فإنه لو طالع الكتاب والسنة فإن القرآن يقول: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] وفي السنة ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحث على طلب المال الحلال، وصرفه فيما ينفعه ويرضي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وكذلك واقع السلف يشهد, فـ أبو بكر يدخل الجنة بماله، وعثمان رضي الله عنه يكفيه قوله صلى الله عليه وسلم: {ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم} و {اللهم اغفر لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر} وإذا الصحابة يجمعون الأموال، وإذا هم أهل إبل وغنم، وإذا هم يشيدون القناطر، ويبنون المساجد، وينفقون في سبيل الله، ويطعمون الجائع ثم تمر بنا السنوات ويندثر هذا الفقه، ونأتي وإذا كثير من أهل الطاعة ينزوون عن طلب المال، وأصبح كل شيء عندهم حراماً، وتجدهم يعيشون في فقر وانزواء، فإذا أراد أحدهم المال -ولا بأس أن أتباسط في هذا الحديث- أقام له مكتباً للشحاذة، فيدور بملفه وبشهود من أهل العلم والكبار والقضاة أنه محتاج، وفقير ومسكين فيظل طارقاً الأبواب، ويريد أن يتزوج، فلا تأتي زوجته إلا بشق الأنفس، وبعد أن تبلغ قلوب التجار الحناجر، ويظنون بالله الظنونا ثم بعد ذلك يريد أن يشتري سيارة، فيبدأ مشروعاً آخر من مشروع الشحاذة على الطريقة الإسلامية وعلى سبيل المثال:
إذا أردنا أن نبني مسجداً في بلادنا أو في بلاد العالم الإسلامي عموماً فإنه تقال المحاضرات والكلمات ثم يصطف الشباب بكراتينهم عند أبواب المساجد، يجمعون التبرعات، ثم بكينا عند الموعظة وصحنا، ودعونا لهم بكل دعوة، ودعونا الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفق من تبرع، فلا زلنا نجمع ونجمع الأيام الطويلة لكي نبني مسجداً واحداً، ثم خذ مثلاً على ذلك مشروع الكتب، أو مراكز إسلامية، أو أشرطة، أو دعماً لمشروع خيري، أو غير ذلك، فوجدنا أنفسنا بعد حين أننا نعيش مأساة اقتصادية مالية نحن الذين أخطأنا فيها.
ولو وجدت شركة إسلامية صافية بالمسمى الشرعي، ينتظم فيها أعضاء، أو جمعية كبرى للدعاة والأخيار وطلبة العلم، ومن أهل الصحوة، ومن أهل المبادئ الحقة؛ لما احتجنا لأحد وسيكون لدينا مؤسسات يمكن أن تقوم ببناء عشرات المساجد والمراكز ونحو ذلك.
لكن في الجانب الآخر نجد أن العلمانيين وكثيراً من العصاة المنحرفين يسير الواحد منهم المليار كما نسير نحن الريال الواحد، ويمكن أن يشتري ضمائر وأقلاماً وصحفاً ومجلات في لحظة واحدة.
فأنا أتساءل من أين أتوا بهذا الفقه؟! إن علينا أن ننقذ أنفسنا، والحقيقة أن الإخوة أرادوا في الأخير أن يبدءوا مشاريع تجارية لكنهم سلكوا مسالك ليست هي المطلوبة، لأنها بدائية جداً، فبعضهم الآن يركز على مسألة التجارة بالتمر، ويظل ست سنوات لا يبيع إلا في التمر السكري والمكسجي وغيره، فكل ما ربحه في عشر صفقات خسره في صفقة واحدة، وبعضهم يتاجر بطيب الورد والصندل، فيظنون أن الحلال فقط في هذا.
وأنا قصدي أن توجد مشاريع كبيرة جبارة، كتكوين شركة مساهمة يدخل فيها ألف عضو، وهذه الشركة في كل العالم، في البلاد الأوروبية والشرقية, في اليابان وقبرص، فتكون مشاريع جبارة كما يفعل كثير من التجار، وعسى أن يكون هذا قريباً.
ملاحظة أخرى لها اتصال بهذا: أن الإسلام لا يعترف بالدروشة في المظهر والبيت والمركب: {إن الله جميل يحب الجمال} وإظهار الدين في قوة وعنفوان هو المطلوب، وكان مالك يلبس بردة جميلة فيقال له في ذلك؟ فيقول: إني أحب أن أعز الدين وكان ابن عباس يلبس بردة بألف دينار إكراماً لدين الله فعلى العبد أن ينتبه لمثل هذا، لأنه وجد في بعض من اهتدى أنه ترك زيه وهندامه وشكله وشخصيته بحجة أن هذا من التقشف ومن الزهد والبذاذة، وهذا شيء والبذاذة والزهد شيء آخر!!(296/23)
مجالس الفضولية
السؤال
هنالك قضية منتشرة في أوساط الشباب وهي قضية المجالس الفضولية، ونحن نتكلم حتى عن الشباب الملتزم شباب الصحوة, فتجد المجلس يبدأ وينتهي دون أن تكون فيه فائدة كيف يمكن أن تعالج هذه القضية؟
الجواب
مما يشكى إلى الله فيه البطالة والعطالة التي تعيشها هذه الأمة بغالب أعدادها، ومنها -كما ذكرت الفضول في المجالس- والحقيقة أنه ليس عندنا جدول مسبق لمجالسنا كما يفعل الغربيون والشرقيون، فإنهم يجتمعون على جدول أعمال، لكن تجد مجالسنا مفاجئة بغير رتابة، فنأتي في الماجريات -يسميها ابن تيمية ماجريات وهو ما جرى- فتجد أحدهم يتحدث عما جرى في المجتمع من طلاق وزواج، ومن حوادث مرورية وسيارات وأمطار وأخبار, والصيدليات المناوبة ودرجات الحرارة، ويأتي بهذا الكشكول المكتمل من الأخبار حتى يبقى الإنسان في هوس، وتتحول إلى كوابيس في الليل، ولو رشد هذا المجلس وطرحت فيه قضية إسلامية يناقشها الحضور، أو آية يتحدث في تفسيرها، أو حديث نبوي، أو ترجمة عالم من علماء الأمة، أو مسألة، أو مشروع، أو دراسة شيء ينفع؛ لحفظنا مجالسنا، وأنتجنا ما ينفعنا.
لكن يتكرر الخطأ ويبقى الفضول نعيشه في حياتنا, حتى في حياة الدعاة وطلبة العلم، ثم يصل إلى درجة الحرام في الغيبة والتشفي بأعراض الناس, والجرح في الآخرين، وهذا هو عقوبة ومغبة الجدل، وما أعرض قوم عن كتاب الله تعالى إلا أوتوا الجدل.
نحتاج -يا أيها الإخوة- إلى مجالس بعنوان: (اجلس بنا نؤمن ساعة) كما قالها معاذ وكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحتاج إلى شيء يقربنا من الله عز وجل ومن رضوانه؛ فنحن بحاجة إلى هذه المجالس التي تقربنا من الواحد الأحد.(296/24)
الوعظ والواعظون
وأرجو أن يفهم الإخوة الشباب هذا ويطبقوه.
السؤال
يطرح بعض الناس كلاماً حول الوعظ والموعظة، ويرى أن الوعظ ليس له فائدة في هذا الزمن، وأنه كما يقول بعضهم: إن الوعظ قد أصبح بضاعة مزجاة، ثم نسمع -أيضاً- البعض يتساءل عن وجود الوعظ عند الصحابة رضي الله عنهم، أو في صدر الإسلام، فهل يمكن أن تجلي لنا هذه النقطة جزاك الله خيراً؟
الجواب
الوعظ كان من أخص خصائصه عليه الصلاة والسلام، والله تعالى طالبه بقوله: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء:63] وقالوا له: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء:136] وهو أوعظ الناس، وأكثرهم تأثيراً في الناس على تاريخ المسيرة وتاريخ الأمة عليه الصلاة والسلام، كما يقول أحمد شوقي:
وإذا خطبت فللمنابر هزة يعرو الندي وللقلوب بكاء
فأكثر من كان يؤثر بالكلمة ويوصلها إلى أعماق الأعماق هو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وكان ذلك عن طريق الموعظة، وكان له عليه الصلاة والسلام أسلوبان في الطرح:
-أسلوب الفتيا والتعليم والإرشاد والتربية.
-وأسلوب الوعظ الزاجر الذي تكاد الصخور أن تقوم له.
حتى يقول النعمان بن بشير: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظ على المنبر حتى سقطت خميصته من عليه} وقال أنس: {وعظنا صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، فوالذي نفسي بيده، لقد التفت إلى المسجد وقد وضع كل رأسه على ركبتيه وللمسجد خنين من البكاء} فلا بد أن نحيي هذا الأسلوب، ولا يأتِ أناس ويقللون من شأنه، وأنه بضاعة مزجاة، وأنها شأن القصاص والمهرجين فليس هذا بصحيح، بل هو فن مستقل وإنما لابد أن ينقى ويؤصل, ولا بد أن يخرج فيه كتب حتى يعرف ما هو الوعظ الأصيل.
وإن أكثر من أثر في عامة الناس وفي أهل الانحراف هم الوعاظ, فقد كان ابن الجوزي يعظ فيحضر مجلسه أكثر من مائة وعشرين ألفاً، وربما سقط بعض الوزراء والسلاطين في مجلس وعظه تأثراً من كلامه؛ لأنه كان يضرب القلوب بسياط وعظه، حتى أن أحدهم كان يلتفت إلى جدار المسجد -من المبالغة- فيقول: هل تبكي معنا أم لا؟ وقد ورد أن ابن النجيد وعظ نور الدين زنكي حتى أسقطه من على كرسي خشب، في قصيدة مطلعها:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل نور الدين جاء مسلماً فاحذر بأن تأتي ومالك نور
حرمت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور
وهي قصيدة مؤثرة.
أمر آخر: من مواهب بعض الدعاة والعلماء الوعظ، فبعضهم لا يصلح للفتيا، أو للدراسة الرتيبة والتربية، ولكن تجده واعظاً وخطيباً مصقعاً، فليس بصحيح أن تشطب على جهده وتلغي هذه الموهبة, فإن الناس مواهب، بل حيه وافرح به، وقد قرأت كتاباً لـ أحمد نور بعنوان: (خطباء صنعوا التاريخ) ذكر منهم: نيرابو الفرنسي، ومنهم: فيليب جريت البريطاني، وذكر سعد زغلول المصري، ومصطفى كمال وغيرهم، وأقول: إن في الإسلام خطباء أكثر من هؤلاء عدداً وتأثيراً في الأمة، وسيدهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم, فليست الدراسات تخرج الخطباء الواعظين المؤثرين في الناس.(296/25)
أهمية تخصص الدعاة
السؤال
ينقلنا هذا إلى موضوع قريب منه، فأنت قد ذكرت أن هناك من الناس من يجيد الوعظ ويؤثر، ولو أتيت به مفتياً أو أتيت به باحثاً لما استطاع أن يقدم شيئاً, وقد أشرتم في بعض الأشرطة إلى فن تصنيف الدعاة، وتصنيف الدعاة يبدو لي أنه من هذا القبيل، فهذا واعظ وهذا باحث وهذا داعية وهذا عالم فهل يمكن أن تشرح لنا هذه القضية؟ ثم هل هناك دليل أو عمل سابق يدل على ذلك من أعمال السلف؟
الجواب
أصل التخصص والتصنيف وارد من عصر الصحابة رضي الله عنهم، ورسولنا صلى الله عليه وسلم كان يصنف الناس حسب مواهبهم، فـ أبو بكر رضي الله عنه جعله صلى الله عليه وسلم الخليفة من بعده، ومعاذ بن جبل أخبره بتخصصه وفنه وموهبته، وقال: {أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل} وزيد بن ثابت أفرض الأمة جعله صلى الله عليه وسلم في قسمة الفرائض، وخالد بن الوليد تخصصه الجهاد، وقطع الأعناق في سبيل الله، قال: {خالد سيف سله الله على المشركين} وحسان يقرب النبي صلى الله عليه وسلم له المنبر ويقول: {اهجهم وروح القدس يؤيدك} وبين أن كعباً سيد القراء، وقال صلى الله عليه وسلم له: {إن الله أمرني أن أقرأ القرآن عليك} إلى غير تلك من المواهب وهذا أصل أصيل ودليل قاطع على أن أصل التخصص والتصنيف وارد، وأنه لا بد للأمة من هذا.
والذي يتجاهل بعض التخصصات في عصرنا ليس بمصيب بل هو مخطئ، وهؤلاء الناس الذين أعطاهم الله عز وجل من المواهب ومن العطاء لا بد أن يعبدوا الله بمواهبهم، وينصروا الإسلام بها، فالمفتي في فتواه كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وسماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين , فهؤلاء الطائفة المباركة نشروا الإسلام بالفتيا والتعليم وكذلك عالم الخطابة, فكثير من الخطباء الفضلاء جندوا أنفسهم للتأثير في هذا المجال كالشيخ عبد الوهاب الطريري وأمثاله من الخطباء المؤثرين في الساحة، وهم كثير في العالم الإسلامي، وأهل الأدب كفضيلة الدكتور عبد الرحمن -هو من الواجهة في هذا- وهم من أهل القصائد النيرة، وهم على منهج حسان في نصرة الإسلام، وهم الذين غطوا هذا الفراغ وأهل الإعجاز العلمي كالشيخ عبد المجيد الزنداني والدكتور زغلول النجار وأهل الفكر النير كالشيخ محمد قطب وأمثاله ممن بحث ذلك وأهل الطرح العلمي الأصيل ككثير من الدعاة كالشيخ سفر الحوالي والشيخ سلمان بن فهد العودة والشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وكثير من العلماء وأهل الحديث وأهل الجرح والتعديل كسماحة الشيخ الألباني، وكثير من المشايخ المتواجدين في العالم الإسلامي.
فيجب ألا يطغى جانب على جانب، وألا يحتقر أحد منا جهد أخيه المسلم، بل يسدده ويشد على كتفيه، ويسأل الله له التوفيق، لأنه ملك موهبة وذاك لم يملكها, قال تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148].(296/26)
أسباب تقصير أهل السنة في دعوتهم
العشماوي: أحسنت تفصيلك في هذا الموضوع.
السؤال
شيخ عائض! هنالك ظاهرة يمكن أن نسميها ظاهرة مرضية، فالمتتبع لما يجري في العالم اليوم يجد نشاطاً ملموساً ومنظماً، وله ثماره عند كثير من طوائف المبتدعة في العالم الإسلامي في دعوتها إلى منهجها، فهي دءوبة في نشر تعاليمها ومنهجها، ولها تأثيرها في العالم وكلنا ندركه ونعرفه.
والظاهرة التي تؤلمنا هي تقصير أهل السنة , أصحاب المذهب والمنهج الصحيح، حيث لا يصلون بجهدهم إلى جهد أولئك ولا إلى نشاطهم فيا ترى ما السبب في ذلك إذا كان لديكم أسباب تعرفونها في هذا الموضوع؟ ثم ما العلاج لهذه الظاهرة؟
الجواب
أنا أذكر كلمة لـ عمر رضي الله عنه وهو يقول: [[اللهم إني أعوذ بك من عجز الثقة وجلد الفاجر]] أن يكون الثقة صاحب الحق عاجزاً كسولاً خمولاً، وأن يكون الفاجر صلداً صبوراً جلداً، فهذه معضلة في حد ذاتها، فإنك تجد بعض طوائف المبتدعة المنحرفين عن منهج الله عز وجل من أكثر الناس صبراً وجلداً في التأثير على الناس، وفي تصدير أفكارهم، ونشر مبادئهم يسهرون ويدأبون ويخططون وينتجون ويقولون ويخطبون، وهذا موجود في بعض البلدان في الخارج، وقد كنا في بعض المراكز الإسلامية في الخارج وإذا بعضهم يخطب ويتكلم كأنه سيل، وإذا هو مبتدع، والناس يلتفون حوله من عامة الناس، وما يلبث في فترة من الفترات إلا أن يخلب عقولهم بسيل وعظه، ويتجهون معه فإذا هو مبتدع.
وآخرون يبنون المراكز ويسمونها مراكز إسلامية، وهم حقيقة من المبتدعة، والمال يسح في أيديهم سحاً، وعندهم الجهد والطاقة والإنتاج، ثم إذا نظرت إلى أهل السنة وجدتهم:
1 - في حصار، وفي قلة، فمواردهم المالية ضيقة، وهذه -كما قلت- نشكو إلى الله منها، ومن عدم فقههم في هذه المسألة, فبعض دعاتهم لا يدعون حسبةً، إنما يدعون لأمور أو لأشياء أو لتكليف أو لرسميات أو لانتداب، وإذا ذهب شكا من ألم السير، وكأنه يفعل ذلك لنفسه، ولم يعلم أنه يفعل ذلك لربه تبارك وتعالى.
2 - عدم الاتفاق؛ فإن أهل السنة يكثر فيهم الخلاف، ويكثر فيهم النقد للآخرين واشتغال بعضهم ببعض، ولا يعرفون أنهم يصفون أمام عدو متربص.
3 - يوجد عند بعضهم فقه مظلم، يسميه ابن تيمية: الورع البارد السامج فتجده يترك الساحة والتأثير بحجة الانزواء والخمول والعزلة، وأن هذا عصر الفتن، والأفضل للمسلم أن يأخذ غنمه في شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن، فيقبل على صلاة الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولا يعلم أن هداية رجل واحد خير له من عبادة سبعين سنة نافلة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
فنحن بحاجة إلى أن نقف وقفة تأمل أمام فقهنا في هذه المرحلة فقه الانزواء والخمول وعدم التأثير والكسل، والبلادة وعدم الاختراع في الطرق واكتشاف كثير من المسارات التي يجب أن نسلكها حتى نوصل دين الله إلى الناس أجمعين.(296/27)
الترجمة وأثرها في إثراء ثقافتنا
السؤال
ننتقل إلى موضوع آخر -يا أبا عبد الله - وأرجو أن تصبر علينا، لأننا قد أطلنا عليك، لكن في الجعبة أمور كثيرة: لكم مقالة في مجلة المغترب عن ترجمة الكتب الغربية إلى العربية، والحث على هذه الترجمة فهل هذا الموضوع بالنسبة إليك على إطلاقه، أم أن لديك توضيحاً أو تحفظاً تريد أن تقوله هنا؟
الجواب
لا بدمن ضوابط لهذه المسألة، وأنا قلت ذلك لأني قرأت كلمة للأستاذ حمد الجاسر، وهو يعتب على طلاب كثير سافروا من سنوات عدة إلى الغرب، ولم يعملوا وينقلوا إلينا أفكار الغربيين؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها، لكن ليس هذا على الإطلاق، فإن الكتب الهدامة، كتب أهل الإلحاد والكفر البواح، وكتب الجنس الخبيث يحرم ترجمتها ووصولها إلى بلاد الإسلام، لكن نقصد أفكار وكتب أهل العبقرية والتأثير وأهل الفكر والتأصيل في علوم الدنيا؛ لأن الله تعالى يقول: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] وقد علم الشيطان أبا هريرة آية الكرسي، وقال له صلى الله عليه وسلم: {صدقك وهو كذوب} فحق على الإنسان أنه يطلب المعارف ويأخذها ولو من غيره، ولو من الكفار؛ بشرط ألا تتصادم مع الكتاب والسنة، أو مع الوحي السماوي الذي عندنا.
والكتب المترجمة التي لدينا بالنسبة لما عند الآخرين قليلة، وقد بحثت عن كتاب في تاريخ أمريكا فلم أجده إلا بعد سنة ونصف وهو كتاب هنري ماجرو، وإذا في داخل هذا الكتاب مئات الكتب عن تاريخ أمريكا وكلها غير مترجمة، وقد ترجم لثلاثة كتب بعد شق الأنفس، وهي ليست متوفرة، وهي من أكثر الكتب التي شقت العالم طولاً وعرضاً تأثيراً، حتى يقال: إن كتب دايل كارنيجي بعد القرآن والإنجيل والتوراة أكثر الكتب انتشاراً فن الخطابة وكيف تكتسب الأصدقاء ودع القلق وابدأ الحياة وكيف تغسل الدماء لـ كريسي موريسون، وغيرها من الكتب، واكتشفنا أنها لا توجد في المكتبات، وأنها نادرة الوجود، وأن كثيراً من الكتب المؤهلة عندهم والعميقة لم تترجم.
أقول: الألوف المؤلفة من الشباب الذين في الولايات المتحدة أو في بريطانيا أو فرنسا أو في غيرها من البلدان، لماذا لا يترجمون لنا مجموعة من الكتب ولو كتاباً واحداً في السنة؟ لأدبائهم وعلمائهم ومفكريهم ومخترعيهم؛ حتى نضيف إلى ثقافتنا ثقافات، وقد كان الصحابة طموحين إلى مثل هذا، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: {طلب من زيد بن ثابت أن يتعلم لغة يهود} وكان ابن تيمية يحرص على قراءة الكتب التي وجدت في عصره، حتى يعلم عن غيره:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه
والله يقول: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].(296/28)
التوازن في حياة الداعية
العشماوي: وعموماً هذا أسلوب جيد، ولابد أن نعرف ما عند الآخرين، والحقيقة أن الغرب لم يترك شاردة ولا واردة بالمعنى العام في جغرافية العالم والمجتمع الإسلامي، والعلاقات الإسلامية إلا وهي موجودة لديهم من خلال رجالهم ومكتشفيهم فهذه دعوة مباركة نسأل الله أن يجعل لها صدىً في قلوب المقيمين في أمريكا وأوروبا لعلهم ينفعون أمتهم بذلك إن شاء الله.
السؤال
التوازن في حياة المسلم مطلب شرعي، وقد حصل الاضطراب عند كثير من المسلمين في هذا الباب، فما التأصيل الشرعي لهذا التوازن، حتى يكون المسلم على بصيرة من أمره؟
الجواب
الدليل الملخص لهذا التوازن: قوله صلى الله عليه وسلم: {إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه} فعلم من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم يطالب المسلم أن يكون متزناً فيما يعيشه وفيما يزاوله, وأن يكون مؤدياً للحقوق، منضبطاً في أموره كلها، لأننا نجد انحرافاً في مناهج بعض الناس وحياتهم، فتجد بعضهم يغلب جانب الدعوة حتى يهمل أهله تماماً فيعيشون في حالة مريرة من البؤس، بحجة أنه يدعو ويهدي الناس، وقد ترك من الواجبات ما هو أعظم.
وبعضهم ينصرف إلى أهله تماماً وإلى ذاته، ويترك الدعوة والأمة وآخر ينصرف إلى العبادة، فيستغرق وقته في العبادة، حتى يترك الأمر والنهي، ويترك التعلم والتفقه في الدين، وزيارة الأقارب، والوقوف مع المنكوبين من المسلمين والبعض الآخر يشتغل بالتأليف على حساب تعليم الناس، أو تفقيه أهله، أو على حساب القيام بالنفس.
وآخر يهتم بنفسه وجسمه، فهو ينعمها -صراحة مع الاحترام- كما تنعم الدابة، ويلغي عقله، ولا يشتغل بروحه، والمعلوم أن القوت:
وقوت الروح أرواح المعاني وليس أكلت ولا شربتا
فالإسلام يطالب المسلم أن يكون متزناً، وأن يجعل لكل شيء وقتاً، ولكل مقام مقالاً.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
وأضرب أمثلة من حياة الدعاة: لماذا لا يكون الداعية عالمياً، وربانياً؟ ساعة يمارس شيئاً من الأذكار والأدعية بعد أداء الفرائض، وساعة للاطلاع في الكتب والاستزادة من المعرفة، وساعة للجلوس مع الأهل، وإعطائهم حقهم، وزيارة الأقارب والمرضى وأهل البؤس، ومشاركة الإخوان في الخير؛ حتى يكون يومه كله حافلاً بالبركات، ويدخل الجنة من أبوابها الثمانية كما فعل أبو بكر، وما دخل منها جميعاً إلا لأنه سلك جميع المسالك، ثم يقول ابن القيم: له في كل غنيمة سهم فهو في باب الجهاد أول المجاهدين، وعند الصلاة في الصف الأول، وفي الذاكرين أولهم، وفي الصائمين رافدهم وقائدهم، فهو في المقدمة دائماً.(296/29)
الرأي فيمن أحرق فتح الباري
بعد أن تحدثت عن موضوع التوازن في حياة المسلم، وأشرت إلى أنه يجب أن يكون هنالك توازن بين جوانب النفس البشرية، والمسلم أولى الناس بالتوازن؛ ينشأ هنا هذا السؤال ونطلب منك تعليقاً مختصراً عليه: ما قولك فيمن قيل إنه أحرق كتاب فتح الباري؟
الجواب
نعم.
نمى إلى علمي وإلى علم كثير أن أحد الناس من الحمقى أقدم على فعلة شنعاء ولا تفسير لها إلا أنها أحمقٌ، إلا إذا كان القلم قد رفع عنه في تلك الفترة، لأن القلم يرفع أحياناً عن بعض الناس وتسمى الغيبوبة، وأقدم على هذا الكتاب الضخم بفوائده فأحرقه بالنار، ويظن هو بفعله هذا أنه فعل خيراً للإسلام والسنة، لأنه يقصد أن فتح الباري يحتوي على بعض البدع، والانحرافات في بعض الأسماء والصفات التي فسرها ابن حجر على منهج الأشاعرة والماتريدية والمفوضة وهذا صحيح.
ولكنه فعل هذا والفعل لا يفسر أبداً إلا أنه حمق، وأنا أرى في مثل هذا أن يؤدب تأديباً بالغاً يردعه وأمثاله، ولا يوجد كتاب في التنقيح والتحقيق وحصر المسائل كـ فتح الباري إلا أنه لا يكون مثل المغني أو فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، وأرى أن المكتبة التي ليس فيها فتح الباري أنها مكتبة ناقصة على كل حال، وهذا الكتاب من أجمل ما كتب، لأنه عُمْر عالم، فقد فرغ سبعاً وعشرين سنة في هذا الكتاب، وخمس سنوات للمقدمة، وقيل: سبع للمقدمة، وخمس وعشرون سنة لهذا الكتاب الضخم.
فأسأل من الله أن يهديه وأن يرد إليه عقله، وقد أشار فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين إلى هذه المسألة، وأفتى فيها، وذكر أن هذا حمق، وأن فعله لا يفسر إلا بالحمق.(296/30)
تعليق على فتح الباري
السؤال
أشرت يا شيخ عائض! إلى أن فتح الباري يحتوي على بعض التجاوزات أو بعض الأخطاء الخفيفة، هل -على حد ما تعلم- هنالك كتاب في بيان بعض السلبيات الموجودة فيه؟
الجواب
لا أعلم إلا أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز علق على كثير من هذه المسائل، وأظن أن سماحته مستمر في التعليق على هذه المسائل التي هي قليلة بالنسبة لدلالة الكتاب، وما فيه من العلم، وما فيه من نقولات، حتى أن الدكتور محمد بن سعيد القحطاني عد ابن حجر من علماء السنة الكبار المدافعين عنها، وهو من أحسن الجهود التي شرح بها الأحاديث، حتى قال الشوكاني: لا هجرة بعد الفتح.
ولي رسالة في ثلاثين صفحة اسمها: مدح الفتح، ذكرت الجوانب التي أجاد فيها ابن حجر الجوانب العلمية، والنقولات، والتوثيق، والتأصيل، والعمق العلمي، والعبارة الأدبية، والبعد عن المذهبية الضيقة، وتتبع الدليل، والإشراقة في النقد، إلى غير ذلك من الجوانب.(296/31)
رسالة: (مدح الفتح)
السؤال
هل صدرت الرسالة وإلا ما زالت في طريقها؟
الجواب
الرسالة كتبت، لكنها لم تطبع، الآن هي عند بعض كبار المشايخ يقرءوها من باب الاستفادة.(296/32)
ظاهرة العنوسة
السؤال
هنالك قضايا أخرى تهمنا، بل أسميها رحلات نرتحل فيها معك إلى بعض القضايا المتبقية لدينا في هذا اللقاء، منها ما يتعلق ببعض القضايا الاجتماعية.
لا شك أن من الأشياء الملاحظة عندنا في المجتمع الإسلامي بشكل عام فشو ظاهرة العنوسة، وبشكل يلفت النظر، وهي مأساة اجتماعية كما تعلم، وكثير من الفتيات وصلن إلى سن العنوسة وبعضهن قد تجاوزنه، وهنالك أطروحات اجتماعية وأطروحات نفسية كثيرة ولكن نريد أن نعرف تعليقكم على هذه القضية؟
الجواب
مسألة العنوسة أصبحت ظاهرة اجتماعية يعيشها الناس، وأصبحت حديث المجالس والركبان؛ من كثرة الفتيات اللواتي لم يتزوجن وبقين إلى هذه السن، والحقيقة أنه سن ذبول وإدبار بالنسبة للمرأة، وهناك عدة أسباب لهذا الأمر:
منها: مسألة مواصلة التعلم والتلقي والدراسة؛ وهذا ليس حاجزاً يمنع المرأة أن تتزوج, بل قد يكون معيناً أحياناً، فأنا أدعو أختي في الله ألا تتأخر إذا تقدم الكفء الديِّن، فإن صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، وإن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}.
ومنها: أن بعض الآباء لجهلهم وسفههم يعارضون زواج الفتاة، فيكون دائماً في موقف المعارض، وأعرف عن بعض الفتيات أن العشرات من الشباب تقدموا لها وهي في الثلاثين من عمرها، ولا يزال الأب معارضاً وكم يسمع ويقرأ الإنسان مثل هذه المآسي من الآباء الذين ليس عندهم من الخوف من الله عز وجل شيء، ولا من الوعي الديني ما يحملهم على تزويج بناتهم.
ومنها: أن المرأة -أحياناً- بطبيعتها لا تقبل كثيراً من الخطاب، وهي تصرخ وتمتنع بغير غرض سائغ، ولو لم يرفض والدها، لكن هي باقتناعها ولفلسفتها الخاصة بها، فمنهن من لا تقبل التعدد، والتعدد فيه حل إسلامي رائد لمثل هذه المشكلة التي يعيشها أهل العصر، حتى كتب بعض الكتاب من الشرق والغرب مؤيدين لأطروحة الإسلام في هذا، وهو الحل الوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي السماوي.
والحل أن يبادر الآباء بتزويج بناتهم في السن المعروف، ولتعلم الفتاة أنها ستخسر شبابها وأبناءها وبيتها وعشرتها الزوجية إذا خسرت مقتبل العمر الأول، أو زهرة الشباب، وإذا تجاوزت الثلاثين أو الأربعين فإنها تصبح عمة، ثم إذا بلغت الخمسين تصبح جدة، فنسأل الله لها حسن الخاتمة إذا تأخرت عن هذا السن، وأن يعوضها الله في الآخرة زوجاً في جنات ونهر.(296/33)
أسباب إحجام الشباب عن الزواج
السؤال
هنالك قضايا يبدو لي أنه من الصعب تناولها الآن وهي تتعلق بالعنوسة، لكن للإشارة إليها نذكر أهمها: ما يعترض الزواج من مشكلات مثل قضية غلاء المهور، والمبالغة في الحفلات وهذا واقع، والمبالغة في حلي المرأة وما يطلب من الشاب المتقدم هذه أمور يبدو لي أن لها دوراً في هذا الموضوع فما هو تعليقكم؟
الجواب
صدقت.
هذه من العقبات الكبار، لا سيما المبالغة في المهر، حتى أصبحت المرأة تباع كما تباع السلعة، وأصبح أبوها يراوج بها في سوق المزاودة، وهذا خطأ ارتكبه الآباء الرأسماليون والإقطاعيون، وما حل ذلك إلا أن يقوم أهل العلم بتفقيه هؤلاء، وإخبارهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {بارك الله في أقلهن مهراً} وليعلمن أن أشرف بنات العالمين فاطمة، ولم يكن مهرها سوى درع حطمية لا تساوي أربعة دراهم، ومع ذلك بقي ذكرها وخلودها عبر الأيام -رضي الله عنها وأرضاها- وأم سليم تزوجت بلا إله إلا الله من أبي طلحة، فلماذا لا نكرر هذه النماذج الخالدة، ونعود إلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ففيها كفاية؟!
والحفلات -كما ذكرت- والإسراف في الولائم مسائل هامة كذلك، ويدخل ضمن ذلك ما يعرف بكسوة القريبات والأقارب، والأعراف الجاهلية التي تحمل الإنسان فوق طاقته من الحلي، وأمثال ذلك من البذخ في المفروشات والملبوسات والمأكولات، كل تلك تجعل الشاب يحجم عن أن يقدم على الزواج ويعده مصيبة.(296/34)
قضايا في الجهاد
السؤال
هنالك بعض القضايا التي تتعلق بالعالم الإسلامي: أنت تعلم أنه قد رفع علم الجهاد في هذا الزمن في كثير من المواقع في عالمنا الإسلامي، كما هو الحال في كشمير وفي الصومال، وقد سمعنا -كما سمعتم- من بعض طلاب العلم والمهتمين بالعلم تحفظاً أمام مسألة الجهاد، فماذا ترون في ذلك؟
الجواب
أريد أن أذكر مسألة، وهي جديرة بأن يهتم بها وتعرض على الناس خاصة المطلعين والمؤثرين، وهي: متى يكون الجهاد جهاداً؟ ومتى تحتاج الأمة للجهاد؟
وعلى كل حال فالإعداد وارد، والله تعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى في المنافقين: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].
أما ما نعيشه اليوم في واقعنا الإسلامي فإنه قد تجوِّز كثيراً في استخدام الجهاد، أو في القيام بالجهاد، وأنا لي وجهة نظر -قد تكون مصيبة أو خاطئة- وهي أن هناك أناساً من الدعاة والفضلاء الذين يقومون على كثير من الجمعيات والجماعات والطوائف الإسلامية يقومون بالجهاد وهم ما أخذوا عدته، ويواجهون قوى كبرى، وأنظمة باطشة، ولا نسبة ولا تناسب بين القوى؛ لأن الله سبحانه جعل في كتابه نسبة لا بد أن يصل إليها المسلم، فإنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى يقول: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:66] قال أهل العلم: الضعف بالضعفين، أو الواحد بالاثنين، أما أن يأتي مائة إلى خمسة آلاف وإلى عشرة آلاف فهذا ليس بصحيح، إنما هي مهلكة وسحق للجهود؛ أن تأتي جماعة تحمل الجهاد، وتحمل السلاح البدائي من البنادق والرشاشات والرصاص والمؤنة القليلة، ثم تواجه نظاماً يقوم على جيش مدجج بالأسلحة والطائرات والدبابات، وعنده فرق وكتائب، ويقول هؤلاء: نحن متوكلون على الله عز وجل والجهاد طريقنا هذا ليس بصحيح، وهذه إنما هي مهلكة، وقد رأيت ذلك في بعض البلدان، ووافقني على ذلك بعض الفضلاء في بعض الأشرطة والأطروحات؛ لأن هذا الأمر لا يصلح، ولا بد أن يصل المسلمون في الإعداد إلى نسبة تكون مكافئة للنسبة التي ذكرها الله تعالى.
ولذلك لما قامت بعض الحركات الإسلامية بمجابهة بعض الأنظمة سُحقت تماماً، وأدخل من أدخل السجون، وسجن الكبار، ويتم الأطفال، وعذبت النساء، فصارت مأساة حقيقة لعدم دراسة القرار، وفي كشمير شيء من هذا، ولو أن الجهاد هناك جهاد إسلامي وهو دفاع عن النفس، لكن أحياناً تأتي تجاوزات، كأن يقوم بعض الدعاة بالدعوة إلى الجهاد، وليس عنده إلا جماعة بسيطة، ثم يجابه جيشاً ضخماً فيضرب تماماً، يواجه هذا الهند، وحكومات أخرى تعاونها، وهي جيوش جرارة لا تقابلها جماعات متقطعة، فهذا عين الخطأ.
وفي الصومال أراد بعضهم أن يقوم بالجهاد ضد الحكومة، ضد علي المهدي ومن معه من العلمانية، فإن دستورهم إيطالي كما تعرفون, ويحكم عليه علماء الصومال بأنه كافر فقاموا، ولكن نصحهم العلماء في العالم الإسلامي بأنه ما أصبحتم في درجة تخولكم في رفع راية الجهاد جماعة بسيطة قوامها ثلاثمائة أو أربعمائة تواجه جيشاً عددهم مائة ألف مدججاً بالأسلحة الشرقية والغربية، ليس هذا بصحيح!
وقد طرحت الملاحظة هذه؛ لأنه يفاجأ بعض الناس الذين يأتون يطلبون مؤناً ليستعدوا للجهاد, بأن نقول: لا.
ربوا الناس وتوجهوا إلى تأصيل العلم فيهم، وادخلوا في أوساطهم، ودعوا القتال الآن.
أما ما يجري في العالم الإسلامي؛ فالحقيقة أن العالم الإسلامي في موطن دفاع الآن، وهو في مأساة لا يعلمها إلا الله عز وجل، أمثال ما يجري في البوسنة والهرسك وكشمير والصومال، وهذه لها حديث آخر.(296/35)
الجهاد الأفغاني
السؤال
قد يعترض معترض ويقول: ما جرى في أفغانستان مثلاً، فالمواجهة كانت بين سلاح يعد سلاحاً متخلفاً إذا قيس بالسلاح السوفيتي وقوى الحكومة الأفغانية الشيوعية السابقة، والذين قاموا بالجهاد عدد من العلماء، وهم قواد الجهاد الأفغاني، وأيضاً الفئات من الشباب التي انتمت إلى الجهاد لم تكن مرباة تربية إسلامية في بداياتها، إنما رباها الجهاد، فإذا اعترض علينا معترض بهذه الصورة فماذا نقول؟
الجواب
نعم.
كلامك صحيح، وهذا شيء حصل في أفغانستان، ولكني أقصد سنن الله تعالى الموجودة في القرآن وفي الكون، من أنه لا بد من وجود نسبة معينة يصل إليها المسلمون, قال تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:66] وقد قال أهل العلم: أن يكون الواحد يقابل الاثنين، والاثنين يقابلون الأربعة، والأربعة يقابلون الثمانية، وهكذا.(296/36)
عمومية قاعدة: (لا يقاتل الواحد أكثر من اثنين)
السؤال
هل يرون أن هذا عام؟
الجواب
الذي أعلم أنهم يرونه هكذا، لكن هناك مسألة الهجوم والقتال، ومسألة الدفاع عن النفس، والذي حدث في أفغانستان أمور:
منها: أنهم يدافعون عن أنفسهم.
ومنها: أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى منَّ عليهم بكرامة من كرامات الأولياء التي ينصر بها أولياءه ولو كان الواحد يقابل ألفاً، فهذه قد تخرج عن القاعدة التي ذكرتها مثلما حدث لـ سعد رضي الله عنه بالجيش، وللعلاء بن الحضرمي، وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم.
لكن هذه هي القاعدة الشرعية التي يفتى بها, ولو سئل عالم أو داعية في فئة عددهم ألف يقابلون مائة ألف جندي، فسيقول لهم: لا.
لأنهم لم يتمكنوا بعد.
أما أفغانستان فهناك أمور منها: أنهم دوهموا في بلادهم، والجهاد كان شعبياً، واستنفرت أفغانستان ضد الزحف الشيوعي، ومنها: أن الاحتلال كان بشعاً، حتى استنفر جميع الطاقات، لأن الإلحاد يريد أن يدخل في بلاد عرفت الإسلام من قديم، والإلحاد يرفع راية لا إله والحياة مادة.
ومنها أيضاً: أن العالم الإسلامي وقف برمته معهم، لأنه في البداية سحق الأفغان سحقاً ليس بالسهل وضربوا ضرباً هائلاً، ولكن العالم الإسلامي تضامن، ولا أعلم في هذا العصر أن العالم الإسلامي تضامن مع دولة أو فئة كما تضامن مع الأفغان، فلعل هذه تجعل للجهاد الأفغاني ميزة وخصيصة عن غيره.(296/37)
الوضع الأفغاني
السؤال
ما دمنا قد تحدثنا عن أفغانستان، نريد أن نسمع تعليقات سريعة حول هذه القضايا السريعة التي ذكرناها الآن في حديثنا.
الوضع في أفغانستان , ما هو تعليقكم عليه؟
الجواب
خلاصة ما جرى وما يجري في أفغانستان واتفاق في الضراء، واختلاف في السراء، وفيها درس أن الابتلاء بالسراء قد يكون أفضع بكثير من الابتلاء بالضراء، ولذلك قال ابن عوف رضي الله عنه وقال عمر قبله: [[ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر]] وقد مر قيس بن زهير بديار غطفان فرأى أنعاماً كثيرة وإبلاً وغنماً وبقراً فغضب، فقال له الناس: مالك؟ وكان الناس مقفرين ممحلين فلما أنعم الله عليهم ضقت وغضبت! قال: إن مع النعمة الحسد والاختلاف والتباغض، ومع القلة التساعد والتناصر والتعاون.
وهذا أمر معلوم، فقد رأينا الأفغان والواحد منهم يقدم دمه عن أخيه فداء وتضحية، فلما انتصروا رأينا أن الشيطان بدأ يلعب لعبته في السراء وأرى ألا نضيع الجهود والمكاسب التي مرت في الجهاد، لغلط وقع؛ لأن الموازين لابد أن تبقى مستقرة، ونرى أنه استغل في الإساءة والتغرير بهم من تصريحات بعضهم ضد بعض، أو أن الآخرين من أعدائهم كبروا أخطاءهم وأغلاطهم.
ولابد من الاعتراف بسنة الله عز وجل في الأنفس، فإنه لابد من الاختلاف، ولو عصم أناس من الاختلاف لعصم أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، فإنهم تقاتلوا، وقال الله في الأخير: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] وأذكر بيتاً للبحتري حيث يقول:
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها(296/38)
بعض ثمار الجهاد الأفغاني
العشماوي: لكن هذه المسألة تحتاج إلى شيء من التركيز؛ لأننا الآن أمام طائفتين: إما أمام طائفة علمانية عقلانية في اتجاهها، ترى أنه ما علق من آمال على الجهاد الأفغاني قد تبدد، وأننا نعيش في عصر غير العصور الماضية، فكل ما قيل عن الجهاد الأفغاني، وعن كرامات المجاهدين فإن هذه أمور يجب أن نتوقف أمامها كثيراً، حتى أن أحدهم كتب مقالاً في إحدى الصحف التي تصدر في البلاد الإسلامية يقول: أين الكرامات التي قالوها عن الأفغان؟ أين الحجارة التي تتحول إلى نار؟! أين الشهداء الذين يضحكون؟! أين الدماء التي تفوح منها رائحة المسك؟!
كل ذلك يدل على أن المسألة فيها نظر، وأن قضية الجهاد في هذا العصر يجب أن ينظر إليها نظرة عصرية جديدة، فإذا نحن استسلمنا لمثل هذه الأطروحات ربما يكون لها أثر عكسي سيء، هذا جانب فضيلة الشيخ!
الجانب الآخر: قضية ما يجري في أفغانستان في تصوري أنا -وأنا أريد أن تبين هذه النقطة- ألا ننسى خطط الأعداء، فهم يخططون لأن النتائج اقتربت وقطف الثمار اقترب، ولا أتصور أن الغرب ولا الشرق سيسكت ويدع حتى ولو سهماً في كنانته دون أن يرمي بها إلى الجهاد هذه الجوانب مجتمعة، ألا ترى أنها قد تكون هي وراء الوضع الأخير في أفغانستان، بالرغم من أنه في الأيام الأخيرة بدأت بوادر اتفاق بين المجاهدين، فنريد تعليقك جزاك الله خيراً على هذا الموضوع؟
الجواب
أنا ضد من ذكرت في المسألة الأولى، ومخالف لمن يصغرون من شأن الجهاد، ويعرضونه في معرض السخرية والمهزلة، وهؤلاء نحن نعرف مواقفهم من ذي قبل، وليسوا بجديدين في طرحهم وأسلوبهم، ولكني أسألهم أسئلة يمكن أنها لا توضع على كافر فكيف بالمسلم، فأقول: إن من مكاسب الجهاد سقوط الشيوعية كما قال بعض أهل الإسلام، وكنت أظن أن الجهاد الأفغاني ليس سبباً رئيسياً وجوهرياً، وقد قلته لبعض الناس، حتى أني قرأت في مجلة الوسط قبل أشهر، وإذا برئيس الاستخبارات السوفيتي المخلوع يتكلم عن هذه المسألة ويقول: إن أكثر ما قصم ظهر الشيوعية هو الجهاد؛ فإنه استنزفها استنزافاً عجيباً، حتى أن القذيفة كانت تخرج برقمها في يومها، وتطلق مع الغروب في أفغانستان، وهذا دليل على أن الأسلحة في المخازن انتهت، وأنها ضربت في تلك الجبال، وقد رأيت في جبال أفغانستان في جاور وخوست بعض الجبال قد احترقت تماماً من كثرة ما ضرب من القذائف والصواريخ والقنابل عليها فكانت قصمة للشيوعية وهذا مكسب.
الأمر الثاني: نشر فكرة الجهاد وإحياؤه في العالم الإسلامي، حتى أصبحت في ذهن كل مسلم، في الشرق والغرب، وما البوسنة والهرسك إلا نتيجة من نتائج ذلك.
الأمر الثالث: تعاطف الأمة, فقد أصبحت جسداً واحداً، حتى كانت أخبار أفغانستان مع العجائز والكبار والصغار، ورأينا الدموع والدعاء والابتهال والمناجاة.
الأمر الرابع: وجدنا موقفاً فريداً من المواساة لا يوجد إلا عند السلف الصالح في بدر وأحد وفي الخندق، فتجد الأموال ترسل بعد كل خطاب، والناس من كل حدب وصوب ينسلون, ويتركون أهلهم وذويهم وعشائرهم وقبائلهم، فيذبحون هناك وكأنهم يسكنون جنات ونهر، وهم -إن شاء الله- في جنات ونهر.
أيضاً: إيقاظ الشعب الأفغاني، ورده إلى دين الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فقد كان هناك طوائف منحرفة، ووجد شيوعيون قدماء، فمنهم من اهتدى، ومنهم من أبصر الحق، ومنهم من قتل فهذا ما ظهر لنا, أما الأسرار التي قدرها الله عز وجل وقضاها، فلا يحيط بها إلا هو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأنا أقول: صحيح أن هناك أيادي وأصابع، لكن معنى ذلك ألا نبرئ أنفسنا دائماً؛ فإنه أخذ علينا أننا نلقي باللائمة على غيرنا، وسوط المؤامرة على الآخرين، ونجعل أمريكا شماعة، فكلما وقع شيء قلنا: هذه خيوط أمريكا، وهذه إشاعة أمريكا وأنا أعرف أنها الشيطان الأكبر، ولكن مع ذلك يجب علينا أن ننقذ أنفسنا، فإن الله يقول للصحابة في أحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] فهو باختلافهم، وأقر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنهم اختلفوا فلابد أن نقول: نعم.
اختلفوا, وقد جلست مع بعض الفضلاء من القادة، وسمعت أن هناك خلافاً، وأن هناك من يسعى لتأجيجه، وأن هناك أشياء وهوى في النفوس، ولا زلنا نقول عبر هذا اللقاء لقادة المجاهدين: اتقوا الله في الأمة، واتقوا الله في مكاسب الجهاد، وخافوا من الله, وقد سمعت من سماحة الشيخ أنه أرسل بعض البرقيات لـ رباني ولـ حكمتيار ولـ سياف يناديهم بهذا، ونشر بعضها, فلا بد أن نكون صريحين في ذكر أخطائنا ونقد أنفسنا؛ لئلا ينقدنا غيرنا.(296/39)
البوسنة والهرسك
السؤال
مأساة البوسنة والهرسك ما تقولون عنها؟
الجواب
البوسنة والهرسك نموذج لما وصل إليه العالم الإسلامي من الذلة والقلة والعيلة، وهذا مقياس لضعف الأمة، وقد ظهرت في أفغانستان وفي البوسنة والهرسك مسائل منها:
فتاة تنثر شعرها وتصيح عبر الأثير فيمن ينجدها، فلا تجد معتصماً واحداً يلبي طلبها.
ويوجد هناك آلاف من الشباب ينادون: وا إسلاماه! وا إسلاماه! وإذا الإسلام هذا الذي جعلوه مظلة لمئات الدول وملايين البشر لا يصلح إلا في أوقات محددة وهي أوقات العافية، أو أوقات التشدق به، والادعاء والانتماء إليه!!
ليس هناك أحرار تغلي في عروقهم دماء الغيرة والحماسة والغضب، وإلا يقول: أين الغيرة الإيمانية ونحن نشاهد في شهر واحد ثلاثين ألف فتاة تنتهك أعراضهن؟! أين الغيرة والكتاب الكريم يداس بأحذية جنود الصرب، والمساجد تحطم وتهدم؟!
هذه تنبي عن أن العالم الإسلامي لا يزال ميتاً وأنه لا حراك فيه صحيح أن هناك من دفع أموالاً، وأرسل معونات، ولكن هذه وحدها لا تكفي.
ثم إن هناك مسألة أخرى: وهي الانتقائية والازدواجية في تطبيق القرارات، وهذه عرفناها، وهي التطفيف في قرارات مجلس الأمن، فلا تنطبق قراراته إلا على البلدان الضعيفة الإسلامية الصومال، وليبيا، أما إسرائيل والصرب فأبت أن تركب, قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين:1 - 2].
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدناني
وليس هذا ببعيد، فإن بطرس غالي لا يمكن أن يقدم أهل الإسلام وحملة لا إله إلا الله على أصحابه وإخوانه {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15].
والعالم الإسلامي فقد مسألة هامة في البوسنة والهرسك، وهي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] فليت العالم الإسلامي هب، وليتهم رفعوا هذا العار الذي خيب الأمة، ولطخ شرفها وكرامتها، وأصبح بعض الناس العاديين يتلهفون، ولكنهم لا يملكون حولاً ولا قوة.(296/40)
الجهاد في الصومال
السؤال
نسأل الله أن يعيد الأمة إلى صوابها، وإلا فهي مأساة كبيرة كما ذكرت، وما رأيك أن تعرج على الصومال بتعليق يسير.
الجواب
على كل حال في الصومال نعود إلى مسألة تنفيذ القرار بحماس، فـ عيديد لما خالف في مسألة في يوم واحد في تاريخ: 24/ 9 ضرب ضربة قوية بقرار من مجلس الأمن اتخذته أمريكا، وحال البوسنة والهرسك أنهم ظلوا سنتين في البكاء والدماء والأشلاء والجماجم التي تطرح، ومع ذلك لا عدل ولا إنصاف بل ظلم واضح وصارخ في العالم.
فأين حقوق الإنسان المدعاة, التي يدعيها هؤلاء أعداء الإنسان وقتلته؟!!
الأمر الثاني: أن المسلمين لا يكونون سذجاً، فليس القتال مع علي مهدي ولا عيديد؛ لأن هناك مبدأ وضعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مبدأ الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله والشعوب هذه مسكينة، كقطيع الأنعام في سياج من القطيع، تساق مرة يمنة، ومرة يسرة يؤخذ الشباب مع زياد بري، ليلغي منهج الله في الأرض، ثم يقاتل بهم أعداءه من جيرانه، ثم يذهب ويأتي عيديد فيقاتل أعداءه بهم ثم يسلمهم لـ علي مهدي فيقاتلون بهم من شاءوا، فأصبحوا لا يملكون حولاً ولا قوة، والعبد وما ملك لسيده.
وقصدي: إنهاض هؤلاء وتعليمهم، وأنهم لا يقاتلون إلا مع الحق، وأنه يطلب منهم أن يكون جهادهم لأن تكون كلمة الله هي العليا، إلى متى كلما ظهر ظالم بطاش مجرم انقادت معه هذه الشعوب يمنة ويسرة؟!
الأمر الثالث: أن هناك من يدعو إلى المال والكساء والغذاء، وهذا أمر مطلوب، لكنه مع الغذاء لا بد من تعليم وتوجيه، ولا بد من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأن نربيهم على التعاليم السماوية التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كانت المسألة مسألة غذاء وكساء لسبقنا إليها المبشرون من النصارى بل قد سبقونا إليهم مع نشرهم لمبادئهم.(296/41)
برقيات سريعة
السؤال
هنالك مجموعة من الأسئلة الخفيفة، نريد أن نطرحها عليك حول القضايا التي تعود عليها المستمعون في مثل هذه اللقاءات، فنريد أن تجيب عن هذه البرقيات السريعة.(296/42)
القارئ المفضل
السؤال
قارئ يعجب الشيخ عائض القرني؟
الحواب: محمد أيوب وأستمع إلى الشيخ عبد الرحمن السديس.(296/43)
العالم المستأنس به
السؤال
عالم تأنس بقوله؟
الجواب
شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن المعاصرين سماحة الشيخ ابن باز.(296/44)
الشاعر المرتاح له
السؤال
شاعر ترتاح له؟
الجواب
من القدماء: المتنبي كفن وأدب، وحسان: كمنهج، ومن المعاصرين الدكتور: عبد الرحمن العشماوي، ولعلك تعرفه!!(296/45)
الكاتب المقروء له
السؤال
كاتب تقرأ له أبا عبد الله؟
الجواب
أقرأ على قلة فيما يكتب زين العابدين الركابي، وآنس بما يكتب، وإنما أقصد أنه كاتب صحفي.(296/46)
الكتاب المقروء فيه
السؤال
كتاب بعد كتاب الله تقرأ فيه كثيراً؟
الجواب
فتح الباري، فهو رفيقي ليل نهار إلى الآن.(296/47)
الخطيب المشتاق له
السؤال
خطيب تشتاق لخطبه؟
الجواب
الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري، وأنا مهتم في سماعي له؛ لأني أحبه كثيراً.(296/48)
المفكر المروق لفكره
السؤال
مفكر يروق لك فكره؟
الجواب
الشيخ محمد قطب.(296/49)
الصحيفة المقروءة
السؤال
صحيفة تقرأها؟
الجواب
أقرؤها مضطراً، من باب إلا ما اضطررتم إليه، فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً، وهي: جريدة الحياة.(296/50)
تعليق على (جريدة الحياة)
السؤال
هل من تعليق على جريدة الحياة؟
الجواب
أنا أقرؤها لأنها أقل الصحف كذباً، فالأصل أن المادة موجودة، لكنها تقلل.
والأمر الثاني: أنها تستقصي بعض الأخبار، والذين يكتبون فيها لهم قدرة على الكتابة، ولو أني أعتب على الكاتب جهاد الخازن فيما يلفه ويعممه من التطرف والإرهاب على الدعاة في العالم الإسلامي، والواجب أن يقرأ قراءة متأنية للدعوات في العالم الإسلامي، وأن يتريث ويجلس مع كثير من الدعاة والعلماء، وأن يتقي الله فيما يكتب، لأن العلماء والصلحاء وأهل الوعي والريادة والمؤثرين موجودون, ولكن إذا أراد أن يسلك هذا فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حسيبه.(296/51)
المجلة المطالعة
السؤال
مجلة تطالعها؟
الجواب
هناك عدة مجلات، ولي ملاحظات -من باب نقد النفس- لأنه -والحمد لله- قد أصبحت عندي قناعة في ذهني، وهي أن نبدأ بنقد أنفسنا قبل الناس، ولا بد أن نهدم هذا السور الذي بنيناه على أنفسنا، وهو ألا ننقد أنفسنا، وأن كل ما نفعله جميل وحسن.
أطالع مجلة المجتمع، ومجلة الفرقان، ومجلة الإصلاح، ومجلة الدعوة، ولي ملاحظات مع أنني قد قابلت مع هؤلاء، أو شاركت أو قرأت.
أما مجلة المجتمع: فليتها تعتني بالتأصيل العلمي، ولهم فيها أخبار وغيرها، ولكنها لا تعتني بالموضوعات الدسمة القوية, وهذه المجلة أرى أنها لا تتميز باتجاه حتى تعرف، لأنها تكون للجميع، فعندما تطرقت لمشكلة الجزائر فقط: قال النحناح، وصرح, وقابل، ورأى مع العلم أن المد القوي كله للإنقاذ، والتأثير والوقوف, والعالم كله يساند الإنقاذ، والإذاعات العالمية ووكالات الأنباء تسلك هذا المسلك، فأقول: لا.
لا بد أن تكون للجميع، وقد جعل الله لكل شيء قدراً.
وأما مجلة الفرقان: فإنها تعجبني، ولكني أريد منها أن تعتني أكثر بالمستجد من الأخبار ومتابعة الجديد فالجديد؛ وأن تواصل مسيرتها الأولى التي بدأتها في مقابلة كثير من الشخصيات، ولا بأس أن تعيد المقابلة مع العلماء، والأدباء، والمفكرين، ولو أربع مرات أو خمس مع الواحد؛ لتستفيد في القضايا المهمة، ويكون لها دعاية أكبر حتى تصل إلى الأقطار.
أما مجلة الإصلاح: فإن في آخر عدد لها -وهذه ملاحظة مهمة- وهو العدد الذي كتب فيه سماحة الشيخ ابن باز , عرضت على غلافها الخارجي صورة وزيرة الخارجية الأمريكية، وهي مجلة إسلامية، فلي وجهة نظرعليهم، فإن حركة نصف كم ليست عند أهل السنة، فلو أخرت هذه الصورة، أو أخفتها أو صغرتها لكان أفضل إذ لم يكن لها داعٍ، أو من باب الذوق والمنهج الإسلامي واللباس عموماً.
أما مجلة الدعوة: فإنها قد سبق أن كُتبت لهم رسالة من بعض الفضلاء، وتُكُلم في بعض المناسبات، وأظن أنه لا يطبع منها فيما أعلم إلا خمسة آلاف نسخة، والحقيقة أن مدها قليل، سواء كان مضموناً أو قلباً وقالباً فنحن نطالبها بموضوعات دسمة، وبأقلام رائدة معروفة عند الناس، وبمقابلات وبتجديد الأخبار، وأن تنتشر في العالم الإسلامي بقدر الاستطاعة، إن كانت تريد أن تكون رائدة، وإلا فسوف تظل في مكانها دون حراك.(296/52)
الإذاعة المستمع لها
السؤال
إذاعة تستمع إليها؟
الجواب
إذا أردت أن أستمع فإذاعة القرآن الكريم -هذا محلياً- أما للأخبار فإذاعة لندن على تحفظ بها، وعموماً فإذاعة لندن إذاعة عالمية، وتلاحق الأخبار تباعاً.(296/53)
شخصيات ومعاني
السؤال
شيخ عائض! هنالك بعض الأسئلة السريعة التي تختص بأشخاص من التراث من الماضي والحاضر، فنبدأ بالماضي، ولا تؤاخذنا على بعض الأسئلة؛ لأننا نكتب من ورائها شيئاً.
علي بن أبي طالب ماذا تعرف عنه؟
الجواب
هو بطل مواجهة، وفي قصته كما يقول بعضهم: سلوى للمحرومين، وعزاء للمظلومين، وإنساء للمنكوبين، وأنا قد طالبتك أمس بقصيدة لـ علي بالذات، لأن علياً قد أحبه قوم حتى غالوا في حبه فدخلوا النار، وأبغضه قوم حتى غالوا في بغضه فدخلوا النار، وتوسط أهل السنة في حبه، وفي الولاء له رضي الله عنه ويطير إلى ذهني الآن بيت ألقته عجوز كانت تنوح به على علي لما مات بـ العراق، تقول:
يا ليتها إذا فدت عمراً بـ خارجة فدت علياً بمن شاءت من البشر
لأن الخوارج لما أرسلوا في قتل عمرو بن العاص تأخر تلك الليلة فأرسل رئيس الشرطة رجلاً اسمه خارجة، فقتله هذا الخارجي، فتقول هذه العجوز:
يا ليتها إذا فدت عمراً بـ خارجة فدت علياً بمن شاءت من البشر
يا ليت الناس قتلوا وبقي علي.
وعلي يتميز بثلاثة أمور: الزهد المتناهي والفصاحة المتناهية والشجاعة المتناهية.(296/54)
شخصية صلاح الدين
السؤال
صلاح الدين الأيوبي ماذا يعني لك؟
الجواب
صلاح الدين الأيوبي بطل الإنقاذ، ومجدد الجهاد في سبيل الله عز وجل، وفي سيرته سر، فدين الله ليس حجراً على العرب, قال تعالى: {فإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] وهوية الإنسان لا إله إلا الله، فهو كردي، ومع ذلك لما مال العرب إلى الترف والوتر والسهر، رفع السيف وقال: باسم الله عز وجل، وانتصر ورفع علم الجهاد.(296/55)
شخصية عمر بن عبد العزيز
السؤال
عمر بن عبد العزيز ماذا يعني لك؟
الجواب
عمر رضي الله عنه مجدد القرن الأول، قال عنه الإمام أحمد: ليس أحد من التابعين قوله حجة إلا عمر بن عبد العزيز وفي سيرة عمر رضي الله عنه مسائل:
منها: أن هذا الشاب استطاع أن يعيد الأمة إلى الله بقضها وقضيضها.
ومنها: أن الفترة الزمنية المباركة أحب إلى الله من القرون التي يعيشها بعض الناس، فقد تولى عمر ثلاثين شهراً، قالوا: هي أحب للأمة من ثلاثين قرناً، حتى يقول أحدهم:
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر(296/56)
شخصية محمد بن عبد الوهاب
السؤال
محمد بن عبد الوهاب ماذا يعني لك؟
الجواب
هو داعية التجديد، ومعيد الأمة إلى التوحيد، ورأيت أن الله بارك في دعوته بركة لا نهاية لها، بسبب أنه تجرد لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وظهر الإخلاص في طريقه، وهو من التلاميذ البررة الذين ما رأوا شيوخهم، فهو التلميذ البار لـ ابن تيمية، حتى يقول جولد زيهر: وضع ابن تيمية ألغاماًُ في الأرض فجر بعضها محمد بن عبد الوهاب، وبقي بعضها لم يفجر حتى الآن فوصلت شظايا دعوته النيرة المباركة إلى أفريقيا وآسيا وأوروبا.(296/57)
شخصية ابن باز
السؤال
عبد العزيز بن باز ماذا يعني لك؟
الجواب
هو المنهجية الوسط، والعدل، والداعية الإنسان، وقد جمع الله فيه مناقب ما انتثرت أو ما تشتت وتفرقت في كثير من الفضلاء، فهو يجمع إلى العلم، الصبر, والحلم، والكرم, والأناة، وسلامة الصدر: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4].(296/58)
شخصيات وأقوال
السؤال
ننتقل إلى مجموعة أسماء أخرى وفي طرق أخرى، لنعرف رأيك فيها، ونقول لك: ما تقول فيهم؟(296/59)
شخصية محمد عابد الجابري
السؤال
محمد عابد الجابري ما تقول فيه؟
الجواب
محمد عابد الجابري كنت أقرأ كتبه الأخيرة، وأتساءل: أما عرف هذا الأستاذ أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو المصيب، وهو صاحب المنهج الرباني؟! ولماذا يمزج هذه الأفكار في مثل أزمة وخطاب العقل العربي، أو خطابنا الآن، أو فيما يطرح؟ فوجدت أنه يريد أن يوجد ثقافة عربية منفصلة، وبغض النظر هل هي مخطئة أم مصيبة، فهذا من وجهة نظري، فمثلاً: يأتي بثقافة أو طرح ابن خلدون والشاطبي، وطرح الرافضة والإسماعيلية الباطنية، والمعتزلة، ثم يجعل الفكر العربي هو الفكر السائد والمحكم وهذا ما أشبهه بـ المعتزلة، فإنهم جعلوا العقل محكماً على الشرع، فما استحسنه فهو الحسن، وما استقبحه فهو القبيح!
فأنصحه أن يعود للوحي، وأن يحكم عقله فيما يكتب، بعد أن يعود إلى قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا في مسألة طلب الدليل: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148].
الأمر الثاني: أن المسألة ليست مكاثرة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور} فإن الذي يتكاثر بما عنده من ثقافة وأنه نقل أو قرأ متشبع بما لم يعط, والمطلوب من المفكر هو الصفاء، وليس المطلوب الخلط والمزج، فإنه أحياناً يخرج بأشياء مبثوثة وهو لا يعلم ماذا يريد أن يقول للناس، وله أتباع كانوا يكرمون مقالاته، وأنا لم أقل فيه هذا إلا لأنه مؤثر, وكتاباته متتابعة، وله إنتاج كثيف وضخم.
وأطالبه أن يتقي الله في الأمة، وأن يعود فيؤصل، وأرى أن يقرأ لاثنين: لشيخ الإسلام ابن تيمية وللشاطبي، وقد مدح الشاطبي لكنه عاد فقرن ثقافات أخرى من الباطنية والمعتزلة كما قلت، حتى نقل عن بعض الزنادقة.
العشماوي: مشكلة هؤلاء يا شيخ عائض! وأنت تدري بهذا الموضوع: أنهم يعتمدون على الثقافة الغربية، فركيزة ثقافة محمد عابد الجابري غربية، ويرجع إلى التراث وإلى بعض الشخصيات كـ الشاطبي وغيره؛ يرجع للاستشهاد فقط ولأخذ الأدلة، وحبذا لو نصح من هذا الجانب؛ فلو اعتمد على تراثه ثم عاد إلى ما عند الآخرين ليستفيد منهم لكان هذا هو الصواب، ولما وقع في هذا الخلط العجيب الذي وقع فيه الآن.
لكن المشكلة أن هؤلاء يعتمدون الثقافات الغربية أصلاً، ثم يعودون للاستشهاد بالثقافات الإسلامية، كما يصنع مع أدونيس في مجال الأدب, عندما يعتمد الحداثة منهجاً ثم إذا أراد أن يستشهد رجع إلى التراث، فأخذ منه ما يناسبه.(296/60)
شخصية فهمي هويدي
السؤال
فهمي هويدي ما تقول فيه؟
الجواب
فهمي هويدي في الحقيقة هو أخف الضررين ممن يكتب، وقد قرأت له فيما قبل بعض المقالات كالتي يلاحظها مثلي على مثله، وإنصافاً معه نقول: هو من أكثر الناس تسديداً بالنسبة لغيره ممن يكتب، حتى رأيت له مقالات وهي ما يقارب العشر في التطرف والإرهاب وقد أعجبتني كثيراً، له مقالة في مجلة الوسط: الإرهاب ممن؟! وغيرها, ذكر فيها مسائل ملفتة للنظر، وكثير من الدعاة استأنسوا بما طرح، لأنه الآن يجنح إلى أهمية أن يسمع الآراء وأن يجلس مع الدعاة، وقد جلس مع كثير منهم، فأصبح يجدد في طرحه وأسلوبه.
وهنا أذكر أمثلة أعجبتني ثم أذكر بعض الملاحظات، يقول في مسألة التطرف والإرهاب: لماذا يعلق فقط الإرهاب قميص عثمان هذا المدعى على أهل الخير وأهل الصحوة والدعوة، مع العلم أنه وجدت تجاوزات في القتل والإبادة والسجن والتعسف والظلم ولم يطلق على مرتكبيها مصطلح الإرهاب والتطرف، كالضباط الأحرار في عهد عبد الناصر، فإنهم قتلوا البشر قتلاً ذريعاًَ لا يوجد في التاريخ قتل مثله، مثل استالين ولينين وأتباعهما، ومثل محاكم التفتيش، ومثل ثورة الألمان مع هتلر وغيره.
فهو يقول: إنما القصد التجني وافتعال التهم، وإلصاقها بالأبرياء، ويظل يشكو من التعميم الذي نشكو منه، تعميم الأخطاء التي يقع فيها بعض الأفراد، بأن تعمم على جماعة المسلمين الجمعاء، ومنها: مصادرة الجهود، وأن هؤلاء قوم لا فكر لهم، ولا رأي، ولا ثبات من استعداء السلطة عليهم، والإعلام، واستعداء الحكومات الغربية، إلى غير ذلك من الأشياء.
وهنا أطالبه بمسائل:
المسألة الأولى: لماذا لا يثري ثقافته بعلم الكتاب والسنة، بالآيات وبالأحاديث وبالنصوص، كما يفعل بعض الكتبة؟
المسألة الثانية: الصفاء فيما يكتب، فإنه ينقل أحياناً عن بعض الناس الغربيين كلاماً لا يوثق به.
المسألة الثالثة: تأييده في كتابه الأخير لبعض الكتبة الذين يتجنون ويفتعلون بعض المسائل ضد الإسلام.
هذه مسائل مما ألاحظها عليه، ولعله فيما يقبل من الزمن أصلح إن شاء الله، لأني أرى منه أنه أحسن من ذي قبل.(296/61)
شخصية تركي الحمد
السؤال
لكن أنت تعلم أنه ينتمي إلى مدرسة تركي الحمد ما تقول فيه؟
الجواب
تركي الحمد أرى أنه تلميذ بار لـ محمد عابد الجابري، وكأنه يتتبع خطاه، ولم أكن أظن أنه بهذه الدرجة، حتى قرأت له مقالة في مجلة اليمامة قبل أشهر وهو يتحدث عن الإيديولوجية المطروحة، وكأن الرجل يريد أنه لا مشاحة في الفكر الديني الذي يحمله العبد، وألا نجعل الدين محل صراع، وأن كلاً يعرض رأيه وفكره وأطروحته بغض النظر عن مردها ومصدرها.
الأمر الثاني: الالتواء فيما يطرح، فإننا نعلم أنه يريد نكاية والله أعلم.
وأنا أطالبه بأمور: منها: المبارزة وحضور مجلس للمناظرة، وقد طلبه بعض الفضلاء ولكنه يرفض دائماً، ونريده للمناظرة ليظهر الحق أمام الناس، وليعلموا الحق مع من.
والأمر الثاني: ألا يكون عالة على غيره، لأنه مقلد فإنه أحياناً يطرح بعض الأشياء وكأنها من عند ذاته، وبأسلوب يظهر للناس أنه حضر هذه المادة بنفسه وأعدها وتعب عليها، ثم تكتشف وإذا هي بالحرف والسطر والرقم لغيره، وهذا خلاف للأمانة العلمية، وقد أخبره بذلك الدكتور ناصر رشيد، وغيره من الأساتذة، والدكتور أحمد التويجري، وهذا أمر مخالف للقلم -وبغض النظر عن أمانة المسلم الذي يخاف الله عز وجل- لكنها عند العقلاء من الناس مذمومة مطروحة.(296/62)
شخصية الدكتور عبد القادر طاش
السؤال
الدكتور عبد القادر طاش ما تقول فيه؟
الجواب
عبد القادر طاش صاحبته وأعرفه كثيراً، وأحبه في الله عز وجل، وأنا أقول له بصراحة: لماذا يا دكتور عبد القادر هذه الغمغمة والجمجمة والهمهمة؟ لا بد أن يكون الحق واضحاً لا لبس فيه فيما يكتب في جريدة المسلمون، بأن يطرح الحق واضحاً ومؤصلاً، ويكتب ولا يخاف إلا من الله عز وجل، ولا نطلب منه أن ينقد بعض الناس، أو يتعرض، أو يذم، أو يقدح؛ لكنا نطلب منه أن يعرض الحق بوضوح، ويدافع عن أهله.
الدكتور عبد القادر رجل مقبول وفيه خير، وعرفت تدينه وصدقه, ولكني أطالبه أن يثري أسلوبه بالمتانة، فمن وجهة نظري يحتاج أسلوبه أن يكون لماعاً، أو يكون لماحاً بالنظر، حتى يكون له جاذبية ولعله أعرف بهذا، ولكن هذا طلب مني، لا أني أمن عليه، وأسال الله أن يثبته ويسدده.(296/63)
شخصية زين العابدين الركابي
السؤال
زين العابدين الركابي ما تقول فيه؟
الجواب
من أحسن ما أقرأ له على قلة فيما يكتب زين العابدين الركابي، وهي من أحسن ما أقرأ وما ذلك إلا لأمور، منها: العقل الحصيف، لأنه الآن شارف على الستين، وهذه الستين تحمل من التجارب والممارسات ومن المزاولة والخبرة ما الله به عليم، لأن الرجل عنده صفاء قديم في التوجه، وقد تكلم في كثير من المنابر والأماكن، وعرف الحق من الباطل، ثم إن الشيخ زين العابدين الركابي استفاد، فهو رجل متواضع يجلس مع كثير من العلماء، ويباحثهم في كثير من المسائل، فاستفاد إلى عقله عقولاً.
لكني أطالبه أن يكثر فيما يكتب، وقد قلت له: إن الواجب عليه بما عنده من خبرة أن يكتب مؤلفات في هذه المرحلة، وأن يجدد ويؤثر، ويشارك في المسيرة علّ الله أن ينفع بما يقدم.(296/64)
مواقف حصلت للشيخ
السؤال
نحن نريد بعض الأشياء الخفيفة، عبر ثلاثة أسئلة سريعة وهي: أحرج موقف مر للشيخ عائض القرني وأطرف موقف، وأخوف موقف؟
الجواب
أحرج موقف وقد كررته كثيراً في بعض المقابلات ولا بأس من إعادته، فقد حدث هذا قبل سنوات، ويمكن أن يكون محرجاً أو ليس محرجاً بالنسبة لي لأني قد نسيت، لكن ذلك الموقف كثير ما سمع مني، وهو مثل الورود تشم ولا تعك.
قبل سنوات أقيم حفل كبير في جامعة الإمام في أبها، واجتمع إليه بعض الناس والأعيان، وكان من المقرر أن لي في البرنامج قصيدة، نظمتها وصححتها، ثم وضعتها في جيبي، وكنت ألبس من لباس الكشافة -الترنك هذا- وجاء أحد الإخوة اسمه علي حجر، فأخذ القصيدة لينظر إليها ثم نسي فوضعها في جيبه -وقع هذا قبل صلاة العصر، والحفل سوف يكون بعد المغرب- ثم ذهب إلى منطقة خميس مشيط، فجئت ظاناً أن القصيدة ما زالت موجودة، وقدم لي المقدم وكان العلماء والمشايخ وبقية الجماهير منتبهين، فقمت عند الميكرفون وقدمت للقصيدة بكلمة نثرية وأنا لا أحفظ من القصيدة ولو بيتاً فهي ما زالت للتو تغطية للمناسبة، ثم قدمت ببادئ القصيدة وأتيت لأخرجها ففتحت الزر الأيمن فلم أجدها! وفتحت الزر الأيسر فلم أجدها! وفي الجيب الأعلى فلم أجدها! وأنا سريع النكتة، فقلت: أيها الإخوة! وتذكرت في أثناء البحث أن زميلي الأخ علي أخذها وذهب إلى والدته، فقلت: معذرة أيها الإخوة! نظمتها اليوم ولم أحفظها، وصححتها ووضعتها في جيبي، ولكن تذكرت أن أحد أصدقائي أخذها فنسيها وذهب وركب سيارة قبل صلاة العصر يزور أمه، فالمعذرة حتى يأتي بالقصيدة إن شاء الله، ثم جلست فضحك الجميع، والموقف لمن حضره وشاهده مؤثر.(296/65)
أخوف موقف
أما أخوف موقف؛ فهو موقف الطائرة, فقد ركبت في طائرة بعد أزمة الخليج، وكانت الطائرات رابضة فترة نظراً لعدم الرحلات بسبب الحرب، فركبنا في الطائرة وبعد أن ارتفعنا عن أبها فالطيار أصلحها وشحمها ثم ارتحل بنا، فلما اقتربنا من الرياض وقفت محركاتها، فبقينا على سماء الرياض أكثر من ساعة وهو يذهب بنا إلى المطار عشر مرات، وأتى بنا من الخوف والهلع ما الله به عليم، وبعضهم بكى حتى رأيت الدموع على الخدود، ورأيت من تاب وأناب: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] وكانت النساء أكثرنا انهياراً، ووجدت التوحيد متحققاً عندي وارتفع ضغطه كثيراً، واتصلت بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنا وإخواني، وفي الأخير أطلق الله محركاتها فنزلت، وكأنا خرجنا من القبور إلى الحياة، وهذا ينبئ عن ضعف الإنسان، ويصل إلى درجة استجارته بالله الذي يجيب المضطر إذا دعاه.(296/66)
أطرف موقف
وأما أطرف موقف -حفظكم الله- فقد وقع العام الماضي وأنا في الحج، نزلت إلى المطار فركبت في سيارة أجرة، وكان قائدها رجلاً مسناً، عليه آثار سحونة الصحراء والأعرابية، فسألته من باب التعارف، وكان معنا أحد الإخوة من قحطان في المقعد الثاني واثنان من الإخوة المصريين عرفوني وعرفتهم، ولكن السائق لا يعرفني ولا أعرفه.
فقلت: من الأخ؟ قال: أنا جحلق -والجحلق لغة دارجة- قلت أنا: إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ثم قلت له: من أي قبيلة أنت؟ قال: أنا مطيري، ثم سرت أنا وإياه في الحديث، ثم سألني من أين أنت: قلت: أنا من الجنوب؟ قال: الجنوب شعوب وقبائل!! لكن من أين؟ قلت أنا: قرني؟ قال: أعائض القرني منكم؟ قلت: نعم.
فمشينا قليلاً ثم أتى بشريط في سيارته وشغله، والشريط كان لي وهو بعنوان: (ظالم من الدرجة الأولى) , يتحدث عن الحجاج وقتله لـ سعيد بن جبير، فقلت: لمن هذا؟ فقال: هذا لداعية من الدعاة في القصيم من بريدة، ثم أخذ يتكلم معي ورفع الشريط حتى أسمعه، ثم أخفضه، ويخبرني بالجملة التي سوف تأتي منها القصة، فقال: هذا الحجاج كان والياً في العراق، وكان أحد العلماء اسمه سعيد بن جبير، قلت: عجيب، ثم يرفع, ثم يخفض، ويقول: انظر! سوف يأتي الآن بالذهب له، ويغريه به، ثم يرفع، إلى أن قال: الآن اسمع الأسئلة، واستمر في الحديث حتى انتهى الشريط تماماًَ.
بدأت أكلمه ونسيت من نفسي أخذت أقص عليهم القصص في الطريق، فأخذ ينظر إلي وينظر إلى الشريط، وبعدما اقتربنا من بروازة مكة، قال: أنت!! صوتك!! فضحك زميلي اللذان كانا معنا، وقال: وصلت، فبدأ التعارف من ذلك الوقت، وأصبحت صداقة فيما بيننا.
العشماوي: قال عنك إنما هو من القصيم؟
القرني: يقول من القصيم، هذا يدلك على أن الأمة ليس عندها أمانة علمية.(296/67)
الشباب والعطل
السؤال
أخانا الكريم الشيخ عائض بن عبد الله القرني! جزاك الله خيراً على ما قدمت لنا، ونحن الآن نطل من شرفة العام الجديد (1414هـ) نقوم بهذا اللقاء الآن في أول شهر المحرم في هذا العام الجديد، وأنت تعلم أنه في آخر هذا الشهر ستبدأ الإجازة الصيفية والعطل للمدارس، فنريد قبل أن ننتهي من هذا اللقاء أن توجه نصيحة موجزة لشباب الأمة في طريقة قضاء أوقاتهم في مثل هذه الإجازات؟
الجواب
مما نشكو فيه إلى الله عز وجل الفراغ القاتل الذي يعيشه كثير من الشباب، وقد مر عام وانصرم في لحظة من اللحظات، مر ببؤسه ونعيمه، وبسعادته وشقاوته، وبانتصاراته وهزائمه، وبحسناته وسيئاته، ولكن: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52] أما هذا العام فإني أدعو إخواني إلى أن يستثمروه، وما مع الواحد منا إلا أن يعيش يوماً بيوم، وأن يعيش كل جزء بجزئه، فالحياة التفصيلية: {إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح} وقصدي من هذا: أن الشباب الذين يظنون أن العطلة الصيفية فرصة للتفرجة والنزهة، وفرصة لراحة النفس، فهذا ليس بصحيح في الإسلام، إن الله يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أي: حتى تموت، فعليك بالجد الصارم والمواصلة، والاستفادة، وعدم تضييع الفرص، فإن معظم الناس قد تأثروا ببعض الأطروحات في أن العطلة الصيفية فرصة لأن يتفرغ الإنسان للهو واللعب والذهاب والإياب، وهذا ليس بصحيح.
والأصل أن هذه العطل لم تكن عند السلف، فحياة السلف علم متصل، وعبادة وتلق دائم، وما أجملها إذا كانت تستغل فيما يقرب إلى الله عز وجل!
وهذه دعوة لإخواني أن ينتجوا في هذه العطل، مثل مدارس تحفيظ القرآن، فلماذا لا يدخل الناشئة في هذه العطل الصيفية في هذه المدارس، والمراكز الصيفية، والمخيمات، والمكتبات، وإلقاء المحاضرات، يبدأ فيحصل علماً، أو يقرأ كتاباً يختاره ويلخصه ويحفظه، مثلاً: كتابة مقالات، أو كتابة كتيبات، أو مشاركة في تخريج أحاديث، فيجعل المرء لنفسه في هذه العطلة مشروعاً، وهذا يأتي بأمور:
منها: الاستعانة بالله عز وجل، ومعرفة أن هذا العمر يتصرم، وأنه لا يعود مرة أخرى، وعليه أن يبتعد عن رفقة السوء، وأهل العطالة والبطالة والفراغ، إلى غير ذلك من الأسباب التي توصل إن شاء الله إلى استثمار هذا الوقت فيما يقرب من الله.
السؤال
شيخ عائض! نحن في البداية تكلمنا عن الشعر، فنرجو إن شاء الله أن تختم هذا اللقاء بقصيدة تختارها للإخوة المستمعين؟
الجواب
الحقيقة أني لم أكن أعلم أن هذا الطلب سوف يكون، وقد سلف معنا بعض الأبيات، وأنا من الذين لا يحفظون قصائدهم إلا إذا مر عليها وقت طويل، وأكثر ما قلت في أني مقل، وأنا لست كمثلك، عندك من الغزارة ما يجعلك تخرج بين الفينة والأخرى ديواناً، لكن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
العشماوي: نترك لك فرصة أن تأتي بقصيدة الآن، وتقرأها كاملة لأن المستمعين حريصون على ذلك.
القرني: فأجره حتى يسمع كلام الله.(296/68)
خاتمة اللقاء
العشماوي: أيها الإخوة المستمعون: لقد كان هذا اللقاء الذي عشتم فيه مع أخي الكريم فضيلة الشيخ الداعية الأديب عائض بن عبد الله القرني، وقد حاولنا في هذا اللقاء أن نلم ببعض النقاط التي كنا نرى أنها ذات أهمية, خاصة في وقتنا هذا، وقد نكون وفقنا فيما أردناه، أو لم نوفق, ولكن هذا الأمر قد تحرينا فيه الدقة وبذلنا فيه الجهد، ونسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يجزي أخانا الكريم الشيخ عائض بن عبد الله القرني خير الجزاء، ونقول لك يا أبا عبد الله!: سدد الله خطاك، ووفقك إلى كل خير، ورزقنا وإياك الإخلاص في القول والعمل.
القرني: أثابكم الله وحفظكم ورعاكم، وأنا بدوري أشكركم يا فضيلة الدكتور أبا أسامة! على ما قدمتم، والحقيقة أنكم أضفيتم روحاً وحياة على اللقاء، ومثلكم يطلب للقاءات لأن لقاءاتكم مع المشايخ أصبحت كالكبريت الأحمر، لقوتها وما فيها من حياة ونشوة، وبالمناسبة أقول لك: يا أخي! سوف تستمر هذه اللقاءات إن شاء الله، وما ذكرته من طلب الإخلاص هذا أمر وارد عند الجميع، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية.
أمر آخر مما أتذكره الآن في نهاية المقام، أن مقدم اللقاء هو الذي يضفي عليه من اللقاء ومن الحيوية ما الله به عليم، وهي كمقدمة بعض الكتاب الجهابذة والعباقرة للعلماء، إذا قدموا للكتاب ولو كان ليس بذاك لقي قبولاً عند الناس، فعسى أن يكون لقاؤنا هذا من ذاك.
ثم أشكر تسجيلات السرة بـ الكويت، وأطالبها بالاهتمام بإيصال الأمانات إلى أهلها، وهي إعطائي وإياك والمشايخ نسخاً من هذا اللقاء، وأقول لهم: لا تكون تسجيلات السرة كـ عزة، كما قال كثير:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنىً غريمها
فسوف ندعو لهم من الآن حتى يوصلوا الأشرطة، فإذا ما وصلت ففي الأمر نظر، وأسأل الله التوفيق والهداية والرشد والسداد، وشكراً لكم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين.(296/69)
ولا تنازعوا فتفشلوا
الخلاف اليوم بين المسلمين قد اتسع أفقه, والاتفاق والاتحاد بين أعدائهم قد قوي صلبه.
وفي هذا الدرس محاولة لمعالجة هذه الفرقة الموجودة بين المسلمين, وذلك بعدة أمور منها: الرجوع إلى العلماء, ومعرفة قدرهم وفضلهم, ومنها: معالجة قلوبنا من الحسد والضغينة والأحقاد.
كما ذكر الشيخ أدب أهل العلم مع بعضهم عند الخلاف, وتعرض لقاعدة الموازنة بين الحسنات والسيئات, وذكر كلام محمد بن مهدي في صفة أهل السنة عند الخلاف.
كما كان هناك كلمة تعقيبية للشيخ الدكتور سعيد بن زعير.(297/1)
ترحيب الشيخ الطريري بالشيخ عائض
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالعافية في المال والأهل والولد.
لك الحمد ربنا على كل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو حاضر أو غائب.
لك الحمد ربنا حتى ترضى, ولك الحمد إذا رضيت.
وصلوات الله وسلامه وبركاته على نبينا محمد النبي الصادق الأمين, وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين, وخلفائه الراشدين, وسائر الصحابة أجمعين, ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ومع الحلقة الثانية عشر تعود إليكم دروس الوعي وتعودون إليها والعود أحمد، أهلاً بكم مع قضية من أكثر القضايا إلحاحاً على واقعنا، ففي حين يشكو الناصحون المشفقون على هذه الصحوة؛ من فقدان اللياقة في الاختلاف، أو يشكون من غيبة أدب الحوار، أو الحساسية من النقد، مما حول الخلاف إلى تنازع يعقبه فشل: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال:46].
فإنه في الوقت ذاته نرى خلطاً غريباً عجيباً في أحيان كثيرة حين تعرض هذه القضية عرضاً نراه يفضي إلى تغييب الولاء والبراء في عتمة تعدد وجهات النظر، أو إخفائه تحت مظلة حتمية الخلاف، ويراد من ذلك أن ننظر إلى الخلاف بين الإسلام والعلمنة، أو بين السنة والبدعة كنظرنا إلى الخلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم في صلاتهم العصر في بني قريظة.
وربما مرر ذلك على عبارات يساء وضعها أو يساء فهمها، فهل كل اتفاق نتعاون فيه؟ وهل كل اختلاف نتعاذر فيه؟ وهل كل اختلاف رحمة؟ وهل كل اختلاف لا يفسد للود قضية؟ وهل يقبل شرعاً أو يليق أدباً مع محمد صلى الله عليه وسلم, أن يُستقدم إلى ثرى جزيرة العرب , جزيرة الإسلام، ومهده وملاذه, هذه الجزيرة التي كانت في وجدان محمد صلى الله عليه وسلم وهو يودع الدنيا فلحقت نفسه بالرفيق الأعلى وهو ينادي: {ألا لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} هل يليق أن يستقدم إلى ثراها حداثيٌ مغموز عليه بالنفاق؟! أو شيوعيٌ من أفراخ الشيوعية المفلسة، ثم ترفع لهم المنابر، وتبوأ لهم المنصات؛ ليطرحوا طروحهم المشبوهة تحت مظلة حتمية الاختلاف، ويسكت الصوت المقابل تحت شعار: "أدب الخلاف".
إن الحاجة جد ماسة إلى تجلية هذه القضية، وتبيين معالمها؛ حتى تعصم جماعة المسلمين من شرذمة التفرق، وبوادر التنازع، وبوار الفشل، وشؤم الخلاف، وحتى يعصم المجتمع المسلم أن تتنفس فيه رئة الباطل بمقولة علمنة، أو تنفث فيه فرقة زائغة بنفث بدعة، هذه القضية سيبين سواها ويلحم سداها, شيخنا وحبيب قلوبنا وقرة عيوننا أبو عبد الله الشيخ عائض بن عبد الله القرني، والذي لا يسعني أن أثني عليك، فقد أثنت عليك فعالك، ولا يسعني أن أمدحك فقد مدحك موقفك وعطاؤك.
وكنت الجريء النفس في كل موقف تلفت فيه الحق لم يلق حاميا
وكنت على الأفواه سيرة مجمل وكنت حديثاً في المسامع عاليا
لكن يسعنا أبا عبد الله أن نحييك، فحياك الله بكل تحية من عنده مباركة طيبة، حياك الله كلما خطت لك قدم بحب، أو نظرت إليك مقلة بشوق، أو أصغت لك أذن بلهف، ويسعنا أن نكافئك بما لا نملك أن نكافئك إلا به ألا وهو الدعاء، فأسأل ربي بأسمائه المباركة الحسنى أن يبارك في عمرك، وينسأ في أجلك، ويبلغك من الخير مرادك، وأن يقر عينك بعز الإسلام وظهور المسلمين: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100].
وأدعكم مع أبي عبد الله فليتفضل مشكوراً مأجوراً.(297/2)
مع من يكون الحوار؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اللهم إني أسألك في هذا الموقف الكريم، من على هذا المنبر الكريم، في هذا الجمع الكريم وأنت الكريم, أن تصلح الراعي والرعية، اللهم إن زرع الباطل قد سمبل، وشوك الكفر قد حنظل، فنريد منك حاصدة لا تبقي له بقية.
أبتهل إلى الله في أول هذا الدرس, كما ابتهل رسوله إليه عليه الصلاة والسلام في جنح الظلام وهو يقول كما في صحيح مسلم: {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل, فاطر السماوات والأرض, عالم الغيب والشهادة, أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون, اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم} {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].
أما أخي إمام هذا الجامع والخطيب المفوه الشيخ: عبد الوهاب الطريري فالحقيقة أنني اعتذرت له كلما أثنى، ولم أجد له هذه الليلة عذراً إلا الحب، فإن أثنيت ورددت عليه اتهمت بأنني أحبه، وهذا سرٌ أفشيه في هذا المجلس، وإن سكت ولمته فما أدري
أحبك لا تسأل لماذا لأنني أحبك هذا الحب رأيي ومذهبي
واعلموا -حفظكم الله- أن لهذه المحاضرة سبباً ونسباً، أما سببها فهو الحوار المعلن الذي فوجئت به جزيرة العرب، جزيرة محمد عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، الجزيرة التي جدد توحيدها الشيخ محمد بن عبد الوهاب من على هذا التراب الطيب الطاهر تفاجئ بحوار، ولكن:
والله لو لاقيتني خالياً لآبي أقوانا مع الغالب
وتخالفنا طائفتان: طائفة لا لقاء بيننا وبينها حتى تترك ما اعتقدت وما حملت، وليس كلامنا في هذا الدرس عنها.
وطائفة تريد أن تجعل نقاط الحوار: الكتاب، والسنة، والكعبة، والمصحف، والصلاة.
فتعرضها للحوار أمام الملأ وكأننا في شك من ديننا، وهؤلاء لنا معهم كلام.
وإنه يؤسفنا أن يبوءوا -كما تفضل الشيخ- المنابر، وأن يسمع لهم، وتحتفل بهم الأمة، وتحشد لهم الحشود ثم لا يمكن دعاة الحق وأهل الحجة الدامغة والحجة البالغة التي يحملونها, وهم أولياء الله عز وجل، الذين يحملون قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام أن يتكلموا ويسمعوا الناس أصواتهم، ويتكلم أولئك للناس ويسمع حوارهم وصوتهم.
وأنا أقول: هنا عدة قضايا:
القضية الأولى: لا يجوز أن يسمع لهم أصلاً بوجود أهل العلم، والفكر، والرأي، ولو أنه يحصل بعض المداخلات، لكن هذه لا تشفي العليل، ولا تروي الغليل.
القضية الثانية: الواجب أنهم يسمعوا لنا، فإن الله يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6] يسمع هو لا أن تسمع أنت؛ لأن الحق تحمله أنت، فما نحمله من حق الواجب أن نسمعه غيرنا ولا نسمع منهم الباطل, وسوف أعرج على هؤلاء.(297/3)
ضرورة الائتلاف بين أفراد وجماعات الصحوة الإسلامية
أما الحديث في هذا الدرس فهو مع من اختلفنا معه اختلافاً يمكن تداركه والالتقاء بعده، وعدم الضغينة أو الحقد من ورائه، وهذا ليس إلا خلافاً فرعياً يحصل في الملة، وقد حصل في أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فسوف أتحدث إلى أولئك وأناديهم أن نعتصم، وأن نكون جبهة موحدة تحمي لا إله إلا الله محمد رسول الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في هذا الصف المؤمن: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ويقول جلت قدرته عن هؤلاء: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] ولقد سعى عليه الصلاة والسلام في توحيد القلوب وتأليف الأرواح إلى درجة أنه أجلس بلالاً الحبشي مع أبي بكر القرشي، وصهيباً الرومي مع عمر بن الخطاب، وسلمان الفارسي مع علي، وعماراً مع عثمان، فأي إخاء تريدونه بعد هذا الإخاء؟!
إن يختلف ماء الغمام فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
وحب الألفة على الحق مبدأ إسلامي يعشقه المؤمنون، ويدعو إليه الصالحون في كل زمان ومكان.
أحب المسلمون عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه كان يحب الائتلاف والاتفاق, ويتناسى الخلاف الفرعي، وكان ينشد في طلابه:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا عفافٍ وحياءٍ وكرم
قوله للشيء لا إن قلت لا وإذا قلت نعم قال نعم
وكان يقول:
إذا صاحبت قوماً أهل ود فكن لهم كذي الرحم الشفيق
ولا تأخذ بزلة كل قوم فتبقى في الزمان بلا رفيق
أيها الأحبة: نحن بحاجة ماسة إلى أن نجمع شملنا، ونوحد كلمتنا، وأن نتناسى تلك الضغائن التي جعلها الشيطان بيننا من إملائه وتسويفه، وعند أحمد في المسند عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب , ولكن بالتحريش بينهم}.
فالشيطان يئس أن يُسجد للأصنام أو الأنداد، لكنه يحرش بين الصف الإسلامي، فيذر الجهود مبددة، والألسنة الحداد تتكلم في الأعراض، ثم اعلموا -حفظكم الله- أن من القضايا التي أريد أن أذكرها في أول هذه المحاضرة: هي اجتماع المسلمين على الكتاب والسنة ضرورة يمليها الشرع والواقع، وقد اجتمعت الأمم على ملل محرفة وعلى أطروحات باطلة، وتسعى الآن الهيئات لجمع نفسها -لأن الاجتماع أصبح ضرورة- على مصالح مشتركة، ووفاق دولي، وأخوة إنسانية، وعمل اقتصادي، وتنظير سياسي، إلى غير ذلك من أطروحات البشر، أفلا نجتمع نحن أهل الإيمان أمام هذا الزحف الكافر؟! إنها ضرورة!(297/4)
ضرورة إنكار الوضع الخاطئ
القضية الثالثة: إنكار الوضع الخاطئ ليس إثارة للفتنة، بل إطفاء للفتنة, فإن أصل الفتنة هو ترك الخطأ، وترك الباطل والمنكر, أما من ينكره فهو المصيب، ولو سكت عليه الصلاة والسلام عن الجاهلية وما أثارها ووقف ضدها لكانت الفتنة إلى اليوم، فكيف يعتبر من يرد الرأي الخاطئ هو الفاتن المفتن؟ لا.
بل الذي أتى بالفتنة هو الذي يتولى كبرها.
ونحن نعلم أن الأمم الآن تعيش حواراً إلا بلاد الإسلام, فهم ممن اختلفوا، لكنهم متفقون على حرب الإسلام, بل العجيب: أنهم على حوارهم وسماع الرأي والرأي الآخر أكثر استقراراً وأمناً وهدوءاً، ولا تسمع القنابل، ولا الحجارة والجراح، والسياط، ولا المشانق، والزنزانات إلا في هذا المشرق.(297/5)
لماذا يفتح المجال لأهل الباطل؟
القضية الرابعة: إن مما يمزق الأمة ويفرق كلمتها أن تترك أبواب الشر مفتوحةً على مصراعيها، ثم يغلق على أهل الحق أن يبدوا كلمتهم، فإن الحجة البالغة هي حجة أهل الحق، ويقول بعض الفضلاء: أجلسوني مع الشيطان لأحاوره، واتركوا لي وقتاً كوقت الشيطان فسوف أغلبه، لأن الشيطان يحمل باطلاً، أما أن تأتي بالشيطان وأذنابه، وتسلم لهم المنبر، ثم تجبر الناس على سماعهم ولا تعترض عليهم فهذا ظلم، وهذا منتهى ما يصل إليه الإنسان من شر وإجحاف وحيف.
فنقول: لا بد أن نسمع الناس صوتنا، وأن نبلغ -إن شاء الله- رسالتنا بالأدب، لأن حجتنا بالغة ومبادئنا أصيلة، ولا بد عند التنازع من الرجوع إلى الكتاب وسنة المعصوم عليه الصلاة والسلام، لا إلى فكر آخر، أو أطروحة، أو تقاليد، أو أعراف تعارفنا عليها أو آراء، أو أمور سجلها البشر وقيدوها, بل إلى الكتاب والسنة، وإلى راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومبدأ أهل السنة والجماعة , وهذا أمر هام يجب ألا نغفل عنه.
فليس لأحد أن يقطع في مسألة إلا إذا كان معه دليل من المعصوم عليه الصلاة والسلام، وليس لأحدٍ أن يتدخل برأيه ليفرضه على الناس، ويزعم أن رأيه هو الصحيح ورأي غيره خطأ, فهذا من الظلم.(297/6)
لا يمكن الوفاق مع من لم يدن بدين الحق
القضية الخامسة: الذين يدعون للوفاق معنا وهم لا يدينون دين الحق، على أي مائدة نتفق؟! وكيف نلتقي معهم؟ أتحت أطروحات الماركسية والعلمانية والنصرانية المحرفة واليهودية المرتكسة، ونجلس معهم على وفاق؟! ثم يصفوننا إذا لم نوافقهم بالتزمت والتطرف والأصولية والتشدد؟! سبحان الله! أهذا هو الإنصاف؟! أمعنى أن نوافقهم أن نتنازل عن الحق الذي منحنا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إياه: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43].
بل والله ثم والله! لقد زاد تمسكنا بحقنا يوم رأينا النظريات المفلسة وهي تنهار وتحترق، ورأينا صرح أهل الباطل وهو يهوي تحت الأرجل: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].
إن من الحقوق التي يدعو إليها العلماء والمصلحون أن يسمع صوتهم، وأن يفتح المجال لهم حتى يسمعوا الناس صوتهم، أضرب مثالاً بسيطاً: قبل ثلاثة أسابيع كتب كاتب في جريدة الندوة يسمى الدمنهوري دهوره الله في النار، يطالب هذا بتأديب طائفة من العلماء والدعاة والمصلحين، يقول: إنهم تعدوا الخط الأحمر، ما هو الخط الأحمر؟ ومن الذي رسمه؟ ومن ترك المجال لمثل هذا وأمثاله يعترض على أمة لا تقوم إلا بعلمائها ودعاتها ومصلحيها؟!
وأنا أريد أن أرد عليه، أو غيري من طلبة العلم، فأين نرد؟! وكيف؟! وبأي لسان؟! وبأي قلم؟! وفي أي مجال؟! فهذا من الحيف، وعدم الإنصاف أن يترك المجال لمثل هؤلاء ينقمون على الشريعة وعلى حملتها، ولا يترك المجال للرد على هؤلاء.
إن الحوار الذي تعيشه الأمم عندهم معناه: سماع الرأي والرأي الآخر، أو معناه: أن يفتح الرأي -بغض النظر عما يحمل من دين- سواء كان خيراً أو شراً, وأما في بعض البلاد فإنه يفتح المجال للشر فحسب.
أيضاً أيها الإخوة! صاحب الرأي الصحيح لا يسمى مخالفاً، بل هو الذي على الحق، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {إنما جعل الإمام ليؤتم به, فلا تختلفوا عليه} فإن الإمام هنا لا يسمى مخالفاً لمن خالفه، بل الذي خالفه هو المخالف, أما الإمام فهو على الحق، فالعلماء أو الدعاة -ونحن من طلبة العلماء لا من العلماء وأتكلم عن نفسي- لسنا مخالفين لهؤلاء، بل هم الذين خالفونا لأننا على بصيرة من ربنا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].(297/7)
شروط السماع للمخالف
الخامسة: من حقوق صاحب الرأي، وصاحب القلم، وصاحب الفكر أن يسمع أو يستمع له لكن بشرطين -كما أسلفت-:
الشرط الأول: أن يحمل حقاً.
الشرط الثاني: ألا يخالف في مسائل الأصول.(297/8)
أحوال أهل العلم عند الخلاف فيما بينهم
وأدخل الآن إلى الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة لأتحدث لهم مباشرة حياً على هواء الحب والرضا والود، وأقول لهم: الآن أتكلم معكم وأترك العلمانيين لفرص أخرى, وأشكر الذين حضروا فراغموهم، والدين مبني على المراغمة والمجاهدة.
وأشكر الذين كثروا سواد المؤمنين وجاءوا يراغمون أهل الباطل ويداخلون بكلماتهم، ويزحفون بتكبيراتهم، لأنه حفاظ على دار الإسلام، ودار القبلة، وعلى شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله رحمة واسعة- في الرياض الناضرة قال: حالة أهل العلم مع أهل العلم عند الخلاف على ثلاثة أحوال:(297/9)
حال أهل الإحسان
الحال الأولى: حال أهل الإحسان، وهم الذين يذكرون المحاسن ولا يذكرون المثالب، فأنت تخالفني وأخالفك في جزئيات وفرعيات، فالواجب إذا أردت أن تحسن إلي وأحسن إليك أن تعاملني بالحسنى، أن تذكر محاسني وأذكر محاسنك, ولا تذكر مثالبي ولا أذكر مثالبك، وهذه لا يفعلها إلا قلة نادرة من أمثال ابن المبارك رحمه الله، والإمام الشافعي، فقد صح عن الشافعي أنه قال: "والله ما ناظرت أحداً إلا وددت أن يكون الحق معه، وإني أدعو له بالصواب والتسديد" أو كما قال، فأين من يفعل ذلك؟
إن الكثير منا إذا اختلف مع الآخر في مسائل جزئية أو فرعية -ويجوز الخلاف فيها شرعاً وقد اختلف فيها الصحابة- فإنه يتمنى له العثرات ويستحل عرضه، ويتكلم فيه ويسري بعداوة له، ويتفقده في كل ما يمكن أن يخطئ فيه ليشهر بهذا الخطأ.(297/10)
حال أهل الإنصاف
الحال الثاني: حال أهل الإنصاف: وهو أن تصفني فتذكر محاسني ومساوئي, وأذكر محاسنك ومساوئك، فهذا حال أهل العدل، وعموم العلماء.(297/11)
حال أهل الظلم
الحال الثالث: حال أهل الظلم والحيف، وهم الذين يذكرون الأخطاء ويتركون الحسنات فلا يذكرونها، وقد قال ابن تيمية رحمه الله: "بعض الناس كالذباب لا يقع إلا على الجرح" فتجده يترك المحاسن في الكتب والأشرطة والمحاضرات والدروس والمؤلفات، ويأتي إلى طالب علم أو داعية أو عالم فيقول: أخطأ في كذا، ثم يشهر به، ويرد عليه في أشرطة، ثم يقتفي أثره ويغتابه ويستحل عرضه، فأين الإسلام؟ وأين الإيمان من هذا؟
لماذا لا تذكر الحسنات؟
قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله وهو من علماء الحديث ومن علماء أهل السنة: " أهل السنة يذكرون ما لهم وما عليهم، وأهل البدعة لا يذكرون إلا ما لهم " وهذا من الظلم.
وأنا رأيت ردوداً وسمعت أشرطة لا تذكر إلا الأخطاء، ولا تذكر لهذا الداعية، أو العالم، أو طالب العلم حسنة واحدة لا في جودة الأسلوب, أو في الغيرة لله عز وجل، أو في سعة العلم، أو في الخيرية التي فيه!
فأقول: أين العدل؟ وأين تقوى الله عز وجل؟ وأين مخافته؟ شارب الخمر عند الرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح، يشربها أكثر من مرة، فيسبه أحد الصحابة، فيقول له صلى الله عليه وسلم: {لا تكن عوناً للشيطان على أخيك، فوالذي نفسي بيده! ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ورأيت بعض الفضلاء يقول: أحسن المعتزلة في إدخالهم الملاحدة إلى الإسلام، ولكنهم أساءوا يوم أوقفوهم في الاعتزال وما أدخلوهم في مذهب أهل السنة.
لماذا لا يعترف بعضنا لبعض بما فيه من إيجابيات، وبما فيه من خير؟ لماذا بسبب أخطاء لا يخلو منها البشر؛ تطمس حسنات الرجل؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام: {إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث}.(297/12)
محاولة لمعالجة الخلاف في الأمة
خطاب مفتوح في نقاط لحملة السنة، ولطلبة العلم، وللصالحين، وللأخيار، وللذين يريدون الله والدار الآخرة، أقولها بشكل مسائل:(297/13)
ضرورة الاهتمام بالعدو الأكبر
أولاً: لماذا ننسى عدونا الأكبر ونختصم فيما بيننا؟ هل انتهينا من حرب النصرانية العالمية، واليهودية، والعلمانية، وهي تفرخ وتعشعش في عقر دارنا، هل وقفنا ضدها؟ أين أهل هذه الردود من الصولات والجولات التي تعرفونها من أولئك؟ أين أصواتهم؟ أين تكبيراتهم؟ أين كتبهم؟ أين محاضراتهم؟ أين أشرطتهم مع أناس تربوا في وكر الماسونية، وفي مخادع الماركسية، وعلى موائد العلمنة؟ فأين هم لا نراهم إلا على الدعاة وطلبة العلم في مسائل فرعية، أو في إشغال للأمة بجزئيات يجوز فيها الاختلاف؟!
هل هجر مالك الليث؟ أو هجر أحمد الشافعي لأنه خالفه؟ لقد اختلفوا في فروع، وصلى بعضهم وراء بعض، ودعا بعضهم لبعض، بل قال الإمام أحمد لـ ابن الشافعي: "أبوك من السبعة الذين أدعو لهم وقت السحر" فبالله كيف نحاكم هؤلاء الذين اشتغلوا بالصالحين، وطلبة العلم والعلماء، يلقطون عليهم كلمات محتملة عامة، مائعة أحياناً أو عائمة، ثم يأخذون منها نقداً ويضخمونها، ويبرزونها، ويوغرون صدور الجيل الناشئ الذين يريدون صفو الكتاب والسنة, كيف نحاكمهم؟
أقول لهم: أين أنتم عن الصولات والجولات، هل لكم كتب في الردود على هؤلاء؟ هل لكم محاضرات أو كتب ضد اليهودية والماسونية والعلمانية والماركسية أم لا؟!
أتى رجل إلى جعفر الصادق فاغتاب مسلماً عنده، فقال له: اسكت، هل قاتلت الروم؟ قال الرجل لا.
قال: هل قاتلت الفرس؟ قال: لا.
قال: هل قاتلت الترك -يوم كانوا مشركين-؟ قال: لا.
قال: يسلم منك الروم والترك وفارس ولا يسلم منك أخوك المسلم!!
سبحان الله! أين جهاد هؤلاء؟! أين المواقف المشهودة التي يقفها هؤلاء؟! والله! إن موقفاً واحداً لداعية أمام فروخ العلمنة الذين أتوا بالأفكار الغربية، يتكلمون بألسنتنا، ويشربون ماءنا، ويستنشقون هواءنا، وهم مشحونون بآراء كافرة ملحدة من الداخل, إن وقوف داعية أمامهم أحسن من مؤلفات هؤلاء ومئات أضعافها وأشرطتهم، بل أحسن ربما من كثير من دروس تشتت شمل الأمة وهذا قطعاً لا شك فيه.
لكني أقسم من باب:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب(297/14)
حرمة اتهام النيات
المسألة الثانية: لماذا نتهم النيات فيما بيننا؟
نسمع بعض الفضلاء يلقي محاضرات وما قصده إلا الخير، وإلا كيف يتصور أن ينهك نفسه من أجل الدعوة ومن أجل الحق، ويؤلف، ويحاضر، ويدرس، ويربي، ويعلم، ثم تأتي أنت من ورائه تستخرج وتنقب من كلامه وتقول: إنه يريد الإساءة للإسلام والمسلمين؟! ويريد الهدم لدين الله عز وجل؟! وإنه يريد الوقيعة بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؟!
فأقول: اتقوا الله، من يسمع كلامي هذا ومن يبلغه، وأقول لكم ولنفسي: لنتق الله جميعاً، فلا نتهم النيات، إذا كان للكلام محملان حسن وسيئ، نحمله على الحسن، لكن هؤلاء لا يحملونه إلا على السيئ، وإذا قلت لهم: إنه لا يريد هذا القصد، قال: أنت لا تعرفه نحن نعرفه، له تصرفات وله حركات ودلت عليه حيثيات، وعليه دلائل وبراهين ويجمعون كلامه، حتى إني سمعت شريطاً, أخذوا كل ما يمكن أن يحمل فيه على محمل أو عثرة مما يقارب خمسين شريطاً ووضعوه في شريطٍ واحد، فهل هذا عدل؟! وهل هذا إنصاف؟!(297/15)
احتمال وجود الحق عند المخالف
المسألة الثالثة: لماذا نحن ندعي لأنفسنا الصواب ولغيرنا الخطأ؟
بعض الناس نصب نفسه أنه من أهل السنة وغيره ليس من أهل السنة، فيحاكم الناس إلى نفسه وكتبه، ومحاضراته، ودروسه، حتى سمعت بعضهم يقول: وقد ذكرت ذلك في موطن من كتبي! وقد ذكرت هذا الفصل في أحد أشرطتي! وقد وضحته في بعض محاضراتي!
فكأن هذا العلامة شيخ الإسلام في هذا العصر وهو مرجع الأمة، وكأنه المرجعية الكبرى لـ أهل السنة، فيقول: أنتم ما راجعتم كتبي! وأنتم ما رأيتم ماذا قلت في المسألة! ولو راجع كلامي هذا ما أخطأ، لكن العيب فيه أنه ما راجع كلامي!
ومن أنت يا حجة الإسلام حتى نرجع إليك؟! أنت مثلي وأنا مثلك، والواجب إذا اختلفت أنا وأنت أو تنازعنا أن نرجع إلى الكتاب والسنة, لا أن نرجع إلى كلامك.(297/16)
ضرورة الانتباه لدوافع النقد
المسألة الرابعة: لماذا نتشهى بتبديع الناس وتضليلهم؟ فالكلام قد يحتمل الصحة, لماذا لا نجعل لأنفسنا فسحة ليتوب الله علينا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ويعفينا من أخطاء الناس ومن ذنوبهم، ولا نبدع, فنقول: نستغفر الله, يمكن أنه أراد غير ما قال؟ قالوا: لا، إذا لم تبدعه فأنت مبتدع.
وهذا يسمى: التركيب في الفتيا والتركيب في الأحكام، فمن لا يبدع المبتدع فهو مبتدع، ومن لا يكفر الكافر فهو كافر، وقد يكون الثاني صحيحاً عند بعض أهل العلم، لكن قصدي إن هؤلاء يسرع بعضهم في تبديع الناس.
حتى إنه كلما وجد محملاً لكلمة سارع إلى نقدها أو أخذها، فما أدري ما هي الدائرة الضيقة التي يتعامل من خلالها مع الناس ومع طلبة العلم والناشئة؟ وفي أي جو يستطيع أن يعيش هذا إذا أخذ محمل تبديع الناس وتضليلهم ولم يتلمس لهم أعذاراً ما دام أن لهم أعذاراً، وما دام أنهم لم يشهروا ببدعتهم أو يثبت عليهم ثابت؟(297/17)
ضرورة العودة إلى العلماء
القضية الخامسة: لماذا لا نعود إلى العلماء؟
ربما يوجد هناك ناشئة لا يرون للعلماء قدراً، حتى كبار العلماء, ويرون أن هؤلاء العلماء ليسوا أهلاً أن يعاد إليهم، وبعضهم صرح بما في نفسه، وهذا -والعياذ بالله- غواية من هؤلاء، وعلامة على أنهم لم يربوا تربية صحيحة، طالب في السادسة أو الخامسة عشرة من عمره يأتي إلى عالم في الثمانين أو أكبر، يحمل علم الكتاب والسنة، فينتقده، ولا يرضى قوله، ولا يعود إليه، ولا يسأله، ويقول: أنا أعرف بالواقع منه، وعندي خلفيات أخرى، والعالم هذا فيه أمور لكن لا أذكرها تورعاً.
يكفيك ذنباً أنك لم تسأل هذا العالم ولم تعد إليه، فإن طلبة العلم يعودون للعلماء، قال عمر في قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] قال: [[أنا من الذين يستنبطونه]] ويستنبطونه أي: يجيدون فقه الكتاب والسنة.(297/18)
ضرورة سعة الصدر وطول النفس لطالب العلم
القضية السادسة: أين سعة الصدر وطول النفس والحلم الذي نطالب به الناس في الخطب والمحاضرات والدروس، قال ابن مسعود: [[فقهاء إذا ما تكلموا]] أي: أنهم إذا كانوا على المنبر فهم فقهاء، لكن في حياتهم وواقعهم وتعاملهم، تجد الشراسة، حتى تجد بعضهم يهجر أخاه المسلم وهو يلتقي بأهل البدع، أو أحياناً بالكفار وهو مسالم معهم, حتى إذا قلت له: يا أخي! لماذا لا تشتغل بالرد على العلمانيين؟ قال: معنا أناس أخطر من العلمانيين، وقد قالوها صراحة، وتكلموا بها بوضوح، وهذا هو الخطر العظيم، والله عز وجل يرسل موسى إلى فرعون فيقول: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] ونحن بيننا مسلمون، مصلون، قائمون بأمر الله في الجملة، ومع ذلك لا يلين أحدنا كلامه لأخيه المسلم، فأين العدل والإنصاف؟ وأين سعة الصدر؟ وأين الحلم؟ وأين دائرة العلم الواسعة التي يمكن أن نتخاطب منها مع الناس حتى نوضح للناس منهج الله أو يوضحوا لنا هم منهج الله حتى نكون وإياهم على كلمة سواء؟
إنني أطالب نفسي وإخواني بالحلم، وعدم العجلة بإصدار الكلمات الفضة الغليظة التي تشتت الشمل، وتذهب البركة من هذا العلم، حتى تجد أحد الناس يطلب علم الحديث، لكنه وجه الجرح والتعديل إلى جرح واغتياب الناس، فإذا قلت: لا تغتاب هذا العالم، قال: هذا من باب الجرح والتعديل عند أهل السنة والجماعة، فيأكل لحوم الناس تحت هذه المظلة، وهذا محرم ولا يجوز له.(297/19)
ضرورة التماس العذر للمخالف
المسألة السابعة: لماذا لا يتلمس بعضنا لبعض العذر؟
فقد يكون وهم في المسألة، ولعله أراد كذا فأخطأ، لماذا لا نبدي أولاً حسن النية؟ يقول أحدهم لـ ابن السماك: غداً نتعاتب، قال: بل غداً نتغافر.
يقول: غداً أنا وإياك نلتقي ونتعاتب وأحاسبك، قال: لا.
غداً نتغافر, ألقاك فتقول: غفر الله لك، وأقول لك: غفر الله لك, هذا هو منطق الإيمان.
أيها الإخوة: لا بد أن نلتمس الأعذار للمسلمين من أهل السنة، الذين أخطئوا في مسائل، لأن الخطأ منهم هو ناشئ إما من الوهم، أو أن الدليل ما وصلهم، أو سبق لفظ، أو أرادوا شيئاً ما فهمناه، وكان اللازم أن نسألهم قبل أن نشهر بهم في الأشرطة والكتيبات ومن على المنابر، لماذا لا نقف معهم ونحاورهم كما فعل أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام؟
ذكر صاحب كنز العمال: "أن أبا سفيان بن حرب طرق الباب على علي بن أبي طالب في الليل، بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد أخذ أبو بكر الخلافة, وهو من بني تيم من أسرة صغيرة ضعيفة، وعلي بن أبي طالب من أسرة بني هاشم، ومنطق الجاهلية يرى أن الخلافة ليست إلا في علي؛ لأنه من أسرة كبرى، وأما أبو بكر فمن أسرة صغيرة.
فخرج علي سيد الشجعان في ظلام الليل وعليه إزار، قال أبو سفيان: يا علي! إن كنت تريد الخلافة، فو الله! لأملأن عليك المدينة خيلاً جرداً، وشباباً مرداً -يعني: مقاتلين- حتى يسلموا لك الخلافة بالقوة، فأخذ علي بتلابيب أبي سفيان وهزّه، وقال: [[يا أبا سفيان! إن المنافقين غششة، وإن المؤمنين نصحة]] إن الذي يسعى بالدس والغش بين الناس فيه نوع من النفاق، أما المسلم فناصح، ولذلك يقول الشافعي:
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
ونخشى -والعياذ بالله- من سوء النيات، لأن من يريد الرد على بعض الذين برزوا في العلم، والدعوة، والفكر، والرأي، والأثر الطيب، والبلاء الحسن؛ يريد أن يشتهر، وبعضهم يريد أن يتسلق على أكتاف العظماء، أو الفطناء أو الألباب حتى يظهر هو وبئس ما فعل! وبئس ما حصل عليه، ويا خسارتاه!(297/20)
ضرورة إعطاء المسائل الفرعية حجمها
المسألة الثامنة: نحن نتفق في مسائل الأصول التي أجمع عليها أهل العلم، فلماذا تعطى هذه المسائل الخلافية أكبر من حجمها؟ ما هو الخلاف الآن بين أهل السنة؟ أما آمنوا بالله واليوم الآخر؛ وأثبتوا والصفات؟ أما اعتقدوا ما اعتقد أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ما هو الخلاف الآن المزعوم والمفتعل، والحروب الهوائية المفتعلة والمختلقة، والمعارك الوهمية التي يحدثها بعض الناس؟!
وماذا يريدون من ورائها؟!
أنا أسألهم: ما هي النقاط التي اختلفنا فيها حتى نعود على بصيرة؟ ما تسمع منهم إلا عموميات وتعميماً للقضايا، وإدخال كلام بعضه في بعض، وهذا ظلم وحيف لا بد أن نحذر منه.(297/21)
الصدق في النصيحة
المسألة التاسعة: النصح.
النصيحة معناها: محبة الصواب للآخر، والفضيحة: التشهير بخطئه، وأنا إذا أردت أن أنصح أحداً من الناس، فمعناه: أني أحب أن يصيب الحق، ويقوم عليه، ولا أحب أن يستمر في خطئه، لكن إذا عرضت خطأه للناس وشهرت به، فمعنى ذلك أيها الفضلاء: أنني أريد أن يستمر في خطئه، وأريد أن أنتقم منه لأمور الله أعلم بها.(297/22)
الموازنة بين الحسنات والسيئات عند التقويم
المسألة العاشرة: نلغي حسنات من أخطأ وننسى ما فيه من خير، وقد أسلفت هذا كما قال الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] فأين حسنات الناس؟ وأين ما فيهم من خير؟ انظر الآن إلى أهل السنة إذا تكلموا عن رجل, مثل: الذهبي -أضرب لك مثلاً- ترجم لـ قتادة بن دعامة السدوسي , المحدث, راوية البخاري ومسلم في الصحيحين، فذكر ما فيه من بدعة القدر، فقال: وكان رأساً في الزهد العبادة، ورأساً في التفسير والحديث، هذا ولا ننسى بدعته، وكذلك لا نطرح من حفظه.
فالمسألة مسألة ميزان، أن توازن بين الخير والشر في الإنسان، وأن تكون شاهداً لله على نفسك أو على الأقربين، وهذه هي الشهادة الحقة التي سوف يسأل عليها العبد: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] وفي حديث يرويه ابن أبي خيثمة وفيه مقال أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لرجل وأشار إلى الشمس: {على مثلها فاشهد} فأين البينة؟: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ} [الأنعام:148] والله يقول: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
أيضاً لماذا يصر كل منا على أن رأيه صحيح، ورأي غيره خطأ، إن هذه كارثة، لأنه اعتقاد بعصمة كلامه وعمله، فهذه مهلكة من المهالك، قرأت في فتح الباري في كتاب الرقاق: أن رجلاً سأل عبد الله بن المبارك فقال: رأيت مسلماً قتل مسلماً، فقلت لنفسي: أنا خيرٌ منه، قال ابن المبارك: "أمنك على نفسك أشد من جريمة قتله للمسلم".
وفي الصحيح أيضاً: {أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من الذي يتألى علي؟! أشهدكم أني قد غفرت لهذا وأحبطت عمل هذا} أي: حبط عمل العابد لأنه أعجب برأيه.
فأنت تدعوني إلى رأيك وتزعم أنك أنت المصيب، وأنا المخطئ فإلى متى؟!
فلا بد لنا من أن نتحاكم وإياك إلى الدليل، ثم ترضى بما حكم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
أيضاً: احذر أن يكون هناك شيء من الحسد بين الأقران، فإن أهل السنة يقولون: كلام الأقران يطوى ولا يروى، ومرض المقارنة مرض مزمن، ومرض المعاصرة مرض قديم، ولذلك حصل كلام بين مالك رحمه الله مع ابن إسحاق , ومحمد بن مندة مع أبي نعيم، وابن جرير مع أبي داود، وغيرهم، فالحذر من أن يكون بين الأقران شيء من الحسد ثم يتحول إلى حرب افتعالية وانتقام وتشفي بالكلمات, حتى تجد ذنب هذا أنه برز، حتى يقول أحدهم:
إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوباً فقل لي كيف أعتذر
أي: إذا كان ذنبي عندك أنني برزت، وتكلمت ونفعت وأفدت فكيف أعتذر منها وهي محاسني؟
ويقول الآخر:
وشكوت من ظلم الوشاة ولم تجد ذا سؤدد إلا أصيب بحُسَّدِ
لا زلت يا صدق الكرام محسداً والتافه المسكين غير محَسَّدِ
أي: دائماً المرموقون محسَّدون، وأقول: لا بد أن ننزع الحسد وعداء الأقران من بيننا، ونتقي الله عز وجل، فإن الله تعالى قال في أوليائه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] وقال عنهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
{أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام عن رجل دخل عليه المسجد أنه يدخل الجنة ثلاث مرات, فتبعه ابن عمر ورأى عمله، فوجد عمله كعمل المسلمين، فسأله فقال: إنني لا أنام وفي قلبي غلٌ لأحد من المسلمين} وهذه قمة الأخلاق، وقمة الرقي والتقوى ومحاسبة النفس.(297/23)
الخلاف الشرعي لا يتحول إلى خلاف شخصي
المسألة الحادية عشرة: لا يجوز للخلاف أن يتحول إلى خلاف شخصي وعداوة.
فمثلاً: بعض الناس قد يختلف معك في مسألة ما: مثلاً: في تحريك الإصبع، أو مثلاً: في جلسة الاستراحة، فيترك جلسة الاستراحة وتحريك الإصبع ويصمد إليك، ويجرحك، ويتكلم فيك بما ليس من أدب الخلاف، فإن الخلاف إذا كان في مسألة ما فلا تنقلها وتجعلها خلافاً شخصياً وعدائياً, فالهجوم الشخصي هذا ليس بصحيح، حتى إن بعضهم يقول: وهذا الرجل شرس الخلق، حاد الطباع، بخيل, فيه كل عيب! فما علاقة هذا كله في المسألة المختلف فيها؟!
ولا نريد أن تعاد الواقعة التي حصلت بين الإمامين الجليلين السيوطي والسخاوي رحمهما الله تعالى حتى ألف السيوطي كتاباً اسمه: الكاوي لدمغ السخاوي وذاك يكتب كتاباً في الرد عليه, وتنتقل المسائل الخلافية الشرعية إلى شخصية، حتى إنه يقول في كتابه: وكان عاقاً لأمه، فتركها وهجرها، ولم يزرها في القاهرة! فما علاقة هذه المسألة في أمه؟! وهذا مثلما يفعله كثير من الناس -وأعوذ بالله وأسأل الله أن يعافيني وإياكم أن نكون منهم- يتركون مسألة الخلاف ويأتون إلى الهجوم الشخصي، والسلوكي, والهجوم في الطباع والصفات، ويتركون المسألة التي اختلف فيها.(297/24)
ضرورة توحيد الصفوف أمام العدو المشترك
المسألة الثانية عشرة: لماذا لا تبرز ردود أهل الحق في وحدة ائتلافية حتى نصمد أمام عدونا المشترك؟ ثم لماذا لا نأخذ قدم صدق ننصر بها دين الله عز وجل؟ وأنا أدعوكم إلى هذه القضية المهمة؛ لأن الحقوق تؤخذ ولا تعطى، وقد قال بعض الفضلاء في مثل كتاب المسار، وهو الصحيح: الآن أنت إذا تركت الباطل يمرغ الحق، ثم وقفت وتقول: ما أتيحت لي الفرصة، ومن يتيح لك الفرصة؟ أليس ربك، ثم جهدك وحرصك، وغيرتك.
فأنا أطالب بالمراغمة, أن تحضر أنت في الأندية، خاصة إذا كنت من أهل الفن -أعط السهم راميها- فتأخذ وتعطي مع هؤلاء، وإني أشكر أصحاب الفضيلة الذين راغموا كثيراً من دعاة الباطل، في بعض المواقف المشهورة المحمودة من أصحاب الفضيلة مثل: الدكتور سعيد بن زعير، وفضيلة الدكتور أحمد التويجري، والدكتور سعود الفنيسان، والشيخ عبد الوهاب الطريري، والدكتور ناصر رشيد، والدكتور الهويمل، وغيرهم كثير وكثير، أشكرهم على ما فعلوا؟
وهذا هو الجهاد، وأيهما أفضل؟ رجل يتنفل نافلة ويصلي في زاوية في المسجد, ورجل وقف هناك يراغم الأعداء ويقف ضدهم ويذب عن الشريعة، ويدافع عن محمد صلى الله عليه وسلم؟
إن هذا أعظم أجراً عند الله، وعسى الله أن ينفعهم بهذه المواقف المشهودة، فإنها مواقف أهل الإيمان الذين دافعوا الباطل, فلماذا أنت لا تدافع؟: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون:96] {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].
وفي الحديث الصحيح: {أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم سيفاً، فقال: من يأخذ هذا السيف؟ فامتدت أيادي الصحابة كلهم يريد أن يأخذ السيف، فقال صلى الله عليه وسلم: بحقه، فخمدت الأيدي ونزلت الأصابع، وبقيت يد أبي دجانة مرفوعة، قال: ما حقه يا رسول الله؟ قال: حقه أن تضرب به الكفار حتى ينحني، فأخرج عصابته الحمراء وعصب بها رأسه, وكانت تسمى عصابة الموت، وأخذ يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
ثم مضى متبختراً لمراغمة أهل الباطل، فقال صلى الله عليه وسلم: إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن}.
فلك أن تحضر، وتكثر سواد المؤمنين وتدخل في هذه الأندية بكتيبة إيمانية معك من شباب الدعوة، أهل الصلوات الخمس وهم في محفل وفي جمع كبير يكبرون ويهللون، فهذا هو نصر الإسلام، أحسن من أن تبقى ترد في بيتك على دعاة الإسلام وعلمائه، في نقاط اختلف فيها السلف، وكثر فيها الخلاف، وسوف يبقى الخلاف حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يضرنا أن يختلف فيها أهل العلم.
وبعض المسائل قد ذكر فيها الحافظ ابن حجر وغيره ثلاثة وأربعين قولاً، وما ضر ذلك أهل الأمة الإسلامية، ساعة الاستجابة في الجمعة في أي ساعة؟ قالوا: ثلاثة وأربعين قولاً.
جلود الميتة هل تستخدم أم لا؟ ثمانية أقوال، وهل توقف العالم الإسلامي ومسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم على جلود الميتة وساعة الاستجابة في الجمعة؟! قل القول الذي أدى إليه اجتهادك، لكنك لا تتتبع الصالحين في أقوالهم وفيما غلطوا فيه مما يسعهم الخلاف فيه.
أيضاً: لا يجوز أن نفرح بأخطاء المسلمين، فإن بعض الناس يتشفى بذلك، يريد أن يتعثر صاحبه ويخطيء، حتى إني سمعت: أن بعضهم خصص بعض طلبة العلم لجرد كثير من الأشرطة؛ ليسمع الأخطاء فيها ويسجلها في دفتر.
سبحان الله!! لماذا لا يشغل نفسه بما فيه صلاح له في الدنيا والآخرة؟ ولماذا لا يوفر على نفسه الجهد، ويرد على أعداء الله عز وجل، وإذا قلت له: اتجه نحو اليهود والنصارى والعلمنة، قال: أولئك أخطر من اليهود والنصارى والعلمنة: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام:46].
أيضاً: الواجب أن نسعى إلى وحدة الأمة، فإن هذه الأمة الإسلامية متحدة في الأصل، وكان مجتمعه صلى الله عليه وسلم هو المجتمع الأصل، وكذلك مجتمع بني أمية فيه مجتمع السنة على الأصل، ومجتمع بني العباس فيه المجتمع المثالي على الأصل، وكان الشذاذ هم الجهمية، والمعطلة، والخوارج، والقدرية، وهذه الطوائف المبتدعة, ولذلك لا يسمون الجماعة، وليسوا من أهل الجماعة، بل قال ابن مسعود: [[الجماعة من كان على الحق ولو كنت وحدك]].
وقيل لأحد الفضلاء: من هم الجماعة؟ قال: محمد بن أسلم المروزي جماعة، وبعضهم قيل له: من الجماعة؟ قال: الفضيل بن عياض هو الجماعة، فالجماعة ليست بكثرة السواد الأعظم, فإن الله تعالى يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] فالواجب علينا: أن نسعى إلى وحدة الشمل، ووحدة الكلمة، وإذا رددت على الباطل، أو بينت المنكر، أو رددت على أعداء الله عز وجل فإنك لست بذلك مثيراً للفتن، ولا شاقاً للصف، بل أنت تسعى لوحدة المسلمين الذي دعا إليها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, كما قال موصياً أولياءه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].(297/25)
احذر من كلام من لا يحسن الكلام
المسألة الثالثة عشرة: احذر من كلام من لا يحسن أن يتكلم، يقول بعض أهل السنة: إنما وقع الخلاف لأنه تكلم من لا يحسن الكلام، فالآن الفتوى أصبحت شذر مذر، وكل شيء له تخصص إلا هذه الشريعة، فقد أصبحت مرعى وحمى مفتوحاً لكل أحد، فتجدهم يقولون: يحق لكم أن تتكلموا في أصول الفقه، وأفتوا وشرعوا، وناقشوا أهل الفقه، وصححوا وضعفوا في الأحاديث! وإذا تكلمت في تخصصهم, قال: احترم التخصص!
أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس
إن الحداثة العلمية لا تبرر لصاحبها أن يناطح العظماء، والأشاوس الذين تمكنوا في العلم الشرعي، حتى يقول جرير:
وابن اللبون إذا ما لز في قرنٍ لم يستطع صولة البزل القناعيس
فهؤلاء أعجبتهم أنفسهم فتكلموا وهرفوا بما يعرفون وما لا يعرفون، وردوا على الكبار وعلى الصغار، فنسأل الله أن يحسن الحال، وأن يجمع الكلمة، وأن يزيل الأمراض منا جميعاً.(297/26)
ضرورة القول السديد في الرد على المخالف
المسألة الرابعة عشرة: إن علينا أن نتقي الله في الألفاظ عند الردود والكتابة، فإن الحكام والمحدثين وقفوا على شفير جهنم، فهؤلاء في الدماء وأولئك في الأقوال، فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] والقول السديد: هو الحكم الحق، والقول الذي لا يلحقك من الله عز وجل عليه تبعة، وإن الكتابة التي يكتبها صاحبها بدون بينة ولا برهان، أو يكتبها لانتقام أو تشفٍ هي من القول غير السديد الذي يحاسب عليه.
والقول السديد: هو الحق والصواب، وقيل: القول السديد: هو قال الله وقال رسوله، وقال بعض المفسرين: القول السديد: لا إله إلا الله، وهي أم القول السديد، ولكن كل ما يندرج تحت لا إله إلا الله هو القول السديد، ولا تصح الأعمال إلا بإصلاح الأقوال، حتى إنك تجد أن من يتشفى بأغلاط الناس ويتتبعها, يشهر به الله عز وجل.
تجد بعض العلماء الذين نكتوا على بعض العلماء ولاحقوهم وسخروا منهم، ألحق بهم الله من يسخر منهم, حتى قالوا في ترجمتهم: وكان الجزاء من جنس العلم.
وأضرب مثلاً -على أني أسأل الله أن يغفر له وأن يجمعنا به في دار الكرامة، لكن هذا مجرد مثل- الإمام ابن حزم على ذكائه وقدرته وعبقريته، لكنه يسمى منجنيق المغرب، كان يرمي كل أحد، ولا يهاب أحداً، حتى العلماء الكبار والصغار، وليس عنده إلا سور الصحابة، فقد وقف عند سور الصحابة ولم يتجاوزه لكن كبار أهل المذاهب والعلماء، وكبار المحدثين ما سلم منه إلا القليل رحمه الله, فماذا كان الجزاء؟ هو نالهم باللسان فنالوه بالأيدي، أخذوه المالكية، فحرقوا كتبه في البادية وضربوه وشردوه عن أوطانه، ثم ردوا عليه الردود, فكان الجزاء من جنس العمل.
لكن من يحترم الأعراض -أعراض المسلمين- ومن يداري عنهم بالكلمات يحمي الله عرضه، وأضرب مثلاً بسيطاً ولا أريد به محاباة ولا مجاملة، ولكن أحتسبه عند الله عز وجل، عالم الأمة سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز , انظر كيف وقرت الألسن جلالته وسماحته، وتحامت الأقلام أن تناله، لأنه في مكانه لا ينال أحداً ويريد الإصلاح، وجمع الشمل، ويدفع الأمور بالتي هي أحسن، فجازاه الله عز وجل بأن نشر له الثناء الحسن، والقبول الحسن، فتجد حتى فسقة الناس يحمون جنابه، ويقدرونه، ولسان حالهم يقول: من تقمص قميصاً ألبسه الله ذاك القميص، وبعضهم يقول: من تطوق برداء طوقه الله بردائه، فالجزاء من جنس العمل.
فتجد الذين يحرصون على الردود والتشهير والمخالفة تسرع إليهم السهام من كل جهة، لأن الله سبحانه وتعالى يحاسبهم بما فعلوه: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام:115] صدقاً في الأقوال، وعدلاً في الأحكام.
أيها الإخوة: نحن الآن لسنا في جزيرة نائية منقطعة عن العالم, بل أصبحنا نعيش في أتون العالم، وأصبحنا في كون ممتلئ بالشرور والأفكار المخالفة الكافرة والأطروحات الملحدة، وأصبح علينا لزاماً أن نجتمع جميعاً وننجو بأنفسنا، وإلا فإن المد الكافر سوف يلحقنا، ونحن نختصم فيما بيننا في جدل عقيم بيزنطي لا ينفعنا في الدنيا ولا في الآخرة.
أنا أدعو الأقلام التي ضيعت أوقاتها، وضيعت مدادها في الرد على أولياء الله؛ أن ترد على أعداء الله، وأنا أدعو أصحاب الأصوات التي شحبت وهم يتكلمون على إخوانهم؛ أن يتقوا الله في إخوانهم، وأن يتوجهوا لهؤلاء الذين انحرفوا عن منهج الله سبحانه وتعالى.
أيضاً: أنا أعتبر أن من يشغل إخوانه عن جهاد الكفرة، وجهاد هؤلاء الأحزاب الضالة بأنه مثبط، وفيه نفاق، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قال عن المنافقين والملحدين ومن على شاكلتهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء:50] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء:52].
فأسأل الله عز وجل أن يحفظنا وإياكم وأن يجمع شملنا على الحق.(297/27)
كيفية جمع شمل أفراد الصحوة
وجمع الشمل ألخصه في مسائل:
الأمر الأول: أن نتفقه في علم الكتاب والسنة ونتبحر في العلم الشرعي بحسب الطاقة والمستطاع.
الثاني: أن نعود إلى العلماء.
الثالث: أن يدعو بعضنا لبعض، إن كنا نريد الله والدار الآخرة.
الرابع: أن تكون أمورنا أو مسائلنا فيما بيننا، إلا رجلاً أصر على بدعة أو استحوذ عليه نفاق داخلي، أو انغمس في كفر -والعياذ بالله- فلنا منه موقف آخر.
أما الطائفة الثانية المنحرفة المنحلة عن منهج الله والتي شهرت السلاح، وسجلها معروف، وملفاتها معروفة، فلها موقف آخر:
لبث قليلاً يشهد الهيجا جمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل
أيها الإخوة: ما بقي من وقت فللأسئلة وأسأل الله أن يحفظنا وإياكم وأن يؤيدنا وإياكم بكلمته، وأن يرعانا وإياكم برعايته، وأن يجمع أمر المسلمين، وأن يصلح ولاة الأمر، وأن يهديهم سواء السبيل، وأن يخرجهم من الظلمات إلى النور.(297/28)
الأسئلة(297/29)
تعليق على الأحداث في الجزائر
السؤال
وردت أسئلة كثيرة تطلب الحديث الشافي في أحداث الجزائر، هذا السؤال خلاصة أسئلة كثيرة تواردت إلى الشيخ حفظه الله؟
الجواب
الحمد لله, الجزائر وأحداثها:
دم الثوار تعرفه فرنسا وتعلم أنه صدق وحق
وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق
الجزائر حديثها وأحداثها طويلة، ولكن حق على أهل العلم والدعوة، أو من يحمل ميثاقاً أن يبين، وألا يخشى في الله لومة لائم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] وأحب أن أعرض المشكلة في الجزائر في مسائل:
أولها: المسلمون والدعاة والعلماء الذين يقومون بالدعوة إلى الله اليوم في الجزائر هم من أهل السنة والجماعة، من مدرسة الإمام عبد الحميد بن باديس التي تلقت مشربها من مدرسة الإمام أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم , والشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولا نأخذ أخبارنا من وسائل أخرى فقد غسلنا أيدينا منها، بل نأخذ أخبارنا من أهل العلم، من الثقاة، والدعاة، ومن كتبهم الذي ألفت ومن أشرطتهم.
الثاني: لماذا ضحى الجزائريون بمليون من شهدائهم وأكثر؟! ألتترأس هذه الأنظمة العلمانية الأمة؟! ألتقودها إلى النار؟! ألتؤسس الجريمة في الأرض؟! ما الفرق بين فرنسا وبين عملائها الموجودين الآن؟ فلماذا إذاً قاتلوا؟ ولماذا دفعوا دماءهم؟
ثمن المجد دمٌ جدنا به فاسألوا كيف دفعنا الثمنا
الثالثة: لماذا ألغيت الانتخابات؟
أناس يزعمون أنهم هم أهل الديمقراطية، ويتبجحون بها، ديمقراطية ولكن عند المسلمين والدعاة: لا، وقام المشرق والمغرب تحت مظلة: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وكما قال الشيخ عبد الوهاب الناصر: الديمقراطية سلم رسمت درجاته بحيث لا يصعدها إلا هؤلاء المتهالكون من الماركسيين والشيوعيين، ولا يستطيع الإسلاميون والمسلمون الصعود إليها.
وهذا هو الواقع, ديمقراطية لكن إذا وصل الإسلام, قالوا: لا.
الأمر الرابع: لقد أثبتت الأحداث في الجزائر والتصويت بأغلبية ساحقة أن الشعوب تريد الإسلام، وقد ملت الكذب على الله وعلى كتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وعلى المؤمنين، وقد نفرت كل النفرة من هذه الزمرة التي جوعتها وآذتها، وصادرت حريتها وكرامتها، وتعبدتها لنفسها، وفصلت بينها وبين خالقها وربها.
ولو أجري تصويت في العالم الإسلامي لكان تسعون في المائة من هذه الشعوب تريد حكم الله، نظرت فيلماً للجزائر لمسيرة جبهة الإنقاذ , هل رأيت البحر إذا اشتد موجه؟ هل رأيت السيل إذا تدافع؟ هم أقوى وأدهى، تصور في بعض المسيرات سبعمائة ألف امرأة محجبة مسلمة، يخرجن في مسيرة بعد صلاة الجمعة يردن الحجاب، أليس هذا هو الواقع الذي فرض نفسه عن أمة تريد الله والدار الآخرة؟ بلى.
ثم أسأل سؤالاً في أحداث الجزائر , يقولون: إن قصدهم بالدين التستر، يعني: أن الجزائريين وأمثالهم يتسترون بالدين ولا تقع المقارع أصلاً إلا في رءوس المسلمين، وأصلاً لا يتهم إلا الإسلاميون، ولا يسجن ولا يعذب ولا يشنق إلا هم، فيتسترون بالإسلام.
وأصلاً غطاء الدين مكشوف في العالم، وهو متهم، ولو وقعت قذيفة من كافر ما وقعت إلا في صدر مسلم.
ثم ما هي المكاسب المادية والدنيوية التي يحصل عليها من يتقلد الدين؟
إنه لا يعين في البلاد الإسلامية إلا في أرخص الوظائف، ولا يتاح له تحريك القرار، ولا الصدارة، ولا مكانة تشريف، وإنما يبقى بكسرة خبز وبهندامه، وبجوعه, وفقره، وبدمعه في جفونه يحمل لا إله إلا الله، وهم المستضعفون في الأرض.
ولذلك جاء عليه الصلاة والسلام للمستضعفين، وأحبه المستضعفون، وعشق دعوته بلال، وعمار، وسلمان، وذهبوا في كتيبته، يقول هرقل: أشرفاء الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قال: ضعفاؤهم، قال: أولئك أتباع الرسل.
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
أيضاً أقول: لا يحزنكم ما يقع من أحداث سيرها الله وأرادها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فالله غالب على أمره، وله حكم تخفى علينا، يمكن أن الأمة ما نضجت إلى الآن، وما استحقت أن تتقلد حكم الله في الأرض، فأراد ربك أن يؤدبها ويحاسبها، وأن يرفع منزلتها، ويلقنها دروساً.
أيضاً: لسنا بأغير من الله عز وجل على عباده، فله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الحكمة المطلقة، وهو الغيور سبحانه، أغير من رسوله على الأمة الإسلامية، ورسوله أغير من الصالحين عليها.
أيضاً: أقول وأختم هذا الكلام: الإسلام هو الآن الحل الحضاري البديل في الساحة، فقد انهارت كل المزاعم الباطلة والكاذبة، وأخرج الله اللعنات على وجوه أصحابها، وأحرقت، وبقي الإسلام: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] فالآن المهندسون الذين كانوا يسيرون الذرة تحت الأرض في مناجم في أذربيجان وجورجيا خرجوا بلحاهم المحمدية السنية، ويقولون: لا إله إلا الله، كانوا في سور حديدي يضربون بالمقارع، ويعاملون كما تعامل الدواب، ومع ذلك أدخل الله الإيمان في قلوبهم، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {والذي نفسي بيده! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه} والحديث طويل وطويل، وأختمه بأن أقول: أين الولاء؟: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71].
وأما المنافقون فهم كالبهائم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] أجزاء مترابطة، أما الولاية والشعار والحب فللمؤمنين.(297/30)
آخر قصيدة للشيخ عائض
السؤال
مجموعة من الأسئلة تطلب آخر القصائد التي قلتها، وترجو أن تتحفنا بها الليلة؟
الجواب
على كل حال هذه آخر القصائد وهي بنت اليوم أو أمس، وسمها ما شئت, هي سهام من سهام الحق, إما شعراً منثوراً أو نثراً مشعوراً، أو حراً أو عبداً إنما: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] عنوانها: "تباركت يا ذا الجلال":
تباركت يا ذا الجلال
وربك ذو السلطة القاهرة قلوب من الحب ينسجها
محمد في بردة طاهرة
ويغمسها في سناه
رؤاه بها بل علاه
تعيش برياه في آصره
تباركت صوت الرعاة
وهمس السواني حداء الجلال
لك الحمد دنيا وفي آخرة
تباركت ترسل دمع المحب على وجنته
لك الحب صفواً أردت لنا يا إله
جنىً ما درى قاطفوه بأن لنا
في جنادريتنا قصة الأذكياء
عباقرة نحن ننتج غرباً
ودلواً من الجلد في معمل الكيمياء
بعيراً نسيره للأنام
كمركبة في الفضاء
تراث من الجيل
والخزف النائم في غرف الأقوياء
نحفظ أنشودة البدو سكان روما
ونسأل أصحابنا في جنيف
ألم تجدوا الناقة الحائرة؟
فلا بدر لا زمزم لا أبو بكر
نعرضه في القديم
لأن التراث جديدٌ
ونحن نحب الجديد
سوى الدلو والغرب والجرة العامرة
صواريخنا أرض جو من الرقصات
على ضربات الزير في الهاجرة
نسينا مع العرض صوت بلال
وجبة سعد
ودرة فاروقنا الظافرة
سنخبر كل العوالم أن لنا
من المجد كبرى المشاة مع قاطرة
قديم هو القيروان مع بيت لحم
مع الأزهر الراقد في القاهرة
فلا تدخلوا في النوادي
مالك والشافعي
فقد حُنِّط القوم في الحافرة
وصلى الله على محمد.(297/31)
كلمة للشيخ/ سعيد بن زعير عن الحوار مع العلمانية
إن بقي من الوقت فأنا أستميح فضيلة الشيخ/ عبد الوهاب الطريري ليتحفنا الشيخ الجليل والأديب والمفكر الدكتور سعيد بن زعير ليكمل ما بقي من وقت ولا نريد أن يطيل: {من صلى بالناس فليخفف}.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لولا أني أحرجت من الشيخ عائض قبل هذه المرة حيث طلب مني مثل هذا الطلب ورفضت، ووعدته ألا أرفض مرة أخرى لفعلت، وفي الحقيقة أن ما سمعنا من فضيلة الشيخ لا تعليق عليه، ولا حاجة في الواقع للتعليق لحسن الإعداد ولحسن العرض، ولكن كنت أسجل لنفسي نقاطاً من حديثه, كانت مدار صراع وحوار خلال الأسبوع الماضي في عدد من الندوات الثقافية التي كانت في مهرجان الجنادرية.
ووجدت تقارباً في القضايا التي عرضت مع اختلاف في منهج العرض وفي النتائج، وأعلق قليلاً على بعض ما سمعت هنا وما سمعت هناك.
من الأشياء التي عرضت وتكاد تكون محل إجماع في معظم منتديات العرب والمسلمين اليوم: أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم في واقعها الحضاري اليوم، تكاد تكون في آخر الركب، وهي أمة متخلفة: سياستها ليست على الهدى، واقتصادها بعيد عن منهج الله، وتربية أبنائها ضعيفة، وإعلامها غير راشد، وإنتاجها في معظم شئون الدنيا هزيل ضعيف، تعيش على موائد غيرها.
هذه حقيقة ينبغي أن نعترف بها, وهي محل إجماع من أبناء العرب والمسلمين المهتدين والضالين، فهذه حقيقة لا نختلف فيها.
فهذا التخلف الذي هو محل إجماع, يتحدث الكثيرون كيف ننعتق منه؟ وكيف تنهض الأمة؟ وفي قضية نهضة الأمة تختلف الأطروحات، وليست هذه قضية جديدة، الطرح مبكر، وهذا الطرح المبكر المتعدد، جعل في تراث النهضة في بلاد العرب والمسلمين أشكالاً من التصورات، وما تعرفون من الحزبية القائمة في بلاد العرب والمسلمين ومبررها التي نشأت عليه: أن كل صاحب فكرة يدعي لنفسه أنه الذي سينهض بالأمة من خلال تصوره ومن خلال حزبه، فامتلأت المكتبات بهذه الأطورحات المتفاوتة.
وفي العصر القريب وفي الأيام القريبة، والأسابيع القريبة، والأشهر القريبة، طرح ما يسمى بالحوار، الحوار بين من؟ بين أصحاب هذه التصورات في النهضة بالأمة، الذين يقولون: إن الإسلام هو الحل، والذين يقولون: إن أحزابهم وحكوماتهم هي الحل، والذين يقولون: لا حل إلا أن نقلد الذين نهضوا من الغرب وننهج نهجهم, والذين يقولون: نلفق من كل مكان ونطرح أشكالاً متنوعة، الحدث هو الحوار, نسمعه في الإذاعات، ونقرؤه في الصحافة، ونسمعه في المنتديات، لماذا لا نتحاور؟ لماذا لا يكون بيننا حوار؟
والشيخ طرح جانباً من الحوار وهو الحوار بين المهتدين، بين علماء الأمة، وفقهائها، والملتزمين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما ينبغي فيه من أدب في الاختلاف، وهذا أيضاً موضوع قديم، بل ألف فيه ومن ذلك: رفع الملام عن الأئمة الأعلام كتاب لـ ابن تيمية ذكر فيه التعدد ووجهات النظر، وأن هذا أمر فيه سعة.
ولكن الحوار القائم الآن في منتديات العرب والمسلمين، هو حوار بين الحق والباطل، حوار بين العلمانية بفصائلها وبين -مع الأسف الشديد المؤلم- الإسلاميين بفصائلهم أو تجمعاتهم أو أشكالهم.
إنها قضية كبرى, وأتصور أنها أكبر ما يعرض الآن في الساحة، الحوار بين العلمانية وبين الإسلام، في الشهرين الماضيين عقد منتدىً كبير -في أكبر بلاد العرب عدداً- بين العلمانية والإسلام.
وقبلها بسنتين أيضاً عقد حوار بين العلمانية والإسلام، وانتقلت تلك الصراعات إلى كل الصحافة العربية تقريباً، وإلى المهرجانات العربية، يطرح أمر الحوار وأدبه، الخلل يراد أن يكون بين العلماء المسلمين, والأدب والضوابط والقيم في الخلاف إنما يراد لها أن تكون بين المسلمين والكافرين, فيقولون: لماذا لا تتعدد الآراء؟ لماذا لا نقبل بالرأي الآخر؟ لماذا لا يعرض الرأي الآخر؟ لماذا تكرهون الناس على آرائكم؟ وهذا الكلام يقال ما دمنا في دائرة الإسلام، أما وأن الحوار بين الإسلام والكفر، فأي تنازل، إن الحوار مع الكفر نوع آخر خارج دائرة التعدد في الآراء، خارج دائرة.
{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] إذا كان خارجاً هناك: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].
القضية الخطيرة في الحوار: على ماذا نتحاور؟ حتى إن هذا المبدأ يكاد يكون محل تسليم عند الكثيرين من الناس، أو على الأقل نسبة كبيرة من كتابنا يسلمون به، هذا المبدأ يقولون: إن تلاقح الآراء، والأفكار، وصراع الأفكار يخرج من خلاله الحق، هذه تكاد تكون مسلمة، وهي جزء من النظرية الشيوعية، التي قامت على الجهل, وأصلاً لا علم عندهم لأنهم مقطوعي الصلة بالله، ويقولون: إن الحقائق تأتي من الصراع، تتصارع الآراء ومن الصراع تخرج الحقيقة, وهذه تطرح بيننا المسلمين، يقولون: إن الصراع بين الأفكار يثمر الحقيقة وتظهر الحقيقة من خلاله، وهذه ليست من بضاعتنا، بل هي بضاعة أولئك الذين لا يعرفون الحقيقة، أما نحن فإن الحقيقة عندنا، إن عرفناها وإن لم نعرفها، إذا كنا لا نعرف الحقيقة فليس الطريق في معرفتها الصراع، وإنما بالبحث العلمي، بفهم القرآن والسنة، وفهم مشكلات الناس وتنزيل الحكم عليها، وإذا كانت عندنا قضايا لا نعرف الحق فيها، فهل نتصارع حتى نعرف الحق أو نعود إلى كلام الله وكلام رسوله، ونبحث في آيات الله، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ثم كيف يطرح الحوار؛ ليأتي مثقف، أو مفكر، أو أديب، أو شاعر، أو موسيقي، ليأتي من كل الثقافات ويتصارعون ويقولون: إن هذا الصراع هو الذي يأتي بالحق، أعوذ بالله من هذا الكلام.
إن هذا -والله- لا يأتي بالحق، بل هذا يأتي بالفرقة والشتات، والبعد عن الحق.
إن الحق: هو العودة إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ممن يعرفون الكتاب والسنة، من علماء الأمة، أما هؤلاء الرعاع ممن يسمون بمثقفين، وثقافتهم أتدرون ما هي؟ موسيقي, كاتب شعر, ناقد، كاتب نثر, دنيوي, طبال, زمار, فنان في الرقص! هؤلاء هم مثقفون والفنانون التشكيليون, يجتمعون ويقولون: نتحاور لنصل إلى الحقيقة، حقيقة من؟ أحقيقة الشيوعيين؟! هم يتصارعون لأنه لا يوجد حق عندهم، وإنما يعرفون الحق بكثرة الأصوات.
أما نحن في الحق حتى لو لم نعرفه فإننا نعود إليه ونبحث عنه في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
نقطة أخرى وهي من أخطر النقاط التي تطرح في مسألة الحوار:
إذا قيل لهم: لا حوار بيننا ولا نريده, لأن الحوار لا يأتي بالحقيقة، قالوا: لماذا؟ ألستم أصحاب الحق, والإسلام قوي؟ فلماذا لا تحاورون؟
لنقل جدلاً: سوف نحاور، نسأل سؤالاً: لِمَ الحوار؟ يقول: للوصول إلى الحقيقة، فنسأله سؤالاً آخر: وماذا تريد بالحقيقة؟ يقول: لنعمل بها.
كلام منطقي، أنت تحاور للوصول إلى الحقيقة، فإذا حاورت ووصلت إلى الحقيقة عملت بها، نريد أن نختبر مصداقية هذا التسلسل، ونريد أن نجرب صدقك في هذا.
فنقول له: قبل البحث إن عندنا حقائق قطعية الثبوت والدلالة، هل تلتزم بها؟ هاه! يسأل نفسه.
الذين يطرحون الحوار اليوم من المثقفين العرب والمسلمين على الساحة العربية نقف قبل الحوار معهم، ونقول: إن الحوار الذي تقولون: إنه وسيلة للوصول إلى الحقيقة, لو سلمنا به جدلاً فنقول: لماذا لا تعملون بالحقائق البينة الآن؟
النصوص القطعية الثابتة لماذا لا تعملون بها؟ هل عندكم شك في أن الشرع لازم التطبيق؟ هل عندكم شك في أن الربا حرام؟ هل عندكم شك في أن الحدود ملزمة؟
إن هؤلاء العلمانيون الذين يحكمون في كثير من بلاد المسلمين يريدون الحوار للوصول إلى الحقيقة، وعندهم أكبر الحقائق ثباتاً في الدين يرفضونها.
إذاً هم يقولون: الحوار للوصول إلى الحقائق, وهذا كذب، لو كانوا يريدون الحق للعمل به لعملوا بالموجود، ثم يعملوا بالذي لم يوجد ولكنهم ينكشفون، فإذاً حوارهم هذا وصراعهم لإلهاء الأمة بحوارٍ غير منضبط.
ثم نقطة ثالثة وأخيرة: لو فرضنا أننا نتحاور, في أي شيء نتحاور؟ نتحاور في الأمور غير الواضحة؟ يقولون: نعم.
إن الأمور الثابتة لا تحتاج إلى حوار، نحن نتحاور في الأمور التي تتغير أو المتغيرات، نسأل: ما هي الثوابت وما هي المتغيرات؟ وما هي الأمور الثابتة؟ يقولون: الثوابت هي ما ثبت في القرآن والسنة، وعندما يحاورون يبدءون في إعادة النظر في الثوابت, فتراهم يشككون في الآيات والأحاديث، ويشككون في الأدلة القطعية.
إنهم يحاورون لإلهاء الأمة ولتشكيكها، وقد حصل لهم كثير من ذلك، أنه يعرض من خلال الندوات، ومن خلال ما يكتب في الصحافة، يعرض غثاء من الضلال الذي شكك الناس في دينهم، وشكك من لم يعرفوا الحق من شباب الأمة، ممن هم في سن التعليم، وممن هم في سنن التقويم، وشككوا بهذا الحوار.
إذاً الحوار ليس للوصول إلى الحقائق، وإنما لتشكيك شباب الإسلام في الحقائق، وذلك مقصد أعداء الدين، وقد حققوه في غفلة من السذج من المسلمين، أو في حضور أعداء الدين، وأعداء الأمة وتنفذهم في وسائل الإعلام، أو في وسائل التثقيف العامة.
إن هذا القضايا التي تعرض ينبغي أن نعيها ونفهمها وأن نراغم أعداءها.
وبعض المحاورين، والمداخلين، والمتحدثين لا يلتزمون بشيء من ثوابت هذا الدين، بل يناقشون في كل شيء، بل يناقشون في الأمور المستقرة عندنا من أمر الدين، وأمر النظام السياسي الذي استقر، ويرفضون ما نحن عليه من نظام سياسي واجتماعي, كل ما عندنا يكاد أن يكون مرفوضاً، وكأنهم -بما يسمونه الصراع- يريدون أن يهدموا كل ما عندنا، ثم يؤسسوا على أنقاضنا شراً وباطلاً مما يأتون به.
لكن العقول لا تعي، وإلا فهذه الأطروحات العلمانية بكل فصائلها في العالم العربي الإسلامي هي ساقطة الآن، بل إن الذي أسست عليه ساقط.
نسأل الله أن ينور بصائرنا، وأن يرزقنا العمل النافع، وأن يفقهنا في الدين، وأن يثبتنا على الحق، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(297/32)
آداب النصيحة في الإسلام
لقد بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك لأمر عظيم وهو عبادته سبحانه، ومعلوم أن البشر يخطئون ويصيبون، وقد يحصل منهم التقصير والسهو والغفلة، فما هو السبيل إلى سد هذه الثغرة؟ إن السبيل هو النصيحة والتناصح بيننا.
وفي هذه المادة بيان لهدي السلف في النصيحة، وذكر آدابها.(298/1)
هدي السلف في النصيحة
الحمد لله رب العالمين، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة بحكمة، وأدى الأمانة برفق، ونصح الأمة بإخلاص، ومضى إلى الله عز وجل وقد هدى الله به قلوباً، وفتح به عيوناً، وأنار به أفئدة، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد:
فأشكركم -أيها الطيبون- وأشكر من جمعني بالأخيار، وعلى رأسهم من كان له هذا الفضل في هذا اللقاء بعد الله، فضيلة الشيخ جابر بن محمد المدخلي، الأمين العام للتوعية الإسلامية، وعنوان هذه المحاضرة: أدب النصيحة في الإسلام.
أيها الشاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلا
أترى الشوك في الورود وتعمى أن ترى فوقه الندى إكليلا
والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلا
أنت فينا النصوح فارفق جزاك الله خيراً فالرفق أهدى سبيلا
-النصيحة في الكتاب والسنة.
-هدي السلف في النصيحة.
-آداب النصيحة.
-الإخلاص.
-اللين.
-العمل بما يقول.
-الصبر على الأذى.
-إنزال الناس منازلهم في النصيحة.
-الإسرار بالنصيحة.
لا إله إلا الله، ما أعظم منة الله على البشرية بمحمد عليه الصلاة والسلام! بعث إليهم رحيماً رفيقاً هادياً مهدياً، ما ترك خيراً إلا دلهم عليه، ولا ترك شراً إلا حذرهم منه، كان والله أرحم من الوالدة بولدها يوم هدى الناس، ولذلك مجده الله من فوق سبع سماوات فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] عظيم خلقك، وعظيم حلمك، وعظيم برك، وعظيم صبرك، أتيت إلى أمة عربية جوفاء، ضالة ضائعة، تسجد للوثن، تزني، تخون، تغش، تشرب الخمر، الواحد منهم يرفع سيفه فيذبح أخاه كذبح الشاة، فأتى إليهم فترفق بقلوبهم قال الله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فدخل إلى قلوبهم بالبسمة الحانية، بالعناق، بالبشاشة، بالكلمة الطيبة، حتى قال الله له ولدعوته: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
فجمع الله له القلوب، قال جرير بن عبد الله البجلي سيد بجيلة وهذا الحديث صحيح: [[ما رآني عليه الصلاة والسلام إلا تبسم في وجهي]] مع معنى ذلك؟ بسمة تشتري بها قلبه، بسمة تأسر بها روحه، بسمة تكسب بها شخصه، بسمة تهتدي بها أمة، فكان عليه الصلاة والسلام يشتري بالبسمات قلوباً.
جرير سيد من سادات قومه، ومكث عليه الصلاة والسلام يتألفه بالبسمة اليوم بعد اليوم، بالكلمة الحانية، حتى هداه الله إلى الإسلام فأصبح سيداً من السادات.
يقول جرير بن عبد الله، والحديث في الصحيحين: {بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فاشترط علي والنصح لكل مسلم.
فيقول جرير: والله الذي لا إله إلا هو، إني لكم لناصح} ذكر ابن حجر في الفتح، أن جريراً كان ناصحاً لعباد الله، اشترى فرساً بأربعمائة درهم، فقال لصاحب الفرس: بكم بعته؟ قال: بأربعمائة درهم، قال: أتريد أن تكون خمساً، قال: نعم، قال: وستاً، قال: نعم.
قال: وسبعاً، قال: نعم.
قال: وثمانياً، قال: نعم.
قال: خذ ثمان مائة فإني بايعت رسول الله عليه الصلاة والسلام على النصح لكل مسلم.(298/2)
التناصح من منهج أهل السنة
وأهل السنة يتناصحون، ويتراحمون، أهل السنة ينصح بعضهم بعضاً بدافع الشفقة، والرحمة، والود، والحب، ولذلك قال الله في أوليائه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] أما أهل البدعة فيتفاضحون، أما أهل الانحراف فيشتم بعضهم بعضاً تشهير، وسب، وإعلان، ودعاية، وتضخيم للأخطاء، قال الله في المنافقين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة:67] يقول صالح عليه السلام: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79] وقال هود عليه السلام: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68] فالناصح لابد أن يشفق على المنصوح، ولا بد أن يعرف حال المنصوح، ولابد أن يقدم النصيحة في قالب من الحب والود.
أرأيت منهج محمد صلى الله صلى الله عليه وسلم الذي شق العالم في خمس وعشرين سنة، جلس مع قبائل متحاربة متضادة، كما قال بعض المفكرين: نحن العرب كقرون الثوم، إذا كشفت قرناً ظهر لك قرون.
فلولا أن هذا المصطفى عليه الصلاة والسلام، أتانا بدعوة ربانية، وبخلق حسن، والله ما لانت له قلوبنا, قال الله فيه وفي دعوته: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] أهل السنة لا يسكتون عن المنكر، قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورفع منزلته: ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر بلا منكر، ما أحسن هذه الكلمة!
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن النصيحة علامة النفاق، قال الله سبحانه في بني إسرائيل: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] وقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة قال الراوي: قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم}.
قال أهل العلم: النصيحة لله بامتثال أمره واجتناب نهيه تبارك وتعالى.
والنصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم بتجريد المتابعة له، بأن تجعله إماماً لك.
والنصيحة لكتابه أن تقرأه، وتتدبره، وتعمل به، والنصيحة لأئمة المسلمين؛ ألا تشق عصى طاعة عليهم ما أطاعوا الله، وألا تفضحهم على رءوس الناس ما لم يظهروا كفراً بواحاً، وأن تصلي وراءهم، وأن تجاهد تحت رايتهم ما لم تر كفراً بواحاً عندك من الله فيه برهان، وأن تجمع الكلمة لهم، وأن تدعو لهم في ظهر الغيب بالصلاح والهداية.
والنصيحة لعامة المسلمين؛ أن تحب لهم ما تحب لنفسك، وأن تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {حق المسلم على المسلم خمس -وفي رواية: ست- وذكر منها: وإذا استنصحك أن تنصح له} ما أحسن الكلام! ألا تغشَّه، وألا تفظَّ بأسلوبك عليه، وألا تجرح مشاعره، وألا تفضحه على رءوس الناس وهذا هدي الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.(298/3)
الستر على المنصوح
أهل السنة يتساترون، ذكر صاحب كنز العمال: أن أبا سفيان بن حرب طرق الباب في ظلام الليل على علي، والذي يجوب في الظلام كأن عنده شيئاً:
أزورهم وظلام الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي
كم زورة لك في الأعراب داهية أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب
قبل هذا، حفظ عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: [[إذا رأيت الناس يتناجون في أمر دينهم، فاعرف أنهم على دسيسة]] اعرف أنهم غشوا الله ورسوله، الإسلام واضح، مبادئنا تعلن يوم الجمعة على المنبر، مبادئنا تسمع على المنارة، ليس لدينا ألغاز ولا شيء نتستر به، عندنا وفي قلوبنا وعلى ألسنتنا وفي أيادينا وفي أقلامنا وفي صحفنا (لا إله إلا الله محمد رسول الله) نكلم بها الرئيس والمرءوس، والغني والفقير، والرجل والأنثى.
جاء أبو سفيان فطرق الباب على علي، يوم تولى أبو بكر الخلافة؛ لأن أبا سفيان ينظر إلى بني هاشم، ويريد أن يتولوا هم الخلافة؛ لأنه حديث عهد بجاهلية وما هضم فكرة أن يتولى أبو بكر الخلافة؛ لأن أبا بكر من تيم وهي أسرة ضعيفة.
طرق الباب على علي، من هو علي؟ تربى في القرآن، عرف النصيحة، عرف الأدب، عرف كيف يتعامل مع الكتاب والسنة، رضع الرسالة الخالدة، ففتح الباب في ظلام الليل، قال أبو سفيان: يا علي! كيف يتولى أبو بكر الخلافة، وهو تيمي وأنت من بني هاشم؟ إن شئت ملأت لك المدينة خيلاً جرداً وشباباً مرداً.
فهو يريد القتال، قال علي وأخذ بتلابيب أبي سفيان: يا أبا سفيان! المؤمنون نصحة، والمنافقون غششة.
رضي الله عنك، ما أصدقك في ظلام الليل! لقد سمع الله كلمتك الخالدة؛ المؤمنون نصحة، والمنافقون غششة، يريد بك التشهير أو الغش، أو يريد أن يظهر على كتفيك، وأما الناصح فإنه يريد أن يستنقذك من النار، ولذلك جاء في الصحيح، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {أنا النذير العريان} النذير العريان عند العرب، هو الرجل يأتي من المعركة فيخبر قومه بالهول أو بالجيش فيخلع ثوبه فيصبح عرياناً، هذا في الجاهلية، قال: أنا كالنذير العريان.
وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {مالي آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تتهافتون فيها تهافت الفراش} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(298/4)
آداب النصيحة
للنصيحة آداب.
إن الله عز وجل أخبرنا بآداب النصيحة، وما كل من نصح عرف كيف ينصح، ولا كل من دعا عرف كيف يدعو، ولا كل من أراد الخير وفق له، ورب كلمة منعت ألف كلمة، ورب خطوة أخرت عن ألف خطوة.
أرسل الله موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون، فقال لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] قال أبو أيوب وعلي، كما نقل ذلك ابن كثير في تفسيره ونقل عن سفيان: القول اللين هو أن يكنياه بكنيته.
أي: إذا أتيتم إلى فرعون، فقفا في البلاط الملكي، وتكلما معه بكلمة حانية، لا تجرحا شعوره، الرجل عاش على الملك، الرجل طاغية، الرجل مجرم، فإن جرحتم مشاعره فلن يهتدي أبداً، قولا له قولاً ليناً، قال أهل العلم: كنياه بالكنية.
وكنيته: أبو مرة مرر الله وجهه بالنار وقد فعل، قال أبو أيوب: كنية فرعون أبو مرة.
فدخل موسى وكان يتلعثم في الكلام، وقال: يا أبا مرة! وهذه تفتح الصدر، وأنت مثل لنفسك أن رجلاً يدعوك، فيقول: يا أبا محمد! يا أبا عصام! يا أبا أنس! ينفتح صدرك، قال عمر: [[ثلاث تكتب لك الود في صدر أخيك: أن تدعوه بأحب الأسماء إليه، وأن توسع له في المجلس، وأن تبدأه بالسلام]] قال الشاعر اليمني:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب
كذاك أُدبت حتى صار من خلقي أني وجدت ملاك الشيمة الأدب
أتجرحني لتنصحني؟
أتشتمني لتردني؟
أتفضحني لتهديني؟
أنا لن أطيعك ولن أوافقك؛ لأن مشاعر الإنسان لا تعيش إلا على الرضوان، والإنسان لا بد أن تشعره بمكانته وبفضله وبحسناته.
أما آداب النصيحة فكما يلي:(298/5)
الإخلاص من آداب النصيحة
الإخلاص: أهل السنة والجماعة -في الجملة- يريدون بعملهم وجه الله، يتكلمون لله، ويعملون لله، ويأمرون وينهون لله الواحد الأحد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66] وإنما الأعمال بالنيات، أن تخلص في نصيحتك، أن تقصد بها وجه الله، كيف ذلك؟ أن تريد بهذا الذي تريد أن تأمره وتنهاه، أن تريد له الخير، وأن تريد أن تصحح مساره، لا تركب على كتفيه، لأن من الناس من يريد بالنصيحة الظهور له أو الشهرة، لأن المثل يقول: خالف تعرف.
وبعض الناس يريد أن يركب على كتفيك؛ ليجعلك أنت جثماناً يصعد عليه، ويقول: لقد أصبحت أرد، وأصبحت أوجه، وأصبحت أعلم، وأصبحت أنصح.
وبعض الناس لا يريد بالنصيحة وجه الله، ظاهرها نصيحة وباطنها فضيحة، يريد بها أن يشفي غلاً في قلبه، من حسد هذا الرجل أو هذا الجيل أو هذه المؤسسة، فقام على رءوس الناس ينقدها، ويجرحها، ويفضحها، فيقول الناس: جزاك الله خيراً من ناصح، وفي قلبه غليان على هؤلاء، لا يريد الخير ولا التوفيق وإنما البغي والحسد.
ومنهم: من يريد بهذا الانتقام لموقف نسبي مرَّ معه، فإن بعض الناس إذا صادفه موقف عارض؛ قام على رءوس الناس ينتقم من المسلمين، ويفضح سرائرهم، ويشخص أمراضهم، ويضخم أخطاءهم، وهذا غير منهج أهل السنة والجماعة.(298/6)
الستر وعدم التشهير من آداب النصيحة
نصيحة الخاصة للخاصة، ونصيحة العامة للعامة.
من هم الخاصة؟ الخاصة هم قوم لهم مسئولية خاصة، ولاة الأمر، فهدي أهل السنة أن ينصحوهم في آذانهم بلا فضيحة، ولذلك كان أحمد ينصح المعتصم بينه وبينه، وصح أن أسامة رضي الله عنه والحديث عند أحمد في المجلد الأول من الفتح الرباني أن الناس قالوا: يا أسامة! ألا تكلم هذا؟ أي: عثمان، ألا تكلمه؟ لأن الناس لاحظوا على عثمان رضي الله عنه في سيرته بعض الملاحظ التي هو مأجور على اجتهاده فيها، من تقريب بعض بني أمية من قرابته.
قالوا: ألا تنصحه؟ قال أسامة: [[أتظنون أني كلما نصحته أخبرتكم؟]] أيلزم العالم وطالب العلم والداعية؛ أن كل ما نصح مسئولاً أو وجيهاً، أو من عنده أمر أن يخبر الناس أنه نصحه؟ أيلزمه أن يظهر نصيحة الخاصة في العامة؟ هذا ليس من منهج أهل السنة، وإنما هو إرغاء، وإزباد، وتشويش، وفتنة، وهمجية؛ معناها أن يحول الناس إلى جدال وخصام واحتدام.
أهل السنة لهم طريق آخر في نصيحة العامة، فهم ينصحون العامة على ملأٍ من الناس، فيبينون أخطاءهم لهم لا أسماء، وبلا أشخاص، كان إمامهم عليه الصلاة والسلام يرى الخطأ فلا يقول للرجل أخطأت، ولكن يصعد المنبر فيقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا.
وإني أشكر فضيلة الشيخ جابر هذه الليلة، يوم وجه الملاحظة الأولى توجيهاً عاماً مطلقاً لم يقيده بهيئة أو بشخص أو بصحيفة، وهكذا ينبغي، فصاحب الخطأ يدرك خطأه وهو جالس، وهو مستور والحمد لله، ويصحح مساره، أما أن تخبر باسمي، وبمسكني، وعنواني، وتلقي فيَّ محاضرة، أنا سوف أعمى تماماً، أنا سوف أسل سلاحي وأنتقم، أنا سوف أدافع عن كرامتي إلى آخر قطرة من دمي؛ لأن هذه أصبحت معارك متبادلة، أو استحداث خصومات مع القلوب، وأصبح فيها من الفتنة ما الله به عليم.
لكل إنسان مكانه، من الذي لا يرى مكانته؟ من الذي يحتقر نفسه؟ من الذي لا يرى أن ينبغي أن يحترم بقدر ما فيه من الخير؟(298/7)
حسن القصد في النصيحة من آدابها
فمن آداب النصيحة عند أهل السنة والجماعة؛ أن تخلص النصيحة لله، وأن يكون لك ثلاث مقاصد:
المقصد الأول: أن تبرئ ذمتك من هذه النصيحة التي في عنقك، ولا تكتم علماً يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160].
الناس أمام هذه الآية ثلاثة أقسام: أما الكفار أنا لا أتحدث فيهم فهم في منزلة الحمير.
المسلمون أمام هذه الآية ثلاثة أصناف: صنف يأمر بالمعروف بالمعروف وينهى عن المنكر بلا منكر، ويعطي كل مسألة حجمها ومساحتها، العقيدة لها حجمها، والسنن بحجمها، والآداب والسلوك، فهو مهتدٍ على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذاك هو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم، ووارث علم النبوة، وهو الذي يصلح الله به، وهو الذي يستمر، وهو كالشجرة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وهو كالعين النابضة بالحياة، وهو كالمشكاة التي تلقي نورها، وهو كالشمس، وهو وهج في ظلام الليل.
وقسم آخر: أطلق الحبل وفلت الأمور، وكسر المعاريض، وخندق الطرق بحجة اللين، يرى المنكرات كالجبال ويقول: لا.
الإسلام ليس دين تطرف ولا تزمت، لا تنكروا على أحد، كلنا على خير، ومع الخيل يا شقراء! وكلنا مأجورون، والله غفور رحيم، ولا تشوشوا علينا، ولا تثيروا الخلاف.
قلنا: حنانيك يا بارد القلب! حنانيك يا ميت الروح! الغيرة ماتت في روحك فأنت لا تتحرك، ولذلك بعض الناس كأنه في ثلاجة، يرى المنكرات كالجبال، ولا يتمعر وجهه، ولا يتغير، ولا يقول كلمة ولا ينبس بلفظة؛ بحجة أن الإسلام يسر، وأن الإسلام دين عدالة ودين تراحم وتآخ، كلمة حق أراد بها باطل، هذا متسيب وهذا لا ينتج.
أين غيرتك يا فلان من غيرة سعد بن عبادة رضي الله عنه؟ يقول عليه الصلاة والسلام وقد سأله سعد: {يا رسول الله! لو وجد أحدنا مع امرأته رجلاً ماذا يفعل؟ -أي: وجده مع امرأته أجنبياً في بيتها ماذا يفعل؟ - قال عليه الصلاة والسلام: يذهب فيأتي بأربعة شهداء} هذا حقن للدماء، وحكمة، وحفظ للأرواح والأنفس، ولو أطلق عليه الصلاة والسلام، وقال: يذبحه، لكان كل إنسان يرى عند بابه رجلاً يضرب الجرس أو يطرق الباب؛ يذبحه عند الباب، لا.
يأتي بأربعة شهداء، قال سعد وهو سيد الخزرج: {يا رسول الله! أنتظر وأجمع أربعة! والله الذي لا إله إلا هو لأضربنه حينها بالسيف غير مصفح.
فضحك عليه الصلاة والسلام وقال: أتعجبون من غيرة سعد؟ والذي نفسي بيده إني أغير منه وإن الله أغير مني}.
غيرة حية أن تعيش معالم الدين، تتحرق إذا رأيت المرأة لا تتحجب، تتحرق لوعةً إذا رأيت الغناء يسود في الساحة، تتحرق إذا رأيت كأس الخمر ينتشر، تتحرق إذا رأيت المخدرات فاشية، تتحرق إذا رأيت شباب الإسلام يضيعون أوقاتهم، تتحرق إذا رأيت الصلاة تؤخر عن أوقاتها، تتحرق إذا رأيت الربا فاشٍ، تموت وتذوب، لكن تصل إلى مقصودك بحكمة وأناة، وتغضب لله عز وجل.
وقسم ثالث: أفرط حتى خرج من السطح، لأن بعض الناس يخرج من العرض وبعضهم من السطح، والوسط هم عباد الله الأخيار، بعضهم يقيم الدنيا ويقعدها على جزئية اختلف فيها أهل العلم، يضارب الناس على الإشارة بالأصبع، أو على وضع اليدين، ويلقي محاضرة بعد الصلاة، يَبكي ويُبكي الناس ويصيح، ويضرب المكرفون على مسألة جزئية، قال فيها أبو حنيفة بقول وخالفه مالك، أين إنزال المسائل منزلتها؟ والله يقول: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] بعضهم يقوم فلا يشغل باله إلا كلمة صدرت من شاب، أو تصرف من شاب، فيجعلها قضية ويعممها ويكبر الأخطاء، وينسى ما هو أكبر منها.
عجباً!
أحد السلاطين الظلمة رآه أحد الوعاظ -ليس عالماً بل واعظاً- فقال لهذا السلطان: لي إليك حاجة، أسألك بالله أن أناجيك في حاجتي.
قال: تفضل -والسلطان هذا سفاك للدماء، يذبح الناس كذبح الدجاج، يأكل الربا، يزني، مجرم، طاغوت- فتخيل هذا السلطان أن هذا الواعظ سوف يتحدث له عن الدماء التي سفك، أو عن الزنا، أو عن الربا، أو عن تعطيل الشريعة، فدخل معه في مكتبه، قال: ماذا رأيت؟ قال: جنودك يُسبِلون ثيابهم.
قال: لعصر أنتج مثلك وأمثالك؛ حقيقٌ أن ينتج جنوداً يُسبِلون ثيابهم.
هذه القضية كلها، تأتي إلى هذه المسألة الجزئية وتنسى الكبار وتجعلها قضيتك.
فرضاً أنهم قصروا ثيابهم، ولكنهم يشربون الخمر، ويتركون الصلاة، ويزنون، ويسفكون الدماء.
وليكن مقصودك من النصيحة رحمة بالمنصوح، لأن بعض الناس تغيب عنهم هذه، أريد أن أنصح؛ لكن ما في ذهني أن أرحم هذا المسكين الذي وقع في خطأ.
والأمر الثالث: أن يكون قصدك، أن تكون كلمة الله هي العليا، ليبقى الدين قوياً وأن تفرح إذا سمعت بموجِّه أو برجل صالح، أو بمنفق، أو بداعية، أو بعالم يتكلم ويدعو؛ أن تحمد الله عز وجل، وأن تسأل الله له الاستقامة، والعون، والسداد.(298/8)
اللين في النصح
ومن آداب أهل السنة في النصيحة؛ أنهم ينصحون بلين، أي: بكلمة حانية، بكلمة طيبة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو يذكر نصيحة إبراهيم عليه السلام لأبيه المشرك: "يا أبت" وانظر أدب الخطاب، لم يقل: لم تعبد ما لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغني عنك شيئا، وإنما قال: يا أبت! ثم كرر يا أبت مرات، وهذا هو اللطف.
وهذا أتى في سورة لقمان، يوم قال لقمان رضي الله عنه لابنه: يا بُني! فقال في أول الخطاب: يابني! أخذ من ذلك بعض العلماء: أن عليك أن تقدم مقدمات للمنصوح، إذا أخطأ عالم من العلماء فلا تقل: يا فلان! أخطأت، لكن قل: أنت صاحب فضل، وأنت صاحب خير، ونفع الله بك، وقد شفى الله بك العليل، وأروى الغليل، وأفاد الأمة، ولكن ما رأي سماحتكم في هذه المسألة؟ أينكرها؟ أما أن تصدمه بالرد صدماً على وجهه، فكيف يقبلها؟ تأتي إلى وجيه في الناس فتقول: أنت فيك كيت وكيت، وقد نفع الله بك، ثم تذكر جوانب الخير فيه، ثم تلاحظ عليه ملاحظة، هذا من اللين.
قال ابن المبارك، في بيتين من أدب الدعاة وأدب النصيحة:
إذا رافقت قوماً أهل ودٍ فكن لهم كذي الرحم الشفيق
ولا تأخذ بزلة كل قوم فتبقى في الزمان بلا رفيق
هذه حق على كل مسلم يريد الدعوة -أحقه أنا، وما أحقه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم- أن يحفظ البيتين، هذه تكتب بماء الذهب، تخرج من مثل ابن المبارك، ابن المبارك قوي على أهل البدعة، على جهم المجرم، ألا تعلم ماذا يقول في جهم، صاحب البيتين هذه، يقول:
عجبت لدجال دعى الناس جهرةً إلى النار واشتق اسمه من جهنم
اسمه جهم مشتق من جهنم فكان شديداً على أهل البدع، لكن مع إخوانه كالماء،
وأتى إلى إخوانه فقال:
إذا صاحبت قوماً أهل ودٍ فكن لهم كذي الرحم الشفيق
ولا تأخذ بزلة كل قومٍ فتبقى في الزمان بلا رفيق
ذكر الشيخ الإمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي، العلامة الشهير رحمه الله قاعدة عن ابن تيمية، في كتابه المأمول قال: يقول شيخ الإسلام: بعض الناس كالذباب لا يقع إلا على الجرح -ما أحسنها من كلمة- بعض الناس كالذباب لا يقع إلا على الجرح.
الذباب وأنت بثيابك البيضاء النظيفة، وبطيبك، وبمظهرك، لا يقع عليك، لكن إذا رأى جرحاً في جسمك وقع عليه وانصب عليه، فبعض الناس يترك المحاسن وينسى الفضائل ويقع على منقصة أو عيب كما يفعل الذباب إذا انطلق إلى هذا الجرح فلا بد من اللين.
دخل واعظ على هارون الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين! إني واعظك ولكني سأشدد عليك.
يقول: عندي موعظة، لكنها حارة ساخنة، ويتكلم مع، خليفة لو أراد ذبح رجل لذبحه، وقف أمامه، والسيوف على رأس هذا الواعظ، ويقول: يا أمير المؤمنين! عندي كلام لكنه شديد فاسمع لي، قال: والله لا أسمع لك، والله لا أسمع لك، والله لا أسمع لك، قال: ولم؟ قال: أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] ما هو الداعي للكلام الشديد؟ وهل بلغنا دعوتنا وأدخلناها في قلوب الناس بالحديد والرصاص؟ بل أدخلناها بالحب، أدخلناها بالبسمة، زرعناها بالود، فآتت أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون.
فاللين اللين في تبليغ الكلمة، بإمكانك أن تصادر بعض الكلمات الجارحة، وأن تستبدل بعض الكلمات الطيبة الحميدة، وإنني أشكر بعض الفضلاء في الساحة حين كتبوا بعض الكتب والرسائل والأشرطة، فيها من الأدب والروعة والعلم ما الله به عليم.
ومن أراد أن يرى مثلاً حياً لأدب الدعوة، وأدب النصيحة، وأستاذاً معلماً في هذا الباب، وهو لازال على قيد الحياة، فلينظر إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رجل في الثمانين من عمره، يتكلم بالكتاب والسنة، عكف الله وعطف عليه القلوب، كلمته طيبة ولينة تصل إلى القلوب مباشرة.(298/9)
الإسرار بالنصح في موضعه
ومن آداب أهل السنة في النصيحة؛ أنهم يسرون بها في موضع الإسرار، قال الشافعي:
تعمدني بنصحك في انفرادٍ وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوعٌ من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
أتنصحني أمام ألف؟
أتنصحني في الحارات؟
أتخبر أني أخطأت؟
أَوصلتَ بيتي؟
أَكتبتَ لي رسالة؟
أَطرقتَ عليَّ الباب؟
هل جلست معي؟
هل أشفقت عليَّ؟
أبعد أن نشرت مقابحي، ورذائلي، وسوآتي أمام الناس تريد أن أقبل منك، طبيعة الإنسان أنه إذا رأى الخصام والجدل لن يقبل، يغلق منافذ السمع لن يتقبل، فـ أهل السنة يسرون بالنصيحة في موضع الإسرار، يسرون بها بكتابة أو اتصال أو غيره، إذا علم أن المنصوح من أهل السنة، وهو الذي لا يريد إلا الخير بدعوته، ويعلم الله أنه يريد الصلاح لأمة محمد عليه الصلاة والسلام.
فحقيق على الناصح أن يسر النصيحة، ولكن قال بعض علماء السنة: من شهر بنا شهرنا به.
من شهَّر بـ أهل السنة شهرنا به.
إنسان يدّعي بدعاً، ويهاجم الدين من على المنبر أو في صحيفة، أنرد عليه سراً؟ يفضحنا جهراً ونرد عليه سراً؟ يشتمنا نهاراً ونرد عليه ليلاً؟ لا.
بل السلاح بالسلاح قال الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] ما دام أنه شهربنا فنشهر به، لأن الناس سمعوا كلامه، ولا يمكن أن يُنهى كلامه إلا برد مثل كلامه الذي شهَّر به، كرجل كتب معتقداً بدعياً ونشره في الصحف، حق علينا أن نأتي في هذه الصحف، وننشر ردنا الصادق الناصح؛ لأنه شهَّر برده أو بكلامه، لكن إنسان ارتكب بدعة، ولا يعلم إلا أنا أو أنت، أذهب إليه بيني وبينه، ولا أكتب في صحيفة ببدعته؛ لأنه قد يتوب.
سئل أحد العلماء الأحياء: أما رددت على فلان؟ قال: ليس من منهجي هذا، قالوا: ما هو منهجك؟ قال: منهجي أن أكتب للذي أريد الرد عليه بيني وبينه، فإن استجاب لي فبها ونعمت، والحمد لله فقد حصل المقصود، وإن رفض الاستجابة أعلنت الرد عليه لينتبه له الناس.
هذا هو المنهج السليم، فهدي أهل الإسلام في النصيحة: أنهم لا يتفاضحون بها ولا تصبح مسبة.(298/10)
العمل بالنصيحة
ومن آداب النصيحة في الإسلام: أن تعمل أنت بالنصيحة التي توجهها للناس، علَّ الله أن ينفع بها يقول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] لماذا تتكلم كلاماً جميلاً وتفعل فعلاً قبيحاً؟ قال خطيب الأنبياء شعيب عليه وعليهم الصلاة والسلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، لا أريد أن أدلكم على الهدى وأنا ضال، وعلى الهداية وأنا متخلف، وعلى النور وأنا في الظلام.
فإذا أردت أن ينفع الله بدعوتك وبنصيحتك، فأعمل بها أنت أولاً، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3] لم تتكلمون كلاماً جميلاً وتفعلون فعلاً قبيحاً؟ وهذه أكبر القواصم التي يتعرض لها الداعية في الحياة، أن يتكلم بكلام جميل ولكن فعله قبيح، فيكذِّب فعله قوله فلا يتقبل الناس منه، ولا يجعل الله لكلامه تأثيراً ولا نوراً.
في الصحيحين من حديث أسامة رضي الله عنه: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم، ذكر رجلاً اندلقت أقتابه، والأقتاب هي: الأمعاء، يدور بها كما يدور الحمار بالرحى في نار جهنم، فيقول له أهل النار: يا فلان! أما كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: نعم.
كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه, وأنهاكم عن المنكر وآتيه} قال بعض العلماء معلقاً على الحديث، وهو تعليق لابد أن يفهم، قال: ما دخل النار بسبب أمره ولا بنهيه، وإنما دخل النار بسبب مخالفته لأمره ونهيه.
ولذلك بعض الناس عنده ورع بارد في الدعوة، سامج مظلم، مالك لا تدعو؟ قال: أخشى من صاحب الرحى في نار جهنم، أخشى أن أدور في الرحى، أنت تدور من اليوم بالرحى، من أول اليوم وأنت دائر في الرحى، وأول دورانك بالرحى وأول الفتوح والبركات؛ أنك تركت الدعوة، قال أبو هريرة لرجل: [[ألا تحفظ القرآن؟ قال: أخشى إن حفظته أن أنساه قال: كفى بك نسياناً أنك ما حفظته]] من أول الطريق، وكذلك الذي عنده ورع بارد لا يأمر ولا ينهى، ولا ينصح، ولا يتحرك بالدعوة؛ بحجة أنه يخشى أن يكون مثل هذا الذي يدور في رحاه في نار جهنم، والمقصود: أن الحديث لام هذا الرجل لأنه خالف، أما إذا أمر وائتمر، ونهى وانتهى فهو مأجور، فمن أدب النصيحة: أن تعمل بها قبل أن تنصح الناس، وبعد أن تنصح الناس أن تسدد وتقارب.
بعض الناس يظن أن الداعية لا ينصح حتى يصبح معصوماً لا يخطئ أبداً أو لا يذنب، كأن الداعية هذا إذا وقع في خطأ بسيط؛ ارتكب الجرائم وخرج من الملة.
ولذلك خطأ الدعاة مضخم، وحسناتهم مصغرة، للداعية تسع وتسعون حسنة ولكنها تنسى، وله سيئة ولكنها كالجبل، أمر عجيب! قال عامر الشعبي: والله الذي لا إله إلا هو، لو أحسنت تسعاً وتسعين لنسوها ولعدوا علي غلطة واحدة.
ترفقَّ حنانيك:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
تريد مهذباً لا عيب فيه وهل عطر يفوح بلا دخان
العصمة لمحمد عليه الصلاة والسلام، والدعاة ليسوا معصومين في الإسلام، فقد يخطئون، لكنهم يراجعون خطأهم ويتوبون إلى الله الواحد الأحد.(298/11)
التثبت مما تنصح منه
ومن آداب النصيحة عند أهل السنة أن تتثبت من الشيء المنقول إليك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] منهج رباني عظيم، شيء مقدس، يا لجلالة المنهج! يا لعظمة هذا المبدأ! يا مسلم! إن جاءك خبر فارصده وتأكد منه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وأنا -يا أيها الإخوة- أحذر من هذا الكلام الظاهر، من كثرة الشائعات في المجتمع المسلم، كلمات تنقل لا أساس لها، تثار بها الظغينة، ويؤسس بها الحسد والبغضاء بين المسلمين، ومصدرها شائعة كاذبة خاطئة.
أسألك -يا مسلم- بمن خلقك فسواك فعدلك، أسألك بمن جعل لك عينين ولساناً وشفتين؛ أن تعرف أنك إن لم تتثبت من الأنباء والشائعات، فسوف تضيع دينك ولا محالة، يأتيك خبر عن مسلم فعليك أن تتثبت هل قاله أم لا، تسأله وتحتاط حتى تكون على بصيرة؛ لأن الشائعات كثرت، لكثرة أهل النميمة، قال عليه الصلاة والسلام: {لا يدخل الجنة قتات} وفي لفظ: {نمام} وهو الذي يطلب المعايب، وهو الذي يأتي بالأراجيف بين الأحبة، وهو الذي يهدم المجتمع المسلم.
فمن آداب النصيحة عند أهل السنة: أنهم يتثبتون من الشائعات، حتى ينكروا أو يأمروا على بصيرة، فإذا أمروا ونهوا كانوا على قدم ثابتة مما قالوا ومما فعلوا، كان عليه الصلاة والسلام إذا أتته الأخبار؛ سأل وتثبت عليه الصلاة والسلام واحتاط حتى يبلغ به العلم اليقين صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم:28] وكثير من الناس إن يظنون إلا ظناً وما هم بمستيقنين، وقد رأينا بعض الناس يتقول على فضلاء ونبلاء، فإذا سألته: هل سمعته؟ قال: لا.
بل قال لي فلان، فتذهب إلى فلان؛ من قال لك؟ قال: فلان، فتذهب إلى فلان، فردك على فلان سند إسرائيلي من الإسرائيليات، معنعن بالمجاهيل والمناكير من أوله إلى آخره، أحاديث مبهرجة لا أساس لها من الصحة، وهذه وكالات أنباء عالمية، اسمها (وكالة يقولون) وهي تفسد القلوب، وتشتت بين الأرواح، وتأتي بالأخطاء للفضلاء والنبلاء، وتستحدث الخصومات، وتعتمل المعارك بدون أن يكون لها أساس.
قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع} بعض الناس جالس بلا عمل على الرصيف، همه في أول النهار -لأن الناس في مدارسهم ووظائفهم- أن يوصل السيارات بعينيه، يأخذ السيارة من طرف الشارع فيوصلها إلى طرف الشارع الآخر، ويأخذ الثانية إلى صلاة الظهر هكذا، ثم يذهب إلى بيته ويستمع إلى الأنباء التي تدار في الساحة، وفي اليوم الثاني ينشر الأخبار الصباحية على المسلمين، وهذا لو أنه أخذ بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، يوم قال: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} اشتغل بخاصة نفسك، تركك ما لا يعنيك أفضل، وإذا لم تفعل خيراً لمسلم فكف أذاك عن المسلمين، فإنها صدقة تتصدق بها على نفسك.(298/12)
الصبر على الأذى في النصحية
ومن آداب أهل السنة في النصيحة: أنهم يصبرون على الأذى، ينصح بلين ولكن نتائج النصيحة لا نعرفها؛ لأن المنصوحين ليسوا على طبقة واحدة، بعضهم يفتح قلبه لك، ويفتح بابه، ويعانقك، وبعضهم يردك من عند الباب بلا ضرب وبلا ملاكمة والحمد لله، وبعضهم يكشر في وجهك، ويرفع صوته، وبعضهم يرد عليك بكف حامية، وهذه منازل الناس، ولذلك قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فأتى بالصبر بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والرسول عليه الصلاة والسلام أوذي، والله الذي لا إله إلا هو لو أوذي كل داعية، ومهما أوذي من الدعاة والعلماء وطلبة العلم والصالحون والصالحات؛ ما بلغوا عشر معشار ما وُجِدَ من الأذى ما وجد عليه الصلاة والسلام في سبيل الدعوة، فلا إله إلا الله كم صبر! ولا إله إلا الله كم صابر! ولا إله إلا الله كم احتسب! حتى بلَّغ اللهُ دعوته مبلغ الليل والنهار.
والفيافي حالمات بالمنى تتلقاك بتصفيق مثير
والرمال العفر صارت حللاً عجباً من قلبك الفذ الكبير
أوذي، وشتم، وسُبَ وأخرج من داره، وبيعت أملاكه، حورب، جرح، قتل أصحابه، ضربت بناته، ومع ذلك يردد حاله:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وقد ورد في أحاديث: أن ملك الجبال أتى إليه لما أخرجه أهل مكة بأذى، أخرجوه من مراتع الصبا، من أرض الطفولة، من الأرض التي أحبها، أسفك الدماء؟ أأخذ الأموال؟ أهدد الأبرياء؟ بل أراد أن ينقذهم من النار إلى الجنة، وأن يخرجهم من الظلمات إلى النور، أخرجوه، وقف ينظر إلى مكة وهو يبكي، وهذا الحديث يحسنه كثير من العلماء، وقف يقول: {والذي نفسي بيده، إنكِ لمن أحب بلاد الله إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت}.
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
أطفاله؛ زوجاته؛ أصحابه، أخرج وحيداً فريداً، لا زوجة ولا ولد، ولا معين إلا الواحد الأحد، ففكر في الدنيا، إلى أين يذهب؟ فذهب إلى أهل الطائف، فوقف عليهم جائعاً متعباً سهران ظمآن، فدعاهم إلى الله عَزَّ وَجَلّ.
واسمعوا إلى الرد القبيح الذي يساوي وجوه هؤلاء الكفرة، قال أحدهم: أما وجد الله غيرك في الدنيا حتى يرسلك إلينا؟ فتضاحكوا، وقال الثاني: أنا أمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.
وقال الثالث: إن كنت نبياً فأنت أجل من أن أكلمك، وإن كنت كذاباً فلن أكلمك، فليتهم تركوه، جائع ليس في بطنه شيء، ضمئان سهران، قال الله له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:1 - 2] فقام ثلاثاً وعشرين سنة، ما نام وما ارتاح، في سهاد، وجهاد، وجلاد، وعبادة، وزهادة؛ حتى رفع الله به راية الحق واجتمعنا على ذكره.
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
عاد فأصبح بين حربين بين الطائف ومكة، إلى أين يذهب، قال ملك الجبال بعد أن جرحوه بالحجارة: يا محمد! أتريد أن أطبق عليهم الأخشبين؟ جبلين في مكة على أهل مكة، قال: {لا.
إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله، ثم قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} رفع الله منزلتك، وآتاك الوسيلة، وجزاك الله عما قدمت لنا من الهدى ومن نصيحة، والله الذي لا إله إلا هو ما تركت خيراً إلا دللتنا عليه، ولا تركت شراً إلا حذرتنا منه، أعطيتنا وهديتنا وواسيتنا، فرفع الله منزلتك وأعطاك الشفاعة يوم العرض الأكبر.
هذا من هديه عليه الصلاة والسلام في النصيحة، هديه الصبر على الأذى، والداعية يتعرض لإيذاءات، وطالب العلم، والرجل الملتزم، والرجل الصالح يترك الغناء، فيوصف بالتطرف والتزمت، يهتدي بالرسول عليه الصلاة والسلام بالسنة فيُلمز، يحافظ على الصلوات فيوصف بأوصاف بشعة، وهو على الحق، يا ملتزم! يا مستقيم! يا من تتعرض لحروب من الشائعات والتجريحات! قل لهذا المنتقد:
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
عجيب! أصبح عبد الأغنية يتكلم! أصبح ابن المسرحية يتحدث! أصبح الذي لا يعرف المسجد المتخلع في الحرمات ينتقد الأخيار! والله هذا أمر عجب، وإنه واقع لا محالة، وكأنه من السنن الكونية في الأرض، والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].(298/13)
إنزال المسائل منازلها
ومن آداب الدعوة عند أهل السنة والجماعة أن ينزلوا المسائل منازلها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد سبق شيء من هذا، لكن أقول: المنهج القرآني يعطي المسألة حجمها، العقيدة أخذت ثلاثة أرباع القرآن، الغيبة في آية أو آيتين، غض البصر في آية، خفض الصوت في آية، فلماذا تضخم أنت الجزئيات حتى تطغى على الكليات، وتقلل الكليات حتى تصبح جزئيات؟ لابد أن تكون حكيماً.
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضركوضع السيف في موضع الندى
أتى عليه الصلاة والسلام إلى الحرم المكي يدعو إلى لا إله إلا الله محمد رسول الله، في قوم لا يعرفون الله، يشربون الخمر، يأكلون بالشمال، يتعاملون بالربا، يسبلون، أفمن الحكمة أن يقول: الإسبال حرام؟ أيستمع له أبو جهل وأبو لهب إذا قال: السنة أن يكون الثوب فوق الكعبين؟ وهل المسألة مسألة ثياب الآن؟ أيستمع له لو قال: الخمر حرام؟ فالمسألة أعظم من ذلك، وبعض الناس يذهب إلى بعض الوثنيين فيكلمهم في تربية اللحى، وما عليك لو ربى الوثني لحيته، أما كان - كاسترو - إلى سرته، وأمثاله من أعداء الله عَزَّ وَجَلّ لحاهم إلى أسفل صدورهم! وكذلك وكارل ماركس الذي يتبعه على إلحاده ولعنته في العالم ألف مليون، هذا عنده لحية طويلة، لكن على غير هدى، فماذا ينفعنا أن نربي الناس على جزئيات يتمثلونها والخراب من الداخل، هذا مثل رجل أتى إلى بيت مهدم من كل جهه فلطخه بالألوان فأظهر أنه جديد، وهو بيت مهدم يقول الله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109] تأتي إلى رجل لا يصلي في المسجد، فتقول: يا فلان! رأيتك قبل أسبوع تأكل بالشمال، وقد ورد فيها أحاديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم، هو لا يعترف بك ولا بـ البخاري ولا بـ مسلم، يأكل باليمين، ولا يصلي بالمسجد، إبدأ بالتدرج.
ودليل التدرج في الدعوة ما في الصحيحين، من حديث معاذ: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أرسله إلى اليمن وانظر الكلام، وانظر إلى المنهج الرباني الخالص، نحن نتحدى به عملاء الضلالة وأصنام الجهالة والأغبياء والأقزام في العالم، أهل المذكرات السخيفة الغبراء، التي هي كوجوههم، نحن نتكلم لهم بمنهج رباني، (قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام).
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
قال: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة} ثم سرد معه الحديث المتفق عليه، عجيب! هذا من أحسن المناهج التي يجب على المسلم أن يطبقها في الحياة.(298/14)
معرفة حال المنصوح
ومن آداب النصيحة عند أهل السنة أنهم يعرفون حال المنصوح.
الذي تريد أن تنصحه فعليك أن تعرف حاله، ومشاعره، ومكانته، وعمله، والمشكلات التي يعيشها، وبيئته، هذه هي الحكمة، تأتي إلى مجتمع وأنت خالي الذهن عن المجتمع، وتريد أن تتحدث عن قضية، أهل البادية لا يصلون ولا يعرفون الصلاة، وصلنا إلى بعض الجهات، فسأل سائل منهم، شيخ في الستين من عمره، قال: الغسل من الجنابة واجب، قلنا: نعم واجب فالتفت له جاره -شيخٌ مثله- قال: كلما أتيت أهلك تغتسل! أين الماء الذي يكفي؟ يقول: تصدق هؤلاء المطاوعة، كلما جئت أهلك تغتسل! أين الماء الذي يكفي؟ يفتيه بفتوى جاهلية.
فهل يعقل أن يأتي داعية إلى هؤلاء فيتكلم عن مشكلات البنوك الربوية، أو الحد من الأسلحة، أو درجات الحرارة؟ أو يأتي إلى هذا المجتمع بمشكلة الخدم والخادمات؟ هم لا يعرفون الخدم ولا الخادمات، ولا الخروج ولا السائق، وليس في البادية ولو سيارة، سياراتهم الحمير المصفنة المجنحة، فحالة البيئة، ومعرفة مع من تتحدث؛ من آداب أهل السنة إذا تحدثوا مع المدعو.
تأتي إلى إنسان تشعر بمكانته وكرامته فتهين كرامته تحت رجليك ثم تقول: اتق الله، إن لم تتق الله ليقصمنك الله، وليعذبنك عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين.
هذا لا يليق، بل أعطه مكانته، خاطبه بألفاظه، ألفاظ الوقار، ألفاظ التبجيل، والتدبيج، والتوشيح، الطعام لا يُقبل إلا بالتوابل، لو لم تفلفله وتجعل منه مذوقات ومشهيات ما أكل، فهذه الدعوة مثل ذلك، إن لم تقدمها في باقة من الود والحب واللين، وتضفي عليها شيئاً من الأنس واللطافة، ما قبلها أحد.
ولذلك كان هذا منهجه عليه الصلاة والسلام، يأتيه أعرابي من صناديد الكفر ينكر الدين، فيعطيه عليه الصلاة والسلام مائة ناقة، وفي اليوم الثاني مائة، وفي اليوم الثالث يعطيه مائة، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
لا بد أن نقدم للناس خدمات، بعض الشباب كانوا في سكن جامعي، وكان عندهم شاب جار لهم، يترك الصلاة في المسجد، ويمرض، ويصحو، ولا يزورونه، مهمتهم فقط إذا حانت الصلاة يضربون بابه ضرباً ويقولون: صل يا عدو الله! صل قاتلك الله، ثم يخرجون، ويقول أحدهم: اللهم اعلم أني برأت ذمتي، وأني دعوت إليك، وكلما جاءت الصلاة ضربوا الباب، صل يا عدو الله! مرض هذا الشاب وزاره داعية في المستشفى، وقال -وهو لم يعرف سيرته- قال: يا أخي! هذا المرض درس لك في الحياة، أرى أن تتوب إلى الله، وأن تعود إلى المسجد، وما تطلب مني فأنا أخوك وأنا صاحبك، وأنت لا زلت في الإسلام وأسرتك مسلمة، وأعطاه محاضرة.
قال: يا أخي! بعد ماذا أهتدي مع هؤلاء الجيران، والله ما زاروني، لقد احتجت إلى سيارة أحدهم يوماً من الأيام فلم يفعلوا، أحتاج إلى قرضة من المال ما فعلوا، وحسب ونسب فيهم، قال: ما يعرفون إلا ضرب الباب مع كل صلاة، كيف أستجيب؟ أريد أن أصلي لكن أتذكر فعائلهم فأبقى على السرير.
ولذلك بعض الأفعال تحبط المدعو، تجعله لا يستجيب، ينكى في قلبه بنكايات، فيريد أن يقوم فيرفض قلبه، يقول له: لا تقم، لأنهم ما قدموا له شيئاً، ما قدموا رصيداً.
الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتلطف بالمدعو أياماً، يقول صفوان: يا محمد! أمهلني شهراً حتى أفكر في هذا الدين، قال صلى الله عليه وسلم: لك أربعة أشهر، فقبل الشهر، وقبل الأربعة الأشهر فأتى وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأحد الجاهليين من اليهود، اسمه ابن سعنة، ذكره المؤرخون، قرأ التوراة فرأى أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وصفاً واحداً، أنه صلى الله عليه وسلم، كلما زدته غضباً زاد حلماً، فأراد أن يجرب، رأى الرسول صلى الله عليه وسلم، فرآه أبيض مشوباً بحمره كالوصف، رآه ربعةً، النور في وجهه، كل وصف رآه، لكن كيف يجربه بالحلم، ذهب وأتى بمال وقال: يا محمد! عندي مال وأنت بحاجة إلى المال، اقترضه مني إلى حين، فأخذه صلى الله عليه وسلم مقترضاً لحاجة، وقبل أن يحل الوعد أتى اليهودي في صلاة العصر، والناس مجتمعون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! اقضني مالي، إنكم مطل يا بني عبد المطلب! أي: تماطلون صاحب المال، اقض مالي ثم غضب ورفع صوته، فغضب عمر، قال هذا اليهودي بعد ما أسلم: فرأيت عيون عمر تتدحرج في رأسه، يريد عمر أن يقضيه من الحياة؛ لينقله إلى الآخرة مباشرة، فأسكته عليه الصلاة والسلام، وقال: يا عمر! كان الأولى أن تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن الاقتضاء، ثم قام عليه الصلاة والسلام، وكلما رفع اليهودي صوته كلما تبسم صلى الله عليه وسلم، وذهب به فأعطاه ماله وزاده، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، قرأت كل صفة فيك فرأيتها كما قرأتها، إلا صفة أنك كلما أُغضبت ازددت حلماً، فرأيتها اليوم، فأنت رسول الله لا محالة، قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10] قيل هذا في عبد الله بن سلام وقيل في غيره.(298/15)
ضرورة الموازنة بين الحسنات والسيئات
فيا أيها الإخوة: هذه آداب النصيحة، في الإسلام، لمن أراد أن يكون ناصحاً، ولينفع الله بنصيحته، وليهدي الله بدعوته، وليستمر قائلاً، ونافعاً، ومفيداً، ومؤتياً، ومطلوباً، ومقبولاً.
أيها الشاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلا
أترى الشوك في الورود وتعمى أن ترى الندى فوقه إكليلا
والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلا
أنت فينا النصوح فارفق جزاك الله خيراً فالرفق أهدى سبيلا
وبقيت كلمة أن نقول: يقاس الناس في باب النصيحة بحسناتهم وسيئاتهم، والفضلاء يعفى عنهم لبعض عثراتهم لا في الحدود، لحديث يقبل التحسين: {أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم} يقول ابن القيم هم أهل التقوى والاستقامة والصلاح، يتجاوز عنهم في الأخطاء التي ليست حدوداً ولا حقوقاً للناس.
وقال صلى الله عليه وسلم: {إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث} فإذا زادت فضائل الرجل؛ عفي عن بعض ما يأتي به من عثرات لحسناته في الإسلام، ولعلكم تراجعون ترجمة قتادة بن دعامة السدوسي، ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء، ثم أتى بهذه المعاني الخالدة الرائدة، وقد ذكرني بعض الإخوة أن أذكركم بشريط، كانت محاضرة بـ أبها، اسمه "ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ليسمع إن شاء الله؛ لأن فيه بعض القضايا والنقولات من كلام أهل العلم، والأدلة والنصوص، وهي تنفع في هذا الجانب، علَّ الله أن يهدينا وإياكم سواء السبيل، وأن يردنا إليه رداً جميلاً.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(298/16)
الأسئلة
.(298/17)
الصبر في دعوة الناس
السؤال
أطلب منكم أن تبينوا حكم من نصحته عن منكر ولم يرتدع، ونصحته ولم يرتدع، فهل يجوز لي الجلوس معه؟ وما الحكم لو كانوا من الأهل؟
الجواب
جانب النصيحة يحتاج إلى زمن، يحتاج إلى صبر، يحتاج إلى أن تتحمل المنصوح أياماً طويلة حتى تعذر إلى الله عز وجل، ما تستطيع أن تصلح الرجل في نصف ساعة ولا في ساعة ولا في يوم، محمد عليه الصلاة والسلام هدى الله به الناس في ثلاثٍ وعشرين سنة، حاور الناس في ثلاثٍ وعشرين سنة على كلمة، وأنت اهتديت اليوم وتريد غداً أن تحول بيتك، هذا متعذر إلا أن يشاء الله، لكن سنن الله عز وجل في الكون: أن الأمور تأتي برتابة، الشمس ما تأتي فجأة وتغرب فجأة، النبتة ما تصعد اليوم وتثمر غداً، بل تأخذ مسارها، فالكلمة لا بد أن تصل، ثم تعطف عليها بالكلمة، ثم بالبسمة، ثم بالدعوة، ثم بالنصيحة.
جلست مع رجل صالح كبير في السن في بلد ما، هذا الرجل هدى به الله مجرماً من المجرمين، كان هذا المجرم فتاكاً مروجاً للمخدرات، يطارد الناس، ورجال الأمن يطاردونه بالسلاح، ما يعرف يتخاطب إلا بالرصاص، وهذا الرجل فتك بعباد الله عز وجل، وروع الآمنين، حتى ظن بعض الناس أنه لن يهتدي وأصبحوا يدعون عليه، فأتى هذا اللبيب العاقل فأخذ هدية وذهب بها إليه، هدية غالية، وما تكلم معه بكلمة ثم أعطاه قال: فأخذ الهدية وسكت، قال: وبعد فترة، وأنا كل ليلة كلما قمت في الثلث الأخير، يوم يتنزل الله إلى السماء الدنيا، أدعو الله أن يهدي قلبه، قال: ثم ذهبت فدعوته إلى بيتي فاستجاب لي، فعزمته على وجبة دسمة، فأكلها وذهب، وما قلت له شيئاً، ثم زرته، وجلست معه وما تحدثت له عن شيء، وبعدها زرته وفاتحته في الهداية، فبدأ معي بكلمة ثم زرته، ثم أخذته إلى المسجد، ثم أسمعته شريطاً ثم مضيت معه في الأيام حتى اهتدى معي إلى صلاة الجمعة، ثم حضر واهتدى وشرح الله صدره، ثم أصبح ولياً لله قال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269].
أما أن تقول: أجب وإن لم تجب أذبحك، هذا عند حمورابي، ليس عند محمد عليه الصلاة والسلام، في بعض الناس يدعوه اليوم ويهجره غداً، الهجر سهل لأن الهجر عند بعض الدعاة أن تهجره وترتاح، الهجر لا يكون إلا بعد أن تصبر، قال ابن تيمية: في القرآن هجر جميل، وصبر جميل، وصفح جميل، ثلاثة ألفاظ في القرآن، صبر جميل، وهجر جميل، وصفح جميل، قال: الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه، والصفح الجميل الذي لا عتب فيه، والهجر الجميل الذي لا أذى فيه.
فإذا ما استجاب لك فالهجر.
وقد عقد أهل السنة في أبواب الحديث والفقه: باب الهجر، البخاري عقد على قصة الثلاثة: باب الهجر، هجر أهل المعاصي المتخلفين عن تبوك، فتهجره عن الود، تهجره عن الزيارة، تهجرة -مثلاً- من السلام، لكن لا تقطع وده مرة واحدة، تبقى تراسله، إلا إذا عذرت إلى الله عز وجل، وكانت المسألة من الفرائض الواجبات التي تعمد تركها، فحينها المقاطعة، والله تعالى يقول: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} [المجادلة:22] لكن بعد أن تعذر إلى الله، وبعد أن تبلغه الحجة، وبعد أن يصفى منهجك ويبين عذرك.(298/18)
حكم الأمر والنهي ممن هو مقصر
السؤال
إذا رأى الإنسان منكراً وهو مذنب، فهل له الحق أن ينهى عن ذلك المنكر؟
الجواب
سئل الإمام أحمد، قيل له: ألا يأمر الرجل وينهى حتى يستكمل؟ قال: لو قيل هذا لما نهى عن المنكر أحد وما أمر بالمعروف أحد؛ لأن المعصوم محمد عليه الصلاة والسلام
ذهب الله بالكمال وأبقى كل نقص لذلك الإنسان
فلا بأس أن تأمر بالمعروف وأن تنهي عن المنكر وإن كنت في بعض المسائل مقصراً، لكن فيها تفصيل أما الفرائض فلا يعذر فيها أحد، والداعية لا يعذر في ترك الواجبات، ولا يعذر إذا ارتكب المنهيات، أما عذره ففي النوافل عند بعض العلماء بينها ابن الوزير في كتابه العظيم الجليل: العواصم والقواصم، هذا الكتاب الضخم الذي أنصح بقراءته بيَّن هذه المسألة قال: قد يدعو الداعية إلى نوافل ولكن لا يستطيع أن يعملها.
مثل: أن تكون داعية تدعو الناس إلى الإنفاق وإلى الصدقة، لكنك فقير أو أن تدعو الناس إلى قيام الليل، لكنك مجهد من انتقالك، وأسفارك، وعملك، ودعوتك؛ أفتسكت عن قيام الليل؟ لا.
ادعهم يصلوا ولك مثل أجر صلاتهم؛ لأنك الذي دلهم على صلاة الليل.
ولذلك الحديث الصحيح: {من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجورهم دون أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة فعليه من الوزر مثل أوزار من تبعه دون أن ينقص من أوزارهم شيء}.(298/19)
بعض الأعمال المحرفة
السؤال
يقول: لقد نصحت بعض الإخوة في أمور، أهمها حلق اللحية وسماع الأغاني ومشاهدة الفيديو، وإذا نصحتهم لم يستجيبوا لي، أريد أن تنصحهم بنفسك لأنهم معنا في المحاضرة؟
الجواب
أولاً: ما حضروا المحاضرة إلا لخير في قلوبهم، وأراد الله بهم الخير فأجلسهم في هذا المكان قال الله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] فإن الله عز وجل إذا أراد بالعبد خيراً سهله للخير، وإذا أراد به سوءاًً سهله للسوء، ومن تردى فإلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، من جلس في المسجد فمراده الخير، وهو يختلف عمن جلس في السهرة الحمراء، أمام الشاشة المغرية، أو عند المجلة الخليعة، أو مع البلوت، أو السيجارة المحرمة.
حينها ما دام أنهم جلسوا وهم هنا فهم مهتدون، لكن عليهم بعض الملاحظات التي ذكرت؛ فأسأل الله في هذه الجلسة المباركة أن يشرح صدورهم للإسلام، وأن يهديهم هداية عامة وخاصة سراً وظاهراً، وأن يقودهم إليه، وأن يحسن عاقبتنا وعاقبتهم في الأمور كلها.
ثالثاً: ما ذكرته -أيها الأخ- فيه تفصيل، حلق اللحى محرم بالإجماع عند علماء المسلمين ويعزر من فعله، وقد جرح سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما عرفت عالماً من علماء المسلمين من أهل السنة الذين يوثق بهم؛ قال بسنيتها فحسب أو باستحبابها، بل قال بوجوب إعفائها وبتحريم حلقها.
وسماع الأغاني محرم، وسمعت قائلاً يقول: الأئمة الأربعة لم يجمعوا على تحريمها؛ بل أجمعوا، ولو لم يجمعوا لكان في الكتاب والسنة ما يكفينا على تحريم الأغاني، وسوف يكون هناك لقاء يبين فيه هذه المسائل إن شاء الله.
ومشاهدة الفيديو أو ما يضر في الفيديو محرم معلوم ذلك.
ولكني أدعوهم رابعة إلى أن يعودوا إلى الله، وأدعوهم إلى البديل وهو الشريط الإسلامي، التلاوة، ذكر الله، حضور مجالس الخير، التسبيح، قراءة الكتاب الإسلامي، مجالسة الصالحين، نسأل الله أن يردهم إليه رداً جميلاً.(298/20)
حكم السفر إلى أمريكا ودول الكفر
السؤال
سمعت محاضرتك (أمريكا التي رأيت) وكنت أعد نفسي أن أسافر إلى أمريكا لتحضير درجة الماجستير والدكتوراه في حقل إدارة الأعمال، حيث سيبعثني عملي لتلك الدراسة، وقد وقفت كثيراً مع نفسي وبدأت أتردد، ولكني استخرت الله أكثر من مرة، فوجدت في نفسي الطمأنينة والقبول وحاولت الاتصال بك فلم أستطع، فهل أسافر أم لا؟
الجواب
قلت في بداية ذلك الشريط: السفر عند علماء الإسلام لبلاد الكفر لمطالب ومقاصد لا بأس، منها أن تطلب علاجاً ليس في بلاد المسلمين كأن تعذر وجوده في بلاد المسلمين، فلك أن تسافر للعلاج، ومنها: أن تسافر داعية بشرط أن تكون مؤثراً هناك، وأن يقبلوا منك، أما أن تكون لست مؤثراً وتقول: أدعو هناك، فهذا ليس بوارد، بعضهم بقرية ما تكلم بكلمة، وما علم عجائز قريته سورة الفاتحة ويقول: أريد أن أدعو في سنغافورة أو في الولايات المتحدة الأمريكية.
نحن لا ينقصنا العدد، نحن غثاء كغثاء السيل، ينقصنا جودة، ولا ينقصنا كم بل ينقصنا كيف، اليهود الإسرائيليون عددهم مليونان لعلوا بنا طولاً وعرضاً، والمسلمون الآن مليار، لكن تعال إلى المليار نصفهم بالتابعيات مسلم، ولا يعرف يصلي، ولا يعرف الله ولا القبلة، والبقية يصلي بالاختيارات، إلا من رحم ربك، والبقية الخيرة ولا زالت الطائفة المنصورة موجودة، لكن هناك بقية كذلك، لا تعرف الإسلام إلا صلاة، وعمرة وحجاً، ومراسم تعبدية فقط، لكن لا صدق، لا وفاء، لا أمانة، لا انتهاء عن ربا، لا انتهاء عن زنا، لا انتهاء عن محرمات، لا حفظ للأوقات، لا خوف من رب الأرض والسماوات، فأين الإسلام؟ وطائفة جهلت بالإسلام، لا يعرفون شيئاً، يعرفون يصلون لكن جاهلون، يعرف يقود سيارته، يعرف يأكل، يخلع قميصه، يبني بيته، لكن إذا قلت تعال تفقه في الدين يقول: الحمد لله العلم متوفر، والله منَّ علينا بالخير، وقد عرف الدين العجائز.
لكن لو سألته في سجود السهو هل هو قبل السلام أم بعد السلام ما عرف، فأقول هذا للدعوة.
ومنها لتحصيل علم لا يوجد عند المسلمين مثل علم التكنولوجيا، هذا العلم الذي سبقونا فيه، هذه العلوم الطبيعية تطلبها من هناك، أما أن تطلب الحديث هناك أو الفقه من هناك فلا.
لا يطلب الشفاء من مريض، هم أمراض، واحذر منهم، والسنة أتت من هنا.
فتذهب هناك بشرط أن يكون هناك مصلحة، لكن أقول لك أولى وثانية وثالثة: استخر الله قبل سفرك، فإن الخيرة بيده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، واستشر أهل الرأي، وإن كان فيه مندوحة عن السفر فاترك، وإن كان يتوقف عليه نفع لك ولأمتك ولبلادك، فاذهب والله معك.
لكن إذا ذهبت فأمامك أمور، أولها: أن تذهب بزوجتك، ولو كان عندك أربع فأذهب بهن، فإنه سوف تأتيك دواهٍ ولواهٍ، مصغيات وملهيات، إن لم تعتصم بحبل الله هلكت، ومنها: أن تكون متحصناً بالأذكار والأوراد، وسنة محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن بعض الناس إذا وصل إلى هناك بين عشية وضحاها يصير أنكى من الخواجات ضد الإسلام.
والأمريكان ما أحجموا عن الإسلام إلا لسببين:
السبب الأول: التمثيل السيئ في بلاد المسلمين للإسلام، يأتون جاليات هنا إلى مهبط الوحي، إلى أرض الرسالات، إلى أرض الحرمين، فيظنون أنهم سوف يسمعون بتلك السيرة الماجدة لمحمد عليه الصلاة والسلام، ولـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، يجدون الصدق، والعدل، والوفاء الذي يقرءونه في القرآن والسنة، ولكن يطبقوا السنة والقرآن على المجتمع، فإذا به خلاف الأصل، الكتلوج خالف التعاليم الأرضية، الواقع خالف الخيال المكتوب، فأصبح عندهم الإسلام خيال.
ولذلك يقول كريسي موريسون يقول: ما عندكم إسلام، في بلادكم لا يوجد إسلام، فقط الإسلام يوجد عندكم في الكتاب والسنة متى تصلون إليه.
وشُوه الإسلام من أناس ذهبوا إلى، أو من جهات وكيانات هناك، تبنت الإسلام وقد شوهت الإسلام، يذهب شاب وإذا هو غداً مع فقاة ويعاقر الخمر، ويترك الصلاة، ويخون، ويغدر، ويترك العمل، فيقولون: أنت مسلم وتفعل كذا؟! هذا الإسلام ليس بصحيح.
فمثل الإسلام تمثيلاً جيداً، فأنت داعية هناك، وقد أقبل عباد الله إلى الإسلام، وقد اهتدى شبابنا هناك، ونسبة المهتدين إن لم يكونوا ثمانين أو أكثر فلا يقلون عن ذلك، والحمد لله عادت الأمة والدنيا إلى الله؛ لأن الإسلام دين حق، يصل إلى القلوب بحق ونور، وخسئت الشيوعية، ولعنت، وقبحت، انهارت رومانيا أمس.(298/21)
تعليق على الجهاد الأفغاني
السؤال
يرجى منكم التحدث عن الجهاد الأفغاني، وحث المسلمين على الإنفاق في سبيل الله لصالح الجهاد الأفغاني وجزاكم الله خيراً.
الجواب
على كل حال، الآن تحصيل حاصل، الجهاد الأفغاني يعرفه الوثني الأفريقي، والبرشفي الأحمر، والخواجة الأشقر، ما أحد في الدنيا لا يعرف الجهاد الأفغاني، سلُّوا سيوفهم، وحرابهم، ورفعوا لا إله إلا الله حتى تاب برجنيف وجرباتشوف وأذنابهم وعملاؤهم، من الاعتداء على قداسة المسلمين، قوم أتتهم الدبابات فخرجوا بالسلاح يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
نحن في ظل ظليل، وفي نعم وفي نعيم، وفي رخاء وفي شيء من العيش عظيم، لا نخشى على أنفسنا إلا أن نموت تخماً، بعض الناس يموت شهيداً في المستشفى من أكل العصيدة، يسوى له عملية قالوا: أكلها وهي حارة، وبعضهم قالوا: أدخل العشاء على الغداء بدون ترتيب، وبعضهم يغص بلقمة فيموت إلى رحمة الله على مائدته.
فنحن ما نشكو إلا من الإحباط، فجدير بنا أن نوجه بعض النعم (بعض التبرعات) بعض المال إلى أولئك الذين أعلنوا جهادهم لله عز وجل، يلتحفون السماء، ويفترشون الأرض، وأنت عندما تقدم مالك إنما تعلن إيمانك من جديد، وتعلن صدقك مع الله وإخلاصك يقول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].
أخذت أموالنا الأزياء، والأحذية، والكنبات، فماذا نقول للجنات يوم فتحت أبوابها للمتصدقين، ألا إن عثمان دخل الجنة بماله، قال عليه الصلاة والسلام: {من يجهز جيش العسرة وله الجنة، فجهزه عثمان، فدمعت عيناه عليه الصلاة والسلام على المنبر وقال: اللهم اغفر لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم} ادفعوا أموالكم ساهموا، سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض، يدفع المال هناك، وما اكتسيت ما أكلت ذاهب.
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
قتل أحد المجاهدين وهو شهيد، فوجدوا في قميصه خمسة قروش، ما ترك قليلاً ولا كثيرا.
دخلوا على قائد من قواعد المجاهدين الأفغان، فوجدوه في بيت من خشب، قالوا: أنت قائد، وأنت في بيت من خشب! قال: لو كنت أعمل للدنيا لسكنت قصراً، لكنني أريد جنة عرضها السماوات والأرض.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(298/22)
اقتراب ساعة الدجال
هاهي أيام الدنيا أوشكت على الأفول، فإن أمارات الساعة قد بزغت قديماً، ومازالت تسير حتى تظهر الفتنة الكبرى فتنة الدجال، شر غائب ينتظر، ليفتن الله به من يشاء، ويعين الله أهل الاستقامة فيبعدهم عن فتنته.(299/1)
الدجال (خبره وفتنته)
اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت إله السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وعليك توكلنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، اللهم بك خاصمنا، وإليك حاكمنا، وبدينك رضينا، وإلى رحمتك رغبنا، فاغفرلنا ما قدمنا وما أخرنا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه الله على حين ظلمة وغفلة من الناس، فبصر به من العمى، وهدى به من الضلالة، وأنار به من الظلمة، وأنقذ به من الهلكة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس: إن أمامكم فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مسلماً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا.
أيها الناس: فتن والله كالليل المظلم؛ أكبرها وأظلمها وأفتنها فتنة المسيح الدجال، نعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال، يقول عليه الصلاة والسلام: {ما بين خلق الخلق إلى قيام الساعة فتنة أعظم ولا أكبر من فتنة المسيح الدجال} ويقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {ما من نبي إلا أنذر قومه المسيح الدجال} ثم يقول عليه الصلاة والسلام: {ألا إني أنذركم فتنة المسيح الدجال ألا إنه أعور - أعور العين اليمنى - وإن ربكم ليس بأعور} وإنما قال هذا عليه الصلاة والسلام؛ لأنه سوف يبعث في آخر الزمان، وهو قريب الخروج، ويقول لبعض المفتونين: أنا ربكم! فيصدقه كثير من الناس، يصدقه الذين يتخلفون عن الجماعات ويضيعون الصلوات، ويرتكبون الشهوات، ويستمعون الأغنيات، ويطالعون المجلات الخليعات، يفتنهم حتى يرديهم النار، ويكتب على جبهة كل واحد منهم (ك ف ر) نعوذ بالله من فتنته.(299/2)
لقيا تميم بن أوس الداري المسيح الدجال
روى مسلم في صحيحه - رحمه الله - أن نفراً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ركبوا البحر في سفينة؛ فانكسرت بهم السفينة فركبوا خشبة طويلة؛ فأخذت تلعب بهم الريح شهراً كاملاً في البحر، فانتهوا إلى جزيرة من الجزر، فنزلوا في الجزيرة، جزيرة أظنها في بحر القلزم أو ما يواكب تركيا فنزلوا هناك تجاه بلاد الشام، فلما نزلوا في الجزيرة وإذا بدابة أهْلب كثيرة الشعر لا يدرى وجهها من قفاها، فتكلمت بإذن الله، فقالت: من أنتم؟
قالوا: نحن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فقالوا لها: من أنتِ؟
قالت: أنا دابة، قالوا: ما خبرك؟
قالت: لا تسألوني، واذهبوا إلى هذا الدير إلى بئر مطوية هناك فاسألوا رجلاً فيها، فظنوا أنها شيطانة، فذهبوا إلى البئر الذي وصفت، فإذا هي بئر مطوية لا ماء بها، وإذا فيها رجل كأضخم الرجال جسماً، أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية خارجة من رأسه، وإذا يداه مسلسلتان إلى عنقه مكتوف بالحديد، وإذا يداه ورجلاه قي سلاسل من الحديد لا يستطيع الوثوب، يزرم ويريد أن يتفكك، ويريد أن يشرد ويخرج من البئر ولكن الله حبسه في الحديد، فقال له الصحابة: من أنت؟ وفيهم تميم الداري أحد الصحابة، قال: أنا المسيح الدجال - نعوذ بالله من المسيح الدجال - ثم قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن قوم من العرب، قال: ما خبر نخل بيسان، -ونخل بيسان في الأردن - أتثمر؟ قالوا: نعم.
قال: يوشك أن يأتي عليها زمن لا تثمر.
قال: ما خبر بحيرة طبرية -وهي قريبة من البحر الميت -؟ قال: أفيها ماء؟ قالوا: نعم فيها ماء، قال: يوشك أن يأتي عليها زمن لا يوجد فيها ماء، ما خبر عين زغر أفيها ماء؟ قالوا: نعم فيها ماء يسقون به الشجر، قال: يوشك أن يأتي زمن لا يجدون في عين زغر ماءً، ما خبر النبي الأمي أبعث؟ -أي: محمد عليه الصلاة والسلام- قالوا: نعم بعث، قال: كيف العرب له؟ قالوا: قاتلهم وقاتلوه فانتصر عليهم، قال: أما إنهم لو أطاعوه لكان خيراً لهم.
قالوا: وما خبرك أنت؟ قال: أنا المسيح الدجال أغضب غضبة فيخرجني الله من هذا المكان، فأطوف في الأرض، فلا تبقى أرض إلا هبطتها إلا مكة والمدينة، وفي لفظ مسلم -إلا مكة وطيبة - فإن الله يحميها عني بملائكة، على أنقاب المدينة سبعون ألف ملك، مع كل ملك من الملائكة مرزبة لا أدخل المدينة، ولا مكة.(299/3)
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من المسيح الدجال
فرجع الصحابة؛ فأخبروا النبي عليه الصلاة والسلام، فقام فجمع الناس في المسجد، وقال: الصلاة جامعة، الصلاة جامعة، الصلاة جامعة، ثم تكلم فيهم، وقال: {ما من نبي إلا وأنذر قومه المسيح الدجال ألا فإني أنذركم المسيح الدجال يدخل كل بلدة إلا مكة وطيبة} ثم قال لمدينته: هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة ينزل حول المدينة فيهبط في السبخة في الحرة السوداء؛ فيخرج الله له من المدينة كل كافر ومنافق، وينزل سبعون ألف ملك على جبال وهضاب المدينة، ومداخل السكك يحرسونها بإذن الله، وينزل ذكر الله، فيحرس مدينة المصطفى عليه الصلاة والسلام فترجف المدينة رجفة هائلة تكاد جبالها أن تتدكدك، فيخرج له الكفار والمنافقون فيفتنهم بفتنة.(299/4)
مدة إقامة المسيح الدجال في الأرض
أما هو فيجوب الأرض -نعوذ بالله منه- ويمشي في القرى وينزل المدن، يهبط المدن، ويقف على الجبال، يبقى في الدنيا أربعين يوماً، يوم من الأيام كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وبقية أيامه كأيام الدنيا، يأتي إلى البدوي في البادية، فيقول للأعرابي الذي ما صلى ولا اغتسل من الجنابة ولا عرف الله.
فيقول له: أو أحيي لك أبويك (أمك؛ وأبيك)؟ فيقول الأعرابي: نعم، فيحيي له أبويه، فإذا هم أحياء، وعند مسلم وأوردها السخاوي أن المسيح الدجال يمثل له شيطاناً وشيطانة، فيقول: هذا أبوك وأمك، فيؤمن به ويدخل النار.
ويأتي إلى الخرابة فيطلب من الخرابة كنوزها فتخرج الخرابة ذهبها وفضتها، فتخرج مع المسيح الدجال -فتنة لكل مفتون- لكن المصلين والموحدين لا يفتنهم ولا يخدعهم، لكن الذين يحافظون على الصلوات الخمس لا تصيبهم فتنة ما دامت السماوات والأرض.
يأتي بجنة ونار، يقول للناس: من أطاعني دخل جنتي، ومن عصاني دخل النار، يقول عليه الصلاة والسلام: {من أدركه فليدخل ناره، فإن ناره جنة، وجنته نار} يفتن الناس فتنة عظيمة كان يقول عليه الصلاة والسلام في دبر كل صلاة: {أعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال} من أطاعه أعطاه مالاً وخوله، ومن عصاه قتله أمام الناس.
يأتي برجل حول المدينة من الصالحين، فيقول: أتؤمن بأني! أنا الله؟ فيقول: آمنت بالله وكفرت بك، فيأخذ السيف فيقتله فيقسمه نصفين، ثم يمشي بين الشقين، فيقول للناس المفتونين المخدوعين، أهل البعد عن الله، الذين لا يعرفون المصحف، أهل الليالي الحمراء، أهل المجون، أهل الكأس، أهل المرأة الخليعة، الذين أظلمت قلوبهم وقست واسودت من المعاصي، عبدة الدرهم والدينار، عبدة الأغنية والمجلة الخليعة، فيقول لهم: أتؤمنون بي؟ قالوا: آمنا بك؛ فيكفرون، فيحيي بإذن الله هذا المقتول فيحيا، فيقول: أتؤمن أني أنا الله؟ فيقول: آمنتُ بالله وكفرت بك، ما ازددتُ فيك إلا بصيرة، فيأتي ليقتله فلا يستطيع قتله.
يجوب، ويخطف القرى والمدن خطفاً، وترتج له الأرض، وتخبر به أجهزة الإعلام، ويتكلم عنه الناس، ويكون حديث الساعة، وتشتغل به الأرض.
فأما المؤمن فلا يخاف ولا يحزن {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] وأما المنافق، والكافر، والفاسق فالويل له، والله لا يعصمه من المسيح الدجال ولو كان في البروج المشيدة، ولو كان في الحصون المحصنة.
عباد الله: هذا شيء من فتنة المسيح الدجال الذي نستعيذ الله من فتنته في كل صلاة، فهو قادم لا محالة، وهو قريب بلا شك، وهو خارج في الناس فتنبهوا واستيقضوا وانتبهوا لفتنته، وهلموا إلى طاعة الله وإلى الصلاة، إلى ذكر الله، أنقذنا الله وإياكم من فتنة المسيح الدجال، وعصمنا وإياكم من المسيح الدجال، وحمانا الله وإياكم من فتنة المسيح الدجال، وبصرنا الله وإياكم بـ المسيح الدجال.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم(299/5)
دروس مستفادة من قصة المسيح الدجال
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(299/6)
اقتراب الساعة
أيها الناس: مما سمعنا نستنبط درساً هاماً وهو أن القيامة قربت، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعلاماتها الصغرى والوسطى والكبرى، أما الصغرى فقد ظهر معظمها ودخلت الوسطى، وما هي إلا قاب قوسين أو أدنى، فتدخل الكبرى، وحينها تقوم الساعة، ويخرب العالم، وتتغير المعمورة: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [إبراهيم:48 - 52].
فأما من صلّى وزكى، وبر والديه، ووصل رحمه، وحسن باطنه وظاهره فلا خوف عليه {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:101 - 104].(299/7)
من علامات ظهور الساعة
عباد الله: ظهرت كثير من علامات الساعة: فاض المال فينا، وأصبحت الملايين المملينة كالدراهم عند السلف.
أكل الناس الربا، ولبسوا الربا، وأخذوا سياراتهم وفللهم وقصورهم من الربا.
خون الأمين، واستزري بالصالحين ولم يؤمّنوا، وَصُدِّر الفجرة والفسقة وصُدّقوا واُحترموا، وعُظِّموا وقُدِّموا، فهذه من علامات الساعة، وسدت الأمور في كثير من النواحي إلى غير أهلها، وأصبح المتكلم في الناس الذي يتكلم ويكتب وينصر دعوته هم أهل باطل من يهود ونصارى وعلمانيين وشيوعيين، وأصبح المسلم في غربة، وهو في بيته يُنابذ بالغربة.
أصبح المسلم يوم يلتزم بالإسلام وبالسنة في غربة من بيته، يستنكرون ثوبه ولحيته، وصلاته وصيامه، وسواكه وذكره، فهل بعد هذه الغربة من غربة؟!
أصبح الدين الإسلامي الذي كان يراد أن يرشح ليقود العالم في غربة، فأصبح المسلم بين بني جنسه في غربة.
قال ابن القيم: "غريب في صلاته؛ لأن الناس يسيئون الصلاة، غريب في كلامه؛ لأنهم يكذبون، غريب في لباسه؛ لأنهم يلبسون الحرام، غريب في طعامه؛ لأنهم يأكلون الحرام، غريب في صمته؛ لأنهم يتكلمون في الحرام".
يا أيها الغريب: كن غريباً بعقيدتك فإن أهل السنة والجماعة لا يشترط فيهم الكثرة ولو كانت جماعتهم واحداً.
غريبٌ من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد
لا طفوني هددتهم هددوني بالمنايا لا طفت حتى وحسا
أركبوني نزلت أركب عزمي أنزلوني ركبت بالحق نفسا
عشت فرداً والناس مليون حولي وأراها الذئاب غبساً وطرسا
فالذي ينجيه الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن هو الذي جعل الله له نوراً في قلبه، نور الفطرة، ونور الإسلام: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
فيا من منح أولياءه نوراً! امنحنا نوراً من نورك، اللهم اجعل في قلوبنا نوراً، وفي أسماعنا نوراً، وفي أبصارنا نوراً، وعن أيماننا نوراً، وعن شمائلنا نوراً، ومن خلفنا نوراً، اللهم أعظم لنا نوراً.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلّ على نبيك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذا الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه يا رب العالمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك في برك وبحرك يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم ثبتهم في حربهم وسلمهم، اللهم انصر الإسلام على أيديهم، ودمر أعداءهم وأعداءك يا رب العالمين، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم رد فلسطين إلى بلاد المسلمين، واجعل لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله ترفرف على أرض فلسطين، اللهم أنقذها وأخرجها من أيدي اليهود قتلة أنبيائك، وأعداء رسلك، المكذبين بكتبك يا رب العالمين، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً وأصلح شباب المسلمين ووفقهم للخير، وكفر عنهم سيئاتهم، وأصلح بالهم، وأخرجهم من الظلمات إلى النور يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(299/8)
البعوضة في القرآن
إن الله سبحانه وتعالى شرع الدين الإسلامي، وعضده بوحي من عنده وهو القرآن الكريم، الذي أنزله الله بلغة العرب، ليفهموا كلامه وليفقهوا أمثلته، ومن الأمثال التي أوردها الله سبحانه وتعالى البعوضة، وقد رد سبحانه في هذه الآية على من يكفر بالله، ويستبعد أن يضرب هذا المثل، ويذكر الله في القرآن الكثير من هذه الأمثلة، فيهتدي أناس ويضل أناس.(300/1)
شرح آية ضرب المثل بالبعوضة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
ومع كتاب الله النور المبين, والصراط المستقيم, ومع آيات محكمات, وعظات بالغات:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:26 - 27].
فما زال الحديث في القرآن معترك بين الكفار والمؤمنين, والله عز وجل قال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] فلما انتهى سُبحَانَهُ وَتَعَالى من هذه الآية، وكأنه أنزل أهل الإيمان الجنة دار الرضوان، وكأن أهل البغي والطغيان أنزلهم ناراً تلظى، قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]
و
السؤال
ما هو سبب نزول هذه الآية؟ والسؤال الثاني: هل يطلق الحياء على الواحد الأحد؟(300/2)
سبب نزول آية ضرب المثل بالعبوضة
فأما
السؤال
ما هو سبب نزول هذه الآية؟ فلأهل العلم قولان:
الله ضرب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ما يقارب من البعوضة وما فوقها وما دونها أمثلة في القرآن, وذكر الله النحل وهي حشرة خلقها وفطرها وهداها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وذكرها في كتابه فقال: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68] وهي آية من أكبر الآيات.
ولذلك ينقل الأستاذ سيد قطب في الظلال عن كريسي موريسون الأمريكي صاحب الإنسان لا يقوم وحده , يقول: أعظم آية على أن هناك قدرة: هذه النحلة, قال: من يدلها أن تقطع آلاف الأميال، وتأتي من الجبال إلى خليتها فلا تضل خلية إلى غير خليتها, أعندها (هوائي)؟ قال سيد قطب: لا يوجد عندها هوائي ولكن عندها: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68] فقال الكفار: رب قدير كبير عظيم ويتحدث عن النحل! والنحل حشرة صغيرة، والعظماء على زعمهم لا يتحدثون في الحشرات.
وذكر الله الذباب، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73 - 74] قال كفار مكة: رب محمد يضرب المثل بالذباب.
وذكر الله النمل فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] يقول بعض أهل اللغة: نادت، وأمرت، وبينت، واستثنت، واعتذرت وختمت, فنادت فقالت: يا أيها النمل, وأمرت فقالت: ادخلوا, وبينت فقالت: لا يحطمنكم سليمان وجنوده, واعتذرت وختمت فقالت: وهم لا يشعرون, فسبحان من علمها وعلم سليمان منطقها!
فلما كثر القيل والقال رد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم، وأقول: إن سورة البقرة تعتني -كما يقول أحد المفكرين- بالنسف والإبادة وبالردود, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] الله يضرب الأمثال بالبعوض وما فوق البعوض، وهو الذي خلقها، وهو الذي سواها, فهذا هو سبب نزولها عند بعض المفسرين.
القول الثاني: وقال قوم من أهل التفسير ومن أهل السنة: سبب الآية أن الله عز وجل لما ضرب بعض الأمثلة في القرآن قالوا: ما هذه الأمثلة، القرآن وهو كتاب معجز تضرب فيه الأمثلة, يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17] ثم بعدها بآية قال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:19] قالوا: كيف يضرب الله هذه الأمثال؟! فرد الله عليهم قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26].(300/3)
إثبات صفة الحياء لله عز وجل
أما بالنسبة للسؤال الثاني: هل يطلق الحياء على الله عز وجل؟
جاء عند الترمذي وابن ماجة وأبي داود والحاكم وصحهه من حديث سلمان قال عليه الصلاة والسلام: {إن الله يستحي من أحدكم إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً} في لفظ: {إن الله يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً} سبحان الله! يستحي منك الله إذا رفعت يديك إليه أن يردهما صفراً, لا يرد لك طلباً، وهو يستحي منك وأنت لا تستحي منه!
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
وورد في الحديث: {إن الله يستحي أن يعذب ذا شيبة في الإسلام} فنطلق هذه الصفة على الله ونقول: له حياء يليق بجلاله, لا نكيفها، ولا نشبهها، ولا نمثلها، ولا نعطلها.
وقد ورد في الحديث الصحيح: {إن الله يستحي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفراً} فلابد أن يرد الله في يديك شيئاً, فأكثر من سؤال الله, ومن الالتجاء إلى جنبات الواحد الأحد.
لا تسألنَّ بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
والفرق في هذه المسألة بين الخالق والمخلوق: أن المخلوق إذا سألته غضب عليك، ولذلك جاء عند ابن ماجة بسند صحيح: {أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟ قال: ازهد في الدنيا يحبك الله, وازهد فيما عند الناس يحبك الناس} فلا يحبك الناس إلا إذا زهدت فيما عندهم, ولا يحبك الله إلا إذا سألته.
وأحب الناس إلى الله أكثرهم مسألةً ولجوءاً ودعاءً، وإذا رأيت العبد يرفع يديه دائماً، ويقول: يا رب يا عظيم يا كريم يا إلهي فاعلم أنه قوي الإيمان.
واللجوء إلى الله من أعظم ما يمكن أن يقرب العبد من الله, قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] وقال: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].
إنه ليوجد من البدو مؤمن موحد يعرف الله والدار الآخرة, ويوجد من المثقفين ملحد زنديق رعديد، يحمل الشهادة الجامعية ولكن عقله عقل حمار! قال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] وقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
ويوجد في أهل البادية من يحافظ على الصلوات الخمس، ومن يصلي في الليل ويدعو الله ويبكي، ويوجد من طلبة العلم من بلغ درجة البرفسور أو الأستاذ المشارك وهو لا يحافظ على الجماعة، ولا يتلو القرآن، ولا يعرف الواحد الديان!(300/4)
قصة توضح استحياء الله من عبده إذا دعاه
وحدثنا بعض الدعاة بهذه القصة فقال: نزل رجل أعرابي في الصحراء, فارتحل عن الغدران والأودية مسافة يومين ومعه أهله وأطفاله، أصابهم عطش شديد فلما بحث عن الماء لم يجده طلبه أطفاله ليشربون وطلبته زوجته فلم يجد ماءً, قال: انتظروا قليلاً! فذهب وراء الجبال فلم يجد ماءً, رجع وترك ما وراء الجبال، والتجأ إلى ذي الجلال, كما قال الله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] فتيمم وصلّى ركعتين ورفع يديه؛ لكنه مضطر صادق وبكى وقال: يا رب! التجأنا إليك أنا وزوجتي وأطفالي, من ينقذنا يا رب؟! كيف يرد الله هذه الكلمات؟! أيرد الله يديه صفراً؟! {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] وقال: والذي فلق البحر لموسى ما انتهيت إلا والغمامة على رءوسنا غطت ما بين الجبلين, قال: فأنزل الغيث فإذا بالسيل من جانبنا ودخلنا الخيمة حتى انتهى السيل, قال: فأخذ أطفالي وزوجتي يتضاحكون من قرب الفرج ومن كرمه عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
فالشاهد: أننا نطلق الحياء على الله، لكنه حياء يليق بجلاله، ما دام أنه أطلقه على نفسه فما هو المانع من إثباتها لله؟ ولكن العبرة ليست في إطلاق الصفة فهي ثابتة, لكن العبرة يوم يستحي الله من العبد ولا يستحي العبد من الله! يا سبحان الله! رب يستحي من عبده وخالق يستحي من بعض خلقه ألا يستحي المخلوق من الله؟!
تصور أن ملكاً من ملوك الدنيا -ولله المثل الأعلى- دخلت عليه فقال: يا فلان! والله إني أستحي منك، ولولا حيائي منك لفعلت بك وفعلت! فتخرج أنت وتعصيه, ثم دخلت عليه، وقال: إني أستحي منك أن أعاقبك! هل بقي لك وجه أن تقابله؟! أما عندك حياء أن تستحي منه؟
والله لا يستحي من الحق، أتت أم سليم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق -هذه مقدمة لطيفة ظريفة- فأقرها صلى الله عليه وسلم, وكان عندها في صدرها كلام, لكن قدمت ديباجة بين يديها, ما هو المعنى؟ تقول: يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق ماذا تتصورون؟ عندها سؤال فيه حياء, وسؤال شائك, وسؤال تستحي المرأة أن تسأله العالم, وخاصة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم, لكن طرحت
السؤال
إن الله لا يستحي من الحق, هل على المرأة غسل إذا رأت الماء؟ -أي احتلمت ورأت الماء- فقالت أم سلمة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم: تربت يمينك! فضحت النساء -في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم- تقول: ما هذا السؤال المجحف الذي فضحت به النساء, فقال عليه الصلاة والسلام: {بل تربت يمينك أنت يا أم سلمة، نعم.
على المرأة غسل إذا هي رأت الماء}.
فالشاهد أنه أقرها صلى الله عليه وسلم على هذه المقدمة (إن الله لا يستحي من الحق) , كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً} [البقرة:26].(300/5)
مع أهل اللغة والأدب في قوله تعالى: (مثلاً ما)
والآن نريد أن نعرب (مثلاً ما) مثلاً: منصوب على أنه مفعول به, ما: بدل أو صفة جائزة عند أهل النحو, أو منصوبة على نزع الخافض حرف مجرور مقدم, أو حال، أو تمييز في مقام الحال, كلها معربة.
والمعنى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} [البقرة:26].
أي مثل, أو مثل ولو صغر, أو مثل من أي مثل موجود, وهو المعنى الذي قلته أولاً, ما بعوضة, ما هي البعوضة؟ أولاً الله له أن يضرب المثل بما يشاء من الأشياء، والله عز وجل له أن يقسم بما يشاء من خلقه, وليس للمخلوق أن يقسم إلا بالخالق, والعرب تضرب الأمثلة.
وذكر الرازي في كتابه التفسير الكبير أن من عادة العرب ضرب الأمثلة, يقولون: أجرأ من ذئب, وأشجع من أسد، وأجبن من غراب, وأحقد من جمل, وأحمق من حمامة.
ولا بد أن نقف قليلاً، ومن يقرأ كتاب الحيوان للجاحظ يتعجب من هذا الكون الذي خلقه فاطر السموات والأرض, كيف ركَّب عقل هذه وكيف سوى هذه وحسّن هذه وقبح هذه وجعل لهذه منقاراً ولهذه أجنحة ولهذه مخلباً سبحانك!
وكتاب الحيوان للجاحظ يقربك من التوحيد إذا كنت مؤمناً, فقالت العرب: أحمق من حمامة والسبب يقولون: خرج صياد بقوسه وبكنانته يريد صيد حمامة, فأخذت تولول وتغني هذه الحمامة وجارتها في العش, فأردات أن تنصحها أن تسكت, فقالت: اسكتي اصمتي من صمت نجا, فأطلق عليها الصياد فقتلها, مثل هذه القصص نوردها, لأن صاحب كتاب الحيوان الجاحظ يوردها لضرب الأمثلة، وصاحب كليلة ودمنة يقول: يضربونها مثلاً للناس.
حتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لما قتل عثمان قال له الناس: تولَّ الخلافة, قال: [[أكلت يوم أكل الثور الأبيض]] قالوا: ما هذا المثل يا أمير المؤمنين؟ قال: كان في الصحراء أو في حديقة ثلاثة ثيران: أحمر, وأبيض, وأسود, فأتى الأسد ويقال للأسد أبو معاوية، وهو يأكل الرجال أكلاً عريضاً, أشجع الحيوانات الأسد, ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:50 - 51] وهو حاكم الغابة, فأتى إلى الثيران فإذا هي ذات قرون، وعضلات، وثلاثة إذا اجتمعت عليه وهو وحداني لا يستطيع! فأتى إلى الثور الأسود ودعاه بينه وبينه بالنصيحة والدين النصيحة, فقال: إني أرى الأبيض والأحمر يأكلان مأكلك وعشبك, قال: فما رأيك فيه؟ قال: ما رأيك نستعين بالأحمر لقتل الأبيض قال: نعم, فدعوا الأحمر ونصحوه, فاجتمعا فقتلا الأبيض, ثم أتى إلى الأسود وقال: الأحمر هذا مغرض عليك فما رأيك فيه؟ قال: نقتله فتعاونا فقتلا الأحمر, قال: ما بقي إلا أنت يا عدو الله! فأكله.
قال علي بن أبي طالب: لا تظنوا أني باقٍ وقد قتل عثمان، فأنا في الطريق, وهؤلاء العظماء قتل عمر، وقتل عثمان وقتل علي، وذبح زكريا، وذبح يحيى.
ولسنا على الأقدام تدمى كلومنا ولكن على أعقابنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما(300/6)
تفسير قوله: (فما فوقها)
البعوضة: حشرة صغيرة, بعض العامة يسميها (النامس) والله أعلم بتسميتها, لكن هي حشرة صغيرة، وكأنها من أصغر الحشرات, شبه الذرة.
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} [البقرة:26] أن يمثل بالبعوضة، وبالذباب، وبالنملة، وبالنحلة, لكن العجيب (فما فوقها) ما هو تفسير فما فوقها؟ يعني: أكبر منها أو أصغر منها, لأهل العلم رأيان وقولان:
1 - قول يقول: المعنى: فما أكبر منها, فأصغر شيء البعوضة.
2 - قال: فما فوقها: فما أصغر منها, يقال لك: الرجل بخيل فتقول أنت: بخيل وفوق ذلك, أي: بخيل وزيادة, يقال: الرجل شحيح فتقول: شحيح وفوق ذلك، أي: من أشد الناس شحاً وكأن المعنى أقل في الكرم، فهذا من باب فما فوقها أي: فما أصغر منها.
وكلا المعنيين محتمل والله أعلم وأدرى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى له أن يضرب الأمثال لأنه يخاطب العرب بلغتهم.
يقولون في الشجاعة: أشجع من الأسد, ولذلك من قتل الأسد عند العرب فهو من أشجع الناس.
والعجيب أنه وجد بطل في العرب قتل أسداً، ولم يقتله بالسيف بل قتله بعصا, وهو أمير من أمراء الأردن؛ فقد خرج أحد الأسود ودخل المدينة، فناداه الناس، فترك السيف معلقاً وأخذ عصا، وشمر عن ساعديه، ونزل فاستقبل الأسد فضربه أول ضربة ثم يلحقه ضربات على رأسه حتى قتله! فأتى فعقدوا له مهرجان بـ دمشق يمدحونه, يقول المتنبي الشاعر:
أمعفر الليث الهزبر بسوطه لمن ادخرت الصارم المسلولا
يطأ الثرى مترفقاً في مشيه فكأنه آسٍ يجس عليلاً
يصف الأسد وهو يمشي في تبختر وكبرياء كأنه طبيب يجس مريضاً، وقال: أنت أيها البطل كيف تعفره بعصاك، فلمن تدخر السيف؟
أمعفر الليث الهزبر بسوطه لمن ادخرت الصارم المسلولا
ومثلوا البلادة بالحمار, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] ومثلوا بالكلب للذي لا يغير حاله، فمثلاً: إنسان تكرمه أو تهينه سيان, تعلمه أو يبقى جاهلاً, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176].
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
هو البحر غص فيه إذا كان ساكنا على الدر واحذره إذا كان مزبدا
أو كما قال وهذا للمتنبي في قصيدة طويلة مطلعها يقول:
لكل امرئ من دهره ما تعودا وعادة سيف الدولة الطعن في العدا
{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] انتهى من ضرب المثل وأثبت له صفة الحياء سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, لكن أتى التفصيل في الأمثال.(300/7)
أقسام الناس بالنسبة لما ينزل من القرآن
فقال سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:26] يعلمون أنه الحق, فما هو هذا الحق؟ قيل: القرآن, وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم, وقيل: الإسلام.
والقرآن إذ نزل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إذا قرئ حتى اليوم وبعد اليوم ينقسم الناس تجاهه إلى قسمين: قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الكفار: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت:44] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19].
والخطيب يوم الجمعة إذا قرأ الآيات، انقسم الناس إلى قسمين: قسم يزداد إيماناً وبصيرة وهداية ورشداً وتوفيقاً، وقسم يزداد نقصاً؛ لأنه منافق فاجر لا يريد القرآن ولا السنة, وهو إنما يصلي مع الناس عادة لا عبادة، قال الله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
إذاً فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:26] يعلمون أن هذا الدين والرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن حق من عند الله.
وقال بعضهم - وهو الصحيح إن شاء الله-: يعلمون أن المثل -وهو الصحيح إن شاء الله- من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, وأنه يضرب الأمثال وأنه يقص سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ما شاء, فسبحان الله كيف يتفاوتون إيماناً!!
وتصور أن الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي بك صلاة الفجر أو العشاء، وتصور كيف يتلقى أبو بكر وعمر وعثمان وعلي القرآن، فإنهم كل يوم يزدادون إيماناً, وتصور المنافق كيف يزداد عمى من القرآن؛ لأنه يبغض القرآن ولا يحبه, قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].
ثم يقول: {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:26] أي: هذا المثل وأنه وارد، وأنه صحيح, والله ضرب الأمثلة كثيراً في القرآن قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى--: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد:35] أي: صفة الجنة, وقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] وقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:24 - 25]
ثم ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مثلاً آخر: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} [البقرة:26] أي: لماذا يأتي بهذه الأمثال؟ ما هو المقصود منها؟ فهم كفروا وشكوا، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] قيل: يضل بالرسول ويهدي به, وقيل: يضل بالقرآن ويهدي به, ويضل بالإسلام ويهدي به, ويضل بالمثل ويهدي به.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26].
أولاً: هل يضل الله عباده؟
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25] والله هو الهادي, وجعل محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً، فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] وقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] , وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى طالباً المؤمنين أن يدعوه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وقال جل شأنه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس:35] فهو يهدي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فهل يضل عباده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟
عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله خلق العباد وأفعالهم, قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] وأن الله خلق الهداية، وخلق الإضلال، وأنه قدر الخير، وقدر الشر, ولكن مع خلق الله عز وجل للإضلال وتقديره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لكنه لا يحبه ولا يرضاه, خلق الكفر ولا يحبه, وقدره ولا يرضاه, وأراده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولكنه لا يحبه, وهذا الإضلال من كسب العبد, فإن للعبد مشيئة لكنها تحت مشيئة الله, قال سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29] فمن ضل فلا يحتج بالقضاء والقدر بل له كسب وسبب, فهو الذي فعل, ولو أن الله قدر عليه لكن لا حجة له, ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة:26]
و
السؤال
كيف يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة:26]؟ لأن الأستاذ مثلاً -ولله المثل الأعلى- إذا قيل له: أنجح الطلاب أم رسبوا؟ فيقول: نجح كثير من الطلاب ورسب كثير من الطلاب, وإن قلت: نجح قليل ورسب كثير كان الجواب صحيحاً, لهذا يقال: قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة:26] أي أن هؤلاء الكثير بالنسبة لغيرهم قليل, لأن الله عز وجل يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] وقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13].
نزل عمر بن الخطاب إلى السوق فسمع أعرابياً يبيع ويشتري، ويقول: اللهم اجعلني من عبادك القليل, فوكزه عمر بالدرة, وهذه الدرة كانت تقوّم الذين في رءوسهم وساوس, هذه الدرة تدخل النور في بعض القلوب وتوقظ بعض الأذهان, فضربه ووكزه قائلاً: ما لك ولهذا الدعاء؟ فسّر لي هذا الدعاء؟ قال: يا أمير المؤمنين! يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] فأسأل الله أن يجعلني من ذاك القليل, قال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر! بل أنت من أفقه الناس, ومن أعلم الناس.
وأقل الناس الآن هم أهل الهداية، ولذلك لا تستغربوا أن تجدوا في هذا المسجد أو في غيره من المساجد كثيراً من الناس؛ لكنهم بالنسبة للفجار، وللمنحرفين والضائعين والضالين لا يساوون نسبة تذكر.
قاعات من قاعات الغناء والسمر والساعات الحمراء يحضرها الألوف المؤلفة, الأستاد الرياضي يحتشد فيه بالألوف المؤلفة وعشرات الآلوف, وإذا أتيت لأهل الدروس، وأهل الطلعات الخيرة، وأهل الصحوة الإسلامية وأهل الوجوه النيرة تستصغرهم بجانب أولئك.
تعيرنا أنا قليلٌ عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل
لأن الأقلين فيهم خير فلا يعجبك كثرة الخبيث.
والناس ألف منهم كواحدٍ وواحدٌ كالألف إن أمر عنا
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
خرج عليه الصلاة والسلام للأمة العربية، وهي قبائل مثل الموج, فأتى يدعو فأخذ أبا بكر ثم عمر وعثمان وطلحة وعلياً والزبير فكان يربيهم حتى أصحبوا ما يقارب الثلاثمائة, فغرس الإيمان في قلوبهم، وسكب لا إله إلا الله في أرواحهم، ووجههم إلى الدار الآخرة؛ ففتحوا الدنيا, فلما فتح الله عليهم الفتوح أتوا يدخلون بالعشرات، لكن كل عشرة بريال! نحن لا نستهزئ بأحد لكن أتجعل مسلماً في الفتح كمسلم ما قبل الفتح؟ لا يستوون، والله ذكر ذلك, ولذلك يكون الذين أسلموا بالعشرات والمئات فروا في المعارك وما بقي إلا الأسماء اللامعة التي أسلمت على يقين, قال الله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} [النصر:1 - 2] ما دخلوا في أول الإسلام أفواجاً لكن اليوم دخلوا بكثرة، فقال الله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3].
إذا -أيها الأخيار- يضل الله من يشاء بالأمثلة ويهدي من يشاء, ويثبت هذا الحديث بما يليق به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ويليق بجلاله وصفاته وذاته وعظمته تبارك وتعالى وتقدس وتنزه.(300/8)
أسباب الهداية
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26].
وأسباب الهداية أربعة:(300/9)
من أسباب الهداية: تدبر القرآن والسنة
فإنك إذا تدبرت الكتاب والسنة زادك الله هداية وفتحاً وتوفيقاً.(300/10)
من أسباب الهداية التدبر في آيات الكون
كل شيء في الكون تتدبره ونتفكر فيه.
بك أستجير ومن يجير سواكا فأجر ضعيفاً يلتجي بحماكا
أذنبت يا ربي أصابتني ذنوب ما لها من غافر إلاكا
إبليس يخدعني ونفسي والهوى ما حيلتي في هذه أو ذاكا
هذا شاعر السودان يعلن الإيمان في قصيدته لأن بعض الناس يدخل الجنة بالشعر, وبعضهم يدخل النار وهو يسمع القرآن, ثم أتى يتحدث وقد ذكرتها أكثر من عشرات المرات لكنها جميلة:
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
وأحد شعراء اليمن واسمه ابن دريد
يا ظبية أشبه شيء بالمها ترعى الخزامى بين أشجار النقا
وابن دريد هذا عقلية فياضة، لغوي وإن أسرف في اللغة, جلس يتعلم في اللغة حتى أسرف وتجاوز الحد ولو فرغ هذا الجهد في القرآن والسنة لكن أحسن, له زميل له اسمه نفطوية , كانا يتحاسدان فألف ابن دريد كتاب الجمهرة , قال نفطوية: ابن دريد بقرة ألف كتاب الجمهرة! فرد عليه ابن دريد قال:
أحرقه الله بنصف اسمه وجعل الباقي عويلا عليه
حيث إن اسمه: "نفطويه"! ونفط: هذا الديزل والبنزين المعروف فيقول: يحرقه بهذا وجعل الباقي "ويه" عويلاً عليه.
فأتى ابن دريد بقصيدة مشرقة فيها حكم يقول:
يا ظبية أشبه شيء بالمها ترعى الخزامى بين أشجار النقا
والناس ألف منهم كواحدٍ وواحدٌ كالألف إن أمر عنا
ثم يقول في القصيدة:
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى
يقول: أنت بعد موتك ستكون حديثاً فكن حديثاً حسناً, فاستهزأ به نفطوية وعارضه بقصيدة هزلية يقول فيها:
وحمل بر من حمول تستر أفضل للمسكين من حمل النوى
يقول: من حمل على الجمل براً أفضل له من أن يحمل عجم الفصم هذا!
من دخلت في عينه مسلة فاسأله من ساعته عن العمى
من طبخ الديك ولم يذبحه فر من القدر إلى حيث انتهى
الشاهد أنه جاء رجل من أهل اليمن مؤمن موحد, ذكر عنه أنه كان يستسقي للناس فما يعودون من المصلى إلا والغيث يبلُّ ثيابهم, ويقولون: ترك هذا اللعب والتغزل وأتى بقصيدة اسمها "منظومة التوحيد" استطلعها قال:
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
من أحسن الظن بذي العرش جنى حلو الجنى الشائك من شوك السفا
إلى أن يقول:
لا بد أن ينشرنا كما زوى جوداً وأن يمطرنا كما ذوى
لطائف الله وإن طال المدى كلمحة الطرف إذا الطرف سجى
يقولون: ألقى هذه في صلاة الاستسقاء، فعاد الناس والغيث على رءوسهم يسكب سكباً, علم الله تلك القلوب كيف أشرقت بحبه ووصلت إليه, وهو الذي يريده صلى الله عليه وسلم من القلب وهو أن يتعرف على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, الذي أنا قلت: من أسباب الهداية الكتاب والسنة والثاني: التأمل في آيات الكون، في الزهرة وفي النحلة، وفي لمعة الضياء، وفي الماء، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] كم نخرج إلى النزه؟ كم نجلس في الرحلات في الحدائق الغنَّاء؟ لكننا لم نتفكر فيها ولو لمحة, تنظر إلى فعل البشر ولا تنظر إلى فعل خالق البشر, تنظر إلى إبداع البشر ولا تنظر إلى إبداع رب البشر.
حتى طلاب العلم والدعاة يجلسون في حديقة من حدائق البلدية، فينظر أحدهم إلى السور ويقول: سبحان الله ما أحسن إبداعهم في هذا السور! انظر إلى الحديد كيف ركبوه! وهذه اللمبات الكهربائية، والماء كيف أجروه! وكيف ضربوا هذه البويات وأخرجوا هذا الزجاج! لكنهم لا يقولون: انظر إلى النبات، وكم أنواعها، إنها مئات الأنواع هذا أبيض، وهذا أحمر، وهذا طويل، وهذا قصير.
سبحان الخالق! قال تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق:7] وقال: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10] لكن من يتلذذ ومن يتفكر؟! ومن يسأل النبت من الذي خلقه وأبدعه؟! إنه الله.(300/11)
من أسباب الهداية: كثرة الدعاء
من أسباب الهداية: كثرة الدعاء والالتجاء إلى الله الواحد الأحد:
فتطرح نفسك بين يديه، فإنه سوف يهديك لا محالة, قال ابن تيمية: " من أكثر من الدعاء فتح الله عليه فتوحاً لا تدور بالخيال ولا تخطر بالبال " أحد المحدثين في خراسان اسمه الحمَّال كان يدرس الناس الحديث, فأراد السلطان أن يقطع هذا الدرس فأرسل إليه رسول يقول له: لماذا لا تقطع الحديث، السلطان سوف يقتلك؟ قال: لا والله، بل يقتله الله قبل أن يقتلني, قالوا: سبحان الله! هو حي يرزق وسوف يقتلك الليلة, قال: والله لن يقتلني إن شاء الله, قالوا: ولم؟ قال: لأني سجدت لله، فقلت: يا قاصم الجبابرة! اقصم فلاناً قالوا: فخرجوا من المسجد فوجدوه قد اغتيل في السوق.
وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء أن سفيان الثوري دخل الحرم وكان أبو جعفر المنصور يبحث عن سفيان الثوري ولو وجده بين النجوم ربما أرسل من يأتي به, وسفيان الثوري لم يأخذ مالاً ولا سلاحاً ولا دوراً ولا قصوراً, إنما كان إذا لقي أبا جعفر أمام الناس يأخذ بتلابيب ثيابه وينصحه, خليفة الدنيا, فأراد أن ينكبه لأنه أيضاً يتكلم في الظلم ويتكلم في المنكر, فدخل الحرم وسفيان الثوري يصلي, قال له الناس: يا سفيان أقبل أبو جعفر المنصور ليدخل الحرم، فتعلق بأستار الكعبة، فقال: والله الذي لا إله إلا هو إن شاء الله لن يدخل الحرم, قالوا: ولِمَ؟ قال: يقتله الله, فلما بلغ بئر ميمون -وأنتم تعرفون التاريخ- مات قبل ليلتين من الحرم.
ابن تيمية في معركة شقحب وهذا من القسم على الله عز وجل، وهو سؤال الله أتى بالمصحف، وبالسيف وأخذ كأساًَ من الماء فشربه أمام الناس في 17رمضان وقال للناس: "افطروا جميعاً، الفطر في هذا اليوم أفضل, والله الذي لا إله إلا هو لننتصرن" فقام تلاميذه وقواد الجيش، قالوا: قل: إن شاء الله يا أبا العباس قال: والله لننتصرن, قال: قل: إن شاء الله قال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً, فوقعت المعركة وانتصروا بإذن الله, حتى خرج النساء والأطفال يتباكون على سقوف المنازل، قالوا: وكانوا يرون ابن تيمية يلمع بسيفه بين الصفوف، هذا هو ابن تيمية , ومن استطاع أن يأتي بمثل ابن تيمية فليأت بمثله!
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
أتى في أول الجيش، وهو يرفع صوته، وله صولة وهولة وجلالة ومهابة الله أعلم بها، والسيف بيده يقطر دماً، وكذا ثيابه، وكلها دماء.
تردَّى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضر
فتىً كلما سالت عيون قبيلة دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر
إلى أن يقول:
وما مات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتلت عليه القنا السمر
فرجع يقول: قال تعالى: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:119] فالمقصود: الالتجاء إلى الله هو شاهدنا في مسألة الهداية؛ لكننا لم نعرف نحن طعم الدعاء, وكثير من الناس يقول: يا رب! نجحني في الامتحان.
وهو يفكر في الغش في الفصل, وآخر يقول: اللهم! ارزقني وهو يفكر كيف يخدع مسلماً ليأخذ بضاعته, فهذا كله دعاء من قلب لاهٍ، وثبت عن ابن مسعود أنه يقول: [[إن الله لا يقبل الدعاء من قلب لاهٍ ساهٍ]].
يقول الأصمعي: مررت بأعرابي يسأل الله عز وجل الحاجة, يقول: فأجلس امرأته، وقال: اجلسي هنا فجلست, فنظر إلى السماء قال: يا رب! إني جالس كما ترى وامرأتي جالسة كما ترى فما ترى ربنا؟! أي: يقول: ماذا ترى في جلوسنا هنا؟
وقد نقل إلينا بعض الدعاة أن قرية من القرى جاهلة -لكن أوردها للعبرة- خرجوا للاستسقاء وهم جهلة، حتى أن بعضهم لا يعرف الفاتحة؛ لكن علم الله لجوءهم إليه, قرية جاهلة لا يوجد فيها عالم، ولا داعية ولا طالب علم, لكن اشتد بهم القحط، وماتت بقرهم وإبلهم وغنمهم، فعلموا أنه لا يأتي بالغيث إلا الذي فوق سبع سموات, فخرجوا: فلما اقتربوا من المصلى كان على أحدهم غترة من العمامات القديمة, وعادة بعض القبائل أنه إذا أردت طلباً من رئيس أو من وجيه، أو من رجل ذي سلطان، أو من رجل كريم ومقدم في جماعته يلقي عليه غترته, أي: يدخل عليه أن ينفذ هذا الأمر, قالوا: فتقدم هذا الشيخ الكبير الصادق الذي علم الله صدقه, قال: يا رب! وضعت بين يديك عمامتي, والله لو كنت مكاني وكنت مكانك ما أرضى لك هذا الحال! قالوا: فلما رجعوا يقول هذا الداعية: والله ما رجعوا من المصلى إلا والسيول تجرف جرفاً، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] علم الله جهله ولكن علم لجوءه إلى الله الواحد الأحد.
ولذلك ذكروا عن عيسى كما ذكر صاحب الإحياء وابن قتيبة في عيون الأخبار أن أحمقاً من بني إسرائيل كان له حمار, فأمطرت السماء وأنبتت الأرض من كل زوج بهيج، فانبسط هذا الإسرائيلي، فأخذ الحمار يرعاه وقال: يا رب! لك الحمد والشكر، والله لو كان لك حماراً لأرعاه مع حماري!
فالله جل وعلا من الأسماء والصفات ما هو بها جدير، وإنما أقصد ضرورة صدق اللجوء وكيف نلتجئ إلى الله؟ وكيف نصدق فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يأخذ بصدق القلوب, ويعفو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عما يأتي به العبد من سوء أدب معه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(300/12)
من أسباب الهداية: مجالسة الصالحين وزيارتهم
السبب الرابع هو: مجالسة وزيارة الصالحين: وقد قال الإمام الشافعي رحمه لله:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة
ومن الأخطاء: أن ترى بعض الشباب هداه الله قبل مدة وجيزة مع أهل الخير، ثم تجده مع الفسقة فإذا قيل له: ما لك؟ قال: أريد أن أدعوهم إلى الاستقامة والالتزام، وأصبحت هذه ذريعة في يد كل إنسان، ويبقى سنتين وثلاث وعشر سنوات، وهم لم يتأثروا به، بل قد يسحبوه معهم، لأن بعض الناس ضعيف الشخصية، إذا جلس مع أهل الفساد جرّوه.
إذاً حضور مجالس الخير هي من أسباب الهداية قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وتعالى يضل: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:27] وعهد الله قيل: ما أخذه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من الناس من أنه لا إله إلا هو, وقيل: إذا عاهدوا قوماً نقضوه, وقيل: عهود الإسلام جملة وتفصيلاً وهو الصحيح.
{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:27] لمن هذا الخطاب؟ قيل: لبني إسرائيل، وقيل: للمشركين، وقيل: للمنافقين، والصحيح أنه للجميع.
وما شر الثلاثة أمَّ عمروٍ بصاحبك الذي لا تصحبينا
وهذا شيخ كبير عجوز ضعيف نحيل فقير جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ابني جعت ليشبع، وظمئت ليروى, وسهرت لينام, وتعبت ليرتاح, فلما شب -يا رسول الله- وأملت فيه الأمل بعد الله تغمط حقي, ولوى يدي, وظلمني، وضربني, فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم, هل تتصور في العالم أفجر من إنسان رباه أبوه ثم بعد أن صار شيخاً كبيراً، معدماً ممقوتاً، أو محتقراً مصغراً عند الناس يريد أن يلتجئ بعد الله إلى ابنه، فيأتي هذا الابن بقوته وعضلاته فيضطهد هذا الشيخ! هذا ظلم عظيم, قال عليه الصلاة والسلام أقلت فيه شعراً؟ -لأن العرب تنفس عن همومها بالأشعار, امرئ القيس طال عليه الليل فقال:
الا عم صباحاً أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن إلا سعيد منعم قليل الهموم لا يبيت بأوجال
فالشاهد أن العرب كانوا ينفثون همومهم بأشعار، فقال: نعم يا رسول الله, قال: ماذا قلت؟ قال: قلت لابني:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهل
إذا ليلة ضاقتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لدغت به دوني فعيناي تهمل
ثم يقول:
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفضاضة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترعَ حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
يقول: ليتك فعلت كالجيران, ليتك تفعل مثل الناس, بعض أبناء الجيران أبر إليهم, وقد رأينا من بعض الآباء إذا أراد أن يرسل أحداً إلى الأسواق يعصيه ابنه فلا يرسله، ولا ينقله في مشواره ولا يؤدي له خدمة, فلا يؤدي له إلا أبناء الجيران.
ولذلك ورد في بعض الآثار: [[لئن يربي أحدكم في آخر الزمان جرواً خير من أن يربي ابناً]] لا صلاة ولا صيام ولا قراءة ولا نوافل ولا صلاح ولا طاعة, إنما هو جثة هامدة في البيت, أبشر به في كل شر وأبشر به في كل جريمة، وأبشر به في كل معصية, لكنه عند الخير معطل, فهذا من باب القطيعة، بل من أعظم القطيعة؛ نسأل الله العافية والسلامة.
ذكر أهل السير والأدب والأخبار: أن رجلاً من العرب أتاه ابنه في عشية من العشايا فقال له الأب: لم تخلفت؟ قال: وأنت تقول: لم تخلفت؟ فأخذ يد أبيه فلواها! وقال:
وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
تغمط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه
قالوا: فلوى الله يد الابن حتى مات وهي ملوية! {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [البقرة:27] والقطيعة أن تقطع كل ما أمرك الله أن تصله، ومن قطعه فقد شمله هذا التنبيه والتهديد, أمرك الله أن تصل ما بينك وبينه, وما بينك وبين أبيك, وما بينك وبين أمك, وما بينك وبين أرحامك, وما بينك وبين الناس.
وعند الطبراني في حديث قدسي: أن الله عز وجل يقول: {يا بن آدم! هي ثلاث: واحدة بيني وبينك, وواحدة لك, وواحدة بينك وبين الناس, فالتي بيني وبينك: أن تعبدني، وأن تشكرني، وتكف عن معاصيّ لأرحمك, والتي لك: كلما استغفرتني غفرت لك, والتي بينك وبين الناس: أن تأتي إلى الناس بما تحب أن يأتوا به إليك} وهذا من باب الصلة التي أمر الله بها تبارك وتعالى.(300/13)
بيان معنى الإفساد في الأرض
{وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [البقرة:27] الفساد في الأرض قال بعضهم: بقتل الأنفس كما يفعل بعض السفاكين المجرمين, تجده يسفك البشر سفكاً ذريعاً, ويقتل الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء المتهمين، ويعلن حالة الإعدام، والإبادة, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204] إذا تكلم أمام الجماهير فإذا به يتكلم كلاماً معسولاً ولكن كلامه عسل، وضربه أسل, قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206] هذا مثل من أمثال الناس.(300/14)
إضلال المؤمنين وردهم عن الهدى من الإفساد في الأرض
ومنهم من يفسد في الأرض بكلامه، فتجده دائماً يزعزع الإيمان في قلوب الناس, إذا رأى شاباً مهتدياً هداه الله وبصره، ودله الله وسدده، بعد أن كان في الظلام وفي حيرة، بعد أن كان مع الأغنية الماجنة، والمجلة الخليعة، ومع رفقاء السوء، والمقاهي والمنتديات، والساعات الحمراء، فلما هداه الله أتى إليه ذاك يقول له: أصبحت مطوعاً؟! متزمتاً؟! متطرفاً؟! شوهت جسمك، وشوهت نفسك، وخربت مستقبلك، وهدمت طريقك, فيبقى يوسوس له حتى يفسده وهذا من الإفساد في الأرض.
فكثير من الناس زعزعوا بهذا الكلام, وقد جلسنا مع شباب كثير قد اهتدوا لكن لما جالس المفسدين أضلوه، يأتي إليه الأول فيسخر منه، ثم الثاني فهزه بكلمة، ثم الثالث ثم الرابع حتى ترك الهداية! فهذا من الإفساد في الأرض.(300/15)
من الإفساد في الأرض إشاعة الفاحشة وتتبع العورات
وقيل: من الإفساد في الأرض قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19] الرجل المفسد في الأرض هو الذي يحب الفساد, لذا بعض الناس يكتب في الصحف والمجلات: المرأة مظلومة, المرأة لا تزال مقيدة, المرأة هنا ما عرفت النور, ماذا يريد؟! يريد شراً ويريد جحيماً وفاحشة، لكن ظاهره من قبله الرحمة وباطنه من قبله العذاب, فيظهر للناس أنه يريد الخير للمرأة لكنه يريد التبرج والسفور, ويريد أن تشارك في الأعمال والوظائف ليفسد المجتمع, وقد رأينا جيراننا وما حولنا من القرى ماذا فعلوا، فضاعت شيمهم، وقلوبهم وعقولهم، ومناهجهم يوم خرجت المرأة لتعمل موظفة ورئيسة ووزيرة، حينها ضاعت قلوبهم وأفكارهم وعقولهم.
ومن الناس من يفسد في الأرض بأن تجده دائماً في الأسواق يتابع أعراض المسلمين, عينه تزني، وكذا يده، وبطنه، وفرجه, كلما أتى له مدخل فعل ذلك, فهو من المفسدين في الأرض إلى غير ذلك من الأمور التي تشمل الإفساد، فهي كلمة عامة تشمل كل ما يغضب عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ويبغضه ولا يحبه من إفساد العامة والخاصة، الظاهر والباطن، من المعاني والمحسوسات، والله المستعان!(300/16)
كيف نعرف المفسدين في الأرض
يقول تعالى: {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27] يكفي عن هذه الكلمة أن يقول الله عنهم: خاسرون, وإذا حكم الله على عبد بأنه خاسر فهو الخاسر, لأن بعض الناس يسمونه الضائع لأن ماله ضاع، لكن لم نسمع من أحد ضاع دينه فسمي بالضائع، وبعضهم إذا حفظ ماله وضيع دينه، قالوا: حافظ، رجل فيه من الفهم والتسديد كذا، ولو كان رجلاً محتالاً وداهية, ولو كان منسلخاً من العبودية لله.
فهم ينظرون بمنظار التقويم والنور والهداية، أولئك هم الخاسرون, كتب الله عليهم الخسران.
فأقول -وسوف أكرر-: إن معايير الناس تختلف، فأهل الهداية، وأهل العلم، والتربية، والفكر، والعقل يقوموِّن العبد بصلاحه, والضائعون يقومونه بما يأتي من فساد, الآن المغنّي هل ترون أنه خاسر أم صالح؟ في منظر العقلاء والراشدون حتى من أعداء الله الكفار أنهم لا ينظرون إلى هؤلاء الراقصين والداعرين والمغنين إلا بمنظار الدون, ولذلك يوجد في بعض المذكرات لا يتولى في الحكومة ولا أن يكون عضواً في مجلس النواب، أو في مجلس الشيوخ، أو في مجلس الكونجرس إلا شخص غير ملابس لجريمة ما، وهذا موجود نيكسون الأمريكي عزل وسبب عزله من منصبه أنه تورط في فضيحة أو ترجيت وهي شركة ألبان، لكن الذي كشفته صحيفة في أمريكا اسمها أوترجيت , وقالوا: مرتشي وهو رئيس حكومة؟! فعزلوه
فالعقلاء دائماً يقومون الناس بصلاحهم ولو كان صلاحاً عاماً, ولكن أهل الحقارة والنذالة والضياع يقومِّون الناس بضياعهم, يأتون بمغنٍ مسكين ضائع, قالوا: كيف صعدت؟ كيف رأيت النور؟ كيف شققت مستقبلك؟ كيف بلغت إلى هذا المستوى؟ مستوى ماذا؟ مستوى الحضيض.
بل هو منكوس يصعد إلى الأسفل, فهذا ليس بمستقبل، بل خداع للأمة, وخداع للشباب, إذاً المستقبل لمن عرف طريق الجنة, ولمن حافظ على الصلوات الخمس, ولمن حفظ القرآن.
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
ويا حريصا ًعلى الأموال يجمعها أقصر فإن سرور المال أحزان
من يتق الله يحمد في عواقبه ويكفه شر من سادوا ومن هانوا
إلى أن يقول:
من استعان بغير الله في طلب فإنما نصره عجز وخذلان
أو كما قال وهو أبو الفتح البستي في قصيدته الجميلة العظيمة التي وقرها أهل العلم وعرفوا حقها.
فإذاً: إذا حكم الله على عبد أنه خاسر فهو الخاسر حقيقة.(300/17)
معنى آية (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً)
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28].
بعد أن ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى الآيات الكونية وبشارة أهل الإيمان وضرب الأمثلة وصرف الأحكام والآيات الكونية والشرعية, قال: كيف تكفرون بالله؟! ما لكم لا تؤمنون؟! ما هو السبب في كفركم؟! هل الآيات قليلة؟! هل المعجزات ضحلة؟! هل العلامات ما ظهرت في الأفق؟! كيف تكفرون بالله؟!
سبحان الله! وكأن القرآن يوقفك وحدك، ويقف أمامك ويقول لك: كيف تكفر بالله؟! كيف تجحد الله؟! كيف تعطل حقوق الله؟! كيف تنسى الله؟!(300/18)
معنى قوله: (وكنتم أمواتاً)
قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} [البقرة:28] قال ابن عباس: [[كنتم نطفاً]] أي: نطفة, وقال غيره: كنتم عدماً, أي: كنتم أمواتاً في عالم العدم, لأنه إن كان ميتاً فلا يكون عدماً, يعني: كنتم أمواتاً في الأصلاب؛ لأن الميت له وجود, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الذي لا يوجد: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2].
ولذلك لما أتى العاص بن وائل وفت العظم ونفخه وقال: {يا محمد! تزعم أن ربك يحيي هذا؟! قال: نعم ويدخلك النار} قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79] فكيف تكفرون وكنتم ماءً، أو كنتم قبل الماء في العدم فأتى بكم الله من العدم, فلما أحياكم وبصَّركم وأسمعكم ورزقكم وأطعمكم وسقاكم وساقكم وأوقفكم كفرتم بالله!! هذا جحدان ونكران، وهذا هو -والله- أخبث المعتقدات، ولم يحصل ظلم في العالم أظلم من الكفر.(300/19)
معنى قوله: (فأحياكم)
يقول الله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة:28] أي: أحياكم بالنفخ في الروح, ثم كساكم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [البقرة:28] هذه هي الميتة الأولى وهي الموتة التي يموتها كل الناس, {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28] يوم البعث {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28] أي: قال سبحانه: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11].
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] الكافر يموت مرتين، والمؤمن يولد مرتين, فالمؤمن يولد أول مرة يوم ولدته أمه, والمرة الثانية: يوم ولد مع القرآن، ويوم عاش مع الإيمان، ويوم سجد للواحد الديان.
والكافر يموت مرتين: يوم مات في الحياة الدنيا حين مات ويوم مات عن النور والهداية قلبه، فالكافر قطعة لحم ميتة، ولعنه الله وغضب عليه, والموت الثاني: يوم يلقى ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28] وهذه الآية فيها إثبات ميتتين:
الأولى وهي عندما أتى من العدم.
والثانية: إثبات ميتتين وإثبات الإحياء بعد الموت, وإثبات اليوم الآخر والرجوع إلى الله, وإثبات الحساب, وسوف يرى كل إنسان ما قدم.
سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار
وقال العظيم: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
وطلب بعض الإخوة أن أذكر المسلمين لصيام الأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر.
وأقول: صدق أثابه الله, وله الأجر الكثير عند الله, فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كما صح عن أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال: {أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر, وأن أوتر قبل أن أنام, وركعتي الضحى} قال بعض أهل العلم: أيام البيض لم يتركها صلى الله عليه وسلم حضراً ولا سفراً، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وهي تعادل صيام الدهر.
في الختام أسأل الله لي ولكم الهداية والتوفيق.(300/20)
من آداب النبوة (3)
في الحلقة الثالثة من آداب النبوة كلامٌ نفيس حول تكنية الأطفال وتكنية الرجل الذي لم يولد له، وهذا وإن كان محور هذه المادة وموضوعها الأساس إلا أنها احتوت كذلك على العديد من الفوائد الجليلة كآداب الضيافة، ومحبة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم، وآداب الزيارة، والتواضع وغير ذلك.(301/1)
شرح حديث: (يا أبا عمير! …)
الحمد لله الذي رفع السماوات بلا عمد، والذي بسط الأرض في مدد، الذي خلق الإنسان في كبد، والصلاة والسلام على أبي الزهراء سيد الأولياء، وخيرة الأصفياء، ما ترقرق الماء، وما لمعت النجوم في الظلماء، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ومع الإمام البخاري في كتاب الأدب، وهو يجدد الأبواب تلو الأبواب، ناقلاً عن المصطفى عليه الصلاة والسلام: هديه، ودله، وشمسه، ونوره، وعظمته، التي ما لحقها أحدٌ من البشرية، ولا أتى أحدٌ من الإنسانية بالخير لأمته، ولا أدخل أحدٌ لقومه بمثلما أتى به محمدٌ عليه الصلاة والسلام.
يقول البخاري رحمه الله تعالى: باب الكنية للصبي، وقبل أن يولد للرجل.
ثم قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا عبد الوارث عن أبي التياح، عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، قال: {كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخٌ يقال له: أبو عمير قال: أحسبه فطيماً، وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير! ما فعل النغير؟ نغرٌ كان يلعب به، فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح، ثم يقوم ونقوم خلفه فيصلي بنا} وهذا الحديث يعرف بحديث: {يا أبا عمير! ما فعل النغير}.
وقد تهجم بعض الزنادقة، وأذناب الملاحدة على أهل السنة ونقلة الحديث، وقالوا: إنهم يروون أحاديث لا فائدة فيها، يقول هؤلاء الملاحدة والزنادقة ومن سار مسيرتهم: المحدثون لا فهم لهم، فهم يروون أحاديث لا تعقل وليس فيها فوائد! مثل حديث: {يا أبا عمير! ما فعل النغير} أي فائدة في هذا الحديث؟!
ومثل حديث: {أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها} فهذه لا يُستنبط منها شيء، فلماذا يشغلون الناس بالأسانيد وكثرة الكلام، وليس هناك فائدة؟!
وانبرى لهم الإمام ابن القاص، أحمد بن أبي أحمد الطبري، وأخرج أكثر من ستين فائدة، ثم أتى ابن حجر حافظ الدنيا، وعلامة الزمان وأستاذ القاهرة، وصاحب فتح الباري الذي لا هجرة بعد الفتح، فأخرج فوائد تلحق على تلك فتصبح سبعين فائدة.
فلنسمع لهذا الحديث وللقضايا التي عالجها العلماء، والتي هي من القضايا الحارة في حياة المسلم، والتي أديرت بكئوس من الفضل بين الفضلاء، وعلى بساط من النبل بين النبلاء.(301/2)
جوانب من عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم
الرسول عليه الصلاة والسلام من عادته أنه سهل ميسر، ولذلك يقول أحد الغربيين في كتاب له: إن محمداً -يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم- سهل في عظمته، بسيط في هيبته.
وينقل هذا أبو الحسن الندوي في كتاب السيرة، أي: سهل ممتنع، كيان متحرك، رجلٌ حضاري يقود الأمة من الجاهلية إلى الإسلام، وينقل تاريخاً لم يكن ينقله ألف كسرى وكسرى، وألف قيصر وقيصر، في ثلاث وعشرين سنة يؤسس دولة ينقطع حلق الدهر لا يدرك مداها.
هذه الدولة الإسلامية التي أخرجت العلماء، والأدباء، والشجعان، والأساتذة، والمعلمين، أسسها صلى الله عليه وسلم بهدوء، وهو جالس في بيت من طين في المدينة، ويأخذ الأمور بالتي هي أحسن وبهدوء وعظمة، ولكنه غَيَّر العالم.
وكذلك الفرنسي الآخر الذي يقول: كان محمدٌ يصلح بين الشعوب وهو يشرب فنجان القهوة في بيته في المدينة، والقهوة لم تكتشف إلا في القرن السادس، لكنه ظن أن القهوة قديمة، وبعض الناس أتى من بلاد غير بلاد العرب، فرأى العرب يشربون القهوة، فأخذ يشربها، قال: هذه القهوة تؤلمني، لكن -والله- لما علمت أنها من السنة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشربها؛ شربتها، قلنا له: ليست من السنة، قال: لا.
أنتم تشربونها وكل شيء تفعلونه من السنة، فهو جاهل.
فهم يظنون أن العرب إذا فعلوا شيئاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله.
فالرسول صلى الله عليه وسلم ليسره وسهولته، يعطي كلَّ واحد حَقَّهُ من الإجلال والإكرام والإعظام.
ومن يتصور أن رسولاً كالرسول عليه الصلاة والسلام يعطي الأطفال وقتاً من وقته الثمين الغالي، الذي هو أغلى من الذهب والفضة، ويجلس مع الأطفال، فهذا الحديث قضية كبرى، وقصة يتحدث البخاري عنها في باب هو من ضمن الفوائد الستين أو السبعين من الباب.(301/3)
ملخص قصة حديث: (يا أباعمير) وفوائدها
يقول البخاري -وهو يتساءل- لطلبة العلم وللمسلمين: باب الكنية للصبي.
هل يحق لنا أن نكني الصبي فنقول: يا أبا محمد! يا أبا علي! وهو لم يتزوج، ولم يكن له أبناء؟
ثم قال: وقبل أن يولد للرجل، فالرجل الكبير الذي عنده زوجات لكن ليس له ولد، هل نكنيه أم لا؟ فهذه قضية.
وملخص الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام سمع بفاجعة ومصيبة وكارثة حدثت في المدينة، وحلت في بيت من بيوت الأنصار، وهذه الكارثة هي موت طائر صغير كالعصفور لطفل كان يلعب به، وهذا الطفل اسمه أبو عمير، فاسمه كنيته، أي: ليس له اسم إنما الاسم الكنية، وهذا جائز في العربية وعند المحدثين، فأُخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أن هذا الطفل مات طائره، وقد كان له طائر فربط رجله بحبل ليلعب به في البيت.
فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، وأتاه الخبر الفاجع، وانتقل عليه الصلاة والسلام إلى بيت أبي عمير، وهو أخو أنس خادم الرسول صلى الله عليه وسلم ليعزيه، وليرفع له أسمى آيات العزاء والمواساة على هذا الفقيد الغالي الذي أصيبت به الأمة الإسلامية في عقر دارها.
ووصل صلى الله عليه وسلم بحفظ الله ورعايته ودخل على الصبي، وقال وهو يظهر الأسى: {يا أبا عمير! ما فعل النغير} قال: مات يا رسول الله.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أظهر التأسف، ومعه شيء من البسمة الرقيقة التي عاشها صلى الله عليه وسلم، وطالما جذب بها القلوب وسبى بها الأرواح، وسوف يأتي بسط لهذه القضية، وما هو الحوار الحار الذي دار بين المعلم الكريم والزعيم العظيم، وبين هذا الطفل الصغير؟ فهذه قضية.
وصل عليه الصلاة والسلام، وبعد أن انتهى من مراسيم العزاء، قام إلى بساط هناك، فأشار أن ينضح ليصلي بأهل البيت، فصلى بهم ركعتين عليه الصلاة والسلام، وفيها أكثر من عشر قضايا سوف تأتي معنا.(301/4)
الداعي لعقد هذا الباب ومكانة الكنية عند العرب
ولكن قبل أن نتحدث يحق لنا أن نقف مع البخاري قليلاً، ونقول له: ما هو الداعي من عقد هذا الباب؟ وهل أنكر أحد من العلماء أو أهل العلم أن يكنى الصغير بكنية، أو الرجل الذي لم يولد له؟
سوف يقول لنا: لا.
لم ينكر أحد حتى من الجاهليين، ولكن لا نعمل في أدبنا ولا في سلوكنا، ولا في تعاملنا إلا بسنة.
فهذا هو مراد البخاري الذي يعرف من سياق كلامه، فنقول له: بيض الله وجهك يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وهذا هو الصحيح، وإلا فالجاهليون متعارفون على الكنية، يقول شاعر اليمن وهو يمدح نفسه بحسن الأدب:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب
كذاك أدبت حتى صار من خلقي أني وجدت ملاك الشيمة الأدب
يقول: من أدبي أني لا أنبز الناس بألقابهم: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات:11] ولكنني أتحف الرجال بأسمائهم فأكنيهم، يا أبا محمد، يا أبا علي.
وقد أثر عن عمر رضي الله عنه وأرضاه، أنه قال: [[ثلاث تورث لك الود في صدر أخيك:
أولها: أن تناديه بأحب الأسماء إليه -وأحب الأسماء عند العرب أن تكنيه، يا أبا علي، يا أبا عبد الرحيم، يا أبا فلان، هذه الكنى-
والأمر الثاني: أن توسع له في المجلس.
والأمر الثالث: أن تبش وتهش في وجهه]]
وهذه من مدرسة النبوة، ولا يخرج الكنز إلا من هناك، وكلام عمر رضي الله عنه لم يأتِ إلا من مشكاة محمد عليه الصلاة والسلام، والعرب متعارفة -كما قلت- على الكنية، يقول النابغة الذبياني، وهو يخاطب النعمان بن المنذر ملك العراق:
نبئتُ أن أبا قابوس أوعدني ولا قرار على زأر من الأسد
وهذا النابغة شاعر، قد تكلم في عرض النعمان وهو في الصحراء، فتكلم في الملك واتهمه بأمور، فنقل الوشاة والعيون الخبر للملك، فقال الملك: من وجده منكم فليذبحه ذبح الشاة، فذهب يمشي ولا ينام، حتى خاف أن يموت قهراً وكمداً فعاد وقد نظم قصيدتين -لا بأس من إيراد بعضها- وذهب بهما إلى النعمان، منها هذه القصيدة، ومنها قوله، وهي من أحسن وألطف الأشعار في الرقائق والاستجداء، والتلطف، يقول للملك النعمان:
كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ وليس الذي يرعى النجوم بآيب
إلى أن يقول وهو يشكي همه وحزنه:
وصدر أراح الليل عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانب
علي لـ عمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب
إلى أن يقول للنعمان:
حلفت يميناً غير ذي مثنوية ولا علم إلا حسن ظن بصاحب
ثم مدحه وقال:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ثم أتى فكناه في القصيدة.
وقالوا: ليس للنعمان ابن اسمه قابوس، وإنما العرب تكني من لا ولد له، فهذا أمر.(301/5)
تكنية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه ومحبتهم لها
ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام، كان يكني أصحابه، وهذا من أدبه الذي أدبه الله به، ومن حسن خلقه ورقته وسماحته، فقد كنى بعضهم بكنى ظاهرها فيه مذلة ولكنها من باب التبجيل، فكانت أحب الكنى إلى الصحابة.
فـ علي كنيته أبو الحسن، فأتى عليه الصلاة والسلام -كما في حديث سهل بن سعد الساعدي في البخاري - فوجده نائماً في المسجد؛ فأخذ يوقظه صلى الله عليه وسلم برجله بلطف، ويقول: {قم أبا تراب! قم أبا تراب! قم أبا تراب!} فقام رضي الله عنه.
والقصة ملخصها: أن الرسول عليه الصلاة والسلام سمع اختلافاً في وجهات النظر بين علي بن أبي طالب صهره، وبين فاطمة الزهراء بنته عليه الصلاة والسلام، فذهب إلى البيت ليصلح بين الزوجين، وهذه هي الواقعية في حياة المسلمين، أن الخطأ أو اختلاف وجهات النظر قد يحدث حتى في بيوت النبوة، فذهب فلم يجد علياً، قال: أين هو؟ قالت فاطمة: تغاضبنا وخرج من بيتنا إلى المسجد، فذهب عليه الصلاة والسلام وراءه ليأتي به، فوجده قد نام، ووجده رضي الله عنه وأرضاه قد تدثر في التراب؛ لأنه لم يكن له بساط، والمسجد لم يكن له فرش، أسد نام على الثرى.
جسد لفف في أكفانه رحمة الله على ذاك الجسد
فأيقظه، وقال: {قم أبا تراب!} فكان الأمويون -أهل الشام - إذا غضبوا على علي بن أبي طالب، قالوا: أبو تراب، فيقول علي: هي أحب الكنى إليَّ؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يكنيني بها.
وبعض الناس يفهمون بعض المدح أنه ذم، فكانوا يسبون عبد الله بن الزبير ابن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وعنه، ويقولون: ماذا يفعل ابن ذات النطاقين؟ يعيرونه بـ ذات النطاقين، وقد سمعوا هذا الكلام فقالوه، والذي سماها بهذا هو المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأنها شقت نطاقها؛ فربطت بواحد الطعام وتمنطقت بواحد، فقال: {ذات النطاقين في الجنة}.
فلما سمع ابن الزبير أنهم يسبونه بهذا، تمثل بقول أبي ذؤيب الهذلي في قصيدة طويلة:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها فأول شاة سيرة من يسيرها
وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاةٌ ظاهر عنك عارها
وفي الصحيحين أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذهب إلى الخندق والصحابة يحفرون الخندق، ومعهم زيد بن ثابت ذاك الشاب الحافظ للقرآن، العاقل، الأريب، زيد بن ثابت الذي كتب بيده القرآن من أوله إلى آخره، فلا مست النار يده أبداً، نقله من الصحف واللخاف والرقاع والعظام ونقله في مصحف.
فمر عليه الصلاة والسلام والناس يحفرون في أول النهار، والجو بارد معتم، فمر وإذا بـ زيد بن ثابت في سلاحه، ومعه مسحاة، وقد نام من كثرة السهر والتعب في الليل، فأيقظه صلى الله عليه وسلم بلطف، وقال: {قم أبا رقاد! قم أبا رقاد! قم أبا رقاد!} رقد فأعطاه صلى الله عليه وسلم هذا؛ لأن الحالة تناسبه، فكانت من أحب الكنى إلى زيد بن ثابت، والرسول صلى الله عليه وسلم إذا وسم أحد الصحابة بسمة كانت أحب ما يلقى أو ينادى به.
وأبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، كانت له هرة يعتني بها، فكني بـ أبي هريرة، فربما ناداه صلى الله عليه وسلم يا أبا هر! ولذلك قال البخاري: باب من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفاً، فقال: يا أبا هر، وأبو بكرة هذا من الصحابة نزل من الطائف على بكرة، وقيل: أنزل متاعه على بكرة، فرآه صلى الله عليه وسلم، فقال: {أنت أبو بكرة} فسمي عند العلماء والحفاظ والنقلة وأهل السير أبو بكرة.(301/6)
بعض آداب الضيافة والتعارف
وفد هاني الخزاعي على الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال له صلى الله عليه وسلم: من أنت؟ -وكان صلى الله عليه وسلم يسأل الناس عن أسمائهم وأنسابهم- من أنت؟ وهذا وارد في القرآن، قال تعالى عن إبراهيم: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} [الحجر:57] ومن السنة أنه إذا نزل عندك ضيف، أن تباسطه، وتنزل رحله، وتحادثه، وتؤانسه، وبعد ذلك تسأله من هو، أما أن تأخذ بتلابيب ثوبه عند الباب، وتقول: من أنت؟ وما نسبك؟ وما كنيتك؟ ومن أين أتيت؟ ومتى وصلت؟ نسأل الله العافية، نعوذ بكلمات الله التامات، هذه ليست من السنة.
وهذا -نسأل الله العافية- يخيف الضيوف فيتوبون توبة نصوحاً إلى الله ألا يزوروه مرة ثانية، لكن السنة أنك بعد مباسطته تسأله.
قال الأزدي:
أحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
يقول: إذا أتى ضيفي لا أسأله حتى أحادثه وألاطفه وأمازحه، ثم أسأله.
وعند الترمذي بسند فيه نظر، قال عليه الصلاة والسلام: {إذا تعرف أحدكم على أخيه، فليسأله عن نسبه واسمه، فإنه واصل المودة} كيف تماشي إنساناً في سفر من الرياض إلى أبها وهو بجانبك، وقد أصبح بينك وبينه كلام، ومودة، وشيء من المؤانسة والمرافقة، ثم تتركه ولا تعرف اسمه ولا يعرف اسمك؟!
إن هذا الدين دين التعارف، والتآخي، واللطف، والحنان، وكلما ازددت من الأصدقاء كانوا لك عوناً، خاصة الأخيار والأبرار والأتقياء.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: تزودوا من الإخوان فإنهم عزٌ في الدنيا وفي الآخرة، قالوا: يا أبا الحسن! أما في الدنيا فصدقت، لكن في الآخرة كيف؟ قال: أما سمعت أهل النار يشتكون، ويقولون: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]-قالوا: ليس لنا اليوم صديق يشفع فينا- وقال رضي الله عنه أما سمعت الله يقول: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
وفي صحيح مسلم وأصل الحديث في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: {قدم وفد عبد القيس على الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: من الوفد؟ -أو من القوم؟ - قالوا: ربيعة، قال: مرحباً بالوفد -أو القوم- غير خزايا ولا ندامى} وأورد ابن القيم في زاد المعاد بسند فيه ضعف، أن وفد الأزد -أزد شنودة- وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: {من القوم؟ -الأصل أن يقولوا: الأزد- قالوا: مؤمنون، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: إن لكل قوم حقيقة فما حقيقة إيمانكم! قالوا: خمس عشرة خصلة الحديث}.(301/7)
الموقف الشرعي من كنية (أبو الحكم) وجواز التكني بأسماء البنات
فأتى هاني الخزاعي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {من أنت؟ قال: أبو الحكم، قال: الحكم هو الله، قال: يا رسول الله! إن قومي كانوا إذا اختصموا في الجاهلية أصلحت بينهم فسموني أبا الحكم، قال صلى الله عليه وسلم: هذا شيء حسن، ولكن هل لك من أولاد، قال: نعم.
قال: من أكبرهم؟ قال: شريح، قال: فأنت أبو شريح، فكان يسمى أبو شريح}.
وعند البخاري ومسلم والترمذي: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام دخل مغتسله بعد أن فتح مكة، فدخلت أم هانئ، فقال: من؟ قالت: أم هانئ، قال: مرحباً بـ أم هانئ} فاستدل بهذا العلماء على أنه لا بأس بالترحاب عند التحية بعد رد السلام، فالرسول عليه الصلاة والسلام كنى أصحابه، وحياهم، ورحب بهم عليه الصلاة والسلام، وهذا مما أورث محبته في النفوس عليه الصلاة والسلام.
وأبو الحكم بن هشام هو أبو جهل فسماه صلى الله عليه وسلم أبا جهل، فهو لا يستحق الحكم، ولا يستحق أن يكون حكيماً؛ لأن الجاهل والمذنب والفاجر لا يستحق الحكمة، إنما الحكمة مخافة الله، فإنسان فاجر لا يكنى بأبى الحكم فهو أبو جهل، ولو أنه كان يصلح بين قومه، لكن تردى في النار يوم كفر بلا إله إلا الله.
ومن الصحابة من تكنى بأسماء النساء -بالبنات- فـ أبو الدرداء اسم بنته الدرداء؛ فكان يسمى أبا الدرداء، وهناك أبو الزاهرية، وأبو ريحانة، فلا بأس أن يتكنى الإنسان بابنته، وليس فيها عيب، وما عابها أحد، لا من العرب الخلف ولا من السلف، بل العجيب أن بعض الشعراء مدحوا بعض الملوك فنسبوهم إلى أمهاتهم وتركوا آباءهم.
دخل جرير بن عطية الخطفي على عمر بن عبد العزيز فمدحه، فقال:
وما كعب بن مامة وابن سعدى بأكرم منك يا عمر الجوادا
أقول لصاحبي والخيل تعدو على الأمواه تضطرد اضطرادا
عليكم ذا الندى عمر بن ليلى جواداً سابقاً ورث النجادا
وعمر بن ليلى هو عمر بن عبد العزيز الخليفة.
والنابغة الذبياني يقول للنعمان بن المنذر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
تخيرن من أزمان يوم حليمة إلى اليوم قد جُرِّبنَ كل التجارب
يقول: سيوفكم أيها الملوك، معلقة في بيوتكم تقاتلون بها الأعداء، من أزمان حليمة جدتكم، وحليمة هذه كانت ملكة، والدرس ليس عن حليمة ولكنه عن التكني.
ومن هذه القضايا أن الزيارة واردة من الملائكة للناس، قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح لجبريل: {ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ قال: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم:64]} يقول: نحن لا ننزل عبثاً، أي: لا ننزل ونصعد متى نريد، بل نتنزل بأمر من الله وتكليف: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64].(301/8)
مشروعية زيارة الفاضل للمفضول
وهل يزور الفاضل المفضول؟ هل من الأدب والشهامة والفضل أن يزور الفاضل المفضول؟
مثلاً عالم يزور تلاميذه، والسلطان يزور رعيته، والشيخ الكبير يزور الشباب، هذا وارد، وممن فعل هذا محمد عليه الصلاة والسلام، فزار أصحابه في أطراف المدينة، وزار النساء كما سوف يأتي في الشرح، وزار الكبار والأطفال والمساكين والأعراب عليه الصلاة والسلام.
أما الكبار فقد زار سعد بن عبادة يوم مرض، فوجده مريضاً مغمى عليه؛ فبكى عليه الصلاة والسلام، فقال له الصحابة: {مالك؟ قال: إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، وإنما يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه-}.
وسمع أن أعرابياً بدوياً تهزه الحمى هزاً؛ فذهب يزروه، فقال: {لا بأس عليك طهور} فغضب الأعرابي، وقال: بل حمىً تفور، على شيخ كبير، تُزيره القبور.
الحمى هذه ترقص الإنسان حتى تجعله يرقص ويطرب رقصاً عجيباً؛ لأنها تهز كل عضو فيه، تدخل في ثلاثمائة وستين عضواً، فتنفضه نفضاً، كأنه على الكهرباء.
فدخل صلى الله عليه وسلم على الأعرابي، فقال: لا بأس عليك يطهرك الله من الذنوب والخطايا، يا لجلالة الإسلام! ويا لعظمة الدين! يوم تصاب بجرح، أو بألم، أو بمرض، أو تسهر عينك، تكون كفارة، فقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس، ما أتاك بأس، إنما أتاك دواء وبلسمٌ وعلاج وأتاك طهور وماء باردٌ، وحسنات ودرجات عند الله، والأعرابي لا يفقه! يريد أن يأكل ويشرب، قال: لا.
ليست بطهور، بل حمى تفور، على شيخ كبير، تُزيره القبور.
يقول: بعد أيام -إن شاء الله- الموعد المقبرة، فيقول عليه الصلاة والسلام: {نعم إذاً} أي: ما دمت دعوت على نفسك، فنعم إذاً؛ فمات بعد ثلاثة أيام.
وزار صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور رضي الله عنه وأرضاه، أحد الوجهاء من الصحابة، وأحد الذين لهم مواقف خالدة في الإسلام، فلما زاره صلى الله عليه وسلم وكان في سكرات الموت سلم عليه صلى الله عليه وسلم وعانقه، ودموع البراء تهراق، وهو يرفع إصبعه ويقول: [[أشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، أشهد أنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً]] وهذا في سكرات الموت! فربما رأى شيئاً من الجنة، أو لاح له شيءٌ من النعيم، فقام عليه الصلاة والسلام عنه، وظن أنه سوف يبقى على قيد الحياة ردحاً من الزمن، وبعد أن وصل مسجده صلى الله عليه وسلم، سمع الهاتف يقول: مات البراء يا رسول الله! فلم يتلعثم صلى الله عليه وسلم، بل استقبل القبلة، ورفع يديه الطاهرتين، الشريفتين، المجيدتين العظيمتين، إلى الحي القيوم، وهو يقول: {اللهم الق البراء فاضحك إليه ويضحك إليك} وهي من أعظم الأدعية في الإسلام، فهو رجل عظيم.
وزار صلى الله عليه وسلم النساء الكبيرات، من أمهات الأبطال والسادة الأخيار من المهاجرين والأنصار، فقد كان يزور أم سليم، وكانت أم سليم إذا نام صلى الله عليه وسلم في بيتها، وتحدر العرق من على جبينه الطاهر، أخذت العرق في قارورة، وكان للعرق هذا رائحة كالمسك في البيت، فإذا مرض أحد أهلها أخذت قطرة واحدة وجعلت هذه القطرة مع ماء وغسلت المريض حتى يشف بأذن الله.
وفي الصحيح أنه زار صلى الله عليه وسلم أم حرام بنت ملحان، وكانت مجيدة، عابدة، زاهدة، ربت أبطالاً، وأخرجت سادات في الأمة، فلما نام صلى الله عليه وسلم في بيتها قام يضحك، فقالت: {يا رسول الله! مالك؟ قال: رأيت قوماً من أمتي يركبون ثبج البحر ملوكاً على الأسرة، يغزون في سبيل الله -أي: سوف يأتون- قالت: يا رسول الله! ادع الله أن أكون منهم، قال: أنت منهم، ثم نام صلى الله عليه وسلم، ثم قام يضحك، قالت: مالك يا رسول الله؟ قال: رأيت أناساً من أمتي كالملوك على الأسرة كما قال في الأول، قالت: ادع الله أن أكون منهم، قال: أنتِ من الأولين}.
فركبت البحر مع زوجها عبادة بن الصامت، ومع أبي أيوب الأنصاري، يوم قادهم يزيد بن معاوية ليفتحوا القسطنطينية ويعلنوا لا إله إلا الله في القسطنطينية التي ما عرفت لا إله إلا الله منذ قرون عديدة، فأسسوا هناك المساجد وحلق الذكر، والمدارس التي تربي الأرواح، وأما أبو أيوب فلم يعد إلى بلاد العرب مرةً ثانية، فقد قال: [[إذا أنا مت فادفنوني عند آخر بلاد المسلمين حتى يخرجني الله يوم القيامة بين أناس مشركين]] وفي رواية: [[علَّني أن أستيقظ من قبري بين الكفار وأنا أقول: لبيك اللهم لبيك]] فدفن هناك.
عمر رضي الله عنه وأرضاه أرسل جيشاً إلى قندهار التي يقاتل عليها المجاهدون الأفغان، وهي بلادهم وأرضهم وحماهم وتراثهم، فهم يقاتلون عليها أعداء الله الشيوعيين، ففي قندهار هذه قتل أناس كثيرٌ من الصحابة الأخيار؛ فأتوا إلى عمر؛ فأخبروه، وقالوا: قتل فلان وفلان، وعمر يضع عمامته على وجهه ويبكي، ثم لما طالت القائمة بالقتلى قالوا: وأناس لا نعرفهم، فرفع عمر صوته، فقال: إن كنتم لا تعرفونهم فوالذي نفسي بيده إن الله يعرفهم.
بـ قندهار ومن تكتب منيته بـ قندهار يرجم دونه الخبر
وزار صلى الله عليه وسلم أم أيمن، وقد أرضعته عليه الصلاة والسلام، وهي أم أسامة بن زيد، وكانت ترعى أربعين من الماعز للرسول عليه الصلاة والسلام، وكان إذا ولدت واحدة منها ذبحها صلى الله عليه وسلم فكانت تبقى أربعين، وربما كانت تتدلل هذه المرأة الصالحة على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تعده ابناً لها، فقد أرضعته وهي كبيرة، والرسول عليه الصلاة والسلام أعطاها بستاناً من الغنائم، وأراد أن يأخذه من يديها ليعطيه رجلاً فقيراً على أن يبدلها مكان هذا البستان بآخر، فرفعت صوتها ورفضت، فتبسم صلى الله عليه وسلم وترك البستان لها.
ولما توفي عليه الصلاة والسلام -وهذا الحديث في الصحيحين - قال أبو بكر وقد تولى الخلافة: [[يا عمر! اذهب بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فذهب الشيخان الجليلان، والبطلان القائدان إلى أم أيمن، فجلسا عندها فأخذت تبكي، وقد تذكرت، فقال أبو بكر: مالك تبكين؟ أما تعلمين أن ما عند الله خيرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما عندنا؟ قالت: أعلم ذلك، ولكن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلان يبكيان]] وهذا في الصحيحين.
وقلت: يزور الفاضل المفضول، فالإمام الشافعي لامه بعض تلاميذه، قالوا: تزور أحمد بن حنبل، وأحمد أصغر منك سناً وأنت أعلم منه، فقال مقطوعة، يقول فيها:
قالوا يزورك أحمد وتزوره قلت الفضائل لا تغادر منزله
إن زارني فلفضله أو زرته فلفضله فالفضل في الحالين له
وقد كتب للإمام أحمد يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعه
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعه
فرد الإمام أحمد يقول:
تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم قد تناولنا الشفاعه
لأنه قرشي من أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: أنت تحب الصالحين، وأنت من أكبر الصالحين، فلا تتواضع في هذا الجانب، فأنت معروف بقيام الليل والتلاوة والصدق ونشر العلم.(301/9)
الزيارة البغيضة زيارة الحُمَى أو الثقلاء
ورد في الآداب وكتب السير التذمر من زيارة الحمى، يقولون: أسأم زيارة عند العرب الحمى إذا زارت أحدهم، وقد تفاءل بها الصالحون ورحبوا بالحمى زائرةً في الظلام، ولكن تذمر منها كثيرٌ من الناس، وقالوا: لا نريد زيارتها ولا نرى وجهها، ولكن كثيراً قالوا: أنها تكفر الذنوب، وهي التي تغسل السيئات عن الناس، أما المتنبي فإنه نام في مصر مع كافور، فأتته الحمى فأخذ يتقلب ظهراً على بطن، وأنشد قصيدته الرائعة، التي هي من أحسن قصائده في الحمى، وهي قصيدة الحمى، التي يقول فيها:
ملومكما يجل عن الملام ووقع فعاله فوق الكلام
وزائرتي كأن بها حياءً فليس تزور إلا في الظلام
يقول: عجباً لهذه الحمى قاتلها الله، عدوة الله لا تأتي إلا في الليل، ولا تأتي في النهار، وهذه من صفات الحمى.
بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي
ومما تُذمر منه الثقلاء، والثقيل هو الذي إذا أتاك أوقعك في السيئات، بعض الناس إذا دخل على بعض الناس يجرجره إلى السيئات، فهذا أثقل الزائرين، كان الأعمش إذا رأى رجلاً ثقيلاً مقبلاً، قال: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، وورد في قصص الثقلاء ما لا نطيل الوقت بذكره.(301/10)
آداب الزيارة في الإسلام
وأوقات الزيارة في الإسلام كلها واردة، إلا ثلاثة أوقات وهي عورات للمسلمين لا يجوز الزيارة فيها إلا لأمر ضروري، حين توضع الثياب من الظهيرة، أي: بعد صلاة الظهر، وقبل صلاة الفجر، وبعد صلاة العشاء، فليعلم هذا عند طلبة العلم، وعند الإخوان والأخيار، والصالحين، وبعد صلاة الظهر وقت قيلولة فلا تأتِ في الساعة الثانية والنصف، وتقول: الأمر بسيط، أريد أن أتحدث معك، وأريد أن نجلس قليلاً في الظهر.
فهذا ليس وقت سمر أيها الأخ الكريم، بل هذا وقت راحة.
ثم يأتيك قبل صلاة الفجر بساعة، ويطرق عليك الباب، ويقول: لا أريد شيئاً يا أخي، فقط أريد أن أشرب القهوة معكم، وأسأل عن أخباركم.
فهذا خطأ.
وكذلك بعد صلاة العشاء، ويتساهل كثير من الناس بعد صلاة العشاء وهو ليس وقت زيارة، وليعلم هذا، فأحسن وقت للزيارة بعد العصر والمغرب، ومن بعد العاشرة في الصباح، لأنك ربما تزوره قبل العاشرة فتجده على الفطور فتفطر معه، فعليك أن تحذر فتأتيه بعد العاشرة.
وقد تأتيه -نسأل الله العافية- وقت الغداء الساعة الثانية فتتغدى معه، فعليك بأوقات الزيارة بعد العصر والمغرب.
ومن الأدب ما ذكره سيد قطب في ظلال القرآن أن إذا أراد المسلم أن يزور المسلم أن يتصل به تلفونياً، يقول: هذه الوسائل وجدت عند الكفار فاستخدموها في الآداب، ونحن أهل الإسلام أولى بذلك، فلا يأت إنسان بأهله وأطفاله، ثم يقف عند الباب، فقد يكون أهل البيت أمواتاً، أو يكونون في مشكلة، أو ربما كان الرجل يتعارك مع امرأته، وكل إنسان في زاوية يمسح دموعه ودمه، فيطرق عليهم الباب قال: أتينا نزوركم.
أين الاتصال وترتيب الزيارة؟!
فالذي ينبغي -أيها الإخوة الكرام- أن يكون لنا تنسيق في حياتنا، إذا أردت أن تزوره فاتصل به قبل فترة.
وبعض الناس إذا أراد أن يدعو أحداً وهو يتثاقل من الدعوات، فإنه يفتح كل مجالات الأعذار للإخوان حتى يعتذرون، فهو يقول له: إن لم يكن عندكم ارتباط، أو لن يأتيكم أحد، أو لست مشغولاً، أو لست مريضاً فتعال تغد معي اليوم، فأنت تفتح له باب الأعذار حتى تأتي وهو مرتاح وأنت مرتاح.
فلا بد من هذه الوسائل، ولا يستهان بها، بل هي من أعظم الفقه في الدين، حتى نكون على بصيرة، لأن هذا الدين أخرج الناس من البادية وأعرافها وجفائها إلى أمة حضارية تعرف كيف تتعامل مع الإنسان.
الزيارة غباً: هل من السنة أن تزور كل يوم؟ عقد البخاري لهذا باباً في الصحيح، وأتى بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو من حديث أسماء، أنه صلى الله عليه وسلم كان يزور أبا بكر يومياً، لكنه علم مودة أبي بكر، وصدقه وقرب أبي بكر من قلبه، وأما في الإسلام فإن الزيارة غباً هي الأسلم، وورد في الحديث: {زر غباً تزدد حباً} وهذا الحديث ضعيف، لكن قال بعض الحفاظ: إذا اجتمعت طرقه قامت على سوقها وأصبح حديثاً حسناً فله أصل.
والغب: أي فترة بعد فترة، فلا تزره اليوم قبل الظهر، وبعد صلاة العصر، فتأتي وتقول: اشتقت لك، ثم في اليوم الثاني تقول: اشتقت لك، فسوف يستقبل صاحب البيت القبلة ويقول: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر، فالزيارة تكون بقصد، مثلما قال أبو تمام:
ليس الحجاب بمخفٍ عنك لي أملاً إن السماء ترجى حين تحتجب
يقول: إذا أبطأ الغيث خرج الناس يستسقون، لكن لو نزل الغيث كل يوم فهو يزري، كانوا يقولون: يا رب! ارفع عنا هذا المطر، يا رب! لا تهدم علينا بهذا المطر بيوتنا وأنت أبصر وأنت أرحم، ولكن إذا تخلف المطر وقحطت الأرض خرجوا للاستسقاء، فالزيارة غباً واردة ولا تحدد، وحددها بعض الناس، بأن تزور على قدر طاقتك، إلا الأرحام والأقارب الذين تمون عليهم ويمونون عليك فلا بأس، أما أن يكون الإنسان ثقيلاً فلا يطلب هذا.
ومن آداب الزيارة -أيها الأخيار الأبرار النبلاء الفضلاء- أن إذا زرت ألا تنام عنده، كأن تزوره بعد صلاة العصر، فتبقى إلى الواحدة والنصف ليلاً، فيخرج ويرجع وينتهي كلامه، وينظر في النجوم: هل طلع نجم سهيل؟ وهل بدت الثريا؟ هل أذن الفجر؟ ثم يدعو الله عز وجل، ثم يذهب إلى زوجته شاكياً باكياً فهذا ليس بوارد، فعلى المسلم أن يكون خفيفاً.
أيها الإخوة: لا ننفركم من زيارة الإخوان والأحباب، لكن هذه موجودة في كتب التربية، ووجدت حتى في التفسير وأشار إليها العلماء المفكرون، ونحن لا بد أن نبحثها مثلما نبحث مسائل الوضوء والصلاة والزكاة والصيام.
قال: وزيارة الأحباب والأقران والزملاء بعضهم لبعض، فهذه مطلقة، فلا تقل: لا أزوره؛ لأنه لم يزرني، بل كن دائماً أنت فاضلاً بادئاً بالفضل.
وقد زار سلمان أبا الدرداء وزار أبو الدرداء سلمان.
أما سلمان هذا ففقيه، طال عمره، ففقه عقله ونبل، فزار أبا الدرداء، وأبو الدرداء كان قوياً في العبادة صارماً، يكلف نفسه كثيراً، فزاره في النهار، فوجده لا يأكل، ورأى امرأته متبذلة، قال: مالك أصبحت عجوزاً في البيت؟ قالت: أبو الدرداء أما النهار فصائم، وأما الليل فقائم.
فأتى سلمان وكان فقيهاً، فقال لـ أبي الدرداء: كل معي، قال: لا آكل أنا صائم، قال: والله لا آكل حتى تأكل، فأكل، فلما أتى الليل نام معه متعمداً حتى يلقنه درساً تربوياً عالياً، فقهاً واقتصاداً في العبادة فقام يصلي بعد العشاء، قال: نم، فنام ساعة، فقام، فأخذه بثوبه، وقال: نم، فلما أصبح قبل الفجر بساعة، قال: الآن قم، فقام، فلما أتى الصباح جلس معه في حوار حار ساخن، وقال: [[يا أبا الدرداء: إن لربك عليك حقاً -هذا الحديث في الصحيحين - ولنفسك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حقٍ حقه]].
فأخذ أبو الدرداء هذا الكلام، وذهب به يعرضه على المصطفى المعلم الكبير، يعرض المخطوطة على صاحبها، ويعطي القوس باريها، قال: {يا رسول الله! أتى سلمان؛ فنام عندنا، ففعل كيت وكيت، وقال: كذا وكذا، قال: صدق سلمان، صدق سلمان، صدق سلمان، سلمان أفقه منك يا عويمر} فهذا هو الإسلام، وهذه هي الزيارة.
وهل الزيارة على البعد واردة؟ لأنه قد وجد من العلماء من قال: لا تشد الرحال لزيارة الناس، إنما تشد للمساجد الثلاثة، أي: هل لك أن تشد رحلك، وتركب سيارتك، وتحجز في الطيران، وتذهب لتزور أخاً؟ وهل هذا من البدعة أم لا؟
لا.
ليس من البدعة، بل هو من أفضل الأعمال أن تزور أخاً لك في الله، ولو شددت إليه الرحال.
أتيناكم من بَعْدِ بُعْدٍ نزوركم فهل من ضياف وارد وجفان
كما يقول الصاحب بن عباد.
والرسول عليه الصلاة والسلام -كما في سنن أبي داود - زار العباس بن عبد المطلب في البادية، فسلم عليه وعلى أطفاله وصلى عندهم عليه الصلاة والسلام.(301/11)
الأماكن التي تزار
ما هي الأماكن التي تزار؟
هل يزار قبر عبد القادر الجيلاني، والبدوي، وهذه القبور التي أخذها الذين لا يفقهون شيئاً، وقالوا: الدعاء مستجاب عندها، ويمرغون وجوههم عندها، حتى إن أحد الناس الحمقى أخذ قارئاً يقرأ عليه، قالوا: إذا ذهبنا إلى قبر البدوي فاقرأ علي، فذهب معه، فلما أجلسه عند القبر، قال: ماذا أقرأ؟ قال: اقرأ ما فتح الله عليك، قال: كم الأجرة؟ قال: فلسين -أو عملة قليلة تشابهها- فقرأ: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32] قال: كيف تقرأ هذا الكلام؟ قال: هذا قيمته في الكيل، وأما الذي بالجنيهات: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:17 - 16].
فالمقصود أن بعض الناس يزورون هذه المزارات ويعتقدون فيها النفع والضر، وهذا شرك، وقد تساهل الذهبي في السير، حيث كان يترجم للشخص ويقول: وكان قبره يزار.
والرسول عليه الصلاة والسلام قبره لا يشد إليه الرحل، لكن إذا وصل المسلم إلى المدينة المنورة والمسجد الشريف، فعليه أن يمر على الحبيب عليه الصلاة والسلام.
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه الجلال وفيه العز والكرم
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقد وقع صراع تساقطت منه عمائم الأبطال، وتكسرت النصال على النصال، بين ابن تيمية وعلماء وقته إلا من رحم ربك.
فهم يقولون: شد الرحال إلى القبر وارد، وهو يقول: لا.
لا يشد الرحل إلى قبره صلى الله عليه وسلم، وألف في ذلك مجلداً، وقد رد عليه السبكي، ولكن لم يحسن الرد، فرده مظلم لا يشفي، وهو مبني على الأحاديث الموضوعة، ولكن أتى ابن تيمية برد مشرق، كأنه نظم النجوم من الدلائل الساطعات الواضحات فرحمه الله، وأسكنه فسيح جناته.(301/12)
فوائد أخرى في حديث الكنية
فهذا الحديث: {يا أبا عمير! ما فعل النغير} كان هناك رجل يسمى صالح جزرة، وهو محدث كبير، وحافظ المشرق، أتى من الشمال، فقال له أبو حاتم الرازي: ماذا وقع عندكم في الشمال؟ قال: كل خير، مات الشيخ فلان، وأتى محدث آخر فأول ما قرأ علينا، حديث: يا أبا عُمَير! فقال: يا أبا عَمِير! ما فعل البعير؟
يقول ابن حجر: من التصحيفات التي وقعت في الأحاديث مثل ما وقع في هذا الحديث، والتصحيف هو: تغيير الكلمات.
وفي هذا الحديث قضايا:
منها: أن هذا الطفل مات بعدما مات النغر ويقولون: هو الطفل الذي قصد في الحديث الصحيح، أنه ولدٌ لـ أبي طلحة، وكان مريضاً، فدخل أبو طلحة ليلة من الليالي، وإذا بطفله قد مات، وهو لا يعلم أنه قد مات، وكانت أم سليم امرأة عاقلة، رشيدة، زاهدة، فغسلته وكفنته وسجته، فدخل أبو طلحة، وقال: كيف الطفل؟ قالت: ما ارتاح إلا هذه الليلة، وهو في أحسن حال، فظن أنه مرتاح، فلما أصبح الصباح أخبرته الخبر، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: {بارك الله لك في ليلتك} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فأخلفه الله بتسعة أولاد كلهم حفظوا القرآن، وأصبحوا من علماء الأقاليم في البلاد الإسلامية، ومنهم إسحاق بن أبي طلحة أحد رواة البخاري ومسلم من أكبر العلماء في الدنيا، تسعة حفظوا القرآن، وأصبحوا علماء ودعاة إلى الجنة.
ومن القضايا كذلك بارك الله فيكم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سجع في الحديث هذا، فقال: {يا أبا عمير! ما فعل النغير} وفي القرآن سجعٌ لكنه ألذ من الشهد، وأحسن من الماء الزلال: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً} [الذاريات:1 - 2] {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} [النازعات:1 - 2] {والْمُرْسَلاتِ عُرْفاً * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً} [المرسلات:1 - 2] إلى غير ذلك من الآيات فيها سجع، ولكنه غير متكلف، بل هو نورٌ يهدي به الله من يشاء صراطاً مستقيماً.
ومن القضايا: أنه يجوز جعل الاسم بدل الكنية، فـ أبو بكر يقولون: اسمه كنيته، وبعضهم يقول: اسمه عبد الله بن عثمان، والظاهر والله أعلم أن أبا عمير اسمه كنيته.(301/13)
حكم لعب الأطفال بالألعاب
ومنها: قضية التلهي بالطير، وأنه لا بأس للمسلم أن يعطي أبناءه بعض اللعب خاصة الصغار منهم، التي يتسلون بها، ولكن بشرط أن تكون اللعب المباحة، أما اللعب المجسمة وهذه التصاوير، مثل صور البنات والأطفال والخيول، فالذي يظهر -والله أعلم- أن هذه ليست من جنس اللعب، وأنها لا يجوز أن تدخل البيوت؛ لأنها منحوتة؛ ولأن فيها تشبه بخلق الله عز وجل، وهي مذمومة، وكأنها تأخذ ظاهر الحديث: {لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ولا جنب ولا كافر} هذا الحديث في السنن وهو حسن، وفي السنن حديث صحيح: {لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب} أما قوله: {ولا بيتاً فيه صورة ولا جنب ولا كافر} فهو حديث حسن، ومن العلماء من صحح هذه الجملة كلها.
فالمقصود أن هذه اللعب ينبه عليها ولا تدخل البيوت؛ فإنها تخرج الملائكة، وهي خدش للتوحيد؛ لأنها مشابهة لخلق الله تعالى وهي منحوتة، وقد يستدل بعض الناس، ويقول: أدخلها بيتي؛ لأنه أثر أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها، كانت لها خيولٌ تلعب بها؛ لأنها كانت طفلة، فدخل صلى الله عليه وسلم عليها، وكان للخيول أجنحة، فقال: {ما هذه يا عائشة؟ قالت: خيول، قال: خيول بأجنحة؟! قالت: يا رسول الله! سليمان كانت له خيولٌ بأجنحة، فتبسم عليه الصلاة والسلام وسكت} قال العلماء: لم تكن عائشة تصور الخيول كصورة الخيل، فهي لا تستطيع أن تصور رأس الخيل، وعينيه ويديه، وأرجله، وذيله، أو تصور قامته وسمكه، فيكون خيلاً كما يفعلون الآن؛ لأن هذه مصانع متخصصة، وشركات عالمية متطورة، فصناعة اللعب هذه تأتي بتعب وجهد، ووراءها مفكرون حتى تنتج للناس، فـ عائشة رضي الله عنها أتت بعود وجعلت قطعة قماش من هنا وقطعة من هنا، وقالت: هذا فرس، وهو ليس بفرس ولا يشبه صورة الفرس والخيل، فهذا ليس من هذا أيها الأبرار.
واللعب التي يلعب بها الأطفال، كالدراجات والسيارات، والطائرات، واللعب، والصفارات، إلى غير هذا، وهي لا بد في فترة من الفترات أن يكون عند الأطفال منها شيء، أما إذا بلغ الطفل خمس عشرة سنة وتشتري له دراجة فيصبح دائماً في الشوارع فهذا لا ينبغي، بل لا بد أن يكبر عقله مع كبر سنه حتى يعلم مهمته في الحياة.
قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
يقولون: الرسول عليه الصلاة والسلام لما بلغ السابعة من عمره، كانت لـ عبد المطلب سجادة في ظل الكعبة، ممنوع أن يجلس أحدٌ على هذه السجادة، وهي لا تأخذ إلا رجلاً واحد، فلا يجلس فيها إلا عبد المطلب سيد قريش والعرب، وكانت تفرش قبل العصر، فيجلس، وتجلس إليه قريش وكبراء العرب وملوك العرب عنده، ولو أتى ملك من ملوك الدنيا فإنه لا يجلس عليها.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان دائماً إذا أتى لا يجلس إلا على هذه السجادة، فتقيمه قريش فيقوم من مكانه ويجلس على السجادة، فيقول عبد المطلب: والبيت ذي النصب والحجب، والنجوم والشهب، إن لهذا الابن سبباً من السبب، يقول: والله إن هذا الابن ليس بعادي، وإنه سوف يكون عظيماً من عظماء الدنيا، ونحن نقول: ليس من عظماء الدنيا، بل هو أعظم عظيم في الدنيا عليه الصلاة والسلام، فهمته العالية جعلته يجلس هناك.
يقول ابن القيم في كتاب الفوائد: قيل: لدويدة صغيرة تحرك القذر والأذى، مالك تفعلين هذا بنفسك؟ قالت: همتي أنزلتني إلى هذا المكان.
فالمقصود أن التلهي باللعب لا بأس به، لكن بالشروط التي ذكرت، وإقامتهم على الصلاح، وعلى تَعَلُّم العلم فهو لا بأس به، أما تعليمه في سن لا يعقل فيها، فهو إتعاب للنفس فقط، فمن السابعة يبدأ بالمسجد، ويبدأ بالتعليم، ويبدأ بحفظ وقته، وحضور الجلسات والاستفادة من أهل العلم.(301/14)
سؤال المسلم عن أحوال إخوانه
وفي هذا الحديث السؤال عن الأحوال: سؤال المسلم عن أحوال إخوانه وخاصة الجيران، فإن بعض الناس يمرض جاره ويشفى مرات كثيرة ولا يدري، وبعد أيام عديدة يقول: أخبرنا آل فلان أنكم مرضتم فشفاكم الله.
فهذا عذر أقبح من ذنب، فإن المسلم لابد أن يتفقد أحوال جيرانه، والذي يخبرك هو المسجد، فيخبرك أن الناس سافروا، أو وجدوا، أو ماتوا، أو حضروا، أو مرضوا، فمن صلى معنا تفقدناه، ومن كان مفقوداً دائماً فلا أصل له، ليس موجوداً في كتابنا ولا في مخطوطاتنا، فهو ليس له أصل.
لكن الذي دائماً يحفظ الصف الخامس أو الصف الأول، فهذا معروفٌ عند الناس، عند الإمام والمؤذن، وعند الإخوان والجماعة، إذا غاب نسأل: أين ذهب فلان؟ ليست عادته أن يغيب فيعرف أهل الحي أنه سافر، فلذلك ينبغي أن نحافظ على هذه الصلوات، وأن نسأل الناس عن أحوالهم.
ولكن إذا سُئل المريض عن حاله فليكن بحكمة، لا تأتي إلى مريض متعب ومرهف وسئم، فتلقي عند رأسه محاضرة، حتى يتمنى أنه ما رآك فيزيد مرضه مرضاً، فمن الناس من يأتي إلى المريض فيقول: والله سمعنا أن هذا المرض مات منه فلان وفلان، وكان هذا المرض مرض جدتي يوم نقلت إلى المستشفى التخصصي وماتت بعده، وهو مرض خالتي الذي ما أخذت بعده العافية والحمد لله، يقولون: هذا من التشاؤم في الزيارة.
قالوا: فإن كنت وجدته قريباً من العافية؛ فقربه، وقل: لا بأس عليك، لم أظن أن حالك حسنة كذا، ما شاء الله تبارك الله؛ لأن الوهم يزيد المريض مرضاً، ورفع معنويات المريض أمرٌ حسن، وفيه قصص وأعاجيب ذكرها ابن الجوزي وغيره من أهل العلم.
وكذلك إذا رأيت أنه اقترب من الموت، فذكره بلقاء الله، وحسَّن ظنه بالله، وقل: ما شاء الله! ما أسعد من يقدم على رب كريم! وأنت من الأخيار إن شاء الله، ومواظب على الصلوات ومن الصالحين، أما أن تأتي وهو في سكرات الموت وتقول: يا فلان! ماذا فعلت في بيتك؟ وهل بعت سيارتك في المعرض؟ وماذا فعل الأبناء في الدراسة؟ وهو يتشهد ويقول: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى.
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى(301/15)
تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم وفضل التواضع
وفي الحديث: التواضع، وهي أكبر سماته صلى الله عليه وسلم، فهو لا يحمل ذرة واحدة من الكبر، بل كان أقرب الناس إلى الناس، يجلس على التراب، وتأخذه الجارية بيده؛ فيذهب معها في سكك المدينة، ويقف مع الأعراب، ويبيع ويشتري في السوق، ويأخذ الدابة فيربطها ويقودها صلى الله عليه وسلم، ويركب الحمار، ويكنس ويَقُم البيت، ويرفع الثوب، ويخصف النعل، لكنه سيد الخلق عليه الصلاة والسلام.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {من تواضع لله رفعه، ومن تكبر على الله وضعه} كلما تواضعت رفعك الله، يقول: انتعش انتعش، أي: ارفع رأسك، وكلما تكبر الإنسان، قال: اخسأ فلن تعدو قدرك.
ولذلك أكبر الناس في نفوسهم؛ أصغرهم في قلوب الناس، حتى تجد المتكبر إذا مر تلعنه قلوب الناس، فهو حقير لا يقيمون له ولو ذرة، والمتواضع ليس في نفسه شيء؛ وإذا مر سلمت عليه القلوب وحيته.
يقول البخاري: باب المقة من الله، قال أهل العلم، كما قال ابن حجر: الصيت الحسن والثناء الحسن من الواحد الأحد، ولا يعطيه إلا الله لكن بالتواضع، فأوصي نفسي وإياكم بالتواضع لكل أحد، ومن التواضع: البشاشة والبشر، أي: من علامة المتكبرين أنه لا يسلم كثيراً، يريد أن تسلم عليه ولا يسلم عليك، ويقف مكانه حتى تقرب أنت لحضرته ولشخصيته العظمى فتسلم عليه، ومنه كذلك أنه لا يقوم، وإذا مد يده أعطاك رءوس الأصابع، ويتنحنح كثيراً، والتفاتاته التفاتات كبر، وتصرفاته عنجهية، ويتحدث عن نفسه دائماً: قلت، وفعلت، وكلمت، وراجعت، ونزلت، ودخلت، وأكلت، وشربت ترجمة لحياته.
وهذا مرض خطير نسأل الله أن ينجينا وإياكم منه، فأكبر مِيَزَه صلى الله عليه وسلم التواضع، حتى يقول الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
دخل عليه رجل وهو في مكة عليه الصلاة والسلام، ولما رأى هذا الرجل هيبة الرسول عليه الصلاة والسلام، وعظمته، وجلاله، ونوره، أخذ يرتعد، فقال: {هون عليك فإني ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة} نعم.
كانت تأكل القديد لكنك أصلحت العالم، وحولت مجرى التاريخ، لكنك أقمت الدنيا وأقعدتها، لكنك دكدكت جيوش الضلالة، ونسفت كل كيان للجاهلية على وجه الأرض، نعم.
لم يغير أحد مجرى التاريخ كما فعل عليه الصلاة والسلام، ولا نقل أمة ضائعة ضالة من مكان إلى آخر مثلما فعل عليه الصلاة والسلام.
وأكبر ميزة له عليه الصلاة والسلام كما في الحديث، قال أنس: {كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً} وهذا مصداق لقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وورد أن سعد بن هشام قال لـ عائشة: كيف كان خلقه صلى الله عليه وسلم؟ قالت: {كان خلقه القرآن} وهذا في صحيح مسلم.
وأكبر معالم خلقه صلى الله عليه وسلم تدور على أربعة: الصبر، والشجاعة، والكرم، والتواضع.
فأما الصبر: فكان من أصبر الناس، بلغ به الجوع إلى أن أخذ الحصى وربطها على بطنه، فما شكا ولا بكى ولا تذمر ولا تأسف، وإنما استمر في دعوته حتى بلغت مغرب الشمس ومشرقها، وضُربت بناته، وأوذي، وأخرج من دياره، وحورب، وقوتل، وماتت زوجاته وقريباته، وأعمامه، وأنصاره، والشهداء حوله، فما ازداد إلا صرامة وصلابة ومضاءً.
وأما شجاعته: فكانت السيوف تلعب عن يمينه ويساره، والرماح تتكسر على رأسه، وهو واقف لا يتزحزح خطوة واحدة، هل تعلمون أحداً أشجع من علي؟ يقول علي: [[والله لقد كنا إذا التقينا بالأعداء، واحمرت الحدق، واشتد الهول؛ نتقي بالرسول عليه الصلاة والسلام فيكون أقربنا من القوم]] إذا كان علي على شجاعته يتقي بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويتترس به، فما بالك بالرسول عليه الصلاة والسلام، وفي معركة حنين انهزم كل الجيش، ولم يبق إلا ستة والرسول عليه الصلاة والسلام، فنزل من على بغلته وسل سيفه صلى الله عليه وسلم، وقال:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
ولذلك أجمع أهل السير أنه لم يكن أشجع منه أبداً، وسمع صوتاً مرة من المرات فنهض صلى الله عليه وسلم على فرسه حتى أدرك الصوت والغارة، وعاد وما كلم أحداً من الناس.(301/16)
الأسئلة(301/17)
حكم لمس الجارية الصغيرة
السؤال
ذكرت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تأخذ بيده الجارية، فتذهب به، وقد ورد النهي عن لمس المرأة الأجنبية، وأرجو توضيح ذلك.
الجواب
أولاً: يا أخي! الجارية لا تأخذ حكم المرأة، فالرسول صلى الله عليه وسلم ربما داعب الجواري الصغار، ومازحهن، وقبلهن شفقة ورحمة فهو أبو الجميع صلى الله عليه وسلم، أما المرأة التي تُشْتَهى ويرغب فيها فكان صلى الله عليه وسلم لا يمس يد امرأة كما ورد بذلك الحديث فليعلم هذا، فلا تعارض؛ لأن هذه الجارية صغيرة السن، وورد في الحديث في صحيح مسلم، أن الجارية كانت تأخذه بيده صلى الله عليه وسلم، وربما قبل صلى الله عليه وسلم بعض الجواري الصغار تحبباً وتأليفاً، وهذا ليس فيه شيء، وليس فيه شبهة ولا فتنة ولا ريبة.
إنما النهي عن المرأة التي تسمى امرأة، وتشتهى، وقد أصبحت لها فتنة فهي امرأة، فليعلم هذا.(301/18)
الكنى الفاسدة وحكم التكني بها
السؤال
ما رأيكم في بعض الشباب الذين يكنون بكنى فاسدة مثل: أبو عذاب، أبو غريب، أبو عشق؟
الجواب
أنا لم أسمع بهذا، ولكن قد يحدث هذا في بعض الأماكن، وهذا من قلة الرشد، بعض الناس يأتي بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وفي الدنيا آلاف الأسماء، وفي الدنيا غنية عن هذه الأسماء، فيتعب نفسه ويضيق على نفسه بهذه الأسماء، حتى أن بعضهم يسمى بأسماء ليس لها معان، أنا سمعت أحد الدعاة والخطباء يقول: سألت ولداً وقلت: ما اسمك؟ قال: اسمي أنو، فيقول الخطيب: أنو هذه ليست كلمة عربية ولا فرنسية ولا إنجليزية، فبعض الأسماء ليس لها طائل، وكأننا ألجئنا الآن إلى أسماء جديدة بدأت تفد إلينا، وهذا نحذر منه؛ لنبقى على الصبغة الإسلامية، وعندنا من الأسماء الكثيرة، أسماء الشجعان والأبطال والأعلام والواجهات الحضارية ما يكفينا عن هذه الأسماء، كل من في اسمه تعبيد فلنتكن به، أبو عبد الرحمن، أبو عبد الله، أبو عبد السلام، أبو حمزة، أبو الزبير، أبو طلحة، أبو علي، أبو عمر، إلى غير ذلك من الأسماء التي هي من أروع الأسماء وأحسنها.
وهذا ينهون عنه وليس فيه تحريم فيما أعرف، لكن غيره أحسن منه وأولى؛ لأن في الاسم اشتقاق من المسمى.
ولذلك بعض الناس يُساء في أسمائهم فيخرجوا هكذا، وليست كل تسمية واردة أو فيها خير، وليس كل تسمية احترازاً للرجل، فالله كنى أبا لهب في القرآن وهو كنار تلظى، ويقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لموسى لما أرسله إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] قال علي بن أبي طالب كما في تفسير ابن كثير: معناه كنياه، أي: نادياه بالكنية، قال سفيان الثوري -وهذا عند ابن كثير -: كانت كنية فرعون أبو مرة، وهذا معروف.(301/19)
أهمية الاتصال بالعلماء واستفتائهم
السؤال
يواجه الإنسان المسلم مشاكل في حياته، خاصة المشاكل العائلية، ويريد الإنسان أن يجد حلاً في الشريعة الإسلامية، فمن نستطيع أن نتصل به في مدينتنا الفاضلة وجزاكم الله كل خير؟
الجواب
عليك إذا حدث لك حادث أن تتصل بالعلماء فعندنا الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ ابن عثيمين، وأمثالهم، ويجدون لك حلاً، وهناك مكتب للدعوة والإفتاء في أبها عليك أن تتصل به وهم يحيلونك على العلماء، أو عندهم الحل إن شاء الله.(301/20)
حجاب المرأة
السؤال
يقول: متى تتحجب المرأة؟ ومتى لا يجوز النظر إليها؟
الجواب
تتحجب المرأة إذا أصبحت تشتهى وترغب وأصبح عليها ريبة فتبدأ تتحجب.(301/21)
أول شيء خلقه الله في الكون
السؤال
ما هو أول شيء خلقه الله تعالى؟
الجواب
أنا لا أفيدك وأنت لا تستفيد، ومع العلم أن شارح الطحاوية وكثير من علماء العقيدة بحثوا هذا، لكن لن يسألك الله عز وجل يوم القيامة ما أول ما خلق؟ وليست من المسائل التي يقوم عليها كبير الفائدة، وهي إشغال للأذهان، لكن الراجح عند علماء السنة -إن شاء الله- أن أول ما خلق القلم؛ ففي حديث عبادة الصحيح: {أول ما خلق الله القلم} فمن نصب أول أي: ظرف لم يجعل القلم أول ما خلق، أي: في الوقت الذي خلق الله القلم فعل شيئاً آخر، أي: ليس القلم أول ما خلق، لكن في الوقت الذي خلق فيه القلم، تكلم الله أو فعل، أو قال له: اكتب، ومن العلماء من قال: أولُ، على الابتداء، فإن كانت على الإبتداء، فمعناه: أول المخلوقات القلم، وقال له: اكتب، فكتب مقادير الخلق قبل أن يخلق الخلق بخمسمائة عام.(301/22)
حكم قطع رءوس المجسمات
السؤال
ما قولكم في المجسمات إذا قطع رأسها، وهل تصبح مثل الشجرة؟
الجواب
يقول هذا بعض أهل العلم وهذا صحيح، وفي سنن النسائي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بصورة فقطع رأسها فأصبحت كالشجرة، فأنت إذا أتيت للصورة فقطعت رأسها، وفصلته، فحينئذٍ لا يصبح فيها ريبة، ولا تحريم إن شاء الله، وهذا القول صحيح، وقد أفتى به كثيرٌ من علمائنا الأخيار، والعمدة على حديث النسائي الذي في سننه.(301/23)
حكم التصدق عن الأموات
السؤال
هل يجوز التصدق بمال بنية التصدق عن أموات المسلمين جميعاً، فإني عندما أزور المقابر أرحمهم وأريد لهم زيادة الأجر؟
الجواب
أنت مأجور ومشكور بشرط أن يكون الأموات من المسلمين، وأن تنوي بهذا الثواب لهم، فيصلك الثواب، ويصلهم إن شاء الله، وهذا لم يخالف فيه ومعك الدليل في هذا إن شاء الله.
ونسأل الله عز وجل لنا ولكم القبول والهداية، والتوفيق والخير والرشد، وإن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(301/24)
من آداب النبوة (4)
تواصلاً مع آداب النبوة, يتكلم الشيخ في هذه المادة عن آداب التبسم والضحك.
وإذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أساساً لهذه المادة, فقد قامت على هذا الأساس فوائد أخرى كثيرة يحتاجها المسلم, كأنواع الضحك, وأنواع البكاء, معرجاً على فضائل بعض الصحابة.
وتظل الآداب النبوية هي الينبوع الصافي الذي لا ينضب, تمدُّ البشرية عبر العصور بأروع وأجل الأخلاق التي عرفها التاريخ, ومن شمولها لكل جوانب الحياة أنها تعالج موضوعاً دقيقاً كالضحك والبكاء.(302/1)
الضحك والبكاء
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
هذا حديث المصطفى صلوا عليه وسلموا
هذا الرحيق المجتنى فيه الشفا والبلسم
بعد الكتاب هو النجاة فبالهدى فاستعصموا
تجد البخاري روضة أما الغدير فـ مسلم
من كان هذا هديه لا لن تراه جهنم
ما نزال مع البخاري رحمه الله في كتاب الأدب، وهو يشنف الأسماع ويثلج الصدور بكتابه, فهو يدبجه تدبيجاً, ويوشحه توشيحاً.
يقول: (باب التبسم والضحك) فما هو حد التبسم؟ وما هو حد الضحك؟
وما هو المحمود منه؟ وما هو المذموم؟ وما هو الذي وردت به السنة؟
وكأني ببعضكم يقول: حتى الضحك والتبسم لا بد فيه من حلال وحرام، ومن دليل وتعليل؟! فنقول: إنها أمة تتلقى وحياً من فوق سبع سماوات، وإن نبيها صلى الله عليه وسلم يؤدبها في الحركات والسكنات، حتى في الضحك والبكاء، فهي أمة ليست مسيرة من البشر، إنما تُسَيَّر بوحي من السماء.
قال: (باب التبسم والضحك) وسوف يورد كلاماً عند هذا، يقول: وقالت فاطمة عليها السلام: [[أسر إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت]] وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [[إن الله هو أضحك وأبكى]].
وقبل هذا اعلموا أن الضحك فيه شيء مذموم وفيه شيء ممدوح، وهو أقسام، والبكاء أقسام، وفيه مذموم وفيه ممدوح.(302/2)
أنواع الضحك
أما الضحك فهو أنواع، كما قال علماء التربية، فمنه ضحك التعجب، وقال أهل التفسير: ضربوا على ذلك مثالاً -ضحك التعجب- بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود:71] كيف ضحكت؟ بعض المفسرين يقولون: حاضت، على لغة بعض القبائل العربية، لكن الصحيح عند الجمهور أنها ضحكت تعجباً: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود:72] امرأة تنيف على الستين أو تصل إلى السبعين، ثم تأتيها البشارة بغلام لها فتضحك ضحك التعجب، إذاًً فمن الضحك: ضحك التعجب.
ومن الضحك: ضحك السخرية، والاستهتار، والاستهزاء، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف:47] عجيب! يضحكون من آيات الله! يضحكون من الأسس الخالدة التي أقام الله سبع سماوات وسبع أراضين من أجل هذه المبادئ الأصيلة والأهداف الجليلة! فكان عاقبة الضحك أن دمرهم الله تدميراً هائلاً، وأذاقهم لعنة في الدنيا والآخرة: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف:47].
ومنها ضحك الاعتزاز بالنفس، بعض الناس إذا هُدد وتُوعد ضحك معتزاً بنفسه.
أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
وماذا يبتغي الشعراء مني وقد جاوزت حد الأربعين
فإذا تُوعِّد الشجاع ضحك، يقول المتنبي وقد توعده خصومه بالقتل:
إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم
يقول: إذا ابتسمت فأنا متوعدٌ لهم، وأنا متهددٌ لهم، وهذا موجود في أفعال الرجال، أنهم ربما ضحكوا استهتاراً بهذا الخصم، يقول جرير للفرزدق:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع
ومنها: تبسم الإقرار وضحك الإقرار أن ترى شيئاً وأنت مطاع، وكلمتك مسموعة؛ فتضحك كأنك تقر هذا الشيء، يلعب طفلك في البيت فتضحك مقراً لفعله، أو يتكلم بكلمة فتتبسم له، ودليل ذلك أنه صح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، وهو أرطبون العرب، صاحب القوة الهائلة، والذكاء الخارق، الداهية الدهياء، الذي لعب على عقول الكفرة، خرج في سرية من الصحابة؛ فأجنب وكان الجو بارداً، والنسيم معتلاً، فأراد الماء، فوجده مثلجاً؛ فتيمم، وأفتى نفسه، وصلى بهم هكذا، وذهبت الشكاية إلى المعلم الأعظم، وإلى المعلم الأكرم، تشتكي هذا الرجل، لأنه ليس مشرعاً، فلا بد أن تعرض الشريعة على الذي أتى بها، وتعرض المخطوطة على من يحققها، وليس لها إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فلما عرضت عليه صلى الله عليه وسلم، تبسم ضاحكاً، وقال: {يا عمرو! أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ قال يا رسول الله! إن الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] فضحك صلى الله عليه وسلم} وهذا ضحك الإقرار.
ومن التبسم: تبسم الغضب، فقد يتبسم المغضب، فإذا رأى شيئاً تبسم من غضبه ونفس عن خاطره بالتبسم، ودليل ذلك: ما في الصحيحين من حديث كعب بن مالك، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم من تبوك، وقد تخلفت مع الثلاثة، فلما رآني تبسم تبسم المغضب عليه الصلاة والسلام.
وله أنواع أخرى، وسوف نأتي إلى الممدوح من الضحك والمذموم.(302/3)
أنواع البكاء
أما البكاء فهو أنواع: منها: بكاء الحزن على الفائت، وأعظم بكاء في تاريخ الإنسانية هو بكاء يعقوب عليه السلام على يوسف، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] بل ورد في بعض الآثار: أن الملائكة شاركته في البكاء، ودرجة بكاء تصل إلى أن يشارك الملائكة هذا الرجل الصالح، إنها درجة عظيمة.
ولا بد من شكوى إلى ذي قرابة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
وممن بكى كذلك كثيراً في تاريخ البشرية داود عليه السلام، ألم بذنب فبكى بكاءً عظيماً حتى كادت تتلف روحه.
ومن أنواع البكاء: البكاء من خشية الله، وأخشى خلق الله لله هو محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر ابن مردويه وابن جرير: أن بلالاً رضي الله عنه وأرضاه مر بالرسول عليه الصلاة والسلام ليخبره بصلاة الفجر، فقال: يا رسول الله! الصلاة، قال: {يا بلال نزلت علي آيات ويلٌ لم قرأها ولم يتدبرها، ثم قرأها صلى الله عليه وسلم، وأخذ يبكي، وهي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]}.
وفي سنن أبي داود بسند صحيح عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: {كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولصدره أزيز من البكاء كأزيز المرجل}.
الأزيز: صوت يحدثه البكاء في الصدر.
والمرجل: القدر إذا اجتمع غلياناً بالماء، فكأن صدره صلى الله عليه وسلم لكثرة أحزانه وخشيته لله القدر يوم يجتمع غلياناً، وورد عنه صلى الله عليه وسلم البكاء في أكثر من حديث ليس هذا مقام ذكرها.
ومن البكاء: بكاء الهلع، وبكاء الجبن والخور، وهذا مذموم، كأن ترد على الإنسان مصيبة.
فيبكى ساخطاً متسخطاً على قضاء الله، ولو بكى قليلاً من غير تسخط لكان لا شيء عليه.
ومن أنواع البكاء: البكاء من الفرح سبحان الله! أفي الفرح بكاء؟! نعم، إن أقصى درجات الفرح يحدث بكاءً، لذلك إذا بشرت الأم -مثلاً- بولدها وقد قدم من سفر طويل بكت، قال الأول:
طفح السرور عليَّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
وقال أنس: [[ما كنت أظن أن الإنسان إذا فرح بكى، حتى رأيت الأنصار يوم قدم صلى الله عليه وسلم المدينة يتباكون]] وجاء في صحيح مسلم أن أبي بن كعب وأبي هذا أمة من الأمم، سيد القراء، أتى رجل من العراق وعمر رضي الله عنه في اجتماع طارئ للصحابة ولكبار علماء الصحابة، واضع على يمينه أبي بن كعب سيد القراء، وكانت لحيته بيضاء، ورأسه أبيض، وكان عابداً لله عز وجل، يتلو كتاب الله دائماً، فقال العراقي: يا أمير المؤمنين! من هذا الرجل الذي بجانبك، قال: ثكلتك أمك! أما تعرفه؟! هذا سيد المسلمين أبي بن كعب.
أتى جبريل فقال للرسول عليه الصلاة والسلام: {إن الله يأمرك أن تقرأ سورة: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1] على أبي بن كعب -فذهب صلى الله عليه وسلم معلم البشرية، وهادي الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية إلى طالب من طلابه، وتلميذ من تلامذته، وإلى حسنة من حسناته ليقرأ عليه السورة- فقال أبي: يا رسول الله! من أمرك بهذا؟ قال: الله، قال: وسماني في الملأ الأعلى؟ قال: إي والذي نفسي بيده، فبكى أبي} من الفرح؛ لأن الله سماه من فوق سبع سماوات.(302/4)
وسطية الرسول صلى الله عليه وسلم في الفرح والحزن
قال البخاري: (باب التبسم والضحك) ومن التبسم المجاز، ويستخدم في الضحك، قال البحتري في قصيدته الرائعة الربيعية وهو يصف الورود في الخمائل:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً من الحسن حتى كاد أن يتكلما
فهذا مجاز.
وقال زهير يمدح هرم بن سنان:
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وهذه من أعظم القصائد، حتى كان عمر يتأثر، ويقول: لا تصلح هذه الأبيات إلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام وسطاً في رسالته، ليس بالضاحك الذي أسرف على نفسه في الضحك عليه الصلاة والسلام، أو أكثر في هذا الجانب، وليس بالذي تقمص شخصية الحزن والكآبة والحسرة والندامة، والناس قليل منهم الوسط، فهو وسط في كل شيء، وسط في المعتقد، ووسط في العبادة والتشريع، ووسط في الآداب والسلوك {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143].
وتجد كثيراً من الناس يضحكون ويقهقهون حتى يتمايلوا ويتساقطوا، وربما يترح أحدهم ترحاً برجله {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] وتجد بعضهم لا يضحك أبداً حتى في عيد الفطر وفي عيد الأضحى، فتجد الناس يتعاودون والكباش تذبح وهو لا يضحك.
يقال له: ابتسم, فلا يتبسم.
أين أسنانك الطاهرة الطيبة؟ فلا يرينا أسنانه.
وذاك صنف، وهذا صنف، لكن الوسط محمد صلى الله عليه وسلم.
كان يبكي من خشية الله بكاءً ربما أحدث صوتاً أحياناً، وكان يتبسم كثيراً، والضحك نادر في حياته، وأكبر ضحكه -كما ورد في الأحاديث- أنه ضحك حتى بدت نواجذه صلى الله عليه وسلم، وكان إذا ضحك ربما وضع يده الشريفة على فمه، لكن هذا نادر، ولم توجد في الصحيحين إلا في أربعة أو خمسة مواضع، أما تبسمه صلى الله عليه وسلم فكثير.
قال جرير بن عبد الله -كما سوف يمر معنا-: [[ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي]] والبسمة ليست عبثاً، بل شرى بها قلوب الناس وقلوب القبائل والشعوب عليه الصلاة والسلام، يقول الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ويقول له: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
وهؤلاء العرب مشاغبون كلهم، يتضاربون كأنهم في الحراج، وليس عندهم تأسيس ولا نظام أو معرفة أو ثقافة، فلما أتيت -يا رسول الله- جمعت هذه القبيلة التي كانت تنحر هذه، فقد كان الإنسان يسلب أخاه في الحرم المكي، ويتعقبه بالسيف فيقتله، وهذا كله على شاة أو ناقة، فلما أتى صلى الله عليه وسلم حبكهم بنظام عالمي عجيب، لا يمكن أن يخترقه الصوت، عليه أفضل الصلاة والسلام.
فالمقصود أنه صلى الله عليه وسلم كان يتبسم كثيراً، ويضحك نادراً كما سوف يمر معنا.(302/5)
نماذج للبكائين من السلف الصالح
والبكاء من خشية الله ورد عن قوم صالحين كثيرين، وأنا لا أقول: إن الضحك حرام، فإن بعض الناس من جبلتهم الضحك، ولو كان من أتقى الناس، لكن من جبلته وفطرته وتكوينه الشخصي أنه كثير الضحك، فـ ابن سيرين هذا العالم العابد الزاهد التابعي المحدث الشهير، وهو أكبر تلميذ لـ أنس بن مالك، وراوية الصحابة الكبير، ومعبر الرؤيا، قد كان من أعبد الناس، وكان يضحك حتى يتمايل، ولكن إذا أتى الليل يبكي حتى يسمع جيرانه بكاءَه.
يقول أحد التابعين: هل أريكم الضحاك البكاء؟ قالوا: نعم.
قال: تعالوا، فأطلعهم على ابن سيرين في حلقته، قال: هذا ضحاك النهار بكاء الليل.
وقالوا: كان صاحب دعابة إذا جلس في المجلس، وكان يروح على الغادي وعلى الرائح بها، لكن إذا أتى الليل بدأ يبكي من بعد صلاة العشاء حتى صلاة الفجر.
قلت لليل هل بجوفك سرٌ عامر بالحديث والأسرار
قال لم ألقَ في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار
ومنهم: عامر الشعبي، فقد كان من أفكه الناس، وكان مزاحاً، خفيف الظل، لكن كان من أتقى عباد الله لله.
فلا نظن أن الإنسان إذا كان كثير الدعابة وكثير الضحك والتبسم؛ أنه لا يتقي الله، لا.
بل قد تجد أفجر الخلق لا يتبسم ولا يضحك، ولكنه فاجر، فتجده دائماًً قابضاً وجهه، كأنما عقدت عليه لعنة الأولين والآخرين وهو كافر, فليست تقوى الله في عدم الضحك.
ووجد من الصالحين من كان كثير البكاء، فقد روى وكيع في كتاب الزهد بسند جيد، قال: قرأ ابن عمر قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فبكى حتى أغمي عليه.
وقال مجاهد: رأيت أجفان ابن عباس كالشراكين الباليين من كثرة البكاء.
قرأ ابن عباس رضي الله عنهما ليلة كاملة: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123] فبكى حتى أصبح.
وقد كان أكثر الناس بكاءً بعد أبي بكر عمر رضي الله عنهما، والنماذج تطول، ولكننا نذكر نماذج على حسب الطاقة.
قال البخاري: وقالت فاطمة عليها السلام وهنا سلم عليها، ونحن نسلم ونصلي عليها وعلى أبيها؛ الزهراء البتول الطاهرة الصادقة الأمينة سيدة نساء الخلق، فهذه بنت محمد صلى الله عليه وسلم، يقول محمد إقبال شاعر الباكستان، يتكلم عن فاطمة رضي الله عنها وأرضاها:
هي بنت من هي أم من هي زوج من من ذا يباري في الأنام علاها
بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وزوجة علي بن أبي طالب، وأم الحسن والحسين.
أما أبوها فهو أكرم مرسل جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي سيف لا تسل عنه سوى سيفاً غدا بيمينه تياها
أكبر المفاخر لـ فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، ونحن لا نغلو فيها وفي أبنائها غلو الجهلة الذين لا يعلمون, ولا نجفو جفاء الذين لا يعقلون، فكلا الطرفين ضلال، وإنما نعتدل فنحبها في الله، ونكثر من محبتها لمحبة أبيها عليه أفضل الصلاة والسلام.
قال: وقالت فاطمة عليها السلام -لأنها من بيت النبوة- {أسر إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت} وهذا الإسرار كان وقته في ساعة الوداع، يوم ودع النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا، ورحل عن المعمورة، يوم خير بين البقاء والرحيل, فاختار الرحيل، وكانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها تأتيه، فيقول: {بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى} فأتى بأحب الناس إلى قلبه، وأقرب الناس إلى روحه، بـ فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فكلمها صلى الله عليه وسلم ليودعها، فقال: {أنت أول الناس لحوقاً بي -وأخبرها أنه سوف يموت من وقته- فبكت، فقال: ادني مني، فدنت، فقال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين؟} فضحكت، وهذه أعظم بشرى، فنساء العالمين جميعاً سيدتهن فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، وصلى الله على أبيها وسلم.(302/6)
الضحك والبكاء من الأمور الجبلية
وقال ابن عباس: [[إن الله هو أضحك وأبكى]] أيُّ إشراقٍ هذا الفهم لـ ابن عباس! وأي عقلية هذه العقلية الضخمة الكبرى! يستدل على أن الضحك والبكاء من أمر الله الجبلي؛ لأن غلاة الصوفية قالوا: لا تضحك، وإذا ضحكت فاستغفر.
وقد ذكر ابن الجوزي وبعض المحدثين أن أحدهم كان محدثاً، ولكنه كان شرس الخلق، لا يتبسم، ولا يضحك، ولا يداعب، فكان عابساً أبداً، فإذا سمع خشخشة الأوراق طوى دفاتره وذهب إلى بيته، فجلس في مجلس، فأتى طالب من الطلاب يريد أن يعطس، والعطاس من أمر الله عز وجل وقضاء منه وقدر، فأراد أن يعطس، فتذكر الشيخ، والشيخ ينزعج من أي شيء، إذا سمع الإبرة قام، وقال لتلاميذه: والله الذي لا إله إلا هو، إن تحرك متحرك منكم لا أسمعكم حديثاً هذا اليوم.
فأتاه هذا الطالب فما استطاع فكتم أنفاسه، فتجمع العطاس كله دفعة واحدة فعطس، فقال لزملائه أمام شيخه: أنحن جالسون أمام رب العالمين؟ فضحك الشيخ، وهذه ذكرها ابن الجوزي وغيره.
فالمقصود أن بعض الهدي يخالف هديه صلى الله عليه وسلم، ولا يعرض الكلام والبضاعة والسيرة إلا على سيرة محمد صلى الله عليه وسلم.
فإذا سمعت عن الإمام أحمد، أو مالك، أو الشافعي، أو أبي حنيفة -على جلالتهم- أي أمر فاعرضه على محمد صلى الله عليه وسلم، فإن وافقه فبها ونعمت، وإن عارض وخالف تركناه.
قالت فاطمة: [[أسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت]] ولم يذكر البكاء؛ لأنه يريد أن يستدل على التبسم والضحك.
وقال ابن عباس: [[إن الله هو أضحك وأبكى]] أما يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] فمن الذي خلق الضحك والبكاء إلا الله عز وجل، ولذلك يقول أحد العلماء: في كتابنا علم نفس، علم النفس يذكر الضحك وأسبابه ودوافعه وعلاماته وآثاره، والبكاء وأحواله، لكن الله عز وجل اختصر هذا كله بقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] فهو الذي يضحك وهو الذي يبكي، لكن الإنسان يقتصر في هذه الأمور على حسب السنة.(302/7)
ما جاء في ضحك النبي صلى الله عليه وسلم
ثم قال البخاري: حدثنا حبان بن موسى، أخبرنا عبد الله
وهو الإمام العلم أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك، وقصة عجيبة في تاريخ الإسلام، وثوب جديد ما لبس إلى الآن، إذا أردت أن تعرف العالم الحق العابد الزاهد المجاهد الغني المنفق، فهو عبد الله بن المبارك.
قال: أخبرنا معمر معمر بن راشد اليمني، شيخ عبد الرزاق قال: أخبرني الزهري علامة الدنيا وحافظها، أملى أربعمائة حديث على الخليفة سليمان بن عبد الملك، فأراد أن يختبره بعد سنة، فقال: ضاعت مني تلك الدفاتر التي فيها الأحاديث فتعال فأملها علي, فأملاها؛ قالوا: فو الله ما خرم حرفاً واحداً، وهي أربعمائة حديث.
وكان في جيبه زبيب, فقد كان يأكل زبيباً دائماً؛ لأنه يرى أنه يقوي الذاكرة، والباذنجان يفسد الذاكرة فانتبهوا، لكن نخاف أن نغيظ بعض التجار في الباذنجان، وقد حمل الباذنجان بعض التجار إلى أن وضعوا حديثاً في فضل بيع الباذنجان، وفضل أكله، يقول بعض الكتبة في كتب الموضوعات: إذا أفلست البضاعة ونشبت في حلقه وضع حديثاً عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أحدهم كان عنده ديك عرضه في كل سوق، كلما أصبح الصباح وهو بهذا الديك يعرضه للباعة ليشتروه، فما اشتراه أحد، وقد أكل عليه الدهر وشرب، فوضع حديثاً في فضل الديك، قال: إن الله عز وجل يبعث الديك يوم القيامة له ريشة من زبرجد، ونونية من المرجان، يسبح الله عز وجل لصاحبه، وبكل شعرة من شعراته حسنة في الجنة.
فاشترى المساكين الديك, والوضاعون لهم مذاهب وأصناف، لكن ذكرت هذا من باب التزجية أو الاستطراد.
قال: عن عروة وهو عروة بن الزبير، ابن حواري الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسرة آل الزبير أسرة مجيدة ضاربة في أعماق التاريخ، وعروة عالم عابد زاهد مبتلى، رفع الله درجته، وهو من العلماء الذين ينبغي أن ندرسهم في الفصول، وأن نعرضهم في الحلقات، بدلاً من بعض النماذج التي لا تصلح أن تدرس، النماذج التي أتت من بلاد الغرب والشرق، فهؤلاء يعرضون ليكونوا نماذج تربوية للشباب.(302/8)
تبسمه صلى الله عليه وسلم من مجاهرة امرأة عبد الرحمن بشكواها
قال: عن عائشة رضي الله عنها أن رفاعة القرظي طلق امرأته، فبت طلاقها.
والطلاق البت هو: أن يبتها ثلاثاً على السنة؛ لأن طلاق البدعة هو أن يطلق في الحيض، أو أن يطلق ثلاثاً دفعة واحدة، وطلاق السنة أن يطلق في الطهر طلاقاً واحداً، ثم يتركها، وهكذا ثلاث مرات، فبت طلاقها، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن الزبير، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: {يا رسول الله! إني كنت عند رفاعة فطلقني ثلاثة تطليقات فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل هذه الهدبة -لهدبة أخذتها من جلبابها- وهذا كناية عن أمر، أي: أنه لا يستطيع الجماع، وهي تشكو من هذا.
قال: وأبو بكر جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم، وخالد بن سعيد بن العاص جالس بباب الحجرة ليؤذن له، فطفق خالد ينادي أبا بكر: يا أبا بكر! ألا تزجر هذه عما تجهر به عند الرسول صلى الله عليه وسلم؟ -تشكو زوجها الأخير، وتقول: ليس كالأول في الجماع، تريد أن تعود للأول، قال: وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم عليه الصلاة والسلام هذا دليل البخاري على أنه صلى الله عليه وسلم يتبسم من هذا الأمر، ثم قال- لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا.
حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك}.
هذا دليلٌ على أن المطلقة البائنة بالطلاق السني الشرعي لا تحل لزوجها الأول حتى تتزوج زوجاً غيره، زواجاً شرعياً لا حيلة فيه، لا يكون تيساً مستعاراً، وفي سنن أبي داود {أن الرسول عليه الصلاة والسلام لعن المحلل والمحلل له} والمحلل هو: الذي يتزوج المرأة المطلقة ليحللها للزوج الأول وهو التيس المستعار, والمحلِّل له هو الذي يرضى بهذا.
قال ابن القيم: لا يعود علي رضي الله عنه وأرضاه إلى الدنيا بعد أن طلقها ثلاثاً وهو راوي حديث: {لعن الله المحلل والمحلل له} انظر إلى هذا الفقه، علي قبل قليل يقول: [[يا دنيا يا دنيئة طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها]] وهو الذي روى في سنن أبي داود: {لعن الرسول صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له} فيقول ابن القيم: كيف يعود علي رضي الله عنه لحب الدنيا وهي لم تحلل له بعد الطلاق وهو راوي هذا الحديث.
يقول ابن القيم: أهل السنة والجماعة ليس لهم جماعة إلا أنهم أهل السنة، أي: عندهم الكتاب والسنة، ويتجهون إلى الخمس الصلوات، ليس عندهم جماعة داخل جماعة أهل السنة والجماعة، قال: يسئلون: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد وجهه، قال: وما هو مرجعكم؟
يقولون: دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها، قال: وما هو كتابكم؟ قالوا: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] قال: من توالون؟ قالوا: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55].
أنحتاج إلى أسس وإلى مبادئ غير هذه المبادئ التي أنزلها الله عز وجل؟ هذا القول لا أدعيه على ابن القيم، فليراجع كتاب حلية طالب العلم للشيخ الدكتور بكر أبو زيد، وهذا الكلام في الصفحة (61) من كتابه القيم هذا، وقد ورد قريباً انتهى المقصود من هذا الحديث.(302/9)
حديث في مهابة عمر وضحك الرسول صلى الله عليه وسلم
ثم قال البخاري رحمه الله تعالى: عن محمد بن سعد عن أبيه، قال: استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه عاليةً أصواتهن على صوته، فلما طرق عمر عرفنه فتسابقن يرتدين الحجاب وينفرن من مجلسه صلى الله عليه وسلم، خيفة من عمر.
عمر رضي الله عنه خافته الجن، وكثيرٌ من الإنس والنساء، يكفي أن كسرى وقيصر إذا ذكر عمر أغمي على أحدهم حتى يرش بالماء.
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدمٌ له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
هذا عمر رضي الله عنه جعله الله حصناً منيعاً، وكأنه رجل الساعة بعد موت أبي بكر؛ لأن الأمة كادت أن تتقلقل بعد موت أبي بكر، فأتى الله بهذا الحصن المنيع.
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
كان يلاحظ كل شيء في الأمة، فكان سداً منيعاً، يصلي الفريضة، ويقول: [[والله إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة]] فيقول بعض الناس: كيف يجهز الجيش وهو في الفريضة؟ قلنا لهم كما قال ابن حجر: تعارضت فريضتان، والفريضة كانت عليه عينية، فأدخل فريضة في فريضة, حسنات كلها, أما نحن فما الذي نشتغل به؟ أحدنا عنده عمارة يعمرها ويخططها، ويقول: عمر جهز الجيش في الصلاة! عمر يجهز الجيش لحماية الدولة الإسلامية، ودك خصوم الإسلام، وجعل أنوفهم في الأرض، ولرفع لا إله إلا الله، أما أنا وأنت فنفكر في أفكار لا تفكر فيها إلا الحشرات والدود، أين الثرى من الثريا؟!
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه
فـ عمر صنف آخر.
فالمقصود أنه دخل رضي الله عنه وأرضاه على الرسول صلى الله عليه وسلم والنسوة يسألنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته، فسبحان من جعل الرحمة في قلبه! النساء في مجلسه صلى الله عليه وسلم, هذه ترفع صوتها تسأل سؤالاً، وهذه تتحدث، وهذه تتبسم، وهذه تأتي بقصة، والرسول صلى الله عليه وسلم هادئ ساكن الطباع، إنه الكمال، ليس الكمال فعل عمر رضي الله عنه، لا، الكمال فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
لو كان كخلق عمر رضي الله عنه وأرضاه لما وسعت الشريعة النساء والأطفال والأعراب والناس وأهل الكتاب، ولما استفادوا جميعاً، ولكنه وسعهم صلى الله عليه وسلم خلقاً، فخلقه هو الكمال، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرخى أكنافه، وهدأ من روعه، ومن شخصيته، وإلا فإنه مهاب، يقولون: ساكن وديع، همته تمر مر السحاب: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88].
يجلس على التراب، ولكنه يسري بالأرواح إلى فوق سبع سماوات، فسمع صوت عمر رضي الله عنه؛ فلما استأذن عمر تبادرن الحجاب، فدخل والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك.
وقد ضحك الرسول صلى الله عليه وسلم في عدة مناسبات، منها: في أحد، عندما أتت نسيبة الأنصارية إلى كافر، واقترب منها الكافر يريد ضربها، فعاجلته فضربت رأسه فأنزلته إلى الأرض، فضحك صلى الله عليه وسلم من هذا الطويل العريض الشجاع الذي أتى بالسيف فضربته هذه المرأة فقتلته.
والضحك هنا قد يطلق على التبسم، والرسول صلى الله عليه وسلم يضحك حتى تبدو نواجذه صلى الله عليه وسلم، لكنه لا يقهقه؛ لأن فيه الرزانة والجلالة والعمق والأصالة، بل هو المربي العظيم صلى الله عليه وسلم، قال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله! وهذا من أحسن ما يمكن، ويقال هذا الدعاء عند رؤية مسلم يضحك.
لكن أن ترى إنساناً يكاد يتقطع من الضحك، فتقول: أضحك الله سنك! لا.
أتريد أن يموت! ما بقي عليه إلا لحظات ويلقى حتفه, فهذا يقال له: خفف الله عليك مصيبة الضحك، وأيقظك الله من سباتك, فلا تقل ذلك إلا لمن تبسم أو ضحك بهدوء.(302/10)
معنى قول: (فداك أبي وأمي)
وقال: (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي) أي: أفديك بأبي وأمي، وهذا شرف عظيم، وابن تيمية كان إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في الصارم المسلول في الرد على شاتم الرسول، يقول: بأبي هو وأمي، إي والله! ويقول الذهبي: بنفسي ذاك المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان الأنصار يقولون: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، ويقول حسان لـ أبي سفيان بن الحارث:
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
إلى أن يقول:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
ويقول الأعرابي:
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه الحياء وفيه الجود والكرم
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
يقول: بأبي أنت وأمي، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يقولها إلا في القليل النادر لبعض الناس، وتأملوا وتخيلوا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في بعض المواقف لبعض الناس من الصحابة: {ارمِ فداك أبي وأمي} سبحان الله! ويا له من شرف عظيم!
وهذا هو سعد بن أبي وقاص كما في الصحيحين، أخذ يرمي وكان من أرمى الناس، فما كان يرمي إلا وتأتي في رأس كافر، لا يخطئ أبداً، إنه دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يأخذ كنانته، ويأخذ أسهمه، ثم يضعها ويرمي، وسواءً قد قرر المكان أو صمم على الهدف، أو وجه على المرمى أولا؛ فإنها ستقع، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس
فأتى رضي الله عنه وأرضاه يوم أحد وعنده أسهم طويلة في رءوسها مشاقص من الحديد! فكان يضرب بها ويرمي، ويرى الرسول صلى الله عليه وسلم الرءوس تسقط على الأرض، فتبسم صلى الله عليه وسلم، وقال: خذ يا سعد! ويعطيه صلى الله عليه وسلم من كنانته وهو الذي دعا له.
فيعطيه، ويقول: {ارمِ سعد فداك أبي وأمي، ارمِ سعد فداك أبي وأمي} ولذلك يقول علي بن أبي طالب كلمة حق يسأل عنها عند الله: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد أبويه إلا لـ سعد بن أبي وقاص يوم أحد، فإني سمعته يقول: {ارمِ سعد فداك أبي وأمي} والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يعطي هذه التوشيحات والأوسمة إلا لأناس كبار في الإسلام.
أتى رجل من الأنصار وكان من أشجع الناس، تكسَّر سيفه من كثرة الضرب يوم بدر، وتثلم, ولم يبقَ منه إلا المقبض، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله! أريد سيفاً، الرجل هائج مائج، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: انتظر؛ فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم عوداً، ليس عنده سيف، فقال: خذ هذا هزه، فهزه فإذا هو سيف! وهذا ثابت بأسانيد صحيحة، فأخذه فضرب به فما تثلم، بل بقي يضرب جيداً، وبقي مع الرجل حتى يقال في بعض الروايات دفن معه في القبر ليلقى الله به.
حتى إذا سئل ما هي شهادته؟ يقول: هذا السيف، سلخت به أعداءك في سبيل الله، ليست هذه الشهادات الورقية التي إذا لم نعمل بها فو الله إنها خسارٌ وبوار وعار وشنار ودمار، إلا أن يغفر لنا الله بالعلم النافع.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قد يعطي بعض الأوسمة والأمور في بعض المواقف.
أتى أبو دجانة، وهو من الأنصار وكان من أشجع الناس، وكان معه لفافة حمراء يخرجها إذا حضرت المعركة ويربط رأسه، معناها (خطر ممنوع الاقتراب) فكان إذا أخرجها، قال الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، أي: تأخروا، وأفسحوا له الطريق، فأتى يوم أحد؛ فأخرج عصابته فلف رأسه بها، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت؛ أي: غضب، فقال صلى الله عليه وسلم: من يأخذ هذا السيف؟ فقال المهاجرون والأنصار: نحن يا رسول الله! كلٌ يمد يده، قال: من يأخذه بحقه، فسكتت الألسن ونزلت الأصابع، وبقي أبو دجانة رافعاً يده الوحيد، وقال: ما هو حقه يا رسول الله؟ قال: {أن تضرب به حتى ينحني} هذا حقه، لم يقل حقه أن تغمده، أو تدخله عند الصانع، أو تلبسه وتتمشى به وتتبختر، حقه أن تضرب به حتى ينحني، قال: أنا آخذه بحقه.
قال أنس: فذهبت وراء أبي دجانة، فرأيته يفلق به هام المشركين، وفي آخر النهار أتى به وهو منحنٍ من كثرة ما ضرب به رضي الله عنه وأرضاه.(302/11)
سبب خوف النساء من عمر
ونعود إلى قصة عمر، قال: بأبي أنت وأمي، والشاهد أنه صلى الله عليه وسلم فدى بعض أصحابه بهذا، فقال: {عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب} أي: أنه صلى الله عليه وسلم يضحك ويعجب من هؤلاء النساء، وهن ناقصات عقل ودين، أشرف الخلق وأجل البشر صلى الله عليه وسلم جالس، فلما أتى رجلٌ من رعيته وطالب من طلابه فررن، وهذا ليس من وضع الأمور في مواضعها، فقال عمر -انظر الحصيف العاقل لو كان غيره لسكت، وقال في نفسه: هيبة مني لمكانتي، ولشخصيتي الكبرى، ولعظمتي، لكنه تواضع وأرخص نفسه أمام الغالي عليه الصلاة والسلام- فقال: {أنت أحق أن يهبنك يا رسول الله! ثم أقبل عليهن وقال: يا عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم}.
فقالت امرأة منهن عاقلة: إنك أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأفظ وأغلظ -هنا- ليست للمفاضلة، فليس المعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فظاظة وغلظة، لكن عمر أغلظ, لا.
بل هي من باب {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8] ليس هناك حاكم والله أحكم منه، فليست للمفاضلة، إنما وردت هكذا.
فمعناها: إنك فظ غليظ، لأنها لو كانت للمفاضلة لكان هناك قدر ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وينسب إلى عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إيه يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك}.
وإيه: تستخدم على صور:
منها: متى أردت أن يسترسل المخاطب في الحديث الذي يتكلم فيه، فتقول: إيه, أي: زد زد
وإيهٍ: إعجاب بهذا الشخص، يقول: أنت البطل الذي لا مثله أحد.
ففي صحيح مسلم عن عمرو بن الشريد قال: كنت ردف الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال لي: {أتحفظ شيئاً من شعر أمية بن الصلت، قلت: نعم، قال: أنشدني، قال: فأنشدته بيتاً، فقال: إيه، فأنشدته بيتاً، فقال: إيه، فأنشدته ثالثاً، فقال: إيه، فأخذ يقول: إيه، حتى أنشدته مائة قافية، ثم قال صلى الله عليه وسلم: آمن لسانه وكفر قلبه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فيقول لـ عمر: إيه، أي: ما أعجبك وما أحسنك! وهكذا كن يا ابن الخطاب! استمر على هذا المنوال, من القوة والعظمة.
انظر إلى المربي العظيم، لم يحسده عليه الصلاة والسلام لأن له هيبة، إنما أراد أن يوجهه؛ لأنه في ميزان حسناته، وهو من مدرسته، ومن خريجي صرحه العظيم عليه الصلاة والسلام {والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك} وورد في الآثار بأسانيد تقبل التحسين: أن عمر رضي الله عنه وجد عفريتاً من الجن واقفاً؛ فقال عمر: من أنت؟ قال: أنا عفريتٌ من الجن، قال عمر: تصارعني، قال: نعم.
فصرع عمر رضي الله عنه العفريت في الأرض، وألصقه بها، فقام الجني مرة ثانية فصرعه، فقام ثالثة فصرعه وبرك على صدره، فقال العفريت: لقد علمت الجن أني من أقواهم، فكيف بالضعاف! ففر، وفي الأخير أخبرهم خبراً، وأعلن لهم إعلاناً طارئاً ممنوع الاقتراب من عمر رضي الله عنه وأرضاه.
قال بعض أهل العلم من الشراح: إنما ذلك لقوة إخلاصه ولصدقه مع الله عز وجل، ولتجلي قلبه لما يرد عليه من الوضوح جعل الله فيه قوة، فهو من أعظم الناس إيماناً، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {عرض الناس علي في المنام وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها مادون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره.
قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين} فدينه بلغ الغاية، وكان محدَّثاً، أي: ملهماً من الله عز وجل، يتكلم بشيء فيقع كما قال, وترجمته في غير هذا المكان.(302/12)
ضحك النبي من أصحابه بعد حصار الطائف
وعن عبد الله بن عمر، قال: {لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ الطائف قال: إنا قافلون غداً إن شاء الله} فقال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نبرح حتى نفتحها، أي: لا نسير من هنا حتى نفتح حصون الطائف؛ لأنه حاصر الطائف صلى الله عليه وسلم وطال الحصار، وفي الأخير اضطر بعض جيشه صلى الله عليه وسلم وكتائبه أن تقتحم بعض الأسوار، ولكن لم ينفع، ولم ينزل العدو من الحصون، فقال عليه الصلاة والسلام: {نرتحل غداً إن شاء الله} فقالوا: لا نبرح حتى نفتح حصون الطائف، فقال صلى الله عليه وسلم: {فاغدوا على القتال} أي: قاتلوا غداً، قال: فغدوا فقاتلوا قتالاً شديداً، وكثر فيهم الجراحات، وأصابهم جراح ورمي بالأسهم، وبالنبال، وبالحجارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنا قافلون غداً إن شاء الله} بعد الجراح والرمي؛ فسكتوا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: ذاقوا الأمرين من اليوم الأول، فأصبح أدنى شيء يمكن أن يسيرهم إلى المدينة المنورة.
قال الحميدي: حدثنا سفيان بالخبر كله، والحميدي هو: عبد الله بن الزبير شيخ البخاري، ليس الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين، وسفيان هنا هو: سفيان بن عيينة، حدثهم بالخبر كله، إنما الشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضحك من الصحابة، وهذا يسمى ضحك ملاطفة، حيث لاطفهم صلى الله عليه وسلم في ذلك.(302/13)
رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وحلمه العظيم(302/14)
حديث الذي وقع على امرأته في نهار رمضان
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هلكت! وقعت على امرأتي في رمضان، قال: أعتق رقبة، قال: لا أستطيع، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع، قال: أطعم ستين مسكيناً، قال: لا أجد، فأتي بعرق فيه تمر -قال إبراهيم: العرق: المكتل، والمكتل مثل الزنبيل- فقال: أين السائل؟ قال: نعم.
يا رسول الله! قال: اذهب فتصدق بهذا، قال: على أفقر منا؟ والله ما بين لابتيها بيتٌ أفقر منا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، قال: فأنتم إذن}.
ملخص القصة: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان جالساً مع أصحابه في منتدى عام، فأتى رجل بوجهه وفيه الأسف واللوعة والحرقة من أمر تم عليه، وهو أنه واقع امرأته في شهر رمضان، وهو يعلم أنه ذنب، لكنه لا يدري بالكفارة، فأتى وقال: يا رسول الله! هلكت، وهذا بيان عام لا بد له من تفسير؛ لأن من تكلم بمجمل من العلم أو بشيء عام فلا بد أن يفسر ويفصل، والسائل إذا سأل سؤالاً عاماً فعلى العالم أن يسأله عن حيثيات السؤال، وعن جزئياته وقرائنه، وعن سياقاته وظروفه التي اكتنفت به، ليجيب على بصيرة.
أما أن يقول: هلكت، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا، ما هلكت غفر الله لك، فالقصة لم تعرض حتى الآن، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: وما أهلكك؟ في بعض الروايات قال: وقعت على أهلي في رمضان، أي: في نهار رمضان ليس في الليل؛ لأن هذا معروفٌ عندهم، ولو أنه كان ممنوعاً في أول الإسلام لكنه نسخ.
قوله: والله ما بين لابتيها اللابة هي: الحرة من حرتي المدينة، والمدينة بين لابتين، تكتنف تلك المدينة الطيبة الطاهرة التي يرقد في ثراها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي والله تحب لمحبة من جلس في تلك البقاع، ومن رقد في ذاك الثرى.
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
ولذلك نحن نحب جبل أحد، ونشهد الله أننا نحبه، وجبل أحد ليس فيه تفاح ولا موز ولا برتقال، وليس فيه نهر زلال، وليس فيه خلايا عسل، وإنما هو جبل أجرد أمرد أسود، لكننا نحبه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الصحيح: {أحد جبل يحبنا ونحبه} فنحن لذلك نحبه.
وسيد قطب له في الظلال لمعان، لما مر بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {أحد جبلٌ يحبنا ونحبه وهو من جبال الجنة} قال: انظر إلى الأنس بين المؤمن والكائنات لما اتجهت إلى الله عز وجل، وبعض البقاع يُغضب عليها لبغض أصحابها، ومن سكن فيها، ومن جاورها، والسعادة تحل في البلد الذي يحل فيه الصالحون والأخيار، يقول أحمد شوقي:
وإذا الكريم أتى مزوراً بلدة سال النضار بها وقام الماء
النضار: الزهر، وقام الماء: أي: أصبح له كيان في أمور أخرى.
قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فقال: {فأنتم إذن} فذهب الرجل لا كفارة عليه، ولا عتق، ولا صيام، ولا إطعام ستين مسكيناً، وعاد يحمل تمراً إلى أهله، وهذا من يسر التشريع، ومن يسر هدايته صلى الله عليه وسلم، ومن شريعته الكاملة الجميلة العميقة عليه أفضل الصلاة والسلام.(302/15)
حديث في بيان حلم النبي صلى الله عليه وسلم وصبره
ثم ينتقل بنا البخاري في روضة أخرى، يقول أبو الحسن الندوي وهو يتكلم عن البخاري:
يزيدك وجهه حسناً إذا ما زدته نظرا
كلما نظرت في صحيح البخاري نقلك من روضة إلى روضة، فكأنه يعطيك العلم مجاناً وهو الواقع، قال: عن أنس بن مالك قال: {كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بردٌ نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه -يستخدم جذب وجبذ كذا في العربية- بردائه جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت فيها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء}.
وبيان الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمشي في سكة من سكك المدينة وعليه بردٌ، والبرد أشبه شيء بالفرو الغليظ، بردٌ نجراني غليظ الحاشية، أي: حاشيته ليست خفيفة لطيفة، فأتى أعرابي، وانظر ماذا يفعل بالرسول صلى الله عليه وسلم! فاقترب من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء من البادية، لا عنده أدبٌ، ولا علمٌ، ولا فهمٌ، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه، ثم جبذه جبذة شديدة، يجبذ معلم الخلق صلى الله عليه وسلم، ثم ليته سكت، أو قال: عفواً أو سامحني، بل قال: أعطني من مال الله الذي عندك، وفي بعض الروايات: لا من مال أبيك ولا من مال أمك.
ما هو الداعي لهذا الكلام؟ ولماذا هذا التصرف؟ إنه من قلة معرفة قدره صلى الله عليه وسلم، وإلا لو أتى وسلم وتبسم، وقال: يا رسول الله! أعطني من مال الله، أعطني أعطاك الله؛ لكان خيراً له، لكن ضربٌ ومعاندة وكلام غليظ، ولو كان غير الرسول صلى الله عليه وسلم، لقال: خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، لا نراه ولا يرى الشمس أبداً، ولا رئيت إلا بطون أقدامه في الجو.
فلما جبذه، التفت إليه فضحك صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما التفت إليه وهو ساكت، التفت إليه وهو يضحك أي مرب هذا المربي؟! وأي مرسل هذا المرسل؟! وأي معلم هذا المعلم عليه أفضل الصلاة والسلام؟ إن الذي لا يتعلم من سيرته سوف يبقى حقيراً صغيراً في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولن يكون عنده من الفهم ولا من المعرفة {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة:19] الأعمى هو الذي لم يتجه إلى سيرته ولا إلى سنته، والأصم هو الذي ما سمع هديه ولا أحاديثه ولا عمل بها؛ فليفهم هذا.
قال: فأمر له صلى الله عليه وسلم بعطاء، ولو أنه أدبه، أو أنكر عليه، أو شدد عليه لذهب داعي السوء إلى قومه، وقال: احذروا لا تسلموا، أنا ذهبت إلى هذا الرسول ففعل بي كذا وكذا، ولكن عاد إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام، فأسلموا جميعاً.(302/16)
تبسمه لجرير بن عبد الله رضي الله عنه
وعن جرير قال: [[ما رآني النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسم]] وهو جرير بن عبد الله البجلي، سيد بجيله، قبيلة من قبائل الجنوب، وهو يوسف هذه الأمة، إذ كان من أجمل الناس، حتى كان عمر يخاف عليه العين، يقول: أنت يوسف هذه الأمة، كان ربما غطى وجهه أحياناً خوفاً من العين أو الافتتان، أسلم وهو شاب، ودعا له صلى الله عليه وسلم بالتثبيت، وشارك في حروب القادسية وأخذ سيفه، وقال: يا بجيلة! قاتلوا هذا اليوم، فوالله الذي لا إله إلا هو لا يفر أحدٌ منكم من المعركة إلا قتلته بهذا السيف، فاختاروا أن تموتوا شهداء في المعركة، أو أن تفروا وأقتلكم وقد ارتددتم على أدباركم.
فكان الواحد منهم يأتي ويقاتل، ويرى الفيلة مقبلة، وكانت فيلة فارس أحدثت دوياً عجيباً وصراخاً هائلاً في جيش المسلمين، حتى قتلت من قبيلة أسد في لحظات خمسمائة رجل.
فيل عظيم أخذ يتعبط في المسلمين، والعرب لا تعرف الفيلة، ولا تربت معها، لا تعرف إلا الخيل والحمير، ليست من سلاحها ولا من منتوجاتها، فكانت أشجع القبائل بجيلة؛ لأن جريراً واقف لهم بالمرصاد، ما يفر بجلي إلا ضربه بالسيف، فيقول شاعرهم، يريد أن يفر، فرأى جريراً واقفاً بالسيف فرجع يقاتل ويقول:
لولا جرير هلكت بجيله نعم الفتى وبئست القبيله
قال المؤرخون: بل نعم الفتى ونعمت القبيلة، جزاهم الله عن الإسلام خير الجزاء، وبعد ثلاثة أيام دخلوا في إيوان كسرى، إيوان العمالة والضلالة، الذي عشعش فيه البغي والظلم، فدكدكوه، وأنزلوه، وسحبوه، وأقاموا لا إله إلا الله هناك، فهؤلاء هم القوم.(302/17)
الأسئلة(302/18)
بيان عورة المرأة
السؤال
ورد في جريدة المسلمون في العدد رقم (192) بتاريخ الجمعة فتوى لأحد الناس، ثم ذكر هذه الفتيا، والسؤال يقول: هل يجوز للمرأة المسلمة أن تؤدي الصلاة وهي حاسرة الرأس، أو عارية الذراعين، أو بنصف كُم؟
فكان جوابه كالتالي:
العورة التي تبطل الصلاة بكشفها هي العورة المغلظة، وهي من جسم المرأة ما بين سرتها وركبتها، فأي جزء من هذه المساحة انكشف أثناء الصلاة فإنها تبطل به الصلاة، وليس من عورة المرأة المغلظة صدرها، ولا أطرافها، ولا وجهها، ولا رأسها، ولكن يجب ستر هذه الأشياء وجوباً غير شرط عدا الرأس، فإذا انكشف من المرأة صدرها أو كتفها حرم عليها ذلك، ولكن لا تبطل به الصلاة وتعيدها ما دام الوقت حاضراً، والأمر كذلك في الذراعين لا في اليدين، أما كشف الرأس فلا تعاد له الصلاة، وليس الرأس عورة مغلظة ولا مخففة، وقد تكشف المرأة رأسها أمام أخيها أو أبيها أو محرمها أياً كان، ولكنها لا تكشف شيئاً من صدرها أو كتفها.
الجواب
أولاً: هذه فتيا لم تسند بالدليل، وفتيا لم تسند بالدليل إنما هي كلام وهراء وهذيان، فلا أسندت بدليل من كتاب الله عز وجل ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: هذا الرجل الذي أجاب اسمه موجود هنا، وهو ليس من أهل هذه البلاد، لكن من بلاد أخرى، وهو أحد رجلين: إما واهمٌ مفتر على الله عز وجل، وإما جاهل، فإن كان جاهلاً فلا تحق له الفتيا؛ لأنه ما استقرأ النصوص ولا عرف الأدلة، وإن كان مفترياً على الله فهو فاجر فيما افتراه، وحسيبه الله عز وجل، ولم يأتِ بحديث ولا بآية.
وأما قوله: إن عورة المرأة المغلظة ما بين سرتها وركبتها فليس له دليل، بل قد خالف النصوص التي بينت عورة المرأة، والتي أخبرت بحجاب المرأة، حتى إن حديث أسماء الذي فيه إذا بلغت المرأة المحيض فلا يحق لها أن تكشف إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه عليه الصلاة والسلام؛ ليس بصحيح، بل هو ضعيف، حتى هذا وهو ضعيف يتجرأ على هذا الحديث، وليته استدل به وقال: الوجه والكفين، لكنه تعدى وظلم وأساء في الفتيا، فأخطأ خطأً بيناً.
ثم قال: فأي شيء من هذا انكشف أثناء الصلاة تبطل به الصلاة -يقصد من الركبة إلى السرة- وقد أخطأ، بل المرأة كلها عورة إلا وجهها وكفاها في الصلاة، فقد ورد بذلك أحاديث عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: ليس من عورة المرأة المغلظة صدرها ولا أطرافها ولا وجهها ولا رأسها، فماذا بقي؟ اتق الله في هذه الفتيا، فإن معناها أن الأمر سهل، وأنه لا بأس على المرأة أن تكشف صدرها ورأسها وعضدها، وتصبح امرأة كأنها أتت من باريس أو من واشنطن، وليست هي من بلاد محمد صلى الله عليه وسلم، وأنا لا أطيل الإجابة أو الرد على هذا، وإنما حسبك من السر بيانه، وما يتجرأ على الفتيا إلا ظالم لنفسه، فنسأل الله أن يتغمدنا وإياكم برحمته.
والذي أحب أن أنبه عليه: أن على المسلم ألا يأخذ الفتيا إلا من رجل يثق بدينه وعلمه، من عباد الله عز وجل أهل المعتقد السليم، وأهل الدليل، وأهل البصيرة في الكتاب والسنة، أما هؤلاء غير المسئولين فإنهم إذا حوسبوا ما وجدوا شيئاً، فتوى كاملة بلا دليل!
فالمرأة كلها عورة إلا وجهها وكفاها في الصلاة، فليعلم هذا، حتى إن المرأة عليها أن تغطي أقدامها وأن ينزل ثوبها كما في حديث أم سلمة، حتى يكون شبراً تجر ثوبها جراً، وأما هذه فهي فتوى باطلة(302/19)
تعريف النواجذ
السؤال
ما هي النواجذ؟
الجواب
النواجذ هي الأضراس المتأخرة وليست الأنياب، فقد ضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت أضراسه -صلى الله عليه وسلم.(302/20)
حكم الصلاة بين السواري
السؤال
ما حكم الصلاة بين أعمدة المسجد التي تقطع الصفوف؟
الجواب
أعلم أنها مكروهة، ولا أعلم أنها محرمة، ولا أن الصلاة تبطل بقطع هذه الأعمدة، ولو كان هناك ضرورة كأن ازدحم المصلون فلهم أن يصلوا بين الأعمدة، وأما هذه فثبت من حديث أنس، قال [[كان الناس يتحاشون في عهده صلى الله عليه وسلم الصلاة بين السواري]] ولا أعلم حديثاً مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم، فالصلاة للضرورة والازدحام لا بأس بها، وبدونها فالأولى ألاَّ يصلى بينها.(302/21)
حكم الصلاة إلى غير سترة
السؤال
ما حكم صلاة الفرد والإمام والمأموم بدون سترة، والمار يمر أمام المصلي في الصلاة؟
الجواب
هناك تفصيل: فالفرد والإمام لهما حكم، والمأموم له حكم؛ فالمأموم سترته إمامه، فإذا كان هناك إمام فسترته هذا الإمام، فإذا مر أحدٌ بين الصفوف فإنه لا يقطع الصفوف؛ لحديث ابن عباس في الصحيح: {تركت الأتان ترتع ودخلت في بعض الصف فلم ينكر علي أحد} لأنه قطع بعض الصفوف؛ وسترتهم هو الرسول صلى الله عليه وسلم الإمام.
وأما الفرد والإمام فلا بد من سترة, وبعضهم أوجبها، والظاهر والله أعلم عدم الوجوب، وأنها سنة مؤكدة، إذ لو كانت واجبة لبطلت كل صلاة مصلٍ لا يستتر بسترة، فالمقصود أن عليه أن يتقي الله، وهي سنة مؤكدة، وفيها أحاديث صحيحة صريحة، وأحاديث السترة ثمانية عشر حديثاً، منها صحيحٌ، وحسن، وضعيف، وباطل؛ فليعلم هذا، وهذا ليس مقام بسطها.(302/22)
نقض العهد
السؤال
لقد عاهدت شخصاً على أمر معين، وعاهدته أيضاً على ألاَّ أكفر عن يميني، ثم نقضت هذا العهد فماذا أفعل؟
الجواب
العهد إن كان يميناً فتكفر عنه إذا نقضته، وإن كان عاهدك بالله فلا أعرف هل في هذا اللفظ كفارة أم لا.
أما إذا قلت: والله، أو تالله، أو بالله، أو قسماً بالله أو بأسمائه وصفاته، ثم نقضته؛ فعليك كفارة، هذا ملخص هذا؛ لأنه ورد في حديث عقبة: {كفارة النذر كفارة يمين} وفي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة:89] فليعلم هذا.(302/23)
السنة في العقيقة
السؤال
ما هي السنة في العقيقة؟
الجواب
العقيقة هي ذبيحة المولود، وإذا ولد مولود فمن السنة أن يعف عنه، كما في المسند وسنن أبي داود وسنن الترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بها، وعند أبي داود عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً، وعند أبي داود بسند جيد، قال صلى الله عليه وسلم: {كل غلام مرتهن بعقيقته، عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاةٌ واحدة}.
أما وقت العقيقة فقد ورد في ذلك أنه يوم سابعه, وورد في الرابع عشر أو الواحد والعشرين، كما أتى به صاحب السلسبيل على زاد المستنقع، وأتى بحديث مخرج عند البيهقي في السنن الكبرى.
فالسنة إيقاعها في هذه الأيام، لكن لو أوقعتها في أيام أخرى لكان في الأمر سعة، وكانت عقيقة، ولكنك خالفت السنة في هذا.(302/24)
الحكمة من قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم على أبي
السؤال
ما الحكمة من قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم سورة البينة على أبي بن كعب؟ وما الغاية منها؟
الجواب
الذي أعلمه -والله أعلم- أن من الحكم التي قد تظهر: أن أبي بن كعب سيد القراء، وأنه معتمد في القراءة، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليه القراءة، ليكون معتمداً ومعروفاً ومشهوراً بالقراءة، ولذلك سمي بعدها سيد القراء.
الأمر الثاني: أن أبي بن كعب صاحب علم وعنده فهم واعتناء بالقرآن، فالرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يعرض عليه هذا الأمر؛ لأنه من تخصصه ومن سيرته.
الأمر الثالث: قد تكون كرامة أكرم الله بها أبياً واختصه من بين الناس، فإن لله عز وجل فضلاً يختص به من يشاء: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105].
وفي الختام: أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، والرشد والنصر، والإلهام والتسديد، والعون والتأييد، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(302/25)
أغلاط في التاريخ
كانت إشراقة شمس الإسلام على الدنيا المظلمة صفارة إنذار تداعت بسببها الخفافيش إلى مخابئها، تترقب الفرص لتفسد دين الإسلام، علها تعيد الظلام لتتنفس الصعداء، وذلك عن طريق أشخاص كتبوا في التاريخ الإسلامي فشوهوه، وفسروا أحداثه بأهوائهم، فيجب الحذر منهم، كما أن مؤرخي الإسلام قد وقعوا في أخطاء ينبغي التنبه لها، وفي هذا الدرس تجد ما يشفي الغليل تجاه ما ذكر لك.(303/1)
أهمية التاريخ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته.
عنوان هذه المحاضرة "أغلاط في التاريخ"
يقول شوقي:
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر
التاريخ فن مشوق، وقد عرض الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في كتابه قصص السابقين، وتحدث لرسوله وللمؤمنين عن تاريخ الأقوام السالفة، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] وقال جل ذكره: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111].
وقصَّ رسول الهدى صلى الله عليه وسلم التاريخ، وتكلم عن الأقوام الهالكة وعن المؤمنين وعن الكافرين، والتاريخ الإسلامي بديع له جوانب مضيئة.
وأعرض هذه الليلة مسائل لعل الله أن ينفع بها، منها:
ما هو المنهج السليم الذي يجب أن يكون عليه تاريخنا الإسلامي؟!
وبالمقابل: ما هو المنهج الخاطئ والمغلوط الذي انتهجه كثير من المؤرخين؟!
وأنا مدين لكثير من الفضلاء في هذه المحاضرة منهم: الدكتور محمد صامل السلمي في كتابه العجيب " منهج كتابة التاريخ الإسلامي، والدكتور إبراهيم شعّوط " أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ "، وكتاب" الاستشراق والمستشرقون " للدكتور مصطفى السباعي، و" الخلافة والملك " لـ أبي الأعلى المودودي رحمه الله، و" مقدمة ابن خلدون ".
وأتحفني كثير من الفضلاء بكثير من الملاحظات والمشاورات كفضيلة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، والدكتور صالح بن عون الغامدي، وكثير من دكاترة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية المتخصصون في هذا الباب، وفضيلة الأستاذ صالح أبو عراد الشهري.
شكر الله للجميع، ونسأل الله أن يتقبل منا ومنهم صالح الأعمال.(303/2)
أخطاء وقع فيها المؤرخون يجب الحذر منها
ومن الأخطاء التي وقع فيها كثير من المؤرخين:(303/3)
عدم مراعاة سنن الله الكونية والشرعية
وكثير من المؤرخين لا يراعي ذلك ولا يفهمه.(303/4)
المداجاة والمحاباة والمجاملة
فإن كثيراً من الناس كتب تاريخاً يمكن أن يسمى جبر الخواطر، فأشادوا بمن لا يستحق الإشادة، وأغفلوا أخطاء المخطئين، وداجوا في التاريخ كثيراً كمن يكتب عن الدول، أو يراعي خواطر الملوك، أو يتحدث عن الأحياء؛ فتجده ينسى السيئات ويكتب الحسنات، بينما يكيل بمكيال آخر للأموات المنقرضين والله يقول: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:1 - 5].(303/5)
إطراح السند
ومما وقع فيه كثير من المؤرخين اطراح السند، لا يأتون بسند صحيح في الغالب ولكن أسانيد متقطعة، أو بلاغات، بلغنا أنه حدث كذا وكذا حتى تجد أن المعركة التي أقيمت وأزيلت من أجلها دول وأقيمت كيانات كلها بلاغات.
وبلغنا أن القتلى خمسون ألفاً، وأن الجرحى مائة ألف، وأن الغنائم مئات الألوف، وهل تكفي هذه البلاغات؟! والأسانيد التي فيها كَذَبَة كـ أبي مخنف؟ وهو أكثر من اعتمد عليه ابن جرير الطبري، وكـ الكلبي الكذاب وقد اعتمد عليه بعض مؤرخي الإسلام.(303/6)
المبالغة الباهتة
فتجد أحدهم يبالغ مبالغة في التاريخ كصاحب " بدائع الزهور في وقائع الدهور " فيأتي لك بأرض ليست في الأرض وبسماء ليست في السماء، ويقول: تحت البحر سبع أراضٍ في كل أرض سبع نخلات من ذهب، ويأتي بمعارك في مثل قبرص، فيتكلم على أن سكان قبرص ابن خلدون لأنه لا يمكن أن يكون عدد السكان كهذا، ثم يستخلص منه جيش ثم يكون القتلى هذا العدد؛ لأن قصارى كل أمة أن تخرج منها (20%) من المقاتلة، وهذا أمر معلوم حتى إن سياسة الدول العسكرية العالمية تخرج من أفراد شعبها ومن تعداد السكان (20%) حتى إن الدنمارك شعب صغير (20%) منه جيش.
فمستحيل أن يكون الشعب ثلاثة ملايين ويكون الجيش مليونين والقتلى مليوناً.
فتجدهم يبالغون مبالغات مضحكة، وعجائب ينفيها العقل ولا يؤيدها النقل.(303/7)
عدم الاهتمام بالحياة العامة والتركيز على الناحية السياسية فقط
ومن أخطاء المؤرخين تجريد التاريخ للحكام والسلاطين فحسب، حتى للمؤرخين المسلمين من أمثال الذهبي ومن أمثال: ابن كثير، ومن أمثال: ابن جرير، تجد أنه لا يتحدث إلا عن البلاط والديوان والسلطان.
فلا يذكر الحياة العلمية ولا الأدبية ولا الاجتماعية ولا الفكرية ولا العسكرية ولا الاقتصادية، فقط تولى فلان، وقتل فلان، وسجن فلان، وذبح فلان، حتى تجد مثلاً: تاريخ الخلفاء للسيوطي كله سلسلة للخلفاء، وليس فيه ذكر العلماء، أو تجدهم إذا ترجموا للعلماء ترجموا لهم بأسطر، فلا يتعرضون لحياة الأمة إلا لحياة السلاطين والخلفاء، وقد لحظ هذا الملحظ فضيلة الأستاذ علي الطنطاوي -غفر الله لنا وله، ورحمه- فقد بلغنا أنه لحق بالله رب العالمين.(303/8)
عدم تمحيص الروايات
فتجدهم يأتون بروايات تناقضوا فيها، فبعضهم يكتبها في نفس الصفحة، أو يكتب قليلاً فإذا أراد أن ينتهي نقض ما بنى عليه، وهذا لا يكون ولا يصلح.
فبعضهم يؤرخ -وهذا يمر به حتى ابن كثير - يؤرخ وفاة رجل، ثم تجده يبعث بعد سنتين، وكأنه حضر الغزوة التي وقعت بعده بسنوات.
وبعضها أوهام، وبعضها أغلاط، وما عليك أن يهم الذكي مرة، وأن يكبو الجواد مرة؛ لكن أن يكون التاريخ أوهاماً، في أوهام فهذا هو الخطأ وإلا فالأوهام ما سلم منها إلا كتاب الله عز وجل قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
وهناك مذكرة تجمع -إن شاء الله- عنوانها " أوهام الأعلام " منها: أوهام في البخاري على سبيل المثال:
يذكر في قصة الإفك أن الرسول عليه الصلاة والسلام وقف في المسجد فقال: {من يعذرني من رجل آذاني في أهلي.
فقام سعد بن معاذ -سيد الأوس- وقال: يا رسول الله! إن كان منا قتلناه، وإن كان من إخواننا الخزرج، أريناك ماذا نصنع} والصحيح عند المؤرخين أن سعداً رضي الله عنه مات شهيداً قبل هذه الحادثة بسنة، فقالوا: وهم، وإلا والقائل هو أسيد بن حضير، وغيرها كثير.(303/9)
اتباع الهوى والميل للمذاهب والطوائف
ومن أخطاء المؤرخين اتباع الهوى والميل للمذاهب؛ فتجد المؤرخ المعتزلي يشيد بـ المعتزلة ويجعلهم هم المصيبين وكأنهم أهل السنة وأهل الوسطية، وينحي باللائمة على غيرهم، وتجد الشيعي كذلك بمجد الشيعة كـ ابن عبد ربه مثلاً في " العقد الفريد " دائماً يبكت الخلفاء الأمويين والعباسيين ويشيد بأهل البيت على حساب غيرهم.
مثلاً: صاحب " مروج الذهب المسعودي، تجده كذلك يذكر قصصاً وأعاجيب وينحي باللائمة على كثير من علماء الإسلام ومن أهل السنة.
وهذا وقع فيه المفسرون والمحدثون والمؤرخون إلا من سلم الله، فالهوى والميل للمذاهب والطوائف أمر معلوم حتى تجد المؤلف إذا كان شافعياً كـ ابن السبكي في " طبقات الشافعية " تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي يأتي بالرجل الشافعي فإذا كان أشعرياً مدحه وأثنى عليه ومجده ورفع منزلته حتى يقول عن أبي المعالي الجويني وهو أشعري يقول:
المزني قطرة من مزنه والأشعري شعرة في صدره
ومن هذا الضرب.
فإذا أتى إلى علماء السنة وعلماء السلف نقص حقهم حتى يقول عن ابن تيمية: أما ابن تيمية والبرزالي والمزي والذهبي وهؤلاء فقد أنزلهم ابن تيمية في دركة من النار.
فعلى هذا المنحى أصابهم الميل، وتجد الحنفي يأتي بتراجم الأحناف، رأيت حنفياً كتب تاريخاً للأحناف بدأ بـ أبي حنيفة فقال: يقول عليه الصلاة والسلام: {سراج أمتي أبو حنيفة} وهذا حديث موضوع لم يقله عليه الصلاة والسلام.
ثم يقول في حديث آخر: وقال عليه الصلاة والسلام: {إني أفخر بقوم وبأمة فيهم أبو حنيفة} والله ما قاله عليه الصلاة والسلام، وإن هذا من كيس هذا الحنفي الكاتب.
يقول بعض المؤرخين من أهل السنة: نقل أن أبا حنيفة رئي في المنام على كرسي أحمر من زبرجد في الجنة، وهذا قد يكون.
فغضب المالكية وأتى مالكي وقال: رأيت مالكاًً فوق أبي حنيفة في كرسي في الجنة.
فأتى الشافعي فقال: فرأيت الشافعي في أعلى عليين ينظر لـ مالك ولـ أبي حنيفة بربض من الجنة.
وهذا من العصبية المقيتة والهوى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26].
حتى تجد الإنسان إذا أراد أن يتكلم عن أهل منطقته أخرجهم كلهم كأنهم صلاح الدين وخالد بن الوليد.
ورأيت تواريخ حتى في المناطق والأقاليم في أناس عاديين، إما نائب قبيلة، أو عريف في قرية، أو رجل عادي يتكلم عنه، وكأنه يتكلم عن الذهبي أو يتكلم عن ابن خلدون أو شيخ الإسلام ابن تيمية.(303/10)
إغفال مداولة الأيام بين الناس
فمداولة الأيام بين الناس يغفلها كثير من المؤرخين.
والله يقول: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
وقال عدي بن زيد:
أيها الشامت المعير بالدهـ رأأنت المبرأ الموفورُ
أين كسرى كسرى الملوك أنو شروان أم أين قبله سابورُ
وبنو الأصفر الكرام ملوك الأرض لم يبق منهم مذكورُ
يقول: تعيرنا لأننا هزمنا وسحقنا، فقد كان يحمل دولة، وكان عنده سلطة فأبيد، فقال: هذا هو الدهر.
وقال رجل أصيب -وقد عزاه رجل شامت- فرد عليه، قال: في كل واد بنو سعد.
ومرض معاوية وكان حريصاً على الملك فدخل عليه ابن عباس في مرض الموت، فأراد أن يظهر التجلد وأن يظهر القوة وقام.
قال ابن عباس: اجلس!
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
فقال معاوية البيت الذي بعده:
وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع
وليس في الدهر شماتة، ولكن {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
فيوم علينا ويوم لنا ويوم نُساءُ ويوم نُسر
واعلم كما قال أحد الوعاظ للخليفة العباسي المهدي: اعلم أن رباً أخذ أباك وأجلسك في هذا المكان، سوف يأخذك ويجلس ابنك مكانك، قال: ولو لم يفن الله الملوك الذين من قبلك ما جلست أنت في هذا المكان.
وقالوا:
وسلاطينهم سل الطين عنهم والرءوس العظام صارت عظاما
فالأيام لا تبقى على حال:
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان
والمغرور من ثكلته أمه، واغتر بحاله، وركب رأسه، وظلم واعتدى وبغى، ونسي أن الذي أزال الآخرين سوف يزيله عما قريب.(303/11)
قواعد غفل المؤرخون عنها ينبغي الانتباه لها والعمل بها
وهذه قواعد ينبغي العمل بها لمن يكتب التاريخ وهذه القواعد نغفل عنها معظم المؤرخين؛ ولذلك نقول في هذا الأمور:(303/12)
زوال الأمم بالترف والفساد
إذا أراد الله أن تضعف الأمة وتهلك أترفها؛ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] وفي قراءة: (آمرنا مترفيها) وفي قراءة: (أمَّرنا مترفيها) والمعاني موصلة، والمعنى في الجملة: إذا أراد الله أن يهلك قرية حكم أهلها المترفين الذين لا يرعون لله وقاراً ولا يخافون منه؛ فكان هلاك الأمم على أيديهم.
في الأندلس كان أحد الحكام ضائعاً بمعنى الكلمة، تولى ونصحته أمه، ولا أذكر اسمه، فكانت تقول: اتق الله، كان في النهار يناقر بين الديكة كمن يشجع الآن الدوري والمنتخب فزال ملكه وسقط.
فتقول له:
ابك مثل النساء مجداً تولى لم تحافظ عليه مثل الرجال
فهذا أمر معلوم.
وقال أهل العلم: إنما تغيرت الدول بتغير أحوالها وبتغير معتقداتها.
لماذا سقطت دولة بني أمية؟!
علي يد الترف والضياع، كذلك بنو العباس، وكذلك السلاجقة، والأكراد، والأتراك، وهذه سنة الله عز وجل، فالترف يضيع الشعوب والأمم ويضيع الجيل، وهو ضربة قاصمة إذا أراد الله أن يهلك بها أمة أصابهم بالترف؛ فلا يحفظون وقتاً، ولا يقدرون نعمة، ولا يشكرون رباً، ولا يحصلون مبدأ، ولا يحملون وثيقة.(303/13)
هلاك الأمة بالظلم واطراح العدل
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:52].
قيل لبعض أهل العلم: ما الذي يهلك سريعاً؟
قال: الظلم، وفي أثر: لو نجى جبل على جبل لدك الباغي منهما.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثاني من " فتاويه ": إن الله ينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المسلمة الظالمة.
ولذلك تجد بعض الأنظمة الكافرة عادلة، فلا تبخس الشعوب حقوقهم، ولا جهد الإنسان، ولا تلغي كرامته، ولا تغلق الباب دونه بل تجعله حراً يتكلم ما شاء، حافظاً على امتيازاته، محافظاً على عرضه، محافظاً على كرامته في حين ترى أن بعض البلاد الإسلامية تلغي قداسة الفرد، وتلغي كرامته، وربما تعتدي على أملاكه، ولا تبقيه حياً أو تجعله لا يحمل اسم الإنسانية.
بل وجد أن في بعض البلاد الإسلامية دمرت مدن كاملة بالسلاح وأبيد فيها آلاف من الأطفال وآلاف من النساء، واحتجت الدول الكافرة على هذا الصنيع وقالت: أين الإسلام؟!
وهذا أمر معلوم؛ فاطراح العدل أول ما يصيب الأمم، ويدمر الشعوب، وهذا أمر غفل عنه بعض المؤرخين.
ولذلك قالوا: لو كان الخليفة حازماً ما سقطت دولته.
فيقول ابن الوردي:
فاترك الحيلة في تدبيرها إنما الحيلة في ترك الحيل
حارت الأفكار في قدرة من قد هدانا سبلنا عز وجل
وسوف تأتي قضية وهي {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [يونس:49].
{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:4] {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21].
فلكل أمة وشعب أجل محدد، ولكل حضارة إذا وصل هذا اليوم فلا ينفعها بقاء أهل الأرض، ولا يرد عن أمر الله راد وينفذ الله قضاءه بأنه غالب على أمره ولا يغلبه أحد، وفيه لطافة {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] قالوا: المعقب الموقع، فإذا وقع سبحانه فلا يوقع بعده أحد.(303/14)
انهيار الأمم يكون بأجل
وهذه القضية هي التي أريد أن أتكلم عنها، قال سبحانه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [الأعراف:34] والمعنى: أن الله تعالى جعل لكل دولة حداً لا تتعداه، وجعل لكل شعب ولكل حضارة زمناً محدداً، فلو اجتمع الناس على تقديمه، أو على تأخيره ما استطاعوا.
وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} [الكهف:59].
وقال أبو العلاء:
تقضون والفلك المسير دائر وتقدرون فتضحك الأقدار
ويقول أبو العتاهية:
إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر تمشي المقادير على غرز الإبر
والذي كتب المقادير هو الذي على العرش استوى، فاللوح المحفوظ مكتوب فيه آجال الأمم والشعوب والدول والأناسي، وعنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى جفت الأقلام ورفعت الصحف، وهو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من أفعاله أنه في كل يوم هو في شأن.
قال أهل العلم: في كل يوم له شأن: يخلع هذا ويولي هذا، ويملك هذا ويعزل هذا، يجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويرد غائباً، ويهدي هذا، ويضل هذا، ويتوب على هذا، سبحان الله!(303/15)
الغفلة عن استحقاق المؤمنين لنصرته سبحانه وتعالى
الأستاذ طه حسين سوف يكون لنا معه جولة هذه الليلة جعل بدراً وأحداً وحنيناً وثارات قبلية بين العرب.
يقول: أهذه ثارات بين الأوس والخزرج وبين قريش؟!
جهد محمد عليه الصلاة والسلام، وتربيته لأمته، وإخراجه من بلاده، والإيذاء والابتلاء والمصائب والكوارث التي مر بها عليه الصلاة والسلام والمنهج الرباني الذي نزل عليه، وقيامه بأهل بدر، ومناشدته لله، ونزول جبريل يقود ألف ملك:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
كلها ثارات جاهلية؟! {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23].
من سنن الله أنه ينصر أولياءه في آخر المطاف، وأن الجولة لهم، وأن العاقبة للمتقين، وأنه لا يمكن أن يتخلى عنهم، وهل سمعت بنبي اضطهد وكانت عاقبته الخسران؟!
يظهر الباطل تارة ثم يقصم قصمة إلى الأبد، وهكذا حدث له عليه الصلاة والسلام.
قال بعض المؤرخين: لو انتصر عليه الصلاة والسلام دائماً لبطل الابتلاء.
ولو انتصر الكفر لبطل سر الرسالة، فجعل الله عزوجل الحرب سجالاً، ثم العاقبة له عليه الصلاة والسلام، قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].(303/16)
الابتلاء للمؤمنين سنة من سنن الله
من سنن الله عز وجل: أن الابتلاء للمؤمنين سنة جارية:
فلا بد أن يكتب المؤرخون أن هذا من باب الابتلاء، فلا يتعرضون للكوارث أنها تأديب وزجر فقط؛ بل منها رفعة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
فالابتلاء لا بد منه لأتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام وللأخيار وللصالحين، سنة منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، هكذا أراد أن تكون، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].(303/17)
سنة المدافعة
أن الله عز وجل من حكمته أن جعل لكل شيء ضداً، قال الشاعر:
ولكل شيء آفة من ضده حتى الحديد سطا عليه المبرد
فجعل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للنار ضداً وهو الماء، وجعل ضد الظلمة النور، وضد الليل النهار، وضد الحلو الحامض، وضد الحار البارد، فلكل شيء ضد، ثم نقل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هذه السنة في الناس، فجعل للصالحين ضداً؛ قال سبحانه: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] والآية السالفة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان:20] فهذا يفتتن بهذا وهذا، وينغص على هذا، حتى يقول ابن الوردي:
ليس يخلو المرء من ضد ولو حاول العزلة في رأس الجبل
لو اعتزلت في قرية لبعث الله لك من ينكد عليك ومن ينغص عليك، أحياناً تقف تنتظر أمراً، فيرسل عليك ثقيل الدم، فينغص عليك، والقرية الواحدة تجد فيها تباين الأفكار: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118].
يختلف الناس حتى في الأمور الاعتيادية البسيطة التي قد لا تبنى عليها أحكام، الرجل في أسرته إذا استشارهم في أمر بسيط حتى في وجبة ماذا يكون الغداء اختلفوا بين يديه، فتجد الأغلبية تريد كبسة، ومنهم من يريد عصيدة، ومنهم من يصوت على المرق، ولا يزالون مختلفين لأن الله باين بين الأمزجة، والإجماع عزيز حتى في أمور الناس الاعتيادية، فكيف بالأمور الكبرى؟!
فقصدي من هذا: أن سنة التدافع جارية، فلا يظن الداعية أو حامل الحق، أو من عنده مبدأ الشريعة، سواء في الأدب أو في الدعوة أو في الفكر أو في أي منحىً من مناحي الحياة أنه سوف يسلم ممن ينغص عليه، بل سوف تجد من يعترض عليك، ومن يكذبك ويرى أنك مبطل، وأنك متطرف، وأن في عقلك شيئاً، وقد قيل لمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام: مجنون وساحر وشاعر وكاهن، وما تركوا منغصاً من منغصات الحياة إلا وعلقوها عليه، ولكنه كما قيل:
لعظمك في النفوس تبيت ترعى بحراس وحفاظ ثقات
وشكوت من ظلم الوشاة ولم تجد ذا سؤدد إلا أصيب بحسد
لا زلت يا سبط الكرام محسداًً والتافه المسكين غير محسد
إن العرانين تلقاها محسدة ولا ترى للئام الناس حسادا(303/18)
الاهتمام بسيرة الأنبياء مع أقوامهم
فهذا واجب المؤرخ فقد أغفله كثير من المؤرخين فإنما يمرون بهذا مروراً، ولا يذكرون سيرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا يذكرون تاريخهم المشرق وجهادهم وصبرهم، إنما يأتون بإسرائيليات وخزعبلات، ونتف من التاريخ، ولا يستنبطون التاريخ من القرآن الكريم، وهذا يجدر الانتباه إليه لمن أراد أن يكتب في التاريخ.(303/19)
عرض تاريخه عليه الصلاة والسلام عرضاً صادقاً عادلاً
فإن الناس في عرضهم لسيرته عليه الصلاة والسلام ثلاثة أصناف:
منهم من أخذ نتفاً فقط، وهذا مثل ما يدرس في المناهج التعليمية، نتف لا تسمن ولا تغني، ولا تشبع ولا تبل العليل، ولا ترد الصبابة، ويخرج الطالب غير متصور لسيرته عليه الصلاة والسلام، إنما يتصور أموراً عامة سبق الإشارة إليها في بعض المحاضرات، خطوط عامة وعموميات، ولد كذا، وهاجر كذا، والكاتب مستأجر ليس عنده حرارة الشعور بالحب، ولا في قلبه جريان وغليان تجاه محمد عليه الصلاة والسلام.
وإني لأشكر كاتباً كتب يقول: جلست مع مستشرق فقال: أنت مسلم، وأريد أن تكتب كتاباً عن محمد صلى الله عليه وسلم وتتجرد من عاطفتك؛ لأنك متهم بحبه.
قال: إذا أردت أن تجردني من عاطفتي نحوه فمعنى ذلك أنك تجردني من حياتي.
لأن حبه صلى الله عليه وسلم مركوز في الفطر، وواجب شرعي، فهو ليس ميلاً لزعيم أو قائد أو سياسي بإمكانك أن تكون له محايداً.
أما معه صلى الله عليه وسلم فالحياد عند سيرته حرام.
أطل سهر العيون فكل نوم لغيرك أيها المولى حرام
وأسمعني حديث الوصل سبعاً رضيت لك السرى والناس ناموا
حرام أن تكون محايداً في سيرته وتقول لي: لا تحمل له عاطفة، كيف تحثني أن أكتب وأنا بعيد كأني أجنبي؟!
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرف أنا نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلَّى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا(303/20)
قضايا مهمة في التاريخ(303/21)
التوحيد هو الأساس لجميع العباد
من القضايا الهامة في التاريخ أن التوحيد هو الأصل في العالم وليس الشرك.
بعض الملاحدة الآن والزنادقة؛ مثل: جوزيف إستالين يقول: الأصل في العالم الإلحاد (لا إله والحياة مادة) وسوف أتعرض لكاتبٍ الآن ما زال حياً يقول لـ جوزيف إستالين: طبت حياً وطبت ميتاً!
التوحيد هو الأصل قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
وفي " صحيح مسلم " أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول في الحديث القدسي: {إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين} خلقهم موحدين:
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
كان الناس موحدين حتى جاءت الشياطين فاجتالتهم.
خلق الله الأكوان والأفلاك والبروج والكواكب موحدة، وخلق الله الإنسان موحداً، وإنما الشرك حادث وليس بأصيل في العالم، فعلى المؤرخ أن ينتبه لهذا.(303/22)
قدر الله ومشيئته نافذة
من الحقائق أن الله عزوجل غالب على أمره بيده الملك، وبيده مقاليد الأمور.
فلا يغلبه أحد، ولا يمكن لأحد أن يفرض نفسه على الله، ففرعون وجد بقضاء وقدر من الله، وكره الله فعله، والذي نصبه هو الله، والذي عزله هو الله، والذي دس رأسه في البحر هو الله، فلا يمكن أن يفرض أحد على الله عزوجل؛ لأن الله غالب على أمره ولا يغلبه أحد.
وأهل السنة كفّروا من قال من المعتزلة: إن الله لا يعلم الشيء حتى يقع.
فقالوا بكفره، بل الله يعلم الأشياء قبل أن تقع وهو الذي قدرها، ولهذا أحد علماء أهل السنة دخل على معتزلي من قضاتهم، فقال المعتزلي -يريد أن يتعرض لـ أهل السنة - الحمد لله الذي لم يقدر في كونه الفحشاء -يقصد المعتزلي أن الله لا يقدر الفواحش ولا المعاصي -قال عالم أهل السنة: الحمد لله الذي لا يقع في كونه إلا ما يشاء.
فكل شيء بقضاء وقدر والليالي عبر أي عبر
{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] فلا يمكن أن يكون أمر مفروضاً على الله عزوجل، ولكن الله أراد أن يوجد الصالح والطالح، والعادل والظالم، وأن يوجد الناس هكذا حتى يحاسبهم، وجعل جنةً وناراً، وجعل عذاباً وثواباً.
هذه سنته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في خلقه، فهو غالب على أمره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا يغلبه أحد.(303/23)
استخلاف الإنسان في الأرض
إن الإنسان مستخلف لعمارة الكون، وهو خليفة لله عزوجل في العبادة في الأرض، وما خلق لغرض آخر إلا للعبادة قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57] فإنهم يقولون الآن مثل بعض المستشرقين: خلق الله الإنسان ليأكل، ويأكل ليعيش.
حتى يقولون كما في كتب العلوم: الإنسان يأكل ليعيش أو يعيش ليأكل؟
ونحن نقول: إن الإنسان خلق ليعبد الله، خلقه الله ليعبده، خلقه الله ليتوجه إليه.
أما أن يأكل ليعيش ويعيش ليأكل، فهذه في عالم حديقة الحيوانات.(303/24)
الإيمان بوحدة الأمة الإسلامية
وهذه قضية كبرى لا بد أن يلحظها المؤرخ المسلم، فلا يأتي بدويلات، ويتكلم عن أقاليم وعن مقاطعات، ويفصلها عن تراثها الإسلامي وعن الأمة الإسلامية الموحدة ذات الرسالة الخالدة التي أتى بها عليه الصلاة والسلام:
وأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
بـ الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
فأمة محمد عليه الصلاة والسلام أمة مرت بها فترة من فترات التاريخ كانت ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، أما أن يأتي شخص فيتكلم عن دولة صغيرة من دول الجامعة العربية، ويجعلها هي الدولة الوحيدة، والإسلام لها، والتاريخ لها، والأبطال منها، والأدباء منها، ثم يلغي عظماء الإسلام، وأبطال الإسلام وكتاب الإسلام، فهذا غير مقبول، وحدة الأمة الإسلامية لا يفصلها حدود:
إن كِيدَ مُطَّرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الغمام فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
أحمر أو أبيض أو أسود، إفريقي أو أسيوي، كلهم تحت مظلة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
وأعظم مظهر من مظاهر التجمع العالمي والوحدة الإسلامية الحج ولا سيما حين يقف الحجاج في عرفات يوم تجتمع الألوف، وتنادي رباً واحداً بأكثر من (400) لغة في ساعة واحدة؛ كلهم فقير إلى الغني، كلهم فانٍ بين يدي الباقي، وكلهم ضعيف تحت القوي، فتتحطم قداسات البشر وطواغيتهم على صخرة عرفات، ويبقى الواحد الأحد {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].(303/25)
الإيمان بالقضاء والقدر
فلا يقولوا: لماذا حدث كذا وكذا؟ لكن على المؤرخ أن يقول: بقضاء وقدر.
فتجد المؤرخ أحياناً يقول مثل المسعودي أو غيره: واستولى التتار على بغداد وقتلوا (700.
000) ولولا أن ابن العلقمي لم يتواطأ معهم ما حدث هذا.
لا تقل هذا؛ فإن الله قدر ذلك، ونحن نلوم الناس على المعايب، ولا نلومهم على المصائب، وكل شيء بقضاء منه سبحانه، لا بد أن نؤمن بهذا، فهو الذي ولى هذا وعزل هذا.
وإذا قرأت ترجمة عمر بن عبد العزيز تجد من يقول: ما عاش عمر بن عبد العزيز إلا سنتين أو ثلاث سنوات ويعيش عبد الملك عشرين سنة ويعيش الحجاج بن يوسف خمس عشرة سنة!!
نقول: من الذي قدر؟ الواحد الأحد لحكمة أرادها.
فقضية أن يستحضر المؤرخ الإيمان بالقضاء والقدر في رأسه، وأن يعيش هذا المبدأ، وأن يستحضره دائماً أمر مطلوب.(303/26)
الإيمان بالغيب
فتاريخنا عالم الغيب والشهادة، ولا بد للمؤرخ أن يعرض عالم الغيب دائماً في معارك وغزوات المسلمين، وعند ذكر خلفائهم وعلمائهم، فيبصر الناس بالجنة والنار.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرض عالم الغيب من فوق المنبر، وينادي أصحابه في المعارك، ويقول: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران:133] ويقول: {لموضع سوط فيها خير من الدنيا وما عليها} ويقول صلى الله عليه وسلم لكتيبته ولجيله ولأصحابه في بدر: {يا أهل بدر! إن الله قد اطلع عليكم وقال: اعملوا ما شئتم.
والذي نفسي بيده ما بينكم وبين الجنة؛ إلا أن يقتلكم هؤلاء؟ فتدخلون الجنة؛ فيقول أحد أصحابه: ما بيننا وبين الجنة إلا أن يقتلنا هؤلاء؟ قال: إي والذي نفسي بيده، فألقى التمرات من يده وأخذ سيفه وقاتل حتى قتل} هذا عرض عالم الغيب، أي: لا تمن الناس الآن بعالم الشهادة فقط تقول: إذا انتصرتم أعطيناكم الكأس، كل له ميدالية وسيارة فاخرة ودراجة.
هذه يجيدها كل أحد في الأرض، هذا مجرم العراق لما أباد شعبه أعطوه سهم الرافدين على قتل الدعاة وعلى قتل العلماء والأطفال والشيوخ.
الأوسمة لا يعرفها محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الأوسمة يجيدها كل أحد، لكن الجنة لا يستطيع لها إلا من يحمل لا إله إلا الله محمد رسول الله.
من ثقافة محمد صلى الله عليه وسلم أنه لقن الأعراب (لا إله إلا الله) فدخلت في دمائهم، تجري قويةً حارةً، فيأتي صلى الله عليه وسلم ليعطي أحدهم مالاً فقال: يا رسول الله! غفر الله لك! ما على هذا بايعتك.
قال: بايعتني على ماذا؟ قال: بايعتك على أن يأتيني سهم في سبيل الله يقع ها هنا ويخرج من ها هنا.
فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: إن تصدق الله يصدقك.
فصدق الله فأتاه سهم في أول المعركة وقع هنا وخرج من هنا.
فقبله صلى الله عليه وسلم وقال: {صدقت الله فصدقك الله}.
فلذلك النصيحة كل النصيحة ألا نرد الناس لعالم الشهادة فقط ونعزلهم عن عالم الغيب.
الطالب الآن أصبح لا يحفظ القرآن إلا إذا مني بجائزة، وبعضهم لا يساهم في قراءة القرآن في رمضان إلا ليحصل على جائزة، وبعضهم لا يشارك في الدوري والمنتخب ويحتسب الأجر في ذلك إلا إذا حصل على جائزة! لا يريد أن يرفع رءوسنا في سنغافورة وفي كل مكان إلا بجائزة الدنيا! اطلب الأجر من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، احتسب وجاهد في سبيل الله علَّ الله أن يرفع رأس هذه الأمة التي وضعت رأسها منذ مات صلاح الدين.
بعض الناس تجده يلعب الكرة بدون نية، من يوم يلعب إلى يوم ينتهي: {إنما الأعمال بالنيات} {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وكم يحصل عليه من الأجر والمثوبة، بعضهم -نسأل الله أن يهديه- يلعب أربع ساعات.(303/27)
التفريق بين أخطاء البشر وأحكام الإسلام
هذه آخر قضية في كتابة التاريخ، كل من أخطأ بشيء علقوه بالإسلام.
أتى الخميني بفضائح فقالوا: هذا دينكم، وقالوا: الإسلام دين الخميني.
جاء صدام وأتى بفضائح قالوا: هذا دين الإسلام.
ونحن نقول: الإسلام شيء وهؤلاء شيء آخر.
الأخطاء التي تقع في بلاد الإسلام ليس المسئول عنها الإسلام، الإسلام يتمثل في عمر، الإسلام يتمثل في أبي بكر، الإسلام يتمثل في عثمان، الإسلام يتمثل في علي، يتمثل في صلاح الدين، في نور الدين محمود، في مالك في أحمد في الشافعي:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
أما أن تأتي لي بأناس لا يعرفون من الإسلام حتى نواقض الوضوء، فإذا أخطأ أحدهم قالوا: انظر إلى الإسلام، المسلمون لهم أخطاء لكن لا تلحق بالإسلام، المسلمون شيء، والإسلام شيء آخر.
وهذه القضية الأخيرة في هذا البحث، وسوف أدخل بكم في بعض القضايا.(303/28)
أكاذيب وزور يجب أن تمحى من التاريخ
نماذج من أقوال المزورين القدامى والمحدثين في كثير من قضايا التاريخ منها:
منها افتراءات كثير من المؤرخين المغرضين حول الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد ذكر بعض المستشرقين -عليه غضب الله- أن محمداً صلى الله عليه وسلم شهواني يحب النساء، ولذلك تزوج إحدى عشرة امرأة، وقد عارض عليه علماء المسلمين وردوا عليه وبينوا الحكمة من ذلك، أخزى الله ذلك الدعي المغرض المنتهك لحدود الله.
ومنهم من قال: دعوته صلى الله عليه وسلم قامت على الإرهاب والسفك والدماء، ولم تقم على الإقناع، وهذا كذب وبهتان، فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ} [النحل:125].
أما المعارك التي حدثت فبسبب الطواغيت الذين رفضوا أن يسمعوا الدين أو يتركوه يتغلغل بين الناس، ورفضوا الحوار.
ولذلك لو وافق كسرى على أن يأتي الصحابة فيحدثوا الناس بالدين ما قوتل، وكذلك هرقل، وكذلك أبو جهل، لكن رفضوا أن يسمعوا فكان من الضرورة أن يحاربوا.(303/29)
أكاذيب الأقدمين كالرافضة حول أبي بكر وعمر
ومنهم من قال: بيعة أبي بكر الصديق فلتة ولم تكن في موضعها، وإنما كانت مداجاة ومصانعة، وتقول بعض الطوائف من المبتدعة: إن البيعة كانت لـ علي، لكن الصحابة اغتصبوها من علي، فجهلوا كل الصحابة إلا ستة، وقالوا: الخلافة لـ علي بوصاية من جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم لكن الصحابة خانوا، وخونوا جبريل، وخونوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وخونوا الأمة.
منها: أن عمر رضي الله عنه عزل خالداً في قضايا نسبوها لـ خالد وهذا ليس بصحيح، وتهالكوا في ذلك تهالكاً عجيباً.
قالوا من ضمنها: إن خالداً تزوج امرأة وهي في عدتها وقد كذبوا، وقالوا: لأن خالداً يحب السيطرة، وقالوا: لأن عمر خاف على كرسيه من خالد، هل عند عمر وخالد كراسي، هل المسألة عندهم مسألة (امسك لي اقطع لك)؟!
هؤلاء جاءوا من الصحراء ليرفعوا (لا إله إلا الله) في الكرة الأرضية، هذا جيل اختارهم الله عزوجل، على سمع وبصر لمصاحبة رسوله عليه الصلاة والسلام، هذا جيل آخر غسل الله أدرانهم وطهر قلوبهم وزكاهم من فوق سبع سماوات.
عمر لا يعرف مداجاة ومؤاخذة، ولا يخاف على كرسيه من خالد، عمر كان يبكي على المنبر ويقول للمسلمين: [[خذوا بيعتكم لا أريدها]]؛ لأنه تعذب في الخلافة جاع وظمئ وأتته مشقة، وكان يبكي دائماً ويقول: [[يا ليت أم عمر لم تلد عمر]].
ذكر ابن الجوزي في " المناقب " أن عمر قال للناس: أشيروا علي من ترون أن نولي على العراق، -فأراد أحدهم أن يجامل الخليفة أمير المؤمنين، فقال: أرى أن تولي ابنك عبد الله على العراق.
قال: كذبت يا عدو الله! قاتلك الله، والله ما أردت بذلك وجه الله.
أي: عبد الله شاب في الثلاثين من عمره مع علمه أن عثمان موجود وعلي بن أبي طالب أحد العشرة موجود، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص.
وبالفعل ما أراد بذلك وجه الله لأن في المسلمين من هو أكفأ وهذا أمر معلوم.(303/30)
الكلام في عثمان
وقالوا: إن عثمان قرب قرابته وعزل الآخرين، والأمر ليس كما صوروه، كانوا أكفاء وكانوا أخياراً، وقد وصل رحمه، واختار كذلك من خيار المسلمين، وعثمان بار راشد مهدي لا يريد إلا الله والدار الآخرة، وإن أخطأ في بعض الاجتهادات، فهو مأجور على خطئه مثاب عند الله، وقد تبرأ علي من ذم عثمان.
يقول علي رضي الله عنه: [[قاتل الله من قاتل وشارك في قتل عثمان]] وكان يدعو على من فعل ذلك، ولكنهم اتهموا علياً رضي الله عنه بدم عثمان، وهو بريء براءة ماء الغمام، وبراءة الذئب من دم يوسف، لكن هكذا قالوا: وكان علي يقول على المنبر: [[من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد الفرية ثمانين جلدة]].(303/31)
الكلام فيما جرى بين الصحابة من فتن
فبعض المؤرخين ولغ قلمه فيما جرى بين الصحابة في الجمل وفي صفين.
والله يقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134].
ومن معتقد أهل السنة أن نكف عما شجر بين الصحابة، وأن نطهر ألسنتنا كما طهر الله سيوفنا، وأن نعتقد أنهم مأجورون، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، وغالبهم ومغلوبهم في رحمة الله عز وجل التي وسعت كل شيء.
قيل لـ عامر الشعبي: ما رأيك في أهل صفين التقوا فما فر بعضهم من بعض؟ قال: أهل الجنة التقوا فاستحيا بعضهم أن يفر من بعض.
وقيل لـ عمر بن عبد العزيز: ما رأيك في أهل الجمل وأهل صفين.
قال: [[تلك دماء طهر الله منها سيوفنا، أفلا نطهر من أعراضهم ألسنتنا؟]].
{ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}.
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].(303/32)
تشويه الأصفهاني لتاريخ الرشيد
أتهم هارون الرشيد باتهامات فضيعة، وممن فعل ذلك وافتعل صاحب " الأغاني " أبو الفرج الأصبهاني، فإنه أتى بأخبار تشيب لها الرءوس، وأنا أنصح الجيل بعدم قراءة هذا الكتاب إلا من أنس من قلبه ونفسه علماً ووعياً وتقوى، فلا بأس أن يستفيد من بعض ما فيه من الأدب والقصص، لكنه تهالك واحترق في تراجم الخلفاء، وتكلم عن الدولة العباسية والأموية كأنها دول موسيقى، وعناء، وخمر وعربدة، وأطفأ ذاك اللموع الذي رأيناه في المجال العلمي، والمجال الأدبي، ومجال الثقافة والحضارة، ومجال العدل والإنصاف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحسيبه الله.(303/33)
هجمات متفرقة على التاريخ
مما يهاجم به الإسلام من مؤرخين مغرضين: الرق، وأن الإسلام جاء باستعباد الناس، وهذا كذب، وما حرر الناس إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما أتى الاسترقاق عن طريق الكفر، فإذا دخلوا الإسلام كان العتق من أحسن ما يكون، وكانت أبواب العتق هي المطلوبة والواردة، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو أول من حرر الإنسان، وأتمنى أن تعود لترجمة بلال قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم وبعد مبعثه وزيد بن حارثة وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، أي أناس رفعهم محمد صلى الله عليه وسلم! وأي رجال لم يكونوا رجالاً قبل مبعثه! كانوا والله يعاملون كما تعامل الدواب والحيوانات، فلما أتى محمد صلى الله عليه وسلم جعل بلالاً سيداً ينادي نداء الأرض لنداء السماء، وجعل سلمان منا آل البيت، وجعل صهيباً سفيراً إلى الروم، وجعل خباب بن الأرت من الشهداء عند الله عزوجل.
بعضهم افترى على أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه- مثل المسعودي في كتابه " مروج الذهب ومعادن الجوهر " خلط في هذا الكتاب، ومزج الكذب بالصحيح، والحق بالباطل.
ومن مغالطته التي حاد فيها عن الحق والصواب في كتابه ما يأتي:
يقول المؤرخون: لا يكاد يخلو مجلس عثمان رضي الله عنه من وجود كعب الأحبار، فكأن كعب الأحبار هذا هو الذي يسيطر على المجلس ويأتي بالإسرائيليات، لكثرة ما كان يستفتيه عثمان في قضاياه، وكأن عثمان ليس مجتهداًَ مطلقاً، ولا عنده كتاب ولا سنة حتى يحتاج إلى فتاوى بعض اليهود الذين أسلموا.
ثم ينقل جرأة كعب الأحبار وتسرعه في الفتيا مع وجود صحابة كـ عثمان وعلي رضوان الله عليهم حتى يفتي في المسائل الكبار وهذا غلط، ثم قبول عثمان بفتاوى كعب، ثم ينقل أن عثمان كان يسب أبا ذر رضي الله عنه ويؤذيه، وهو الذي طرده من المدينة وأخرجه، فهذا كذب، بل أبو ذر هو الذي خرج من نفسه، والرسول عليه الصلاة والسلام قال لـ أبي ذر: {إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج منها} أي: من المدينة، فهو الذي خرج باختياره، وما أخرجه عثمان.
ونقلوا أيضاً: أن عثمان ضرب عمار بن ياسر حتى كسر ضلعاً من أضلاعه، وهذا كذب.
ومنها: أن معاوية قام بالإساءة إلى أبي ذر رضي الله عنه وحمله إلى المدينة على بعير، وعلى قتب يابس وآذاه، وأرسل معه خمسة من الصقالبة يطيرون به حتى تسلخت بواطن أفخاذه، وكاد أن يتلف أو يموت، وهذا كذب، وما كان لـ معاوية أن يفعله.
ومنها: ذكر لـ أبي ذر بأشياء استحدثت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم فيها لعنة لبني أمية إذا بلغوا الثلاثين، وهذا كذب.
ومنها: حوار حول طلبات أبي ذر واختياره بلداً يسير إليه، واقتنع عثمان بإخراجه من المدينة، وهذا لم يرد، وقالوا: غضب عثمان على علي لتشيع أبي ذر له، ولضم أبي ذر له، وهذا لم يرد عصم الله الجميع من هذه الأمور!
وهناك كتاب خلط الحق بالباطل اسمه " أعيان الشيعة " لمؤلفه محمد الحسيني العاملي طبع سنة (1359هـ) وفيه أغلاط تاريخية كاذبة مفتراة.
منها: اتهام عثمان رضي الله عنه بأنه كان ينهى أبا ذر عن قراءة القرآن.
ومنها تطلع عثمان لأموال المسلمين واستغلاله لثرواتهم وتملكه لأراضيهم، وكأنه يتحدث عن أحد الإقطاعيين لا عن أحد الخلفاء الراشدين.
ومنها: الادعاء أن حبيب بن أبي مسلمة أشار على معاوية بإقصاء أبي ذر من الشام.
ومنها: الإساءة إلى أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومنها: أن عثمان أصابه الخرف لما وصل الثمانين، وأصبح يخلط في كلامه، وهذا والله لم يحدث بل كان حافظاً للقرآن {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] قال ابن عباس: [[ذاك هو عثمان]] وقال حسان في مدح عثمان:
ضحوا بأمشط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا(303/34)
أكاذيب طه حسين في التاريخ
وأما المزورون الجدد فإن كبيرهم الذي علمهم السحر هو: طه حسين، وأما مصيرهم في الآخرة، فلا نستطيع أن نحكم عليهم، فلسنا بحكام على مصائر الناس الذين ذهبوا إلى الله عز وجل، إنما أحكامنا في الدنيا، والله سبحانه يتولى عباده، ولكن نشهد أن الكافر في النار وأن المسلم في الجنة.
أما مثل طه حسين والذي سماه الغرب عميد الأدب العربي، وهو لا يستحق هذه التسمية، ولم يأخذها بجدارة، وهو الذي ألغى الأدب العربي وشوهه، فنحيله إلى الله ولا نحكم عليه بجنة ولا بنار.(303/35)
التهجم على العقيدة بالتشكيك في شخصيات الأنبياء
أما كتابه الذي أسماه في الشعر الجاهلي فقد هاجم فيه عقيدة المسلمين، فتراه يعلن في الصفحات الأولى من كتابه أن قصة إبراهيم وإسماعيل في القرآن لا تكفي عندنا لإثبات وجود إبراهيم وإسماعيل التاريخي.
يقول: إن وجود إبراهيم وإسماعيل كشخصيتين فيه نظر.
ولا يكفي القرآن ولا السنة ولا التوراة ولا الإنجيل أن تذكر إبراهيم وإسماعيل، قد تكون خيالية مثل قصة جحا، هكذا يقول.
وحينما هاجم طه حسين علماء الأزهر لأنه طلب أن يدخل في الأزهر، فامتحنوه فرسب في الامتحان في القاعة الكبرى ضحى، فذهب وتعلم الأدب في الغرب وألف كتيباً اسمه " ساعة في الضحى بين العمائم واللحى " هاجم فيه علماء الأزهر هجوماً بذيئاً، وقد اجتمع علماء الأزهر لما أخرج كتابه في الشعر الجاهلي فبدءوا بتكفيره وقالوا له: لو اعتقد ما كتب فقد كفر، فبادر إلى تغيير عنوان الكتاب وسماه في الأدب الجاهلي، ولكنه لم يغير شيئاً من السموم والكفر من داخل الكتاب، وقد تصدى له عدد من العلماء والأدباء الفضلاء؛ مثل شيخ الأزهر محمد الخضر حسين، ومصطفى صادق الرافعي في تحت راية القرآن، ومحمد أحمد الغراوي في النقد التحليلي، وأنور الجندي، ومحمد مهدي استامبولي ولك أن تنطقها الإسلامبولي، وغير هؤلاء.(303/36)
كتب طه حسين وطعنه في السيرة
له كتاب على هامش السيرة والفتنة الكبرى والشيخان وفي الشعر الجاهلي الذي يسمى أيضاً في الأدب الجاهلي، ولقد أراد بتضليله هذا إثارة الفتن بين المسلمين، ولقد شكك في كتاب على هامش السيرة، ولكم أن تراجعوه في قصص السيرة النبوية جملة، واعتبارها مع قصص الغزوات والفتوحات الإسلامية خزعبلات أسطورية أقرب منها إلى الحقائق.
وقال: إن الأدباء اخترعوها والقصاصون ابتدعوها، ولم يكن لها أصل، وأنها من المهاترات والمزايدات التي ينبو العقل عن فهم بعضها أو عن الرضوخ لها، والمنطق المستقيم لا يرضاها، والأساليب العلمية والتفكير العلمي على حسب زعمه لا يمكن أن تؤمن بها.
واقرأ مقدمة كتاب على هامش السيرة تجد العجب، فبعد أن يشبه قصص السير والغزوات بأساطير.
يقول: فأحاديث العرب الجاهليين وأخبارهم لم تكتب مرة واحدة ولم تحفظ في سورة بعينها، وإنما قصها الرواة في ألوان من القصص، وكتبها المؤلفون في صنوف من التأليف، وقل مثل ذلك في السيرة نفسها، فلقد ألهمت الكتاب والشعراء في أكثر العصور الإسلامية، وفي أكثر البلاد الإسلامية؛ فكتبوها من الإلهام، فصورهم صور مختلفة تتفاوت بين القوة والضعف والجمال الفني إلى آخر ما قال.
وعلى هامش السيرة يشكك بقصص وردت في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كـ بدر وأحد، ويشكك في نوايا الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم.(303/37)
كُتَّاب يطعنون في الدين
ومنهم عبد الحميد جودة السحار صاحب كتاب " أبو ذر الغفاري " استقصى عناصرها وأخذها وسرقها من طه حسين ومن كتاب " أعيان الشيعة " للعاملي، وأيدهم على ما قالوا وثبت قضاياهم.
ومنهم: قدري قلعجي في كتابه " أبو ذر الغفاري أول ثائر في الإسلام " وكان هذا الكتاب ضمن سلسلة ألفها القلعجي تحت عنوان " أعلام الحرية " وفي هذا الكتاب يجعل دور ابن سبأ في التأليب على عثمان صحيحاً وسليماً ومشكوراً.
الرابع: علي ناصر الدين الذي سمى نفسه: " صاحب قضية العرب " فألف كتاباً عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، وقد حذا حذو من سبقه في التهجم على عثمان الخليفة الراشد.
الخامس: صلاح عزام الذي أطلق على نفسه اسم: "صاحب الشباب المضنى " ألف كتاباً عن أبي ذر ملأه بالكذب والبهتان على الصحابة، وهو يحمل حقداً بلا شك.(303/38)
خالد محمد خالد وبعض المآخذ عليه
السادس: خالد محمد خالد وهو كاتب مصري معروف، وما زال حياً نسأل الله أن يزيده هدى أو أن يهديه أولاً، ويحتاج خالد محمد خالد إلى مقالة طويلة يتبرأ مما كتب في أول عمره صاحب كتاب " رجال حول الرسول عليه الصلاة والسلام " ولقد سمى أبا ذر في كتاب " رجال حول الرسول " زعيم المعارضة وعدو الثروات، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلم عليه في عنوان الكتاب، بل جاء مجرداً من ذلك، بل كان يردد محمد والمسيح، وإن محمداً، وإنسانية محمد، وحب محمد، وتربية محمد، ويكفي أن تنظر إلى بعض عناوين كتبه مثل: " معاً على الطريق محمد والمسيح " يريد أن يقرب وجهة المسيحيين من المسلمين، إنسانية محمد، كما تحدث الرسول، رجال حول الرسول، أبناء الرسول في كربلاء، عشرة أيام في حياة الرسول، خلفاء الرسول؛ هكذا يعنون لكتبه.(303/39)
خالد محمد خالد والاشتراكية
وبالمناسبة فإن الأستاذ خالد محمد خالد كان في أول عمره يؤمن ببعض النظريات الاشتراكية ويؤيدها، ويكتب في الصحف المصرية يرحب بها، وهو الذي قال في تأبين إستالين: طبت حياً وميتاً يا رفيق، يناديه لما مات في موسكو ونعاه في عمود كبير، والصحيفة موجودة ومحفوظة، يقول: طبت حياً وميتاً.
وهذه الكلمة قالها أبو بكر رضي الله عنه للرسول عليه الصلاة والسلام لما قبله.
وجوزيف إستالين؛ مجرم عدو لله الملحد الذي أباد الشعب الروسي، وسحق أبناءه بالحديد والنار، وهو صاحب مواهب خاصة أعني: خالد محمد خالد حصل على شهادة العالمية من جامع الأزهر في نهاية الأربعينيات بعد أن عاش سني دراسته في هيئة الأزهرية وكان عنده لحية في وجهه ولكن ذهبت:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
وكان عنده جبة ولبس بعدها البنطلون، ولبس البنطلون جائز، لكنه تشكل بعد الأربعينيات، وكان عنده قميص وعمامة على رأسه ولكنه خلع العمامة فيما بعد ثم استبدلها بغيرها من الهيئة الإفرنجية الحديثة، وسمح بنشر مقابلة صحفية التي أجرتها معه مجلة الكواكب زينت بصورته وهو يراقص امرأة.
نسأل الله أن يحفظنا وإياه وأن يهديه.
ظهر على الساحة الأدبية عام (1949م) كأحد الكتاب اليساريين في كتابه " من هنا نبدأ " وقد رد عليه الكتاب المسلمون، وغضبوا لله وخرجوا بأقلامهم في صبيحة غداة في يوم واحد مشهود عند الله عزوجل من الانتصارات عليه وبكتوه.
وقد أحدث الكتاب ضجة في الأوساط الدينية والأدبية لجرأة الكاتب على القيم السائدة في الأزهر، وعلى علمائه، فصودر الكتاب من الأسواق وسحب، واتهم صاحبه بالكفر، ثم ما لبث الأستاذ خالد محمد خالد أن استصدر حكماً من المحكمة المصرية بالإفراج عن الكتاب من الكفر بدعوى حرية الفكر.
ثم أكثر من الكتابة وأصدر الكثير منها له كتاب " مواطنون لا رعايا " يعرض فيها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكل مسئول عن رعيته} فقال: نحن مواطنون لسنا رعية، لأن الرعية عنده مثل الغنم، يقول: نحن مواطنون فقط لسنا بغنم.
والرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد هذا، والذي أتى باحترام الإنسان هو الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي رفع قدره محمد صلى الله عليه وسلم.
وله " الديمقراطية أولاً " وله كتاب " الدين في خدمة الشعب " وله " الطوفان لكيلا تحرثوا في الأرض " ونشر مقالاً في جريدة قاهرية كبرى عام (1950م) أبّن فيه طاغية روسيا كما مر معنا بعنوان عريض قائلاً: طبت حياً وميتاً يا رفيق.
وعلى إثر هزيمة (1967م) التي يسمونها نكسة (1967م).
فأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارها الخطب
وقاتلت دوننا الأبواق صامدةً أما الرجال فماتوا ثم أو هربوا
هم يفرشون لجيش البغي أعينهم ويدعون وثوباً قبل أن يثبوا
الحاكمون وواشنطن حكومتهم اللامعون وما شعوا وما غربوا
لهم شموخ المثنى ظاهراً ولهم هوى إلا بابك الخرمي ينتسب
وكانت الهزيمة أمام دولة اليهود وأمام العجوز المسنة الهالكة جولدا مائير التي ضحكت على الذقون.
وكتب خالد محمد خالد بأنه اعتدل في فكره وعدل في أساليبه فالله أعلم.
وتبقى عليه الكلمات الأولى يجب أن يتخلى منها ويتبرأ منها إن كان صادقاً في توبته، ونسأل الله أن يكون صادقاً؛ فإنه كاتب ذكي مبدع إذا أراد أن يكتب، أخاذ في أسلوبه، وفي قلمه رشاقة، فإن كان كما قيل عنه فليتخل عن كتبه، فإن أهل السنة قالوا: لا بد لمن أساء إذا تاب أن يعود عن إساءته وعن كتاباته، وأن يتبرأ عن شعره وعن غنائه وعن حياته الأولى.(303/40)
كتاب أجانب من المستشرقين وغيرهم يطعنون في الدين
.(303/41)
فيليب حتي من الكتاب المستشرقين
* نماذج من أغلاط وافتراءات فيليب حتي، وفي التاريخ الإسلامي، وهو أمريكي الجنسية و (حتي) بكسر الحاء، ومنهم من ينطقها حتى وقرأها الجمهور حتي.
له تأليف أصول الدولة الإسلامية، وتاريخ العرب، وتاريخ سوريا وفلسطين، ومن افتراءاته قال في تاريخ العرب: ولقد تزوج النبي من نحو اثنتي عشرة زوجة بدافع الحب والشهوة -أخزى الله ذاك الكاتب- ثم سار على هذا المنوال وقال: ليس محمد إلا بشراً ومعجزته الوحيدة هي إعجاز القرآن.
وقال عن مبايعة أبي بكر: كانت مطابقة لمشروع دُبِّر بليل بين عمر وبينه وبين أبي عبيدة ليقتسموا الملك! سبحان الله! الذين لا يجد الواحد منهم خبز الشعير في الليل يقتسمون الملك.
من أغلاط فيليب حتي يقول: إن عمر جعل الدستور العسكري الاشتراكي سمواً للعروبة، كما ضمن للمؤمن الأعجمي درجة أسمى من غير المؤمن.
وقال عن الفتوحات الإسلامية: لم تكن الحماسة الدينية بين الحاجة الاقتصادية التي دفعت بمعاشر البدو الذي تكونت منهم أكثر جيوش الفتح إلى ما وراء تخوم البادية إلى الأراضي الخصبة في الشمال.
وقال عن خلافة علي: وكانت مشكلة علي الأولى هي التخلص من منافسيه، كأنه يتكلم عن أمته ومحيطه ولا يتكلم عن أناس أرادوا الله بأعمالهم.
وادعى أن السبب الذي دفع عائشة رضي الله عنها إلى الخروج ضد علي هو: حادثة الإفك لأن علياً نالها بالإفك، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو من الشياطين.(303/42)
بروكلمان الألماني من الكتاب المستشرقين
ومعنا بروكلمان مستشرق ألماني له كتاب " تاريخ الشعوب الإسلامية " من افتراءاته في كتابه هذا في حديثه عن الكعبة المشرفة قال: وفي ركنها اليماني الشرقي الحجر الأسود الذي هو بحق أقدم وثن معبود هناك.
وقال عن مدى إيمان النبي صلى الله عليه وسلم: إن العقيدة في الله كانت تملأ قلبه أكثر فأكثر، وقد جعلته يرى أن الآلهة الأخرى لا وجود لها، فألغى الآلهة التي كان يؤمن بها في شبابه وجعلها إلهاً واحداً.
وقال: ومباهج الجنة هذه تتوجه إلى خيال الرجال دون غيرهم.
وقال: وادعى أنه الرسول عليه الصلاة والسلام، فكلف بتشريع الصيام، وأراد بصيامه أن يرضي اليهود الذين جاوروه في المدينة وهو الذي اخترع الصيام من نفسه.
ويقول في حروب الردة: لم تلبث أن اجتاحت بلاد العرب بأكملها ردود الردة، ولم يكن للدوافع الدينية في ذلك دور يذكر، وإنما أريد فقط التخلص من سلطة حكومة المدينة غير المريحة والدكتاتورية.
ويرجع السبب في قتال خالد بن الوليد بأنه اشتهى زوجة مالك بن نويرة فقتل زوجها ليتزوج زوجته.
ويقول: إن عثمان أصله ارستقراطي.
ومن مفترياته: إن الطقطقة العلمانية يعني: الطقطقة التي دخلت على عثمان هي التي جعلته ينحرف عن علي بن أبي طالب لأن علياً يريد أن يلغي اعتبارات عثمان، انظر الكلام.
ومن مفتريات غيرهم من المستشرقين قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم سافر مع عمه إلى سوريا مرة وتعرف في بصرى على راهب نسطوري وتلقى منه علم التوراة.
الرسول صلى الله عليه وسلم سافر للتجارة ورأى بحيرى الراهب، أما أنه تعلم فمعاذ الله، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52].(303/43)
جولد زيهر وآخرون
أما المستشرق جولد زيهر فهو يهاجم القرآن الكريم ويقول: فيه تناقض عجيب؛ فبينما يأتي بالقصة يناقضها في موضع آخر، فليس القرآن متجانساً، وليس فيه وحدة خيالية ولا منهجية، ولا تخرج فيه بقصة أو بقضية كاملة.
وقال مستشرق آخر ألماني: هضم الإسلام حق المرأة حيث أعطاها نصف نصيب الرجل من الميراث، وجعل الرجل يتزوج بأكثر من واحدة إلى أربع، وجعل الطلاق بيد الرجل، ومنح الرجل سلطة ليست للمرأة، فحرمها كثيراً من الحقوق التي يتمتع بها الرجل.
وقال المستشرق نوير متسائلاً: لماذا تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بهؤلاء النساء كلهن؟ إنها الشهوة الجنسية!
وقال هاونتو: إن الإسلام جمد المسلمين بعقيدة القضاء والقدر.
وقال بروكلمان: إن الحج مؤتمر الإسلام له فوائد، ولكن ما زالت فيه طقوس وثنية، ومن أهمها الكعبة وتقبيل الحجر الأسود، وهذه أمور وثنية.(303/44)
جورجي زيدان ورواياته
ومن المؤرخين المغرضين المتهالكين المحترقين النصراني جورجي زيدان، وهو لبناني، فإنه قد سل قلمه خبثاً وحقداً على الإسلام، شخصيته صنعتها المدارس التبشيرية في لبنان، رجل استخبارات بريطانية، وله علاقات وثيقة بالمستشرقين، ولذلك فإنه كان يردد مقولاتهم وافتراءاتهم، أسماء روايته: فتاة غسان، عذراء قريش، 17 سبعة عشر رمضان، غادة كربلاء، الحجاج بن يوسف، فتح الأندلس، شارل وعبد الرحمن أبو مسلم الخراساني، العباسة أخت الرشيد، الأمين والمأمون، أحمد بن طولون، عبد الرحمن بن ناصر، فتاة القيروان، صلاح الدين الأيوبي، شجرة الدر، الانقلاب العثماني، إلى غير ذلك من العناوين التي هاجم فيها الإسلام والذي أفرغ فيها حقده.
وأنا أحذر من مقالاته ومن كتبه؛ فهو من أعدا أعداء الإسلام، وقصصه وتمثيلياته ومسرحياته كلها سخف ووقاحة، يريد أن يهون من شأن الرسول عليه الصلاة والسلام، ويعتبره في مجموع كلامه أنه أعرابي بسيط أتى يريد الملك في جزيرة العرب، هذه بعض القضايا.(303/45)
كتب وكتب
.(303/46)
كتب يجب الحذر منها
وبقية مسألة وهي: إنني أحذر من بعض الكتب مثل: " دائرة المعارف الإسلامية " فقد صدر بعدة لغات حية يعاد طبعها في الوقت الحاضر، وقد ظهر بعض أجزاء الطبعة الجديدة.
ومنها كتاب: " موجز دائرة المعارف الإسلامية "، " دائرة معارف الدين والأخلاق " " المقالات المتعلقة بالمسلمين "، " دائرة معارف العلوم الاجتماعية "، " دراسة في التاريخ " من تأليف توينبي، " حياة محمد " من تأليف موير، " الإسلام " من تأليف جوم، " دين الشيعة " من تأليف مستشرق ألماني، " تاريخ شارل الكبير " من تأليف القس يوهاند، " الإسلام ظهر " بالفرنسية من تأليف هنري لامنس، " الإسلام تحدٍ للعقيدة " ظهر بالإنجليزية من تأليف المبشر زويمر، " دعوة المئذنة " ظهر بالإنجليزية من تأليف كنج كراج، " الإسلام اليوم " بالإنجليزية من تأليف آربري، " ترجمة القرآن " الترجمة الإنجليزية من وضع آربري وهو مختلط مختلف، " تاريخ مذاهب التفسير الإسلامي " ظهر بالألمانية، " تاريخ العرب " ظهر بالإنجليزية وطبع عدد مرات وبالعربية من تأليف فيليب حتي، " اليهود في الإسلام " ظهر بالإنجليزية من تأليف إبراهام كاش، " عقيدة الإسلام " ظهر بالإنجليزية من تأليف مستشرق ألماني الحلاج الصوفي الشهيد في الإسلام " تأليف لوي " الحرب والسلام في الإسلام " من تأليف مجيد قدوري، إلى غيرها من الكتب التي أحذر منها الناشئة والشباب إلا من وثق من نفسه رشداً وعلماً وثقافة.(303/47)
إعادة صياغة التاريخ وأهم كتبه
أيها الإخوة: هذه أغلاط في التاريخ، والذي أريد أن ألخصه في كلمات:
أولاً: أن التاريخ الإسلامي ما زال بحاجة إلى إعادة صياغة.
الثاني: إن أقرب التواريخ عندنا الآن:
" تاريخ الإسلام " للذهبي؛ الحافظ، العدل، الإمام، الثقة، فإنه مؤرخ الإسلام، وهو أقرب تاريخ إلى الصواب.
الثاني: " البداية والنهاية " لـ ابن كثير.
ونحو هذه الكتب، وإن أعظم وثائق التاريخ لهو القرآن الكريم ثم كتب السنة.
إن علينا أن نتثبت من الروايات التي يكتبها مثل هؤلاء الكتبة من المغرضين، أو من تتلمذ على المستشرقين، أو ممن يحمل فكراً معادياً للإسلام كملاحدة العرب وماركسيي العرب، وقوميي العرب، وبعثيي العرب، وثوريي العرب، فإن هؤلاء يجب علينا أن نعلم أنهم لن ينصحوا لله ولا لرسوله في كتابة التاريخ.(303/48)
ماذا يجب علينا مع الكتب
ثم إنا نطالب أنفسنا بقراءة سيرته عليه الصلاة والسلام من كتب السنة الصحيحة ونعرضها على أهل العلم.
ثم إني أطالب الجيل إذا رأوا مقولة مشوهة أو مستغربة فإن عليهم أن يراجعوا أهل العلم في ذلك، ويستشيروهم في صحتها وفي ثبوتها وألا ينشروها في الناس.
ونطالب أيضاً بإبادة هذه الكتب، ولا يسمح بنشرها وأن تزال من أفكار الأمة ومن ضمائر الجيل، حتى يبقى على صفاء عقدي وفكري ومنهجي، ويكون على استقامة تامة.
الأغلاط كثيرة وربما يكون هناك أوهام وموضوعات تعرض -إن شاء الله- بتفصيلٍ؛ فإن هذا أشبه بعموميات.
ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية.(303/49)
خاتمة حول الصوم والتصدق
قبل أن أنتهي هناك قضيتان:
القضية الأولى: اليوم المنصرم هو اليوم الثامن من المحرم فيما ظهر لكثير من العلماء وليس اليوم التاسع؛ فمن أراد أن يصوم فليصم غداً وبعد غد أو بعد غد وبعده.
التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر، ولا يظن أن من صام اليوم أنه قد خسر بل قد باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً، فهنيئاً لمن صام اليوم ولا يندم على ذلك ولا يأتينا بقصة الأعرابي التي كررناها كثيراً، ولا بأس من تكرارها.
أعرابي مرض له حمار، فنذر وعاهد الله إن شفى الله حماره أن يصوم سبعة أيام، فشفى الله حماره فصام سبعة أيام، فلما انتهت السبعة مات الحمار.
فقال: يا ربِّ تفعل كذا، لو أمت الحمار قبل أن أصوم، والله لأحتسبنها من رمضان، فصام من رمضان 23 يوماً.
ذكر هذه القصة ابن الجوزي في كتاب " الحمقى والمغفلين " فلا يندم أحد ولا يحتسب هذا اليوم من رمضان، بل يحمد الله أن أعانه على صيام هذا اليوم، لأن بعض الناس عندما قلت: اليوم ثمانية.
قالوا: الله المستعان! أي: لأنه صام اليوم.
القضية الثانية أيها الإخوة: عرض عليَّ بعض الأخيار أن عليه ديوناً وعليه وله متطلبات، وقد اطلعت على أحواله، وأصيب بحادث سيارة هذا اليوم، أذهب الحادث سيارته، ونجا هو وأهله، وليس عنده شيء.
مساعدة المسلم أمر مهم، وأنا لا أذكر اسمه فهو متعفف، لكن قضية أن نقف مع المسلمين وأن نقدم العون لهم أمر مطلوب وواجب شرعي، فمن عنده خير وأراد أن يساهم في الخير فليضعها عند الإخوة الذين بالباب.(303/50)
الأسئلة
أما الأسئلة هذه الليلة فأظنها سوف تكون بعيدة؛ لأن موضوع الحديث كان غريباً أو بعيداً عن مسار المعهود.(303/51)
وليد الأعظمي وتنقيح الأغاني
السؤال
يقول: أريد أن تنوه بكتاب السيف اليماني في نحر الأصفهاني لـ وليد الأعظمي؟
الجواب
وهذا كتاب لا بأس به نبه على الخزعبلات التي في كتاب " الأغاني " لـ أبي الفرج الأصبهاني.(303/52)
وصية لمدرسي التاريخ
السؤال
كيف توصي مدرس التاريخ في مدارسنا؟
الجواب
أوصيهم بتقوى الله، وأوصيهم كذلك أن يعرضوا التاريخ الإسلامي عرضاً إسلامياً مؤمناً، وأن يربطوا بين الكتاب والسنة وبين التاريخ؛ فإن في التاريخ عبر لمن أراد أن يعتبر، ولا يلقونه كمعلومات مجردة فحسب.
هذه أهم القضايا في هذا الدرس هذه الليلة.
وأسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية والعون والسداد.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(303/53)
عبر ودروس من وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام
إن الموت حقيقة لا بد منها، فقد مات خير البشر صلى الله عليه وسلم، وموته ليس كموت أحد من الناس، لذلك كان لا بد أن ننظر في موته ونأخذ منه العبر والعظات، لنستفيد منها في واقع حياتنا، لذلك فقد تحدث الشيخ حفظه الله عن مرضه وموته صلى الله عليه وسلم، ثم أعقب ذلك بذكر بعض العبر والدروس المستفادة من هذا الحدث الجلل.(304/1)
أعظم مصيبة موت النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، هدى الله به الإنسانية، وأنار به أفكار البشرية، وزعزع به كيان الوثنية، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، وجاهد في الله ونصح، وزهد إلا فيما عند الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
لا إله إلا الله {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] لا إله إلا الله {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] لا إله إلا الله كتب الفناء على كل مخلوق واستأثر بالبقاء.
اللهم لك الحمد، أنت الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق.
أمَّا بَعْد:
فو الله إني لمتحير كيف أدخل إلى هذا الموضوع، ومن أنا أمام هذا الموضوع المدهش المحير المبكي؟! إنه موضوع وفاته عليه الصلاة والسلام، إنه موضوع انتقاله إلى الرفيق الأعلى عليه أفضل الصلاة والسلام، وإني لأتقاصر حقارة أن أتحدث في هذا الموضوع، ولكن لا جدوى إلا بحديث يذكرنا بذاك الحدث الجلل، وكل حدث بعد وفاته هين سهل بسيط يسير.
قال الله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] إطلاق لا تقييد فيه، وعموم لا خصوص فيه {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] فليبن أهل البغي والعدوان بروجاً من التحسين إن شاءوا، فو الله ليموتن ولو كانوا في بروج مشيدة، والموت وما أدراك ما الموت؟!
مذهل، سماه الله مصيبة فقال: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:106] وكان السلف إذا آنسوا من قلوبهم قسوة تذكروا الموت والقدوم على الله وما بعد الموت، فمات كل عضو من أعضائهم مكانه، وأثر عن ابن سيرين رضي الله عنه وأرضاه أنه كان إذا ذكر الموت وسأله سائل قال: والله ما أدري ماذا تقول، طاش عقلي من ذكر الموت.
وقال الحسن البصري رحمه الله: [[فضح الموت الدنيا، فلم يدع لذي لب فرحاً]].
فإذا كان الموت هو مصيبة، وإذا كان الانتقال إلى الله هو رزية؛ فما بالكم يا أجيال محمد صلى الله عليه وسلم، ويا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم بحادث وفاته عليه الصلاة والسلام؟!
بلَّغ الرسالة، وجاهد في الله، وقام الليالي منذ قال الله له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:1 - 2] فو الله ما ارتاح ثلاثاً وعشرين سنة، قام فما ارتاح، ووقف فما جلس، سهر وعانى الجلاد والجهاد وفي توصية العباد، ونصحهم إلى الله عز وجل، ولما وقف بـ عرفة حوله أحبابه ومحبوه وأصحابه وأقربوه، كلهم يرى فيه القدوة والأسوة، وكلهم يرى فيه الأب الحاني، والأخ العاطف، والمشفق الناصح، والصادق الأمين الذي أنقذهم الله به من الوثنية، وقف وأنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عليه قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فتلاها على الناس، وعلم الناس أن فحوى الخطاب ولسان الحال يقول: إنك ميت فتأهب، وإنك مرتحل فتجهز، وإنك منتقل فودع أصحابك، فيقول عليه الصلاة والسلام بعدها: {يا أيها الناس: لعلي لا أراكم بعد هذا العام} ووالله ما رآهم بعد ذاك العام، فإذا البكاء وهم واقفون في هذا الصعيد، وإذا دموع الحزن تنهمر
إذا اشتبهت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
وعاد عليه الصلاة والسلام، قال ابن كثير رحمه الله: واستقر الركاب الشريف سنة إحدى عشرة في المدينة عائداً من من حجة الوداع، ومن موادعة الناس، ومن ذلك المؤتمر الذي استشهد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه، واستشهد الناس على أنه بلغ الرسالة فما كتم شيئاً، وأدى الأمانة فما ضن بشيء، فنشهد بالله ونشهد لله ونشهد في يومنا هذا إلى أن نلقى الله أنه ما كتم شيئاً، ولا هضم شيئاً، ولا ضن بشيء، بل بلغها كالشمس في واضحة النهار.
عاد إلى المدينة صلى الله عليه وسلم، وأخبره الله الخبر، وعلم أن كل من عليها فان، كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] ويقول جل ذكره: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].(304/2)
مرض النبي صلى الله عليه وسلم
ويوم الخميس، وما أدراك ما يوم الخميس؟!
يوم زار المرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ذكر هذا اليوم شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: بأبي هو وأمي زاره المرض يوم الخميس.
نعم، بأبي هو وأمي، وليت ما أصابه أصابنا، فإن مصابه رزية على كل مسلم، ولكن رفعاً لدرجاته وتعظيماً له عند مولاه.
ذكر ابن كثير بسند جيد قال: كان ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يقلب الحصى في المسجد الحرام ويقول: [[يوم الخميس، وما يوم الخميس -وهو يبكي- يوم زار المرض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم]].
فديناك من حب وإن زادنا كرباً فإنك كنت الشمس في الشرق أو غربا
وكان الصحابة يفدونه صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد} حيث أحبابنا وأجدادنا وآباؤنا وإخواننا، الذين نمر عليهم صباح مساء، ومن لم يعتبر بالأموات والمقابر فبماذا يعتبر؟ ومن لم يتعظ بمن يودع ومن يحمل إلى المقبرة صباح مساء فبماذا يتعظ؟
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يومٍ واعظ الموت يندب
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعل الردى مما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخرب
وعاد عليه الصلاة والسلام وهو معصوب الرأس، فتقول عائشة وقد فجعت رضي الله عنها وأرضاها: {وارأساه! قال عليه الصلاة والسلام: بل أنا وا رأساه} وصدق صلى الله عليه وسلم، فإن صداع الموت قد وصل إلى رأسه الشريف ثم يلاحق، وهذه رواية البخاري فيقول: {والله لولا أن يتمنى متمن أو يدعي مدع لأرسلت إلى أبيك وإلى أخيك فأكتب لهم كتاباً} أي: أبا بكر وعبد الرحمن بن أبي بكر يكتب لهم كتاب الوصاية، والله أعلم بذاك الكتاب، ثم لما أحس صلى الله عليه وسلم بدنو الأجل، وهذا عند أحمد في المسند بسند حسن عن أبي مويهبة قال: قال لي صلى الله عليه وسلم في الليل الدامس: {يا أبا مويهبة! أسرج لي دابتي، فأسرجت له دابته عليه الصلاة والسلام، فركبها فذهبت معه حتى أتى الشهداء في أحد، فسلَّم عليهم سلام المودع، وقال: أنا شهيد عليكم أنكم عند الله شهداء، ثم قال: يا أبا مويهبة! خيرت بين البقاء وأعطى مفاتيح خزائن الدنيا وبين لقاء الرفيق الأعلى، قال: أبو مويهبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله! خذ مفاتيح الدنيا، وأطل عمرك في الدنيا ما استطعت، ثم اختر الرفيق الأعلى، فقال عليه الصلاة والسلام: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى}.
وعند البخاري في الجنائز من حديث عقبة بن عامر قال: {خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما وصل الشهداء في أحد، فسلَّم عليهم سلام المودع، ثم قال: يا أيها الناس: والله ما أخاف عليكم الفقر، ولكن أخاف أن تفتح عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم} وصدق عليه الصلاة والسلام، فو الله ما قطعت أعناقنا إلا الدنيا، وما أفسد ديننا إلا الدنيا، وما ذهب بأخلاقنا وآدابنا إلا الدنيا.(304/3)
على فراش الموت
ووقع صلى الله عليه وسلم على فراش الموت، وعصب رأسه، وأخذت الحمى تنفضه عليه الصلاة والسلام، لكن جاء عند الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يصيب المؤمن هم ولا غم ولا حزن ولا مرض، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه} ويقول عليه الصلاة والسلام كما في كتاب الطب والمرض للبخاري: {إن المؤمن كالخامة من الزرع، لا تزال الريح تفيئها يمنة ويسرة، وأما المنافق كالأرزة، لا تزال قائمة منتصبة حتى يكون انجعافها مرة واحدة}.
المؤمن يحم، المؤمن يصاب ويمرض ويجوع، لكن المنافق يسمن ويترك حتى تأتيه قاصمة الظهر مرة واحدة.
ولا ذنوب له صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكن رفعت درجاته عليه الصلاة والسلام، جاء في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك -أي: في مرض موته- فمسسته بيدي- بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- فقلت: يا رسول الله! إنك توعك وعكاً شديداً.
قال: نعم.
إني أوعك كما يوعك رجلان منكم.
قلت: ذلك بأن لك الأجر مرتين يا رسول الله.
قال: نعم.
ثم قال: ما من مؤمن يصيبه هم أو غم أو حزن أو مرض إلا كفر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها}.(304/4)
خروج النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته
ثم خرج بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام على الناس، يقول ابن عباس كما جاء من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة في الصحيحين: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، وهو عاصب على رأسه بعصابة دسمة، -وقيل: سوداء- وهو بين علي والعباس، على كتفيهما رضوان الله عليهما، وأقدامه من المرض تخط في الأرض، فأجلساه على المنبر، فلما رأى الناس قال: يا أيها الناس: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته زاد البيهقي كما قال ابن كثير: يا أيها الناس: إني ملاقٍ ربي، وسوف أخبره بما أجبتموني به، يا أيها الناس: من سببته أو شتمته أو أخذت من ماله فليقتص مني الآن قبل ألا يكون درهماً ولا ديناراً، قال أنس: فنظرت إلى الناس وكل واضع رأسه بين رجليه من البكاء، ثم قال عليه الصلاة والسلام: يا أيها الناس: اللهم من سببته أو شتمته أو أخذت من ماله أو ضربته فاجعلها رحمة عندك} وعند أبي داود: {إني أخذت عند ربي عهداً أيما مسلم شتمته أو سببته أو ضربته، أن يجعلها كفارة له ورحمة} فاستبشر الناس بهذا، وأخذوا يقولون: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! وعاد إلى فراشه، وكان يسمع الأذان طيلة تلك الأيام، من يوم الخميس إلى يوم الإثنين من شهر ربيع الأول، فكان صوت الأذان حبيباً إلى قلبه، أحب الأصوات إلى أذنه (الله أكبر) يوم يردده بلال صافياً صادقاً قوياً ينبعث إلى قلب من أتى بكلمة (الله أكبر) ويوم يردد لا إله إلا الله فتنبعث إلى قلب من أتى بلا إله إلا الله.
كان عليه الصلاة والسلام كما عند أبي داود يقول: {أرحنا بالصلاة يا بلال}
فقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترقَ أبواب الجنان الثمانيا(304/5)
أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أن يصلي بالناس
وفقد عليه الصلاة والسلام أنس الجماعة، وجمال الصفوف يوم تسجد وراءه، يوم يركع وراءه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والسادة القادة الشهداء العلماء الأبرار، فقام عليه الصلاة والسلام ليصلي، وآذنه بلال بالصلاة، فقام صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين فقال: {ضعوا لي ماءً في المخضب -وهو المغتسل- فاغتسل صلى الله عليه وسلم، فقام لينوء فما استطاع، فقال: ضعوا لي ماء في المخضب، فلما اغتسل قام لينوء فما استطاع، -كان يسقط على فراشه بأبي هو وأمي- فقال في آخر مرة، وهي الخامسة كما في الصحيحين: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
وانبعث الصوت إلى المسجد، وأتى بلال، فقالوا: يا بلال! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك: مر أبا بكر فليصل بالناس، فبكى بلال وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، يا أبا بكر صل بالناس}.
وعند ابن كثير في السيرة: قال أبو بكر متواضعاً محتقراً نفسه رضي الله عنه وأرضاه: يا عمر! صل بالناس.
قال: بل أنت صل بالناس.
وورد بسند جيد: {أن عمر صلى فريضة، والرسول صلى الله عليه وسلم مريض، فلما سمع صوته قال: لا.
يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر، يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر، يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر} فأين دعاة البدعة الذين يقولون: إن أبا بكر ليس هو الموصى إليه، وأن الوصية كانت إلى غيره، فقد رضيه صلى الله عليه وسلم لديننا وصلاتنا، أفلا يرضاه لمعاملاتنا ودنيانا؟!
كذب الأدعياء، وكذب الدجاجلة، إن هو إلا زور افتروه، وكذب دجلوا به على الأمة.
وتنشَّط عليه الصلاة والسلام ذات غداة في صلاة الظهر ووجد من نفسه خفة، فقام ليصلي مع الناس، وقام عليه الصلاة والسلام معتمداً على الفضل ورجل آخر، حتى أدخل المسجد صلى الله عليه وسلم، فوضع عن يسار أبي بكر، فجلس صلى الله عليه وسلم يُكبر وأبو بكر يكبر بتكبيره، ويسجد فيسجد أبو بكر لسجوده، والناس يسجدون بعد أبي بكر، فلما سلم عليه الصلاة والسلام رقى المنبر، فلما رقى المنبر كشف عن وجهه الشريف الذي ضمر بالحمى، واصفر بالمرض، ورق بالألم، فقال للناس: {يا أيها الناس: إني أنهاكم عن الشرك فلا تشركوا بالله} كما أوردها ابن كثير، ثم قال وهو على المنبر، بل كرر هذا الحديث ثلاث مرات: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} يحذر من الشرك، ثم قال: {اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد} ثم أوصاهم بالتوحيد، فكان حرصه على التوحيد في أول الطريق، وفي وسط الطريق، وفي آخر الطريق.(304/6)
موته صلى الله عليه وسلم
ثم عاد عليه الصلاة والسلام، وفي آخر يوم -يوم الإثنين- وما أدراك ما يوم الإثنين! يوم قبض فيه رسول البشرية، ومعلم الإنسانية، وهادي البرية، يوم توفاه الله إليه ليكرمه جزاء ما قدم للأمة، يوم قبضه الله، قال أنس: [[ظننا أن القيامة قامت يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم]] أي مصيبة أكبر من مصيبة وفاته على الأمة؟! أي حدث وقع في تاريخ الإنسان يوم توفي خير إنسان وأفضل إنسان عليه الصلاة والسلام؟! ولكن نقول الآن وبعد الآن ويوم نلقى الرحمن: إنا لله وإنا إليه راجعون! {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].
قال أنس رضي الله عنه وأرضاه كما في الصحيح: {كشف صلى الله عليه وسلم لنا ونحن في الصلاة، فنظرنا إلى وجهه وهو في حجرة عائشة، وكأن وجهه ورقة مصحف، فلما رآنا صفوفاً كدنا نفتتن} قال أهل العلم: نفتتن، أي: استبشاراً وفرحاً، ظنوا أنه قد عاد إلى صحته، وظنوا أنه قد تشافى من مرضه، ولكنه يتبسم
يا لقلبي ويا لشعري ما لهذا التبسم، ومالهذا التعجب! إنه -إن شاء الله- تبسم لأنه رأى الصفوف منتظمة، ورأى الدعوة حية، ورأى الرسالة منتصرة، ورأى لا إله إلا الله مرتفعة، ورأى أبا بكر يصلي بالناس، ورأى دعوة التوحيد قد ضربت بجرانها في الجزيرة، فحق له أن يتبسم.
يتبسم لأنه ترك جيلاً مؤمناً، وكتيبة موحدة، وترك جيشاً يوالي لله ويعادي في الله، ويموت من أجل الله، ثم رد الستار، ولكنه تبسم أخير ومنظر أخير، ما بعده إلا الموت، ثم أتى عليه الصلاة والسلام فمرضته عائشة رضي الله عنها وأرضاها، جلس عليه الصلاة والسلام ووضع رأسه الشريف في حجرها، ويا لسعادة الزوجة بزوجها! ويا لسعادة الحبيبة بحبيبها! ويا لفرحتها بمؤنسها وبرجلها في آخر عمره وهو يلصق رأسه بحجرها رضي الله عنها وأرضاها! كانت تقول: {توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري} وفي الصحيح قالت: {توفي بين حاقنتي وذاقنتي} فأخذت تتلو عليه القرآن، وتعوذه بالمعوذات؛ لأنه أصبح لا يستطيع أن يقرأ أو يتلو.
اشتد عليه الكرب عليه الصلاة والسلام، وفي تلك الفترة دخل عليه أسامة بن زيد حبه وابن حبه، كان مولى، ولكن الحب والود في الله، فما استطاع عليه الصلاة والسلام أن يكلم أسامة، وقد جهز له جيشاً يرسله إلى البلقان، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه، وما سمعوا له كلاماً كما في السيرة يرفعها ثم يردها، قال أسامة: فعلمت أنه يدعو لي صلى الله عليه وسلم.
ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر، والرسول صلى الله عليه وسلم في سكرات الموت، ومع عبد الرحمن سواك من أراك يستاك به، وهو صهره ورحيمه، فنظر إلى السواك؛ لأنه طيب، فمه طيب، ونفسه طيب، وكلامه طيب، وحياته طيبة، ومماته طيب، قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: {فعلمت أنه يريد السواك، فأخذته فقضمته ثم غسلته ودفعته إليه صلى الله عليه وسلم، فاستاك كأشد ما يستاك في الحياة صلى الله عليه وسلم} وأخذ يدير السواك بقوة، ليلقى الله طيباً، فإن حياته طيبة، ووفاته طيبة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
ثم أعاد صلى الله عليه وسلم قضية التوحيد ورسالة التوحيد -يا أهل التوحيد- وهو في سكرات الموت، كان يأخذ خميصة فيبلها بالماء، ويجعلها على وجهه ويقول: {لا إله إلا الله، اللهم هوِّن عليَّ سكرات الموت، لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، لا إله إلا الله، اللهم هوِّن عليَّ سكرات الموت} ثم قال صلى الله عليه وسلم: {لعن الله اليهود والنصارى -مرة ثانية- اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وعند مسلم: {قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتخذوا قبري مسجداً، فإني أنهاكم عن ذلك} فهو يوصي بالتوحيد صلى الله عليه وسلم.
ثم من كمال إشفاقه أوصى بالصلاة وهو في سكرات الموت أين الذين يوصون بالقصور والفلل؟
أين الذين يوصون بالأموال والمناصب؟ أين الذين يوزعون التركات؟
ها هو سيد البشر وخير البشر صلى الله عليه وسلم يوصي بالصلاة، ويقول وهو في الرمق الأخير: {الله الله في الصلاة وما ملكت أيمانكم، الله الله في الصلاة وما ملكت أيمانكم، الله الله في الصلاة وما ملكت أيمانكم} ثم يشير بسبابته صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، فترتفع روحه إلى الحي القيوم، إنا لله وإنا إليه راجعون! صلى الله على محمد رسوله، نشهد بالله شهادة ندخرها ليوم العرض على الله، أنه ما مات إلا وقد دلنا على كل خير، وحذرنا من كل شر، وبلغ الرسالة، ونشهد أنه أدى الأمانة.
وانصرع صلى الله عليه وسلم في ذاك المصرع، الذي لا بد أن يصرعه كل واحد منا، فجهز نفسك وقدم لها، وتهيأ لذاك المصرع، فو الله لتصرعَن يوماً ما، ووالله لتأخذن روحك خلسة، فتهيأ لذاك المصرع، أعاننا الله وإياك وكل مسلم عليه.(304/7)
موقف الصحابة من موته صلى الله عليه وسلم
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت، وبقي جثمانه الشريف في غرفة عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ولكن ماهو حال الصحابة؟
فداً لك من يقصر عن فداك فلا ملك إذاً إلا فداكا
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
وقف الصحابة في موقف لا يعلمه إلا الله، وفي دهشة لا يعلمها إلا الحي القيوم، كلهم يكذب الخبر، ولا يصدق إلا من أتاه اليقين
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
وقفوا حول مسجده صلى الله عليه وسلم، وأغلق بابه الشريف على جثمانه، وبقيت عائشة رضي الله عنها وأرضاها تبكي مع النساء، أما السكك فقد امتلأت بالبكاء والعويل والنحيب، وأما عمر رضي الله عنه وأرضاه فوقف عند المنبر يسل سيف الإخلاص والصدق الذي نصر به دين الله، ويقول: يا أيها الناس: من كان يظن أن رسول الله قد مات، ضربت عنقه بهذا السيف.
ولكن البكاء غلب والنحيب والعويل زاد، أما أبو بكر فكان غائباً في ضاحية من ضواحي المدينة في مزرعته، ما يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوفى في ذلك اليوم، بأبي هو وأمي! فسمع الخبر فأتى على فرسه، وقد ثبته الله يوم أن يثبت أهل طاعته، وقد سدده الله يوم أن يسدد أهل التوحيد.
فأتى بسكينة ووقار، كان رجل المواقف، ورجل الساعة، وكان اختياره صلى الله عليه وسلم موفقاً في إمامة أبي بكر، فأتى وإذا الناس لا يزدادون من البكاء إلا بكاء، ولا من العويل إلا عويلاً، ولا من النحيب إلا نحيباً، فقال: ماذا حدث؟ قالوا: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات رسول الله، أتدرون ماذا قال؟
قال: الله المستعان! الله المستعان نلقى بها الله، والله المستعان نعيش بها لله، والله المستعان نتقبل بها أقدار الله، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! إنها كلمة الصابرين حين يصابون بصدمات في الحياة، إنها كلمة الأخيار حينما تحل بهم الكوارث من أقدار الله وقضاء الله.
ثم دخل وشق الصفوف في سكينة على فرس له، وبيده عصا، ويشق الصفوف بسكينة ووقار، حتى وصل إلى البيت ففتح الباب، ثم أتى إليه صلى الله عليه وسلم، فكشف الغطاء عن وجهه، ثم قبله وبكى ودمعت عيناه الشريفتان على وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: [[بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما أطيبك حياً وما أطيبك ميتاً، أما الموتة التي كتبت عليك فقد ذقتها، ولكن والله لا تموت بعدها أبداً، والله لا تموت بعدها أبداً، والله لا تموت بعدها أبدا ً].
ثم خرج رضي الله عنه وأرضاه إلى الناس وعصاه بيده، فأسكتهم، وقال لـ عمر: يـ ابن الخطاب! اسكت، فلما سكت الناس، وهم ينظرون إلى القائد الجديد الملهم، إلى هذا الإمام الموفق، إلى هذا الخليفة الراشد، وهو يتخطى الصفوف حتى صعد المنبر، فيستفتح خطابه بحمد الله والثناء على الله، فالمنة لله والحمد لله، والأمر لله من قبل ومن بعد، ثم يقول: [[يا أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]]] فكأن الناس سمعوها لأول مرة، وكأنها ما مرت على أذهانهم، ثم عاد رضي الله عنه وأرضاه.
أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد أصيبوا بمصيبة في الصميم
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
ثوى طاهر الأدران لم تبق بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
عاد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، كلهم يتلمح مصلاه صلى الله عليه وسلم، كلهم ينظر إلى ممشاه وإلى مجلسه وإلى ذكريات كلامه، فما أصبح يرى ذاك الرسول صلى الله عليه وسلم، وما أصبح يعيش تلك الأيام، يقول جابر كما صح عنه: [[ما دفنَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفضنا أيدينا من تراب قبره حتى أنكرنا قلوبنا]]
وأورد صاحب مجمع الزوائد عن عثمان رضي الله عنه وأرضاه، [[أن p=1000029> عمر مر به فسلم عليه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عليه السلام، فذهب عمر إلى أبي بكر فاشتكى عثمان وقال: سلمت عليه فلم يرد علي السلام، فاستدعاه أبو بكر، وقال: يا عثمان! سلَّم عليك أخوك عمر فلم ترد عليه السلام، فقال: يا خليفة رسول الله! والله ما علمت أنه سلَّم علي قال: لعلك داخلك ذهول أو دهش من وفاته صلى الله عليه وسلم قال: إي والله، فجلسوا يبكون]].
وفي الصحيحين من حديث أنس قال: قال أبو بكر لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه: يا عمر! اذهب بنا إلى أم أيمن -هذا بعد وفاة رسول الله، وهي مولاة كانت مرضعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عجوز مسنة كان يزورها صلى الله عليه وسلم في حياته- قال: اذهب بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان صلى الله عليه وسلم يزورها يا للتواضع! يا للتمسك بالسنة! يا للحرص على الأثر! فذهبا رضوان الله عليهما، فلما وصلا إلى أم أيمن بكت، فقالا: ما يبكيك يا أم أيمن؟
قالت: أبكي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: والله إني أعلم ذلك، ولكن أبكي على أن الوحي انقطع من السماء.
فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان رضوان الله عليهما.(304/8)
مبايعة أبي بكر بالخلافة
وقبل أن يدفن جثمانه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وإذا بضجة في سقيفة بني ساعدة، وسمع الخبر أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، وإذا الأنصار قد اجتمعوا يتشاورون في الخلافة، فذهب الثلاثة إليهم، قال عمر: [[وقد زوَّرت كلاماً في صدري لأقوله -كما في البخاري - لأن أبا بكر كان مشغولاً، فأسكتني أبو بكر، ثم تكلم، فو الله ما ترك كلمة إلا جاء بأحسن منها، فقال رضي الله عنه وأرضاه: يا معشر الأنصار! آويتم ونصرتم وكفيتم وواسيتم، فجزاكم الله عن الإسلام وعن المسلمين خير الجزاء، والله ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال طفيل الغنوي:
جزى الله عنا جعفراً حيث أشرفت بنا نعلنا في الشارفين فضلت
هُمُ خلطونا بالنفوس وألجئوا إلى غرفات أدفأت وأظلت
]]
فبايعوه بالخلافة وعادوا إلى جثمان الحبيب صلى الله عليه وسلم.(304/9)
تغسيل النبي صلى الله عليه وسلم
اختلفوا أين يدفنونه عليه الصلاة والسلام، وإن كان للبقع وللأراضي أن تتمنى جثماناً تساكنه، فلسان حال التراب أن يتمنى جثمانه الشريف صلى الله عليه وسلم، فلما اختلفوا قال أبو بكر: يا أيها الناس! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن النبي إذا مات أو قبض دفن في المكان الذي قبض فيه} ولكن قبل الدفن أتى التغسيل، وأتت مراسيم الغسل، وكان للعباس وللفضل ولـ علي شرف تغسيله صلى الله عليه وسلم، قال علي رضي الله عنه: اختلفنا في كيفية تغسيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقي علينا النعاس، ونحن بالماء حوله صلى الله عليه وسلم، حتى نمنا وإن لحية أحدنا إلى صدره، فسمعنا هاتفاً يقول: {اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوق ثيابه} وهذا سند صحيح، فغسلوه من فوق ثيابه، طيباً مباركاً مهدياً، عليه السلام يوم ولد، وعليه السلام يوم بعث، وعليه السلام يوم مات، وعليه السلام يوم يبعث حياً.(304/10)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
وأما الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فعند البيهقي بسند لا بأس به، قال عليه الصلاة والسلام: {إذا وضعتموني على شفير القبر فدعوني ساعة، فإن الملائكة سوف تصلي علي، ثم صلوا علي زرافات ووحداناً، ثم صلوا علي في أي مكان، فإن صلاتكم تبلغني} فصلى الله عليه وسلم ما دامت الأرض، وصلى الله عليه وسلم ما دام في الأرض إسلام ومسلمون، وصلى الله عليه وسلم ما تعاقب الليل والنهار، وما فاح شذا الأزهار، وما تدفقت مياه الأنهار، جزاء ما قدم للأمة، فإنه صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي.
قالوا: يا رسول الله! كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ -أي: بليت- قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} فجسده في قبره سليماً عليه الصلاة والسلام، وروحه عند الله، ولكنه لا يملك في قبره ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
لا يطلب منه الدعاء، ولا يتوسل به وهو في قبره، ولا يستشفع به بعد موته في قبره، ولا ترفع إليه الحوائج ممن يأتي إلى قبره، بل هو في قبره عليه الصلاة والسلام، لم تأكل الأرض جسده الشريف عليه الصلاة والسلام دائماً وأبداً سرمداً.
نعم دفن عليه الصلاة والسلام بعدما صلى عليه الناس زرافات ووحداناً، وذكر الشوكاني في نيل الأوطار: أن من صلى عليه صلى الله عليه وسلم يبلغون سبعة وثلاثين ألفاً من الرجال والنساء، من المهاجرين والأنصار، ما كان لهم إمام يصلي بهم، بل صلى كل إنسان منهم على حدة، وكان في الصف الأول أبو بكر وعمر، حفظ من دعائهما رضي الله عنهما أنهما قالا: [[صلى الله وسلم عليك يا رسول الله، نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حتى أتاك اليقين]].(304/11)
دفنه صلى الله عليه وسلم
وضع في قبره عليه الصلاة والسلام، ورد عليه التراب، ودفن كما يدفن الإنسان، ما خلَّف عليه الصلاة والسلام درهماً ولا ديناراً، ولا عقاراً ولا قصوراً ولا مناصب، وإنما ذهب كما أتى، ذهب سليم اليد، أبيض الوجه، طاهر السريرة، ولكن خلَّف ديناً خالداً وخلَّف رسالة، مات الداعية ولكن ما ماتت الدعوة، مات الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن ما ماتت الرسالة، مات البشير النذير، ولكن ما ماتت البشارة والنذارة، ترك لنا تراثاً أيما تراث، قرآناً حكيماً {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] وسنة طاهرة للمعصوم فيها صلاح العبد في الدنيا والآخرة.(304/12)
تركته صلى الله عليه وسلم
وعادوا إلى تركته ولا تركة له فيا من جمع الأموال ولم يقدم ما ينفعه عند الواحد القهار! هذا خيرة خلق الله، وهذا صفوة عباد الله، ذهب والله ما تلوث منها بشيء، يمر عليه الشهر بعد الشهر ولا يوقد في بيته نار، ويمر عليه ثلاثة أيام وهو في جوعه صلى الله عليه وسلم، فالله المستعان
كفاك عن كل قصر شاهق عمد بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيم
إذا ملوك الورى صفوا موائدهم على شهي من الأكلات والأدم
صففت مائدة للروح مطعمها عذب من الوحي أو عذب من الكلم
ذهب عليه الصلاة والسلام وبقي بيته من طين، وبقيت بعض الدراهم ليست له، أنفقت في الصدقات وفي سبيل الله، وأتى أبو بكر فقال لقرابته ولبناته صلى الله عليه وسلم لما طلبوه الميراث، قال: {سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنا لا نورث، ما تركناه صدقة} وعند أحمد في المسند: {إنا لا نورث ما تركنا صدقة} فما ترك صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولكن ترك هذا الدين، اجتماعنا بهذه الوجوه الطيبة النيرة حسنة من حسنات، وهذه المساجد والمنابر حسنة من حسنات رسالته، وهذه الدعوة الخالدة والرسالة القائمة فضل من فضل الله ثم من فضله صلى الله عليه وسلم.
نعم.
مضى إلى الله صلى الله عليه وسلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وحسبنا الله على كل ما يصيبنا! فإنه قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يا أيها الناس: من أصيب بمصيبة فليتعز بي، فإني عزاء لكل مسلم} إي والله
وإذا أتتك من الأمور بلية فاذكر مصابك بالنبي محمد
إذا مات ابنك فاعلم أن ابنك لا يكون أحب في قلبك إن كنت مؤمناً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن مات أبوك أو أمك أو قريبك أو صفيك، فاعلم أنهم لا يعادلون ذرة في ميزان الحب مع حبه صلى الله عليه وسلم، تذكر أنه مات، وأنه صلى الله عليه وسلم عند ربه، يستشهده الله علينا هل بلغنا ما علينا؟ ويستشهده الله علينا هل سمعنا وأطعنا أم لا؟ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41].(304/13)
عبر من وفاته صلى الله عليه وسلم
يا من أراد العبرة من وفاته صلى الله عليه وسلم! فأعظم عبرة أن تتجه وأن تستقيم على مبدأ لا إله إلا الله، وأعظم موعظة وأعظم نصيحة أن تأخذ ميراثك وحظك من تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت تركته أموالاً، ولا سيارات، ولا قصوراً، ولكن قرآن وسنة، قال أبو هريرة لأهل السوق وهم في المدينة: [[يا أهل السوق! تتبايعون بالدرهم والدينار، وميراث محمد صلى الله عليه وسلم يقسم في المسجد، فهرعوا إلى المسجد، وتسابقوا إلى المسجد؛ فرأوا حلقات الذكر، ورأوا القرآن والحديث -ومسائل تطرح، مجلس مثل هذا المجلس العامر- فقالوا: أين التركة يا أبا هريرة؟ أين الميراث يا أبا هريرة؟
قال: ثكلتكم أمهاتكم؛ وهل ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم درهماً أو ديناراً، إنما ترك العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر]].
فأكبر عبرة أن تنقذ نفسك من غضب الله، باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
والعبرة الأخرى: أن تعلم أن قضية التوحيد أخطر قضية في حياة الإنسان، كان ينادي بها صلى الله عليه وسلم قائماً وقاعداً وعلى جنبه، وفي حياته وفي مماته، في سكرات الموت يقول: لا إله إلا الله، وفي سكرات الموت يقول: {لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد}.
والعبرة: أن الرسالة باقية، وأن هذا الدين لا يموت، قد يمرض أهله، ولكنه لا يمرض، لا تصيبه حمى أبداً، لأنه دين محفوظ من عند الله، قال الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وعبرة أخرى: وهي أن الدنيا تافهة وحقيرة، فعجباً لعبادها! وعجباً للساجدين لها! وعجباً لمن يركع عند أبوابها! أما اتعظوا برسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أما أخذوا درساً من رسالته؟ أما سمعوا ما فعل يوم ما ترك إلا الجميل والعمل الصالح؟
لا نقول للناس: اتركوا الأموال، واخرجوا من القصور، ولا تركبوا السيارات، ولكننا نقول: اسكنوا في القصور، واجمعوا الأموال، واركبوا السيارات، ولكن لا تنسوا نصيبكم من الحي القيوم، اذكروا حفرة ضيقة، اذكروا لقاءكم عند الله يوم تأتون حفاة عراة غرلاً بهماً، اذكروا يوم يقول الله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94]:
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
وعبرة أخرى: أن المسلم لا يهمه ولا يشغله عن الله شاغل، ومن شغله عن الله شاغل شغله الله، وطبع الله على قلبه وأنساه ذكره، فالرسول صلى الله عليه وسلم على كثرة أعماله وأشغاله، وعلى كثرة ما ينوبه من أغراض وأعراض ما نسي الله لحظة واحدة، حتى في سكرات الموت يقول: لا إله إلا الله! ويوصي بحقوق الله ويقول: {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم} فالله الله في ذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وعبرة أخرى تؤخذ من سياق وفاته صلى الله عليه وسلم: وهي أن الموحد حقاً لا يحتج بالأحداث، لأنه يعيش لله ويموت لله ويبعث إلى الله، فـ أبو بكر ما خارت قواه، وما انهد ولا انهزم ولا فشل في ذاك الموقف، بل علم أنه يعبد الله حياً لا يموت، وأنه يعبد باقياً سُبحَانَهُ وَتَعَالى ودائماً دواماً سرمدياً، فالتجأ إليه، وأخبر الناس أن كل إنسان يموت، فمن كان يعبد محمداً فإنه قد مات صلى الله عليه وسلم، ولكن الله لا يموت.
وعبرة أخرى: أن لكل مسلم ساجد سهماً في التركة، فالله الله لا تترك سهمك، فإنك إن تركت سهمك قيض الله من يأخذ عنك، واستغنى الله عنك والله غني حميد، فخذ حظك من هذه التركة، وخذ سهمك من هذا الميراث؛ لتلقى الله وأنت سعيد يشهد لك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأسأله كما جمعنا في هذا المكان أن يجمعنا به صلى الله عليه وسلم.
نسينا في ودادك كل غال فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32] فأكثروا -أيها الناس- من الصلاة والسلام على رسول الله، واتبعوه ظاهراً وباطناً، واحرصوا على سنته، فإن تعظيمه حق التعظيم وتوقيره حق التوقير عليه الصلاة والسلام في التمسك بسنته، وفي الأخذ بآدابه، وفي اغتنام سيرته والتمثل بها في الحياة؛ لنلقى الله وقد رضي عنا ورضينا عنه.
ربنا تقبل منا أحسن ما عملنا، وتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
اللهم إن هذه الوجوه قد اجتمعت في مرضاتك، وهذه القلوب تحابت في مودتك، فنسألك يا حي يا قيوم ألا تحرمنا شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسقنا من كوثره ومن حوضه المورود، يوم يرد الناس ظامئون فيروى من اتبع السنة، اللهم أسقنا وأسق كل واحد شربة لا يظمأ بعدها أبداً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(304/14)
الأسئلة(304/15)
صحة استئذان الملك للرسول صلى الله عليه وسلم
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل صحيح أن الملك استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أتى ليقبض روحه عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً هذا الأمر قد ورد، ولكن حسب ما اطلعت عليه أن هذه الرواية ضعيفة، ولذلك تجنبت إيرادها في هذه الجلسة.(304/16)
صحة حديث: (أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة)
السؤال
ما مدى صحة الحديث الذي يقول: {أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة، فإن الصلاة تبلغني حيث كنتم} الحديث؟
الجواب
هذا الحديث جاء من حديث أوس بن أوس، ورواه أهل السنن، ونصه: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أكثروا من الصلاة والسلام عليَّ يوم الجمعة وليلة الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: يا رسول الله! كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ -أي: بليت- قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} هذا الحديث صحيح، وهناك حديث في مسلم: {إن لله عز وجل ملائكة سياحين يبلغونني عن أمتي السلام} فهذا سند معاضد لذلك الحديث مع أن ذاك بذاته صحيح.(304/17)
دعاء الرسول لنفسه بإزالة المرض
السؤال
ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قادراً على أن يدعو الله بأن يزيل عنه المرض؟ وهل كان يريد التخلص من الدنيا؟ ولماذا؟
الجواب
أما هل الرسول صلى الله عليه وسلم كان بإمكانه أن يدعو الله في أن يزيل عنه المرض، فذلك وارد، لكن الظاهر أن هذا خلاف الأولى، وأن الله عز وجل يرفع بالأمراض والمصائب من يصيبه من عباده، ويبتلي الناس على قدر إيمانهم، وأكثر الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فلذلك كان باستطاعته صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله، ولكن ما دعا عليه الصلاة والسلام ليرفع الله درجته بهذا، وليعظم مثوبته، فهنيئاً مريئاً له صلى الله عليه وسلم.
وهل أراد صلى الله عليه وسلم أن يتخلص من الحياة؟
وردت بعض الألفاظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {دعوني فو الله إنَّ ما أنا فيه خير مما أنتم فيه} وورد في الصحيح: {أنه صلى الله عليه وسلم لما كانت تنفث عليه زوجته عائشة رضي الله عنها وأرضاها، أخذ يده واختلسها من يدها، وقال: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، فقالت: خيرت يا رسول الله فاخترت} فهو اختار لقاء الله بلا شك، دل على ذلك الحديث الذي في مسند أحمد عن أبي مويهبة، قال: {لا.
لكني أريد الرفيق الأعلى} فهو يريد لقاء الله، وما عند الله فهو خير له من الدنيا بلا شك، وثوابه مدخراً له ومجموعاً له عند ربه.(304/18)
سماع الأغاني
السؤال
ما هي نصيحة فضيلة الشيخ لسامعي الأغاني؟
الجواب
سامع الأغاني أوصيه وأوصي نفسي وكل مسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن يأخذ من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم مواعظ ترده عن استماع هذا اللغو وهذا اللهو، الذي يشتت القلوب ويبعدها عن باريها، ويقسيها عن الموعظة، وليتذكر تلك الحفرة القبر الموحش يوم يقدم على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ويعلم أنه لا زاد إلا العمل الصالح، ولا مؤنس إلا العبادة، ولا أنيس إلا في ما قدم من خير، فليتق الله في نفسه، وليحفظ الله في أذنيه، فوالله ليسألن عن أذنيه وعن عينيه وعن كل جارحة، فاتق الله يا عبد الله، ولا تضيع قلبك بالغناء، فما وقعت فاحشة ولا جريمة إلا بسبب هذا الصوت المجرم الآثم، وما ضيع كثير من شباب الإسلام ومن فتيان الدعوة إلا بسبب هذا الغناء الذي انتشر في أوساطنا، فحبب الزنا، وحبب الفحش والإثم إلى كثير من القلوب، بل هو أسرع إلى الجريمة من الخمر إلى العقول، وسمَّاه ابن القيم: بريد الزنا، وقال عمر بن عبد العزيز لأبنائه: إياكم واستماع الغناء فإنه يشغل عن ذكر الله.
وورد في حديث ابن مسعود: [[إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت البقل من المطر]] وبعض المحدثين يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أنه قال كما جاء من حديث أبي مالك الأشعري: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحِر والحرير والخمر والمعازف} فاستحلال المعازف بعد تحريمها.
فالله الله في أن يتقي المسلم ربه، وأن يحاسب نفسه، وأن يعد لذلك اللقاء {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].(304/19)
صحة حديث: (قتلني اليهود)
السؤال
ما صحة الرواية في وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حينما كان يقول: {قتلتني يهود قتلتني يهود} وذلك من أثر السم الذي وضع له في النعجة التي قدمتها اليهودية؟
الجواب
أما لفظ: قتلتني يهود قتلتني يهود، فما أعلم عنه شيئاً، وأما هل كانت وفاته بآثار ذلك السم الذي وضعته اليهودية؟ فهذا صحيح ووارد، وأسانيده صحيحة ذكرها أهل العلم، وجمعها ابن كثير في كتاب السيرة من وفاته صلى الله عليه وسلم، قال ابن كثير: والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم نبي رسول شهيد.
فإن الله جعله شهيداً بآثار تلك الأكلة، وهي من الشاة المسمومة، ويقول عليه الصلاة والسلام: {هذا أوان انقطاع أبهري} قال ابن الأثير: الأبهر عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات الإنسان.
فعلم أن ذلك من آثار تلك الأكلة، وقد مات بشر بن البراء قبله صلى الله عليه وسلم، ثم لحقه صلى الله عليه وسلم.(304/20)
أسباب خشية الله
السؤال
فضيلة الشيخ! إنني من الذين قست قلوبهم وأصبحت أقسى من الحجارة، وإنني أدخل المقبرة ليلاً ونهاراً فلم يزدني ذلك خشوعاً بل زادني قسوة، وإنني أرى الميت يدفن في اللحد، ولكن قلبي لا يلين، فما هي طرق رقة القلب وفقك الله؟
الجواب
قسوة القلب كلنا ذاك الرجل الذي يشكو منها، ونسأل الله أن يلين قلوبنا لذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وطاعته، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بعدها: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] فنسأله كما أحيا الأرض بعد موتها بغيث المطر، أن يحيي قلوبنا بعد موتها وقسوتها بالذكر.
أما قسوة القلوب فذكروا لها أسباباً، ومن ضمن من تفنن في ذلك وبرع ابن القيم، فقد ذكر من أسباب قسوة القلب: البدعة؛ نعوذ بالله من البدعة، وهي أعظم صاد عن منهج الله بعد الكفر، ثم المعصية، فإنها ترين على القلب وتطبع عليه، ثم الإسراف في المباحات؛ من كثرة الأكل والشرب والنوم، وكثرة الكلام بغير ذكر الله، وكثرة خلطة من لا ينفع ولا تقربك خلطته من الله، هذه من أسباب قسوة القلب.
أما الأسباب المؤدية -بإذن الله- إلى رقة القلب، فتكمن في مدارسة كتاب الله عز وجل، والجلوس معه، والخشية، والخشوع، والترنم بالصوت، وتكرار الآيات، والتدبر لما فيها من عبر وعظات، ثم زيارة القبور، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي: {زوروا القبور فإنها تذكر بالآخرة} وقال عليه الصلاة والسلام: {اذكروا هادم اللذات} زاد بعض أهل العلم في رواية: {فما ذكر في قليل إلا كثره ولا في كثير إلا قلله}.
ومن أسباب رقة القلب: قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقراءة سيرة الأخيار من الصحابة والتابعين وكل صالح إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومن أسباب رقة القلب: ذكر الله عز وجل، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فكثرة الذكر والاستغفار والتهليل والتكبير من أسباب الرقة.
ومنها: مجالسة الصالحين، ثم التنفل إلى الله عز وجل، ومن وفقه الله سبحانه وتعالى أراه الخير وسدده وأخذ بيده، فنسأل الله لنا ولكم السداد والثبات.(304/21)
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسبابها
السؤال
أرجو أن تخبرنا بالطرق المؤدية لمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
أعظم الطرق المؤدية إلى محبته صلى الله عليه وسلم: العمل بسنته صلى الله عليه وسلم، فقد جاء اليهود إليه صلى الله عليه وسلم يقولون: نحب الله ولكن لا نتبعك، فكذب الله قولهم ورد مقالتهم، فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] فمن أراد حبه صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يرزقه الله حب الرسول عليه الصلاة والسلام فليعمل بسنته، وليحرص على التمثل بآثاره، فإن هذا هو الحب، وإن الذي يزعم الحب بقلبه ثم يخالف بفعله، أو لا يتنسك بنسكه صلى الله عليه وسلم فهو كاذب، فلا بد أن تظهر عليه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعظمها اعتقاد أن لا إله إلا الله.
ومن الأمور التي يتهاون بها كثير من الناس: الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في الزي وفي اللحى وفي السواك وفي كل أثر، فإن من يتهاون في هذه الأمور معنى ذلك أنه يشهد على نفسه الله والمؤمنين أنه ليس بمحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر ذاك الزعم الذي يزعمه.
والسبب الثاني من أسباب محبته صلى الله عليه وسلم: قراءة حديثه، والجلوس مع ميراثه وتركته صلى الله عليه وسلم، وشرب الماء العذب من نبعه الطاهر الصافي الذي لم يصبه غبش، فإنه صلى الله عليه وسلم المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى.
والسبب الثالث: كثرة الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، فإنها من أعظم الأمور، ومن أعظم الأجور، ومن صلى عليه صلاة صلى الله عليه بها عشراً، بل خاطبنا الله بذلك ونادانا فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] فهذه الأمور وغيرها من الأمور التي يفتحها الله عز وجل على من يعمل بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تؤدي إلى حبه صلى الله عليه وسلم بإذن الله.(304/22)
حديث: (من عظمت عليه مصيبة)
السؤال
ما مدى صحة هذا الحديث: {من عظمت عليه مصيبة، فليذكر مصيبة الناس بي}؟
الجواب
هذا اللفظ لا أعرفه، إنما أعرف قوله صلى الله عليه وسلم: {من أصيب بمصيبة فليتعز بي، فإنني عزاء لكل مسلم} وهذا كما قال أهل العلم: حديث حسن، وإذا أراد الأخ أن يراجع فليراجع كتاب السيرة من تاريخ ابن كثير في البداية والنهاية، فإنه تكلم عن هذا الحديث، وأرى من كلام أهل العلم أنه في درجة الحسن؛ لأنه ليس في الصحيحين ولا في أحدهما، ولكن رواه بعض أهل العلم بأسانيد، ومجموع هذه الأسانيد تدل على أنه حسن.(304/23)
حكم بيع جهاز التصوير
السؤال
إنني أملك جهاز تصوير ولا أستعمله، وهناك شخص يريد أن يستعمل هذا الجهاز ويلح في طلبه، هل بيع هذا الجهاز واستخدام النقود جائز أم لا؟
الجواب
إن كنت تعلم أن هذا الرجل الذي يريد شراء الجهاز سوف يستخدمه في المعصية وفيما يضر بدين الله عز وجل وفي المسلمين، فليس لك أن تعينه على المعصية ولا تبع هذا الجهاز منه، وإن كان الأمر مطلقاً، ولا تدري لماذا يشتريه، أو علمت أنه يشتريه لمصلحة، أو لأمر فيه صلاح وخير، فلك أن تبيع هذا، والله يوفقنا وإياك لما يحبه ويرضاه.(304/24)
تعبد النبي صلى الله عليه وسلم في قبره
السؤال
هل صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره يتعبد أم لا؟
نرجو التوضيح جزاكم الله خيراً.
الجواب
هذا ليس بصحيح، قول القائل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قائم يتعبد في قبره ليس بصحيح، بل رفع التكليف، والتكليف إنما هو في الحياة؛ الصلاة والصيام والعبادات هي في الحياة الدنيا، فإذا توفي العبد فقد انتهى وما بقي إلا الحساب، ولم أر في سند صحيح ولا حسن ولا ضعيف أن الرسول عليه الصلاة والسلام يتعبد في قبره، ومن اطلع على شيء فليفدنا بهذا، ولينفعنا بهذه القضية جزاه الله خيراً.(304/25)
صلاة الجنازة على النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل يجوز أن أصلي على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الجنازة في هذا المكان أو غيره؟
الجواب
لا يجوز لك أن تصلي عليه صلاة الجنازة صلى الله عليه وسلم، بل تصلي عليه وتكرر الصلاة والسلام عليه دائماً وأبداً.
أما صلاة الجنازة بهيئتها المعروفة وبتكبيراتها، فليس لك ذلك؛ لأنه أمر محدث، ولم يسبقك إلى هذا من هو أعلم وأنصح وأصدق منك، من الصحابة والتابعين والسلف الصالح و {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} فلو سُبقت إلى هذا أو كان هناك حديث يدل على هذا كان لك وجه، أما والقضية هكذا ولم يرد فيها نص من المعصوم، ولا عمل من أصحاب رسول الله؛ فليس لك ذلك، فانتهِ وتمسك بالسنة.(304/26)
حكم تحية المسجد
السؤال
دخلت المسجد وصليت تحية المسجد، ثم انتقض وضوئي وذهبت وتوضأت، ثم رجعت ثانية، فهل أصلي تحية المسجد مرة أخرى؟
الجواب
نعم.
تصلي ركعتين تحية المسجد؛ لأن عموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة الذي رواه البخاري ومسلم: {من دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} يشملك في هذه الحالة، ثم ولو كان لك مخرج من عموم هذا الحديث؛ فإن هناك ركعتي الوضوء، ذكرها ابن تيمية في فتاواه، وقال: ربما كانت من ذوات الأسباب، ويجوز حتى أن تصلي بعد صلاة العصر، وبعد صلاة الفجر، فتصلي بعدما تتوضأ تحية المسجد، وإن شئت فركعتي الوضوء.(304/27)
رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام
السؤال
هل رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام واردة، وما ضوابطه؟
الجواب
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي} وهذا نص على أن رؤيته صلى الله عليه وسلم حقيقة لا لبس فيها لمن رآه، لكن بضوابط، منها: أن تكون أوصافه عليه الصلاة والسلام التي رآها في المنام هي أوصافه التي كتبت أو حفظت في الكتب، فلا يمكن أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم حليقاً لا لحية له، أو يراه صلى الله عليه وسلم وهو يفعل بعض الأمور المخالفة.
بل يراه عليه صلى الله عليه وسلم مثل أن يكون أبيض، مشوباً بحمرة، وأن يكون ربعة، وأن يكون صلى الله عليه وسلم كث اللحية، أقنى الأنف، فهذه علامة الصدق، وبعض أهل العلم يقولون: ويكون الرائي صالحاً، ولكن ما رأيت هذا الشرط في النصوص، فيكتفى أن تكون رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام كما ذكرت في كتب أهل العلم في السنة، ولا يعتبر أن كل من رآه علامة لصلاحه، وعلامة لولايته، بل قد يراه بعض من عندهم فجور ومعاصي تنبيهاً لهم، وإنذاراً وإعذاراً إلى الله عز وجل لمصلحة يعلمها الله تبارك وتعالى.
وبعض الصالحين لا يرونه صلى الله عليه وسلم لئلا يصيبهم عجب أو تيه أو كبر أو غرور، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم بعباده، فهو يصرفهم كيف يشاء.(304/28)
حكم كتابة (ص) بدل صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما حكم من كتب لفظ صلى الله عليه وسلم ورمز لها بالصاد؟
الجواب
الذي يكتب صلى الله عليه وسلم ويرمز لها بالصاد قد خالف الأولى في هذا، وفاته أجر كبير وخير عميم وثواب جزيل، بل يغتنم الصلاة والسلام عليه، فإن النووي رحمه الله يذكر من آداب طلب العلم والحديث: أنه إذا ذكر الصلاة فليغتنم الأجر في هذا، فليصل ويسلم عليه صلى الله عليه وسلم وليكتبها؛ لأنها بركة في وقته وفي عمره وفي أجره، وأما رمز (ص) فإنما أتى لنا من بعض من تأثر بالغرب في اختزال الكلمات، فاختزلوا الكلمات ليوفروا على أنفسهم بعض الأجور والثواب ورفع الدرجات، وهذا خطأ، بل يكتب (صلى الله عليه وسلم) وتنطق عند الكتابة، ويعتذر لبعض المحدثين -كما ذكر أهل المصطلح- في أنهم ما ذكروا الصلاة والسلام عليه -صلى الله عليه وسلم- من العجلة، أو أن الشيخ كان يملي، أو أنهم كانوا ينطقونها ويكتفون بنطقها.
لكن الأحسن أن تنطقها، وأن تصلي وتسلم عليه صلى الله عليه وسلم كتابةً؛ لتكون لك نوراً عند الله عز وجل.(304/29)
الرد على من زعم أنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم جهرةً
السؤال
ما رأيك فيمن يقول ويدعي أنه يرى في هذه الأيام رسول الله صلى الله عليه وسلم جهرة ليس في المنام، ويخاطبه مشافهة، ويأمره وينهاه عن أمور كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بها، كتحليل ما حرم الله وغير ذلك؟
الجواب
من زعم أنه يرى الرسول صلى الله عليه وسلم جهرةً لا مناماً، وأنه يأمره وينهاه ويعظه؛ فقد كذب على الله، وافترى على دين الله، وهذا عنده هوس ودجل، ما خجل على نفسه، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم قد مات، وهو في قبره، ولا يمكن أن يخرج من قبره صلى الله عليه وسلم إلا في البعث، فإذا علم ذلك فهؤلاء خالفوا، وما دل على ذلك آية ولا حديث ولا كلام سلف، وإنما هذا ابتدعه بعض الغلاة من أهل البدع الذين ما عندهم من العلم شيء، ولا من الأثر ولا من الحديث، فهذا قول مردود على صاحبه ليس بصحيح، لا يصدق ولا يسلم لقائله، وإنما هو ضرب من الدجل.
والرسول صلى الله عليه وسلم إنما يرى في المنام، وقضية رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام كذلك لا يبنى عليها حكم، فقد جاء في ترجمة ابن مندة وأبي نعيم، مع أنه صحح لـ أبي نعيم بعض الأحاديث، فهذا ليس بصحيح، فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يحلل ولا يحرم بعد وفاته، وإنما كانت شريعته في الحياة، وقد بلغها كاملة، وقال الله عز وجل في آخر أيامه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
فأما أن يأتي في المنام يسأله عن مسألة ويحلل له ويحرم، فهذا ليس بصحيح، وما دل على هذا أثر فليعلم.(304/30)
حكم الكلام في المسجد
السؤال
ما حكم التحدث في المسجد؟
الجواب
الحديث أنواع وأقسام:
أما الحديث المنهي عنه فإنه حرام في المسجد وفي غير المسجد، في البيت وفي الشارع وفي السوق، كالغيبة والنميمة والزور واللغو والهراء واللعن، فهذا حرام في المسجد وفي السوق وفي أي مكان، لكن في المسجد أنكى وأمر، وأما الحديث العام في المسجد فما به بأس إن شاء الله، وأما الحديث الذي يستدلون به من منع الحديث في المسجد: {إن الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب} فليس بصحيح، بل هو ضعيف، ولا يعتمد عليه، وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدث للصحابة في المسجد، وفي حديث حسن عن جابر بن سمرة قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إلينا بعد صلاة الفجر، فنتحدث في أخبار الجاهلية ونضحك وهو يتبسم} وفي صحيح البخاري: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى علي وهو نائم في المسجد -بعد أن سأل فاطمة زوجة علي رضي الله عنها وعنه- فقال: أين ابن عمك؟ قالت: غاضبني فخرج من هنا، فلما وجده صلى الله عليه وسلم في المسجد قال: قم أبا تراب، قم أبا تراب} وحدثه عليه الصلاة والسلام.
وصح في البخاري أن أنساً رضي الله عنه وأرضاه قال: {أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدته في المسجد يتحدث مع الناس، فدعوته إلى طعام صنعته أم سليم} القصة، بل أكثر من عشرات الأحاديث تدل على أنهم كانوا يتحدثون في المسجد، فللإنسان أن يتحدث في المسجد، لكن لا يفوت عليه الأجر من قراءة قرآن أو تسبيح أو دعاء، فليغتنم هذه الساعة المباركة، وجلوسه في روضة من رياض الجنة، ولا يسرف في الحديث في الدنيا، لكن الأمر جائز والله أعلم.(304/31)
التعزية عند الموت
السؤال
ما هي الصفة الواردة عند التعزية؟ وهل هذا الدعاء صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول عند التعزية: {أحسن الله عزاءكم}؟
الجواب
أما حديث: {أحسن الله عزاءكم} فما أعلم له أصل في حد علمي، ما أعلم أنهم كانوا يقولون: أحسن الله عزاءك، وهناك بدع في وقت التعزية، منها: أن بعض الناس يجتمعون ويذهبون مجموعات إلى بيت الميت، ومنها: أن أهل الميت يجتمعون في استقبال المعزين ويقولون بعض الألفاظ، بل ذكر في أثر أن العزاء ثلاثة أيام، أورد هذا الشوكاني في نيل الأوطار، فالسنة أن يعزى ثلاثة أيام، إما برسالة، وإما باتصال، أو تلقاه في أي مكان، فتدعو له وتترحم على الميت وتوصيه بالصبر، أما لفظ: أحسن الله عزاءك، فما أضبطه.(304/32)
حكم عمل المرأة في البيع والشراء
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تذهب للبيع والشراء وتسافر مع البائعين؟
الجواب
المرأة لا ينبغي لها إذا كان هنالك ريبة أو تهمة أو خوف من فتنة أن تخالط الرجال، لا في بيع ولا في شراء ولا غيره، فلتتق الله المسلمة ولتبقَ في بيتها، لكن يجوز لها أن تبيع وتشتري من النساء، أو من ليس فيهم ريبة، كأن تكون عجوزاً كبيرة مسنة مع أطفال، فلها أن تبيع وتشتري كما فعل بعض الصحابيات.
أما مع الرجال فليس للمرأة أن تبيع ولا تخالط ولا تشتري ولا تنافس، بل لها أن تبيع للنساء وعليها ببيتها وعليها بتقوى الله عز وجل، فإن بيتها خير لها لو كانت تعلم، وحصنها وسترها واحترامها وأجرها ومثوبتها في تسترها عن الأجانب، ومن تسترت بستر الله سترها الله عز وجل، ومن طلبت الفتنة فتنها الله عز وجل، فنسأل الله السداد والثبات.(304/33)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " إنكن صواحب يوسف"
السؤال
ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: {إنكن صواحب يوسف، أو صويحبات يوسف}؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ عائشة: {إنكن صواحب يوسف، أو صويحبات يوسف} بالجمع والتصغير كما في البخاري ومسلم، وذلك عندما قالت عائشة رضي الله عنها لـ حفصة، قولي له: يأمر عمر أن يصلي بالناس، ومقصود عائشة تقول: لئلا يتشاءم الناس بـ أبي بكر، عندما يقوم أول مقام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتشاءموا به، فأرادت أن تجعلها في عمر، فالرسول صلى الله عليه وسلم يأبى، فلما أطالوا عليه قال: {إنكن صويحبات يوسف} ومعنى ذلك: أنكن من تلك السلالة ومن ذاك المورد والقسم، وهن صويحبات يوسف اللواتي كدن أن يمكرن به، واجتمعن ليرينه وقطعن أيديهن، هذا على الصواحب، أو من جنس المرأة التي كادت تفتن يوسف، فهم أرادوا غضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقت الوفاة، فعزرهم بهذه الكلمة صلى الله عليه وسلم.(304/34)
حكم نتف المرأة شعر يديها
السؤال
ما حكم نتف شعر اليدين للمرأة؟
الجواب
نتف شعر اليدين للمرأة إن كانت ترى أنه نقص لجمالها وأن من الضرورة والحسن أن تنتفه فلها ذلك، أن تزيله بمزيل وأن تنتفه لتكون أجمل وأحسن، فليس عليها في ذلك شيء، فلتزل شعرها بأي مزيل أو تنتفه نتفاً.(304/35)
أفضل كتاب في السيرة
السؤال
ما هي أفضل الكتب التي تذكر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
الكتب في سيرته كثيرةٌ جداً، ومن أجودها فيما أعلم، وما أعلم أنه ألف في فنه مثل هذا الكتاب: زاد المعاد لـ ابن القيم، وأوصي به نفسي وكل مسلم أن يجعله مع القرآن، وأن يكرر قضاياه وأن يستفيد منه، لأنه منقح محقق من عالم سني متبع عارف بفن الحديث، ثم هناك كتاب السيرة لـ ابن كثير ولـ ابن هشام، ولا بأس بهما لولا بعض الأحاديث الضعيفة، وهناك كتاب عصري طيب اسمه: الرحيق المختوم في سيرة النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام للمبار كفوري، وهناك بعض الكتب، ولكن هذه الكتب التي تحضرني في هذا الفن.(304/36)
قصيدة عن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
السؤال
نطلب من فضيلة الشيخ قصيدة في هذه المناسبة فليتفضل مشكوراً؟
الجواب
مناسبة وفاته صلى الله عليه وسلم ما أظن أن هناك قصائد، لكن هناك أربعة أبيات وقد سمعتموها، ولكن لا بأس بإعادتها:
نسينا في ودادك كل غال فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا
وهناك قصيدة اسمها: ثناء وتبجيل لمعلم الجيل صلى الله عليه وسلم، من ضمن أبياتها:
الأماني على لسانك أحلى فأعد يا حبيب عصراً تولى
لم أقض لبانة العيش فيه ودعاني المشيب لما أطلا
أعصر الليل في كئوس من الحزن وأدعو الصباح حتى أملا
وأناجي الدجى بهمسة حب فارغ الصبر من لساني لعلَّ
ذكريات مع الرسول وحب يستثير الشئون منه الأجلَّ
إلى أن قلت:
قد جعلنا حديثك الصب خدناً ووجدنا في خلة الناس هجرا
فاتخذنا حديثك الصب خلاً وبقينا كالطير نقطف زهرا(304/37)
قصيدة في مدح الشيخ ابن باز
السؤال
كثير من الإخوة يلحون في طلب القصيدة التي مدح بها وألقاها فضيلة الشيخ في الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
الجواب
هذه القصيدة مكررة، ولكن المكرر أحلى، وقلت البارحة: إن الذين مدحوا الشيخ كثير من الشعراء والعلماء، والشيخ يستحق ذلك، فإننا نتقرب بحبه إلى الله عز وجل، وبعض الإخوة من طلبة العلم يعزم -إن شاء الله- أن يجمع ديواناً اسمه الممتاز في مدائح الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وسوف يأتي ويصدر، ومنهم كما قلت تقي الدين الهلالي المحدث المغربي الكبير، يقول:
خليلي عوجا بي لنغتنم الأجرا على آل باز إنهم بالثنا أحرى
وزهدك في الدنيا لو أن ابن أدهم رآه رأى فيه المشقة والعسرا
إلى آخر ما قال، وأما المجذوب فإنه يقول:
روى عنك أهل الفضل كل فضيلة فقلنا حديث الحب ضرب من الوهم
فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سمعنا به في العلم والأدب الجم
فلم أر بازاً قط من قبل شيخنا يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي
وأما قصيدتي فهي بعنوان: البازية، وهي في مدح الشيخ، أقول فيها:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من عظيم رجا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي
والمدح يا والدي في غيركم كذب لأنكم لفؤادي بلسم شافي
يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل السافي
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافي
مجالس اللغو ذكراهم وروضتهم أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي
وأنت جالست أهل العلم فانتظمت لك المعالي ولم تولع بإرجاف
بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الطل في إشراقه الضافي
تشفي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم دراً غير أصدافِ
أقبلت في ثوب زهد تاركاً حللاً منسوجة لطفيلي وملحاف
تعيش عيشة أهل الزهد من سلف لا ترتضي عيش أوغاد وأجلاف
فأنت فينا غريب الدار مرتحل من بعد ما جئت للدنيا بتطوافِ
سر يا أبي واترك الدنيا لعاشقها في ذمة الله فهو الحافظ الكافي
أراك كالضوء تجري في محاجرنا فلا تراك عيون الأغلف الجافي
كالشدو تملك أشواقي وتأسرها بنغمة الوحي من طه ومن ق
ما أنصفتك القوافي وهي عاجزة وعذرها أنها في عصر أوصاف
يكفي محياك أن القلب يعمره من حبكم والدي أضعاف أضعافِ
يفديك من جعل الدنيا رسالته من كل أشكاله تفدى بآلافِ
والحمد لله رب العالمين.(304/38)
منهج طالب العلم
إن منزلة العلم وفضله فوق كل منزلة وفضيلة؛ وما ذاك إلا لشرف العلم، فهو النور الذي لا تغشاه ظلمة، والفضيلة التي لا تلحقها رذيلة، ولقد خلف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منهجاً أصيلاً في طلب العلم، فما علينا إلا الاقتداء به والسير في مساره، ولكن قد تطرأ بعض المعوقات أمام طالب العلم، ولكنها تجتاز بمقدار همة طالب العلم، ومما يعينه على ذلك أن يتحلى بآداب التحصيل وأن يلتزم أدب السؤال للعلماء.(305/1)
المعوقات في طلب العلم
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
عنوان هذا الدرس: (منهج طالب العلم) لأن من الأنسب أن نتكلم عن المنهج الأصيل الذي خلفه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام لطلبة العلم.
وهناك مشكلات كثيرة يعيشها طلبة العلم.(305/2)
من المعوقات: عدم الاهتمام بحفظ القرآن الكريم
فإنك تجد الكثير يحفظون المتون، ويطالعون الكتب، ويحفظون المقامات والمنظومات، بينما لا يعتنون بحفظ كتاب الله عزوجل، وهذه مصيبة!(305/3)
من المعوقات: عدم القراءة والمطالعة
فإن الأمة -خصوصاً- في بلاد الشرق الأوسط والأدنى، أو ما تسمى بالدول النامية، لا تقرأ، كما نُقل عن الأعداء ذلك، وكما يقوله: موشي ديان، وجولد مائير رئيسة وزراء إسرائيل سابقاً، وله أسباب:
منها: الأمية المستفحلة في الأوساط.
ومنها: الترف.
وعدم القراءة مصيبة، وسوف يأتي الحديث عن علاج ذلك.(305/4)
من المعوقات: عدم معرفة المقروء
وكثير من طلبة العلم، ومن المثقفين إذا قرءوا، قرءوا شيئاً غير مفيدٍ، أو في أمور لا تهمهم بالدرجة الأولى، ككثير من الناس يقرأ ما يقارب الأربع والخمس ساعات في الصحف والمجلات والدوريات، وهذه لا بد من قراءتها، لكن ليس بهذا الوقت وبهذا الاهتمام، ولا بهذا التركيز الذي أذهب وقت القرآن، ووقت الحديث، ووقت كتب أهل العلم.(305/5)
من المعوقات: ضياع الوقت
فإن الأمة الآن في مجموعها مضيعة لوقتها لا تجد منهم إلا القليل ممَّن يحافظ على وقته، حتى إن الكثير يجلس من بعد صلاة العصر إلى المغرب في حديثٍ عامٍ لا خير فيه.(305/6)
من المعوقات: الجدل العقيم
تحصل اختلافاتٌ في مسائل ليس وراءها ثمرة، ولا طائل، ولا مكسب، وتجد البعض يتعاتبون ويتقاطعون على مسائل لا فائدة منها، وليس من الجدل فيها ثمرة.(305/7)
من المعوقات: إعطاء المسائل أكبر من حجمها
فتجد بعض الطلبة يتكلم عن مسألة، ويعيشها، ويكررها، وكأنها قضيته الكبرى في كل مجلس، حتى تطغى على حياته، مثل جلسة الاستراحة، فبعضهم جعل قضية الساعة هي جلسة الاستراحة.
وبعض الناس الآن جعلوا قضية الساعة حرب الخليج، والمشاكل التي في الخليج، ونحن لا نقول: يُلغيها من حياته، لكن يعطيها حجمها الطبيعي.(305/8)
من المعوقات: أمراض القلوب
أمراض القلوب التي يصاب بها كثيرٌ من طلبة العلم، كالكبر أعاذنا الله وإياكم منه؛ وجزاؤه أن يصرف الله الهداية عن صاحبه حتى ولو كان عنده من العلم ما كان {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146] فالله لا يهدي كل متكبر جبار.
ومنها: مرض الحسد، وهو منتشر بين الأقران، كما قيل: ما خلا جسد من حسد:
إن العرانين تلقاها محسَّدةً ولا ترى للئام الناس حسادا
وكتب ابن الوزير العالم اليمني، العجيب، لِعمِّه رسالة يشكو من حسد الأقران، فردَّ عليه عمُّه، بقوله:
وشكوتَ من ظلم الوشاة ولن تجد ذا سؤددٍ إلا أصيب بحُسَّد
لا زلت يا سبط الكرام محسداً والتافه المسكين غير محسَّد
ومنها: مرض الرياء.
وهو أن يطلب العلم لغير وجه الله وفي الحديث: {أول من تسعر بهم النار ثلاثة: عالم} فهذا طلب العلم لغير الله فهذا من أول من تسعر بهم النار؛ كما في الحديث الصحيح.
وسأتعرض لآداب طالب العلم، لمن أراد أن يطلب العلم، وسوف أعرضها على شكل مسائل ونقاط:(305/9)
أدب السؤال والجواب
الفصل الأول: أدب السؤال والجواب.
يقول أحد الحكماء: عرض السؤال نصف الجواب.
وقالوا: يدل على اللبيب في فطنته حسن سؤاله، والعاقل من يُحسن السؤال؛ ويختار وقته ويجيد عرضه ويجيد مقامه وعلى من يطرح السؤال؛ وهنا مسائل:(305/10)
من الآداب: السؤال عما وقع أو سيقع
من هدي السلف: أنهم يسألون عن الوقائع التي وقعت، ولا يتكلفون في السؤال عن مسائل لم تقع في الناس؛ لأن من اشتغل بمسائل لم تقع شغلته عن مسائل وقعت.
قال عمر كما في صحيح البخاري في كتاب الأدب: {نهينا عن التكلف} والتكلف: أن تتكلف السؤال عن شيء لم يقع؛ كما نسمع عن بعض طلبة العلم يتكلمون عن مسألة دوران الشمس حول الأرض، وفي أطفال المشركين وأهل الفترة، وفي أهل ألاسكا شمال غرب كندا كيف يصلون؟
وأهل القطبين، الذين الليل عندهم أربع ساعات، والنهار عشرون ساعة كيف يصلون؟
وإذا سألته عن نواقض الوضوء، فهو لا يعرف منها شيئاً! فهو يعيش في القطبين وألاسكا، ولكنه لا يعيش في الأحكام التي تنفعه.
وقد ذم الله سبحانه التكلف فقال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86].
وميزة الإسلام أنه دين ميسر، والقرآن يخاطب جمهور الناس، ويخاطب المجموعة الكلية.
فهل سمعت عجوزاً تشكو أنها لا تفهم القرآن؟
لا.
لأن هذه ميزة القرآن أنه سهل، وكذلك الشريعة عموماً قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17].
فوصيتي لإخواني ألاَّ يتكلفوا في مسائل لم تقع بعد، فينقطعوا عن مسائل وقعت لكنها لم تبحث إلى الآن.(305/11)
من الآداب: عدم السؤال في الأغلوطات
من مذاهب المتكبرين في العلم، أنهم يسألون عن الأغلوطات دائماً، وهي المسائل المحيِّرة مثل الألغاز، فتجد أسئلتهم هي: ما هو الشيء الذي إذا رفعته بكى؟ وإذا أجلسته سكت؟ ما هو الشيء الذي نصفه خمسة وعشرين وثلاثة أرباعه ستة وعشرين؟ وغيرها من المسائل التي لا يستفيد منها أحد في الدنيا ولا في الدين.
وهذه الأغلوطات هي التي نهى عنها السلف، وذكر الإمام مالك في حديث: {أن الله كره لكم ثلاثاً: ومنها: كثرة السؤال} قال: هي الأغلوطات؛ وهي المصاعب من المسائل التي يتعجَّز فيها العلماء.
وبعض طلبة العلم يريد أن يوقف الأستاذ عند حده، يقول: والله لأوقفنَّه عند حده؛ وهذا منهي عنه، وهو ارتكاب لمحرم، ولا يجوز أن يغلِّط العالم، أو يتعجزه بمسألة، ولكن إن كان لك حاجة في المسألة فاسأله وإلا فلا.(305/12)
من الآداب: عدم كثرة السؤال
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال}.
قال بعض العلماء معناه: كثرة السؤال في المال.
وقال بعضهم: بل كثرة السؤال عند نزول الوحي، أمَّا بَعْد نزول الوحي فلا.
لقول الله عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة:101] فلمَّا نزل الوحي وانقطع فلا بأس أن تسأل.
وقيل: كثرة السؤال هي: في الأغلوطات، أو المسائل التي لم تقع، أما المسائل التي أنت في حاجة لها؛ فمن الحكمة أن تسأل عنها.
وقيل لـ ابن عباس: كيف حصلت على هذا العلم؟ قال: [[بقلب عقول، وبلسانٍ سئول]] وقيل:
وسلِ الفقيه تكن فقيهاً مثله من يجر في علمٍ بحقٍ يمهرِ
والطالب النجيب هو كثير الأسئلة، والطالب البليد هو الذي لا يسأل في الفصل؛ لأنه لا يوجد عنده خلفية عن الدرس المشروح، فهو دائماً ساكت، وعيونه مدحرجة في السبورة، ويتحرك مع الأستاذ، ولا يدري عن شيء، ولا يناقش.
والمناقش: هو الذي ذاكر وعنده علم، وجرب مع نفسك، ذاكر الدرس قبل أن تحضر إلى الفصل، فستجد أنك سوف تناقش، وأنك مستعد أن تحاور، وتأخذ، وتعطي، أما إذا لم تذاكر فستأتي وليس عندك شيء، فالطلبة الساكتون في الفصل في كل حصة، وفي كل محاضرة هؤلاء بلداء، نسأل الله أن يعافيهم ولا يبتلينا.(305/13)
من الآداب: عدم السؤال فيما لا يعنيك
جاء عند الدارقطني بسند يصححه بعض العلماء يقول صلى الله عليه وسلم: {وسكت سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن أشياء فلا تسألوا عنها} قيل: في وقت نزول الوحي.
وكذلك الآن في بعض المسائل التي ليس للإنسان أن يسأل عنها ويتكلف بما لم تأتِ به الشريعة، حتى إنك تجد بعض الطلاب متحيِّراً، فيأتيك ويسألك ويقول: أنا لا زلتُ البارحة متحيِّراً في مسألة.
قلنا ما هي؟
قال: هل الجن يدخلون الجنة أم لا؟
وإذا دخلوا الجنة أين يسكنون؟
كأنه مكلف باستئجار شقق لهم في الجنة، أو أنه لا بد أن يوجد لهم مكاناً!
وأنا أسأله سؤالاً: أأنت أعلم أم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي، ومعاذ؟!! أما كفاهم أنهم سكتوا ويكفيك أن تسكت؟! ولو أنه لا بأس عند العلماء الفطناء أن يسألوا عن مثل هذا السؤال، وقد سئل ابن تيمية -أظنه- في المجلد السابع عن الجن: هل يدخلون الجنة؟
لكن ابن تيمية عبقري، يحق له أن يُسأل مثل هذه السؤال، فقال في كلامٍ ما معناه: إنه لم يصرح القرآن ولا السنة بهذا، ولكن لمح لهذا القرآن في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56].
فليس من الحكمة التشاغل بأشياء لم تقع، وأحياناً قد يسأل الإنسان عن مسائل قد تكون شقاءً عليه، وتكون تردية لقلبه.(305/14)
من سُئِلَ وهو يتحدث فعليه أن يتم حديثه ثم يجيب السائل
يقول البخاري في صحيحه: باب من سئل علماً وهو مشتغلٌ فأتم الحديث ثم أجاب السائل.
انظر إلى حسن التبويب، وفقه البخاري في التبويب، وإلى ذكائه في فتح جبهات في كل باب؛ وهي العبقرية الفياضة، يقول: إذا كان مستغرقاً في عبادة فلا تسألوه، أما إذا كان باستطاعته وهو في العبادة أن يجيبك فلا بأس.
لكن المقصود هنا أن البخاري يستدل على أنك إذا كنت في محاضرة فسئلت في مسألة فلا بأس أن تتم حديثك؛ وهذا ليس من ترك البيان وقت الحاجة، بل تتم كلامك، ومحاضرتك، ثم تلتفت إلى السائل وتجيب على سؤاله، والدليل على ذلك ما ورد في الصحيحين: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتكلم على المنبر، وأمامه علماء الصحابة، فدخل أعرابيٌ من باب المسجد، فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟
وهذا السؤال خطأ: وهل هذا وقت السؤال؟
هل استأذنَ؟ هل جلس؟ هل سمع ما هو الحديث؟ هل من الحكمة أن يجاب؟
تهدر حقوق ألف مستمع أمامك، وتسمع لأعرابي! فسكت عليه الصلاة والسلام، فلما انتهى من حديثه، قال: {أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة}.
وفي حديث آخر قال أعرابي: {متى الساعة؟ قال: ماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله.
قال: المرء يحشر مع من أحب}.
من حبكم فاعلموا للحب منزلة نهوى غريمكمُ لو كان يهوانا
هذه مسألة، نأخذ منها أن الذي يحاضر في الناس، أو يتحدث لا يقطع حديثه من أجل واحد.
ومن الحكم في الدروس أن يتأنى طالب العلم، ويتأخر، وينتظر، حتى يأذن له الأستاذ، عندما يطلب الأسئلة من الناس.
ثانياً: بوب ابن حبان بباب: إباحة إعفاء المسئول عن الإجابة على الفور.
يقول: مباح للمسئول، وليس عليه حرج ألا يجيب على الفور، أي لا تلزمني أن أجيب على الفور بل تنتظر قليلاً، وهذا مأخوذ من حديث أبي هريرة عند مسلم: {حتى إذا قضى حديثه قال: أين أراه السائل} فما أجابه إلا بعد أن تمَّ حديثه، وعند مسلم أيضاً أن هذا الرجل قال: {رجلٌ غريبٌ لا يدري عن دينه، جاء يسأل عن دينه، فتركه صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى من خطبته، أخذ صلى الله عليه وسلم في إجابته}.
وورد كذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام قطع الخطبة للحاجة.
أحياناً يستدعيك الأمر أن تقطع الخطبة والمحاضرة والدرس للحاجة، إذا كانت حاجه ملحة، مثل أن ترى أعمى يمشي ويكاد أن يتردى في البئر، وأنت تلقي درساً -مثلاً- وهو يمشي إلى البئر.
دخل أعرابي اسمه سُليك الغطفاني، والرسول عليه الصلاة والسلام على المنبر يخطب الجمعة، فجلس ولم يتنفل، فقال صلى الله عليه وسلم: {أصليت؟ قال: لا يا رسول الله! قال: قم فصلِّ ركعتين وأوجز} فقام فصلَّ ركعتين، فهذا وقت الحاجة.
وكذلك يسمح للخطيب أن يقطع الخطبة يوم الجمعة بملاحظة لا بد منها، كما فعل عمر في الصحيحين: [[أنه كلَّم عثمان لما تأخر عن الحضور، قال: وتأتي في هذا الوقت؟]] يعني: تأخرت، وأنت من العشرة المبشرين بالجنة، ومن السابقين في فعل الخيرات.
[[قال: يا أمير المؤمنين! كنت في السوق فسمعت الأذان، ونسيت أنه الجمعة، فما هو إلا أن توضأت وأتيت، قال: والوضوء أيضاً؟! وقد سمعت أن الرسول صلَّى الله عليه وسلم كان يأمرنا بالغسل]] فقطع خطبته من أجل الفائدة.
ويجوز للمأموم أن يكلم الخطيب، وللخطيب أن يكلم المأموم، وليس للمأموم أن يكلم المأموم في أثناء الخطبة.(305/15)
السؤال حال قيام العالم أو مشيه
هل من الأدب أن تسأل العالم وهو قائم، والأستاذ وهو يمشي؟
كان الإمام مالك يتحرج، من ذلك وذكر عنه أنه سئل سؤالاً في الحديث فجلس.
وكان سعيد بن المسيب رحمه الله رحمة واسعة؛ أحد التابعين، بل هو من أجلَّ التابعين، كان في مرض الموت فسئل عن حديث، فقال: [[أجلسوني.
قالوا: إن ذلك يشق عليك يا أبا محمد! قال: كيف أُسأل عن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع؟! فأجلسوه]].
وإبراهيم بن طهمان ذكر عنده بعض الصالحين، وهو في سكرات الموت فقال أجلسوني فأجلسوه، فقال: لا ينبغي أن يذكر عندنا الصالحون ونحن متكئون، أو كما قال.
وبالمقابل أيضاً هل من الأدب أن يسأل الطالب أستاذاً جالساً وهو واقف، بوَّب الإمام البخاري في هذه المسألة فقال: باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً؛ وذكر الحديث فقال: {جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جالس، فقال: يا رسول الله! ما القتال في سبيل الله؟ فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه إليه -وتأخذ من قوله: فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه إليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً والأعرابي قائماً- فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} وانظر إلى هذا الكلام المختصر، والكلام الموجز: هو أن يحوي لك الكلام كله اختصاراً في جملةً واحدة، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {وأوتيت جوامع الكلم، وأوتيت فواتحه وخواتمه}.
وضرب بفصاحته عليه الصلاة والسلام المثل، وأدهش الشعراء، وأسكت الخطباء، وأدحض أهل البلاغة المناطيق من العرب، عليه الصلاة والسلام.
يقول: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} هذه قاعدة، لم يقل: من قاتل من أجل نصرة الدين، أو من أجل نصرة السنة، أو حماية المقدسات، بل حواها كلها في جملة واحدة {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله}.
إذاً لا بأس بأن يكون الطالب واقفاً والأستاذ جالساً.(305/16)
المناقشة مع الطلاب
من ذكاء الأستاذ والمعلِّم والمربي أن يمتحن عقول الطلاب، ويسألهم دائماً، ويناقشهم في الدرس الماضي والحاضر، وماذا قرءوا، وأن يخبرهم أنه سوف يناقشهم فيه.
قال أهل العلم: ولا يأتي لهم بالغوامض من المسائل، بل يناقشهم في المسائل الظاهرة المستفادة منها، وقد استدل أهل العلم على هذه المسألة، فقال البخاري: باب طرح الإمام المسألة على أصحابه يختبر ما عندهم من العلم.
قال ابن عمر في الصحيحين: {كنا جلوساً عند الرسول عليه الصلاة والسلام فأوتي بجُمَّار} وهو ذاك الأبيض الذي يأتي في قلب النخلة؛ كالقراطيس البيض، وكالأوراق، هذا يسمى: جمَّار.
وكان الشعراء، يصفون الجبين والخد واللسان والشفتين بالجمار، فطُرح أمام الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الجمَّار، ولعل هذا يكون فيه إشارة إلى أن السؤال سوف يكون قريباً من الجمار، قال عليه الصلاة والسلام: {شجرة مثلها كمثل المؤمن حدثوني ما هي؟
قال ابن عمر: وكنت صغير السن} كان أصغر الناس، فكان يستحي أن يتكلم؛ لأن كبار الصحابة موجودون ومنهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم، وهذا من الأدب.
ونصيحتي -أيها الإخوة- أنه إذا حضر الشيوخ الكبار، والقضاة، والعلماء، ألا يتكلم الإنسان وهو أصغر منهم؛ فيأخذ المجلس عليهم، أو يأتي لهم بسالفة، أو بقصة؛ لأنه جرح للمشاعر، ويوجد من الشباب من لا يقدِّر العلماء والمشايخ، تكون في مجلس ويدخل عليك رئيس المحاكم ولا تقوم له، وتجلس في الصدر وهو في الطرف، وتتكلم وهو ساكت، فهذا خروج عن المألوف، وهذا جرح للمشاعر، حتى ولو أتيت في المكان الفاضل، في الصف الأول، ودخل عليك عالم أو كبير في السن فلك أن تزحزح وأنت مأجور، ولو جلست في الصف الثاني يأجرك الله؛ لأنك آثرته بالقربة في الصف الأول.
فسكت ابن عمر، واستحيى؛ لأن في القوم أبا بكر وعمر قال: {فوقع الناس في شجر البوادي} قال أحدهم: العرعر.
وقال آخر: هو السلم.
وآخر: السدر.
وآخر: الضرفاء، إلى غير ما قالوا.
قال ابن عمر: {فوقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، فلما قاموا أخبر أباه فقال عمر: والذي نفسي بيده لو أنك قلتها، أحب إليَّ من الدنيا وما فيها} يعني: من أجل أن يحتفي بك الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى يكرمك ويقدِّرك، فلم ينتبهوا للجُمَّار، حتى قال صلى الله عليه وسلم: {هي النخلة}.
وأما تعليل ذلك فقد اختلفوا، فقال ابن عربي ذاك المخرف: لأن في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: {أكرموا عمتكم النخلة} والحديث هذا موضوع كذب لا يصح.
وقال بعضهم: لأن أول ما يسقط من النخلة أعلاها، وهذا كلامٌ ساقط.
وقال بعضهم: لأنها خلقت من طينة آدم، وهذا كلامٌ باطل.
والصحيح أن المشابهة بين النخلة والمؤمن، في المنافع في كل أجزائها، وكذلك المؤمن كل أجزائه طيب، كلامه وفعله، وذكره، وشفاعته، وإكرامه، وخلقه، وسلوكه، وكذلك النخلة.
وفيه: من الفوائد العظيمة ما لا يحصى ولا يعد.
ويقولون: إن النخلة أفيد شجرة.
وقد عرض ابن القيم مناظرة بين النخلة والعنب؛ فغلبت النخلة العنب حتى دمغتها.
والصحيح أن أصول الشجر شجرتان: النخل والعنب، وهي مذكورة دائماً في القرآن، ولا تجد في القرآن ذكراً للفواكه الأخرى، كالخوخ والمشمش وغيرها؛ إنما التي تقوم عليها ثروات العالم: التمر والعنب.
ولذلك الآن تذهب إلى أمريكا أو استراليا أو الصين وإلى كل بلاد العالم، تجد أن أكثر السلع: التمر والعنب، وهناك الحبوب وقد ذكرها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في مسألة ما يحصد.
ويقول بعض الشراح: الشبه بين النخلة والمؤمن، أن النخلة إذا رميتها بالحجر أنزلت عليك رطباً، وكان عيسى عليه السلام يقول لتلاميذه وحوارييه: كونوا كالنخلة ترمى بالحجارة فترد رطباً، وهذا مثل المؤمن.
ولقد أمر على السفيه يسبني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
وقال حاتم الطائي، وهي من أشرف أبياته:
وكلمة غادرٍ من كف لؤمٍ مررت بها فقلت: تجنبيني
يقول: إني قلت لهذه الكلمة: اذهبي عني، وحاتم الطائي أبياته من أحسن ما يكون، وليته أسلم ولكن لله الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْد، وكان أكرم العرب، حتى يقول لامرأته:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي
يقول: إذا ما صنعت الزاد؛ وأحضرت الغداء أو الإفطار أو العشاء، فوالله لا أقدم عليه حتى تأتي بضيف.
وهذا مثل إبراهيم عليه السلام، وليس هذا من حديثنا في شيء، والمقصود أن المؤمن إذا سُب رد بكلام طيب، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63].(305/17)
ومن الآداب: ألا تسأل غير الله
ومن المسائل: {إذا سألت فاسأل الله}.
الشحاذة محرمة إلا من الله فهي من أحسن ما يكون، والله عزوجل يحبك إذا أكثرت من المسألة، والآدمي يكرهك إذا أكثرت سؤاله، ولو كان ما يعطيك في كل يوم إلا ريالاً لكن رابع مرة سوف يعطيك هراوة في رأسك:
لا تسألنَّ بُنيَّ آدم حاجةً وسلِ الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبُنيَّ آدم حين يسأل يغضب
ومن أراد منكم أن يتقرب إلى الله فليكثر من السؤال، وكما مر معنا في محاضرة (أسرار عبقرية ابن تيمية) أن يديه كانتا كيدي الشحاذ، لكن من الله، وهذا الشحاذ الذي يشحذ من الله، كانت تأتيه قناطير الذهب والفضة ويرميها على الفقراء وليس عنده إلا ثوباً واحداً.(305/18)
من الآداب: عدم الزيادة في الجواب إلا لفائدة
هل لك إذا سألك السائل أن تجيب بأكثر مما سئلت؟
أولاً: في مقررات العقول ليس وارداً، ولكنه في مقررات الشرع وارد للفائدة: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:17 - 18] قال الحسن البصري: [[طاب له الخطاب فأكثر في الجواب]] لأنه يخاطب الله عزوجل، فأكثر، وأنت إذا أعجبك الرجل السائل وهو من الناس زدت في الجواب، فكيف بالواحد الأحد سبحانه، الذي له المثل الأعلى.
فإذا كان الجواب فيه مصلحة للسائل، أو يقتضي السؤال أن تزيد فلك أن تزيد، وكان هديه عليه الصلاة والسلام إذا رأى حاجة السائل يحتاج إلى شيء زاده في الجواب، فأتى بجواب من أحسن ما يكون
وعند أبي داود والترمذي وابن أبي شيبة ومالك وغيرهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأله أعرابي عن ماء البحر -هل يجوز الوضوء منه؟ - فقال: عليه الصلاة والسلام: {هو الطهور ماؤه، الحل ميتته} ونصف علم الطهارة في هذا الحديث.
مع أنه لم يسأله عن الميتة.
لكن قال أهل العلم: لما سأله عن الماء وهو ظاهر أنه طاهر، فالميتة من باب أولى أنه لا يعرفها، ما دام أنه سألك عن ماء البحر هل أتوضأ منه؟ فمن باب أولى أنه لا يعرف حكم ميتة البحر، فقال عليه الصلاة والسلام: {هو الطهور ماؤه، الحل ميتته}.
والفائدة: أن من توضأ بماء البحر جاز، ومن اغتسل به جاز، سواء عنده أكان ماء عذب أو لا، وهذا شبه إجماع بين أهل العلم، ولا أعلم من خالف ذلك إلا عبد الله بن عمرو بن العاص والماوردي من الشافعية، وكلام الاثنين مردود رحمهما الله، بل الصحيح هو ما ذكرت.
والميتة: هي ميتة البحر مما يعيش ويموت فيه، أما أن تأتي بكلب من الشارع وتغطسه في البحر وتقول: ميتته! فهذا ليس المراد؛ لأن الضمير يعود على ميتة البحر.
وقالوا: أيضاً مما لا يستقبح، وابن حزم يحمله على العموم، يقول: كل شيء يموت في البحر كله حتى كلب البحر، ودواب البحر، وثعبان البحر، والصحيح مما لا يستقبح كالضفادع والسلحفاة، خلافاً لما قاله ابن حزم، وهذا ليس من مسائلنا في شيء.
لكن المقصودِ أن نبين لك أن الجواب قد يكون أكثر للفائدة، فالأستاذ إذا سأله الطالب سؤالاً خفيفاً ورأى من الحكمة أن يجعله محاضرة، فلا بأس.
ومن الحكمة في
الجواب
أنه إذا سألك سائل، ورأيت الجواب أحسن أن تلف، ويسمى جواب الحكيم، وهو في القرآن قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة:189] تدرون من سأل؟ قريش، يقولون: كيف الهلال يبدو صغيراً ثم يكبر ويكبر ويكبر حتى اليوم الخامس عشر، ثم يصغر يصغر يصغر حتى آخر الشهر، ما هو الجواب على هذا: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة:189] الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحبهم، لكن اسمع جواب الحكيم سبحانه: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] المعنى: أن سؤالهم تافه حقير مثل حقارتهم، لكن الأولى أن يسألونك عن فائدة الهلال، فما دام أنه يفترض أنهم سألوا عن فائدة الهلال ف
الجواب
{ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:198].
وأنتم أخذتموها في البلاغة أنه جواب الحكيم، قال الزين بن منير؛ وهو من شُرَّاح صحيح البخاري: مطابقة الجواب للسؤال غير لازم، بل إذا كان خاصاً والجواب عاماً جاز؛ وهذا كلام ثمين.(305/19)
اختلاف الصحابة في مسائل العقيدة
الصحابة لم يختلفوا ولم يسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام في العقائد، إنما سألوه في الأحكام التشريعية الأخرى، أما العقائد فأجمعوا وسكتوا ورضوا وانتهوا إليها، وإنما أتت المباحثة والإشكالات في مسائل العقائد عند المبتدعة المتأخرين.
يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: والصحابة بحمد الله لم يختلفوا في شيء من العقائد، ولم يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء من ذلك، يعني: سؤال اختلاف، فإن الله ذكر في القرآن: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة:189] وقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222] {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة:219] و {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة:219] إلى آخر تلك الأسئلة في خمسة عشر موضعاً في القرآن، لم يرد في شيءٍ منها في العقيدة، فهم بحمد لله لم يختلفوا بل أجمعوا وسكتوا.
لا تقل كما قيل:
لا تقل كيف استوى كيف النزول أنت لا تعرف من أنت ولا كيف تبول
يعني: لا تسأل عن هذا، ولا تصل إلى هذه الدرجة، بل سلم بالأمر، وبعض الناس يأتيك في القرن الخامس عشر يسأل في كيفية استواء الله على العرش والله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فلنمرها كما جاءت بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تعطيل، ولا تحريف، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
وورد في القرآن قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] قال أهل العلم: متى يكون هذا؟ يقول الله للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا} [الزخرف:45]
قال بعضهم: معناه: اسألهم يوم القيامة.
وقال الآخرون: معناه: سؤالٌ محتمل، سوف تسألهم أو لا تسألهم.
وقال فريق: بل اسألهم، كما ذكر ابن كثير وغيره، أنه صلى الله عليه وسلم لما صلَّى بالأنبياء في بيت المقدس، جمعهم الله له، والتفت إليهم فأراد أن يسألهم، فرأى الجلالة والنور والمهابة، وأراد أن يسأل هل جعل مع الله إلهاً آخر؟
فاستحيى {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] فلم يسألهم، وكان هذا السؤال مقرراً أن يكون معهم.(305/20)
ذكر الدليل عند إجابة السائل
أي إذا سألك عامي، أو طالب علم عن مسألة، فهل تذكر له الدليل أم لا؟
في الجواب تفصيل:
إن كان السائل طالب علم فأجبه بالدليل، فإذا سألك -مثلاً- عن حكم ماء البحر هل أتوضأ به؟.
قل: نعم، والدليل على ذلك ما عند الخمسة وابن أبي شيبة بسند صحيح {أن أعرابياً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته}.
لكن إذا سألك عامي، أو أعرابي عن ماء البحر، لو قلت له: نعم ماء البحر طاهر، والدليل على ذلك قول امرؤ القيس:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوبٍ وشمأل
هل يعترض عليك؟! لا، سيظن أنه حديث، ولذلك سواء ذكرت له الدليل أو لم نذكره فإنك لن تفيده شيئاً، إنما تجيب بالراجح.
ويحذر في الأجوبة على العامة أن تفرع لهم المسائل، كبعض الناس عندما سئل عن دباغ الجلود، هل تطهر إذا دبغت؟ قال: فيها سبعة أقوال: قال الزهري، وقال الروياني، وقال الماوردي، وقال الشافعي، وقال مالك، وقال داود الظاهري.
فجعل هذا العامي في حيص بيص لا يدري أهو في تنزانيا أو في مدغشقر، وهذا ليس من الحكمة، بل إذا سألك فقل الجواب كذا، كلمة واحدة.
فالدليل لطالب العلم، أما العامي فيعطى الجواب صريحاً بلا أقوال، بل الراجح في المسألة.
والدراسة في بعض المناهج التي تأتيك بأربعة أقوال ولا ترجح ليست من الحكمة، وهي حفظ للمعلومات فقط، وليس فيها مصلحة إلا أن ترجح القول الراجح في الأخير.
ومما يستطرف من المسائل أن الإمام البخاري بوب باباً فقال:
باب: السؤال والفتيا عند الجمار؛ أي الثلاث الجمار الكبرى والصغرى والوسطى، هل يسأل عندها؟
يقول بعض العلماء الشارحين على البخاري: مراده أن اشتغال العالم بالطاعة لا يمنع من سؤاله عن العلم، ما لم يكن مستغرقاً فيها، مع أنه خاص في الجمار لكن لا عبرة بخصوص السبب بل بعموم اللفظ فلو أتيت إلى عالم وهو يسبح، فلك أن تسأله، أو كان يقرأ القرآن لك أن تسأله، لكن إذا كان يصلي ومستغرقاً في الصلاة فلا تسأله.
وأورد حديث كان صلى الله عليه وسلم يرمي الجمار فأتاه رجل، كما في حديث ابن عمر في الصحيح، وقال: {يا رسول الله! نحرت قبل أن أرمي؟ قال: افعل ولا حرج.
فأتاه آخر فقال: ذبحت قبل أن أرمي؟ قال: افعل ولا حرج.
وأتاه ثالث فقال: رميت قبل أن أحلق؟ قال: افعل ولا حرج.
قال: فما سأل عن شيء قُدِّم ولا أخِّر إلا قال: افعل ولا حرج} {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم كان يرمي ويسبح ويذكر الله، ويقول: افعل ولا حرج، وكان يفتي الناس يمنة ويسرة.
وذكر ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: أن معاوية لما انتهى من الحج في اليوم الثالث خيم في الأبطح، وكان خليفة المسلمين، نزل هناك، فأتى الحجاج ينزلون كالسيل، وبعد صلاة المغرب أمر معاوية أن تغلق السكة والطرق حتى يطوف طواف الوداع، ولا يكون هناك زحام، فصف الجنود، وقال: لا تأذنوا لأحد ينزل من الحجاج حتى أنتهي من الطواف، فإذا انتهيت فأذنوا للناس، فوقف الجنود يردون الناس، فأتى رجل من قريش عبد الله بن جعفر الطيار؛ من الذي يحبس عبد الله بن جعفر الطيار، ابن ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا من أكرم العرب، ومن أكرم الناس، لم يكن يعرف كلمة (لا) وكان سخياً ماجداً، فأتى بالفرس، فقالوا له: ممنوع الدخول، فقال والله لأمضين، قالوا: ومن أنت؟ قال:
وأنا الأخضر من يعرفني أخضر الجلدة من نسل العرب
من يساكني يساكن ماجداً يملأ الدلو إلى عقد الكرب
فقال معاوية: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن جعفر.
قال: ائذنوا له.
فمر ومعه موكب ودخل الحرم.
فأتى الشاعر المخزومي عمر بن أبي ربيعة؛ ومعه موكب من الشباب، فقال: ائذنوا لي؟ قالوا: ممنوع، قال:
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قال: تعرفن الفتى قلن: نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر
قال: ائذنوا له.
فمشى.
فأتى ابن عمر رضي الله عنه على بغلة، قال: والناس حوله كالغمام، هذا يقول: فعلت، فيقول: افعل ولا حرج، وهذا يفتيه، فقال معاوية: هذا الشرف ورب الكعبة، ائذنوا لـ ابن عمر فكان أشرف الجميع، أشرف من معاوية وابن جعفر وابن أبي ربيعة.
وقد سمعت أن بعض الفضلاء يقول: لا يُسلم في أثناء المحاضرة والحصة والدرس، وهذا خطأ بل يُسلم؛ وإذا دخلت على الأستاذ والطلاب في الفصل فسلم عليهم.
أما قضية تسمح يا أستاذ؟ هذا مورَّدة من باريس وليست من محمد صلى الله عليه وسلم، إنما تقول: السلام عليكم ورحمة الله، وتكتفي، ولا تقول: كيف حالكم؟ كيف أصبحتم؟ كيف الأبناء؟ هذا ضياع للوقت.(305/21)
لا أدري نصف العلم
(لا أدري) نصف العلم ونصف الجهل، ومن ترك (لا أدري) أصيبت مقاتله، وإذا أتى في القرآن {وَمَا يُدْرِيكَ} [الأحزاب:63] كما هي فمعناه: أنه لن يجيبه بعدها، وإذا أتاك (وما أدراك) فإنه سوف يجيب بعدها.
مثلاً: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 3] فأجابه بقوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4] وأيضاً في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة:10] أجابه بقوله: {نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:10] وبالمقابل لما قال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب:63] لم يخبره، وهذه قاعدة.
وفي حديث لكنه مرسل، ولا يصح: {أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار} وإذا رأيت الإنسان يسارع في الفتيا فاعرف أن فيه خبلاً، أو أنه قليل العلم ولا يخاف الله.
وكان أحد التابعين يمر ببعض الشباب يفتون الناس، قال: ويحكم!
تسألون عن مسائل، والله لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر.
وكان عمر يسأل الأنصار في الاستئذان، وذلك لما طرق أبو موسى عليه الباب ثم ذهب بعد الثالثة، قال: [[يا أبا موسى! لماذا رجعت؟
قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع}.
قال: والله لتأتيني بشاهد، أو لأوجعنك ضرباً]] فذهب إلى الأنصار واستفتاهم، فصدقوا أبا موسى.
بينما نحن الآن في كبار المسائل يخوض فيها الكبير والصغير.
قال الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ هذا زهراني من زهران، وهو من أذكياء العالم، هذا لو كان حياً لأخذ جائزة نوبل وهو يشرب الشاي، وهو الذي اكتشف علم العروض وعلم القافية وعلم الحساب، قال: لئن طال بي العمر إن شاء الله لأعلمنَّ الجارية حساباً تذهب إلى البقال ولا يظلمها، وكان ذات يوم يفكر بعد صلاة العصر ويغمض عينيه من كثرة التفكير ويمشي فاصطدم بسارية المسجد، ومات بأثرها، وكان من الأذكياء رحمه الله، ودخل عليه ابنه وهو يوزن البحور السبعة عشر أو الستة عشر التي اكتشفها وهي: مفاعلة مفاعلة فعول، مثل إذا أردت توزن بيتاً، مثلاً:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول مستفعلٌ فعلٌ مستفعلٌ فعلٌ
أو: قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل -من الطويل-
فعولٌ مفاعيلٌ فعولٌ مفاعلُ
كان يتنتن على أصابعه، فدخل ابنه وهو في الغرفة يتنتن، ويكتشف البحور، فقال ابنه: يا أماه جُنَّ أبي!! فقال في بيتين:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعرفتُ أنك جاهلٌ فعذرتكا
وهي من أصعب الأبيات، وكأنها جُدت من الصخر، لكنها تنبئ عن ذكائه.
يقول الخليل بن أحمد: الناس أربعة:
رجل يدري ويدري أنه يدري؛ فذاك عالمٌ فاسألوه.
ورجلٌ يدري ولا يدري أنه يدري؛ فذاك غافلٌ فنبهوه؛ قولوا: عندك علم، عندك خير، علِّم الناس.
ورجلٌ لا يدري ويدري أنه لا يدري؛ فذلك جاهلٌ فعلِّموه.
ورجلٌ لا يدري ولا يدري أنه لا يدري؛ فذاك أحمق فاتركوه.
هذه العقليات الجبارة، هي التي قدمت الحضارة للغرب، وبعضهم يقول: خطأ ليس بصحيح.
هذا الخليل بن أحمد، وجابر بن حيان، وأولاد بني شاكر قدموا علم الهندسة، وأصول التربية، ثم بنى عليها الغرب.
ونحن وقفنا ندندن على العود، وعلى ما يطلبه المستمعون، حتى تقدموا علينا في الذرة والفضاء ولم نقدم للعالم شيئاً.(305/22)
أهمية التواضع لطالب العلم
وقال البخاري: باب ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم، فيكل العلم إلى الله عزوجل.
بعض الناس الآن يقول: أنا أعلم الناس.
وكان ابن الجوزي رحمه الله قد عوتب على هذا البيت، قال:
لو كان هذا العلم شخصاً ناطقاً فسألته هل زار مثلي قال: لا
يقول رحمه الله: لو كان هذا العلم إنسان ناطق وسألته: هل رأى مثلي في الحياة؟ قال: لا.
وهذا اكتساح يسمى اكتساح العبقرية، إذا وجد عند الإنسان شيء من الغرور، وصل به إلى هذا الحد.
يقولون: الحجاج بن أرطأة، كان يجلس في طرف المجلس، فقالوا: اجلس في الصدر؟ قال: أينما جلست فأنا في الصدر.
وذكر ابن الجوزي عن أحد المتكبرين أنه أتى إلى نهر دجلة فأراد أن يمر من فوق الجسر، فتوقف قليلاً ومعه أصحابه، فقالوا: لماذا؟ قال: أخشى أن ينكسر الجسر لا يحمل عظمتي.
ولما خُلع أحد السلاطين في الشمال فرش له الناس أرديتهم فأخذ يضحك ويقول: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] وهذا هو الكبر والعياذ بالله!
يعني يبلغ بالإنسان حتى يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] وهذا منتهى الغرور والعجب بالنفس
ولهذا قيل: أنين النادمين أحب من إدلال العابدين.
فهذا موسى عليه السلام معصوم، فهو لا يتكبر، عصمه الله من ذلك، ولما قام يتكلم في بني إسرائيل بالعلم والحكمة، فقال بنو إسرائيل: هل تعلم أعلم منك؟ والصحيح أنه لا يعلم أعلم منه، لا يعلم أعلم منه إلا الله عز وجل، قال: لا أعلم أعلم مني.
فعاتبه الله لأنه لم يرد العلم إليه -لو قال: الله أعلم كان أحسن- فأوحى الله إليه، بلى عبدنا الخضر بمجمع البحرين أعلم منك فذهب إليه وهي قصة طويلة، وبوب لها البخاري في باب آخر، باب: ركوب البحر في طلب العلم:
جزى الله المسير إليك خيراً ولو ترك المطايا كالمزاد(305/23)
جواز مراجعة العالم في المسألة حتى تفهم
ك أن تراجع العالم في المسألة، كأن يفتيك في مسألة لم تتوثق منها فلك أن تراجعه، لكن لا تراجعه حتى يمل، فبعض الناس يسأل العالم في مسألة وجيزة، فيجيب العالم، ثم يرد ذلك الشخص الكلام، ثم يرد العالم الجواب وهكذا حتى يمل منه، وهذا كما قيل:
أقول له زيدٌ فيسمعه عمراً ويكتبه بكراً ويقرؤه فهرا
إذاًَ يجوز مراجعة العالم حتى تفهم المسألة، والدليل على ذلك ما بوب له البخاري في صحيحه باب: من سمع شيئاً فراجعه حتى يعرفه، وذكر حديثاً عن عائشة أنها كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من نوقش الحساب عُذِّب، قالت عائشة: يا رسول الله! أوليس الله يقول: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:8]-أي: المؤمن؛ فكيف من نوقش الحساب عذب- قال عليه الصلاة والسلام: إنما ذلك العرض، ولكن: من نوقش الحساب عذب} يعني: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:8] هو العرض، أن يقول لك يوم القيامة: فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا، سترتك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فنسأل الله ستره وعفوه.
فـ عائشة استشكلت بين مسألتين: بين قول تعالى: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:8] وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من نوقش الحساب عذب} فأخبرها أن الحساب شيء، والعرض شيء آخر.(305/24)
القسم في الجواب والفتيا للمصلحة
هل لك أن تحلف إذا أجبت عن مسألة، كما إذا سألك أحد عن عدد المضمضة فتقول: والله الذي لا إله إلا هو، إنه ثلاث مرات، أو عن كفارة اليمين ما هي؟ فتقول: والذي لا إله إلا هو، إن كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين.
قالوا: من حيث الأصل لا داعي لذلك، لكن إذا كان في ذلك مصلحة وفائدة لتأكيد الجواب، أو لإظهاره، أو لتثبيته، أو لترسيخه، أو كان في المسألة خلاف، ورأى العالم أن الظاهر والحق هذا؛ فله أن يقسم كما قال تعالى: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53].
وكان أحد العلماء، عند أحد القضاة، فسأله القاضي فحلف، فقال القاضي: أجبنا ولا تحلف.
قال: أيها القاضي: إن الله طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن أن يقسم أكثر من موضع:
{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7] {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:5] فهذا من الإقسام الذي أجاب بها صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم لما سأله الرجلان في مسألة حد الزاني؟ قال: {والذي نفسي بيده لأقضينَّ بينكما بكتاب الله}.
وكان الإمام أحمد إذا سئل عن مسألة، قال: إي والله، إي وربي، وكان يقول: لا والله، وفي بعض المسائل يفتي فيها: لا والله.
فلك أن تثبت الجواب في ذهن السائل بهذا القسم للمصلحة.(305/25)
تحصيل العلم الشرعي
ما هي الآداب التي تجعلك محصلاً؟ هناك كتاب في المكتبات اسمه: (كيف تطلب العلم) ألف قبل ما يقارب سنة، وفيه مسائل لا بأس بها، لكن ألخص لكم بعض الفصول:(305/26)
أهمية الإخلاص في طلب العلم
أي أن يكون خالصاً لوجه الله؛ فإن ميزة طلبة العلم في الإسلام عن طلبة العلم عند الكفار، أنهم يطلبون العلم لوجه الله، لأن ديننا أمر وحث على الإخلاص فقال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف:29] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم:- {إنما الأعمال بالنيات} والإخلاص هو: الخلوص من طلب العلم لغير وجه الله، فلا للوظائف، ولا للمناصب، ولا للشهرة.(305/27)
العلم قبل القول والعمل
حيث قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
بليت الأمة باثنين: عالم فاجر، وعابد جاهل؛ فالعالم الفاجر يشابه اليهود؛ فإنهم تعلَّموا ولم يعملوا، والعابد الجاهل يشابه النصارى؛ فإنهم عملوا ولم يعلموا؛ فقال الله في اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] وقال في النصارى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27] فمن تعلم ولم يعمل غضب الله عليه، ومن عمل بلا علم كان ضالاً: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فالمغضوب عليهم: اليهود، والضالون: النصارى.
أيها الإخوة الأجلة: العلم قبل القول والعمل، قال البخاري في صحيحه، بعد سياقه لآية: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] قال: فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، ومن أحسن ما يكون طلب العلم، وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير لابنه: [[يا بني! واعلم أن العلم أفضل من نوافل العبادة]] فطلبك للعلم أفضل من نوافل العبادة.
وعند الطبراني، لكن في سنده نظر عن أبي ذر مرفوعاً: {يا أبا ذر! لأن تتعلم حديثاً واحداً خيرٌ لك من أن تصلي سبعين ركعة}.
وأنا أُفضل أن الطالب والأستاذ والمعلم يحضر في مثل هذا المجلس، ولا يبقى من صلاة المغرب إلى العشاء يصلي في المسجد المجاور ولو صلى مائتي ركعة؛ لأنه هنا يصحح الإسلام، يزيد في الإيمان، ويتفقه في الدين، ويظهر له زيف الشبهة، وتتجلَّى أمامه حقارة الشهوة، ولأنه قد يصلي والشبه والشهوات ما زالت غير ظاهرة، والرسول صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فوجد حلقتين؛ حلقة يذكرون الله، وحلقة يتعلمون، قال: {أما الذاكرون فيسألون الله إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيتعلمون العلم، وإنما بعثت معلماً، فجلس معهم}.(305/28)
الصبر في الطلب
لا تقل: قد ذهبت أربابه يا ذكياً والذكاء جلبابه
وأديباً حسنت آدابه لا تقل: قد ذهبت أربابه
كل من سار على الدرب وصل
طلب العلم ليس بالسهل، والذي يأخذ من رءوس الشجر مثل: الجمل الشارد، لا يخرج إلا بمعلومات مزيفة وثقافة عامة، لكن الذي يريد أن يتخصص في علم، لا بد أن يكون بإذن الله صابراً محتسباً.
وهؤلاء علماء الغرب ثقافتهم وحضارتهم في الجزئيات، تجد أحدهم يقضي حياته منذ ولدته أمه إلى أن يصبح في الثمانين من عمره وهو في هندسة التربة -مثلاً- لا يتجاوزها، ولا يأخذ فناً آخر.
وبعضهم في بعض الولايات يقولون: لا يعرف الولايات الأخرى، ولا يقرأ الصحف اليومية، لأنه مشغول بمادته حتى ينتج هذه الجزئية، ويقدمها للناس.
وقد جاءنا أحد الإخوة من طلبة العلم من مصر وهو في نيويورك، وهو من الأذكياء النابهين، أتى بعلاج معه، من سبعة نباتات، اكتشفه رجل من النمسا يسكن في أمريكا وعنده جنسية أمريكية، وكان قد جلس فيها سبعين سنة، وعمره الآن اثنان وتسعون عاماً، ونال جائزة أمريكا على مستوى العالم في الطب، وجلس سبعين سنة يسافر إلى الأرجنتين وبلاد العرب وفنزويلا والصين واليابان، ويجمع النباتات ويحلِّلها، ويختبرها، وبعد سبعين سنة اكتشف هذا العلاج وحده؛ وهذا العلاج عجيب من العجائب.
وأنا لا أكتب له دعاية لأني لا أبيع فيه ولا أشتريه، لكن مقصودي كيف ظل هذا الرجل سبعين سنة حتى أنتج هذا العلاج؟ لكن بالمقابل تجد الإنسان عندنا يريد أن يكون مهندساً، وخطيباً من أجل الراتب، وبعض الناس تجده طبيباً آخر النهار، وعنده معمل، ويستطيع أن يفتي الناس، ويؤلف الكتب، يعني: حيص بيص، لا يدري ماذا يأخذ، فقضية التخصص لا بد منها، ولا بد من، الصبر في طلب العلم، ولهذا قيل: إن القفّال؛ وهو أحد علماء الشافعية: كان عمره أربعين سنة، ففكر في الليل هل يطلب العلم؟ فذهب في الصباح، فلما مر في الطريق جاءه الشيطان وقال: تطلب العلم وأنت في الأربعين؟! فرجع ثم مرَّ برجل يعمل في بستان، أو يسقي الزرع، والغرب يخرج من البئر، وقد أثرت الريشة في الصخر، قال:
اطلب ولا تضجر من مطلبٍ فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بطول المدى على صليب الصخر قد أثرا
فلا بد من الطلب والصبر والمحاولة بعد المحاولة.
ومما يُروى أن أحد الحكماء جلس بجناب شجرة، فرأى نملة تريد أن تصعد الشجرة، فسقطت فسقطت، فحاولت فسقطت، وبعد كثيرٍ من المحاولات صعدت، وهذه هي فائدة المحاولة والصبر والمثابرة.
ثم إني أقول لكم -أيها الإخوة- من لم يستطع في مجال فليذهب إلى مجال آخر كوظيفة، أو عمل، أو طلب علم، أو دعوة، أو خطابة، إنما المهم أن يكون مستقيماً ملتزماً، ثم لا يهم بعد ذلك ما يسلك من مجال، فلك أن تدخل الجنة من أي باب، وليس من باب العلم والتحصيل فقط، لا.
في أي وظيفة شئت، لكن كُن ملتزماً بأمر الله.(305/29)
البدء بالأولويات
البدء بالأهم فالمهم.
فتبدأ بكبار المسائل، وأصول الدين، والمتون، ومجمل العلم، والظاهر من العلم المشهور الذي لم يختلف فيه، وهكذا تبدأ بالأهم فالمهم حتى تصل بإذن الله، ومن قرأ كيف تطلب العلم، وغيره من الكتب مثل أدب الطلب ومنتهى الإرب للشوكاني، والفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي، وجامع بيان العلم وفضله لـ ابن عبد البر، من قرأها وجد ذلك.(305/30)
المذاكرة والتكرار
فلا بد أن تكرر ما تقرؤه كثيراً، وبعض الطلبة الآن يشكون أنهم لا يستطيعون حفظ القرآن، لكن إذا سألته وجدته لا يكرر المقطع كثيراً، فمثلاً المقطع الذي يكرر أربع مرات أو خمس أو عشر مرات فيحفظ كرره أنت أكثر من خمسين مرة.
وأنا أطلب منكم -أيها الإخوة- أن تبدءوا من هذه الليلة بحفظ القرآن، ولا تحفظوا في اليوم إلا آية، وأرجوكم لا تزيدوا على آية، ولا تحفظوا في اليوم إلا آية واحدة، مهما كانت، وسوف تجدون أنفسكم بعد سنوات تحفظون كتاب الله كله، فهل منكم أحد يعجز أن يكرِّر في يوم من الأيام {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] فجرب أيها الأخ ولا تحفظ إلا هي، واجعلها في ذهنك، ثم اذهب إلى وظيفتك وفي سيارتك وفي السوق وفي كل مكان وكررها حتى الفجر الثاني، ثم في اليوم الثاني خذ آية أخرى، وجربوا وسترون النتيجة.
وقد طالب بعض الأساتذة في بعض الجامعات الطلاب -من جامعاتنا- بهذا، فقالوا: كيف تطالبنا بآية واحدة، متى ننتهي؟ قال: وعدنا بعد سنوات فوجدنا طالباً واحداً أخذ بوصية الأستاذ من بين ستين طالباً فحفظ القرآن كله، بينما التسعة والخمسون ضحكوا من كلام الأستاذ، وهذا يدلك على أن الإنسان يتقالل القليل، والمثل الصيني يقول: الخط الذي طوله ألف ميل يبدأ بخطوة، وأنت لو طالبت الطالب الآن وقلت له: ابدأ احفظ القرآن، لقال: إن شاء الله، عندنا امتحانات الآن، فإذا انتهى قال: في عطلة الربيع، فإذا جاءت العطلة قال: نذهب إلى مكة، وبعد مكة بدأت الدراسة، ثم العطلة الصيفية وفي العطلة الصيفية نزهة وهكذا، ثم لا يحفظ القرآن أبداً.
إن من زرع نبتة: ليت.
أثمرت له شجرة تسمى: (لعل) ولها أغصان اسمها: (عسى) وفيها ثمر اسمه: (متى) وذوقها اسمه: الخيبة والندامة والعياذ بالله! {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].(305/31)
تقييد العلم بالكتابة
أوصي الإخوة أن يكون عند الإنسان دفتر جيب أو ما يسمى مذكرة يومية، يسجل فيها ما يستفيده من المجالس والملاحظات العامة، وما يستقريه، وما يسمعه من الأخبار إن كان عند المذياع.
فإذا أعجبه بيت، أو طرفة أو خبر، يقيده في هذا الدفتر وهذا الدفتر يسمى كشكول، تكتب فيه كل شيء، لكن كل شيء له قيمة وفائدة.
والمقصود هنا: أنك لن يمر بك يوم -وجرب- إلا وقد جمعت من الأخبار ورءوس المسائل، والتحليلات الكثير والكثير.
ومرة مر ابن المبارك المحدث المشهور بمزبلة فسمع بيتاً فأخرج مذكرة وكتب، قالوا: تكتب في المزبلة؟
قال: درة في مزبلة! وهذا يسمى صيد الخاطر؛ أن تكتب كل ما سمعت، ولكن "قيد العلم بالكتابة" ليس بحديث، لكنه من كلام الحكماء:
العلم صيدٌ والكتابة قيده قيِّد صيودك بالحبال الواثقة
وهذا من أردأ الأبيات ولو أن فيه حكمة، لكنه ثقيل على النفس.(305/32)
العمل بالعلم
يقول تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
هذا مثل بعض طلبة الامتحان، وقد لاحظناهم، يأتي إلى المسجد فيذاكر من صلاة المغرب إلى قرب العشاء، فإذا دنى الأذان خرج وأخذ حذاءه وفر، يذاكر -فقط- في المسجد من أجل المذاكرة، لكن صلاة الجماعة لا يحضرها.
وبعضهم -وقد ذُكر هذا في مناسبات- تجده في الامتحانات: يا رب! يا حي يا قيوم! أسألك أن تنجحني، ويدخل على أمه يسلم، ويقبل على رأسها، فإذا انتهت الامتحانات تمرَّد، وهذا نفي للعلم.
وبعضهم يطلب العلم من أجل الشهادة فيغش في الامتحان، والمهم عنده دعنا نأكل، سواءً كان في الشريعة أو في أصول الدين، وهذا معروف.
ومن طرف الغشاشين: أن أحدهم كتب الغش في قطعة في أسفل سرواله، واكتشف في ذلك، وكان المدير فيه حزم، وفيه طرفة ودعابة، فطلب من الطالب أن يخلع هذا الملبس وعلقه مع الإعلان: قبض على أحد الغشاشين والشاهد هذا.
وقد تطور الغش بتطور الوسائل الحديثة، ومن له خبرة منكم يعرف ذلك.(305/33)
نشر العلم بين الناس
العلم في الإسلام يختلف عن العلم في غيره، فالعلم في الإسلام يدعوك ويوجب عليك أن تنشره، وتتكلم به، وتدعو إليه في العالمين قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] وقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {نضر الله امرءاً سمع مني مقالة فوعاها فأداها كما سمعها، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع} وقال {بلِّغوا عني ولو آية} يعني: في محيطك، سواء كنت في مكتب أو دائرة أو مؤسسة ادع إلى سبيل الله، كما قال الله تعالى عن عيسى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] فحيث ما حللت فأنت مبارك كالغيث.(305/34)
قضايا تهم طالب العلم(305/35)
حكم رفع الصوت بالعلم
بالنسبة لطالب العلم: هل له أن يرفع صوته؟
و
الجواب
فيه تفصيل والأصل أنه إذا عدمت الحاجة فإنه لا يجوز لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان:19] أما إذا كان لحاجة فيجوز له والحق هذا، لأن الهدوء علامة الرزانة، وأنت تتكلم بقدر الحاجة، فإذا كان الرجل قريباً منك فلا ترفع صوتك إلا بقدر ما يسمع، لكن في المواعظ العامة والخطب فلا بد أن ترن وتهز، وتكون قوياً كالسيل حتى تؤثر في السامع، {وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب ربما سقطت خميصته من عليه} كما في حديث النعمان بن بشير، {وكان يغضب ويشتد غضبه وتحمر عيناه كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم}.
كما في حديث جابر
أما إبراد الناس بالخطب، فإنهم ينعسون في الخطبة، ولا بد في هذا من قوة في الزجر، والوعظ، والصوت.
أما في الدروس فتأخذ مجال الهدوء والرزانة، والنقاش، والحوار، ولكل مقام مقال.(305/36)
فضل العلم
العلم أفضل مطلوب، وقد كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه يقول: [[قيمة كل امرئ ما يحسنة، وكفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، -الآن الجاهل يقول: أنا متعلم- وكفى بالجهل سوءاً أن يتبرأ منه من هو فيه]] فترى الجاهل يقول: أنا لست جاهلاً، حتى أن بعضهم قد يقاتلك إذا قلت له: أنت جاهل.(305/37)
أهمية التخول في الموعظة
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة والعلم كي لا ينفروا.
وجاء عن ابن مسعود أنه كان يعظ الناس يوم الخميس فقيل له: [[لو وعظتنا -يا أبا عبد الرحمن - كل يوم؟ قال: إنه يمنعني من ذلك مخافة السآمة عليكم]].
فالحكمة أن تجعل للناس في الأسبوع درساً واحداً أو درسين، ولا تثقِّل عليهم، وبعض الناس يتكلم في الناس في كل مجلس يجلسه معهم؛ في المجلس، والدعوة، والعزاء، وفي الطريق، وفي كل مكان وكلما اجتمعوا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله.
ويلقي عليهم محاضرة حتى تتكسر ظهورهم، حتى إن بعضهم لا يحضر الدعوة بسبب هذا.
وسمعنا أن بعضهم حضر زواجاً، فقام في محاضرة عن الموت من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، والناس في زواج وفرح وقام الشيبة يبكون، وتركوا العشاء، فهذا ليس من الحكمة، بل الواجب أن يكلِّمهم فيما يناسب الموقف من التذكير بنعم الله ومنها الزواج والدعوة إلى ترك المغالاة في المهور وغيرها.
والمقصود -أيها الإخوة- هو الاقتصاد في مواعظ الناس حتى تأتي إليهم وهم بتلقي وبتلهف إلى كلامك.
وكان عبد الله بن مسعود يذكر الناس كل يوم خميس، وليس هذا من البدع، فمثلاً هذا الدرس في مساء كل سبت، ليس من البدع بحمد لله، بل الأصول والمصلحة تدعمه ولا يتعارض مع أصول الشريعة.
وكان صلى الله عليه وسلم يجعل للنساء يوم الإثنين، يخاطب النساء ويعلمهنَّ أمور دينهن (صلى الله عليه وسلم).(305/38)
متى يصح سماع الصغير؟
هذا باب فتحه البخاري، والصحيح أنه يصح سماعه إذا ميز، ولا أستطرد في هذه المسألة لأن بعض الأسئلة سوف تأتي.(305/39)
الغضب في الموعظة والتعليم عند الحاجة عزم
إن من الحزم في الوعظ أن العالم إذا رأى ما يكره أن يغضب؛ كما غضب عليه الصلاة والسلام في بعض المواطن، ففي صحيح البخاري من حديث زيد بن خالد الجهني لما سأله عن ضالة الإبل، غضب عليه الصلاة والسلام حتى احمرَّ وجهه، وقال: {مالك ولها، دعها، فإن معها سقاءها وحذاءها، ترد الماء وترعى الشجر}.(305/40)
استحباب تكرار الحديث ثلاثاً
وللعالم أو الملقي أن يعيد المسألة ثلاث مرات حتى ترسخ في أذهان الناس، وهذا ليس من التكرار المملول، بل هو من العجيب المرسخ للعلم؛ كما كان صلى الله عليه وسلم في حديث أنس الصحيح: {إذا سلم سلم ثلاثاً، وإذا تكلم تكلم ثلاثاًَ}.(305/41)
العناية بتعليم النساء أمور دينهن
واجبٌ على المرأة أن تتعلم أمور دينها، وأنا أحث الإخوة خاصة في هذه المنطقة؛ لأنه يوجد تقصير في جانب النساء في التعليم، وفي المحاضرات، والمواعظ، أن يوصلوا المحاضرات والدروس إليهن في البيوت بواسطة الشريط، أو الكتيب، أو أي وسيلة أخرى.
لأن المرأة مثلاً في منطقة الرياض والقصيم، مهتمٌ بها كثيراً كثيراً، وعندها نور، ولو أني أعرف أن هنا قطاعاً عندهم خير، لكني اسمع بعض الناس يقولون: ما الداعي لتعليم المرأة، بل تبقى في البيت! ونحن نقول: هذا لا يخالف فيه إذا كان الأحسن لها أن تسمع المحاضرات، والندوات حتى لا تبقى جاهلة بأمور الدين، وتعذب يوم القيامة، ويكون هو المسئول عنها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].(305/42)
حرمة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم
وهذا بابٌ مستقل؛ وإنما أورده هنا تحذيراً لطلبة العلم من التجاوز في الأحاديث؛ فإن بعضهم دائماً في كل مجلس يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر خطير، وأحذركم ونفسي من هذا، والمسألة صعبة، كيف تتكلم عن المشرع عليه الصلاة والسلام، المعصوم، فاتقوا الله في ذلك، وقد كان ابن مسعود إذا أراد أن يقول: قال صلى الله عليه وسلم انتفض حتى كادت عصاه تسقط، وابن عمر قيل: إنه سافر من المدينة إلى مكة فما سمعناه إلا مرة يقول: قال الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال عبد الله بن الزبير لأبيه: مالك لا تحدث عن الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قال: {والله لقد حضرت كما حضروا، وعرفت لكن أخشى من حديث سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}.
وقد سمعت عواماً يوردون كثيراً من أحاديث على الناس، ليست من الأحاديث في شيء وحديث القصاصين كذب، وخرافة، ودجل، بل من بنى عليها دينه صار في ضياع وسفه.(305/43)
حكم السهر بعد العشاء في طلب العلم
استدل لها البخاري بحديث: {أرأيتم ليلتكم هذه، فإنها رأس مائة} على أنه لا بأس بالمواعظ والدروس بعد صلاة العشاء، وليست من باب السمر، أو السهر المحرم إذا لم يضيِّع صلاة الفجر، وكذلك يجوز أن تسهر مع الضيف بشرط ألا تضيع صلاة الفجر، ولك أن تذاكر بعد العشاء وتسمر مع المذاكرة بشرط ألّا تضيِّع صلاة الفجر؛ لأن بعض الطلبة وجد أنهم يضيعون صلاة الفجر بسبب هذا السهر، وإذا وصل إلى هذه الدرجة صار محرماً.(305/44)
أهمية مخاطبة الناس على قدر عقولهم
من حكمة الواعظ والمدرس والمعلم والعالم ألا يتكلم بكل المسائل أمام الناس، فكلام الخاصة للخاصة، وكلام العامة للعامة، هناك كلام يضيق عنه الأذهان [[حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله]] وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: [[إنك لست محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان على بعضهم فتنة]].
مثلاً -الآن- مداخل علم الكلام عند العوام، أو مثل الأسماء والصفات واختلاف الأشعرية مع أهل السنة، أو إيرادات المعتزلة على أهل السنة؛ فهذه لا يحدث بها عند العوام، وكذلك الخوض في المعاني التي لم يخض فيها علماء السلف وإنما أخذوا الظاهر ووقفوا، فعلينا أن نقف كما وقفوا.(305/45)
واجب الأمة عند نزول الغمة
إن الناظر بعين البصر والبصيرة إلى حال الأمة الإسلامية، يجد أنها تعيش الضعف والذل والهوان، وما ذاك إلا للبعد عن منهج الله، والخواء العقدي، والتلوث الفكري، ونسبة الخطأ إلى الغير، وعدم الجدية في السير إلى الله، والفرقة الحزبية المقيتة، ونقض العهود والمواثيق، وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فما هو السبيل إلى إعادة مجد الأمة؟
وما هو واجبنا في ذلك؟
هذا ما تجدونه بين أيديكم في هذه المادة.(306/1)
حكم توثيق المحاضرات بالفيديو
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وقبل أن أبدأ، هناك مسألة ولعلها ليست غريبة عليكم، وهذه من المسائل التي يكثر السؤال عنها، وهي: الفيديو والتصوير في المحاضرات، والذي أقتنع به أنه لا بأس بأن ينقل الصوت الإسلامي عن طريق الفيديو بعد تأمل واستقراء، وقد سألت سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز مباشرة بالهاتف، وقد تكرر هذا في كثير من المجالات، وكان معي الشيخ/ سعيد بن مسفر، وأجاز فضيلته ذلك للمصلحة التي تكمن فيه، وعلم الله أنه لا مجال للإنسان في أن يرد النصوص إذا صحت عنده، ولا يجوز له بحال من الأحوال أن يقف ضد كلام المصطفى عليه الصلاة والسلام.
لكن هذا الفيديو، رأينا أنه وسيلة من وسائل الدعوة، أنا أريد أن يدخل الفيديو الإسلامي البيت الذي كان يدخله الفيديو المهدم، ليسمع به أهل البيت: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] ليسمعوا فيه قول الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] ليسمعوا من خلاله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
ثم لا أحجر على أي أحد من الناس أن يعترض على هذا، فهو اجتهاده، أما أن يأتي ويدعي أني عارضت النصوص، ورميت بها عرض الحائط فمعاذ الله، بل أجعل وجهي على التراب يوم يأتي النص من المعصوم عليه الصلاة والسلام، ثم أحاول أن أجد له مخرجاً، لا يكون هذا أبداً، ودونه قطع الرءوس والجماجم، وإسالة الدماء، وهذه مسألة أحببت أن أذكرها لكم، وما سمحت بهذا الفيديو إلا بعد تأكد وتيقن من مصلحته في نقل الدعوة والتأثير في الناس، وكما قيل: ليس الذكي الفطن الذي يعرف الخير من الشر، فجل الناس يعرفونه، لكن الذكي الذي يعرف خير الخيرين وشر الشرين.
عناصر هذه المحاضرة: (واجب الأمة عند نزول الغمة):
أولاً: أخطاؤنا: الخواء العقدي، التلوث الفكري، نسبة الخطأ إلى الغير، عدم الجدية في الالتزام، خلل في الصف.
ثانياً: الذنوب الكبرى التي تعيشها الأمة: الإعراض؛ الترف؛ نقض الميثاق؛ نسيان الذكر؛ عدم التآمر والتناهي.
ثالثاً: العقوبات والمثلات: موت القلوب؛ السنين والقحط، الهلاك الظاهر، الريح، الصيحة، الغرق، الخسف، انطماس الهوية، التخلف الحضاري.
رابعاً: أسباب الإنقاذ: أين العلماء؟ بناية الحصون المهدمة، إعادة بناء المناهج، تحدي شبح الموت.
خامساً: الفرج من الله: ويكون ذلك بصدق اللجوء إليه، والتوكل على الواحد الأحد الذي لا يموت، والتوبة النصوح، ونصرة الله في الأنفس والحياة.
السادس: التعلق بمصادر العزة: الولاية الكبرى لنا وليس لغيرنا، القدوة الخالدة إمامنا وشيخنا وليس غيره، ميراث الوحي، أمة الخلافة في الأرض.
سابعاً: واجبنا نحو الجيل العائد إلى الله: حماية السلوك بالمنهج الرباني، إظهار محاسن الدين للأمة، الذب عن أعراض الصالحين، ربط الجيل بالعلماء، فتح مجالات التأثير للدعاة.
أيها الإخوة الكرام: نحن نعيش حدثاً عالمياً، وأصبح مصير الأمم بيد رجل واحد، ينتظر منه أن يقول الكلمة الحاسمة في مصير الشعوب، أن يقول نعم أو لا.
وأصبح الناس ينتظرون إلى هذا التاريخ الموقوت، والموعد المسمى، وكأنهم ينتظرون القيامة، قال تعالى: {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1 - 2] وأصبح الأطفال يحسبون لخمسة عشر يناير ألف حساب، ويعيشونه في أذهانهم، وفي بيوتهم، وفي أيامهم ولياليهم.
متى كنا أمة تخاف الموت، ومتى كنا نسلم أرواحنا على أكفنا.
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
أما كان أنس بن النضر يقول: [[إليك عني يا سعد، والذي نفسي بيده، إني لأجد ريح الجنة من دون أحد؟]] أما كان المجاهد الصنديد العقدي الموحد في المعركة يلبس أكفانه ويتوضأ، ويبيع نفسه من الله؟! من الذي شهد على المبايعة؟ ومن الذي وقع على المعاهدة؟ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] أليسوا أجدادكم يا حملة التوحيد؟ أليسوا آباءكم يا أهل لا إله إلا الله؟ وسوف يتكرر الجيل الذي لا يخاف الموت متى التزم بمبدأ إياك نعبد وإياك نستعين، وقد رأينا زملاءكم وكثيراً منكم ممن ذهب إلى أفغانستان يقدم جمجمته لجنزرة الدبابة، فتشدخ رأسه في سبيل أن تبقى لا إله إلا الله، وينسحب الملاحدة الروس وهم كُثر؛ لأن الذي واجههم صف لا إله إلا الله، قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] ولكن أخطاءنا انكشفت لنا مع الأحداث:
جزى الله الشدائد كل خير عرفت بها عدوي من صديقي
وجزى الله الكوارث، يوم تنتج للأمة معرفة الخطأ.
مصائب قوم عند قوم فوائد
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
وعند البخاري من كلام معاوية رضي الله عنه وأرضاه في باب الأدب: [[لا حكيم إلا ذو تجربة]] ومن لدغته التجارب عرف وتيقن وأبصر، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: {لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين} بل يكفيه لدغة واحدة لينتبه للمصير.(306/2)
أخطاء الأمة الإسلامية
وقد اكتشفنا من الأخطاء التي تعيشها الأمة الشيء الكثير، منها:(306/3)
الخواء العقدي
نحن أمة عندها لا إله إلا الله باللسان، والادعاء ويوم أن أتت الأزمة ظهر الخواء العقدي الذي تعيشه الأمة في ضميرها ومقدراتها، وكان هذا خطأً معلوماً، ودفعنا ضريبته ونتائجه وديونه من دمائنا وعرقنا وأموالنا، بسبب الخواء العقدي في أمة حسبنا الله ونعم الوكيل، ولم تكرر الأمة نفسها وتاريخها مرة ثانية في هذه الأحداث، وإنما كانت خائفة مذعورة، لا تدري إلى أين تلتجئ، والله تعالى ذكر أولياءه وقال فيهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
والمطالع للمنهج العقدي للرسول صلى الله عليه وسلم في (الفتح الرباني) وهو يعرض العقيدة على أصحابه، فإذا المجلس الواحد يجعل الصحابي يشتري الجنة في جلسته، ويقول: الله أحب إليه من كل شيء.
وخذوها قاعدة: إن الله سبحانه تعالى إذا أراد أن يرسل رسله عليهم الصلاة والسلام، يترك الرسول أربعين سنة، هل سمعتم برسول بعث قبل الأربعين؟ لا لماذا الأربعون تسمى أربعين الذكريات وأربعين المصائب وأربعين الابتلاء:
وماذا يبتغي الشعراء مني وقد جاوزت حد الأربعين
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
فسن الأربعين هي درجة أن يصاب الرسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام بالمصائب والكوارث والجوع والقحط، حتى يعلم أنه لا إله إلا الله، فإذا علم الرسول أنه لا إله إلا الله، ولا نافع ولا ضار ولا محيي ولا مميت إلا الله، ولا كاشف للبلوى إلا الله، أرسله الله للناس ليخبرهم أنه لا إله إلا الله.
أما قبل أن يتأهل نفسياً ليقود الأمة والشعب، فلا يمكن أن يرسله الله حتى يتأهل بلا إله إلا الله.
ومن يطالع في مسند أحمد بن حنبل يجد هذه الأحاديث:
عن أبي العالية عن أبي بن كعب، رضي الله عنه، قال: {قال المشركون: يا محمد! انسب لنا ربك -أي: اذكر لنا أباه وجده، تعالى الله عما يصفون- فسكت عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]}.
وكان صلى الله عليه وسلم يجلس هو والصَّحابة، وفيهم الأعراب والعلماء، وفيهم القادة والزعماء، وفيهم الشعراء والأدباء، فيقول: {يضحك ربك، فيقول الأعرابي: لا نعدم من رب يضحك خيراً}.
ويقول عليه الصلاة والسلام: {يد الله ملأى سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم ينقص مما في يمينه شيء}.
ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى الصحيح: {إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع له عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل} هذه العقيدة المستشرية التي يناقشها صلى الله عليه وسلم، ويعرضها في إعلامه مع أمته، ومع شعبه، وجيله، ربى منهم شباباً يقفون على الماء يطلبون الشهادة، ويمتطون على الخيول يقدمون جماجمهم للموت.
فالأمة -الآن- قليلاً ما تعيش مسألة العقيدة، وسمعت بعض الناس يقول: (دائما تقول عقيدة عقيدة، الرحمن على العرش استوى، انتهى الأمر، لا عقيدة حتى نموت، ونلقى الله عز وجل، عقيدة تمضي في الدم، نناقشها في كل مجلس ونعيدها ونكررها، والعقيدة ليست المسائل الخلافية بين أهل السنة والأشاعرة أو المعتزلة مع الجهمية المعطلة، لا العقيدة أعظم من ذلك، هي كل القرآن كما يقول ابن تيمية: كل القرآن.
أيها الإخوة الكرام: من تدبر قوله تعالى يوم أرسل الله رسوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:91] قال البخاري: فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، وربى جيله على ذلك، ومن تدبر النصوص، يرى أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يملأ الصحابي بالمعتقد.
من تداجي يا بن الحسين أداجي أوجهاً تستحق ركلاً ولطما
كم إلى كم أقول ما لست أعني وإلى كم أبني على الوهم وهما
كان أبو الحسن يعيش التوحيد حتى في المعارك، ذكر عنه أنه في صفين كان ينعس على البغلة وهو يبارز الأبطال، وقبل المبارزة بدقائق كان ينعس من النوم، من ينعس؟! أطفالنا الآن أكثرهم لا ينامون من الخوف والهلع، وبيننا وبين المعركة ألف ميل؛ لكن هكذا يربى الناس على الخوف من الموت، والهلع والجبن، فمقصودي أن علياً رضي الله عنه كان يقول: [[والذي نفسي بيده لو كشف الله لي الغطاء ورأيت الجنة والنار، ما زاد على ما عندي من إيمان مثقال ذرة]] إيمانه قوي بلغ القمة، من أخمص القدمين إلى مشاش الرأس.(306/4)
التلوث الفكري
مصادر العلم عند المسلمين أصبحت ملوثة، ليس هناك قناة واحدة تستمد الأمة منها تصورها العقدي، الذي يذكره مثل سيد قطب في معالم في الطريق.
كان السبب في قوة إيمان الصحابة أنهم كانوا لا يأخذون الخبر والتفكير إلا من الكتاب والسنة، ما هي مكتبة أبي بكر وعمر؟ هل تجد فيها كتباً إذا دخلت؟ لو دخلت بيت عمر لوجدت المصحف معلقاً في ناحية من البيت والسيف في الناحية الأخرى، المصحف يفتح به العقول، والسيف يفتح به القلاع والجماجم.
ولذلك تنورت أفكارهم، وأثَّروا في العالم تأثيراً عظيماً.
مايكل هارف، يقول عن عمر في كتاب: الأوائل (ص166): كان لهذا الرجل أعظم تأثير في تاريخ الإنسانية، إذ فتحت معظم الأقاليم في عهده.
بماذا؟
بلا إله إلا الله والسيف، بالبردة الممزقة، وببطنه الذي كان يقرقر من الجوع فيخاطبه ويقول: [[قرقر يا بطن أو لا تقرر والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].
فماذا فعلنا في تاريخ الإنسانية، وقططنا تشبع من لحوم الدجاج، وتموت حبطاً في القمائم والزبالات؟!! ماذا أثرنا في تاريخ الإنسان؟ لا شيء؛ لأن مصادر التلقي أصبحت كثيرة: مسلسل مهدم وفيديو مخرب وأغنية ساقطة ومجلة خليعة؛ آية تدخل بين آلاف المسلسلات، حديث يدخل بين عشرات الأغنيات.
فأصبح الناس يتلقون من هنا وهنا، وأصبح كثير من المبهوتين فكرياً يقولون: ساعة لربك، وساعة لنفسك.
وأصبح بعضهم يقول: مرة نغني ومرة نقرأ، مرة نبكي ومرة نضحك.
فأصبح الدين شذر مذر في حياتهم، وهذا هو التلوث الفكري، والمتأمل في القرآن يجد أن الله عز وجل يعيد الصحابة إلى مسألة قد تكون بسيطة عندنا، وينبه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104].
والمقصد من هذا ألا تشابه الكفار بالتلفظ بكلمات موهمة ومشابهة لكلماتهم، فكيف بمن اعتقد اعتقاداً كاعتقادات الكفار، أو حمل فكراً كفكر أعداء الله عز وجل، وقد كان عليه الصلاة والسلام يريد الأمة أن تكون مستقلة في فكرها ومظهرها، وفي كل شيء.
وكان اليهود لا يصلون بالنعال، فقال صلى الله عليه وسلم: {خالفوهم فصلوا في النعال} {فصل ما بيننا وبين أهل الكتاب أكلة السحر} حديث صحيح.
إذاً فالمخالفة مقصودة، ويوجد كتاب لـ ابن تيمية هو كتاب: (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) وذلك حتى تكون أنت بتفكيرك مستقلاً عن تفكير هؤلاء الضائعين التائهين، ترى كل أهل الأرض مخطئين إلا أنت، وكل من على المعمورة على باطل إلا أنت وحدك يا مسلم، لأنهم إذا أخذوا عقيدتهم من التراب والطين، أخذت عقيدتك من رب العالمين، وإذا أخذوها من الشياطين، أخذتها من لافتة إياك نعبد وإياك نستعين.
مكامن التلوث الفكري أن يخرج لنا أناس يسيئون إلى المعتقد وينالون من الرسالة، من أنتج هذه القنوات التي أوصلت إليهم الثقافة، وهناك صحيفة من الصحف، في الصفحة اليمنى فتوى لأحد العلماء ويسأل على السحَّاب للمرأة هل يصلح من صدرها أو من ظهرها؟
هل يجوز -يا فضيلة الشيخ- أن يكون سحَّاب المرأة من ظهرها أو من صدرها؟ قال الشيخ -وجزاه الله خيراً وقد أصاب- لا بأس بهذا إذا لم يكن فيه مشابهة للكافرات، لا بأس أن يكون السحاب من أمامها أو من خلفها، وفي الصفحة اليسرى لدغ لشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشباب الصحوة، وأهل لا إله إلا الله، وتعجب من هؤلاء لا يسألون إلا عن عدة الحائض والغسل من الجنابة، والسحَّاب من أمام أو من الخلف!! أما مسألة لا إله إلا الله أو المنهج الرباني، وإعادة الأمة إلى الله، ومسألة النبوة والولاية الكبرى فلا يسألون عنها!! هل سمعت أنهم يسألون عن مسألة الولاء والبراء، أو التوكل على الله، أو استقلالية الأمة، أو منهج الأمة الرباني، أو الحاكمية؟! لا يسألون!!
وأعظم الأسئلة في السحّاب والحيض والجنابة، وأنا لا ألوم الشيخ، ولكن ألوم نفسي
لترم بي المنايا حيث شاءت إذا لم ترمِ بي في الحفرتين(306/5)
نسبة الخطأ إلى الغير
وتجد أن الأمة الإسلامية الآن تنسب الأخطاء إلى الغرب، ولو تناطح حماران في ساحل العاج، لقالوا: إسرائيل وراء هذين الحمارين!! ولو أتى شاب لقال: حسبنا الله على اليهود، هم الذين سُلِّطوا علينا، هم الذين أثروا علينا في منهجنا، وأثروا علينا في حياتنا!!
ومعناه أننا لم نخطئ والغرب فقط هو الذي يخطئ.
أيها الإخوة! نحن أثرنا في الآخرين أكثر مما أثر الآخرون فينا، أقولها وعندي وثائق تشهد على ذلك، من الذي دوخ الشعوب؟ ومن الذي أسقط الحكومات الجائرة كسرى وقيصر، وحكومة الهند؟ وكثير من الحكومات الشرقية؟ المسلمون.
والدليل على أننا أثرنا في العالم، أنه ما من بلد من البلدان إلا وفيه أقلية مسلمة، وفي سنة من السنوات في أيام الحج، كان عدد الحجاج من روسيا ألف حاجٍ خرجوا من موسكو يقولون: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
خرجوا من جانب جرباتشوف.
يا إخوة: لقد أثرنا في العالم بل نكسنا عروشاً، وحكمنا دولاً، وسحقنا مستعمرات، وفتحنا قلاعاً.
فلماذا أصبحنا في انهزامية؟ إننا ندافع فقط.
يقول العسكريون: أفضل طريقة للدفاع الهجوم.
أصبح كثير من الكُتَّاب عافاهم الله، فقط يردون، يسمع بالمسألة وهو جالس في البيت، فإذا سمع شبهة قام لها.
لماذا أنت لا تدمغ الباطل؟ لماذا لا تبدأ بالهجوم الكاسح بكتبك وبرسائلك وبأشرطتك؟ قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].
وهناك رسالة لأحد الكتبة يناقش فيها مسألة الملاعق هل لها أصل في السنة أن يأكل بها أم لا، ثم ينتقل إلى الكبك بعد عشر صفحات، ويقول: لا بد أن نرى الكبك، ما هو أصل إدخالها على المسلمين؟
الأمة تدمر في عقولها ومناهجها، ونحن في مسألة الكبك والملعقة.
أنأكل بالملعقة أو بالسكين، أو نأكل بالشوكة؟ مسألة، لكن هل نخصص لها كتاباً مجلداً أو مطبوعاً؟! لا ألوم أحداً، ولكن ألوم نفسي.
فالمسألة الآن: نسبة أخطائنا إلى الغير، وهذا من انهزاميتنا وتقهقرنا، بل كثير من الأخطاء صارت منا نحن، وأعلم أن كثيراً مما يقوله الشباب أن الأعداء كانوا وراء ذلك الحادث، وأولئك كانوا وراء تلك الحادثة وليس هذا بصحيح، ونقول لهم: هل يوجد لديكم وثائق؟ أعطونا، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] ويقول سبحانه: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة:111] ليس هناك دليل.
فالانهزام الذي أصاب الأمة أن تنسب الخطأ إلى غيرها.
مشغوفة بخلاف لو أقول لها يوم الغدير لقالت ليلة الغار(306/6)
عدم الجدية في الالتزام
يوجد في الجيل من التزم التزاماً ظاهرياً وهو مشكور على فعله، ولكن لا يعني ذلك أن هذا هو الالتزام المطلوب في الكتاب والسنة، والله عز وجل يقول: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12].
قال أهل العلم: القوة فعل المأمور واجتناب المحذور، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [الأعراف:170] أي: يأخذون الكتاب بقوة وميراث النبوة بحرارة، وليس التزاماً بارداً.
عندنا شباب ملتزمون شكر الله سعيهم، يربون لحاهم ويقصرون ثيابهم، ويستخدمون سنة السواك وهذا أمر مطلوب، ولكن يوجد الخلل في قضية العمل، كخلف الوعد، فقد وجد أن كثيراً من الشباب يخلف وعده، وكعدم بر الوالدين، وقد شكا بعض الآباء والأمهات من عدم طاعة الولد لهم وهو من شباب الصحوة، وعدم قيام الولد بحقوق الأهل، كنشر الكلام بين الأحبة، والإفساد بين الأصدقاء، وهذا كله ينافي جدية الالتزام الذي يطلب من الأمة أن تعيد تصحيح مسارها إليه، وهذه مهمة الدعاة والمربين، أن يجتهدوا في فتح مغالق الأمة من هذا الجانب، جانب التربية الإسلامية الحية الموروثة عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام.(306/7)
الخلل في الصف
وأعزوه إلى الحزبية المقيتة التي عاشتها الأمة في بعض شرائعها، وهذه الحزبية أثبتت فشلها مع الأحداث، وهي ليست مستعدة لتقود الأمة، أو تقوم بتحريك أفكارها، أو تقوم بمتطلباتها، ونحن أكبر من أن نعيش حزبية، فالإسلام أرحم وأكبر من أن يعيش الحزبية، والإسلام عظيم، يرحب بي وبك، ويرحب بالداعية الوعظي، والداعية العقدي، والداعية المربي، والداعية الذي يهتم بالفكر، يمكن أن يأخذنا تحت مظلة لا إله إلا الله، دون أن تأخذ لك خلية دوني وتطردني، وما ذنبي أنا وأنا أخوك؟! فوجد أن الحزبية أثرت في الغيبة والنميمة، والظن في الآخرين حيث لا مجال للشك، وهذا خلل يجب على من يعرفه إيقافه عند حده، لكن بالحكمة والموعظة الحسنة.(306/8)
الذنوب الكبرى(306/9)
الإعراض عن منهج الله
الأمة تعيش إعراضاً، ولو ادَّعت أنها ليست معرضة، فليس كل من ادعى شيئاً صادقاً.
قال ابن عباس في الحديث الصحيح: {لو أعطي الناس بدعواهم لادعى أناس دماء أقوام وأموالهم}.
وقال ابن القيم: (لو ترك الناس لدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي).
الخلي الذي ينام ولا يحب، لا يوجد عنده هيام ولا عشق، والشجي هو هذا الموله وكم عندنا من شجيين لكنهم يعيشون الوله والهيام، يعيشون الحب، ويتكلم أحدهم بأغنية أمام الملايين، ويدعي أن حب محبوبته قتله وصرعه، وأصبح شهيد الفن، وهذا الشجي الذي يعيش الحرقة، والخلي غير الشجي، ويقول أبو الطيب المتنبي في مقطوعة رائعة له، وقد أساء في بيت من الأبيات يقول:
القلب أعلم يا عذول بدائه وأحق منك بجفنه وبمائه
ثم يقسم بمحبوبه، أعوذ بالله من الخذلان ومن هذا التلوث العقدي
فومن أحب لأعصينك في الهوى قسماً به وبحبه وبهائه
والشاهد الذي نريده هو قوله:
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه
وهؤلاء الشهوانيون يعذلون الدعاة الغيورين في هذا الجانب، يقولون: لماذا يغضب الداعية لأنه يرى مجلة خليعة، أو يسمع أغنية ماجنة؟ ما هذا الغضب والتهور؟ وما هذا التشدد والتشنج؟
أقول له:
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه
فقصدي أن الأمة تعيش إعراضاً عن الله عز وجل، وكيف الإعراض؟
الإعراض عن أخذ المنهج كله جملة وتفصيلاً، أو تأخذ بعض ما يعجبها، وتترك ما لا يعجبها، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن الإعراض الكلي المطلق: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ:16].(306/10)
الترف
وكم أترفت الأمة! والترف سبيل إلي إحباط الشعوب، وليس وسيلة حية في إحيائها، بل هو من النكبات في حياة الأمة، يقول سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الاسراء:16].
كان آخر سلاطين بلاد الأندلس، وهو من آل الأحمر، فلما مات هذا السلطان أتى ابنه وكان مدلالاً، يعيش مع الموسيقى الإيطالية الحالمة إلى الساعة الثانية ليلاً، وكأس الخمر سهل عنده، كالوتر ولعب البلوت والكيرم، وكانت أمه عصامية تنصحه قالت: يضيع سلطانك بهذه الطريقة، فرفض، وفي لحظة من اللحظات اكتسحه الأسبان فأخذ يبكي عند الباب، فتقول أمه:
ابك مثل النساء مجداً تولى لم تحافظ عليه مثل الرجال
وابن عباد كان عنده سبعمائة جارية في القصر، وكان إذا أراد بناته أن يخرجن من القصر إلى القصر فرش لهن الكافور والطيب، ومشين على الكافور والمسك إلى القصر الثاني، ولما أتى الترف اكتسحه ابن تاشفين، وابن تاشفين مسلم، فماذا كان حاله؟ سجن هو، وأتت بناته يزرنه حافيات ليس عليهن إلا ثياب ممزقة، فلم يجدن حتى الحجاب، فلما رأى بناته، كاد ينصدع قلبه، فبكى بكاءً مريراً، وأنشد قصيدة حارة ساخنة يقول:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعةً يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
وهذا نتيجة الترف والضياع الذي تعيشه الأمة، ترف في البيوت، وترف في كثرة المباحات، وترف في تجاوز حدود الله عز وجل، حتى وهنت الأمة وأصبحت لا تستطيع أن تجاهد، ولا أن تدافع عن نفسها، وقارن بين الشعوب التي أصيبت، ما هو موقفها من الأحداث؟ مثل بعض الشعوب لما أصيبت لم نر منها جهاداً وما رأينا وقوفاً صامداً.
والبعض مثل أهل أفغانستان لما استولت الشيوعية على الحكم في كابول خرجوا في اليوم الثاني من مسجد جامع بالكلاشنكوف وهم يرددون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
والجزائريون سحقوا فرنسا، والرئيس الفرنسي لما رأى أهل الصحوة في الجزائر يقتربون من الحكم، أنذرهم، فأرسلوا له رسالة فقالوا: إن كنت تريد أن نلقنك درساً ثانياً فتعال، فأخذ لسان حاله يقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي مربض المستأسد الضاري(306/11)
نقض الميثاق
نقض الميثاق على مستوى الفرد والجماعات موجود في الأمة باطراد، أن يتوب تائب وأن يعود عائد، أن يأتي يصلى في الصلاة يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ثم يخرج من المسجد فيشهد شهادة الزور، ويسمع الأغنيات الماجنة، ويقتني المجلات الخليعة، ويعق والديه، ويقطع أرحامه، هذا هو نقض الميثاق، قال الله فيه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13] ونقض الميثاق على مستوى الأمة أن تدعي تحكيم منهج الله عز وجل ثم لا تحكمه ولا تقوم بمنهجه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا أمر خطير وقعت فيه الأمة، فنعوذ بالله من الخذلان.
يقول الحسن البصري وهو واعظ ومربٍ شهير، يقول لأحد الشباب يراه في المعصية دائماً، قال: يا بني! اتق الله، تب إلى الله، قال: سوف أتوب، قال: يا بني! إن موسى رافق الخضر عليهما السلام، فخالف موسى الخضر ثلاث مرات، فقال الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78] وأراك تخالف الله في اليوم عشرات المرات، ألا تخشى أن يقول الله لك: هذا فراق بيني وبينك؟!
وهذا أمر صعب أنذركم إياه، أن يقول الله للواحد منكم: هذا فراق بيني وبينك، فمن يقبلك إذا رفضك الله؟ ومن يؤويك إذا طردك الله؟ ومن يرحمك إذا عذبك الله؟(306/12)
نسيان الذكر
والقرآن يؤكد على تذكر المعلوم أكثر من تأكيده على تعلم المجهول، وسوف يأتي شرح هذا، والمقصود بنسيان الذكر أن تنسى الأمة الذكر في العمل، ربما تحفظ القرآن، وربما تشيد بالقرآن، وربما تتسابق بالقرآن، ولكن لا يوجد العمل بالقرآن، والحياة مع القرآن فيها قصور عند الأمة.
خذ على سبيل المثال: من يسافر في الطائرة من مدينة إلى مدينة هنا في البلاد، يلمح ما يقارب مائتي راكب، يجدهم كلهم يقرءون الصحف، وقراءة الصحف شيء ضروري لمعرفة الواقع، لكن هل رأيت راكباً -وقد تعمدت أن أنظر في ذلك، ولكن ما رأيت- يقرأ قرآناً أو يفتح مصحفاً، أو عنده كتاب حديث؟ وإنما طوال الرحلة يقرأ الصحيفة يقرؤها بشحمها ودمها ولحمها، حتى إعلانات الإسمنت يقرؤها وإعلانات العطور، وما فيها من مسابقات وفوائد وطرائف ولطائف، الله أعلم بها، فنسيان الذكر موجود في حياة الأمة، وبعضهم جعل يوم الجمعة للذكر فقط، يقرأ سورة الكهف للبركة، لأننا أصبحنا مثلما قال أحد المفكرين -سلم الله يده ورفع منزلته-: أصبح القرآن هذا الذي أتى إليه أحمد بن بلا فركله من الجزائر، وأتى إليه محمد على جناح فركله من باكستان، ومصطفى كمال أتاتورك ركله من تركيا، أصبح هذا القرآن يصلح للقراءة على المصروع فقط.
ووجدنا بعض الشباب لا يصلي في المسجد، ويشرب الدخان ويتهتك في الحدود، فإذا أصابه صرع أتى إليك قال: يا شيخ! أريد أن تقرأ عليَّ، الآن احتجت إلى القرآن؟!
إن الواجب على الأمة أن تقرأ القرآن قبل أن يأتيها الجن، وألا تقرأه فقط للجن، بل تقرؤه للحياة، يصلح للزواجات والحفلات وتفتح به الندوات، وهو قرآن الحياة، قال الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].(306/13)
عدم التناصح والتناهي
مر بالأمة وقت لا تأمر فيه ولا تنهى، بل القليل من يأمر وينهى، وأصبح عند الأمة في وازعها وشعورها أن هناك خجلاً من الرأي العام، إذا قلت للمرأة السافرة: اتقي الله وتحجبي، وهذا يختلف في المناطق كثرة وقلة بسبب الغيرة، وبسبب الحماس والعلم، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ.
كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79].
وعند ابن حبان بسند صحيح عن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم {يا أبا ذر! قل الحق ولو كان مرا} والحق مر يذهب بالرءوس والدماء.
فنحن بحاجة إلى أن نعلن الآن أننا أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن بالحكمة التي يرضاها الله، لا نأمر بمعروف ونأتي بمنكر أكبر أو ننهى عن منكر ونأتي بمنكر أعلى وأقبح منه.
يقول أحد العلماء: (ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر بلا منكر) وهذه هي الحكمة التي أتى بها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
وعند أحمد في المسند بسند صحيح، عن أبي ذر، قال: {بايعني رسول الله خمساً، وعقد علي سبعاً، وأشهد علي تسعاً، أن أقول الحق ولا أخاف في الله لومة لائم} ولذلك تجد أبا ذر دائماً لا يرهب أبداً، يقول الكلمة ولو كانت ستودي برأسه أو بمستقبله، ومن قرأ ترجمته عرف ذلك، يقول فيه القائل:
أطرد الموت مقدماً فيولي والمنايا أجتاحها وهي نعسى
لاطفوني هددتهم هددوني بالمنايا لا طفت حتى أحسَّا
أركبوني نزلت أركب عزمي أنزلوني ركبت في الحق نفسا(306/14)
العقوبات والمثلات
ما هي عقوبة الله التي حلت بالأمم؟ تسمع بعض الناس يقول: الحمد لله، وجدت بعض المعاصي في الناس لكن ستر الله ولم يعاقبنا.
يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: قال أحد علماء بني إسرائيل ممن عصى الله: (يا رب! كم أعصيك وما عاقبتني؟) فأوحى الله إليه: يا فلان! كم أعاقبك وما تشعر! قال: بماذا عاقبتني؟ قال: أما منعتك لذة مناجاتي وحلاوة عبادتي؟
هذا من أعظم العقوبات، لكن الشخص لا يحس.
يقول المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
تأتي لمقتول وتطعنه بخنجر فلا يحس، فأصبحت الأمة في شعورها مقتولة مطعونة في أعز ما تملك، في لا إله إلا الله، في قلبها وأصالتها، وفي عمقها ورسالتها، حتى يجد الإنسان أن هناك عدم تميز بين المسلم والكافر، بل بعضهم يميز الكافر، ووالله لقد ركبت مع بعض الناس، وقد رأوا أحد الشباب قصير الثوب وطويل اللحية، فيقول لهذا الرجل: أنا أرى هذه اللحى وهذه الثياب منظراً غير حضاري، فقلت له: وما هو المنظر الحضاري عندك؟ فسكت.
فقلت: المنظر الحضاري عندك أن يبول الإنسان واقفاً، مثلما يفعله الإنسان في لوس أنجلوس! والمنظر الحضاري عندك أن يغسل الكلب بالصابون ويركِّبه في السيارة؛ والمنظر الحضاري عندك أن يقبل الرجل المرأة في المطار! هذا منظرك الحضاري! أما منظر هؤلاء الذين تسننوا بسنة محمد عليه الصلاة والسلام، الذي تركته أنت وأمثالك، وواليت أعداء الله عز وجل وشابهتهم، فهذا هو الخزي والعار، وقد كان هذا في كلام طويل، أو بمعنى هذا الكلام.
فالأمة تمسخ في هويتها بسبب أنها لم تعش أصالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا سيأتي الكلام عليه.
ويروى أن عابداً من بني إسرائيل كان يعبد الله في قرية، فأنزل الله جبريل ليخسف بالقرية، فوجده يصلي فسأل الله فيه، فقال: به فابدأ، فإنه لم يتعمر وجهه غضباً لي، فلعل الأمة تدفع ديونها الباهضة التي تركتها في الأيام السالفة، ونسيت وابتعدت حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.(306/15)
موت القلوب
أن يموت القلب ولا يحيا مع الكتاب والسنة، وألا يتأثر، ونعرف كثيراً من الناس يرتكب المنكرات كالجبال -ونعوذ بالله من الخذلان- ولا يتأثر ولا ينزعج.
وقد ذكر ابن الأثير في كتابه الكامل: أن عبد الملك بن مروان، قال لـ سعيد بن المسيب: يا أبا محمد أصبحت أعمل السيئة لا أساء بها، وأعمل الحسنة لا أسر بها، قال سعيد بن المسيب: الآن تتام موت قلبك، أي: الآن مات قلبك كله.
وذكر ابن الأثير عنه أيضاً أنه لما بويع بالخلافه قال: والذي لا إله إلا هو، لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد هذا اليوم إلا ضربت عنقه بالسيف.
عبد الملك يقول عنه الذهبي في الترجمة: أول ما بويع بالخلافة، فتح المصحف وقرأ طويلاً ثم طبق المصحف وقال: هذا آخر العهد بك، قال الذهبي: اللهم لا تمكر بنا، وأنا أقول {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] ولكن نستفيد العبر من الماضين.
من أكبر العقوبات التي أُصبنا بها -لم نصب بصواريخ ولا بزلزال ولا ببراكين- أننا أصبنا بموت القلوب، حتى إن الإنسان يرى الفواحش أمام عينيه ويضحك بملء فيه، ولا يتأثر تماماً، وهذا هو الموت العظيم.(306/16)
السنين والقحط
السنين والجدب والقحط الذي ينزل بالناس بسبب ذنوبهم، أذكر أنا استغثنا الله خمس مرات، ولم ينزل الغيث في بعض النواحي، بسبب الذنوب والخطايا، يخرج من لم يحضر صلاة الفجر، ويخرج المرابي وأمواله في البنوك الربوية، ويخرج من سهر إلى آخر الليل على الغناء وعلى المخالفات الشرعية، ويخرج من يغتاب، ويحضر هذا المصلى، ويقول المرابي: يا رب، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!(306/17)
الهلاك الظاهر: الريح، الصيحة، الغرق، الخسف
وقد يكون من أسباب الهلاك الجيوش المدلهمة الجائرة التي تعتدي على الشعوب وتمزقها.
وكل شيء بقضاء وقدر والليالي عبر أي عبر
{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] وما سلط الله على ظالم إلا أظلم منه، وهذا أمر معلوم، والله عز وجل ذكر ذلك في كتابه فقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].(306/18)
انطماس الهوية
أن ترى المسلم، فلا تميز بينه وبين عدو الله، لا تجد عليه سمات النور ولا سمات اتباع السنة، ولا هوية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] يحمل جوازاً ونفوساً اسمه محمد بن علي بن سعيد، لكنك لو بحثت عنه، وجدت في داخليته أنه يحمل جورج بن طوسون بن عفلق، فالاسم لا يكفي، وقضية التابعية لا تكفي، الأمة الإسلامية عددها اليوم مليار.
عدد الحصى والرمل في تعدادهم فإذا حسبت وجدتهم أصفارا
كان عدد إسرائيل مليونين والعرب آنذاك مائة مليون، وأخذتهم طولاً وعرضا حتى يقول شاعر العروبة كما يدعي نفسه، وقد أصاب في القصيدة، قال:
واليوم تسعون مليوناً وما بلغوا نضجاً وقد عصر الزيتون والعنب
فأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارها الخطب
هذا قبل أن تدخل الصومال الجامعة العربية وقد أصبح الآن العدد مائتي مليون.
المؤمن ظاهراً وباطناً لله عز وجل، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] نريد أن نربي جيلاً إذا دخل عليك في مكتبك تعرف أنه مسلم، لا تعرف أنه متأثر بالغرب، أو الشرق، أو عليه انطماس في الهوية، أو عليه طابع وخاتم المتخلفين عن منهج الله.(306/19)
التخلف الحضاري
ومنها التخلف الحضاري، ولا أعني به أمور الدنيا، فهذا مما يجب علينا أن نقدمه، لكن هناك تخلف حضاري أعظم من أمور الدنيا، عدم معرفة الأدب الحضاري الذي أتى به الرسول عليه الصلاة والسلام، وإلا فنحن متخلفون في الحضارة المادية، فالطباشير عندنا مستوردة وكذلك الأستاذ والكرسي والماسة وليس عندنا شيء.
لم نقدم للبشرية شيئاً، نحن علينا أن نأكل ونشرب ونلبس، لكن الحضارة الدينية الموروثة عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم، حضارة الإيمان، حضارة لا إله إلا الله، يتحراها الناس منا في الأدب، والغرب مخفقون في عالم الروح، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [النمل:66] عندهم عالم الشهادة لا عالم الغيب، عندهم عالم الجسم لا عالم الروح، عندهم عالم المادة لا عالم ما وراء المادة، ونحن عندنا الجانبين، لكن حين هدينا الإنسان للنور وأسمعناه كلمة الحق، وقدمنا له نموذجاً حضارياً عن حياتنا وجلوسنا وطعامنا، والرسول صلى الله عليه وسلم ما ترك شيئاً، ولا ترك الإسلام شيئاً، والله يقول له يوم عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] هل كان عند الرسول صلى الله عليه وسلم يوم قال الله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} هل كان عنده صوامع غلال؟ هل كان عنده مستشفيات؟ هل كان عنده خطوط مزفلتة؟ هل كان عنده خطوط مواصلات وهاتف؟ ويقول الله له: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} ينام ولا يشبع من خبز الشعير ثلاثة أيام، ويقول الله له: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} يلبس الممزق من الثياب، ويقول الله له: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} يسكن بيت الطين ويقول الله له: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} يضع الحجر على بطنه ويشده عليه الصلاة والسلام، ويقول: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فأي نعمة؟ إنها نعمة الإنقاذ، نعمة الخروج من الظلمات إلى النور، نعمة أن يعرف الإنسان ربه، معرفة طريق الهدى، والاستقامة، وتحرير الإنسان من أن يسجد للطاغوت أو للجزمة أو للوظيفة أو للسيارة، أن يكون مشرقاً حياً، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257] وقال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:1 - 2] أي نعمة أن يدخل ربعي بن عامر ممزق الثياب على رستم، وعلى رستم تاج من ذهب، فيدعوه إلى لا إله إلا الله، ويضحك منه رستم ويقول: تفتح الدنيا بالرمح المثلم والفرس العقور؟! فيقول ربعي الشاب المخلص: نعم.
[[جئنا كي نخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].(306/20)
أسباب الإنقاذ(306/21)
العلماء والدعاة
أول ما يوجه الكلام للعلماء والدعاة، فهم أهل الميثاق قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] ومعنى الآية أي: البيان العام في الاعتقاد، والشرائع الربانية، والأحكام المأخوذة عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:195 - 160].
ونعيش دقائق مع ابن تيمية وهناك شريط اسمه أسرار العبقرية عند ابن تيمية، آخذ منه جزءً هو الفرق بين ابن تيمية وغيره من العلماء:
إن ابن تيمية جعل الدنيا على التراب؛ ليرضى عنه الواحد الوهاب، ورفض كل شيء لتبقى لا إله إلا الله، ولم يساوم شيخ الإسلام أبداً على ذلك وهذا هو الفارق بينه وبين غيره من العلماء، وتجدون من يكتب عن ابن تيمية مثل أبي الحسن الندوي يشير إليه، وحيا الله أبا الحسن فقد أشاد بهذا الاكتشاف، اكتشف الديناميت في حياة ابن تيمية اسمعوا إلى هذه الجمل:
يعيش ابن تيمية عقلاً نوَّاراً، يريد ابن تيمية أن يكون كالشمس تسطع تسطع، وكالنجم يلمع يلمع، وكالسيل يهدر يهدر، يعيش ابن تيمية استقلالية فكرية، يحارب الإقطاع والرأسمالية، ويحارب الخنوع لغير الله، واستبداد البشر بالبشر، يعيش بمفهوم العصر (البروسترويكا) والانفتاح، أو إعادة البناء، انشغل التاريخ بـ ابن تيمية؛ لأن ابن تيمية انشغل بالله.
ويقول أحد الكتبة مثل كاتب كتاب المسار محمد أحمد الراشد: (بقدر انشغالك بالله ينشغل الناس بك، وبقدر انشغالك بالناس لا ينشغل الناس بك) فـ ابن تيمية انشغل بالله فانشغل الناس به، حتى أن من يقرأ المجلد الرابع عشر من (البداية والنهاية) يجد التاريخ وراء ابن تيمية، وكأنه لا يوجد في الدنيا إلا ابن تيمية، دخل ابن تيمية، خرج ابن تيمية وقف ابن تيمية، جلس ابن تيمية، تكلم ابن تيمية، خطب ابن تيمية، يعيش ابن تيمية.
وهذه من الاستقلالية الجميلة التي يعيشها ابن تيمية، ولذلك كان ابن تيمية قوياً كأشد ما تكون القوة، حياً كأشد ما تكون الحياة، وقد فتح جبهات في حياته، في الرد على الجهمية المعطلة، والخرافية والمعتزلة والأشاعرة والحلولية والاتحادية والظلم، والاستبداد، وكان خطيباً مفتياً واعظاً، مجاهداً، مربياً، ومعلماً، ومدرساً، وشيخاً، وهذه تسمى منافذ القدرة عند ابن تيمية، ومن عاد إلى الشريط وسمع الكلام عن ابن تيمية يستفيد إن شاء الله.
وأقول: إن الأمة ما زالت بخير ما دام فيها علماء يخافون الله عز وجل، ويبينون للأمة ما التبس لها من أمر دينها، وهم أهل الميثاق.(306/22)
بناية الحصون المهدمة
عند الأمة الإسلامية حصون مهدمة من داخلها، وهناك كتاب عنوانه (حصوننا مهددة من داخلها) للدكتور محمد محمد حسين شكر الله سعيه، وقد أجاد كل الإجادة، ورفع الله منزلته بهذا الكتاب، وكما سبق أننا ننسب الخطأ إلى غيرنا دائماً، ولدينا حصون هدمت من الداخل، وعلينا أن نعيد البناء، ونعيد التوجيه والتركيز، ونعيد بأنفسنا رد الخطأ والغلط، ونصحح المسار، وهذه الأخطاء في المناهج العقدية، وفي المناهج التربوية، وفي المناهج التعليمية أخطاء تعيشها الأمة، لا يتعامى عنها إلا أعمى، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد:19] ومن الأخطاء في المناهج التعليمية أن يكون القرآن حصة إضافية، أو أن يكون جزئياً وليس أصلياً في المواد الدراسية، حتى تقدم بعض المواد البشرية عليه، وأنا أعرف من الطلاب من يعرف الجغرافيا معرفة مفصلة دقيقة، ولا يعرف عن كتاب الله عشر معشار هذا، وإلى غير ذلك من القضايا.(306/23)
إعادة بناء المناهج
وذلك بأن تكون مناهج مؤثرة، عقدية مستمدة من (قال الله، قال الرسول عليه الصلاة والسلام) تجد من الطلاب من يدرس ثماني عشرة مادة، وسبع عشرة مادة، لكنه ضعيف في كل المواد، ويقول: ولا بد من المواد الأخرى، ولا بد من مواد الحياة، ولا بد أن ندرس التكنولوجيا والتاريخ والتربية وعلم النفس، لكن المواد الأصيلة في حياة الأمة (التفسير والحديث والفقه) فلا حرج في تركها.
وأين نحن من الرسول صلى الله عليه وسلم؟! فقد كان يربي الصحابي سنة فيخرج عالماً، أرسل معاذاً إلى اليمن عالماً مجتهداً مطلقاً وعنده مجموعة أحاديث، لكنه عاش (قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم) حتى شبع وروي ورأى النور، أما التجزئة، أن يحفظ بعض السور أو بعض المقاطع من الآيات، ويركب عليها بعض الأحكام، ويفرح الطالب يحذف المنهج، ويقول: يا أستاذ فتح الله عليك، لو تحذف هذه الصفحات قبل الامتحان، فيحذفها، ولو أعطيتنا رءوس أقلام عن الأسئلة، فنحن أذكياء نعرف قبل أن تكمل، فيعطي، ولو تركت حفظ هذه المادة، قال: أتركها لكم على العين والرأس، فيخرج جيلاً مثقفاً، ونحن لا نريد جيلاً مثقفاً، فالكافر أحياناً أكثر ثقافة من المؤمن، لكن نريد جيلاً عالماً.(306/24)
تحدي شبح الموت
متى كان أبناء طارق، وأحفاد صلاح الدين وعمر يخافون الموت؟ متى كان اليهود يركبون طائرات (ميراج إف خمسة عشر) ويتحدون كرامة الأمة وميراث الأمة؟! متى كانت الأمة إذا شعرت بالزعزعات تذهب إلى الأرز والسكر والفوانيس تشتريها من الأسواق وتتكمم بالكمامات؟! سبحان الله!
أليس جدكم عقبة بن نافع هو الذي وقف على المحيط الأطلنطي على فرسه، يقول: [[والله لو أعلم أن وراءك أرضاً لخضت بفرسي هذا البحر لأرفع لا إله إلا الله]] أليس عقبة هو الذي تكلم مع الحيات والعقارب والوحوش في صحراء أفريقيا، وقال: ادخلي جحورك فإنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟! أليس عبد الله بن عمرو ضرب ثمانين ضربة بالسيف وكان يقول:
[[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]] فمن فتح العالم إلا أنتم؟!! وقد كان الصحابي إذا سمع الصوت يخرج بالسيف، لكن لما خانت الأمة حيَّ على الصلاة، خانت حيَّ على الكفاح.
من خان حيَّ على الصلاة يخون حيَّ على الكفاح
تنتظر ممن لا يصلى الفجر جماعة أن يذهب إلى الجبهة يكافح العدو، أو ينصر مقدساته أو يحمي عرضه، أو يرفع لا إله إلا الله؟! أتنتظر ممن يسمر إلى الثانية في منتصف الليل على البلوت والكيرم وهوايته جمع الطوابع والمراسلة أن يكون قوياً شجاعاً يلبس كفن الموت؟! لا.
ولنا في اليمن آية: أرادت بريطانيا قبل سنوات أن تحتل اليمن الشمالي، وكان عندهم أثارة من عقيدة، لا زالت أمة لم تفسد إلى هذا المستوى، فزحفت الدبابات من عدن تريد اليمن الشمالي، فقام أحد العلماء وطلب الخطبة في الجامع الكبير بـ صنعاء -الجامع هذا يحضره ألوف مؤلفة من اليمنيين- وأخذ الخطبة بصلاة الجمعة، وافتتحها بـ الحمد لله منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، ثم بدأ بالخطاب في قصيدة إلى بريطانيا يقول:
يا بريطانيا رويداً رويدا إن بَطشَ الإله كان شديدا
كانت الطائرات في أثناء الخطبة تضرب صنعاء.
إن بطش الإله أهلك فرعون وعاداً من قبلكم وثمودا
لا تظنوا هدم المدائن يوهي عزمنا أو يلين بأساً صلودا
إن تبيدوا من البيوت بطياراتكم ما غدا لدينا مشيدا
فلنا في الجبال تلك بيوتٌ صنعتها أجدادنا لن تبيدا
ثم التفت إلى الطيارين وقال:
فالنزال النزال إن كنتم ممن لدى الحرب لا يخاف الجنودا
يقول: انزلوا في الأرض إن كنتم شجعان.
لتروا من يبيت منا ومنكم موثقاً عند خصمه مصفودا
ما خضعنا للترك مع قربهم في الدين منا فكيف نرضى البعيدا
الأتراك مسلمون وما خضعنا لهم، فكيف أنتم يا وجوه الخواجات، ويا وجوه العمالات والخيانات؟!
ما خضعنا للترك مع قربهم في الدين منا فكيف نرضى البعيدا
وهم في الأنام أشجع جيش فاسألوهم هل صادفونا فهودا
ثم يقول: ويلتفت بدعوى إيمانية للناس.
يا بني قومنا سراعاً إلى الله فقد فاز من يموت شهيدا
سارعوا سارعوا إلى جنة قد فاز من جاءها شهيداً سعيدا
والبسوا حلة من الكفن الغالي وبيعوا الحياة بيعاً مجيدا
وأفغاني ضرب بيته بقذيفة فأخذت القذيفة البيت بما فيه، وتسعة أطفال وزوجته، أتدرون ماذا فعل؟ يقولون: أخذ الرشاش وذهب إلى الجبهة يقاتل، وبترت قدمه بعد أن قتل أربعة عشر شيوعياً، وهكذا ربى الرسول صلى الله عليه وسلم الإنسان، على أن يتلقى الموت في أي لحظة، والله يقول: {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:31] {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52].
اليمنيون لما خرجوا من المصلى لبسوا الأكفان، وأخذوا الرشاش، ودكوا بريطانيا وأسقطوا الطائرات بهذا السلاح الرشاش، وانهزمت بريطانيا أمامهم.
والشعوب يوم تؤمن بلا إله إلا الله لا يغلبها أحد.
لماذا يخاف أطفالنا؟ نحن نخاف لثلاثة أسباب:
الأول: الضعف العقدي عندنا وعدم التوكل.
نقول بألسنتنا التوكل، لكن التوكل ضعيف، التوكل ليس موجوداً.
الثاني: أراد بعض الناس أن يحسن، فارتكب خطأ فاحشا ًكمن ينشر الآن تضخيم حاكم العراق، وفي ذات مرة رسموه وأسنانه كالخناجر، وعيونه تقدح شرراً، حتى أغمي على الأطفال في البيوت، وهذه حرب معنوية ساحقة، ومن الحكمة أنك لا تهول في شأن عدوك وتضخمه، وفي كل ملف تجد: سوف يقتل الناس هذا السفاك، ورأيت صورة لو ترونها -تمر دائماً باستمرار- يحمل خنجراً يقطر دماً، وهذا رعب، وقد فعلوه مع مناحم بيجن، وصفوه أنه ارهابي في دير ياسين، ويقتل حتى أغمي على الناس من ذكره، وهذا ليس بصحيح، لا قوي ولا عظيم إلا الله؛ قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160].
والأمر الثالث: أنه لا بد أن يغطى الفراغ عند الناس، فراغ الهاجس، الأمة تعيش وساوس، والذي لا يشتغل بالحق يشتغل بالباطل، والمؤمن كما يقول عمر: [[إذا فرغ غفل]] فلا فراغ عند المؤمن، وأكثر الأمراض عند بعض الشباب من هذه الوساوس، أنه لا يقرأ القرآن، ولا يحفظ الحديث، ليس عنده عمل أو كسب، فيبقى في بيته حتى تأتيه الخطرات، ويتصور الموت ليل نهار، وكأنه قد مات، الجبان يموت في اليوم ألف مرة والشجاع لا يموت إلا مرة واحدة في عمره.
وابن القيم يرى في زاد المعاد أن من أسباب انشراح الصدر سعة البال وشجاعة القلب.
يا إله الخلق بل يا ذا الجلال يا خفي اللطف يا رب النوال
قد دهتنا كربة ليس لها غيرك اللهم يا مرسي الجبال(306/25)
صدق اللجوء إلى الله
اللجوء إلى الله أن تفوض الأمر إليه (حسبنا الله ونعم الوكيل) يقولها إبراهيم: وهو بين الأرض والسماء كالقذيفة في المنجنيق وقد اقترب من النار، فيقول له جبريل: ألك حاجة؟ -تصور الخطورة، وتصور الموقف، إبراهيم في الهواء كالطائر، يرمى بالمنجنيق، وسوف يصل بعد دقائق إلى النار، فيقول له جبريل: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا.
وأما إلى الله فنعم.
فلما اقترب قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فجعل الله النار برداً وسلاماً، والرسول صلى الله عليه وسلم في غار ثور يطوقه الكفار، فيرى أبو بكر قدم كافر فيقول: {يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موطن قدميه لرآنا، قال عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما} وموسى في البحر يقول: إن الله معنا، فانتصر عليه السلام في البحر، وسوف تتكرر هذه دائماً كلما عادت الأمة ملتجئة إلى الله، مستغفرة منيبة تائبة.
وصلاح الدين الأيوبي ذاك البطل، أشكره وأسأل الله أن يجمعنا به في دار الكرامة، صلاح الدين كردي، قال تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] إذا أصبحت الأمة العربية تربي الصقور، ومغرمة بـ (ما يطلبه المستمعون) أعطيت الرسالة سواء كانوا أتراكاً أو هنوداً أو أفغاناً أو أكراداً، الأكراد الذين سُحقوا بالكيماوي وأصبحوا كورق الخريف، وأصبحوا هشيماً كالأظافر إذا اقتلعت، ولم يغضب أحد ولم ينكر أحد، هذا صلاح الدين منهم.
فهل تعلمون ماذا فعل صلاح الدين، يقول وهو شاب: والله لا أتبسم حتى أفتح بيت المقدس وصدق والله، متى بدأت معركة حطين؟ بدأت في الثانية عشر ظهراً، يعني خمسة عشر يناير عند صلاح الدين الثانية عشر ظهراً، ليست الثانية عشر ليلاً، عنده في الثانية عشر ظهراً قال: إذا صعد الخطباء على المنابر بدأت بالهجوم، لماذا؟ قال: لأكتسب دعاءهم، وكان عند الخطباء خبر أنه سوف تقوم حطين، وهي من أشهر المعارك، بل هي أم المعارك، تأخذ الأخضر واليابس، فلما صعد الخطباء على المنبر، بدأ (باسم الله) يقولون له، وكان في الكتيبة الثانية، وكاد الجيش أن يتزعزع، وكان يقول: وا إسلاماه، وا إسلاماه -وقيل إنها لـ قطز - هذه (واإسلاماه) هي من صلاح الدين، وبدأ الهجوم، وسحق المشركين والصليبيين سحقة لم يسمع الدهر بمثلها، وفي يوم الجمعة الثانية دخل بيت المقدس، وأذن مؤذن وبكى الناس من الفرح، وكان صلاح الدين الكردي القائد العسكري قبل المعركة قد قرأ من سورة الأنفال قليلاً، وقبل المعركة قال: أسمعوني من كتاب موطأ الإمام مالك، وكان هو شافعي المذهب أشعري المعتقد، لكن أشعريته على العين والرأس ما دام أنه ليس ملحداً ولا علمانياً، ولا صليبياً ولا صهيونياً، وإنما هو مسلم يحمل لا إله إلا الله، أتى هذا الرجل فقال: اقرءوا موطأ الإمام مالك، فقرءوا في الكتاب قليلاً، ثم أبتدأ الهجوم، وفي الصف الأول، كان يصلي الجمعة، وقام الخطيب شمس الدين الحلبي، فافتتح الخطبة افتتاحاً هائلاً- الخطبة مكتوبة - ثم قال يحيي القائد:
تلك المكارم لا قعبان من لبن وهكذا السيف لا سيف ابن ذيزن
وهكذا يفعل الأبطال إن غضبوا وهكذا يعصف التوحيد بالوثن
إلى آخر ما قال
فلما التجأ إلى الله نصره الله.(306/26)
التوكل على الله
وسوف تنصر الأمة كلما عادت إلى منهج الله عز وجل وتوكلت عليه، قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] كل الناس يموتون إلا الله.
إن الاتصال بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في طلب الشفاعة مباشرة بغير واسطة من خلقه، ولو أنه جعل الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام مبلغين وواسطة في التبليغ، فلم يجعلهم واسطة في رفع الحاجات، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وفي الصحيح أن الصحابة قالوا: {يا رسول الله! أربنا بعيد فنناديه أم قريبٌ فنناجيه؟} فأنزل الله عز وجل قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] وهذا من البلاغة بمكان، وأسرع ما يمكن أن تكون الدعوة مستجابة يرفعها الله فوق الغمام، إذا كانت دعوة المظلوم المضطهد، ويقول الله: {وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين}.
كانت الأمة ربانية تتصل بالله مباشرة يوم سلمت قيادها لله، يقف صلى الله عليه وسلم في بدر، ويقول: {اللهم وعدك الذي وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك} فنصره الله.
وموسى على البحر وفرعون بستمائة ألف مقاتل وراءه وبنو إسرائيل يقولون: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] فيقول: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] حسبنا الله ونعم الوكيل.
هذا هو شعار الأمة: الدعاء، والاستغفار، والتوكل على الواحد الأحد، والاتصال به مباشرة، فهو الناصر ولا ناصر غيره، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].(306/27)
التوبة النصوح
التوبة النصوح: رأينا الناس في الأحداث حرصوا على إصلاح أمور دنياهم، وإصلاح وضعهم المعيشي، ولكن لم نسمع بعودة الناس إلى الله عودة جادة، وهذا وقت القربات، ووقت أن يراجع الناس حسابهم مع الله عز وجل، قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [بالأنعام:43] يقول سبحانه عن قوم صالحين وكانوا مسيئين فصلحوا في الكربة، قال: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147] محمود بن سبكتكين الذي فتح الهند، كان قبل المعركة الهائلة التي دارت رحاها في شرق الكرة الأرضية، هل تعلمون كم كان جيش محمود بن سبكتكين؟ كان ألف ألف مقاتل أي: مليون.
هذا محمود بن سبكتكين أعطاه ملك الهند كالأسطوانة وهي أصنام كبيرة من الذهب، قال: أعطيك هذه وعد عن بلادي، قال: تعطيني ماذا؟ قال: أعطيك هذه خذها لك، وعد عن بلادي، قال: عجيب! تريد أن يدعوني الله يوم القيامة: يا مشتري الأصنام؟! والله لأكسرنك ولأكسرن هذه الأصنام، ليدعوني الله يوم القيامة: يا مكسر الأصنام، فكسر رأس الملك على رأس الصنم، فيقول محمد إقبال:
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينار
إياز كان خادمه، فالتفت يستشيره يقول: ما رأيك يا إياز نأخذ الأصنام، ونعود عن بلادهم بلا قتلى، وبلا خسائر في الأرواح؟ قال: إياز: دع الله يدعوك يوم القيامة: يا مكسر الأصنام، قال: صدقت، وهذا الذي في نفسي، ويقول محمد إقبال:
محمود مثل إياز قام كلاهما لك بالعبادة تائباً مستغفراً
العبد والمولى على قدم التقى فارحم بوجهك عبد سوء في الثرى
إلى آخر ما قال.
والمقصود هنا أن العودة إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى نجاة.
ونور الدين محمود استغفر الله كثيراً قبل الهجوم وتاب وأناب، وقالوا: مرغ وجهه في التراب، ونقل بعض المؤرخين، أنه كان يقول في السجود: اللهم اغفر لعبدك الكلب محمود، وهذا كان من كثرة التواضع في معاركه، كان يقولها أيضاً، ليزداد من التواضع فنصره الله نصراً كاسحاً، ما سمع الدهر بمثله، نصره سبحانه في الأنفس والحياة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7] نصره سبحانه في الأنفس وفي تطبيق شرعه، وإقامة البيوت على منهجه، والتأثير في المجتمع، وإعادة الناس إلى رب العالمين، والنصر الأكيد هو العمل بأسباب النصر، أما أن تبقى الأمة مكانها تراوح، ولا تزداد قرباً من الله، فهذا علامة الفشل والهزيمة، وعلامة أن يغشاها العدو والعياذ بالله، نصر الله في الأنفس بتحكيم شرعه في الحياة وبتطبيق منهجه في الناس والتأثير فيهم.(306/28)
التعلق بمصادر العزة
ليس لأمة في هذه الأرض مصادر عزة مثل ما لهذه الأمة الخالدة من مصادر العزة، ومنها:(306/29)
الولاية الكبرى لله عز وجل
من هو ولينا ومعتصمنا؟ إذاً إلى من نلتجئ؟ غيرنا يلتجئ إلى كيانات، ونحن نلتجئ إلى الله، ولما ذكر الله الكفار والمؤمنين، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] فولايته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حقة نحقها ونتشرف بها، وقال تعالى في أوليائه: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] الذين حملوا السجود والركوع، وحملوا لا إله إلا الله، وأسلموا قلوبهم لله، واستقبلوا الكعبة كل يوم خمس مرات، هؤلاء أولياء الله، يستمدون طاقتهم وكلامهم ومنهجهم من الواحد الأحد، ولينا الذي على العرش استوى، ولينا الذي حكمه في قوله كن فيكون، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فلا نريد ولاية غير ولاية الله، وهذه أسباب القوة في العالم الإسلامي، وليس لأمة ما لنا في هذه الولاية الحقة، فنسأل الله أن يجعلنا من أوليائه.
فإما حياة نظَّم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا
رضينا بك اللهم رباً وخالقاً وبالمصطفى المختار شهماً وهاديا(306/30)
القدوة الخالدة محمد عليه الصلاة والسلام
الرسول صلى الله عليه وسلم شيخي وشيخك، وأستاذي وأستاذك، لكن متى يكون؟ إذا جعلته إماماً لك في الحياة والصلاة والأخلاق والسلوك، يقول عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار} ويقول فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام: {لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به} ويقول فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام: {من رغب عن سنتي فليس مني} ويقول: {خذوا عني مناسككم} ويقول: {صلوا كما رأيتموني أصلي} فهذا هو القدوة والإمام المعتبر لنا.(306/31)
ميراث الوحي
بمعنى أن الأمة لها تميز عن سائر الأمم، في أن مصدر حياتها وعلمها وفخرها وحي من السماء، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:1 - 2] قرآن وسنة تتلقى، وليس عند الأمم كما عندنا قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] إذا تعامل الناس مع البشر وقبلوا حثالات أفكار البشر، فنحن نأخذ دستورنا من كلام رب البشر، ومن كلام خير البشر صلى الله عليه وسلم، فهذا هو من مصادر العزة، التي متى تركتها الأمة وقعت في حمأة الرذيلة، وسقطت على رأسها في العار والبوار والدمار في الدنيا والآخرة، ولا يصلح حالها ما دامت تتخلى عن الوحي أو شيء من الوحي، قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] والعجيب أن هذا الوحي لا يقبل التجزؤ؛ بل يأخذ جملة أو يترك جملة، وحي يؤخذ في الحياة وفي منافذ الدنيا، وفي كل مشاريع الحياة الدنيوية، وفي كل صغيرة وكبيرة، أعظمها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، ولا يترك منه شيء.(306/32)
أمة الخلافة في الأرض
نحن أمة الخلافة في الأرض، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] والله يقول عن هذه الأمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] متى نكون شهداء على الناس؟ إذا أحسنا العمل بالمنهج الرباني، وأن نؤثر في الناس، وأن نصدق في حمل راية التوحيد كما أتى بها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، نكون أمة شهيدة على الناس إذا صدَّرنا الإيمان للعالم ولم نبق محصورين في الدفاع فقط، كلما هوجمنا دافعنا، ننتظر الهجوم في عقر دارنا، أن يأتينا الغزو الفكري والتلوث العقدي، ونبقى ندافع، هذا لا يكون أبداً، والأمة الآن ليست برائدة، وليس لها مكان في عالم الدول الخمس دائمة العضوية، التي تملك حق الفيتو، فكلها دول كافرة، وهي التي تدير أمور الشعوب شرقاً وغرباً، ولا يأتي قرار في الشعوب إلا من تحت تصرف هذه الدول الخمس، فأين الأمة الوسط؟ وأين الأمة الشهيدة؟ وأين الأمة المعطاءة؟ وأين الأمة التي قال الله عنها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]؟ انظر إلى التعبير أُخرجت! كأنها مادة وكنز، كأنها مادة حية أخرجت من تحت التراب، خرجت بلا إله إلا الله، خرجت من الصحراء تحمل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أمة كانت ميتة، تعبد الصنم، وتغني لليلى، وتسجد ل قيس، وتشرب الخمر في الحرم، فأنزل الله عليها لا إله إلا الله، ودستورها السماوي، فخرجت تخطب على منابر الدنيا بلا إله إلا الله، وتنقذ الشعوب.
من غيرنا هدم التماثيل التي كانت تصورها خرافات الورى
حتى هوت صور المعابد سُجداً لجلال من خلق الوجود وصورا
أهو أنا وأنت؟ لا.
بل خالد وسعد، وطارق وصلاح الدين.
عمر في بردته أربع عشرة رقعة، ويغمى على كسرى وقيصر إذا ذكر، وعمر رضي الله عنه وأرضاه يتحدى الموت من على المنبر، ويفاوض ملوك العالم على أن يسلموا، قالوا: نعطيك بعض الأرض، قال: لا.
ليس لكم حكم في الأرض، سلموا، فسلموا، وتركوا الكراسي للا إله إلا الله، يدخل سعد بلا إله إلا الله، فيقول: الله أكبر، فينصدع إيوان كسرى، ويبكى سعد بدموع الفرح، ويقول: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} [الدخان:25 - 28].(306/33)
واجبنا نحو الجيل العائد إلى الله(306/34)
حماية السلوك بالمنهج الرباني
حماية سلوكهم بالعلم أن نسوسهم بقال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، لا نبقى أمة فكرية عاطفية حماسية فقط، لا بل نكون على أثارة من علم، الطبيب يتعلم، المزارع يتعلم، الفلاح يتعلم، التاجر يتلعم، والمسئول يتعلم الدروس، يسمع الشريط الإسلامي، يستفيد كل واحد منهم بآية في اليوم أو حديث، فيكون أمة تتفقه في الدين، وفي الصحيحين: {من يرد الله به خيراً يفقه في الدين} أي: العلم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9] هذه الأمة تعيش ثقافة ولا تعيش علماً، ثقافة موسعة تعرف الأمطار والأخبار والمجريات، ولكنها لا تعيش علماً مؤصلاً مرشداً إلا في القليل النادر.(306/35)
إظهار محاسن الإسلام للأمة
الثاني: إظهار محاسن الإسلام للأمة، لا نأتي بالإسلام ونصفه فقط بجوانب وهي كمالية، بعض الناس إذا أراد أن يتحدث عن الإسلام يأتيك بالحدود، قطع يد السارق، ورجم الزاني، وجلد شارب الخمر، وهذا أمرٌ على العين والرأس، وبعض الناس إذا أراد أن يتحدث إلى النساء، يفتتح كلمته قال: السلام عليكن ورحمة الله وبركاته، يقول عليه الصلاة والسلام: {إنكن ناقصات عقل ودين}!
هذه بشرى للنساء!
هو من الأحاديث، لكن متى قال ذلك عليه الصلاة والسلام؟ أما قال في النساء شيئاً غير ذلك؟! أما قال يوم عرفة: الله الله في النساء! يوم المؤتمر العالمي، يوم أعلن حقوق المرأة من على عرفة أما قال: {الله الله في النساء! إنهن عوان عندكم}؟ أما قال: {خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي}؟ أما وقف مع المرأة؟! أما دافع عن حقوقها؟! أما احترمها؟! أما عاش معها أباً وزوجاً وأخاً وابناً؟! أما رزق من البنات أكثر من البنين؟! فلماذا إظهار الإسلام على هذه الصورة؟! إن العرض للإسلام لا بد أن يكون في إطار جميل حتى يقبله الناس، وتجد بعض الناس يأتي إلى مغاصات وإلى مغارات وهي موجودة في الدين، وهي كلها من الحب والعدل، وكلها من الحق نقبلها، لكنه يأتي عليها، فيجعلها كأنها إجحافات على البشر، بسوء عرضه، ولو أن نيته صحيحة في إظهار محاسن الدين، ومن محاسنه تحرير الإنسان، ومن محاسنه أن أفاض الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على الإنسان بإنقاذه له من ردهات الرذيلة.
ومن محاسن وفضائل الإسلام أثر الإسلام على الكون، العدل في الإسلام، إيجاد حقوق المرأة، التآخي، الشورى والكرم في الإسلام، ورحمة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا ذكر آية الرجاء ذكر آية الخوف، تجد مناهج بعض الناس أن خطب الجمعة عنده كلها خوف!! يتحدث عن سوء الخاتمة، لماذا لا يتحدث عن حسن الخاتمة؟ يتحدث في عذاب القبر، لماذا لا يتحدث عن نعيم القبر؟ يتحدث في النار عشر خطب، فأين الحديث عن الجنة؟ يتحدث في أخذ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للعصاة، ولماذا لا يتحدث عن رحمة الله للتائبين؟ منهج القرآن لا بد أن تأتي بخطبة من هنا، وخطبة من هنا، وأن تقرن بين الحق في نسق عجيب.
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى(306/36)
الذب عن أعراض الصالحين
وواجبنا أن نذب عن أعراض الصالحين، وأن نتصدى للهجمات الباغية الغوغائية الطاغية الظالمة التي يتعرض لها شباب الحق، ويتعرض لها علماء الإسلام، ويتعرض لها دعاة لا إله إلا الله، ونذب عن أعراضهم.
وربط الجيل بالعلماء؛ فلا بد للعلماء أن يحملوا عقول الشيوخ، وللشباب أن يحملوا التوقد، والحماس الإيماني، فيجتمع هذا وهذا، فنُكَوِّن مساراً خالداً، فعلم بلا عاطفة جياشة وحماس كالأديم الميت، وحماس بلا علم هوج، ونريد أن نربط بين الاثنين ليكون المسار صحيحاً.(306/37)
فتح مجال التأثير للدعاة
وفتح مجالات التأثير للناس: أن يكون الشباب والدعاة هم المؤثرون في مستقبل الأمة، وهم أهل الحق، أهل لا إله إلا الله، وأما الذين أثروا في الأمة تأثيراً سيئاً فلا ينبغي لهم أن يقدروا، ولا ينبغي أن يكون لهم الكلمة، كمثل من يصدر الزندقة، أو يصدر المجون، والغناء الفاحش، أو يلعب على الأمة بمسلسلات مهدمة، وهي تعيش مرحلة استنفار، وميراث نبوة.
وهذا ما أريد أن أبينه، وأختتم هذه المحاضرة شاكراً لكم حسن إصغائكم، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(306/38)
الأسئلة(306/39)
ظاهرة الإصرار على المعاصي
السؤال
في هذه الأيام تزاحم الناس على شراء المواد الغذائية مع إصرارهم على الذنوب والمعاصي كبيرها وصغيرها؟
الجواب
من الجانب الشرعي لا بأس بأخذ الحيطة والحذر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71] والرسول عليه الصلاة والسلام صح عنه: {أنه ادخر قوت سنة لزوجاته صلى الله عليه وسلم} فلا بأس أن تأخذ رزقاً بشرط ألا تحتكر أرزاق المسلمين، لقد قال عليه الصلاة والسلام: {لا يحتكر إلا خاطئ} إذا بلغت درجة أن تحتكر على المسلمين وتغلي الأسعار فلا يجوز هذا، أما إذا توفرت المواد، وليس فيها إجحاف بالأمة، فلا بأس بأخذ كفايتك من المواد لأوقات الخطر، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {اعقلها وتوكل} وبارز صلى الله عليه وسلم بدرعين، وأخذ الأسباب لا يعارض التوحيد، ولكن المخيف والعجيب أن يكون بعض الناس مهتماً ببطنه، وببيته ومطبخه، ولا يتهم بلقاء ربه ومصيره ومستقبله مع الله.
وقد قال الشاعر:
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته؟ أتعبت جسمك فيما فيه خسران
وقال آخر:
أتكلم الفصحى أمام عشيرتي وأجيب لكن ما هناك جواب
لولا العباءات التي التفوا بها ما كنت أعلم أنهم أعراب
يعني أنها مهدمة من الداخل، ومزخرفة من الخارج.
لما لبسنا الملابس الغالية، واستولينا على كثير من الدنيا لم نؤثر في العالم ألبتة، ولما كنا نلبس البرد الممزقة والرماح المثلمة، خطبنا في قرطبة وصلينا في سمرقند، وفتحنا قندهار، واستولينا على ثلاثة أرباع الكرة الأرضية.(306/40)
محافظة المجاهد على صلاة الجماعة
السؤال
ما حكم الذي يجاهد في سبيل الله ولا يصلي في بيوت الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟
الجواب
إن كان قصده أنه يترك الصلاة مطلقاً فهو كافر لقوله صلى الله عليه وسلم: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ من تركها فقد كفر} بين الكافر والمسلم ترك الصلاة، وإنه كان قصده أن يتركها جماعة، فهذا فاسق عند المحدثين؛ لأنه ترك واجباً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار} وأنا أجزم جزماً قاطعاً أن الذي لا يصلى الصلوات في جماعة بلا عذر شرعي في المسجد، أنه لا يجاهد لوجه الله وإعلاء كلمة لا إله إلا الله في المعركة.
من خان حيَّ على الصلاة يخون حيَّ على الكفاح(306/41)
الحث على التوبة والصبر والتوكل على الله
السؤال
هل الأفضل أن نعظ الأمة ونوصيهم بالصبر والتوكل، أم نأمرهم بالتوبة والرجوع إلى الله؟
الجواب
بل كلا الأمرين، تأمرهم بهذا وهذا، وهذا مستلزم لهذا، والتوبة في أول الطريق وفي آخره، والتوكل في آخره وفي أوله، وعليك أن تأمرهم بهذا وهذا، وأنت مأجور مشكور.(306/42)
ظاهرة دراسة النظريات الجنسية
السؤال
نحن ندرس في قسم التربية علم النفس، وفيه نظرية تقول: أن الإنسان لا يعيش إلا لتلبية الرغبة الجنسية، (نظرية فرويد) الذي يرى الجنس هو المؤثر في الناس ونقسم بالله أن المدرس قال لنا هذه النظرية، وكيف نربى ونحن ندرس مثل هذا؟
الجواب
هذا مما ينبه عليه، وهذا من الخطأ، وواجب على الأستاذ أن يتقي الله عز وجل، فإن الله لم يخلق البشر للجنس، فهم ليسوا عصافير ولا دجاجاً، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وهذا هو المقصد، وأصبح هذا اليهودي يصدر النظريات لنا، ويصدر المناهج، والله المستعان!(306/43)
حكم الاستهزاء باللحية
السؤال
ما حكم الاستهزاء باللحية؟
الجواب
حكم الاستهزاء باللحية كفر، لأنها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولأن فيها أحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] ولا يفعل هذا إلا من في قلبه مرض.(306/44)
حكم استماع الأغاني
السؤال
ما حكم استماع الأغاني الغير موسيقية؟
الجواب
لا أدري كيف الغير موسيقية، الغناء محرم كله، وإن كان قصده النشيد الذي لا يصاحبه دف، ولا طبل، فيجوز بثلاثة شروط، ألا يكثر منه، ألا يصاحبه آلات عزف، ألا يكون مجوناً ولا بذاءً ولا فحشاً.
وأما الغناء المقيت، هذا الموجود المركب، فهو محرم بالإجماع، وينقل الإجماع على تحريمه كثير من العلماء.(306/45)
ظاهرة الإرجاء وخطرها
السؤال
بعض الناس يحلق اللحية ويشرب الدخان ويتهاون في الصلاة، ويقول: إن الإيمان في القلوب؟
الجواب
لم يصدق، وهذا على مذهب المرجئة، ولو كان يحب الرسول عليه الصلاة والسلام ويحب الله، لاتبعه في سنته.
يا مدَّعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
إلى أن يقول:
خذها جميعاً تجد فوزاً تفوز بها أوفاطرحها وخذ عنها الشياطينا(306/46)
همسات في آذان الكُتَّاب
السؤال
هل من كلمة إلى الكتاب الذين يهدمون العقيدة ويشككون الناس في دينهم؟
الجواب
أقول لهم: اتقوا الله، وعودوا إلى الله، وقدروا ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن العالم الآن كله يبحث عن دين، حتى على مستوى الملاحدة الشرقيين، فإن المعسكر الشرقي يبحث عن إله، وجرباتشوف في البروسترويكا بعد الصفحة اثنين وخمسين يبين أنه اعتنق المسيحية، يبحث عن دين، فوجد دين الإلحاد قد أثبت فشله، وانهار من وسطه، أن عقيدته لم تعد تؤدي دورها في الحياة، وقد سبق في بعض المحاضرات أن بعض الطلبة من عدن في جنوب روسيا كتبوا رسائل، يقولون: إنهم يريدون الأشرطة الإسلامية أن تنشر هناك، فقد تأثروا بعد أن ذهبوا ملاحدة من عدن وأسلموا هناك.
فالنور يكتسح العالم، وأهل الجزيرة أولى أن يشاركوا في هذه الصحوة العارمة، وأن يعودوا إلى الله عز وجل.
الأمر الثاني: أن يعرفوا أن هذه الجزيرة قدرها الإسلام، وأن فيها صخرة يتحطم عليها رأس كل زنديق وملحد، وأن الله لا يوفق من عارض لا إله إلا الله، وسوف يخزيه ويفضحه أمام العالمين.
الأمر الثالث: أن في الأمة كتبة، وفي الأمة شعراء وأدباء مؤمنين، فأين عطاؤهم؟ وأين بذلهم؟ أنا أنظر أحياناً في كثير من الأسابيع إلى صحف من أولها إلى آخرها، فلا أجد إلا شعراً حداثياً أو نبطياً، ولا يوجد شعر إيماني، وليس هناك شعراء مؤمنون، أين القصائد الرائعة للمؤمنين؟ حسان؛ محمد إقبال، ولكثير من شعراء الدعوة، فليتقوا الله في ذلك، وهذا يحتاج إلى أن تبذلوا منطق المشاركة.(306/47)
الدعوة إلى الله في الوقت العصيب
السؤال
كيف نوجه أهلنا في المدن والقرى في هذه الأيام من أيام الإجازة، مع العلم أنهم كلهم أصبحوا يحسبون لخمسة عشر يناير ألف حساب؟
الجواب
هذا كما يقول تعالى: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:57 - 58] وطريقة الدعوة إلى إقناعهم حسب القواعد التالية:
أولاً: حاول أن تستخدم وسيلة الحب، إذا أحبك أهل القرية والجيران والأهل فقد ضمنت نجاحك في الدعوة، والرسول صلى الله عليه وسلم سيطر على أفكار الناس بالحب، كانوا يحبونه، ولذلك انظر الصحابة، يقول جرير بن عبد الله: [[ما زال رسول الله يتبسم في وجهي حتى أصبح أحب إلي من أهلي ومالي]] وعمرو بن العاص أسلم وفي قلبه شيء، قال: [[فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبسم وينظر إلىَّ حتى ما كدت أملأ بصري من حبي له]] أو كما قال، ومسألة الحب شيء قوي، أن تحبب نفسك إلى الناس، وتحبب نفسك إلى والديك، وهذه يفشل فيها كثير من الناس، تجده يريد أن يؤثر على والديه بالدعوة، لكنه في جانب التعامل معهم مخفق، لا يحضر عزيمة معهم، لا ينقل والده إلى المستشفى، لا يشتري لهم حاجاتهم من السوق، لا يقف معهم، لا يواسيهم، إنما يأتي يأمر وينهى، يأتي واعظاً وخطيباً في البيت، افعلوا كذا، اتركوا كذا، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] وهذا هو الحب، قيل لـ ابن المبارك: ما هو السحر الحلال؟ قال: تبسمك في وجوه الرجال.
ثانياً: حاول ألا تصدعهم بالمسائل جملة، وإنما تدريجياً، فإنه لما أرسل صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، قال له: ابدأ بلا إله إلا الله، ثم الصلاة، ثم الزكاة، وهكذا.
ثالثاً: يجب أن تتحلى بالصبر، وأن تكون واسع البطانة قوي النفس، ولا تستعجل أن تلبى لك المطالب دفعة واحدة.(306/48)
الأذكار الخرافية
مشاركة: هل صحيح أن من قال عند المصائب والنوازل: يا لطيف أربعة آلاف وأربعمائة وأربعاً وأربعين مرة، {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:58] ألفاً ومائة وإحدى عشرة مرة، وبسم الله الرحمن الرحيم خمساً وخمسين مرة رفع عنه البلاء؟
الجواب
هذه هي الخرافة بعينها، وهذا هو كلام الضائعين، وأنا أقول: لا بد أن نتوكل على الله، ولا بد أن نعود، لكن هذه إدخال البدع، وإطفاء نور السنة بسبب هذا الكلام ليس بوارد، وليس صاحبه محقاً، وأهل البدع لا ينصرون بالأزمات، فطريق محمد صلى الله عليه وسلم الذي أخبرنا به: يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، أستغفر الله الذي لا إله إلا هو، حسبنا الله ونعم الوكيل، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، أما الأعداد فمن أين؟ قال تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.
فوصيتي أن يتنبه الشباب إلى هذه المنشورات، لا حياها الله ولا بياها، ولسنا بجبناء إلى هذه الدرجة، أن نبلغ دعوتنا بالدس وبإعطاء الأوراق في الجيوب، لا لسنا بأقلية، ولسنا بأكثرية، ولكننا كلنا أمة مسلمة، والشارع مسلم، وباستطاعتك أن تقول كلمة الحق، وأن توصل القرآن والحديث للناس، أما المنشوارت فهي أسلوب الجبناء الهالعين، وليس عندنا دسيسة، ولسنا متهمين حتى نعطي أفكارنا وأسرارنا بالمنشورات، ومبادئنا تعلن كل جمعة من هنا من على المنبر، نعلنها للعالمين من على المنارة (الله أكبر) فوصيتي ألا يتجه الشباب إلى وسيلة المنشورات والترويج لها، وليست بصحيحة، وليس عليها أثارة من علم، وقد تسيء إلى الدعوة وإلى الدعاة أكثر مما تعود على الدعوة وعليهم بالنفع.(306/49)
وصايا الرسول المهدي
هذا الدرس يتحدث عن مميزات كلام ووصايا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الشيخ في هذا الدرس الأبواب التي اشتملت عليها وصاياه صلى الله عليه وسلم وفصلها بعد ذلك، وهي باب التوحيد، وباب العبادة، وباب الأدب والأخلاق، وباب الزهد.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعالج أصحاب الأمراض بما يناسبهم ويناسب أحوالهم، فالذي يغضب يوصيه بألا يغضب.
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يحث كل شخص للعمل الذي سيبدع ويبرع فيه، فمثلاً: خالد في الجهاد، ومعاذ في الفقه، وبعضهم يوصيه بذكر الله، وبعضهم يحذره من الفتنة.(307/1)
النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، ومثلما نقول، وفوق ما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك، أنت رب الطيبين، أنت سند الملتجئين، أنت عضد المهضومين، أنت رب الأحباب الأخيار المتجهين إليك، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
والصلاة والسلام على رسول الله، سيف الحق الذي قصَّر الله به آمال القياصرة، وكسر به ظهور الأكاسرة، الذين طغوا وبغوا فأرداهم ظلمهم في الحافرة، صلى الله على محمد، أُذُن الحق والخير التي وعت رسالة السماء فأدتها للبشرية، صلى الله على محمد لسان الصدق، أفصح لسان أدَّى العبارة متجهة إلى البشر.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
ولو أنه حسن فريد عذرته ولكنه حسن وثانٍ وثالث
وإننا لنقف في رحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإن كان للعمر لذة، وإن كان للحياة مواهب، وإن كان في العيش سعادة، فإنما هو في قطف رياضه صلى الله عليه وسلم:
من زار بابك لم تبرح جوارحه تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر والسمع عن حسن
إن كان عيسى عليه السلام أحيا الله عز وجل به الأموات، فو الله لقد أحيا الله عز وجل بمحمد صلى الله عليه وسلم آلاف بل ملايين القلوب.
وإن كان عيسى عليه السلام أبرأ بإذن الله الأكمه، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم أبرأ الله به كمه البصائر.
وإن كان عيسى عليه السلام شافى الله به البرص، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم شافى به الله برص المعارف:
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
وإن كان للرسول عليه الصلاة والسلام معجزة بعد القرآن، فمعجزته صلى الله عليه وسلم أن يخرج مثل هذه الوجوه، ومثل هذه القلوب -آلاف المرات- من الصحراء:
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الصحراء أحياه
إنها معجزة ما بعدها معجزة!! وأنا على شرف ما قدم لي أخي وزميلي، وقال ما لست بأهل له، فأنا أستغفر الله من الحقارة ومن الذنب والتطفل على موائد أهل العلم، ولكن:
لعمر أبيك ما نسب المعلى إلى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت وصوح نفتها رعي الهشيم
شرفي كل الشرف أن أجلس على مائدة محمد صلى الله عليه وسلم: فأقطف من أزهاره ما قد شذى أنفاسها في أعراقكم، وأعذق من رحيقها ما قد تسنمتموه من ليالٍ وأيام قبلي وقبل هذا المجلس.
نعم.
إن وصاياه خالدة صلى الله عليه وسلم، وإنها حية للأجيال، ولذلك يقول المثل: (كلمات السادات وسادات الكلمات) فكلما نبل الرجل وعظم وشرف كانت كلماته أشرف من كلمات غيره، فما بالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كلماته نور؟!
ما بنى جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمة من عفاء
يصور الكلمة، ويصبغ العبارة، فتحيي من أهل الصحراء ومن أرض الصحراء أمة مهللة ومكبرة تفتح الأبحر والمحيطات.
ولذلك في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوتيت جوامع الكلم} أي اللفظ العجيب الموجز، الذي يجمع الفوائد والعبارات الطويلة في لفظ قصير، وإن كان كلامه صلى الله عليه وسلم يفوق كلام الناس فلا غرو، فهذا التراب الذي نطؤه بأرجلنا خلق الله منه الإنسان، وصوره منه، فلا غرب ولا عجب، أن يأتي صلى الله عليه وسلم ليصنف من كلامنا الذي نهذوا به الساعات الطويلة عبارات حية، رائقة رائعة، يحيي الله بها النفوس والأرواح.
ولذلك روى الإمام أحمد في مسنده بسند حسن، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه قال: {خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا النبي الأمي، أنا النبي الأمي، أنا النبي الأمي، أوتيت جوامع الكلم وخواتمه وفواتحه، واختصر لي الكلام اختصاراً} وروى أبو يعلى عن عمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اختصر لي الكلام اختصاراً، وأوتيت جوامع الكلم وخواتمه وفواتحه} وعند الدارقطني عن ابن عباس قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اختصر الله لي الكلم اختصاراً} فمع كلام محمد صلى الله عليه وسلم، ومع عذوبته، ومع وصاياه، فإنه أصدق ناصح عرفته البشرية للبشرية، وأصدق واعظ عرفته الإنسانية للإنسانية وأخطب خطيب، وأفصح فصيح تمثل في كيان البرية للبرية.
موضوع الوصايا يدور على ثلاثة عناصر:
أولها: خصائص وصاياه صلى الله عليه وسلم: ما هي هذه الخصائص التي تميز وصاياه عن وصايا الناس؟ هل هناك فارق بين وصاياه ووصايا غيره مهما بلغ غيره من المدح، والعلم، والتقوى، والسمو، أم هي الوصايا سواء في ميزان واحد؟
والعنصر الثاني: الأبواب التي طرقها صلى الله عليه وسلم بالوصايا، والطرق التي قصدها صلى الله عليه وسلم بالنصائح.
والعنصر الثالث: قيمة وصاياه صلى الله عليه وسلم في ميزان النصح، وفي ميزان النفع عند العقلاء.(307/2)
خصائص وصايا النبي صلى الله عليه وسلم
أما مِيَز وصاياه صلى الله عليه وسلم عن غيره فثلاث مِيَزْ:
أولها: الأصالة والعمق.
وثانيها: الإيجاز والاختصار.
وثالثها: مراعاة الأحوال.(307/3)
الأصالة والعمق
أما الأصالة والعمق؛ فإنه أصيل في وصاياه صلى الله عليه وسلم، فليأت فيران البشرية الذين حطموا الإنسان، وصنعوا وصايا ظنوها وصايا، إنها تهدم مجد الإنسان، وكرامته، وعزته، وسموا أنفسهم ناصحين كـ كانت، وديكارت، ومن لف لفهم مثل ماركس، ولينين وغيرهم من الذين أعمى الله بصائرهم وطبع على قلوبهم، فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
لنأتي لنقارن وصاياه صلى الله عليه وسلم مع وصايا هؤلاء، فسنجد أن وصاياه تتميز بالأصالة والعمق، فهي عميقة أصيلة، إن كانت، وديكارت يوصون الإنسان أن ينام ويستيقظ مبكراً، وأن يأكل وجبة كذا في وقت كذا، ولكن المنقذ بإذن الله والمعلم بعون الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوصى الإنسان بما كفل له سعادة الدنيا والآخرة.(307/4)
الإيجاز والاختصار
والأمر الثاني: أن وصاياه صلى الله عليه وسلم فيها إيجاز واختصار، لا إسهاب، ولا إطناب، يقول سامعها:
بالله لفظك هذا سال من عسلٍ أم قد صببت على أفواهنا العسلا
فلذلك كانت وصاياه مختصرة عليه الصلاة والسلام، ويظن كثير من الناس أنهم إذا أوصوا وأكثروا في الكلام أمثالنا، أن في الكثرة علماً وفهماً، ولكن ماذا نفعل؟ إذا أكثر أهل الضلالات من المحاضرات ومن الكلمات والندوات، أفلا يتكلم أهل الحق بعشر معشار ما تكلم به أهل الضلالة؟!
يظن كثير من الناس أن في كثرة الوصايا، وفي طول الكلام عمد وسند وعضد للموصى، وينقل ابن الجوزي عن رجل يظن أن الدعاء وإنما هو للمسافات الطويلة، والرجل هذا أحمق، أراد السفر فاستودع الله أهله، وقال: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، فقاموا يدعون له بالعافية والسلامة والعودة والقبول، فيقول: المكان قريب يعني: السفر لا يحتاج كثرة دعاء لأن المكان قريب.(307/5)
مراعاة الأحوال
الأمر الثالث: مراعاة الأحوال:
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
فقد كانت وصاياه عليه الصلاة والسلام تراعي الحال، يأتيه الرجل وعليه صفة الغضب، وعليه اكفهرار السب والشتيمة، فيعالجه صلى الله عليه وسلم بدواء يناسبه من صيدلية محمد صلى الله عليه وسلم، ويأتيه الرجل الذي انعقد كفه على البخل، فيوصيه النبي صلى الله عليه وسلم بالبذل، ويأتيه الرجل العملاق القوي البنية والإرادة، فيوصيه بالجهاد في سبيل الله، ويأتيه الشيخ الكبير المهلهل الفاني المريض فيوصيه بذكر الله، ويأتيه الرجل المجرم المسرف على نفسه فيحبب له باب التوبة ويفتحه على مصراعيه.
فأي رجل يعرف هذه المعرفة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ليست هذه الميزة الثالثة لغيره من الناس، كثير من الناس يأتون للرجل منحني الظهر من العجز والكسل فيتحدثون له بالجهاد، ويأتون للمغامر المجرم فيتحدثون له عن فسحة الأمل، ويأتون للبخيل الشحيح فيتحدثون له عن فضل إمساك المال، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يعطي كل ذي حق حقه، وكل مقام مقاله.(307/6)
أبواب وصاياه صلى الله عليه وسلم
وأما أبواب وصاياه صلى الله عليه وسلم وهي الباب الثاني الذي نقرعه فكثيرة، فما هي هذه الأبواب التي طرقها صلى الله عليه وسلم؟ أأبواب التصوف والطب، أم أبواب الرياضة والفن عند من لا يعرفون الفن، أم أبواب ماذا؟
إنها أبواب الحياة الدنيا، والحياة الآخرة، إنها أبواب مسيرة العبد إلى الله، إنها أبواب مستقبل الإنسان، يوم يريد أن يشرفه الله عز وجل.
ولذلك روى أهل العلم بأسانيدهم: أن الله عز وجل نظر إلى الناس فمقتهم جميعاً، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن يوم وقف على الصفا، ويوم قال: لا إله إلا الله، استفاقت القلوب على لا إله إلا الله، ومن يوم أن كرر لا إله إلا الله على الأسماع سجدت الرءوس لرب لا إله إلا الله:
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
أبواب وصاياه صلى الله عليه وسلم أربعة أبواب: أولها: باب التوحيد، ثانيها: باب العبادة، ثالثها: باب الزهد في الدنيا، رابعها: باب الأخلاق والأدب، ولن تجد حديثاً إلا وتدرجه تحت هذه الأبواب، ولن تجد وصية أو نصيحة إلا ولك أن تلفها تحت هذه المظلة الخضراء، فتوحيد خالص نقي كالشمس، وعبادة راضية مرضي عن صاحبها، وزهد في حطام الدنيا، وأخلاق وأدب على منهج الكتاب والسنة.(307/7)
باب التوحيد
فلنأت الآن إلى موضوع وصاياه صلى الله عليه وسلم في التوحيد، كيف أوصى بالتوحيد؟ لا يمكن أن ينصح، أو أن يصدق رجل في هذه الأمة مهما بلغ في الصلاح والنسك كما صدق محمد صلى الله عليه وسلم:
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
فأول ما طرق صلى الله عليه وسلم التوحيد، فكان ينشئ أصحابه بلمسات التوحيد على قلوبهم، دعوة عامة في المحافل، يوم يرد صلى الله عليه وسلم سوق عكاظ، ويجتاز بـ ذي المجنة، وبـ ذي المجاز، فيتفصح صلى الله عليه وسلم بكلمات التوحيد، ويوم يقف على الصفا ويقول: {يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله} ولنكتفي بأحاديث وقف صلى الله عليه وسلم فيها معلماً وداعية، وناصحاً لأصحابه في التوحيد.(307/8)
وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس
أولها: حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، ويا لـ ابن عباس، ويا لثمرة الجهد المتواصل منه صلى الله عليه وسلم في تربية ابن عباس، يوم أن فقهه في دين الله، فأخرجه مشكاة تبعث هداها وسناها ونورها، ركب ابن عباس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو رديفه على حمار، والرسول صلى الله عليه وسلم يركب الحمار، لكنه ركب كواكب النصر والفلاح والمجد، فيختلسها صلى الله عليه وسلم فرصة، ويقول: {يا غلام! فيقول ابن عباس: لبيك وسعديك يا رسول الله، فيقول: إني أعلمك كلمات -لكنها كلمات نور وهداية وكلمات بشر وخير وسعادة في الدنيا والآخرة، ليست طويلة ولكنها عميقة أصيلة- احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} رواه الترمذي وأحمد، وزاد {واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً} ورواه أيضاً النسائي، ورواه ابن ماجة بلفظ {يا ابن عباس! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك} من هذا المنطلق ومن هذا الحديث، نأخذ وصية في التوحيد، ونعرضه على الذين يقولون: لا حاجة الآن أن نتدارس التوحيد، فلقد وعى الناس التوحيد، فما هناك حاجة إلى أن يعرفوا مسائل التوحيد، ثكلتك أمك يا بعير! وهل المسألة إلا مسألة توحيد، وهل الدعوة إلا دعوة عقيدة، وهل الرسالة إلا رسالة لا إله إلا الله، فأين أنت من هذا؟!
إن الرسول عليه الصلاة والسلام -كما قلنا- كان يعرف استعدادات الصحابة، فكان يضع كل إنسان في موضعه، لا يضع الأديب في موضع المفتي، ولا المفتي في موضع القائد، ولا القائد في موضع الزاهد، ولا الزاهد في موضع الجندي، بل يضع كل واحد في مكانه الذي أهله الله له.
أرأيتم أين وضع خالداً يوم أن كان سيفاً من سيوف الله وضعه على الجبهات، يكسر رءوس الملاحدة بسيف الله، وأتى بـ حسان يوم كان أديباً ووضعه عند المنبر؛ ليرسل القوافي الفصيحة على المعاندين ليرغم أنوفهم في التراب، وأتى بـ زيد بن ثابت يوم كان فرضياً يبرم مسائل الفرائض فأعطاه التقسيم والتوزيع والميراث، وأتى بـ معاذ يوم كان عالماً في الحلال والحرام، فأعطاه موضوع الفقه، هكذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم.(307/9)
وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل
رضي الله عن معاذ بن جبل وأرضاه، الشاب الذي وعى التوحيد، وأرسل صوته بالتوحيد إلى الجند في جنوب اليمن، وإلى عسقلان في جنوب فلسطين، ليكون شهيداً هناك، فسبحان الله! أي أمة كنا يوم كانت اهتماماتنا بلا إله إلا الله؟! أي أمة كنا يوم كانت رسالتنا رفع لا إله إلا الله؟! إن الذين يعيشون على مطامع الشهوات والبطون، لا يهتمون بلا إله إلا الله في أربع وعشرين ساعة، بل في الأسبوع، بل في السنة، إنهم يخلفون أثرهم، وانتسابهم إلى معاذ رضي الله عنه وأرضاه:
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
{قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ، وهو راكب معه على حمار: يا معاذ! قال: لبيك وسعديك يا رسول الله، قال: أتدري ما حق الله على العباد؟ فقال -وانظر إلى الأدب والحياء والتوقير والإجلال-: الله ورسوله أعلم.
قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم قال: أتدري يا معاذ ما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: حق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً} متفق عليه، ورواه أحمد في المسند بلفظ آخر.
وكان هذا الحديث وصية ونصيحة من نصائح التوحيد التي أرسلها صلى الله عليه وسلم لـ معاذ، أتدرون متى بلغها الناصح الأمين معاذ؟
على فراش الموت، يوم أن حضرته الوفاة وهو في عسقلان يرفع لا إله إلا الله في الشام، ويطارد كلاب البشرية الذين يحاربون لا إله إلا الله، فاندلعت في كفه بثرة من طاعون، ولكنه يريد الموت، يريد لقاء الله والناس يريدون الحياة، فقالوا: شافاك الله، عافاك الله، لا ضير عليك، فيقول: [[لا والله لقد أحببت لقاء الله، والله لو كانت روحي في كفي لأطلقتها، اللهم إنك تكثر القليل، وتكبر الصغير، اللهم فكبرها ونمها وكثرها]] يعني: البثرة، فاندفعت في جسمه، وأتاه اليقين على فراش الموت، وحق الحق لأهل الحق، وبقي اليقين لأهل اليقين، وخسئ الذين غدروا مع لا إله إلا الله، وتُبِّر الذين فجروا مع عقيدة لا إله إلا الله، فماذا قال في سكرات الموت؟ هل تأسف على منصبه الذي كان يشغله؟! هل بكى على ماله وولده؟! هل ندم على قصوره؟! لا والله، فما كان عنده من الفلل والقصور من شيء، إنما هي قصور من دين وعمل صالح ونوافل وعبادة، وفلل من يقين وخير وحسن خلق، وأشجار من معاملة طيبة ودعوة ناجحة، بكى وهو في فراش الموت، وقال: [[مرحباً بالموت حبيباً جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، اللهم إنك تعلم أني لم أحب الحياة لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولا لرفع القصور، ولا لعمارة الدور، ولكنني كنت أحب الحياة -فاسمعوا يا أبناء الحياة- لأعفر وجهي ساجداً لك في الأرض، ولأزاحم العلماء بالركب في حلق الذكر، ولأدعوك وأتملقك في الليل الداجي]].
فسلام عليك يا معاذ بن جبل يوم أسلمت، وسلام عليك يوم دعوت إلى الله، وسلام عليك يوم نصحت ويوم مت ويوم تبعث حياً.(307/10)
وصية النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي
في الترمذي بسند حسن: {أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -والأعراب أهل مصائب في حياته صلى الله عليه وسلم، الأسئلة الثقيلة، الجفاء، تعكير جو الهدوء والسكينة في المسجد، الضجة والصجة، تضييع الوقت والمحاضرات والكلمات على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيأتي هذا الأعرابي ويتربص بالمسجد ويدخل، ويتخطى الصفوف ويقف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، ما ظنكم برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث إلى جماهير تريد أن ترفع لا إله إلا الله، وتنصر لا إله إلا الله، فيقاطعه هذا الأعرابي.
وفي الأخير يقول الأعرابي لما جلس الرسول صلى الله عليه وسلم بين الناس كما رواه أهل الصحيحين عن أنس؛ يقول: أين ابن عبد المطلب -ما كأنه يعرف العلم، وما كأنه يعرف البشير النذير، فيقول الناس: ذاك الرجل الأبيض الأمهق المرتفق، الأمهق: المشوب بحمرة، المرتفق: المتكئ، فيتقدم إليه- فيقول: يا بن عبد المطلب -لا يقول: يا رسول الله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63]- فيقول: قد أجبتك، فقال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة -انتبه إن سؤالي صعب، ومشكل، إنه مدهش محير فأجبني- قال: سل ما بدا لك، فيقول هذا الأعرابي: من رفع السماء؟ -إن أكبر معجزة عند الأعراب رفع السماء، وهي معجزة حقاً- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله.
-وهم يعرفون أنه الله- قال: من بسط الأرض؟ قال: الله.
قال: من نصب الجبال؟ قال: الله.
قال: أسألك بمن رفع السماء، وبسط الأرض، ونصب الجبال، آلله أرسلك إلينا رسولاً؟ قال: اللهم نعم.
واحمر وجهه صلى الله عليه وسلم -إنه سؤال عظيم، داهية من الدواهي أن يسأل عن التوحيد- فيقول: أسألك بمن رفع السماء، وبسط الأرض، ونصب الجبال، آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم.
ثم أخذ يسأله عن أركان الإسلام فلما انتهى ولى وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص}.
فقال صلى الله عليه وسلم: {أفلح الرجل، ودخل الجنة إن صدق} فإذا بالتوحيد يعرض في خمس دقائق، لا عرض المنطق، ولا الفلسفة وعلم الكلام الذين تبر الله سعيهم، أتوا يعرضون العقيدة في طلاسم، فأفسدوا عقيدة الناس في قلوب الناس، العقيدة تعرض كهذا العرض، لا أحاجي، لا ألغاز، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الله لا يغفل عن المأمون الخليفة العباسي في إدخاله علم المنطق على المسلمين، إي والله، لن يغفل الله عنه، ولن يدعه -إن شاء الله- إلا بحساب، كيف يدخل علماً ماجناً خسيساً رخيصاً عند من أتوا بالوحي صافياً منقىً من السماء؟!
فإما حياة نظم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا(307/11)
التوحيد وحصين بن عبيد
عند أبي داود وفي مسند أحمد والترمذي بأسانيد جيدة أن حصين بن عبيد أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -والرسول صلى الله عليه وسلم متوقع أن الرجل له آلهة كثيرة، لأن بعضهم له عشرون وثلاثون من الآلهة، حجارة وخشباً وطلاسم واعتقادات- فيقول عليه الصلاة والسلام: يا حصين بن عبيد! كم تعبد؟ قال: سبعة؟! قال: سبعة؟! قال: نعم.
قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض، وواحدٌ في السماء، قال عليه الصلاة السلام: فمن لرغبك ولرهبك؟ -إذا ضاقت بك الضوائق، إذا نزلت بك الكوارث، واحتدمت عليك الأمور- قال: الذي في السماء، فقال عليه الصلاة والسلام: فاترك التي في الأرض واعبد الذي في السماء}: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ {[الزخرف:84] {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].(307/12)
وصيته لأبي ذر بالتوحيد
وعند ابن حبان عن أبي ذر قال: {قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تشرك بالله، وإن قتلت، وحرقت} فكل شيء إلا الشرك بالله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:116] هذه قطوف من وصاياه صلى الله عليه وسلم في التوحيد، فيها اليسر والأصالة والعمق والوضوح كل الوضوح، توحيد خالص، كل كائنة تعرف أن لا إله إلا الله، اللمعة من الضوء، القطرة من الماء، الورقة من الشجر، البسمة، اللفظة، كل كائن:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد(307/13)
باب العبادة
وأما في العبادة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام طرق أبواب العبادة، وأعطى كل إنسان ما يلائمه، واعلموا: أن أبواب الجنة ثمانية:
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا
وقل لـ بلال العزم إن كنت صادقاً أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا(307/14)
دخول أبواب الجنة بحسب العبادة
روى البخاري في كتاب الجهاد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن للجنة أبواباً ثمانية، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد -فينبري أبو بكر رضي الله عنه، وتنبري الهمة العالية- فيقول أبو بكر: هل يدعى أحد من تلك الأبواب الثمانية؟ -رضي الله عنك، إنها همة تمر مر السحاب، صنع الله الذي أتقن كل شيء- فيقول صلى الله عليه وسلم: نعم، وأرجو أن تكون منهم}.
فيأتي عليه الصلاة والسلام فيطرق تلك الأبواب الثمانية لمن أراد أن يدخل من تلك الأبواب، على قوى الناس، وعلى تأهيلاتهم ورغباتهم، لأن من رغب في الذكر قد لا يرغب في الصيام، ومن رغب في الصيام لا يرغب في الصلاة، قالوا لأعرابي: ألا تصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {من صام ثلاثة أيام من كل شهر أذهب الله عنه وحل الصدر، وكان كصيام الدهر} فقال الأعرابي: أنا في كلفة وهم من رمضان، وأزيد عليه ثلاثة أيام من كل شهر! فلما بشروه بطلوع هلال رمضان، كما يتبشر الصوام القوام، نظر إلى الهلال فكأنه يرى سيفاً في السماء، ثم قال: والله لأشتتنك بالأسفار.(307/15)
وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الله
الرسول عليه الصلاة والسلام يراعي التأهيلات والقوى عند الناس فيوجههم إلى الأمور التي يمكن أن يبرعوا فيها، يأتي إليه عبد الله بن بسر، كما في الترمذي بسند حسن وإذا هو شيخ كبير يتكئ على عصاه، فتر من كبر سنه، فماذا عسى أن يقول له صلى الله عليه وسلم؟ هل يقول له: جاهد في أفغانستان، أو في فلسطين؟ لا {قال: يا رسول الله؛ إن شرائع الإسلام كثرت علي، فأخبرني بباب أتشبث به من الأعمال -الصلاة شاقة عليه، الصيام كليف عليه- فقال له عليه الصلاة والسلام: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} لأن الذكر يلائم أهل البنية النحيلة، والذين لا يستطيعون المدافعة ولا المصاولة ولا المجاولة.
يقول ابن تيمية في وصيته لـ أبي القاسم المغربي: واعلم أنه كالإجماع بين العلماء أن الذكر أفضل وأيسر وأسهل عمل، وصدق رحمه الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم يوصي هذا بالذكر، وإن كان من وصية فالله الله في ذكر الله، فإنه والله الباب الذي يفتح على الله عز وجل، إنه الغفران والسكينة، إنه باب المعرفة والتوبة.
يقول ابن القيم في روضة المحبين: يقول تقي الدين بن شقير: خرجت وراء شيخ الإسلام ابن تيمية فلما أصبح في الصحراء من حيث أراه ولا يراني، نظر إلى السماء ثم دمعت عيناه، ثم قال: لا إله إلا الله، ثم قال:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
إن الذكر أعظم ما يمكن أن يتقرب به إلى الله، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يوصي به فيما يقارب سبعين حديثاً صحيحاً وحسناً، ولذلك يقول ابن رجب عن أبي مسلم الخولاني الذاكر العابد، كانت لسانه لا تفتر من ذكر الله:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
يقول: دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية، فإذا أبو مسلم يتمتم بلسانه، فظن معاوية رضي الله عنه أن الوسواس قد أصاب أبا مسلم، قال: أجنون هذا يا أبا مسلم؟ قال: بل حنون يا معاوية.
حنون إلى الله، حنون إلى روضات الخير والذكر، التي أوجدها الله عز وجل، وأبو مسلم -بالمناسبة- هو الذي وقف موقفاً حازماً أمام الطاغية الكذاب الأثيم الأسود العنسي، يوم ادعى النبوة وذكر أن جدته أوحت إليه بطلاسم وخزعبلات من الإفك والدجل والكذب على الله، فقال له الأسود العنسي: أتشهد أني رسول الله؟ قال: أشهد أنك من الكذابين الثلاثين الذين ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فجمع له حطباً، وأوقد له ناراً، وألقاه في النار، لكن سلالة أهل التوحيد، وسلالة إبراهيم عليه السلام ما انقطعت أبداً.
قال وهو يلقى في النار: حسبنا الله ونعم الوكيل، فإذا بعناية الله التي كانت لإبراهيم تتكرر ثانية: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] وكانت برداً وسلاماً على أبي مسلم الخولاني، فاستقبله الصحابة لما نجا من النار، قال الأسود العنسي: هذا ساحر أخرجوه من اليمن، واستقبله عمر بحفاوة أيما حفاوة، وقال: حيهلاً بمن جعله الله شبيهاً بإبراهيم الخليل.(307/16)
وصية النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه بالجهاد
ويأتي عليه الصلاة والسلام إلى رجل مجاهد، عنده عضلات تؤهله إلى أن يضرب بسيف الله، وإلى أن ينتقم من أعداء الله، هو غيلان الثقفي كما عند أبي داود {فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة؟ قال: عليك بالجهاد في سبيل الله} الجهاد في سبيل الله، رفع راية الله، سكب الدم الغالي، لرفع لا إله إلا الله.
ويأتيه أبو أمامة، فإذا هو صابر محتسب، فيقول: {دلني يا رسول الله على عمل إذا عملته دخلت الجنة؟ فيقول: عليك بالصيام فإنه لا عدل له} رواه أحمد، لأنه عليه الصلاة والسلام يعرف أن أبا أمامة من الذين يستطيعون الصيام، ومن الذين يثابرون على الصيام، فبابه باب الصيام، فلا مشاحاة في الأبواب، بل ادخل وحاول أن تدخل، لكن انظر إلى الباب الذي يناسبك، وتستطيع أن تستمر فيه.(307/17)
رأس الإسلام وعموده وذروة سنامه
عند الترمذي والإمام أحمد من حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه، قال: {كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة -قال بعض الحفاظ: غزوة تبوك - فاقتربت منه، قلت: يا رسول الله! دلني على عمل يقربني من الجنة، ويباعدني عن النار؟ -ما أحسن السؤال! وما أحسن الإيراد! وما أعجب المقال! - فقال عليه الصلاة والسلام: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه} فاسمع إلى مؤهلات الجنة، واسمع إلى الأبواب التي توصل إليها، واسمع إلى هذه الخصائص التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم، والمفاتيح التي تدخلك أبوابها، لا الشهادات!! لا المؤهلات!! لا المناصب!! لا الجاه والشهرة والرياء والسمعة!! كلها تسقط هباءً منثوراً: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
قال عليه الصلاة والسلام، وهو يتحدث عن الأعمال الموصلة إلى الجنة: {تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ثم قال: ألا أدلك على رأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: الصيام جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا عليه الصلاة والسلام {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] ثم واصل الوصية عليه الصلاة والسلام، فقال: ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: كف عليك هذا، وأخذ بلسان نفسه، فتعجب معاذ -أفي الكلام حساب وعقاب؟! أفي المقال نكال وعذاب؟! - فقال: يا رسول الله! أئنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال عليه الصلاة والسلام: ثكلتك أمك يا معاذ -إلى الآن ما فهمت هذه القضية- وهل يكب الناس في النار على مناخرهم -أو قال: على أنوفهم- إلا حصائد ألسنتهم} هذه وصية أهداها صلى الله عليه وسلم، تحمل العبادات، بل مفاتيح الجنة.(307/18)
كثرة السجود
ويأتيه عليه الصلاة والسلام شباب فتيان متقاربون في السن، فيقول: ما حاجتكم؟ -فأهل الأموال طمعوا في الأموال، وأهل الجاه طمعوا في الجاه، وأهل الثياب طمعوا في الثياب، لأن بعض الناس يرضيه أن تكسوه ثوباً، لا أن تهدي له علماً أو نصحاً أو فائدة- فأعطى صلى الله عليه وسلم كل إنسان منهم ما يريده، إلا ربيعة بن مالك رضي الله عنه قال: {كنت أبيت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال يا ربيعة سل، قلت: أسألك مرافقتك في الجنة؟ قال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك.
قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود} رواه مسلم، وفي لفظ آخر: {فإنك لن تسجد لله سجدة، إلا رفعك بها درجة}.
كلما سجدت لله سجدة رفعك بها الله درجة، إن عظمتك أيها المسلم، وسموك وإخلاصك ونصحك أن تكرم وتعفر هذا الوجه بالسجود لله، فوالله ثم والله ثم والله إما أن تسجد لله، أو تسجد لغير الله، إما أن تسجد للواحد الأحد، أو تسجد لمنصبك، ولبطنك، ولشهوتك، ولزوجتك، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار} فسماه عبداً؛ لأنه عبد هواها وعشقها، وأحبها حباً جماً.
فإما أن تكون عبودية لله، وإما أن تكون عبودية للهوى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23]:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا(307/19)
إزالة الأذى من طريق المسلمين
يأتي أبو برزة كما عند الترمذي، فيقول: {يا رسول الله! دلني على عمل؟ قال: أزل الأذى عن طريق المسلمين} إن أبواب الخير عدد الأنفاس، لكن أين السالكون؟ إن طرق السعادة عدد الشعاع، ولكن أين الماضون؟ إن مفاتيح الخير لا تعد ولا تحصى، ولكن أين الفاتحون؟ أين الذين يريدون الله؟ أين الذين يريدون ما عند الله عز وجل؟ إن هذه الطرق سلكها وأوصى بها صلى الله عليه وسلم، ولكن بثلاث خصائص: بالأصالة والعمق، والإيجاز والاختصار، ثم بمراعاة الحال.(307/20)
باب الزهد
ويأتي صلى الله عليه وسلم إلى الزهد، والناس في الزهد بين غال وجاف، وأحسن من عرفه -فيما أعلم- شيخ الإسلام ابن تيمية، لأن بعض الناس قال: أن تزهد في الحرام، إذا: فما زهدت إذا لم تزهد إلا في الحرام، لأن الدنيا أكثرها حلال إذاً: فابتن ما شئت، واسكن فيما شئت، وكل ما شئت، والهى بما شئت، فإذا لم يكن الزهد إلا في ترك الحرام فلا زهد في الدنيا، وقال غيرهم: الزهد في المباحات وأخطئوا، وقال غيرهم: الزهد ألا يكون عندك شيء، وهؤلاء هم غلاة الصوفية الذين يتربع أحدهم إلى تلاميذه، فيقول: الحمد لله أصبحنا وأصبح الملك لله، قالوا: ماذا حدث؟ قال: تذكرت البارحة ما أكلت رطباً من أربعين سنة!! ومن أحرمك الرطب من أربعين سنة، والرسول صلى الله عليه وسلم أكل الرطب، وأكل اللحم، وتزوج النساء، ونام، وقام، وأكل الحلوى والعسل، فهل أنت أفضل منه!
يقول الذهبي لما قال رجل من غلاة الصوفية: لقد جعت ثلاثة أيام، فرأيت صوراً غريبة عجيبة أمام عيني، فاستبشرت بذلك!! قال الذهبي معلقاً: والله ما كانت صوراً ولكن عقلك خاش وفاش من الجوع، فتصور لك الشيطان، إنهم يخيسون من الجوع، فيأتون بوساوس ويقولون: إلهامات، حتى ما بقي عليهم إلا أن يقولوا نزل عليهم جبريل عليه السلام، فأوحى إليهم وحياً، وإنما نزل عليهم ما نزل على مسيلمة الكذاب في اليمامة، يوم أن أخرج الوساوس من رأسه سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه.(307/21)
حقيقة الزهد عند ابن تيمية
يقول ابن تيمية الزهد هو: ترك ما لا ينفع في الآخرة، جملَّ الله حالك، وبيض وجهك، وهل التأليف إلا هذا! وهل الكلام إلا مثل هذا! هو ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، أما ما ينفع فالزهد فيه حمق وجنون وسفه، فكل ما ينفعك فلا تزهد فيه، لأنه يقربك من الله، ويقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: تركت أكلات كنت آكلها عجيبة طرية شهية -يسيل معها اللعاب، هذه من كيسي ليست من كيسه- فما استطعت أن أقوم الليل، ولا أن أقرأ القرآن، فعدت إلى مألوفي في الطعام، فقرأت خمسة أجزاء في كل يوم.
إن بعض الطعام والمنام والملبس والمسكن والمركب يعينك على تقوى الله، فتركه ليس من الزهد، وأبواب الزهد التي طرقها صلى الله عليه وسلم ما يقارب أربعة أبواب: زهد في الدنيا وفي الحطام، وزهد في الإمارة والشهرة، وزهد في الناس وما أدراك ما الناس؟ وهي الخلطة التي يكسب منها الرياء والسمعة، ثم زهد الملهيات والمضيعات.(307/22)
الزهد في الدنيا
أما أروع حديث في الزهد فهو لـ ابن عمر في البخاري، يقول: كنت في السوق، فأخذ صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: {يا عبد الله! كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل} فارتسمت هذه الكلمة في ذهن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه، نسي كلام الناس إلا هذه الكلمة {كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل} فكان غريباً بمعنى الكلمة، ترك كل شيء بمعنى الغربة التي يريدها صلى الله عليه وسلم، حتى كان يسجد في الحرم ويمرغ وجهه وهو يبكي ويقول: [[اللهم إنك تعلم أني ما تركت الخلافة لقريش إلا من مخافتك]] إي والله، وإلا فباستطاعته أن ينال الخلافة، فإنه ابن عمر بن الخطاب:
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
فترك هذا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: {كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل} فكان دائماً غريباً في ملبسه وخلطته وكلامه، وبيته، وكان غريباً في منهجه، يقول: ما شبعت منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر سنة، يأكل دون الشبع وفوق الجوع، أورد ذلك ابن رجب في جامع العلوم والحكم.
ولذلك أتاه رجل من أهل العراق، فما وجد هدية إلا جوارش، والجوارش حبوب تحبب الأكل إلى الإنسان ليأكل أضعاف ما كان يأكله، لئلا يبقي شيئاً في الصحفة ولا في القدر، فأتى لـ ابن عمر رضي الله عنه وقال: هذه جوارش يا عبد الله قال ابن عمر: وما الجوارش؟ قال: حبوب تحبب لك الأكل، وتضريك على الطعام، قال: والله ما شبعت منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتريدني أن أشبع الآن؟ فلسنا في هذا الكلام، ولا في هذا المنهج، ولكن انظر كيف وجهه صلى الله عليه وسلم إلى الزهد في الدنيا عامة.(307/23)
الزهد فيما عند الناس
عند ابن ماجة بسند حسن، عن سهل بن سعد قال: {أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس} إن السؤال يدل على السائل، ولذلك تكتشف عقل الرجل ونباهته ويقظته من سؤاله وإيراده، وبعض الناس يبهر بالمظهر، فإذا تكلم فإذا هو ليس بذاك، فيعود إلى تقويمه وإلى وزنه:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
جاء رجل إلى أبي حنيفة، فإذا عليه لباس ما شاء الله تبارك الله، طول وجسامة وثياب براقة لماعة، وعمامة مكورة، فجلس أمام أبي حنيفة وكان أبو حنيفة ماداً رجله اليمنى، فردها متأدباً مع هذا الرجل الداهية، فطال المجلس، وأبو حنيفة مستحٍ متوقر خجول، فالتفت إلى الرجل فقال: ألك حاجة؟ قال: الرجل سؤال يا أبا حنيفة، سؤال أكربه وأسهره في الليل، قال: ما هو سؤالك؟ قال: متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غربت الشمس، قال: فإذا لم تغرب الشمس إلا نصف الليل فمتى يفطر؟ فمد رجليه وقال: آن لـ أبي حنيفة أن يمد رجليه كلتيهما، ليست رجلاً واحدة.
وهل يأتي الليل إلا بعد غروب الشمس، فالرجل من عقله وحصافته يقول: {دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس؟ قال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس} كأن السؤال على وزن الجواب، لا زيادة ولا نقص، لكنه أعظم وأنفع وأبرك وأنور، فهذه وصاياه عليه الصلاة والسلام في الزهد في الدنيا.(307/24)
الزهد في الإمارة
وأما في الإمارة فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتطلع في الصحابة، ومن غرائز الناس حب الشهرة، وحب الظهور، وحب الترأس، نسأل الله العافية والسلامة.
ذكر الذهبي في ترجمة عبد الله بن الزبير: أنه رحمه الله ورضي عنه كان يحب أن يتقدم ويتصدر، حتى أرسله أبو بكر رضي الله عنه بسارق ليؤدبه هو وشباب معه من المدينة، فذهبوا به إلى ضاحية، فقال: من أميركم في هذه الرحلة؟ يريد أن يقولوا: أنت، فقالوا: أنت فأخذ يأمر فيهم وينهى من المدينة حتى عاد إلى المدينة.
فالمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يلمح في وجوه أصحابه هذه الغرائز، فكان يعالجها ويداويها عليه الصلاة والسلام، أتى له عبد الرحمن بن سمرة العبسي القرشي الشهير، كما في الصحيحين فقال صلى الله عليه وسلم وهو يوصيه: {يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة -احذر- فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إلى نفسك، وإن أعطيتها بلا سؤال أعنت عليها} فكان يقول صلى الله عليه وسلم: احذر الترأس، احذر التصدر وازهد، وبالفعل كان هذا الرجل لا يحرص على الإمارة، وأخذ بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم، فرزقه الله عز وجل الإنابة، وكان أميراً وهو الذي فتح سجستان، فاسألوا عن سجستان، واسألوا كابول، واسألوا عن الذين عفروا وجوههم هناك سجداً لله، وسكبوا دماءهم هناك لتشهد لهم عند الله، من هم إلا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم:
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
ومن رمى نار المجوس فأطفأت وأبان وجه الصبح أبيض نيراً
فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعند الترمذي وغيره من أهل السنن قال: {قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ -ما هو الأمر الذي ينجيني من عذاب الله- فقال عليه الصلاة والسلام: كف عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك} وكانت من أعظم الوصايا له وأرضاها، فأوصاه بقلة الخلطة التي لا تنفع، وتضيع الوقت، يوم لا وقت عند المسلمين إلا في الهراء، والغيبة والنميمة، وشهادة الزور، الوقت الذي أصبح أرخص سوق له هو السوق عند المسلمين، وأصبحوا يتعاملون بالوقت أرخص من الدراهم والدنانير، ونسوا قوله تبارك وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
فأين الوقت يا أمة الوقت؟ وأين الساعات الطويلة التي كل ساعة كفيلة بأن ينتج فيها العالم كتاباً، والداعية دعوة، والتاجر تجارة رابحة، والمعلم مهنة طيبة، أين هذه؟ إنها ساعات رخيصة، إن شيخ الإسلام ابن تيمية -كما تعلمون- ألف كتاب التدمرية من صلاة الظهر إلى صلاة العصر، وجئنا لندرسه فأخذنا فيه سنة وما فهمناه التدمرية: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25].
هذا الوقت الصغير القصير لا يتحمل إلا قيلولة عند المترفين منا، ويضيع الوقت من صلاة العصر إلى صلاة المغرب في شرب الشاي، وأما من المغرب إلى العشاء ففي الجولات والصولات التي لا تنفع في دنيا ولا في آخرة، وأما من بعد العشاء، ففي السهرات وما أدراك ما السهرات وما السمرات في أعراض الأحياء والأموات!! ولا تنفع هذه الأوقات إلا أن تؤهل بتأهيل الله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام: {لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع} وذكر العمر والشبابا.
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
يقولون -كما تعرفون ذلك-: إن ابن عقيل الحنبلي ألف كتاب الفنون ثمانمائة مجلد في وقت الراحات، ولذلك كان هذا الكتاب عجباً من العجب، ما ألفه إلا في أوقات الراحة، فهل نستطيع أن نقرأ ثمانمائة مجلد.(307/25)
باب الأدب والأخلاق
وأما العنصر الرابع من أبواب وصاياه صلى الله عليه وسلم فهو باب الأدب والأخلاق، كيف طرق صلى الله عليه وسلم هذا الموضوع؟ وكيف أهدى وأسدى لهذه الأمة ما يكفيها وما يشفيها، نحن لسنا بحاجة -نقولها صراحة وبقوة وبشجاعة وبعمق- إلى علم النفس الذي يرد علينا من الغرب، ولا التربية، ولا علم الكلام، تربيتنا وعلم نفسنا من كتابنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا حاجة لنا بغيرهما، فقد أغنانا الله عز وجل بما عندنا، فلا نورد المريض على الصحيح، إنهم مرضى، فكيف نستشفي من المرضى؟! إنهم موتى فكيف نطلب الحياة من الموتى؟! إنهم جوعى فكيف نطلب الشبع من الجوعى؟! لا والله:
والمستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
يقول ابن تيمية -وقد تكررت هذه الكلمات في مناسبات-: من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدى غير هدى الله الذي أُرسل به محمد صلى الله عليه وسلم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه وله عذاب أليم.
أحكامنا وآدابنا وأخلاقنا وعقيدتنا وسلوكنا وشئون حياتنا في كتابنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فلا نحتاج إلى غيرنا أبداً، نحن نصدر إلى الأمم ولا نستورد، نحن نعطي ولا نأخذ، نحن نوجه ولا نتوجه إلا من الله الحي القيوم، لأننا خير أمة أخرجت للناس، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يأمر بحسن الخلق.
أتاه أبو ذر كما في الصحيح -ولم يسمه في الصحيح- فقال: {يا رسول الله أوصني -والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف ما هو مرض هذا الرجل وداؤه المزمن، ويعرف العلاج الذي ينبغي أن يصرف له- فقال: لا تغضب، قال: زدني، قال: لا تغضب، قال: زدني، قال: لا تغضب} فكانت هذه وصيته صلى الله عليه وسلم، وعلم فيما بعد أن بلية هذا السائل من غضبه رضي الله عنه وأرضاه، لا يتحمل، لأن فيه حدة متناهية، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يضع العلاج، وأن يضع الدواء على الداء، فقال: لا تغضب لأنه يغضب، أما أن يأتي إلى إنسان قطع الحلم جنبيه، ومزق فؤاده وأصبح لا يغضب أبداً، يستغضب ولا يغضب، ويضرب على رأسه وهو يضحك، فيأتي ويقول: لا تغضب، قال: زدني، قال: لا تغضب، قال: لا تغضب، أو يأتى إلى إنسان يغضب من مر الهواء، ومن شرب الماء، فيقول: عليك أن تقلل من الحلم، وعليك بالحزم، وعليك بالصرامة، فليس هذا من هديه صلى الله عليه وسلم، ولا من وصاياه: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4 - 5] قال: لا تغضب.
وقال له معاذ كما في الترمذي: {يا رسول الله أوصني؟ قال: أحسن خلقك للناس} وقد كان معاذ رضي الله عنه وأرضاه، يُرى فيه بعض الحدة، فقال له صلى الله عليه وسلم: {أحسن خلقك للناس} وقال لرجل آخر كان مغضباً دائماً، لا يلقى الناس إلا مكفهراً مشمراً غضباناً صئولاً جريئاً كأن القيامة قامت، لا يتبسم أبداً، فقال: {يا رسول الله! أوصني؟ قال: عليك بالمعروف، ثم قال عليه الصلاة والسلام، ولو أن تبسط وجهك لأخيك، وعند أحمد: ولو أن تسلم على أخيك ووجهك منبسط إليه}.
ويقول عليه الصلاة والسلام لثالث: {لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلق أخاك بوجه طليق} وفي لفظ: {بوجه طلق} وكلها تؤدي إلى أن تنبسط وجوه الأحباب إلى الأحباب، وأن يتخالق الناس ويتعاملوا بالود والمحبة، وأن تتعلم تلك الوجوه التي تكفهر في وجوه الناس ولا تبتسم أن الله لا يرفعها بالتزمت، ولا بالغضب، ولا يرفعها بالاكفهرار، إنما بالبسطة والخلق، وعقلاء العرب قبل الإسلام مجمعون على أن بسطة الوجه من الكرم.
يقول أولهم:
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
فالرسول عليه الصلاة والسلام في جانب الأدب والخلق كان يوجه الناس إلى ما يرفعهم عند الله.
ولذلك يقول كما في السنن: {إن الرجل ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم} ويقول كما عند الترمذي: {ألا أنبئكم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون}.
وضرب صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة في كل وصية أوصى بها: في التوحيد، فهو الذي أنزل الله عليه التوحيد، وفي العبادة فهو أعبد الناس لرب الناس، وفي الزهد فهو أزهد الناس في الحطام، ما خلف شيئاً، وإنما خلف رسالة وأمة ومنهجاً ربانياً قائماً، وفي الخلق فهو أحسن الناس خلقاً، يقول الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] عظيم صبرك، وحلمك، وتواضعك عظيم، وأي خلق فوق خلقه صلى الله عليه وسلم؟! يقول أنس رضي الله عنه وأرضاه: {كان عليه الصلاة والسلام أحسن الناس خلقاً} ويقول جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: {ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي} ويقول أبو سعيد الخدري كما في الصحيحين: {كان صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها} ويقول بهز بن حكيم: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ألين الناس عريكة} ويقول عبد الله بن سلام: {لما رأيت وجهه صلى الله عليه وسلم وهو منبسط، قلت: والله ما هذا بوجه كذاب}.
حتى يقول ابن رواحة لما رأى ذلك الوجه المشرق المنبسط:
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبئك بالخبر
فهذا شيء من وصاياه، وإنها لطويلة وكثيرة، ومن أراد وصاياه فليعد إلى كتب السنة، وليعش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليعش مع العلم الأصيل، ومع الثروة الغزيرة النافعة النفاذة، ليعش مع الرياض المؤنقة، رياضه عليه الصلاة والسلام، فإنه لا خير إلا عنده، ولا نور إلا من مشكاته، ولا ماء صافياً إلا من نبعه، وأما المصادر الأخرى فقد جربت، إنها كدرة مشوبة.
فيا أمة الإسلام!! ويا أبناء من حملوا لا إله إلا الله في ديار الإسلام، ويا من يريد الوصايا، هذه وصاياه صلى الله عليه وسلم لأصحابه ولكم، ولكل مسلم يريد الله والدار الآخرة.
لكل من يريد الله، ويريد ما عند الله، فاقبلوها وادخلوا أبواب الجنة فقد فتحت لكم: فحي هلاً بكم، فمن كان من أهل الذكر فالذكر نصيبه، ومن كان من أهل الصيام فالصيام حظه، ومن كان من أهل الصلاة؛ فالصلاة له، وما أحسن أن تضرب من كل غنيمة بسهم، وأن تشارك مع المصلين في صلاتهم، فإذا أنت الخاشع العابد، وأن تشارك مع الذاكرين في ذكرهم، فإذا أنت الشاكر الذاكر، وأن تشارك مع المجاهدين في جهادهم؛ فإذا أنت البطل المقدام، وأن تشارك مع الصوَّام في صيامهم؛ فإن خلوف فمك أطيب من ريح المسك.
تقبل الله منا ومنكم أحسن ما عملنا، وتجاوز عن سيئاتنا وسيئاتكم في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
أسأل الله كما جمعنا هنا في روضة طيبة طاهرة، أن يجمعنا هناك في مقعد صدق عند مليك مقتدر، يوم أن نرى ربنا سبحانه وتعالى، ويوم نرى رسولنا صلى الله عليه وسلم، ويوم نرى مفاتيح الخير أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، ورسل السلام وقواد لا إله إلا الله، وحملتها، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(307/26)
الأسئلة(307/27)
قصيدة في الزهد
السؤال
هناك أسئلة كثيرة توالت تطلب أن تسمعنا شيئاً من قصائدك الأولى نكل الاختيار فيها إليك، والثانية نختارها نحن؟
الجواب
أخاف أن تختار أنت ما أريد أن أختاره أنا، أما القصيدة الأولى التي أختارها والتي تناسب هذا المقام فهي الدمعة الخرساء، تنسب إلى علي رضي الله عنه وأرضاه، وقيل: لـ إبراهيم الصولي، ولا يضرنا لهذا أو لهذا قال:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الموت نبنيها
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها
فعلى هذا المنوال قلت:
دنياك تزهو ولا تدري بما فيها إياك إياك لا تأمن عواديها
تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم ويدرك الموت أجيالاً فيفنيها
عارَّية المال قد ردت لصاحبها وأكنف البيت قد عادت لبانيها
والأينق العُصْر قد هضت أجنتها وثلة المرء قد ضجت بواكيها
يا رب نفسي كبت مما ألم بها فزكها يا كريم أنت هاديها
هامت إليك فلما أجهدت تعباً رنت إليك فحنت قبل حاديها
إذا تشكت كلال السير أسعفها شوق القدوم فتعدو في تدانيها
حتى إذا ما بكت خوفاً بخالقها ترقرق الدمع حزناً من مآقيها
لا العذر يجدي ولا التأجير ينفعها وكيف تبدي اعتذاراً عند واليها
فإن عفوت فظني فيك يا أملي وإن سطوت فقد حلت بجانيها
إن لم تجرني برشد منك في سفري فسوف أبقى ضليلاً في الفلا تيها(307/28)
القصيدة البازية
السؤال
فضيلة شيخنا ووالدنا الشيخ عبد العزيز بن باز رجل تمثلت فيه أخلاق السلف، ونطقت من أفعاله، وأطبقت القلوب على محبته، ولشيخنا الشيخ عائض قصيدة في مدح الشيخ عبد العزيز بن باز نرجو أن يتحفنا بها؟
الجواب
هذه القصيدة تعرف: بالبازية، نسبة إلى الشيخ عبد العزيز بن باز، وقد سبقني أحد الشعراء المصاقيع المناطيق، في مدح فضيلة الشيخ، وأعرف شعراء منهم تقي الدين الهلالي العالم الكبير المحدث، يقول في قصيدة له طويلة:
خليلي عوجا بي لنغتنم الأجرا على آل باز إنهم بالثناء أحرى
وزهدك في الدنيا لو ان ابن أدهم رآه رأى فيه المشقة والعسرى
أما المجذوب فهو الذي ذكر الباز في قصيدته فقال فيها:
روى عنك أهل الفضل كل فضيلة فقلنا حديث الحب ضرب من الوهم
فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سمعنا به في العلم والأدب الجم
فلم أرَ بازاً قط من قبل شيخنا يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي
وقصيدتي البازية قلت:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي
والمدح يا والدي في غيركم كذب لأنكم لفؤادي بلسم شافي
يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل السافي
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافي
مجالس اللغو ذكراهم وروضتهم أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي
وأنت جالست أهل العلم فانتظمت لك المعالي ولم تولع بإرجاف
بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الطل في إشراقه الضافي
تشفي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم دراً غير أصداف
أقبلت في ثوب زهد تاركاً حللاً منسوجة لطفيلي وملحافي
تعيش عيشة أهل الزهد من سلف لا تبتغي عيش أوغاد وأجلاف
أراك كالضوء تجري في محاجرنا فلا تراك عيون الأغلف الجافي
كالشدو تملك أشواقي وتأسرها بنغمة الوحي من طه ومن قاف
ما أنصفتك القوافي وهي عاجزة وعذرها أنها في عصر أنصاف
يكفي محياك أن القلب يعمره من حبكم والدي أضعاف أضعاف
يفديك من جعل الدنيا رسالته من كل أشكاله تفدى بآلاف(307/29)
قصيدة في مدح الأفغان
السؤال
طلب القصائد كثر، ويخيل إلي -أيضاً- أن الوجوه لا زالت تطلب، أن تؤثر بقصيدة ثالثة، ما رأيك يا شيخ؟
الجواب
أصبحت أمسية، كنا نظن أنها محاضرة، فتحولت بحفظ الله إلى أمسية.
هذه مقطوعة في جهاد المجاهدين الأفغان:
مروا بقلبي فقد أصغى له البان لي في حمى الحب أصحاب وخلان
نعم لك الله ما قد تبت من ولهٍ أما لكم صاحبي صبر وسلوان
أنا يراعتك اللاتي كتبت بها رسالة الحب ما في ذاك نكران
دع ذا وهات قوافٍ منك صادقةً لأمةٍ مجدها بالأمس فينان
والله لو أنصف التاريخ أمتنا لسجل المدح حسناً وهو سهران
كنا نمر ونار الحرب موقدةٌ ونمتطي سفناً والبحر غضبان
الصانعو الزهد والدنيا بحوزتهم يروي علاها أبو ذر وسلمان
والساكبو العلم من مشكاة دوحتهم علم ابن عباس ياقوتٌ ومرجان
قطوف آدابنا بالبر يانعة إذا تحاكى لها المنطيق حسان
مجالس العلم تروي كل قصتنا إن قلت حدثنا يحيى وسفيان
وإن طلبت مثالاً من أرومتنا يكفيك عن مضرب الأمثال أفغان
يا أمة النصر والأرواح أفنان في شدة الرعب ما هانوا وما لانوا
هم الرعود ولكن لا خفوت لها خسف ونسف وتدمير وبركان
كم ملحد ماجن ظن الحقوق له زفوا له الموت مراً وهو مجان
وبلْشفيٍ أتى كالعير منتخياً رأى المنايا فأضحى وهو جعلان
ردوه كالقرد لو بيعت سلامته بشعبه لشراها وهو جذلان
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ
يسعى فيعثر في سروال خيبته في أذنه من رصاص الحق خرصان
سياف في حكمه شاه بمملكة لها من الدهر طول الحق برهان(307/30)
كتب في الوصايا
السؤال
هل هناك كتب مؤلفة في موضوع الوصايا النبوية؟
الجواب
أما هذا الموضوع؛ فأعرف فيه رسائل اسمها: الوصايا الخالدة، ولو أنه جمع بعض الأحاديث الموضوعة وخلطها بالصحيحة وسيرها للناس، وهذا يحتاج إلى تمحيص، وهنالك كتابات لـ ابن رجب في وصاياه صلى الله عليه وسلم، أو الأحاديث التي أوصى بها مثل: احفظ الله يحفظك، اسمها: الاقتباس في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس، وبعض الوصايا التي كتب عنها ابن رجب مثل جامع العلوم والحكم، أما كتاب يجمع الوصايا فما أعرف في ذلك شيئاً.(307/31)
كتب أنصح بقراءتها
السؤال
سؤال تكرر كثيراً عن الكتب التي تنصحون بقراءتها؟
الجواب
الكتب التي أنصح بقراءتها، أول ما أنصح به وهو بإجماع المسلمين ومن يريد الله والدار الآخرة كتاب الله عز وجل، أن يتدبر، وأن يقرأ، وأن يفهم وأن يعمل به، ثم الكتب الستة التي عليها مدار رحى الإسلام، وفيها رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة شاهرة باهرة، وهي الصحيحان، وسنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن ابن ماجة، وسنن النسائي، ومن وسبَّع بـ المسند فما أخطأ، ومن ثمن في كتب العلم بالحديث فما ضل سواء السبيل، بل اهتدى -إن شاء الله- كثيراً.
ثم كتب ابن تيمية وابن القيم وابن كثير، وليست العبرة بكثرة الكتب، ولكن العبرة بالقراءة، فإن بعض الناس قد يجمع كتباً في بيته لكنه يجعلها ديكوراً وزينة ومظهراً ومنظراً ورياءً وسمعةً نسأل الله العافية، إنما العبرة بالقراءة والاطلاع والهضم والعمل.(307/32)
كيفية التعامل مع الأقارب والأصدقاء العصاة
السؤال
تكررت أسئلة وهي يوجود أقارب أو أصدقاء أو إخوة في البيت يرتكبون بعض المعاصي، نصحوا فلم ينتصحوا، فما تنصحون تجاههم؟
الجواب
مما يجب على الداعية: العلم والحكمة، فإن من يدعو بعلم بلا حكمة يضر بدعوته، ومن يكن عنده حكمة بلا علم فليس له قبول، فالذي أنصح به الحكمة مع الفقه في الدين، وهؤلاء أهل المعاصي على طبقات، فإن من يسبل إزاره لا يعامل معاملة تارك الصلاة، فإنه لا بد من حكمة في هذا، ووضع الناس في مواضعهم.
أما نصيحتي لك مع أقاربك فأولاً: أن تنهج منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الحكمة، ولين الجانب، والمعاملة الطيبة، عل الله أن يهديهم على يديك: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الرسول صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
فأول وسيلة الصبر والحكمة، فإذا لم تجد هذه وقد صبرت أياماً وأشهراً وفترة وردحاً من الزمن فعليك بالهجر الجميل، والهجر الجميل فعله صلى الله عليه وسلم، وأوصاه الله به، قال ابن تيمية: الهجر الجميل هو الذي لا أذى فيه، لأن في القرآن صبر جميل، وهجر جميل، وصفح جميل.
فالهجر الجميل الذي لا أذى فيه، فإذا لم يجد الهجر الجميل فالمقاطعة، لكن بعد أن تبين له بالطرق وبالصبر وبالحكمة، ثم تهجره، فقد يؤثر فيه الهجر كما فعل صلى الله عليه وسلم مع بعض الصحابة، ثم إذا لم يجد هذا فالمقاطعة بشرط أن يكون هذا العمل مما يقاطع عليه كترك الصلاة، أما الذنوب والخطايا التي يقع فيها الناس فعليك بالمناصحة له والصبر عليه، كالغيبة وكاللغو وكالفجور في اليمين، وغيرها من الذنوب التي لا يخلو منها الناس.(307/33)
علاج الهموم والأحزان
السؤال
انتشرت في هذه الأزمان الأمراض النفسية، وهي تعالج بعلاج مستورد من دول الغرب الفاقدة للعقيدة والإيمان، وفاقد الشيء لا يعطيه، فضيلة الشيخ: الهم والحزن وضيق الصدر هل يمكن معالجته؟ أو ثمة علاج ممكن أن توجه إليه؟
الجواب
نعم؛ إذا تيقن كل مسلم -يعيش لهذا الدين، ويستظل بمظلة هذا الدين- أنه لا شفاء ولا نور ولا هداية ولا علاج للمسلم ظاهراً وباطناً إلا في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن يدعي هذه الأمور، أو يظهر الاحتياج إليها فكأنه يقول بلسان حاله: إن في ديننا نقص، إن في كتابنا نقص، إن في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ثلم، وقد أخطأ سواء السبيل، وغلط غلطاً بيناً، بل الشفاء والعلاج في كتاب ربنا وفي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
فأما هذا الموضوع بحد ذاته وبعينه وهو موضوع الهم والحزن والغم فقد عالجه القرآن أيما علاج، وذكر الله عز وجل أنه نجَّا موسى من الغم لما دعاه، وأنه نجَّا يونس من الغمِّ والكرب لما ناجاه بقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] ونجا الله كثيراً من المكروبين لما دعوه، والتجئوا إليه، فهو كهف الملتجئين، وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {دعاء الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم}.
وعند أبي داود عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قال: لا إله إلا الله سبحانك إني كنت من الظالمين -وفي لفظة له: دعوة أخي ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين- ما قالها مهموم إلا فرج الله همه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وفي سنن أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم قال: {من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل همّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب} فعلاجنا وعلاج همومنا وغمومنا وأحزاننا وما نجده من كرب ومن زلازل ومحن وفتن، إنما هو القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن إذا أحسن الاستشفاء بالكتاب والسنة من قلب مقبل على الكتاب والسنة، فطلب الشفاء كل الشفاء من القرآن، وعند الترمذي بسند حسن قال: {كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا اهتم: اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء همي، وذهاب حزني}.
فهذه هي البلاسم، وهذه هي العلاجات، وهذا هو الدواء: قراءة القرآن بتدبر، الاستشفاء بالفاتحة، الارتقاء بالمعوذتين وقل هو الله أحد، بهذه الآيات البينات عل الله أن يزيل الهم والغم والحزن:
وناد إذا سجدت له اعترافاً كما ناداه ذو النون بن متى
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
فأي علاج عند الخائفين المنكوسين، وأي علاج عند المرتكسين على رءوسهم في الضلالة والعمالة والجهالة، أيطلب الشفاء من المريض! إنما يطلب منهم من هو من أمثالهم وأضرابهم وأشكالهم الذين أعجبوا بهم، فهم يحشرون معهم، {والمرء يحشر مع من أحب} فنحن نسأل الله أن يجعلنا ممن نحبه، ونحب رسوله، وأن يشافينا ويعافينا بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.(307/34)
صحة الحديث: (أنزلوا الناس منازلهم)
السؤال
فضيلة الشيخ حفظك الله: قرأت حديثاً للرسول صلى الله عليه وسلم معناه: {أنزلوا الناس منازلهم} أرجو توضيح مدى صحة هذا الحديث، وإذا صح؛ فهل معناه أن الدين الإسلامي يفرق بين الناس؟
الجواب
قوله صلى الله عليه وسلم: {أنزلوا الناس منازلهم} في مقدمة الإمام مسلم للصحيح عن عائشة قالت: {كان صلى الله عليه وسلم ينزل الناس منازلهم} وهذا الحديث رواه أبو داود ووصله، وسنده حسن، فما دام صح هذا الحديث وقبل فمعناه والله أعلم: أي اجعلوا لكل شخص ما يناسبه من التبجيل والإكرام والتقدير والاحترام، وهذا في الآداب والحقوق، وهذا في السلوك لا في المقاضاة، فإنه ليس معنى أن ننزل الناس منازلهم أن يأتي كبير غني وفقير متخاصمان، فننزل ذاك منزلته ونعطيه حق هذا الفقير، هذا إجحاف وهذا مناف لمعنى الحديث، فهذا معناه في الآداب وفي الحقوق العامة، أن نعطي كل إنسان ما يناسبه، فإن بعض الناس يناسبه أن تجلسه في صدر المجلس، وبعضهم لا بأس أن تجلسه في طرف المجلس، وبعضهم يناسبه أن تمشي وتشيعه ماشياً حافياً وأن تقدم حذاءه له لعلمه وجلالته وفضله وتقواه ونبله، فلا بأس بذلك.
فإنزال الناس منازلهم إعطاء كل ذي حق حقه، وعند مسلم في كتاب الصدقات: {أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها جاءها فقير فأعطته درهماً، فجاءها رجل أحسن حالاً من الفقير الأول فأعطته ديناراً، فسئلت عن هذا فأجابت: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينزل الناس منازلهم} إذاً: معناه أن نعطي كل إنسان ما يستحق، وأن نتفضل على الناس بما يناسبهم.
يقول الإمام الشافعي كما في ترجمته في سير أعلام النبلاء: ما رفعت إنساناً فوق مقامه إلا حطني عن مقامي أو كما قال، فالمقصود: أن نعطي كل ذي حق حقه، لا نجحف ولا نقصر والله ولي الهدى والرشاد.(307/35)
حكم الفوائد الربوية
السؤال
وضعت مبلغاً في بنك وكانت له فائدة، ومن هذه الفائدة الربوية اشتريت قطعة أرض، ومر عليها أكثر من خمس سنوات فأصبحت قيمتها كبيرة، فما الحكم في هذه الثروة؟
الجواب
أولاً كما تعرفون إدخال المال في البنك الربوي لا يجوز، وأخذ الفائدة لا تجوز، وشراء الأرض من الربا لا يجوز، واستثمار مال الربا لا يجوز: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] فالذي أراه أن تتبرع بهذا المال من الفائدة التي دخلت عليك في هذا المال، إما أن تنفقها في وجوهها وأن تبقي على رأس المال: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] فالمال الأول الذي أدخلته تعود إليه وتحاسب نفسك حتى تستقر عليه.
وأما هذه الفائدة فإنها ربا دخلت عليك بسبيل محرم، فعليك أن تتبرع بها، إما أن تصرفها في المصارف، ويا ليتك تسلم من الذنب، وأما الأجر فما أدري أن في الربا أجراً، وليس في الصدقة من الربا أجر، لكن عليك أن تعود برأس المال وعفا الله عما سلف.(307/36)
الندم على الذنوب في الكبر
السؤال
هناك شيخ إذا مر له موقف من مواقف بدأ يتذكر فعل المعاصي التي فعلها، ويتألم ويتحسر ويلوم نفسه حتى إنه لا ينام أحياناً بسبب هذا التفكير وهذا القلق، وكل هذا بعد أن هداه الله وتاب، فماذا يفعل؟ وبماذا تفسر هذا حفظك الله؟
الجواب
أما فعله وماذا يفعل وماذا أوصيه به؛ فأوصيه بالتوبة والاستغفار وأن يندم على ما فات، لكن لا يوصله هذا الندم إلى أن يحرم على نفسه الطعام أو الشراب أو المنام، أو يتلف روحه، فإن الله يغفر الذنب: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
فأوصيك أن تتوب وأن تستغفر، وأن تؤمل في الله الأمل الذي يسرك، فإن الله أفرح بتوبتك من الرجل الذي ظلت راحلته، فوجدها في الصحراء بعد أن كان عليها طعامه وشرابه، واعلم أن الله عز وجل يقبل توبة التائبين، وأن التائب أحب إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من هذا الرجل الذي ظلت منه ناقته بعد أن وجدها، ثم واجبك أن تندم على ما فات، لكن لا يوصلك الندم إلى هذه الدرجة التي تشكو منها، فاعلم أن الله غفور رحيم، وأن رحمته واسعة، وأنه يقبل التوبة ويعفو عن عباده ويعلم ما تفعلون.
ثم اعلم أمراً ثانياً: أن الحسنات يذهبن السيئات، فكل سيئة عملتها حاول أن تفعل مكانها حسنة: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد:22] {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] عسى الله أن يتوب علينا وعليك، وأن يتقبل منا ومنك أحسن ما عملنا، وأن يتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
وعند مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها}.
وعند مسلم عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من سبعين مرة} وفي رواية:: {مائة مرة} فإذا كان هذا رسول البشر صلى الله عليه وسلم، فنحن أهل الذنوب والخطايا، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم: {والله، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم} وعند الترمذي: {كلكم خطاء وخير الخطائين التوابون} تاب الله علينا وعليك وعلى كل مسلم، وتقبلنا فيمن تقبل.(307/37)
وسائل تقوية الإيمان
السؤال
عشت فترة من حياتي كنت أحس فيها بلذة الطاعة، وحلاوة الإيمان، وأنس الذكر والمناجاة، إلا أني الآن أحس أن عزمي على الطاعة قد ضعف، وإيماني قد فتر، فبماذا توجهنا وتنصحنا إلى ما يزيد إيماننا ويقويه، ويعيدني إلى حالتي السابقة؟
الجواب
لا بد من الاعتراف بتقصير النفس، يقول ابن تيمية رحمه الله فيما نقل عنه ابن القيم في مدارج السالكين: السائر إلى الله يسير بنظرين: نظر في جلال النعمة، ونظر في عيب النفس والعمل، فإذا علمت ذلك فاعلم أنك بشر، وأنك تخطيء وأن السيئة مكتوبة عليك، فأبوك آدم أخطأ ولكنه تاب.
(وهذه شنشنة نعرفها من أخزم) (ومن يشابه أبه فما ظلم).
فإذا علم ذلك فاعترف لنفسك بالخطأ، ولكن تب إلى الله عز وجل، والفتور هذا لا بد من الاعتراف به فإنه واقع على الناس والأشخاص.
ففي صحيح مسلم عن حنظلة بن الربيع الأسيِّدي الكاتب، أنه شكا إلى أبي بكر وقال: نافق حنظلة! قال: مالك؟ قال: نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحدثنا عن الجنة والنار، حتى كأنا نراها رأي العين، فإذا خرجنا من عنده صلى الله عليه وسلم عافسنا الأطفال والضيعات ونسينا كثيراًُ، فقال أبو بكر: وأنا كذلك، فذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: {والذي نفسي بيده، لو تظلمون كما كنتم عندي في الذكر لصافحتكم الملائكة في السكك، ولكن ساعة وساعة}.
وعقد النووي باباً على هذا في صحيح مسلم، فقال: باب جواز أخذ بعض الساعات في المباحات، فالفتور هذا وارد، وصح عن ابن مسعود أنه قال: [[إن للقلوب إقبالاً وإدباراً، فاغتنموها عند إقبالها، وذروها عند إدبارها]] وعن عمر فيما صح عنه قال: [[يا أيها الناس! إذا أقبلت قلوبكم فأكثروا من النوافل، وإذا أدبرت فألزموها الفرائض]].
فإذا عرفت ذلك فاعلم أن هذا الفتور وارد، وله أسباب، وأعظم أسباب الفتور والخمول والكسل هي المعاصي، ما ظهر منها وما بطن، فإنها تودي بالعبد إما إلى موت القلب، وإما إلى قسوة القلب والران، فعليك كلما عصيت أن تتوب، وأن تستغفر، وأن تجدد إيمانك.
وعند أبي يعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {جددوا إيمانكم، قالوا: ماذا نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: لا إله إلا الله، فإن الشيطان يقول: أهلكت بني آدم بالسيئات والخطايا، وأهلكوني بالاستغفار ولا إله إلا الله} ثم المباحات تضعف الإيمان كثيراً وتقسي القلب، أعني: الإكثار منها والمبالغة فيها، كالإكثار من الضحك ومن الكلام الذي لا ينفع، والإكثار من الخلطة، والإكثار من النوم، والإكثار من الأكل والشرب، إلى غير ذلك.
وأما ما أنصحك به: فعليك بكتاب الله عز وجل، فداو مرضك، وحاول أن تبرئ به سقمك، وحاول أن تستشفي به فإنه نعم الشفاء، ثم مجالسة الإخوان الصالحين وحبهم، وزيارتهم، والقرب منهم، وسماع كلماتهم، ثم بحضور مجالس الخير والدعوة، ثم بكثرة الذكر، بأن تلهج بذكر الله صباح مساء، ثم بتذكر الموت، وأن تزور المقابر، وأن تقرأ الرقائق، وأن تعد العدة للقاء الله، ثم إني أنصحك بمجانبة جلساء السوء، فإنهم ضلال وإنهم والله أعدى من الجرباء، وهم الذين يفقدون الشخص إيمانه ويقينه ودينه وخلقه، نسأل الله أن يثبتنا وإياك وكل مسلم.(307/38)
وقفة مع كتاب الدعاء المستجاب
السؤال
ما رأيك في كتاب الدعاء المستجاب؟
الجواب
كتاب الدعاء المستجاب لا أنصح بقراءته، لأن فيه أحاديث لم تصح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض الأمور التي قيدها بأوقات وبهيئات وبأزمنة لم تصح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، وإنما يتلقى الدين بأذكاره ونوافله وفرائضه وسلوكه وآدابه من المعصوم صلى الله عليه وسلم، وفيما صح غنية وكفاية وشفاء عن هذا الكتاب، فأنصحك يا أخي بكتاب الوابل الصيب لـ ابن القيم، والكلم الطيب، وكتاب الأذكار للنووي، وكتاب الحصن الحصين ولو أن فيه ضعف وهو لـ ابن الجزري، ولكن معه تحفة الذاكرين، فإذا جمعت هذه الكتب وقرأت كتب الأحاديث التي في الذكر والأدعية في الكتب الصحاح والحسان كفاك هذا، وهذا الكتاب لا أنصحك به، لما خلط فيه صاحبه، نسأل الله أن يعفو عنا وعنه.(307/39)
التوسل بالأعمال الصالحة (1)
في قصص الأولين عبرة، ونحن في هذا الدرس مع قصة من قصص بني إسرائيل، وفيها من العظات والعبر والدروس المتعلقة بالعمل والاعتقاد شيئاً مفيداً، إنها قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار.(308/1)
فضل مجالس الذكر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته ومع روضة من رياض الجنة، ومع الحبيب صلى الله عليه وسلم، ومع كلامٍ نقف على أبوابه التي قدَّسها الله وعظَّمها وجعله أسوة وقدوة لمن أراد أن يهتدي وأن يقتدي.
من زار بابَك لم تبرح جوارحُه تروي أحاديث ما أوليت من مننِ
فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر والسمع عن حسنِ
الرسول صلى الله عليه وسلم جعله الله مقياساً وميزاناً لمن أراد أن يهتدي وأن يقتدي، وكل من أراد أن يخالف نهجه أو سنته فهو الضلال بعينه، والعالم اليوم -من باب ذكر النعم بين يدي هذا الدرس- عالم مقيت إلا من حفظ الله وعصم، ولذلك يقول جل ذكره: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] إلحادٌ مُزْرٍ، وطغيان وكفر، وبدع تترى، وفواحش تئن منها الأرض إلى السماء، وما هناك إلا ثلة قليلة يعيشون على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذه القلة القليلة أناس قليلون يحبون مجالس رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وأنتم حينما تجلسون في هذا المجلس تحفكم الملائكة، والله يباهي بكم، وكما يقول عطاء بن أبي رباح: [[مجلس واحد يكفِّر سبعين مجلساً من مجالس اللهو واللغو]].
وأي لذة في الحياة؟ أهي اللذة البهيمية التي يعيشها الكافر؟ أهي اللذة الجنسية التي يطمع فيها الملحد؟ لا، إنها لذة الاتصال بالواحد الأحد تبارك وتعالى.(308/2)
نص حديث الثلاثة النفر
درْسُنا هذا يرويه عبد الله بن الفاروق عمر بن الخطاب.
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عموداً
ولنستمع إلى الحديث، ثم العرض، ثم الشرح بإذن الله: عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غارٍِ فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة؛ فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه.
وقال الآخر: -أي: الثاني- اللهم إنه كان لي ابنة عم، وكانت أحب الناس إليَّ -وفي رواية: كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء- فأردتُها على نفسها فامتنعت مني، حتى ألَمَّت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففَعَلَتْ؛ حتى إذا قدرت عليها -وفي رواية: فلما قعدت عندها- قالت: اتق الله! ولا تفض الخاتم إلا بحقه! فانصرفتُ عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها.
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه.
فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت له أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين وقال: يا عبد الله، أدِّ إليَّ أجري، فقلتُ: كلُّ ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق أجرك، فقال: يا عبد الله! لا تستهزئ بي، فقلت: لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه.
فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون} رواه الشيخان البخاري ومسلم.(308/3)
عرض إجمالي لقضايا الدرس
في هذا الحديث قضايا:
أولها: موقفنا من الإسرائيليات.
ثانيها: صدق اللجوء وإخلاص الدعاء في الأزمات إلى الواحد الأحد.
ثالثها: التوسل بصالح الأعمال، وهل يجوز لك أن تتوسل بصالح العمل.
أم لا؟
رابعها: بر الوالدين وما جاء فيه.
خامسها: فضل العفة، ومخالفة الهوى، وقصص من قصص الصالحين والأخيار.
سادسها: فضل السماحة وأداء الأمانة.
سابعها: إثبات كرامات الأولياء ونماذج من ذلك.(308/4)
من سيرة الراوي عبد الله بن عمر
هذا الحديث يرويه عبد الله بن عمر، يقول صاحب الكتاب: عن أبي عبد الرحمن، يكنيه، والكنية تعريف وسِمَة، ومن هدي السلف الصالح التكنية، والكنى إكرام للرجل، لذلك يقول الشاعر اليمني:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب
كذاك أدبت حتى صار من خلقي أني وجدت ملاك الشيمة الأدب
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يكني أصحابه ولو لم يكن لهم أولاد، فكان يقول للخليفة الأول: يا أبا بكر، ولـ علي: يا أبا الحسن، ولـ عمر: يا أبا حفص، وعثمان رضي الله عنه له كنيتان: أبو عمرو، وأبو محمد.
والشاهد أن الكنية جارية، وربما كَنَّى صلى الله عليه وسلم مَن لم يكن له أولاد من أصحابه، فكان يقول لأخي أنس وهو طفل صغير يلعب بنغْر معه: {يا أبا عمير ما فعل النُّغَير؟}.(308/5)
ابن عمر ورواية الحديث ورؤياه المنامية
وعبد الله بن عمر من أكثر الصحابة رواية، بل هو من الرواة السبعة، ومن أكثر من روى الحديث النبوي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
عاش عبد الله بن عمر في كنف النبوة، وترعرع في رياض السنة، ورتع في مروج العلم النافع الذي ورثه من محمد صلى الله عليه وسلم، عاش زاهداً عابداً مخبتاً داعية إلى الله حنيفاً ولم يكُ من المشركين.
أسلم مع أبيه وهاجر الهجرة، وما تزوج إلا بعد أن وصل إلى المدينة، كان أعزب في أول لياليه، فكان ينام في المسجد، فيقول عن نفسه: {كنت أعزب أنام في المسجد، وأرى الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الرؤيا، فتمنيت أن أرى رؤيا في المنام لأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم} وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر التفت إلى أصحابه وقال: هل رأى أحد منكم رؤيا البارحة؟ لأن الرؤيا فيها ما يصدق وفيها ما يكذب، وهي ثلاثة أقسام:
رؤيا من الرحمن، ورؤيا من الشيطان، ورؤيا أضغاث أحلام.
فأما التي من الرحمن فهي التي من الرجل الصالح، في علم صالح بإذن الله وبشرى خير، فهي من المبشرات.
وأما رؤيا الشيطان فهي ما يوعد به الشيطان في المنام من زلازل وفتن ومحن وبأساء وكوارث ومصائب؛ فهذه من الشيطان، ولا تخف منها، ولها علاج.
وأما أضغاث الأحلام فهي مجريات الحياة التي تحدث عليك في النهار، كأن ترى الطريق وفيها سيارات تذهب وتجيء، ووقوف عند الإشارة، وأن ترى الناس يخرجون من المدارس، وأن ترى أطفالاً أمامك، وأن ترى بقالات مفتوحة أمامك، هذه مجريات الحياة، ليس فيها أمر زائد ولا ناقص، ولا يتطلب منك الأمر أن تسافر إلى الرياض إلى سماحة العلماء، وتقول: رأيت البارحة كأن سيارة تمشي في الخط وتقف عند الإشارة، فما هي تعبير رؤياي هذه؟ أفتوني مأجورين.
فهذه أمور مجريات.
والشاهد: أن ابن عمر قال: فتمنيت أن أرى رؤيا، قال: فرأيت في المنام كأني في حديقة خضراء، وكأن عندي قطعة من إستبرق أو من حرير لا أشير إلى مكان إلا أخذتني هذه القطعة إلى ذلك المكان، قال: وإذا برجلين اثنين أخذاني بيدي؛ أحدهما باليمنى والآخر باليسرى، فأخذاني إلى بئر مطوية، لها قرنان -أي: ما يوضع عليها العجلة-، قال: فنظرا إليها فقالا لي: لا ترع لا ترع -وفي لفظ: لَمْ تُرَعْ لَمْ تُرَعْ، أي: لا تخف- قال: فأتيت فذهبت إلى أختي حفصة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لا يستطيع ابن عمر من جلالة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن مهابته وعظمته أن يقص عليه الرؤيا؛ لأنه رجل شاب، والشاب دائماً عرضة للخجل والحياء، والرسول صلى الله عليه وسلم ما أخذ هيبته وما أخذ جلالتة بالجبروت؛ لا، فإنه كان أشد الناس تواضعاً وأسهل الناس وأيسرهم، يقف مع الطفل، ومع العجوز، لكن وضع الله عليه من المهابة ما الله به عليم، والشاب من عادته ألا يتجرأ على السؤال والحديث، حتى في الصحيحين يقول ابن عمر: {كنت جالساً مع قوم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام وقد أتي بِجُمَّار -أي: أتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بِجُمَّار- وهو قلب النخلة الأبيض، فمكث صلى الله عليه وسلم برهة ثم التفت إلى أصحابه، فقال: شجرة لا يسقط ورقها؛ مثلها مثل المؤمن! أخبروني ما هي؟ قال ابن عمر -صاحبنا هذه الليلة-: فوقع في قلبي أنها النخلة، فاستحييت أن أذكرها للرسول صلى الله عليه وسلم وفي القوم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي} هؤلاء الأجلة أهل بدر، وأحد، وأهل منائر الإسلام، وأهل المنابر، وأهل عتاق المذاكي، وأهل السيوف، وأهل قيام الليل، وعلماء الأمة، وحُفَّاظ التاريخ بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستحيا أن يتقدم ويقول: هي النخلة، {قال: فوقع الناس في شَجَر البوادي، أحدهم يقول: الطرفاء، وأحد يقول: السمر، وأحد يقول: السلم، وأحد يقول: الطلح، فلما انتهوا قال صلى الله عليه وسلم: هي النخلة، قال: فذهبت إلى البيت مع أبي، فقلت: يا أبتاه! لقد علمت بالشجرة التي حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنها النخلة، فقال عمر: والذي نفسي بيده لوددت أنك أخبرت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن لي بها كذا وكذا، وعَدَّ أموراً وأموالاً من الدنيا} يقول: لماذا تأخرتَ بالجواب وهذا وقت المبارزة، وأريد أن تبدي قوتك وذهنك وفهمك عند الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لكنه استحيا!
ونعود إلى رؤياه رضي الله عنه، قال: {فقصصتها على حفصة، فقصتها على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل} قال نافع مولى ابن عمر تلميذه الكبير: [[فكان ابن عمر لا ينام من الليل إلا قليلاً، حتى إذا سافر في الصحراء كان يصلي ويقول: يا نافع، هل طلع الفجر؟ فأقول: لا، ما طلع، فيعود فيصلي، فيقول: هل طلع؟ فأقول: لا، فيصلي، فإذا قلت: طلع أوتر بركعة ثم صلى الفجر]].(308/6)
أثر حديث: (كن في الدنيا كأنك غريب) في حياة ابن عمر
وابن عمر يقول: {نزلت إلى السوق -ولكن رواية البخاري ليس فيها هذه الزيادة- فأخذ صلى الله عليه وسلم بمنكبَيَّ -أي: بمجامع ثيابه من منكبَيه، وفي لفظ: بمنكبِي- فقال: يا عبد الله، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل}.
وكان ابن عمر يقول: [[إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك]].
فبَقِيَت كلمةُ: {كن في الدنيا كأنك غريب} تَرِنُّ في أذنه، فكان من أزهد الصحابة على الإطلاق.
رأته عائشة رضي الله عنها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يذهب إلى السوق في بردة لا تساوي عشرة دراهم، فدمعت عيناها وقالت: [[ابن عمر من الذين دفنوا في البرد يوم أحد مع الرسول صلى الله عليه وسلم]] أي: مِن الشهداء.
يقول سائل لـ نافع: [[ما هو عمل ابن عمر إذا دخل بيته؟ قال: كان يتوضأ ويقرأ في المصحف، ويتوضأ ويقرأ في المصحف، ويتوضأ ويقرأ في المصحف]].
وابن عمر من الأولياء الكبار وإنما أذكر هذه القصص تربية وأسوة وقدوة؛ علَّ الله أن ينظر إلينا بنظرة خير فيجعلنا ممن أحبهم إذا لم نعمل بعملهم.
استمرت به الحياة، وازدحم الناس على الملك بعد مقتل عثمان، وقد كان من المرشحين المرموقين للخلافة، لكنه تركها لحديث: {كن في الدنيا كأنك غريب} رأى الذهب والفضة فما أخذ منه شيئاً لحديث: {كن في الدنيا كأنك غريب} رأى المناصب تبذل إليه فما أخذها لحديث: {كن في الدنيا كأنك غريب} رأى البغال، والشهب، ورأى الخيول المسومة، ورأى اللذائذ، والقصور تشرف عليه من بغداد ودمشق، فتركها يوم فَتَحَ المسلمون الفتوح لحديث: {كن في الدنيا كأنك غريب} كان إذا حج بكى عند المقام ومرغ وجهه بالتراب وقال: [[اللهم إنك تعلم أني ما تركت الدنيا إلا من مخافتك]].(308/7)
عبد الله بن عمر وابناه: سالم، وعاصم
توفي على أحسن حال رضي الله عنه، وترك لنا عِلماً جماً، وترك لنا ولداً صالحاً باراً عالماً هو سالم بن عبد الله، وكان لا يفارقه أبداً، والعجيب أن سالماً هذا شابَ أكثر من شيب والده عبد الله، فكان ابن عمر إذا التقى به من سفر تعانقا وتباكيا كثيراً، ويقول ابن عمر: [[انظروا للشيخ يُقَبِّل الشيخ]] حتى كان يترك بعض الأسفار ليستقر مع سالم، وكان يترنم ببيت من الشعر يقول:
يلومونني في سالم وألومهم وجلدة بين العين والأنف سالم
وله أخ اسمه عاصم، استمر في طلب العلم والاستقامة، ثم وافاه الأجل فتوفي، فكان يبكي عليه ويقول:
فليت المنايا كن خلفن عاصماً فعشنا جميعاً أو ذهبن بنا معا
وأصل البيت:
فليت المنايا كن خلفن مالكاً فعشنا جميعاً أو ذهبن بنا معا
فحوله إلى عاصم.
ومالك المقصود به في البيت هذا مالك بن نويرة، أخو متمم، الذي قُتل في حربه مع خالد، ومتمم هذا كان أعور العين، ومن شعراء العرب، وكان مالك هذا من سادات العرب ومن كبارهم وأجاويدهم، فلما قُتِل بكى عليه أخوه حتى بكت عينه العوراء، وقال أعظم مرثية في تاريخ الإنسان
روى الترمذي بسنده عن عطاء قال: وقَفَتْ عائشة على قبر أخيها عبد الرحمن، فبكت طويلاً فاستشهدت بأبيات متمم في أخيه حيث قال:
وكنا كندمانَي جذيمة برهة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا أصاب المنايا رهط كسرى وتُبَّعاً
فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماعٍ لم نبت ليلةً معا
إلى أن قال:
فليت المنايا كن خلفن مالكاً فعشنا جميعاً أو ذهبن بنا معا
وزاد أحدهم بيتاً له:
بكت عيني اليمنى فلما زجرتُها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
وكانت من أعظم ما رُثِي به في التاريخ، حتى قال عمر: [[أدخلوا عليَّ متمماً]]؛ لأن عمر أنكر قتل خالد لـ مالك أخيه وقال: [[أبرأ إليك مما صنع خالد، وقال لـ أبي بكر اعزل خالداً، فما فعل أبو بكر وقال: والله لا أغمد سيفاً سله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن خالداً سيف من سيوف الله]] فلما تولى عمر كان أول مرسوم في خلافته عزل خالد، قيل: لهذه الأسباب، وقيل: لغيرها، فقال: [[أدخلوا عليَّ متمماً، قال: ماذا قلتَ في أخيك؟ فذكر أبياتاً، فبكى عمر حتى رثي له، وقال: يا ليتني كنت شاعراً فأرثي أخي زيداً - الذي مات في اليمامة، وهو زيد بن الخطاب - قال: أسلم قبلي، وهاجر قبلي، واستشهد قبلي]].
الشاهد: أن ابن عمر رضي الله عنه ترك لنا سالم بن عبد الله بن عمر، سالم الزاهد العابد الذي دخل في الحرم يطوف، فدخل سليمان بن عبد الملك الخليفة وقيل: هشام، فطاف فلما رآه الخليفة وحذاؤه في يديه وعليه ثياب وعمامة لا تساوي ثلاثة عشر درهماً، قال: من هذا؟ قالوا: عالم المسلمين، فتقدم إليه وقال: أتريد مني حاجة؟ قال سالم: أما تستحي في بيت الله أن تقول لي هذا الكلام، فلما انتهى وقف له الخليفة ببني أمية وبالوزراء الذين معه والجيش حتى خرج، فقال: سألتك هل لك حاجة في الحرم فأخبرتني أن لا، فهل لك حاجة؟ قال: أمن حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا، قال: أما الدنيا فوالله ما سألتها من الذي يملكها سبحانه فكيف أسألها منك؟!
ولذلك يقولون: مات سالم بعين من هشام بن عبد الملك كما ذكر الذهبي أنه عانه هشام حيث نظر إليه وكان عليه أبهة العبادة، وجمال قيام الليل والحسن، فقال: يا سالم، أتأكل اللحم؟ قال: آكله في الأسبوع مرتين، قيل: فعانه فقتله، قال أهل المدينة: [[لا بارك الله في هشام أخذ أبناءنا إلى الثغور فقُتلوا، وقَتل عالمنا بعينه]].
وقد ذكرتُ هذا الأجل الرؤيا الخيرة، حتى أن البخاري كتب كتاب الرؤيا وذكر فيه أكثر من أربعين حديثاً.(308/8)
استطراد مع أبي دلامة
دخل أبو دلامة على أبي جعفر المنصور وقال: يا أمير المؤمنين! قال: نعم، قال: رأيت في البارحة أني قبَّلت رأسك وأعطيتني ألف دينار! قال أبو جعفر: أما التقبيل فأنا أؤوله لك، وأما الألف دينار فلا أفعله.
قال: لا والله هي حاجتان لا بد منهما، قال أبو جعفر: فوالله لا أتركك تقبل رأسي أبداً، قال: اعطني ألف دينار وسامحك الله في التقبيل.
وهذا من الكذب في الرؤيا، وإلا فيمكن أنه ما رأى، والله أعلم، ولكن حصل على ألف دينار.
وأبو دلامة -للمناسبة- دخل على الخليفة المهدي بن أبي جعفر، فقال له الخليفة: آذيتنا بحوائجك دائماً -أي: دائماً تسأل: أعطوني مالاً، أعطوني خيلاً، أعطوني كذا، آذيتنا دائماً- فقال: يا أمير المؤمنين! والله لا أسألك إلا حاجة سهلة، قال: ما هي؟ قال: أعطني كلباً للصيد، قال: أعطوه كلباً، قال: وأعطني خادماً، إذا صاد الكلب الصيد يمسك الصيد، قال: أعطوه خادماً قال: وفرساً أحمل عليه الصيد، قال: أعطوه فرساً، قال: وداراً أطبخ فيها الصيد!!(308/9)
بنو إسرائيل في القرآن والسنة
حديث درسنا من الإسرائيليات عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا قال: (كان فيمن كان قبلكم) فالغالب أنه من بني إسرائيل، لما قال صلى الله عليه وسلم: {لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم، أو سُنَنَ من كان قبلكم حذو القذة بالقذة الحديث، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال فمن وفي رواية صحيحة: ومَن الناسُ إلاَّ هم} فكان الغالب في حديثه صلى الله عليه وسلم إذا قال: (كان فيمن كان قبلكم) أن يعني به بني إسرائيل.(308/10)
أسباب كثرة الحديث عن بني إسرائيل
وبنو إسرائيل أخذوا قطاعاً كبيراً في القرآن والسنة، وأنت تقرأ سورة البقرة يتكرر فيها: يا بني إسرائيل، يا بني إسرائيل، يا بني إسرائيل، لماذا؟ لثلاثة أسباب:
أولها: لكثرة بني إسرائيل؛ فإنهم الأمة الثانية في الترتيب في العدد بعد أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
الثاني: لأن موسى نبي الدعوة والرسالة، عاش صراعاً عالمياً مع فرعون.
ثالثاً: أنهم أهل مخالفه، وأهل لعنة، وأهل إعراض وبُعد؛ فكأن القائل يقول:
إياكِ أعني واسمعي يا جاره!!
ومصائب قوم عند قوم فوائد!!(308/11)
موقفنا من الإسرائيليات
موقفنا من الإسرائيليات نحن -المسلمين- تُقسَّم الإسرائيليات عندنا إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما كان في كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فهذا تحصيل حاصل، مثل: الأمر بتقوى الله، كتحليل الحلال وتحريم الحرام.
القسم الثاني: ما يخالف كتابنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فهذا نضرب به عُرض الحائط، ونرده رداً تاماً، ولا نقبل منه ولو ذرة.
القسم الثالث: ما لا يخالف ولا يوافق، إنما هو أعاجيب وقصص وأخبار.
بهذا نحدث عن بني إسرائيل، ونذكرها للعبرة بين يدي الناس؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: {حدثوا عن بني إسرائيل ولاحرج} حديث صحيح، وقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم} ومعنى ذلك: ما لم يخالف كتاب ربنا أو سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن وافق قبلناه، وإن خالف رددناه، وإن لم يكن مخالفاً ولا موافقاً روينا وسكتنا، كأن نحدث أن فيهم قوماً ذهبوا في الدهر، وأنهم هلكوا، أو أن فيهم رجلاً صالحاً تعبَّد في جزيرة من الجزر، وأن فيهم قوماً استقاموا على منهج الله، وأن فيهم قوماً فسقوا فأهلكهم الله، هذه عبر، فنحدث ولا حرج هذا موقفنا من الإسرائيليات.
وابن كثير ذكر موقف أهل العلم من الإسرائيليات في أول تفسيره؛ ولكنه رحمه الله رحمة واسعة نسي هذا المنهج لَمَّا بدأ في التفسير، فأورد كثيراً من الإسرائيليات، ويعذره جلالته في الإسلام، وحسن نيته رحمه الله، ولكن يُتَنَبَّه لذلك، واعلموا أن أحسن تفسير على الدنيا وعلى وجه الأرض الآن هو: تفسير ابن كثير، يقول الشوكاني في البدر الطالع: ما على وجه الأرض أحسن من تفسير ابن كثير وقال السيوطي: لا أعلم في التفاسير أحسن منه فكيف بمثله.
ونبهت على هذا لأنها قد تصادفكم أو صادفتكم كثيراً في تفسير ابن كثير الذي نهج نهجاًَ سديداً، وقعَّد قواعد في أول التفسير، لكنه نسي كثيراً من هذه القواعد لما كتب.(308/12)
ضرورة الالتجاء إلى الله
الحديث: يقول عليه الصلاة والسلام، وهو يقص علينا: انطلق ثلاثة نفر النفر: يطلق على المجموعة وعلى الأفراد، والثلاثة فما أكثر يسمى: نفر، وقوله صلى الله عليه وسلم: من بني إسرائيل، حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه الغار: الكهف، قال تعالى: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [الكهف:16] ولذلك يقولون: الأحبة في الغار أحسن من المتباغضين في الأقطار، أي: في أوسع حال، ولذلك قيل: (سَمُّ الخياط مع الأحباب ميدان) لو دخلت أنت والحبيب في سَمِّ الخياط لَوَسِعَكما، ولو دخلت مع البغيض في الأرض لضاقت بكما، إنما الضيق ضيق القلوب، والشاهد: دخول هؤلاء الغار، وقوله: فانحدرت صخرة من الجبل -في روايات في غير الصحيح: فأمطرت السماء، فالتجئوا إلى الغار- فانحدرت عليهم صخرة فسدت عليهم الغار.(308/13)
الضوائق تلجئُ المرءَ إلى الله
أصبحوا في ضائقة، واشتدت عليهم الأزمات، العبدُ قد يشرك في السعة، وقد يكفر؛ لكن إذا ضاقت عليه الضوائق لا يلتجئ إلا إلى الله.
يا واهب الآمال أنـ ـت منعتني وحميتني
وعدى الظلوم علي كي يجتاحني فنصرتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
يقول حصين بن عبيد لما أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد سأله الرسول صلى الله عليه وسلم: {كم تعبد؟ قال: سبعة، قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: مَنْ لِرَغَبِكَ ولِرَهَبِكَ؟ -أي: لشدة الضوائق والشدائد- قال: الذي في السماء، قال: فاترك التي في الأرض واعبد الذي في السماء}.
قال ابن قتيبة: أجمع العقلاء على أن جميع البشر إذا اشتدت بهم الضوائق التجئوا إلى الله، حتى الكافر الملحد، وتجدون هذا في كتب الملحدين الذين أسلموا وكانوا على هذا النهج، مثل كتاب: رأيتُ الله، للملحد الذي أسلم، ومثل كتاب: أين الله؟، ومثل كثير من الكتب، بل القواعد التي ذكرها دايل كارنيجي في كتاب دع القلق وابدأ الحياة، لا يتعرفون على الله إلا في الضوائق، وإذا دخلوا البحر وضاقت بهم الضائقة واضطربت السفينة من تلاطم الأمواج، وأتى الموت من كل مكان، وازدحمت عليهم الأهوال، وضاقت بهم الدنيا، فيتذكرون الأطفال والأزواج والأموال، فيلتجئون إلى الله، قال الله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] ولذلك أمرنا الله أن نلتجئ إليه في وقت الضوائق؛ فإنه هو الذي ينجي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو الذي يقول وقت ازدحام المعركة وتلاقي السيوف والرماح: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].
يقول ابن القيم: سُئِلَ ابن تيمية عن هذا: كيف يُذَكِّرُنا الله وقت الأزمة بذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى والقلوب مشغولة بالحرب والقتل؟ قال ابن تيمية: إن العرب تعودوا على أن المحبين لا يذكرون محبيهم إلا في الأزمات، فأراد الله أن يذكرهم بمحبوبهم هذا.
ولذلك يقول عنترة وهو في المعركة والسيف على رأسه والرمح على رقبته؛ يقول لمحبوبته:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
فأراد الله أن يردهم إليه في هذه الأزمة.
قال: {فدخلوا في الغار فانطبقت عليهم الصخرة فسدت عليهم الغار}:
الآن ضاقت بهم الضوائق، فلا خبر ولا اتصال، ولا يوجد من ينجدهم، ولو كانوا في قرية لصاحوا حتى يسمعهم الناس؛ فقالوا: الآن أتى الصدق وذهب الكذب فقالوا: {لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم}.(308/14)
الالتجاء ينفع مَن عرف الله في الرخاء
والإنسان إذا ضاقت عليه الضوائق يراجع حسابه مع الله عز وجل؛ فهذا يونس بن متى عليه السلام ذهب مغاضباً، يقول الله عز وجل: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] فإنه لما ركب في السفينة اسْتَهَمَ معه أهل السفينة؛ وذلك حين تغير مسارها، وهبت عليهم الريح، وقال قائد السفينة: إن معنا رجلاً مشئوماً أتى بمعصية، ولا يمكن أن تنجو السفينة وهو فيها، حتى قواد السفن يعرفون أنه لا تتعكر مسيرتهم إلا بالذنوب.
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
فاستَهَمُوا على أن من تأتي عليه القرعة رمي به في البحر وسط الليل يونس عليه السلام نبي من الأنبياء، أرسله الله إلى مائة ألف أو يزيدون، ركب معهم فاستَهَمُوا فوقعت فيه القرعة، قالوا: قد تكون خطأ، أعيدوا مرة ثانية، فأعادوا فوقعت فيه، فأعادوا فوقعت فيه ثالثة، فأخذوا بثيابه وشحمه ولحمه ودمه وعصبه وألقوه في البحر.
انظر إلى هذه الرفقة والصحبة ما أحسنها! لا حبال، ولا أخ، ولا اتصال، ولا وصية، ولا شيء، فوقع وسط البحر، وسط الليل، وليته حين رُمي كان قريباً من الشاطئ حتى يسبح، أو في النهار حتى تراه سفينة أخرى أو قارب، ولكن في انقطاع لا يعلمه إلا الله، ولما وقع تلقته بحفظ الله ورعايته سمكة فابتلعته في ظلمة البحر وفي ظلمة الليل وفي ظلمة بطن الحوت، فإلى من يلتجئ؟ إلى الإخوان والأقارب والعشيرة؟ لا.
إنما يلجأ إلى الله، فأول ما وقع قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
وقد ورد في أثر إسرائيلي قالوا: فسمعت الملائكة قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فبكت، وقالت: يا رب! صوت معروف من عبد معروف.
قال: ما عليكم، هذا عبدي كان يسبحني في الرخاء، وعزتي وجلالي لأنجينه.
ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144] أي: رصيده طيب، أعماله في الرخاء طيبة معنا، كان معنا في السعة ووقت السرور والحبور مطيعاً لله عز وجل، لكن بعض العصاة لا يذكر الله عز وجل إلا في الأزمات، إذا أتاه حادث سيارة أو أحس أن الطائرة سوف تتحطم في الجو قال: لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين.
لكن إذا نزل الأرض لعب بالوَتَر، وبالكأس، ومارس المجون والخلاعة، يسمع الأذان وكأن بينه وبينه ألفَ رامٍ، ولا يلقي للإسلام ولا للدين ولا للصالحين ولا للقرآن بالاً، لكن إذا رأى الشدة رجع إلى الله عز وجل، وهذا مثله مثل فرعون؛ أفجر فاجر، وأطغى طاغية، وأحمق إنسان على وجه الأرض، ادعى الألوهية، استحيا كثير من الملاحدة أن يدعوا الألوهية إلا هو، قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] يقول ابن الجوزي: اغتر فرعون بنهر ما أجراه.
ما أجرأه! يقول: اغتر لما رأى النهر، والمعنى: أنه ما أجرى النهر، وما أجرأه على الله عز وجل! ولذلك لما وقع في الهلاك قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90] انظر إلى هذا المؤمن، لطخ صحائفه السوداء وألحد في دين الله ثم آمن بالله، قال الله عز وجل: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91].
إذاً: هؤلاء كان لهم أعمال صالحة، لم يقولوا لَمَّا دخلوا الغار وانطبقت عليهم الصخرة كلٌّ منكم يحدث ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بمواصفاته في الحياة، فيأتي الأول فيقول: اللهم إني فلان بن فلان وابن فلانة بنت فلان، ومن آل فلان أهل الكرم والجود، وأهل الشجاعة والمجد والشَّيَم، الذين شاركوا في المعارك، وتولوا المناصب، ولم يأتِ الآخر فيقول: إني ابن الغني صاحب رأس المال الفلاني، صاحب السيارات، والعقارات، والدور، وقلة الحياء، لا.
بل أتوا إلى الأعمال الصالحة، سواء أكانوا أحراراً أم عبيداً، سواء أكانوا سوداً أو حمراً أو بيضاً؛ لأن الألوان عند الله ليست مقياساً، ومعمل ألوانه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يوم القيامة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
بلال سيد من السادات، قصره كالربابة البيضاء، يمشي في الجو، في سماء الجنة، وأبو طالب وأبو لهب في نار تلظى {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل:15] هذا ميزان الله عز وجل.
قال: {فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم}:
ولم يقولوا: بأعمالكم؛ لأن فيها خيراً وشراً، ولكن ادعوا الله بصالح الأعمال.(308/15)
صدق اللجوء وحرارة الدعاء
المسألة الثانية: وقبل ذلك صدق اللجوء إلى الله، إذا ضاقت بك الضوائق فاصدق مع الله عز وجل، وقد ذكر أهل العلم قصصاً عجيبة لمن صدق اللجأ إلى الله في وقت الأزمات، والقصص في ذلك معروفة مشهورة، ذكر ابن القيم شيئاً منها في الجواب الكافي.
فلا بد من اللجوء إلى الله عز وجل بالدعاء بحرارة، ومن ذلك: قال علي بن أبي طالب: ما من أحدٍ ليلة بدر إلا نائم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي ويبكي ويدعو، ويوم اصطف الجمعان والتحم الفريقان؛ وقف عليه الصلاة والسلام بصدق اللجأ إلى الله الحي القيوم يدعو حتى سقطت بردته من على منكبيه، فأخذها أبو بكر وأعادها عليه، وقال: هون مناشدتك ربك يا رسول الله، إن الله منجز لك ما وعد، والرسول صلى الله عليه وسلم أعلم بربه، ويعلم أنه لا يأتي النصر ولا الكرامة ولا الفتح إلا بصدق اللجأ، فكان يقول: يا رب! إن تُهلِك هذه العصابة فلن تُعبَد بعد اليوم، حتى نصره الله.
وفي الغار يوم دخل مع أبي بكر كان صادقاً في اللجوء إلى الله فنجاه الله، كان الكافر يأتي فيطلع على سطح الغار حتى يقول أبو بكر: {يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا، فيتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: ما ظنك باثنين الله ثالثهما} ويأتون جماعات وأسراباً يريدون دخول فم الغار فيجدون بيت العنكبوت وعش الحمامة على فم الغار، فيقولون: ما دخلوا هنا!
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تَحُم
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطَم(308/16)
أنواع التوسل وحكمها
المسألة الثالثة: التوسل بالأعمال، يقولون: تعالوا ندعوا الله بصالح أعمالنا، فهل لك أن تدعو الله بصالح عملك؟ وهل لك أن تتوسل بأمور أخرى هي من الصلاح؛ كأن تقول: اللهم إني أتوسل إليك بهذا المصحف، أو تأتي إلى كتاب فتح الباري وتقول: اللهم إني أتوسل إليك بكتاب فتح الباري لـ ابن حجر العسقلاني، أو بـ رياض الصالحين، أو بهذا المسجد، فتقول: اللهم إني أتوسل إليك بمسجد أبي بكر الصديق الذي صلى فيه المسلمون وذكرك فيه الذاكرون فاغفر لي، أو تقول: أتوسل إليك بالرسول عليه الصلاة والسلام فاغفر لي، أو بـ المدينة أو بـ مكة، أو بـ قبرص هل يجوز هذا أم لا؟ وهل يجوز لك أن تأتي وتقول: اللهم إني أتوسل إليك أني أذكرك وأسبحك وأصوم لك، وأتوسل إليك بطاعتي، واتباعي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم؟ هذه فيها تفصيل سيأتي.(308/17)
التوسل بالأعمال الصالحة
أما التوسل بصالح العمل فعليه كبار الأئمة من المحدثين والمحققين، وعلى رأسهم العلم الكبير شيخ الإسلام ابن تيمية، فلك أن تتوسل بصالح العمل، وهو من الذي تؤجر عليه، فلك أن تقول: اللهم إنك تعلم أني فعلت كذا يوم كذا لمرضاتك، اللهم إنك تعلم أني صليت في الليلة الفلانية من ذاك التاريخ ركعتين من جوف الليل لا أريد إلا وجهك فاغفرلي ذنوبي، هذا بصالح العمل فتوسل، وعليه حديث: {اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةًَ، خرجت اجتناب سخطك وابتغاء مرضاتك فاغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} ولكنه ضعيف في سنده عطية بن سعيد العوفي، وابن تيمية ضعفه، ولكنه شرحه على فرض صحته فقال: هذا التوسل بصالح العمل، فأنت تتوسل بحق السائلين؛ فإن للسائلين على الله حقاً إن شاء تَرَكَهم وإن شاء أعطاهم.(308/18)
التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم
أما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو على قسمين:
الأول: التوسل باتباعه وهو صحيح، لك أن تقول: اللهم إنك تعلم أني أعمل بسنة نبيك عليه الصلاة والسلام فاغفر لي.
الثاني: التوسل بذاته، وهو لا يجوز، لا تأتي إلى قبره وتقول: اللهم إني أتوسل إليك بالنبي فاغفر لي، أو أتوسل إليك به أن تغيثنا أو تمطرنا هذا اليوم؛ فهذا لم يفعله الصحابة، وهو أمر محدث وشُعبة من الشرك لا يجوز.
وقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قحط الناس في عهده، والرسول صلى الله عليه وسلم مدفون عندهم في الروضة فما توسل به، فلو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام جائز لأتى عمر إلى قبره صلى الله عليه وسلم، لكن أتى بـ العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: [[اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك برسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: في حياته- يدعوه صلى الله عليه وسلم فيغيثهم- وقد مات، اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبينا العباس فاسقنا يا رب، فدعا العباس فسقاهم الله]] فهذا هو الصحيح.(308/19)
التوسل بذات الشيء
أما التوسل بشيء لذات الشيء فلا يجوز هذا، وهو من باب الشرك، كما قال الله عن الكفار: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وهذا منهج الشرك، فإنهم ما عبدوا الأصنام لذاتها، ولكن قالوا: يقربوننا إلى الله زلفى، فنتوسل بهم إلى الله ليرفعوا حوائجنا إليه، وليكونوا واسطة بيننا وبين الله، وهذا هو الشرك بعينه فالتوسل بالأعمال الصالحة يجوز، أما بغير ذلك من الذوات فلا يجوز ولو بذات الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبعض الناس يبلغ من ولاية الله عز وجل أن يقسم على الله قسماً فيبر الله قسمه، يقول عليه الصلاة والسلام: {إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره} ويقول: {رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره منهم البراء ابن مالك/ p> } حتى كان يقسم على الله فيبر الله قسمه، لما التقى المسلمون في تستر مع الكفار، وكان القائد أبو موسى، قالوا: [[يا براء نسألك بالله أن تقسم على ربك أن ينصرنا هذا اليوم، فاغتسل وتحنط وتكفن وأخذ سيفه وقال: يا رب أقسم عليك أن تنصرنا هذا اليوم وأن تجعلني أول شهيد]] فكان أول شهيد وانتصر الجيش.
فهذا بلغ في الولاية أن يقسم على ربه فيبر الله عز وجل قسمه.(308/20)
حديث الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة(308/21)
بر الوالدين في حديث أصحاب الغار
قال صلى الله عليه وسلم: {فإنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم -وهو الأول-: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران}:
الشيخان معروف أنهما كبيران لكن من باب التأكيد، أو من باب عطف المترادفات في الكلام، وإلا فكل شيخ كبير، والمشهور عندنا أن الشيخ شيخ العلم، لكن المشهور في لغة العرب أنه الكبير في السن، قال الشاعر:
زعمتني شيخاً ولست بشيخ إنما الشيخ من يدب دبيبا
فالشاعر: ينفي التهمة عن نفسه، والمعنى أن زوجته تقول إنه شيخ وهو لا يريد أن يكون شيخاً، لأن العرب يجدون في الشيبوبة عند النساء وصمة ولذلك يقول:
عيَّرَتْنِي بالشيب وهو وقار وليتها عيرت بما هو عار
وفي القرآن: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] وكأن إيراد كلمة (كبيران) هنا لفائدة؛ لأنه لو قال شيخ وسكت لتُوُهِّم أنه شيخ نسبي إضافي، أي دخل في الشيخوخة، وليس كبيراً في السن.
قال {كان لي أبوان شيخان كبيران}:
أي: كنت أعلم أنهما في الشيخوخة وأنهما لم يكونا صغيرين؛ لأن بعض الأبناء يبر والديه خوفاً منهما لا خوفاً من الله، ولا لطلب الحسنات؛ فهذا يقول: أنا ما خفت من والديَّ، فهما شيخان كبيران لا يستطيعان أن يضرباني أو يعضاني أو يمسكاني ويضرباني.
وقوله: {وكنت لا أغبق}:
الغبوق هو: شرب اللبن، آخر النهار، والصبوح شربه بعد الفجر.
وأما قول الشاعر:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندلينا
فاصبحينا معناه: أعطينا الخمر، ولكن هنا في اللبن وشرب آخر النهار منه يسمى غبوقاً.
قال: {اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً}:
أي: أنت تعلم أني كنت آتي باللبن في آخر النهار فما أقدم على والديَّ أحداًَ من أهلي ولا مالي، والمقصود في الحديث بالمال: الرقيق، ويدخل فيها حتى من يشرب اللبن ممن يقبل شرب اللبن، ولكن المقصود هنا الرقيق.
قال: {فنأى بي طلب الشجر}
يعني: كنت أرعى الغنم، وأبحث عن الشجر للغنم حتى تأخرت عن العودة في المساء.
قال: {فلم أُرِِحْ}:
ويجوز أن تقول: أَرُحْ، والرواح في آخر النهار، والغدو في أول النهار، ويجوز أن يكون في أول النهار، يقول عليه الصلاة والسلام: {من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح} فالغدو معناه: الذهاب إلى الشيء، والرواح: الرجوع من الشيء، وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6] لكن الرواح هنا المقصود به: آخر النهار، ومن هنا فإن الإمام مالكاً يرى أن ساعات الذهاب إلى الجمعة تبدأ من بعد الزوال، وفي المسألة خلاف، فغيره من أهل العلم قالوا: لا، قد يطلق الرواح على الذهاب والغدو إلى الشيء.
قال: {فلم أَرُحْ عليهما حتى ناما}.
رجع بإبله فحلب فأتى بالإناء فوجد الشيخين الكبيرين (الوالدين) نائمين -وانظر إلى اللطافة- ما أيقظهما لأنه خاف أن يعكر عليهما النوم، وليس بعد هذا البر من بر، ولا بعد هذا الإحسان من إحسان، وهذا ما فعله كثير من الصحابة وكثير من السلف؛ كان الواحد منهم يأخذ الماء لوالده فيقف حتى يستيقظ والده، وكان بعضهم يحمي الماء لوالده في شدة الشتاء فإذا استيقظ الوالد قدم له الإناء ليتوضأ، هذا هو البر.
قال: {فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما، حتى برق الفجر والصبية يتضاغَون عند قدمي} أطفاله يتضاغون عند قدمه من الجوع، ويتلمظون من الحسرة والضنى فما أشربهما وما أيقظ والديه {فاستيقظا فشربا غبوقهما؛ اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك}:
هذا هو الشاهد، أي: إن كان إخلاصاً لا رياءً ولا سمعة، فإن بعض الناس يفعل بعض البر رياء وسمعة، يأتي والمجلس مجتمع والناس حضور؛ فيأتي يصب القهوة فيبدأ بأبيه فيقول الناس: ما شاء الله ما أبره بأبيه! أو يدخل المجلس أمام الناس فيبدأ بأبيه فيقبل يديه ورأسه، ولكن إذا خرجوا أعطى والديه يديه، فهو أمام الناس بار وفي الخفاء من أجفى الجفاة.
قال: {ابتغاء وجهك} أي: لا لطلب السمعة ولا الرياء {ففرِّج عنا ما نحن فيه} أي: من الصخرة؛ فانفرجت شيئاً -أي: قدر الثلث وبقي ثلثان- فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه.
تصور المشهد حين ينتهي من الدعاء فتتحرك الصخرة قليلاً؛ كيف تكون مشاعرهم وقلوبهم يوم اتصلت بالواحد الأحد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وبدأ الإخلاص معهم! وهذا من كرامات الأولياء التي سوف أذكرها.(308/22)
مراقبة الله في السر
تقدم الثاني وقال: اللهم إنه كان لي ابنة عم
ذكر من حسنها وجمالها وأنه راودها عن نفسها فأبت وامتنعت بحفظ الله ورعايته، وهذا من علامات الصلاح، لكن تغيرت حالها وعضَّها الفقر، والفقر قد يودي ببعض العباد إلى الفاحشة والعياذ بالله، ولذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم: {اللهم إني أعوذ بك من غنىً يطغي ومن فقرٍ ينسي} والغنى يطغي كثيراً من الناس، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] بعض الناس إذا استغنى طغى وبغى حتى ما كأنه بالإنسان الذي كان يجلس على التراب ولا يجد كسرة الخبز، فقد صار لا ينظر إلى الناس ولا يرد السلام، ولا يصافح، وإذا جلس تكلم بكلام الجبابرة، كأنه من نسل فرعون وقارون وهامان؛ لأن عنده شيئاً من المال، والعقارات، والسيارات؛ فيطغى.
وبعض الناس تصل به درجة الفقر إلى أن ينسى الله عز وجل، وبعض الإلحاد في بعض الناس سَبَبُه الفقر، ولذلك تعوذ النبي بالله من الغنى المطغي ومن الفقر المنسي.
وبعض الناس يفهم أن معنى الاستقامة أن تكون فقيراً ممزق الثياب، ولا تجد كسرة خبز، هذا قد يوصل بعض الناس إلى الإلحاد، ومن ذلك: ابن الراوندي، خبيث معثَّر، من الفلاسفة المحسوبين على الإسلام، كان فقيراً لا يجد كسرة الخبز، يقولون: بحث عن كسرة خبز فأخذ يأكلها على نهر دجلة، فمر أحد الخدم معه من الأموال ما لا يعلمه إلا الله، فرأى الخادم معه الأموال من الإبل والخيول والبقر والعبيد فنظر إلى السماء وقال: هذه قسمة ضيزى، ثم أخذ الكسرة وضرب بها نهر دجلة وقال: أنا ابن الراوندي من أذكياء الدنيا، وهذا الخادم تعطيه ولا تعطيني! يقول الذهبي لما ترجم له: الكلب المعثَّر يعترض على رب العزة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في قضائه بسبب الفقر.
والإلحاد مرض ينخر في جسمه، ولذلك دخل الإلحاد في الأمم الفقيرة، وماركس ولينين وهرتزل أهل الإلحاد ومؤسسو دول العناد والفجور والطاغوت أول ما أتوا إلى الأمم الفقيرة، دخلوا إلى الفقراء بالغنى مع الإلحاد، وكان مركبهم مركب الاقتصاد، وأفريقيا الآن بهذا الأسلوب، النصارى لا يبشرون -ينصرون- إلا بالمال، والأمم الشيوعية الكافرة لا يدخلون إلا بهذا، وقد دخلوا في أمم وشعوب تعرفونها أنتم بسبب الفقر، ولذلك فإن من دعاياتهم: هل تريد إيصال الغاز إلى بيتك؟ هل تريد مد الأنابيب للماء؟ هل تريد الراحة المريحة؟ هل تريد إدخال الثلاجة، والسخانة، والسيارة وكذا؟ لافتاتهم هكذا، ولما دخلوا إلى الشعوب امتصوا خيراتها.
فالشاهد: أن الكفار ركبوا مركب الاقتصاد، فلما انتهى دخلوا بمركب الحداثة، والحداثيون وما أدراك ما الحداثيون! يأتي أحدهم بطلاسم ويقول: نلغي كل قديم، ومعناه إلغاء الكتاب والسنة، وهذا له كلام طويل وقد سمعتم ما فيه الكفاية وقرأتم عنه كذلك.
قال: فلما عضتها السنة
أي: الفقر، أتى بمائة وعشرين ديناراً فوضعها بين يديها، فمكنته من نفسها، فلما تمكن ذكر موعود الله ولقاءه والعرض بين يديه.(308/23)
يوسف عليه السلام ومراقبته لله
وهذا كموقف يوسف عليه السلام، يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: تأملت كيف رفع الله يوسف! وذلك بأمور:
الأمر الأول: أنه كان شاباً، والشاب صاحب جموح وطموح في الشهوة.
الأمر الثاني: أنه كان غريباً، والغريب لا يخشى من العار كثيراً؛ لأنه ليس صاحب بلد، سافر إلى مصر ولا يعرفه أحد في مصر، ومن يدري أنه ابن يعقوب، وأنه زنى؟!
الأمر الثالث: أنه في بيت ملكة، والملكة تستطيع -لو حُكِمَ عليه- أن تقول: لا.
هذا المرسوم خطأ مرفوض لا يمكن أن يجري عليه شيء، هذا رجل طاهر أطهر من حمام الحرم ومن ماء الغمام.
الأمر الرابع: أنها جميلة، فما عرضت نفسها لأنها متبذلة أو أن وجهها مثل قفاها، لا.
بل لأنها جميلة.
الأمر الخامس: أنها هي التي تزينت ودعته إلى ذلك.
وذكر ذلك ابن تيمية وابن القيم في مدارج السالكين وقال: رفع الله يوسف بهذه الأمور الكثيرة، فلما وقع في هذا المأزق ذكر عظمة الله، يقول الله عز وجل {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] بعض المفسرين يقولون: هَمَّ أن يتركها، ولكن هذا خلاف ما في السير وخلاف ما يفهم من الآية، يقول الله وجل {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:24] فلو هَمَّ أن يتركها لَمَا ذكر الله عز وجل هذا الهم؛ لكنه أراد وخاطرته النية فذكر موعود الله، كما قال الله: {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] وبرهان ربه، قيل: إنه رأى يعقوب عليه السلام عاضاً بإصبعه، وقيل: رأى جبريل له ستمائة جناح، وقالوا: رأى الجنة ورأى النار، ولكن الصحيح: أنه واعظ الله في قلب كل مؤمن، بقية إشعاع الإيمان وقوته تحركت في قلبه، وهو برهان ربه، فانتهى فرفع الله مكانه، وأغدق عليه من الثناء، وملَّكه الدنيا.(308/24)
الخوف والمراقبة عند مسلم بن يسار
ذكر صاحب حلية الأولياء في ترجمة مسلم بن يسار: أنه خرج إلى مكة حاجاً أو معتمراً، وكان من أجمل الناس، ولكنه كان من أولياء الله ومن العباد والأخيار، فعرضت له فتاة في طريق مكة إلى المدينة من أجمل النساء، ودعته إلى نفسها، ففر منها إلى واد آخر، ولحقه رفيقه وصاحبه وأتاه فإذا هو يبكي، قال: [[ما لك؟ قال: أصبت بمصيبة، فسأله بالله أن يخبره، فقال: دعتني امرأة اليوم إلى نفسي فأبيت، قال: آجرك الله، قدوتك يوسف عليه السلام، وهينئاً لك أنك امتنعت، فلما حج وطاف ثم صلى عند المقام ركعتين ثم أخذت به عينه فنام، فرأى يوسف عليه السلام يطوف فقال: من أنت؟ قال: أنا يوسف الذي هَمَمْتُ وأنت مسلم بن يسار الذي لم تَهم]] هذه من القصص التي وردت عن الصالحين والأخيار، وإلا فمقام يوسف أعلى وأشرف وأعظم وأجل، إلى غير ذلك ممن يحفظ الله في الخلوة، ولذلك أكبر الحظوظ مع الله عز وجل أن تحفظه في الخفاء سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك يقول أبو نواس فيما ينسب إليه:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
والأندلسي يوصي ابنه ويقول:
وإذا هممت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
فلما هم وأراد أن يباشر الفاحشة ذكر موعود الله فكف وقال: اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه.
فانفرجت الصخرة -أي: ثلثاً آخر، على قدر الدعاء؛ لكن ما استطاعوا أن يخرجوا - غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها(308/25)
تثمير الأجر
وتقدم الثالث فقال: اللهم إني استأجرت أُجَراء
كان عنده خدم وعبيد يشتغلون عنده، فأعطاهم حسابهم إلا أحدهم ما أخذ الحساب، لا أدري ما الذي أغضبه! فذهب مغاضباً، فأخذ أجرته فثمَّرها، واشترى بها إبلاً وغنماً وبقراً ورقيقاً فأصبحت أموالاً عظيمة، وبعد فترة عاد هذا الخادم وقال: أعطني أجرتي، قال: خذ هذه الإبل، وهذه البقر، وهذه الغنم، وهذا الرقيق، فقال: أتستهزئ بي؟! يعني أجرة أيام بسيطة تصبح هذه الأموال كلها؟! قال: والله لا أستهزئ بك، وانظر من لؤم الخادم هذا أنه ساقها جميعاً وما ترك له شيئاً منها وذهب.
قال: اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك -والشاهد: (ابتغاء) الإخلاص- ففرِّج عنا ما نحن فيه.
فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون.(308/26)
مسائل مستفادة من حديث الثلاثة(308/27)
فضل بر الوالدين
إن من أحسن ما يُتَوَسَّل به إلى الله عز وجل بر الوالدين، والله ذكر في كتابه حقه وحق الوالدين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] طاف رجل بأمه، وقد أصابه من الجهد والتعب ما الله به عليم، فرآه ابن عمر، فقال: [[يا ابن عمر، أترى أني وفيتها حقها؟ قال: لا والله، ولا بزفرة من زفراتها]].
وذكر الزمخشري صاحب الكشاف ينسبه إلى الطبراني: {أن رجلاً أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يبكي فقال: ما لك؟ قال: ظلمني ابني يا رسول الله، ربيته وأشفقت عليه، فلما كبر تغمط حقي وظلمني وبسر في وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام: هل قلت في ذلك شعراً؟ قال: نعم، قال: ماذا قلت؟ قال: قلت:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لدغت به دوني فعيناي تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
-معنى القصيدة: إذا كنت مريضاً فكأن الذي أصابك أصابني، وهذا مجرب، فالوالد والوالدة إذا مرض الطفل لا ينامان، وكأن المرض فيهما، يبيت الواحد منهم مهموماً، فهل هذا جزاء ما كان؟ - فبكى عليه الصلاة والسلام وأتى بالابن وحاكمه وقال له: أنت ومالك لأبيك}.
وبر الوالدين من أحسن ما يتقرب به إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] بعض السذج يقول: ما ذكر الله الضرب وإنما ذكر (أف) فلا نقول: (أف).
هل يجوز أن تضرب أباك لأنه ما ذكر الله الضرب في القرآن؟! هذا يردده بعض المتفقهة يردون به على أهل الظاهر، يقولون: لأن ابن حزم ينفي القياس، فمعناه أن غير التأفف من ضرب ونحوه لا يحرم عنده ولا يدخل في النهي، وابن حزم من هذا بريء حماه الله وكفاه.(308/28)
فضل العفة ومخالفة الهوى
تطبيق الدين أن تخالف هواك، سئل الإمام أحمد: ما هي المروءة؟ قال: ترك ما ترجو لما تخشى.
وما بلغ الله الصادقين منازلهم إلا بمخالفة الهوى؛ موسى عليه السلام لما سقى للجاريتين (بنتي الرجل الصالح) كان فيه حياء، والدليل على حيائه ما حكاه الله عن البنت إذ قالت: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] القوة رأته رفع الصخرة، التي لا يرفعها إلا عشرة، والأمين ما نظر إليها، وقد ذكر أهل التفسير أنه مشى أمامها وقال: دليني على البيت برمي الحصى، فبلَّغه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى تلك المنزلة العظيمة بهذه الأعمال الصالحة، فلعل الله نظر إلى قلوب العباد في عصر موسى فوجد قلب موسى من أحسن القلوب فاختاره للرسالة.
وذكر صاحب طبقات الحنابلة قال: وقعت لـ ابن عقيل، وقيل: لغيره، والصحيح لغيره، قال هذا الرجل الصالح: حججت مرة من المرات فلما طفت وسعيت وقضيت حجي بحثت عن مال لي فلم أجد درهماً ولا ديناراً، وذهبت أبحث عمن يقرضني مالاً فما وجدت، قال: فذهبت على وجهي في جوع لا يعلمه إلا الله، وبينما أنا في سكك مكة أنزل سكة وأصعد سكة أخرى، وأنزل مكاناً وأصعد مكاناً، قال: فمكثت في ناحية الطريق وإذا أنا بعِقد من مرجان -والدرة الواحدة منه تعادل آلاف الدنانير- فأخذته معي، قال: فلما وضعته في كمي وأنا فرح به سمعت وأنا داخل الحرم قائلاً يقول: من وجد العقد وله كذا وكذا، وعند ابن رجب: من وجد العقد فليدفعه لي، قال: فأتيت إلى الرجل فقلت: ما وصف عقدك؟ فوصف لي العقد والخيط الذي فيه، وعدد الدرر التي فيه، قال: فأخذته فدفعته إليه، فوالله ما ناولني درهماً ولا ديناراً، قلت: اللهم إني دفعتها ابتغاء وجهك فاجعلها لمرضاتك يا رب العالمين، قال: فأخذها وذهب لا أدري أين ذهب، فلبثت بعد الحج أياماً بسيطة، ثم سافرت فركبت البحر، فلما ركبت البحر انكسر بنا القارب الذي نحن فيه، فغرق أصحابي كلهم جميعاً وماتوا إلا أنا، أخذتني خشبة، قال: فركبت الخشبة ثلاثة أيام بلياليها بين الحياة والموت في البحر، قال: وأنا أسبِّح الله وأدعوه أن ينجيني، فدفعتني الخشبة إلى جزيرة؛ فنزلت في هذه الجزيرة، فدخلت مسجداً فوجدت فيه مصحفاً، فنظرت فيه أقرأ فدخل علي أهل المسجد فقالوا: تقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قالوا: تقرئنا بالأجرة؟ قلت: أقرئكم، فدفعوا لي أجرة فأقرأتهم، قال: ورأيت صحيفة فكتبت فيها، قالوا: وتخط أيضاً؟ قال: وأخط -هذه الجزيرة كأنها ما رأت خطاطاً ولا قارئاً- قالوا: علمنا الخط بالأجرة، قال: فكنت أعلم صبيانهم، فأتاني رجل من خيارهم وقال: إن هنا بنتاً يتيمة وأبوها رجل صالح من أصلح الناس، وإنه كان يدعو الله عز وجل أن يرزقها الله رجلاً صالحاً؛ أفتتزوجها؟ قال: أتزوجها.
قال: فلما التقيت بها رأيت العقد الذي وجدته في مكة في عنقها، فسألتها عنه، فأخبرتني الخبر، وقالت: حججت أنا ووالدي حجة، وهذا العقد معنا لأن أبي باع مالاً من أملاك ودور وعقار وجعله في هذا العقد، فضاع منا ووجدنا رجلاً صالحاً فرد لنا هذا العقد، فكان أبي تأسف بعد ما رجع إلى قريتنا ويقول: يا ليتني زوجتكِ صاحب ذاك العقد، فكان يدعو الله عز وجل أن يلاقي بيني وبين صاحب ذاك العقد، فنظر إلى العقد فقال: أنا صاحب ذاك العقد.
هذا حفظ الله عز وجل لمن يحفظه عز وجل.
والشاهد من هذه القصص: أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
وروي عن علي بن أبي طالب [[أنه دخل مسجداً في الكوفة وأراد أن يصلي ومعه بغلة، فرأى شاباً فقال: احبس هذه البغلة حتى أصلي، فأخذها بخطامها، ودخل علي رضي الله عنه يصلي، فلما دخل المسجد أخذ هذا الشاب خطام البغلة، وذهب به إلى السوق فباعه بدرهم؛ فخرج علي رضي الله عنه فسأل الناس: أين الشاب؟ قالوا: أخذ الخطام وذهب به، فأرسل علي وراءه فوُجد يبيع الخطام فقال له الرجل الذي أرسله بكم تبيعه؟ قال: بدرهم، قال: خذ درهماً، فاشترى منه الخطام بدرهم ثم أتى به إلى علي رضي الله عنه، قال علي رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لقد هممت أن أعطيك درهماً حلالاً، وقد أخذته اليوم حراماً]].
يأبى بعض الناس أن يسترزق إلا بالحرام، كان علي سيعطيه درهماً حلالاً، لكنه أخذ هذا الخطام وباعه بدرهم من رسول علي رضي الله عنه، فتجد بعض الناس بديناً سميناً قوياً ذا عضلات؛ ولكنه يسرق حذاءً أو شيئاً بسيطاً، كقلم، أو يختلس، ولو عمل في الحلال لرزقه الله عز وجل من حيث لا يحتسب، ولذلك تقطع أيدي بعض الناس على أقلام أو أحذية، أو على لباس بسيط، أو على خمسين ريالاً، وتجده يرتكب هذا الإجرام بسبب أنه ما سلك الحلال، والله قد بين طريق الخير وطريق الشر، وجعل الإنسان على نفسه بصيرة.(308/29)
فضل السماحة وأداء الأمانة
وفي هذا الحديث: فضل السماحة وأداء الأمانة، فهذا الرجل الذي ذهب أجيره، فنمَّى أمواله، فلما عاد سلم له جميع الأموال، ولم ينقصه مثال للسماحة والأمانة، وذلك أمر مطلوب من المؤمن، إذا باع وإذا اشترى، وإذا قضى وإذا اقتضى، وإنظار المعسر قد ورد فيه ما ورد، وبعض الناس يشدد على الناس فيشدد الله عليه، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن فرَّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، فالجزاء من جنس العمل.(308/30)
من كرامات الأولياء
وفي الحديث: إثبات كرامات الأولياء، فهم دعوا بصالح أعمالهم، وتوسلوا إلى الله بذلك، ففرج الله عنهم الصخرة، وفي صحيح البخاري في كتاب الوكالة أن رجلاً صالحاً من بني إسرائيل ذهب إلى رجل غني وراء البحر من بني إسرائيل أيضاً، وقال: أريد منك ألف دينار، قال: هل لك وكيل؟ أي: ضامن يضمنك؛ لأني ما أعرفك، قال: وكيلي الله عز وجل، قال: كفى بالله وكيلاً انظر ما أحسن ذاك وما أحسن هذا! رضي هذا بالله فرضي ذاك به قال: هل من شاهد؟ أي: ما دام أنه ليس لك وكيل إذا ما سدَّدت فشاهد يشهد أنني دفعت لك هذا المال، قال: ما لي شاهد إلا الله، قال: كفى بالله شاهداً.
فركب المقترض البحر ومعه الدنانير وذهب إلى أهله، ولما حان أجل القضاء وقف هذا المدين على الشاطئ ينتظر سفينة تحمله إلى الشاطئ الآخر، فما وجد سفينة ولا قارباً أبداً، تحرى اليوم الثاني والثالث فما وجد، فأخذ خشبة فنقرها من وسطها ثم جعل فيها ألف دينار وكتب عليها اسم الرجل، ثم ضرب بها في البحر؛ لأن ذاك قد رضي بالله كفيلاًَ ورضي بالله شهيداً، فسوف يبلغ الله هذه الأمانة، فلما وضعها في البحر ساقها الله عز وجل بالريح وذاك الرجل يعرف موعد الأجل، فكان قد خرج من بيته ينتظر الرجل، فوقف على الشاطئ فانتظر، حتى يئس من مجيئه، فرأى هذه الخشبة فقال: آخذها حطباً لأهلي، فأخذها وحملها على كتفه، ولما وصل إلى بيته أخذ هذه الخشبة فإذا فيها الألف دينار، وفيها ورقة من ذاك المرسل إلى المرسل إليه، وهذه من كرامات الأولياء، ومن رضي بالله كفيلاً وشهيداً بلَّغه الله ما تمنى.
وكرامات الأولياء عندنا منها ما لا يحصى ولا يعد، وأكثر ما صح من كرامات الأولياء وما أُثِر منها عن صحابة محمد عليه الصلاة والسلام، وهم لا يريدون الكرامة لذاتها، ولكنهم يريدون الاستقامة، فآتاهم الله الدنيا والآخرة.
والكرامة أمر خارق للعادة يثبته أهل السنة والجماعة.(308/31)
صورة من صور الابتداع في الدين والتعليق عليها
السؤال
بعض الناس يدعي الاستقامة لكنه يأخذ بعض الشباب ويقودهم على طريقته في الاستقامة، ويذهب بهم إلى مقبرة الشرف، ثم يأمرهم بأن يناموا في القبر ويأخذ بدفن أرجلهم -ما شاء الله- ويقول بعض الأناشيد، وكذلك يستخف بأهل العلم ولا يقتنع بكلامهم، ومن أعماله أنه يأخذ مجموعة من الشباب ويقوم بهم في أحد المساجد في مدينة أبها، وكل من نصحه أخذ بإيراد قصص بعض الصوفية ولا يركن إلى السنة فما حكم الشارع في هذا؟(308/32)
حكم الابتداع في الدين
الجواب
أولاً: هذه سنة الله عز وجل بين الغالي والجافي، ولا ابتداع في الدين إنما هو اتباع.
ثانياً: الشريعة -والحمد لله- مكملة، والكتاب مكمل لا يحتاج إلى زيادة، فإنه كامل.
ثالثاً: ليس كل من أتى بعمل في ظاهره خير أجر عليه ولو كان مخالفاً للسنة، بل هو آثم؛ لأنه ابتدع، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] والنصارى يصفهم الله بالضلال لأنهم ابتدعوا رهبانية، أي: عبادةً ما أنزل الله بها من سلطان، فلا يأكلون اللحم، ولا يتزوجون النساء، ولا يخالطون الناس، ولا يغتسلون، هؤلاء ظنوا أنهم بعملهم مصيبون، فوقعوا في الخطأ، ولذلك حذر صلى الله عليه وسلم من هذا.
أما هذا الشاب حين يأخذ الشباب فيذهب بهم إلى المقبرة، فحسن جميل أن يزور المقبرة، لكن لا يجعل لزيارته وقتاً محدداً وهيئة ورسوماً ما أنزل الله بها من سلطان، وما أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم، يزور الزيارة الشرعية، يذهب بهم فيسلم على أهل القبور ويدعو ثم يذهب، أما أن يذهب فيحفر في القبر لأرجلهم ثم يضجعون وينشدون أناشيد الصوفية فهذه هي البدعة، وإذا أدركوا أولئك فيعزرون إما بخيزران، ويجوز بكرباج حتى يعودوا إلى السنة، ويفهموها، فإذا فهموها فبها ونعمت وإلا فهذا مبتدع.
وأما أنه يأخذ الناس ويجمعهم في مسجد فالجمع في المسجد حسن، لكن بشرط ألاَّ يكون بموعد محدد، ككل ليلة ثلاثاء -مثلاً- نجتمع ونذهب إلى مسجد آل فلان، فإيقاف وإيعاد الناس في وقت أو في مكان بغير ما ورد الشرع به بدعة، فقد جعل الله لنا مواعيد وأزمنة وأمكنة، جعل لنا البيت الحرام، والحج، والوقوف بـ عرفة يوم التاسع، ومن ذلك أيضاً يوم الجمعة المعروف، ويوم عيد الفطر وهو يوم الانتهاء من الصيام، أما أن يزاد في المواعيد والارتباطات والرسوم فهذا بدعة.
له أن يجمع الشباب في يوم من الأيام فيصلون، أو في ليلة لا لأنها ليلة يعتقد أنها أفضل من غيرها فأيام الأسبوع كلها سيان، وفي صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: {لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام} أو كما قال عليه الصلاة والسلام لكن أن يأخذهم دائماً ويقوم بهم في أوقات فهذا لا ينبغي.(308/33)
ملاحظات على ما يفعله بعض الشباب
ثم يلاحظ على هذا الأخ أمور -ونسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفقهنا وإياه في الدين- منها: أن عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يعمل بالكتاب والسنة أو يفقه الناس بالكتاب والسنة، ومنها: ألا يشهر بعمله الناس، فإن جمعه الناس لقيام الليل ليس مأثوراًَ عن الصحابة كثيراً، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل في بيته، وإنما جعل قيام الليل في الليل للسر وللخفاء، أما أن يجمعهم فيذهبون في السيارات ثم يجتمعون عند المسجد ثم يتوضئون ثم يصلي بهم، والناس في رمضان يقومون في ليالي القيام للمصلحة لإظهار عظمة الإسلام، ولكثرة الجمع، ولأن هذا عمل مسنون كان له سالف من الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم جمع الناس عمر، لكن في غيرها من الليالي لا أظن ذلك إلا إذا كان نادراً، كما ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بـ ابن عباس لما صلى معه، وكذلك صلى بـ حذيفة، وصلى معه ابن مسعود نادراً، أما جمع الناس وإيعاد الشباب في ليلة محددة وجمعهم في مسجد فهذا ليس بوارد.(308/34)
خطر انتقاص العلماء
وأما انتقاص أهل العلم فهو علامة خذلان الرجل، ولحومهم مسمومة، كل شيء إلا العلماء وطلبة العلم والدعاة إلى الله عز وجل، وأهل الاستقامة، وأهل الخير والفضل، وتنقصهم علامة النفاق والخذلان، يقول الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66].
وهذا مسلك الخوارج، مع أنهم قاموا الليل حتى أصبح وجه أحدهم كركبة البعير، وفي صحيح مسلم من رواية أبي سعيد وأصل الحديث في البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقيامكم إلى قيامهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} فالعبرة ليست بكثرة صيام ولا صلاة، العمل فقه في الدين وتعلم، ثم عملٌ بما تعلمت، ولذلك كفَّر الصحابةَ الخوارجُ واستحلوا دماءهم فقتلوا عبد الله بن خبيب؛ لقلة فقههم في دين الله عز وجل.
فانتقاص العلماء من أكبر الجرائم سافر صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى تبوك، فوقع بعض الناس في عرض الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، وقالوا: ما رأينا كقرائنا أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء.
أي: ما أكثر أكلهم! وهذه الكلمة سهلة فيما يبدو، وبعض الناس يتفكه على لحى الدعاة وعلى ثيابهم أنها قصيرة، وعلى السواك، ويقوم ليحاكيهم في حركاتهم وكلماتهم، وكأنه أمر سهل، وقع ناس في عهده صلى الله عليه وسلم في هذا فنزل جبريل وقال للرسول عليه الصلاة والسلام: أدرك قوماً في آخر معسكرك هلكوا قال: كيف هلكوا؟ قال: دخلوا النار، فأخبره جبريل بما قالوا، فقام عليه الصلاة والسلام يؤنبهم، فقاموا يأخذون بخطام بغلته أو ناقته ويقولون: إنما كنا نخوض ونلعب -أي: كنا نقطع من النهار ونمزح- فقال الله من فوق سبع سماوات: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65]} أآيات الله يُسْتَهزأ بها؟! أرسول الهداية والعلماء وطلبة العلم والمساجد والمصاحف؟! هذه دونها قطع الرءوس، امزح في كل شيء إلا ما يليق بالإسلام، واليوم الآخر، والعلماء، وكتب العلم، وطلبة العلم، والمساجد.(308/35)
حرمة المؤمن وحرمة الدين
دُمرت الدنيا خمس مرات من أجل لا إله إلا الله، ومن أجل هذا الكيان، هذا دين أُقِيْمَ على الاحترام، دين هو صلة الله من السماء إلى الأرض، الملائكة كلها تحترم قداسة المؤمن، والرسول صلى الله عليه وسلم ينظر إلى الكعبة ويقول: {ما أعظمك! ما أجلك! ما أقدسك! والذي نفسي بيده لَلمؤمن أقدس منك وأعظم عند الله.
وفي لفظ: أشد حرمة منك} كل شيء إلا الإسلام والسنة، أو ما يطبق من السنة فالاستهزاء بها كفر.
وبعض الناس تجده مستقيماً لكنه يبغض العلماء، لقلة عمله، ولجهلٍِ أو لشبهةٍ وردت في نفسه، فزرعت في قلبه النفاق، والخوارج فيهم شُعَبٌ كثيرة من النفاق، وتجدهم في سَمْت، وقيام ليل وبكاء، لكن ما أعفاهم ذلك، ولذلك قتل علياً رضي الله عنه ابن ملجم وهو منهم.
فأما هذا فنقول: لا وألف لا، أما التهجم على العلماء وعلى طلبة العلم فأسألك بالله الذي لا إله إلا هو أن تنقذ نفسك من النار؛ فإن معناه الغضب والنفاق والكفر الذي ما بعده كفر.
هذا وأدعو إخواني من هؤلاء الشباب الذين عاشوا الصحوة أن يأتوا إلى العلم، وأن يجعلوا العلم وِردهم، والطريق الموصل إلى العلم، اللباب المقشر وهو أعظم طريق، عالم واحد كما في السنن عن ابن عباس مرفوعاً والموقوف أصح: {أشد على الشيطان من ألف عابد}.
العابد يوسوس عليه الشيطان، العابد قد تتلعثم عليه المسائل، وقد تأتيه واردات وخطرات، العابد لا يدري بالحلال والحرام والشبهات، وقد يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، وقد قدم في موضع التأخير وأخر في موضع التقديم، أما العالم فعلى بصيرة، وكلما فتحت صفحة من كتب العلم كلما فتح الله لك باباً، كلما قرأت حديثاً كلما آتاك الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى نوراً وهاجاً.(308/36)
دعوة إلى العلم وبيان فضله على العبادة
فأنا أدعوكم ونفسي يا شباب الإسلام إلى مدارسة العلم المصحف، كتب العلم، حلقات الذكر أيهما أفضل الليلة: أنت أم أحد الناس ذهب يصلي إلى صلاة العشاء؟ أنت الليلة -إن شاء الله- أفضل منه؛ لأنك تسمع المسائل، تسمع كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، تسمع إيرادات العلماء، تسمع مناقشات حارة وتحرير علمي، لا أقول: إني أتيت بها؛ لكن أتى بها أهل العلم، أنا ناقل فقط، أجمع ما قالوا وأعرض عليكم بضاعتهم، فالمقصود أن من حضر إلى هذه الحلقة وجلس أفضل ممن جلس يصلي ألف ركعة، لأن قصارى العبادة أن تكون لنفسك؛ لكن العلم يزيل خطرات الشيطان وتلبيسات إبليس.
وقد نصح ابن الجوزي بالعلم، قال العز بن عبد السلام: " كنت في شبابي أطلب العبادة فكنت عابداً كبيراً؛ فأصابني وسواسٌ الله أعلم به، فذهبت إلى العلماء وقلت: ما علاج الوسواس؟ قالوا: عليك بطلب العلم، فطلبت العلم فأذهب الله عني الوسواس " وقال ابن القيم: " لما بدأت حياتي قبل أن ألقى ابن تيمية كان في قلبي شبه ووساوس؛ فلما رأيت ابن تيمية شيخ الإسلام شكوت عليه ذلك فقال: عليك بالعلم لا تجعل قلبك كالأسفنجة تقبض الماء وتحتبسه، لكن اجعله كالزجاجة القوية تدفع الشبهة بقوتها وتراه بصفائها.
وأعظم ما يمكن جلوسك معه: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وتفتيشك ورقات الجويني أحسن من كثير من تسبيحات الصوفية الذين أتتهم الهواجس والخطرات، يقول الذهبي: يجلس أحدهم في الغرفة ثلاثة أيام لا يأكل حتى يرى الخشب أمامه أشباحاً، فيقول: هؤلاء ملائكة، قال: والله هؤلاء ليسوا بملائكة ولكن عقلك خاش وفاش.
نعم، من الجوع، وإلا فطريقه صلى الله عليه وسلم طريق معروف لمن قرأ السيرة وحياة الصحابة رضوان الله عليهم، الخطابة خطابة والصلاة صلاة والقراءة قراءة، مع الأهل وفي السوق، هؤلاء هم العبَّاد، فماذا يريد الإنسان من غيرهم؟ أيريد الزوايا؟! أيريد المرقعات؟! أيريد الصوامع والغيران والكهوف؟! يريد تربية الأظافر وتربية الشعور والقذارة، وعدم الفقه في الدين، وركعات، ثم الغل والحقد على عباد الله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27].
أسأل الله لي ولكم لزوم السنة والاتباع، وترك الابتداع، وأن ننهج نهج محمد صلى الله عليه وسلم، فلا سعادة -والله- ولا فلاح ولا نجاح إلا في اتباع سنته وسيرته، ألهمنا الله رشدنا ووقانا شر أنفسنا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبة وسلم تسليماً كثيراً.(308/37)
الآباء ومسئولياتهم
إن الله تعالى قد أنعم على عباده بنعم كثيرة، من تلك النعم نعمة الأولاد، وواجبهم تجاه النعم هو الشكر، وشكر نعمة الأولاد يكون بتربيتهم وتعليمهم السلوك والأخلاق الحسنة، والله تعالى قد أوجب على الآباء تربية أبنائهم، وهذه الواجبات قد بينها الشيخ في هذا الدرس، فقد ذكر أكثر من عشرة حقوق تجب على الآباء، وذكر كذلك نماذج من تربية السلف الصالح لأبنائهم.(309/1)
تربية الأنبياء والسلف الصالح لأبنائهم
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
والصلاة والسلام على مربي الجيل الأول؛ الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، هادي البشرية، ومزعزع كيان الوثنية، ومعلم الإنسانية، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
دونكم أيها الكرام حديثاً دونكم أيها الكرام حديثا
يتهادى حنينه لقلوب هي للحب والمكارم أشهى
كل ما قلته صبابة فضل في كئوس تهدى لأخيار أبها
وإن كان من شكر فإني أشكر الله تبارك وتعالى جل ثناؤه على أن جمعني بهذه الوجوه، ثم أشكر لذوي الفضل، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله عز وجل، ونحن أمة نقول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت، فأشكر صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز، رئيس هذه الجمعية الخيرة المعطاءة، وأشكر نائبه، وأشكر القائمين عليها وعلى رأسهم الأستاذ الفاضل/ إبراهيم اليحيى، على جهودهم ثمرها الله بالأجر العميم في الدنيا والآخرة، وزادهم ثباتاً وإخلاصاً ونفعاً للعام والخاص.
محاضرتي في هذه الليلة بعنوان: الآباء ومسئولياتهم.
ويا لها -والله- من مسئولية ألقاها الله عز وجل على عواتقهم من فوق سبع سماوات، يوم يقول الله عز وجل لكبير البيت المسلم ورائده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
وهذا الحديث سيكون على شقين وعنصرين: العنصر الأول يتحدث عن نماذج من تربية سلفنا الصالح لجيلهم ولأبنائهم، والعنصر الثاني: حق الأبناء على الآباء، وما هو الواجب الذي ألقاه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم على أكتاف أولئك الآباء.
هذا حديثنا لهذه الليلة، أسأل الله الهداية والسداد لما يحبه ويرضاه.
جيلنا الصالح، ابتداءً من موكب النبي الكريم يحملون التبعة أنفسهم، فيقومون بتربية النشء والجيل تربية يرضاها الله ويحبها، والله عز وجل قص لنا في محكم كتابه الكريم قصص وعبر عن الأنبياء والصالحين.(309/2)
تربية يعقوب ولقمان عليهما السلام لأبنائهما
يقول الله عز وجل عن يعقوب عليه السلام، وهو يتلطف مع يوسف ويأخذه بالرفق واللين: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5] يقول: يا بني؛ تحبيباً وتقريبا، وأهل البلاغة يصغرون الاسم المنادى؛ ليكون أوقع في القلوب.
وكذلك لقمان، يربي ابنه التربية التي يرضاها الله ويريدها، ويبدأ معه في المعتقد، ثم في العبادات، ثم في الأخلاق والأدب والسلوك؛ يقول الله عز وجل مستفتحاً القصة من أولها: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:12] فأي حكمة هذه الحكمة؟ وما مدلولها وأثرها؟ {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:12 - 13] هذا هو غرس الإيمان في قلب الطفل، يوم أن ينشأ عابداً لله عز وجل، يوم أن يسقط الطفل على الأرض وهو يسقط مسلماً حنيفاً ولم يكن من المشركين، فما من مولود إلا ويولد على الإسلام، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
فيوم أن يقع الطفل على الأرض يكون المسئول الأول عنه هو الأب، أن يقوده إلى بر السلام وإلى طريق الجنة، فلقمان عليه السلام يقول لابنه: يا بني! لا تشرك بالله، أي: احذر أن تكون مشركاً أو أن تجعل لله نداً، واحذر أن تعتقد أن هناك مع الله ضداً إنه الخطر المحدق يوم توسوس الشيوعية أو الإلحاد أو الوثنية في عقول الأبناء، فمن المسئول عنهم إلا الآباء.
ثم يأتي فيلاطفه مع والديه، وهو الحق الذي جعله الله عز وجل مقروناً بحقه ومن جعل العقوق في المجتمع إلا بعض الآباء، ومن رضي بالعقوق وأدخله إلا سير بعض الآباء، يوم أن نشئوا بالعقوق مع آبائهم وأمهاتهم، فكان الجزاء من جنس العمل: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
وبعد أن انتهى من حقوق الوالدين قال له: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} [لقمان:17] هل سمعت أسلوباً أعجب من هذا؟! وهل سمعت جودة أعظم من هذه الجودة؟! {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان:17] ثم قال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فعلم أنه بعد أن يقيم الصلاة ويفرق طريق المسجد ومن طريق المسجد تلغى طريق الخمارة والمقهى والمعصية، وقرناء السوء والفساد وأهل الجريمة، وما وقع كثير من الشباب في تعاطي المخدرات، وفي الزنا -والعياذ بالله- وفي ضياع الأوقات، وفي استماع الترهات؛ إلا حين انحرفوا عن طريق المسجد.
فيقول لقمان عليه السلام لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} [لقمان:17] فإنك إذا أقمت الصلاة حفظك الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم قال له: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان:17] وعلم أنه إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فسوف يكون له أضداد وأنداد وحساد فقال له: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17].
انتهى من العبادة والعقيدة، ثم أتى إلى الأخلاق والأدب والسلوك فقال له: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] لا تتكبر على عباد الله، لا تزهو، لا تكن تياهاً معجباً، فأنت عبد للواحد الأحد.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
ثم قال له: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] كن أديباً، كن موجهاً، كن طيباً، كن متواضعاً سهلاً ليناً وهذا هو الذي يريده الله عز وجل من العبد.(309/3)
التربية الحقة في البيت النبوي
ورسولنا عليه الصلاة والسلام اعتنى بتربية الأبناء، بل هو المربي الأعظم، وهو الذي نشر الفضيلة في الجيل، وهو الذي أنقذ الله به أهل الضلالة من ضلالتهم وأهل العمالة من عمالتهم
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: {يا بني! إن استطعت أن تنام وليس في قلبك غش لأحد فافعل} وهذا الحديث حسن.
عليك الصلاة والسلام يا من علمت أجيال الأمة الأدب! ويا من غرست في قلوبهم المعتقد! ويا من حركتهم للهمم العالية!
انظر إليه صلى الله عليه وسلم كيف كان يربي ويعلم، وكيف كان يوجه الجيل.
في سنن الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما قال: {كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا غلام! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله.
قال: يا غلام! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله.
قال: يا غلام! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله.
قال: إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
فهل أوحى الآباء لأبنائهم بهذه الكلمات؟ وهل سجل الآباء هذه الكلمات في صدور أبنائهم بأسطر من نور؟ وهل قال الأب لابنه في الصباح الباكر، وهو يودعه إلى مدرسته أو إلى عمله أو إلى مزرعته: احفظ الله يحفظك؟ إنها وصية الله للأولين والآخرين، إنها الوصية التي لما افتقدناها من بيوتنا ومن مجتمعاتنا -إلا من رحم الله- قلَّت القلوب الواعية، وكثرت المخالفات والمعاصي، وأصبحنا نتذمر من المسئولية.
هذا نثر وإن كان في النثر سعة ففي الشعر مجال أوسع، يقول أحد علماء الأندلس وقد أخذ يوصي ابنه ويقول له:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
إنه غرس الرقابة والخشية في قلوب الأبناء، لينشئوا والخوف يملأ قلوبهم من الواحد الأحد، وهي تربية الإيمان التي أرادها صلى الله عليه وسلم، هذه هي بضاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وليست من ميراث كانت ولا ديكارت أعداء البشرية، الذين يقولون: ينبغي أن يربى الابن شاكاً قبل أن يكون متيقناً؛ شاكاً في الله، شاكاً في اليوم الآخر، شاكاً في الرسالة الخالدة، والله قد جعله مولوداً على العبادة وعلى التوحيد والاستقامة.
ويقول الأندلسي الآخر وهو يوصي ابنه:
أبا بكر دعوتك لو أجبتا إلى ما فيه حظك لو عقلتا
إلى علم تكون به إماماً مطاعاً إن نهيت وإن أمرتا
ويجلو ما بقلبك من عماها ويهديك السبيل إذا ضللتا
فهل وعى أهل الإسلام هذه الوصايا الخالدة؟(309/4)
التربية الجادة عند السلف الصالح
تعالوا معنا ننظر إلى السلف الصالح بعد قرن المصطفى صلى الله عليه وسلم كيف ربوا وكيف وجهوا، وكيف أحسنوا التربية، وكيف أحسنوا القيام على البيوت.
يقول جعفر الصادق رضي الله عنه وأرضاه، وهو يوصي ابنه: "يا بني! لا تصاحب فاجراً ولا عاقاً ولا بخيلاً ولا كذاباً؛ فإن الفاجر قد استحق لعنة الله، وإن العاق قد أدركته ظلامة أبيه وأمه، وإن البخيل يبيعك أحوج ما تكون إليه، وإن الكذاب يقرب لك البعيد ويبعد لك القريب" هذه وصايا خالدة تبث للأبناء في بيوتهم من الآباء.
وتعالوا ننظر إلى ديار الصحابة، الذين عاشوا على الهداية والرشد والاستقامة.
فهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاش شاباً مؤمناً، فلما أرادت أمه أن تستهوي قلبه وأن ترده إلى الكفر، أبى؛ لأن الإيمان أصبح في قلبه كالجبال الرواسي، قالت أمه: يا بني! إلا عدت عن دينك وحلفت بآلهتها ألا تأكل ولا تشرب حتى يترك دينه.
فقال لها قولة المسلم الواثق من نفسه، المتمكن من إيمانه، الراسخ يقينه: [[يا أماه! والذي نفسي بيده، لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفساً نفساً ما عدت عن ديني، فكلي أو دعي.
فلما رأت الجد أكلت وبقيت على دينها]] إنه إيمان غرسه محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا مصعب بن عمير تأتيه الدنيا وهو في بيت الدنيا، يلبس الحرير والديباج، ويتسور بالذهب وهو شاب في الجاهلية، أمه أغنى امرأة من نساء مكة، فلما دعته إلى دينها أبى؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- غرس في قلبه لا إله إلا الله، فأصبح عبداً لله، وأصبح متوجهاً إلى الله، وأصبح مخبتاً لله حبسته، ضربته، عذبته، قاطعته؛ فأبى وأتى إلى دين الله عز وجل أتى ودخل على الرسول عليه الصلاة والسلام وعليه شملة ممزقة؛ فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: {والله الذي لا إله إلا هو، لقد رأيت مصعب بن عمير وهو من أحسن شباب مكة، رواءً وثراءً، وقد ترك ذلك كله لله، فعسى الله أن يعوضه خيراً من ذلك}.
حبيب بن زيد، تربيه أمه تربية صادقة مخبتة خالصة لوجه الله، فينشأ مجاهداً، ويرسله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب الدجال في اليمامة، فيدخل عليه وعمره يقارب العشرين، فيقول مسيلمة: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم.
قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: لا أسمع شيئاً.
فأخذه وقطعه بالسيف إرباً إرباً ولم يرجع عن دينه.
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا(309/5)
نماذج من التربية عند النساء المؤمنات
الخنساء رضي الله عنها وأرضاها -وهي النخعية- تُحضر أبناءها الأربعة إلى معركة القادسية وقد ربتهم على الصلاة، وعلى الاستقامة والذكر، فلما حضرت المعركة بين عباد الله المؤمنين وبين أعداء الله الكافرين، قالت لهم قبل بدء المعركة بدقائق: يا أبنائي! أنا أمكم، والله ما خنت أباكم، ولا خدعت خالكم، ووالله إنكم لأبناء رجل واحد، فإذا حضرت المعركة فيمموا وجهها، وأقبلوا على أبطالها، وقاتلوا رجالها، عسى الله أن يقر عيني بشهادتكم.
أي: أن يموتوا شهداء، وبدأت المعركة وقتلوا الأربعة في أول النهار، وجاء بعض المسلمين يهنئها بذلك؛ فتبسمت وفرحت كثيراً وقالت: الحمد لله الذي أسعدني بشهادتهم في سبيله.
إنها التربية والله وصدق القائل إذ يقول:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم روض إن تعهده الحيا بالري أورق أيما إيراق
وهذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وأرضاها، ذات النطاقين، اللذين جعلهما الله عز وجل سمةً لها في الجنة، تقول لابنها عبد الله بن الزبير الفارس المسلول، الذي صلب في الحجون بالبطولة، ورفع لا إله إلا الله
علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك يوم قاموا وفود نداك أيام الصلات
تقول له -وقد أتى ليستسلم خوفاً من الحجاج بن يوسف الثقفي -: يا بني! اصبر فإنك على الحق.
قال: يا أماه! إني أخاف إذا ذبحوني أن يسلخوني ويقطعوا جسمي.
قالت: يا بني! لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها، فثبت على الحق، ولبس أكفانه ومات شهيداً رضي الله عنه وأرضاه؛ لأن وراءه أم عظيمة.(309/6)
حقوق الأبناء على الآباء
وأما حقوق الأبناء على آبائهم فتكمن في اثني عشر حقاً أجملها ثم أفصلها؛ وهي كما يلي:
اختيار الزوجة الصالحة، ثم أدب الاتصال بين الرجل والمرأة، ثم أحكام الولادة وما بعدها، ثم التربية، ثم الإحسان في المعاملة، ثم غرس الإيمان، ثم تعاهد الجيل، ثم المصاحبة، ثم بث روح الإيمان، وهو غرس الإيمان، لكن بالأحكام والمعاملة والسلوك.
والآن نشرع في تفصيلها:(309/7)
أحكام الولادة وما بعدها
علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن إذا ولد لأحدنا مولود أن يؤذن في أذنه اليمنى ويقام في اليسرى، والحديث حسن وهو في السنن، وقد فعل صلى الله عليه وسلم هذا مع الحسن والحسين، حيث أذن في أذن أحدهم في اليمنى وأقام في اليسرى.
سبحانك يا رب! يا للحكمة! أول ما يقع رأسه على الأرض يسمع أذان الحق، يسمع الأذان الخالد، يسمع الرسالة المعطاءة، التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يسمعونه لغواً ولا زوراً ولا فحشاً ولا مجوناً، وإنما يدوي في أذنه من أول مرة: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر فتنبت في قلبه وهو رضيع شجرة الإيمان.
قال الله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:24 - 25] إي والله، إنها شجرة (الله أكبر).
زرعنا الله أكبر منذ حين فأنبتنا شباباً خالدينا
ويقيم في الأذن الأخرى لينشأ عابداً مصلياً متوجهاً إلى الله.
وهذه السنة قد أهملت عند كثير من الناس، وربما ينشأ الطفل وقد ردد على لسانه كلام الفحش والمجون والعهر والعياذ بالله؛ لأن اللسان إن لم يقوَّم نقل كلاماً لا يرضي الله، والعقل إن لم يهذب حمل أفكاراً لا ترضي الله، والقلب إن لم يوجه حمل وسوسة ووثنية تغضب الله عز وجل.
فأنت الأب، وأنت القائم، وأنت الحكيم على ابنك، وأنت المستودع، وأنت المسئول أمام الله، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم:6].
الأمر الثاني: من السنة أن نعق عن المولود، عن الذكر شاتين وعن الأنثى شاة، فقد جاء في حديث حسن: {عق صلى الله عليه وسلم عن الحسن شاتين} وكان عليه الصلاة والسلام يعق عن الأنثى، وأمر أن يعق عن الأنثى بكبش واحد.
ومن حكم العقيقة؛ أن يبدأ الأب في البذل والعطاء، ويعلن الفرحة، ويشكر الله على هذه النعمة؛ أن رزقه ولداً، فالابن نعمة من الله؛ خاصة إذا نشأ نجيباً ودوداً حبيباً، والولد ليس بالأمر السهل، والعقم مرض، ولا تصفو لك الحياة إذا كنت عقيماً، وقد شكا بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام العقم إلى الله قال زكريا: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] اجعل لي وارثاً، لكن ليكن هذا الوارث صالحاً صادقاً مخلصاً منيباً.
فما دام أن الله قد أنعم عليك بنعمة الولد فاشكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وادع جيرانك وإخوانك، وأطعمهم طعامك؛ لتعلن نعمة الله وشكرها وليكن أول طريقك مع هذا المولود البذل والكرم والعطاء، لا البخل والجفاف والحبس فهذه من حكم العقيقة، وكل مولود مرتهن بعقيقته حتى يعق عنه.
وكذلك من السنن أن يحلق رأسه، وأن يتصدق بوزنه فضة أو ما يعادلها من المال، وهذا أمر ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن القيم في كتاب تحفة المودود بأحكام المولود، والحكمة في ذلك: تفاؤلاً بأن الله يحط عنه الخطايا، وأن ينشئه عبداً صالحاً، وأن يكون طيباً مقبولاً، ولحكم أخرى قد لا تظهر لنا.(309/8)
إحسان الاسم
ومن حقوق الأبناء على آبائهم: إحسان الاسم؛ أن يختار الاسم الشريف، والاسم المطلوب في الإسلام، وفي الحديث الصحيح: {أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبد الرحمن} أما الحديث الذي يقول: {أحب الأسماء إلى الله ما عبد وحمد} فلا يصح، لكن كل اسم فيه لفظ العبودية فهو طيب وحبيب إلى القلوب؛ لأن ابنك يوم أن يتردد في ذهنه هذا الاسم -اسم عبد الله، عبد الرحمن، عبد الوهاب، عبد السلام- يتذكر هذه الصلة بينه وبين الله، والله شرف أنبياءه بالعبودية، فقال لرسوله عليه الصلاة والسلام: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1].
ونهى صلى الله عليه وسلم أن يتسمى بعض الأسماء: {جاءه رجل فقال: ما اسمك؟ قال: غاوي بن ظالم.
فقال صلى الله عليه وسلم: بل أنت راشد بن مقسط} فبدل عليه الصلاة والسلام اسم غاوي براشد وظالم بمقسط، تفاؤلاً أن يكون راشداً مقسطاً.
فواجب الأب أن يسمي ابنه اسماً حسناً، يقول عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الحسن: {أحسنوا أسماءكم وأسماء أبنائكم، فإنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم}.
فإذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه؛ نادانا بأسمائنا وأسماء آبائنا، نادانا مع الملايين المملينة والألوف المؤلفة من الشعوب والأمم والمجتمعات: يا فلان ابن فلان ابن فلان من آل فلان، قم إلى الله ليحاسبك ولا يظلمك هذا اليوم أفلا يريد المسلم أن يكون اسمه حسناً؟ ولا يكون اسماً لا معنى له، اسم مستورد من أسماء الخواجات التي لا تدخل في العقول، ولا في اللغة، ولا في الأدب، ولا في المجتمع، أو من الأسماء التي توحي ببعض المجون، أو الظلم، أو الفحش، أو سوء الأدب، فهذه أسماء تقشعر منها الأبدان، وكان يفعلها العرب، وفي سنن أبي داود {أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل: قم احلب الناقة، ما اسمك؟ قال: صخر.
قال: اجلس.
ثم قال للثاني: ما اسمك؟ قال: حرب.
قال: اجلس.
ثم قال لثالث: ما اسمك؟ قال: مرة.
قال: اجلس.
قال للرابع: ما اسمك؟ قال: يعيش.
قال: قم فاحلب الناقة} إنه التفاؤل بالأسماء الطيبة، التي تورث الحب والتفاؤل وحسن الطالع
مع الطائر الميمون يا خير مقدم فأهلاً بالمسمى على العهد(309/9)
الرضاعة
ومن حقوق الأبناء على الآباء: الرضاعة الحقة التي يريدها الإسلام.
وكثيراً ما يخفق المجتمع الذي نعيش فيه في الرضاعة، إما أن يسند الطفل إلى غير أمه من أول وهلة، فلا يكون له علاقة بأمة، ولو كانت قادرة على الرضاعة، وهذا ينشئ الطفل مبتور الصلة والحنان مع أمه؛ فلا تجده مثل ذلك الابن الذي نشأ على ثدي أمه، يشعر أنها أم وأنها قريبة من قلبه وأنها ذات صلة.
وتجد بعض البيوت يفرط في هذا الجانب، فيستقدم كثيراً من المرضعات، أو كثيراً من الوسائل للرضاعة، ويترك الأم ولو كانت قادرة، وهذا خطأ ظهرت آثاره في التربية على الأطفال، عندما نشأ فيهم العقوق أو الجفاء أو القطيعة مع الأمهات، ينظر إليها وكأنها أمامه حجر، لا يجد صلة، ولا يجد حناناً، ولا عطفاً؛ لأن لبنها ما سرى في شرايينه وعروقه، وهذه حكمة الله عز وجل، والله عز وجل ذكر الرضاعة في القرآن فقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233].
وكلما تم الرضاع وحسن، كان أحسن وأجود وأمكن، ولا بد من اختيار البيئة التي يرضع فيها الطفل.
ومن حقوق الأبناء على آبائهم: ألا يرضعه كافرة ولا فاجرة ولا حمقاء ولا سيئة التصرف؛ فإن لبنها سوف يكون له أثر في عقله وإرادته وتوجهه، ولذلك رضع رسولنا صلى الله عليه وسلم في بادية بني سعد، حيث الصفاء والنقاء والهواء، فنشأ أفصح فصيح من فصحاء العرب، ونشأ أخطب خطيب من خطباء الدنيا، ونشأ عليه الصلاة والسلام وهو ذو إرادة حية، وإحساس متحرك وبيان فياض.
والبادية لها أثر -أعني: البادية التي كانت في الجيل الأول- أما باديتنا فالذي يظهر عليها اليوم الجهل والتخلف وفساد المزاج، أما البادية التي نشأ فيها صلى الله عليه وسلم فكان لها أعظم الأثر في حياته صلى الله عليه وسلم.
تقول عائشة رضي الله عنها: {ربما رأيت الرسول عليه الصلاة والسلام، إذا تهللت أسارير وجهه وأتاه خبر يسره، كأنه البدر ليلة أربعة عشر، فتذكرت قول الشاعر أبي كبير الهذلي:
ومبرأً من كل غبَّر حيضة وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل
}
والسبب: من جودة الرضاعة كان وجهه يبرق، مع ما آتاه الله من الحكمة والقوة، وما آتاه من الجمال، حتى قيل لـ أبي هريرة: أكان وجهه صلى الله عليه وسلم كالسيف؟ قال: لا والله، بل كالشمس.
وقال أنس: [[والذي نفسي بيده، لقد نظرت إلى وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونظرت إلى البدر ليلة أربعة عشر، ولوجه المصطفى صلى الله عليه وسلم أجمل من البدر]] وهذا من جودة إرضاعه عليه الصلاة والسلام وقد حذر أهل العلم من رضاع المرأة الحمقاء؛ لأن الطفل ينشأ أحمقاً.
ذكر ابن كثير في ترجمة القاضي شريح -وكان من أذكياء الدنيا-: أن ثلاث نسوة دخلن عليه -وكان ذكياً ومنشأً، ومن أراد أن يعود إلى القصة، فليعد إليها في البداية والنهاية، وكان قاضي الدنيا- فقال قبل أن يتكلمن: أما هذه المرأة فثيب، وأما هذه المرأة فحامل بولد، وأما هذه المرأة فأرضعتها كلبة.
فقيل له بعد أن انتهى من الحكم: ما دلك على ذلك؟ قال: أما الأولى فحامل بالولد؛ لأن صوتها ضعيف، وأما الثانية فثيب؛ لأنها تنظر في وجوه الرجال، وأما الثالثة فأرضعتها كلبة؛ لأن في يديها رجة ورجفة.
فسئلت النسوة فكان كما قال.
وهذا من ذكائه، وهو يعادل ذكاء القاضي إياس، وربما حمل بعض أهل الأدب هذه القصة على القاضي إياس، الذي يقول فيه أبو تمام:
إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس
.(309/10)
القدوة والتربية
ومن حقوق الأبناء على الآباء: القدوة.
أن يتقوا الله عز وجل، ويكونوا لأبنائهم قدوة صالحة، وهذا في أصل الطفل يوم أن يكون مقلداً، ينظر إلى أبيه ويظن أن ليس في الدنيا مثل أبيه، ولا أحسن من أبيه، ولا أعدل منه، ولا أصدق منه، فهو يقلد حركاته وسكانته وحاله وأقواله وأفعاله، فاتقوا الله -أيها الآباء- في أبنائكم، وكونوا قدوة صالحة
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
وكيف يقول الأب لابنه: كن صادقاً، ثم يخالفه فيكذب؟ الفعل فعل قبيح والقول قول جميل، قال الله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] نقول للابن: صل في المسجد، ثم لا يرانا نصلي ونحن الآباء! فأي عدل هذا؟ وأي إنصاف؟ إنه ظلم للعقل، وظلم للعلم، وظلم للتربية، وظلم للإحساس نقول للابن: لا تغتب أحداً، اتقِ الله في أعراض المسلمين، ثم لا تفتأ الدقائق تمر إلا ونقع في أعراض الناس بسكاكين من القول الجارح، فأين ذاك القول من هذا الفعل؟
فيا أيها الأبرار الأخيار! إن القدوة أمرها عظيم، ولذلك سوف يلزمك ابنك يوم القيامة، ولا تظن الإسلام أن تقول في الدنيا: نفسي نفسي، إنما ذلك إذا كنت قد عملت صالحاً، ثم برأت نفسك بالتبليغ، أما أن تقول: أنا لي حسناتي وعلي سيئاتي، وأبنائي عليهم ما عليهم وأنا شأني شأن وشأنهم شأن، فهذا ليس في الإسلام.
يقول أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه على المنبر -كما في الترمذي بإسناد حسن، وعند أحمد بسند صحيح-: {يا أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتحملونها على غير محملها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] وإني سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ثم لم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده}.
أنصلح في أنفسنا وأبناؤنا لا يصلحون؟! أنتهجد بالقرآن وأبناؤنا في المقاهي والملاهي؟! أنتلوا الآيات البينات وأبناؤنا يرددون ما يغضب الله عز وجل؟! أندرس كتب العلم المقومة الراشدة وأبناؤنا مع المجلة الخليعة ومع القول السخيف؟! ففي أي المبادئ هذا؟ إن هذا ضرر القدوة يوم أن كانت سيئة، فنشأ الطفل مقلداً لأبيه في السوء، فلما أراد الأب أن يوجه ابنه بعدما أخذ منه التقليد رفض الابن؛ لأنها غرست في قلبه هذه الأمور، فأصبحت راسخات راسيات.(309/11)
الأمر بالصلاة
ومن حقوق الأبناء على آبائهم: أمرهم بالصلاة في السابعة، وضربهم عليها في العاشرة، والتفريق بينهم في المضاجع.
ففي مسند الإمام أحمد والسنن بسند صحيح، قوله عليه الصلاة والسلام: {مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع} فإذا بلغ الطفل السابعة، فعليك أن تأمره أمراً بالصلاة، لكن لا تضربه في هذا السن، إنما تقول له: صل هداك الله.
وتأخذ بيده، وتعلمه طريق المسجد، وتقوده إلى حلق الذكر، وتحببه بأهل الخير والجلوس في مجالس الخير، فإذا بلغ العاشرة ولم يصل فاضربه ضرب مؤدب، وناصح، ورشيد، يريد له الخير مثلما يريده لنفسه.
{وفرقوا بينهم في المضاجع} يا لحكمة هذا الدين! ويا لقوته! ويا لشموله وعدله! يلاحظ الأطفال والنشء والجيل وهم في المضاجع، ويقول: حرام أن يتضاجعوا في مكان واحد، ففرقوا بينهم في المضاجع إذا بلغوا العاشرة من عمرهم، الذكر لا ينام في فراش الذكر، ولا الأنثى في فراش الأنثى، ولا الذكر في فراش الأنثى، ولا بأس بنومهم في غرفة واحدة، ولكن بشرط أن يفرق بينهم في المضاجع.
هذا هو الدين الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام، فلاحظ العبد في كل شأن من شئونه، الدقيقة والجليلة، حتى لا يحتاج إلى دين آخر، ونحن نقولها بقوة وبصراحة وعمق وشجاعة وتحدِّ: لسنا بحاجة إلى تربية أو إلى تعاليم مستوردة، ففي ديننا وكتابنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم الكفاية كل الكافية، ومن لم يستكف بدين الله فلا كفاه الله، ومن لم يستهد بهدى الله فلا هداه الله يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: من اعتقد أنه سيهتدي بهدى غير هدى الله، الذي أرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً، ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.(309/12)
تعليمهم العلم النافع
ومن حقوق الأبناء على آبائهم: تعليمهم العلم النافع.
علم قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، العلم الذي أتى من فوق سبع سماوات، وليس العلم الرخيص الدخيل السخيف، الذي أتانا من أعداء البشرية قتلة الإنسان الذين:
قالوا هم البشر الأعلى وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا
لكن المقصود هو العلم الموروث عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم، وتعليم الجيل من أعظم الخصال الواجبة في الإسلام.
والإسلام لا يعترف بالجهل ولا بالدروشة، فلا نزهد أبناءنا في العلم، بحجة أنه مضن وأن طريقه طويل وشاق، فهذا من سوء الإرادة.
صحيح أنه إذا كان عند الابن أو البنت من العلم ما تقوم به شئون دينه ودنياه، فلا بأس أن يكون له مجال في الحياة، كأن يبذل سبله في الصناعة، أو في التجارة، أو في البذل والعطاء، أو في الزراعة، أو في أي ناحية من نواحي الحياة، فكلٌّ ميسر لما خلق له، لكن ليكن عنده علم تقوم به عبادته ومعاملته مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فلا بد من تعليمه العلم النافع، وغرس الفضيلة في قلبه، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يحرص على هذا، فهذا ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما، وهو شاب في العاشرة من عمره، يدخل مع الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي بعد صلاة العشاء، فيقوم الرسول صلى الله عليه وسلم ليصلي في الليل، وابن عباس معه، فيحضر ماءً للرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من وضع لي هذا الماء؟ ثم يقول -ويعلم أنه ابن عباس -: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل}.
فكانت دعوة من أعظم الدعوات المباركة في حياة ابن عباس، فلم يدع له بالتمكين في الأرض، ولا بالطول في الجسم ولا بالعرض، وإنما دعا له أن يكون فقيهاً مفقهاً معلماً مفهماً، وأن يعلمه الله تأويل كتابه.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}.
والله قد قسَّم العلم في القرآن إلى قسمين: ضار ونافع، قال الله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة:102] ويقول الله عن أحد الذين تعلموا العلم، ولم ينفعهم، وهو بلعام بن باعوراء الحبر اليهودي: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176].
والله يقول لبني إسرائيل، وقد حملوا علماً لكن ما استفادوا منه، وما كان له أثر في معتقدهم، وعبادتهم، وسلوكهم، يقول الله عنهم: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيهم: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13].
فالعلم النافع هو الذي يورث خشية الله في القلب، والعلم النافع هو الذي ينشئ طفلاً يحب المسجد، ويحب القرآن والعلم، والعلم النافع هو الذي ينشئ الشاب عابداً لله، يتقي الله ويخاف الله ويريد ما عند الله قال الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
وفرق بين علم وعلم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ} [الروم:56] فتحفَّظت الآية بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى (الإيمان) من علم لا ينفع، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: {اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع}.
لأنه ليس كل علم نافعاً، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يربي الناس على العلم النافع، الذي يريده الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(309/13)
مصاحبة الولد وغرس الفضيلة في نفسه
من حقوق الأبناء على الآباء: مصاحبته وغرس الفضيلة والثقة في نفسه.
فلا يكون مسلوب الإرادة، ولا مسلوب الهمة والمكانة، وكثير من الآباء يخطئون في هذا الجانب، فيربون أبناءهم بالسوط والقسر والقوة والعنف؛ فينشأ الابن وقد سلبت إرادته وقوته ومكانته، فينشأ مهزوز الإرادة، لا كلمة له ولا حق ولا قدم.
وهذا عنف لا يورث إلا عنفاً، ولذلك وصف الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى رسوله عليه الصلاة والسلام بالحكمة وباللين، فقال له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ويوم ساءت هذه التربية في كثير من البيوت؛ نشأ الطفل على أحد شقين أو قسمين: إما عاق لأبيه، مكابر، شاق للعصا، وقاطع للحبل بينه وبين أبيه؛ بسبب العنف والجفاء والسلطة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإما أن ينشأ الطفل ذليلاً مخبتاً، لا مكانة له ولا شجاعة ولا إرادة.
وهذا خطأ وقع فيه كثير من الآباء.
جاء في الطبراني: أن رجلاً أتى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! ابني ربيته، سهرت لينام، وظمئت ليروى، وجعت ليشبع، فلما كبر تغمط حقي، ولوى يدي.
قال عليه الصلاة والسلام: هل قلت في ذلك شعراً؟ فأخذ الرجل يبكي ويقول: نعم يا رسول الله.
قال: وماذا قلت؟ قال: قلت لابني:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا باكياً أتململ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لدغت به دوني فعيني تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
}
وإذا كان الأب جافياً مع أبيه، أو عاقاً لوالديه، فإن الجزاء من جنس العمل.(309/14)
حفظ الولد من رفقاء السوء
ومن حقوق الأبناء على الآباء: إبعادهم عن رفقة السوء وأهل الفساد.
يقول الله تعالى عن الرفقة الصالحة: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] وكل صحبة وصلة وصداقة تتقطع وتتلاشى وتنهار إلا صلة الذين يريدون الله والدار الآخرة.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: [[والله لو صمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت أموالي غلقاً غلقاً في سبيل الله، ثم لقيت الله لا أحب أهل الطاعة ولا أبغض أهل المعصية؛ لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار]].
أورد هذا الأثر الغزالي في الإحياء، ولذلك يقول الشافعي، وهو يتحدث عن نفسه بتواضع في أبيات:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
ولكن والله هو منهم، ويرد عليه الإمام أحمد فيقول:
تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم قد تناولنا الشفاعة
والشافعي قرشي هاشمي ولكنه لم يركن إلى نسبه فقال:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
يقول: أنا سيئ -تواضعاً لله- لكن من خيرة الله لي أني أحب الصالحين ولست منهم؛ لعلي أن أنال بهم شفاعة، لأنه في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري {المرء يحشر مع من أحب} فإن أحببت الصالحين، وعملت بعملهم، حشرت معهم، والعكس بالعكس
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة
يقول: ولو كنت عاصياً لكنني أكره العصاة ولا أصاحبهم
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
كيف يكون الإنسان صالحاً وهو يرافق رفقة السوء؟ يقول أهل العلم: ما كان أفسد على أبي طالب من صحبة السوء، أراد صلى الله عليه وسلم أن يقول أبو طالب لا إله إلا الله.
فقال: {يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أشفع بها لك عند الله} فأراد أن يتلفظ بها، وأراد أن ينجو من النار والدمار والعار والشنار، وأن يدخل في رحمة الواحد الغفار، فقال له أبو جهل: كيف ترغب عن ملة آبائك وأجدادك؟ فأتى هذا الجليس السيئ، فرده في نار تلظى فمات كافرا مشركاً بسبب رفقاء السوء.
ورفقة السوء انتشروا كثيراً، وهم أعدى من الجرب، فالجرباء عند أهل العقول تعدي الصحيحة، وما سمعنا أن الصحيحة تعدي الجرباء، حتى تكون صحيحة.
فمن الحكم والمصالح والواجبات على الآباء: أن يتقوا الله في الأبناء، وأن يجنبوهم رفقة السوء بكل وسيلة ممكنة.(309/15)
شغل أوقات الفراغ بما ينفع
ومن حقوق الأبناء على الآباء: شغل أوقات الفراغ بما ينفع.
يقول الله تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] كثير من الأبناء الآن يشكون الفراغ، تجد أحدهم في العطلة الصيفية يقول: عندي فراغ.
سبحان الله! مسلم وعندك فراغ؟! طالب علم وعندك فراغ؟! ألست من الأمة الخالدة التي ما عرفت الفراغ، ولا عرفت ضياع الوقت؟! كيف يكون عندك فراغ وعليك مسئولية وأمانة وحمل ثقيل؟
جاء في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} ويوم أن عرف الجيل الفراغ نشأ معوجاً، لا يعرف الرسالة، ولا يحمل مبدأً ولا مسئوليةً، لأننا أوجدناه ليكون فارغاً، وما أدركنا أن السلف الصالح ما عرفوا الفراغ أما كان صلى الله عليه وسلم أوقاته كلها معمورة بذكر الله؟.
ذكروا عن أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي -العالم الكبير الشهير، الذي ألف كتاب الفنون، وهو يوجد في مكتبة بون في ألمانيا في ثمانمائة مجلد- أنه من شدة حفظه للوقت كان إذا أتى لينام كتب الصفحات والأفكار التي تهديها بنات أفكاره إليه، فإذا استيقظ كتب الأفكار التي ربما تمر به، فألف من وقت الفراغ ثمانمائة مجلد.
وذكر عنه صاحب طبقات الحنابلة - ابن رجب - أنه قال: ربما أكلت الثريد ولا آكل الفتيت؛ لأن بينهما في الوقت مقدار قراءة خمسين آية.
أي وقت هذا؟!
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
يتكلم دايل كارنيجى الأمريكي في كتاب: دع القلق وابدأ الحياة، عن الأمريكان، ويمدحهم ويقول: لا يعرفون الفراغ.
وقد صدقنا وهو كذوب! صدقنا في هذه القضية، ولو كان كاذباً دائماً، فإن مصانعهم تهدر، وإن معاملهم تعمل، يقول الله عنهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] يقرءون وينتجون ويقدمون ويخدمون ويفعلون، أما أبناء المسلمين -إلا من رحم الله- فتجدهم يشكون من الفراغ، خاصة في العطل الصيفية، حتى إنه تقدم اقتراحات: ما هي هوايتك؟ أللمسلم هواية إلا إرضاء الله عز وجل؟! هوايتك حمل الرسالة هوايتك نشر لا إله إلا الله هوايتك أن تضع هذا الرأس الذي خلقه الله على التراب ساجداً لله.
أما هواية جمع الطوابع، ومطاردة الحمام والدجاج، وركوب الخيل والسباحة! فهذه إنما هي في بلاد كانت، وديكارت، أما بلاد محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فلا إنما هوايتنا المحافظة على الصلوات الخمس هوايتنا حفظ القرآن العظيم هوايتنا أن نعيش مع المكتبة الإسلامية هوايتنا أن نقول للشعوب وللدنيا: نحن المنقذون بإذن الله، نحن الذين تهدوا بنا
نحن الذين استيقظت بأذانهم دنيا الخليقة من تهاويل الكرى
فمن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
ما عرفنا جمع الطوابع إلا يوم أن تركنا الطريق إلى المسجد، وما عرفنا مطاردة الحمام والدجاج إلا يوم أن تركنا الجلوس في حلق العلم، وفي حلق المربين الناصحين والعلماء المسددين، وإلا فإنا إذا وصلنا إلى هذه الدرجة؛ فقل على الأمة السلام، ولكن -بحمد الله- هناك بقية خير، وهناك آباء فضلاء نبلاء حكماء، يعلمون أن الله استودعهم البيوت.
وهل من الصحيح أن يُترك البيت فارغاً بلا توجيه، يغلب عليه الفراغ والوسوسة، وكل رأي وكل مجلة خليعة، وكل صدى فاجر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر؟ ليس ذلك من الصحيح فهذه الحقوق لابد أن تكون معروفة.(309/16)
معرفة ميول الأبناء
ومن حقوق الأبناء على الآباء: معرفة ميله واتجاهه العلمي والوظيفي.
كلٌّ ميسر لما خلق له ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في آخر كتابه: تحفة المودود في أحكام المولود، قال: لا يعتب على الشاب بعد أن يكبر، فأنت أيها الأب لا ترغمه على تخصص لا يريده، وعلى طريق لا يحبه، إذا أصبح عاقلاً رشيداً فاهماً عارفاً بمستقبله، فأنت لا تقترح عليه أي تخصص ولا أي طريق، إذا كان هذا الطريق الذي ينحوه طريقاً يرضي الله.
وكثير من الآباء يقع في هذا، فهو يريد من ابنه أن يكون مفتياً، وابنه نفسيته وعقليته واتجاهه وتكوينه وتخصصه أن يكون مهندساً، ويريد الأب أن يكون ابنه تاجراً، والابن يريد أن يكون مفتياً؛ فيكون فيه اعوجاج في العلم، ويحدث من ذلك رسوب في السنوات، وتدهور وفشل في الدراسة وفي التحصيل العلمي.
لماذا؟ لأن الابن ما تُرك وإرادته، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {كل ميسر لما خلق له}.
وقد علم صلى الله عليه وسلم الصحابة التخصصات، وفتح لهم الأبواب والثغرات، فأتى حسان بن ثابت فما قال له صلى الله عليه وسلم: كن مفتياً، ولا كن مفسراً، ولا كن محدثاً، لكن قرأ عقليته وتخصصه؛ فوجده شاعراً فقال: أنت شاعر الإسلام وادخل الجنة من باب الشعر والأدب؛ فكان شاعر الدعوة.
وأتى إلى أبي بن كعب فوجده مقرئاً وتالياً، فقال: {وأقرؤكم أبي} أو كما يروى عنه صلى الله عليه وسلم.
وأتى إلى زيد بن ثابت فوجده فرضياً، فعلمه الفرائض، وأتى إلى خالد بن الوليد، فوجده مجاهداً صنديداً أبياً وقائداً فذاً، فأعطاه السيف وقال: {خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سلَّه الله على المشركين}.
فهذه التخصصات لابد أن نؤمن بها، نؤمن بها في بيوتنا ومجتمعاتنا؛ لينشأ أبناؤنا على رغباتهم إذا كانت ترضي الله.
هذه حقوق أردت -باختصار- أن أقدمها في هذه الليلة المباركة، التي أسأل الله أن تكون في ميزان الحسنات، وأن ينفع بما أقول من الكلام، ولا أريد الإطالة، فإن آخر الكلام ينسي أوله، بل أتم الشكر لله عز وجل، ثم أشكر أهل الفضل ثانياً، وأشكركم على حضوركم وإصغائكم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(309/17)
اختيار الزوجة الصالحة
ما هي مواصفات الزوجة الصالحة يا عباد الله؟ وما هي مؤهلات المرأة الصالحة في الإسلام؟
أهو الجمال؟ فإنه مطلب فارس، أهو المال؟ فإنه مطلب اليهود، أهو الحسب؟ فإنه مطلب الرومان، أهو الدين؟ فإنه هو مطلب الإسلام.
يقول عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: {تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك} فالدين هو كل شيء في المرأة، ولا يعني كلامنا هذا؛ أن نعفي الرجال من مسئولية البحث عن الجمال، أو طلب الحسب، أو المال، لكن ينبغي ألا يكون هذا على حساب الدين، وإلا فسيكون غير موفق في اختياره، فلا بد أن يجعل الدين هو الأصل وما بقي تبع له ونحن نؤمن أن الجمال مطلوب وكذلك الحسب مطلوب، وأن المال لا بأس بطلبه خالصاً وحلالاً، لكن يقول الله سبحانه تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221] فاظفر بذات الدين تربت يداك.
ويوم أُسيءَ الاختيار في بعض الأماكن؛ نشأ الجيل معوجاً، وأتى الطفل راضعاً من أم جاهلة أو ليست مستقيمة، أو أم فيها حمق، لأن الاختيار كان عن عدم تقدير وحكمة.
فأول مسئوليات الآباء: اختيار الزوجة الصالحة، التي تريد الله والدار والآخرة، ولا عبرة -والله- بالمرأة التي لا تريد الله، ولا تعمل بكتاب الله ولا بسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولو كانت في أي بيت أما عذب الله عز وجل امرأة نوح؟ أما عاتب ولام وندد بامرأة لوط؟ ولكنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مدح امرأة فرعون، ففي بيت فرعون تنشأ امرأة مسلمة مؤمنة، وفي بيت النبوة تنشأ امرأة فاجرة كافرة، فسبحانك يا رب!
فاختيار الزوجة أمر لابد منه، وهو أمر إذا وفق الله العبد إليه كان من أعظم ما ييسر تربية الأبناء فيما سوف يقبل من الزمن.(309/18)
أدب الاتصال
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38].
إن اتصال الرجل بالمرأة في الإسلام أمر شريف، ليس كما ادعاه أعداء البشرية، كـ لينين وماركس وديكارت وكانت في كتبهم يوم قالوا: شهوة جامحة تفضى في المرأة سبحان الله! بل إنه لحكمة، لعمار الأرض، ولوجود الذرية الذين يحملون الرسالة فمن الأم ينشأ العلماء، والعباد، والزهاد، والحكماء، والأغنياء، والسادة، والقادة، وصانعو المجد، فأين ذهبت هذه الحكمة عن تلك العقول والأدمغة التي ما عرفت الطريق إلى الله؟!.
وحكمة التقاء الرجل بالمرأة أمر شريف يطلب فيه وجه الله، ولذلك قال البخاري في الصحيح: باب طلب الولد للجهاد في سبيل الله.
وأورد حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام -وقد شاركه مسلم في إخراجه- يوم يقول عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة: {قال سليمان عليه السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن يلدن مجاهداً في سبيل الله} كل المائة يلدن بعد الحمل مجاهداً في سبيل الله، ولكن نسي عليه السلام أن يقول: إن شاء الله؛ فما ولدت إلا امرأة واحدة بشق رجل، قال عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده! لو قال إن شاء الله؛ لولدن كلهن فرساناً أو مجاهدين يجاهدون في سبيل الله، ولكان ذلك دركاً لحاجته}.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عليه الصلاة والسلام: {لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم رزق مولوداً لم يضره شيطان أبداً} باسم الله في أمورنا، وباسم الله نبدأ، وباسم الله نتصل، وباسم الله نربي، وباسم الله ننشئ جيلاً، وباسم الله نكون دعاة مخلصين، وحكماء وعلماء وفقهاء، فبدايتنا باسم الله، ونهايتنا باسم الله.(309/19)
الأسئلة(309/20)
السباحة والسباق
السؤال
ذكرت هواية السباحة على طريق الإزراء، مع أنها وردت في السنة فكيف ذلك؟
الجواب
يذكرني الأخ بأني ذكرت في غضون حديثي، بما يفهم الإزراء بمن قال هوايته السباحة، وإلا فإنها واردة في الإسلام، وقد حث عليها صلى الله عليه وسلم، لكن مقصودي: أن تكون رسالة المسلم في الحياة هذه الهواية، وأن تكون ليله ونهاره وديدنه، فهذا ليس بمطلوب، وإنما يتعلمها لتكون له وسيلة، فإن السباحة والرماية وركوب الخيل علمها صلى الله عليه وسلم أجيال الصحابة، ودعا صلى الله عليه وسلم إلى معرفتها، بل جاء في صحيح البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل، وحضر المسابقة صلى الله عليه وسلم، وشهد مراسيمها، ورأى أبطال جيله وهم يتسابقون على الخيل المضمرة والخيل التي لم تضمر.
فجزاه الله خيراً.(309/21)
كتب تعين على التربية
السؤال
هل لك أن تدلنا على كتب تساعد في تربية الأبناء؟
الجواب
من أعظمها وأجلها، وهذا الذي أجمع عليه عقلاء المسلمين وعلماؤهم: كتاب الله الخالد، أن يكون أول ما يربى عليه الطفل هو القرآن الكريم، وأن يحفظ منه ما يستطيع، وأن يتدبره آناء الليل وأطراف النهار.
ثم كتب الحديث: -السنة النبوية- وبالخصوص رياض الصالحين، ذلك الكتاب الرحب النافع المفيد، وكتب الأذكار خاصة ما حقق منها ونقح، ومنها: كتاب تربية الأولاد للشيخ علوان، وحبذا لو حققت وخرجت بعض أحاديثه فهو من أحسن الكتب، إلى غير ذلك من الرسائل النافعة والمفيدة والمبصرة.(309/22)
لعب الأطفال
السؤال
مسألة حقوق الأطفال في اللعب، ماذا تقولون فيها؟
الجواب
لا بأس بها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم داعب، وإنما أذكره صلى الله عليه وسلم لأنه القدوة والمعلم، والذي على قوله وفعله وحاله تعرض الأقوال والأفعال والأحوال، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فقد جاء في صحيح البخاري: أن أخا أنس أبا عمير كان له نغر يلعب به، فمات هذا النغر -طائر أتى به من ناحية من نواحي المدينة فقص ريشه وأتى يلعب به- فمات الطائر، فأتى صلى الله عليه وسلم يعزي هذا الطفل في هذه المصيبة الكبرى؛ ليشاركه أحداثه وأحاسيسه ومآسيه وقال: {يا أبا عمير! ما فعل النغير؟}.
فاللعب لا بأس به، بشرط ألاَّ يشغل الطفل عن صلاته، أو عن شيء يستثمر فيه وقته، إلا أن يكون له وقت وفسحة ونزهة فلا بأس بذلك، وقد دل عليه القرآن الكريم في سورة يوسف، كما قال الله: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف:12] فدل على أن لعب الأطفال كان موجوداً، وحتى أبناء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لعبوا.(309/23)
الأئمة الأربعة
السؤال
الذي نعرفه أن الأئمة المعتمد عليهم أربعة: الإمام أحمد بن حنبل، والإمام الشافعي، والإمام مالك، والإمام أبو حنيفة.
إلا أن هناك بعض الفقهاء يقولون: إن المذاهب ثمانية عشر.
الرجاء توضيح: هل هناك فارق بين الأئمة في الفقه والتوحيد أم ماذا؟
الجواب
تخصيص الأئمة بأن يكونوا أربعة أو أن الأمة أجمعت على هؤلاء الأربعة رد على ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين، فلم يذكر الله عز وجل في كتابه أنهم أربعة، ولا الرسول عليه الصلاة والسلام، بل أئمة الإسلام أكثر من ذلك، لكن الذين اشتهروا بالفقه والتأصيل في الفروع هؤلاء الأربعة، ومنهم من زاد داود الظاهري معهم وابن حزم والأوزاعي وسفيان الثوري، لكن تحديد العلم والفقه في هؤلاء الأربعة ليس بصحيح.
يقول ابن القيم: ليس بصحيح، ومن خصص هؤلاء الأربعة أو أعين هؤلاء وأنفس هؤلاء، لكن هؤلاء أجل من يُنقل عنه الفرعيات، أو التأصيل في الفروع، وإذا سمعت مقالة لغيرهم وأتى بدليل فلك أن تذهب إلى مذهب ذاك الرجل؛ لأن العلم ليس حظراً على أحد، فإذا تكلم الأوزاعي وأتى بدليل أخذناه على العين وعلى الرأس، وسفيان الثوري أحد الأئمة الذين لهم قدم صدق في الإسلام.
أما أنهم ثمانية عشر، فلا أعرف إلا أن عند الشيعة اثنا عشر مذهباً، فالأئمة عندهم هم اثنا عشر، يقولون: لكل إمام مقالة.
أما نحن في الإسلام فأئمتنا كثير والحمد لله، ليسوا بأربعة ولا ستة ولا عشرة ولا ثمانية عشر، كل من اتقى الله عز وجل وصبر وحصل على اليقين فهو إمام في الدين، قيل لـ ابن تيمية: بم تحصل الإمامة في الدين؟ قال: بالصبر واليقين.
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].(309/24)
التشبه بالكفار
السؤال
ما نصيحتكم للآباء الذين تركوا لأبنائهم حرية تقليد الكافر، وهل هذا صحيح وله أصل؟
الجواب
الرسول -صلى الله عليه وسلم- صح عنه عند أبي داود وفي مسند أحمد أنه قال: {من تشبه بقوم فهو منهم} فالتشبه بقوم في قول أو فعل أتى به الكافر وليس في ديننا، فهو تنقص لدين الله عز وجل، وهذا خطر وقع فيه كثير من المسلمين سامحهم الله، يوم أن تركوا لأبنائهم هذا، حتى إن بعض الآباء يتشرف أن يتكلم ابنه وهو طفل، أو يفصح على اللغة الإنجليزية، ونحن لا نقول: هذا حرام، بل ربما تكون من الضرورات إذا وصل بنا الحاجة إلى تعلمها، ولكن أن ننشئ الطفل عليها، وهو لا يعرف اللغة العربية، ولا يتكلم بها، ولا يحفظ شيئاً من القرآن، فلا يجوز، يقول ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: من داوم على لغة غير اللغة العربية، وجعلها حديثه واهتم بها أكثر من العربية، فهي من علامات النفاق.
فكثير من الآباء يتمدح بين الناس أن ابنه أصبح ينطق الانجليزية بجدارة، وهذا ليس بحرام لكن لابد أن يُعلم اللغة العربية، فأشرف لغة في الأرض؛ لغة القرآن، اللغة التي جعلها الله عز وجل أحسن لغة، بحمل هذه الرسالة الخالدة.(309/25)
من أحكام العقيقة
السؤال
هل هناك وقت لذبح العقيقة للولد مثلاً بعد أسبوع؟ وماذا لو تأخر في ذبحها بعد شهر؟ وهل يتصدق بها أو يدعو عليها الأقارب والأصدقاء؟
الجواب
هذه المسألة بحثها ابن القيم في كتاب: تحفة المودود في أحكام المولود، والسنة في ذلك أن تكون في اليوم السابع، فإذا لم يكن في اليوم السابع ففي اليوم الرابع عشر، فإذا لم يكن في اليوم الرابع عشر ففي اليوم الواحد والعشرين، وإذا زاد فلك أن تعق عنه، وهذا قول لبعض أهل العلم، حتى لو كان الابن كبيراً، أما إذا مات الابن فيفتح الله ويسهل، لا تلحق العقيقة موت الابن، يكفيك حزن ابنك عن خسارة هذه الذبيحة.
وأما مسألة: هل يتصدق بها أو يدعو إليها؟ فقد بحثها ابن القيم وقال: الدعوة عليها أفضل من توزيعها على الناس، لأنك تريح الناس من مؤنة الطبخ، فدعوتك للناس أفضل وأولى وورد أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يكسر عظم الذبيحة، وإنما يفصل من المفاصل؛ تفاؤلاً ألا يكسر عظم هذا المولود.
هذا من السنة.
أما إذا وجد أن المجاورين المحتاجين يكونون بحاجة أحوج ممن يدعى إليها، فهل هذا أحسن؟
فنقول: أنت أبصر، وهذه المسألة فيها سعة، وإنما ذكرت كلام ابن القيم أن يدعى إليها لأجل مئونة الطبخ.
وإن رأيت أن توزيعها أفضل وأولى، فالمسألة فيها سعة، فافعل ذلك مأجوراً مشكوراً.(309/26)
حكم الاستفادة من تجارب الكفار
السؤال
ما رأيك في قراءة كتب عن القادة العسكريين، مثل هتلر وغيره؛ لأخذ الفكرة في حروبهم؟
الجواب
ورد عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: [[الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها]].
وبعض المحدثين يرفع هذا الحديث إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونحن لا نسد آذاننا وعيوننا ونقول: لا نقبل إلا ما أتى من هنا نعم عندنا كل خير وعندنا ما يكفينا، لكن لا بأس من الاستفادة من تجارب الناس، وفي صحيح البخاري: أن الشيطان علم أبا هريرة آية الكرسي كل ليلة؛ فقال عليه الصلاة والسلام: {صدقك وهو كذوب} فلا بأس أن نأخذ من تجاربهم ما نستفيد منه؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها.(309/27)
اختيار الزوجة
السؤال
بعض الآباء يجبرون أبناءهم على الزواج من الأقارب بدون أخذ الرأي، فما تعليقكم؟
الجواب
هذا خطأ، وللابن حق أن يستشار في الزواج؛ لأنه هو صاحب الزوجة وهو الزوج، وهذا أورث كثيراً من المفاسد في المجتمع، منها: كثرة الطلاق يوم أن يجبر الشاب على بنت لا يرغبها، ولا يجد في نفسه ميلاً لها، فيقع بعد فترة أحداث الطلاق الذي يبغضه الله عز وجل.
فنصيحتي أن يستشار الابن، وأن ينظر إلى مخطوبته قبل الزواج، وألا يقدم إلا على امرأة يرتضيها ويحبها؛ ليسدد في زواجه، ولئلا تتكرر هذه الأخطاء في المجتمع.
هذا؛ وفي الختام أشكركم، وأصلي وأسلم على الرسول الهادي صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.(309/28)
إليكم يا شباب الصحوة!
إليكم يا شباب الصحوة! موضوع شيق يتطرق فيه الشيخ إلى موضوعات عدة منها: الإيمان وأثره في حياة الشاب المسلم، وتعبد الشباب لله في طلب العلم، وحال المسلمين وواقعهم والمفارقات العجيبة في ذلك.(310/1)
دور الإيمان في حياة الشاب المؤمن
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خِلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً؛ والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجًا منيراً بلَّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، رفع الله به رءوسنا وكانت مخفوضة، وشرح به صدورنا وكانت ضيقة، وأسمع به آذاننا وكانت صمَّاء، وبصَّر به عيوننا وكانت عمياء، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الفضلاء أيها الجيل النجيب أيها الأحباب الأبرار.
إن كان لي شكر، فإني أتوجه بالشكر إلى الله تبارك وتعالى على توفيقه، وعلى أن جمعنا بهذه الوجوه الساجدة لله، الباسمة المتوضئة المستنيرة بنورِ الإيمان؛ ثم أشكر القائمين على هذا الصرح العلمي الفذ مديراً وأساتذةً وطلاباً.
أيها الإخوة: إن حديثنا هذا اليوم ليس بجديد عليكم وليس بغريب؛ ولكنه ذكرى، فإننا نتحدث مع جيلٍ آمن بالله ورضي به رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.
أيها الإخوة الفضلاء: إنني أتحدث مع مؤمنين رضوا بهذا الإسلام جلباباً وثوباً وستراً وهدايةً وتشريعاً ومنهجاً.
إنني أتحدث مع أُناسٍ أتوا من أصلابٍ مؤمنة، ووقعوا في أرضٍ مؤمنة، واستظلوا بسماءٍ مؤمنة.
إنني أتحدث مع طلبةٍ ليسوا بغريبين عن الإسلام ولا غريبين عن الإيمان؛ إنهم في بقعةٍ مؤمنة، وفي دارٍ مؤمنة أستاذتهم مؤمنون، وآباؤهم مؤمنون، وأمهاتهم مؤمنات.
حديثي إليكم -أيها الإخوة الفضلاء- عن دور الإيمان في عبودية الجوارح.
فما معنى الإيمان؟ وما معنى أن نكون مؤمنين؟
إن أمةً بلا إيمان قطيعٌ من البهائم، ومدرسة بلا إيمان مدرسة متهدمة خاوية، وقلب بلا إيمان كتلة من لحم ميتة، وأستاذٌ بلا إيمان جثمان هامد لا حراك فيه، وكتاب بلا إيمان أوراق مصففة، وخطبة بلا إيمان كلام ملفق.
فما هو الإيمان؟
يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
فقبل أن يأتينا الإيمان يا معشر الأمة العربية -لا نقولها قومية ولكن الأصالة العربية في الإسلام- قبل أن يأتينا الإيمان كنا رعاة إبل وشاةٍ لا نفهم، ولا نفقه، فلا حضارة ولا تاريخ، ولا ثقافة، فلما بعث الله فينا هذا الرسول عليه الصلاة والسلام ابتُعثنا من جديد، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
ولما حُصِرَ مفهوم الإيمان في مسائل ضيقة أصبح الجيل كما ترون إلا من رحم الله.
قالوا: الإيمان معناه أن تصلي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، وأن تغتسل من الجنابة، وأن تتوضأ، والإيمان أن تضحي يوم الأضحى وأن تحج وأن تعتمر، ثم تُرك السلوك، وتركت الأدبيات لشخصيةِ المسلم، وتُرِكَ البيت، وتُرِكَ السمع والبصر لا دخل للإيمان فيه؛ وإلا فما تأثير الإيمان إذا كان طقوساً تعبدية فحسب!
فما وُجِدَت الأغنية الماجنة في المجتمع المسلم، وطُرِدَ بعده القرآن من البيت، إلا يوم خرج الإيمان من القلوب.
وما دخلت المجلة الخليعة في البيوت، إلا يوم استُخْفِي الإيمان من القلوب، وما دُمتَ مع رفقة السوء وتتعاطى السجائر في الجلسات، وقضيت الليالي الحمراء في السهرات، وكثرت الذهبات والجيئات فيما يغضب رب الأرض والسماوات؛ إلا يوم قضي الإيمان.
وما أسبلت الثياب -وما أتيت اليوم لأتحدث عن إسبال الثوب؛ جزئية من جزئيات- إلا لما أخفي الإيمان من القلوب، وما خولفت سنته صلى الله عليه وسلم إلا يوم ضعف الإيمان في القلب.
وإذا أتينا إلى مشكلاتنا لنعالجها فما تُحل، وهي أكبر من أن تُحل، وحلها الوحيد هو الإيمان.(310/2)
معنى الإيمان في حياة العبد
الإيمان في حياة المؤمن معناه: أن تكون مؤمناً بالله يوم سعيك وقيامك وقعودك وحلك وترحالك، الإيمان بالله: أن يكون الله رقيباً عليك في حركاتك وسكناتك، وأن تجلس على كرسي وأنت تستمع إلى القصة والكلمة والدرس، وقد سلَّمت قلبك إلى الحي القيوم.
والإيمان على مستويات: موقف المدير أو المسئول عن مثل هذه السُكنة والصرح؛ أن يكون مؤمناً بالله وأن يسترعي هذه الرعية برعاية الله عز وجل، وألا يقطع حبله من الله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} وهذا الجيل أمانة في عنقه، إما أن يهديهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض وإما أن يتركهم فيتردون في النار على وجوههم ونعوذ بالله من ذلك، وهي الأمانة قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
وأمانة الأستاذ: أن يأتي من بيته صباحاً، وأكبر القضايا التي يحملها في ذهنه هي الإيمان، لا يظن أنه يؤدي حصة ليتعاطى عليها راتباً أو أجراً أو كراءً أو مادةً، إن هذه يفعلها اليهود والنصارى والخواجات واليونان والصينيون، كل طوائف الأرض تفعل هذا، فعندهم مدارس كمدارسنا، وعندهم جامعات كجامعاتنا، وأندية كأنديتنا، لكن نحن نتلقى علمنا من فوق سبع سماوات، ونحن نتعبد بهذا العلم لله الواحد الأحد، فندخل الفصل باسم الله، ونخرج باسم الله، وندرس العقيدة باسم الله، ونتكلم باسم الله ونسكت باسم الله، أما هم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
فالأستاذ يوم يأتي إلى الفصل يعرف أنه وارث لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه خليفة الله، وأن المسلمين قد وضعوا أبناءهم أمامه أمانة بين يديه، وقد أخرجوا فلذات أكبادهم، وطرحوا قلوبهم ومقلهم، وقالوا: يا عبد الله! اتق الله في أبنائنا.
وليس معنى الإيمان أنه إذا دّرَّس في التوحيد أن يكون موحداً، وإذا دّرَّس في التاريخ أن يكون مؤرخاً، وإذا دّرَّس في الجغرافيا أن يكون جغرافياً.
لا.
إن هذه المواد إذا لم تُربط بحبل الإيمان فإن الله سوف يسأل هذا المُعلم عنها يوم القيامة، إذ الإيمان لا بد أن يكون في الحصة وفي المحاضرة وفي الندوة وفي الكلمة، ولذلك الذي لا يحمل الإيمان، ولا يحمل المبادئ ميت، ويحاسب عليها يوم العرض الأكبر عند الله، لأنه ماحفظ الله في الجيل، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة}.(310/3)
واجبنا كطلاب علم
أما نحن كطلاب وطلبة علم وتلاميذ فواجباتنا أربع واجبات:
أولها وأعظمها: رقابة الله في هذا العلم، وأن نأتي بلهف وشوق وحرص على هذا الطلب، ونحمد الله أن شرفنا بأن جعلنا طلبة علم، ثم نسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى دائماً وأبداً أن يفتح علينا من فتوحاته، وأعظم فتح يفتح الله عليك أن يجعلك عبداً له، والله لقد رأينا وأبصرنا شباباً ضيعوا الله فضيعهم الله في الحياة، وسوف يضيعون إن لم يتوبوا في الآخرة.
لما ضيعوا الله في الاستقامة ضاعوا في الدراسة، وضاعوا في المناهج، وضاعوا في المستقبل، وضاعوا في الأسر والسمعة، وأخذوا مرغمين إلى السجون، وحبسوا، وضربوا بالأسواط، وقيدوا بالحديد، وأصبحوا في ذلة وفي حقارة وصغار، لأنهم ما حفظوا الله:
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
إن الذي لا يحفظ الله يضيعه الله، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقف الصحابي الواحد من أصحابه ويقول له: احفظ الله يحفظك -إي والله- كان فرعون طاغية، ضيع الله فضيعه الله في اليم، وكان أبو لهب طاغية، ضيع الله فأورده في نار ذات لهب، وكان أبو جهل طاغية، فلما لم يذل للا إله إلا الله ضاع، وأنتم تستقرئون من قرابتكم ومن مجتمعاتكم؛ أن من ضيع الله ضيعه الله عز وجل.
فأكبر قضية نريدها هي حفظ الله عز وجل، إن رقابة الأستاذ، أو الإدارة، أو السلطة، لا يمكن أن تنفذ إلى قلبك إذا لم تراقب الله عز وجل، فلا يستطيعون أن يراقبوك، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120].
ظاهر الإثم نتركه -يمكن- خوفاً من السلطة، لكن باطن الإثم لا يترك إلا خوفاً من الله، هذا أمر.
الأمر الثاني يا أيها الأحباب: أن نحمل العبودية كطلبة علم، إذ ليس بصحيح أن ترى طالب علم يقرأ قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وتربى على يد أساتذة أبرار أخيار، ولا تظهر عليه معالم السنة ومعالم الاستقامة، كأنه خرج من نادي من باريس أو من لندن أو من واشنطن.
هذه بلاد القبلتين، هذه مهبط الوحي، يقول أبو الأعلى المودودي في رسالة له: إن تراب هذه الجزيرة مؤمن بالله، وإن هواءها يشهد أن لا إله إلا الله، ,وإن ماءها لو نطق لقال: لا إله إلا الله، هذه البلاد لا ينشأ فيها إلا عبد صالح يوم يريده الله عز وجل أن يكون صالحاً، ففرق بين أن نتعلم علم الذين: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
كعلم التيوس، أو علم الثيران، أو أدمغة الحمير التي لا تفهم، معلومات لكن ما تستفيد.
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [الروم:56].
هل سكتت الآية؟!: {وَالإيمان} [الروم:56].
إننا لا نطالب بالعلم الدنيوي فقط بلا إيمان، فقد غلبنا فيه اليهود والنصارى والكفرة، لكن نطالب بعلم الدنيا مع الإيمان.(310/4)
أهمية القدوة الصالحة
المسألة الثانية والقضية الكبرى: كيف تظهر العبادة علينا؟ وما هي عبادة الأعضاء؟ وهل تريد أن تكون عبداً لله عز وجل؟
لا بد أن تظهر عبادتك على أربعة أعضاء، ولها أعضاء أخر، ولكن أشير إليها لأهميتها:
أولاً القلب كتلة اللحم التي تحمله بين جنبيك، هو حياتك وموتك، وواجبك أمام الله أن تدخل فيه الإيمان: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
فلا بد أن تحشو قلبك بالإيمان، فإذا لم تفعل فانتظر الهلاك والدمار واللعنة والعار في الدنيا والآخرة.
الأمر الثاني: أن تجعل الإخلاص والنية الصالحة في قلبك.
الأمر الثالث: أن تملأ هذا القلب بحب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: أنا أقول لكم بمنطق النقل والعقل، إن أعظم شخصية طرقت الدنيا والعالم هو محمد عليه الصلاة والسلام، والله الذي لا إله إلا هو! لا نقولها عاطفة وتعصباً، ولكن ما وطأ التراب أشرف من الرسول عليه الصلاة والسلام.
ووالله! لقد حسدتنا الأمم عليه، ويؤسفنا ويخجلنا ويحسرنا ويبكينا أن نرى في بعض البيوت شخصيات لمعت من المغنين والمغنيات، الماجنين والماجنات الداعرين والداعرات، الأحياء منهم والأموات؛ قد جعلوا عظماء.
يقولون: الفنان العظيم، والفنان في لغة العرب هو الحمار الوحشي المخطط، وهو أشبه بهذا، فكيف يكون عظيماً؟!
إن العظماء الذين ينبغي أن ترسم صورهم في القلوب وفي البيوت؛ محمد عليه الصلاة والسلام وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وخالد، وصلاح الدين، وابن تيمية، وابن القيم.
إن عندنا من العظماء ألف عظيم وعظيم، ومن العلماء ألف عالم وعالم، ومن الأدباء ألف أديب وأديب، فكيف تركت هذه الشخصيات.
إن جلست مع بعض الشباب تراهم مغرمين بسيرة هتلر، يقرءون سيرة كفاحه، سبحان الله! قاتلكم الله ما وجدتم العجب إلا من هذا الخبيث المنتن الكلب الذي دمر العالم:
قالوا هم البشر الأعلى وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا
وبعضهم يعجبه شعر شكسبير هذا الإنجليزي الفاجر الذي دعا إلى إباحية المرأة، وكشفها أمام الناس واستخدمها وقال: هي حق للجميع.
والآخر يحمل نسخة في جيبه لـ نزار قباني، هذا الداعر الخبيث المنتن الذي سوف يحاسبه الله على ما فعل، نسأل الله أن يجازيه بعدله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
فيا سبحان الله! يوم ترك العظماء هؤلاء وسيرهم في البيوت، وقعنا فيما وقعنا فيه.
تسأل الشاب عن سيرة أبي بكر فيحفظ سير لا تنفعه، يقول: ولد أبو بكر سنة كذا وكذا، ومات سنة كذا وكذا، وتولى الخلافة سنة كذا وكذا.
إننا -يا أيها الإخوة- إذا قرأنا السيرة فعلينا أن نقرأ السيرة التربوية، سيرة محمد صلى الله عليه وسلم.
أصبح في أذهان كثير من الشباب أن ترجمة الرسول عليه الصلاة والسلام معنى أنه إنسان يدعو إلى الله عز وجل، ويتكلم في المساجد وكان يخطب، وكان مع أصحابه يربيهم، وحضر في بدر وتبوك والخندق وأحد، وهذه ترجمة ناقصة.
رسول الله عليه الصلاة والسلام لا بد أن تأخذ أدبك منه، وحياتك منه، وضحكك منه، وبكاءك منه، وقيامك وقعودك منه، فهو حياة مستقلة وحياة كاملة، وهو تاريخ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].(310/5)
عبادة الله بالعلم
المسألة الثالثة: أن نتعبد الله عز وجل بالعلم، وأن نسأله من فتوحاته، وأن نلتجئ إليه كثيراً وأن نكون عباداً له.
ابن تيمية منذ أن كان عمره عشر سنوات، قال أهل العلم: إنه كان يخرج في السحر قبل صلاة الفجر، فيمرغ وجهه في التراب، ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني.
هل رأيت شاباً يرفع يديه قبل الحصة أو قبل أن يدخل ويسأل الله الفهم، هل رأيت شفتين تتمتم بذكر الله، هذا موجود والحمد لله، لكن نريد أن نكون كلنا عباداً لله، نتلقى هذا العلم عبودية كأننا في المسجد، والله! إذا لم يفتح الله عليك فلن يفتح عليك أحد من الناس، وإذا لم يهدك الله -فوالله- لن تجد إلا الضلال، وإذا لم يغفر الله ذنبك فلن يغفر لك أحد.
فيا أيها الإخوة! الله الله في مراقبة الله عز وجل، وفي تعبده بهذا العلم، وقد ذكرت في العنصر الثاني كيف تظهر العبودية على الجوارح، وقد وجدت نغمة في المجتمع والرأي العام تقول: إنه لا يلزم الإنسان أن يتشنج بالدين، وأن يأخذ الدين بعروقه وأوراقه بل يكفيه من الدين شيئاً ظريفاً ليكون مثلما يسميه سيد قطب إسلاماً أمريكياً، أن يدع شيئاً ويأخذ شيئاً، دين مرقع: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85].
يا مدعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهوينا
خذها جميعاً تجد خيراً تفوز به أو فاطرحها وخذ رجس الشياطينا
يا أيها الإخوة! إن الذي أتى بلا إله إلا الله هو الذي أتى بتفصيل الثياب فوق الكعب.
والذي أتى بلا إله إلا الله هو الذي أمر بإعفاء اللحى، وأتى بالسواك، وبالمنهج الخالد المؤرخ الذي ما طرق العالم مثله، وأتى بالقرآن، وبالأدب والسلوك، والحياة، وبإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأتى بحياتك في كل منحى من الحياة.
والرسول عليه الصلاة والسلام شخصية أمامك لا بد أن تجعله في ذهنك حياً، لا تفعل شيئاً حتى تسأل هل فعله صلى الله عليه وسلم، أما أن نقبل إسلاماً مرقعاً فنقول: يكفيني أن أصلي، أما هذه الأمور فهي قشور.
فهل أصبحت تفتي وتثلم الدين وتكسر الإسلام، الذي هو صورة كاملة، فتأخذ منه ما شئت وتترك منه ما شئت؟ لا.
والله هذا جحود للنعم، وتنكر للجميل، وسوء فهم للرسالة الخالدة التي أتى بها الرسول عليه الصلاة والسلام.
فأنا أدعوكم -أيها الإخوة إلى- الاهتداء بهديه صلى الله عليه وسلم بالسنن، ووالله! لا أحسن ولا أجمل عند الأب وعند المجتمع وعند الرأي العام؛ من أن يروا الإنسان مستقيماً، لا تستمع للدعوات التي تهاجم رجال الدين فليس عندنا في الإسلام رجال دين، فهذا في الكنيسة، وقد وجد من الذين لا يفقهون، أو عنده التخلف العقلي الذهني العفن أنه يحارب الدعاة أو المستقيمين، وهذا ليس بصحيح، بل استقرأنا من حياة الناس ومخالطة كثير من الدعاة والرأي العام، ودخول بعض السجون، أن الشاب المستقيم له صورة معظمة عند الجميع، عند السلطان وولاة الأمر والرأي العام، وعند الجندي في الشارع، والأستاذ، وعند كل طبقات الناس لأنه مستقيم، ولماذا؟ لأنه حفظ الله، أما الإنسان الذي لا يحمل هذه المبادئ فهو فاسد ولو احترم فمجاملة.(310/6)
كيفية حياة المسلمين في هذا الزمان
والأمر الذي أريد أن أشير إليه رابعاً: كيف نعيش؟ وكيف نحيا مع هذا الوقت ومع هذا الزمن الذي يمر مر السحاب، الله عز وجل يقول: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
كيف نحيا؟ كيف نعيش؟ أحياة البهائم؟ أحياة أكل وشرب ونوم ورقص ولهو ولعب؟ لا.
إنه لا بد أن تُنظم أوقاتنا تنظيماً عجيباً دقيقاً، أمة هي من الدقة والنظام بمكان، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} فوالله الذي لا إله إلا هو: {لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: -من هذه الأربع- وعن عمره في فيما أبلاه} أنت لن تنصرف من الموقف يوم القيامة حتى يسألك الله: فيم صرفت هذه الأوقات؟
فيا إخوتي في الله! ماذا فعلنا في برنامجنا في القراءة في الاطلاع في الصلاة والذكر في التلاوة في الزيارة في الجلوس مع الأحبة، ماذا فعلنا في ذلك؟
إن الكاتب الأمريكي دايل كارنيجي في كتابه دع القلق وابدأ الحياة، يضحك على أهل الشرق؟ يضحك علينا نحن لأن الأمريكان من أكثر الناس قراءة.
أنا أقول هذا لأن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها، يضحكون علينا ويسموننا إلى الآن بدواً، لأن الذي لا يعتني بحياته ورسالته الخالدة ولا يعيش لله فهو يعيش على هامش الأحداث، والله يقول في الأعراب: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [التوبة:97].
ومهمة الرسول عليه الصلاة والسلام أن يخرج الإنسان من بداوته وجهله وتخلفه إلى أن يكون إنساناً منظماً، وإنساناً معتنياً بروحه ومستقبله، ولا يكون إنساناً عامياً عادياً، بل يكون له خصوصية، فلذلك يذكر أنهم يقرءون -الإنجليز والأمريكان- في كل أربع وعشرين ساعة، ست عشرة ساعة، فكم نقرأ نحن؟!
إني علمت أن كثيراً من الشباب إذا قرأ أحدهم ساعة في اليوم أو نصف ساعة تبجح، وقال أجهدت نفسي: {إن لنفسك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً} وهذا الحديث نستحضره دائماً.
ولكن كم ننام وكم نأكل وكم نشرب، وكم نذهب وكم نجيء؟!
أمة كأنها خلقت للنزهة وللتفسح، فإذا فتح أحدنا الكتاب، فقرأ وريقات صغيرة من أوله قال: اللهم انفعنا بما علمتنا، وهذا صحيح نسأل الله أن ينفعنا، لكن أين الجهد وأين القراءة والمثابرة؟ سبحان الله!
إن الخواجة يركب القطار أو الطائرة وكتابه في يده ولا ينزل إلا وقد ختم الكتاب، ونحن أمة خلقنا للجنة -نسأل الله لنا ولكم الجنة- أمة لا إله إلا الله، أمة ذبح أبطالها على نهر الجنج، واللوار، والسند، لرفع لا إله إلا الله، أمة يقول عقبة بن نافع: لما خاض البحر بقدميه والله الذي لا إله إلا هو لو علمت أن وراء البحر أرضاً لوطئتها ولو علمت أن وراء الأرض بحراً لركبت أو كما قال.
ويقول وهو في غابة أفريقيا: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى واحشرني مع هذه الوحوش.
ويقول أبو أيوب الأنصاري وقد وقف على شرفات القسطنطينية في بلاد الروم في تركيا يقول: [[اللهم أمتني في هذه البلاد حتى أبعث يوم القيامة بين قوم كفار، وأنا أقول وقد بعثت من قبري: لبيك اللهم لبيك]] فمات ودفن هناك.
أمة وقف علماؤها وعبادها في الجهاد في سبيل الله، يقول محمود بن سبكتكين أحد القواد المسلمين يوم دخل يفتح بلاد الهند بألف ألف مقاتل، أعطي رشوة ليرتد عن الفتح، أعطي ألف صنم من الذهب والفضة والمرجان، فلما دفعت له قال: ما هذه؟ قال ملك الهند: خذها ولا تفتح بلادنا، قال: سبحان الله! أتريد يوم القيامة أن آتي وأُدعى يوم القيامة، يا مشتر الأصنام! والله لا آخذها وإنما أكسرها، لأدعى يوم القيامة يا مكسر الأصنام! فأخذ الفأس وأخذ يكسرها ثم أحرقها، ثم دخل بلاد الهند، ولذلك الشاعر الباكستاني محمد إقبال يوم أن بكى على الأمة الإسلامية، وهي على مثل حالنا تقصيرنا، وقد جاء وهو يرجو أن يلقى في مكة والمدينة شباباً يقولون: لا إله إلا الله، ويعيشون للقرآن، فلما رأى الواقع بكى، وهو واقع -والله- يؤسف له، لكننا نأمل من الله أن يعيدنا إليه وأن يتوب علينا وعليكم، قال قصيدة تاجك مكة يعني مكة البلد الكبير يقول:
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفار
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا(310/7)
أحوال المسلمين والتضحية في سبيل الله
ماذا فعلنا للإسلام أيها الإخوة الأبرار؟!
أيها الجيل الذاهب التائب إلى الله ماذا فعلنا مع الإسلام؟! لا قمنا الليل ولا داومنا على ذلك.
ونريد أن نكون صُرحاء في هذه الجلسة؛ لأن أمامي أساتذة، ودعاة، وطلبة علم، وجيلاً صادقاً واعداً إن شاء الله.
لم نسكب دماءنا في سبيل الله، ولا وقفنا في الجبهات، ولا أنفقنا أموالنا، ولا قضينا أوقاتنا في تربية الناس، وفي تربية العوام وتفهيمهم وتوعيتهم، ماذا فعلنا؟!
نصلي الصلوات الخمس والخشوع في وادٍ ونحن في واد، وشهوةٌ ولهوٌ ولغوٌ، وأكلنا وشربنا ورقصنا ولعبنا ومزحنا وضحكنا أكثر بكثير من هذه الأمور، فاتقوا الله يا عباد الله في أنفسكم.
أما أتى خبيب بن عدي يذبح في ذات الله عز وجل فرفع إلى المشنقة -مشنقة الموت- فأخذ يترنم؟! من الذي ينشد وهو يذبح، هل من أحد ينشد وهو يذبح! إلا الذي أصبح قلبه كبيراً.
فقال له أبو سفيان: أيسرك أن يكون محمد مكانك وأنت في أهلك ومالك؟ فقال خبيب: لا والله! والله ما أريد أن تصيبه شوكة وأني في أهلي ومالي، فلما رفعوه أرسلوا السيوف عليه، قال: {اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً} ثم أخذ ينشد نشيد الموت:
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أجزاء شلو ممزع
حنظلة كان في الليل عروساً لزوجته في يومهم الأول، فسمع لا إله إلا الله تدوي في الخافقين، فالزحف الكافر يريد احتلال المدينة، وأبو سفيان والمشركون قدموا إلى أحد، فاخترط سيفه وخرج وعليه جنابة وهو شاب، وقال وهو ينظر إلى السماء: [[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]] نعم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى، فقتل وأشاح صلى الله عليه وسلم بوجهه: {فقالوا: مالك يارسول الله؟ قال: رأيت الملائكة تغسل حنظلة بين السماء والأرض في صحاف الذهب بماء المزن، ماذا فعل؟ فسألوا أهله قالوا: كان جنباً}.
أي أمة هذه الأمة؟! وأي جيل هذا الجيل؟!
تنظيم الوقت -يا أيها الإخوة كما أسلفت- أن تعيش منظماً لا تعيش سبهللاً، وأن يكون لك في كل وقت ورد، وأحسن ما ينظم به الوقت أن يكون تنظيم وقتك مع الصلوات، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103].(310/8)
حال المسلمين مع القرآن
قال بعض أهل العلم: من أعظم فوائد الصلاة أنها تنظم الأوقات، وجرب ذلك، فإنك إذا قلت في نفسك سوف أقرأ بعد كل صلاة جزءاً من القرآن، أو نصف جزء تنظم لك ذلك، ولا يأخذ منك إلا ربع ساعة، أو ثلث ساعة، وإذا كلفت نفسك أن تقرأ بعض الصفحات من الكتب بعد الصلوات تنظم لك ذلك، وجرب ذلك، فالصلوات الخمس هي أعظم ما ينظم به الأوقات.
أما وقت الحفظ فهو وقت الفجر، فهو وقت البسمات الرضية، وقت النداء على الكون، وقت الطل الباسم، وقت التفتح، وقت الفجر يوم تبسم للمعمورة وذهنك ينطلق بإشراق إلى الكون، هذا وقت الحفظ، وأنت إذا لم تجعل من مهماتك الكبرى في الحياة ومن مشاريعك الصادقة حفظ القرآن، فكأنك ما فعلت شيئاً.
سبحان الله! العجم يحفظون القرآن، ويدرسون أبناء العرب في بلاد العرب، ونحن نقرأ عليهم كأنا عجم، يعلمونا كيف تنطق الضاد والزاي والذال، وننطق كأنا عجم ونتلعثم بين أيديهم.
نحن أبناء طلحة والزبير وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ما جئنا من طاشقند ولا سمرقند، لكن أصبح أهل سمرقند يدرسوننا القرآن في المساجد ولا نفهم، ويضربوننا بالسياط ولا نعي، ونقول: عفواً يا شيخ نحن ما درسنا هذا القرآن.
والقرآن نزل بلغتنا نحن، نزل علينا نحن وما نزل في سمرقند لكن كما قال الله عز وجل: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِين} [الأنعام:89].
لما تركنا القرآن، وملنا إلى المجلات الخليعة، وإلى الكتب الحداثية الحديثة الرخيصة المنمقة، التي ليس فيها علم: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40].
وإلى الأغنية المائعة الرخيصة، ما عرفنا نقرأ (طه).
وأحدهم أتى يقرأ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] فقال: ألف لام تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، أصبحنا عجماً لأننا لم نفهم، أنا لا أقول في هذا المكان، لأني أعرف أن فيكم من يفهم كثيراً، ومن يستطيع أن يؤهل ليقود أمة لكن من يعرف ويخالط كثيراً من المجتمعات يعرف هذا الأمر، حتى أن الواحد يبلغ ستين سنة في القرية ولا يستطيع أن يحفظ الفاتحة، يقفز من آية إلى آية، وقد سمعت أن بعض الدعاة قام في قرية يدرسهم ويعلمهم الفاتحة فأبوا ذلك، فقد انغلقت أذهانهم، وما استطاعوا لهذه المهمة الكبرى، أتى من هنا ليحفظهم ويقفزون من الآية الأولى إلى الآية السادسة من الفاتحة، ويأتي من هنا فأبوا، وفي الأخير وجد حلاً قال: تعالوا، فأتى بشيوخ القرية كبارهم، يعني أنهم لا يفهمون كثيراً، فقال هذه سبع غنم، والفاتحة سبع آيات، بسم الله الرحمن الرحيم، ستتذكرون بسم الله بالغنم، الحمد لله رب العالمين هذه، الرحمن الرحيم هذه، مالك يوم الدين هذه، حتى انتهى، ثم ذهب من عندهم؛ وقد أخبرني بعض الدعاة في الرياض وهذا الداعية لا يزال حياً، قال: فلما ذهب، وكان الداعية هذا فيه خير وطيبة، ثم ماتت الشاة بعد أن سافر بحفظ الله ورعايته، فقام إمامه يقرأ فقفز آية: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فرده أحدهم، وحاول رده في الصلاة وبعد الصلاة وقال: كيف تردني وقد ماتت، يعني: ماتت الآية مع موت الشاة.
فنحن نحتاج إلى أُسس تقليدية في أكثر من هذه أو إلى رسوم، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بالبدو يوم يأتونه، أنا أقول حفظ القرآن أهملناه كثيراً.
يوم سمعنا لـ ديكارت الفرنسي وأمثاله عندما قالوا: إن عصر الحفظ ولى وأصبح عصر الفهم، فلا فهمنا ولا حفظنا.(310/9)
القراءة المكثفة وأهميتها
أحد المشايخ كان يدرس الروض المربع في المسجد، فأتاه بعض الشباب يحاورونه من الشباب التقليديين المتطورين ولكنهم من المتهكمين، فقال: يا شيخ! الناس صعدوا على سطح القمر وأنت لا زلت تدرس الروض المربع! فقال الشيخ له: أنت ما صعدت على سطح القمر ولا قرأت معنا الروض المربع؛ لأن هؤلاء الشباب الذين يتهكمون بالاستقامة والندوات لم يقدموا شيئاً، يقول: الناس قد بلغوا التكنولوجيا والذرة وسطح القمر وأنتم ما فعلتم شيئاً.
يقول: أما أنتم فالحمد لله، أخذتم من الكفار كل سيئ؟! وما أخذتم كل حسن، فالسيجارة أخذتموها من الخواجة، والكعب العالي، والثوب المسبل، والشعر الملفوف والعقائص والغدرات، والفجرات، والسوالف، والأظافير، التي كأنها أظافير مربيات في اليونان، كل هذه أخذتموها، لكن هل صنعتم لنا طائرة؟ هل قدمتم لنا صاروخاً ندمر به إسرائيل؟ هل قدمتم لنا دفاية وسخانة وثلاجة وبرادة؟! لا والله.
أما الخواجات فلهم سيئات لكنهم قدموا خدمة للبشرية، قدموا معامل ومصانع ومنتجات، وملبوسات ومطعومات، ولكن أنتم لا جلستم معنا على الأرض تقرءون الروض المربع، ولا صعدتم على سطح القمر تنتجون للناس، فأنتم مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
فإما أن تكون أخي بصدق فأعرف منك غيثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني
فإني لو تخالفني شمالي ببغض ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بيني كذلك أجتوي من يجتويني
النفاق لا يصلح في الإسلام، والتهجم والاستهزاء على المنهج القويم وعلى الرسالة الخالدة التي أرساها محمد صلى الله عليه وسلم ومات دونها الرجال لا يصلح، فإنه نفاق وكفر: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُون * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكُمْ} [التوبة:65 - 66].
ثم أدعوكم إلى القراءة المكثفة، فالثانويات والمعاهد والمتوسطات والكليات، تعطيك مفاتيح للعلم، لكنها لا تخرج عالماً، إلا في النادر، نعم.
تفتح لك السبل والوسائل والطرق الاستقرائية التجريدية في البحث والاستقراء والاطلاع، لكنها تتركك لتطلع أنت، فهل اطلعنا وهل قرأنا؟!
هل كان لأحدنا مكتبة بصرية ومكتبة سمعية في البيت، يجلس في غرفته ويغلق عليه الباب ليجلس مع العلماء والفقهاء والأدباء والأذكياء، يعود بعد هذه الجلسة وقد زاد علماً إلى علمه وفهماً إلى فهمه، يوم تركنا ساعة المكتبة أصبحنا عاجزين، مفهومات عادية يفهمها السذج من الناس ونحشي الذهن لكن ما يفهمه كل الناس، لكن من يجلس في مكتبته يجلس مع ابن تيمية والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة والشافعي وابن القيم، مع هؤلاء الأعلام فيستفيد علماً إلى علمه.
فالاطلاع الضخم -يا أيها الإخوة- تمشي وكتابك معك، أنا لا أقول لك: إن هذا أمراً قسرياً جبرياً لا.
فللنفس حق من الترويح المباح، من الدعابة الطيبة، والجلسة الأخوية فهذا أمر، فالاطلاع الاطلاع المكثف.
والذي ينبغي علينا أمور: أن نحل المصحف مكان المجلة الخليعة، وآيات الله وكلام رسوله مكان الأغنية الماجنة، ورفقة الخير والبر مكان رفقة السوء والانهدام والفشل، فهذا لا بد منه.
وفي الختام أشير إلى أمور ثلاثة:
الأمر الأول: القدوة، من هو قدوتك في الفصل والمجتمع؟ أما القدوة العامة لك في الليل والنهار وفي كل مكان هو الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قدوة تنظر إليها وتأخذ منها سلوكك هو الرجل الداعية والأستاذ الموفق المخلص الصادق، هذا أمر.
الأمر الثاني: من هم رفقاؤك وجلساؤك؟ هل هم كل من يتقي الله؟ وإذا رأيت الطالب والشاب يرافق أعداء الله عز وجل والفجرة، فاعلم أن قلبه فاجر، وأنه ما اهتدى إلى الآن، كيف تحب أعداء الله، وكيف توالي من لا يوالي الله عز وجل.
الأمر الثالث: واجبنا في عبادتنا أن نختمها بالتوبة والاستغفار دائماً وأن نكثر من الاستغفار والتوبة الصادقة في حياتنا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
يا إخوتي في الله! لا أريد الإطالة لأنه قد يكون هناك وقت للنقاش والحوار، ولكن في ختام هذه الجلسة أكرر شكري لمن توجه بهذه الدعوة، ولمن كان من مهمته تربية هذا الجيل، ولمن كان حريصاً في توعية الشباب، مديراً وأساتذة، وأتوجه إليكم بالشكر طلاباً وتلامذة، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(310/10)
الأسئلة
.(310/11)
حكم التصوير
السؤال
فضيلة الشيخ: هل التصوير محرم؟ وما رأيك في تصوير المناظر الطبيعية؟
الجواب
التصوير كثر الكلام فيه وأُلِّفت فيه رسائل وفتاوى وما أظن الأخ السائل يجهل هذه الرسائل والفتاوى التي وردت في الساحة، وكثرة الكلام في المسألة تكثر الخلاف والشقاق فيها، ولكن مما علم أن تصوير ذوات الأرواح لغير حاجة محرم، وبالخصوص إذا أخذت هذه الصور لتعظم في البيوت وعظمت فهذا أمر محرم لا شك فيه.
أما تصوير ذوات الأرواح للحاجة الماسة التي توقف عليها مصلحة فلا بأس به.
أما تصوير المناظر الطبيعية، من شجر وبناء وأطلال وجبال وسهول وهضبات وبساتين فلا بأس بذلك، فهي جائزة إن شاء الله؛ لأنه لم يرد فيها نصوص محرمة.(310/12)
حكم التمثيل
السؤال
ما حكم التمثيل؟
الجواب
هذا الدين بأُسسه وبأقواله وأفعاله وأحواله مبني على الصدق، فإذا وجد في مسألة كذب فهذا الشيء حرام، وإذا بني على الكذب والتمثيل يخاف منه الكذب، فإذا خلا هذا التمثيل عن الكذب وعن أمور أخرى محرمة كالتشبه بالنساء أو الكفار؛ فلا بأس به، أما إذا بني على كذب مثل أن يمثل شخصية الحجاج بن يوسف، وشخصية سعيد بن جبير، وهما ليسا هما، فهذا كذب، أو أن يمثل الكافر واليهودي والنصراني والشيوعي فهذا كذلك محرم، أو أن يتشبه بالنساء في التمثيليات فهذا محرم، أما إذا خلا عن هذا كأن يمثل أمام الطلبة في بعض الأمور التي على الصدق وعلى المصلحة ووجد من مصالحه أعظم من مفاسدها فلا بأس في ذلك إن شاء الله.(310/13)