الدرس التاسع: الالتفات في الصلاة للحاجة
وقد مر في القصة لكننا أسلفنا هذا الحدث وتركناه, فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أرسل ابن أبي حدرد وقيل أنيس بن أبي مرثد أخذ صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر وهو يلتفت هكذا في الشعب لينظر هل يأتيه الخبر أو لا ويخفف الصلاة.
قال أهل العلم: للمسلم إذا كانت حاجة أن يلتفت ولكن لا يجعلها عادة, فالرسول عليه الصلاة والسلام فتح الباب وهو في الصلاة، وحمل أمامة بنت زينب في الصلاة، وتناول بعض الأمور وهو في الصلاة، والتفت هنا إلى طليعة القوم للحاجة, وهذا الحديث في سنن أبي داود بسند حسن عن سهل بن الحنظلية، قال: أرسل صلى الله عليه وسلم يوم حنين طليعة القوم، فأخذ يلتفت إليه في الصلاة وينظر إليه بين شقق الشعب أو كما قال.(265/22)
الدرس العاشر: الفوز بالجنة للحارس في سبيل الله
أتى الذي حرس المسلمين تلك الليلة قال له صلى الله عليه وسلم: {متى نمت؟ قال: في صلاة الفجر، قال: اذهب فقد أوجبت، ما عليك ما عملت بعدها} رواه النسائي ويقول ابن كثير: ورواه أبو داود.
وهذا ليس معناه فتح باب الرجاء له ليعمل بالمعاصي؛ لأنه يعلم صلى الله عليه وسلم أن هذا العبد أتقى لله أن يغتر بهذا الكلام, بل جعل له ضماناً وبشارة أن يدخله الله الجنة، قال: {اذهب فقد أوجبت ما عليك ما عملت بعدها} وهذا من باب قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}.(265/23)
الدرس الحادي عشر: رفع الصوت للحاجة
الرسول عليه الصلاة والسلام ذم رفع الصوت لغير الحاجة؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] فأما رفع الصوت للحاجة فلا بأس به.
قال البخاري في كتاب العلم: باب من رفع صوته بالعلم، ثم أتى بحديث ابن عمرو: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام رفع صوته وقال: ويل للأعقاب من النار} فهنا رفع صلى الله عليه وسلم صوته ينادي في الناس، وقال للعباس: ارفع صوتك وناد في الناس، فأخذ يقول: (يا أهل سورة البقرة, يا من بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة) حتى يأتون.(265/24)
الدرس الثاني عشر: فضل أبي سفيان بن الحارث رضي الله عنه
وهو أبو سفيان بن الحارث ليس أبا سفيان بن حرب , فـ أبو سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام كان له أعمام عشرة منهم الحارث ابنه أبو سفيان هذا، وما أسلم إلا قبل الفتح بأيام, سمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام سوف يقدم فاتحاً لـ مكة , وعلم أنه أساء مع الرسول عليه الصلاة والسلام في المقاتلة وأساء في المهاجاة؛ لأن أبا سفيان كان شاعراً يرسل القصائد يهجو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلما علم أن الرسول عليه الصلاة والسلام سوف يقدم مكة فاتحاً أخذ أطفاله، وكانوا صغاراً كأنهم فراخ الطير من البنات ومن الأبناء, وخرج بهم من مكة ولقيهم علي بن أبي طالب دون مكة بين عسفان ومكة في طريق رحب في شعب من الشعاب.
فقال علي ابن عمه: إلى أين يا أبا سفيان؟ قال: يا علي قاتلنا محمداً وآذيناه وشتمناه وطردناه وأخرجناه؛ سوف أخرج بأطفالي هؤلاء وأموت جوعاً وعرياً وعطشاً في الصحراء, والله لئن قدر علي ليقطعني بالسيف إرباً إرباً.
فقال علي بن أبي طالب: أخطأت يا أبا سفيان! إنك لا تعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أحلم الناس وأكرمهم وأرحمهم، فعد إليه وسلم عليه بالنبوة، وقل له كما قال إخوة يوسف ليوسف: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] لأنهم إخوان وأبناء عم، فأتى أبو سفيان بأطفاله يقودهم بأيديهم, فلما وقف عند خيمة أم سلمة وكان الرسول صلى الله عليه وسلم داخل الخيمة، قال: ائذنوا لي أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: من في الباب؟ قالوا: يا رسول الله أبو سفيان بن الحارث، قال: لا يدخل علي، لأنه أساء كل الإساءة ما ترك أمراً إلا وكاد به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت أم سلمة تبكي وتقول: يا رسول الله! لا يكون ابن عمك وقريبك أشقى الناس بك، وأخذت تناشده الله عز وجل، قال: أدخلوه علي، فدخل.
فقال: السلام عليك يا رسول الله، أمَّا بَعْد: {لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] قاتلناك يا رسول الله وآذيناك وأخرجناك والله لا أدع موقفاً قاتلتك فيه إلا قاتلت فيه معك، ولا نفقة أنفقتها في حربك إلا أنفقتها معك، ثم أخذ يعدد، فرفع صلى الله عليه وسلم طرفه وعيناه تنزل الدموع، قال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92] فقال: يا رسول الله! اسمع مني، قال: قل، قال:
لعمرك إني يوم أحمل راية لتغلب خيل اللات خيل محمد
لك المدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني يوم أهدى وأهتدي
هداني إلى الرحمن ربي وقادني إلى الله من طردت كل مطردِ
فقام عليه الصلاة والسلام فعانقه وضرب على صدره وقال: أنت طردتني كل مطرد، فأخذ يخدم محمداً صلى الله عليه وسلم، لا يرتحل مرتحلاً إلا قام وحزم له متاعه وشد له رحله، وأخذ ببغلته يقودها, فهو قائد البغلة يوم حنين اليوم الأكبر من أيام الله, يوم ثبت رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ونزل يقارع الأبطال وهو يقول: {أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب}.(265/25)
الدرس الثالث عشر: تفاوت الناس في الإيمان
وفي هذا رد على أهل الإرجاء، فإنه لا يستوي من أسلم من قبل الفتح وقاتل وأنفق مع الذين أسلموا من بعد وقاتلوا، لأن الإسلام درجات, فنسأل الله من الإيمان أسعده, ومن العيش أرغده, ومن اليقين أعلاه, ومن الإيمان منتهاه, ولا يزال العبد بين الليلة والليلة يزيد إيمانه بالذكر وبالعمل الصالح وبالطاعة حتى يلقى الله وهو بالدرجات العلية من الإيمان, ولا يزال الإيمان ينقص بالمعاصي وبالمخالفات وبكثرة الهروب عن الله عز وجل حتى يتردى, نسأل الله العافية والسلامة.(265/26)
الدرس الرابع عشر: تنفيل السلب للقاتل
وهذا حديث كذلك قد مر في القصة، يقول أبو قتادة أحد الأنصار: يوم التقينا يوم حنين رأيت رجلاً من المسلمين يتصارع مع رجل من المشركين وقد التزمه، قال: فرفعت سيفي فضربت المشرك، فترك ذاك وأتى إلي واحتضنني حتى وجدت منه برد الموت ثم ألقاني ومات، فقال عليه الصلاة والسلام: لك سلبه.
وفي هذا الحديث -أيضاً- جواز مقاتلة النساء عند أمر الفتنة مع الرجال في صف المسلمين, وقد أورد ابن كثير بأسانيد صحيحة: أن أم سليم قاتلت مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم حنين.
وأم سليم هي أم أنس بن مالك التي أهدت ابنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: أنس يخدمك يا رسول الله فادع الله له، فدعا له.
وأم سليم هي التي يقول عنها صلى الله عليه وسلم: {دخلت الجنة البارحة فرأيت الرميصاء في الجنة}.
حضرت المعركة وكانت عندها خنجر في وسطها, فأخذ زوجها أبو طلحة يداعبها ويمازحها ويقول: ماذا تفعلين بهذا الخنجر؟ قالت: إذا تقدم مني كافر بعجت بطنه بهذا الخنجر، فسمع صلى الله عليه وسلم مقالتها فتبسم ثم دعا لها.
فأقر صلى الله عليه وسلم المرأة على أن تشارك في الحرب عند الحاجة, أما إذا كان هناك فتنة أو مغبة اختلاط، فلا ينبغي أن تشارك المرأة إلا إذا احتيج إليها، وشأن المرأة في القتال مداواة الجرحى والقيام على الأسرى وتقريب الماء والخدمات للمقاتلين.
وفي هذا الحديث: {ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين} يقول أحد المسلمين: لما التقينا يوم حنين رأيت كافراً من هوازن يفتك بالمسلمين فتكاً ويقتل فيهم قتلاً، قلت: لله علي نذر إن أمكنني الله منه أن أقتله، قال: فلما انهزموا وأصبحوا في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدموا يبايعونه على الإسلام, فتقدمت لأسبق هذا الرجل قبل أن يبايع الرسول عليه الصلاة والسلام لأقتله, فسبقني حتى وقف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام, وعلم صلى الله عليه وسلم أني نذرت, فأراد أن يترك لي الفرصة حتى أقتله.
قال: فانتظر فما فعلت، قال: فأسلم الرجل فولى.
قلت: يا رسول الله أريد قتله فإني نذرت، قال: أما رأيتني تأخرت عن قبول إسلامه؟ فلماذا لم تومئ لي يا رسول الله بعينك، قال: {ما كان لنبي أن تكون له خائنة أعين} لأن خائنة الأعين أو الغمض من شيم أهل الخيانة والخداع والمكر والنفاق, أما الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه صادق واضح مخلص لا يريد التواءً في عقيدته ولا في سيرته ولا في معاملته للناس عليه الصلاة والسلام.(265/27)
الدرس الخامس عشر: ذكر الرجل نفسه عند اللقاء ببعض مناقبه
عندما يذكر الرجل نفسه ببعض مناقبه عند اللقاء فإن هذا لا ينقص من أجره ولا من مثوبته شيئاً, فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى الكتائب تتدفق عليه مثل الجبال, قال: {أنا ابن العواتك} وقال: {أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب}.
وانتسب لجده لشهرته في العرب, فهذا لا يثلم في الأجر ولا ينقص في المثوبة، ولذلك يقول أحد الصحابة: التقينا مع الكفار فخرج غلام من الأنصار فرمى كافراً وقال: خذها وأنا الغلام الأنصاري, فأخبروا الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: وما عليه أن يؤجر ويحمد أي: فهو مأجور ومحمود، ولذلك كان كبار الصحابة إذا بارزوا الأبطال أنشدوا فخراً ورفعاً للمعنوية وحماساً وإبداءً للشجاعة.
قال أهل السير ومنهم ابن كثير وابن هشام، التقى مرحب مع علي فنزل مرحب يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فنزل له علي وقال:
أنا الذي سمتني أمي حيدره
كليث غابات كريه المنظره
أكيلكم بالسيف كيل السندره
وخرج سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه وهو لابس سلاحه في غزوة من الغزوات من يقول:
لبث قليلاً يشهد الهيجا جمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل
وهكذا ابن رواحة أنشد في المعركة رضوان الله عليهم جميعاً، فكان شعارهم أن يتقدموا بهذا، وهي سنة عند العرب، يقول الأحنف بن قيس وقد كان يقاتل في سجستان وهو الذي فتح الطريق إلى كابل قبل الجراح بن عبد الله الحكمي، يقول:
عهد أبي حفص الذي تبقى
أن يخضب الصعدة أو تندقا(265/28)
الدرس السادس عشر: شجاعته النادرة صلى الله عليه وسلم
فأشجع الناس وأكرمهم وأحلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم, انظروا إلى شجاعة أبي الحسن علي بن أبي طالب يقول: كنا إذا حمي الوطيس واشتد الهول اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون أقربنا إلى القوم.
يتقون وهم الشجعان بالرسول صلى الله عليه وسلم من ضرب السيوف ووقع السهام وطعن الرماح, فيكون هو أقربهم إلى القوم، وما فر في المعركة ولا خطوة واحدة.(265/29)
الدرس السابع عشر: مناداة الناس بمناقبهم شرف لهم
يقول أهل السير: إذا خطبت قوماً فاذكر مناقبهم ومحامدهم، وذكرهم بأيام الله, فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {يا بني عبد الله -قبيلة من قبائل العرب- إن الله أحسن اسم أبيكم فأحسنوا سيرتكم} فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر العباس أن يقول: يا معشر الأنصار، ثم قال: يا أصحاب الشجرة، يناديهم بذاك اليوم المشهود، يا من أنزلت عليهم سورة البقرة, يناديهم بهذه المنقبة, فللمسلم أن يتحف إخوانه والقوم الذين يدعوهم بمناقبهم ومآثرهم ليكون أشد إقبالاً لهم, وهذا من ذكر المناقب في مجال الدعوة إلى الله عز وجل.(265/30)
الدرس الثامن عشر: ضرب الأمثال
كان الرسول عليه الصلاة والسلام يضرب الأمثال للناس ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم: {الآن حمي الوطيس} وهو أول من تمثل به كما قال أهل السير، وكان عليه الصلاة والسلام يضرب الأمثال للناس كما ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أمثالاً في القرآن يضربها في العقيدة والعبادة والسلوك.
{جاء رجل أعرابي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: أعطني من مال الله الذي عندك لا من مال أبيك ولا من مال أمك، فقام الصحابة عليه، فأسكتهم صلى الله عليه وسلم ثم أعطاه، فلما انتهى من إعطائه، قال: هل أحسنت إليك؟ قال: نعم أحسنت وأجملت جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فذهب أمام الصحابة، فقال: هل أحسنت إليك؟ قال: لا، فأرادوا أن يهموا به فعاد صلى الله عليه وسلم فزاده فدعا له الأعرابي، فقال: أخبر أصحابي بهذا ليزول ما في نفوسهم، فقال هذا أمامهم.
فقال عليه الصلاة والسلام: أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الإعرابي؟
قالوا: لا، قال: مثلنا كرجل كانت عنده دابة فرت منه فأخذ الناس يلاحقونها فما زادوها إلا فراراً.
فقال: يا أيها الناس دعوني ودابتي, فأخذ شيئاً من خشاش الأرض -أي: من خضرة الأرض- فلوح لها به فأقبلت إليه حتى قادها، فلو تركتكم وهذا الإعرابي لفر ثم ارتد ثم دخل النار}.(265/31)
الدرس التاسع عشر: الإلحاح في الدعاء وقت الأزمات
يقول جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] قال ابن القيم: "سُئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله لماذا ذكر الله الدعاء والذكر وقت الأزمات ووقت التحام الصفوف؟
قال ابن تيمية: من عادات العرب والناس ذكر محبوبيهم وقت الأزمات؛ فأراد الله أن يخبرهم أن أحب محبوب عندهم هو الله, فليذكروه في تلك الأزمة أو الضائقة، ثم قال ابن تيمية أما سمعت قول عنترة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فذكرها في تلك اللحظة، فالمؤمنون ذكَّرهم الله أن يذكروه وقت الأزمات, وأحسن الدعاء ما سر صاحبه إليه, وهو وقت الضائقة التي تحل به لأنه يخلص في الدعاء ويلتجئ إلى الحي القيوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى الكتائب قال: {اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك الذي وعدتني} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(265/32)
الدرس العشرون: معجزته صلى الله عليه وسلم في حصبه وجوه الكفار بالتراب
ومعجزاته كثيرة، منها هذا الأمر قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] حفنة من التراب قليلة تغطي اثني عشر ألفاً من المقاتلين، فما يبقى أحد وهم صفوف وراء صفوف وكتائب وراء كتاب إلا تدخل في عينه؛ إنها معجزة من المعجزات التي حفظها التاريخ لرسولنا صلى الله عليه وسلم.
ومن المعجزات أيضاً: حماية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من القتل؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] يقول بلغ الرسالة ولا تخف من الاغتيال فإنك لن تغتال أبداً، قد تعرض عليه الصلاة والسلام لإحدى عشرة مرة محاولة اغتيال ولكنه ينجو منها بإذن الله, وعلم بأن الله يحميه، ولا يستطيع له أحد من الناس فقد عصمه الله.
ومنها: عدم فراره صلى الله عليه وسلم: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84].
ومنها: عفوه وصفحه عليه الصلاة والسلام عن شيبة بن عثمان الذي أراد اغتياله, وعن أبي سفيان , وعن مالك بن عوف النصري , فإنه عفا وصفح، ومن أعظم صفاته صلى الله عليه وسلم العفو والصفح, ولذلك ذكره الله بهذه الصفات وأثنى عليه ومدحه بهذه المنقبات والمكرمات.(265/33)
الدرس الحادي والعشرون: آداب في الحروب
ومنها: النهي عن قتل المرأة والوليد والخادم؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام نادى الأبطال والقواد في كتائبه ومن ضمنهم خالد وقال لهم: {لا تقتلوا امرأة ولا وليداً ولا عسيفاً} والعسيف: الخادم.
ومنها: قتل دريد بن الصمة الشاعر الذي سلف في أول القصة، وكان كبيراً في السن شيخاً وقال لـ مالك النصري: عد بإبلك وبقرك وغنمك، وأمر قومه أن ينزلوا بالسلاح فقط, فعصوه فانهزموا فقال:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
ولما فر مع الناس لحقه رجل سلمي اسمه ربيعة بن رفيع قال: فأدركته فظننته امرأة، فأنزلته من على فرسه فرأيت شيخاً يفهق من كبر السن، فضربته بالسيف.
قال: ويل لك، ما ولدتك أمك مقاتلاً، خذ هذا السيف ثم اضرب به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإني كنت كذلك أضرب الأبطال.
قال: فأخذت سيفه فلما أردت قتله، قال: إذا ذهبت فمن أنت؟
قلت: أنا ربيعة بن رفيع السلمي.
قال: أخبر أمك باسمي, أنا دريد بن الصمة فكم أعتقت لك من أم، قال: فذبحته فلما أتيت إلى أمي.
قالت: فضيحة لك بقية اليوم، أعتقني وأعتق عماتك الثلاث, وأطعمنا من جوع فقتلته.
قال: يذوق نار جهنم لأنه مشرك.
ومنها: اشتشهاد أبي عامر الأشعري في أوطاس فإنه حضر المعركة رضي الله عنه وأرضاه وضربه مشرك في ركبته بعد أن قتل تسعة من أبطال المشركين, ووقف له العاشر فضربه في ركبته فخرج منها الماء فمات، فقال لابن أخيه أبي موسى: اذهب إلى رسول صلى الله عليه وسلم وبلغه مني السلام وقل له: يدعو لي.
قال أبو موسى: فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته في غرفة ضيقة قد أثر الحصير في جنبه، فقلت: يا رسول الله! قتل عمي أبو عامر الأشعري وهو يبلغك السلام ويقول: ادع له.
فقام عليه الصلاة والسلام إلى ماء فتوضأ ثم استقبل القبلة، فقال: اللهم اغفر لعبدك أبي عامر ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم اجعله من ساكني الجنة, وارفعه على كثير ممن خلقت وفضله عليهم تفضيلاً، قال أبو موسى: فلما سمعت هذا الدعاء وقفت بجانبه صلى الله عليه وسلم فقلت: وأنا يا رسول الله، لأنها فرصة لا تتعوض.
فقال صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم رافعاً يديه إلى القبلة: واغفر لـ أبي موسى وأكرم نزله ووسع مدخله.
فكان الرسول والمرسل ظافرين بدعاء الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومنها: تأليف الناس بالمال: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ألف هؤلاء لا لحب فيهم ولا لإيمانهم ولا لجهادهم، لكن ليدخلوا في دين الله أفواجاً, فإنهم ما دخلوا إلا بالنوق الحمر وبالمال, فللمسلم أن يتألف بعض الناس بشيء من الهدية إذا دعاه, أو بالمال أو بالوليمة، فإن من عباد الله من لا يدخل الجنة إلا بالولائم.(265/34)
الدرس الثاني والعشرون: مع الأنصار
ومنها: مكانة الأنصار وفضلهم وأنهم من أفضل عباد الله, وأن من علامة الإيمان حب الأنصار, ومن علامة النفاق بغض الأنصار، فحبهم عروة وثقى عند الله، وبغضهم نفاق وريبة وشك نعوذ بالله من بغضهم، ونشهد الله على حبهم, ونسأل الله أن يحشرنا في زمرتهم، وفي ذلك يقول لهم صلى الله عليه وسلم في آخر خطبته: {يا معشر الأنصار إنكم سوف تلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض} معنى الكلام: أن الناس سوف يستأثرون عليكم بالدنيا، فاصبروا على الفقر والخصاصة وعلى الأثرة حتى تلقوني على الحوض المورود, والذي طوله شهر وعرضه شهر وعدد آنيته كنجوم السماء, من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً.
قال أنس وهو يبكي وهو يقص الحديث: [[قال لنا نصبر فوالله ما صبرنا]].
وقام معاوية بن أبي سفيان يتكلم في الأنصار رضي الله عنه وأرضاه في الشام فاعترضوا عليه فسكت عنهم فما أجابهم.
فقال أحدهم: -أظنه أبا سعيد أو عبادة بن الصامت - إن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: إنا نلقى بعده أثرة, قال: فما قال لكم رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: قال لنا: اصبروا, قال معاوية: فاصبروا إذاً، قالوا: نصبر ونستعين بالله أو كما قالوا.(265/35)
الدرس الثالث والعشرون: الحذر من الاغترار بالدنيا
إن الدنيا حلوة خضرة, والمال لا يعطى لفضل الإنسان، وإذا أغدق الله على إنسان مالاً فليس ذلك لعظم منزلته في الإسلام, لكن يبتلي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالغنى والفقر, فكم من تقي لا يملك عشاء ليلة، وكم من فاجر يتمتع بقصور من الذهب والفضة، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32].
انتهى هذا الحدث التاريخي الذي رواه لنا الإمام البخاري فشكر الله له سعيه، وأجزل مثوبته، وتغمده الله برحمته، وجمعنا الله وإياكم كما اجتمعنا في هذا المكان في مستقر رحمته عند مليك مقتدر: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].
أسأل الله أن ينضر وجوهنا ووجوهكم بسماع حديثه صلى الله عليه وسلم, وأن يتحف قلوبنا بالحكمة, وأن يفقهنا في الدين, وأن يزيدنا علماً وتوفيقاً وفقهاً ورشداً وهداية.(265/36)
التوحيد
بدأ المؤلف بطرح طرق إثبات التوحيد عند أهل السنة والجماعة، ثم ذكر أسباب عدم إدراك التوحيد الخالص، وعرض بعض خرافات الصوفية الذين أشركوا مع الله تبارك وتعالى.
وبين أن القرآن بقصصه وأحكامه وأمثاله توحيد لله عز وجل، وقد تحدى الله جميع البشر بأن يخلقوا كخلقه.
واستعرض أساليب القرآن في تعليم التوحيد للناس، وطريقة القرآن في عرض الآيات، وبين أثر المسلمين في الساحة، وأن ضعفهم وقوتهم أمام عدوهم بحسب توحيدهم لله تعالى، وأن قوة الكفر ليست أمام الموحدين إلا كما قال الله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) [العنكبوت:41].(266/1)
أهمية التوحيد
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين, والصلاة والسلام على إمام المتقين, وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
فعنوان هذه المحاضرة "التوحيد"، ونحن بحاجة إلى أن نتكلم عن التوحيد دائماً، ونسمع الحديث دائماً, وقد تطور الشرك في هذا العصر؛ فجدير بالمؤمن أن يطور أساليب عرض التوحيد للناس, فيتكلم لهم دائماً عن هذه القضايا كما تكلم القرآن.(266/2)
طرق إثبات التوحيد عند أهل السنة والجماعة
ويثبت التوحيد عند أهل السنة بثلاث طرق: الفطرة, وآيات الله الكونية, وآيات الله الشرعية.
أما الفطرة: فالله فطر الناس على التوحيد, فكل مولود يولد على الإسلام, وكل مولود يقع رأسه على الأرض من بطن أمه إنما يقع على لا إله إلا الله, قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30] فالإنسان أخذ الله عليه الميثاق؛ أن يكون موحداً مسلماً مؤمناً؛ فيسقط من بطن أمه على هذا التوحيد.
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه, فيبدأ الشرك بعد الميلاد, وتبدأ الدراسات الشركية والتأثير الوثني على الإنسان وهو في الأصل موحد بعد أن تأتي به أمه.
وسوف أستعرض -إن شاء الله- معكم آيات القرآن عن التوحيد، بخلاف التبويب الذي يسلكه بعض المؤلفين، لنرى كيف عرض القرآن التوحيد.
الطريق الثاني من عرض التوحيد: طريق الآيات الكونية.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
السموات الأرض الجبال الوهاد الماء الهواء الضياء كلها تدل على الله, وتشهد أن لا إله إلا الله, وتلقنك درساً من دروس العقيدة التي لا تنساها، قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20] ما لهم لا ينظرون؟!
وما لهم لا يؤمنون؟! وما لهم لا يتدبرون؟!
كل الكائنات تدل على الله, والله جعلها دليلاً أصلياً في القرآن، وسوف أستعرضها معكم.
الطريق الثالث: طريق الآيات الشرعية في القرآن الكريم، فيعرض سُبحَانَهُ وَتَعَالَى التوحيد في القرآن، بل القرآن كله توحيد, حتى القصص والأمثال والأحكام تختم بالتوحيد أو تبدأ بالتوحيد.
وإنما طرقت هذا الموضوع وقد يقول قائل: أتتحدث عن التوحيد وليس أمامك إلا موحد؟!
فأقول: إن غبش التصورات في العالم الإسلامي أوجب على الداعية والمتكلم وطالب العلم أن يكرر هذا الموضوع وأن يوضحه للناس.(266/3)
أسباب عدم إدراك التوحيد الخالص
والمسلمون اليوم مليار، لكن قليل منهم من يعرف التوحيد, فهم يصلون ويصومون ويزكون ويحجون ويعتمرون, ولكن في تصوراتهم غبش, ولا يعرفون التوحيد الخالص, فإن الناس أحد ثلاثة أشخاص:
1 - إما مسلم معه هوية، ولكنه مغزو في فطرته وعقله من الغرب والشرق, فهو ممسوخ, قد يصلي لكن لا يتصور هذا التوحيد التوكل الخوف الرجاء الرغبة الرهبة فهو غربي من داخله، وفي ظاهره مسلم يتكلم بلا إله إلا الله لكنها في قلبه ميتة، ما تصور أثرها، ولا عرف مقدارها، وما أدرك منزلتها.
2 - أو رجل جاهل في البادية يصلي ويصوم، لكن أدنى ذرة تقدح في توحيده, يذهب إلى الكاهن أو الساحر أو المشعوذ، يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد} أي: خرج من الملة, وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من أتى كاهناً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً}.
وأنا أعرف -وقد رأيت- أن هذا الشرك في القرى والبوادي متأصل منتشر، ومع ذلك يدعون أنهم موحدون ويصلون ويصومون، فما ينفعهم ذلك.
3 - أو شيخ من مشايخ الصوفية الطرقية، الذين وقفوا للناس في الزوايا بالمرصاد, فهم أعداء التوحيد, معهم عمائم مكورة، ومسابح طويلة، ورقع مرقعة, ويقولون: أنتم تتعلمون من عبد الرزاق، وتقولون حدثنا عبد الرزاق، ونحن نأخذ علمنا مباشرة من الرزاق: حدثني قلبي عن ربي وذلك كذب! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5].
وهم أشبه بأحبار ورهبان بني إسرائيل، صدوا عن منهج الله, لا يعرفون التوحيد؛ يجعل أحدهم يده مثل الحجر الأسود، فيمد يده للجماهير يقبلونه ويقدسونه ويتمسحون به، ويأخذون ماءً من آثار وضوئه, ويقولون: شافِ مرضانا، ويعبدونهم ليقربوهم من الله زلفى, مثل اللات والعزى وهبل ومناة الثالثة الأخرى تماماً، فيصدون الجماهير عن منهج الله.
وأنا أعرف أن في المسجد من ينقل هذا الكلام, وأنا في هذا اليوم وأنا صائم أحمله أمانة أن ينقل هذا الكلام إلى مشايخ الطرقية وإلى الصوفية ليخبرهم أنهم على ضلال, إن لم يخلصوا توحيد الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(266/4)
من أدلة التوحيد في القرآن
لكن اسمحوا لي أن أستعرض أدلة القرآن، وفيها ما يقرب من مائة آية صحيحة في هذا المبدأ, ولو أن بعض العلماء يقول: ثلاثة أرباع القرآن توحيد, وبعضهم يقول: كل القرآن توحيد, وهذا صحيح.
قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
يا محمد! قل للناس يا محمد! قل للبشرية: الله أحد, كيف تدرك العقول أن الله أحد ولا تعبد أحداً غيره؟ لأن الجاهلية القديمة تعبد الأصنام والأوثان، والمانوية تعبد الليل والنهار, وبعضهم الضياء والظلمة, وبعضهم النار والنور, فأتى صلى الله عليه وسلم يقول: الله أحد, فمبدؤه: الله أحد.
وعلَّمها أصحابه، ولقنها صلى الله عليه وسلم بلالاً في قلبه، فيسحبونه في الرمضاء، فيقول: أحد أحد, ويضربونه فيقول: أحد أحد.
فمتى نعرف نحن هذه الجملة؟
إنها هي التي إذا ملكناها دمرت كل شيء بإذن ربها، فنكون على عقيدة خالصة.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فليس له شريك, والجاهلية العصرية العلمانية الآن تتخذ إلهاً من دون الله، فهم لا يعبدون الأصنام والأوثان, لكن لهم أصناماً وأوثاناً أخرى, ولهم أسياد يعبدونهم, ولهم أوثان من البشر, ولهم شركيات أعظم من شركيات الجاهلية, فالعلم عند العلمانية طاغوت مثل الصنم، يعبد من دون الله, لأنهم فصلوا العلم عن الإيمان.
والرسول عليه الصلاة والسلام أتى بالعلم والإيمان كما في الصحيحين: {مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل الغيث} والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ} [الروم:56].
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] الذي تصمد إليه الكائنات: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:2 - 4] فهذه السورة ردت على ثلاث طوائف, على اليهود والنصارى والمشركين, وهذه السورة تعدل ثلث القرآن، وهي حبيبة إلى قلوب الموحدين يحبونها ويفهمونها.
وبعض الناس من المسلمين مشرك، تجده يقرأ قل هو الله أحد ولا يفهمها, فغلاة الصوفية، وأهل البدع المنحرفين الضالين يقرءونها ولا يفهمون معناها.
وأحد الصحابة كان -كما في الصحيح- يقرؤها في كل ركعة, فشكوه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال: سلوه: ما له يقرؤها؟ قال: لأن فيها صفة الرحمن وأنا أحب الرحمن, قال عليه الصلاة والسلام: {حبك إياها أدخلك الجنة} وهذه السورة حبيبة عند المؤمنين، قال سبحانه عن الكفار وعن مفترياتهم وأطروحاتهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص:5].
وفي سنن أبي داود أن حصين بن عبيد وفد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم -والحديث صحيح- فقال: {كم تعبد يا حصين؟ قال: أعبد سبعة, قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: من لرغبك ولرهبك؟ قال: الذي في السماء, قال: فاترك التي في الأرض واعبد الذي في السماء} سبحانه!! هو الذي ينفع ويضر, ولا يكشف السوء والبلوى إلا هو, يعرفها الإنسان حتى المشرك إذا أتته الأزمات, قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:22].
الذين يذهبون إلى قبر أحمد البدوي وزينب، وإلى قبر عبد القادر الجيلاني، وإلى ضريح إقبال محمد علي جنة وأمثالهم في العالم الإسلامي ويتوسلون، هؤلاء مشركون, قالوا: ما نعبدهم إلا حباً، وقبر الحسين، الذي يطوفون به هذا من الشرك الذي لا يختلف فيه, ولا نقول ذلك من أنفسنا لكن من مفهوم الكتاب والسنة أنه شرك, فالجاهل يعرف أن الصنم لا ينفعه ولا يضره، قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
والكفار يقولون لما قال عليه الصلاة والسلام: {قولوا لا إله إلا الله تفلحوا} قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص:5].
ويقول سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22] ولو كان في الدنيا وفي المعمورة إله آخر مع الله لفسدت, لأن هذا يأمر بشيء وهذا يخالفه, وهذا ينهى عن شيء وهذا يخالفه, فالفطر تقول: لا يستوي إلهان اثنان في العالم, بل لا بد من انفراد إله واحد وهو الله، وهو السر الذي تكلم عنه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كلٌ يقول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} [الأعراف:59].
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] قال عدي بن حاتم والحديث صحيح: {يا رسول الله! ما نعبدهم -يقول: لا نسجد لهم ولا نصلي- قال: أليس يحلون الحرام فتحلونه ويحرمون الحلال فتحرمونه؟ قال: بلى.
قال: فتلك عبادتهم}.
إذا اتخذ الإنسان شيخاً، يدله على التحريم والتحليل بدون دليل، ويتقرب إليه، ويقبل يديه من باب التقديس على أنه ينفع ويضر ويشافي ويعافي, بل بعضهم أجلس معه في الحرم هنا وأسألهم عن مشايخهم, وكيف نفعهم وتأثيرهم في العالم؟
بعضهم يقول: أسباب نصر المجاهدين بركة الشيخ, والشيخ في زاوية بينه وبين الجهاد ألفي كيلو متر, وبعضهم يقول: إذا دعا الشيخ أو إذا مسحنا يد الشيخ نزل المطر, وكانت ابنتي مريضة فمسها الشيخ فتشافت بلا علاج, وهذا أكبر شرك في العالم, وهذا يُضحك منه الخواجات الحمر ويقولوا: انظروا إلى الإسلام!! وهناك فيلم في أمريكا يعرض الخرافات الصوفية ويقول: انظر إلى الإسلام, فنقول: الإسلام بريء من هذا، وهذا ليس من الإسلام.
أهذا الإسلام؟!
أهذا الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم؟!
نبرأ إلى الله اللهم إنا نبرأ إليك من هذه الطرق والشركيات والخرافات التي شتتت العالم الإسلامي.
ويقول سبحانه في دليل الإلزام في القرآن في سورة الطور: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] وهذا إلزام لأنه ما ترك لك منفذاً فألزمك بهذا المنفذ.
فالاحتمالات: أم خلقوا من غير شيء؟ لا.
أم هم الخالقون؟ لا.
بقي احتمال ثالث أن الله خلقهم, وهذا الإلزام عجيب، وهي طريقة منطقية يسلكونها, يقولون: أنت لست قائماً ولا ماشياً، فما هو الاحتمال الثالث؟ هو أنك جالس.
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] فلا خلقوا أنفسهم، ولا خلقوا من غير شيء, فيبقى احتمال ثالث عند العقلاء، وهو أن الله هو الذي خلقهم سبحانه.
ويقول الله عن سر من أسرار التوحيد اتصف به وهو خاصية له سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] سبحانه! كل ما سواه يموت إلا هو, وقال: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93] وقال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] لكنه اختص بأنه الحي الذي لا يموت, وبعض أهل العلم يقول: الاسم الأعظم هو الحي القيوم, فهو لا يشترك معه أحد فيه, لأن حياته دائمة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقدرته مستمرة: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] وعرف بمفهوم المخالفة من الآية أن من اتخذ من دون الله إلهاً آخر، فإنما اتخذ ميتاً يفنى.(266/5)
طريقة القرآن في عرض آيات التوحيد
وأنا قلت لكم في بداية المحاضرة: لا أعتمد على التقسيم المنطقي أو تقسيم بعض المؤلفين في كتبهم، بل أعرض التوحيد عرضاً على طريقة القرآن, فالقرآن مرة يُحدثك عن آيات الله في الكون وهو يتكلم لك في التوحيد, ومرة في الحدائق، ومرة في البساتين، ومرة في خلق الناس، ومرة في الحيوانات, وهو يريد أن يحدثك عن التوحيد.
ويقول الله سبحانه: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] وهذا يسمى عند المفكرين العصريين: تحدٍ سافر.
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] اخرج وانظر في الناس، والفواكه، والخضروات، والأحياء، والمخلوقات.
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] أروني خلق الأصنام وأروني خلق الأوثان وأروني خلق الطرقية وأروني خلق العلمانية والشيوعية الكافرة, أروني ماذا خلقوا في الكون ولو ذبابة أو بعوضة, فعلم من ذلك أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى انفرد بالخلق.
وقال سبحانه: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60] فمن تطوير أساليب تعليم التوحيد أن تأخذ طلبتك من الفصل، وتدخل بهم الحديقة والبستان، وتكلمهم عن التوحيد وأنت في البستان, ولا يكفي فقط أن تشير بالطباشير على السبورة، وهذه قد تكون نافعة في جانب، لكن اخرج بهم, وحدثهم عن الزهور والطل والندى والماء والشجر والحجر.
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
والنحل قل للنحل يا طير البوا دي ما الذي بالشهد قد حلاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
فالحمد لله الكريم لذاته حمداً وليس لواحد إلاكا
طريقة القرآن عرض الآيات للناس، وهذه نسيها التعليم والإعلام, فالتعليم الإسلامي نسي هذه الطريقة, وهو أن يؤتى بالشباب والناشئة فيربطون بالكون على أنه آية من خلق الله، ويردهم إلى معرفة الله, فينشأ الشاب متفكراً في آيات الله عز وجل.
يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66] يقول الرازي في هذه الآية: الخطاب موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, فالله يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] كيف وهو الذي أتى بالتوحيد؟!
كيف وهو الذي علَّم العقيدة الصحيحة؟!
كيف وهو الذي أجرى دمه ودموعه وحمل السيف ليرفع لا إله إلا الله؟!
ونشرت دين الله يا علم الهدى ورفعته حتى استقام هناكا
قال من باب "إياك أعني واسمعي يا جارة" فما دام أنك إذا فعلت ذلك عُذبت وكنت من الخاسرين, فكيف بالأمة؟ {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].
يا أيها الإخوة! العقيدة في كل البلاد الإسلامية قد تفهم وتحفظ, لكننا نحفظها ونفهمها كما يحفظ الإنسان المسألة الحسابية أو المعادلة الرياضية, نحفظ قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ونحفظ كتب العقيدة وفيها: يضحك ربنا ضحكاً يليق بجلاله.
وفيها: الله يطلع على الكائنات وخائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وفيها: الله يعلم الغيب وأخفى، والسر وأخفى, لكن انظر إلى توحيد هذا الحافظ في حياته، ينظر إلى المرأة، ويشرب الكأس، ويتعامل بالربا، ويزني، ويعق والديه، ويقطع رحمه, فأين أثر التوحيد؟! أمن أجل أنه يحفظ كذا ويقول: هذا توحيد أهل السنة والجماعة يعتبر موحداً؟!
إن التوحيد اعتقاد، وعمل، ونطق, فإذا نقص أحد هذه الأركان الثلاثة نقص بحسبه, ولما لم يتربَّ الناس على التوحيد والإيمان بقوة أتت هذه المخالفات حتى من رجل قد يحفظ القرآن كله والسنة كلها.
ويقول سبحانه وهو يتكلم عن التخلية والتحلية, التخلية من الشرك والتحلية بالتوحيد, وأسلوب القرآن التخلية أولاً، فهو ينسف الساحة من الأوثان، ويدمرها تماماً، ثم يأتي بتقرير التوحيد، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].
وهذه تنطبق على من اتخذ من دون الله إلهاً آخر ولو كان صنماً أو شيخاً أو جهة أو لعبة أو حكومة أو كياناً أو مسئولية أو دائرة.
فهذه من لمسات التوحيد على القلوب التي يشهدها الإنسان، والتي عرضها القرآن عرضاً كثيراً في غضون آياته، قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام:17] يجدها المريض، والمبتلى والذي أصيب بكارثة، حتى إن الإنسان يجد قوة التوحيد في بعض الأزمات التي تمر به, وقد رأينا من بعض الشباب أنه ما عرف التوحيد الخالص إلا يوم أصبح على السرير الأبيض في المستشفى, أو أصابه حادث انقلاب بسيارة, أو أصابته كارثة, أو أصابه مرض عضال فالتجأ إلى الله.
وقد عرضتُ قبل ثلاث محاضرات قول الشاعر المجرم لأحد السلاطين وهو يمدحه:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
فعلمه الله من هو الواحد القهار, ومن هو الذي ينفع ويضر، فأصابه مرض مؤلم فأخذ يعوي على فراشه كالكلب، ويقول:
أبعين مفتقر إليك نظرتني وأهنتني وقذفتني من حالقِ
لستَ الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
لا إله إلا الله!
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يُعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} [الأنعام:17] هذه الأحداث التي تمر بالإنسان إن لم تزده توحيداً فما صلح, وأنتم تعرفون قصة أهل " الله يتجلى في عصر العلم " لما أبحروا، وكانوا أمريكان، ورسبت بهم السفينة، وانقطعت الاتصالات؛ فالتجئوا إلى الله, كل الفطر تعرف الله, وأنقذهم الله فأسلموا, ويقول سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] هكذا العرض القوي الصادق, وهذه هي الأساليب القوية المؤثرة في الناس: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] المضطر الذي يبلغ بحاجته إلى من يعينه، وفي حاجة من الضرورة الماسة ما بعدها ضرورة, فمن الذي يجيب المضطر؟
إنه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ويتخلى المشركون عن الأوثان والآلهة التي اتخذها الناس وقت الحاجة، ويلتجئ القلب إلى الله ويتخلص من غير الله، فالله يقول: من الذي يجيب المضطر إذا دعاه؟ من الذي يكشف السوء؟ من الذي يجعلكم خلفاء في الأرض؟ أإله مع الله؟ قليلاً ما تذكرون.
إذاً: أنتم ما عندكم ذكر ولا فكر.
ويقول سبحانه وهو يعرض آيات التوحيد في الكون: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:9 - 11].
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً} [ق:9].
انظر إلى نزول الماء يعلمك ويلقنك دروساً من التوحيد.
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق:9 - 10] لله دره من أسلوب! قال: باسقات، ولم يقل: طويلات, لها طلع ولم يقل: ثمر، قال: نضيد ولم يقل جيد أو طيب، باسقات طلع نضيد، وهي أساليب منتقاة؛ لأن القرآن لا يأخذ الأساليب المبتذلة في السوق.
قال الله: فمن ينزل ذلك؟ إنه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى, والنخل فيها مدرسة، والنحل كذلك وكل الكائنات.
والعجيب أن الحيوانات تعرف أن الباري هو الله، إلا الإنسان إذا ارتكست فطرته, الهدهد يلقي محاضرة عن التوحيد على سليمان, قال: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:22 - 24] لماذا يسجدون للشمس من دون الله؟
قالوا: عرف الهدهد الله، فألقى محاضرة على من عرَّف بالله، وهو سليمان عليه السلام.
ويقول سبحانه: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] والظالم هو الذي يضع الشيء في غير موضعه, فالله أمر كل مسلم ألا يدعو إلا الله, وألا يستجير إلا بالله, وألا يستغيث إلا به, وفي الحديث الصحيح عند الترمذي وأحمد: {وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك, رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
أمة مسلمة عددها مليار، تقول: لا إله إلا الله، لكن تعال في الطواف تر تمائم معلقة، وحروزاً ومسبحة طولها متران، يقول: هذه فيها ذكر وهو ذكر غير شرعي, من صلاة التراويح إلى صلاة القيام وهو يقول: حي حي حي!! كأنه يطرد غنماً, أو: هو هو هو!! وهذا نباح كلاب, أو: يا لطيف يا لطيف يا لطيف, ودعاء الاسم المجرد لا يكفي، مثلاً: يطرق عليك طارق: يا محمد يا محمد, من علمهم هذا؟
إنهم أولئك الذين جهلوا رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام.(266/6)
التوحيد وأثر المسلمين في الساحة
فلذلك انظر إلى أثر المسلمين في الساحة، ينهزمون أمام الأعداء, وما كان للموحدين لو كان هناك موحدون أن ينهزموا أمام إسرائيل.
فأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارها الخطب
إذا تبدت لنا الميراج تقصفنا سعت لتسقطها الصيحات والخطب
شجباً ونكراً وتنديداً بغارتها الله كم نددوا يوماً وكم شجبوا
خالد بن الوليد مع ثلاثين ألفاً أو ما يقارب ذلك, والروم مائتان وثمانون ألفاً فسحقهم؛ لأن خالداً يعرف لا إله إلا الله, ويعرف التوحيد الخالص، ويتصل بالله مباشرة, أن يكون: هذا علماني، وهذا فيه ملعقتان من الشيوعية، وهذا مسلوخ من أصله كأنه فرنسي, وهذا لا يعرف من التوحيد شيئاً, وهذا جاهل لا يعرف شيئاً, وهذا طرقي صوفي لا يعرف التوحيد الخالص، والنسبة التي تعرف التوحيد قليلة جداً.
أقولها والوثائق موجودة والأدلة والبراهين.
وهذا إبراهيم عليه السلام شيخ التوحيد, أستاذ المدرسة الخالدة في فن التوحيد, لا يعرف التوحيد مثله ومثل رسولنا عليه الصلاة والسلام, وهو أشبه الناس به حتى في الصورة الظاهرة يقول: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] وهو يتحدى الأصنام, تحداها بالقول والفعل, تحداها بالقول ثم أخذ الفأس فكسرها: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80] ولا يفعل هذه الأمور إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى, والناس يقولون هذا, تقول: من خلق السموات؟ قال: الله.
وتقول: من خلق الأرض؟ قال: الله, لكن إذا مرض ابنه إذا به يذهب به إلى المشعوذ والكاهن والساحر وقال: ابني، أو يا شيخ امسح عليه مسحة، أو انظر إليه نظرة.
ذهب بعض المبتدعة إلى بعض البلاد الإسلامية فأخذوا يتبركون بالشيخ، ويمسحون بشدة, فلما كثر الزحام أخذوا من بعيد يقولون: الله أكبر ويمسحون ويسلمون! أهذا هو التوحيد؟ أهؤلاء محسوبون على المسلمين؟
إن هؤلاء لم يصلهم التوحيد, عندهم أحكام الحيض والغسل من الجنابة وصلاة الجمعة, لكن التوحيد الخالص لم يصل, وما عرفوه تماماً، وهي مسئوليتكم أنتم يا سفراء المسلمين ويا دعاة المسلمين!
ويقول سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء:56] فلا يملك كشف الضر إلا الله، فيتحداهم الله سبحانه، يقول: ادعوا الهيئات، وادعوا المشايخ، وأهل الزوايا، والاتجاهات والأطروحات في الساحة, ادعوا أذناب استالين ولينين وماركس أن يكشفوا عنكم الضر, لا يستطيعون.
ويقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف:194] فهم أمثالكم تماماً, فادعوهم إن كنتم صادقين في الأزمات ليكشفوا عنكم الضر, وهذه علامة فارقة بين الله عز وجل القادر وبين ما دونه.
وقال سبحانه: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] يقول بعض المفسرين، وصحح ذلك ابن كثير: إن الرسول عليه الصلاة والسلام صلَّى بالأنبياء يوم أسرى الله به.
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم
لما خطرت به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
كنت الإمام لهم والجمع محتفل أعظم بمثلك من هاد ومؤتمم
فصلّى بهم عليه الصلاة والسلام والتفت؛ لأن الله قال له: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الزخرف:45] يقول بعض المفسرين وليس كل المفسرين: إذا اجتمعت بهم فاسألهم هل جعل الله من دونه آلهة تعبد؟
فلما سلّم عليه الصلاة والسلام ورأى وجوه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام رأى ضياء التوحيد والإيمان يشع, فاستحيا أن يسألهم؛ لأن الأمر ظاهر, ومعلوم بالضرورة، فسكت عليه الصلاة والسلام, فهذا قول بعض المفسرين.
وقال سبحانه: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الشعراء:213] وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].
سمعت أستاذاً في العقيدة بيض الله وجهه -لا يزال حياً- يقول في شريط له وهو يتكلم عن الشيوعيين والحداثيين في الساحة: يا حداثيون يا شيوعيون أنتم ما تخافون من آلهتكم لأنهم أصبحوا رماداً، أصبح الواحد منهم حماراً منتناً كـ استالين ولينين وماركس وانتهوا, لكن نحن إذا حللنا أو رحلنا خفنا من الله الحي: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] عبدوا الذوات والأشخاص والأصنام وفنت، وبقي الله حي لا يموت سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وقال سبحانه: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الأعراف:158] وهذه من صفاته سُبحَانَهُ وَتَعَالى, فالأمور المشتركة قليلاً ما يتحدث عنها في القرآن, مثل: العليم يأتي صفة، لكن الإنسان له علم يليق به ولله علم, فلو كان موسى عليه السلام يوم قال له فرعون: من ربكما يا موسى؟ قال: ربي عليم, قال: وأنا عليم, لذلك ما أتى بها موسى, لأن الأمور المشتركة ما يجادل بها, وإذا قال: من ربكما؟ قال: حكيم, قال: وأنا حكيم, وإذا قال: من ربكما؟ قال: الحي, قال: وأنا حي, لكان نازعه بالحجة, ولكان أمسكه بتلابيب ثيابه، ولكان الناس سلموا لفرعون, لكن قال موسى -حتى يقول الزمخشري: لله دره من جواب! -: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] وقد مرَّ شرح هذا فيما سبق في (سورة العصر منهج حياة).
ويقول سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم:40] الله هو الذي خلقكم، وهذا انفراد لله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم:40] وأنا أعرف أن الكثير من الناس يقولون: هذا أمر معلوم, لكنني أقول: إن هذا لن يكون معلوماً على الحقيقة حتى يعمل به، ويدخل في كياننا وحياتنا ومعاملاتنا وليلنا ونهارنا, وقال سبحانه: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم:40] هل تجدون أحداً يفعل ذلك؟
هل تذكرون لنا اسماً واحداً يفعل مثل هذه الأمور؟ لا لا.
وانظر إلى عرض القرآن للتوحيد فإنه عرض جميل, وعرض التوحيد بالعصا لا يصلح, الشباب الناشئة في الابتدائية، إذا عرض لهم التوحيد بالعصا والهراوة لا يفهمون.
صحيح أنه يلقنها ويحفظها حرفياً، وتبقى معلوماته عن التوحيد بذهنه، لكنه لا يعيشها في واقعه, ولا يتأثر بها, ولا ينشأ مؤمناً؛ ولذلك وجد من شبابنا من يحفظ القرآن ولا يصلي, ومن يحفظ القرآن ويتناول المخدرات, لأن الإيمان لم يصل إلى قلبه, والتوحيد ليس مجرد تلقين, لكن طريقة القرآن إحياء التوحيد بعرض جميل، يقول سبحانه: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً} [النبأ:6 - 14] ما أجمل هذه الصور! كل كلمة تحتاج إلى محاضرة, إنها صور يشاهدها الإنسان في الكون, إن الفلاح في المزرعة وداخل البستان, والناظر إلى الحدائق الغنَّاء يشاهد آثار الله وآثار التوحيد في الكون.
يقول سبحانه: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65].
بعض الناس اليوم يدَّعي علم الغيب عليه لعنة الله, ويستخدم الجن، فيضل الناس بهذه الفرية الكبيرة الكاذبة, فيذهبون إليه لأنه بزعمهم يعلم الغيب, والله يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] فلا يعلم الغيب إلا الله, ومن ادعى أنه يعلم الغيب فهو كاذب, والله يطلع بعض رسله على بعض الغيب منه سُبحَانَهُ وَتَعَالى, أما من ادَّعى علم الغيب فقد كذب واستخدم الجن لذلك، وهو منحرف عن شريعة التوحيد وملة لا إله إلا الله.(266/7)
التوحيد والإعلام
يقول سبحانه عن الآلهة والذوات والشخصيات والكيانات: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41] هذه التصورات والكيانات، الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، والمعسكر الشرقي والمعسكر الغربي، والقوتان العُظميان التي يزخرف إعلام المسلمين قوتها ويضلل بقوتها, وهو مسئول وحده عن تضخيمها في أذهان الناس، حتى عند بعض العامة أن أمريكا أو روسيا قوة لا تُغلب، قال تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] ثم يقول سبحانه: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ} [الأنعام:113].
فهذه الزخرفة الإعلامية هي نقض للتوحيد صراحة, يصفون الكافر أنه لا يتقهقر، وأنه اكتشف كل شيء، وأن بيده كل شيء, فينشأ الناشئة يرون أن هذه القوة ما بعدها قوة، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يقول: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41] فهم مساكين!!
هذه القوة يمكن أن يهلكها الله في لحظة سان فرانسيسكو التي زلزلت قبل ما يقرب من سنة في ثوان معدودة سجل جهاز رختر خمس درجات أو أربع درجات، وخسف بجزء من المدينة, عندهم إنذار مبكر، كمبيوتر، قوى نووية، أجهزة متطورة، ولكن كما قال الله: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98] فما علموا!
يقولون: هذه سوء في القشرة الأرضية, نعم في القشرة الأرضية، لكن من الذي كسرها؟ من الذي أجراها؟
من الذي سلَّط عليها هذا الحدث؟
ما أضعفهم! يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن الريح: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] أرسلها على الكفار، فزلزلتهم من أماكنهم يوم حاربوا هوداً عليه الصلاة والسلام, فالقوة بيد الله.(266/8)
التوحيد الخالص
ويقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن التوحيد: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] ويقول: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف:29] ويقول عليه الصلاة والسلام: {يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: من عمل علملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه} ولا يقبل الله عز وجل إلا أن يكون الدين له خالصاً, والرياء من الشرك, وفي الصحيحين: {من راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به}.
وفي الصحيح: أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة: عالم -أو قارئ- وجواد وشجاع, كلهم فعلوا ليقال: عالم, وليقال: جواد, وليقال: شجاع, فيقول الله: خذوهم إلى النار فتسعر بهم النار، والعياذ بالله.
ويقول سبحانه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان:43] ويقول: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
يعجبني كاتب مسلم عصري كتب في هذه الآية: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] قال: من أحب لعبة الكرة حتى سيطرت على حبه وقعت عليه هذه الآية, إي والله! بعضهم يعيش مع الكرة ليلاً ونهاراً, يراها في المنام، وهو لا يعطي الدين عشر ما يعطي هذه اللعبة, تشجيعاً وحباً وميلاً، ويوالي عليها ويعادي ويحب ويبغض ويعطي ويمنع، حتى يجعل لون سيارته لون الفريق الذي يشجع وبدلته وبطاقته والميدالية التي يحمل, فأي ولاء هذا؟!!
أيعني هذا خالص التوحيد؟!
والله عز وجل يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] أي: ليلي ونهاري حبي وبغضي عطائي ومنعي, لكن يأتي مشجع كرة ثم يستميت هذه الاستماتة في تشجيع كرته، ونقول: موحد خالص!! وكل وقته للكرة!!
سمعت من بعض الدعاة أن رجلاً كان هلالياً وامرأته نصراوية, فغلب فريقه فريقها فتشاكس معها فطلقها, أهؤلاء موحدون خالصون؟!! أهؤلاء تأثروا بدعوته عليه الصلاة والسلام في حياتهم؟
بل بعضهم يقاتل على فريقه ويغضب له ويرضى ويحب ويبغض, فلا إله إلا الله ما أبعد هؤلاء عن خالص التوحيد!!
{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] لعبة من اللعب، أو كيان من الكيانات، أو عشق من العشق، كلها تناقض التوحيد.
ويقول سبحانه عن لقمان وهو يوصي ابنه أول وصية -ووصيته عجيبة توحيد وعبادات وسلوك-: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
{لما أنزل الله عز وجل قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] شكى الصحابة، وقالوا: يا رسول الله! أينا لم يظلم نفسه؟! قال: إنه ليس ما تعنون -أي: ليست الذنوب- ولكن أما سمعتم قول الله عز وجل: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم}) [لقمان:13]} فأعظم ظلم في الدنيا الشرك, وهو أن تصرف شيئاً لغير الله عز وجل من عبادتك وذكرك واتجاهك وحبك ورغبتك ورهبتك.
وقال سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72].
ركب صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين - ورديفه معاذ - فقال: {يا معاذ! هل تدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم, فلما مشى قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً, ثم قال: يا معاذ! هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: الله ورسوله أعلم, قال: حقهم ألا يعذبهم} أي: لا يدخلهم النار, إذا أخلصوا التوحيد وقاموا بمقتضيات التوحيد وشروط التوحيد، فهذه نجاة لهم من النار, أما المشرك فلن يدخل الجنة, قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وأما من يشرك فلا غفران له.
لكن عصاة من أولي التوحيد قد يدخلونها بلا تخليد
فأهل الذنوب عند أهل السنة قد يدخلون النار.
إن الذي يذهب لينهى الناس عن المعاصي -عن معصية الربا أو الزنا أو الغناء وأمثالها- ثم لا يأتي بالإيمان والتوحيد يخفق تماماً، ولا يصلح له الحال, ولا يكون له نتيجة.
وغفر الله لمن كتب لي رسالة بالأمس، وأشار إلى هذه القضية الكبرى وقد أصاب, تقبل الله منا ومنه، يقول: الحديث في القضايا الجزئية كثير، لكن مسألة التوحيد التي نراها والتي انقصمت لها ظهورنا في الحرم, حيث إن هناك شركيات نراها ونسمعها، وهي مسئوليتكم أنتم يا دعاة الإسلام ويا حماة العقيدة!!
ومن القضايا أيضاً أن عرض القرآن للتوحيد غير العرض الذي يعرض في بعض المؤلفات العصرية, فهو عرض معه حياة وجمال وروعة, فهو يتكلم عن خرير الماء وهو معك في التوحيد, عن الزهر وشذاه, وعن تغريد الطيور, وعن البساتين والحدائق, وهو يتحدث لك عن التوحيد.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
اللهم إنه ليس معنا أعمال صالحة وإننا مقصرون وما معنا إلا (لا إله إلا الله محمد رسول الله) اللهم فأنقذ بها أجسامنا ولحومنا من النار, اللهم أسعدنا بها في الدنيا, اللهم رد المسلمين إلى التوحيد الخالص يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(266/9)
العقيدة الإسلامية
هناك أمر من الأمور الهامة، وقضية من القضايا الكبرى التي عاشها الإنسان وسوف يعيشها، ولابد للإنسان منها ومن المستحيل عند العقلاء في جميع الأمم أن يعيش الإنسان بدونها، وهي قضية العبادة وطرق معرفة الإله الحق المعبود، وفي هذه المادة يتعرض الشيخ بشيءًٍ من التفصيل إلى طرق معرفة الله.(267/1)
طرق معرفة الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وبعد شكري لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن هيأ لنا هذا المجلس الطيب العامر الطاهر، أشكر القائمين على هذه الندوة، والذين بذلوا الكلمات الطيبة والجهد الطيب في سبيل نشر دين الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ومعي في هذه الندوة سؤال يُطرح، وهو من أعظم الأسئلة التي وضعت في الدنيا منذ أنشأها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هذا السؤال ما استطاع أن يجيب عليه أحد حتى جاءت رسل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فأجابت على هذا السؤال.
ومعي في هذه الندوة قضية كبرى، من أكبر القضايا التي عاشها الإنسان ويعيشها، هذه هي قضية العقيدة.
ومن المستحيلات عند عقلاء الأمم أن يعيش الإنسان بلا عقيدة، فلا بد للإنسان أن يعيش على عقيدة يعتقدها، والذين قالوا: لا إله والحياة مادة -وهم الملاحدة من الشيوعيين ومن سار على نهجهم- كذبوا العقل والنقل، وعادوا فناقضوا أنفسهم في اتخاذ عقيدة أو اتخاذ إله، فجعلوا الطبيعة هي الإله، وهذا ما نقل عنهم كـ لينين وماركس ومن سار في مسارهم في هذا الجانب.
إذاً لا بد للإنسان أن يتجه إلى معبود واحد، فرد صمد يصمد إليه، يكون هذا المعبود كاملاً حياً قيوماً فيه صفات الكمال، فمن هو هذا المعبود إذاً؟ هذا ما سوف نجيب عليه في هذا المجلس إن شاء الله.
هذا المعبود الذي نعبده وندعو الناس إلى عبادته هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وطرق معرفته عز وجل خمس طرق أجملها ثم أفصلها:
الطريقة الأولى: الآيات الكونية المعروضة للبصر التي تدل على عظمته سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
الطريقة الثانية: الآيات الشرعية القرآنية، آيات كتاب الله عز وجل، فإنها كلها تخلص التوحيد لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وتدعو الناس إلى عبادته وتوحيده وإفراده بالعبودية.
الطريقة الثالثة: الأحاديث النبوية، وهي أحاديث المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي أتى بأخبار الغيب وما كنا ندري ما الغيب وما نعرف إلا ما نرى، فأخبرنا أن هناك إلهاً حكيماً قديراً حياً قيوماً سُبحَانَهُ وَتَعَالى تقوم به الكائنات ويقوم بذاته عز وجل.
الطريقة الرابعة: الفطرة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] فطرهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى جميعاً موحدين مؤمنين به سُبحَانَهُ وَتَعَالى، عندما خلقهم، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} إذاً فالإنسان حينما ولد كان مفطوراً على الإيمان بالله عز وجل.
الطريقة الخامسة: الضرورة، والضرورة معناها أن القلب عند العقلاء لا يأله ولا يسكن ولا يطمئن إلا إلى إله معبود، ولابد من هذا سواءً كان هذا الإله حقاً أم باطلاً، وقد أسلفت أنه لا بد للإنسان من عقيدة، وهذا ما أجمع عليه العقلاء، فهذه هي الطرق الموصلة إلى معرفة الله عز وجل.
والآن أتكلم على هذه الطرق الخمس إن شاء الله بالتفصيل.(267/2)
معرفة الله عن طريق الآيات الكونية
فأما الآيات الكونية فقد عرضها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لنا في مخلوقاته ودعانا إلى التأمل والتفكر فيها، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101] أي نظرة اعتبار وتدبر لتدلكم على الخالق، فإن المصنوع يدل على الصانع، والأثر يدل على السائر، وأثر الرجل في الأرض يدل على أنه سائر في هذه الأرض، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53] لماذا؟ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] سنريهم آياتنا التي تدل على الوحدانية حتى يتبين لهم أن هذا الدين حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والرسالة الخالدة حق، ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يلوم البشرية كيف لا يتدبرون هذه الآيات ويتأملونها: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] يقول: كم من آية يراها الإنسان ويعيشها ثم يمر عنها وهو معرض!
ولذلك كان التأمل والتفكر والتدبر من أكبر الطرق الموصلة إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأول كلمة نزلت في القرآن كلمة اقرأ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب لكن أين يقرأ؟ قال أهل العلم: يقرأ في كتاب الله المفتوح؛ في الكون والجبال السامقة والتلال الشاهقة والأنهار والأشجار وفي السماء بنجومها وبشمسها وبقمرها وفي الأرض ففي هذا يقرأ صلى الله عليه وسلم، ويقرأ كل متأمل.
ولذلك كثير ممن ادعى الكفر أبت قلوبهم إلا أن تعترف أن هناك مدبراً.
يقول كريسي موريسون عالم أمريكي في كتاب الإنسان لا يقوم وحده: عجيب هذه النحلة كيف تقطع آلاف الأميال ثم تعود إلى خليتها، لا بد أن هناك وازعاً يزعها حتى تعود إلى خليتها، ولكن كتابنا يجيب عليه فيقول: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68] فهو تدبير وتصريف وقدرة إلهية، فالآيات الكونية أكبر دليل على عظمة الله وألوهيته وعلى أن هناك مصرفاً ومدبراً.
وفي كل شيءٌ له آية تدل على أنه الواحد
أجمعت الأمم سواء نطقاً أو اعتقاداً على وجود الله عز وجل، حتى الملاحدة الذين نفوا وجود الله بألسنتهم فقد أثبتوه بمعتقداتهم في قلوبهم، ورأس الملاحدة الذين أنكروا وجود الله هو فرعون طاغية مصر، وقد أثبت موسى أنه يقر بوجود الله كما قال الله: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] فيقول له: أنت تعلم في قرارة نفسك أن هناك إلهاً؛ لأن فرعون أنكر وجود الإله وادعى الربوبية، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ملك قطعة من الأرض صغيرة، وادعى أنه إله وأنه معبود من دون الله، فرده موسى إلى نفسه وقال: أنت تدري في قرارة نفسك ولو لم تنطق بلسانك أن هناك إلهاً.
ولذلك كان المشركون في عهده صلى الله عليه وسلم لا ينكرون وجود الصانع ولا وجود الرب ولم يختلفوا في ذلك، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] أي: إذا اشتدت بهم الأزمات اعترفوا بالإله الحق، فهذا لا خلاف فيه، وهم معترفون من قبل أن يأتي الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك.
ولذلك كان المشركون في مكة يطوفون بالبيت العتيق ويلبون ويحجون ويدعون الله بدعاء يشركون فيه مع الله تعالى فيقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك؛ فهم يعترفون بوجود الله، ولكن يجعلون مع الله نداً وشريكاً، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم ليأمرهم بإفراد الله في العبودية وليدعوهم إلى توحيد الألوهية أن لا إله مستحق للعبودية إلا الله.
فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وجد الناس اتخذوا آلهة مع الله عز وجل، فمنهم من اتخذ حجراً يعبده، والحجر لا ينفع ولا يضر ولا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت، لكن لضرورة قلوبهم لإله معبود اتخذوا هذا، وهذه هي الضرورة التي أشرنا إليها سابقاً فاتخذوا الحجر، وبعضهم كان يجمع تمراً فيعبده ويسجد له مع علمهم أن هناك إله، فإذا قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَ تعبدون هذه؟ قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] أي يتوسطون لنا في طلباتنا ونتوسل بهم إلى الله في رفع حوائجنا إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن الأمم -ولو لم تعبد الله عز وجل- لا بد أن تتخذ إلهاً.
فالهندوس في الهند يعبدون البقر، لماذا؟ لأن عندهم فراغاً روحياً، فلما لم يجدوا الإيمان بالله عز وجل الذي يكمن في هذه الروح فغطوا جانب هذا الفراغ بعبادة البقر، والمانوية فرقة ضالة تعبد الليل والنهار، إذا جاء النهار عبدته وإذا جاء الليل عبدته.
والعرب في جاهليتهم أخذوا الحجارة والأوثان والأخشاب والصخور فعبدوها، يذبحون لها ويتقربون إليها بزعمهم أنها توصلهم إلى الله، فلما جاء صلى الله عليه وسلم قال: هذا خطأ؛ لأن الله عز وجل هو الذي خلقكم ورزقكم ويميتكم ويحييكم ويبعثكم إليه، وهو لا يريد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتوسط إليه في العبادة أحد، وإن كان في تبليغ الدين منه إلينا لا بد من واسطة وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، أما في العبادة فلا واسطة بل لك أن تصلي له في أي مكان، وتدعوه في أي زمان وتتوجه إليه وراء البحار والمحيطات، فهو يراك ويسمعك ويقبل دعاءك.
مكث صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يقرر عقيدة التوحيد التي تنص على إفراد الله عز وجل بالألوهية، أي بالعبادة له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى والدعاء، أما الربوبية فإن المشركين معترفون بأن هناك رباً خلقهم ورزقهم ورباهم ويحييهم ويميتهم، لكنهم اختلفوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام في توحيد الألوهية، فقالوا: كيف نعبد إلهاً واحداً؟! {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] عجيب أن يكون هناك إله واحد يقوم بشأن الكون كله، فالرسول صلى الله عليه وسلم مكث ثلاثة عشر سنة يدعوهم إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، فلا يُصرف شيء من العبادة لغيره عز وجل.(267/3)
معرفة الله عن طريق الآيات القرآنية
إن أعظم قضية نتدارسها في هذه الندوة هي قضية توحيد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالألوهية، أي بالعبودية التي هي صرف العبادة إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا التوحيد الذي دعا إليه الرسول عليه الصلاة والسلام فكان بينه وبين المشركين الحروب الطاحنة حتى نصره الله عليهم؛ لأنه ما انقاد وأذعن له صلى الله عليه وسلم بعد أن أوضح لهم بالبراهين إلا القليل منهم، وأما غيرهم فكذب، فكان بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم الحروب التي كان في نهايتها النصر له صلى الله عليه وسلم وبالتالي نصرة لا إله إلا الله وبقاؤها حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وأعظم ذنب في الدنيا هو الشرك بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن أعظم جريمة يتلبس بها الإنسان أن يشرك بالله عز وجل ويجعل معه إلهاً آخر، فيصرف له شيئاً من العبودية والدعاء والتوجه، هذا أعظم ذنب وأكبر جريمة، ولذلك يغفر الله ما دون ذلك من الزنا والسرقة وشرب الخمر والذنوب التي لا يسلم منها البشر لمن يشاء، أما الشرك بالله فلا يغفره الله أبداً إلا بالتوبة، وصاحبه خالد مخلد في نار جهنم، لا يفتر عنه العذاب، ولا يخرج من النار، ولا يقبل الله منه عملاً مهما عمل ما لم يتب، ولا يشفع فيه الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولا يخرج من النار أبداً ولا بد أن تفهم هذه القضية.
فمن أجل قضية التوحيد، وإفراد الله تعالى بالعبودية أرسل الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وكل رسول منهم يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] ولم يقل: ما لكم من رب غيره؛ لأن قومه معترفون أن الرب هو الله، لكنهم لم يجردوا العبودية له.
ومن أجل هذه العقيدة -عقيدة لا إله إلا الله- دمرت الأرض خمس مرات، دمرها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حينما غضب على أهلها من أجل لا إله إلا الله، مرة بالطوفان، عندما اجتاح الماء الديار والبلاد والجبال والأودية في عهد نوح عليه والسلام؛ لأن قومه كذبوه وما انقادوا للا إله إلا الله، ومرة بالريح الصرصر، ومرة بالصيحة، ومرة بالخسف والمسخ، ومرة بالهلاك بالأوبئة والأمراض؛ لأن أكبر ما يغضبه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يشرك معه في العبودية والألوهية، ولكن بقيت بقايا من تلك الأمم آمنوا بالله عز وجل، فأنقذهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من ذلك الغضب.(267/4)
معرفة الله عن طريق الأحاديث النبوية
الذي أريد أن أطرحه بين أيديكم وأقرره هو أن هذه العقيدة سهلة بسيطة ميسرة لا ألغاز فيها ولا تعقيد، وسوف أضرب على ذلك أمثلة إن شاء الله.
إن إثبات هذا التوحيد لا يحتاج إلى جهد عقلي ولا إرهاق فكري، إنما هو بسيط وسهل وميسر، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعرض الدين والعقيدة في دقائق معدودة، يأتيه رجل مشرك من الصحراء.
وهو جالس بين الناس، كان يعرف أن هناك رباً لكن لا يعرف من هو الذي يستحق العبودية، فأتى ووقف في مسجده صلى الله عليه وسلم وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: يا بن عبد المطلب -ناداه بجده- قال صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك، قال الرجل: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد عليَّ، عنده سؤال لكن لا يدري صلى الله عليه وسلم ما هو هذا السؤال، وهذا السؤال الذي سوف يعرضه هذا الأعرابي البسيط أكبر سؤال في تاريخ الإنسان وأعظم سؤال عرفته الدنيا وسمعت به الأرض.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل ما بدا لك، وتبسم عليه الصلاة والسلام، فقال الرجل: من رفع السماء؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: الله، قال الرجل: من بسط الأرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله، قال: من نصب الجبال؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله.
قال الأعرابي -والناس جلوس- للرسول صلى الله عليه وسلم: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال آلله أرسلك إلينا رسولاً؟ إنه سؤال عظيم يطرح ويسمع به الناس، وهو السؤال الذي أتى صلى الله عليه وسلم ليجيب عليه، قال: اللهم نعم.
فأخذ يسأله بهذه الكيفية وهذه الصيغة (أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة) فأخذ صلى الله عليه وسلم يجيب حتى انتهى هذا الرجل من أركان الإسلام، وفي الأخير أعلن إسلامه في المسجد في دقائق معدودة، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، وأن ما جئت به حق؛ والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص؛ هذه هي العقيدة المبسطة تعرض في دقائق معدودة.
ولذلك يعرض الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لنا في القرآن عقيدة التوحيد في يسر وسهولة وبساطة، لا تحتاج إلى كثرة تفكير ولا تؤدي إلى إرهاق، وإنما يفهمها المسلم بالبداهة سواء قرأ أو لم يقرأ، يعرض الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى آية التوحيد ويقول للناس {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20].
وإنما أتى بالإبل هنا لأنه حيوان يعيش في الجزيرة والعرب هم المنادون أول مرة، فقد بعث منهم محمد صلى الله عليه وسلم فردهم الله إلى هذه المخلوقات، ثم لفت الله أنظارهم إلى السماء من رفعها وسواها؟ من زينها وأبدعها وجعل فيها هذه النجوم الجميلة المتلألئة وهذه الشمس النيرة، وهذا القمر الباهر؟
إن العقل سوف يقول: إنه الله، ويؤيده النقل.
ثم يقول: {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية:19] من نصبها ومن أرساها؟ أجاءت من نفسها بالصدفة؟! أمَّن أتى بها؟ ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:20] من سواها وجعلها مستوية قراراً يعيش عليها الإنسان والحيوان؟ إنه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فالله عز وجل يلفت أنظارنا إلى التوحيد وإلى عرض صور التوحيد في القرآن {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].(267/5)
معرفة الله عن طريق الفطرة
يقول العالم والمفكر ألكسيس كارل: إذا شككت في قدرة الله ووجود الله تفكرت في نفسي، وإنما أعرض هذه الأمثلة لأن الحق ما شهدت به الأعداء، والله يقول: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] يقول: مالكم لا تنظرون في أنفسكم وفي هذا الجهاز المعقد، وفي خلقكم البديع؟ في هاتين العينين والأذنين وهذا اللسان وهذه الأعضاء، من صوركم؟ ومن جعلكم تتكلمون وتذهبون وتأتون وتنامون وتستيقظون؟ إن جهازاً معقداً كالإنسان يدل دلالة كاملة على وجود الله عز وجل وتوحيده عز وجل وأنه مستحق للعبادة.
ولقد أخفقت الديانات المحرفة في عرض صورة حية للتوحيد لأنها تخالف الفطرة.
فـ النصرانية تعرض التوحيد عرضاً مشوهاً تقول: الثلاثة واحد، الله والابن وروح القدس، جلَّ الله عما يقولون، جعلوا عيسى عليه السلام -الذي هو عبد من عباد الله خلقه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- جعلوه شريكاً لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الألوهية، وما اتخذ الله من ولد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، بل خلق عيسى بكلمته تبارك وتعالى وهو عبد لله، فجعلوه ابناً لله ثم شريكاً له في الألوهية هذه هي النصرانية المحرفة.
وعرضت اليهودية التوحيد فشوهته وقالت: عزير ابن الله -وهو نبي من أنبيائه- قالت: هو ابن لله، وجل الله أن يتخذ صاحبة أو ولداً، وسوف أخبركم كيف عرض صلى الله عليه وسلم التوحيد وأخبرنا عن صفات الله عز وجل وعن أسمائه لنعرف من هو الله عز وجل، وقد عرفنا بنفسه في كتابه وفي آياته الكونية.
وصف الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى نفسه في كتابه، وأخبرنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ثم وصف صلى الله عليه وسلم ربه تبارك وتعالى فأخبرنا بصفاته، وصفات الله صفات كمال.
أخبرنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن نفسه أنه حي لا يموت فقال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:56 - 58] فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا يموت، والناس يموتون.
ووصف نفسه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم، لا ينام لأنه يحفظ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كل نفس بما كسبت، وهو الذي قامت بقيوميته وقدرته السماوات والأرض ومن فيهن، فلا ينام ولا تأخذه سنة، وهي أخف النوم، ثم وصف نفسه بأنه رحيم يرحم العبد، وإذا أذنب ثم تاب رحمه الله وغفر له فهو رحيم غفور.
وأنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى شديد العقاب؛ من أذنب وأجرم ثم لم يتب وتمرد على الله وأصر على المعصية عاقبه الله، وأخبرنا أنه غني وأن ما سواه فقير، وأنه لا يحتاج إلى أحد، بل الناس كلهم محتاجون إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ولذلك يسمى صمداً، والصمد هو: الذي تصمد إليه الكائنات؛ أي: تتجه إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وتطلب منه المدد، فهو الغني.
وأخبرنا أنه قوي متين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لا يضعف، وغيره ضعفاء مقهورون مربوبون.
وأخبرنا عن نفسه -وهي القضية الأولى- أنه واحد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولم يتخذ صاحبة أي: ليس عنده زوجة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولا ولداً؛ لأنه لا يحتاج إلى ذلك.
وأخبرنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه على كل شيء قدير، فكل ما يريده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه يقع لا محالة، فأمره في كلمة كن، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] في كلمة واحدة ينفذ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ويجري ما أراد، فهو الحي الذي لا يموت ولا ينام ولا يفتقر ولا يضعف سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذه صفات الكمال نثبتها لله عز وجل، لكنه لا يشابه المخلوقين تبارك وتعالى، فله صفات تخصه، وللمخلوق صفات تخصه.
من أعظم صفاته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى صفة العلم، فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم السر وأخفى، يعلم السر وما يضمره الإنسان في قلبه مما هو أخفى من السر.
وما هو الذي أخفى من السر؟ هو الأمر الذي يريد أن يفكر به الإنسان ولكنه لم يفكر فيه إلى الآن، أي حتى الإنسان لا يعلم ذلك، لكن الله يعلم أن هذا الإنسان سوف يفكر في هذا الأمر بعد قليل.
وينفعنا هذا العلم بأن نراقب الله عز وجل فهو معنا حيثما كنا قال تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] فالمراقبة مفادها أن هناك رباً سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليماً وأنه يعلم السر وأخفى، وأنه معنا لا نغيب عنه ولا نتستر بشيء، يرانا في الليل والنهار، ويراقب حركاتنا وسكناتنا، ثم يسجل لنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الحسنات والسيئات، حتى يوقفنا في اليوم الآخر عنده، فيحاسبنا على ما فعلنا، يقول: في يوم كذا وكذا فعلت كذا وكذا.
ولذلك تفيدنا صفة العلم في مراقبة الله عز وجل، وهي من أعظم الصفات التي يجب أن نستحضرها لمراقبة الله في السر والعلن، والليل والنهار، في كل زمان ومكان، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم موصياً أحد أصحابه: {اتق الله حيثما كنت} أي: في أي مكان كنت {وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن}.
وفي ختام هذه الكلمة! أسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يثبتنا وإياكم حتى نلقاه، والذي نريده منكم أنتم أيها الداخلون في الإسلام أن تعودوا إلى أهليكم وذويكم وإلى بلادكم دعاة إلى الله عز وجل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} فيسألكم الله يوم القيامة عن أهلكم، يسأل الإنسان عن زوجته وأطفاله وجيرانه وأهله، هل بلغهم هذا الدين، وهي أعظم المبشرات لكم أن يهديكم الله عز وجل، ويضل غيركم، ويقدمكم ويؤخر غيركم، وهو توفيق منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه يعطي هذا الدين وهذا الإسلام من يحب، وأما الدنيا فيعطيها من يحب ومن لا يحب، والذي لا ينتهج نهج هذا الدين ولا يدخل في هذا الدين ميت قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] فأنتم كنتم قبل أن تسلموا أمواتاً، ولو أنكم تعيشون وتتكلمون وتزاولون أعمالكم، لكن هذه ليست حياة، لأن الحياة هي اتصال القلوب بباريها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ومعرفة الغيب والشهادة ومعرفة الحاضر والمستقبل، ومعرفة الدنيا والآخرة، أن تجعل بين الفناء والبقاء صلة وبين الضعف والقوة علاقة، فالله هو القوي وأنت الضعيف، والله هو الغني وأنت الفقير، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] أي بالإسلام {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] أي بالدعوة والبصيرة {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:122] أي في الشرك والخرافة والجهل والضياع عن الله عز وجل، هل هذا مثل هذا؟ لا مساواة فبشرى لكم؛ أسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية.
والحمد لله رب العالمين.(267/6)
هدي الرسول وأصحابه في رمضان
يقول تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) فأمرنا بالاقتداء به وباتباع هديه صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه المادة عرض لهديه عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان؛ هديه في مدارسته للقرآن، في قيامه لليل، في صدقته وسخائه، في اعتكافه، في الإكثار من العبادات والطاعات إلى غيرها من أحواله وعيشه في رمضان.(268/1)
النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، رفع الله به رءوسنا وكانت مخفوضة، وشرح به صدورنا وكانت ضيقة، وأسمع به آذاننا وكانت صماً، وبصَّر به عيوننا وكانت عمياً، فعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
واعلموا أن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام هو المعصوم الذي على قوله تصحح الأقوال، وعلى فعله توزن الأفعال، وعلى حاله تقاس الأحوال، فإن الله أصلحه ظاهراً وباطناً، وسراً وجهراً، ورضيه قدوة للناس {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
فهو عليه الصلاة والسلام معصوم لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] وهو بأبي هو وأمي، نفسه طيبة، وقوله طيب، وفعله طيب، فهو مبارك أينما حل وارتحل، زكَّاه الله ظاهراً وباطناً، وامتدح أخلاقه وأعماله وأفعاله وأقواله، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقال له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
فإذا علم ذلك، كان على المؤمن إذا أراد أن ينصح نفسه أن يتبع هذا الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن يقتدي بكل ما أتى عنه وصح وثبت، فإنه عليه الصلاة والسلام قائد كل موحد وكل مؤمن إلى الجنة، ومن اعتقد أنه سوف يهتدي بغير الهدي الذي أتى به، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ولا ينظر إليه يوم القيامة ولا يكلمه، ولا يزكيه وله عذاب أليم.
فلا إله إلا الله ما أعظم ربح من اتبع أقواله، واقتدى بأفعاله، وسار على منواله، ولا إله إلا الله ما أشد خسارة من تنكَّر لشريعته، وجحد سنته، وخالف فعله عليه الصلاة والسلام.
إذا علم ذلك فإننا نريد أن نعيش معه صلى الله عليه وسلم في رمضان وفي غير رمضان، وإن كان للعمر مواهب، وللحياة بقية، وللأيام لذة فإنما هي في العيش معه صلى الله عليه وسلم.
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلَّى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا
وقد أطل علينا ضيف كريم، ووافد عظيم، وهو شهر رمضان الذي كتبه الله عز وجل على من قبلنا، كتبه للتقوى، ولترتفع الأرواح من موبقاتها، ولتتوب النفوس من شهواتها، وليراجع الناس أنفسهم مع ربهم تبارك وتعالى، فمرحباً بشهر رمضان.
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيباً زارنا في كل عام
قد لقيناك بحب مفعم كل حب في سوى المولى حرام
فاغفر اللهم ربي ذنبنا ثم زدنا من عطاياك الجسام
لا تعاقبنا فقد عاقبنا قلق أسهرنا جنح الظلام
فلننظر إلى هديه عليه الصلاة والسلام، وإلى هدي أصحابه الأبرار، وسلف الأمة الأخيار، كيف استقبلوا هذا الشهر.
كيف صاموه وقاموه؟
وكيف قضوا أوقاته؟
وكيف عاشوا ساعاته؟
لنكون على بصيرة، فإنه بمثلهم يقتدى، وعلى منوالهم يحتذى.
فعن طلحة بن عبيد الله: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا رأى الهلال -وعند الترمذي هلال رمضان- قال: اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله، هلال خير ورشد} قال الترمذي: حديث حسن.
هذا الحديث عجيب، فهو يقول للهلال: ربي وربك الله، فأنت مخلوق كما أنا مخلوق؛ لأن الأهلة والشمس والقمر كانت تعبد من دون الله، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس ويخبر الأجيال أن الكائنات كلها مخلوقة لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
فيقول: ربي وربك الله أي: فلا يحق لأحد أن يعبدك من دون الله، فالذي أهلَّك وأبداك وجملك وأبدعك هو الله! فكما أنني مخلوق لله، فأنت مخلوق لله، فأخطأ من عبدك أو توجه إليك من دون الله، وأخطأ من توجه لمخلوق من دون الله.
وفي الحديث لمسات التوحيد التي أتى بها عليه الصلاة والسلام.(268/2)
جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان
يقول ابن عباس -رضي الله عنهما، ترجمان القرآن، وحبر الأمة، الذي عاش الآيات، وعاش الأحاديث، وعاش الإسلام كله، واستضاء بنور هذا الدين-: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس -وانظر ما أحسن التحفظ- وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن} {وما قال لا إلا مرة} كما في المسند من حديث جابر ثم قال بعدها: {وأستغفر الله} أي: أستغفر الله من كلمة لا، لأنها ثقيلة؛ عليه فاستغفر منها صلى الله عليه وسلم.
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
يغضي حياءً ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم
فكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه أستاذه وشيخه جبريل فيدارسه كتاب الله، ومواعظه في آياته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة} والريح المرسلة هي الصبا التي تهب من نجد، فإنها معطاءة باردة، وإذا وصف الشاعر العربي الرجل الكريم، قال: هو أجود من الصبا، أو أجود من الريح المرسلة.
فأكبر المعالم في سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم في رمضان الجود والعطاء والإنفاق والبذل والهبة والسخاء، فهو أكبر معلم نراه في سيرته صلى الله عليه وسلم، لا يمسك شيئاً، حتى الثياب الأسمال التي عليه، إذا سُئل أعطاها، ففي الحديث الصحيح عن سهل بن سعد قال: {نسجت امرأة للرسول صلى الله عليه وسلم ثوباً، فلبسه محتاجاً إليه، فعرض له رجلٌ، فقال: يا رسول الله! أعطني هذا الثوب، فقال الصحابة لهذا الرجل: صنع الله بك وصنع، لبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليه، فجئت فسألته وهو لا يرد أحداً، فقال الرجل: أرجو أن يكون هذا الثوب كفناً لي} فأعطاه الله ما تمنى، وسأل، فكان كفناً له كُفن فيه.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يوم يأتي رمضان يستقبله بنفس معطاءة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فلما كان العبد سخياً كريماً، جازاه الله بمثل فعله من السخاء والكرم.(268/3)
مدارسته صلى الله عليه وسلم للقرآن في رمضان
ومن المعالم الأخرى في حياته صلى الله عليه وسلم والتي تؤخذ من هذا الحديث: مصاحبته صلى الله عليه وسلم للقرآن، وعيشه معه وتدارسه لآياته مع جبريل عليه السلام، فهذا الشهر شهر القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185] فكان إذا دخل عليه الشهر صلى الله عليه وسلم يهيئ نفسه، ويخفف من ارتباطاته ومشاغله، ليعيش تدبر القرآن وقراءته.
والقرآن أخذ الحظ الأوفر والدقائق الغالية، والساعات الثمينة من حياته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كتابه الوحيد ومعجزته الكبرى، أرسله الله في الدنيا معجزة لا يضاهيها أي معجزة؛ لأن المعجزات تنصرم وتنتهي إذا مات أنبياؤها، كالعصا في عهد موسى فإنها انتهت بانتهائه عليه السلام، وكإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى في عهد عيسى فإنها انتهت بانتهائه عليه السلام، ولكن القرآن أخذ يشق طريقه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأخذ يثبت جدارته، ويعلن قوته، ويبدي دعوته في قوة وخلود ويخاطب الأجيال.
فالرسول عليه الصلاة والسلام جعل أكبر وقت للقرآن هو وقت رمضان، ولذلك سئلت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم، كيف كان خلقه عليه الصلاة والسلام؟ فقالت: {كان خلقه القرآن} فهو يعيش مع القرآن أينما حل وارتحل، وإذا وجد وقت راحة وإقبال قلب، وسفر روح إلى الله شغل هذا الوقت بالقرآن.
في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحد طلابه وتلامذته: {اقرأ علي القرآن، قلت: يا رسول الله كيف أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! -ما أحسن هذا الأدب! وما أجل هذا الحياء! - قال: اقرأ علي القرآن فإني أحب أن أسمعه من غيري} أحب أن أتلقاه غضاً طرياً من غيري إذا قرئ علي.
فانطلق ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه يقرأ، والرسول عليه الصلاة والسلام يُنصت، فلما بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: {حسبك الآن قال: فنظرت فإذا عيناه تذرفان عليه أفضل الصلاة والسلام} تأثر الحبيب بكلام حبيبه، وتذكر صاحبُ هذا الكلام سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي أنزله، والذي تكلم به من فوق سبع سماوات، فعندها بكى صلى الله عليه وسلم.(268/4)
رقة قلبه صلى الله عليه وسلم مع القرآن
روى ابن أبي حاتم في تفسيره: أن الرسول عليه الصلاة والسلام ربما خرج في بعض الليالي ليستمع القرآن في بيوت الأنصار، يوم كانت بيوت الصحابة تشغل بالقرآن، ويوم كانوا يعيشون ساعات الليل في تدبر آيات الله الواحد الديان، ولا يشغلهم القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة الوقت في الترهات والأغنيات والسخافات عن ذلك، يوم كانوا رهباناً في الليل شجعاناً في النهار، فرساناً لرفع لا إله إلا الله يوم يحمى الوطيس.
خرج عليه الصلاة والسلام فسمع امرأة عجوزاً تقرأ سورة الغاشية، فوقف عند بابها وجعل رأسه على الباب، وهو يستمع إليها وهي تقرأ وتردد وتبكي -عجوزاً فأين شباب الإسلام؟! عجوز فأين فتية الحق؟! عجوز فأين شباب الصحوة؟ - {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] من هو المخاطب؟ هو الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول الله له: يا محمد! هل أتاك حديث الغاشية، أي: أما أتاك أن يوم القيامة حديث عجيب، ونبأ غريب، وحدث جلل.
فأخذ يبكي ويقول: {نعم أتاني} كلما قالت: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] قال: نعم أتاني، إلى هذا الحد يتأثر عليه الصلاة والسلام بالقرآن، فهو كتابه الوحيد الذي تركه للأمة مع السنة المطهرة.
وفي الصحيح أيضاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذهب إلى أبي المنذر أبيّ بن كعب سيد القراء رضي الله عنه وأرضاه، الذي جعل وقته لتعليم القرآن، فهو أقرأ الأمة بلا شك، فقال له صلى الله عليه وسلم: {إن الله أمرني أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [البينة:1] فيقول أبيّ بن كعب في ذهول: أو سماني لك؟! -أي: سماني الله من فوق سبع سماوات لك، كأن لسان حاله يقول: من أنا حتى أُسمى في السماوات السبع، من أنا حتى يسميني الله عز وجل- قال: نعم} فذرفت عينا أبي وأخذ يبكي تأثراً بهذا.(268/5)
عيشه عليه الصلاة والسلام مع القرآن
الرسول عليه الصلاة والسلام يوم عاش مع القرآن، عاش مع القرآن عملاً وتدبراً واستنباطاً، يقول لـ أبيّ: {يا أبا المنذر! أي آية في كتاب الله أعظم؟ فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة:255] فضرب عليه الصلاة والسلام بيده اليمنى في صدر أبيّ، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر} أي: والله ليهنك العلم الصافي، والنمير العذب، فإن هذا هو العلم يا أبا المنذر.
وعيشه صلى الله عليه وسلم مع القرآن، عيش تذكر وتدبر، يقول مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه، كما في سنن أبي داود: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء} والمرجل هو: القدر إذا استجمع غلياناً، فصدره يتخضخض من البكاء، وله صوت أزيز تأثراً بكلام الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وفي حديث أبي ذر: {أنه صلى الله عليه وسلم قام ليلة من الليالي يقرأ، فافتتح قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: بسم الله الرحمن الرحيم، فأخذ يبكي، ثم أعادها بسم الله الرحمن الرحيم، فأخذ يبكي، ثم أخذ يتأوه في النافلة ويقول: خاب من لم تدركه رحمة الله، خاب من لم تدركه رحمة الله}.
نعم، هذه حياته صلى الله عليه وسلم مع القرآن؛ لأن القرآن أكبر مقاصده أنه كتاب هداية، وليس بكتاب طب، ولا تاريخ، ولا جغرافيا، ولا هندسة، ولكنه كتاب هداية يقود القلوب إلى الله الواحد الأحد، فهذا مقصد القرآن وقد علم ذلك صلى الله عليه وسلم.
وعند ابن مردويه وأورده كثيرٌ من المفسرين في تفاسيرهم بأسانيد أن بلالاً رضي الله عنه وأرضاه، مر في السحر ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذنه بصلاة الفجر، فسمعه يقرأ قول الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191] فقال لـ بلال وهو يبكي: {نزلت علي آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتدبر} فأعظم معالم حياته صلى الله عليه وسلم في رمضان هذا القرآن.
ولذلك رأى بعض السلف الصالح أن شهر رمضان يخصص لتدبر القرآن، ولا يشتغل بغيره مهما كان العلم فاضلاً.
وورد عن الإمام مالك أبي عبد الله إمام دار الهجرة، أنه كان إذا دخل عليه رمضان ترك الفتيا والتدريس، وتحديث الحديث، وأخذ يقرأ كتاب الله ويقول: هذا شهر القرآن، هذا شهر القرآن.
وذكر ابن حجر في ترجمة الإمام البخاري، أنه ختم القرآن في رمضان ستين ختمة، ختمة في الليل وختمة في النهار، وأُوردها لهدف واحد؛ لأنها تدل على شدة اعتنائهم بالقرآن في رمضان.
ولكن هل هذا هو السنة؟ هذا فيه كلام، فإن سنته صلى الله عليه وسلم الاعتدال والتدبر في قراءته، وورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاثة أيام} وقال لـ ابن عمرو في الصحيحين وفي غيرهما {اقرأه في ثلاث} فكأن السنة إلى ثلاثة أيام، وإنما أذكر هذا لأبين شدة اعتناء السلف الصالح بالقرآن، وكيف عاشوه، وتلذذوا بقراءته، وتعلموا منه وتدبروه؟!
فإذا لم يكن شهر رمضان شهرك الذي تختم فيه القرآن، تدبراً وتوجيهاً واستفادة فمتى يكون إذاً؟! والله عز وجل إنما جعل هذا الشهر شهر عبادة، وقبول، وتوبة، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصدفت الشياطين} وإن شئت فقل فُتِّحت، فإن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وضبطها بعض المحدثين بالتشديد للمبالغة وغُلِّقت أبواب النار، وفي لفظ: {النيران} وصفدت الشياطين، فهي لا تؤذي في ذاك الشهر؛ لأن الله عز وجل، أكثر من التوبة على عباده، وجعله موسماً للخيرات، ولقبول الأعمال، وللتوبة ورفع الدرجات وتقديم الحسنات، فطوبى لمن أدركه رمضان وأحسن فيه، وطوبى لمن أرضى الرحمن في شهر رمضان، ويا سبحان الله! كم هي فرحته وفوزه يوم يختم الشهر فيعتقه الله فيمن عتق.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقنا من النار(268/6)
عظم منزلة الصوم
في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يقول الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه -وفي رواية وشهوته- من أجلي، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصيامه، ولخلوف فم الصائم -بضم الخاء المعجمة- أطيب عند الله من ريح المسك، فإذا كان أحدكم صائماً فإن سابه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني صائم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وفي لفظ في الصحيحين قال: {كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي} وهو سر بين العبد وربه، وإلا فمن يراك إذا اختفيت بين الجدران وتسترت بالحيطان وغبت عن العيان إلا الله الواحد الديان! بإمكانك أن تأكل في عقر بيتك وفي قعر منزلك ولا تراك عيون الناس، ولا تنظر إليك أبصارهم، لكن الذي خلقك يراك في الظلام.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
فهو سرٌ بينك وبين الله، لا يطلع عليك فيه إلا هو، الصلاة تصليها بمشهد، والزكاة تزكيها بمشهد، والحج تحجه بمشهد، ولكن الصيام سر، قد يختفي العبد فيأكل ويشرب، ويعود متظاهراً بالصيام، لكن من الذي علم أنه صام إلا الله.
والخلوف كريح المسك عند الله، ولذلك رأى بعض الشافعية ألا يتسوك الصائم؛ لأنه يغير الخلوف، ولكن الخلوف من المعدة وليس من الفم، والسواك لا يزيدك إلا طيباً، ولكن لعظيم أجرك عند الله جعل مخلفات جوعك أطيب عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من ريح المسك، فدم الشهيد وخلوف فم الصائم سيان يفوح منهما يوم القيامة رائحة المسك، فما أحسن هذا الجزاء! وما أطيب أفواه الصائمين!
وكان عليه الصلاة والسلام في رمضان يقوم الليل كغيره من الليالي، ولكن يجتهد في رمضان؛ فإنه شهر القيام والصيام، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أنه قال: {من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} فقوله: إيماناً أخرج به من لم يصمه إيماناً، ولم يقر بصيامه، وإنما صامه هكذا عادة، واحتساباً: أخرج به من صامه رياءً وسمعة، فمن صامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.(268/7)
قيام النبي صلى الله عليه وسلم ليالي رمضان
كان صلى الله عليه وسلم إذا أجنه الليل في ليالي رمضان قام متبتلاً لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وما أعظم قيام الليل! وخاصة في رمضان، وما أحسن السجدات! وبالخصوص في رمضان، وما أحسن الوضوء والتبتل والدعاء والبكاء! وبالخصوص في ليالي رمضان.
قلت لليل هل بجوفك سرٌ عامرٌ بالحديث والأسرار
قال لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار
وقيام الليل لما تركته الأمة الإسلامية -إلا من رحم الله- ذبل في صدورها غصن الإيمان، وضعف اليقين، وعاش الجيل، لكنه لم يعش بمثل ذاك الجيل الذي عاش مع الرسول صلى الله عليه وسلم، جيلٌ فيه برود، وتهاون وتكاسل إلا من رحم ربك {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] فلما علم ذلك كان يمضي صلى الله عليه وسلم ليالي رمضان متهجداً لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79].
فكما قمت في الليل فسوف تقوم يوم القيامة، وموقفك وقيامك في الليل أشبه شيء بموقفك عند الله يوم تقوم شافعاً مشفعاً بإذن الله، يوم يتخلى الأنبياء عن الشفاعة، وتأتي أنت تشفع:
واستشفع الناس بأهل العزم في إراحة العباد من ذي الموقف
وليس فيهم من رسول نالها حتى يقول المصطفى أنا لها
فمقامك يوم قمت في الدنيا بالقرآن، أن تقوم يوم القيامة على ملأ بين يدي الرحمن سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79].
وعجيب الليل وخاصة في رمضان، والذي ينبغي للمسلم الذي يريد أن ينصح نفسه أن يكثر من تلاوة القرآن ويكثر من صلاة الليل، فإن هذا الشهر شهر تجديد للروح، وفرصة ثمينة لا تتعوض أبد الدهر، وشهر توبة وعتق من النار، وخيبة وندامة وهلاك وبوار لمن أدركه رمضان ولم يتب من المعاصي والخسران، ولم يعتقه الله من النيران.
وكان عليه الصلاة والسلام كما جاء عند مسلم عن عائشة {لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة} ولكن الركعة الواحدة تساوي آلاف الركعات من ركعات كثير من الناس، يقف في الركعة الواحدة أمداً طويلاً، فيناجي ربه، ويتدبر كلام مولاه، ويحيي روحه بتدبر القرآن، يبكي ويتباكى ويناجي ويسجد ويركع طويلاً، فتصبح الركعة حسنة جداً ما أحسن منها، والله يقول: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ولم يقل أكثر عملاً.
لذلك كان التجويد في التراويح والقيام أحسن من التكثير بلا جودة، وكان الكيف أحسن من الكمِّ حتى بالتلاوة، فلا يهذرم القرآن، ولا يهذُّ هذَّا، ولا يحدر حدراً شديداً فتضيع معانيه وحروفه على حساب الختم، فإن المقصود هو التدبر والمعايشة للمعاني، فإن من الناس من يختم القرآن في رمضان مرة، ولكن يا لها من ختمة ما أحسنها وأجودها! وما أجلها وأعظمها! شافا أمراض نفسه بكلام الله، وداوى جراحات قلبه بكلام مولاه، فكان للقرآن أثر في قراءته.
وأناس يقرءون فيختمون كثيراً، لكن مقصودهم الأجر فهم مأجورون، لكن غذاء الروح، ومدد اليقين وماء الإيمان لا يحصل إلا بالتدبر ومعايشة القرآن.(268/8)
من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصوم
كان له صلى الله عليه وسلم سنن كثيرة في صيامه ولكن نذكر أهم معالمها:(268/9)
تعجيل الفطر وتأخير السحور
كان عليه الصلاة والسلام في رمضان يعجل الإفطار، ويقول: {أحب العباد إلى الله أعجلهم فطراً} والفطر هنا إذا غربت الشمس، كما في حديث عمر الصحيح {إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، فقد أفطر الصائم} لأن اليهود كانوا يؤخرون الفطر، فعجل صلى الله عليه وسلم الإفطار، بشرط أن تغرب الشمس وأن يذهب النهار، وأن يأتي الليل، وكان يفطر صلى الله عليه وسلم على رطب، كما في حديث أنس عند أبي داود والترمذي بسند حسن، قال: {كان صلى الله عليه وسلم يفطر على رطب، فإن لم يجد فعلى تميرات، فإن لم يجد حسى حسوات من ماء} عليه الصلاة والسلام.
وعند أبي داود والترمذي من حديث سلمان بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ليفطر أحدكم على تمر، فإن لم يجد فليشرب ماءً فإنه طهور} والعجيب أن في الرطب والتمر سرٌ عجيب للصائم، أورد ذلك ابن القيم، فإن البطن إذا جاع كان أحلى شيء يوافق المعدة التمر، فهو حلو يوافق الجوع، فسبحان الله من علمه وهداه -صلى الله عليه وسلم- سواء السبيل، فكان طبيباً للأبدان، وطبيباً للقلوب يقودها إلى الله تبارك وتعالى.
وكان عليه الصلاة والسلام يؤخر السحور، بشرط ألا يصبح عليه الصباح، فيقول عليه الصلاة والسلام: {تسحروا فإن في السحور بركة} وبركة السحور تأتي بأمور ثلاثة:
أولاً: أنه إحياء لهذه السنة العامرة من الرسول عليه الصلاة والسلام، فبركة السنة لا يعادلها شيء، وكثيرٌ من الناس قد يترك طعام السحور، وقد خالف في ذلك السنة ولو أن صومه صحيح، فالسنة أن تقوم فتتسحر بما يسر الله، ليبارك الله في قيامك وصيامك.
ثانياً: أنها ساعة ينزل الله فيها إلى سماء الدنيا فيقول: {هل من سائل فأستجيب له، هل من داع فأجيبه، هل من مستغفر فأغفر له} فإذا رآك الله وأنت متسحر ذاكرٌ له، مستغفر منيب تائب، غفر لك سبحانه، وقبل دعاءك وأجاب سؤالك، وتاب عليك فيمن تاب، وأعتق رقبتك من النار، فهنيئاً لك بتلك الجلسة الإيمانية، فمقصودها وسرها الثاني أن تكون مستغفراً في السحر، فما أحسن السحر! وما أطيب السحر!
قام طاوس بن كيسان العلامة الكبير الزاهد العابد يزور أخاً له وقت السحر، فطرق عليه الباب، فقال له صديقه: أتأتيني في هذا الوقت، أيزار في هذا الوقت؟ فقال طاوس: والله الذي لا إله إلا هو ما ظننت أن أحداً ينام في السحر، أي: من المسلمين.
فانظر إليه من كثرة عبادته واتصاله بالله يستغرب أن ينام أحدٌ من الناس في السحر.
ثالثاً: أنه يعينك بإذن الله على الصيام في النهار، ويسكن حالك وأنت تتلذذ بنعمة الله، وتتناول طعام سحورك، كأنك تقول: يا رب هذا الطعام الذي خلقته ورزقته أتقوى به على طاعتك، وهو من أنواع الشكر على النعمة، وما أحسن الطعام إذا نوى به العبد التقوي على عبادة الواحد الأحد.(268/10)
الإكثار من الذكر
كان من هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان: أن يكثر من الذكر والتبتل والاستغفار والمناجاة والدعاء، فإنها حياة القلوب.
كان يواصل الصيام وينهى الصحابة عن الوصال، فيواصلون ويقولون: يا رسول الله إنك تواصل، أي: مواصلة الليل بالنهار، قال: {إني لست كهيئتكم} وفي رواية: {لست بمثلكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقين} وفي رواية: {إن ربي يطعمني ويسقين}.
أورد هذه الروايات ابن القيم في زاد المعاد بألفاظها، قال: واختلف أهل العلم على قسمين: قوم يقولون: إنه طعام حسي وماء معروف يسقى به عليه الصلاة والسلام ويأكل، وليس هذا بصحيح؛ لأنه لو كان كذلك لما كان صائماً عليه الصلاة والسلام، ولو كان كذلك لما قال: {إني لست كهيئتكم} ولو كان كذلك لما كان له ميزة عليه الصلاة والسلام عليهم في الوصال.
والصحيح أنه يطعم ويسقى بالمعارف التي تفاض على قلبه من الواحد الأحد، من لذة المناجاة، وحسن الذكر، وعذوبة دعائه لمولاه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وبما يغدق على روحه، ويسدل على قلبه من ذكر ودعاء وتبتل يشبع ويروي، ولذلك ترى بعض الناس إذا سروا بأمر تركوا الطعام والشراب، وإذا سروا بأمر نزلت دموع الفرحة من خدودهم.
طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
فبعض الناس لولهه ولكثرة سروره وفرحه يستعيض به عن الطعام، حتى قال الأول وهو يتحدث عن لذة قلبه بقدوم قادم، أو بكلام حبيب، أو بمناجاة صاحب:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نورٌ يستضاء به ومن حديثك في أعقابها حاد
إذا تشكت كلال السير أسعفها شوق القدوم فتحيا عند ميعادي
فكأنه عليه الصلاة والسلام لفرحه بعبودية ربه كان من أسر الناس قلباً، ومن أشرحهم صدراً، يستعيض عن كثرة الطعام والشراب بهذا، ولذلك يقول الأندلسي أبو إسحاق الألبيري لابنه في قصيدته الرائعة المبكية الحارة التي توجه إلى كل شاب، وهي من أحسن القصائد والوصايا، يقول:
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
يقول: قوت القلب، وغذاء الروح هي جواهر المعاني من الآيات والأحاديث، وليس بأن تأكل وتشرب؛ لأن هذا للجسم، يقول:
تفت فؤادك الأيام فتا وتنحت جسمك الساعات نحتا
وتدعوك المنون دعاء صدق ألا يا صاح أنت أريد أنتا
إلى أن يقول:
فواظبه وخذ بالجد عنه فإن أعطاكه الله انتفعتا
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
فكان عليه الصلاة والسلام يتغذى بالذكر والتهليل والتكبير والتسبيح والاستغفار، وبكثرة المناجاة، والدعاء، فأدعوكم -أيها الأخيار والأبرار- إلى استغلال هذا الشهر في كثرة الذكر.
وننبه على الظاهرة التي نسأل الله أن يجعل مكانها خيراً ومبرةً ورحمة، ظاهرة استغلال النهار في النوم؛ فإنها وجدت عند الصالحين بكثرة، فتجد الصالح من الصائمين يقضي ساعات يومه في النوم، فما كأنه وجد للجوع حرارة، ولا للظمأ مشقة، ولا وجد لمعاناة العبادة كلفة.
فأي حياة هذه الحياة في رمضان، إذا نام من الصباح إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى الغروب، فما هو مفهوم الصيام إذاً في حقه، ثم أمضى الليل في السهر، وظاهرة تغيير برنامج المسلم في رمضان ليست بمحمودة، بل على المسلم أن يكون على وتيرته، وما هو الداعي إلى أن يغير وقته لهذا الوقت، فيجعل وقت المناجاة والذكر وحرارة الجوع، ومشقة الظمأ رقاداً ونعاساً ونوماً، فأين معنى الصيام؟!
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فأعظم مقاصد الصيام التقوى، والتقوى تحصل بأن تعيش ساعات ودقائق الصيام لتتعامل معه، فما الفرق بين المفطر الذي ينام النهار كله، وبين الصائم الذي ينام النهار كله.(268/11)
فوائد الصيام
فوائد الصيام كثيرة، ويمكن أن نجمل بعضها، ولكن أعظمها تقوى الله عز وجل، فإنه ختم الآية فقال: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ولم يقل: (لعلكم تعقلون) أو (لعلكم تذكرون) وإنما (تتقون) فالصيام سبب للتقوى لأنه:
أولاً: يكسر قلبك عن المعاصي، ويرد جماح روحك عن الذنوب، ويأخذ بزمام نفسك عن الخطايا والمخالفات.
ولذلك لما دعا صلى الله عليه وسلم الشباب إلى الزواج كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: {يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} فجعل صلى الله عليه وسلم الصوم يقوم مقام الزواج في أنه يكسر النفس ويردها.
ثانياً: أنه يفرغ الأوقات للعبادة، فإن الوجبات قد تأخذ كثيراً من أوقات العباد، وهل أخذ أوقاتنا وضيع ساعاتنا إلا كثرة الأكل والشرب، إننا نجلس في شرب الشاي والمرطبات ساعات طويلة تكفي مثل ابن تيمية وابن القيم إلى أن يؤلف رسائل في خدمة الإسلام، وكتباً في رفع راية هذا الدين.
ولذلك يقولون: إن ابن تيمية ألف كتاب التدمرية من صلاة الظهر إلى صلاة العصر، وقررت في الكليات سنة كاملة، وما فهمها كثير من الطلاب، بل رسبوا في التدمرية؛ لأنها تدمر كل شيء بأمر ربها، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم.
فهذا الوقت يمكن أن يستغل في مرضاة الله عز وجل، وفي تلاوة كتابه والاستغفار وقد ذكر ذلك الغزالي في الإحياء وغيره من أهل العلم.
ومن فوائد الصيام: أن فيه حياة للقلب، فإن القلب قد يموت بكثرة المباحات من مأكولات ومشروبات ومسكونات وملبوسات، فكلما أكثرت على القلب من هذه الأمور قتلته وأماتته، وبعض الناس يظن أن حياة القلب أن تكثر من الأكل والشرب، وهذا ليس بصحيح، فالروح إنما هي نفخة من الله، فكلما أقللت من علائقها من الأرض والتراب، كلما هاجرت إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ومن فوائد الصيام: أنه يذكرك بالأكباد الظمأى وبالبطون الجائعة من الفقراء والمساكين، فيجعلك تعيش آلامهم وآمالهم، وتعيش ما يعيشونه، وتذوق ما يذوقونه، وتحيا ما يحيونه، فتعيش تلك الساعات المريرة التي يعيشونها، ولم يفرض شهر رمضان ليظن أهل اللحم الذين يأكلون اللحم دائماً، ويشربون البارد دائماً، أن الناس ليسوا في مشقة، ولا يحتاجون إلى مساعدة، ولا إلى مد يد العون فعلمهم الله أنهم كما يصومون ويجوعون ويظمأون، أن هناك من يصوم الدهر كل الدهر جائعاً، ومن يصوم الدهر كل الدهر ظامئا، ومن يجد المشقة ليلاً ونهاراً.(268/12)
الاعتكاف
كان من هديه عليه الصلاة والسلام الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان.
والاعتكاف: لزوم مسجدٍ لطاعة الله عز وجل، فيحيي قلبه بالذكر والتلاوة، ويقطع مشاغله وارتباطاته بالناس، ويحيا مع الله عز وجل، فيفرغ القلب لمولاه، ويكثر من دعاء ربه تبارك وتعالى، ويحيي قلبه بالآيات البينات.
والاعتكاف سنة من أحسن السنن وقد عطل إلا من بعض الأشخاص، وهو أحسن ما يمكن أن يربى به القلب، يوم تتفرغ من الناس، ومن كلامهم، والاتصال بهم، لتتصل برب الناس وملكهم وإلههم، وهل ثَم أحسن من هذا؟
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان أن يبشر به الأمة الإسلامية الخالدة، أمة لا إله إلا الله، وفي بعض الآثار: {أن الله عز وجل يعتق في كل ليلة من ليالي رمضان مائة ألف، وأما في آخر ليلة فيعتق بقدر ما أعتق في كل ليلة مرت}.
فهل بعد هذا من بشرى للأمة؟ إنها مبشرات وليست بشرى واحدة، وإنها مكرمات وليست مكرمة واحدة، وإنها أعطيات وليست أعطية واحدة، وكان عليه الصلاة والسلام في رمضان يقوم الليل -كم أسلفت- وربما قام الناس معه جماعة، وربما ترك عليه الصلاة والسلام الجماعة وصلى وحده، ولذلك أتى عمر فجمع الناس في صلاة التراويح.(268/13)
الصحابة في رمضان
والعجيب أن الصيام من أعظم ما يربي العبد على الصبر، ومن أعظم ما يقود روحه إلى مولاه تبارك وتعالى، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً} وما معنى في سبيل الله كما قال أهل العلم أي: الغزو في سبيل الله، ومقاتلة الأعداء، بأن تصوم وأنت مقاتل، فقولوا لي بالله -يا أيها الجيل، يا أيها الأخيار- من منا أكثر من الصيام وهو ليس في سبيل الله، بل تحت الظل، ومع الماء البارد، وتحت المشهيات، ومع كل ما لذ وطاب؟!
صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يصومون والقنا على رءوسهم، والسيوف تتحاك على آذانهم، والرماح تتشاجر بين وجوههم، ومع ذلك يصومون.
روى ابن كثير وغيره عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، أنه لما حضر معركة مؤتة كان صائماً، وكان هو القائد الثالث، فلما قتل القائدان الاثنان زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب، دعي إلى أخذ الراية رضي الله عنه وأرضاه، وقد سبق له قبل سنوات أن بايع في صك، أتى من رب العالمين، كما يقول ابن القيم - أملاه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ووقع عليه رسوله صلى الله عليه وسلم، على أن السلعة الجنة، وعلى أن الثمن أرواح المؤمنين، فكان ابن رواحة من المبايعين.
يوم قال للرسول عليه الصلاة والسلام يوم بيعة العقبة: {يا رسول الله ماذا تريد منا؟ قال: أن تحموني مما تحموا منه نساءكم وأطفالكم وأموالكم، فقال: ما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: لكم الجنة، قال: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل} والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تفرقا فقد وجب البيع، فلم يكن لـ ابن رواحة الحق أن يقيل أو يستقيل.
حضر في مؤتة وهو صائم، ودعي والشمس تميل إلى الغروب، وتأذن بالأفول، وهو جائع، وهو في شدة الحر والسيوف أمامه، والقتلى حوله، فقال: اتوني بعرق لعلي أشد به جوعتي، فأتوا له بقطعة من اللحم وهو صائم على فرسه، فنظر إلى الشمس، حتى في هذه الساعة الحرجة، والأرواح تتطاير، والنفوس تسافر، واللحوم تتمزق، والرءوس تضرب في الأرض يتحرى غروب الشمس.
قال: أغربت؟ قالوا: نعم غربت، فأخذ لقمة وقال: باسم الله، اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، فأتى يأكلها، وقد دعي ليقود المعركة، وليدف دفة المعركة، وليدير كئوس الموت على رءوس الأعداء، فأكل مضغة فما وجد لها مذاقاً، فقد ذهب طعم الطعام، وذهبت لذة الشراب، وذهبت بقية الحياة، ما أصبح للطعام لذة، وما أصبح للشراب معنى، وكيف يكون له معنى وقد قتل زيد وجعفر والأحباب والأخيار وأصبحت الخيول تدوسهم بالسنابك، فلفظها من فمه، وأخذ جفنة السيف فكسرها على ركبته، وقال وهو ينشد نشيد المعركة، وأغنية الفداء، وأنشودة التضحية:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
ثم خاض غمار المعركة، وما تم الغروب إلا وهو في روضة من رياض الجنة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] رضي الله عنكم يا من رفعتم راية الإسلام على الجوع، ورضي الله عنكم يا من بذلتم الجهد والمشقة وأنتم جوعى في سبيل الله.
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمـ ـك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا
وفي الصحيح من حديث أبي الدرداء قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كنا في أشد الحر، فكان الواحد منا يتقي حر الشمس بكفه، وما منا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن رواحة، فانظر إليه في السفر وفي القتال كيف يصوم، كيف يتربى؟ وحياة -والله- ليس فيها صيام ولا تدبر للقرآن ليست بحياة الآدميين، بل حياة البهائم.
ولذلك ذكروا في ترجمة روح بن زنباع -وهو أمير أموي- أنه مر بالصحراء معتمراً، وكانت له سفرة كبيرة فيها لحوم وفواكه وخضراوات ومشروبات، فمر بأعرابي وهو يرعى غنمه، فقال له روح بن زنباع: تعال أيها الأعرابي كل معي من الغداء.
فقال الأعرابي: لقد دعاني من هو أكرم منك إلى مأدبته.
قال: ومن هذا؟
قال: الله رب العالمين، قال: بماذا؟
قال: أنا صمت وسوف أفطر له.
قال روح: أفطر اليوم وصم غداً.
فقال الأعرابي: وهل تضمن لي أيامي يا أيها الأمير؟
فبكى الأمير، وقال: حفظت أيامك وضيعنا أيامنا.
فإن العبادة كل العبادة أن تكون في سبيل الله عز وجل، وأن تكون لوجهه، وأن تجد المشقة في سبيله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، حينها لا تجد للتعب في نفسك كلفة، ولا تجد للجوع ولا للظمأ مشقة.
إن كان سَرَّكم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
عاش الصحابة وعاش السلف الصالح دقائق رمضان توجهاً وجهاداً وخدمة في سبيل الله، ولذلك كانت أعظم معارك الإسلام وأعظم انتصارات المسلمين في رمضان، فإن بدراً وفتح مكة وحطين وعين جالوت كلها كانت في رمضان.
فلقد كانت الانتصارات الرائعة في هذا الشهر الذي نزل القرآن فيه ليحيي به الأمة الميتة التي ما عرفت إلا التقاتل على موارد الشياه والإبل والبقر، الأمة التي ما عرفت الحضارة ولا الثقافة، وبقيت في الجهل آلاف السنوات، نزل القرآن ليقول لها: استفيقي وانظري إلى السماء، أنقذي البشرية بلا إله إلا الله، وهذه الأمة لا يردها إلى الله إلا القرآن ورمضان، ولا تُقبل على الله إلا برمضان والقرآن.
فيا أيها الأخيار! ويا من شابت لحيته في الإسلام! هذا شهرك -وكأنه الأخير- فاجعله خاتمة مطافك مع الله، ويا أيها الشاب الذي أقبل تائباً إلى الله! هذا شهرك شهر التوبة والإقبال فاغتنمه في التقرب إلى الله، ويا أيها المسيء الذي أكثر من العصيان! اليوم فرصتك الذهبية، ويومك الثمين، وعيد ميلادك يوم أن تلد في التوبة ميلاداً ثانياً؛ لأن الكافر يموت مرتين، والمؤمن يحيا مرتين.
أما الكافر فيموت أول مرة يوم أن تموت روحه عن لا إله إلا الله، وتموت نفسه عن مبادئ لا إله إلا الله، ويموت ضميره عن ضوء لا إله إلا الله، ويموت مرة أخرى يوم تخرج روحه.
والمؤمن يولد مرتين، ويحيا حياتين: الحياة الأولى: يوم أن تأتي بك أمك فتقع على الأرض وأنت على الفطرة، والحياة الثانية: يوم أن تحيا بالإسلام، ويوم أن يتوب الله عليك، فإن كثيراً من الناس أحياء وليسوا بأحياء، يأكلون ويشربون ولكنهم ليسوا بأحياء، لأن الحياة أن يسافر قلبك إلى الله، وتعيش مع الله، وتقضي عمرك في عبادة الله {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
أقول ما تسمعون، وأسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يتجاوز عنا وعنكم سيئها، وأن يجعلنا من عتقاء هذا الشهر الكريم، وأن يجعلنا ممن مَنَّ عليهم بالتوبة، وممن جعلهم من ورَّاث الجنة، وممن تاب عنهم في هذا الشهر، وممن ختم لهم بالحسنى، وممن صامه وقامه إيماناً واحتساباً.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(268/14)
الأسئلة(268/15)
نصائح للنساء
السؤال
ما تنصح به النساء بمناسبة قدوم هذا الشهر الكريم، نظراً لوجود نساء في هذه المحاضرة؟
الجواب
صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي أمامة أنه قال: {إن المرأة إذا صلت خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها، دخلت جنة ربها} فإذا عرفت المرأة المسلمة هذه المبادئ وهذه الأمور في هذا الحديث فصلت الخمس الصلوات وأحسنتها ظاهراً وباطناً، وصامت هذا الشهر الفضيل وأطاعت زوجها، جعلها الله عز وجل من وراث الجنة، وانظر ما أحسن الكلام يوم قال لها ثلاث وصايا؛ لأنها كثيرة الحمل والولادة، والحيض، والمشاغل، وتربية الأبناء، والمزاولة في البيت، فلم يذكر لها نوافل، وإنما جعل نوافلها تلك الأعمال، واقتصر على هذه الفرائض.
فالذي أنصح به المرأة المسلمة: أولاً: بتقوى الله عز وجل، وهي نصيحة لنا جميعاً.
ثانياً: أن تحتسب صيام هذا الشهر على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن تتقرب إليه بما استطاعت من ذكر وعمل صالح وصدقة، وأن تطيع زوجها في رمضان وفي غير رمضان، ليرضى الله سبحانه وتعالى عنها.
ثالثاً: أن تسأل عن أمور دينها وتتفقه فيه، فإن لها مسائل خاصة كالحيض والولادة والحمل، لا بد أن تعرفها، فإن الحامل إذا شق عليها الحمل وخافت على نفسها أفطرت وقضت، وإذا خافت على ولدها أفطرت وقضت، ومع القضاء تطعم عن كل يوم مسكيناً.
والحائض لا يجوز لها أن تصوم، والصلاة عليها محرمة، ولكنها تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة، والنفساء كذلك تأخذ حكم الحائض، إذا علمت ذلك، فلتعلم ولتتفقه ولتسأل عن كل ما يخصها، فقد سهل الله العلم والعلماء والتفقه في الدين، ولها إن رأت ذلك هو الأصلح لقلبها والأخشى والأخشع أن تحضر صلاة التراويح مع الناس، إذا كانت هناك دروس علمية ومحاضرات، وكان يرق قلبها وتعلم من نفسها أنه أتقى لمولاها، فلتحضر وتصلي مع الناس متسترة لا تتطيب، ولا تلبس ثياب الزينة، ولا تأخذ البخور، وهذه الأعواد والروائح الجميلة بل تتركها؛ لأنها لزوجها في البيت.
أما في مسيرها من بيتها، فلتتق الله، ولتأخذ ثياباً مبتذلة ولتصلِّ فيها، فإن علمت أن الأخشى والأخشع لها هو بيتها فلتتق الله، ولتصلِّ في بيتها، لئلا تفتن المسلمين، ولئلا تتعرض لغضب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(268/16)
نصيحة لمن لا يستطيع أن يقرأ القرآن من الأميين
السؤال
بماذا تنصح كبار السن المستمعين إليك والذين لا يعرفون القراءة في رمضان، حيث إنهم يقضون أغلب رمضان في النوم وضياع الوقت لعدم قدرتهم على قراءة القرآن في رمضان؟
الجواب
سبحان من جعل أبواب الجنة ثمانية، ليدخل القارئ من باب، والصائم من باب، والمجاهد من باب، والمتصدق من باب إلى آخر تلك الأبواب، فالكبار في السن، والذين شابوا في الإسلام هنيئاً لهم، فإن الله يستحي أن يعذب من شاب شيبة في الإسلام، والشيب لهم وقار، فعليهم أن يوقروا الله عز وجل في رمضان وفي غير رمضان، ونصيحتي لمن لم يستطع قراءة القرآن بكثرة التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد.
ولذلك ورد عند الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه وأرضاه، أنه أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهو شيخ كبير، فقال: {يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فماذا تنصحني به؟ قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} فأنصح هؤلاء الذين فنيت أجسامهم في الطاعة، وشابت رءوسهم واحدودبوا من الكبر، وما استطاعوا قراءة القرآن والصلاة بكثرة الذكر.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قوله صلى الله عليه وسلم: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلى مما طلعت عليه الشمس} وعند مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سيروا هذا جمدان -جبل بين المدينة ومكة - سبق المفرّدون، قالوا: وما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات}.
فأنصحك أيها الشيخ الكبير أن تكثر من التسبيح والتهليل والاستغفار، والصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكثرة الدعاء، وإن استطعت فالصلاة تنفل؛ لأنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة.(268/17)
ضياع الأوقات عند التلفاز
السؤال
يكثر مشاهدة برامج التلفاز في رمضان وغيره، فنستفتيك حفظك الله أن تبين لنا ما هو الحلال وما هو الحرام في التلفاز؟ وهل الأفلام المتحركة لها أثر على الأطفال؟ مع أن فيها تسلية لهم، أفتونا جزاكم الله خيرا؟
الجواب
المسلم مطالب بحفظ وقته وقلبه ونظره وكل جارحة فيه، والله عز وجل لا يزيل قدمي عبد يوم القيامة حتى يسأله عن أربع، عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه، هذه الساعات الثمينة وهذا الليل والنهار الذي امتن الله به في القرآن، فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:61 - 62] أتظن أن كل هذا يذهب سدىً؟!
أتظن أن هذا الليل والنهار ليس بنعمة عليك، بل هو من أفضل النعم، ولا تستثمر الصالحات ولا ترفع الدرجات إلا في الأوقات، والله يقول: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] وعند البخاري من حديث ابن عباس في الرقاق، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ} تجد العبد صحيح الجسم قوي البنية متكامل الأعضاء، وهو عاطل باطل كسول، ليس عنده تحرك ولا همة ولا نشاط، فيخسر وقته وعمره، إذا علم ذلك فأعظم ما نخسره الأوقات إذا ذهبت في غير طاعة الله.
أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي
إذا ليلة هَرَّمت يومها أتى بعد ذلك يوم فتي
نروح ونغدوا لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
وقال آخر:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوانِ
ومما يحفظ أيضاً: البصر، فإنه يحفظ من المطالعة في أي محرم، سواء كان في هذه الآلة المذكورة أو في غيرها، وسوف يسأل الله العبد عن بصره وسمعه ويده ورجله وفرجه، وكل عضو فيه يوم القيامة؛ لأنها نعمة فهل صرفها في الطاعة أم في المعصية، أما القضايا التفصيلية والجزئية، فكل ما كان خبيثاً لا يجوز، وكل ما كان طيباً فهو المطلوب، لكن أي خبيث هذا وأي طيب ذاك، إنها مسائل جزئية تفصيلية، ليس هذا مجال بسطها، لكن مجال بسطها رسائل أهل العلم، وقد تكلموا فيها بما يشفي ويكفي، وهي رسائل موجودة بين أوساط الشباب.(268/18)
انقطاع دم الولادة قبل الأربعين
السؤال
المرأة التي وضعت الحمل، وانقطع الدم قبل الأربعين، فهل تصوم وتصلي أم تنتظر حتى تنتهي الأربعين يوماً؟
الجواب
ورد في حديث لـ أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، قالت: {كانت النفساء تمكث على عهده صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً} هذا حديث في السنن، لكن سنده ليس بذاك وهو ضعيف عند أهل العلم، إذا علم ذلك فالصحيح عند المحققين من أهل العلم، أن المرأة النفساء إذا ولدت وانقطع دمها ولو في يوم فتغتسل وتصوم وتصلي.
وقال بعض الحنابلة: ولا يأتيها زوجها، بل يأتيها زوجها؛ لأن ابن عباس قال الصلاة أعظم، فما دام أنها إذا اغتسلت وانقطع الدم، تصلي وتصوم فيجوز لزوجها أن يأتيها، فلا عبرة بتحديد أربعين يوماً، بل الصحيح ألا يحدد زمن للولادة فقد ينقطع الدم في يوم أو يومين أو ثلاثة أو غير ذلك، فإذا انقطع الدم فعليها أن تغتسل وتصوم وتصلي ولا تنتظر الأربعين يوماً.(268/19)
نصيحة لمن لا يعبد الله إلا في رمضان
السؤال
هناك كثير من الناس لا يعرف الصلاة والأعمال الصالحة إلا في شهر رمضان، وكأنهم يرون أن العبادة في شهر رمضان فقط، فما هي نصيحتك لهم جزاك الله خيراً؟
الجواب
وجد في أوساط الناس لجهلهم وعدم فقههم وقلة خبرتهم بالكتاب والسنة من يعمل أعمالاً كأنهم يخادعون الله بها، يتركون الصلوات بقية الأسبوع فإذا جاء يوم الجمعة تطيب واغتسل، وتسوك بالسواك وأتى في الصف الأول يقرأ سورة الكهف، ظاناً أن هذا اليوم يكفر له سائر الأيام؛ لأن هناك حديث يقول: {والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهما} لكن في الحديث {إذا اجتنبت الكبائر}.
ومن أعظم الكبائر ترك الصلاة في جماعة، أو ترك الصلاة بالكلية، فأي فقه هذا؟! ومن الناس من يسيء في السنة كلها، فإذا أتى رمضان أتى عبداً صالحاً، ودخل في رمضان بنسك وعبادة، وتحرى صلاة التراويح مع الناس، حتى إن بعضهم لا يصلي صلاة الجماعة مع المسلمين في المساجد، ويحرص على صلاة التراويح، والتراويح نافلة، وصلاة الجماعة يقول ابن تيمية فيها: شرط في صحة الصلاة، كما نقل ذلك عنه صاحب السلسبيل وقال غيره: واجب من الواجبات التي لا يعذر الإنسان بتركها إلا بعذر شرعي.
فانظر لقلة الفقه، يأتي من مسافات بعيدة لصلاة التراويح، ويترك الصلاة الفريضة، وصلاة فريضة واحدة في جماعة أعظم أجراً من صلاة التراويح ثلاثين ليلة، فأي فقه هذا، فأنا أوصي من كان هذا حاله أن يستغفر الله ويتوب إليه، فإن رب رمضان هو رب الأشهر جميعاً سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو يطلع على السر وأخفى.
وما أعجب العبد إذا خرج منه رمضان، ثم انسلخ من العبودية، وخلع جلباب الوقار، وترك الإقبال على الله عز وجل، وصار في حالته الأولى، فأي فائدة للصيام؟ وأي مصلحة في القيام؟! وما هي آثار رمضان عليه؟!(268/20)
حكم من صام في بلد وسافر إلى بلد آخر
السؤال
ما حكم من ثبت في بلده دخول شهر رمضان، فصام ثم سافر إلى إحدى البلدان الغربية فوجدهم لم يصوموا بعد؛ لأنهم لم يثبت عندهم دخول شهر رمضان، فهل يعمل بصيامهم أم بصيام البلد الذي وصل إليه، وإذا أتم الشهر هناك، فهل يعيد معهم؟ وإذا لم يصم إلا ثمان وعشرين يوماً فهل يقضي يوماً؟
الجواب
هذا السؤال فيه مسائل، وهي تبنى على أمور، منها: هل للناس رؤية واحدة ومطلع واحد، أم يصومون ويفطرون باختلاف المطالع، والصحيح أن لهم أن يصوموا باختلاف المطالع وباختلاف الرؤيا، لحديث مسلم عن كريب، أنه صام في الشام عند معاوية فرأوا الهلال يوم الجمعة، فقدم على ابن عباس، فقال ابن عباس: متى رأيتم الهلال؟ قال: رأيناه ليلة الجمعة، قال: فنحن لا نصوم حتى نراه أو نكمل عدة رمضان، فإنا ما رأيناه إلا يوم السبت.
فمن صام في بلد وسافر إلى آخر، فعليه أن يصوم بصيام ذاك البلد ويفطر مع أهل ذاك البلد؛ لأنه ورد في حديث صححه الترمذي، وضعفه بعض أهل العلم: {الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس} فالمسلم إذا وجد في بلد لا يتعجل الفطر، بل يبقى حتى يفطر مع الناس في ذلك البلد.
أما أن يكون ثمان وعشرين، فصورتها أن يتقدم الشهر في البلد الذي يسافر إليه، ويتأخر في بلده، فنقص عليه يوم، ثم سافر إلى ذاك البلد، فأتى عليه ثمان وعشرين.
والذي أعرفه أن الشهر لا بد أن يكون تسعة وعشرين أو ثلاثين يوماً.
يقول صلى لله عليه وسلم: {إنا أُمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا} أي: تسعة وعشرون يوماً، ثلاثون يوماً، أما ثمانية وعشرون فلم يكن الشهر ثمانية وعشرين، وقد ثبت أن الناس صاموا رمضان في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، لكنهم قضوا يوماً عنه، فالشهر لا بد أن يكون تسعة وعشرين، فعلى من صام ثمانية وعشرين يوماً أن يصوم يوماً، لكن لم أدر كيف الكيفية، هل له أن يفطر مع أهل أولئك البلد، ثم يقضي يوماً مكان ذاك اليوم، أو عليه أن يؤخر الفطر، ثم يكمل تسعة وعشرين يوماً ثم يفطر، هذه تحتاج إلى تحقيق، وهي تقبل الاجتهاد؛ لأني لا أعرف فيها نصاً، هذا ما يحضرني في هذه المسألة.(268/21)
صوم يوم العيد
السؤال
هل يجوز صوم يوم العيد؟
الجواب
أما صوم العيد من حيث هو فقد حرم صلى الله عليه وسلم صوم عيد الفطر وعيد الأضحى.(268/22)
الزينة الظاهرة
السؤال
ما هي الزينة الظاهرة؟ وما حكم خروج طرف الثوب من تحت العباءة الطويلة، ومن غير قصد لإخراجه؟
الجواب
الزينة الظاهرة هي كما قال تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[ما ظهر من الثياب]] لكن كل ما يسمى زينة في اللغة، فهو زينة، وربما عذرت المرأة بإخراجها، لكن المقصود عند أهل العلم من أهل الحديث وغيرهم هو زينة الحلي وزينة اللباس التي لا تلبسها المرأة إلا في البيت؛ لأنها من باب التزين لغير الزوج، وقد نهي عن التزين لغير الزوج أو الخروج بالزينة، أو خروج المرأة متطيبة متعطرة من بيتها فليعلم ذلك.
وأما خروج الثوب من العباءة فلا بأس به إن شاء الله، إذا كانت المرأة حجبت وجهها ويديها، لكن المقصود في المسألة ألا يكون هناك زينة جميلة، تغري بالنظر، وتثير القلوب، وتأتي بالفتنة، وهي زينة الثياب الجميلة التي لا تلبس إلا للزوج، وأنا قلت في أول الكلمة: عليها أن تلبس ثياباً متبذلة، تخرج بها إلى المصلى ولا تتطيب حتى تعود من المسجد.(268/23)
الزكاة
السؤال
هل في ثلث الميت الذي أوصى به زكاة؟
الجواب
الميراث إذا حال عليه الحول فيه زكاة، والوصية التي أوصى بها إذا بقيت مع الورثة بأيديهم فإنها تزكى، لكن تصرف إلى الموصى به، فإذا لم تصرف الوصية حتى حال عليها الحول، فيزكيها من هي بيده الذي يسمى الوكيل أو الأمين أو الضمين، وأما إذا صرفت إلى مستحقها فيبدأ حوله منذ أن استلم هذا المال وهذه الوصية، ويبني على أول وصول الوصية إليه، ثم يزكيها على تمام الحول.(268/24)
إعانة المجاهدين
السؤال
أنا شخص ذهبت إلى أفغانستان في الجبهة العربية، ووجدتهم بحاجة للتذكير والتعليم فما رأيك بالزيارة لهم؟
الجواب
أحسنت بارك الله فيك، ونذكر الإخوان أن المجاهدين الأفغان والمجاهدين المسلمين في فلسطين بحاجة إلى عون، والعون هذا من أعظمه أن تدعو لهم في السر والعلن، وفي أدبار الصلوات بالنصر والتثبيت، ومنه المال، ومن استطاع أن ينفع بعلمه أو بدعوته فليذهب، وأما اقتراحك فمقبول، وإذا كتب الله ويسر فهذا وارد إن شاء الله.(268/25)
حال حديث أن عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبواً
السؤال
كتاب صور من حياة الصحابة يدرس في المرحلة المتوسطة وفيه حديث يقول: إن أبا عبيدة عامر بن الجراح يدخل الجنة وهو يحبو، فهل هذا صحيح؟
الجواب
ربما الوهم منك أو من الأستاذ صاحب صور من حياة الصحابة، فالذي ورد أنه يدخلها حبواً هو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، وليس أبا عبيدة عامر بن الجراح، وهذه القصة خطأ موضوعة وكذب، فـ عبد الرحمن بن عوف من العشرة المبشرين بالجنة، وقضية أنه يدخل الجنة حبواً لا تثبت، وقد ردها ابن تيمية وأنكرها، فالقصة نقلت عن عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة، وليست عن أبي عبيدة ولا تصح كما قلت.(268/26)
التقليل من النوم في رمضان
السؤال
أنا شاب أريد أن استفيد من شهر رمضان، فما هو البرنامج الذي تنصحونني به؟ وأيهما أفضل النوم في الليل أم السهر حتى وقت السحور؟
الجواب
أنت أعرف بقلبك وبما يقربك من الله عز وجل، لكن الذي أنصحك به أن تقلل من النوم، ولا بد من شيء من النوم في رمضان في النهار، كقيلولة أو قبل الظهر، لكن تقلل من النوم، ولا تفعل كما يفعل كثير من الناس الذين ينامون كثيراً من النهار وبعضهم ينام كل النهار ولا يقوم إلا للصلوات، فهذا ما كأنه صام، ولو أن صومه صحيح، لكن أسرار الصوم، ومقاصد الصيام ما وصلت إلى قلبه إلى الآن.
فأرى أنك إذا صليت مع المسلمين التراويح أن تذهب إلى بيتك فتنام، ثم تقوم وقت السحر، وتأخر السحور حتى ما يكون بينه وبين الفجر إلا شيء قليل، فتقوم فتذكر الله، وتصلي ما كتب الله لك وتتسحر، ثم تصلي مع الجماعة في المسجد، ثم تعود، فتذكر الله عز وجل حتى طلوع الشمس في بيتك أو في المسجد، ثم يكون لك ورد من القرآن ومن الضحى وتكثر منه وإذا لم يكن هناك دراسة منهجية، وإن كان هناك دراسة فتذهب إليها، فإذا عدت فلا بأس بالراحة، إما قبل الظهر وإما بعد الظهر.
فإذا استيقظت من صلاة العصر فصلها ثم خذ هذا الوقت من العصر إلى الغروب، وقسمه بين تلاوة القرآن بتدبر، وبين ذكر، ودعاء، ومناجاة لله؛ لأنها فرصة لا تتكرر، وللصائم دعوة لا ترد، وهذا قبل إفطاره، فاغتنم الدعاء في مثل هذا الوقت، فإذا أفطرت وصليت المغرب، بقيت مع أهلك في إفطارك، وأنت تحمد الله عز وجل على هذه النعم، ثم تعود إلى برنامجك الأول.
والمقصود أن تمضي أكثر الساعات في العبادة والذكر وتلاوة القرآن، وأن تجعل للنوم أوقاتاً محددة، وحبذا أن يكون غالبها في الليل لا في النهار.
وأما قولك: هل تسهر من صلاة التراويح إلى السحر، فإن كان فيه منفعة كأن تصلي أو تقرأ القرآن أو ما أتى لك وقت في النهار، فلا بأس في ذلك، وإلا فالأفيد لك والأنفع أن تنام، وأن تأخذ مكانه من وقت النهار.(268/27)
حكم من جامع في نهار رمضان
السؤال
اثنان أحدهما جامع في نهار رمضان جاهلاً بالحكم فماذا عليه؟ والآخر جامع عالماً بالحكم فماذا عليه؟
الجواب
روى الجماعة منهم البخاري ومسلم، من حديث سلمة بن صخرة البياضي أنه جامع في نهار رمضان، فأتى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: {يا رسول الله هلكت، قال: وما أهلكك؟ قال: جامعت أهلي في نهار رمضان، فقال له صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا أجد، قال: هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: وهل أوقعني ما أوقعني إلا الصيام؟ قال: هل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: على أفقر مني يا رسول الله، فو الله ما بين لابتيها -أي: حرتي المدينة - أفقر مني، فأُتي صلى الله عليه وسلم بمكتل، فدفعه إليه} فتبسم صلى الله عليه وسلم من فعله يوم أتى يسأل، وعاد بهذا المال، فهذا كفارة من جامع في نهار رمضان عمداً.
أما الجاهل فالذي يظهر من نصوص الشريعة أنه ليس عليه كفارة؛ لأن الجاهل لا يؤاخذ حتى يأتيه الحكم، ورجح كثير من أهل العلم من المحققين أن الناسي يدخل في حكم الجاهل، وأن من نسي فجامع فليس عليه كفارة، فالجاهل والناسي في هذا الحكم.
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286].
ويقضي هذا اليوم الذي أفطر فيه بدون كفارة.
ونسأل الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(268/28)
صفات أولياء الله
عباراتٌ رائعة، سردها الشيح متناسبة مع روعة العنوان -صفات أولياء الله- ذكر من صفاتهم عشر صفات، أوردها إجمالاً في مستهل حديثه، ثم تكلم عنها بالتفصيل، ذاكراً في ثنايا كلامه ضوابط مهمة في الأولياء، وفي معرفتهم وآراء أهل السنة والجماعة في مختلف القضايا.(269/1)
معرفة أولياء الله
يا محفل الخير حَيَوا لي محياه نداء حق من الفصحى سمعناه
قد أطرب الأذن فانصاعت لنغمته وأطرقت برهة تسعى لفحواه
يقول للجيل والإيمان رافده عودوا إلى الله قد ناداكم الله
عُبَّاد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابدٍ دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يُشيدون لنا مجداً أضعناه
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، سلام الله عليكم يا أولياء الله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:101 - 105] هم أولياء الله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63،62] {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].
عنوان هذا الدرس: صفات أولياء الله.
جعلنا الله من أوليائه، وحشرنا الله في زمرة أوليائه، وأظلنا الله في ظله مع أوليائه.
من هم أولياء الله؟
أمن لبس العباء وتمشلح بالقباء ونام في العراء؟
من هم أولياء الله؟
أمن أتى بالمراسيم، وقُبِّل كفه حتى أنزل منزلة العظيم، وانحني على صدره حتى كأنه ملك كريم؟
من هم أولياء الله؟
أمن لبس العمائم أو الغتر الحمراء، أو الثياب البيضاء، أو المناصب العالية، أو المراكب الوطية، أو الفلل البهية؟
من هم أولياء الله؟
أأهل الحشود والجنود والبنود؟ أأهل الأعلام الفئام؟!
من هم أولياء الله؟
العلماء أم طلبة العلم؟ العوام أم الجنود؟ التجار أم الفلاحون؟
من هم أولياء الله؟
ذلكم ما سوف نجيب عليه إن شاء الله.
أولياء الله لهم عشر مواصفات جمعتها عموماً ومجملاً، وإلا فتفصيلها يدخل في مئات الجزئيات، فمن وجد ذلك في نفسه فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
إذا كان هذا الدمع يجري صبابة على غير سعدى فهو دمع مضيع(269/2)
صفات أولياء الله مجملة
أول صفاتهم: إخلاصهم للواحد الأحد.
ثانيها: أنهم يرضون بالرسول صلى الله عليه وسلم إماماً وقدوة وأسوةً ومعلماً، ولا يرضون بغيره ولا يحكمون بعد كلام الله إلا كلامه، فهو معصوم.
والصفة الثالثة: يحبون في الله، ويبغضون في الله، ويوالون في الله، ويعادون في الله، ويعطون في الله، ويمنعون في الله، لا على مشرب ولا هيئة ولا انتماء ولا تحزب قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55].
الصفة الرابعة: سلامة صدورهم للمسلمين، فصدورهم للمؤمنين بيضاء وألسنتهم سليمة عفيفة من أعراض المسلمين.
والصفة الخامسة: حرصهم على إتمام الفرائض وأداء النوافل، فيتقربون إلى الله بالسجود وبالعبادة والخشوع، وبالتلاوة والصدقة وصيام النوافل، وسوف يأتي لها تفصيل.
الصفة السادسة: سلفيتهم في المعتقد وسنيتهم في السلوك، فلا يصانعون مبتدعاً ولا يداجون مارداً.
اعتقادهم اعتقاد السلف، فلا يتجمعون تحت مظلة بدعية، ولا يرضون بمبتدع أن يكون أخاً لهم أو حبيباً أو قريباً، ولا يتنازلون في المعتقد؛ بل معتقدهم معتقد السلف الصالح: معتقد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي حنيفة وأحمد والشافعي ومالك والأوزاعي والثوري وأضرابهم وأمثالهم من أهل السنة والجماعة، فلا منازلة ولا اختيار ولا مداجاة، ولا لبس ولا غبش، فعقيدتهم سلفية صرفة مأخوذة من الكتاب والسنة.
أما الصفة السابعة: يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقولون الحق ويقبلونه ممن قاله، ويستضيئون بالحق، ويصبحون على الحق ويمسون على الحق.
الصفة الثامنة: أنهم يحبون الجماعة -جماعة المسلمين- الذين يستقبلون القبلة خمس مرات في كل يوم وليلة، هؤلاء هم جماعة المسلمين الذين يجتمعون على الكتاب والسنة؛ تجار وعوام وعلماء وجنود وفلاحون، يحبون جماعة المسلمين ويكرهون الفرقة، ويسعون إلى جمع الشمل ونبذ الاختلاف، فمن سعى في تفريق الكلمة فقد نقص في الولاية بنقصه من هذه الجزئية.
والصفة التاسعة من صفاتهم: أنهم يعودون إلى الكتاب والسنة عند التنازع، فيتحاكمون إلى الكتاب والسنة إذا اختلفوا، ولا يرضون منهما بديلاً، ولا يعودون إلى الآراء والأهواء.
أما الصفة العاشرة: فيقولون بالحق وبه يعملون وإليه يدعون، ثم إن لهم منهج تنظير مؤسس وهو الكتاب والسنة.(269/3)
من أولياء الله أبو بكر الصديق
يا إخوتي في الله: لم ترفع أبا بكر الصديق تجارته، فقد كان تاجراً ولكن أنفقها في سبيل الله، ولا منصبه فقد كان خليفة لكن -والله- ما رفعه ذلك عند الله.
الذي رفعه أنه ولي من أولياء الله.
يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {إن للجنة أبواباً ثمانية فمن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الريان، دعي من باب الصيام، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد} إلى آخر تلك الأبوب، فينبري أبو بكر ويقول: {يا رسول الله! أيدعى أحد من أبواب الجنة الثمانية؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: نعم.
وأرجو أن تكون منهم} يقول ابن القيم:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: {من زار منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا.
قال: من شيع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال صلى الله عليه وسلم: من تصدق منكم اليوم بصدقة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا.
قال: لا تجتمع في رجل في يوم واحد إلا دخل الجنة} قال تعالى: {* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1 - 11] هذه مواصفات أولياء الله تبارك وتعالى.(269/4)
من صفات الأولياء الإخلاص
من مواصفات أولياء الله إخلاص العمل لوجه الله، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66] تباً لمن عمل لغير الله، ونعوذ بالله من الرياء والسمعة، ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به}.
فصفة أولياء الله أنهم يريدون بعملهم وجه الله، يقولون لأحد الصالحين وهو ابن سيرين: صل بنا.
قال: لا والله، أخشى أن أتقدم لأصلي بكم فينصرف الناس يقولون: صلى بنا ابن سيرين.
فترك الصلاة خوف الشهرة!
وقالوا عن إبراهيم النخعي: كان إذا جلس عنده أربعة قام وتركهم وقال: أخاف أن يجتمع علي الناس.
إنهم أخلص منا، ولكن كما قال الأول يوم خالط مثلنا:
لعمر أبيك ما نسب المعلى إلى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت وصوح نبتها رعي الهشيم
إنهم كانوا يلاحظون الله في خطراتهم وسكناتهم.
وفي الحديث: {أول من تسعر بهم النار ثلاثة: قارئ قرأ القرآن، يقول الله: أقرأتك القرآن وعلمتك العلم، فماذا فعلت به؟ قال: قمت به آناء الليل وأطراف النهار، فيقول الله له: كذبت وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل تعلمت العلم ليقال عالم وقد قيل، خذوه إلى النار؛ فيدهده على وجهه في النار} وكذلك صاحب المال والمقاتل في المعركة.
إذاً أول ميزة لعباد الله: إخلاص العمل، قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
فأول ما ندعو أنفسنا وإياكم إلى إخلاص العمل لوجه الله.
أبو إسحاق الشيرازي عالم الشافعية في القرن الخامس يقولون: ما كان يتكلم بكلمة، ولا يلقي درساً إلا بعد أن يصلي ركعتين، ويدعو الله أن يتقبل منه.
ابن الجوزي واعظ الدنيا، كان إذا أراد أن يخطب في الناس ويعظهم مرغ وجهه في التراب وبكى وقال: يا رب استرني وتقبل مني (أو كما قال).
فلذلك ميز أهل السنة عن غيرهم إخلاصهم العمل لوجه الله، وفي الصحيح يقول الله عز وجل للمرائين يوم القيامة: {اذهبوا إلى من أشركتم معي فيه فخذوا أجوركم منهم} أو كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الحديث.(269/5)
حقيقة الإخلاص
يا إخوتي في الله أما في حقيقة الإخلاص: فهو كما قال القشيري في رسالته.
الإخلاص أن تعمل عملاً لا ترجو ثوابك فيه إلا من الله.
وقال غيره: ألا يحول بينك وبين الله خلق.
وقال غيره: أن يكون عملك أمام الناس وفي الخلوة سواء، تصلي وحدك كأنك أمام الناس، وتصلي أمام الناس كأنك وحدك.
ابن تيمية -وأنا أذكره كثيراً وبعض الناس يلومون عليَّ ذلك، وقد كان ابن الجوزي كما يذكر عنه ابن رجب في طبقات الحنابلة أنه قيل له: فيك خير إلا إنك تكثر من ذكر الإمام أحمد.
فقال: سبحان الله! تلومونني من ذكر الإمام أحمد كثيراً! ثم أنشد على المنبر:
أتوب إليك يا رحمن مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوبُ
وأما عن هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوب
يقول: لا أتوب من ذكر الإمام أحمد، بل دونه قطع الرءوس.
فـ ابن تيمية كان مخلصاً لله، حتى ذكر ابن عبد الهادي أنه لما دخل الإسكندرية اجتمع له الناس، فيقول أحد تلاميذه: يا شيخ الإسلام! هؤلاء يريدون قتلك؛ فنفخ في كفه وقال: والله كأنهم ذباب.
لماذا؟ لأنه عرف الله فـ {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:1 - 3].(269/6)
اعتقاد أن القدرة لله سبب للإخلاص
ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء أن علي بن أبي طالب سيف الله المنتضى والإمام المرتضى جلس تحت حائط يريد أن ينقض، يقضي بين رجلين فقال أحد المسلمين لـ علي: الحائط يريد أن ينقض عليك.
قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فلما قضى بين الرجلين وقام من مجلسه؛ انقض الحائط مكانه! قال علي رضي الله عنه في بيتين:
أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أو يوم قدر
يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا يغني الحذر
فالذي بيده الضر والنفع هو الله، والمغني هو الله والمفقر هو الله والمحيي والمميت هو الله.
ولذلك كان من أسباب الإخلاص عند أهل السنة والجماعة وأولياء الله أنهم جعلوا القدرة لله والنفاذ والحكم والتصريف والخلق والإماتة والرزق والتدبير لله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14].
إذاً -يا إخوتي في الله- علينا أن نطالب أنفسنا بالإخلاص؟
وأخص خصائص أولياء الله الإخلاص، دعوتهم لوجه الله، صلاتهم لله، طلبهم العلم لله، وذكروا عن أيوب بن أبي تميمة السختياني أنه كان يبكي إذا ذكرت عنده أحاديث الرقائق (إذا ذكر الموت بكى) فيشوص أنفه ويقول: ما أشد الزكام! كأنه مزكوم وهو يبكي، يقول ابن الجوزي:
أفدي ظباء فلاة ما عرفن به مضغ الكلام ولا مزج الحواجيب
يا للصدق! يا للوضوح! بعض الناس يريد أن يدري الناس أنه زاهد، فيأخذ ثوباً ممزقاً مقطعاً، وقد سكنت الدنيا في قلبه بعماراتها وسياراتها ومعارضها وأسواقها! يشتري ثوباً بخمسة عشر ريالاً وقلبه يريد ثوباً بألفي ريال! الزهد ليس في الثياب الممزقة، ولا في الرقع المخرقة، ولكن الزهد في صدق القلوب، ومجافاة الحرام، والتقلل من الدنيا بشيء لا يزري بك عند الله ثم عند الناس.(269/7)
من صفات أولياء الله الرضا برسول الله صلى الله عليه وسلم إماماً وقدوة
أما الصفة الثانية من صفات أولياء الله تعالى: فهي أنهم يرضون برسول الله صلى الله عليه وسلم إماماً ويحكمونه ويقتدون به، ويكون أحب إليهم من أسماعهم وأبصارهم، يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين} وقال تعالى: {
الجواب
=6000557>> فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].(269/8)
تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم
الإمام مالك كان يدرس الموطأ في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي أثناء قراءته الكتاب، أتته عقرب فلدغته ثلاث عشرة لدغة، فما تغير إلا وجهه، وبعدما انتهى رأى اللدغات في ساقه فمسحها بترياق.
قيل له: لِمَ لم تقطع الحديث؟ قال: سبحان الله!! أقطع حديث الحبيب من أجل لدغ عقرب!! أي حب هذا وأي اشتياق؟!
سعيد بن المسيب سئل عن حديث وهو في مرض الموت، فقال: أجلسوني، لا ينبغي أن يذكر صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع.
ولذلك كان كثير من الصالحين إذا رأوا آثار معالم الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة وما حولها بكوا، فكيف لو رأوه؟!
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
وفي الصحيح يلتفت محمد عليه الصلاة والسلام إلى جبل أحد ويقول: {أحد جبل يحبنا ونحبه} سبحان الله حتى الجبال تحبك! نعم لأن لك بإذن الله منة على الأرض بمنة الله تبارك وتعالى.
يقف في أول خطبة يخطبها صلى الله عليه وسلم على المنبر الجديد ويترك جذع النخلة الذي كان يخطب عليه منذ زمن، فيحن الجذع كحنين النوق العشار (الإبل) ويسمع له كبكاء الأطفال! خشبٌ يبكي! إنه لحق مثلما أنكم تنطقون -هذا في صحيح البخاري عن جابر - فينزل الرسول صلى الله عليه وسلم فيضع يده على الجذع، ويسكته حتى يسكت.
يقول الحسن البصري معلقاً: عجباً لكم! جذع يحن للرسول عليه الصلاة والسلام وأنتم لا تحنون!(269/9)
حب النبي وتقديمه على كل أحد
إذاً من صفات أولياء الله: حبهم العظيم للرسول عليه الصلاة والسلام فلا يرضون إماماً غيره.
وأنا أحذر نفسي وإياكم، خاصة طلبة العلم والدعاة، أن يغالوا في بعض الأشخاص من المنظرين وممن لهم زعامات أن يجعلوا في مكانة الرسول عليه الصلاة والسلام وفي صدارته فذلك خطأ وغلو والله تعالى يقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171].
يا إخوتي في الله محمد عليه الصلاة والسلام معصوم، وما رضي الله إلا هو ليكون لنا قدوة، بعض الناس يذكر بعض الأشخاص أكثر من ذكر المصطفى عليه الصلاة والسلام.
إذاً من صفات الأولياء أنهم يقتدون بالرسول عليه الصلاة والسلام، خالف ذلك أهل البدعة فاقتدوا بأئمتهم كـ الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وأذنابهم وأمثالهم من الفجرة.
وخالف في ذلك غلاة الصوفية فاعتقدوا بمشايخهم وجعلوهم أئمة.
وخالف في ذلك متعصبة المتفقهة من أهل المذاهب الغالية فقدم بعضهم أقوال الأئمة، كأقوال أبي حنيفة أحياناً، وأقوال مالك أو الشافعي أو أحمد أحياناً أخرى على قول الرسول صلى الله عليه وسلم!! وتوسط أهل السنة فجعلوا إمامهم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
إذاً فليحفظ هذا المبدأ: إن القدوة لـ أهل السنة وأولياء الله محمد عليه الصلاة والسلام في كل شيء، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فإنني أطالب نفسي وإياكم بالاقتداء به، في المعتقد والحال، والفعال والأقوال، ولا نجعل بيننا وبين الله في التبليغ واسطة إلا محمداً، وأما في الدعاء والاستغاثة والخوف والرجاء، فلا نجعل بيننا وبين الله واسطة أبداً.(269/10)
الحب والبغض في الله
من صفات أولياء الله وهي الصفة الثالثة: حبهم وبغضهم في الله، يحبون الأشخاص لقربهم من الله ويبغضون الأشخاص لبعدهم عن الله، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]
يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود بسند صحيح: {من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان}
إذاً فلا يحبون أحداً لنسب إضافية، أو لمواصفات أو ملابسات أو لأنه وافقهم في مشرب، أو اتجه معهم في اتجاه، أو ذهب معهم تحت مظلة، فإنهم إذا أحبوا هذا الشخص لهذه المواصفات فقد أخطئوا خطأً بيناً، ولا نعفيهم من أنهم صرفوا شيئاً من العبادة لغير الله.
إذاً أهل السنة يحبون الأولياء، ولا بأس أن نقف مع الوليين العظيمين: الشافعي وأحمد اللذين هما من أولياء الله الكبار، ولذلك رفعهم الله، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] وانظر كم تردد ذكرهما في المحافل والندوات والمحاضرات والمنابر.
زار الشافعي أحمد في ليلة من الليالي -كما في السير- فقدم الإمام أحمد عشاءً للشافعي من عشائه، لا طازجاً ولا مثلجاً، خبزة من شعير وزيت، ذلك هو عشاء إمام أهل السنة والجماعة p=1000023>> أحمد بن حنبل الذي يحفظ ألف ألف حديث فأكل الشافعي ماشاء الله وزاد عن عادته، فلما أراد أن ينام وضع له الإمام أحمد مطهرة يتوضأ فيها ليصلي الليل، فنام الشافعي فما قام حتى الفجر، فأتى الإمام أحمد فأيقظه، فلما صليا الفجر قال الإمام أحمد: عجبت منك بخصلتين.
قال: ما هما؟ قال: قدمت لك عشاء فأكثرت الأكل على غير عادة أهل العلم، وقدمت لك طهوراً تتوضأ به فما توضأت وقمت تصلي، فكأنك ما صليت الليل.
قال: أما عشاؤك فلي ثلاثة أيام ما أكلت طعاماً، فأردت أن آكل من طعامك، وعلمت أنه من حلال فأكثرت منه، وأما أنني ما قمت الليل فوالله ما نمت من صلاة العشاء إلى الفجر أتفكر في آيات الله!
هذا الإمام الشافعي الذي كان يدعو له الإمام أحمد انظر الصفاء!
أما الآن فأكثر التشريح والتجريح والخناجر المسمومة في المجالس بين بعض طلبة العلم!
الإمام أحمد في السحر قبل صلاة الفجر يقول: اللهم اغفر للشافعي، اللهم ارحم الشافعي، اللهم ارض عن الشافعي؛ فيقول ابنه صالح: يا أبتاه أراك تدعو للشافعي كثيراً! قال: يا بني! أتدري ما مثل الشافعي؟ قال: لا.
قال: مثل الشافعي كالشمس للأرض وكالعافية للأبدان فهل منهما بديل؟
يأتي الشافعي وهو أكبر من الإمام أحمد سناً، فيزوره دائماً ويجلس معه! فيقول تلاميذ الشافعي للشافعي: كيف تزور أحمد وهو أصغر منك؟! فرد عليهم في بيتين:
قالوا يزورك أحمد وتزوره قلت الفضائل لا تغادر منزله
إن زارني فلفضله أو زرته فلفضله فالفضل في الحالين له
خرج الشافعي من بغداد وهو يعانق أحمد وهو يبكي، فيقول الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم ولا أخشى من الإمام أحمد.
إمام أهل السنة والجماعة.
فمن صفات الأولياء أنهم يتحابون في الله: الشافعي يكتب لـ أحمد قصيدة ويقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة
{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] وجد من بعض الملتزمين المستقيمين من يصلي الخمس ويصوم رمضان ويحج البيت، ولكن يحب العصاة! جلساته مع العصاة، سمراته وسهراته مع أعداء الله، معهم في الليالي الحمراء، في الشاطئ الأثيم المتهم، في جلسة تغضب المولى سُبحَانَهُ وَتَعَالى!
حب الله وحب أعدائه لا يلتقيان في القلب، إن من أحب الله أحب أولياء الله وكره أعداء الله.
يا إخوتي في الله: تمييز الولاء والبراء لمن؟
وممن يكون البراء ولمن يصرف الحب؟
حب الإنسان لسنته، الإمام أحمد يقول: أرى الشيخ الكبير يخضب لحيته (بالحناء أو ما شابهه) فأفرح به وأحبه، لأنه أحيا شيئاً من السنة.
فهنيئاً لك يا أبا عبد الله تحب إنساناً فقط لأنه أحيا سنة الخضاب من المسلمين! فكيف بمن يصلي الخمس ويصوم الشهر ويدافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويحب سنته!(269/11)
سلامة الصدر للمسلمين
ومن صفاتهم سلامة صدورهم للمسلمين.(269/12)
ترك الغل والحقد والحسد
ومن سلامة الصدور للمسلمين أنهم لا يجدون غلاً ولا حقداً ولا حسداً ولا غشاً لعباد الله عز وجل، ويوجد من يحقد حقداً ذريعاً على إخوانه وذلك لأنهم خالفوه في جزئيات أو فرعيات، فهو يريد لهم الموت الأحمر.
الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس في المسجد، فيطلع رجل متوضئ تنطف لحيته ماء، قد أمسك نعله في يده الشمال وقبل أن يدخل يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {يطلع عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة، فيطلع هذا الرجل وفي اليوم الثاني يقول مثل ذلك: فيدخل ذاك الرجل، وفي اليوم الثالث يقول مثل ذلك، فيذهب معه عبد الله بن عمرو ليرى عبادته فلا يجد هناك عبادة كثيرة، فيقول: إني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {يطلع عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة، ثلاث مرات فطلعت أنت الثلاث مرات، ولم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال عبد الله: فانصرفت عنه، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي على أحد من المسلمين غشاً ولا أحسده على خير أعطاه الله إياه} منزلة رفيعة! قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
من ميزات أولياء الله: سلامةُ صدورهم، قال تعالى: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] صفاءٌ أطهر من حمام الحرم، وأنقى من ماء المزن، لا يجدون على المسلمين.
جاء عند أحمد في المسند بسند جيد: {ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم -من الغل والحقد والغشش والهيجان-: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط بمن وراءهم} فلابد من صفاء السريرة.(269/13)
حفظ أعراض المؤمنين
والجزئية الثانية في سلامة صدورهم: حفظ أعراض المؤمنين، فهم يحفظون أعراض المؤمنين في مجالسهم.
لسانك لا تذكر به عورةَ امرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايباً فصنها وقل: يا عين للناس أعين
قال تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12] هذه هي صفات الأولياء، ليس هناك ألغاز وأحاجي في الأولياء، ليس لهم طول ولا قصر ولا ألوان ولا عمائم، ولا يلبسون القباء أو العباء بل مميزاتهم في صفاتهم.
غلاة الصوفية يقولون: من صفا واكتفى حتى بلغ الكفى إلخ هذه الخرابيط ظلمات بعضها فوق بعض، وقد تجد بعضهم لا يعرف كيف يصلي؛ أو تجده مرابياً أو دجالاً أو مشركاً أو صاداً للناس عن عبادة الله، ويجعلونه ولياً من أولياء الله، وهو عدو من أعداء الله!
الولي لا يشترط فيه أن يكون أستاذاً أو مدرساً أو داعية أو تاجراً أو جندياً أو فلاحاً، وقد يوجد الأولياء من هؤلاء جميعاً، فلعلك تجد ولياً فلاحاً، فالذي يقيم الصلوات الخمس وينقي سريرته ومعتقده على السنة؛ فهو من أولياء الله تعالى.
فسلامة أعراض المسلمين من ألسنة المؤمنين من علامات أولياء الله المتقين، بلغنا الله وإياكم منزلة الولاية، ويا شوقنا لتلك المنزلة!
يا إخوتي في الله: ليس الظفر بالرسائل غاية، والله إنها بلا إيمان هباء منثور، وإن رسائل الدكتوراه ولاية حقيرة هزيلة، وإنها غضب ولعنة على أصحابها إن لم يتقربوا بها إلى الله.
في المناصب، فرعون تولى أعظم منصب لكنه ملعون.
أما الأغنياء؛ فقارون تولى أعظم ثروة لكنه ملعون.
الأولاد: الوليد بن المغيرة عنده عشرة أولاد لكنه ملعون.
بلال عبد حبشي، لا يساوي عند الجاهليين فلسين، أسلم وتقلد بالولاية.
يقول عمر: [[أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا]].
أبلال فاسلم يا إمام معاشر ولأنت أعظم في الجباه السجد
وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال
بلال داعية السماء إلى أهل الأرض، في صحيح البخاري يقول صلى الله عليه وسلم: {دخلت الجنة البارحة، فسمعت دف نعليك يا بلال! فماذا كنت تصنع؟
ألأسرته؟ لا أسرة له.
ألمنصبه؟ لا منصب.
ألولده؟ لا ولد.
ألجاهه؟ لا جاه.
قال: يا رسول الله! إني ما توضأت في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت ركعتين، قال: فبذاك دخلت الجنة.
}(269/14)
جليبيب وليٌّ من أولياء الله
في صحيح مسلم أن رجلاً اسمه جليبيب وهو مولى ضعيف ممزق الثياب، ليس عنده دار ولا شيكات ولا بنوك، ولا سيارات ولا فلل، يأتي بثياب ممزقه فيتبسم صلى الله عليه وسلم من حالته، حالة أهل الإيمان الذي يقول الله فيهم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] يقول صلى الله عليه وسلم لـ جليبيب: {ألا تتزوج؟ قال: يا رسول الله! ومن يزوجني؟! لا أهل ولا جاه ولا مال} لكن عنده أعظم من الجاه الإيمان، وعنده أعظم من المال الإيمان، وعنده أعظم من الولد الإيمان.
هبوا لي معشراً قوماً صحاحاً أدك بها حصون الكافرينا
ودكوا لي بالإيمان صرحاً متيناً من صروح الفاجرينا
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
ماذا وجد من فقد الله وماذا فقد من وجد الله؟
قال في المرة الثانية: يا جليبيب ألا تتزوج؟ قال: من يزوجني يا رسول الله؟ لا أهل ولا جاه ولا مال.
وفي الثالثة قال له: ألا تتزوج؟ قال: من يزوجني يا رسول الله؟! لا أهل ولا مال ولا جاه.
قال: اذهب إلى أهل فلان من الأنصار واطرق بابهم وقل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تزوجوني ابنتكم.
فذهب وطرق الباب، فخرج أبو البنت: ماذا تريد يا جليبيب؟ قال: أريد الزواج من ابنتكم.
قال: الله المستعان جليبيب! قال: الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرني.
فعاد يشاور امرأته (حق الفيتو عند المرأة) لا يصرم حبلاً ولا يبني جداراً إلا بعد أن يشاور المرأة؛ فشاورها وعرض عليها الأمر، فهزت رأسها، فهي تعرف جليبيباً، قالت: جليبيب! الله المستعان! قال: أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم.
فتلكأ الرجل وتلكأت امرأته، فسمعت البنت المؤمنة الصادقة الناصحة؛ التي نريد من فتياتنا المسلمات المؤمنات أن يكن مثلها، تحب الإيمان وتحب أن تتزوج من أهل الإيمان، ولا تفضل على أهل الإيمان أهل درهم ولا دينار ولا منصب ولا مال.
قالت البنت: أتريدون أن تردوا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام؟ لا والله لأتزوجنه، فذهب ليأتي بالمهر فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مالاً يشتري به الصداق، فسمع بالجهاد فاشترى به عدة للحرب وترك الزواج وحضر المعركة فقاتل حتى قتل، بحث عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين افتقد كلٌ قريبه وصاحبه فيقول صلى الله عليه وسلم: {من افتقدتم؟ قالوا: فلاناً وفلاناً وفلاناً.
قال: أتذكرون أحداً؟ قالوا: لا نذكر أحداًَ.
قال: لكني افتقدت جليبيباً، ثم ذهب يبحث عنه فوجده قد قتل سبعة ثم قتلوه، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم}.
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
وقال عليه الصلاة والسلام: {قتلت سبعة ثم قتلوك! أنت مني وأنا منك، أنت مني وأنا منك، أنت مني وأنا منك}
أتى سلمان يبحث عن الإيمان، ترك أباه وأمه وزوجته وأهله، فلما تدرع بالإيمان، وهو لا يملك قصراً ولا داراً ولا منصباً، قال العرب: من أبوك يا سلمان؟ قال:
أبي الإسلام لا أب له سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
فأولياء الله عز وجل من مواصفاتهم حفظ أعراض المسلمين وحمايتها بظهر الغيب.(269/15)
صفاتهم في العمل والمعتقد(269/16)
التزود بالنوافل بعد إتمام الفرائض
أما الخصلة الخامسة من صفات أولياء الله: فهي حرصهم على إتمام الفرائض والتزود بالنوافل، الإسلام هو الفرائض والنوافل، فإذا رأيت الرجل يحافظ على الفرائض ويؤديها على أكمل وجه ويتزود بالنوافل، ويجتنب المحرمات فهو ولي من أولياء الله، هذه صفته قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63].
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: {ما تقرب إلي عبدي بأحب ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به}.
وعلم من ذلك أن من مواصفات أولياء الله أنهم على قسمين: مقتصد وسابق بالخيرات، فالمقتصد من يحافظ على الفرائض ويجتنب الكبائر، والسابق بالخيرات من يحافظ على الفرائض ويتزود بالنوافل، ويجتنب الكبائر والمحرمات والمكروهات هؤلاء هم أولياء الله، وهذه صفتهم.
شباب يأتون للرسول عليه الصلاة والسلام فيقول شاب: {يا رسول الله! أريد مرافقتك في الجنة.
قال: أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك.
قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود} وفي لفظ: {فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة}.
وهناك حديث ضعيف أورده ابن الجوزي وغيره في صفة الصفوة أن معاوية بن معاوية الليثي توفي والرسول صلى الله عليه وسلم في معركة تبوك فأتى جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {قم فصل على معاوية بن معاوية الليثي فقد حضر جنازته سبعون ألف ملك.
قال: ولم؟ قال: كان يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] قائماً وقاعداً وعلى جنبه}.
من صفات أولياء الله عز وجل التزود بالنوافل، وذكر الله وبذكر الله تطمئن القلوب، وقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وقال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].
ومن صفاتهم أنهم يصومون النوافل، ذكر في ترجمة ابن العماد الحنبلي المقدسي أنه كان يصوم في شدة الحر، الناس يتوقون الحر بالمظلات ويسقط بعضهم على الأرض، وهو صائم في شدة الحر، فإذا ظن الناس أنه صائم؛ أخذ الكوب ووضعه على فمه -كما قال ابن رجب في الطبقات - حتى يظن الناس أنه يشرب وهو لا يشرب.
أي صدق مع الله؟! كان الواحد من السلف إذا أراد أن يتنفل أرخى الستار على نفسه.
ذكر ابن كثير أن الأوزاعي إذا جلس أمام الناس كان لا يبكي، فإذا خلا بنفسه بكى وبكى حتى يسمع جيرانه بكاءه من داخل البيت!
وكان ابن سيرين يضحك في النهار ويتمايل، فإذا أتى الليل بكى حتى يرثي له أهله من حالته، فهو بسام النهار بكاء الليل.
أولياء الله لا ينسون تلاوة القرآن، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29] هؤلاء أولياء الله، أولياء الله أهل صلاة الضحى وهي صلاة الأوابين حين ترمض الفصال.(269/17)
سلفية المعتقد
أما الصفة السادسة: فسلفيون في المعتقد ولا فخر.
لا يكفي أن يكون الإنسان عابداً ويكون بدعياً، تجد من المبتدعة من يصلي في اليوم خمسمائة ركعة، لكنه مبتدع ضال منحرف.
إذاً لابد من الاعتقاد السليم وهو اعتقاد أهل السنة والجماعة الذي أتى به رسول الله عليه الصلاة والسلام في التوحيد بأنواعه: في الأسماء والصفات، وفي العبودية، وفي اليوم الآخر، وفي كل ما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من أمور المعتقد.
هذه من مواصفات أولياء الله عز وجل؛ ولذلك أشرت أنه قد يكون من المبتدعة أو من غلاة أهل التصوف من يكون عابداً لكنه منحرف سلوكاً وعبادةً.
يذكر الخطابي في كتاب العزلة: أن رجلاً من الصوفية مخرف جاهل، يعبد الله كثيراً، يصلي الليل والنهار، لكن ليس على معتقد سليم، وليس على سنة، أخذ لصقة ووضعها على عينه اليسرى، قالوا: ما لك؟ قال: إسراف أن أنظر إلى الدنيا بعينين.
سبحان الله! خلق الله له عينين وهو يبخل بالعين الثانية! يقول الله: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8 - 9] وهو يقول: إسراف أن أنظر بعينين إلى الدنيا!
أتى واحد من أوائل الصوفية إلى الحسن البصري قال: كل معي فالوذجاً قال: لا أؤدي شكره.
قال: ثكلتك أمك وهل تؤدي شكر الماء البارد؟!
انظر إلى الفقه الأعوج! ولذلك تجدونهم عباداً لكن لا يفقهون.
أحدهم يقول: ما أكلت الرطب أربعين سنة.
يقول ابن الجوزي في تلبيس إبليس: رأيت عابداً جاهلاً يصلي وهو ينعس في صلاة الظهر وهو واقف قلت: ما لك؟ قال: ما نمت البارحة من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر أقوم الليل.
فهو يقوم بالنافلة ويخل بالفريضة! فأي فقه هذا؟!(269/18)
الدعوة إلى الخير
ومن صفات أولياء الله أنهم يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يبخلون بالعلم فعلماؤهم رجال عامة، وشبابهم أهل تحصيل، وعوامهم يحرصون على الفائدة.
قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] وقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] وقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79] وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].(269/19)
علماء أهل السنة رجال عامة
علماؤهم رجال عامة، ليس في الإسلام عالم يغلق على نفسه في البيت، فلا يرى الشمس إلا مرة في السنة، وهذا ليس من علماء أهل السنة.
علماء أهل السنة في المسجد وفي السكة والشارع، وفي الرصيف وفي الأندية، وفي مجامع الناس والكليات والجامعات، يفيد الناس، وينفق مما أتاه، قال الشاعر عن العلم:
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا
الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هم علماء بني إسرائيل، فهم يكتمون العلم، تأتي عند العالم فتحلف ألف يمين فيقطر عليك بالقطارة، كأنه يعطيك من دمع عبده، ثم تسأله وتقبل جبينه وعينه اليمنى واليسرى وعلى كفيه وأرجله أن تفيدنا بحديث فيعطيك نصف حديث!! كأنه ينفق من لحمه ودمه، تتوسله وتداجي عليه وتخادعه، حتى يجلس جلسة نصف ساعة ثم يمتن بها ويقول: تكفيكم سَنَة.
الإمام أحمد نشر علمه في المسجد والشارع والسوق، وفي كل مكان.
أما بعض الناس -وهو منهج بدعي- فيرى أن الانتشار مع العامة وتحديثهم وإفادتهم ليس منهجاً دعوياً وهذا خطأ؛ ولذلك لا تثمر هذه الدعوة ولا ينجح هذا التنقيط؛ لأن الدعوة تدعو الناس إلى لا إله إلا الله، إلى الصلاة والصيام، والحج والزكاة، وغيرها من أمور الإسلام ندعو الناس إلى علم ظاهر، ليس عندنا أسرار ولا ألغاز ولا أحاجي.
صح عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: [[إذا رأيت الناس يتناجون في دينهم فاعلم أنهم على دسيسة]] يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {إنما الأعمال بالنيات} فارفع صوتك بها وليس في هذا حياء، هو علم فانشره في الناس، واجعله كالمطر.
علماء السنة يفيدون العامة، ينزلون إلى الناس، يقودون الشباب، يفرحون إذا طرق شاب على باب أحدهم فيخرج له ينظر ماذا يريد؛ هذا ثوبي فافترشه، وخذ الفائدة.
كان الزهري يدور على الناس يعلمهم الحديث، وصح عن عروة بن الزبير أنه كان يعطي الذهب والفضة والدراهم ويقول: تعالوا اسمعوا مني الحديث، فكيف بالإنسان الآن يقدم على العالم ويحتال عليه، ويكتب له عريضة كأنه يراجع في مشروع، ثم تخفق العريضة ولا يفتح بابه، والعصا جاهزة عند الباب! هذا ليس بصحيح! وليس بمنهج أبداً.(269/20)
شباب أهل السنة أهل تحصيل للعلم الشرعي
من علامة أولياء الله أن فتيانهم أهل تحصيل علم شرعي، ليس عندهم كثرة كلام ولا يكون جل حديثهم عن أحداث تقع ووقائع تنتهي، وإن كان علم الواقع لا بأس به.
لكن أين علم قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم (علم السند ومدارسة الحديث).
أتى رجل إلى الإمام أحمد فقال: يا إمام! رجل يقول: أهل الحديث لا يفقهون شيئاً؟
قال الإمام أحمد: زنديق زنديق.
واليوم بعض الناس إذا رأى طالب العلم يحفظ صحيح البخاري أو بلوغ المرام أو رياض الصالحين قال: زاد نسخة في البلد ويقول: العلم ليس بحفظ المتون.
وأنا لا أدري ما هو العلم يا حضرة الشيخ؟!
فهل العلم كلام مصفف، رعيد وإربادات وإرعادات وإرهاصات ومرطبات ومشهيات وبالونات تنفجر في الهواء؟ لا.
العلم رواه أبو داود بسند جيد، العلم رواه ابن حبان والحاكم هذا هو العلم، أما الكلام المنفوش فليس بعلم.
فمن هدي طلبة العلم أولياء الله أنهم أهل تحصيل، إذا رأيت الإنسان يحمل صحيح البخاري وصحيح مسلم فاعرف أنه يسلك طريق الجنة، وإذا رأيته مشغولاً بالمجلات الخليعة والهيصات والجلسات والسمرات والوقائع، وكثرة الكلام، فاعرف أنه رجل مشبوه يحتاج إلى تأديب بستة أسواط أو سبعة، ويدعى له في أدبار الصلوات أن يرد الله عقله عليه؛ لأن بعض العقول تذهب وتأتي.(269/21)
عوام أهل السنة يحرصون على الفوائد
عوام أهل السنة يحرصون على الفائدة، يحضرون المحاضرات والدروس والأمسيات، ويستفيدون ويسألون أهل العلم.
وبخلاف ذلك من انحرف عن الطريق، فعلماء المبتدعة من أبخل الناس بالعلم، وعلمهم في الظلام، فهم لا ينشرون علمهم، وشبابهم يحرصون على الكلام (ورأيت وأرى) وهيجان ليس له حقيقة، وعوامهم لا يحرصون فهم جهلة، فنسأل الله لنا ولكم التوفيق.(269/22)
محبة الجماعة وكراهة الفرقة
أما الصفة الثامنة: يحبون الجماعة ويكرهون الفرقة، ويسعون إلى جمع الشمل ونبذ الاختلاف.
تكوين دوائر ضيقة لتشتيت الأمة ليس من دين الله عز وجل، وكفى بالأمة تمزيقاً.
والله الذي لا إله إلا هو ما في المسجد هذا من رجل أراه أمامي إلا أحبه في الله، وأتمنى من الله عز وجل أن يجمعني وإياه في دار الكرامة، وإنني أعتقد اعتقاداً جازماً مهما خالفني في جزئية أو له مشرب -بشرط أن يكون ولياً من أولياء الله- أن من واجبي أن أحبه في الله، ولا أجد في نفسي عليه شيئاً ولو خالف مهما خالف، ولكن إدخال الأمة في دوائر ضيقة وتمزيق الأمة وتشتيتها لا يصح.
كل من في المسجد جماعة المسلمين، كلهم جماعة واحدة، يدخل فيهم الأغنياء والفقراء، والرؤساء والمرءوسون، وطلبة العلم والعلماء والكبار والصغار بشرط الولاية هذه هي جماعة المسلمين، ليس لهم مواصفات، وليس لهم أسس تنظيرية تجمعية، بل مواصفاتهم الكتاب من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، والسنة الكتب الستة ومسند أحمد وإن زدت المعاجم فلا بأس.
هذا التنظير لجماعة المسلمين، هذا التنظير أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وأراحنا من كل تنظير وتأسيس وتأصيل، كفى، كفى، كفى
أيها الإخوة: أهل السنة يحرصون على الجماعة.
ولذلك يقولون: من علامة أهل البدعة: أنهم يطعنون في ولاة الأمر، وهذه أقولها صراحة وقد قالها أبو عثمان الصابوني وابن بطة الحنبلي.
فمن علامات أهل البدع أنهم يكرهون تجمع المسلمين، ويقولون: الجماعة غير هذا التجمع، ويقولون: العوام لا يدخلون في جماعة المسلمين خطأ، سبحان الله! قد يكونون أفضل، والكل جماعة المسلمين.(269/23)
العودة إلى الكتاب والسنة
ومن مواصفاتهم وهي الصفة التاسعة: أنهم يعودون إلى الكتاب والسنة عند التنازع، ليس عندهم لصقات ولا منشورات وتنظيرات معلقة في حوائطهم من أقوال البشر بل عندهم الكتاب والسنة.
إذا اختلفوا في شيء عادوا إلى الكتاب والسنة، يقول الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] والرد إلى كتاب الله رد إلى الله، والرد إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم دائماً يدعون: {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم}
هؤلاء هم أولياء الله، يردون إلى الكتاب والسنة، ولا نحتاج مع الكتاب والسنة إلى أي تنظير أو تأصيل أو بناء، وكفى بما أتى في الكتاب والسنة.(269/24)
القول بالحق
أما صفتهم العاشرة والأخيرة: فيقولون بالحق، لا يحملهم الهوى على القول بالباطل، والرسول عليه الصلاة والسلام في حديث النسائي الصحيح كان يقول في الدعاء: {اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الغنى والفقر} والشاهد: وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وبعض الناس الآن إذا غضب على أخيه وزميله وحبيبه، غضب عليه وحمله الهوى على أن يقول فيه ما لا يقال؛ وإذا رضي على أخيه ولو كان فيه أخطاء سكت عن أخطائه
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
فنسأل الله أن نكون عدولاً كما أمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] شهداء يقومون بالقسط ويقولون بالقسط والحق لا يجورون ولا يظلمون، وفي أثر يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه يقول: {وأن أقول الحق في الرضا والغضب}.
فمن صفاتهم أنهم يقولون بالحق، ويحكمون بالحق، ويقبلون الحق ممن قاله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقَاً وَعَدْلاً} [هود:119] أي صدقاً في الأقوال وعدلاً في الأحكام.
{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] يقول: لا يحملكم بغض الناس على أن تحكموا عليهم بالمفتريات والزور، وتحيفون عليهم بالحكم الجائر لأنكم تبغضونهم، بل كونوا عدولاً، فـ أهل السنة وأولياء الله يقولون بالحق، ولو خالفك في جزئية فيجب أن تحترمه، لا زالت له حسناته ومقامه وقيمته.
هذه عشر مواصفات لأولياء الله جمعت من كتيبات لـ أهل السنة، هي صفات أهل السنة وهي مجملة، ويندرج في كل صفة جزئيات كثيرة، ولكن من عرف هذه ودرسها وفهمها، وحاول أن يعمل بها، كان ولياً بإذن الواحد الأحد، واستفاد مشرباً وسلامة وقصداً؛ ولذلك علم رسول الله صلى الله عليه وسلم حصين بن عبيد الخزاعي والد عمران وقال له: قل: {اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي} وقال لـ علي بن أبي طالب كما في صحيح مسلم: {قل: اللهم اهدني وسددني} وفي صحيح مسلم عن عائشة أنه: {كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم}.
والصراط المستقيم هو صراط محمد صلى الله عليه وسلم، الكتاب والسنة، وهذه مواصفات أولياء الله عز وجل من أهل السنة والجماعة، الذين لا يحتاجون إلى منظر غير محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يحتاجون إلى تأسيس غير الكتاب والسنة قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] فهؤلاء أهل السنة أولياء الله.
جعلنا الله من أولياء الله، سلام على أولياء الله، وحشرنا الله في زمرة أوليائه وأحبابه، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن يقتدى به في سلوكه وأفعاله، وممن يكون على منهج الصالحين الذين مضوا من القرون المفضلة {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
سلام الله عليكم، وجمعنا بكم في دار الكرامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر، يوم يتقبل الله عنا أحسن ما عملنا، ويتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
آخيتمونا على حب الإله وما كان الحطام شريكاً في تآخينا
إن السلام وإن أهداه مرسله وزاده رونقاً منه وتحسينا
لم يبلغ العشر من قول يبلغه أذن الأحبة أفواه المحبينا
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.(269/25)
الأسئلة(269/26)
كيف نغرس في أنفسنا صفات أولياء الله
السؤال
كيف نغرس ونقوي في أنفسنا صفات أولياء الله تعالى في واقع حياتنا المعاصرة؟
وما هي أسباب الوصول إليها والمحافظة عليها؛ خاصة وأن الإيمان في القلوب يضعف، ويزيد وينقص، فهل من لفتة حول ذلك، وجزاكم الله خير الجزاء؟
الجواب
ما قاله هو تحصيل حاصل وتقرير أمر معلوم، ولكن أنبه على أمور: أن من صدق مع الله صدقه الله، وأن من أراد الله والدار الآخرة وفقه الله ويسره لليسرى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] فأوصيك بأمور:
أولها: صدق النية واللجوء، والعزيمة على التوبة، والإقبال على الله عز وجل.
الأمر الثاني: عليك بالنور الذي يضيء لك هذا الطريق، وهو الكتاب والسنة.
إمامك في هذا الطريق هو محمد صلى الله عليه وسلم.
فسوف ترى -يا أخي- إذا أقبلت إلى الله، كيف يشرح الله صدرك، وكيف يزيدك تقوى وهدى وغنى، وسوف يسددك، لكن أقبل أقبل، وتعال تعال، فإنه من مشى إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ذراعاً أقبل إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى باعاً، ومن أتاه يمشي أتى إليه هرولة، كما في الحديث القدسي الصحيح، فما عليك إلا أن تقبل، فعطاء الله ممنوح، وبابه مفتوح، وخيره يغدو ويروح.
فسبحان الله كم يقبل الله من المقبولين عنده! وكم يتوب على التائبين وكم يغفر ذنوب المستغفرين! فأوصيك أن تقبل على الله، وعليك بتدبر الكتاب والسنة، ولكني أوصيك بأمر آخر وهو مهم: أن تقاطع كل ما يشغلك عن السير إلى الله، من المعاصي وجلساء السوء، ومن الأغنيات الماجنة والمجلات الخليعة، والسهرات التي تغضب المولى؛ ليبقى قلبك صافياً مع الله عز وجل، وحينها يتقبل نور القرآن السنة هذا في المجمل.
وأما قولك أن الإيمان ينقص ويزيد فصحيح هذا ومقرر، ولكن لا يكون إيمانك ناقصاً دائماً، صحيح أنه سوف يعتريك أحياناً نقص لكن لا يكون هذا حالاً دائماً ولا مستمراً معك، بل تكون في زيادة، ويومك أحسن من أمسك، وغدك أحسن من يومك: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(269/27)
المرأة تكون ولياً لله
السؤال
هل تكون المرأة ولياً من أولياء الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟ وهل ما يقال عن الرجال ينطبق على النساء بالنسبة لولاية الله؟ وإن كان هناك فرق أو تفصيل فأرجو إيضاحه؟
الجواب
سبحان الله! كل الكلام الذي قيل يشمل الرجال والنساء إلا في جزئيات بسيطة يعرفها اللبيب، وإلا فما لنا كما قال الشاعر:
وإذا تكون كريهة أدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
أي: أن المرأة للرضاعة والحمل والكرب والمشكلات في البيت وأما الولاية فللرجال قال تعالى يرد على ذلك: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195] وقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] سبحان الله من أتى بالأولاد العظماء إلا النساء!
ومن أتى بالشهداء والعلماء والأدباء والزعماء إلا النساء.
من هي أم أبي بكر إلا امرأة، وخالد وسعد وحسان ومعاذ بن جبل وأضرابهم وأشباههم
الأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت جيلاً طيب الأعراق
الأم نبت إن تعاهده الحيا بالري أورق أيما إيراقِ
سلام على أمهات الأجيال، المسلمات المؤمنات القانتات، إي والله إنهن يدخلن دخولاً أولياً أصلياً في هذه الصفات، ومنهن الولية والعابدة والزاهدة، والحافظة للغيب بما حفظ الله، ولو اتسع الوقت لسقت نماذج من سير الصحابيات، ولكن أكتفي بإشارات فقد تمر مجملة على الأسئلة، وأقول للأخت: اعلمي أن ما قيل في هذه المحاضرة وفي غيرها، أنه ينص عليك نصاً أولياً وتدخلين فيه دخولاً أصلياً فأنت إن شاء الله من أولياء الله المقربين.(269/28)
معاصي الأولياء
السؤال
شخص من الصالحين ومن المحافظين على الصلاة، ويقوم الليل أحياناً ويحرص على أفعال الخير، والدعوة إلى الله في حياته، ولكن يحدث منه تقصير في التأخر عن الصلاة أحياناً، وربما الغيبة في بعض المجالس، وبعض التقصير والتفريط في بعض الصغائر من الذنوب، فهل مثل هذا يكون ولياً من أولياء الله؟ وما علاج مثل هذه الظواهر وأظنها كثيرة، نسأل الله أن يصلح أحوالنا جميعاً.
الجواب
أولاً: ليس الأولياء معصومين، فالولي يخطئ ويصيب، وقد يجهل بعض الحق، وقد يخطئ في الفرعيات، وقد يلتبس عليه بعض الأمور، وقد يكون عامياً، وقد ينقصه بعض الأدلة، وقد تشتبه عليه بعض الأمور، وقد يقع في بعض الكبائر أحياناً ويتوب، وقد تأتي منه الصغائر.
فالولي ليس معصوماً فليعلم ذلك، وهذا أصل مقرر عند أهل السنة والجماعة.
الأمر الثاني: أن الأولياء قسمان: مقتصدون، وسابقون بالخيرات، والذي يدخل الجنة في بعض الروايات التي رجحها شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه يدخل الظالم في الجنة بعد أن يصفى، لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] والجمهور يقولون: يدخل الجنة المقتصد والسابق، والمقتصد هو الذي لا له ولا عليه، يأتي بالفرائض ويجتنب الكبائر، ولكن لا يتجنب المكروهات ولا يأتي بالنوافل، فهذا مقتصد لا يحب الفائدة وليس عليه دين.
وأما السابق بالخيرات فهذا رجل شق الغبار، وأصبح كالنجم المغوار، وكالسيل المدرار، فهو في المرتبة الأولى، إن كان في المصلين فهو في الصف الأول، أو الصائمين فهو أولهم، أو الذاكرين فلسانه لا يفتر، وفي المتصدقين يده مهملة في الصدقة وهذا مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، أما نحن
لا تعرضن ذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
لكن نحبهم في الله عز وجل، عسى الله أن يحشرنا في زمرتهم هذا أمر.
وأما ما ذكرت أنك تأتي بهذه الأمور ولكنك تتأخر عن الصلاة، فهذه معصية وتنقص من ولايتك، ولكن لا تخرجك من دائرة ولاية الله عز وجل، لا زلت ولياً لكن بنسبة، فكل ولي له نسبة {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] والولي قد يغتاب ويتوب، لكن أصفى الأولياء من لا يتأخر عن الصلاة ولا يغتاب فأنت بقدرك: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] وعلمك وعلم غيرك من الناس عند الله.(269/29)
الاستمرار على الطاعة
السؤال
ما إن ودعنا رمضان وودعناه، حتى ولت نفوسنا المريضة هاربة مولية، كأنها حمر مستنفرة فرت من قسورة، ونظير اجتهادنا في الطاعة في رمضان استبقنا نتفانى في معصية الله، وندنس صفحاتنا؛ نسأل الله أن تكون قد بيضت، فصرنا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، فإلى الله نشكو حال أنفسنا.
فما هي الخطوات العملية التي يراها فضيلتكم للمواصلة على طريق الطاعة على شكل خطوات مختصرة وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: أشكر السائل على رقته واستشهاده وروعة أسلوبه، فسؤاله يرمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر.
وأما ما ذكره فواقع، فإنه لما ولى رمضان انسحب كثير من الناس وأعلنوا -والعياذ بالله- تمردهم على المسجد، والله لقد رأينا من الناس من يفتح المصحف، وكأنه لا رب إلا في رمضان، ولا إله إلا في رمضان، ولا إيمان إلا في رمضان، فلما ولى رمضان أقفلوا المصاحف، وخرجوا من المساجد، وتخلفوا عن الصلوات، ورفعوا الأغنيات، وأكثروا من السيئات، وأغضبوا رب الأرض والسماوات!
أي عقول هذه؟!
أما علموا أن رب رمضان هو رب شوال وشعبان وكل الأشهر والأيام؟
أما علموا أن الرقابة معهم في الليل والنهار فما لهم يفرون؟!
وإلى أي جهة يسيرون؟!
وإلى من يلتجئون؟!
فالمسألة الأولى: أن يعلموا أن الله معهم دائماً وأبداً في رمضان وفي غير رمضان.
والأمر الثاني: كيف ينقضون جداراً بنوه، وحصناً رفعوه، وحائطاً شيدوه؟
إنسان أحسن كل الإحسان وبكى في رمضان، حتى إنك تجد كثيراً من الناس بكى في التراويح والقيام، وأكثر الشكاية والدعاء والتبتل، ثم ضيع كسبه!
أرأيت إلى السفيه إذا بنى جداراً ثم هدمه؟!
أرأيت إلى المرأة التي شدت غزلها ثم نقضته من بعد قوة ومن بعد ما شدته؟!
أرأيت إلى الإنسان يبني بيتاً ثم يسحقه؟ ألا يكون سفيهاً؟ وأسفه منه من عمل صالحات وأتى بدرجات وحسنات ثم ضيعها وضاع.
ثم الأمر الثالث: ليعلم أخي في الله أنه على سفر، وأن من الناس من يحبط عمله، يصلح ويصلح ثم يحبط عمله، وإحباط العمل أمر يفعله كثير من الناس، يحسنون ثم يسيئون إساءة ما بعدها إساءة، فأنا أدعوهم إلى ملازمة السير الأول، ولا يأتي ذلك إلا بعزيمة، وبالابتعاد عن جلساء السوء، وبالتقليل من المشغلات والملهيات، والمغريات الحياتية والفتنة التي نعيشها، ولا يأتي ذلك إلا بحفظ العهد مع الله تبارك وتعالى، فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم
فلا تجزعن من سيرةٍ أنت سرتها فأول راض سيرة من يسيرها
أنت الذي جنى على نفسه، وأنت الذي ابتعد عن الله، وأنت الذي تنكر لبيوت الله، وأنت الذي هجر كتاب الله فمالك؟!
إن هذا من السفه والعياذ بالله، وأرجو كل الرجاء العودة إلى الله، وأسأل الله لي ولهم التوفيق إلى الله ثانية وثالثة حتى يتوفانا الله على الإسلام: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].(269/30)
كرامات الأولياء
السؤال
لا شك أن لأولياء الله كرامات تحدث، هل يمكن أن تظهر اليوم بعض الكرامات لبعض أولياء الله من الصالحين؟
وكيف نعرف أن هذه كرامة، أرجو توضيح ذلك؟
الجواب
نعم.
كرامات الأولياء أصل مقرر عند أهل السنة والجماعة، دل عليه الكتاب والسنة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة آل عمران: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] هذه كرامة.
ووقع لـ أبي بكر تضعيف الطعام كما في صحيح البخاري وحصلت أيضاً للعلاء بن الحضرمي ولـ خالد بن الوليد ولـ سعد بن أبي وقاص ولـ عباد بن بشر وغيرهم كثير من أولياء الله.
فالكرامة تقع، ولكن بعض الصوفية غلا في الكرامة حتى أتى بالأمور العادية المشغبات والمشوشات فجعلها كرامة، ذكر الذهبي عن أحد الصوفية أنه ترك الطعام ثلاثة أيام فطال عليه الجوع حتى خاش عقله وطاش وفاش، فرأى صوراً في الجو فقال: رأيت ملائكة، رأيت جبريل نزل ومعه ملك آخر.
قال الذهبي: والله ما رأيت جبريل ولا رأيت ملائكة ولكن عقلك طاش وخاش وفاش.
إنسان يبقى بلا أكل ولا شرب ويقول: كرامة! عجب عجاب.
وبعض الناس يجعل الأمور العادية كرامة، سمعت من بعض المولعين بذكر الكرامات يقول: سافرنا مرة فركبنا الحافلة، فضاع أحدنا في الحافلة فنزلنا فصلينا عند إطارات الحافلة ركعتين، فأخرجه الله لنا من الحافلة!
الرجل موجود في الحافلة وما ضاع، وقال: هذه كرامة من كرامات الله عز وجل!
فما بقي إلا أن يصلي ركعتين عند الإشارة الحمراء حتى تولع الخضراء ثم يقول كرامة!
هذه أمور عادية، والكرامة خرق للسنن التي جعلها الله عز وجل موجودة، ولكن المغالاة في الكرامات حتى إنه لا يحدث شيءٌ إلا قالوا: كرامة، مجانبة الصواب.
ونفي الكرامات ليس من منهج أهل السنة كذلك لكن إثباتها للصالحين، وشيخ الإسلام يشترط في الكرامة شرطين، وقد ذكر ذلك في المجلد الحادي عشر من فتاويه:
الشرط الأول: أن يكون صاحب الكرامة ولياً من أولياء الله على الكتاب والسنة، لا يأتي زنديق فيجعل البيض أكواباً أو يجعل الأكواب بيضاً، أو يأتي بالميكرفون ويجعله وردة وبالوردة ميكرفوناً، نقول: هذا زنديق لأن عمله مخالف للكتاب والسنة، ولذلك قال الشافعي: لا تغتر بالرجل ترى عليه الكرامة ولو طار في الهواء وسار على الماء حتى تعرض قوله وفعله على الكتاب والسنة.
فالشرط الأول أن يكون على الكتاب والسنة، وإلا صار السحرة من أهل الكرامات، يأتيك أحدهم فيقول: اسم ابنتك فاطمة؟
- فتقول: نعم.
- رقم سيارتك: كيت وكيت؟
- تقول: نعم.
- أنت ساكن في حارة كيت وكيت؟
- تقول: نعم.
فتقول: هذا ولي من أولياء الله مثل الشافعي! وهو زنديق يخبره الجن.
الشرط الثاني: أن يستغل هذه الكرامة في نصرة دين الله، لا يأتي بكرامة في تضليل عباد الله وأخذ أموال الناس بالباطل، وفي ضياع أوقات الناس ويقول: كرامة.
مثل هؤلاء البهلوانيين والمشعوذين والسحرة لا.
فهذان الشرطان لابد من توفرهما.
ولذلك أردت أن أقول: أعظم كرامة لزوم الاستقامة، يقولون: العامل لنفسه يسعى للكرامة وولي الله يسعى للاستقامة، فإذا رزقك الله الاستقامة فهذه أعظم كرامة.(269/31)
الأعراس في الإجازات
السؤال
نعلم أن الإجازة اقتربت وميزة هذه الإجازة كثرة الزواج، فماذا تنصحون أولياء الأمور وبماذا تنصحون الزوج والزوجة؟
ما رأيك لو استغلت هذه الأفراح بإلقاء من المشايخ كما يحدث في بعض الأفراح ونحو ذلك؟
الجواب
أولاً: في هذا السؤال أمور: الأمر الأول: ذكاء صاحبه، فإنه علمه الله الذي أنطق كل شيء أن الإجازة قربت و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4].
والأمر الثاني: يظهر من سؤاله أنه يريد الزواج قريباً، وكأن الأيام تمر عليه، اليوم مثل الشهر والليلة مثل السنة، فنسأل الله أن يبلغه ما تمنى وأن يرزقه الحلال.
والأمر الثالث: اقترح اقتراحاً أن يكون هناك في الأعراس وفي الحفلات محاضرات، وهذا اقتراح جيد لا فُضَّ فوه؛ لأنه أحسن كل الإحسان، على كل حال فما قاله صحيح، ووجد في بعض الأماكن وأظن حتى في الرياض أنه يستدعى لبعض الأعراس والحفلات دعاة وطلبة علم وعلماء فيحيونها بذكر الله وقال الله وقال رسوله، أما هذا الفجور والخنى والغناء ويا ليل ويا عين وهذه الأمور السافلة الحقيرة فلا يفعلها إلا السفلة وأراذل الناس، تطبيل للرجال وتزهيق وغناء وموسيقى، وضياع للقيم وضياع للقرآن، وضياع للأصالة هذا ليس بصحيح، والدف للنساء خاصة بدون اختلاط، دف بالأيدي، أما أن يستورد مغن أو مغنية أو ماجن أو ماجنة أو فاجر أو فاجرة فهذا والعياذ بالله سحق للدين وعداء للإسلام، ولا يفعله إلا من قل عقله ودينه.
فأنا أشيد بهذا الأخ وأبارك له هذا السؤال، وأسأل الله أن يوفقنا وإياه.
ثم إني أدعو الطلبة وكلٌّ منهم مرشح لأن يكون داعية، أن يخترقوا هذه الحفلات، وأن يتكلموا بما يرضي الله، وليكن قوياً كالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، يتكلم أولو الأيدي والأبصار، ولا ينتظر حتى يستدعيه الناس، بل يقتحم ويتكلم بلين وحب عل الله أن ينفع به.(269/32)
مخالطة غير المسلمين ومعاملتهم
السؤال
نختلط في العمل بغير المسلمين، ويوادوننا ويحترموننا، فهل علي إثم بمعاملتهم بما يعاملوننا به، علماً أنني أقصد أحياناً إعطاءهم صورة طيبة عني كمسلم تمهيداً لدعوتهم للإسلام، أثابكم الله؟
الجواب
إذا ذكر البراء فليس معناه ضرب الكفرة صباح مساء بالأكف على الوجوه! لا.
الله يقول لبني إسرائيل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] والناس كلمة عامة تشمل الكافر، وفرق بين حسن المعاملة والولاء، حسن المعاملة: أن تبتسم له لتحبب إليه الإسلام؛ لأنه إذا رآك قد كشرت في وجهه وعبست وبسرت فلن يسمع أذاناً ولا ديناً ولا استقامة ولا شهادة ولا يدخل في الدين، يقول: إذا كان هذا الدين ينتج كهذا الرجل فعلي أن أتوب من أن أفكر في دخول هذا الدين ويكفيني هذا الشاهد الملموس المحسوس هذا خطأ.
ولكن عليك أن تصافيه وتداجيه، وأن تدعوه وتزوره، وأن لا ترضى بفعله.
فمقصدي أن مداراته لإدخاله في الإسلام مطلوبة، وأما موادته للدنيا ولإقراره على عمله بدون دعوته فمذموم، ومن جعل الله له فرقاناً بين له ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29].(269/33)
حاجتنا للفكر
السؤال
يتضح من كلامك يا فضيلة الشيخ! أن لك وجهة نظر في الكتب الفكرية مع أن هذا الزمان زمان فكر، والإسلام يواجه حرباً فكرية، فلا مجال في هذا الزمان للعاطفة ولابد من الفكر فما رأيكم؟
الجواب
أولاً يا أخي: إن شاء الله أني ما دعوت للعاطفة، بل أنا أدعو إلى الكتاب والسنة، ولو قصرت أنا في اتباع الكتاب والسنة أو في الإلمام بالكتاب والسنة فأدعو إلى الكتاب والسنة، والعاطفة شيء غير الكتاب والسنة، ومن يدعو إلى الكتاب والسنة لا يدعو إلى العاطفة.
أما الفكر فلابد من ضبط هذه الكلمة، فلا يجعل الفكر علماً كعلم الكتاب والسنة ونتشاغل به ونحسنه تحسيناً لا، هو أمر ثانوي ولابد منه، والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم يوم علمه علم الواقع: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] أي نوضح لك الواقع الذي تعيش فيه، ونحن ندعو إلى دعاة يعرفون الواقع ولا يعيشون في عزلة عن الواقع، بل يعرفون ما يدور، والمذاهب والملل والفرق والمشارب والأحداث والوقائع التي تدور بهم وتكتنفهم ولابد من ذلك، لكن أن يجعل الفكر علماً يجتمع عليه الشباب، ويأخذ ليلهم ونهارهم فليس بصحيح، بعد ثلاثين أو أربعين سنة يخرج هؤلاء الشباب علماء ثم يبحثون عن رءوسهم، فلا يجدون إلا كلاماً ولا يجدون قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأنا معك ولا أخالفك أنه لابد من معرفة شيء من الفكر لنرد على أعداء الله، وقد فعل كثير من الدعاة ذلك، فردوا بالفكر وعرفوا كلام الأعداء فردوا عليهم بمثل أقوالهم، أما أن نحجب أبصارنا فليس بصحيح، لكن التحذير لأنه وجد مغالاة حتى وجد من بعض الشباب من جنح عن كتب السلف، وأعرض عنها واتخذها ظهرياً، وأتى إلى كتيبات بيض أمامه فجعل منها صحيح البخاري وصحيح مسلم، ويفتي منها ويحاضر ويدعو، وهي مجرد كلام وكتب مفيدة، لكن الأصل المعين والصراط المستقيم كتب السلف التي عليها العمدة وهذه زيادة خير هذا رأيي، والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(269/34)
دروس من سورة طه
تناول الشيخ قصة موسى عليه السلام من سورة (طه) ذاكراً بعضاً من صفات موسى عليه السلام.
وعرض قصة النداء لموسى في الطور وما وقع فيها من معجزة العصا واليد وإرساله إلى فرعون تأييد الله له بهارون، وتذكيره سبحانه لموسى بما أنعم الله عليه من قبل.
وتحدث عما وقع بين موسى وفرعون، مبيناً حفظ الله لموسى عليه السلام وتسديده في جوابه لفرعون.(270/1)
وقفات مع موسى عليه السلام
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، كسر الله به ظهور الأكاسرة، وقصر بدعوته آمال القياصرة، الذين طغوا وبغوا حتى أرداهم ظلمهم في الحافرة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
إلهي لا تعذبني فإني مقرٌ بالذي قد كان مني
وما لي حيلةٌ إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني
فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضلٍِ ومنِّ
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني
أيها الكرام: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
حديثنا عن موسى عليه السلام، وعن دعوته الهائلة التي طرقت العالم، وعن قصصه العجيبة، وموسى عليه السلام له قطاع كبير في القرآن حتى قال بعض العلماء من السلف الصالح: كاد القرآن أن يكون لموسى، ما تكاد تقرأ سورةً إلا وتسمع قول الله يقرع أذنيك، ويصادف قلبك: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى} [هود:96] وموسى عليه السلام كانت دعوته على المستويات جدلية علمية، وعملية ميدانية، وحربية عسكرية، وموسى عليه السلام ذكر -كما أسلفت- في القرآن كثيراً، وذكر في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم طويلاً.
صح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه لما قرأ سورة الكهف مع قصة موسى والخضر، وانتهت القصة بقول الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78] قال صلى الله عليه وسلم: {رحم الله موسى! لوددنا أنه انتظر حتى يقص علينا من خبرهما}.(270/2)
شدة حيائه عليه السلام
وصح عنه- صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري من حديث ابن مسعود، عندما سمع رجلاً يقول عن قسمة النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله قال: فأخبرت الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك، فتغير وجهه حتى كان كالصفر، ثم قال: {رحم الله موسى! أوذي بأكثر من هذا فصبر} {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69].
وفي صحيح البخاري وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كان موسى رجلاً حيياً، فكان لا يغتسل أمام الناس، فقال بنو إسرائيل: ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر -أي: به مرض في شيء من أعضائه التي يستحيا من ذكرها- فاغتسل خلف حجر ووضع ثوبه على الحجر ففر الحجر بثوبه، فرآه بنو إسرائيل، فعلموا أن ليس به مرض، قال: فأخذ يضرب الحجر الذي فر بثوبه، ويقول: ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر}.(270/3)
موسى وآدم يتحاجَّان
وصح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرهما أنه قال: {تحاجَّ آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته أخرجتنا من الجنة بمعصيتك؟} يلومه ويعتب عليه في هذه المعصية، لا على القضاء والقدر.
ولذلك يقول ابن تيمية: ويل للجبرية، ظنوا أن موسى عليه السلام قدرياً، وما كان قدرياً، فقال آدم عليه السلام: {أنت موسى الذي كلمك الله، وكتب لك التوراة بيده، وأنجاك الله أتلومني على شيء قد كتبه الله علي، بكم وجدت الله قد كتب علي هذا قبل أن يخلقني؟، قال: بأربعين عاماً، قال: فلم تلومني على شيء قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني، فقال عليه الصلاة والسلام: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى} أي: غلبه بالحجة.
ونعيش مع موسى عليه السلام في سورة طه، في أول لقاء بين الله عز وجل وبينه، لقاء الكلام مباشرة، ولم يكلم الله- عز وجل- أحداً من الناس مباشرة بلا ترجمان إلا موسى {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [طه:9].
الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، فبعد أن افتتح الله السورة وأتى بكلام عجيب عن التوحيد والعقيدة، قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [طه:9] لا، والله ما أتاه، ومن أين يأتيه وما قرأ، وما كتب، ولا تعلم، ولا درس إذ هو أُميِّ! قال: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} [طه:9 - 10].
لم يذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة طه قصة موسى -وقصته طويلة وهي منثورة في كتاب الله- كما ذكرها في سورة القصص يوم خرج إلى أهل مدين بعد أن قتل نفساً، هارباً إلى الله، وضاقت به الدنيا بما رحبت، وخوفه البشر بسوطهم وبسيفهم، ولكن:
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
يا واهب الآمال أنت حفظتني ورعيتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فنصرتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك منعتني
فإذا خفت من شيء، فاعتصم بالله، وإذا دهتك من الدواهي أمور، فاعتصم بالله، وإذا ضاقت بك الحيل، فالتجئ إلى الله، وإذا كثرت عليك المشكلات والصعوبات، فرد أمرك إلى الواحد الأحد، فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50].
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد بسند حسن، قال: لما لقي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عبده موسى بعد أن سقى للجاريتين وتولى إلى الظل، قال: يا رب، فقير غريب مريض جائع -يشكو حاله- قال الله عز وجل: يا موسى، الفقير من لم أكن أنا مغنيه، والغريب من لم أكن أنا مؤنسه، والجائع من لم أكن أنا مطعمه، والمريض من لم أكن أنا طبيبه ثم شرفه الله بالدعوة.(270/4)
بداية نبوته عليه السلام
قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [طه:9] هل أتاك يا محمد هذا الحديث المذهل العجيب الذي سمعت به الدنيا، وأنصت له الدهر، وتناقلته الركبان، وروته الأجيال جيلاً بعد جيل؟ {إِذْ رَأى نَاراً} [طه:10] أتى بأهله بعد أن رعى الغنم عشر سنوات، وكانت امرأته في المخاض، فأظلم عليه الليل، ومعه قطيع من الغنم، والأنبياء كلهم عليهم السلام رعوا الغنم؛ لأن من يرعى الغنم يجد دربة وحلماً وتجربة لرعي الأمم -ولذلك رعى رسولنا صلى الله عليه وسلم عن الغنم- فأظلم على موسى الليل، وكان في تلك الليلة - كما ذكر ابن كثير - سحاب ومطر وبرق ورعد، وأراد أن يشعل ناراً يستدفئ بها هو وأهله، ويوقد بها طعامه، لكن لم توقد النار، أتى بالحجارة يقرع حجراً بحجرٍ، فما قدحت ناراً لحكمة أرادها الله.
راعي غنم ليس في مخيلته أن يكون نبياً من الأنبياء، ورسولاً من الرسل، ومن أولي العزم الخمسة، فلما أظلم عليه الليل رأى ناراً تلمع في طرف وادٍ بعيدٍ، فاستبشر، وقال: هذه النار إما أن أجد منها قبساً آتي به إليكم لتستدفئوا، ونتعشى على النار، وإما أن أجد خبراً من الأخبار لعل صاحب هذه النار يهديني الطريق، لكن وجد من يهديه إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ووجد من يهديه إلى لا إله إلا الله، إلى الطريق المستقيم الذي إذا لم يهتد إليه العبد فوالله لن يهتدي أبداً، والذي إذا لم يسترشد به العبد فوالله لن يرشد أبداً، والذي إذا لم يستكف به العبد، فوالله لا يكفى أبداً، والذي إذا لم يحتم به العبد، فلن يحتمي أبداًَ، فذهب وإذا بالنار غير النار، فلما اقترب منها، سمع هاتفاً يهتف.
{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} [طه:9 - 11] سبحان الله! من يعرف موسى في الصحراء؟! ومن هو موسى حتى يعرف عند القبائل الصحراوية والبادية؟! ومن هذا الذي يعرفه، وهو ليس له قرابة ولا رحم ولا أخوال ولا أبناء عم في الصحراء؟ {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} [طه:11 - 12] سبحان الله! الله يعرِّف موسى به، ما أعظم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى! وموسى يعرف الله بآياته وأسمائه وصفاته وصنعه في الخلق، سبحان الله!
وفي كل شيء له آيةٌ تدل على أنه الواحد
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} [طه:12] لماذا يخلع نعليه؟ وما هو السر في خلع النعلين؟
قال أبو ذر وأبو أيوب وعلي بن أبي طالب ثلاثتهم قالوا: [[كانت الحذاء من جلد حمار، والوادي مقدس لتكليم الله عز وجل]] سبحان من يشرف بقعةً على بقعة، وإنساناً على إنسان، وبلداً على بلد، وزمناً على زمن، مكة الحرم قطعة أرض بين جبال سود، لا حدائق غناء، ولا بساتين وارفة الظلال، ولا أنهاراً، ومع ذلك شرفها الله على بقاع العالمين، ومحمد عبد من العباد من لحم ودم وعصب وعظم شرفه الله على الناس، ويوم عرفة ساعات ودقائق ولحظات وأمنيات جعلها الله أعظم الأيام من أيام السنة، ويوم الجمعة كذلك يوم من أيام الله جعل الله له ميزة.
{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} [طه:12] اليوم تقدس الأودية، الليلة حدث عظيم في حياتك يا موسى، هذه الأوقات سوف تعيشها مع الله، وسوف تجد من الله- عز وجل- كلاماً عجيباً {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:12 - 13].
أنت اليوم يا راعي الغنم مختار لتكون رسولاً، أنت اليوم يا راعي الضأن، سوف تبعث إلى الطاغوت الأكبر إلى شيخ الضلالة فرعون تدعوه إلى لا إله إلا الله، أنت يا من يهش على غنمه بعصاه سوف يكون لك ذكر في القرآن والتوراة والإنجيل، وسوف تكون نبياً من الأنبياء، أنا اخترتك ما زكاك أحد لدي، وأنا عرفتك وما توسط لك أحد من الناس، ولا شفع لك أحد من البشر، من الذي يعلم المزكى من غيره إلا الله! {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] الصور صور، والبشر بشر، والناس ناس، لكن القلوب يعلمها الله.
جاء عند ابن كثير: أن الله قال له: أتدري يا موسى لماذا اخترتك؟ قال: لا أدري يا رب، قال: نظرت في قلوب العباد، فوجدت قلبك أكثر قلوب العباد تواضعاً لي، سبحان الله! موسى كان أعظم الناس تواضعاً لله، أثر عنه أنه ما جلس مع أحد من الناس إلا ظن أن جليسه أعظم منه وأعلى وأحسن، لكن أين حالنا من هذا الصنف؟ ربما يظن أحدنا أنه خير من في المسجد -نعوذ بالله من الغرور، والعجب، ونعوذ بالله من التيه والانقطاع من حبل الله- لأن من يركب رأسه في الضلالة والفجور والمعصية، ثم يظن أنه من خير الناس، هذا رجل مخذول محروم، أصابه خذلان وحرمان من طاعة الله عز وجل.(270/5)
وصايا الله لموسى
قال الله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13] هذا سر من أسرار الله، معنا كلام عجيب، ورسالة خالدة، رسالة نستوصيك بها، فاستمع ولا تتحرك وسوف تلقى علماً جماً، ونفعاً عظيماً، وسوف تلقى كنزاً ثميناً {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13].(270/6)
التوحيد أولاً
ماذا يبدأ الله عز وجل به مع موسى؟ هل يذكر له فرعون أولاً؟ لا، لم يأت ذكر فرعون هل يتحدث له عن الرسالة؟ لا.
هل يتحدث له عن إجرام الناس في الدنيا؟ لا.
أولاً: يعرِّف الله نفسه إلى موسى، وهذا التعريف أكبر تعريف عند أهل السنة والجماعة لله الواحد الأحد، يقول الله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14].
ولذلك في سنن الترمذي بسند فيه نظر، يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا عرف أحدكم أخاه، فليسأله عن اسمه ونسبه، فإنه واصل المودة} لكن هذا الحديث في سنده رجل مجهول، ولو صح لكان سنداً لما حفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسأل الناس عن أسمائهم، وهذا في الصحيحين عن ابن عباس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لوفد عبد القيس: {من الوفد؟}.
قال تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14].
أولاً: ملأ الله قلب موسى بالتوحيد، وأنت إذا أردت الله فاملأ قلبك بالتوحيد، فوالله لا ينفعك عمل، من صلاة، أو صيام، أو حج، أو عمرة، أو تلاوة، أو صدقة حتى توحد الله رب العالمين، فاملأ قلبك بلا إله إلا الله.
الله أكبر كل همٍ ينجلي عن قلب كل مكبرٍ ومهلل
لا إله إلا الله كلمة من أتى بها وصدق فيها وأخلص في فحواها فتحت له أبواب الجنة الثمانية، لا إله إلا الله كلمةٌ من صدق في العمل بها ومقتضاها أنقذه الله، لا إله إلا الله كلمة من ثبته الله عليها، فلا خوف عليه ولا حزن.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24] لا إله إلا الله يغرسها الله في قلب من يشاء، فتنبت الصلاة والزكاة والصيام وحسن الخلق وبر الوالدين وصلة الرحم.
{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65].
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
والنحل قل للنحل يا طير البوادي ما الذي بالشهد قد حلاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
فالحمد لله العظيم لذاته حمداً وليس لواحدٍ إلاكا
{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] أقرب طريق إلى الله عبادته، ولذلك لـ ابن تيمية كلام معناه: أقرب الطرق إلى الله العبادة.
وفي التاريخ: أن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- قال لـ سعد بن أبي وقاص لما أرسله في القادسية أميراً وقائداً للجيش ليدكدك دولة الأصنام، دولة الأكاسرة الظلمة الفجرة، قال له: [[يا سعد بن وهيب! لا يغرنك قول الناس إنك خال رسول الله، فإن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، أقربهم إليه أطوعهم له]] ولذلك ذكر الله الأنبياء بالعبادة، فقال: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73] {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
سبحان الله! يذكر رسوله بالتشريف فيذكره بالعبادة وأنه عبد مذلل، ولذلك كلما زدت لله عبودية رفعك الله، وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال: {إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة} كلما وضعت رأسك في التراب، رفعك الله إليه، وكلما حاول المتكبر أن يرتفع حقره الله وأذله وأخسأه وخذله وحرمه في الدنيا والآخرة.
وفي صحيح مسلم عن ربيعة بن مالك الأسلمي قال: {قلت: يا رسول الله! أريد مرافقتك في الجنة، قال: أعني على نفسك بكثرة السجود} فلا طريق إلى الله إلا العبادة.
فأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
وناد إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن متى
وأكثر قرعه دأباً عساه سيفتح بابه لك إن قرعتا(270/7)
الصلاة ثانياً
يقول الله عز وجل: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] فيا دعاة الإسلام! ويا أخيار حملة لا إله إلا الله في الإسلام! يا أهل البيوت الذين يريدون تربيتها على الإسلام! يا من حمل في قلبه حب الإسلام! أقم الصلاة لذكري إن أول زاد المسلمين الصلاة.
لذكري قيل: إذا ذكرتني في أي وقت فأقم الصلاة، وقال بعض أهل العلم: أقم الصلاة لذكري، إذا نمت عن الصلاة، ثم قمت وذكرتها، فأدها، لحديث أبي قتادة في الصحيحين مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم: {من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك} وقيل: أقم الصلاة لذكري، أي: لإقامة ذكري، أي: أن تقيم الصلاة لتذكرني في الصلاة، لا تذكر غيري، لا مالاً، ولا ولداً، ولا منصباً، ولا تراثاً، وإنما لذكر الله عز وجل.
{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] قال ابن تيمية: هذه الآية أخطأ فيها طائفة من أهل العلم، ومعناها الصحيح: أن للصلاة منفعتين:
الأولى: منفعة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
والثانية: أن فيها يقام ذكر الله.
وإقامة ذكر الله في الصلاة أعظم من نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر.
فعلم الله موسى التوحيد، ثم دله على العبادة، ثم أوصاه بالصلاة، والآن يتحدث له عن اليوم الآخر {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15].
يا موسى! إن هناك يوماً يجمع الله فيه الأولين والآخرين يا موسى! إن هناك حساباً يا موسى! إن هناك يوماً يجعل الولدان شيباً يا موسى! إن هناك يوماً يعض الظالم فيه على يديه يا موسى! إن هناك يوماً تنسف فيه الجبال نفساً {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15] قيل: أكاد أظهرها من باب التضاد، وقيل: أكاد أخفيها على ظاهرها {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15] لا إله إلا الله ما أعظمه من يوم! ولا إله إلا الله ما أخطره من لقاء!
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضرٍ يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمنٍ وفي دعةٍ فما سقطنا لأن الحافظ الله
{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16] يا موسى! لا يصدنك عن لقاء الله جلساء السوء، فإن في المجتمع من يصدك عن موعود الله، وفي الناس من يأخذك عن الطريق المستقيم، جلساء السوء يحببون لك الأغنية الماجنة، والمجلة الخليعة، والنظرة الآثمة، وأكل الربا، والزنا، والفجور، وشهادة الزور، والغيبة والنميمة؛ فاحذرهم.
{فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16].
بعض الناس اتبع هواه، ركب رأسه كالثور، له قلب لكن لا يعقل، له سمع لكن لا يسمع، له بصر لكن لا يبصر به، فسبحان من يهدي ويضل!(270/8)
مؤانسة الله لموسى وتأييده بالمعجزات
واسمع الآن إلى المؤانسة، موسى الذي يظهر من القصة أنه خاف، سبحان الله! ترك امرأته وأطفاله مع غنم، في صحراء قاحلة مدوية ما فيها إلا الذئب.
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصَوِّت إنسان فكدت أطير
فهو كأنه خائف فأراد الله أن يؤانسه فبماذا يؤانسه؟ يحدثه عن أموره، ولذلك يقول الأسدي، وهو يمدح نفسه:
أؤانس ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القِرى ولكنما وجه الكريم خصيب
يقول: من كرمي أني أحادث ضيفي وهو على راحلته قبل أن ينزل حتى لا يخاف، فلا أكشِّر في وجهه، لا أسكت فيخاف مني الضيف، بل أهش وأبش وأتبسم، وأسأله عن أحواله وأهله وأسرته، كما قال زهير في مدح الأول:
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
فالله أراد أن يؤانس موسى، وفي الصحيح: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان ربما ربَّت على أكتاف بعض أصحابه، وفي سنن أبي داود بسند صحيح: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ يد معاذ رضي الله عنه وأرضاه فشبك يده بيده} وصح كذلك أنه ضرب في صدر أبي بن كعب، وفي صدر جرير بن عبد الله البجلي ليؤانسهم، فالله أراد مؤانسة موسى، والله يعلم ما في يمين موسى لأنه هو الذي خلق العصا، وهو الذي صنعها سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
قال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17].
سبحان الله! الله لا يعرف العصا! جل الله! بل يعرف العصا، ومن حمل العصا، والشجرة التي أنبتت العصا، والكافر الذي سوف يذهب إليه موسى بالعصا {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17].
وموسى تلطف، قال: ما دام ربي حليماً كريماً يسأل حتى عن العصا، فهو قريب إليَّ سُبحَانَهُ وَتَعَالى، كان الجواب في العربية أن يقول: عصا.
لكن يقولون: موسى وجد راحةً في الجواب، وفي كتب التفسير كـ ابن كثير وابن جرير وغيرهما: أن موسى إذا كلم الله وجد على وجهه النور أربعين يوماً يسطع على وجهه مِن نوره سُبحَانَهُ وَتَعَالى، قال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] كان يكفي أن يقول: عصا، لكنه ارتاح للجواب ففصل الخطاب {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18]
كان يكفي أن يقول: عصا، لكنه ارتاح، وانطلق في المقال، وأعجبه الحال، قال: هي عصاي يا رب، أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى، وتكلف بعض المفسرين أن يقولوا: إنها كانت تضيء له في الليل، لكن ما أتى بهذا أثر إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم، إنما هذه إسرائيليات، ويكفي أن نقف مع القرآن.(270/9)
معجزة العصا
قال الله عز وجل: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه:19] سوف تكون لها قصة، الدعوة سوف تقام على رأس العصا، هذه العصا سوف يكون لها تاريخ، وسوف يكون لها سجل حافل، وسوف يكون لها أحداث، فألقاها باسم الله، وهو يعرفها، ودائماً هي معه يضرب بها على ضأنه، ويرعى ويتوكأ بها {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20] سبحان الله! من حول العصا إلى ثعبان؟
يقول أهل التفسير، وهو مما ينسب إلى مجاهد وغيره، قالوا: تحولت وإذا هي حية عظيمة لها نيبان تثغر -هذا في تفسير ابن كثير - ونحن نذكره من باب {وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج} قالوا: وكان لها عينان، فأقبلت في الوادي ترقص أمام موسى، ففر عليه السلام لأنه يبصر العصا وهي حية، فماذا ينتظر منها إلا الموت، فأوحى الله إليه من فوق سبع سماوات، فقال: {وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص:31] أي: لك منا عهد وشرط ألا تأكلك الحية.
لا تخف فإنك سوف تبعث إلى فرعون الذي كان حرسه على القصر ستة وثلاثين ألفاً.
ثبت أن حرس فرعون على قصره وعلى الشرفات والنوافذ ستة وثلاثون ألف جندي، كل جندي يظن أن فرعون إله يعبد من دون الله، فلماذا تخاف من عصا انقلبت حية؟ فلا تخف إنك من الآمنين، فثبت مكانه، ثم قال له: خذها احملها بيدك سبحان الله! من الذي يأخذ الحية؟ من الذي يحمل الثعبان بيده؟ إلا من أوتي عزماً وصرامةً وشجاعةً {قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طه:21] سوف تعود عصا، فأخذ موعود الله، وعهد الله، فتقدم إليها، فقبضها بلسانها، ثم هزها، فإذا هي عصا.
سبحان الله! الثعبان انقلب في دقائق إلى عصا، والعصا في دقائق إلى ثعبان، قدرة ظاهرة؛ ليثبت عند موسى أن الله على كل شيء قدير، وأننا معك يا موسى، وأننا نستطيع أن نفعل ما يؤيد دعوتك، إن عصاك سوف يكون لها خبر، وسوف تنتصر في المعركة مع الدجال الآثم الخبيث فرعون.(270/10)
معجزة اليد
قال تعالى:: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه:22].
وكانت يد موسى عليه السلام سمراء؛ لأنه كان أسمر، كما صحت في ذلك الأحاديث، ففي صحيح البخاري وصحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: {كأنه من أزدشنوءة} وهم قبائلكم يا أهل الجنوب، فبيننا وبين موسى عليه السلام شبه في الخلقة، فنسأل الله أن يكون بيننا وبينه شبه بالعمل، ونسأل الله أن يحشرنا في موكبه، وموكب محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى} [طه:22].
فأدخلها تحت العضد في الإبط، فأخرجها، فكأنها فلقة قمر سبحان الله! تلمع لمعاناً كأنها قطعة البدر، أو كقطع القمر ليلة أربع عشرة، أو كأنها الشمس، قال: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه:22].
من غير سوء، لماذا؟ قال: لئلا يظن موسى عليه السلام أنه برص، أو بهق، أو مرض، فقال: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى} [طه:22] هذه مع العصا {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه:23] وقد آتى الله موسى تسع آيات، كل آية لو أنزلت على الناس وكان لهم قلوب لكانت كفيلة بأن يهتدوا بإذن الله، وكل آية لو خوطب بها الشيوعيون الملاحدة والماركسيون وأتباع لينين، وكان لهم قلوب وعقول لاهتدوا، وهي الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، وضرب الصخر، وضرب البحر.
قال تعالى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه:23] ما هي فائدة هذه التربية وهذه المعجزة؟ اسمع إلى الخطاب: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24].
سبحان الله! هذا الرجل يفر من أكثر من عشر سنوات من ذاك الطاغية، واليوم يطلب منه أن يدخل عليه في القصر، فر من الموت، وفي الموت وقع، قتل نفساً من أسرة آل فرعون، أو من الأقباط، ثم فر منهم خائفاً، وفي الأخير يقول الله له: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24].
سبحان الله! إنه خبر عجيب، وإنه سر غريب أن يدخل على فرعون، وليس الدخول على فرعون بهذه السهولة، فإن لدى فرعون جنوداً وحرساً وقوة!(270/11)
تأييد موسى بأخيه هارون
اسمع إلى التسديد من الله، واسمع إلى الكلام العجيب {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25] كأن الخبر وقع عليه، فكاد أن يضيق بالخبر، فقال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25] وإذا شرح الله لك صدرك، فلن تخاف من شيء {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125].
وإذا شرح الله صدرك، فاعلم أن لذائذ الدنيا لا تساوي -والله- مع شرح الصدر شيئاً، وإذا ضاق صدرك، فاعلم أن نعم الدنيا لا تساوي شيئاً.
وشرح الصدر يأتي بأمور أعظمها التوحيد، ثم العبادة، وكثرة الذكر، والالتجاء إلى الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
من أعرض عن ذكر الله فله معيشة ضنك، مع أنه قد يسكن في القصور، ويركب السيارات الفاخرة، ويلبس أنعم لباس ويأكل أطيب طعام، لكن اللعنة معقودة على وجهه، لماذا؟ لأنه أعرض عن منهج الله، وأعرض عن القرآن والمساجد، وأعرض عن عبادة الله والذكر، فله معيشة ضنك {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] لا يعرف شيئاً، يدهده كالصخرة حتى يلقى في النار؛ لأنه كان في الدنيا أعمى، يسمع الأذان ولا يجيب، يرى القرآن ولا يقرأ، يرى طريق الهداية وطريق الشر، فيسلك طريق الشر، سبحان الله! أي قلب هذا؟!
{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25] ولذلك يمتن سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن فيقول: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] أما فسحنا لك في قلبك؟ أما وسعنا لك صدرك؟ أما طردنا الهموم والغموم من جوانحك؟ فكان حليماً بالقرآن ومنشرح الصدر بالإيمان.
قال موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26] كأنه يقول: يا رب إن المسئولية خطيرة، والرسالة عظيمة، يسر لي أمري، ولا ييسر الأمر إلا الله {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه:27] وقد كان في لسانه عقدة يأكل الكلام، والسبب -كما قال أهل السير والتاريخ- أنه كان في صباه، وهو في بيت فرعون يوم استنقذته بإذن الله آسية امرأة فرعون عليها السلام، ولا عليه.
سلام الله يا مطر عليها وليس عليك يا مطر السلام
فاستنقذته فعاش في حجر فرعون، وانظر للهادي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، تجد الابن في بعض البيوت كل المعصية في بيته الإجرام والفسق والعصيان، وينشأ هادياً مهدياً عابداً من العباد؛ لأنها هداية الله، وتجد الابن في بعض البيوت وأهله يقربون له أسباب الهداية، ويسألون الله له التوفيق، وينشأ شقياً جباراً عاصياً مارداً على الله، ولذلك فإن الرجل الذي سوف يشير الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إليه في سورة طه وهو السامري فإن اسمه موسى تربى في حجر جبريل، وموسى النبي عليه السلام تربى في حجر فرعون، فأسلم هذا وكفر ذاك، قال الشاعر:
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مؤمن
فلما نشأ وأصبح صبياً، أخذ كفه مرةً من المرات ولطم فرعون على وجهه، فغضب فرعون، وقال: لأقتلنه، لأنه كان يذبح أبناء بني إسرائيل، فقالت العاقلة الرشيدة امرأة فرعون المؤمنة: هذا لا يعلم شيئاً، وأحضرت له جمرة وتمرة، وقالت لفرعون: إن أخذ التمرة فاقتله؛ لأنه يعرف، وإن أخذ الجمرة، فهو لا يعرف رشده، فلماذا تقتله؟ قال: حكمت فأنصفت.
فأراد موسى أن يأخذ التمرة، فصرف الله يده على الجمرة، فأخذها فوضعها على طرف لسانه، فأحرقت لسانه.
لذا لما قال له الله عز وجل: اذهب إلى فرعون؛ تذكر أنه لا يستطيع أن يتكلم؛ لأنه يريد أن يلقي خطبة على فرعون ومحاضرة يبين له فيها التوحيد، لكن بأي لسان {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه:25 - 27] قال الحسن البصري: [[رحم الله موسى! ما سأل الله إلا أن يحل عقدة واحدة بقدر الحاجة]] وما قال: اجعلني أفصح أهل مصر بأن يكون خطيباً مصقعاً، أو محاضراً مطبقاً، بل قال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27 - 28].
أي: علم أن يفقهوا بعض الكلام، ومع ذلك قال في سورة القصص: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} [القصص:34] يقول: اجعل معي أخي هارون يتكلم؛ لأن هارون فصيح وأنا لست فصيحاً، وكان هارون أكبر من موسى، قال أهل العلم: ما سمعنا بشفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى لهارون، فإنه شفع له عند الله حتى أصبح نبياً من الأنبياء، وهي أعظم شفاعة، وانظر إلى حكمة الله، رأى أن هذا الصغير ربما يتحمل أعباء الرسالة أعظم من هذا، فجعله نبياً رسولاً، ثم شفع هذا الصغير في أخيه الكبير فكان معه نبياً.
ولذلك لما وصل إلى بساط فرعون وعلى بلاطه، أخذ فرعون يضحك مع وزرائه وحاشيته، ويقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52].
يقول: أنا يا أهل مصر أحسن وأفضل أم هذا الذي يأكل الكلام ولا يفصح؟! سبحان الله! فهل المسألة بالفصاحة؟ لا، المسألة بالتقوى أهي بكثرة الطنطنة والدندنة في الكلام؟ لا، بل هي بالتقوى أهي بالذكاء الخارق والعبقرية؟ لا.
بل بالتقوى.
ثم قال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي) [طه:29 - 30] ثم عاد إلى الله عز وجل فقال: يا رب إن المسألة صعبة وضخمة {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:29 - 32] قوِّ به جناحي، واجعله رفيقاً لي عل فرعون أن يخافنا، أو يرهبنا قليلاً؛ لأن الاثنين أرهب من الواحد {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:31 - 32].
لماذا؟ قال: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً} [طه:33] أي: حتى يذكِّرني وأذكِّره التسبيح في الطريق، يذكرني طاعتك، وأذكره طاعتك، ولذلك الاثنان يسبحان أكثر من الواحد، وحبذا الصديق الصادق الذي يعينك على طاعة الله {وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} [طه:34] والذكر زاد الدعاة، {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} [طه:35].
قال الله عز وجل: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] وكل ما مضى من السؤالات كأنها سؤال واحد أمام كرم الله عز وجل وعطائه وسعته ورحمته.(270/12)
تذكيره بنعم الله عليه
ثم أخذ الله عز وجل يعيده لتاريخه، ولسجله الأول، ولأيامه الأولى، فقال: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه:37] يا موسى! لا تنس نعم الله ومننه عليك.
{إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:38 - 39].
فيها مسائل: وهي قصة طويلة، لما ولد موسى ولد في العام الذي يقتل فيه فرعون أطفال بني إسرائيل، وكان موسى إسرائيلياً من بني إسرائيل، فخافت أمه أن يقتله فرعون، فجعلته في ألواح من خشب -تابوت- وربطت هذه الألواح، وأنزلت التابوت في اليّم، قيل: في نهر النيل، وربطت الخيط في بيتها، فإذا ذهب حرس فرعون، سحبت التابوت وأرضعته، فإذا اقتربوا أنزلته، وربطت الحبل في بيتها.
ومرة من المرات ذهب جنود فرعون -الذين يبحثون أطفال- فسحبت الحبل، فانقطع الحبل من التابوت فأتى الحبل بلا تابوت فخرجت وقلبها يكاد يطير، وأصبح فارغاً كاد يخرج من بين جنبيها، ونظرت في اليمّ فلم تجده، وساقه اليم -بإذن الله- حتى أدخله في مزرعة وبستان فرعون في القصر، تفر به أمه من أن يلاحق، فيقع في قبضة المجرم، وأتت جواري فرعون، فرأين التابوت، ففتح فوجدوه غلاماً من بني إسرائيل، فأرادوا ذبحه، فتدخلت آسية عليها السلام {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] قال أهل الأثر: ما رآك أحد إلا أحبك، سبحان الله! {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39].
{إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} [طه:40] لما وضع عند فرعون، أرادوا إرضاعه ليتبناه فرعون، فأرادوا أن يربوه، فعرضوه على كل ثدي، فأبى أن يرتضع، قالت أخته -وكانت قريبة من قصر فرعون-: أتريدون أن أدلكم على أهل بيت يرضعونه لكم؟ قالوا: نعم، فذهبت إلى أمه وقالت: وجدت امرأة ترضعه، فلما وضعوه على ثديها رضع بإذن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فأصبح فرعون يدفع الأجرة لأم موسى على إرضاعه زيادةً على ذلك! {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [طه:40].
ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لا تنس يا موسى، لا تظن أنا نسينا {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} [طه:40] حميناك، ورعيناك، وكفلناك، وآويناك، وأشبعناك، وسقيناك، فتذكر نعمة الله عز وجل {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [طه:40] عشر سنوات؛ لأنه قال: ثمان سنوات، أو عشر، قال ابن عباس: [[قضى أجملهما وأحسنهما وأكملهما]] {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40] أي: جئت بقضاء من الله وقدر، {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] ربيتك لتكون رسولاً لي تبلغ دعوتي.(270/13)
أمر الله لموسى وأخيه بالدعوة
ثم قال تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ} [طه:42] الآن يقول: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ} [طه:42] وفي أول السورة يقول: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] ولكنه قال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي} [طه:29] ولذلك قال هنا: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ} [طه:42] أصبح أخوه نبياً من الأنبياء.(270/14)
توصية الله لهما بذكره
{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42] ما معنى: ولا تنيا في ذكري؟ قيل: لا تضعفا في ذكري، سبحا كثيراً، وهللا كثيراً، واحمدا كثيراً، واستغفرا كثيراً، وهذا زاد المسلم، وإذا رأيت المسلم يكثر من ذكر الله، فاعلم أنه قريب من الله، وإذا رأيته غافلاً، فاعلم أن بينه وبين الله بعداً، ولذلك في سنن الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن بسر، قال:: {يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله}.
وقيل: ولا تضعفا في الدعوة إلي، مرا بالمعروف، وانهيا عن المنكر، فأنتما في أمر واجب ونحن -يا عباد الله- أصبحنا في زمن وفي وقتٍ كل منا وجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطاقته، وإلى متى ننتظر؟ إلى متى نسكت؟ إلى متى لا ننكر المنكر؟ لكن كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ولذلك يقول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان:17] ثم قال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17].
سوف تؤذى، وسوف تشتم، لكن اصبر على ما أصابك، والله يقول في قوم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم بنو إسرائيل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في مدح أمتنا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] قال: {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42].(270/15)
توصيته لهما باللين
ثم قال تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] ما أحسن هذا التوجيه! وما أحسن هذه التربية للدعاة والخطباء ولطلبة العلم والعلماء من تربية! {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] ما هو القول اللين؟ كأن معنى الخطاب: لا تجرحا شعور فرعون، احذرا أن تشددا عليه أو تشتماه، فتأخذه العزة بالإثم فلا يسلم، ولا يؤمن، لا تؤذيانه، خذاه بالتي هي أحسن، بقول لين هين سهل قريب، قال سفيان الثوري: [[أتدرون ما هو القول اللين؟ قالوا: لا، قال: كنِّه]] أي: ادعه بالكنية، وكنية فرعون كما يقول ابن كثير: أبو مرة -مرغه الله على وجهه في النار- فلما أتى موسى يتكلم معه، قال: يا أبا مرة، هكذا قال أهل التفسير، ولذلك قال الشاعر اليمني:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب
كذاك أدبت حتى صار من أدبي أني وجدت ملاك الشيمة الأدب
يقول: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] وورد أن القول اللين أن يقولا له: سوف يمتعك الله بالشباب والصحة والملك إذا آمنت وأسلمت.
وسبحان الله! ما أحسن القول اللين! فهو الذي يقود القلوب، وأحسن من فعل هذا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فهو الذي امتثل أمر الله في دعوته، فكان قوله ليناً، وكلامه ليناً، وفعله ليناً، حتى يقول الله عز وجل له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
والقول اللين لا يأتي إلا بخير، وفي الصحيح مرفوعاً: {ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه} والصلف والبذاءة لا تأتي بخير، والسب والشتم والتجريح لا يأتي بخير، ونحن في غنى عن هذا الكلام، وإن لم يجر لك ضرراً لم يأت لك بمنفعة، لكن عليك أن تبين سبل الهداية كما بينها صلى الله عليه وسلم.
لا يزال في نفسه مخافة؛ لأنه ما زال قلبه يرجف من فرعون، يعرف أنه ساكن في مصر في العاصمة، ومعه جيش جرار، ومعه جلادون وقتلة، ودولة كاملة، وهيلمان وسلطان وصولجان {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45].
وما كان مقصوده تعريف الله عز وجل فهو يعرف، لكن يريدان الاستنصار بالله على فرعون، وأصبحا يتكلمان الآن سوياً، فالضمير للمثنى الآن {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] يقولان: إن فرعون مجرم وفاسد، ودكتاتوري يذبحنا كما تذبح الشياة {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} [طه:45] أن يستعجل في العقوبة، نخاف من هذا المجرم ألا نستطيع أن نتكلم بين يديه حتى يتبع السيف إلى رءوسنا فيبترها {أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] يتجاوز في العقوبة {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] قال الله عز وجل: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] سبحان الله! أنا قريب، أنا معكم، ناصية فرعون وملكه وجنده بقبضتي، أقصمه متى شئت.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
سبحان الله! قوته تغلب كل قوة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ولا يتحرك فرعون إلا بإذني، ولا يتصرف إلا بقدري وقضائي، فلن تمسكم منه ذرة من الأذى إذا حفظتكم أنا، ولذلك في سنن الترمذي والمسند بسندين حسنين قوله صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس في الحديث الطويل: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف، {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46].(270/16)
إرشادهم لأسلوب الخطاب
قال تعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:48 - 47] فعلمهما أسلوب الخطاب، وعلمهما كيف يوجهان الكلام، قال لهما:
أولاً: أخبراه أنكما رسولان من عند الله.
ثانياً: خذا بني إسرائيل من مصر، واذهبوا إلى فلسطين.
ثالثاً: سلما على من اتبع الهدى، وهذا من أسلوب الدعوة، ولم يقل: سلما عليه - لا سلمه الله- فإنه ضال، ولم يقل: اتركا السلام، ولكن سلما علَّ في المجلس مؤمناً، وبشراه أن من أسلم لله أدركه السلام.
ولذلك في صحيح البخاري من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كتب لـ هرقل، فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتبع الهدى، أمَّا بَعْد: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين} الحديث.
السلام على من اتبع الهدى: هذا الشاهد، قال: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) [طه:47] {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] الآن دخلا عليه وأصبحا في القصر، ولكن هنا كلام محذوف تقديره: فأتيا وقرعا الباب، والعجيب أن ابن كثير أورد قولاً -نرويه- يقول: بقي موسى عليه السلام وأخوه يترادان ويطلبان الإذن بدخول القصر سنتين من الصباح والمساء، وهذا من الإسرائيليات.
وموقفنا من الإسرائيليات ثلاثة مواقف:
أما ما كانت في كتابنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم فهذا تحصيل حاصل لسنا بحاجة إليها، ونحن في غنية بما عندنا.
وأما ما عارض الكتاب والسنة، فنردها ونرمي بها عرض الحائط.
وأما ما لم يعارض ما في كتابنا، ولا كان له أي ضرر، فنرويها، كما قال عليه الصلاة والسلام: {وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج}.
فأتى موسى وهارون عليهما السلام يستأذنان، وقيل: إن موسى عليه السلام كان يضرب باب القصر الخارجي ودونه باب، ودون الباب باب، ودون السرادق سرادق، فأخذ يضرب الباب بالعصا يستأذن عليه السلام، ما أقوى موسى! وما أشجعه وما أجرأه!
فخرج الجنود: ما لك؟ قال: أريد فرعون، لماذا؟ قال: أدعوه إلى الله، قالوا: هو الله، لأن فرعون يقول لهم: ما علمت لكم من إله غيري، ويقول: أنا ربكم الأعلى، ويقول: وهذه الأنهار تجري من تحتي؛ فأجراها الله من فوق رأسه، فأخذ موسى يطرق، فخرج الجنود، قالوا: ما لك مجنون!، قال: ما أنا مجنون! -لكن عندي طب المجانين، عندي علاج للمجانين، أكبر مجنون عندكم هنا في القصر أريد علاجه، مجنون لا يعرف الله، لا يعرف طريق الله، ولا يعرف الجنة ولا النار، أخبروا فرعون، قالوا: في الباب مجنون يضرب الباب بعصاه يريد أن ندخله عليك.
قال: أدخلوه وهو يريد أن يضحك عليه، فجمع وزراءه، فلما دخل، كان الواجب أن ينتظر فرعون حتى يتكلم موسى، أنت إذا أتاك ضيف أتقول: أخبارنا وأمطارنا وأشعارنا أم تنتظر الضيف يتحدث؟! فلما دخل أراد أن يضحك على موسى، لكن موسى ضحك عليه، وعلى قومه، فموسى عليه السلام معه العصا يتوكأ بها، وبجانبه هارون يترجم له، موسى يعرف بعض الكلمات يقول بعض الكلمات، لكن إذا كثرت الكلمات تولى الترجمة هارون عليه السلام.
أتى فرعون يتكلم وقال: فمن ربكما يا موسى؟ الآن السؤال محرج، إن قال موسى عليه السلام: ربي الله فربما وافق ذلك ما في نفس فرعون لأنه يدعي أنه إله، وإن قال له: يا قليل الحياء، يا قليل المروءة، يا قليل الدين هذا سؤال خاطئ! جرح شعوره، والله يقول له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] وإن قال له: الله الذي خلقك، ربما يزري به أمام الجلوس ويجرح شعوره، لكنه قال: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
قال بعض المفسرين: لله دره من جواب! ما أحسنه! {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] إن كنت أنت الذي أعطيت كل شيء خلقه ثم هديت فأنت إله، وإن كنت لا تخلق ولا تصنع، فلا ندري.
هذا هو الجواب، يقول: إن الذي خلق كل شيء، وأعطى كل شيء خلقه وهداه ويسره وجعله سميعاً بصيراً هو ربنا، ولذلك أفحم فرعون بهذا الجواب، وهذا يسمى الجدل في القرآن، ومن ميزات الجدل في القرآن أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يستمرون في نقطة واحدة إذا جحدها المجرم، أو أنكرها فتركه، كيف أعطى الله كل شيء خلقه ثم هدى؟ كيف هدى الإنسان، وهدى الحيوانات والعجماوات والطيور والزواحف؟ هدى النحلة إلى خليتها وهي تقطع مئات الأميال، هدى كل شيء، هدى بعض الحيوانات وهي عمياء.
نقل ابن الجوزي حول هذه الآية: أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هدى كل مخلوق لكل ما ينفعه في الحياة إلا الكافر، فإنه لم يهتد بهدى الله عز وجل إذا ضل.
يقول ابن الجوزي: رأى بعض الصالحين في نخلة حية عمياء وسط نخلة من النخيل، قال: فرأيتها تلتمس الغذاء، فلم تجده وهي في نخلة مرتفعة وعمياء، قال: فرأيت عصفوراً يأتي وينقل لحماً وطعاماً، فإذا اقترب منها، صفر العصفور فرفع منقاره، فوضع اللحم في فيها، أليس هذا من الخلق والهداية؟!
وذكر أحد علماء الغرب في كتاب له العلم يدعو إلى الإيمان أو الإنسان لا يقوم وحده " وهو يسمى كريسي موريسون يقول: هناك حيات وثعابين -وهو صحيح- تأتي إذا أرادت أن تبيض في الأنهار وفي البحار التي تتجمد وتصبح ثلجاً، فتهاجر إلى المشرق لتبيض هناك، فإذا فقست بيضها، هاجرت أبناؤها إلى المحيطات تلك، فمن هداها؟
وهناك طيور إذا أدركها موسم الشتاء هاجرت إلى أفريقيا، فإذا انتهى الشتاء في بلادها، قطعت آلاف الأميال وعادت.
وهناك الجراد إذا أدركته المجاعة، زحف إلى المزارع التي فيها زرع وأكل وشرب، فمن هداه إلا الله! سبحان الله! {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
الآن بهت فرعون وانهزم، ومال إلى سؤال آخر: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه:51] يا موسى، أين أجدادنا وأجداد أجدادنا والقرون التي سلفت إن كنت صادقاً؟ ما لهم أحوسبوا؟ أعذبوا؟ ماذا كانوا يعبدون؟ ولو كان الجواب من غير موسى، فسوف يقال له: وما دخلك أيها الأحمق؟ وما دخلك أيها الوقح في هذه القضايا؟ لكن لأن الله قال لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] فقال بأسلوب بلاغي عجيب: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52] أنا وإياك لا ندري، لكنها والله في دواوين محفوظة، وفي سجلات مرسومة، وفي دفاتر مكتوبة، لا يضل ربنا مكانها، ولا ينسى علمها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وللحديث بقية لنستفيد من هذه الدروس والعبر.(270/17)
الأسئلة
وقبل أن ننتهي هنا بعض الأسئلة أحب الإجابة على بعضها.(270/18)
يهود إسرائيل الآن هم من بني إسرائيل قديماً
السؤال
هل بنو إسرائيل هم يهود إسرائيل الآن المحتلون لمسجدنا الأقصى؟ وكيف يكون تعاملنا معهم وقد رأينا تعاملهم مع الأنبياء؟
الجواب
نعم، اليهود الآن هم من نسل أولئك اليهود من بني إسرائيل، ولكن جعل الله عز وجل منهم مؤمناً وكافراً، وقد يأتي المؤمن من الكافر، ويأتي الكافر من المؤمن {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:27] واليهود الآن محتلون، وليس لهم حق في الأرض من جانبين:
أولاً: من باب النسل والأثر وميراث الله عز وجل الأرض؛ فليس لهم حق في فلسطين، لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106] فليس لهم حق في ميراث الله عز وجل، فهم دخلاء يجب أن يجاهدوا حتى يخرجوا من الأرض وتطهر منهم، فهم أرجاس أنجاس محتلون ظلمة مغتصبون.
ثانياً: تاريخياً: أن العرب نزلوا قبلهم في فلسطين، وأنهم هم أهل الديار، وأهل الدار، وأهل القصور، وأهل المساكن، وهؤلاء محتلون لا حق لهم في الديار بشهادة كبار المؤرخين.
أما كيفية التعامل معهم، فإن لم يؤمنوا ويدخلوا في دين الله، وإلا فالحديد والنار، وهذا هو الجهاد الذي ندبنا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إليه.(270/19)
نصائح للداعية المسلم
السؤال
حبذا لو أوجزت لنا بعض النقاط التي يستعين بها الداعية في التعامل مع مجتمع فيه كثير من الخير، ولكن ليس لديهم ولا بينهم قدوة أو مربي؟
الجواب
أولاً: القدوة إن شاء الله أو المربون موجودون على قلة، والتعامل مع هؤلاء يكون بالإخلاص لوجه الله في الدعوة، فإن دعوة لا تبنى على إخلاص لا يبارك الله فيها، والتزود بالعلم النافع من الكتاب والسنة، فإن من يدعو الناس بلا علم، فإنه لا يزيدهم إلا ضلالاً وحيرةً، يثقون في كلامه، وهو مبني على غير دليل، والعلم لا بد أن يبنى على الكتاب والسنة.
وأن يكون صاحب حلم، وصاحب سعة وصبر، وصاحب خير، وصاحب لين ومعروف ليقبل الناس عليه، ويتقبلون من كلامه، وهو الخلق الحسن , وهو درسنا هذه الليلة، كما قال تعالى لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
وأن يكون عاملاًً بما يدعو الناس إليه، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] وألا يكون كذاباً في فعله على قوله، يكذب فعله قوله، فنعوذ بالله من ذلك.
ومنها: أن يدعو الناس بتدرج وحكمة، لا أن يتحولوا في يوم أو يومين، إنما يدعوهم بتؤدة، يلقنهم العقيدة، ثم العبادات، ثم المعاملات، ثم الآداب والسلوك، وهذا مصداق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين لـ معاذ لما أرسله إلى اليمن {وليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة الحديث} فأمره صلى الله عليه وسلم بالتدرج في الدعوة.(270/20)
هل الذي استضاف موسى هو شعيب
السؤال
هل الرجل الذي استضاف موسى هو شعيب أم لا؛ لأن بعض الناس يقولون: إنه شعيب، والقرآن لم يذكر ذلك، ولم يذكر اسم شعيب؟
الجواب
كما ذكرت أن القرآن لم يذكر ذلك، ولم يرد حديث صحيح أو حسن ينص على أنه شعيب عليه السلام، لكن بعض المفسرين والنقلة قالوا: هو شعيب؛ وهذا لا يتوقف عليه كثير علم، ولا كثير فائدة، ولو كان فيه مصلحة لذكره القرآن، ولكن فيما يعلم أنه لم يصح فيه حديث، ولا أثر صحيح أو مرفوع إلى المعصوم عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى، فنتوقف نحن، ونقول: هو رجل صالح كما ذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا ندري باسمه، وأما الآثار هذه فنرويها، لكن لا نجزم بصحتها، وهذه الأمور التي يقام عليها خلاف، وليس عليها أثارة من علم، ولا تنسب إلى دليل من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليس فيها فائدة، والقرآن إذا لم يشر إلى شيء، فلماذا نتعب أنفسنا؟ مثل: كلب أهل الكهف، لم يخبرنا الله عز وجل بلونه، إنما قال: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18].
أتى بعض الناس، وقالوا: لونه مبرقع يميل إلى الصفرة، وبعضهم قالوا: مبرقش يميل إلى البياض، وقال آخرون: أحمر فيه سواد.
وماذا ينفعنا أن يكون أحمراً، أو مبرقشاً، أو أصفراً، أو موديل أربعة وثمانين أو خمسة وثمانين؟! هذا لا ينفعنا شيئاً، ولذلك أدبنا الله عز وجل فقال عن الجدل العقيم الذي لا يستفاد منه: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:22].
يقول: لا تخض في شيء لا يبنى عليه فائدة، مثل ما يدار في بعض المجالس، فهو من أوله إلى آخره إشغال للناس، وإرباك لهم، وأخذ أوقات الناس هل الأرض تدور حول الشمس، أو الشمس تدور حول الأرض؟ وهل يسألنا الله يوم القيامة هل الأرض تدور حول الشمس أو الأرض تدور حول الشمس؟ وهل يسألنا منكر ونكير؟ وهل في صحيح البخاري وصحيح مسلم هذا؟ هذا من ترف المسائل.
وتجد بعض الناس لا يعرف الوضوء، ولا الغسل من الجنابة، ويسأل عن أطفال المشركين هل هم في الجنة أو في النار؟ ويسأل عن عدد الأنبياء والرسل هل هم أربعمائة ألف، أو ألف وثلاثة عشر، أو ألف وثلاثمائة، أنا محتار، وما أزال أفكر، وما أتاني النوم من صلاة الفجر بسبب البحث عن عدد الأنبياء! وهذا لا ينبني عليه كبير علم، ولا كبير فائدة.(270/21)
طلب العلم في بلاد الكفار
السؤال
ما حكم السفر إلى بلاد الكفار لطلب العلم؟
الجواب
الذي يظهر من أقوال أهل العلم أن ذلك بحسب الأحوال، ولو أن هناك نصوصاً تخوف من مجاورة الكفار، فلا يسافر إلا لضرورة من طلب علم دنيوي يحتاج المسلمون إليه، كعلم الطب ولا يمكن التعلم إلا إذا سافر الدارس إلى تلك البلاد، فعليه أن يتقي الله، ويسافر لطلب الطب لفائدة المسلمين، أما طلب العلم الشرعي، فلا يطلب من عندهم.
من بلادي يطلب العلم ولا يطلب العلم من الغرب الغبي
وبها مهبط وحي الله بل أرسل الله بها خير نبي
فكيف يطلب الحديث والفقه والتفسير من عندهم؟! سبحان الله! أيطلب الشبع من جائع؟! ويطلب الدواء من مريض؟!
والأمر الثاني قالوا: لقصد الدعوة، فإذا وجد الإنسان في نفسه قوة وتأثيراً، وعلم أنه سوف ينفع، فلا بأس أن يذهب يدعو إلى الله عز وجل إذا كانت عنده لغة، وعنده حصانة إيمانية، وعفاف وستر.
والأمر الثالث: للعلاج إذا أعيا الأطباء علاجه في هذه البلاد، وقرروا أنه لا علاج له إلا هناك، فليذهب، أما للسياحة فنعوذ بالله من ذلك، أما للنزهة فمعصية، أما للتفرج وللتبجح فمعصية ظاهرة، ولا يؤمن على من ذهب هناك من أمور:
منها: أن يرق دينه، فيصبح دينه خفيفاً إن لم يخلع دينه تماماً.
ومنها: أن الكبائر تصبح عنده صغائر، بدل أنه كان يتكلم هنا ويرى أن إسبال الثوب كبيرة يصبح هناك لا يتكلم في هذه القضايا، ويقول: هذه قضايا صغيرة.
ومنها: أنه ربما يستهين بالإسلام -نعوذ بالله من ذلك- وهذا مرض الشبهات، فقد وجد أن بعض من سافر هناك، ورأى ثقافتهم الأرضية وحضارتهم المادية وقصورهم ودورهم ومصانعهم ومنتجاتهم أنه يستهين بالإسلام، وهذا كفر وخروج من الملة.
ومنها: أنه يعجبه الكفار فيأتي يمدحهم في بلاد المسلمين، ولذلك رأينا وسمعنا وأبصرنا ممن ذهب إلى هناك، ثم جاءنا يتقعر في مجالسنا ويتصدر أنديتنا ويمدح لنا بلاد الغرب، ويقول: ما هذه البلاد التي نحن فيها؟! إن البلاد التي أنعم الله عليها هناك والمتفتحون هناك، والمخلصون الصادقون الأذكياء وعباقرة الدنيا، أما التخلف وفساد المزاج والرجعية، فهنا! وهذا ردة إن لم يتب إلى الله عز وجل من كلامه، ولسماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رسالة في هذا مفيدة جد مفيدة في السفر إلى الخارج؛ فلتقرأ ولتفهم.(270/22)
معنى سؤال الله لموسى عن العصا
السؤال
هل السؤال عن شأن عصا موسى عليه السلام من أي شجرة تكون؟
الجواب
لا، وبارك الله فيك، الله يدري أنها من شجرة خلقها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن قال أهل العلم: إيناساً لموسى، أو كأنها خطاب يا موسى انتبه لهذه العصا، فسوف يكون لها شأن، واحذر أن تفوت منك، أو تضيعها، فإنه سوف يكون لها شأن، وبالفعل قامت قصة الدعوة على العصا.(270/23)
الأحوط ترك كلمة (مولانا)
السؤال
يوجد لدينا في بعض الأماكن والمساجد خطباء يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: مولانا، هل يجوز لنا أن نقول للرسول صلى الله عليه وسلم (مولانا)؟
الجواب
في الجواب تفصيل، والله عز وجل يقول: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55].
فإن كان قصده ولاية الدين وولاية الانتساب للسنة، فلا بأس بذلك، وإن كان قصده بها أنه ينفع في الدنيا أو أنه يرفع الحوائج إلى الله كما يفعل غلاة المتصوفة والبدعيون والقبوريون، فقد أخطأ خطأً بيناً، فالرسول عليه الصلاة والسلام في قبره لا يسمع عليه الصلاة والسلام، ولا يرفع الحوائج إلى الله، بل هو في قبره يحيا حياة برزخية الله أعلم بها، ولا يستشفع به بعد موته، ولو استشفع به صلى الله عليه وسلم لاستشفع به عمر وقت القحط، وإنما قال للعباس: [[يا عباس ادع الله أن يسقينا، ثم قال: اللهم إنا كنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إليك فتسقينا، فإنا نستسقي بـ العباس عم الرسول عليه الصلاة والسلام]] أو كما قال.
فهذا فيه تفصيل، لكن الأسلم والأولى ألا يذكرها الخطباء في خطبهم؛ لأنها ليست معروفة عند السلف، وليست مشهورة في كتب الحديث، ولم يتعارف عليها، ولم تكن مطردة بين الناس، والأولى أن نتقيد بالألفاظ الشرعية التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(270/24)
تفسير: (فاخلع نعليك)
السؤال
أرجو تفسير الآية: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} [طه:12]؟
الجواب
أنا قلت إن علياً رضي الله عنه وأرضاه وأبا أيوب وأبا ذر ورد عنهم أنهم قالوا: كانت الحذاء من جلد حمار، وقال بعض المفسرين: اخلع نعليك؛ لأنك في مكان كالمصلى، وفي مكان طاهر، وكأن في النعل نجاسة، أو كان هذا في شريعتهم، فقال: اخلع نعليك، ونحن في الإسلام يجوز لنا أن نصلي بالنعال إذا أمنت مضرة الصلاة فيها.
ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه وأرضاه عندما قيل له: {أكان صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم}.
وفي السنن عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه بسند جيد، قال: قال صلى الله عليه وسلم: {خالفوا اليهود صلوا في نعالكم}.
لكن أحياناً يكون هناك مضرة مثل: هذه المساجد المفروشة بالفرش الجيد، فإنها تتأذى من الداخلين بأحذيتهم، لكن إذا كان في الصحراء، أو في مكان ليس فيه مضرة، فلك أن تصلي أحياناً بحذائك إذا نظرت إليها، كما في حديث أبي سعيد وأبي هريرة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان ينظر إلى حذائه، فإذا وجد فيها أذى حكها في الأرض وصلى فيها.
فالخلاصة: أن معنى: (اخلع نعليك) ربما يكون في شريعة من قبلنا أنهم لا يصلون في نعالهم، أو تكون من جلد حمار، أو فيها نجاسة، أو لأمر اختص الله بعلمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(270/25)
التواضع لله
السؤال
قلت: إن الله عز وجل لما قال: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13] أن الله ما اختاره إلا لأنه تواضع لله، فكيف يتواضع لله؟
الجواب
سبحان الله! تواضع لله، أي: حمل في قلبه عظمة الله، وحب الله، وجلال الله، وكان في نفسه حقيراً، ولذلك في الأثر: [[اللهم اجعلني في نفسي صغيراً، وعند الناس عظيماً]] والتواضع ألا تحمل في نفسك كبراً، وأن ترى أنك عبد من عباد الله، وأنك حقير وفقير وصغير وما عندك شيء، وأنك ذليل، ولو لم يهدك الله لما اهتديت، ولذلك كان الكبر من أعظم الذنوب، وهو ركن الكفر، وصاحبه موعود بالمقت من الله والغضب والهلاك، وفي صحيح مسلم: {إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، من نازعني فيهما عذبته}.
وفي الحديث الصحيح: {يحشر المتكبرون على صورة الذر، يطؤهم الناس بأقدامهم} فالتواضع لله أن تكون متواضعاً في كلامك، فلا تستخدم "أنا" دائماً، أنا غني، أو أنا سليم المعتقد؛ إلا لإظهار صحة التوحيد إذا طلب منك أو سئلت، ولا تقل: أنا كثير العلم، أنا طيب السريرة، أنا أنا، قال ابن القيم رحمه الله: احذر كلمة (أنا) وكلمة (لي) وكلمة (عندي) فإن كلمة (أنا) أخذها إبليس، فقال: أنا خير منه، وكلمة (عندي) أخذها قارون، فقال: إنما أوتيته على علم عندي، وكلمة (لي) أخذها فرعون، فقال: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي.
ولكن تصح كلمة أنا، إذا قلت: أنا الفقير، أنا المسكين، أنا الضعيف، أنا الهزيل.
أنا الفقير إلى رب البريات أنا المسيكين في مجموع حالاتي
هذه تصح، وهذا معنى التواضع، والكلام فيه يطول.(270/26)
خطاب الله لموسى وهارون
السؤال
إنك قلت: إن الله عز وجل كلم موسى وحده، ثم في الأخير كلمهما معاً، فكيف ذلك؟
الجواب
في أول القصة حين لقي الله موسى عليه السلام في الوادي المقدس وكلمه لم يكن إلا وحده، فلما سأل أن يكون معه هارون، وصل موسى بيته في مصر، كما قال أهل التفسير منهم ابن كثير: أن موسى دخل وأول من استضافه أخوه وأمه في البيت، فلما سأل الله أن يكون نبياً معه أخبره أن الله اختارك واصطفاك، فكان الله يوحي إليهما.(270/27)
أسباب التخلص من قسوة القلب
السؤال
ما هو السبيل للتخلص من قسوة القلب؟
الجواب
السبيل للتخلص من قسوة القلب أمور:
1 - تقوى الله عز وجل والتوبة إليه وكثرة الاستغفار.
2 - قراءة القرآن بتدبر.
3 - قراءة كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم.
4 - مجالس الخير كهذا المجلس نسأل الله ألا يحرمنا أجره.
5 - تذكر الموت والقدوم على الله- عز وجل-.
6 - الجلوس مع الصالحين، وتجنب مجالس الأشرار.
7 - ترك المعاصي؛ لأنها سبب في قسوة القلب.
8 - التقليل من المباحات، يقول ابن القيم: أكثر ما يأتي بقسوة القلب كثرة المباحات، كثرة الضحك، والمزاح، وكثرة الكلام بغير ذكر الله، وكثرة النوم، نسأل الله أن يلين قلوبنا جميعاً.
هذا؛ وفي الختام أشكر الله عز وجل على أن وفقنا لهذا المجلس، ثم أشكر القائمين على مركز الدعوة في الجنوب على جهودهم الطيبة، ولا أنسى أن أشكر إمام هذا المسجد فضيلة الشيخ/ أحمد الحواش، وأشكركم على حضوركم، وعلى حسن إصغائكم، وأسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى القبول لنا والإخلاص والصدق؛ إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(270/28)
سهام في عين العاصفة
إن كل من يحاول أن يشوه هذا الدين لا بد أن يفضح ويخزى في الدنيا قبل الآخرة، فطريق أهل الصلاح مستقيم بحمية رب العالمين، ويقوده رسولنا الأمين، ودستوره الكتاب والسنة فأنى تكون له الخسارة والبوار؟!(271/1)
منهج أهل السنة في تلقي الأخبار
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس: من صفات أهل السنة أنهم يتثبتون من الشائعات على حد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] فإذا تبين لهم الخطأ وعرفوا من صاحبه ومن وراءه، فهو على أحد قسمين:
إما رجل استتر بخطئه فمنهج أهل السنة أن يردوا عليه في خفية ولا يشهرون به، ولا يفضحونه على رءوس الأشهاد.
أو رجل أشهر خطأه، وأعلن تمرده، وأظهر سوءه، فكان لزاماً عليهم أن يظهروا ردهم، وأن يشهروا على الناس جوابهم، وكان لزاماً على أهل السنة ألا يكتموا الردود والدفاع عن منهج الله لقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] فكان لزاماً على علماء الإسلام ودعاته أن يبينوا الحق ولا يخشون في الله لومة لائم، وأن يقولوا كلمة الحق فصيحة هادئة ناصعة.
ومن المعلوم أن علماء ودعاة الصحوة حكماء، قد ضبطوا أعصابهم يوم لم يستطع الدعي أن يضبط أعصابه، وتحكموا في عقولهم يوم لم يستطع العميل أن يتحكم في عقله، وثبتوا في أماكنهم يوم لم يستطع المتلبس بالنفاق أن يتحكم في موقعه.(271/2)
مواقف العلمانيين تجاه الدين وعلمائه
إن البغاة من العلمانيين أظهروا اليوم حرباً سافرةً على أولياء الله وشهروا سيوفهم، ورددوا سخرياتهم في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام، وليس لنا وسيلة إلا منبر محمد عليه الصلاة والسلام، فنقف أمام الرأي العام لنحاكمهم تحت مظلة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].(271/3)
هجوم كاتب علماني على الدعاة
ولا زال أحد كتابهم المرموقين، وشعرائهم اللامعين، الذي اكتسب سطوعاً ولمعاناً وما كان له أن يسطع ولا أن يلمع، لأن من لم يتجه إلى الله فلا سطوع له، ومن لم يحكم لا إله إلا الله فلا لمعان له، لكن أبى إلا أن يسطع ويلمع، وليته سطع ولمع على حساب دنياه وشهرته، ولكن ما كفاه ذلك حتى أخذ الملتزمين والصالحين جسوراً إلى أهدافه وعوابر إلى مخططاته.
وهذا الكاتب طالعنا له في جريدة الشرق الأوسط يوم الجمعة الماضي في العدد (4371) وهو يتحدث عن التغيرات التي يطمح لها، وهي تغيرات كيان الدين الإسلامي والمبادئ الخالدة والمنهج الرباني الذي شرفنا الله به، ولكنه بذكاءٍِ عجيبٍ يأخذ إشارات وعموميات من الإسلام لينفث سمه وحقده وحسده وضغينته.
يقول في هذا العدد وهو يطالب بتغيير هنا في بنية ومسيرة المجتمع والتزامه (ولم يكن من الطبيعي ولا من المعقول أن تتم هذه التحولات الحضارية الخارقة دون أن تتبعها تغيرات نفسية وفكرية واجتماعية).
أنحن أغبياء لهذه الدرجة، ولا نعرف اللغة العربية، ولا نعرف مقاصد الكلام، ولا نعرف ماذا يريد أن يقول؟
فهو يريد أن يأخذ الإسلام لبنة لبنة، وأن يهدم صرح الفضيلة، وأن يعتدي في وقت نعيش فيه أزمة، وهذا الكاتب والشاعر المشهور قرأت في مجلة الدعوة قبل ثمان سنوات مقابلة له ترجمت في أمريكا وظن أنها لا تصل إلينا، لكن أوصلها الله إلينا.
سئل عن حالنا -وهو من أبناء الجزيرة -:كيف حالكم في الجزيرة؟ قال: ما رأينا النور منذ ثلاثة آلاف سنة إلى الآن.
ونقول: أما أنت فصدقت، فلم تر النور إلى الآن! ولكن نحن -والله- رأينا بل وعشنا وأبصرنا ومشينا في النور وسرينا فيه يقول تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] وقال تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
أما نحن -أيها الكاتب- فقد أتى محمد عليه الصلاة والسلام فأخرجنا من الظلمات إلى النور: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257].
أين من يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه
قد سرينا في ضياء الوحي حباً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحدوه خطاه
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
وقد عرضت مقولته هذه على سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز، فقال: إن اعتقد ما يقول، فقد ارتد عن الإسلام، وعليه أن يجدد إسلامه ويدخل في الدين من جديد.
ويقول هذا الكاتب في ذلك العدد: والحوار الذي يدور حول القضايا المفتوحة يجب أن يتم في جوٍ هادئٍ بعيد عن التشنج.
واسمع الحكمة والعلم والمنطق: بعيداً عن التشنج والانفعال، بعيداً عن استعداء السلطة على الرأي الآخر، وعن الاتهامات التي تلقى جزافاً وبلا مبالاة، فما هو الحوار المقصود؟
هو أن يجعل الشريعة مستعدة إلى أن يُتفاوض عليها وأن يؤخذ منها ما يراد، ويترك منها ما يراد: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] ثم يكون هو حكيماً وأستاذاً ومنظراً وعالماً، ومن أين له العلم؟!
وعجبت له كل العجب، لما رأيت مقالة له كتبت رداً ولم تنشر، وأتاني والله عشرات من الشباب مجروحةً مشاعرهم، باكيةً عيونهم متأثرةً أرواحهم لأنه يلدغهم من حيث لا يشعرون، ثم يأتي بخنجره ويجزرهم علانية أمام العالمين بحجة الحكمة والحوار والهدوء.
ولو كان خصمي ظاهراً لاتقيته ولكنه يا قوم يبري ويلسع
فهو لم يشهر ولكن برى ولسع، فهو يأتيك بمدح العقيدة ثم يدس السم، ويأتيك بالإشادة بالإسلام ثم يقصم الإسلام، ويأتيك بالاستفاضة في المناهج الربانية ثم يدوس المناهج الربانية.(271/4)
حوار مع علماني
أيها الكاتب! أيها الأديب! أسألك بالذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك، أن تحكم عقلك إن كان لا دين لك، من الذين يستحقون هذه الردود وسط العاصفة؟ فهو يكتب في عين العاصفة، وهو الذي يدير علينا العاصفة، أعدوٌ من الخارج وعدوٌ من الداخل؟! أيلدغنا في وقت حرج فنحن نقابل الدبابات المعتدية الغاشمة الباغية على حدودنا، ونقابل الجيوش الجرارة تريد مقدساتنا، فيتركنا وفي الوقت الحرج يغير علينا.
وأسألك -يا أيها الكاتب- بالذي جعل لك عينين، ولساناً وشفتين، وهداك النجدين، أن تقف وتفكر من الذين أسسوا العدل في العالم، وخاطبوا العقل بالنور، وأوصلوا الفتوح إلى الدور، وعمروا القصور بعدل في القصور؟
من الذين طهروا الشعوب، وقضوا على الفجور والخمور والعهر إلا أبناء لا إله إلا الله؟!
ويستمر الكاتب ولا ينتهي، ويقول في العدد (4373) في جريدة الشرق الأوسط مقالاً بعنوان" أيها الأصوليون الصدَّاميون اسمعوا وعوا.
أتدرون من هم الأصوليون؟
إن الأصوليين في دوائر المخابرات الغربية هم أبناء الجزيرة العربية، هم أبناء لا إله إلا الله، هم أنتم أيها الساجدون المصلون المتوضئون الطاهرون، هم أنتم يا حملة لا إله إلا الله، يا من قدموا أكتافهم للسيوف عبر التاريخ.
وكأن ظل السيف ظل حديقةٍ خضراء تنبت حولنا الأزهارا
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا
ثم سرد كلمة (الأصوليون) على كل من انتهج نهج الاستقامة والالتزام من شباب الصحوة في العالم الإسلامي، وأكثر من يحارب الأصوليين إسرائيل عليها غضب الله، والغرب عليهم لعنة الله.(271/5)
تعريف الأصوليين
وكلمة (الأصوليين) مشتقة من الأصل، والأصل هو الكتاب والسنة، وسموا بذلك لأنهم ركبوا منهجهم على الكتاب والسنة، وأصَّلوه من قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام.
ويقف الأصوليون على حدود الجزيرة أمام دبابات وطائرات وجيوش صدام، ويأتي هذا من الداخل فيلدغهم بحجة أنهم مع صدام، ونحن -والله- قبل الحادث وبعد الحادث نعرف من هو هذا الرجل، ونعرف عقيدته ومنهجه وولاءه وبراءه وسيرته وسلوكه، وما أحببناه يوماً ولا واليناه، وإنما أعلنا حربه وعداءه.
يقول: أيها الأصوليون من أتباع عبد الله المؤمن مؤخراً -يعني صدام حسين - هل تعرفون الهدف الذي يسعى قائدكم إلى تحقيقه؟
إن قائدنا هو محمد عليه الصلاة والسلام، وليس صدام حسين ونبرأ إلى الله منه، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فمن هم الأصوليون؟
أيها الكاتب! أيها الأديب! أسألك بالله أن تراجع حسابك وتتأمل وتتفكر لتعرف من هم الأصوليون؟
إنهم الذين حفظوا مبادئهم يوم ضيعها غيرهم في شوارع الغرب!
إنهم الذين لبسوا زيهم الإسلامي يوم تردى غيرهم بالزي الكافر!
إنهم الذين توضئوا بالماء النمير يوم توضأ غيرهم بماء الخمر في ليالي العهر!
إنهم الذين بكوا من آيات الله البينات يوم دندن غيرهم على الأغاني الماجنات!
الأصوليون: هم الذين يحمون المقدسات، ولا يصل غازٍ ولا مستعمرٍ ولا علماني إلى المقدسات إلا على جماجمهم.
والأصوليون يقدمون جماجمهم تشدخها الدبابات لتبقى لا إله إلا الله، ويقدمون أعناقهم تفضخها المجنزرات لترتفع لا إله إلا الله.
إذا محاسني اللآتي أدل بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
كيف نعتذر أمام الرأي العالمي؟
يا أيها الكاتب! أما تعرف أن العالم الإسلامي الآن مئات الألوف من الأصوليين بل ملايين من شباب الصحوة كلهم يود أن يقدم روحه فداءً للا إله إلا الله والمقدسات في الجزيرة العربية ثم تأتي بشخطة قلم تلغي جهودهم وسطوعهم ولموعهم، وتحاربهم من الخلف في وقت شُغل فيه ولاة الأمر والناس وشباب الصحوة بالعدو الخارجي.
هذه -والله- لا يقرها عقل ولا نقل.
فمن هم الذين يتبعون صدام؟
إنهم الذين يؤمنون بأفكار صدام العلمانية الكافرة.
إنهم الذين لا يحتكمون إلى لا إله إلا الله.(271/6)
أوصاف العلمانيين في كتاب الله
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء:60] يزعمون ولا يعتقدون.
فهم يتبجحون بالإسلام في المجالس والإسلام بعيد عنهم، ويتظاهرون بحب الإسلام وهم يذبحون الإسلام صباح مساء: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] ولطالما سمعنا هذا الكاتب وقرأنا له، وعندي له قصاصات وملفات ووثائق.
ماذا يريد؟ وكيف ينفث؟ وإلى أي حد سوف يصل إذا ترك له الميدان؟
إنه خطير على الإسلام والمسلمين، وخطير على القبلة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] لأن الشيطان يتولاهم صباح مساء.
يقول أحد العلمانيين القدامى:
وكنت امرءاً من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي!
يقول: كنت جندياً مع الشيطان، فتطورت في المراتب حتى صرت أدير الشيطان وأذنابه.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} [النساء:61] تعالوا إلى القبلة والقرآن، وإلى صحيح البخاري وصحيح مسلم، وإلى المبادئ {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:61] عجباً!! {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:50] فهناك احتمالات ثلاثة:
1 - إما مرض دخيل اكتسبوه من تراثهم الذي تعلموه، ومن مائهم الذي شربوه، ومن جلبابهم الذي لبسوه، مرض وحقد على الإسلام وعداء لأولياء الله.
2 - أم ارتابوا: أم شكوا في مصداقية الرسالة ومصداقية الرسول عليه الصلاة والسلام.
3 - أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله: أم يظنون أن الله لا يريد بهم خيراً يوم أنزل لهم شريعة، ولا يريد بهم نصراً يوم أعطاهم مبادئاً، ولا يريد بهم فلاحاً ولا تطوراً يوم سن لهم دستوره، ويرون أن الدستور الإسلامي رمز التخلف والرجعية والواجب الانقضاض عليه، لكن بذكاء كالذئب.
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع
قال الله: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [النساء:62] كيف إذا أُخذت رءوسهم بسيف ولي الأمر الذي يحمي رسالة التوحيد، فصلبهم بعد صلاة الجمعة وقطف رءوسهم؛ لأنهم يفسدون في الأرض ويسعون فيها خراباً، ويدمرون معالمها، ومن أعظم ما ينتظرون سيف العدل المشهور الذي أخذ رءوس قطاع الطرق والمدبرين للفتن والمروجين للجرائم، وهم أعظم من يروج للجرائم ويدبر للفتن فجدير بالسيف أن يأخذ رءوسهم.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:62] كيف إذا ابتلوا بمصيبة؟ كيف إذا أظهر الله عليهم الصف الإسلامي، ثم جاءوا يقولون: إنما أردنا بالكلام والقصائد والمنشورات إحساناً وتوفيقاً بين الأمزجة، ووالله ما أردنا إساءة، ولكن أردنا أن نتحبب للرأي العام، وأن نوافق بين المشارب والشرائح الاجتماعية.
فهل بين الإسلام والكفر إحسان وتوفيق؟
وهل بين لا إله إلا الله، ولا إله والحياة مادة، إحسان وتوفيق؟
وهل بين المسجد والخمارة إحسان وتوفيق؟
وهل بين محمد صلى الله عليه وسلم وماركس إحسان وتوفيق؟
وهل بين أبي بكر وهتلر إحسان وتوفيق؟
وهل بين عمر وصدام إحسان وتوفيق؟
أتضحكون على حال المسلمين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء:63] حاول أن تؤثر عليهم وتردعهم قبل أن يلقوا الأمة في الهاوية، ويضربوها على أكتافها ضربة مهلكة.
يقول سيد قطب في الظلال وهو يعلق على أولئك: إنها حال مخزية حين يعودون شاعرين بما فعلوا غير قادرين على مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم بحقيقة دوافعهم، وفي الوقت ذاته يحلفون كاذبين أنهم ما أرادوا بالتحاكم إلى الطاغوت إلا رغبة في الإحسان والتوفيق، وهي دائماً دعوى كل من يحيدون عن الاحتكام إلى منهج الله وإلى شريعة الله.
ثم يقول: إنهم يريدون اتقاء الإشكالات والردود الاجتماعية وكلام العلماء وفتاوى الدعاة، فيتسترون بالثياب وهم ذئاب، ويلبسون العكاز وهم رأس المصائب.
إنهم يريدون اتقاء الإشكالات والمتاعب والمصاعب التي تنشأ من الاحتكام إلى غير شريعة الله، ويريدون التوفيق بين العناصر المختلفة والاتجاهات المختلفة والعقائد المختلفة فليس عندهم تمييز، ولا لهم باعٌ في الشريعة، عندهم ذكاء وبيان لكن هذا لا يكفي.
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] نفخت شموسنا غضباً علينا في هذا الوقت الحرج، أنحن أعداؤك؟!
أنحن الآن الذين يقفون ضدك؟!
أما تكلمت؟!
أما نظمت الأشعار؟!
أما لمعت؟!
أما سطعت؟!
أما صبرنا؟!
أما سكتنا؟!
أما رأينا أشعارك تنفث سماً وفجوراً وعداءً للإسلام وقلنا: من منطق الحكمة أن يناصح، ولكن:
أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدى
أنتركهم يغصبون الجزيرة أرض الأبوة والسؤددا
فجرد حسامك من غمده فليس له اليوم أن يغمدا
نفخت شموسنا غضباً علينا وقد نسجت ثيابكم يدانا
وسيفك في بني الإسلام ماضٍ وجذعك بيننا أضحى متينا
تغنينا وتسخر إن عثرنا كأنك ما دريت ولا درينا
كأنا لا نعرف المخططات، ولا الكلمات، وإننا مستعدون بلسان طلبة العلم والعلماء الحكماء الذين يعرفون التصرف وضبط النفس أن نحاورك حواراً علنياً أمام الرأي العام؛ ليثبت الصادق من الكاذب، والجاد من الهازل، والراشد من الضال.
تغنينا وتسخر إن عثرنا كأنك ما دريت وما درينا
تسرُّ إذا أصبنا بالرزايا مخادعةً وتضحك إن بكينا
توكلنا على الرحمن إنا رأينا النصر للمتوكلينا
وهل يخذل الله جنده؟!
وهل يضرب حزبه؟!
وهل يتقهقر أولياؤه؟!
وهل يعثر أنصاره؟!
بل هم الطليعة دائماً والكوكبة النيرة، لأنهم يحملون فكراً سليماً.
إننا نطالب هذا الكاتب ورموز العلمنة جميعاً أن يتوبوا إلى الله، وأن يقدروا ولاة الأمر وأن يعرفوا أن من حق ولي الأمر ألا يخالف فيما يطاع الله فيه ورسوله، وألا يعتدي على قداسة الدين، وحرمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ولا يسخر بأولياء الله، ولا يستهزأ بالقيم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
ولعلنا نسمع منتقداً يقول: هذا ليس من الحكمة.
فما هي الحكمة بالله؟!
وكيف نفسرها؟!
وأروني الحكمة إذاً!
وأخرجوا لي الحكمة!
إذا كان هذا يتكلم أمام الملايين ويهاجم الإسلام بطريقة ملففة، ثم يقال: اسكت لا تتكلم، إن الحكمة تقتضي أن تسكت.
فهذا ليس بصحيح، وما علمنا علماؤنا ولا الكتاب ولا السنة ولا أسلافنا ولا الصحابة ولا التابعون إلا منهج الحق؛ أن نقول الحق ولا نخشى في الله لومة لائم.
أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، وأن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يحفظنا ويحفظ علينا ديننا وبلادنا ومقدساتنا إنه نعم الحافظ وهو المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(271/7)
خصائص أهل الحق
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الناس: نحن أهل لا إله إلا الله لنا مصادر عزة، ولنا انتماءات خالدة، ولنا خصائص ربانية لا يشاركنا فيها أحد، هذه نقف بها أمام أهل العلمنة، ونحن فخورون جداً أن نكون من أولياء الله -إن شاء الله- وواثقين من مبادئنا، فمن خصائصنا:
أولاً: أنا أمة وحي.
أي: أن دستورنا وعقيدتنا وشريعتنا وسلوكنا وأخلاقنا من الوحي، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4] وغيرنا إنما يأخذون قوانينهم من التراب والطين ومن أحذية المستعمرين، ونحن نأخذ عقيدتنا وشريعتنا من رب العالمين، يقول تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] أنتم الأعلون عقيدة ومنهجاً، وعبادة، وأخلاقاً، وسياسة، واقتصاداً، وإعلاماً يوم تتحاكمون لشرع الله، فنحن أمة وحي.
ثانياً: ولينا الله، الله مولانا ولا مولى لهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] فمن مثلنا من الناس؟ تولينا الله والله تولانا، وأحببنا الله والله أحبنا -إن شاء الله- فنحن إذا ضاقت بنا السبل، مددنا أكفنا بين يدي علام الغيوب، فاتصلنا به مباشرة، يقول تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
إذاً نحن أمة ربانية، أمة خرجت من الصحراء، لكنها اتصلت برب الأرض والسماء، فأجلسها على الجوزاء.
ثالثاً: قدوتنا محمد عليه الصلاة والسلام، فهل سمعت بقوم مثلنا قدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم.
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا كفى بالمطايا طِيب ذكراك حاديا
فإما حياة نظم الوحي سيرها وإلا فموتٌ لا يسر الأعاديا
رضينا بك اللهم رباً وخالقاً وبالمصطفى المختار شهماً وهاديا
فهل سمعت بقوم قدوتهم محمد عليه الصلاة والسلام يضلون، أو يخذلون، أو يتراجعون؟ لا.
رابعاً: أننا أمة وسطية، ولسنا متطرفين، لا نغلو ولا نجفو، نعرف كيف نتعامل مع الشريعة، ونعيش روحها ونؤسسها في الناس، لا نغلو فنصبح مثل الذين غلو في دينهم فغضب الله عليهم، ولا نجفو فنكون مثل الذين تمردوا على معالم الدين، فنحن ننطلق من منطلقات الإسلام الصحيح، ومن شاء فليحاور شباب وعلماء ودعاة الصحوة.
خامساً: هذه الأمة معطاءة "إن بني عمك فيهم رماح" يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {أمتي كالسيل لا يدرى الخير في أوله، أو في آخره} فلم تعقم أرحام النساء، ولم تتبلد المنجبات من الأمهات، فلا زلن يلدن فينا الزعماء الأبرار، والعلماء الأخيار، والأدباء، والشهداء، والصديقين، والدعاة والصالحين، فنحن دائماً سوف نقدم:
ثمن المجد دمٌ جدنا به فاسألوا كيف دفعنا الثمنا
سادساً: هذه الأمة أمة الخلافة، جعلها الله تتولى الخلافة في الأرض وتقود العالم، وتوجه البشرية من وسط الدنيا من أم القرى من مكة من الجزيرة ومن حولها العالم الإسلامي، فالخليفة هي هذه الأمة التي تحمل لا إله إلا الله.
سابعاً: هذه الأمة وارثة، أي أنها سوف ترث العالم -إن شاء الله- وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أنها سوف تتبوأ منزلتها، وتحكم بعقيدتها وشريعتها، ويطوق الأرض عدلها، ويحكم الكون برها وسلامها وخيرها وفضلها، فأبشروا فالغد لكم والفجر المنتظر لكم.
يا أمة المجد قومي مزقي الحجبا وأعلني في ليالي جهلك الشهبا
أتذكرين صلاح الدين سفسطةً من غير بذلٍ صلاح الدين قد ذهبا
قبر العظيم إذا ما زاره ذنبٌ رغا وأزبد لا حييت يا ذنبا
لو أخبروا عمر الفاروق نسبتهم وأسمعوه الرزايا أنكر النسبا
أبواب أجدادنا منحوتةٌ ذهباً وذي هياكلنا قد أصبحت خشبا
من زمزم قد سقينا الناس قاطبةً وجيلنا اليوم من أعدائنا شربا
لكن أُبشّر هذا الكون أجمعه أنا صحونا وسرنا للعلا عجبا
بفتيةٍ طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضبا
عافوا حياة الخنى والرجس فاغتسلوا بتوبةٍ لا ترى في صفهم جنبا
عباد الله: صلوا على معلمنا صلى الله عليه وسلم، وأكثروا عليه من الصلاة والسلام في هذا اليوم؛ فإن صلاتكم معروضة عليه، فصلى الله عليه وسلم تسليماً أبداً ما دام الليل والنهار، جزاء ما قدم وأنتج وأعطى للأمة.
وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه يا رب العالمين!
اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم اهدنا سبل السلام، اللهم ثبت أقدامنا على الحق.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك ولرفع رايتك، اللهم رد شباب المسلمين إليك رداً جميلاً، اللهم احفظ علينا عقيدتنا وإسلامنا وشريعتنا ومقدساتنا وبلاد المسلمين كافةً يا رب العالمين!
اللهم من أراد بنا وبالإسلام سوءاً فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واقطع أثره ودمر مستقبله واحرمه السعادة يا رب العالمين!
اللهم من أسهرنا بنقده وسخريته، فأسهر عينيه بالبلاء، وشتت جهده بالشقاء، واجعله في دار الحوباء.
اللهم اهتك أسراره، وافضح عواره، وأظهر أخباره وجندل شعاره، يا رب العالمين!
اللهم احفظنا واحفظ علينا كرامتنا وديننا يا رب العالمين!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(271/8)
أحكام المولود
الإسلام دين كامل شامل، لجميع جوانب الحياة، وقد اعتنى بالإنسان منذ ولادته إلى آخر حياته، فبين الأحكام الخاصة بالولادة، وماذا يفعل عند الولادة، وماذا يجتنب، وقد ذكر الشيخ في هذا الدرس أحكام المولود، من ذبح العقيقة وحكمها، ومتى تذبح، وكم يذبح، وتسميته ومتى يسمى الولد، ومتى يحلق رأسه، وكذلك الأذان في أذن المولود، وغيرها من المسائل.(272/1)
مقدمة عن الالتزام بالكتاب والسنة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وإنها لبشرى سارة، ولفتة عجيبة؛ أن يتجه شباب الإسلام، أو معظمهم اتجاهاً علمياً إلى علم الكتاب والسنة، ويحرصون على ميراث محمد صلى الله عليه وسلم، ويبدءون تحصيلهم العلمي، مصرين على العودة إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهي بشرى تفرح المؤمن، لأنه لا رسالة إلا بعلم، ولا علم إلا قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالحمد لله الذي جعل من هؤلاء الشباب شباباً يحرصون على العلم النافع علم الكتاب والسنة، وعلى تخريج الأحاديث، ومراجعة أصول الإسلام، وتحقيق المسائل؛ لأن زمان الهيجان والحماس والنثر البارد الذي لا يستفاد منه قد أصبح يولي، وهذه بشرى ونسأل الله أن يزيد الخير خيراً.
وإذا كان ضابط المسلم الكتاب والسنة، فهو ضابط محدد معروف متجه؛ حينها لا يزيغ الشاب والمسلم في عبادته أو في عقيدته، ولا في أدبه أو سلوكه، ولا في ولائه أو برائه.
فالسنة سفينة نوح -كما قال الإمام مالك - فمن ركب معك في سفينة نوح نجا، ومن ترك وتخلف غرق.
فلا يخاف على صاحب الكتاب والسنة ولو شرق الناس وغربوا، ما دام أنه على الكتاب والسنة.
وهذه لفتة لا بد أن تذكر في أول الدرس.(272/2)
أحكام العقيقة
نحن الليلة مع صاحبنا الأول القديم، الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- وهو في كتاب (العقيقة) يورد علينا الليلة حديثاً صحيحاً، وكل حديث في البخاري صحيح.
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
يقول: عن سليمان بن عامر الضبي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مع الغلام عقيقة؛ فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى} رواه مع البخاري الجماعة إلا مسلم.
وفي العقيقة مسائل سوف نوردها هذه الليلة:
أولاً: تعريف العقيقة.
ثانياً: حكمها.
ثالثاً: ما معنى: إماطة الأذى.
رابعاً: ما معنى: (كل غلام مرتهن بعقيقته).
خامساً: ما معنى: (يذبح عنه يوم سابعه).
سادساً: ما معنى: (ويسمى فيه).
سابعاً: ما معنى: (مكافئتان).
ثامناً: قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكرت العقيقة: {لا أحب العقوق} بينما قال: {كل غلام مرتهن بعقيقته} فكيف نجمع بين اللفظين؟
تاسعاً: ما معنى قوله: {ويلطخ بزعفران}؟
عاشراً: عق صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين.
فكم عق عنهما؟ وكم يعق عن الذكر وعن الأنثى؟
الحادي عشر: التصدق بالفضة لصحة الروايات، وليس فيها ذكر الذهب.
الثاني عشر: الأذان في أذن المولود يوم تلده أمه، وهل الإقامة سنة أم لا؟ وتحقيق الكلام في ذلك.
الثالث عشر: استحباب تحنيك المولود، وأن يكون المحنك صالحاً، وبماذا يحنك به المولود؟ وما هو التحنيك؟
الرابع عشر: الأسماء المختارة المبجلة المشرفة في الإسلام، والأسماء الصادقة، والأسماء المنهي عنها.
الخامس عشر: هل يجزئ غير الغنم في العقيقة؟ هل تجزئ الإبل والبقر وغيرها؟ وهل يشترك في البدنة والبقرة؟
السادس عشر: هل يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية، من ألا تكون جدعاء، ولا هتماء، ولا هزيلة.
أم لا؟
السابع عشر: متى يبدأ وقت ذبح العقيقة؟ هل يبدأ بعد الفجر من اليوم السابع، أو في الضحى؟ وهل يجوز في الليل؟ وهل يجوز أن تذبح قبل السابع؟ وهل يجوز أن تذبح بعد السابع؟ وتحقيق الكلام في ذلك.
الثامن عشر: تنزع جدولاً، أي: أعضاءً، ولا تكسر.
وما الحكمة في ذلك؟ وما الدليل على ذلك؟
هذه المسائل كلها نتدارسها الليلة بعون الله وتوفيقه وفتحه بعنوان: "العقيقة وأحكامها".(272/3)
تعريف العقيقة
العقيقة مشتقة من العق، وهو: القطع والشق.
يقال: عققت اللحمة أي: قطعتها، وعققت الثوب أي: شققته.
وعققت الحبل: أي قطعته.
وعق الثوب: شقه.
فهي الشق والقطع.
وهي: الذبيحة التي تذبح للمولود، ولا يصح أن تسمى تميمة كما يسميها بعض الناس بل هي عقيقة في اليوم السابع.
نفلق هاماً من رجال أعزةٍ علينا وهم كانوا أعق وأظلما
يقول: نقطع رءوساً عزيزة علينا وأقارب، لكنهم ظلمونا وجاروا علينا.
وقد استشهد بهذا البيت -كما في السير - يزيد بن معاوية لما قتل الحسين بن علي، فقد قتل في خلافة يزيد، وقد قتله عبيد الله بن زياد بن أبيه، وقد أرسل له أحد أولاد سعد بن أبي وقاص في كتيبة فقتله.
وكانت مقتلة الحسين مصيبة كما يقول ابن تيمية: ينبغي علينا إذا تذكرنا مقتل الحسين أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].
وذكر ابن كثير -ولا بأس بهذا الاستطراد لأنه حقيقة علمية عقدية- أن ابن عباس -رضي الله عنه وأرضاه- نام في مكة، في الوقت الذي قتل فيه الحسين في طريق العراق، فاستفاق ابن عباس وهو يبكي، فقالوا: ما لك؟ قال: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يلقط دم الحسين من الأرض ويقول: هكذا يا بن عباس! فعلت أمتي بابني هذا الفعل.
ولما أتى قتلة الحسين إلى عبيد الله بن زياد في العراق قالوا: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر أي كأنهم انتصروا.
فيقول شاعر الإسلام:
جاءوا برأسك يا بن بنت محمد متزملاً بدمائه تزميلا
ويكبرون بأن قتلت وإنما قتلوا بك التكبير والتهليلا
من الذي أتى بالتكبير والتهليل إلا أنت وجدك!
ولما أدخل رأس الحسين على عبيد الله بن زياد، أخذ ذلك المتبجح يمد صوته وعصاه على أنف الحسين ويقول: هذا خرج علينا وظلمنا، فقال له زيد بن أرقم: يا عبيد الله! ارفع عصاك، فوالله لطالما رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يقبِّل هذا الموضع ويقول: {الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا}
ولكن أنصف الله من عبيد الله بن زياد -وهي جراحات في وجه التاريخ- فقد قُطع رأسه بعد سنة، قطعه المختار بن أبي عبيد الثقفي، ووضعه في نفس المكان، ولكن لم يضع المختار عصاه كما فعل عبيد الله، بل أتى ثعبان صغير -حية- فكان يدخل في أنف عبيد الله بدل العصا، ثم يخرج -وهذا في البخاري - ثم يعود، فيقول: جاءت جاءت -أي: الحية- فيدخل في أنفه ويعود: {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26].
إذاً: قال يزيد لما رأى رأس الحسين:
نفلق هاماً من رجال أعزةٍ علينا وهم كانوا أعق وأظلما
والله ما كان فيهم إلا السماحة والخير والبر واليسر.
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا(272/4)
حكم العقيقة
أما حكم العقيقة ففيها ثلاثة أقوال:
ذهب أبو حنيفة -رحمه الله- إلى أنها من أعمال الجاهلية، وليست بسنة ولا واجب ولا يفعلها إلا جاهلي.
فغضب ابن قدامة في المغني غضباً شديداً وما كان له أن يغضب، فهو رقيق ظريف، يتعامل مع العلماء برقة، لكنه غضب هذه المرة، وخرج عن شعوره، وقال: إن دل هذا على شيء، فإنما يدل على قلة علم أبي حنيفة بالآثار وجهله بالسنة.
وهذه العبارة من كيس ابن حزم وليست من عبارات ابن قدامة، لكنه خرج عن شعوره.
فالقول الذي قاله أبو حنيفة خطأ، وكل يؤخذ من كلامه ويرد، إلا صاحب ذاك القبر عليه الصلاة والسلام.
وذهبت الظاهرية وعلى رأسهم ابن حزم وداود وهو قول الليث والحسن البصري، إلى أنها واجبة، واستدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {كل غلام مرتهن بعقيقته} فقالوا: ما دام أنه مرتهن فهي واجبة.
وتوسط الجمهور -وفق الله الجمهور إذ اتبعوا الدليل- فقالوا: إنها سنة وليست بواجبة.
لسنا مع أبي حنيفة في إنكارها، ولسنا مع ابن حزم في إيجابها، لكن نقول: إنها سنة.
قلنا: ما دليلكم؟
قالوا: قوله صلى الله عليه وسلم في السنن بسند حسن: {من شاء أن ينسك عن ولده فليفعل، ومن شاء فليترك} ولأنه أمر ما ركب عليه واجب، ولأنه يجهله بعض الناس من الأمة، والواجب لا يجهل.
هذا من ردود الجمهور وهو الصحيح إن شاء الله.
أما ابن تيمية، وابن القيم فقالوا: إنها مشروعة ويحتمل أن تكون واجبة، وأن تكون سنة.
فالأقرب أنها سنة.
والأحسن للعبد أن يعق عن ابنه، فإنه أنفع وأفيد وأقرب وأحسن؛ فإن لم يفعل فالله المستعان، لا يُلزم، ولا يُحبس، ولا يُطاف به في العشائر والقبائل ويضرب بالجريد والنعال، ويقال: هذا جزاء من ترك العقيقة عن ابنه.
لا.
فالأمر أيسر من ذلك.(272/5)
معنى: إماطة الأذى في الحديث
ما معنى إماطة الأذى؟
يقول صلى الله عليه وسلم: {مع الغلام عقيقة؛ فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى} فالأذى: هو الشعر.
قال ابن سيرين في سنن أبي داود: إن لم يكن الأذى الشعر، فلا أدري ما هو!
فمن السنة إذا ولد لك مولود -والإطلاق وارد والعموم في الذكر والأنثى- أن تحلق شعر رأسه، وهو إماطة الأذى؛ لأن ابن سيرين يقول: إذا لم يكن إماطة الأذى حلق الشعر، فلا أدري ما هو!
ولكن الشوكاني يعمم فيقول: الأذى يشمل الشعر وغير الشعر.
فمسمى الأذى فيه عموم؛ أن ينظف ويحلق شعره، وهذه سنة الإسلام.
في سنن أبي داود عن قيس بن عاصم المنقري: أنه لما أسلم، أمره صلى الله عليه وسلم أن يختتن، وأن يلقي عنه شعر الكفر -كأن من الحكمة: أن يدخل بشعر جديد في الإسلام- فحلق شعره واختتن واغتسل.
ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: {كل غلام مرتهن بعقيقته} محبوس أم مقيد أم ماذا؟
لأهل العلم في ذلك رأيان:
قال الإمام أحمد رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته: معنى: (مرتهن بعقيقته) أي: إذا مات وهو طفل لا يشفع لوالديه حتى يُعق عنه.
فهو مرتهن، أي: ممنوع من الشفاعة لك؛ لأن الطفل إذا مات صغيراً شفع لوالديه، ولذلك ندعو لوالديَّ الطفل في صلاة الجنازة، أن يكون شفيعاً وفرطاً لوالديه.
والفرط: هو سابق القوم عند الماء، فهو يسبقك عند الحوض.
وقد وورد في أحاديث: {أن الولدان يخرجون من الجنة يتلقون آباءهم فيأخذون بهم إلى الجنة} فحبذا من عنده أولاد قدموا قبله يوم القيامة، وحبذا من عنده بنات وقفن له عند الحوض يوم العرض على الله، فإنه موقف صعب؛ حتى يقول أحد الأنصار الذي يرى الموقف كأنه رأي العين: {يا رسول الله! أين ألقاك في ذاك اليوم؟ -زحام، وهولٌ، والصحف تتطاير، والنفوس تخاف وتهلع- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلقاني عند واحد من ثلاثة مواطن لا أغادرها: عند الصراط، أو عند الميزان، أو عند الحوض}.
هذا هو رأي الإمام أحمد في معنى: (مرتهن بعقيقته).
وقال بعض العلماء: لا يسمى ولا يُحلق إلا بعد ذبح العقيقة.
أي: إن التسمية والحلق رهينة بالذبيحة.
وهذا القول قريب إن شاء الله.
والكل ليس عندهم دليل تأصيلي تفصيلي، لكن نقول: لا بأس أن يجمع بين قول الإمام أحمد وقول من قال بهذا القول.(272/6)
متى تذبح العقيقة
السنة أن يذبح عنه في اليوم السابع.
فقد ورد عند أبي داود، والترمذي، والبيهقي، وجمع غفير، وهو حديث صحيح؛ أن العقيقة تذبح في اليوم السابع.
قال الترمذي: وهو قول أهل العلم، أن تذبح عنه في اليوم السابع، فإن فات ففي الرابع عشر، فإن فات ففي الحادي والعشرين.
وتوقف الشوكاني وسأل الترمذي وقال: من أين لك هذا؟ فمن أتى بقول قلنا له: ما هو دليلك؟
{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
والصحيح ما قاله الترمذي لكن بتحفظ، أما أنه قول أهل العلم جميعاً فلا.
وهناك رواية عن مالك، أنه ليس في الرابع عشر ولا في الواحد والعشرين.
ولكن روى البيهقي بسند يقبل التحسين: أنه إن فات في اليوم السابع، ففي اليوم الرابع عشر، فإن فات في اليوم الرابع عشر ففي اليوم الواحد والعشرين.
إذاً يذبح عنه في اليوم السابع من يوم ولادته.
وسوف نفصل الكلام في عددها وسننها وأحكامها وكيف تذبح.
فإن فاتك اليوم السابع كأن يكون لك غرض أو عذر، ففي اليوم الرابع عشر، ولا تجعلها في العاشر أو في الخامس عشر، فإن فاتك؛ ففي الواحد والعشرين، فإن فاتك؛ فلا بأس أن تقضيها ولو كبر الابن، فقد جاء عند البيهقي: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه} ولكن الحديث ضعيف.
وأهل العلم يتساءلون: هل ولد صلى الله عليه وسلم مختوناً أم أنه ختن؟
والصحيح أنه ولد مختوناً عليه الصلاة والسلام.
خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلدِ النساء
فرسول الله صلى الله عليه وسلم ولد مبرأ من كل عيب، لا يتثاءب ولا يحتلم ولا يلعب عليه الشيطان أنفاسه طيبة عرقه طيب وكله طيب.
وأما حديث: {عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه} فهو حديث ضعيف؛ لأنه يحتاج إلى مقو، وليس له مقو تقطعت بالحديث الحبال.
وسوف نعرج عليه.
ثم نأتي إلى البيهقي وهو ينقل عن عبد الله بن بريدة قال: [[من فاته اليوم السابع ففي الرابع عشر، ومن فاته الرابع عشر ففي اليوم الواحد والعشرين]] وهذا أمر مطلوب ومقبول، والسند يقبل التحسين.(272/7)
حكم العقيقة من غير الوالد
قوله عليه الصلاة والسلام: {يذبح عنه في اليوم السابع} فيه مسائل:
منها: أنه يجوز أن يتبرع بالذبح غير الوالد، فإذا تبرع الجار وقال: أذبح عن ابنك وأعق عنه.
قلنا: جزاك الله خيراً، ومثلك يفعل هذا.
وإذا أتى رجل محسن وقال: عندي هذه العقيقة.
قلنا: أحسنت وأجزلت زادك الله تبرعاً وخيراً.
فلا يشترط أن يكون الوالد هو الذي يعق؛ لأنه قد يكون فقيراً.
ومنها: أنه يجوز أن يُعق غيرُ المولود.
ومنها: أن وقتها لا بد أن يكون في اليوم السابع، أما قبل السابع فلم يرد في ذلك شيء، وقد أجازه بعض الفقهاء، وقالوا: يجوز في السادس والخامس، لكن هذا فيه تخوف، وهو أن يموت الولد قبل السابع، فتخسر وتذبح وتغدي الناس ثم يموت بعد الغداء، فلا كفاك مصيبة الولد، ولا مصيبة الذبائح والولائم.
وقد مر معنا كلام ابن الجوزي عن هذه المسألة.
قال صلى الله عليه وسلم: {ويسمى فيه} أي: يسمى في اليوم السابع، فلا يسمى الابن قبل اليوم السابع، لا في اليوم الأول أو الثاني أو الثالث وإنما في السابع.
ولكن جاء عند أبي داود: (ويدمى) بدل (يسمى) فقالوا: وَهمَ هَمَّام في هذه الرواية فقال: يدمى بدل يسمى وقيل: كان راوٍ من الرواة ألتق -يأكل الكلام- فأتى ليقول: يسمى.
فقال: يُدمى.
والحديث يلقط مثل المغناطيس، حفظه جهابذة، كل واحد كحية الوادي، إذا سمع الكلمة لقطها.
ولكن بقي قتادة بن دعامة السدوسي على هذا القول، فقال: يدمى الابن.
قلنا له: كيف يدمى؟ قال: إذا ذبحت الذبيحة، يؤخذ من دمها بصوفة ويُجعل على بطنه ثم يدمى رأسه.
وقد قال بهذا القول ابن عمر، وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وقتادة بن دعامة السدوسي.
لكن الصحيح أن هذا خطأ ووهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم عند ابن ماجة، من حديث يزيد بن عبد الله المزني: {يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم} وهذا نص.
لكن قالوا لنا: الحديث مرسل، وصدقوا.
قال الناظم:
ومرسلٌ منه الصحابي سقط وقل غريبٌ ما روى راوٍ فقط
فـ يزيد بن عبد الله المزني تابعي، وأبوه عبد الله المزني صحابي، وهو لم يروِ عن أبيه، فانقطع السند.
لكن الأقرب -أيها الأبرار- أنه لا يدمى، والتدمية من يفعلها فقد أخطأ، وهي من أفعال الجاهلية؛ فقد ورد في السنن أن أهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك، ولكن لما أتى الإسلام منعهم من ذلك، وقال عليه الصلاة والسلام كما في السنن بسند حسن: {واجعلوا مكان الدم خلوقاً} وفي رواية حسنة: {زعفراناً} أو ما يقوم مقامه كالمر ونحوه من الطيب.
وقد جاء عند ابن حبان عن عائشة رضي الله عنها قوله صلى الله عليه وسلم: {كانوا في الجاهلية إذا عقوا يضعون على الرأس دماً، فضعوا مكان الدم زعفراناً أو خلوقاً} والحديث صحيح.
وما معنى التسمية؟
قال: ابن أبي شيبة كما في المصنف يسمى في اليوم السابع على معنيين:
الأول: أن يسمى باسمه، كأن يقال: هذا اسمه محمد بن عبد الله بن سعيد، وهذا هو الصحيح.
الثاني: قيل: المعنى أن يسمى على الذبيحة ويقول: باسم الله وهذا ليس بصحيح، بل الصحيح أنه يسمى هو في اليوم السابع، ولا يسمى قبل ذلك.(272/8)
المقصود بقوله: مكافئتان
ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم في السنن بسند صحيح: {عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة} بفتح الفاء أو بكسرها.
ما معنى هذا؟
قيل: معناها متقاربتان في السن، فلا تكون هذه كبيرة من القرن السادس، ولا تكون هذه صغيرة بعد الحرب العالمية الثانية.
بل تكون متقاربة في السن بعضها من بعض، فلا يأخذ جذعة ومعها كبيرة قد سقطت أسنانها واتقو الله ما استطعتم.
وقيل: التكافؤ: أن تكون مستويتان في النوع، فلا تكون هذه ماعز وهذه ضأن، وهذه ضأن عراقية وهذه نجدية، بل تكون من أسرة واحدة، وتكون رضعت في سنٍ واحدة ولكن هذا بُعدٌ وتكلف، إنما أن تكون متقاربتين في السن، ولا بأس أن يكون تيساً وكبشاً أي: من الضأن.
ولا بأس أن تكون أنثيين، ولكن الذكران أحسن؛ لأن عطارد بن حاجب يقول لـ سجاح التي ادعت النبوة:
أضحت نبيتنا أنثى يطاف بها وأصبحت أنبياء الله ذكرانا
والله عزوجل يقول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36] {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11] فالأحسن أن تكون كباشاً؛ لأنها تستسمن ولأنها عبادة، ولأنها من المناسبات الإسلامية، ولو كانت ولائم لاستسمنها الإنسان، وبعض الناس يفعل ذلك إذا كان في زواج، ويدعو الوجهاء فلا يأخذ إلا أغلى شيء، لكن إذا كانت عقيقة، أخذ قحمة شوهاء هلتاء مرتاء، قد أكل عليها الدهر وشرب، ثم ذبحها وقال: اللهم اكتب لي بها ولذريتي ولإخواني وأعمامي الجنة فهذه أولى من مناسبات الدنيا، فهي مناسبات دينية.
يقول مالك بن أنس رحمه الله: تذبح شاة عن الذكر وشاة عن الأنثى.
قلنا له: يا أيها الإمام المعتبر! أتت السنة بشاتين عن الذكر وشاة عن الأنثى، والسنة تقدَّم على رأي كل واحد من الناس؛ لأنها سنة محمد عليه الصلاة والسلام.
واستدل بحديث بريدة الأسلمي: {كنا نذبح شاة شاة عن الذكر والأنثى} قلنا: الحديث فيه كلام، ولكن ما هو دليلك الآخر؟
قال: وعن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال -كما في السنن -: {عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين شاة شاة} قلنا: لا.
بل ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة} وهذا حديث حسن.
فكيف نجمع بين هذه الروايات؟
الجمع أن يقال: أولاً: زيادة الشاة زيادة ثقة، وزيادة الثقة مقبولة.
ثانياً: نقول: الرسول صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين شاة شاة، وهذا فعل، ولكنه قال للناس: عن الغلام شاتان.
والقول عند أهل الأصول يقدم على الفعل.
إذاً: فالراجح الذي عليه الجمهور: أنه عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة واحدة، فهذا هو الصحيح، وهذا هو تحقيق المسألة، والجمع يكون من وجهين كما تقدم، ويرد على من ذهب إلى ذلك المذهب الضعيف.(272/9)
المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا أحب العقوق)
يقول عليه الصلاة والسلام في حديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي وسنده صحيح، لما قيل له: {يا رسول الله! كيف العقيقة؟ قال: لا أحب العقوق} نعوذ بالله من عقوق الوالدين والرحم والأصدقاء.
قال الراوي: كأنه كره الاسم صلى الله عليه وسلم {فقالوا: يا رسول الله! الرجل منا يولد له ولد فماذا يفعل؟ فأخبرهم صلى الله عليه وسلم} أليس في هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كره العقوق؟ لكنه صلى الله عليه وسلم قال -كما تقدم في صحيح البخاري: {مع الغلام عقيقة} هذا لفظ البخاري.
ولفظ الخمسة: {كل غلام مرتهن بعقيقته} فكيف نجمع بين كراهيته صلى الله عليه وسلم للفظ العقيقة، وبين هذين الحديثين؟
الجمع أن يقال: الرسول صلى الله عليه وسلم كره الاسم، وكراهته للاسم؛ لأنه لا يحب أن يتوصل بهذا الاسم إلى أخذ الأسماء المكروهة، وجعلها لغة بين الناس.
ولكن لماذا قال: {مع الغلام عقيقة} و {كل غلام مرتهن بعقيقته}؟
قلنا: الدليل الجواز، والجواز لا يمنع من الكراهة، وهذه قاعدة أصولية.
وقد يكون الأمر مكروهاً، لكنه جائز أحياناً.
فليتنبه لهذا.
إذاً: قول: عقيقة جائز، لكن الأفضل ألا نقول: عقيقة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: {مع الغلام عقيقة} خاطبهم بلغتهم، فهم يفهمون العقيقة، ولما قال هناك: {إني أكره العقوق} أراد أن يترفع عن هذه الألفاظ.
فقد كره صلى الله عليه وسلم في السنة لفظ يثرب؛ لأنه من التثريب، والتثريب يعني: التوبيخ والمعاتبة.
وقد قال إخوة يوسف ليوسف: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:91 - 92] فالتثريب: معاتبة وتوبيخ.
والله عزوجل قد ذكر المدينة في القرآن، فسماها في مواضع: المدينة، وسماها: يثرب قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة:120] الآية.
وقال عن المنافقين: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:13] فلما ذكر الإيمان والجهاد ذكر المدينة، ولما ذكر النفاق والمنافقين أتى بلفظ يثرب؛ فالتثريب عليهم، والمدينة المنورة مدينة المؤمنين، تنور بصائرهم وأفئدتهم.
فقد يستخدم اللفظ هنا بغير ما يستخدم هناك، وعليك أن تجمع بين ما أتى في السنة بما جمع به أهل العلم.(272/10)
المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: ويلطخ بزعفران
الزعفران نبت معروف، يسحق مع مخلوط، ويوضع على الرأس.
والزعفران مطلوب لفوائد طبية ذكرها أهل الطب، واختارها محمد عليه الصلاة والسلام.
قال أهل العلم: فيه دليل على استحباب تلطيخ رأس الصبي بالزعفران أو غيره من الخلوق الذي يشابهه، كالمر والحناء والكتم، أو ما يشابه ذلك.
والمسألة فيها سعة، أما الدم فلا يوضع أبداً.
جاء في الحديث الذي مر معنا: {عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين} فيه دليل على أنه يجوز أن يعق غير الأب من الأقارب، كالعم والخال، والأخ الكبير، فلا يشترط الأب؛ للحديث السابق.
وجاء عند أحمد بسند ضعيف فيه ابن عقيل {أن فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، أخبرت الرسول صلى الله عليه وسلم بـ الحسن، فقال: لا تعقي عنه} لأنه عق عنه صلى الله عليه وسلم، فهو الذي تصرف.
وفيه: إذا مات الوالد عنه فعلى الذين يقومون بالنفقة أن يعقوا عنه.
قال الشافعي في رواية عنه: من تلزمه النفقة على المولود عليه أن يعق.
أي: من الذي يورثه أو يرث منه من الأقارب والإخوان والعصبة فهؤلاء يعقون عنه؛ لفعله صلى الله عليه وسلم ذلك.
وروى البيهقي عن أنس: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه} ولكن الحديث منكر فيه عبد الله بن محرر وهو منكر الحديث، قال الحافظ ابن حجر: عبد الله بن محرر ضعيف جداً في الرواية، وهو الذي روى عنه البيهقي حديث: {عق صلى الله عليه وسلم عن نفسه} فلينتبه لهذا.
وفيه دليل على أن الإنسان يعق عن نفسه، لكن أن ينتظر المولود حتى يكبر ويعق عن نفسه؛ فهذا غير صحيح.(272/11)
بعض أحكام المولود(272/12)
حكم التصدق بالذهب والفضة
هل ورد التصدق بالفضة؟ وهل يجوز التصدق بالذهب؟
ورد أن يتصدق بوزنه وَرِقاً عند أحمد، والوَرِق هي الفضة، قال تعالى عن أصحاب الكهف: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف:19].
قال صلى الله عليه وسلم: {ويتصدق بوزنه}.
ووزنه أن يقدر، أما أن يضع الشعر في الميزان فلم يرد ذلك.
وهل يضع الذهب مكانه؟
قال أهل العلم: يجوز ذلك.
قلنا: أين دليلكم؟
قالوا: ما رواه الطبراني في الأوسط بسند فيه رواد بن الجراح وهو ضعيف -وسوف يحقق الكلام في رواد بعض طلبة العلم- ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بست منها: {أن يتصدق عن المولود بذهب} ولكن الرواية ضعيفة، فيتصدق بالفضة، ولكن إذا تصدقت بذهب أو بشيء من الدراهم الموجودة الآن فالأمر سهل.
وعليك أن تقدر تقديراً، كأن تتصدق بعشرة ريال، أما إن وزنت شعره فيمكن أن يأتي شعره بقرشين، فتدفع في سبيل الله، لرفع راية الجهاد في أفغانستان قرشين وتقول: هذه عن المولود فهذه لا تنفع.
لكنك تقدر، والذي في جانب الله لا يضيعه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فهذه مسألة التصدق مكان الشعر المحلوق بالفضة أو الذهب.(272/13)
حكم الأذان في أذن المولود
المسألة الثانية عشرة: الأذان في أذن المولود.
ورد عنه صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود {أنه أذَّن في أذن الحسن} لماذا؟ لينشأ على لا إله إلا الله، وليرتضع لا إله إلا الله وهو صغير، ليكون أول ما يطرق أذنه لا إله إلا الله والله أكبر، ويتربى على الفطرة: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] {كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} هكذا يُنَشأُ المولود على لا إله إلا الله:
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
فلا يولد على الغناء، ولا يكبر إلا وعنده اثنان وعشرون أغنية للمغنين والمغنيات، الماجنين والماجنات، الأحياء منهم والأموات فسوف ينشأ ضالاً ضائعاً، لا يساوي شيئاً والذي يحفظ الغناء لن يحفظ سورة البقرة، ولن يعرف المسجد إلا أن يتوب الله عليه، فهو يظن أن الحياة كلها غناء:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات في الأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
فحرام أن يستمع الغناء، أو ينشأ عليه، وتحبب له المرأة والجنس وهو صغير، ويظن أن مهماته في الحياة أن يكون عبداً للدينار والدرهم، أو يكون عبداً للمرأة، أو عبداً للكأس، أو عبداً لصورة خليعة فهذا حرام.
فيؤذن في أذنه، ولكن يؤذن بعقل، فلا يفجر طبلة أذنه، أو حتى يسمع أهل الحارة، بل يؤذن أذاناً هادئاً، لأنك إذا أذنت ورفعت صوتك سوف يموت، والله يقول: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156].
وهل يقام في أذنه الأخرى؟
ورد عن عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، أن كان يقيم في الأذن الآخرى، لكنه موقوف عليه، ولم يرفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
فنقول: ما دام أنه موقوف فلا يقال: إنه سنة، فلا تأتي البضاعة إلا مِنَ الذي في المدينة عليه الصلاة والسلام، وعليها خاتمه بالصحة، فهي البضاعة المطلوبة، أما غيره فنأخذ، ونرد عليه إذا قابل السنة.
فالإقامة لم ترد إلا من فعل عمر بن عبد العزيز، فأنت تؤذن فقط، أما الإقامة فلا.(272/14)
استحباب تحنيك المولود
من السنة إذا ولد لك مولود، إن كنت صالحاً -ونسأل الله لنا ولك الخير- أن تأخذ شيئاً من التمر، فإن أعوزك فعسل، فإن أعوزك فشيئاً من سكر، أو شيئاً حلواً وتحنطه به، وهذا فيه حكم ولطائف، حتى يقول ابن القيم: هو أحسن ما يباشر بطن المرأة النفساء؛ ولذلك الصائم أول ما يفطر على التمر؛ لأن الحلو فيه قوة تدافع الجائع، والمولود لم يأكل من الحياة شيئاً، فأول ما يقدم له التمر الحالي -لا يقدم له (فصفص) ولا غيره إنما يقدم له تمر- ويمضغ حتى يصير سائغاً للشاربين، ثم يوضع في فمه.
جاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم {أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بـ عبد الله بن أبي طلحة وهو صغير - ابن أم سليم وأبي طلحة أتى به أخوه من أمه أنس - قال: فأتيت الرسول صلى الله عليه وسلم، فوجدته يطلي إبلاً من إبل الصدقة -محمد عليه الصلاة والسلام، معلم البشر، الذي رفع الرءوس إلى النظر، الذي نزل وحيه كالمطر، الذي علم الإنسان وفقه الإنسان، ومع ذلك يطلي إبل الصدقة- قال: فأتيته بابن أبي طلحة وهو لا زال صغيراً، أي: أنه ولد الآن، ما دخله لا لبن ولا ماء ولا شيء، يريدون بركة ريقه صلى الله عليه وسلم:
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
فأخذ الطفل، وأخذ تمرة عليه الصلاة والسلام، فمضغها -انظر إلى المربي الأجل، والمتواضع يراعي الناس في أطفالهم، يقف مع المولود ومع المرأة فيعيش مشكلتها يطلي الإبل والجهاد يدار على كفه وتربية الأمة، وشئون المرأة، وشئون الاقتصاد والإدارة والفتيا والتعليم والدروس كلها على يديه - ثم وضعها، فأخذ الطفل يتلمظ التمر، فقال عليه الصلاة والسلام وهو يتبسم: انظروا حب الأنصار للتمر}.
لأن الأنصار أهل تمر وهذا الابن أنصاري، فهو يحب التمر.
وقد ذكر عليه الصلاة والسلام الجنة، فوصفها ووصف نخيلها؛ فقال أعرابي: يا رسول الله! أفي الجنة نخل وزروع؟ قال: إي والذي نفسي بيده.
قال: إذاً الجنة تعجب الأنصار بل تعجب كل مسلم، ونسأل الله أن يجعلنا من وراث الجنة، وألا يحرمنا الجنة، فوالله إذا كان سعينا وعملنا ودروسنا ومحاضراتنا وبيوتنا وسيارتنا للدنيا، فيا خيبتاه!! فوالله إنها دنيا مريضة وحزينة، ودنيا الهم والغم، وما ارتحنا فيها أبداً، إن ارتحت اليوم اغتممت غداً، وإن سلم ابنك ماتت ابنتك، وإن نجحت البنت رسب الولد، وإن تشافى الرأس مرضت اليد؛ فهي دنيا مكدرة لا تصلح أبداً.
قال رجل للحسن البصري: ماذا أفعل ببطني؟ إن جعت أتتني رعشة -أي: ارتعدت- وإن شبعت كظني بطني.
قال: التمس لك يا بن أخي داراً غير هذه الدار، فهذه لا تلائمك ولا تناسبك.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من ورثة تلك الدار.
ولا بد أن يكون المحنِّك صالحاً، فلا تذهب به إلى فاجر وتقول: يا بركة الزمان! يا درة المعمورة! نتبرك بك لهذا الابن.
لا.
وأنا أتحفظ عند كلمة "يتبرك" وقد أطلقها الشوكاني وغيره، لكن المراد أن يدعي له، أما أن يتبرك بآثاره فأتحفظ عنها، وأستغفر الله منها؛ لأنها طريق إلى الخزعبلات والخرافات.
أمة تبني مجدها ودينها وعلمها على خرافات؛ أمة لا تصلح، والآن أصبح السحر والكهانة منتشراً حتى في المدن.
أمة عاقلة، وأمة أصبحت تسير أمورها على الكمبيوتر، لكنها مخرفة تعلق التمائم، وتأخذ بعض الحجارة، وتفعل هذه الخرافة أين العقول؟! فهذا حرام.
والتبرك مدخل إلى الخرافة، ولكن يذهب به إلى رجل صالح ويقال: نريد أن تدعو له، ودعاء الصالحين مطلوب، أما أن يتبرك بثوبه، أو بغترته، أو بشرابه فلا يكون التبرك إلا بآثار محمد صلى الله عليه وسلم فقط، أما هؤلاء الذين ينصبون أنفسهم للدجل والخرافة، وليس عندهم قال الله ولا قال رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ليأكلوا أموال الناس بالباطل؛ فهؤلاء كفرة؛ فإن الساحر كافر، وحده ضربة بالسيف.
ومن أتى كاهناً أو عرافاً أو ساحراً فصدقه؛ فقد كفر بما أنزل على محمد، ومن أتاه ولم يصدقه فلن تقبل له صلاة أربعين يوماً، ومن ذهب إليه مصدقاً فلا قبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً، ولا رضي عنه، ولا تقبل منه.
وهؤلاء الكهنة متخلفون، وهم أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وليس هذا مجال هذا الكلام؛ لكنه استطراد لا بد منه؛ لأنها مسألة وقعت وأصبحت ظاهرة في المجتمع؛ فإن السحر موجود، وقد أخبرنا رئيس الدعوة هنا الشيخ مداوي، أنه قد اطلع على عشرات القضايا من هذه المسألة بنفسه في المدن وفي القرى، وأصبح الناس يذهبون إلى السحرة طوابير، حتى من بعض خريجي الشريعة وأصول الدين؛ نسي أنه قرأ فتح المجيد وفتح الباري وقرأ فتاوى ابن تيمية، ونسي عقله وعلمه ودينه يوم ذهب، فعلق دينه في بيته وذهب نعوذ بالله من الخذلان.(272/15)
ضرورة اختيار الاسم الطيب
من السنة أن تسمي المولود في اليوم يوم السابع، باسم إسلامي لطيف، اسم محمدي أحمدي، وليس من أسماء الخواجات، أو أعداء الرسل والكتب والرسالات.
ومن الأسماء التي تسمى، وهي أحب الأسماء إلى الله عزوجل: عبد الله وعبد الرحمن، كما صح فيها الحديث، أما حديث: {أحب الأسماء ما عُبِّد وما حُمِّد} فهذا حديث لا يصح، بل هو موضوع.
فتسمي عبد الله، عبد الرحمن، عبد السلام، وكل اسم فيه تعبيد، إذا ثبت الاسم أو الصفة لله في الكتاب أو السنة.
أما أن تأتي بأسماء وتركبها وتقول: عبد اليقظان، أو عبد الموجود، أو عبد الساهر الذي لا ينام؛ فهذا ليس بصحيح، ولم يرد به الدليل.
فتأتي بالأسماء الشرعية معبدة لله تعالى، ونعوذ بالله من التعبيد لغير الله، فهو حرام، مثل: عبد الكعبة، عبد المطلب، عبد النبي، عبد المسجد، عبد الخبز، عبد التميز فلا بد أن يكون عبداً لله عزوجل، بالأسماء الحسنى التي وردت له.
وورد في الصحيح: {أصدق الأسماء حارثٌ وهمام} فلك أن تسمي بحارث وهمام، لأنها أصدق الأسماء؛ لأنها تعني: أن الإنسان يزاول بيديه ويهم بقلبه.
وفي سنن أبي داود: {أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اسم يسار ورباح ونجيح وأفلح} لأنها يُتشاءم بها؛ فإذا قلت لأهلك: أيسار في البيت؟ قالوا: ليس فيه يسار.
فأصبح البيت ليس فيه يسر.
وإذا قلت: أفلح في البيت.
قالوا: ليس في البيت أفلح وكذلك نجيح ورباح فهذه لا تسمى.
ومنها البنات مثل: فتنة، وعاصية، وغاوية، ومتخلفة، وبليدة، وغبية، فهذه لا تصلح.
وكذلك الأسماء التي ليس لها معاني: النوف، ورقى، وعزوه.
هذه أسماء ليست بفرنسية ولا إنكليزية ولا أردو ولا بشتو، بل هي أسماء الجن والعفاريت.
وكذلك الأسماء للأبناء التي فيها أنوثة، لا تنبغي، مثل أن تسمي الابن: دلال، ودعد، ودعد لا أدري أهي ذكر أم أنثى.
فلابد أن تسميه اسماً قوياً صلباً: عبد الله، محمد، حمزة؛ لأنه اسم الأسد، وطلحة من الأسماء الماجدة.
والعرب كانت تحب الأسماء التي لها وقع، وعندما ولد لـ علي ولده الحسن سماه حرباً، فسماه صلى الله عليه وسلم حسناً ولما ولد الحسين سماه حرباً، فسماه صلى الله عليه وسلم حسيناً، ولما ولد محسن سماه حرباً، فسماه صلى الله عليه وسلم محسناً.
فـ علي يريد القوة؛ لأنه شجاع، مهمته فصل الرءوس عن الأكتاف، فيريد أبناءه أن يكونوا مثله.
تلك العصا من هذه العصية لا تلد الحية إلا حية
والإنسان له اشتقاق من اسمه، حتى إن بعض الناس له حسن من اسمه وصفته ولقبه، فعلى الإنسان أن يحرص على اسم إسلامي قوي، ولا يجعل اسماً يتشاءم به؛ فقد جاء في سنن أبي داود أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لرجل: {قم احلب الناقة، ما اسمك؟ قال: حرب.
قال: اجلس.
فقام الثاني فقال: ما اسمك؟ قال: مرة.
قال: اجلس.
فقام الثالث فقال: ما اسمك؟ قال: صخر.
قال: اجلس.
فقام الرابع فقال: ما اسمك؟ قال: يعيش.
قال: احلب الناقة فحلبها}.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل؛ فقد نزل مرة في دار رجل من الأنصار فقال: {رأيت البارحة كأنَّا في بيت عقبة بن رافع، ونحن نأكل رطب ابن طاب -ابن طاب من أنواع رطب المدينة - قالوا: ما أولتها يا رسول الله؟ قال: أولتها الرفعة لنا في الدنيا والآخرة} إي والله، فقد أصبحت له الرفعة في الدنيا، فأصبح دينه يعلو على الشمس، قال: {والعاقبة لنا، والرطب، فديننا قد رطب وطاب} وكلها أسماء مطلوبة.
وقد ورد أثر لكن في سنده نظر، والعجيب أنه عند أبي داود، وقد أتى به ابن الديبع الشيباني في كتاب الأسماء في تيسير الوصول إلى جامع الأصول: [[قال عمر لرجل: من أنت؟ قال: اسمي جمرة.
قال: ابن من؟ قال: ابن شظية.
قال: من أين أنت؟ قال: أنا من غدير الحرة أو غدير النار.
قال: اذهب إلى أهلك فقد احترقوا، فذهب فوجد بيته محترقاً]] وهذا الحديث في سنده نظر، وإن كان عند أبو داود، وسوف تعودون إلى السند لتراجعوه هناك إن شاء الله.(272/16)
حكم ذبح البقر والإبل في العقيقة
هل يجزئ غير الغنم كالإبل والبقرة؟
اختلف العلماء في ذلك: فالجمهور على إجزاء البقر والإبل؛ فقد روى الطبراني عن أنس قال: [[يعق عنه من الإبل والبقر والغنم]] وقال الإمام أحمد: من عق عن ابنه بدنة -أي: ناقة- فليجعلها كاملة، أي: لا يشترك فيها هو وغيره كالأضحية، وذكر الرافعي اشتراك السبعة، وذكر بعضهم اشتراك العشرة.
والصحيح: أنه يجوز أن يعق بالإبل والبقر عن المولود، والشاتان أحسن من البدنة، لكن إذا لم أجد أو لك نظر أو كثر الناس فخذ بدنة، ولكن السنة شاتان، ولا يشترك فيها سبعة ولا عشرة؛ لأن ذلك في الأضحية وهذه عقيقة.(272/17)
هل يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية؟
وبعض العلماء قالوا: يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية: أي: لا تكون عوراء، ولا هتماء، ولا عرجاء، ولا شرقاء، ولا بخقاء إلى غير تلك الأوصاف التي وردت في حديث علي.
والصحيح: أنه لا يشترط؛ لأن العقيقة لها مسمى غير الأضحية، والأضحية خصص الرسول صلى الله عليه وسلم القول فيها.
وأما من قال: كل وليمة سنية يشترط فيها ما يشترط في الأضحية؛ فهناك ولائم مثل وليمة الزواج -على القول بإيجابها- ولا يشترط فيها ما يشترط في الأضحية.
إذاً -فالحمد لله- كل شاة تسمى شاةً، أو ذكراً من الغنم فاذبحه، ولو كان فيه بعض العيوب، ككسر القرن، أو أن تكون عوراء، أو هتماء، أو عرجاء بشرط أن تكون سمينة.
فلا يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية.(272/18)
مبدأ وقت ذبح العقيقة
متى يبدأ وقت ذبح العقيقة؟
لأهل العلم آراء:
قيل: من بعد الفجر.
وقيل: من طلوع الشمس، أو من وقت الضحى.
وقيل غير ذلك.
وقيل: تجزئ من الليل.
وقيل: لا تجزئ من الليل.
والصحيح أنه ليس لها وقت محدد -أعني: في الأوقات الجزئية بهذه الساعات- أما وقتها المحدد ففي السابع -كما تعرفون وأسلفنا- لكن لك أن تذبح العقيقة في الصباح أو الليل، عشاء أو فطوراً، أو غداء للناس، أو بعد صلاة التراويح، أو في الضحى، أو بعد الظهر، أو بعد العصر، فأنت مخير، ولم يرد في هذا تحديد.
والتحديد بلا دليل تكلف، وإيراد بلا علم، فما دام أنه لا يوجد دليل، فالأمر مفتوح في أي وقت، والحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، ولا نتقيد إلا بالكتاب والسنة.(272/19)
المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: (تنزع جدولاً)
الجدول: أن تقسم الأعضاء من المفاصل، ولا يكسر العظم، تفاؤلاً ألا يكسر عظم هذا المولود، فقد ورد في مراسيل أبي داود، عن جعفر بن محمد عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين: {ولا تكسروا منها عظماً} وهذا في المراسيل، والمراسيل ضعيفة، وقد أورد هذا الحديث ابن القيم وسكت عنه، فهو يستأنس به من قبيل الحسن من رأي الرجال، وتفاؤلاً أن الله لا يكسر عظم المولود، فلا يكسر العظم، بل تحز من المفاصل، فتقسم اليد من المفصل، والرجل والكتف، وهكذا.(272/20)
الأولى والأفضل في العقيقة
هذه المسألة لا يقال فيها: الأفضل أن توزع، ولا يقال: الأفضل أن تطبخ، وإنما بحسب حاجة الناس والأحسن لهم.
فإن كنت ترى أن جيرانك فقراء ومحتاجون، وأن إرسال اللحم إليهم في البيت أنفع؛ لأن عندهم أطفال وهم في حاجة؛ ولأنك إذا دعوت لا يأتي إلا الأب، وكثير من الناس يقول: تعال أنت وحدك ولا يأت معك أحد.
فهو إذا أتى وحده لا يستأنس مثل من يأتي بأطفاله وعماته وخالاته، فإن كنت ترى المصلحة في ذلك فأعطهم، وبعض الناس لا يجيبك حتى تقول: تعال بابنك محمد وعلي وعبد الوهاب وعبد السلام وإخوانهم جميعاً، فيستأنس ويأتي.
وإن كانت المصلحة في أنهم يستأنسون بلقياك، وبالجلوس في مجلسك، وكان يدار من الحديث ما هو أشهى من العسل المصفى، وهناك فائدة نفعية كأن تعقد جلسة روحية، وتتكلم في آية، أو عندك دعاء في المجلس، وتريد أن تؤثر على جيرانك في الخير بالدعوة فادعهم إلى بيتك؛ لأن هذا أنفع، حتى يقول ابن القيم: لأن كلفة مئونة الطبخ أحسن من أن تعطيه شيئاً من الذبيحة؛ فيأتي فيأخذ لها بصلاً وملحاً -ويعدد من هذه الأمور- حتى يصير أكثر من اللحم.
فإن كانت مئونة الطبخ أنفع وأيسر عندك في البيت، فعليك أن تفعل.
وهذا ليس فيه ضابط بل أنت مخير، لك أن تتصدق بها، ولك أن تدعو الناس إليها وأنت أبصر، لكن إن دعوت الناس لكان أحسن وأوفق.
ومما يدار من الحديث أن يدعى للمولود، ويتكلم في قضايا العقيقة إذا حضر الناس، ويكون هناك للمسلمين جدول عمل يتكلمون فيه عن العقيقة وعن أحكامها، وعن الإسلام وعن أحكامه وقضاياه.
والحمد لله رب العالمين.(272/21)
الأسئلة(272/22)
وقت الأذان في أذن المولود
السؤال
هل وقت الأذان بعد الأربعين يوماً؟
الجواب
الأربعين يوماً ليست واردة، إنما إذا ولد الطفل، فمنذ وقت ولادته تؤذن في أذنه بالتي هي أحسن، ولا تنتظر الأربعين، فإنها ليس عليها دليل.(272/23)
حكم التسمية على العقيقة
السؤال
ما حكم التسمية على العقيقة؟
الجواب
لا بد من التسمية على كل ذبيحة، وتسمية المولود تكون في اليوم السابع.(272/24)
السنة في عدد الشياه
السؤال
هل ذبح شاة أو شاتين يعد من البخل؟
الجواب
التقيد بالسنة أحسن: شاتان عن الولد وشاة عن الأنثى، وأنت لست ببخيل، فلا يلزمك أن تدعو الناس جميعاً وتذبح عشر ذبائح؛ لأن هذا خلاف السنة ولو أنه يُفعل، وهذا من تقصيرنا، لكن السنة أحسن، فتدعو بحسب هذا، وتعتذر للإخوة وتقول: هذه عقيقة وسنة ونريد أن نتقيد بها، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله سيبسط على الناس فلم يأمرهم بأكثر من هذا، فليس هذا بخلاً.(272/25)
حكم أكل شاة والتصدق بأخرى
السؤال
هل يجوز أن تطبخ شاة ويتصدق بشاة؟
الجواب
إذا تصدق بشاة وطبخ شاة في البيت فله ذلك، لكن لابد أن ينوي في الذبح للعقيقة، أما أن يذبح لعدة مناسبات فلا يصح، بل لا بد أن تكون نيته للعقيقة.(272/26)
حكم تسمية الولد من أول يوم
السؤال
هل يجوز تسمية الولد من اليوم الأول للضرورة؟
الجواب
إذا كنت ترى أنك تضطر إلى تسمية من اليوم الأول؛ لشئون الميلاد والمستشفيات، فلك أن تسميه لأنها ضرورة، فتسميه من اليوم الأول، ولا تعق عنه إلا في اليوم السابع.(272/27)
العقيقة عن التوأم
السؤال
كم يذبح عن التوأم؟
الجواب
التوأم إذا كانا ذكرين فتذبح أربع شياه، وإذا كن سبع بنات فتذبح سبع غنم.(272/28)
سبب تسمية العقيقة بهذا الاسم
السؤال
ما هو سبب تسمية العقيقة بهذا الاسم؟
الجواب
العقيقة تسمى بهذا الاسم لأنه اصطلح على هذا الاسم، والرسول صلى الله عليه وسلم كره الاسم لكنه سماها عقيقة، وهذا سؤال وجيه، ولكن كل من كتب فيها كصاحب المغني والمجموع ونيل الأوطار وسبل السلام والمحدثون والفقهاء، كلهم يقولون: عقيقة، فنحن نقول مثلما قالوا.(272/29)
حكم الختان
السؤال
ما حكم الختان؟
الجواب
الختان له أحكام، وهو باب من أبواب خصال الفطرة كالاستحداد، وتقليم الأظافر، وقد أسلفنا في كتاب الطهارة ذكر خصال الفطرة، وهو درس كامل في شريط.(272/30)
حكم عق الإنسان عن نفسه
السؤال
هل يجوز أن يعق الإنسان عن نفسه إذا كبر؟
الجواب
من كبر وأراد أن يعق، فقد أفتى كثير من علماء الأمة بأنه يعق عن نفسه، إذا علم أنه لم يعق عنه.(272/31)
وقت الذبح
السؤال
متى يذبح إذا كان المولود في المستشفى؟
الجواب
إذا كان له مولود وأدخل في المستشفى فيذبح في اليوم السابع، أو يؤخره لليوم الرابع عشر، أو الواحد والعشرين، أما إذا كان قبل اليوم السابع فلا؛ لأنه قد يموت قبل السابع ولكن يتريث به إذا أدخل مستشفى حتى يخرج، ولأن وجوده في البيت أنسب.(272/32)
كيفية تسمية المولود
السؤال
كيف تكون التسمية؟
الجواب
التسمية أن يختار ويشاور أهله في الاسم، حتى لا يأتي شقاق في البيت، فيقول: ما رأيكم في هذا الاسم؟ ويختار اسماً طيباً.(272/33)
حكم تسمية العقيقة بالحفاد
السؤال
هل تسمى العقيقة بالحفاد؟
الجواب
هذا اسم عامي من الشعر النبطي، والاسم الموجود في الكتب هو العقيقة.(272/34)
حكم الذبح قبل السابع
السؤال
هل يعق عن الولد قبل السابع؟
الجواب
قبل السابع لا يعق عنه، تكفيك حرقة المصاب!! وقد سئل أحدهم عن هذه المسألة فقال: قد يموت وتمحق الغنم.
وذكر ابن الجوزي -ولا بأس بذكرها في هذا المكان- أن أحد الحمقى كان له حمار فمرض حماره، فنذر لله إن شفى الله حماره أن يصوم سبعة أيام.
فشفى الله الحمار فصام سبعاً، ولما انتهت السبعة مات الحمار، فحلف بالله أن يحتسبها من رمضان، فلما أتى رمضان صام ثلاثة وعشرين يوماً وحذف سبعة أيام.(272/35)
حكم التسمية على الرؤيا
السؤال
إذا رأيت في المنام أني أُسمي ولدي اسماً فهل أسميه به؟
الجواب
الرؤيا هذه من حديث عجائز النساء فلا تصلح، ولا يقوم عليها أحكام، وإذا رأيت أنك تسمي ولدك في المنام ريجن أو شامير -أعوذ بالله- فهذا من الشيطان، وإذا رأيت عبد الله وعبد الرحمن، فهو مطلوب لكن لا تتقيد ولا تبن على المنامات شيئاً.(272/36)
حكم تكرار العقيقة
السؤال
ما الحكم إذا تكررت العقيقة من غير الأب؟
الجواب
زيادة خير، لكن بشرط ألا يدري هذا عن هذا، فإنه يكفي أن يذبح أحدهم، ولا يتكرر مرتين.(272/37)
حكم التحنيك بعد إطعام الولد شيئاً
السؤال
هل يجوز التحنيك وقد أكل الولد شيئاً؟
الجواب
نعم يجوز إذا أدخل في جوفه شيء فلك أن تحنكه بعد، ولا يشترط أن يكون أول شيء هو التحنيك.(272/38)
حكم الذبح في غير بلد المولود
السؤال
هل يعق عن المولود في غير بلده الذي ولد فيه؟
الجواب
من لم يستطع في بلده الذي ولد فيه المولود، وكان أهله أو قرابته موسرين فيعقون عنه هناك.(272/39)
حكم تقسيم العقيقة أثلاثاً
السؤال
هل تقسم العقيقة أثلاثاً؟
الجواب
لا.
لا تقسم أثلاثاً، ولم يرد فيها نص، إنما تقسم قطعاً وجداولاً؛ ليستفيد منها أكبر عدد ممكن من الناس.(272/40)
حكم استعمال المر بدل الزعفران
السؤال
هل يجوز وضع المر مكان الزعفران؟
الجواب
لا بأس بالمر، فهو يلحق بالنباتات والخلوق التي ذكرها عليه الصلاة والسلام.(272/41)
حكم الذبح إذا ماتت الأم
السؤال
إذا ماتت الأم فهل يُعق عن الابن؟
الجواب
إذا ماتت الأم فتعق عن الابن لأن العقيقة للابن وليست للأم.(272/42)
حكم الاشتراك في البدنة
السؤال
هل يجوز أن يشارك في البدنة؟
الجواب
لا يشترك مع جاره أو مع أحد من الناس، وبعضهم يأتي له سبعة من الأطفال فيشتركون في بدنة، فلابد أن تكون كاملة كما نص الإمام أحمد على ذلك.(272/43)
إجزاء البدنة عن اثنين
السؤال
هل تكفي البدنة للاثنين؟
الجواب
الأحسن أن يكون لكل واحد بدنة، لكن فيها تكليف على الناس، ولم يرد فيها نص، لكن لو ذبح بدنة كفت الاثنين إن شاء الله.(272/44)
حكم حلق شعر الغلام
السؤال
ما حكم حلق شعر الغلام؟
الجواب
السنة حلقه، فمن فعل فهو مأجور مشكور، ومن لم يفعل فلا شيء عليه، وقد خالف السنة.(272/45)
شفاعة الغلام لأبيه
السؤال
هل الشفاعة معلقة بالعقيقة؟
الجواب
يشفع لوالديه -إن شاء الله- ولو بدون عقيقة، وما ذكره الإمام أحمد ليس عليه دليل.(272/46)
حكم العقيقة إذا مات الغلام بعد السابع
السؤال
إذا مات بعد السابع فهل يعق عنه؟
الجواب
يعق؛ لأنه مكث إلى السابع.(272/47)
حكم القرعة في الاسم
السؤال
هل يجوز فعل القرعة عند الاختلاف في الاسم؟
الجواب
لا بأس بذلك؛ فإذا اختلف أهل البيت وأرادوا أن يفعلوا قرعة فلهم ذلك.
وقد ذكر الله تعالى المساهمة فقال: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] وفي الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: {لو يعلم الناس ما في الأذان والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا} فلا بأس بالاستهام؛ أن تكتب أسماء ويُقرع بينها.(272/48)
حكم حلق بعض الرأس
السؤال
هل يجوز حلق بعض الرأس؟
الجواب
يحلق الرأس كله ولا يترك بعضه؛ لأن هذا قزع منهي عنه.(272/49)
حكم قراءة القرآن في أذن المولود
السؤال
ما حكم قراءة القرآن في أذن المولود؟
الجواب
قراءة القرآن في الأذن لم يأت بها نص، ونحن نتعبد بالنصوص، قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يقرأ، لكن يدعو وينفث عليه، ويقرأ المعوذات ويسمي ويبرك، أما أن يقرأ في أذنه القرآن فليس هناك نص.(272/50)
حكم حلق رأس المولود بغير رضا أمه
السؤال
إذا لم ترضَ الأم بحلق الرأس فهل يُحلق؟
الجواب
لهم ذلك ما دام أن الأم ما ترى هذا، لأنهم إن فعلوا فهم مأجورون ومشكورون، وإن لم يفعلوا فقد تركوا السنة وليس عليهم إثم، وهو خلاف الأولى، فإذا فعلوا فيتصدقوا بوزنه فضة.(272/51)
وقت الحلق
السؤال
متى يُحلق الشعر؟
الجواب
يحلق الشعر في اليوم السابع.(272/52)
وقت التحنيك
السؤال
متى يكون التحنيك؟
الجواب
التحنيك يكون في يوم ولادة المولود، قبل أن يأكل أو يشرب شيئاً.(272/53)
الحكمة من العقيقة
السؤال
ما الحكمة من العقيقة؟
الجواب
أولاً: الاستبشار بولود هذا المولود، وتصدقاً عنه، وعسى الله أن يزحزح عنه السوء؛ لأن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وكلما تُصُدِّق عن العبد أو دُفع عنه؛ دفع الله عنه الضراء والبأساء، والذي يقيك من مصارع السوء هي الأعمال الصالحة قال الله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] وخديجة رضي الله عنها تقول للرسول عليه الصلاة والسلام لما خاف: {كلا والله لا يخزيك الله أبداً -لماذا؟ - فإنك تقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتصل الرحم} فانظر كيف استدلت بالأفعال الجميلة.
فإن المحسن، وقائم الليل، والكريم، ومقري الضيفان، والودود بالجيران، والبار بوالديه، وواصل الرحم لا يخزيه الله أبداً، حتى موته يأتي موتاً طبيعياً حبيباً.(272/54)
حكم المولود الذي لم يتبين حاله
السؤال
إذا لم يتبين المولود أنه ذكر أو أنثى، فما الحكم؟
الجواب
يبقى حتى تقوم البينة، ويشهد عدلان من المسلمين أنه ذكر أو أنثى.(272/55)
حكم المولود الذي ليس له شعر
السؤال
إذا كان المولود ليس له شعر فهل يمر الموس على رأسه؟
الجواب
إذا ولد وليس له شعر -فالله المستعان- لا يمر الموس على رأسه، فإن هذا تمويه وحلم!(272/56)
حكم أكل الأهل من العقيقة
السؤال
هل يجوز للأهل أن يأكلوا من العقيقة؟
الجواب
نعم.
بل لهم العقيقة، يطبخونها ويأكلون ما شاءوا، وإذا أرادوا دعوا الجيران، وإن لم يستطيعوا فالله المستعان.(272/57)
حكم التسمي بهدى وإيمان
السؤال
هل يكره اسم هدى وإيمان؟
الجواب
من كره اسم هدى وإيمان فليس له دليل، بل هو طيب -إن شاء الله- وفيه تفاؤل؛ فلا يكره إلا بدليل.(272/58)
الحكمة من حلق الشعر
السؤال
ما الحكمة من حلق شعر المولود؟
الجواب
لحكمة أرادها الله عزوجل.
ونحن أننا نصلي الظهر أربعاً والمغرب ثلاثاً والفجر ركعتين، وما ندري ما الحكمة لكن سبحان الخالق!(272/59)
ذبح الأنثى أو الذكر من الشياه
السؤال
هل تكون الشاة ذكراً؟
الجواب
الشاة قد تطلق مجازاً على الذكر، لكن نص أهل العلم على أنها تكون ذكراً، وهذا قيد أغلبي، فغالباً تسمى شاة، مثل أن يقال: العمرين، أي: أبو بكر وعمر، والقمرين: الشمس والقمر.(272/60)
الأسماء المنهي عنها
السؤال
هل الأسماء المنهية هي الواردة في الحديث فقط؟
الجواب
لا أدري، لكن الحديث نص على هذه الأسماء، فإذا زدنا على هذه الأسماء مثل: سعيد وغيره، فسوف تصبح عندنا مشكلة، لكن الأسماء مقيدة.
لكن أقول: الوارد عنه صلى الله عليه وسلم أنها أربعة أسماء، أما غيرها فلا.
وغالب الأسماء الآن في المجتمع طيبة، وليس كل اسم طيب، فالمنهي عنه اسم يسار، لأن يسار اسم جنس عام في يسر الناس، وأفلح فلاح، ونجيح ورباح، أما غيرها فلا بأس.(272/61)
حكم التسمي بضيف الله
السؤال
ما حكم التسمي بضيف الله وما شابهها؟
الجواب
ضيف الله وجار الله وزبن الله وغيره هذه أسماء ما عرفنا معانيها، فأنا لا أفتي في شيء لا أعرفه حتى نتبين منه، وأما ضيف الله فلا بأس به؛ تفاؤلاً أنه من ضيوف الله عزوجل، وجار الله كذلك، وقد سمي كثير من السلف جار الله، والعائذ بالله عزوجل فهذا لا بأس به.(272/62)
حكم حديث: (احترسوا من الناس بسوء الظن)
السؤال
ما صحة هذا الحديث: {احترسوا من الناس بسوء الظن}؟
الجواب
لا يصح هذا الحديث مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما روي موقوفاً من كلام عمر بن الخطاب.(272/63)
حكم حديث: (يا بن آدم جعلت لك قراراً)
السؤال
حديث قدسي: {يا بن آدم، جعلت لك قراراً في بطن أمك، وغشيت وجهك بغشاء لئلا تنفل من رائحة رحم أمك، وجعلت وجهك إلى ظهر أمك لئلا تؤذيك رائحة الطعام، وجعلت لك متكئاً عن يمينك ومتكئاً عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فالكبد وأما الذي عن شمالك فالطحال، وعلمتك القيام} ما حال هذا الحديث؟
الجواب
هذا حديث لا يصح عنه صلى الله عليه وسلم، فكلامه ركيك، ولم يرفع إليه صلى الله عليه وسلم، ولم يصح بسند صحيح.
وكلامه صلى الله عليه وسلم أغلى من الدر، وعليه نور، والكلام الموضوع عليه ظلمة، وكلامه صلى الله عليه وسلم: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] فلا يصح هذا الحديث، وما يعلقون على المساجد إلا الموضوعة أما الصحيحة فلا يعلقونها، وبعض الناس يحفظ الأحاديث الموضوعة ولا يحفظ الصحيحة.
وقد سئل بعض الناس: ماذا تحفظ من الأحاديث؟ فقال: أحفظ حديث: {تأخر الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: ماذا أخرك يا رسول الله؟ قال: أصنع لكل حق طبق}.
حتى اللفظ ركيك، ما يصح.
ولماذا لا يحفظ حديثاً من البخاري؟!(272/64)
حكم القرعة
السؤال
هل القرعة سنة؟
الجواب
القرعة ليست بسنة، إنما من باب الجواز فحسب، أما أنه ورد أنها سنة فلم يرد.(272/65)
حكم من لم يعق عن ولده
السؤال
هل يأثم من لم يعق عن ولده؟
الجواب
ليس عليه شيء أبداً، ولا يخرج من دائرة أهل السنة والجماعة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(272/66)
المخرج من الفتنة
هذه المادة ترتكز على الإجابة على سؤالين:
السؤال الأول: ما هي أسباب الفتن؟
السؤال الثاني: ما المخرج من الفتن؟
وكان السائل والمجيب هو الشيخ، فأسباب الفتن خمسة عشر سبباً، وأسباب الخروج من الفتن أربعة عشر سبباً كل هذا ذكر في هذه المادة بشيء من التفصيل.(273/1)
الابتلاء بالفتن سنة الله
الحمد لله، الحمد لله ولي الصالحين، رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسول رب العالمين، وحجة الله على الناس أجمعين، وخاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أشكركم شكراً جزيلاً على هذا الاجتماع، وأشكر إمام هذا المسجد الشيخ: يحيى بن موسى حامل القرآن على تفضله بهذا التقديم، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في دار الكرامة.
عنوان هذا اللقاء " المخرج من الفتنة " وهي الثامنة بعد الثلاثمائة، وأسأل الله عز وجل أن يخرجنا وإياكم من الفتن سالمين، وأن يردنا بالإيمان غانمين، وإذا أراد بقومٍ فتنة أن يقبضنا إليه مؤمنين مسلمين ثابتين على الحق.
أنذرنا سُبحَانَهُ وَتَعَالى الفتن، وأخبرنا أنها أنواع، وبيَّن سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن من سننه أنه يبتلي بالفتن {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35].
وأخبرنا سُبحَانَهُ وَتَعَالى أنه لا بد من الفتن للمؤمنين ليمحصهم ويقبلهم فيمن قَبِلَ تبارك وتعالى.
وللفتن أسباب ونحن نعيش فتناً، لأننا متأخرون عن الرسالة الخالدة، وعن صاحبها صلى الله عليه وسلم، ليس بيننا رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، كان نوراً يمشي في الأرض، نوراً يمشي بين أصحابه، كان يكلمهم ويكلمونه، ويحدثهم ويحدثونه، وهذا أمر افتقدناه نحن.
إذاً: من الفتن التي نعيشها: عدم وجود القدوة الذي فاتنا منذ زمن إلا من رحم ربك، والقدوة هو محمد عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثاني: كثرة منافذ الشر علينا، فنحن اليوم أصبحنا كقرية بين هذا العالم المترامي الأطراف، قرية ليس إلا، من كثرة ما يعج ويضج به العالم من الفتن والمغريات، والغزو والأحدوثات والأطروحات، أصبحنا في فتنة لا يعلمها إلا الله عز وجل.
والسؤالان المطروحان هما:
س1) ما هي أسباب الفتن؟
س2) ما المخرج من الفتن؟
وهذا اللقاء يدور على هذين السؤالين، أسأل الله أن يسدد في الإجابة عليهما إنه ولي التوفيق والقادر عليه.(273/2)
أولاً: أسباب الفتن
.(273/3)
الإعراض عن آيات الله
السبب الأول: الإعراض عن آيات الله عز وجل.
أكبر فتنة أن يعرض الإنسان عن آيات الله، وعن بيته، وعن رسوله، وعن منهجه، فإذا أصيب بالإعراض رماه الله عز وجل بالخزي والعذاب في الآخرة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] وأهل العلم يقولون: من أراد الهداية وجدها، ويقول ابن القيم: من أصلح في شبابه تغمده الله في شيخوخته بالرضوان، ويقول المثل الصيني: الخط الذي طوله ألف ميل يبدأ بخطوة، أي: تمشي أنت فيه بخطوة.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] والله عز وجل يقول: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] كيف يهتدي من لا يأتي إلى المسجد؟!
كيف يهتدي من يسمع آيات الله ويعرض عنها؟!
إذاً: أخبر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن من أسباب الفتن ومن أعظمها: الإعراض عن منهجه وعن آياته، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في قرية آمنة مطمئنة: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ:15 - 16] ونحن أشبه ما نكون بتلك القرية، نحن في نعيم لا يقدره إلا من كتبه وأنزله، نحن في رخاء وفي أمن وأمان، فكيف نحفظ هذا الأمن والرخاء؟ نحفظه في طاعة الله، بشكر الله وبعدم الإعراض عن منهجه، يأتيك أحياناً معرض أصابه قلق ويأسٌ ويشكو إليك يأسه وقلقه، فتقول: هل تصلي الفجر في جماعة؟ يقول: لا.
فتقول له: قرأت القرآن؟ يقول: لا.
فتقول: هل لك اطلاع على السنة؟ فيقول: لا.
فكيف يهتدي؟! أليس هو المعرض؟!(273/4)
نقض العهد
السبب الثاني: نقض العهد مع الله.
كيف؟ الأمة التي عاهدت الله أن تنصر دينه، ثم نقضت عهدها بأن تولت إلى حطام الدنيا وإلى الشهوات والمغريات والنزوات، ولم تشكر الله، ولم تقم بميثاقه، هذا نقض.
من نقض ميثاق الله: استبدال شريعة الله بشريعة أخرى.
من نقض ميثاق الله: موالاة أعداء الله.
من نقض ميثاق الله: الركون إلى أهل المعصية وتقديمهم على أهل الطاعة، قال سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13].
يقول الحسن البصري: [[يا من دائماً ينقض الميثاق مع ربه: أما تخشى أن يقول لك في يوم من الأيام: هذا فراق بيني وبينك]].
موسى رافق الخضر عليهما السلام، فاعترض عليه ثلاث مرات، قال له أولاً لما خرق السفينة: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف:71 - 73] فعذره، ثم مشى معه، فلما قتل النفس، قال: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [الكهف:74 - 76].
لأنه قال له هنا: ألم أقل لك؟ وقبل قال: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ} [الكهف:72] فزاد الجار والمجرور تأكيداً له وتبييناً -لام العهد- أما قلت لك قبل قليل ونسيت {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف:73] قال بعدها: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [الكهف:76] فلما بنى الجدار الذي يريد أن ينقض، اعترض عليه؛ فقال: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78].
وقف عليه الصلاة والسلام عند هذه، وكان يتابع القصة بشغف وبعاطفة، ويتابعها بحياة، قال: {رحم الله موسى استعجل ليته صبر حتى يقص علينا من خبرهما}.
كان عليه الصلاة والسلام مشتاقاً وشغوفاً ومتولهاً لأن يسمع كثيراً من القصة، لكن موسى عليه السلام استعجل ولم يصبر، قال صلى الله عليه وسلم: {ليته صبر حتى يقص علينا من خبرهما}.
الشاهد: قال الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78] فيقول الحسن: [[الخضر لم يتحمل ثلاث مرات، فأنت يا من ينقض عهده مع الله في كل يوم مرات أما تأمن من الله أن يقول: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78]]] وهذا للناقضين عهد الله.
يقول الله عن بني إسرائيل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة:13].
هنا عقوبات، ولكن كيف نقضوا؟ قال أهل العلم:
أولاً: أول نقض مخالفة نبيهم موسى عليه السلام.
ثانياً: عاهدوا الله في ترك الربا، ثم أكلوا الربا جهاراً نهاراً.
ثالثاً: فشا فيهم الزنا، وما أنكر منهم منكر.
رابعاً: توعدهم الله في عدم الصيد يوم السبت، فصادوا يوم السبت وأخذوا السمك يوم الأحد، وقالوا: لا صيد.
خامساً: حرم الله عليهم شحم الميتة، فجملوه وباعوه وأكلوا ثمنه.
إلى غير ذلك من نقض العهود.
قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [المائدة:13] فهم ملعونون على كل لسان نبيٍ مرسلٍ، وكل ملكٍ مقربٍ، وكل وليٍ صالحٍ.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13] يقول أهل العلم: اليهود المخالفون لو تناطحت جبال الدنيا أمام أعينهم ما اتعظوا!! ولذلك تجد من يقع في المعاصي، ومن يتهتك في الحرمات، والله لو أنذرته بالكتاب والسنة ليلاً نهاراً ما ارتدع.
ويقبح بالفتى فعل التصابي وأقبح منه شيخٌ قد تفتى
إذا ما لم يزدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا
وإن ألقاك فهمك في مغاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
مشيت القهقرى وخبطت عشوا لعمرك لو وصلت لما رجعتا(273/5)
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السبب الثالث: ترك الاحتساب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
من أسباب الفتن: أن تصدف الأمة وتترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظهرياً، ويعتذر جمهور الناس بأن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هيئة مسئولة تقوم بذلك، ويقول أحدهم: نفسي نفسي، ولا دخل لي في أمر الناس، والله يقول: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
أخبر عليه الصلاة والسلام {أن الرجل من بني إسرائيل يلقى الرجل في أول النهار، فيقول: اتق الله لا تفعل هذه -يعني: المعصية- قال: ثم لا يمنعه أن يكون أكيله وشريبه من آخر النهار} وهذا كفعل بعض الناس: يرى أحدهم الآخر على المعصية والانحراف ولا يمنعه أن يكون صديقه وجليسه، وسميره وحبيبه وقريبه.
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] لماذا؟
{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[والله لا يتم أول الآية حتى يتم آخرها]] يعني: لا نكون خير أمة حتى نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله.
يقول عليه الصلاة والسلام لـ أبي ثعلبة الخشني: {مر بالمعروف، وانه عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرةً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك خاصة نفسك ودع أمر العوام}.
والمقصود من هذا: أن على المسلم أن يأمر بالمعروف بجهده وطاقته، لكن بالحكمة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] لماذا يموت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!
لماذا يُرى أهل المعاصي على الأرصفة وفي السكك والشوارع؟!
المساجد تشكو إلى الله عز وجل من كثرة قطيعة المصلين، الحي الواحد يكتظ فيه مئات السكان ولا يصلي فيه إلا الأفراد، خاصةً في صلاة الفجر.
بعض البيوت فيها ثمانية أو أكثر أو أقل، ولا يصلي إلا الواحد والاثنان، أليس هذا منكراً؟
أما يعلم الجار بجاره أنه لم يصل في المسجد؟!
أما يعلم الجار أن جاره أكل الربا، واستمع الغناء، وخالف منهج الله؟!
فما أمره ولا نهاه.
من أعظم الفتن التي نعيشها نحن الآن: موت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان أجدادنا -كما تعلمون- على قلة علمهم، وقلة الوسائل التي توعيهم، يأمرون وينهون، ولكن أتينا في فترةٍ لا أمر ولا نهي فيها، وانحصر الأمر والنهي حتى فشت المعصية.
قبل سنوات، ما يقارب العشرين سنة فيما أخبرنا به، أو أكثر كان شارب الدخان إذا مر بإحدى المدن يوصم بوصمة من الناس ويوقف ويحاسب على فعله هذا، لأنه خالف منهج الله، والآن أصبح أمراً سهلاً عادياً يتناوله الناس في المجالس والسيارات وفي المكاتب وفي بعض الفصول، وأصبح من ينهى عن الدخان كأنه معتوه.
كان قديماً حلق اللحية يعتبر كأنه من الكبائر، لكن استَمرت الأمة على هذا وأصبحت ذنوب الأمة أعظم من حلق اللحية، الربا والزنا، موالاة أعداء الله عز وجل والتشبه بأعداء الله، الإعراض عن منهج الله، ترك الصلوات كل هذا أصبحت بجانبه هذه الأمور من الصغار، حتى إن الدعاة الذين يتكلمون -مثلاً- في تطويل الثياب، وفي حلق اللحى يقال لهم: لا يعرفون إلا هذه المسائل، ويقال لهم: ليس عندهم فقهٌ ولا بصيرةٌ؛ بسبب موت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد وصف عليه الصلاة والسلام أن الأمة يوم لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر كمثل من ركب سفينة، وقام بعضهم بخرق السفينة، فإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن نهوهم، نجوا ونجوا جميعاً.(273/6)
الغفلة من أسباب الفتن
السبب الرابع: الغفلة عن آياته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أي: عدم تدبر آياته في الكون، والآيات قسمان:
كونية وهي: آيات الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الكون.
وشرعية وهي: آيات القرآن.
يقع زلزال في الكون أو بركان أو ريح شديدة أو مرض في الناس ويؤلونه إلى الطبيعة.
تقضون والفلك المقدر ساخرٌ وتقدرون فتضحك الأقدار
دمرت بعض المدن مما انتشر فيها من الفساد بزلزال وهلكوا في ثوانٍ، ولما نظروا إلى الرأي العام قالوا -حتى بعض المسلمين-: انكسار في القشرة الأرضية، فمن كسرها؟
ومن قدرها؟
ومن أرسلها؟
ومن أنشأها؟
ومن بدأها؟ {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].
هذه الآيات من آياته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى جعلها ردعاً للناس، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] إنه السبب، وتأتي الغفلة عن آيات الله في الكون يوم يصدق هؤلاء الملاحدة الذين بنوا قواعدهم على هذا الأمر حتى فصلوا -مثلاً- مادة الجغرافيا عن الإيمان، وفصلوا التربية عن الإيمان، وفصلوا علم النفس عن الإيمان، وجعلوا كل ما يحدث للعبد من الطبيعة وفعل الحوادث والأيام، ونسوا الله عز وجل عن ذلك.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] والغفلة مرض نسأل الله أن يعافينا وإياكم منه وهو من أعظم علامات النفاق، فإن المنافق قد يسمع الحديث والموعظة والآية، لكن لا يستفيد، ولا يفهم، ولا يعقل.
كان بعض المنافقين يصلي مع الرسول عليه الصلاة والسلام ومات على الكفر، كان عبد الله بن أبي يصلي في الصف الأول يوم الجمعة، لكن ختم الله على قلبه ومات كافراً، ولم تنفع فيه شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، إنه غفل عن طريق الهداية، وأصبح غير مستعد لأن يفهم الإسلام والإيمان وهو فعل بعض الناس، فكيف يهتدي من لا يستعد للفهم، ولا يستعد للتوجه؟!
إن بعض الناس بصير بأمور الدنيا وعلومها وحضارتها، لكن لا يعرف في الدين شيئاً.
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين: - {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} والذي لا يريد الله به خيراً لا يفقهه في دينه، ولا يهديه كتابه، ولا يعلمه سنة رسوله عليه الصلاة والسلام.(273/7)
الترف والبذخ من أسباب الفتن
السبب الخامس: الترف والبذخ المنسي، فالأمة اليوم تعيش بذخاً وترفاً، الترف المتجاوز للحدود، ترف مالي وفكري ومادي، وترف حتى في الفراغ، فنحن نعيش حياة الترف، ومن يقارن بين حالتنا هذه وبين حالة آبائنا وأجدادنا يجد البون الشاسع، الترف في المساكن، والترف في المطاعم والمشارب، حتى أصبحت من مقاصد الأمة، وأصبح كثير من الناس يعمل لهذا الترف، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16].
أين الذين يملكون الملايين المملينة؟
هل صحيح أن جميعهم اتبع منهج الله في أمواله؟
هل صحيح أن كثيراً منهم اتقى الله في هذا المال الذي يكسبه؟
هل صحيح أن كثيراً منهم أرشد الإنفاق في الأموال هذه وأنفقها في سبيل الله؟
والله لو فعلوا ذلك لم يبق فقير ولا مسكين ولا أرملة، لكن انظر إلى الفقر، تجد هنا أناساً يعيشون الثراء، الثراء إلى النجوم، وأناس يعيشون الجوع، الجوع إلى التراب، ومن يدخل قرى مثل: قرى تهامة -وقد رأيتها بعيني- يجد هذا، يجد بعضهم لا يجد السكر الذي أصبح الآن من الكماليات، وبعض البيوت لا يغادره اللحم في الوجبات جميعاً، ولا يمكن أن ينفصل بيت بعضهم من اللحم، ولكن وجدنا في بعض القرى التي دخلناها أنا وثلة أكثر من ستين داعية وطالب علم من بعض المؤسسات التعليمية، وجدنا بعضهم لا يرى هذا السكر الذي معنا ونعتبره نحن سهلاً ميسراً.
فأين الملايين؟
وأين البذخ؟
وأين الترف؟
تجد هذا الترف والبذخ الذي انحرف عن منهج الله أصبح شيكات سياحية إلى بانكوك وباريس ليُعصى الله عز وجل، أصبح رباً، سيارات من الربا، وفللاً من الربا، وبيوتاً من الربا، وملابس من الربا، أصبح هذا محاربة لله عز وجل في مثل ماذا؟ في مثل بيوت للغناء الماجن، وبيوت للفيديوهات المنحرفة، أصبح هذا المال يوم ما أرشد بتقوى الله عز وجل والخوف منه مالاً يتبع سنة قارون، وإلا فالمال والغنى إذا أرشد ووجه كان خيراً.
دخل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه الجنة بماله، لأنه أنفقه في سبيل الله، وكان ابن عوف يملك الألوف المؤلفة، لكن أرضى ربه بماله، وأنقذ الأكباد الظامئة والبطون الجائعة.
الترف هذا إن لم يوجه كان انتكاساً للشخصية، وكثير من الشباب بالاستقراء من أحوالهم وجد أن سبب إعراضهم عن طاعة الله عز وجل هو الترف، حتى ترك بعضهم مزاولة الأعمال الدنيوية مثل: العمل، والوظيفة بسبب أنه مترف.
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
فتصور شاباً ليس عنده إيمان، ولا يعرف المسجد ولا المصحف، ولا يتقي ربه، وعنده مال في جيبه، وعنده سيارة فاخرة، وعنده أموال مكدسة، وفلة بهية، كيف يكون ضائعاً!!
حتى أننا عجزنا أن نقدم من أمتنا ومن بلادنا عمالاً لنا، وأصبح العمل عند بعض الناس عاراً، الدخول إلى المنجرة، إلى الخشابة، إلى تقديم الخدمات للناس أصبح كأنه عار عند بعض الناس من البذخ والترف، وإلا فزكريا عليه السلام كان نجاراً، وداود عليه السلام كان حداداً، وما من نبي إلا رعى الغنم، ولكن هكذا يضيع الترف الجيل، ويجعلهم متهرولين كسولين خاملين في الدنيا والآخرة.
فمن أسباب الفتنة بل من أعظمها: الترف إذا لم يوجه لطاعة الله عز وجل ولرضوانه.(273/8)
عدم أخذ العبر
السبب السادس: عدم أخذ العبر من المثلات؛ فنحن نعيش ونحن شباب الآن، لكن نجد المثلات والعبر في من حولنا، في الشعوب، انظر الآن إلى الخارطة! وانظر إلى الشعوب حتى في الشرق الأوسط والأدنى! كم من المثلات، وكم من الحروب والنزلات؟
كم من الغارات! وكم من المشاكل! أمة بينما هي نائمة سليمة وفي الصباح تُجتاح بجيش جرار، دولة من الدول ينقسم أفرادها وطوائفها إلى جيوش مجيشة تُرمى منازلها وتنسف وتحرق، ويقتل أطفالها، غارات، ريح شديدة يسلطها الله عز وجل فتقتلع المدن، أليست هذه مثلات؟ {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27] ويقول سبحانه: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم:45] ومن يعرف تاريخ الأمم والشعوب، يعرف كيف نكبهم الله نكبات، وأنزل بهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مثلات، لأنهم غيروا منهجه، وما استفادوا من آياته البينات، لكن المشكلة في من لم يعتبر، وكثير من الناس الآن يعيش في الفتنة ولا يعتبر، وليس مستعداً لأن يعود إلى الله، ولا أن يغير ولو قلامة الظفر من حياته، هكذا رسخ على مبدئه الضال المنحرف.(273/9)
لبس الحق بالباطل
السبب السابع: تلبس الحق بالباطل {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9] بعض الناس يعيش في غبش، مرة يصلي ومرة يترك الصلاة، مرة مع أولياء الله ومرة مع أعداء الله، مرة يتلو كتاب الله باكياً خاشعاً ومرة يستمع الأغنية الماجنة معربداً، مرة بالسواك مع أولياء الله ومرة بالسيجارة مع المنحرفين، هذا من اللبس، فليس عنده منهج، ولا طريق، وهذه يشكوها كثير من البادئين في الهداية، تجده أحياناً في المسجد في المحاضرات والدروس، واليوم الآخر مع الشلل في المقاهي في الفراغ والضياع، مع البلوت والكيرم، مع الأغنية الماجنة والمجلة الساقطة، ما سبب هذا؟
إن سببه عدم اهتدائه وسلوكه وعدم جديته في الاهتداء، فإنه لو صدق مع الله؛ صدق الله معه {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] ويُتحدى أن يوجد هناك مهتد يريد الله ويخيبه الله أبداً، ولكن الزيغ يأتي من القلوب {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].
هذا اللبس يعيشه كثير من الناس، حتى تجد أحياناً الكثير منهم، ولو كان أحدهم مستقيماً، لكنه ينال من الصالحين، وربما يستهزئ ببعض السنن، لأن في عقله لبساً، وفي قلبه مرضاً والناس ثلاثة أصناف:
1/ كافر، ومعه المنافق.
2/ مؤمن سديد.
3/ والوسط رجل في قلبه مرض.
يعني: لم يشفَ قلبه، ليس عنده تصور سليم للهداية، وأنت تحتار فيه، وهذا ملبس فيه، وهو في فتنة الله أعلم بها! لا يُدرى هل هو إلى اليمين أم إلى اليسار.(273/10)
العجب بحضارة الكافر
السبب الثامن: العجب بحضارة الكافر: نحن الآن في هذا القرن لم نقدم للبشرية شيئاً، لا قدمنا الإيمان للناس، ولا قدمنا لهم من التكنولوجيا شيئاً.
أما الإيمان فانحسرنا نحن في أنفسنا، وعجزنا أن نستقيم على منهج الله، فكيف نقدم الإيمان للناس، أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام قدموا دين الله للناس ولم يكونوا يملكون وسائل، من الذي نشر الإسلام في أسبانيا؟
ومن الذي أوصل الإسلام إلى الهند؟
ومن الذي بلَّغ دين الله عز وجل إلى السند؟
من الذي أدخل لا إله إلا الله إلى كابل؟
ومن الذي نشر التوحيد في أفريقيا؟
إنهم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، لم يكونوا يملكون طائرات، ولا سيارات، ولا هواتف، ولا أجهزة اتصال، ولا تسهيلات، ومع ذلك بلغوا دين الله عز وجل، ونحن نملك القدرات، ولكن عجزنا في أنفسنا أن نستقيم على منهج الله فضلاً على أن ندعو الأمم لمنهج الله، الأمم ينادوننا صباح مساء أن نعرض عليهم بضاعتنا من الإيمان، لكننا لم نفعل، وأما في عالم المادة فلم نقدم شيئاً، كل شيء عندنا مستورد حتى الطباشير ومساحة السبورة والفوانيس!!
نحن نعرف نأكل ونشرب ونرقد، ونغني ونرقص، أما أن نقدم للبشرية شيئاً فلا، فماذا قدمنا للبشرية؟
هم قدموا في عالم المادة وينتظرون منا عالم الروح، ولكن لم نفعل شيئاً، يقول الله عز وجل: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] ويقول سبحانه: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] فالعجب بحضارة الكافر هو من أسباب الفتن، حتى وجد من هزيمتنا الروحية أننا نرى الخواجة فنعده كأنه ملك نزل من السماء إلا من رحم ربك.
الآن الاحترام المتبادل لأعداء الله كأنك إذا رأيته رأيت الحضارة والسمو والثقافة، وقد ركبت مع أحد الناس من أبناء هذه البلاد، وكان قد سافر إلى الخارج، وفي قلبه مرض وعقدة نفسية من البلاد، ويقول: إننا لا نزال متخلفين رجعيين، أنا رأيت الخارج ورأيت الحضارة، لكن نحن مظاهرنا غير حضارية، مثل ماذا عنده؟
مثل: لِبْسَتنَا هذه، يرى الزي هذا أنه مظهر غير حضاري، يرى أن نخلع هذه الغترة والطاقية ونمشي هكذا في الأسواق، لأنه يقول: العالم كله توحد على هذا الأمر وهو من المظاهر الحضارية، وهو في قلبه مرض، أن يجلس الرجل بجانب المرأة، يقول: أيأكلها إن جلس بجانبها! وأين الشريعة؟
لكنه نسي أنهم لما أتوا بالمظاهر الحضارية التي يزعم وقد رأيناهم نسوا منهج الله، أصبح الزنا عندهم بشكل رهيب، تعدٍ على حدود الله، أكل للربا، اختلاط للأنساب، الانفصام بالعلاقات الاجتماعية، والله إنك ترى السيارات بالمئات، ولا ترى ثلاثة في سيارة، وسألناهم ما السبب؟
قالوا: لأنه لا يوجد هناك علاقة بين الأسر، بينهم طلاق وانفصام وابتعاد، لأنهم لم يجدوا روح الإيمان.
أمن المناظر الحضارية أن تقوم المرأة في الصباح إلى الكلب وتغسله بالصابون وتجلسه بجانبها في السيارة؟!
أمن المناظر الحضارية أنك ترى الفتى يقبل الفتاة على الرصيف ولا يستنكر الناس؟!
أمن المناظر الحضارية أن تمر بعشرات الناس في الحدائق العامة يبولون وقوفاً؟!
أمن المناظر الحضارية أن ترى الواحد منهم لا يتطهر ولا يتطيب ولا يستنجي ولا يستجمر ولا يأخذ خصال الفطرة؟!
أمن المناظر الحضارية أن تراه يأكل كالكلب بيساره ويجلس الكلب معه على المائدة؟!
أمن المناظر الحضارية أن يمر عليه الشهران والثلاثة لا يغتسل من الجنابة؟!
لكن هذا الذي يعجب بحضارة المادة وينسى حضارة الروح، وقد سبق في بعض اللقاءات أني ذكرت قصيدة لـ محمد إقبال اسمها: " بحثت عنك يا رسول الله! في ألمانيا " محمد إقبال شاعر الهند وباكستان
هو لم يبحث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه شاعر متخيل مؤمن، ذهب يدرس الفلسفة وكان عنده دكتوراه في الفلسفة في بون، قال: بحثت عنك يا رسول الله! في ألمانيا فلم أجدك، وجدت السيارات والقاطرات والطائرات والبنات، ولكن ما وجدت الرحمة والعدل، أين أنت يا رسول الله؟
يقول: حضارة موجودة: سيارات وقاطرات وطائرات، لكن، ليس عندهم عدل، ولا رحمة، ولا حنان، ولا حب، ولا سلام انتحار وإزهاق للدماء، وزنا وربا، وبعد ذلك يعجب بهم بعض المفتونين من أبنائنا ويقلدونهم ويتشبهون بهم، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من تشبه بقومٍ فهو منهم}.(273/11)
عدم إخلاص الولاء والبراء
السبب التاسع: عدم إخلاص الولاء والبراء: من هو ولينا؟ هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، هو الذي كرمنا بهذه الرسالة ورفع رءوسنا بين الناس {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] هذا نسب {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] والولاء لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
والله يخبرنا من هم أولياؤه؟
وما هي مواصفاتهم؟
وما هي شهاداتهم؟
وما هي ألوانهم؟
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] مؤمن متقٍ، ثم اسكن في خيمة، أو في قصر، أو في بيت من طين، أو في عش، لكن كن ولياً لله، كن مصلياً صائماً صادقاً متجهاً إلى الله، فأنت ولي الله والله وليك، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56] وتفاجأ أحياناً يوم تجد بعض الناس يرافق رجلاً كافراً لا يصلي ولا يصوم، لماذا ترافقه؟
قال: صديقي.
قلت: أترافقه وتحبه وتأكل معه وتنام معه وهو كافر!؟
قال: زميلي في العمل وأنا إذا انفصلت عنه جرحت مشاعره!
سبحان الله! عدو لله وأنت تتولاه! بغيض إلى الله وأنت تحبه! متهتك في حدود الله وأنت تتقرب منه! يعني: ليس عندنا ولاء ولا براء.
كان السلف الصالح إذا ترك الرجل المسجد هجروه {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} {بين المسلم والكافر ترك الصلاة}.
إلى عهد قريب كان في بعض المدن والقرى إذا ترك الرجل منهم الصلاة في المسجد حاسبوه، حتى يذكر أنه في ناحية من النواحي كان إمام المسجد يحضر الجماعة بعد صلاة الفجر، فلان حاضر، فلان حاضر، فأتى رجل فترك الفجر يوم جمعة فلم يصل معهم، فلقيه الإمام بعد الجمعة، قال: لم تصل معنا الفجر يا فلان اليوم، قال: والله أخبرني الجماعة أنكم لا تُحضِّرون يوم الجمعة، يعني: كأنه لم يحضر إلا للتحضير.
وفيها قصص طويلة، وكان فيها تعزير وتأديب، ولكن تفصمت المسألة حتى أن الإنسان يمر ببيت جاره ويراه ويصلي ويعود وهو في بيته ولا يقول: أف، بسبب موت القلوب، هذه هي الفتن.
التاسع -كما قلت- عدم إخلاص الولاء والبراء، حتى تجد الناس لا ينزلون بحسب إيمانهم، ولي الله عز وجل ولو كانت وظيفته قليلة فالواجب أن يحترم ويقدر، لكن الناس الآن ينزلون بحسب مراتبهم في الدنيا، ولو كانوا أعداء الله عز وجل يقدر لمنزلته لا لدينه، يعظم ويحترم ويصدر في المجلس بينما ولي الله عز وجل يجلسونه آخر الناس، لأنه ليس لولائه ولا لحبه ولا لقدره قدر.
دخل مجموعة من الشباب على عمر بن عبد العزيز -والقصة مكررة، لكن أعرضها الآن لمعرفة الولاء وقيمة الناس- دخل عليه مجموعة من الشباب وعمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد مجدد القرن الأول كان يحكم اثنتين وعشرين دولة إسلامية بلا إله إلا الله، كان في بيت من طين، كان عمر بن عبد العزيز ليس عنده إلا ثوب يغسله يوم الجمعة ويبقى في فراشه حتى يجف الثوب، ثم يقوم ويخطب في الناس، كان ينادي: من عنده مظلمة؟
من الذي ظلم؟
يقول أحد ولاته: والله إني بحثت في الصدقة -يعني: الزكاة- في بيوت لعلي أجد فقيراً، والله لم أجد فقيراً، لقد أغنى الناس، كان يقول: أين المقعدون؟
أين الفقراء؟
ينادى كل جمعة أين طلبة العلم؟
ومع ذلك رزقه الله رزقاً حلالاً واسعاً في ميزانية الدولة الإسلامية في عهده حتى قالوا: إن الفضة والذهب تصبر صبراً في المسجد {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ} [الأعراف:96] وهذه بركات الله عز وجل.
المقصود: دخل عليه مجموعة من الشباب، قال لأحدهم: من أنت؟ قال: أنا ابن الأمير في عهد عبد الملك بن مروان -عهد الخليفة السابق- فسكت، سواء ابن أمير أو غيره، والثاني قال: أنا ابن قائد الجيش في عهد الوليد بن عبد الملك، فسكت، قال للثالث: وأنت؟
قال: أنا ابن قتادة بن النعمان الصحابي في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام الذي ضربت عينه بالسيف فسالت عليه إلى خده، فردها عليه الصلاة والسلام بيده، ثم قال الشاب:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فبكى عمر بن عبد العزيز والتفت إلى الشاب، قال: حياك الله.
تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ شيبا بماءٍ فعادا بعد أبوالا
يقول: هذه المكارم، وهذه المواصفات والمؤهلات التي يفتخر بها الإنسان.(273/12)
استصغار الذنوب
السبب العاشر: استصغار الذنوب، إن استصغار الذنوب من علامة الفتنة والعياذ بالله! ذنوب كالجبال وتُستصغر، ولذلك تجد بعض الناس إذا حدثته عن ذنب، قال: هذا سهل وبسيط تحدثني عن هذا، وهل هذه قضيتنا؟ الأمر أسهل مما تتصور، والله غفور رحيم، وتجد أهل المعصية آمن الناس من الله، وأهل الطاعة أخوف الناس من الله.
يقول الحسن البصري عن النفاق: [[ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق]] كيف هذا؟
أي: لا يخاف من المعاصي والنفاق إلا المؤمنون، وأما الفجرة فهم يأمنون من النفاق حتى يزكي أحدهم نفسه.
الآن تارك الصلاة -مثلاً- تعال وقل له -والعياذ بالله-: فاسق، مع العلم أنه كافر، لأن من يترك الصلاة ليس فاسقاً فحسب عند أهل السنة والجماعة بل هو كافر خارج من الملة، وأفتى أهل العلم أنه لا يصلى عليه إذا مات، ولا يكفن، ولا يغسل، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وأن زوجته تخرج من عصمته ولو لم يطلقها، ولا يجوز لها أن تبقى معه ما دام يترك الصلاة.
هو كافر ومع ذلك إذا قلت له: يا فاسق، ذابحك وقاتلك، ثم إذا ذكرت له تقصيره، قال: لا.
أنا والحمد لله لست مقصراً، ونحن في بلاد إسلامية، وأنت لو خرجت إلى بلاد الكفر، رأيت العجب العجاب نحن بخير، يعني: ما بقي إلا نحن لم نخلع الثياب، وهذا استصغار الذنوب والخطايا، حتى يوجد في بعض البلدان أنه ليس لك أن تتكلم -وهو صحيح هذا- يعني -مثلاً-: إذا ذهبت إلى بعض البلدان التي لا يصلون فيها هل لك أن تتكلم في حلق اللحى، أو في تقصير الثياب؟
هذه مسائلهم أصبحت وعمت وطمت، حتى المسائل التي تتحدث عنها عن الإيمان، بعض الشعوب العربية دخلت فيها الماركسية الكفر والإلحاد والاستهزاء بدين الله، بعض الجيوش العربية كانت تأخذ المصاحف وتمزقها بالأحذية وهو كتاب الله عز وجل، وقرأت في بعض المذكرات أن أحد المجرمين الكبار الملاحدة وهو عربي يقول لأحد الدعاة: اذهبوا به إلى الزنزانة، قال هذا الداعية: يا رب إني مغلوب فانتصر، قال: ربك لو نزل حبسته معك في الزنزانة، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] هذا استصغار الذنوب ومجاهرة الله عز وجل بالخطايا.(273/13)
نكوص العلماء عن قول الحق
السبب الحادي عشر: نكوص العلماء عن قول الحق: يعني: أن يسكت العلماء، وأن يخرس الدعاة، وألاَّ يتكلم أحد، يعني: قل الحق بسلامة، قل الحق بأسلوب، قل الحق بحكمة، لا أن تسكت {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63] فهذا سكوت أهل العلم أن يخرسوا ويسكتوا وألاَّ يتكلموا وألاَّ يبينوا للناس، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160] الآن من يحفظ حديثاً، أو آية، يجب عليه أن يبلغها بالحكمة كما سمعها، يقول عليه الصلاة والسلام: {بلغوا عني ولو آية} ويقول: {نضر الله امرءاً سمع مني مقالة فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع} إن مسألة نفسي نفسي ليست في الدنيا هي في الآخرة يقولها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما في الدنيا فلا تقل نفسي نفسي، أنت والناس، أنت مسئول عن حيك، وعن جارك، وعن بيتك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] أما أن يسكت الناس بحجة أنهم لا دخل لهم بذنوب الناس، فهذا ليس بصحيح، يقول صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} والساكت عن الحق شيطان أخرس، ويوم سكت عن المعاصي استمرأها أهلها وتجرءوا عليها وأصبحوا يجاهرون بها مجاهرةً.
حدثنا بعض العلماء في الرياض: أن رجلاً كان يحمل مسجلاً جعل فيه شريط أغنية وخرج، وكان مفتي الديار الشيخ: محمد بن إبراهيم -رحمه الله- موجوداً في الرياض، فأتى هذا يجاهر في السوق بهذه الأغنية نصحه الناس فما انتصح، فأخذه رجل من الهيئة وذهب به إلى الشيخ: محمد بن إبراهيم وأقيمت الدنيا وأقعدت وأخذ مسجله وأحرقه أمام الناس وكتب فيه تشهيراً، وقرئ بعد صلاة الجمعة، وعزر تعزيراً بالغاً.
الآن أصبح هذا الفعل نضحك منه، تمر بالشارع والأغاني من كل جهة وبالمحلات وبالسيارات، وأنت لا تستطيع أن تقول اترك الأغنية، لأنه تدخل في الحريات، الآن العلمانيون يقولون: ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ويقولون: الدين مسألة شخصية لك أنت وحدك لا تتدخل في حريات الآخرين، ولا تجرح شعور الآخرين، والله يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].(273/14)
طول الأمد في المعصية
السبب الثاني عشر: طول الأمد في المعصية: بعض الناس له سنوات في المعصية، ولا يريد أن يتوب، وبعضهم عنده خطط خمسية في المعاصي تقول له: تب إلى الله، قال: إذا تزوجت إن شاء الله، فيتزوج، تقول: ما لك لم تتب؟
قال: أحج وأتوب، فمن يوم إلى يوم حتى يلقى الله وهو عاصٍِ متهتك لحدود الله {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] لا يعود ولا يتوب، ولا يدري متى يؤخذ، ولكن هكذا يستمر، وهذا موجود في الناس، فإن بعضهم يخطط للتوبة ويسوف فيها حتى يلقى الله وهو نادم خاسر والعياذ بالله!
طول الأمد يجعل على القلب راناً عليه من كثرة الذنوب والخطايا، ولذلك الشاب الذي في العشرين الهداية أسهل له من الشيخ العاصي الذي في الستين.
الرسول عليه الصلاة والسلام استجاب له الشباب؛ لأنهم كانوا قريبين من الحق، لكن الكبار كـ أبي جهل والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف الذين ران عليهم الكفر والجاهلية، واشتعل في قلوبهم النفاق والإلحاد، رفضوا أن يستجيبوا له عليه الصلاة والسلام.
فألله الله في المبادرة في الشباب وصرفه في مرضاة الله عز وجل، وتمثل مدحه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الفتية: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13].
شباب الحق للإسلام عودوا فأنتم فجره وبكم يسود
وأنتم سر نهضته قديماً وأنتم فجره الباهي الجديد(273/15)
التذبذب في المواقف
السبب الثالث عشر: التذبذب في المواقف، كيف يكون التذبذب في المواقف؟
إنه عدم معرفة المنهجية، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143] مرة مستقيماً ومرة منحرفاً، فلا يدرى من أين هو، وهذا من علامة النفاق، وتجده لا يحمل منهج الله عز وجل في قلبه، يرضي الناس بسخط الله، وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها تقول: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: {من أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضا الله، رضي الله عنه وأرضى عليه الناس} مثل ماذا؟
مثل: أنك تمزح وتستهزئ بالآيات، أو بالرسول، أو بالإسلام حتى تضحك جلساءك، هذا سخط لله وإرضاء للناس، فيسخط الله ويسخطهم عليك -ونعوذ بالله من الخذلان- قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14 - 15] والاستهزاء وإرضاء الناس بسخط الله عز وجل ظاهرة منتشرة بين أهل النفاق.
كان مع الرسول عليه الصلاة والسلام منافقون في تبوك، فجلسوا يسمرون في الليل، فيقول أحدهم: ما وجدنا كقرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء -يقصد الصحابة- يقول: كثرة أكل وجبن في اللقاء، فالله- عز وجل- أخبر رسوله بهذا فدعاهم صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنهم خرجوا من الملة وكفروا بالدين وعارضوا الله، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79] وللآية قصة:
جاء رجل من المؤمنين بصدقة كثيرة عند الرسول عليه الصلاة والسلام ألوف من المال فوضعها أمامه، فتغامز المنافقون في المسجد -انظر في المسجد يصلون، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142]- فتغامزوا في المسجد، قالوا: صاحب هذا المال ما أراد إلا رياء وسمعة، وجاء رجل من المؤمنين بحفنة من التمر صدقة فوضعها في المسجد، فقالوا: ماذا تغني هذه الحفنة عن جيش كامل يجهزه الرسول صلى الله عليه وسلم؟! فالله عز وجل قال: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79].
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14 - 15].
العرب كانت تحب الصراحة، وتكره المجاملة والنفاق ولو في الجاهلية، يقول أحدهم:
فإما أن تكون أخي بصدقٍ فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني
فإني لو تخالفني شمالي ببغضٍ ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بيني كذلك أجتوي من يجتويني(273/16)
نسيان ذكر الله عز وجل
السبب الرابع عشر: نسيان ذكر الله عز وجل: يقول سبحانه عن بني إسرائيل وعن أمثالهم: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [الأنعام:91] يعني: الشريعة تجعلونها قراطيس، فالمصحف أصبح عندنا أو عند الكثير مثل القراطيس، مظاهر فقط.
القرآن -يا أيها الإخوة الكرام- ما أنزل إلا ليعمل به، ما أنزل إلا ليحكم به {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] القرآن ليس رقى فقط للمصاريع إذا صرع علينا مصروع فيه جان نقرأ عليه فقط، أو يقرأ في حفلات الزواج مثلما يفعل بعض الناس، أو على الأموات.
القرآن للحياة، والعجب أن يترك على الرف وأن يهجر، وأن يستبدل به غيره، هذا من الخزي والعار والشنار والله المستعان.
يقول سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45].
نسيان الذكر عقوبة يعاقب بها الله عز وجل من شاء من عباده لانحرافهم عن منهجه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(273/17)
تقديم الدنيا على الآخرة
السبب الخامس عشر: تقديم الدنيا على الآخرة: يقول عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتتنافسوا فيها، فتهلككم كما أهلكت الذين من قبلكم} ووالله لقد وقع هذا، هل سمعت بالجدال والشجار بين الأرحام إلا يوم فتحت الدنيا؟
هل كان الرحم يجلس مع رحمه والصهر مع صهره والجار مع جاره بين يدي القاضي في مشكلة قبل أن تفتح الدنيا؟
هل كان الناس يتجادلون على الأراضي وعلى الأموال، وعلى خصومات السيارات، وعلى المعارض، وعلى الدنيا إلا يوم فتحت الدنيا؟
نعرف ونحن شباب أن الناس قبل عشرات السنوات كانوا أصفياء أحباء يجتمعون في بيت واحد ويجتمعون على سمر، وعلى حب ويتزاورون، فلما فتح الله عليهم الدنيا تهالكوا، لم يكن عندهم أراض، كان الإنسان عنده بيت وعنده دابة -حمار- وبقرة وثور، ويذهب في الصباح يحرث في مزرعته، ويأتي في المساء ويجلس مع جيرانه سمر وحب وصفاء ومزاح ووداد وزيارات وإخاء، فلما فتح الله عليهم بقطع الأراضي والأموال، تذابحوا وتناحروا، وسجن الكثير منهم، وتقاطعوا في الأرحام، وجلسوا في المشكلات.
مررنا بقرية من قرى الجنوب، وقال لنا أحد الناس في القرية: والله إن صاحب هذا البيت وهذا ما بينهم إلا خط مزفلت لا يسلم على أخيه شقيقه من عشرين سنة، بسبب قطعة أرض.
أين الإيمان؟
أين معنى الصلاة؟
أين معنى الخوف من الله؟
بعضهم -أقولها صراحة- يقول: والله لقد هممت أن أذبح فلاناً، لماذا؟ قال: لمزارع أخذها علي حسيبه الله، تجد المزارع ليست له ولا لذاك، لكن يخطط أن يغتاله في سبيل الله!!
أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
لذلك الفقر لا يُخاف منه، إنما يُخاف من الغنى.
والتشاحن لم يأت إلا من انفتاح الدنيا، حتى كلام الناس أصبح في الدنيا إذا دخلت المجالس الآن، أصبح التكلم عن الأسعار، حتى أصبح الناس الآن مع أسعار البترول، يعني: الأزمة الآن رفعت سعر البرميل، فأصبح حتى الذي لا يعرف أن يقرأ الفاتحة يلاحق سعر البرميل بسبب تعلق الناس بالدنيا وعدم تعلقهم بما يقربهم من الله , وإلا فلن يموت أحد جوعاً ما دام رزق الله وافراً، ولكننا نخاف -والله- من الدنيا أن تشتت فيما بيننا كما حدث، ونعوذ بالله من الخذلان والنكوص على الأعقاب.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [النحل:107] أحبوا الدنيا على الآخرة، تجد الشيخ في السبعين من عمره لا زال يبني ويراقب البنائين ويقف بنفسه على حسن العمارة وحسن الصياغة كأنه يعيش بعد السبعين سبعين أخرى، فماذا قدم للآخرة؟
أنا رأيت في صحيفة مقابلة مع شيخ عمره (125سنة) من قرية من القرى ربما رأيتموها ماذا قدم هذا لعمره؟
سألوه: تزوج أكثر من ثلاثين امرأة، ما الفائدة؟
وعنده أبناء كثير، لكن لم يسألوه عن الدين، كم تصلي من النوافل؟
كم تذكر الله عز وجل؟
ما هو عملك اليومي؟
هل استفدت شيئاً من تجاربك في طول الحياة؟
ما هو الفرق بين الصُّفَّة التي عشتها فيها وهذه الصُّفَّة؟
الشكر لنعم الله عز وجل؟
كيف حالة الفقر الذي عشته وهذه الحالة؟
كيف الناس الذين عاهدتهم وهؤلاء الناس؟
هذه هي الأسئلة، أما أن تسأله ماذا يفطر في الصباح؟
يفطر بخبزه في الصباح فيها ثلاثة كيلو بر ويقول: لا يأكل من هذه المعلبات شيئاً لا من الصلصلة ولا شيء، ولذلك يقول: عظمي كالحجر ولا زال يصعد الجبل، هذا طيب، لكن ما هي الدروس والعبر من (125سنة).
ابن تيمية عمره 63سنة قدم للأمة أكثر من 300 مجلد، قدم للأمة دمه، قدم للأمة علمه، وكثير من الناس ما هو ذكره؟
عبادته؟ صلاته؟ صلاحه؟ أثره في المجتمع؟ إصلاحه بين الناس؟
هذا هو الصحيح.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان:27] واليوم الثقيل هو: الآخرة.
فنحن أحببنا -صراحة لا يسلم من هذا أحد- الدنيا ورسخت في أذاهننا واستولت بحديثها على مجالسنا، وأصبحنا نخاف.
لما جاءت فتنة الخليج هذه هرع الناس إلى الأسواق، إلى الرز والسكر وكدسوها في المخازن كأنهم لا يموتون، ونحن - الحمد لله- من أكثر الشعوب منافذ على البحر من كل جهة.
والأمر الثاني -كما قيل-: لن تأكل أنت وجارك جائع، إذا قامت المشكلة أصبح الناس سواسية.
والأمر الثالث: أين الثقة بموعود الله- عز وجل-؟ والواجب أنا نكدس للآخرة من العمل الصالح كما كدسنا للدنيا.(273/18)
ثانياً: المخرج من الفتن
أيها الفضلاء: ما هي أسباب الخروج من الفتنة بعدما سمعنا أسباب الفتن؟(273/19)
السبب الأول: التضرع إلى الله عز وجل وصدق الدعاء
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] والفرار لا يكون إلا إليه بالتوبة النصوح وبالاستغفار دائماً وأبداً.
حدثنا بعض كبار السن من الجنوب يقول: أتتنا سنة قحط حتى ما بقي لا سمينة، ولا خضراء، ولا زهر، ولا شيء، قال: فخرجنا يوماً من الأيام بالدواب نتضرع إلى الله عز وجل، قال: والله الذي لا إله إلا هو لم نعد من المصلى إلا والسيل يطم الأودية، بسبب أنهم تضرعوا وصدقوا مع الله، لكن نحن الآن صلينا صلاة الاستسقاء، ولا نيئس من روح الله، صلينا مرات كثيرة، لكنا خرجنا مقصرين مذنبين وخرجنا نلبس اللباس الجميل، والرسول صلى الله عليه وسلم خرج متبذلاً متضرعاً متمسكناً، خرجنا بالسيارات الفاخرة كأننا في يوم عيد، وخرجنا نتضاحك في المصلى، والرسول صلى الله عليه وسلم خرج مستغفراً داعياً متبتلاً إلى الله، وخرجنا وكثير منا أمواله في البنوك الربوية، وكثير كان يستمع الأغاني الماجنة، والكثير ربما ما صلى الفجر في المسجد تلك اللحظة، والكثير عق والديه وهجر والدته، أو أساء، فما كان لصلاة الاستسقاء أثر فكان الحال هو هو لم يتغير، ونحن نرجو من الله أن يغير الحال إلى الأحسن، وأن يردنا إليه رداً جميلاً، ولا نيئس من روحه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43] ويقول عز من قائل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
أنا أذكر لكم فكاهة وقعت في بعض الأماكن: أناس يعرفون من صلاة الاستسقاء -حدثنا بعض الدعاة بهذا من حديث هذه القبيلة- يعرفون من صلاة الاستسقاء أنهم إذا استسقوا الله عز وجل أنه ينزل الغيث بإذن الله، لكنهم ليس فيهم إمام، وليس فيهم طالب علم لا يعرف أحد كيف يصلي بهم، فخرجوا بعد القحط فجلسوا في الصحراء في وادٍ من الأودية، وقالوا: يا ربنا نسألك أن تسقينا ظمئنا يا رب وانقطعت المياه ومواشينا، يعني: عرضوا الشكوى على الله عز وجل، وقالوا: والله الذي لا إله إلا هو لو كنت مكاننا وكنا مكانك لم نرض لك هذا الحال، ثم أخرجوا غترهم، قال: فأخذوا غترهم من على رءوسهم، قالوا: هذا بين يديك يا رب، أن تسقينا، قالوا: والله لقد نزل الغيث ذاك اليوم، وهذا برحمة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فأخذهم الله بنياتهم تبارك وتعالى لأنهم صدقوا مع الله {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] ويقول تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].(273/20)
السبب الثاني: الاهتداء بنور الوحي
أي نور أتى به محمد صلى الله عليه وسلم وفجَّره في الدنيا!! أي نور بثه للقلوب! أي نور سار في الدنيا من نوره ومشكاته صلى الله عليه وسلم!
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أين إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه
قد مشينا في ضياء الوحي حباً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحدونا خطاه
{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] أين النور؟
نور الله الذي أتى به صلى الله عليه وسلم {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] هذا النور وليس نور الكهرباء، ولا نور الشمس، ولا الضياء، إنما هو نور الرسالة، أن تهتدي بالإيمان، وأن تسلك سبيل القرآن، وأن تكون ولياً للواحد الديان، هذا هو النور.
يقول سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] الله يخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: أعطيناك روحاً فقد كنت ميتاً في أمة ميتة، أمة الصحراء، أنا وأنت، وأبي وأبوك، وجدي وجدك كنا نرعى البقر والإبل وجمالاً في الصحراء، فأتى صلى الله عليه وسلم وبعد (25سنة) انطلق المسلمون بهذه الرسالة، ملكوا ثلاثة أرباع الدنيا، كان عمر بن عبد العزيز يحكم في دمشق، وكان واليه في سمرقند وفي طاشقند وفي السند، وثلاثة أرباع روسيا كانت لنا.
كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] أي: كنا جثة هامدة فأرسل الله فينا روحاً وهو القرآن والإيمان {رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ} [الشورى:52] حتى الرسول عليه الصلاة والسلام كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ولا يعرف أن يكتب اسمه، لكن العجيب أن القرآن كله في صدره والسنة كلها في صدره، وهو أخطب خطيب وأكبر مفتٍ، وأحسن قائد، أليس هذا معجزة؟ {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:48 - 49] فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ} [الشورى:52] من أمرنا يعني: من شرعنا.
أربعون سنة يعيشها صلى الله عليه وسلم في مكة مع قوم فقراء أشبه شيء بالبدو، لا تعلم ولا قرأ ولا كتب ويأتيه في غار حراء النور هذا الذي قصده الله عز وجل بقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] سبحان من يهدي! يهدي من يشاء ويضل من يشاء، يهدي ابن الفاجر فيصبح الابن هذا ولياً لله، ويصبح الأب شقياً من الأشقياء، ويضل ابن الرجل الصالح فيصبح الابن شقياً والوالد صالحاً {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس:31] حكمة بالغة وقدرة نافذة، فسبحان المصرف! سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] إلى طريق الجنة التي هي من أسباب الخروج من الفتن الاهتداء بنور الله عز وجل نور الوحي، الكتاب والسنة، الدروس والمواعظ والخطب ميراث محمد صلى الله عليه وسلم كلام العلماء.(273/21)
السبب الثالث: الاقتداء بالمعصوم عليه الصلاة والسلام
يقول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما أرسلت به، إلا دخل النار} أليس بصحيح هذا؟
لا يسمع بدعوته صلى الله عليه وسلم يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن به إلا دخل النار.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وقد تكرر قول ابن تيمية: من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدى غير هدى الله الذي أرسل به محمداً عليه الصلاة والسلام فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
يقول الشيخ: محمد بن عبد الوهاب مجدد الدعوة -رحمه الله رحمة واسعة وجمعنا به في الجنة- يقول: عامي موحِّد يغلب ألف مخلط، ولذلك كان العوام في دعوة الشيخ: محمد بن عبد الوهاب يهزمون الجيوش، كان يخافهم الإنجليز على حدود العراق، يحمل أحدهم المصحف والتوحيد ولا يعرف إلا لا إله إلا الله، ومحمداً رسول الله، ومنهج الله، فيغلب أعداء الله حتى يقولون: حامت عليهم مرة طيارة، فقال لهم القائد العسكري: ادخلوا الخيام، قالوا: الله فوق الطيارة أم الطيارة فوق الله؟ قال: لا.
الله فوق الطيارة، قالوا: توكلنا على الله، فأسقطوها بإذن الله.
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174] يقول: كانوا قبل المعركة يتطيبون ويلبسون أكفانهم، ويقول أحدهم: هبت هبوب الجنة، أين أنت يا باغيها؟ لا غنائم، ولا قصور، ولا سيارات، ولذلك في كل عصر كل من صدق مع الله واتبع المعصوم، أنقذه الله عز وجل من الفتن.(273/22)
السبب الرابع: اجتناب التشبه بأعداء الله عز وجل
يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {من تشبه بقومٍ فهو منهم} وأكثر ما نحذره على أنفسنا التشبه، وقد وقع هذا في قطاع كبير من المسلمين التشبه بأعداء الله، التشبه في المظهر وفي الكلام، التشبه في الجلوس، وفي الأخذ والعطاء حتى أثر ذلك في معتقداتهم، ونحن قدوتنا وحبيبنا رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، فلماذا هذا التشبه؟
ولماذا هذا الانحراف؟
حتى دخل التشبه في صفوف النساء فيتشبهن بالرجال، والرجال يتشبهون بالنساء، يقول عليه الصلاة والسلام: {لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال}.
في الرجال: كأن يلبس كلباس المرأة، أو يمشي كمشيتها، أو إذا تحدث رقق حديثه كالمرأة، أو يظهر في زيه زي المرأة، أو يلبس مثل لباس المرأة كالذهب والحرير.
أو المرأة تفعل كفعل الرجل تزاول العمل الذي زاوله الرجل، وتتكلم بجرأة كجرأة الرجل، وتظهر بمظهر رجل، هذه ملعونة، فالعياذ بالله من الفتن: التشبه بين المؤمنين والكافرين وبين الصنفين من الرجال والنساء.(273/23)
السبب الخامس: اليقين أمام الشبهات
اليقين: أن يكون عندك علم راسخ أمام كل شبهة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] أن تكون صاحب يقين، واليقين يحصل بأن تكون متأملاً دائماً ومتفكراً في آيات الله الكونية والشرعية، واليقين هذا هو العلم كله، وهو الرسوخ، يقول حافظ الحكمي رحمه الله:
وهو رسوخ القلب في العرفان حتى يكون الغيب كالعيان
وفسره عليه الصلاة والسلام بقوله: {هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك}.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني(273/24)
السبب السادس: الصبر أمام الشهوات
هذا عصر الفتن وعصر عدم الوازع الديني عصر قلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعصر الوسائل التي تبث بكل لغة وبكل أسلوب وبكل بهرج الفتنة، فكيف تقف؟ تقف صابراً محتسباً.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24] فالصبر حتى تلقى الله عز وجل.(273/25)
السبب السابع: قصر الأمل
ألا تطول أملك في الحياة، وأن تعرف أنك اقتربت، وأن أجلك قد قرب، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح.(273/26)
السبب الثامن: تجديد التوبة والإنابة إلى الله والعودة إليه
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74] {جددوا إيمانكم، قالوا: كيف؟ قال: بلا إله إلا الله والاستغفار} وفي حديث عند أبي يعلى في سنده كلام: {يقول الشيطان أهلكتُ الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار} {وجاء عبد الله بن حريث إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله! إني أذنب، ثم أتوب، قال: تب إلى الله يتب الله عليك، قال: ثم أذنب قال: تب إلى الله، قال: ثم أذنب، قال: تب إلى الله، قال: إلى متى يا رسول الله؟ قال: إلى أن يكون الشيطان هو المدحور، وفي بعض الآثار: تب إلى الله ولو أذنبت في اليوم سبعين مرة}.
يذكره ابن رجب وغيره.(273/27)
السبب التاسع: القيام بشكر المنعم سبحانه وتعالى
شكر اللسان: الثناء على الله، وشكر العين: البكاء من خشية الله، وشكر الجوارح: الحياء من الله بألا تفعل المعاصي {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] ومن عصى الله فما شكره، ومن جعل نعم الله محاربة لله فقد كفر به {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ:15 - 16].(273/28)
السبب العاشر: الدعوة إلى منهج الله عز وجل
كلنا دعاة، والواجب علينا إذا أردنا أن نحافظ على أمتنا، وعلى بلادنا، وعلى إيماننا، أن نكون دعاة {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79].
فالله الله بنشر هذا الخير، كلٌ بحسبه، وكلٌ بقدرته كما كان يفعل أجدادنا وأسلافنا من قبل، والله معنا.(273/29)
السبب الحادي عشر: محاربة البدع والمحدثات
البدع هذه حرب لرسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، كلما رأيت مبتدعاً حاول أن تقنعه بترك بدعته، البدع في المعتقدات، البدع في العبادات، وما انهار كثير من العالم الإسلامي إلا بسبب البدع.
طرق صوفية ضالة ما أنزل الله بها من سلطان، ومن يخرج إلى بعض الدول في الخارج يجد الأمر العجيب، يأتي المؤذن يؤذن -رأيناه في بعض البلاد- فقبل أن يؤذن يقرأ: قل هو الله أحد في الميكرفون ثلاث مرات ويصيح: صلوا على حبيبي، صلوا على حبيبي، فيصلي أهل المسجد، فإذا أذن مسح عينيه وقبل كفيه، أو إصبعيه، لأنه مسح عينيه، وبعد الصلاة يقوم الإمام ويقول: قراءة الفاتحة على روح المصطفى، ويبدءون يقرءون الفاتحة، ثم يقول حزبكم من القرآن.
هذا خلاف سنة الرسول عليه الصلاة والسلام {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} ومن أعظم الفتن: البدع ووجودها، وانتشارها، والسكوت عليها -أعاذنا الله وإياكم منها- وما أتت رسالة أو تجديد دعوة الشيخ: محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- إلا لتجميد هذا المسار البدعي.
كانوا يطوفون بالقبور، وكانوا يعوذون بالجن من بعض الناس، كانوا يأتون باللحوم ويعلقونها بالأشجار وكانوا يذهبون إلى الكهنة، وكان الرجل إذا لم تحمل امرأته؛ يذهب إلى شيخ القرية ويهدي له، وكانت هداياهم التيوس والدجاج -وهي منتشرة الآن في بعض النواحي والعياذ بالله- يقول عليه الصلاة والسلام: {من أتى كاهناً، أو عرافاً فصدقه، فقد كفر بما أنزل على محمد} ومن أتى عرافاً فهو ملعون والعراف ملعون، ومن أتى كاهناً فهو ملعون والكاهن ملعون، وكذلك الساحر.
ولا يزال بين الفينة والأخرى من يأتي فيخبرنا ببعض الأمور التي حدثت ورأينا كتاباً اسمه" الحرز " وكتاباً اسمه" الحجاب "فعله بعض المشعوذين عليهم غضب الله، وهم أعداء الرسل، ومن وجدهم فليبلغ بهم، وليرفع للمسئولين، وليكتب للعلماء، ومن سكت فهو مشارك لهم في الإثم، والعياذ بالله.(273/30)
السبب الثاني عشر: إيجاد البدائل الإسلامية
أوجد بدل الأغنية الشريط الإسلامي وأدخله بيتك، بدل المجلة الخليعة تأتي بالمجلة الإسلامية والكتاب الإسلامي، بدل الجلسات التي جلست في العمر المنصرم والشباب الضائع في المقاهي اجلس مع الصالحين في المحاضرات والدروس وجلسات الخير، بدل الغيبة التي سلفت اذكر الله كثيراً، هذه البدائل الإسلامية.(273/31)
السبب الثالث عشر: تعرية الباطل وإظهار عوار الجاهلية
وهذا يطلب من الأساتذة والدعاة والعلماء والمربين أن يبينوا عور الجاهلية، وأن يبينوا خبث الحضارة المادية، والكفر، وأن يبينوا للناس مزايا الإسلام في المحاضرات والندوات.(273/32)
السبب الرابع عشر: نشر علم الشريعة
عسى الله أن يقيم هذه الشريعة وأن ينصرها وأن يرفع ميزانها، فإن سعادتنا مرهونة بالشريعة، نشر علم الشريعة أن تشجع ابنك وبيتك على سماع الشريعة، وحضور مجالسها التي يعرض فيها الفقه والتفسير، والحديث والعقيدة الموروثة عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام، لأن أهل الباطل ينشرون باطلهم -الكفر- يعني: من يذهب إلى بلاد الكفر يجد محاضرات الكفر يحضرها إلى مائتي ألف وثلاثمائة ألف، لها دعايات وقنوات، وصحف ومجلات، ووكالات ووسائل، فأهل الخير جديرون أن يتعاونوا، لأن هذه البلاد ما قامت إلا على الشريعة، ولن تصلح إلا بنشر الشريعة، فالله الله في نشر ميراث محمد صلى الله عليه وسلم وبالتواصي بالحق.(273/33)
الأسئلة(273/34)
حتمية الصراع بين الحق والباطل
السؤال
لي حلقة قرآن أشرف عليها في إحدى القرى وأكثرهم من صغار السن، ولكنهم يشكون علي وجود شباب يضايقوننا في حلقات القرآن فماذا نفعل؟
الجواب
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].
الإنسان لا يجلس على طريق الحق إلا بأعداء، ومن سنة الله في الكون أن يجعل للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وللصالحين وللأولياء أعداء، ولا يصلح الإنسان إلا بعد الصراع بين الحق والباطل، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] وفي قراءة مشهورة {وَلَوْلا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] هذا يدفع هذا، وهذا يضر هذا، وهذا ينكد على هذا، وهذا يعلق على هذا، وهذا يؤذي هذا {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20] هذا امتحان حتى يعلم الله الصادق من الكاذب، لكني أوصيك أن تتعامل معهم بالسماحة واللين، وأن تخبر أهل الخير في القرية علهم أن يكونوا معك، لأن الخير لا ينقطع، وحاول أن تعرض عليهم هذه المسألة ليحلوها فيما بينهم خاصة كبار أهل القرية، وإمام المسجد، وأهل الفضل من الأعيان.(273/35)
الغناء كله حرام
السؤال
ورد في كلامك أن الغناء إذا وجه ورشد كان خيراً وخاصة بعد ذكرك للغناء فما معنى ذلك؟
الجواب
قد يلتبس هذا على بعض الناس، وأنا لم أقصد هذا، وربما إن كنت أخطأت لفظاً فأستغفر الله، بل الغناء كله محرم كما نص على ذلك علماؤنا وتعرفون أن الآجري والشوكاني قد نقلوا الإجماع عن أهل العلم بتحريم الغناء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكثير من العلماء رسائل في ذلك، وفتاوى كسماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ: محمد بن صالح بن العثيمين، بل هيئة كبار العلماء بالإجماع يرون تحريمه كما حرمه الإمام مالك وأحمد والشافعي وأبو حنيفة، والصحابة مجمعون على ذلك وكذا التابعون، ولم يحله إلا بعض العقلانيين الذين لا يعرفون من الأحاديث ولا من السنة شيئاً.(273/36)
فسوق من ترك صلاة الجماعة
السؤال
هل الذي لا يصلي الفجر يعتبر كافراً مع العلم أنه يصلي في وقت متأخر؟
الجواب
لا.
ليس بكافر، من يصلي ولو آخر الصلاة يعني: في وقتها ليس بكافر، لكنه فاسق إذا ترك صلاة الجماعة بدون عذر، من يترك صلاة الجماعة عند أهل السنة فاسق وليس بكافر، بل فاسق ترد شهادته، ولا يؤتمن ولا يصدق، ويعتبر فاسقاً، لكن لا يخرج من الملة، لأنه صلى لكن في بيته.(273/37)
وجوب الصلاة في جماعة
السؤال
هل يجوز الصلاة في البيت علماً أن العذر هو البرد في الفجر واللهو في الأوقات الأخرى؟
الجواب
لا يجوز ترك الصلاة من أجل البرد، أو صلاتها بالبيت، وصلاة الجماعة عند أهل الحديث واجبة، صلاة الجماعة -أيها الإخوة الفضلاء- واجبة، وقد نص أهل العلم على ذلك وجمعوا ما يقارب أربعة عشر دليلاً على وجوب صلاة الجماعة في المسجد منها: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم بالنار} وقوله صلى الله عليه وسلم للأعمى لما قال: أتجد لي رخصة؟ قال: {أتسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، قال: نعم.
قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة} إلى غير ذلك من الأدلة، فهي واجبة.(273/38)
العمل بالسنة
السؤال
ما رأيك في إنسان إذا قلت له حينما يعطس يرحمك الله، قال: كويس صديق؟
الجواب
يظهر أن هذا باكستاني، عليك أن تعلمه السنة، وبعضهم يقول: متشكرين، فعليك أن تعلمه سنة الرسول عليه الصلاة والسلام.(273/39)
وصول الأجر إلى الميت
السؤال
هل ثواب قراءة القرآن يصل إلى الميت؟
الجواب
نعم.
الصحيح من أقوال أهل العلم أن ثواب قراءة القرآن يصل إلى الميت، والاستغفار والدعاء والصدقة كما قال صلى الله عليه وسلم: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له} حديث صحيح.(273/40)
الغناء يورث النفاق
السؤال
هل الغناء يورث النفاق في القلب؟
الجواب
بلا شك، وهذا الذي حذر منه ابن القيم، وسماه رقية الشيطان، وقرآن الشيطان، وهو مكيدة ابتلي بها كثير من عباد الله حتى صرفهم عن منهج الله عز وجل.
شكر الله لكم إنصاتكم واجتماعكم، وتغمدنا الله وإياكم برحمته، وجمعنا بكم في دار الكرامة، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(273/41)
إنما المؤمنون إخوة
الأخوة من أوثق عرى الإيمان, وقد جاء الإسلام والعرب متفرقون يتقاتلون على الشاة والبعير, وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الأخوة أيما حث, وامتن الله بها على المسلمين أيما امتنان, وللأخوة أسباب تزيدها قوة, وللشيطان في إفسادها وسائل, وفي هذا الدرس تفصيل لكل لذلك.(274/1)
المحبة والإخاء
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السمات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير.
الحمد لله وحده, الحمد لله الكريم المتعال, ذي الجلال والكمال والجمال, والصلاة والسلام على معلم الخير, ما اتصلت أذن بخبر, وما تألقت عين لنظر, وما هتف الورق على الشجر, وما هطل المطر, والصلاة والسلام على محرر القلوب, وباني مجد الشعوب, وقائد القبائل إلى علام الغيوب, والصلاة والسلام على الإنسان العظيم, والزعيم الكريم, والشريف في الشرف الصميم, وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
يا رب حمداً ليس غيرك يحمد يا من له كل الخلائق تصمد
أبواب كل ملوك الأرض قد أوصدت ورأيت بابك واسعاً لا يوصد
العارفون بنور وجهك آمنوا عافوا بحبك نومهم فتهجدوا
يا رب! يا من حببنا وحبب الناس إلينا! أسألك أن تجمع بيننا وبينهم في دار الكرامة.
اللهم إنا التقينا من قبائل متعددة, ومن أسر متباينة, ومن شعوب ومن أودية, ما جمعتنا إلا (لا إله إلا الله) ولا أتت بنا إلا (لا إله إلا الله) ولا أجلسنا هنا إلا (لا إله إلا الله).
اللهم إن الناس قد اجتمعوا علىالدنيا, وتآخوا علىالمنافع, وتصاحبوا على المصالح, أما نحن فمصلحتنا دينك, ومنفعتنا حبك, ونسبنا تقواك, يقربنا ما يقرب رسولك منك, ويباعدنا معصيتك يوم نعوذ بك من أن نعصيك, اللهم فاجمع بيننا وبينهم في دار الكرامة.(274/2)
مباهاة الله بعباده الذين اجتمعوا على محبته
نعم أيها الأجلة يا حفظة الإسلام يا أيتها الأمة الخالدة التي تكرر في اجتماعها لتعلن توحيدها! الناس يجتمعون للطرب وللهو, وأنتم الآن وبعد الآن وقبل الآن تجتمعون لذكر الواحد الأحد.
أما الله فقد باهى بكم هذه الليلة ملائكته, يعرف موقعكم ويعلم مكانكم سبحانه حيث قال: {لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] وقال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] ويعلم أين اجتمعتم, ولماذا اجتمعتم؟ فيباهي بكم الملائكة يقول: {انظروا لعبادي اجتمعوا على ذكري وحبي.
أشهدكم أني غفرت لهم} فغفرانك اللهم ورحمتك يا رب العالمين.
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما(274/3)
المؤمنون إخوة وشرفهم في التقوى
أيها الأجلة الكرام عنوان المحاضرة "إنما المؤمنون إخوة" قالها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه, وأتى بها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام في الأرض, وآخى بين أصحابه, لا قبائل ولا حزبيات ولا عصبيات ولا ألوان؛ لا أحمر ولا أبيض ولا أسود, قال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] هذا كلام الباري؛ أكرمنا أقربنا إلى الله, وليس أكرمنا فلان بن فلان, يقول عليه الصلاة والسلام في حديث حسن: {والذي نفسي بيده، لا يزال أقوام يفتخرون بآبائهم حتى يكونون جثى من جثى جهنم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
لا تقل أصلي وفصلي يا فتى إنما أصل الفتى ما قد حصل
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقى الله البطل
أتى محمد عليه الصلاة والسلام وأبو جهل يقول: أنا من بني مخزوم, أنا سيد قريش وأنا وأنا لكن لما كفر بلا إله إلا الله؛ أدخله الله على وجهه في النار فما نفعته أسرته.
أما بلال العبد الرقيق المولى الأسود, لما آمن بلا إله إلا الله, وسجد لرب الناس, وأذن في الأرض لمنادي السماء أصبح سيداً من السادات, يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا]] يعني: بلالاً.
وفي الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: {دخلت الجنة البارحة فسمعت دفي نعليك يا بلال , فماذا كنت تصنع؟ قال: يا رسول الله! ما أنا بكثير صيام ولا صلاة ولا صدقة, لكني ما توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت ركعتين} هذا هو بلال.(274/4)
أخوة الإيمان
وسلمان الفارسي أتى من أرض فارس فدخل في الدين, فيروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {سلمان منا آل البيت} لكن ما معنى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]؟
إنها أخوة أعظم من أخوة النسب, وأعظم من قرب الحسب؛ لأنها أخوة تصلهم بالله عز وجل, يقول عز من قائل للمؤمنين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103].(274/5)
سبب نزول آية: (واعتصموا بحبل الله)
وسبب نزول هذه الآية؟ كما ذكر ابن جرير وغيره: أن الأوس والخزوج أنصار الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة تآخوا وتآلفوا وتحابوا حتى أصبحوا أعظم محبة وإخاءً من إخوة الآباء والأمهات, فغاظ اليهود هذا الإخاء, وأتى يهودي مجرم هو " ابن شاس " من يهود المدينة , فدخل على الأوس والخزرج وهم في المسجد فقال: أنسيتم حروب الجاهلية؟ أنسيتم -يا أوس- مقتلة الخزرج فيكم؟ وأنتم يا الخزرج أنسيتم مقتلة الأوس فيكم؟ حتى أشعل الفتنة, فتذكروا الجاهلية وثارت الحمية -والرسول عليه الصلاة والسلام في بيته- فقام شاب من الخزرج فسلَّ سيفه وقال: يا للطيمه يا للطيمه فقام أوسي, فتواعدوا إلى الحرة -ظاهر المدينة - وخرجت القبيلتان والموت يبرق من سيوفهم, لأن القبائل يوم تنسى (لا إله إلا الله).
ويوم تنسى رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام
ويوم تنسى الحب الذي أنزله الله في كتابه
ويوم تنسى الجنة والنار والصراط والميزان
تصبح كأنها قطيع من البهائم في الغابة, أخذوا السيوف, وصفوا الصفوف, وأرادوا أن يقتتلوا, وسمع عليه الصلاة والسلام الخبر, فخرج من بيته وهو يقول: {حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} يقول أهل العلم: "خرج بلا حذاء يجر إزاره" ووصل بين الصفين والسيوف قد سلت, والموت الأحمر يتقاطر من رءوس السيوف, ووقف بين الصفين, وقال: {يا أيها الناس: أما كنتم ضلالاً فهداكم الله بي؟ أما كنتم متفرقين فجمعكم الله بي؟ أما كنتم متحاربين فآخى الله بينكم بي؟ قالوا: بلى يا رسول الله, قال: ألست فيكم؟ قالوا: بلى, قال: أما نزل الوحي عليّ وأنا بين أظهركم؟ قالوا: بلى, قال: فما هذا؟! فوضعوا السيوف على التراب, وقالوا: نستغفر الله, ثم أقبلوا يتباكون الصفوف بالصفوف وتعانقوا, وأخذ بعضهم يبكي وهو يعانق أخاه} ويقول فيهم الشاعر:
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
فأنزل الله أول الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} [آل عمران:100] أي: كيف تقتتلون؟ كيف تتباغضون؟ كيف تتناحرون؟ كيف تتقاطعون؟ كيف تسري فيكم الفتنة؟ {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران:101] أليس فيكم القرآن؟ أليست فيكم الرسالة الخالدة؟ {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101] وتعتصم بالله وبالتوجه إلى الكتاب والسنة, وأن تخلص قلبك لله, وتطهر قلبك وعينك وسمعك ويدك ورجلك لتكون عبداً لله.
كان عمر يبكي في ظلام الليل وهو ساجد في البيت ويقول: [[اللهم اجعلني عبداً لك وحدك]] قال أهل العلم: "يعني عبداً لله لا عبداً لغيره" لأن بعض الناس عبد لله وعبد لوظيفته ومنصبه وماله؛ لكن المؤمن عبد لله وحده.
يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة, تعس عبد الخميلة, تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش} ثم قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
كان سفيان الثوري إذا قرأ هذه الآية بكى حتى تكاد أضلاعه تختلف, قالوا: ما لك؟ قال: "أخشى أن أموت على غير الإسلام" {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] لأن الخاتمة عند الله عز وجل, والخاتمة أمرها خطير, قال ابن القيم: "من شب على شيء؛ شاب عليه, ومن عاش على شيء؛ توفاه الله عليه, ومن أسعد شبابه وأسعد حياته بتقوى الله؛ سلمه الله حتى يلقى الله على لا إله إلا الله".
ثم قال سبحانه بعدها: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران:103] قال مجاهد: "حبل الله الإسلام" وقال غيره: "حبل الله الرسول صلى الله عليه وسلم" وقال الثالث: "حبل الله القرآن" والصحيح أن حبل الله الإسلام والرسول والقرآن, هذا حبل الله الذي أنزله من السماء.(274/6)
الأخوة قبل البعثة وبعدها
أيها الإخوة الكرام أيها الأماجد! يا حملة لا إله إلا الله! كانت الجزيرة قبل مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام جزيرة فقيرة مظلمة, لكل قبيلة صنم من الأصنام, لدوس في بلاد زهران صنم, وللأزد في هذه المنطقة صنم, ولقريش صنم, ولمذحج صنم, وللأوس والخزوج صنم, ولكل قبيلة خشبة أو شجرة أو صخرة يعبدونها من دون الله, سلب ونهب, زنا وكذب؛ غش وخيانة, كان الأخ يقتل أخاه على مورد الشاة, كانوا يرعون الغنم بوثنيتهم ويتذابحون على موارد المياه.
فلما أراد الله أن يحيي هذه الأمة أرسل محمداً عليه الصلاة والسلام, فأخرجهم من الظلمات إلى النور؛ يقول سبحانه ممتناً على الناس: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] فلا إله إلا الله! كم لرسالته علينا من منة! أتى الإنسان وهو لا يعرف كيف يتوضأ, ولا يستنجي, ولا يتطهر, ولا يغتسل من الجنابة, ولا يقلم أظفاره, ولا يأخذ من شاربه, ولا يتطيب ولا يلبس الجميل, فجعله مؤدباً جميلاً محبوباً إلى الله, وقد كان الإنسان يقتل ابنته, ويزني, ويشرب الخمر, ويأكل الربا, فهذبه وحرم عليه هذه الأمور.
أتى الإنسان, وكان كالبهيمة فعلمه أن هناك جنة وناراً وحسابا ًوميزاناً وصراطاً, وكان الإنسان ظالماً لا يعرف شيئاً, فعلمه آيات الله والحكمة حتى أحيا هذه الأمة.
بعد خمس وعشرين سنة استولى الصحابة على العالم, اثنتان وعشرون دولة يحكمها عمر بن الخطاب وهو في المدينة , وكان عليه ثياب من الصوف مرقعة ممزقة فيها أربع عشرة رقعة, أرسل ملك فارس الهرمزان إلى عمر ليفاوضه, فكان الهرمزان معه وفد يلبس الذهب, كان في هم وغم كيف يقابل عمر , وكيف يستطيع أن يتكلم إلى عمر؟ فلما وصل إلى المدينة قال: أين قصر عمر؟ قالوا: لا قصر له, قال: أين حرسه؟ قالوا: لا حرس له, قال: أين مكانه؟ قالوا: هذا بيته.
فأتوا فإذا بيته من طين, فطرق على الباب فخرج ابن لـ عمر صغير, قال: أين أبوك؟ أين الخليفة؟ قال: أبي خرج من عندنا, وقد يكون نائماً في المسجد.
كان عمر ينام في الليل والنهار ساعتين, تقول له زوجته: لماذا لا تنام في الليل, تترك النوم في الليل والنهار, قال: [[لو نمت في الليل؛ لضاعت نفسي، ولو نمت في النهار؛ لضاعت رعيتي]].
قال ابنه: التمسوه في المسجد, خرج إلى المسجد فلم يجده, فبحث عنه مع بعض الصحابة فوجدوه نائماً تحت شجرة, أخذ حجراً تحت رأسه, وأخذ بردته الممزقة وعصاه بجانبه, قال: الهرمزان وهو يهتز: هذا عمر قالوا: هذا عمر , قال: هذا الخليفة؟ قالوا: هذا الخليفة, قال: هذا أمير المؤمنين؟ قالوا: هذا أمير المؤمنين, فقال وعمر نائم: "حكمت فعدلت فأمنت فنمت" يقول حافظ إبراهيم شاعر مصر:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عطلاً وهو راعيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
فقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها
رحم الله عمر , ورحم الله أولئك الملأ والأساطين الذين فتحوا الدنيا بالدين, يقول عمر في الإخاء: [[والله إنه ليطول عليَّ الليل إذا تذكرت أخي في الله فأتمنى الصباح فإذا أصبح الصباح، عانقته شوقاً إليه]] وورد في ترجمة عمر: "أنه تذكر معاذاً في الليل, ومعاذ يصلي معه دائماً, فما نام عمر من الشوق حتى صلَّى الفجر حتى قال: أين أخي معاذ؟ قال: أنا عندك, فعانقه وبكى! ".
هؤلاء قوم صفَّى الله قلوبهم بالإخاء, وجعلهم الله عز وجل ورثة الأرض, وليس ببعيد أن نشابههم عندما نعرف الدين, ومتى ما فقهنا كتاب الله, ومتى ما علمنا سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام, يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للرسول عليه الصلاة والسلام: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] معنى الآية: والله الذي لا إله إلا هو, لو أنفقت الدنيا ذهبا ًوفضة, ما ألفت بين قلوبهم, ولا آخيت بينهم.
ونحن نرى اليوم أن من يصلح صلحاً على غير الدين, وعلى غير لا إله إلا الله, أن الله يجعل صلحهم دماراً وخراباً, ويجعل اجتماعهم فتنة, ويجعل عزتهم ذلة, ويجعل غناهم فقراً, لأنهم اجتمعوا على غير طاعة الله.
نرى القبائل يوم تتحزب على الشر والباطل والظلم؛ جعلها الله قبائل منكوبة, قبائل مهزومة فاشلة, لأنها تآخت على غير تقوى الله.(274/7)
العفو والتسامح
قال الله عز وجل: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] أي: من الذي يحبب بعض القلوب لبعض إلا الله {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
قبائل العرب أكثر من ثلاثين قبيلة, لما آخى صلى الله عليه وسلم بينهم أصبحوا أمة واحدة, يقاتلون في صف واحد, ويصلون في صف واحد.
وأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني(274/8)
نموذج للعفو والتسامح
عند البخاري في الصحيح: أن الصحابة اجتمعوا في مجلس يتشاورون في أمر الحرب, وكان معهم خالد بن الوليد سيف الله الذي خاض مائة معركة ما هزمت له راية أبداً, ومعهم بلال بن رباح , المولى العبد الذي رفعه الإسلام حتى أصبح سيداً من السادات, مؤذن الأرض لنداء السماء, ومعهم أبو ذر؛ فتكلم بلال فرد عليه أبو ذر قائلاً: حتى أنت يابن السوداء, وهذه الكلمة سيئة, ولا تغتفر في الإسلام إلا بالتوبة والاستغفار, لماذا أديننا دين الألوان؟ أديننا دين التحزبات والعصبيات الجاهلية؟ أديننا دين الأسر التي تبني مجدها على جماجم الناس؟ لا والله, ديننا دين إخاء وحب.
فذهب بلال وقال: والله لأرفعنك إلى الرسول عليه الصلاة والسلام, وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره, وقال: يا رسول الله! تكلمت فقال لي كذا وكذا , فاحمر وجهه عليه الصلاة والسلام, فاستدعى أبا ذر , قال أبو ذر: {والله ما علمت هل رد عليّ السلام أو لا من الغضب, ثم قال: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية قال: يا رسول الله! أعلى كبر سني وشيبتي؟ قال: نعم إنك امرؤ فيك جاهلية} فخرج أبو ذر وقال: لا جرم والله لأنصفن بلالاً من نفسي, وأقبل بلال يمشي في الطريق فوضع أبو ذر رأسه على التراب, وقال: طأ يا بلال رأسي برجلك, لا أرفع رأسي حتى تطأه برجلك, فرجلك أكرم من رأسي -فماذا فعل بلال؟ - فبكى بلال! وقال: والله لا أطأ رأسك أنت أخي وحبيبي, فتعانقا والتزما وبكيا.
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
يقول سبحانه عن المؤمنين: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] أذلة جمع ذليل, أي: أنه ذليل مع إخوانه, وأما مع الكفار فعزيز قوي, لكن الجاهلية عكس هذه الصورة؛ فإنها جعلت من الإنسان أسداً هصوراً على جيرانه وأرحامه وقبيلته, وذليلاً مخادعاً جباناً أمام الكفار والأعداء, فنسأل الله أن يصلح الحال.
ويقول سحبانه في أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].(274/9)
المثل الأعلى في الذلة للمؤمنين والصفح عمن أساء
يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الله أمرني أن أصل من قطعني, وأن أعطي من حرمني, وأن أعفو عن من ظلمني} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وفي البخاري: {جاء رجل من الأعراب للرسول عليه الصلاة والسلام, وكان على الرسول صلى الله عليه وسلم بردة نجرانية غليظة الحاشية, فجره الأعرابي من البردة حتى أثر في عنق المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فلما التفت إليه عليه الصلاة والسلام قال الأعرابي البدوي: يا محمد! أعطني من مال الله الذي عندك, لا مال أبيك ولا من مال أمك؟ فتبسم عليه الصلاة والسلام! وأمر له بعطاء فأنزل الله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]} يقول صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا, ولا تؤمنوا حتى تحابوا؛ أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم} معنى ذلك: أن تسلم على من عرفت ومن لم تعرف من المسلمين.
معنى ذلك: أن تتبسم في وجوه الناس, فإن تبسمك في وجه أخيك صدقة, والكلمة الطيبة صدقة, وسوف أذكر إن شاء الله أسباب الحب والألفة في آخر المحاضرة.
يقول سبحانه: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] يقول ابن أبي حاتم: "كان الصحابة إذا اجتمعوا لا يتفرقون حتى يقرءوا هذه السورة".(274/10)
رجل من أهل الجنة
واسمعوا إلى قصة طريفة مكررة, لكن كلما كررت كانت أحلى وأحلى, كان عليه الصلاة والسلام جالساً مع أصحابه في المسجد, يذكرهم بالله, وكما يقول ابن القيم: "كانت مجالسه ذكراً لله" أنفاسه ذكر, وكلامه ذكر, ونومه ذكر, وأكله ذكر, وشربه ذكر, وممشاه ذكر لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, ولما جلس الصحابة, وإذا برجل كبير في سنه, دخل وماء الوضوء يتقاطر من لحيته, وحذاؤه تحت إبطه, وهذه علامة التوحيد والإيمان, والله عز وجل يضحك إلى ثلاثة كما في الحديث عند الطبراني -ولله ضحك يليق بجلاله- لما قال عليه الصلاة والسلام: {يضحك ربنا تبسم أعرابي بدوي, فقال له عليه الصلاة والسلام: ما لك تتبسم؟ قال: لا نعدم من رب يضحك خيراً -يقول: ما دام ربنا يضحك فهذا علامة على أنه سوف يرحمنا ويعطف علينا ويلطف بنا, وسوف يغفر لنا, وأملنا في الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كبير- يضحك الله إلى ثلاثة: أولهم: رجل خرج في الصحراء مع قافلة مسافرين معهم مطاياهم, سافروا من أول الليل إلى آخر الليل, فلما قرب الصبح نزلوا في مكان, وكانوا متعبين مجهدين من مشقة السفر فناموا جميعاً إلا رجل منهم ما نام -في قلبه حرارة لا إله إلا الله, في قلبه الحب لله, في قلبه وقود من الإيمان, في قلبه جذوة تتحرك بـ (الله أكبر) - قام إلى ماء عنده, فأخرجه من على ظهر مطيته, فتوضأ حتى تقاطرت لحيته وأعضاؤه بالماء, ثم استقبل القبلة يصلي ويبكي, فجمع الله الملائكة في السماء وقال: يا ملائكتي! انظروا لعبدي هذا ترك فراشه الوفير ولحافه الدفيء, وقام إلى الماء ليتوضأ, وقام يدعوني, أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة}.
هذا أعظم نموذج في الحياة, هذا قيام الليل, لكنني أسأل من يتأخر عن صلاة الفجر: ما هو عذره يوم يتأخر عن صلاة الفجر؟ كيف يلقى الله يوم القيامة؟ ماذا يقول لله يوم القيامة؟ إذا قال الله له: أما جعلت بدنك صحيحاً؟ أما أغنيتك؟ أما جعلت لك عينين؟ أما جعلت لك شفتين؟ أما هديتك النجدين؟ أما قومت لك رجلين؟ أما منحتك يدين؟ أما منحتك أذنين؟ أما أسمعتك الله أكبر الله أكبر, الله أكبر الله أكبر؟! أما جعلت لك الليل سباتاً لترتاح فيه؟ والنهار معاشاً لتطلب فيه؟! فما عذرك في ترك صلاة الفجر جماعة؟!
يقول عليه الصلاة والسلام: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله, فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء, فإن من طلبه أدركه, ومن أدركه كبه على وجهه في النار} يقول أهل العلم في النوم وغيره: "من صلَّى الفجر في جماعة حفظه الله, وإن وقعت عليه فتنة سلمه الله, وأخرجه الله محفوظاً منها, وإن وقع عليه من القضاء والقدر شيء لطف الله به" حتى ميتة الذين لا يصلون الفجر في جماعة تأتي معكوسة منكوسة, حوادثهم في السيارات, لا يموتون كما يموت الناس, يموتون بلا شهادة, يموتون بلا حفظ, يموتون بلا ذكر, لأنهم تركوا صلاة الفجر جماعة.
هذه بمناسبة دخول هذا الرجل على الرسول عليه الصلاة والسلام, فقال عليه الصلاة والسلام: {يدخل عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة} فدخل الرجل وصلَّى ركعتين, ومرة ثانية وثالثة يقول عليه الصلاة والسلام: {يدخل عليكم رجل من أهل الجنة} فخرج معه أحد الصحابة وبات عنده, فرأى صلاته كصلاة الناس, وصيامه كصيامهم, وذكره كذكرهم, قال: أسألك بالله! بم استحققت دخول الجنة, فقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام أنك من أهل الجنة؟! قال: لست بكثير صلاة ولا صيام ولا صدقة, ولكن والله ما نمت ليلة من الليالي وفي صدري غل لأحد أو غش على أحد أو حسد لأحد, وهذا هو الإيمان لا غل ولا حسد ولا حقد.
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] خرج عليه الصلاة والسلام إلى الطائف فلما دعاهم إلى التوحيد كذبوه, ثم أرسلوا أطفالهم عليه ورجموه بالحجارة حتى سالت دماؤه, كان يمسح الدم من رجله ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون, فأتاه ملك الجبال فقال: هل تريد أن أطبق عليهم الأخشبين؟ قال: لا.
لكني أسأل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً}.(274/11)
لا كمال للإيمان إلا بالتراحم والمؤاخاة
أيها الفضلاء إن هذه المنطقة لا تكتمل, ولا يكمل إيمان أهلها, حتى تقضي على العصبية الجاهلية, والتحزب القبلي, ليبقى حبهم في الله, وإخاؤهم لله وفي الله حتى يصلون إلى رضوان الله، نحن كلنا لآدم، جمعنا كتاب وسنة, وإمامنا محمد عليه الصلاة والسلام وآخى بيننا الله عز وجل في ظل ولاة أمر يريدون الله إن شاء الله, ونسأل الله لهم الهداية.
إن الذي يأتي ليفاضل بين القبائل, وليحزب للفتن, وليجهز المحن, إنما هو عدو لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام, إن من يأتي ليفاضل بين الناس بسبب أسرهم, أو بسبب قبائلهم, أو ألوانهم إنما هو رجل متعد على حدود الله منتهك لحرمات الله.
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: {المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم, كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رأى الكعبة فقال: {ما أعظمكِ! وما أشد حرمتكِ! وما أعظمكِ عند الله! والذي نفسي بيده للمؤمن أشد حرمة منكِ}.
أيها المسلمون الفضلاء يقول عليه الصلاة والسلام: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} وهذا معنى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] كيف تحب لأخيك ما تحب لنفسك؟ قال أهل العلم: "أن تحب له من الخير مثلما تحب لنفسك من الخير" ومن أعظم الخير أن تحب أن يستقيم, وأن يهتدي, وأن يصلي الصلوات الخمس في جماعة, وأن يتفقه في الدين.
قام أعرابي في الحرم عند ابن عباس , وابن عباس يفتي الناس, فقام الأعرابي يسب ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه, فقال له ابن عباس: [[أتسبني وفيَّ ثلاث خصال؟ قال الناس: ما هي يا ابن العباس؟ قال: والذي نفسي بيده ما نزل القطر في أرض إلا حمدت الله وسررت وليس لي في الأرض ناقة ولا جمل ما نزل القطر في أرض من الأراضي, أي: ما سمع بالمطر في الشمال أو في الجنوب, أو في الشرق أو في الغرب إلا سر وليس له ناقة ولا جمل- والأمر الثاني: والله ما سمعت بقاضٍ يحكم بكتاب الله إلا دعوت له وليس لي عنده قضية, والثالثة: والله ما فهمت آية من كتاب الله إلا تمنيت على الله أن يفهم الناس مثل ما فهمني هذه الآية]] يقول: كيف وأنا في هذا المستوى, وهو تواضع منه, وهي من أشرف الخصال.
كانوا يقولون عن ابن سيرين: كان إذا أقبل على فراشه نفض فراشه ثم قرأ سورة الإخلاص ثلاثاً والمعوذات ثلاثاً ثم قال: "اللهم اغفر لمن شتمني، ولمن ظلمني، ولمن سبني؛ اللهم اغفر لمن فعل ذلك بي من المسلمين".
وعند عبد الرزاق في المصنف: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال للصحابة: {من منكم يتصدق مثل أبي ضمضم؟} أبو ضمضم من الصحابة كان فقيراً لا يملك حتى حفنة من التمر دعا صلى الله عليه وسلم للصدقة فالتمس في البيت صدقة من دراهم أو دنانير أو شيء فما وجد شيئاً, فقام فصلَّى ركعتين في ظلام الليل, وقال: {يا رب اللهم إن أهل الأموال تصدقوا بأموالهم, وأهل الخيل جهزوا خيولهم, وأهل الجمال جهزوا جمالهم, اللهم إنه لا مال لي ولا جمال ولا خيول, اللهم إني أتصدق إليك بصدقة فاقبلها, اللهم كل من ظلمني أو سبني أو شتمني, أو اغتابني من المسلمين فاجعله في عافية وفي حل وفي سماح} فقبل الله صدقته, وأتى جبريل فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك, وأخبره في الصباح فقال لـ أبي ضمضم: {لقد تقبل الله صدقتك} قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].(274/12)
أسباب الفرقة بين الناس
أيها الفضلاء من أسباب التفرقة التي تفرق بين الأسر والقبائل والشعوب:(274/13)
البغضاء سبب الفرقة
وهي: الحالقة, لا تحلق الشعر ولكن تحلق الدين.
البغضاء التي تفسد ذات البين, البغضاء التي تشتعل في القلوب وتقطع بين الأرحام, قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
وبعض الجهلة يغذي هذه البغضاء في قلوب أبنائه, يعلمهم بعداء القبائل, ويذكر لهم تاريخ الجاهلية, وكيف تذابحت القبائل فيما بينها, وماذا فعل بنو فلان ببني فلان وما هو موقف تلك القبيلة منا! ومن أحلافنا! ومن أصدقاؤنا! ومن أعداؤنا! وهذا كله عداء جاهلي وثني فرعوني ليس في الكتاب ولا في السنة, بل حرب للإسلام.
وبعض الجهلة يركب في أذهان أبنائه عداء الأسر والأقارب, يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {لا تحدثوني عن أصحابي - أي: بما قالوه فيّ- دعوني أخرج وأنا سليم الصدر للناس} هذه هي البغضاء يا عباد الله, وهي التي تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.(274/14)
الحسد سبب الفرقة
ومن أسباب التفرقة أيضاً: الحسد وسبب تقاتل ابني آدم إنما هو الحسد, قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] ويقول الشاعر:
ألا قل لمن بات لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله سبحانه لأنك لم ترض لي ما وهب
فمن حسد مسلماً فقد أساء الأدب مع الله, والحسد في القلب نعرة من نار يأكل الحسنات, ويدمر الصالحات, ويفني القبائل والأسر, ويعدم الإخاء بين الناس, هذا هو الحسد, وهو كثير في الناس يوم يحبون الدنيا.(274/15)
حب الدنيا سبب الفرقة
وأما السبب الثالث: فهو السبب العظيم, وهو الذي وقعنا فيه جميعاً -إلا من رحم- ربك وهو حب الدنيا.
وحب الدنيا رأس كل خطيئة, يقول سبحانه عن حب الدنيا: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].
الحياة وصفها بعض الصالحين قال: "حلم مثل النوم", قالوا لنوح عليه السلام وقد عاش ما يقارب الألف سنة: كيف الحياة؟ قال: "رأيتها كبيت له بابان دخلت من هذا وخرجت من ذاك".
الدنيا يصفر مخضرها, وتضمحل زهرتها, ويذوب شبابها, وتبلى ثيابها, الدنيا ما أضحكت إلا أبكت, وما علت إلا أوعلت, وما غلت إلا أوغلت, وما رفعت من رجل له علامات إلا وكلما علامات.
قيل لأحد الصالحين: صف لنا الدنيا؟ قال: "عجوز شمطاء قبيحة التقبيل والشم" وقال آخر: "الدنيا سارقة مارقة حية رقطاء" وقال الإمام أحمد: "عجباً للدنيا بينما نحن مع أبنائنا إذ تفرقنا".
ولذلك يقول المتنبي:
أين الجبابرة الأكاسرة الألى كنزوا الكنوز فلا بقين ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى زوى فحواه لحد ضيقُ
يقولون: إن هارون الرشيد الذي ملك الدنيا, حتى كان يتحدى الغمام في السماء ويقول: "أمطري حيث شئت فإن خراجك سوف يأتيني بإذن الله" لما حضرته الوفاة, قال: "اجمعوا لي الجيش, فجمعوا الجيش والقادة, فخرج على الجيش وقال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من زال ملكه, ثم قال: اللهم إني لست مصلحاً فأعتذر, ولست قوياً فأنتصر, اللهم اقبلني فيمن قبلت".
وكان الوليد بن عبد الملك أحد الخلفاء, يتقلب ظهراً لبطن على التراب وهو يبكي في سكرات الموت ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29].
حب الدنيا هو الذي قطع بين الأرحام والأحباب والأقارب, حب الدنيا هو الذي جعل الناس يتخلفون عن صلاة الجماعات والندوات, وعن ذكر رب الأرض والسموات, حب الدنيا هو الذي جعل القلوب قاسية, وضيع الوقت في غير طاعة الله عز وجل, وإلا فليس لك من دنياك إلا ما أكلت فأبليت, أو تصدقت فأعطيت, أو لبست فأفنيت.
لباس أو قطعة ثوب ولقمة وشربة وحسنة تفعلها وصدقة تقدمها, هذه هي الدنيا, واعلم علم اليقين أن من أحسن ما تقدمه هو العمل الصالح, وأن كل شيء سوف يزول, إلا ما أبقاه العبد لآخرته.
صلِّ ركعتين في ظلام الليل لظلام القبور, وتصدق بصدقة في شدة جوع لحرارة يوم النشور, وأقم صلبك في جنح الليل ليوم يقوم الناس من القبور.(274/16)
الافتخار بين الناس
ومن أسباب الفرقة العصبية الجاهلية القبلية, وقد أشرت إليها, وهي التحزبات والتفرقات, وجعل بعض القبائل على بعضٍ لها منزلة أو درجة, وهذه من الشيطان, وهي حرب للإسلام, وللرسول عليه الصلاة والسلام.
ومن افتخر بآبائه فهو أولهم في النار, من افتخر بهم وبجهلهم وبما فعلوا فهو أولهم في النار, يقول عليه الصلاة والسلام كما في الأدب المفرد للإمام البخاري: {حتى يكونوا أذل من الجعلان الذي يقلب العذرة بأنفه} الجعلان هذا دويبة يسميها الناس: أبو جعران.
وقد صح عنه أنه قال: {يحشر المتكبرون في صورة الذر يوم القيامة يطؤهم الناس بأقدامهم}.(274/17)
أسباب الإخاء
إنما المؤمنون إخوة ومن أسباب الإخاء أمور:(274/18)
إفشاء السلام
أولها: السلام والابتسام؛ تحيتنا السلام, وهي من أعظم التحايا.
وعليك أن تسلم على من عرفت ومن لم تعرف, كان يقول عليه الصلاة والسلام: {يا أيها الناس أفشوا السلام, وأطعموا الطعام, وصلوا الأرحام, وصلُّوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام}.
وتحيتنا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, لا يستبدل بغيرها لا أهلاً ولا مرحباً, ولا كيف أصبحت, ولا صباح الخير, تأتي هذه بعد السلام قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44] يعني سبحانه: يلقونه يوم المزيد -نسأل الله لنا ولكم المزيد يوم المزيد- ويوم المزيد هو يوم الجمعة, يلقى الله الأنبياء والشهداء والصالحين في الجنة, فيجلسهم على منابر من نور, وعلى كثبان من مسك, فإذا تجلى الله لهم, وكشف الحجاب قال لهم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44] وإذا سكن العبد الجنة, وأقل مسكن وأصغره وأضعفه في الجنة كالدنيا عشرة مرات:
أقلهم ملكاً كما الدنيا ملك وعشرة أمثالها من دون شك
لكنما موطن سوط فيها خير من الدنيا وما عليها
فإذا سكن العبد فتح الله له الأبواب من كل جهة, فدخلت الملائكة يقولون: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24].
والابتسام يقول فيه صلى الله عليه وسلم: {تبسمك في وجه أخيك صدقة} فعلى المسلم أن يتبسم للمسلمين, وأن يعانقهم إذا أتى من غيبة, وأن يعلم أن مصافحته للمسلم تَحُتُّ الخطايا كما تحات ورق الشجر في شدة الشتاء.(274/19)
الدعاء وخاصة في ظهر الغيب
ومن أسباب الإخاء الدعاء في ظهر الغيب: وأجمل الدعاء دعاء غائب لغائب, يقول الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- لـ ولد الشافعي بعدما توفي الشافعي: "أبوك من السبعة الذين أدعو لهم وقت السحر كل ليلة".
واعلم أنك إذا دعوت للمسلم بظهر الغيب قيض الله ملكاً يقول: ولك مثل ذلك ولك مثل ذلك ولك مثل ذلك , دعاؤك للمسلم أعظم من دعائك لنفسك, لأن دعاءك لنفسك قد يكون فيه وفيه أما دعاؤك للمسلم فهو علامة الحب والصدق والإيمان والوضوح.
فالله الله في الدعاء للمسلمين في ظهر الغيب والمسامحمة والعفو.(274/20)
الزيارة في الله
ومن أسباب الحب والوئام, الزيارة في الله.
زيارة الإخوة في الله, وزيارة الأحباب في الله, فإنها هي الباقية عند الله عز وجل, كما في الحديث الصحيح: {زار أخ أخاً له في قرية فأرصد الله له ملكاً في الطريق, وقال لهذا الرجل: أين تذهب؟ والله أعلم به, قال: أذهب إلى فلان, قال: لِمَ؟ قال: أزوره في الله, قال: هل له عليك نعمة تربها؟ -أي: تحفظها وتريد أن تبقى؛ فتزوره من أجل النعمة والمصلحة- قال: لا.
قال: ولِمَ زرته؟ قال: في الله, قال: فأنا رسول الله إليك؛ أشهدك أن الله قد غفر لك ولصاحبك}.
هذا الحب في الله, وهذا هو الإخاء, وهي الزيارة في الله عز وجل.
وكان السلف يتزاورون فهذا طاوس بن كيسان أحد التابعين العباد يقولون عنه: "كان يصلي في الحرم صلاة العصر, ثم يستقبل ويجثو على ركبتيه, ويرفع يديه فيبقى يدعو من صلاة العصر إلى صلاة المغرب, قالوا: وسقطت قلنسوته وهو يبكي في الدعاء فما شعر أن قلنسوته سقطت"
ذهب في السحر قبل الفجر يزور أخاً له, فطرق عليه الباب, فوجد أخاه نائماً, فخرج أخوه وقال: ما لك يا طاوس؟ قال: أتيت أزورك, قال: في السحر كنت نائماً, قال: والله ما ظننت أن مسلماً ينام في السحر, قال: كيف؟ قال: لأنَّا روّينا في الحديث -أي: أخبرونا في الحديث أن الله عز وجل {ينزل إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير, فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داعٍ فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟} فالزيارة في الله أعظم عُرى الإيمان.
وأما زيارة المريض فحدث ولا حرج, عند مسلم: {من زار مريضاً كان في خرفة الجنة حتى يمسي}.
وفي حديث آخر يروى عنه عليه الصلاة والسلام: {من زار أخاه من مرض شيعه الله بسبعين ألف ملك} وفي الحديث الصحيح: {أن الله يقول للعبد وهو يحاسبه: يا بن آدم! جعت فلم تطعمني, قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما عملت أن عبدي فلان ابن فلان جاع فما أطعمته, أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي, يا بن آدم ظمئت فلم تسقني, قال: كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان ظمئ فلم تسقه, أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي, يا بن آدم مرضت فلم تعدني, قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان مرض فلم تعده، أما إنك لو عدته لوجدت ذلك عندي}.
هذا هو الإخاء, ومن أسبابه ومن أعظم أسبابه: الزيارة والعيادة وتفقد أحوال الأخ المسلم {ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة, ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة, والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه}.(274/21)
صلة الرحم
وأعظم ما يزيد في العمر ويبارك في الحياة صلة الرحم, وأعظم ما يقطع الحياة ويعكر الوداد, ويقسي القلوب ويضيع الأوقات قطيعة الرحم، وقد لعن الله قاطع الرحم في القرآن مرتين, وقاطع الرحم قطع الحبل الذي بينه وبين الله.
أتى رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والحديث عند مسلم قال: {يا رسول الله إن لي قرابة أحسن إليهم ويسيئون إليّ, وأحلم عنهم ويجهلون عليّ, فماذا أفعل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن كنت كما قلت فلا يزال معك من الله ظهير, وكأنما تسفهم المل} المل: الرماد الحار, ويقول: الله ينصرك ما دمت على ما قلت.
يقول أبو جعفر المنصور لوزرائه وهو يسمر معهم: "ما أحسن أبيات العرب! -يعني: قصائد قالتها العرب- قالوا: ما ندري, قال: أحسن الأبيات قول المقنع الكندي:
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا
أراهم إلى نصري بطاءً وإن هم دعوني إلى نصر أتيتهم شدا
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
أما قرابة الرسول عليه الصلاة والسلام فاسمع ماذا فعلوا؟ أخرجوه من داره, في مكة , حاربوه في أكثر من سبع عشرة غزوة, قاتلوه, سبوه, شتموه, ضربوه, كسروا ثنيته, أسالوا دمه, ما تركوا مكيدة في الدنيا إلا دبروها, فلما انتصر عليهم طوقهم بالجيش وهم جلوس في الحرم, فقال: ماذا ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم, قال: غفر الله لكم، فتباكوا يقول جابر: [[حتى اختلطت أصوات بكاء الشيوخ بالأطفال وبالنساء, فقام أبو سفيان فقال: لا إله إلا الله ما أبرَّك! ولا إله إلا الله ما أوصلك! ولا إله إلا الله ما أرحمك! ولا إله إلا الله ما أحلمك]] فيقول الله له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقال الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] هذا رسولنا عليه الصلاة والسلام, الرسول العظيم الذي أتى بالخلق حياةً واقعية في حياة الناس وضمائرهم.
أتته أخته من الرضاعة وهو في الطائف وهو يوزع الإبل على الناس, فأتته وهو يتظلل من الشمس, وكانت عجوزاً قد نسيها عليه الصلاة والسلام، وكانت رضعت معه في بادية بني سعد قريباً من الطائف وهو طفل صغير , وعمره حين جاءته ما يقارب خسمين سنة, فأتت تشق الصحابة, واستأذنت عليه وهو يوزع الغنائم, فقالوا: يا رسول الله! هنا عجوز تقول: هي أختك من الرضاعة, قال: مرحباً بأختي, وقام من بين الناس فعانقها وبكى وهو يعانقها, وقال: حياكم الله, كيف حالكم؟ كيف أهلكم؟ وأخذ يسألها, ثم أجلسها مكانه, وقام يظللها من الشمس, فقال: أتريدين أن تعيشي معي, أو تعودي إلى أهلك؟ -يعني: هل تريدين البقاء معي, وأبقى أنا الأخ الوصول- فقالت: تريد العودة إلى أهلها, فأخذ مائة ناقة من أحسن الجمال ومن أحسن النوق وأعطاها, وقال: تزوريننا, أو كما قال عليه الصلاة والسلام, ثم أخذ يشيعها حتى اختفت عن العيون فأخذ الصحابة يتباكون من هذا المنظر.
أوصل الناس وأبر الناس وأرحم الناس, نسأل الله أن يوفقنا لاتباع سنته, ويجعلنا على طريقته حتى نلقى الله عز وجل ونحن أخيار بررة.(274/22)
تذكر الموت
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
هذه القصيدة لشاعر نجد ابن عثيمين شاعر الملك عبد العزيز رحمه الله, يقول هذه القصيدة في العجيري أحد علماء نجد القدامى الأخيار, يقول:
من الذي هرب من الموت؟ من الذي طلبه الموت فما أفناه؟ من الذي أضحكته الحياة فما أتاه الموت فأبكاه؟ من الذي اعتصم بالقصور فما عقره الموت في القبور؟ من الذي سكن الدور فما أخرجه الموت بقاصمة الظهور؟ من الذي لبس الديباج والحرير فأسكنه الموت في تلك الحفرة بين اللحود والصفائح؟! لا أحد, يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8] لم يقل يلاحقكم؛ لأن الذي تفر منه خلفك, لكن تعبير القرآن يقول: أنتم تفرون من الموت والموت أمامكم {فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم} [الجمعة:8] أي: كأنه مقبل وأنتم تفرون إليه: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8].(274/23)
استطراد في ذكر الموت
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] سبب نزول هذه الآية أن الأشج بن كلدة قال: "يزعم محمد أنه لا بد أن أموت لأبنين لي قصراً مشيد, فلا يدخل عليّ عزرائيل -كانوا يسمون ملك الموت عزرائيل, ولكن عزرائيل ليس باسم له عند أهل السنة , اسمه ملك الموت في سورة السجدة فقال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11]- قال: يزعم محمد أن ملك الموت يدخل عليّ لأحتجبن في قصر فلا يدخل عليّ, قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] لا بد أن يأخذكم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة.
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
جلس سليمان عليه السلام في قصره, فنزل ملك الموت بجانب سليمان, فقال سليمان لملك الموت: ماذا أتى بك اليوم؟ قال: أمرني الله عز وجل أن أقبض رجلاً من رعيتك بأرض الهند وهو معك هنا في فلسطين , الله عز وجل أمر ملك الموت أن يقبض ذاك الرجل في الهند والرجل في فلسطين في أرض كنعان , فملك الموت مهموم من هذه المهمة:
مضيناها خطىً كتبت علينا ومن كتبت عليه خطىً مشاها
قال: وبينما ملك الموت جالس, وسليمان بجانبه إذ دخل هذا الرجل على ملك الموت, وهو لا يعرف ملك الموت, قال الرجل لسليمان: يا سليمان يا نبي الله أسألك بالله الذي سخر لك الريح أن تأمرها تنقلني إلى بلاد الهند , فإن لي غرضاً في بلاد الهند , فتبسم سليمان وقال: يا ريح! خذيه إلى بلاد الهند {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] فأخذته فلحقه ملك الموت فتوفاه هناك, ذكرها ابن كثير وغيره من العلماء والمفسرين.
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
كل ابن أثنى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
هذا سفيان الثوري لما بلغ ستين سنة, أخذ كفناً وصنع له نعشاً وعلق النعش, فكان كلما حدثوه في الدنيا ومال الدنيا قال: هذا! يقول: انظروا لهذا! وقال سفيان رحمه الله: "حق لمن بلغه الله ستين سنة أن يشتري له كفناً".
وكان أحمد إذا مر بالمقابر انقطع, وجلس مبهوتاً.
وكان عثمان رضي الله عنه وأرضاه إذا رأى المقبرة بكى حتى يغمى عليه؛ لأنه تذكر الموت!
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلّ الردى مما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخرب
أما القصور والفلل فقد زيناها لكن ليت شعري ماذا فعلت قبورنا؛ اعتنينا عناية هائلة ببيوتنا وأثاثنا وثيابنا ومظاهرنا وسياراتنا لكن ليست هذه هي الحياة, إن الحياة الآخرة هي حياة الآلاف والآباد فماذا فعلنا لها؟! وهل أعددنا الزاد؟! نسأل الله التوفيق لنا ولكم.
قلت لكم مما يورث الإخاء والحب والألفة تذكر الموت والانتظار, فإن من تذكر الموت هان عليه كل شيء.
هذا إبراهيم بن أدهم أحد الصالحين رحمه الله من العباد الكبار, كان ابناً لملك من ملوك خراسان , فلما سمع قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] قالوا: خلع ثياب الحرير والديباج ولبس الصوف, وخرج إلى جبال لبنان يعبد الله عز وجل.
دخل مرة المدينة فلقيه رجل من الناس, يسأل إبراهيم بن أدهم: أين العمار؟ ودلني على المدينة؟ قال: "العمار هنا والخراب هنا" دله على المقبرة يقول: العمار في المقبرة والخراب في هذه المدينة.
يقولون: إنه رحمه الله دخل السوق فوجد ورقة مكتوباً عليها اسم الله, والناس يطئون الورقة ما علموا, فبكى وأخذ الورقة وقبلها وغسلها وطيبها بدينار, لأن فيها اسم الله, فسمع هاتفاً يقول: يا من رفع اسم الله ليرفعن الله اسمك, فرفع الله اسمه.
مر من طريق فلقيه رجل فظن أنه متهم بقضية فضربه بسوط, فقال الناس للرجل: أتضرب هذا وهو إبراهيم بن أدهم؟! قال إبراهيم: "دعوه, ما زلت رجل سوء منذ خرجت من أصبهان ".
ويقول عنه ابن كثير: "خرج إلى بغداد , فلما دخل المدينة خرجت امرأة برمادة تريد أن تلقيها في المزبلة فيها جمر, فوقع الرماد على رأسه, فقال الناس للمرأة: اتق الله هذا إبراهيم بن أدهم قال: دعوها, فإن الله تعالى توعدني بالنار فإذا صالحني الناس على الرمادة فالصلح خير " يقول: إذا ما كان إلا رماداً فأمره سهل".
هذه في قصته وسيرته، نعوذ بالله وإياكم من النار؛ فإن أجسادنا على النار لا تقوى.(274/24)
العفو
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] ومن عفا عن مظلمة أورثه الله عزاً في الدنيا والآخرة, وأن تعفو عمن ظلمك كما عفا عليه الصلاة والسلام عمن ظلمه, قال لهم: {اذهبوا فأنتم الطلقاء} أتاه أبو سفيان بن الحارث ابن عمه الذي قاتله وحاربه وسبه وشتمه فقال: {يا رسول الله {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فدمعت عيناه عليه الصلاة والسلام وقال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92]}
هذا العفو فلا بد أن نعفو, والذي يحاد الناس, ويضايق الناس يضايقه الله عز وجل, يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه, ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به} هذا هديه عليه الصلاة والسلام.
والدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة, يقول ابن كثير وغيره من المؤرخين: كان لـ ابن الزبير مزرعة في المدينة ولـ معاوية مزرعة بجانب مزرعة ابن الزبير , وكان بين معاوية وبين ابن الزبير شيء، فـ معاوية خليفة ملك, وابن الزبير من الرعية عابد عالم, فدخل عمال معاوية في مزرعة ابن الزبير فغضب وكتب رسالة حارة إلى معاوية , رسالة تقطع القلوب, يقول: "يا بن آكلة الأكباد: إما أن تمنع عمالك من دخول مزرعتي, أو ليكونن لي ولك شأن" فقرأ معاوية الرسالة وإذا هي حارة, من رجل من الرعية وهو ملك, فقال لابنه يزيد: بماذا ترى أن نرد عليه؟ قال يزيد -وكان جاهلاً غشوماً ظلوماً-: أرى يا أبتي أن ترسل له جيشاً أوله في المدينة وآخره عندك حتى يأتوا برأسه, قال: بل أقرب من ذلك صلة وأقرب رحمى, فكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم
من معاوية بن أبي سفيان إلى ابن حواري الرسول عليه الصلاة والسلام! يا بن ذات النطاقين! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أمَّا بَعْد:
فوالله الذي لا إله إلا هو لو كانت الدنيا بيني وبينك لهانت عليّ وعليك, فإذا جاءك كتابي هذا فخذ عمالي إلى عمالك ومزرعتي إلى مزرعتك, وهي قليلة في حقك يا بن حواري الرسول عليه الصلاة والسلام".
فقرأها ابن الزبير فبكى حتى بلها بالدموع, وذهب إلى دمشق فقبل رأس معاوية وقال: "لا أعدمك الله عقلاً, أحلك في قريش وفي هذا المحل".
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] تتجلى أخوتنا -أيها المسلمون- واقعاً وعملاً يوم نصلي سوياً في المساجد.(274/25)
أسباب أخرى للفرقة
ومن أسباب الفرقة:(274/26)
كثرة المساجد
فالذين يبنونها في الظاهر يريدون الخير (ظاهره من قبله الرحمة وباطنه من قبله العذاب) وقد نرى كثيراً من أهل المساجد الذين يبنونها في القرى يتظاهرون للناس بأنهم يريدون عمارة المساجد وتكثيرها ليعبد الله فيها, ولكن الباطن ضغينة وحقد وبغضاء؛ يريدون تفرقة الجماعات أو لأمور مالية أو مادية الله أعلم بها.(274/27)
إثارة النعرات الجاهلية ووجود الطبقية بين الناس
ومن أسباب الفرقة: إثارة النعرات الجاهلية والتاريخ الأسود, لأن تاريخنا قبل سنوات لم يكن مرضياً, تاريخنا ليس صحيحاً, تاريخنا يحتاج إلى إعادة نظر, بعض الناس يريد أن يكرر الوقعات والقتلات بين القبائل, وماذا فعلت القبيلة بالقبيلة, وفلان قتل فلاناً واعتدى على آل فلان.
ومن أسباب الضغينة: تقرير الحدود الإقليمية: والأصل أن ليس بيننا حدود, الناس شركاء في ثلاثة: في الكلأ والماء والنار, أما جعل الحدود بين القبائل فخطأ؛ نحن حدودنا حدود العالم الإسلامي, كانت حدودنا صفاقس وسيبيريا , وكانت حدودنا طاشقند والسند والهند , لأننا أمة واحدة, ولكن أتى بعض الجهلة فجعل بين الناس والقبائل حدوداً, من أين هذه الحدود وكلنا شركاء في الكلأ والماء والنار؟ رايتنا لا إله إلا الله, مسجدنا واحد, ورسولنا واحد, وربنا واحد, وشريعتنا واحدة, وقلوبنا واحدة, نتجه إلى جنة واحدة إن شاء الله.
ومما يوجد الضغائن: وجود الطبقية في الناس, فلان حر وفلان عبد وفلان كذا! وكلنا سواسية, قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] والله لا أبيض ولا أحمر ولا أسود, لا فضل والله إلا لمن يتقي الله.
يقول أبو عبيدة رضي الله عنه: [[والله ما رأيت متقياً لله حراً أو عبداً، أبيضَ أو أسود إلا وددت أني في مسلاخه]] وقال ابن مسعود: [[يا ليتني كنت رماداً]] وقالت عائشة: [[يا ليت أمي لم تلدني]] وقال عمر: [[يا ليتني شجرة تعضد]] كان عمر وهو أمير المؤمنين يأخذ المكتل ويلتقط فيه نوى التمر ويحمله للفقراء, كان عمر رضي الله عنه وأرضاه, يأخذ الليف فيفتله ويجعله خطماً لإبل الصدقة, كان رضي الله عنه يطلي إبل الصدقة, كان رضي الله عنه يحلب شاته.
ويقول المؤرخون: خرج أبو بكر إلى عجوز عمياء في المدينة ومعها أطفال, فحلب شاتها, وصنع الإفطار لها, وكنس بيتها وهي لم تعرفه, فقال عمر: [[يا أمة الله! أعرفت هذا الشيخ؟ قالت: ما عرفته, قال: هذا أبو بكر الصديق أتعب من خلفه من الخلفاء]].
هذه هي حياتنا يوم أن نكون أتقياء بررة, نريد الله والدار الآخرة.(274/28)
القداسات الجاهلية
ومن أسباب الضغينة: بناء القداسات الجاهلية, فلان أسرته عريقة, ونحن لا نلغي الأنساب ولا نتعدى عليها؛ لكن إذا كانت على حساب الآخرين فنقول كما قال الله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وإلا فالناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.
أيها الإخوة الكرام انطلاقاً من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] اجتمعنا سائلين الله أن يؤلف بين قلوبنا تحت راية لا إله إلا الله, وتحت عدالة ولاة الأمر في بلادنا الحبيبة, الذين نسأل الله لهم صباحاً ومساء التأييد والنصرة والهداية, ونسأل الله عز وجل أن يوفقهم لما فيه صلاح العباد والبلاد, وأن يأخذ بأيديهم لما يحبه ويرضاه, وأن يرزقهم البطانة الصالحة, وأن يهدي قلوبنا إلى طاعته, وأن يبعد عنا كل ما يشوبنا من سوء أو معصية أو فتنة.
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:193].(274/29)
الأسئلة(274/30)
حكم الاقتراض مع الفائدة
السؤال
هناك قضية مهمة انتشرت بين الكثير من الناس؛ وذلك نظراً للتشجيع على هذه القضية ألا وهي قضية الاقتراض مع الفائدة, سواء من البنوك أو من بعض المقرضين؟
الجواب
صورة هذا أن يأتي رجل إلى البنك, أو إلى رجل غني فيأخذ منه قرضاً بفائدة, يقول: أعطني مائة ألف أعيدها بعد سنة مائة وعشرة آلاف, هذا ربا وهو حرام, وما يفعل في البنوك الربوية بهذه الصورة من القرض فهو محرم بالإجماع, وقد نبه عليه هيئة كبار العلماء في بلادنا, وعلماء السلف مجمعون على تحريمه.
فالقرض بفائدة رباً محرم لا يجوز للإنسان أن يفعله أبداً, حتى القرض على منفعة, كأن يقول: أقرضني مائة ألف وأعيد لك مائة ألف على أن أؤجر لك بيتي هذا, وأقرضني مائة ألف على أن أؤجر لك مزرعتي فهذا محرم, كل قرض جر منفعة فهو ربا, لأن طلب القرض أجر من الله, ومن أقرض مسلماًَ مرتين كأنما يتصدق عليه مرة واحدة.
وصورة أخرى في البنوك: وهي أن يذهب إلى البنك ويقترض مائة ألف فيعطونه تسعين ألفاً ويخصمون عشرة آلالف, فهذا ربا محرم بالاجماع.(274/31)
التضايق من الأحكام الشرعية
السؤال
يسود بين الناس عامة والعوام خاصة مسألة خطيرة وهي مسألة التضايق من بعض الأحكام الشرعية, لماذا؟
الجواب
لأنها مخالفة للعرف, يوجد هذا بين بعض الناس لجهلهم, وفي بعض المناطق والقبائل يتضايقون من الشريعة.
هم لا يصرحون لكن في قلوبهم تضايق, قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] وقال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
وذلك مثل تحريم الشريعة لاختلاط الرجال الأجانب بالنساء كأخي الزوج؛ لكن أعراف بعض القبائل تقول: لا.
لا بأس؛ لأن أخا الزوج من أهل البيت, ويتضايقون من أمر الشريعة.
مثل نهي الشريعة عن الإسراف في الحفلات والولائم؛ ولكن بعض الناس يقولون: لا.
هذا من الكرم ومن الخير.
ومثل تحريم الشريعة للعصبية الجاهلية لكن من الناس من يقول: لا.
هذه شجاعة, وهذه هي النصرة وحفظ مكانة الجدود, وهذه هي الشهامة والمروءة.
والشريعة تحرم التحزب للظالم, أي: أن التحزب للظالم محرم بالإجماع لكن أهل الجاهلية يقولون: انصر أخاك وينشدون أشعاراً من أشعار الجاهلية:
ما للواحد إلا رفيقه إما باعه وإلا شراه
أي: سواء أكان ظالماً أو مظلوماً, أي: ولو كان في النار, وبعضهم يقول: أريد أن أدخل مع جماعتي ولو في نار جهنم, نعوذ بالله من الخزي والخذلان, هذا كله محرم.
فلذلك يقول ابن القيم فيهم: "قوم يعارضون أحكام الله بأعرافهم, قوم انسلخت عقولهم من أنوار الشريعة" أو كما قال, أي: ما عندهم في الشريعة شيء ويقولون: سلومنا وأعرافنا وعاداتنا وعادات آبائنا وأجدادنا، وهذه كلها في التراب إذا عارضت الشريعة, ومن تمسك بها ففي رأسه طاغوت, وهو محارب لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام.(274/32)
حكم تذكر النجاسة في الصلاة
السؤال
كان معي منديل وقعت عليه نجاسة, فلما جففته وضعته في جيبي, ثم قمت إلى الصلاة فتذكرت بعد التكبير أنه في جيبي فرميت به وأكملت الصلاة؟
الجواب
في هذه المسألة صورتان اثنتان:
الصورة الأولى: هل تنتهي النجاسة بالجفاف بريح وشمس؟ قاله الأحناف وعارضهم الجمهور, والصحيح في ذلك: أن النجاسة لا تنتهي حتى يغسل هذا القماش غسلاً ولو أذهبته ريح أو الشمس.
أما ما فعلته فصلاتك صحيحة, وما دام أنك تذكرت فإنك لا تقطع صلاتك ولكنك تخرج المنديل احتياطاً وورعاً وتصلي وصلاتك صحيحة والذي فعلته هو على السنة مستقيم مع الأدلة ليس فيه ما يخالف إن شاء الله.(274/33)
حكم هجر المسجد بسبب الخصام
السؤال
تخاصم والدي مع عدة أفراد من قريتنا، وعلى أثر ذلك الخصام حلف بالطلاق ألا يصلي في المسجد, وكان من قبل محافظاً على الصلاة في المسجد, فلما تخاصم جعل الناس هم العلة, ويصلي في البيت منذ حوالي خمس سنوات, وحاولت فيه ولكني عجزت, وأدخلت أناساً يحبهم فرفض رفضاً قاطعاً, فماذا أفعل تجاهه؟
الجواب
هذا خصيمه الله وليست الجماعة, وإنما أضر نفسه, وخذل إيمانه ويقينه, وجعل بينه وبين النار خندقاً يوصله إليها إن لم يتب, لأن ترك صلاة الجماعة علامة من علامات النفاق الأكبر, وبعض العلماء استحل تحريق بيوت المستطيعين الذين يتركون الجماعة, أخذاً من الحديث الصحيح: {والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم بالنار} والأعمى استأذن الرسول عليه الصلاة والسلام أن يصلي في بيته فقال له: {أتسمع حي على الصلاة حي على الفلاح؟ قال: نعم.
قال: فأجب فإني لا أجد لك رخصة} حديث صحيح.
على هذا فإن الوالد ولو طلق -لأن طلاقه ليس طلاقاً للزوجة بل طلاقه من أجل أن يمتنع من المسجد- فيكفر كفارة يمين ويصلي مع الناس, ولا يلزم إذا صلَّى مع الناس أن يدخل بيوتهم؛ لا.
بيت الله ليس لأحد من الناس, قال الله سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] ومن غضب على المسجد فكأنما غضب على ربه ومولاه, وعلى دينه وعلى كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام, وهذا مرض النفاق, إذا غضب أحدهم على جاره وعلى قبيلته جعل المسجد العلة والعذر, وهذا خطأ.(274/34)
الذين يجب صلتهم من الأرحام
السؤال
من هم الأرحام الواجب عليّ أن أصلهم غير الأخت والبنت؟
الجواب
الأرحام قسمان:
1 - رحم يرث.
2 - ورحم حقه الصلة والزيارة.
فأنت تنزل الأرحام منازلها, وأقرب الأرحام إليك أبوك وأمك, ثم بناتك وأولادك, ثم الأقرب فالأقرب العمة والخالة وهكذا , حتى يصل الرحم إلى من لا يَمُتُّ لك إلا برحم من بعيد, فهذا حق عليك الزيارة والمواساة والمصافاة, لأن هناك رحماً توصل بالإرث, ورحماً توصل بالزيارة, ورحماً بالتعاهد, وفي حديث يروى عنه عليه الصلاة والسلام: {تعلموا من أنسابكم ما تصلوا به أرحامكم}.
كان عليه الصلاة والسلام يسأل عن أرحام أو أقارب خديجة زوجته عليه الصلاة والسلام ويصلهم ويتعاهدهم بالهدية والزيارة صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث: {إن من أبر البر أن تصل ود أبيك بعد أن يولي أبوك} وورد في حديث صحيح أن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه خرج إلى مكة ومعه ناقة وحمار, كان يتروح على الحمار إذا تعب من ركوب الناقة, فمرّ به أعرابي, فنزل ابن عمر من على الحمار وأعطى الأعرابي الحمار والعمامة, فقال الصحابة: يا ابن عمر! كنت ترتاح على هذا فما لك؟
قال: إن أبا هذا كان صديقاً لأبي، وإني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه} فوصله ابن عمر , من أجل أبيه عمر رضي الله عنه وأرضاه.(274/35)
قول: (صدق الله العظيم) بعد تلاوة القرآن
السؤال
ما حكم قول: صدق الله العظيم، بعد تلاوة القرآن؟
الجواب
الصحيح عند المحدثين أنها بدعة, وأنها لا تقال بعد التلاوة, لأنها لم تثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام, نعم ورد في القرآن: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95] لكنها وردت آية ولم ترد في آخر القرآن أو بعد التلاوة, وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} ولم يقلها صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه.(274/36)
حكم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما حكم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم متعمداً وهل له توبة؟
الجواب
نعم له توبة, المشرك إذا أسلم تاب الله عليه, وكذلك السارق وشارب الخمر, ومن كذب على الرسول صلى الله عليه وسلم أو استهزأ بالقرآن, إذا تاب فالله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] لكن يقول أهل العلم: "يبدل السيئة بالحسنة" مثل ماذا؟ مثل أن يبدل كذباته عن الحديث فيأخذ الأحاديث الصحيحة ويرويها للناس, ويتثبت في قوله, ويكون مع الصادقين دائماً قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].(274/37)
الافتخار بالنسب وأذية الناس
السؤال
ما هي كلمتك لمن يتصدر المجالس بالافتخار, وهي عادة جاهلية, ويتمنى أن يقتل الآن عشرة من قبيلة كذا, ويشتم المتمسكين بالدين؟
الجواب
هذا يوجد في الجهلة حيث يفتخر أحدهم على القبائل, وأنهم فعلوا وفعلوا وصنعوا, وهذا يُوصى وينصح, ويطلب منه أن يتوب ويستغفر مما فعل, فإنه ليس مفتخراً فقط, بل هذا يذكر ذنوبه ويفضح نفسه, والله عز وجل يغفر للناس إلا المجاهرين, لكن يجوز للناس ولكبار السن أن يذكروا ما حدث في الجاهلية, لا على سبيل الافتخار, ولا على سبيل إثارة الحقد ولا الفتنة, كأن يقول: كان آل فلان يتقاتلون على كذا!
وذكر الشعر الجاهلي لا بأس به؛ كان عليه الصلاة والسلام يجلس مع الصحابة فيتناشدون أشعار الجاهلية, ويتذاكرون أخبار الجاهلية فيضحكون ويتبسم عليه الصلاة والسلام.
وأما من يتمنى أن يقتل عشرة من بعض القبائل فهذا حسيبه الله, فهذا دليل أنه ما وعى من الإسلام شيئاً, ولا عنده من الإسلام إلا صوراً, يعرف يخفض رأسه ويرفعه بالصلاة, لكن ما دخل الإيمان قلبه, قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {والذي نفسي بيده، لو تآمر أهل الأرض والسموات -هذا يصححه الألباني وغيره- على قتل امرئ مسلم لكبهم الله على وجوههم في النار, ولزوال الدنيا بأسرها أهون على الله من قتل امرئ مسلم}.(274/38)
من أخذ أرضاً ليست له
السؤال
يوجد لدينا أناس يقطعون حججاً على أراضي على أنها عن طريق الإرث, وليست عن طريق الإرث, وإنما هي أرض بيضاء فكيف صحت هذه؟
الجواب
أولاً: أرض الإرث تورث بالشهادة, ومن شهد على شيء وقد افترى فهو من الكاذبين عند الله, وورد عند ابن عدي في حديث في سنده نظر: {على مثلها فاشهد} والله يقول: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان, قالوا: ولو كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: ولو كان قضيباً من أراك} وفي حديث آخر: {من اقتطع قيد شبر من أرض؛ طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين} فلا يجوز للمسلم أن يأخذ شيئاً إلا إرثاً, أما الأرض البيضاء فهي لمن أحياها, إلا إذا كان هناك فتنة, وقد خيف من تدخل القبائل وكثرة الدماء فإن لولي الأمر أن يتصرف بما يراه, وأما إذا لم يكن هناك فتنة فالأرض البيضاء لمن أحياها, يسور عليها سوراً, أو يبني عليها بناء، أو يحفر فيها بئراً، أو يزرع فيها مزرعة, بشرط ألا تكون لأحد من الناس, وليس لأحد عليها يد, هذا هو الصحيح.
ومن يشهد على هذه الصكوك وهو لا يعلم هل هي إرث أم غيرها, فهو من الكذابين عند الله المسودين وجوههم, كما يقول بعض العلماء في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] قال: تسود وجوه شهداء الزور, وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] ويقول عليه الصلاة والسلام: {ألا أدلكم على أكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله, قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين, وكان متكئاً فجلس, وقال: ألا وشهادة الزور, ألا وشهادة الزور, ألا وشهادة الزور, وما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت}.(274/39)
حفلات الأعراس
السؤال
لا يزال بعض الأفراد في هذه المناطق يمجدون ويتباهون بإقامة الحفلات في الأعراس, فهلّا أعطيتهم نصيحة وأرشدتهم إلى البديل من تلك الحفلات؟
الجواب
هذه والحمد لله خفت وقلت, ولو أنها توجد ولكنها أقل مما كان, وكان في هذه الحفلات أمور من المنكرات منها:
1 - أن فيها تضييعاً للأوقات, وأشرف شيء في الحياة الوقت قال الله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:112 - 115].
2 - ومنها الإسراف في الذبائح والولائم, والإسراف في إعطاء الشعراء, وهؤلاء الشعراء دجاجلة (جمع دجال) لا يقولون الحق بل يقولون الزور, وهم أتباع للشيطان.
من الشعراء ممن سمعنا -وهذا يقين, وشهد عليه شهود- أنه كان يتغزل بمحارم الناس وهو في وسط القبائل, ومنهم من كان يوشي الفتنة بين القبائل, ويمدح هذه على حساب تلك, ومنهم من كان يفخر بالباطل, ومنهم من كان يأكل أموال الناس بالباطل, يمدح الرجل ويكذب على الله ليأخذ ماله, فهؤلاء لا يجوز إعطاؤهم أجرة ولا أخذهم فإنه حرام إعطاؤهم شيئاً.
3 - تقسي القلوب, وتنسي لقاء علام الغيوب, وتضيع ما في الجيوب, وعدد من هذه الذنوب والعيوب.
ما هو البديل؟ البديل ذكر الله عز وجل, البديل الاقتصار في هذه الحفلات على اجتماع الصالحين على برنامج طيب, وهناك برنامج معد من عشر فقرات مقترح من سنة أو أقل, يصلح لكل قرية ولكل قبيلة, ولا يلزم أن تستدعي داعية أو شيخاً أو طالب علم؛ باستطاعتك أن تسلم هذا البرنامج إلى مدرسة ابتدائية أو ثانوية أو متوسطة تسلمه للمدير, وهو يهيئ لك أسرة من أسر المدرسة يقيموا لك هذا البرنامج, هذا البرنامج عشر فقرات تقريباً, منها قراءة آيات خمس دقائق أو ست, أحاديث نبوية يقرأها طالب, نشيد إسلامي يقدمه بعض الطلبة, لعبة حية رياضية أو غيرها, فكاهات, مجلة النادي, قصيدة شعرية, قصة, سيرة صحابي, هذه تقوم بها أي مدرسة, ويعم الخير والنفع.(274/40)
حلق اللحية
السؤال
ما حكم حلق اللحية؟
الجواب
حلق اللحية حرام بالإجماع؛ فهو من علامات الفسق, وما علمت عالماً أجاز حلق اللحى من علماء المسلمين أبداً, بل جعلوه محرماً, وكانوا يعزرون عند السلف في القرون المفضلة -وهي القرن الثاني والثالث, وعند بعض الناس, وأظن هذا ليس من الأحكام الشرعية- فكانوا يعزرون عند بعض الجبابرة من أهل الشمال -السلاجقة- بحلق لحيته, أي: إهانة له.
أما هديه عليه الصلاة والسلام في اللحية فهو إرخاء لحيته عليه الصلاة والسلام, ولذلك لما وفد إليه رسل باذان عامل كسرى وهم حالقو اللحى, قال: {من أمركم بهذا؟ قالوا: ربنا أي: ملكنا, قال: فإن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي} أو كما قال عليه الصلاة والسلام, وقال: {خالفوا المجوس جزوا الشوارب وأرخو اللحى} وفيه أحاديث كثيرة.
بعض الجهات يقولون إن تربية اللحية سنة, لا, هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم نعم لأنه رباها, لكنها واجب وحلقها محرم بالاجماع.(274/41)
حكم السلام على من لا يرد السلام
السؤال
لي جار ألقي عليه التحية الإسلامية فلا يردها عليّ, علماً أنه ليس بيني وبينه شيء؟
الجواب
عليك أن تسلم عليه سواءً رد أو لم يرد, كلما لقيته فسلم عليه, وعند أحمد في المسند عن أبي أمامة: {أولى المؤمنين بالله من بدأهم بالسلام} وعليك أن تسلم عليه فإذا لم يرد عليك فالملائكة ترد عليك, وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لا يحل لامرئ مسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث ليالٍ, يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام}.(274/42)
لبس الكفوف للنساء
السؤال
ما رأيكم في هذه الكفوف التي يرتديها النساء لتغطية أكفهن؟
الجواب
لا بأس بها وهي من الحجاب, سواء هي أو غيرها مما يغطي الكفين, لأن الكفين في غير الصلاة من زينة المرأة, إلا وجهها وكفيها في الصلاة لحديث الدارقطني وغيره, فأما المرأة فعليها أن تغطي كفيها بكفوف أو غيرها وهي أقرب للحجاب الشرعي, وهي أتقى لله وأورع وأزكى وأطيب وأحسن.(274/43)
العباءة فيها خرز وأزرار من نفس لونها
السؤال
ما رأيكم في العباءات التي يكون فيها بعض الخرز والزرر وهي من نفس لون العباءات؟
الجواب
ما أرى فيها بأساً إن شاء الله, وليست من الزينة الملفتة للنظر, لكن لا تكون شيئاً من ذهب أو شيئاً من ألوان مخططة, لا.
تكون عامة لونها السواد, لكن مثل هذه الخرز ما أرى فيها بأساً إن شاء الله.(274/44)
منع البنات من الزواج لمصلحة الأب
السؤال
نريد أن تحث بعض أولياء الأمور لتزويج بناتهم إذا أتاهم من هو كفؤ لهن؛ لأن كثيراً من الأولياء يحجر على بناته لراتب أو غيره.
الجواب
هذا موجود في المجتمع, ولعله أن يقل, أي: يوجد بعض الناس -الإقطاعين الرأسماليين- يبقى بالمرصاد في البيت لابنته لا يزوجها من أجل راتبها, فتبقى خادمة موظفة عنده في البيت يحاسبها رأس كل شهر, وهذا حسيبه الله عز وجل, وهذا الرجل في رأسه خور, وهذا يعزر من قبل الأئمة, ويؤخذ على يديه إذا فعل هذا, أو ينصح ويتقي الله عز وجل في ابنته, وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض}.
وعلى الشباب كذلك ألا يتهيبوا من الزواج, فإنه غنىً بإذن الله.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين, وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(274/45)
من أخبار علمائنا
في هذه المادة يقف بنا الشيخ على كثير من قصص العلماء في تحملهم لمشاق طلب العلم، وبذلهم العلم لمحتاجيه، وقولهم كلمة الحق لا يخافون في الله لومة لائم، وزهدهم في الدنيا، وخشيتهم لله تعالى، وتأليفهم، وتواضعهم.(275/1)
طلب العلم
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، الحمد لله ما اجتمع الصالحون، وما تواصى الأخيار الأبرار المفلحون، والحمد لله ما ذكر إلَهَهم الذاكرون، والحمد لله ما غفل عن ربهم الغافلون.
وصلى الله وسلم على المعلم الأول، الذي أتى وقال الله له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] وأتى بـ {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] الذي تكلم للناس، فكان أفقههم، لم يقرأ ولم يكتب.
كفاكَ باليُتم في الأمِيِّ معجزةً في الجاهلية والتأديب في اليُتَمِ
وصلى الله وسلم على آله مصابيح الدجى، وغيوث الندى، وليوث الردى، ومن سار على منهجهم إلى يوم الدين واقتفى.
شكر الله لفرع جامعة الإمام نشاطها، وزادها توفيقاًَ وهداية ورشداً، وشكر الله لأخي وزميلي الشيخ عبد الله بن محمد بن حُميد على تقديمه، وشكر الله لكم حضوركم.
عنوان هذا اللقاء: (من أخبار علمائنا) وإنها لأخبار عجيبة وجميلة، يطرب لها القلب، وتتشنف لها الآذان، وتثلج بها الصدور.
أخبار علمائنا الذين جعلهم الله عزَّ وجلَّ كأنبياء بني إسرائيل، لكنني سوف أقص عليكم قصصاً عجيبة من أخبارهم.
أما عناصر هذه المحاضرة فهي كالآتي:
العنصر الأول: تحملهم المشاق في طلب العلم.
العنصر الثاني: زهدهم في الدنيا وإعراضهم عنها.
العنصر الثالث: قولهم كلمة الحق، لا يخافون في الله لومة لائم.
العنصر الرابع: بذلهم العلم لطالبيه، ونشرهم المعرفة.
العنصر الخامس: خشيتهم لله تعالى.
العنصر السادس: تأليفهم وتراثهم الخالد.
العنصر السابع: تواضعهم لربهم تبارك وتعالى.
العلم أشرف مطلوب، وهو يوصل صاحبه إلى جنة عرضها السماوات والأرض، أو يوصله إلى نار تلظى.
مِن الناس مَن طلب العلم، فكان حجة عليه وخيبة وندامة، ومِن الناس مَن كان كالحمار يحمل أسفاراً، كما قال الله عزَّ وجلَّ في علماء بني إسرائيل: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] وقال في عالِمهم الضال المجرم: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176].(275/2)
صون العلم وتعظيمه
هذا عبد العزيز الجرجاني كان عالماً، وهو أديب عجيب، وقصيدته من أحسن القصائد، وكان ينقبض عن الناس، فقال له الناس: " ما لك تعتزلنا، ولا تخالطنا، ولا تذهب إلى السلاطين؟ " فردَّ عليهم بقصيدة هي من أحسن ما حظي به الأدب العربي، يقول من ضمن أبياتها:
يقولون لي فيكَ انقباضٌ وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أأشقى به غَرْساً وأَجنِيْهِ ذلَّةً إذاً فاتباعُ الجهل قد كان أحزما
ولم أبتذِلْ في مطلب العلم مُهجَتي لأخدم مَن لاقَيْتُ لكن لأُخدَما
إلى أن يقول:
ولو أن أهل العلم صانوهُ صانَهم ولو عظَّموه في النفوس لعُظِّما
ولكن أهانوه فهانوا ودَنَّسوا مُحَيَّاهُ بالأطماع حتى تَجَهَّما
قال أحد أهل السِّيَر: " كان من العلماء المسلمين عالِم طلب العلم وحفظ القرآن والحديث، ثم أدركه الخذلان والعياذ بالله، خرج إلى المسجد يصلي، فنظر إلى بيت من البيوت، فرأى امرأة طَلَّت عليه كشمس الضحى، لكنها نصرانية، مسيحية، ملحدة، كافرة، فوقع عشقها في قلبه، فترك المسجد، وعاد إلى البيت، فراسلها، فاشترطت عليه ألا يتزوجها إلا إذا ارتد عن الإسلام - لا إله إلا الله {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]- حاول أن يتزوجها فقالت: مهري أن تترك الإسلام، والمسجد، والقرآن، فتزوجها بعد أن ارتد عن الإسلام، وذهبت به إلى أرض المسيحيين النصارى، فمرَّ به أحد زملائه، فوجده يرعى الخنازير.
وانظر إلى سوء الخاتمة وسوء المنقلب، {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] وجَدَه يرعى الخنازير، فقال له: يا فلان! أين القرآن؟ وأين الحديث؟ قال: والله ما أصبحت أحفظ من القرآن إلا آية واحدة، قال: ما هي؟ قال: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2] " هذ الآية منطبقة عليه في هذه الحالة.(275/3)
تحمل المشاق في طلب العلم
أما تحمل علمائنا للمشاق: فأمر عجيب، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ذكر موسى في القرآن، وأخبر أنه ركب البحر في طلب العلم، وبوَّب البخاري في كتاب العلم: (باب ركوب البحر في طلب العلم) وموسى عليه السلام قد وقف خطيباً في بني إسرائيل، فقالوا له: أتعلمُ أعلمَ منك في الأرض؟ قال: ما أعلمُ أعلمَ مني، فلامه الله وعاتبه على أنه ما ردَّ العلم إلى الله، فقال الله: بل عبدنا بـ مجمع البحرين الخضر أعلمُ منك.
فسافر إليه وطلب منه أن يعلمه، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يتابع قصة موسى والخضر في القرآن باشتياق، فلما انتهت القصة وقال الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78] قال عليه الصلاة والسلام: {رحم الله موسى، ودِدْتُ أنه صبر حتى يُقصَّ علينا مِن نبئهما} يقول أهل العلم - والحديث صحيح -: {لما ركب موسى والخضر عليهما السلام في القارب، وأصبحوا في البحر، وإذا بعصفور ينقر من البحر - يشرب من البحر - فقال الخضر: يا موسى! ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أنقص هذا العصفور من هذا البحر}.
ذكر البخاري: سافر جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه شهراً كاملاً في طلب حديث واحد من المدينة إلى الصحابي الجليل عبد الله بن أنيس في مصر، في العريش، فخرج عبد الله بن أنيس ورأى صاحبه فعانقه، فقال له: [[ادخل واجلس، قال: لا.
إنما خرجت لوجه الله، ولا أريد أن أفسد هجرتي، أريد الحديث الذي سمعتَه من الرسول عليه الصلاة والسلام]] فأخذ الحديث وهو واقف، ثم ركب ناقته وانصرف.
أما سعيد بن المسيب فيقول عن نفسه: [[والله الذي لا إله إلا هو، لقد كنت أسافر الثلاثة الأيام بلياليهن في طلب حديث واحد]] ولذلك بارك الله في علمهم وجهدهم، رغم أنه لم يكن عندهم ما عندنا من الوسائل الحديثة: كالسيارات، والهواتف، والمطاعم الشهية، والمراكب الوطية، والملابس الهنيَّة المَرِيَّة، ولكن قلَّ التحصيل، ونشكو حالنا إلى الله الواحد الأحد.
يذكرون عن القفال - أحد علماء الشافعية - أنه سافر لطلب العلم، وكان عمره أربعين سنة، فلما مشى في الطريق، قال له الشيطان: "كيف تطلب العلم في الأربعين؟ - والشيطان يوسوس - فرجع من الطريق، ولما رجع مرَّ برجل يعمل على سانية، والساقية وكان الرجل يُخرج الماء من البئر، وقد أثر الرشا والحبل في الصخر، فقال القفال بعدما اعتبر بتأثير الحبل في الصخر مع المداومة:
اطلب ولا تضجر من مطلب فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بطول المدى على صليب الصخر قد أثرا
قيل لـ عامر الشعبي وهو عالم جليل: " بم طلبتَ العلم؟ قال: بصبر كصبر الجمال، وببكور كبكور الغراب "، يبكر في الصباح مثل بكور الغراب، من بعد صلاة الفجر يطلب العلم، ويصبر كصبر الجمال في طلبه حتى حصله.
كم سافر الإمام أحمد؟ دخل أكثر من ثلاثين إقليماً في طلب الحديث، مشياً على رجليه، معه بُقْشَة فيها خُبْزُه من شعير وملح، دخل خراسان، ومدنها: سمرقند، وبخارى، وتركستان، وطشقند، والسند، وأطراف الهند، وأطراف أفغانستان -على ما يُنقَل في سيرته- ودخل مصر والعراق، والحجاز، وذهب إلى الشام، ثم دخل اليمن، وطاف الأقاليم، حتى قال بعضهم: " لو جُمِعَت سَيرته، أو المسافات التي سارها لطوقت الدنيا ".
كان يمشي ليل نهار، ذهب إلى عبد الرزاق في صنعاء يطلب العلم منه، فوفقه الله بـ عبد الرزاق وهو يطوف عند البيت، فقال يحيى بن معين: " يا أحمد! هيا بنا، هذا عبد الرزاق قد حضر نأخذ العلم منه ونعود، قال أحمد: أنا خرجت لله، وأريد أن يعود عبد الرزاق إلى صنعاء؛ لأذهب إليه ولتكون سفرتي في سبيل الله، فلما عاد عبد الرزاق إلى صنعاء، سافر الإمام أحمد إليه، وانتهى ما لدى الإمام أحمد من شرابه وطعامه حتى قال: عملت حصَّاداً في بعض الأيام لنفقة بطني " عمل حصاداً يحصد الزرع لما انتهت نفقته في طلب الحديث، وعاد بحديث كثير، وترك لنا: المسند، الذي لو كُتِب بالدموع أو بالدماء ما أنصف.(275/4)
الإنفاق في طلب العلم
أما الشافعي: فقالوا: " أنفق ثلاثين ألف دينار " وهي ميزانية هائلة، كان كلما أتاه عطاءٌ أنفقه في طلب العلم، سكن مكة مع أمه، وكانت فقيرة، وبيتهم كان ضيقاً، فكان يذهب يطلب العلم، ولا يجد أوراقاً؛ لأنها غالية الثمن -ونحن عندنا مطابع ودفاتر ووسائل وترجمة، لكن: أين من يُحَصِّل؟! - فكان يأخذ اللخاف، والرقاع، والعظام، والصخور الملساء، ويكتب فيها العلم بالفحم، حتى ضيَّق على أمه السكنى، وقالت: " يا بني! أنخرج ونترك البيت لكتبك؟ " - أي: أصبح الدار مكتبة، وأصبح هو وأمه في طرف البيت.
ثم ذهب إلى البادية، فحفظ أشعار ثلاثين شاعراً من شعراء هذيل، ثم عاد، فقال له رجل من أهل مكة: " إني أراك نابها، ً فصيحاً، ذكياً، فاذهب إلى عالم المدينة مالك بن أنس، فاطلب منه العلم "، فذهب.
قال الشافعي: " حفظتُ الموطأ في تسع ليالٍ "، لا إله إلا الله! الموطأ مجلد كامل تعادل آثاره، وأحاديثه، ومقطوعاته، ومرسلاته، وموقوفاته ثلاثة آلاف حديث حفظه في تسع ليالٍ عن ظهر قلب، فلما جلس عند الإمام مالك، كان يقرأ عليه، فقال له: " إني أرى عليك نوراً، فلا تفسده بالمعصية ".(275/5)
الصبر والذل في طلب العلم
أما عطاء بن أبي رباح فكان عبداًَ -وكلنا عبيدٌ لله، والإسلام لا يعترف بالدماء، ولا بالأنساب، ولا بالقبائل، ولا بالأسر؛ ولكن ميزانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]- لامرأة من مكة، فأصيب بمرض الشلل، وأصيب بمرض في جسمه، فتركته، فمكث في الحرم ثلاثين سنة يطلب العلم، حتى بَرَّز في العلوم، يقول: [[ما رفعت فراشي من الحرم مدة ثلاثين سنة]] ليلاً ونهاراً وهو يطلب العلم؛ حتى أصبح عالم المسلمين.
أما ابن عباس: وكان الأَولى أن يُقدَّم في هذا الباب، ولكننا نقدمه مهما تأخر لفظاً فإنه متقدم رتبة.
ابن عباس رضي الله عنهما قال -واسمَع لهذه العبارة وقد صحَّت عنه--: [[ذَلَلْتُ طالِباً فَعَزَزْتُ مطلوباً]] ويقولون:
العلمُ حربٌ للفتى المتَعالي كالسيل حربٌ للمكان العالي
فمن تكبر لا ينال العلم.
وعند البخاري موقوفاً على مجاهد: [[لا ينال العلم مستحٍ ولا مستكبر]].
فلا إله إلا الله! ما أحسن طلاب العلم إذا تواضعوا في طلبه! قالوا لـ ابن عباس: كيف حصلت العلم؟ قال: [[كنت أخرج في الظهيرة في شدة الحر، فأذهب إلى بيوت الأنصار، فأجد الأنصاري نائماً، فلا أطرق عليه بيته، فأتوسد بُرْدي عند باب بيته، فتلفحني الريح بالتراب، فيستيقظ الأنصاري، ويقول: يا بن عم رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ألا أيقظتني أُدْخِلك؟ فأقول: أخاف أن أزعجك]] فأصبح عالم الأمة رضي الله عنه وأرضاه، ولنا عودة لهذا العنصر.(275/6)
زهدهم في الدنيا وإعراضهم عنها
أما زهدهم في الدنيا وإعراضهم عنها: فمن يعرف الدنيا ويذوقها ويستمرئها فإنه سوف يعرف أنها لا تساوي شيئاً، وأشرف ما تطلبُه في الحياة أن تنقذ نفسك من النار: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
قيل لأحد العلماء: " كيف عرفت الدنيا؟ قال: دلني العلم على الزهد فيها ".
وفي حديث اختلف أهل العلم فيه، بعضهم يصححه، وبعضهم يضعفه، وأرى أنه حسن: {ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس} والناس اليوم قد زهدوا في ما عند الله.
وقد صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلاَّ ذكر الله وما والاه، أو عالم، أو متعلم} سكنوا القصور، وعمروا الدور، وتوسعوا في البساتين والحدائق، لكنها بلا إيمان لا تساوي شيئاً، أما الصالحون من العلماء والعباد والزهاد فرأوا أن طريق الجنة بالزهد في الدنيا لأن الله يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16] {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].(275/7)
زهد الخوارج
هذا عمران بن حطان شاعر خارجي، والخوارج فيهم ثلاث صفات سيئة -وهم كلاب النار- وفيهم ثلاث صفات جيدة: فهم زُهَّاد، وصادقون، وشجعان.
أما الشجاعة: فيضربون الرءوس ويقطعونها تقطيعاً بارعاً.
وأما الزهد: فلا يلتفتون إلى الدنيا أبداً.
وأما الصدق: فلا يكذبون، ولذلك قَبِل البخاري رواية عمران بن حطان في الصحيح.
وعمران هذا هو صاحب الأبيات المشئومة، في قُتِل علي بن أبي طالب مِنْ قِبَل ابن ملجم؛ قال ابن حطان يمدح ابن ملجم:
يا ضربةً مِن تقيٍّ ما أرادَ بها إلا ليبلُغ مِن ذي العرش رِضوانا
إني لأذكرُه يوماً فأحسَبُه مِن خير خلق عباد الله ميزانا
فرد عليه علماء أهل السنة، وقالوا لـ عمران ذاك:
يا ضربةً مِن شقيٍّ ما أرادَ بها إلا ليبلُغ مِن ذي العرش خسرانا
إني لأذكرهُ يوماً فألعَنُه وألعنُ الكلبَ عمران بن حطانا
وذكر الذهبي أن عمران هذا أوقف قتادة بن دعامة السدوسي أحد علماء أهل السنة، وأخذه بتلابيب ثوبه -وكان قتادة أعمى- ثم قال: " يا قتادة! اسمع أبياتاً لي في الدنيا ما قالها أحد، قال: قُل قال:
أرى أشقياءَ الناسِ لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجوَّعُ
أراها وإن كانت تَسُرُّ فإنها سحابةُ صيفٍ عن قليلٍ تَقَشَّعُ
"
والمعنى: أنهم لا يسأمون الدنيا، وأشقياء الدنيا خدم أهل الدنيا.(275/8)
زهد العلماء في الأعطيات
لما فتح أجدادنا كابل وهي عاصمة أفغانستان، وكان قائدهم قتيبة بن مسلم -لله دره- وكان قبل المعركة يسجد ويبكي، ثم يسأل الله النصر فيفتح الله عليه، كان رجلاً قوياً مهاباً، يقولون: إذا دخل المسجد، كان ينكس رأسه، لكيلا يصطدم رأسه بسُرج المسجد لأنها كانت مسرجة بالزيت، وآتاه الله قوة في الجسم، وشجاعة هائلة، ذهب لفتح كابل بمائة ألف من المجاهدين المسلمين، وكان معهم محمد بن واسع الزاهد العابد، عالِِم أهل الكوفة، ومحمد بن واسع أزدي، أجداده من الجنوب والطحاوي وعبد الغني المقدسي من الجنوب، ولا تَمَيُّز ولا نفتخر بذلك، ولكن عَلَّ الابن أن يقول:
نبني كما كانت أوائلُنا تَبْنِي ونفعلُُ مثلما فعلوا
هم القومُ يَروُون المكارمَ عن أبٍ وجَدٍّ كريمٍ سيِّدٍ وابنِ سيِّدِ
وهَزَّتُهم يوم الندى أرْيَحِيَّةٌ كأن شربوا مِن طعم صهباءَ صرخدِ
يقولون لـ محمد بن واسع: " لماذا لا تتكئ؟ -وكان يجلس دائماً خائفاً- فقال: لا يتكئ إلا الآمن، وأنا لست بآمن، لا أتكئ حتى أجوز الصراط " إذا تعديتُ الصراط فسوف أتكئ، أما في الدنيا فلا.
وصل محمد بن واسع وقتيبة، وقبل أن تبدأ المعركة بوقت بسيط، قال قتيبة للمسلمين: " ابحثوا لي عن محمد بن واسع، فذهبوا فوجدوه قد صلى ركعتي الضحى، ثم قام بالرمح واتكأ عليه، ورفع سبابته إلى الحي القيوم وهو يقول: يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث، اللهم انصرنا.
فعادوا إلى قتيبة فأخبروه، فدمعت عيناه وقال: والله الذي لا إله إلا هو لأصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف سيف شهير، ومن مائة ألف شاب طرير.
وبدأت المعركة وانتصر المسلمون، وأتوا بالغنائم كرءوس الأبقار من الذهب والجواهر والدرر، فالتفت قتيبة إلى الغنائم وقال: ما رأيكم لو عرضت هذه الأموال على أحد من الناس أيَرُدَّها؟ قالوا: ما نرى أحداً يرفضها - مَن الذي يرفض الذهب والمال والدرر والجواهر؟ - قال قتيبة: والله لأرينكم قوماً من أمة محمد عليه الصلاة والسلام المال عندهم مثل التراب، نادوا لي محمد بن واسع فأتى، فقال له قتيبة: خذ هذا المال - مثل رأس البقرة من الذهب- فأخذه محمد بن واسع، فقال قتيبة: اللهم لا تخيب ظني فيه!
فخرج به من الخيمة، فقال قتيبة لأحد الجنود: تتبع محمد بن واسع وانظر أين يذهب بالمال؟ فتتبعه وقد أخذ صرة الذهب، فمر فقير في الجيش وهو يسأل الناس، فأنا فقير، فأعطاه كل المال، فذهب الجندي إلى الفقير، وقال له: أجب قتيبة، فأتى فقال له: من أين أخذت هذا المال؟ قال: من محمد بن واسع، فالتفت قتيبة بن مسلم إلى الناس، فقال: أتنظرون إلى زهدهم في الدنيا؟ "، هكذا كانوا؛ لأن رضوان الله لا يعادله شيء.
علي بن أبي طالب له كلمة تُسَجَّل بماء الذهب، وهي في صحيح البخاري، يقول: [[ارتَحَلَتِ الآخرةُ مُقْبِلَةٌ، وارتَحَلَتِ الدنيا مُدْبِرَةٌ، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل]].
كان علي من أزهد الناس، يقول - وهو يصعد على بغلته، ويمشي في الأسواق، ومعه ثوب -: [[أنا أبو الحسن، أهنتُ الدنيا أهانها الله]] كان لا يلتفت إليها أبداً، ولذلك عظَّم الله أجره في الآخرة ورفع ميزانه.
كلكم يسمع بـ سليمان بن عبد الملك، وأنا أريد أن أورد القصص أكثر مما أتحدث؛ لأن في قصصهم عبرة وحياة، قال مجاهد: [[القصص جند من جنود الله، يرسلها على من يشاء]] وقال أبو حنيفة: [[سِيَر أهل العلم وأهل الفقه أحب إلينا من كثير من الفقه]] فكانوا يتذاكرون السِّيَر.
كان سليمان بن عبد الملك الذي بويع على الخلافة ينظر في المرآة ويقول: [[أنا الملك الشاب، أنا السلطان الهيَّاب]] لكن الشباب والهيبة لم تفده، لما أتته سكرات الموت صُرِع وما أغنى عنه ماله، ولا نسبه، ولا أصله، ولا مُلكه، حَضَرَ سكرات موتِه عمر بن عبد العزيز الخليفة بَعْدَه، فأخذ سليمان يقول - وهو في سكرات الموت -:
أفلحَ مَن كان له كبارُ إن بَنِيَّ صبيةٌ صغارُ
بيتٌ واحد يقول فيه: أفلح الذي عنده أبناء كبار بوليهم الملك بعده؛ لأن أبناءه كانوا صغاراً، قال عمر بن عبد العزيز: [[لا يا سليمان.
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]]] أما من عنده أبناء صغار، أو كبار، أو سود، أو حمر لا يفلحون، {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196].
دخل سليمان المدينة، فسلم عليه أهل مدينة محمد عليه الصلاة والسلام، وباركوا له بالخلافة إلا قيس بن أبي حازم -أحد العلماء- لم يبارك له ولم يأت إليه، فأرسل له سليمان الجنود، فأتوا به فدخل عليه وقال: [[السلام عليكَ يا سليمان، قال: الناس يقولون: السلام عليكَ يا أمير المؤمنين وأنت تقول: يا سليمان، قال: لأني لم أبايعك بالخلافة، وأنت بُويِعْتَ بالخلافة على غير رضىً مني، فكيف أسميك أمير المؤمنين؟!
قال: ما لنا نحب الحياة ونكره الموت يا قيس؟
قال: لأنكم عمَّرتم حياتكم وخرَّبتم آخرتكم، فأنتم تكرهون الانتقال من العمار إلى الخراب، قال: ما رأيك أن تصحبنا؟ قال: كيف أصحبك؟ قال: أعطيك نصف ملكي وتصحبنا، قال: لا.
إن الله يقول: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113] وكم تعطيني من جناح بعوضة؟ أتعطيني نصف جناحها وقد قال عليه الصلاة والسلام: {لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء}]].
وسليمان هذا يبخت في القصص، محظوظ في المجابهات العلمية، دخل الحرم يطوف، فوجد سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وانظر إلى الثلاثة! عبد الله أفضل من سالم، وعمر أفضل من عبد الله، وابنه هو سالم.
إن العصا مِن هذه العُصَيَّةْ لا تَلِدُ الحيَّةُ إلا حَيَّةْ
كان سالم يطوف بالبيت وحذاؤه بيده -وهو زاهدٌ عابد يقولون عنه: ثَمَّنَّا ما عليه فوجدناها بثلاثة عشر درهماً- فمر سليمان بالموكب ومعه الوزراء والأمراء، فلما رأى سالماً توقف واقترب منه ليُقَبِّل يده لأنه عالم الأمة، فسحبها، فقال له سليمان: [[يا سالم! ألَكَ إليَّ حاجة؟ قال سالم: يا سليمان! أما تستحي من الله؟ أتعرض عليَّ المسائل في بيت الله؟ فتركه، فلما خرج عرض عليه السؤال، قال: ألَكَ إليَّ حاجة؟ قال: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا، أما الآخرة فلا يملكها إلا الله، قال: والله الذي لا إله إلا هو، ما سألت حوائج الدنيا من الذي يملكها وهو الله، فكيف أسألها منك؟]].
هذا درس للواعين والنابهين أن يعلموا أن ما عند الناس لا يساوي شيئاً: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96].
وأما أفضل ما يمكن أن يكنزه العبد: فهي العبادة، والصلاح، والعلم النافع، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
دخل أحد الخلفاء إلى المدينة، قيل إنه الوليد بن عبد الملك، فأتى إلى الناس بأعطيات، وجاء بأعطية لـ سعيد بن المسيب (ذهب وفضة) جعلها في كيس، وأرسل جندياً إليه بها، فذهب إلى سعيد فوجده يصلي ركعتين، فلما سلَّم قال: خذ هذا العطاء يا بن المسيب، قال: ممن هذا العطاء؟ قال: من الوليد بن عبد الملك، قال: هيه! يسرق أموال المسلمين ويعطيني العطاء، ويحاسبني الله على عطائه، ربما أراد غيري، قال: لا.
بل أرادكَ أنتَ، قال: اذهب إليه بالعطاء واسأله -وكان الوليد جالساً في طرف المسجد- هل يريدني أم يريد غيري؟! فأخذ الكيس وذهب به، وأخذ سعيد بن المسيب حذاءه، وخرج من المسجد.
وأمرهم عجيب في ذلك، ومقصودهم في الزهد كما قال ابن تيمية: " الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة "، أما ما ينفعك في الآخرة فهو من أحسن ما يكون إذا أتى من وجه شرعي مباح لا مغبة فيه ولا ريبة ولا حرج.(275/9)
قولهم كلمة الحق لا يخافون في الله لومة لائم
يقول عليه الصلاة والسلام: {أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر} إذا سُلَّ السيف وأصبحت الدماء تسيل، وقام العالم يتكلم فكلمته أفضل الجهاد؛ وهذه لا يستطيع لها إلا القلائل، مثل: النابلسي، الذي ترجم له الذهبي.(275/10)
النابلسي يُسْلَخ لقوله الحق
النابلسي محدِّث وعالم من علماء الإسلام، كان راوياً يحفظ الأسانيد والأحاديث، وكان الحكام في عهده هم الفاطميون، جدُّهم هو اليهودي ابن قداح، يقول ابن تيمية: " لا ينتسبون لأهل الإسلام "، وكثير من المؤرخين اليوم يقول: " ينتسبون لـ علي بن أبي طالب " كلا، وحاشا، والله إنهم يهود، أشرار، أنذال، زنادقة، خرجوا على الإسلام بسيف الطاغوت، وذبحوا الإسلام ذبحاً.
كان الحاكم بأمر الله الفاطمي يخرج يوم الجمعة قبل الصلاة إلى السوق، فإذا رآه الناس سجدوا له، والذي لا يسجد يقتله، أخذ المصحف وداسه وبال عليه، والمصيبة أنه ذبح المسلمين حتى أسكتهم، وأتى الفقر في عهده حتى أكل الناسُ الحميرَ، قال ابن كثير في: البداية: " اجتمع سبعة على حمارة فذبحوها، وأكلوها في عهده "، قال: " ومات كثير من المشايخ وتلاميذهم في المسجد وانتهوا "، وأتى الحاكم بأمر الله بحماره فوقف عند قصره، ليأخذ غرضاً ويعود، فلما خرح وإذا الحمار مذبوح، وقد تُقُسِّمَ لحمُه، مهلكة، أهلك الله الأمة في عهده بذنوبه وخطاياه.
قام النابلسي في مجلس الحديث، فسأله أحد الطلاب -وبعض الطلاب مبارك في الأسئلة- قال: " ما رأيك في الفاطميين، هل يصح جهادهم؟ " قال هذا العالِم -أوقفه الله الآن على الصراط إما أن يقول: نعم، أو لا-: " أرى أن من عنده عشرة أسهم، أن يرمي الروم بسهم واحد، ويرمي الفاطميين بتسعة أسهم ".
وارتفعت الكلمة، ولم تأتِ صلاة الظهر إلا والكلمة قد وصلت -بحفظ الله ورعايته- إلى الحاكم، وأتى الحاكم فأزبدَ وأرعدَ، وقام فأخذ السيف وغمسه في الدم، وقال: " عليَّ بـ النابلسي "، فأتوا بـ النابلسي، فأجلسوه، قال له الحاكم ولم يفهم الكلمة بعد.
أقول له زيد فيكتب خالداً ويقرؤه عمراً ويفهمه بكراً
قال الجدارُ للوتدِ لِمَ تَشُقني قال اسألْ مَن يَدُقني
فيقول الحاكم: " ما لك يا نابلسي! تقول فينا كلاماً؟ قال: ماذا قلتُ فيكم؟ قال: تقول فينا: إذا كان عند الرجل عشرة أسهم، يرمينا بسهم، ويرمي الروم بتسعة أسهم؟ قال: لا.
خطأ، العبارة ليست هكذا، قال: وما هي العبارة؟ قال: العبارة التي قلتُ: من كان عنده عشرة أسهم يرميكم بتسعة، ويرمي الروم بسهم.
قال: أما تدري أني أريد أن أذبحك اليوم؟ قال: اذبح أو لا تذبح، والله ما نفسي تساوي عندي هذه، ثم أخذ زراره فقطعه، ثم رماه في وجه الحاكم، فقام وقال: لا أذبَحُكَ، لا يذبَحُكَ إلا يهودي، قال: افعل ما بدا لك " -وهذه أشنع قتلة في التاريخ- فأخرجوه في الشمس، ثم علقوه من رجليه بحبل، ونكَّسوه على رأسه، وبعض الرواة يقولون: " أتت سحابة وهو معلق فغطته من الشمس " والقدرة صالحة، وكرامات الأولياء واردة، وأخذ اليهودي يسلخ جبهته بالسكين كما يسلخ الشاة، أتدرون ماذا كان يقول النابلسي؟ كان يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ".
ويقال: " إن الله عزَّ وجلَّ ربما رفع عنه ألم السلخ "؛ لأن الله يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52] وبعضهم يقولون: " أول ما قطرت منه قطرات من دمه -وذكرها الذهبي، ولم يعلق عليها، وأنا لا أعلق عليها- كَتَبَت في الأرض: الله، الله، الله " فلما وصل اليهودي إلى قلبه بعد أن سلخ كل الجلد، رحم اليهودي النابلسي، فأخذ سكيناً فغمسها في قلبه فمات، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
عُلُوٌّ في الحياة وفي المماتِ بِحَقٍّ أنت إحدى المعجزاتِ
كانوا يقولون الحق، لكن في مواطنه، يوم تنفع كلمة الحق، يوم يكون من الحكمة أن يقولها، يقولها إذا كان من المصلحة للإسلام أن يقولها، لكن في قالب من النصيحة يؤدونها، لا تشهيراً، ولا تجريحاً، ولا تضليلاً، ولا تبجحاً، ولا رياءً، ولا سمعة، كانوا ينصحون الخاصة للخاصة، والعامة للعامة.(275/11)
الصحابة يقولون الحق ويقبلونه
أتى عمر رضي الله عنه وأرضاه، وأنا لا أضرب بـ عمر مثالاً للجبابرة، بل هو سيد العدول، وهو الولي الكبير، وهو الزاهد العابد، قام على المنبر كما يذكر بعض المؤرخين، فقال: [[يا أيها الناس! اسمعوا وعُوا - أتدرون ما السبب؟ كان لـ عمر جلباب كبير رضي الله عنه، لبسه يوم الجمعة، وأعطى الصحابة من جلباب واحد، لكن عمر كان طويلاً فأخذ جلبابين، وهذا عند المسلمين لا يصح - فقال سلمان في المسجد: والله لا نسمع ولا نعي، قال: ولِمَه يا سلمان؟ -وسلمان الفارسي، مَوْلَى، لَيْتَهُ كان علياً، أو عثمان - قال: تلبس ثوبين، وتكسونا من ثوب واحد، قال: قم يا عبد الله أجب سلمان، فقام عبد الله بن عمر وقال: إن أبي طويل، وإنه قد أخذ ثوبي إلى ثوبه، قال سلمان: الآن، قل نسَمْعْ، وأمر نُطِعْ]].
وفي ترجمة عمر أنه قام على المنبر، فقال: [[يا أيها الناس! ما رأيكم لو حِدْتُ عن الطريق هكذا؟ -أي: لو مِلْتُ عن الطريق المستقيم- فسكت الصحابة، وخجلوا، واستحيوا، فقام أعرابي معه سيف عند سارية في آخر المسجد، فقال: يا أمير المؤمنين والله الذي لا إله إلا هو لو حدت عن الطريق هكذا، لقلنا بالسيوف هكذا، فتبسم عمر، وقال: الحمد لله الذي جعل من رعيتي من إذا حدت عن الطريق هكذا، يقول بالسيف هكذا]].
هذه شرعية الكتاب والسنة والعدل في الإسلام.(275/12)
الشجاعة في قول الحق
والعلماء لهم مواقف في ذلك؛ لأنهم كانوا يجعلون عرش الله بارزاً أمامهم إذا سئلوا في مسائل محرجة.
الزهري العلامة المحدث، دخل مع كثير من العلماء على هشام بن عبد الملك آخر أولاد عبد الملك بن مروان، وكان خليفة ولكنه ناصبي يبغض علياً، والناصبي هو: الذي ينصب العداء لأهل البيت.
إن كان رفضاً حبُّ آلِ محمدٍ فليشهدِ الثقلان أني رافضي
حبهم قربة من الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] لكنَّ هشاماً كان ينصب العداء لهم، وهشام أوحى إليه الشيطان أن المقصود بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] أنه علي بن أبي طالب، والذي تولى كِبْرَه هو عبد الله بن أبي بن سلول كما قال أهل العلم.
فقال هشام للعلماء: [[يا سليمان بن يسار! من الذي تولى كِبْرَه؟ قال: عبد الله بن أبي، قال: كذبتَ، قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول - يقول: ما دام أنتَ خليفة فأنت أعلم، وهو في الحقيقة خليفة لا يعلم - فقال: يا فلان! من الذي تولى كِبْرَه؟ قال: عبد الله بن أبي، قال: كذبتَ، الذي تولى كِبْرَه علي، قال: أمير المؤمنين أعلم.
قال: يا زهري، قال: نعم.
قال: من الذي تولى كِبْرَه؟ قال: عبد الله بن أبي، قال: كذبتَ، فقام وسط الناس الزهري -وكان الزهري جالساً- قال: كذبتَ أنتَ وأبوكَ وجدك، الذي تولى كِبْرَه عبد الله بن أبي بن سلول، حدثني بذلك عروة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعلقمة بن وقاص وعائشة، والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذبَ حلال ما كذبتُ، فانتفض هشام وقال: لعلنا هيجنا الشيخ، لعلنا هيجنا الشيخ]].
قول الحق صعب وثقيل، لكنه في مواطن ينبغي أن يقال، لكن بقالب من نصح أولاً كما قال تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] ولا يعني ذلك أن الإنسان يتبجح بقول الحق، أو يجرح المشاعر، أو يظلم الناس، فإن النفوس لا تقبل، والنفوس لا بد أن تعطيها كرامتها ومنزلتها، ثم تقول الحق في قالب من النصح حتى يصل إلى القلب.
هارون الرشيد خليفة المسلمين، دخل عليه رجل فقال: " يا أمير المؤمنين! اسْمَع كلاماً شديداً وتَحَمَّلْني، قال: والله لا أسمع، والله لا أسمع، والله لا أسمع، قال: ولِِمَ؟ قال: أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فقال له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] " لأن هذا هو المطلوب في المسلم، أن يقدم كلمة النصح في قالب من الخير.
وفي موقف آخر، واستشهادٍ ثانٍ: الأوزاعي:
عبد الله بن علي عم أبي جعفر المنصور، كان يسمى السفاح، دخل دمشق واستباحها ساعة، فقتل ستة وثلاثين ألفاً، وأدخل بغاله وجماله في المسجد الأموي -الجامع الكبير- وربط الفرسان الخيول بالسواري، وقال للناس: " أترون أحداً يعترض على ما فعلتُ؟ قالوا: نظن الأوزاعي يعترض.
فاستدعى الأوزاعي، قال الأوزاعي: انتظِروا قليلاً، فدخل فلَبس أكفانه بعد أن اغتسل وتطيب، ولبس ثيابه فوق أكفانه، ودخل على عبد الله بن علي، قال الأوزاعي: والله الذي لا إله إلا هو، لَمَّا دخلتُ عليه كأنه ذبابٌ في عيني، وكأني أتصور عرش الله بارزاً للناس، قال: فانعقد في جبينه عرق، وفي يده خيزران والسيوف قد أُشْرِعَت على رأس الأوزاعي، قال: يا أوزاعي! ما رأيك في الدماء التي سفكناها؟ فحدثه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة} فغضب، قال: ورفعتُ العمامة أنتظرُ السيفَ، ورأيتُ بعض وزرائه يرفعون ثيابهم حتى لا يصيبهم دمي، قال: فسألني في الأموال، قلت: حلالها حساب، وحرامها عقاب، قال: اخرج، فخرجت، قال: ارجع، فرجعتُ وأنتظر السيف، قال: خذ هذه البُدرة، يقول: بُدرة من فضة وذهب قال: فأخذتها، ووزعتها على الجنود، ثم رميتُ بالكساء عليه، ثم خرجت، وبقي قدره عند الأمة مرتفعاً؛ لأنه ضحى بدمه في سبيل الله عزَّ وجلَّ.
والإمام أحمد فعل ذلك عند المعتصم، فقد حاول الخليفة المعتصم وهو الرجل الشجاع، والعسكري القوي، صاحب عمورية، حاول أن يجعل الإمام أحمد يقول: القرآن مخلوق، فلم يقل بذلك الإمام أحمد، وجُلد جلدات، يقول الذي جلده: " والله لقد جلدته جلداً، لو جلدته جملاً لمات "، كلما جُلد الإمام أحمد أُغْمِي عليه، فإذا أفاق بعد أن يرشوه بالماء قالوا: " ماذا تقول؟ قال: ائتوني بآية أو حديث، حاولوا به وبدَّلوا وغيَّروا فلم ينفع، فثبت على الحق، حتى جعله الله إمام أهل السنة والجماعة، ونصره الله نصراً مؤزراً ما سمع التاريخ بمثله.(275/13)
بذلهم العلم لطالبيه
أما بذلهم العلم لطالبيه، ونشرهم المعرفة، فهي مسألة نعيشها نحن، في هذه الأزمنة المتأخرة، فقد صرنا نعيش أزمة علماء، وأزمة دعاة، منهم من يُقَطر العلم قَطْرة قَطْرة كالقَطَّارة، ومنهم من ينفق العلم كأنه يصرف من جيبه، والساحة تشتكي وتريد أن ينزلوا لأن الأجيال بحاجة للعلم، فانظروا إلى نشر العلم عند السلف.
كان عروة بن الزبير يتألف الناس على حديثه، يعطيهم المال لكي يحضروا، يقول لطلابه: [[من يحضر منكم اليوم له دينار]] لأنه يريد أن ينشر هذا العلم الذي عنده، لأن العلم حياة، والعلم إذا حُبس ضاع ونقص.
يزيدُ بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفَّاً شدَدتا
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] ويقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160] وقد قالوا عن ابن عباس أنه: [[كان يجلس في الحرم بعد صلاة الفجر، فيقول: هيا، عليَّ بأهل القرآن، فيأتي أهل القرآن، فيقرءون إلى طلوع الشمس، فيقول: ارتفعوا، ائتوا بأهل الحديث، فيسألونه، ثم إذا انتهى منهم، قال: ارتفعوا، ائتوا بأهل الفقه، ثم أهل التفسير، ثم أهل العربية، ثم أهل الشعر]] وكان يفطرهم ويغديهم، ولا يطلب طالب من بعض الناس أن يغدي ويفطر طلابه؛ لأن ميزانية ابن عباس تختلف عن ميزانية بعض الناس، فقد كان ابن عباس موهوباً، وكان عنده مال، وكان يغدي أصحابه وطلابه اللحم والثريد، ويفطرهم لُبَاب العسلِ والبُرَّ، ولذلك يقول ابن تيمية عنه: " جمع الحسنيين في الدنيا: بذل العلم، وكرم اليد " {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] واليهود جمعوا خصلتين لئيمتين: البخل، وكتمان العلم.
العلماء بذلوا العلم في سبيل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهنا أذكر من العصريين ممن سمعنا قصصهم، ورأينا وقرأنا أخبارهم:
محمد بن إبراهيم رحمه الله، مفتي الديار السعودية، توفي قبل سنوات عديدة.
ومنهم: الشيخ عبد العزيز بن باز، كان من أجلد الناس على بذل العلم، كان يجلس بعد الفجر فيدرِّس الناس إلى منتصف الضحى، ثم يذهب إلى بيته، فيأكل تميرات، ويجدد وضوءه، ويعود إلى المسجد فيدرس إلى الظهر، ثم يذهب إلى بيته فينام قليلاً، ثم يأتي ويدرس إلى العصر، ثم يرجع، فيدرس من العصر إلى المغرب في التفسير، ثم يأتي من المغرب إلى العشاء في الفقه، ثم يدرس بعد العشاء قليلاً، ثم يذهب إلى البيت.
وهكذا يمر الدهر عليهم، بذل وعطاء في المسجد، ولذلك بعضهم الآن يقول: ليس في دراسة الكلية بركة، إنما الدراسة في المساجد، نقول: نعم.
كان التدريس مثلما كان في عهد الشيخ محمد بن إبراهيم، تدريس كل اليوم، لكن تأخذ حصة في المسجد، وتترك الدراسة في الكلية، وتقول: لا بركة فيها؟ لا.
أصبحت الكلية اليوم، والمدرسة، والمعهد، والثانوية، تقوم مقام حلقات أهل العلم؛ لأنك لو جلست في بيتك تقرأ صفحتين، ثم يأتيك النوم، فلا تنتج شيئاً، فالأفضل لك أن تحضر؛ لأنك تتلقى في اليوم خمسة محاضرات، من خمسة من العلماء المتخصصين، يأتيك عالم في أصول الفقه، رسالته وتحضيره ودراسته في أصول الفقه، وعالم في الحديث، وعالم في الفقه، وعالم في التوحيد، وعالم في التاريخ، وعالم في النحو، فهم يعطونك علماً لذيذاً، فاحرص عليه وأخلص النية.
والشيخ عبد العزيز بن باز -وكلكم يعرفه، وهو ممن تحبونه جميعاً- جعل وقته في بذل العلم نشراً، ورسائل، وحديثاً، في سيارته ومكتبه وبهاتفه يبذل العلم لمستحقيه، كبر وأصبح في الثمانين، وهو لا يزيد إلا بذلاً، لذلك زاده الله علماً وبصيرة؛ لأن من أعطى من هذا زاده الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ومن بخس ونقص حبس الله عليه منافع الخير، والهداية، والزيادة.
وهناك الكثير ممن بذلوا العلم لطلابهم، قالوا عن الشوكاني: " كان له اثنا عشر درساً في اليوم ".
وكان النووي يدرس اثني عشر درساً، وقيل: " ثلاثة عشر درساً " للطلاب؛ في الفقه، والحديث، والمصطلح، والتفسير، والقرآن، والتجويد، إلى آخر تلك العلوم.
فنفع الله بهم، وبقيت أذكارهم، وأعمارهم، وكأنهم لم يموتوا.(275/14)
خشية العلماء لله تعالى
أما خشية الله عزَّ وجلَّ في أهل العلم من أهل الإسلام: فالله يقول في القرآن: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]؛ لأنهم تعرفوا على الله فهابوه، وكل شيء تقرب منه تأمنه إلا الله، فإنه كلما اقتربتَ منه خِفته، هذه قاعدة؛ لذلك تجد الفاجر لا يرهب الله، بل يضحك ويمرح، ويعربد بكلام سيء، ويعصي الله، ويفجر وليس بخائف، والمؤمن التقي العالم بالله إذا عصى معصية، أو فعل فعلة استوحش، وبقي في قلق واضطراب وفزع وخوف وحزن وهَمٍّ وغم، يقول سيد قطب في الظلال: " إن من الناس من يسحق الذنوب كالجبال ولا عليه منها، ومن الناس من يتحرج من مثاقيل الذر من الذنوب "، ويغني في ذلك حديث ابن مسعود الصحيح عند البخاري موقوفاً عليه: [[إن المؤمن يرى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يسقط عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب طار من على أنفه، فقال به هكذا]] سهل عندهم وبسيط، فكل شيء ميسر، جعلوا الكبائر صغائر، واستمرءوها، أما العلماء فخائفون من الله لخشيته.(275/15)
تأثر العلماء بالقرآن
كان ابن عباس يبكي حتى يرحمه جلساؤه، قال أبو وائل: [[والله لقد رأيت جفن ابن عباس من البكاء كالشِّراكَين الباليَين]] وصح عنه: أنه قام ليلة في الحرم من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر يردد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو يبكي: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123].
أبو بكر لما نزلت هذه الآية كما في المسند سمعها من الرسول عليه الصلاة والسلام فتَماطَّ لها، قال: {ما لك يا أبا بكر؟ قال: يا رسول الله! كيف العمل بعد هذه الآية؟ قال: غفر الله لك يا أبا بكر، ألستَ تهتم؟ ألستَ تحزن؟ ألستَ تمرض؟ قال: بلى، يا رسول الله، قال: فإنه لا يصيب المؤمن مِن هَمٍّ، ولا وَصَبٍ، ولا غَمٍّ، ولا نَصَبٍ، ولا مرض، إلا كَفَّر الله بها مِن خطاياه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ومِمَّا يؤثر في هذا الجانب ما ذكره وكيع: أن ابن عمر رضي الله عنهما قرأ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54] فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، لماذا؟ لأن طريق الجنة لا يأتي إلا بخشية الله، وليست الخشية بالبكاء فقط، قال بعض أرباب القلوب: رُبَّ باكٍ دمعت عيناه، ولكن لا ينظر إلى نظر الله إليه، ورب ساكت ساكن يخاف من وقعات قدمه أن تطيش به في نار جهنم وليس المقصد البكاء، لكنه من دلائل الخشية، وإنما المقصد خشية الواحد الأحد: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
خرج ابن المبارك العالم، الزاهد، العابد، الشهير مجاهداً، فمر بقصر الطاهر بن الحسين، وهو قصر في خراسان، كان في الليل عنده سُرُج من الزيت والشحم، فنظر إلى القصر، وكان القصر بهياً مهولاً، فدمعت عينا عبد الله بن المبارك، وقال: " والله لقصيدة عدي بن زيد أحب إليَّ وأحسن عندي من هذا القصر "، وعدي بن زيد جاهلي، يقول في قصيدته:
أيها الشامِتُ المُعَيِّر بالدهرِ أأنتَ المُبَرَّأ الموفورُ؟!
من رأيت المنون خلفن أم من ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كِسْرى المُلوك أنُو شر وان بل أين قَبْلَه سابورُ
ثم قال ابن المبارك وهو يبكي: [[ضيعنا حياتنا في بعض المسائل، وتركنا الجهاد]] وهو صاحب المقطوعة المليحة:
يا عابدَ الحرمين لو أبصرتَنا لعلمتَ أنَّك بالعبادة تلعبُ
وهي مشهورة، وهو صاحب تلك المقطوعات الجيدة الرائعة غفر الله ذنبه، ورفع منزلته عنده؛ لكن المقصد: خشيته سبحانه تعالى.
قال مالك بن أنس: [[ما ظننت أن في أهل العراق خيراً -هذا مالك يرى ذلك- حتى رأيتُ أيوب بن أبي تميمة السختياني سلم على قبر الرسول عليه الصلاة والسلام -وهو عالم أهل العراق - فكادت أضلاعه تختلف من كثرة البكاء]].
فعسى الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا وإياكم عينين هطالتين بالدموع، وأن يجعلنا ممن يخشونه خشية ظاهرة وباطنة بالأقوال والأفعال وليس بالكلام فحسب.(275/16)
تواضع العلماء لربهم تبارك وتعالى
ومن أخبار علمائنا: تواضعهم لربهم تبارك وتعالى:
إن التواضع أكبر ميزة للعالِم؛ لأن العلم هذا يطغى كالمال، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] الثقافة إذا لم يصحبها إيمان تطغى بصاحبها، ولذلك أكبر الناس كِبْراً وعتواً هم المثقفون بلا إيمان، فروخ العلمانية والنصرانية والماسونية وأذناب الشيوعية حصلوا على علم خارجي غربي تكنولوجي، وأمثاله من علم المادة، ولكن لم يحصلوا على الإيمان، فليس في قلوبهم ذرة من الإيمان، علم بلا إيمان علمنة، فلذلك تجد أحدهم بَرْوَزَ شهادته في البيت، وليس عليه من آثار العلم شيءٌ، إذا دخلت عليه كأنك دخلت على قارون أو هامان أو فرعون، لا يلتفت إليك، ويطمح بنفسه.
خفف الوطءَ ما أظن أديمَ الـ أرض إلا من هذه الأجسادِ
صاحِ! هذي قبورُنا تملأ الرحـ ـب فأين القبورُ مِن عهد عادِ
...
وجوهُهم مِن سوادِ الكِبْرِ عابسةٌ كأنما أُوْرِدُوا غَصْباً إلى النارِ
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً أهدوك من نورهم ما يتحف الساري
تروى وتشبع من سيماء طلعتهم بذكرهم ذكروك الواحد الباري
هانوا على الله، يقولون: العبد إذا هان على الله تكبر، فيسقط من عين الله، فإذا رأيت المتكبر فاعرف أنه هين عند الله، وجزاؤه، كما في الحديث الصحيح: {يُحشر المتكبرون يوم القيامة في صورة الذر، يطأهم الناس بأقدامهم}.
من صفة العالِم: التبسم، طالب العلم يتبسم، يرخي كتفه لمن يسأله، يماشي من يطلبه، يرحم الضعيف، يقف مع المسكين، يقود الأعمى، يساعد الأرملة، يخدم بسيارته، بجاهه، بقلمه، بكتبه، بماله وبوقته، هذا هو طالب العلم الذي يريد الله والدار الآخرة.(275/17)
تهوينهم من شأن أنفسهم
خرج ابن مسعود من المسجد، فخرج تلاميذه وراءه - روى ذلك الإمام أحمد في كتاب الزهد - فقال: [[عودوا إلى أماكنكم، والله لو علمتم ما علي من الذنوب لحثوتم التراب على رأسي]] هذا ابن مسعود صاحب قيام الليل، الصحابي الشهير، الذي قال بعض التلاميذ فيه: [[نمت عند ابن مسعود فتركني حتى نمت، وظن أني نائم، ثم قام يتلو القرآن كأنه نحلة حتى الفجر]] الذي جمع القرآن، يقول: [[عودوا والله لو علمتم ما علي من الذنوب لحثوتم على رأسي بالتراب]].
يقول علامة الأندلس، يناجي الله في الليل ببيتين وهو يبيكي:
يا من سترتَ مثالبي ومعايبي وحلمت عن سقطي وعن طغيان
والله لو علموا قبيحَ سريرتي لأبى السلامَ عليَّ مَن يلقاني
نحن في ستر الله، لماذا يتكبر العبد؟ ولماذا لا يعود إلى تاريخه المظلم؟! ولماذا لا يتذكر سيئاته وأفعاله مع الله الواحد الأحد في مكان لا يراه إلا الله؟! تصور أن الله كشف معاصيك، وفواحشك، وأخطاءك على الناس، والله لا يتحملون لك، ولا يسلمون عليك، ولا يزورونك، ولا يرحبون بك، ولا يستقبلونك، فكيف برب العباد الذي يرى الخطأ منك صباح مساء، ويغفر، ويعفو، ويستر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال أبو العتاهية:
إلهي لا تعذِّبني فإنِّي مُقِرٌّ بالذي قد كان مِنِّي
يَظُنُّ الناسُ بِي خيراً وإنِّي لَشَرُّ الناس إن لم تَعْفُ عَنِّي
فكمْ مِن زلَّة لي في البرايا وأنت عليَّ ذو فضل وَمَنِّ
إلى آخر ما قال.
إذاً: التواضعُ سِيَمُ أهلِ العلم.(275/18)
كراهيتهم للمدح
دخل داخلٌ على شيخ الإسلام ابن تيمية فمدحه وقال: "يا ابن تيمية! أنت العالم البحر" فغضب ابن تيمية، واحمرَّ وجهُه وقال:
أنا المُكَدِّي وابنُ المُكَدِّي وهكذا كان أبي وجدِّي
يقول: أنا فقير، وأبي فقير، وجدي فقير، وله قصيدة اسمها الفقرية، يشكو فقره على الله، ويقول رحمه الله:
أنا الفقيرُ إلى رب السماواتِ أنا الْمُسَيْكِيْنُ في مجموعِ حالاتي
أوحى الله إلى موسى عليه السلام قال: يا موسى! إذا ذكرتني فاذكرني وأعضاؤك تنتفض من خشيتي.
وفي الحديث الصحيح: {من تواضع لله رفعه، ومن تكبر على الله وضعه}.
كلما يتكبر العبد يقول الله: {اخسأ، فلن تعدو قدرك} وكلما تواضع قال الله: {انهض أنعشك الله} هذا في حديث وأثر يُرْوَى.
إذا عُلِمَ ذلك: فإن مما ميَّزَ علماء أهل السنة: الخشية والتواضع لله عزَّ وجلَّ {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63].(275/19)
إبراهيم بن أدهم توبته وتواضعه
إبراهيم بن أدهم زاهدٌ، عابدٌ، قال بعض أهل العلم: " كان أميراً من أمراء خراسان، وكان عنده خيل، وجمال، ودنيا كثيرة، نزل إلى السوق - وبعض الناس طيب على الفطرة حتى ولو كان فيه معاصٍ- فوجد ورقة في السوق مرمية، مكتوب عليها: (الله) اسم الجلالة.
لا إله إلا الله! انظر إلحاد العالَم اليوم! ماذا فعل الملحدون؟! كتبوها على بعض الأحذية، وقد أشرنا إليها في بعض الدروس والمحاضرات، عليهم لعنة الله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5].
-وهنا استطراد-: وقد سمعت من الشيخ كشك قبل أيام خطبة جيدة في هذا، أحضر ورقة نخل معه في المسجد، مكتوب عليها بالخط الذي خطته قدرة الواحد الأحد: (الله) النخلة كتبت على نفسها في وجهها: (الله) وفي قفاها: (الله) بالخط الكوفي الجميل، وما خطه إلا الواحد الأحد، وربما تكون من الآيات، وهي من آيات الواحد الأحد.
انظر لتلك الشجرة ذات الغصون الناضره
كيف نمت من حبة وكيف صارت شجره
من ذا الذي قومها حتى استقامت شجره
ذاك هو الله الذي قدرته مقتدره
ذو قدرة باهرةٍ وحكمة منتشره
تبارك الله رب العالمين، النخلة تسبح بحمد الباري، لكن الشاهد هنا: أن إبراهيم بن أدهم وجد الورقة مكتوب فيها: (الله).
قال: " سبحان الله! يدوسون اسم الحبيب؟! " فأخذ الورقة، وذهب إلى بيته، وأخذ طيباً بدينار، ثم غسل الورقة، وطيبها، ورفعها، فنام تلك الليلة قَرِيْرَ العَين قال: " فسمع قائلاًَ يقول: يا من رفع اسم الله! ليرفعن الله اسمك "، وهذا لا معارضة فيه مع النصوص فالقصة توافق النصوص، ولا تعارضها، فرفع الله اسمه، وتاب، وأصبح زاهداً، عابداً من الصالحين.
تواضعه يظهر في قصص منها: أنهم قالوا: " خرج مرة من المرات - وهو عابد - فمر تحت بيت من البيوت، فخرجت امرأة برماد في صحن فرمته من على البيت، وما عَلِمَتْ أن إبراهيم بن أدهم أسفل، فتلطخ بالرماد، فاجتمع أهل الحي وقالوا لها: حسيبنا الله هذا إبراهيم بن أدهم، فأخذ يقول: " لا عليكم، لا عليكم، إذا صُولِحتُ على الرماد فيكفيني، إني أخاف أن أدخل ناراً تلظى "، يقول: إذا كانت المسألة مسألة رماد فالأمر سهل، لكني أخاف من جمر في الآخرة، حتى يذكرون العبارة عنه، يقول: " إن من استحق النار، ثم صُولِحَ على الرماد لهو رابح "، يقول: من نازله الله إلى أن أعطاه الرماد بدون جمر، وبدون نار، فحالته طيبة إن شاء الله.(275/20)
تواضعهم لبعضهم ولمن دونهم
أما الشافعي فكان في الناس أكثرهم تواضعاً وحلماً وأناةً، كان يزور الإمام أحمد في البيت وقد كان أصغر منه سناً، ويطلب منه العلم، ويستفيد منه، فقال تلاميذ الشافعي: " تزور أحمد؟! "؛ لأن بعض الناس اليوم لا يزور إلا من هو أكبر منه، أو أعلم منه، حتى يقول: أنا أزور فلاناً! لو زرتُه نقَّص من قدري! أنا لا أزور إلا أصحاب الوجاهات، وهذه هي زيارات الرياء والسمعة، كان طلاب الشافعي يقولون له: " كيف تزور أحمد وهو دونك "؟ قال:
قالوا يزورُك أحمد وتزورُه قلتُ: الفضائلُ لا تغادرُ منزلَه
إن زارنِي فلِفَضْلِهِ أو زُرتُهُ فَلِفَضْلِهِ فالفضل في الحالَين لَه
ولذلك كان أحمد يدعو له في السحر، ويقول لـ ابن الشافعي: " يا فلان! أبوك من السبعة الذين أدعو لهم في السجود وقت السحر "، فهؤلاء طلبوا العلم لله، فرزقهم الله علماً.
يقول الشافعي: " يا ليتني لا أُذكر في الناس، يا ليت اسمي لا يُعرف، يا ليتهم يستفيدون من علمي وأنا في شِعب من شِعاب مكة ".
وكان سفيان الثوري في التواضع مضرباً عجيباً في المثل، كان يلبس الصوف من تحت ملابسه، ويجلس مع الفقراء، ويقول: " مسكين يجلس مع المساكين ".
مرَّ الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله عليه الصلاة والسلام بفقراء، فنزل من على فرسه، وربط الفرس، وجلس معهم، قالوا: [[ما لك؟ قال: لعل الله أن يرحمني بمجلسي معكم]] غفر الله ذنوبهم.
كان زين العابدين إذا نام الناس وهجعوا وسكنوا وأظلم الليل عليهم، وبقي رب الناس يتنزل في الثلث الأخير، فيقول: {هل من داعٍ؛ فأستجيب له؟ هل من مستغفر؛ فأغفر له؟ هل من سائل؛ فأعطيه؟} يقوم على التمر، والزبيب، والقمح، فيحمله على أكتافه، وينشره في بيوت المساكين، فإذا أتت صلاة الصبح؛ ذهب إلى المسجد، والناس لا يعلمون حاله هذا، فلما مات اكتشفت الأُسَر أنه هو الذي كان يُمَوِّنُهم، رضي الله عنهم وأرضاهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
فهذه باقة من القصص، ولعل سامعاً فيستفيد، ولعل في الأسئلة ما يكمل ما نقص من الكلام، ولا أريد الإطالة، فما بقي من وقت فيه الخير، وما سُمِع فيه الخير، لمن استمع فاتبع أحسن القول.
أسأل الله لي ولكم توفيقاً، وعلماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وأن يجعلنا ممن يتأسى بأولئك السلف الصالح، وأن نقدمهم نموذجاً وبديلاً في عالم التربية، والتراجم، والتاريخ، والسير، بدل الأقزام الذين ضُخِّموا من الكفرة والملاحدة، وغيرهم فإن هؤلاء أحق والله أن يدرسوا، وأن تترجم سيرهم، وأن يستفاد منهم في التربية، وعلم النفس، والاجتماع، وأن تؤخذ كلماتهم العطرة، الطيبة، وتُنشر في الفصول، والمساجد، والمحافل العامة، ونلغي هذه الثقافات التي رانت وطاشت على الساحة، ونستبدل بتلك الثقافة الحية الواعية، ليخرج جيل يعرف الله عزَّ وجلَّ، ويسجد لله، ويدين بالولاء لله سبحانه وتعالى.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(275/21)
الأسئلة(275/22)
تأليفهم وتراثهم الخالد
السؤال
ماذا عن مؤلفات علمائنا وذكر تراثهم؟
الجواب
هذا عنصر، لكنني أظن أني تجاوزته في أثناء الشرح، تأليفهم وتراثهم الخالد لقد تركوا لنا مكتبات وعلماً جماً ونوراً، تجلس في المكتبة الواحدة فيجلس معك مئات العلماء، فأنت إذا دخلت مكتبتك كان معك ابن تيمية، وابن كثير، والمزِّي، وعلماء الصحابة كـ ابن عباس، وعلي، ومعاذ، وأبي، وعلماء السلف: كـ أحمد، ومالك، وأبي حنيفة، والشافعي، علماء وأدباء، وسادة وأخيار، ولكن مَن يقرأ ومَن يفهم؟
ومن التراث: الموطأ، كتبه مالك لوجه الله في أربعين سنة، وقال: ما كان لله يبقى، فأبقاه الله.
ومن التراث: مسند أحمد، فيه بالمكرر أربعون ألف حديث، وبغيره: ثلاثون ألف حديث، طاف الدنيا وجمعه.
ومن الكتب: الكتب الستة، لا سيما صحيح البخاري وصحيح مسلم، واسمع كيف نشر الله ذكرهم في الدنيا: الإذاعة، الصحيفة، المنبر، المجلس، الدرس، المحفل، المحاضرة، الدرس، الموعظة تتلى فيها: رواه البخاري، رواه مسلم، رواه الترمذي، وأبو داوُد، والنسائي، وابن ماجة.
هل بعد هذا من شرف؟! {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4].
ومما ألف ابن تيمية: الفتاوى، في سبعة وثلاثين مجلداً، ويقولون: " فتاواه لو جُمعت لكانت ثلاثمائة مجلد ".
وابن تيمية لم يكن يكتب من مرجع، بل كان يكتب من رأسه، يخرج القلم، يسله في الصباح ضحىً بعد أن يسبح الله، ويكتب فينهمر عليه العلم، لا إنشاءً، ولا وعظاً، لكنه علم صافٍ ينفع ويصل إلى القلوب، وتحقيق مسائل، وانظروا إلى كتبه، تبلغ ثلاثمائة مجلد ومؤلف.
ومنهم: ابن جرير الطبري: وقع تفسيره في ثلاثين مجلداً وتاريخه نحو ذلك.
ومنهم: ابن كثير: تفسيره ما يقارب عشرة مجلدات لو طبع طباعة جيدة، وتاريخه أكثر من ذلك.
تركوا تراثاً، لكن مَن يقرأ؟
ومن الكتب: المغني والمجموع والمحلى، فهل من قارئ؟ وهل من مستفيد؟
ابن عقيل أبو الوفاء الحنبلي: ألَّف كتاباً اسمه: الفنون، وقع في ثمانمائة مجلد، ألفه في أوقات الراحة والفراغ، وكَتَبَه من إملاءاته.(275/23)
توضيح وانتقاد على بعض الكتاب
السؤال
أريد أن تتحدث عن هؤلاء الكُتَّاب: طه حسين، العقاد، باكثير، الغزالي، سيد قطب، النبهاني، وما رأيك فيهم؟
الجواب
طه حسين رجل مشهور، توفي قبل سنوات، يسمونه: عميد الأدب العربي، وفي التسمية نظر، وهذه تسمية لا تصح أن تُطلق؛ لأنها ما أطلقت على خير.
لا أدري لماذا حَقِدَ هذا الرجل على الإسلام؟! ولا أدري لماذا ثار عليه؟! ولا أدري لماذا ينقم على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين؟! أينقم طه حسين أن كان فقيراً فأغناه الله، وكان جاهلاً فعلمه الله، وكان مغموراً فأظهره الله؟! ما لَهُ؟! رأيتُ كتبه، وقرأت كثيراً منها، ورأيت الرجل في قلبه شيء، يريد أن يُبْدِي بشيء، يستهزئ بالغزوات، ويصف بدراً بأنها حروب حاقدة بين الأوس والخزرج، أو المهاجرين وقريش! عجباً لك يا طه حسين! {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123] أتجعل بدراً حروباً قبلية؟! أتجعل القرآن مِن هذا القبيل؟!
طه حسين درس في فرنسا، وتزوج من هناك، وتأثر بهم، وجعل قبلته وكعبته ومصلاه فرنسا، فلذلك لا نقبله، ولا نرتضي كتاباته، صحيحٌ أن الرجل بليغ، ومفكر، وذكي، يتدفق بلاغة وفكراً وذكاء؛ لكن ليس كل ذكي زكي، فبعض الأذكياء ضلوا بذكائهم.
صحيحٌ أن الرجل قصصي، ومؤثر، ومسرحي، ويجيد في هذه الفنون، لكن لا نرضاه، وهو أديب وليس بعميد أدبنا أبداً، فإن عندنا عمداء وزعماء في الأدب غيره، عندنا سادة يسيرون القلم، السحر الحلال، فيذوبونه ويسحرون ويخلبون بكلماتهم الألباب، عندنا شعراء وأدباء، كـ ابن القيم، أعتبره أكبر أديب، مَن يقرأ كتبه يعتبر أنه قمة في الأدب.
من العصريين: الأستاذ علي الطنطاوي، مسلم، متحمس، مؤمن، يخاف الله، يمدح الإسلام، يبكيك وأنت تقرأ له، اقرأ: نحن المسلمين، في أول كتاب: قصص من التاريخ، واقرأ مذكرات كتبه في ستة مجلدات، مقطوعات كأنها من رحيق الجنة، هذا أدبنا، أما ذاك فلا نرتضيه، (لا لستُ من قيسٍ ولا قيسُ مِنِّي).
أما عباس محمود العقاد: فقد تكرر الكلام عنه في مناسبات، ولكنه على كل حال أحسن حالاً من صاحبه، وأقرب قليلاً، ونحن نناسب بين الناس: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] كأن فيه رائحة خير، وكأنه يميل إلى الخير، كتب في: عبقرية محمد عليه الصلاة والسلام، فأساء في نواحٍ من هذا الكتاب، فقد قارن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين نابليون، وكتب: عبقرية عمر، فأجاد في نواحٍ، وأساء في نواحٍ، وكتب: معاوية في الميزان، فمن هو العقاد، حتى يزن الصحابة؟ هو أقل من أن يزن الصحابة، هو يوزن صراحةً، أما الصحابة فلا يستطيع أن يزنهم.
والعجيب: أنه كثير الاطلاع، وقد يستفاد من كتبه، مع ملاحظة ما فيه من نقص.
وأما باكثير: القصصي الشهير، فقد توفي قبل فترة رحمه الله، وهو من أحسن من نرتضي قصصه، تخصُّصُه طبيبٌ، ولكنه قصصي بارع، وللشيخ الأستاذ العشماوي رسالة أظنها خرجت أو سوف تخرج، ومن يطلع عليها تكفيه في هذا.
وأما الغزالي: فهما: اثنان، ورجلان، وكاتبان، ومؤلفان، الغزالي القديم، والغزالي الحديث، وعلى ذاك وهذا إشارة استفهام.
أما الغزالي القديم ذاك: فإشارة الاستفهام عليه في ثلاث قضايا:-
الأولى: أن الرجل فيه تصوف.
الثانية: ليس عنده من الحديث شيء، فبضاعته في الحديث مُزْجاة.
أوردَها سعدٌ وسعدٌ مشتملْ ما هكذا تُوْرَدُ يا سعدُ الإبلْ
كأنه يكيل تمراً، إذا أتى بالأحاديث فإنه يأتي بها مرة من صحيح البخاري، ومرة من كتاب الفردوس للديلمي، ويأتي بالموضوعات، والمشقلبات، والمقلوبات، ويقول: قال الرسول عليه الصلاة والسلام.
الثالثة: لا تؤخذ منه العقيدة: فهو أشْعَري، فيه اعتزال بفلسفة، أي: أنه (حَيْصَ بَيْصَ) (مُبَرْقِع) لم يصفُ، أما إجادته: فهو زاهد على كل حال، وهو ذكي، ويُستفاد منه في الفقه وأصوله.
أما الغزالي الحديث: فهو داعية، وفيه خير، وهو مفكر، وقد نفع الله به في جوانب الفكر، ولكن عليه ملاحظات، ولست أقولها تشفياً، ولا خيْبَةً، لكن نتكلم في الناس حتى نكون على بصيرة:
أولاً: الرجل مَزْجِيُّ البضاعة: لا يعرف في الحديث شيئاً صراحةً، وسوف يخرج كتاب قريب إن شاء الله عنوانه: الغزالي في مجلس الإنصاف في تسعين صفحة يتحدث عنه بنقولات، وبأدلة، وببراهين على كتاباته، ونقولاته.
ثانياً: الغزالي متذبذب في كتبه، يقول فكرة، ثم ينسخها في الكتاب الآخر، يعادي فكرة هنا، ويُقِرُّها هناك، ويُثْبِتُها هنا، ويَمْسَحُها هنالك، ويتحمس لها هنا، ويهاجمها هناك، فلا ندري أين يوجِّه.
يوماً يمانٍ إذا لاقَيْتُ ذا يمن وإن لقِيْتُ معَدِّياً فعَدْنانِ
ثالثاً: يفتي الغزالي بفتاوى ليست بصحيحة، فإنه يُحِلُّ الغناء، وليس عنده حديث ولا دليل، وعنده فتاوى أخرى ليست بصحيحة، نقول له: سامحك الله يا غزالي، عُدْ إلى الحق، واطلبه من مظانه، وأنت لو كنتَ في الحديث وفي كتب السلف جيداً، ما كنتَ أفتيتَ بما أفتيت.
ثم هو على كل حال حار حاد المزاج، ينال من شباب الصحوة غفر الله له، على كل حال لم أتكلم بهذا إلا لأني سُئِلْتُ.
وأما سيد قطب: (كل الصيد في جوف الفراء) سيد قطب: عَلَم، نسأل الله أن يجعله شهيداً، أوصيكم بقراءة كتابه: الظلال، يقول بعض العلماء: " كأن سيد قطب قد دخل الجنة، ثم أصبح يكتب لنا من الجنة رسائل، سلم نفسه وأخذ السلعة، باع نفسه من الله، ووقع على العقد، وأخذ يكتب لنا رسائل الظلال من الجنة، يكتب بدمه، ما أخذها لأحد، ولا كتبها -إن شاء الله- إلا لله عزَّ وجلَّ، لكن على كل حال لا يخلو البشر من الخطأ، ففي الظلال مواطن يُنَبَّه عليها، وكتابه لا يطلب منه العلم، ولا العقيدة، إنما يطلب منه معرفة الواقع، وربط القرآن بالواقع، فهو رجل عاش لله ومات لله إن شاء الله، فغفر الله ذنبه.
أما النبهاني: فهو صاحب الكتب الصوفية، احذر منه أن يلدغك! فهو حَيَّة رقطاء رقشاء.
وانتبه! فهذا النبهاني يهاجم ابن تيمية بلا سبب، لو دخل دورة المياه تجده يهاجم ابن تيمية، لو سألتَه: ما اسمك يا نبهاني؟ لقال: أعوذ بالله من ابن تيمية.
فـ ابن تيمية دائماً عدوه، ينشب معه ومع ابن القيم، حتى يقول -واسمع وقد كررتُها-: " كُتُبُ ابن تيمية لم يرزقها الله القبول، ولم تنشر في الأرض "، فيرد عليه الألوسي: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] قيض الله لـ ابن تيمية من ينصره من أهل العراق وعلمائها، وليس من الجزيرة ولا من دمشق، قال: " عجباً لك يا نبهاني! أهي كتبك وكتب أشياخك التي رُزِقَت القبول، كتب ابن تيمية يا نبهاني! ذَهَبٌ إبْرِيْزٌ، وعسل مصفَّى، أما كتبك وكتب أشياخك فتصلح أن تكون مطارق للأحذية - أي: ردفه ثانية للحذاء - وكراتينَ للعلاجات، ومخال يوضع فيها الشعير للحمير" هذه كتبه، فلا يستفاد منها، لكن له كتب مجردة عن فكره، مثل: منتخب الصحيحين جيد، لا بأس أن يقرأ فيه، وله بعض الكتابات الحديثية، مثل: تعليقه أو زياداته على الجامع الصغير للسيوطي جيد، لأنه لم يتدخل من نفسه فيه، فهو جيد إذا جَمَعَ، ولكن إذا تدخل بقلمه فليُحْذَر؛ لأنه لا يعرف شيئاً.
وأما سعيد حوى: غفر الله له مات قبل سنوات، وكتاباته أكثرها جيدة، جند الله ثقافة وأخلاقاً، والرسول صلى الله عليه وسلم، والله جل جلاله، فهذه من أحسن ما كتب، ولكن نلومه؛ لأنه أتى بكلام من العقاد في المقارنة بين الرسول صلى الله عليه وسلم ونابليون، فأعاده في كتاب: الرسول صلى الله عليه وسلم وتربيتنا الروحية، ولنا معه وقفات فيها؛ لأنها لا توافق أصول أهل السنة، وهناك بعض الملاحظات، ولكن على كل حال انتبه لبعض الكتب، واستفد منه كثيراً، وترحم عليه.(275/24)
ضعف حديث السوق والاختلاف في حديث الزهد
السؤال
حديث السوق، وحديث الزهد ما صحتهما؟
الجواب
حديث السوق ضعيف، وهو عند أحمد في المسند، قال رسول صلى الله عليه وسلم: {من دخل السوق فقال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير) كُتِبَتْ له ألف ألف حسنة، ومُحيت عنه ألف ألف سيئة} حديثٌ ضعيف لا يصح.
وحديث الزهد الذي أوردتُه: {ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس} عند بعضهم يصححونه، مثل: الألباني، وضعفه آخرون، كأحد طلاب العلم، له رسالة بعنوان: بذل الجهد في تحقيق حديثي السوق والزهد، وقد ضعَّف الحديثَين.(275/25)
التحذير من نزار قباني
السؤال
ما رأيكم في نزار قباني؟
الجواب
احذر من نزار قباني، طِرْ منه، وتعوَّذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، نزار قباني النظر إلى صورته ينقض الوضوء، وهذه دعابة، لأني أخاف أن يذهب ذاهبٌ منكم، فيراه في المكتبة فيتوضأ.
وحَدَثُه حَدَثٌ أكبر، وجنابة كبرى، ولا يطهره إلا أن ينغمس في بيَّارة إلى رأسه، وهو شاعر جنس ومجرم، لا يعرف الله طرفة عين، وأظنه ما مسَّ المصحف، وأسأل الله أن يجنبه المصحف إن كان على حالته، إلا أن يهديه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أو يأخذه، وعسى أن تأتيه رصاصة طائشة في لبنان، لأن لبنان يبخت فيها بالرصاص، فتقع في رأسه فيموت.
وهو - صراحةً - قوي في شعره؛ ولكنه مجرم، فانتبهوا له، واحذروا سمه الزعاف وضلالاته وخرافاته، وعودوا إلى شعراء أهل الإسلام، أمثال: محمد إقبال، وحسان؛ لأنهم شعراء الدعوة الخالدة.
لقد تكاثرتِ الظِّباء على خُراشٍ فما يدري خراشٌ ما يصيدُ
قل فيه ما شئتَ: دُرْزي، وإن شئتَ فقل: بعثي، وإن شئتَ فقل: قومي، كل يوم له مشرب، يركب كل شيء إلا الإسلام، أي: أنه ركب على كل مذهب إلا الإسلام، فنعوذ بالله منه.(275/26)
طريقة حفظ القرآن
السؤال
ما هي أحسن طريقة لحفظ القرآن؟
الجواب
يحفظ القرآن بعدة طرق ويأتي هذا في شريط اسمه: كيف تعيش مع القرآن؟ لأنه لا يتسع المجال لإعادة هذا الكلام، أذكر منها:
- الإخلاص.
- التقليل من الحفظ، بمعنى: أن تأخذ آيات قليلة.
- التكرار الكثير.
- استصحاب زميل يعينك على الحفظ.
- استماع الشريط من المقطع الذي تحفظ فيه.
- القيام به في الليل إن استطعت.
- قراءته في الصلوات.
- كثرة الاستغفار.
- قراءة معاني الآيات في التفسير.
- ثم عليك أن تعمل به لينفعك عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(275/27)
حكم اللحية
السؤال
كثر القول في اللحية، فما رأيكم؟
الجواب
لم يكثر القول، فـ أهل السنة يقولون: " تربية اللحية واجب، وحلقها محرم " وهذا كالإجماع، لقوله صلى الله عليه وسلم: {خالفوا المجوس، اعفوا اللحى، وجزوا الشوارب} أو {اعفوا الشوارب، وأرخوا اللحى} فهذا مشهور بين أهل السنة، وشبه إجماع بينهم، لكن جاء بعض المتأخرين -الذين لا يفقهون في الأحاديث- متأثرين بثقافة الغرب، وقالوا: هذه قشور، قلنا: الثوب؟ قالوا: قشور، ولو أسبلت الثوب، ليس من أصول الإسلام، أي أن أصول الإسلام عندهم: الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، فقط، قلنا: واللحية؟ قالوا: لا.
هي قشور، لا تهمنا، فأصبح الدين هيناً عندهم، حتى إن أحدهم يأكل باليسار، ويحلق لحيته، ويلبس دبلة الذهب، ويسبل ثوبه، وإذا قلنا: الإسلام! قالوا: الإسلام في القلب، وهذا ليس بصحيح، لو صدق أحدهم مع الله لكان صادقاً في مظهره.
يقولون: ذَهَبَ ذاهبٌ، جَبَرَه جيرانُه على أن يصلي في المسجد، فذهب وهو منكوس الخاطر، كأن عليه هموم الدنيا، فذهب وإذا الناس قد صَلَّوا، وباب المسجد مغلق، قال: (أنت مُسَكِّر، وأنا مبطل) فهذا (مُسَكِّر) عن الإسلام، والإسلام (مبطل) منه، لأن الإسلام لا يقبل إلا من أخذه جملة.
يا مدَّعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراكَ تأخذُ شيئاً مِن شريعتهِ وتتركُ البعضَ تدليلاً وتهوينا
خُذْها جميعاً تَجِدْ خيراً تفوزُ بهِ أو فاطَّرِحْها وخُذْ رِجْسَ الشياطينا
لا ترقيع في الإسلام.
وشكر الله لكم حضوركم، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(275/28)
عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم
النبي صلى الله عليه وسلم كان أعرف خلق الله بالله، وكان أعبد الناس لله جل وعلا، وهنا في هذا الدرس سترى أخباراً عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، وصيامه، وقيامه، ودعائه، مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.(276/1)
الرسول صلى الله عليه وسلم المشرف بالعبودية
الحمد لله الواحد القهار، مكور النهار على الليل والليل على النهار، أحمده ما فاحت الأزهار، وما ترعرعت الأشجار، وما تدفقت الأنهار، وما أناب إلى ربهم الأبرار، وعاد إلى مولاهم الأخيار.
والصلاة والسلام على المبعوث بالوحدانية، المشرف بالعبودية، الذي هدى به الله الإنسانية، وأنار به أفكار البشرية، وزعزع به كيان الوثنية.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فيا أيها الناس: إن الأمم والشعوب والدول تفتخر بعظمائها، وتبني المجد لأمجادها، وتؤسس التاريخ لمنقذيها، وما علمنا والله، وما عرفنا تالله، وما فهمنا وايمُ الله أعظم ولا أجلَّ، ولا رجلاً أسدى لبني جنسه ولأمته من المجد والعطاء والبناء أعظم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما ترى ما يفعل الإنجليز والألمان والفرنسيون والأمريكان بعظمائهم!!! وعظماؤهم سفكة عملاء خونة بنوا مجدهم على الجماجم، وسقوا زروع تاريخهم من الدماء؛ قتلوا الأطفال والنساء.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فحرامٌ أن يجعل في مصافِّهم، أو أن يقارن بهم، إنه صلى الله عليه وسلم من طراز آخر، إنه نبيٌ وكفى، إنه رسولٌ فحسب، تلقى تعاليمه من ربه تبارك وتعالى.
والعجيب أنهم مع تعظيمهم لهؤلاء العظماء والأذلاء والرخصاء يزرون بنبينا عليه الصلاة والسلام، غريب هذا الأمر، وعجيب هذا السبب:
إذا عيَّر الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت كسيفةٌ وقال الدجى للبدر وجهك حائلُ
فيا موت زُر إن الحياة ذميمةٌ ويا نفس جِدِّي إن دهرك هازل
الرسول عليه الصلاة والسلام إذا سمعت عن عظيم فاعلم أنك إذا رأيته كان أقل مما رأيته، إلا الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه أعظم وأعظم مما تسمع عنه.
واليوم نتحدث عن جانب العبودية في حياته صلى الله عليه وسلم.
كيف عاش عبداً لله؟
ما هي عبادته لله؟
كيف كانت صلاته؟
كيف كان يصوم؟
ما هو ذكره لله تبارك وتعالى؟
مدحه الله في القرآن بالعبودية، فيقول له: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] ويقول له: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] ويقول: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1].(276/2)
الصلاة قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم
فكان أعبد الناس لمولاه هو الرسول عليه الصلاة والسلام! يقول الله له: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أي: الموت، لا كما قال غلاة المنحرفين: اعبد ربك حتى تتيقن بوحدانيته ثم اترك العبادة؛ وقد كذبوا على الله، معناه: اعبد ربك في الشتاء والصيف، في الِحِلِّ والترحال، في الصحة والسقم، في الغنى والفقر؛ حتى يأتيك الموت {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:1 - 5].
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] قم لإصلاح الإنسان.
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] في لحافه؛ قم لهداية البشرية.
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] في فراشه؛ قم لهداية الإنسانية.
فقام عليه الصلاة والسلام ثلاثاً وعشرين سنة، ما نام ولا استراح، أعطى الإسلام دمه ودموعه، أعطى الدعوة ماله وكيانه، أعطى الإسلام ليله ونهاره؛ فما نام ولا ارتاح ولا هدأ؛ حتى أقام لا إله إلا الله.
يأتيه الحزن، والهم، والغم، فيقول: {أرحنا بها يا بلال} أي: بالصلاة.
تأتيه المصائب، والكوارث، فيقول: {أرحنا بها يا بلال}.
تأتيه الفواجع، والطوارق، والزلازل، فيقول: {أرحنا بها يا بلال}.
يموت أبناؤه، وأحبابه وأصحابه، ويقتل جنوده، ويهزم جيشه فيقول: {أرحنا بها يا بلال}.
يقول صلى الله عليه وسلم: {وجعلت قرت عيني في الصلاة} ما كان يرتاح إلا إذا قام يصلي، إذا قال: الله أكبر؛ كبرَّ بصوتٍ تكاد تنخلع لصوته القلوب، فيضع يديه على صدره فيقول: الله أعظم من كل شيء؛ لأنه الكبير سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يقف متواضعاً، متبتلاً، متخشعاً، عبداً متذللاً أمام الله.(276/3)
بكاء النبي صلى الله عليه وسلم
يقول عبد الله بن الشخير: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يصلي ولصدره أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء من خشية الله} والمِرجَل: القدر إذا استجمع غليانا.
ويقول حذيفة: {قام عليه الصلاة والسلام يصلي صلاة الليل بعد صلاة العشاء، فدخلت معه في الصلاة، فافتتح سورة البقرة، فقلت: يسجد عند المائة، فختمها، فافتتح سورة النساء، فاختتمها، فافتتح سورة آل عمران، ثم اختتمها، لا يمر بآية رحمةٍ إلا سأل الله، ولا بآية عذابٍ إلا استعاذ بالله، ولا بتسبيحٍ إلا سبح، قال: ثم ركع فكان ركوعه قريباً من قيامه، ثم قام فكان قيامه قريباً من ركوعه، ثم سجد فكان سجوده قريباً من ركوعه أو قيامه، ثم صلى الركعة الثانية قريباً من الأولى، ثم سلم وقد أوشك الفجر أن يطلع} ما يقارب الست ساعات أو سبع ساعات مع الفقر، والجوع، ومع الجهاد في النهار، والزهد، والدعوة إلى الله، ومع تربية الأطفال، والاهتمام بشئون البيت، ست أو سبع ساعات وهو يتبتل إلى الله.
فتفطرت أقدامه، وتشققت رجلاه عليه الصلاة والسلام، فتقول له زوجته عائشة رضي الله عنها وأرضاها {}.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: {نمت عند الرسول عليه الصلاة والسلام ليلة من الليالي، فقام يصلي فافتتح سورة البقرة، ثم سورة النساء، ثم سورة آل عمران على ترتيب مصحفه، قال: فأطال القيام حتى -والله الذي لا إله إلا هو- لقد هممت بأمر سوءٍ، قالوا: ماذا هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه}.
الرسول عليه الصلاة والسلام قام ليلة من الليالي، فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم، ثم بكى، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم ثم بكى، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم بكى، ثم قال: ويلٌ لمن لم تدركه رحمة الله، ويلٌ لمن لم تدركه رحمة الله}.
يسجد عليه الصلاة والسلام السجدة الواحدة، مقدار ما يقرأ الواحد منا خمسين آية، ويركع الركعة الواحدة مقدار ما يقرأ الواحد منا خمسين آية؛ هذا في صلاة الليل، يدعو ويبكي حتى الصباح، حتى تسقط بردته من على أكتافه كما في ليلة بدر، يناجي ربه، ويقرأ كتابه، ويتبتل إلى الله؛ لأن العبادة أقرب بابٍ إلى الله.
ونحن -أيها المسلمون- في سعدٍ ورغدٍ، في رخاء من العيش، في أمن وصحة، الموائد الشهية، الفلل البهية، المراكب الوطية؛ ومع ذلك نترك صلاة الجماعة إلا من رحم الله.
أيُّ أمةٍ نحن!! أيُّ كيانٍ نحن!! أيُّ قلوبٍ نحملها إذا لم نقم بالصلوات الخمس!!
قال بلال كما روى ابن جرير وابن مردويه: {مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر، فسمعته يبكي، فقلت: مالك يا رسول الله؟ قال: أنزلت عليَّ آياتٌ هذه الليلة، ويلٌ لمن قرأها ولم يتدبرها، قلت: ما هي يا رسول الله؟
فأخذ يقرأها ويبكي، قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]}.
كيف ترقى رُقيَّك الأولياء يا سماءً ما طاولتها سماءُ
إنما مثلوا صفاتك للناس كما مثل النجوم الماءُ
حنَّ جذعٌ إليه وهو جمادٌ فعجيبٌ أن تجمد الأحياءُ
كان يصوم عليه الصلاة والسلام فيواصل الليل بالنهار ثلاثة أيام وأربعة أيام لا يأكل شيئاً، بل أراد الصحابة أن يواصلوا كما يواصل قال: {لا، إنكم لستم كهيئتي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقين} لا يطعمه طعاماً ولا شراباً وإنما حكماً وفتوحات ربانية وإلهامات.
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نورٌ تستضيء به ومن حديثك في أعقابها حادي
يسافر السفر في شدة الحر، قال أبو الدرداء: [[في شدة الحر، حتى -والله الذي لا إله إلا هو- إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة حرارة الشمس، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن رواحة]].
يجلس مع الصحابة، فيقول لـ ابن مسعود: {اقرأ عليَّ القرآن، فيندفع يقرأ عليه حتى بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: حسبك، فنظرت قال ابن مسعود فإذا عيناه تذرفان، وفي رواية: وإذا دموعه تسيل من على لحيته} صلى الله عليه وسلم.
قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: {استفقت ليلة من الليالي فبحثت عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فوقعت يدي على رجليه وهو ساجد وهو يبكي، ويقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك}.
متى يقدم الإنسان للقبر ما لم يقدم هذه الليالي!! متى يصلي ما لم يصلِّ هذه الأيام!! متى يذكر الله إذا لم يذكر الله هذه الليالي!!
لأن الإنسان إذا دفن لن يصلي ولن يصوم عنه أحد، ولن يذكر الله عنه أحد:
رأيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبرٌ وماتوا جميعاً ومات الخبر
تسير وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور
أعبد العباد لله: رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومع ذلك أجهد نفسه في العبادة، في صلاة الليل، في الذكر، في تلاوة القرآن، في التسبيح والتهليل.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(276/4)
حال السلف وحال الخلف في العبادة
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً؛ أمَّا بَعْد:
أيها الناس! فقد أُثر عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أن المار إذا مر بهم في السحر سمع لبيوتهم دوياً كدويِّ النحل من البكاء، ومن قراءة القرآن، والدعاء، هذا في مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ دعاءٌ، وبكاءٌ، ومناجاةٌ وقت السحر، فما هو حالنا مع حالهم، وكيف نعيش بالنسبة إليهم.
إن تلك التلاوة، وذاك الدعاء، وذاك البكاء من خشية الله أبدل في البيوت -إلا في بيت من رحم الله- بالغناء والموسيقى والعود والوتر.
روى ابن أبي حاتم {: أنه صلى الله عليه وسلم كان يمر في ظلام الليل يتفقد أصحابه -كيف كانوا يصلون؟! كيف كانوا يدعون؟! كيف كانوا يبكون؟! - فسمع عجوزاً تقرأ من وراء الباب وتبكي -عجوز مسنة، طاعنة في السنة- تقرأ قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] وهي تبكي، وتعيد الآية، وتقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فوضع رأسه على الباب ويردد معها نعم أتاني، نعم أتاني} هذه وهي عجوز، فأين شباب الأمة؟!
أين أهل القوة والعضلات؟!
أين أهل البروز والإجادة؟!
إن القوي هو القوي في طاعة الله، وإن المفلح الناجي هو الناجي المفلح في طاعة الله، وإن المتقدم هو المتقدم في طاعة الله.
إذا علم هذا فإنه صلى الله عليه وسلم في جانب الذكر؛ كان أكثر الناس ذكراً لله تبارك وتعالى؛ نفسه ذكر لله، وفتواه ذكر، وخطبه ذكر، وكلامه وليله ونهاره وحركاته وسكناته ذكر لله تبارك وتعالى.(276/5)
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في السحر
قال ابن عباس: {نمت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستيقظ من الليل -في قصة طويلة، الشاهد فيها- قال: فتوضأ ثم أتى إلى القبلة وهو يتسوك ويقول: لا إله إلا الله، اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت فاطر السموات والأرض ومن فيهن، أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيُّون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت؛ فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت}.
هل سمعتم بعد كلام الله أحسن من هذا الكلام؟!
ما أجمل وقت السحر! يوم تناجي الله، يوم يتنزل إلى السماء الدنيا، فيقول: {هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفرٍ فأغفر له، هل من داعٍ فأجيبه}.
يقول محمد إقبال؛ الشاعر المشهور: يا ربِّ! لا تحرمني أنة السحر، يا ربِّ! اجعلني من البكَّائين الخاشعين لك في السحر، يا ربِّ إذا أحرمتني جلسة السحر فإن قلبي يقسو فلن يلينه أي شيء.(276/6)
الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة
عباد الله: هذا هو الرسول عليه الصلاة والسلام في عبادته؛ في صلاته وصيامه، في قراءته وذكره، وهو أسوتكم، وهو قائدكم إلى الجنة، ونجاتكم مرهونة باتباعه، وأخذكم وسيركم إذا لم يكن على سيرته وسنته؛ فهو الهلاك والدمار، والعار، والنار في الدنيا والآخرة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
فيا من أراد الجنة! يا من أراد النجاة، يا من أراد الفلاح! يا من أراد الخير والعدل والسلام! والله ليس لك قدوة؛ لا زعيم، ولا ملك، ولا مصلحٌ، ولا إمامٌ، ولا هادٍ ولا منقذ، ولا مكتشف إلا رسول الله بعد الله.
عباد الله: صلوا وسلموا على من عطرنا المجلس بذكره، صلى الله عليه وسلم، فقد أمركم الله بذلك؛ فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين!
اللهم ارض عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسانك إلى يوم الدين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم كفِّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم، وأخرجهم من الظلمات إلى النور يا رب العالمين!
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان وفي فلسطين، وفي كل بقعة من بلادك يا رب العالمين!
اللهم ثبت أقدامهم، وأنزل السكينة عليهم، واكتب لهم النصر يا رب العالمين!
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(276/7)
وقفة مع معاذ بن جبل
العلماء هم ورثة الأنبياء، وفي سيرهم وحياتهم تجد المواعظ؛ لأنهم إنما يقتفون نهج النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الدرس المبارك وقفات مع سيرة عظيم من عظماء الصحابة؛ بل إمام العلماء يوم القيامة، إنه معاذ بن جبل رضي الله عنه.(277/1)
مبدأ تاريخ الأمة
الحمد لله القائل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157].
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، شهادة أدخرها ليوم الدين: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] وأصلي وأسلم على رسول البشرية ومعلم الإنسانية، وهادم كيان الوثنية، صلى الله عليه وسلم، يقول: {ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع -ثم يقول:- الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً -أي: هدفاً للسباب والشتام- فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد أذاني، ومن أذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله أخذه ثم لا يفلته سُبحَانَهُ وَتَعَالى} وعلى آله وصحبه كلما لمع نجم ولاح، وكلما غرد حمام وناح، وعلى من سار على هديه إلى يوم الدين.
أمَّا بَعْد:
أيها المسلمون! فإننا نسير ونعيش مع سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، نأخذ حلول مشاكلنا وقضايانا من تلك السيرة، واليوم نعيش مع نجم من أولئك النجوم، فأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم نجوم.
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
، والذين يقولون من القوميين ودعاة التضليل والتبعية والضلالة إن تاريخنا يبدأ من الجاهلية فقد كذبوا على الله، بل تاريخنا يبدأ من بداية دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.
تاريخنا من رسول الله مبدؤه فما عداه فلا ذكر ولا شان(277/2)
حب النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ
صاحبنا هذا اليوم هو معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه:
فالسلام عليك يا معاذ بن جبل، السلام عليك يوم ولدت ويوم أسلمت ويوم مُتّ ويوم تبعث حياً، السلام عليك يوم دعوت إلى الله في اليمن، فأسلم معك أهل اليمن، واستضاءوا بنورك.
عرف معاذ محمداً صلى الله عليه وسلم فأحبه كل الحب، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستأسر الأرواح بالحب لا بالسوط أو السيف، أرأيتم المغناطيس كيف يجر الحديد، إنه حب أدهى من ذلك وأعلى.
ما بنى جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمة من عفاء
يخرج صلى الله عليه وسلم فيشبك يده الطاهرة الشريفة التي ما سفكت دماً ولا عاثت بمال حرام، ولا مست جسماً مشبوهاً ولا خانت عهداً ولا خاست بوثيقة، يشبكها في يد معاذ رضي الله عنه، ويقول: {يا معاذ! والذي نفسي بيده إني لأحبك، لا تدع في دبر كل صلاة إلا تقول: اللهم أعني على ذكرك شكرك وحسن عبادتك} يا لروعة الكلام! فأخذها معاذ رضي الله عنه وأرضاه ليقولها دائماً، وإذا لم يعنك الله ويساعدك على العبادة، فلا عبادة ولا قوة ولا هداية لك، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام مادحاً معاذاً رضي الله عنه: {أعلم أمتي بالحلال والحرم معاذ} ويقول فيه: {يأتي معاذ رضي الله عنه يوم القيامة أمام العلماء برمية حجر} حسناته فائضة، وقد كان ذكياً يعرف من أين يحفظ، ومن أين يبدأ وإلى أين سينتهي.(277/3)
دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني عن النار
سافر مع الرسول صلى الله عليه وسلم وكان رديفاً للرسول صلى الله عليه وسلم، فسأله سؤالاً هو أعظم سؤالٍ في تاريخ الإنسانية، قال: يا رسول الله! المسألة إليك، هل يسأله إمارة أن يؤمره، أو يسأله منصباً أو أرضاً يحييها، وقد أحيينا الأراضي وأمتنا القلوب، أمتنا قلوبنا فما أحييناها، ودمرنا بيوتنا فما ربيناها وما علمناها، ما تركنا شعباً إلا وأقمنا فيه قصوراً وبيوتاً، وتركنا قلوبنا وما أقمنا فيها لا إله إلا الله، قال صلى الله عليه وسلم: {سل ما بدا لك، قال: دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار} هكذا يسأل العظماء، والذين يريدون الله والدار الآخرة فيجيبهم صلى الله عليه وسلم، قال: {لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: والصوم جنه -أي: وقاية من النار- والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك يا معاذ على ملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: كف عليك هذا، وأخذ بلسان نفسه، فقلت: يا رسول الله! أئنا لمؤاخذون بما نتكلم به، قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم أو على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم} وصية جامعة مانعة فحفظها معاذ رضي الله عنه، فكانت في ذهنه دائماً، ولذلك قدم لنا معاذ أعظم حديث في العقيدة، يقول: {كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار} ويا للأعجوبة! محمد صلى الله عليه وسلم من علم الإنسان، وأيقظ الإنسان، ورباه يركب حماراً، ويردف معه معاذاً.
يقول صلى الله عليه وسلم: {يا معاذ! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله، قال: أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم -انظر إلى الأدب وعدم التدخل، وانظروا إلى السكينة والوقار والتثبت مع معلم البشرية- فقال: يا معاذ! حق الله على العباد، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم مضى قليلاً، وقال: يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم} ونقلها معاذ رضي الله عنه عند موته يوم صارعه الموت، يوم ازدحمت الزهقات عند حلقة، أداها للأمة لكي لا يموت وفي صدره حديث ما بلغه للأمة.(277/4)
معاذ وأهل اليمن
وأتى أهل اليمن، فقال صلى الله عليه وسلم: {أتاكم أهل اليمن هم أرق قلوباً وألين أفئدة، الإيمان يمان، والحكمة يمانية} فطلبوا المعلم يعلمهم كتاب الله، وشرعه ورسالته أتدرون من يختار؟ ومن يرشح على هذه الأمة؟ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه واستقرأ في نفوسهم اليقظة والعلم وكمال الاهتمام، ومن يقوم بهذه المهمة، فقال: {يا معاذ! قم واذهب مع أهل اليمن داعية ومعلماً، وقال له: يا معاذ! لعلك لا تراني بعد اليوم إلا عند الله، فبكى معاذ رضي الله عنه، وارتفع بكاؤه -وحق له أن يبكي- عند ساعة الفراق، فقال صلى الله عليه وسلم: يا معاذ! لا تبكِ، ولا تجزع فإن الجزع من الشيطان، ثم قال له: أوصيك يا معاذ! أن تتقي الله، وتذكر الله عند كل شجر وحجر ومدر، ثم قال له: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} فأخذها معاذ وهو يبكي؛ وصية ما سمع التاريخ ولا سمعت الدنيا بمثلها: {اتق الله حيثما كنت} في أي مكان كنت وتحت أي سقف وجدت، وفي أي مكان عشت، لأن الله معك، قال تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] فاتق الله حيثما كنت.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
إذا كانت النفس داعية إلى أن تقتحم حدود الله وتنتهك حرمات الله، فاستحي من نظر الإله وقل لها: إن الذي خلق الظلام يراني، ولذلك يقول سليمان عليه السلام: تعلمنا مما تعلم الناس، ومما لم يتعلم الناس، فلم نجد كتقوى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وانطلق معاذ مع أهل اليمن، وقبل أن ينطلق قال له صلى الله عليه وسلم: {يا معاذ! ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم أن الله كتب عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاه تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم} هكذا تدرج الداعية، وهكذا تبليغ الناس، الأولويات فالأولويات، والقضايا الكبرى فالكبرى، ولا ينفع الإسلام أو الدعوة الإسلامية أن تطرح للناس جملة، بل نقطة نقطة، فإن هم حققوها فلتأتِ الثانية.
أما الدعاة الذين يريدون أن يسلم الناس في يوم واحد، وأن يتمثل الإسلام في يوم واحد، فإنهم سوف يخفقون ولو طالت بهم الأعمار، التفت رضي الله عنه إلى المدينة، وتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم، لعلك لا تراني بعد هذا اليوم إلا عند الله تبارك وتعالى؛ فبكى على تلال المدينة وهو يودع طيبة الطيبة، وينظر إليها:
أقول لصاحبي والدمع جار وأيدي العيس تخدي بالرمال
تمتع من شميم عرار نجد وهل بعد العشية من عرار
وذهب رضي الله عنه وأرضاه، واستقبلوه هناك في اليمن فعلمهم علماً جما، تواضع لهم وخالقهم فكسب قلوبهم، ورأوا فيه الزاهد والعابد، والقانت الأواب، فأحبوه أكثر من أطفالهم، وأكثر من أرواحهم التي بين جنوبهم.(277/5)
معاذ في ولاية الصديق رضي الله عنهما
وتولى أبو بكر رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع معاذ وهو في اليمن بأعظم مصيبة في تاريخ الإنسان:
وإذا دهتك من الأمور بلية فاذكر مصابك بالنبي محمد
فعاد ووصل إلى المدينة، وعانق أبا بكر، وأبو بكر قد تولى شئون الأمة، وأعلن سياسة حكومته الجديدة على الكتاب والسنة، فبكى أبو بكر ومعاذ وقال أبو بكر: [[تخلفنا -يا معاذ - بعد رسول الله لتلعب بنا الشياطين، فأخذ معاذ يقول: لم تلعب بك الشياطين ومعك كتاب الله]] وذهبا إلى فاروق الإسلام، فقال الفاروق عمر بن الخطاب: أتيت لأحاسبك على رواتبك التي أخذت في فترة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: والله ما أخذت من أموالكم درهماً ولا ديناراً وأنت لست الخليفة إنما هو أبو بكر، قال: أنا أبو بكر وهو أنا، كلنا في الحق سواء، فقال معاذ: لن أدفع لك شيئاً، والله ما أخذت إلا من تجارة حلال، ونام معاذ رضي الله عنه، ورأى كأن بحراً هائجاً أمامه، ويرى أنه يكاد يغرق فيه، وإذا بـ عمر يجره رضي الله عنه وأرضاه، فيأتي إلى عمر في الصباح ويبكي ويقول: يا أخي! رأيت في المنام بحراً كدت أن أغرق فيه، وإذا أنت ممسك بيدي، فاذهب معي إلى أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحاسبنا على هذا المال، وذهبا جميعاً فقال أبو بكر: غفر الله لك يا عمر! وغفر الله لك يا معاذ! والله لا آخذ منك درهماً واحداً ولا ديناراً، فطابت نفس معاذ، وما كان أبو بكر ليترك درهماً واحداً؛ لأن هذا الدين بني على الحق والعدالة، ساعة تعملها تأخذ أجرها، وساعة لا تعملها فلا حق لك، لن تداجيك داجية، لا على الله ولا على ولاة الأمور أن تصرف في غير استحقاقها، وتسجل بأوراق زور ثم تسحب هذه الأموال في امتدادات، وهي في غير امتدادات وهي كاذبة خاسرة، ولا دوام هناك إضافي، إنما ما عملته أخذت أجره، ليكسبك الله كسباً وفيراً، الحلال المبارك، فتأكل حلالاً، وتشرب حلالا وتغذي أبناءك بالحلال، أما أن تقيم بيتك على الكذب والزور فهذا ليس في شرع الله، فسامحه أبو بكر وما كان له أن يتخلى عن درهم واحد، ورضي معاذ رضي الله عنه بكسبه، واستمرت الحياة به رضي الله عنه وأرضاه، يعلم الناس بلطف وأناة ووقار وكان يتذكر في يومه وليلته الموت، كلما تذكر الموت نسي جلاسه الذين حوله يقول: [[والله إني أتذكر الموت فيموت كل عضو مني مكانه]].(277/6)
إيمان معاذ
قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ في ذات يوم: {كيف أصبحت يا معاذ! قال: أصبحت مؤمناً حقاً يا رسول الله! قال: إن لكل قول حقيقة، فما حقيقة إيمانك، قال: والله ما خطوت خطوة إلا وكأن الموت يصرعني قبلها، والله ما أصبحت وأنا أنتظر المساء، وما أمسيت وأنا أنتظر الصباح، وكأني بعرش الرحمن بارز على رءوس الناس يوم القيامة، وكأني بكل أمة جاثية، كل أمة تدعى إلى كتابها، وكأني بأهل النار في النار يعذبون، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: عرفت فالزم} هذا هو التوحيد والإيمان، أن تتذكر الله إن كنت أستاذاً في فصلك، وتعلم أن صبية الإسلام وأطفاله وقلوب أهل الإسلام على الكراسي بين يديك، فاتق الله فيهم، وأن تتذكر الله وأنت موظف على كرسيك، وتتذكر لقاء الله والحشر بين يدي الله، والعرض عند الميزان والصراط فتخلص في عملك، وتتذكر الله وأنت قاضٍ تحكم في الدماء والأموال والبيوت، تتقي الله وتخاف الله فيكون أخوف عندك من كل شيء، وتتذكر الله وأنت جالس في دكانك في سوقك، فلا تغش ولا تخون، ولا تخادع، ولا تماكس ولا تناجش؛ فإنما الله نصب عينيك، هكذا كانوا يعيشون أيها المسلمون.
يا أحبابنا في الله: ويا أخوتنا في الله! لما تركنا الاستضاءة بنور حياتهم؛ أصابتنا البلايا والأمراض والأخطاء في مجتمعاتنا، عدل القاضي عن الطريق المستقيم، ولم يوف الموظف حقه، ولم يخلص المدرس في فصله، ولم يؤتمن التاجر، فوقعت البلايا، يقول عمر رضي الله عنه: ولاني أبو بكر قضاء المسلمين في المدينة سنة كاملة، ووالله ما أتاني رجلان يتقاضيان، كلٌّ عرف الحق، وكلٌّ أبصر الطريق، فهذا هو معاذ بن جبل الذي يقول فيه ابن مسعود رضي الله عنه: [[إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً، ولم يكن من المشركين، شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم]].
فيا أخوة الإسلام: من مثل معاذ نتعلم الزهد والأدب، ونتعلم الحياة الإسلامية الحقة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(277/7)
وفاة معاذ رضي الله عنه
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
فيواصل معاذ رضي الله عنه رحلة الحياة رحلة العبادة والزهد، والعمل الصالح رحلة أن يريد الله وما عند الله، ولما أتت معركة اليرموك يوم كتب الله أن ننتصر من بغاة البشرية، وأن نزعزع أصنام الوثنية، ونمحق طغاة الأرض، سار أجدادنا من الصحابة ومعهم معاذ بن جبل، ووقفوا في الصفين، صف يقول: لا إله إلا الله، ولا حكم إلا لله، ولا شريعة في الأرض إلا لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وصف يدعي الوثنية والإشراك برب البرية سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وكان معاذ في المقاتلين؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه دفع بكل من عنده ليواجه الروم، دفع بالعلماء في خضم المعركة، وقاد الأبطال إلى النزال، ودفع بالأدباء كذلك؛ لأنه يريد أن تكون المعركة عسكرية، وإعلامية، وعلمية، وفكرية، وأدبية، وقام معاذ رضي الله عنه قبل أن تبدأ المعركة، وتلا سورة الأنفال بصوته المبكي الحزين، فبكى الناس، وقال: أيها المسلمون: اصدقوا الله هذا اليوم، فوالذي نفسي بيده، لقد تجلى الله لكم وقد فتح لكم جنات عرضها السماوات والأرض، وبدأت المعركة وانتصر عباد الله الموحدون، وعاد رضي الله عنه إلى مسجده في دمشق يعلم الناس ويؤدب الناس، وينشر العلم ويعطي مما أعطاه الله.
فلما أتته الوفاة، وكان سبب وفاته أن الطاعون أصاب الناس وانتشر فيهم، فوقع في يده اليمنى كالدرهم، وعمره ثلاث وثلاثون سنة صرفها في ذات الله، كلها علم ودعوة وإخلاص وإنابة، فيصيبه الطاعون كالدرهم في يمينه، فيخرج إلى الناس فيرفع يده ويقول: اللهم إنك تبارك في القليل وتكبر الصغير، اللهم بارك في هذا الجرح، اللهم ارزقني شهادة بالطاعون، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {الطاعون شهادة لكل مسلم} فعاد إلى بيته، ومضت هذه القرحة تلتهم جسمه، وهو يبتسم ويرضى بقضاء الله؛ لأن الحب في الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى إذا كمن في القلب فلله أن يفعل بالجسم ما شاء، ويحكم ما يريد، فهو طبيب الإنسان.
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي والذي قد أصابني من طبيبي
وفي الصباح قال لابنته الخيرة البارة: اخرجي فانظري هل طلع الفجر، فنظرت فقالت: لم يطلع بعد، فعاد فاستغفر الله كثيراً وقال: اللهم إني أعوذ بك من صباح إلى النار، ثم قال: يا بنية! اخرجي فانظري هل طلع الفجر، فنظرت فقالت: طلع الفجر، فصلى في مكانه، ثم التفت إلى زوجته وأبنائه، ثم قال: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم إنك كنت تعلم أني لم أحب الحياة لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولا لعمارة الدور، ولا لرفع القصور، وإنما كنت أحب الحياة لظمأ الهواجر، أن أظمأ في سبيلك في يوم حار، يوم يشرب الناس، فلا أشرب لأصوم، ويوم يأكل الناس فلا أكل، ويوم يرتاح الناس فلا أرتاح؛ لأرتاح هناك في موقف يحضره الله ويحكم فيه، ثم يقول: اللهم إنك تعلم أني أحب الحياة لظمأ الهواجر، ولقيام الليل، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر، ثم قال للموت: مرحباً بك، حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، غداً ألقى الحبيب محمداً صلى الله عليه وسلم، وذهب معاذ إلى الله، إلى الدار التي بناها في الحياة، إلى القيعان التي غرسها بالعلم والفكر والجهاد:-
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
أين الملوك التي كانت مسلطنة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها
فيا من يريد الله والدار الآخرة: اعمل كعمل معاذ واذهب إلى طريق معاذ يوم أن تأتي الله مجرداً بلا منصب ولا وظيفة، بلا مال ولا ولد، بلا جاه ولا مهور، بلا بيوت {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94].
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وانصر المجاهدين في سبيلك يا الله.(277/8)
الباحث عن الحقيقة
من أعجب القصص التي وردت في دواوين السنة قصة إسلام أبي ذر، فقد كان هذا الصحابي في أول أمره حنيفياً وما كان يسجد للأصنام، فلما سمع بمبعث الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل أخاه ليستفهم له عن الخبر فلم يشفه، فذهب بنفسه ولقي الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلم، ثم عاد إلىأخيه وأمه فأسلما، ثم إلى قبيلته غفار فأسلمت، ثم إلى قبيلة أسلم فأسلمت.
وفي غزوة تبوك يتأخر به جمله ثم يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ماشياً فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: يرحم الله أبا ذر يعيش وحده ويموت وحده ويحشر وحده.(278/1)
حياة أبي ذر في الإسلام
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشرف الصلاة وأتم التسليم على البشير النذير.
من هو الباحث عن الحقيقة؟
إنه الذي يقصده الشاعر المسلم وهو يتكلم عن هذا الرجل الذي سوف أتكلم عنه هذا اليوم وهو يقول:
أركبوني نزلت أركب عزمي أنزلوني ركبت في الحق نفسا
أطرد الموت مقدماً فيولي والمنايا أجتاحها وهي نعسى
قد بكت غربتي الرمال وقالت يا أبا ذر لا تخف وتأسا
قال لا خوف لم أزل في شباب من يقيني ما مت حتى أدسا
إذاًَ هو أبو ذر الغفاري -رضي الله عنه رضواناً يلحق به في جنات النعيم- كان يسكن البادية معه جمله وغنمه، يضرب في صحراء الدهناء وسط جزيرة العرب، لم يقرأ حرفا، ً ولم يقتن كتاباً، ولم يحمل قلما، ً ولكن الله إذا أراد أن يهدي هدى، وإذا أراد أن يضل أضل، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وصرخ عليه الصلاة والسلام بـ"لا إله إلا الله محمد رسول الله" وأبو لهب وأبو طالب عند الصفا لكن ما سمعوا قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23].(278/2)
أبو ذر يرسل أخاه إلى مكة
رفضوا الهداية أما أبو ذر فسمع أن في مكة رجلاً يدعي النبوة، فقال لأخيه أنيس: [[اذهب إلى هذا الرجل، وائتني منه بخبر]].
فركب أنيس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، والتقته الدعاية المغرضة وتشويه السمعة على أشراف مكة، قالوا: يا أنيس! هذا كذاب ساحر مفترٍ على الله، مجنون، فرجع وسمع الدعاية الباطلة، والتشويه، وقال لأخيه: لا عليك، رجل كذاب مجنون ساحر كاهن.
قال أبو ذر: والله، لأذهبن أنا بنفسي إليه؛ فعليك بأهلي ومالي، وركب ناقته واخترق الحجب ليصل إلى معلم الخير مباشرة ليرى وجهه، وليسمع كلامه، ولتقع نبراته الصادقة في قلب أبي ذر، وليجري كلام محمد عليه الصلاة والسلام في دم أبي ذر قطرة قطرة.(278/3)
أبو ذر يقابل النبي صلى الله عليه وسلم
ووصل مكة، فلقيه علي بن أبي طالب الشاب المتوقد الذي نشأ على معالم لا إله إلا الله.
قال أبو ذر: [[أين الرجل الصابئ؟ قال: أتريد محمداً؟ قال: نعم.
ولكني جائع -أتى من الصحراء وهو جائع لم يأكل منذ ليالٍ يريد قبل أن يلقى معلم الخير المعصوم أن يأكل أكلاً- قال: تعال إلى أبي بكر الصديق {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:18 - 21].
فأدخله أبو بكر، وأطعمه من زبيب وخبزٍ، ثم أخذه علي بن أبي طالب قال: يا أبا ذر! كن معي فإذا كنت في الحرم ورأيت الرسول صلى الله عليه وسلم فسأتظاهر بإصلاح نعلي -هذا خوف من المشركين- فإذا رأيتني وقفت فهو الرجل الذي أمامك فنزل، وكان عليه الصلاة والسلام كالقمر ليلة أربعة عشر لا يختفي، ومن رآه أحبه، ومن سمع كلامه صدقه، ومن صاحبه ائتمنه.
يقول ابن رواحة:
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
فوقف علي يصلح نعله؛ فعرف أبو ذر وجه المصطفى عليه الصلاة والسلام، واقترب منه ليحييه بتحية الجاهلية فقال: عم صباحاً يا أخا العرب، قال عليه الصلاة والسلام: {إن الله أبدلني تحية خيراً من تحيتك، قل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ورحب به عليه الصلاة السلام وأجلسه}.
الأسئلة الساخنة تبدأ، والحوار الجريء يبدأ، وتطرح بين المعلم والتلميذ وبين الشيخ والطالب قال أبو ذر: من أنت؟ قال: أنا رسول الله، قال: من أرسلك؟ قال: الله الذي إذا كنت في سنة مجدبة فدعوته أمطر عليك، والذي إذا ظلت راحلتك في الصحراء ودعوته، ردها عليك -يكلمه من دفتره، من بيئته: الناقة، السنة المجدبة، الصحراء- قال: بم أرسلك الله؟ قال: أرسلني بالصلاة، والصدق، والعفاف، وصلة الرحم، وبر الوالدين، والنهي عن عبادة الأصنام والأوثان.
قال أبو ذر: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، والله لأقومنّ بها عند الصفا، قال عليه الصلاة والسلام: لا.
اذهب إلى أهلك ولا تخبر أحداً، فإذا سمعت أن الله أظهرني وسوف يظهرني، فتعال بأهلك، قال: والله لأقومن عند الصفا، فوقف وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله فانهال عليه سكان الحرم بالحجارة من كل جانب حتى وقع مغمياً عليه يرش ثوبه بالدم، وأتاه عليه الصلاة والسلام فاحتضنه ورشه، وقال: ألم أنهك؟ -ألم أقل لك: لا تقل ذلك؟ - وحال العباس بين المشركين وبين أبي ذر}.
وذهب أبو ذر إلى أهله في البادية ووقف أمام زوجته وقال: دمي من دمكِ حرام، وبيتي من بيتكِ حرام حتى تشهدي أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فشهدت.
ثم أتى إلى أهله فشهدوا، ثم جمع قبيلته بني غفار فشهدوا فدخلوا في دين الله أفواجاً.
وأتى أبو ذر إلى محمد عليه الصلاة والسلام بعد أن نصره وأظهره الله وأصبح في المدينة، {قال أبو ذر للنبي عليه الصلاة السلام: أعرفتني؟ قال: نعم أنت أخو غفار، ثم وقف عليه الصلاة والسلام على المنبر يحيي القبيلة التي وطئت المدينة ويرفع يديه ويقول: غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، وعصية عصت الله ورسوله}.
وأخذ أبو ذر يحب الرسول عليه الصلاة والسلام كل يوم وهو في زيادة، ويقول متبجحاً ومفتخراً ومغتبطاً بزيارة الرسول عليه الصلاة والسلام: {كان عليه الصلاة والسلام يزورني كل يوم في بيتي فزارني مرة فلم يجدني، فقال: أين هو؟ قالوا: خرج يا رسول الله ويأتي، فجلس على فراشي، فلما أتيته احتضنني والتزمني وقبلني، زيارة}.
إنها الذكريات التي لا ينساها أبو ذر أبداً.(278/4)
أبو ذر والإمارة
ورأى الرسول عليه الصلاة والسلام يولي أصحابه الإمرة، هذا أمير في نجران، وهذا في اليمن وهذا على مشارف الجزيرة، وهذا في مكة وهذا على الجيش.
أتى أبو ذر يريد أن يعرض نفسه وقال: يا رسول الله! وليت فلاناً وفلاناً ولم تولني الإمرة ألعجزٍ؟ أم لخيانة؟
قال: لا.
لكنني أصونك، يا أبا ذر! {إنها لخزي وندامة يوم القيامة، إنك رجل ضعيف وإنها أمانة} فلم يوله الإمرة -فبقي معه- وكان عليه الصلاة السلام ويلحظ فيه قوة الشخصية؛ لأنه صادق لا يحب المجاملة، ولا الرياء ولا النفاق، كان يصدع بالحق.
يقول: {يا رسول الله! إذا متَّ فمن يلينا؟
قال له عليه الصلاة والسلام: كيف بك إذا أدركت قوماً يؤخرون الصلاة تعرف منهم وتنكر فما أنت فاعل؟ قال: آخذ سيفي فأقاتلهم حتى أموت، قال عليه الصلاة والسلام: لا.
صلِّ الصلاة في بيتك، فإذا أدركتهم فصل معهم ولا تقل قد صليت، واصبر ولو جلدوا جلدك وأخذوا مالك} ثم قال عليه الصلاة والسلام: {إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج من المدينة} معنى ذلك: إذا كثر العمار في المدينة وأصبحت المدينة متحضرة وكثرت أسواقها والجاليات بها، فاخرج أنت بأهلك إلى الصحراء، وانصب خيمتك هناك، ولا تخالط الناس، لتبقى شفافاً، لماعا، ً نقيا، ً نظيفاً من الدنيا.
هذا هو معنى كلماته عليه الصلاة والسلام، وبالفعل خرج أبو ذر وحده إلى الصحراء، ولكن لا تزال الذكريات.(278/5)
أعظم حديث رواه أبو ذر
وقف عليه الصلاة والسلام عند أبي ذر ثم لقنه حديثاً هو أشرف حديث عند الأمة الإسلامية.
يقول عليه الصلاة والسلام، وهو يتحدث عن الله عز وجل في حديث إلهي يحفظه أبو ذر.
يقول عليه الصلاة والسلام -وفي بعض الروايات: أنه جثا على ركبتيه عليه الصلاة والسلام- أن الله جل وعلا قال: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا.
يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم.
يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم.
يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم.
يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد - لا إله إلا الله! سبحان من لا يفنى ولا يموت لا تغيره الوقوت ولا يحول ولا يزول! يغير الدول ولا يتغير، يبدل الناس ولا يتبدل.
قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.
يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه} رواه مسلم.
هذا الحديث تاج لـ أبي ذر.(278/6)
أبو ذر في غزوة تبوك
سافر عليه الصلاة والسلام إلى تبوك في حر شديد، الصحراء تقذف بقذائف اللهب، الشمس تغلي الرءوس، البطون جائعة، الأكباد حارة من الظمأ، ومعه جيش، وقطع المئات من الأميال، وأبو ذر معه، ولكن جمل أبي ذر تخلف بسبب ضربه فحاول مع الجمل فلم يحلُ له سير، فأخذ متاعه من على الجمل ووضعه على ظهره وأخذ يمشي في الصحراء وتخلف ليلة، قال صلى الله عليه وسلم -وقد قرب من تبوك - أين أبو ذر؟ قالوا: تخلف يا رسول الله! قال: إن يرد الله به خيراً يلحقه بنا، وفي اليوم التالي وفي الظهيرة وإذا برجل أقبل كالغراب من آخر الصحراء، تتابع خطاه في الصحراء والرمضاء الشديدة، فاقترب رويداً، والرسول عليه الصلاة والسلام يتهلل وجهه ويقول: {كن أبا ذر، كن أبا ذر، كن أبا ذر} فإذا هو أبو ذر، وتقبل دموعه عليه الصلاة والسلام لما يرى من هذا الجسم النحيل والثياب الممزقة والجوع والمتاع على الظهر لمرضاة الواحد الأحد، فيقول له أمام الناس: {رحمك الله يا أبا ذر! تعيش وحدك، وتموت وحدك وتحشر وحدك}.
تعيش وحدك فلا تتصل بالناس ولا بالدنيا فأنت عالم آخر:
وحيداً من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد
أو كما قال الآخر:
أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبر
وأشجع مني كل يومٍ سلامتي وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر
وتموت وحدك فيحضره الملائكة بعيداً عن الأحباب والأصحاب، ويحشر يوم القيامة أمة لوحده، وفي بعض الآثار يحشر هو وعيسى عليه السلام سوياً.(278/7)
وفاة أبي ذر
طالت الحياة بـ أبي ذر، وبقي في الصحراء قائماً صائماً مصلياً، وحضرته سكرات الموت بعيداً عن قومه، بعيداً عن الصحابة، بعيداً عن الجيران والخلان والأصدقاء [[بكت عليه امرأته وقالت: يا أبا ذر! بعد صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام وصحبة أبي بكر وعمر والصحابة تموت هنا وحدك، قال: لا تبكي عليَّ فقد أخبرني خليلي: أني أعيش وحدي، وأموت وحدي وأحشر وحدي، قالت: وأين الدنيا؟ قال: معي هذه الشملة وهذه القصعة وهذا البيت، فإذا مت فاغسلوني ثم كفنوني في هذا الثوب، ثم اجعلوني على قارعة الطريق فسوف يأتي موكب من المؤمنين يصلون علي ويدفنونني]].
كان في طريق الصحراء لا يعلم بموته إلا الله، وكان يقول له عليه الصلاة والسلام وهو يضرب على كتفيه: {إن منكم من يموت في خلاء من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين} فغسلته زوجته وكفنته في ثوبه وطيبته -طيب الله ثراه وأنفاسه وأيامه- وأخذته هي وبنتها وجعلته على قارعة الطريق.
علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
لعظمك في النفوس تبيت ترعى بحراس وحفاظ تقات
وتوقد حولك النيران ليلاً كذلك كنت أيام الحياة
فعرضوه في الطريق وفي الضحى، وإذا بـ ابن مسعود عالم الصحابة يأتي من العراق معتمراً ومعه أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فيرى جنازة معروضة انتقل صاحبها إلى الله، وذهبت الروح إلى الملأ الأعلى، فقفز من على ناقته وهو يقول: "وا أبا ذراه! "وا حبيباه! "واخليلاه! صدق رسول الله.
فماذا كان يفعل ابن مسعود؟
هل يحفر التراب ويدفن الرجل ويكفي هذا الوداع!! أين الصحبة؟
أين الأيام الجميلة الغالية التي عاشها مع أبي ذر.
أولاً: أتى إلى الكفن ثم حل عقده عن أبي ذر ثم كشف وجهه فكأنه القمر ليلة البدر، ثم أخذ يقبله والدموع تهراق على وجه أبي ذر، ثم مر الصحابة يقبلون ثم صلوا عليه، ثم دفنوه قال الله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].(278/8)
دروس من سيرة أبي ذر
أولها: الصدق مع الله منجاة، وهو طريق الصالحين وقبلهم الأنبياء والرسل.
الثاني: التخفف والتقلل من الدنيا.
الثالث: إن من جاهد في الله فلن يضيع الله جهاده قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
الرابع: من أراد الحقيقة فلن يجدها إلا عند محمد عليه الصلاة والسلام، أما غيره فليس عنده حقيقة إلا من حقيقته، ولا نور إلا من نوره، ولا خير إلا من خيره عليه الصلاة والسلام.
سلام على ذاك العلم، وعلى شيخه، وجمعنا الله بهم في دار الكرامة، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(278/9)
عظمة الرسول عليه الصلاة والسلام
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، والصلاة والسلام على معلم الخير وهادي البشرية، ومدافع كيان الوثنية، ومعلم البرية، ما تلألأ نور في نظر، وما تألقت أذن لخبر، وما هتف ورق على شجر.
أيها الناس! تتفنن الأمم والشعوب في ذكر عظمائها بالقصة والقصيدة والمسرحية والكتابة وغالبها زيف، ونحن نتفنن في ذكر عظمة عظيمنا عليه الصلاة والسلام، يشهد الله على صدقنا، ثم يشهد التاريخ والدهر وحتى الأعداء.(278/10)
من تعظيم الرسول العمل بسنته وعدم الابتداع
ومن عظمته عليه الصلاة والسلام:
* أن ذكرى ميلاده هو العمل بسنته، فليس له مولد يحتفل به، ولا لأحد من علماء الإسلام، والاحتفال في سيرته وسنته عليه الصلاة والسلام أن نتبعه وأن نقتدي به، وأن نذب عن منهجه، وأن نحذر من البدع التي تجري على سنته، وأن ننشر مبادئه، وأن نضحي عن قيمه بالنفس والنفيس هذا هو الميلاد الحق.
أحبك لا تسال لماذا لأنني أحبك هذا الحب رأيي ومذهبي
وقد حذرنا عليه الصلاة والسلام من البدع، ومن أقبح البدع التي انتشرت في العالم الإسلامي بدع المولد، أو مشاركة الكفار في عيد ميلاد المسيح عليه السلام، وهذا لم ينزل الله به سلطاناً، ولم يرسل به رسولاً، ولم يأذن به سبحانه، فالباب دون هذا مغلق.
وقال المعصوم عليه الصلاة والسلام: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} وعندما يكون في التاريخ الميلادي ذكرى ميلاد المسيح، يقوم النصارى في هذا اليوم ويقيمون الدنيا ويقعدونها بإعلامهم وبأقلامهم عن هذا اليوم والحقيقة أنهم يضحكون على أنفسهم، فهم خالفوا عيسى وموسى ومحمداً عليهم الصلاة والسلام، وهم الذين كفروا برسل الله وكتبه، وهم الذين افتروا على الله وعلى مبادئه، وهذا له مجال آخر، لكن الذي يهمنا كمسلمين ألا نشاركهم في أعيادهم ولا نحضر ولائمهم ولا نفرح بفرحهم ولا نميز هذا اليوم عن أيامنا، ولا نجيب دعوتهم، فإنهم في الشركات والمؤسسات والمحلات والجاليات يقيمون ولائم ويهدون زهوراً ويقومون بطقوس، فقد حرم أهل العلم بالإجماع حضور هذه أو دعوتهم أو قبول الهدية أو الإهداء إليهم أو مشاركتهم بأي رسالة أو ببرقية أو بمواساة؛ لأن هذا خدش في الولاء والبراء، ومن أحسن من تحدث في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله في كتابه العظيم اقتضاء الصراط المستقيم بفصول عظيمة بين فيها حكم الله في هذا.
أيضاً: لا يجوز صيام هذا اليوم أعني يوم الميلاد عندهم، لا يصومه مسلم يميزه بهذا العيد عن غيره، فإن فعل فقد ابتدع في دين الله إلا أن يكون صياماً له لا يقصد به المشاركة ولا المداهنة ولا المؤانسة لهم.(278/11)
حكم الاحتفال بالمولد النبوي
أيضاً لا يجوز إحداث مولد له عليه الصلاة والسلام، ولا الاجتماع في يوم مولده لا بالنشيد ولا بالرقص ولا بقراءة كتب، ولا بإحداث معلم لهذه الليلة، فإن هذه لم يخترعها ويبتدعها إلا حاكم إربل في العراق في حدود المائة الخامسة، وقد بدَّعه أهل العلم، وأجمع أهل السنة على أنه قد افترى على الله، فلينتبه لهذا خاصة لمن يعيش بجوار النصارى، سواء في شركة أو مؤسسة أو في بعثة، فليتق الله ربه، فإنه قد يعمل عملاً يخرجه عن الملة وهو لا يشعر، ويغضب ربه عليه، ويخالف رسوله عليه الصلاة والسلام، فليتقيد بدين الله عز وجل، والله عز وجل ذكر أنهم لن يؤمنوا لنا ولن يطيعوا ويستجيبوا حتى نؤمن بمبادئهم ونخرج من مبادئنا.
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:113].
وذكرهم الله باللعنة يوم خالفوا أمره، وأخبر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام، والمعصوم عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح يقول: {والذي نفسي بيده، لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا دخل النار}.
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على منهجه، اللهم ارض عن أصحابه وألحقنا بهم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، ووفقهم لما تحب وترضى، وارزقهم البطانة الصالحة يا رب العالمين، اللهم اهد شباب المسلمين، اللهم وفق من جاهد لإعلاء كلمتك وانصرهم نصراً مؤزراً، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق وألف ذات بينهم، وأصلح قلوبهم وردهم إليك رداً جميلاً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(278/12)
المعجزة الكبرى
إن المعجزة الكبرى هي القرآن العظيم، نعم.
إنه كلام الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
والشيخ في هذا الدرس يحث على قراءته وتدبره والعمل به، وتطرق إلى بعض الأحكام والمسائل المتعلقة به.(279/1)
القرآن هو المعجزة الكبرى
الحمد لله، الحمد لله القائل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:190 - 194].
أحمده حمد من أنار بالتوحيد قلبه، ومن عرف بالتوحيد ربه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم من رسول شرح الله له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره.
نبي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر نبي رباه الله على القرآن من صغره، وعلمه مما علمه الله نبي كسر الله بدعوته ظهور الأكاسرة، وقصَّر برسالته ظهور الأقاصرة وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس! فإن لكل رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام معجزة اختص بهذه المعجزة من بين الرسل، ليصدقه قومه، وليعلن التوحيد والبراهين فيهم، فكان لموسى عليه السلام معجزة العصا يوم خرج في قوم بلغوا في السحر ذروته ومنتهاه، فأتت عصاه فتلقفت ما صنعوا من الكذب والبهتان.
وبلغ قوم عيسى في عهده مبلغاً عظيماً في الطب، فأتى إليهم بطب من الواحد الأحد يبرئ به الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله.
وأما رسولنا عليه الصلاة والسلام فبعث في أمة مُجيدة في اللغة، فصيحة في البيان، خطيبها أخطب الخطباء، وفصيحها أفصح الفصحاء، وشاعرها أشعر الشعراء، فأتى إليهم عليه الصلاة والسلام بالقرآن، سمعوه فدهشوا من بلاغته وبيانه وفصاحته، فما استطاعوا أن يحيدوا -والله- حتى يقول فرعونهم وكافرهم الوليد بن المغيرة، وقد سمع بلاغة القرآن، ويحلف باللآت والعزى: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمغدق، وإن أسفله لمورق، وإنه يعلو ولا يعلا عليه، فما زالوا به حتى رجع عن مقالته، وكذَّب ما قال عن القرآن، فقال عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:24 - 30].
وأتى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ليربي هذه الأمة على هذا الكتاب المجيد، الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} كتاب كلما قرأته آجرك الله، وكلما تدبرته وفقك الله كتاب من حكم به عدل، ومن استمع إليه استفاد، ومن اتعظ بمواعظه اتعظ.
كتاب من قرأه علّمه الله علم الأولين والآخرين.
كتاب من استنار به أدخله الله الجنة، ومن تقفَّاه قذفه على وجهه في النار.
كتاب من تدبَّره أخرج النفاق والشك والريبة من قلبه، فهو شفاء لما في الصدور.
كتاب من التمس الهداية فيه هداه الله وسدده، ومن التمس الهدى من غيره أضله الله.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة: "من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدىً غير هدى الله الذي أرسل به رسوله في القرآن العظيم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً، ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم".(279/2)
تدبر القرآن
يقول جل ذكره للأمة: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] مالهم لا يتدبرون العظات؟
مالهم لا يعيشون مع الآيات؟
لا.
لكن ران على قلوبهم الأقفال والذنوب، فقفِّلت فلا تسمع، وأوصدت فلا تعي، ولو أنها تدبرت وعقلت، لفهمت كلام ربها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ويقول سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] والاختلاف الكثير في الكتب تجده في غير كتاب الله عز وجل، أما كتابه فكما قال: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ويقول عنه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].(279/3)
ثمرة قراءة القرآن
من قرأ القرآن بارك الله له في عمره وولده ورزقه، ومن أعرض عنه محق الله مهابته، وأزال هيبته، وأفنى كابره وصاغره، وأزال عماره في الدنيا، فالله أنزل الكتاب للهداية، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام ينادي الناس جميعاً أن يقرءوا القرآن، وأن يتلذذوا بتلاوته، وألاَّ يهجروه، فمن هجر القرآن استحق غضب الله ظاهراً وباطناً.
يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عند مسلم: {اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} يأتيك القرآن يوم القيامة يشفع لك عند من أنزله وتكلم به، فيدخلك الجنة بإذن الله.
ويقول عليه الصلاة والسلام: {يؤتى بالقرآن وبأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا- ما قال: يقرءونه وإنما يعملون به في الدنيا- تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة} متفق عليه.
ويقول عليه الصلاة والسلام: {اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كفرقان من طير صواف، أو كغمامتين، أو تظلان صاحبهما يوم القيامة}.
ويقول عليه الصلاة والسلام وهو يفاضل بين الناس: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه} فعلامة الصدق والإيمان كثرة قراءة القرآن، وعلامة القبول والاتجاه إلى الحي القيوم تدبر آيات هذا القرآن، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين}.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لأحد ولاته على مكة، وقد ترك مكة، ولقيه في الطريق: [[كيف تركت مكة وأتيتني؟ قال: يا أمير المؤمنين! وليت عليها ابن أبزى.
قال: من ابن أبزى، قال: مولى لنا، قال عمر: ثكلتك أمك! تولي مكة على مولى! قال: إنه يا أمير المؤمنين حافظ لكتاب الله عالم بالفرائض، فدمعت عينا عمر، وقال: صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم: {إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين}]] يرفع الله به في الدنيا والآخرة، ويضع به الذين أعرضوا عنه، فلم يقرءوه ولم يتدبروه ولم يعملوا به.
والعجيب! أننا سمعنا أن بعض المثقفين يقول لأخيه وهو يحاوره: والله ما قرأت القرآن ستة أشهر.
فقل لي بالله! أي قلب يعيش وهو لم يمر بكتاب الله ستة أشهر؟ وهو يمر بالصحف والمجلات، والقيل والقال، وهات وهات، وما أدراك ما الفلتات والسقطات والخزعبلات من آراء الماجنين والماجنات {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:4 - 5].
يقول الله عز وجل على لسان رسوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30] قال ابن عباس رضي الله عنه: [[من لم يختم القرآن في شهر، فقد هجره]] وهجر القرآن على أضرب: فمنهم من يهجر تلاوته، فيقدم صحف البشر وأغاني ومؤلفات البشر على القرآن يسهر على المذكرة الواحدة فيخرج كنوزها وليس فيها كنوز، ويعلل معللاتها وليس فيها تعاليل، ويلخص فوائدها وليس فيها فوائد، ولكن كتاب الله يشكو إلى الله ممن لا يقرؤه.
قرآننا صار يشكو ما قرأناه عميٌ عن الذكر
أتهجرون كتاباً بين أظهركم لو كلم الذكر جلموداً لأحياه
يقول عليه الصلاة والسلام وهو يستثير الهمم لتطلب الأجر والحسنات من عند باريها: {اقرءوا القرآن، فمن قرأ القرآن فله بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف} رواه الترمذي.
فعدَّ واقرأ، واحتسب الأجر عند الله، فإنك تأتي يوم القيامة وقد نصب لك سلم درجات، يقول الله لك وهو يُكلمك بلا ترجمان: {اقرأ وارتق ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها}.
فمن كان يقرأ في القرآن كثيراً رقى حتى يصبح كالكوكب الدري في سماء الجنة، ثم على منازل {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران:163].
ويقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي: {الذي ليس في صدره شيء من القرآن كالبيت الخرب} بيت عشعشت فيه الغموم والهموم بيت نخره النفاق بيت سكنت فيه المعصية والشهوات، لا يخرجه إلا القرآن، وليس كل المؤمنين يجب عليهم قراءة القرآن، فمنهم من لا يقرأ القرآن وهو تقي صالح عابد خير، فواجب هذا أن يردد ما تيسر من السور التي يحفظها، وأن يسبح ربه، ويحمد مولاه، ويهلل الذي يعود ويلتجيء إليه ويكبره كثيراً، ويصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم أبداً.
كان عليه الصلاة والسلام يعيش مع القرآن، بل كتابه الوحيد الذي تَّربى عليه القرآن، لم يكن عند الصحابة مؤلفات كمؤلفاتنا، ولا صحف كصحفنا، ولا مجلات كمجلاتنا، معهم القرآن معلق في طرف البيت والسيف معلق في الطرف الآخر، وهم يمشون على الأرض كل واحد منهم قرآن، فتحوا الدنيا بآيات الله البينات، وهذه معجزة رسولنا صلى الله عليه وسلم أن يأتي بكتاب صغير الحجم، فيتوارث منه العلماء مجلدات تملأ البيوت، كلها علم من هذا القرآن.
أتى النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بعظيم غير منصرم
آياته كلما طال المدى جددٌ يزينهن جلال العتق والقدم
أتى على سفر التوراة فانهدمت فلم يفدها زمان السبق والقدم
ولم تقم منه للإنجيل قائمةٌ كأنه الطيف زار الجفن في الحلم
فيا أمة القرآن! ويا حفظة الكتاب المجيد! من يقرأ القرآن إذا لم تقرءوه؟
ومن يتدبره إذا لم تتدبروه؟
ومن يعمل به إذا لم تعملوا به؟
أما سمعتم أن أساطين الكفر في أمريكا وأوروبا يبدءون -الآن- في الدخول في دين الله زرافات ووحداناً، بعد أن صدق القرآن في الآيات البينات في الكون {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].
ولذلك -كما أسلفت- ما كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القرآن، يقول لـ ابن مسعود كما في الصحيحين: {يا عبد الله! اقرأ علي القرآن -فيخجل التلميذ ويستحي الطالب أمام شيخه- ويقول: كيف أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟
قال: اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري؟ قال: فاندفعت أقرأ في سورة النساء، فلما بلغت قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: حسبك الآن، فنظرت فإذا عيناه تذرفان} تأثر من كلام الحبيب، وتأثر من هذا البيان الخلاب الذي يقود القلوب إلى بارئها.
فسبحان من أنزله! وسبحان من علم هذا القرآن من أراد من بني الإنسان! {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ} [الرحمن:1 - 3].
{يقرأ أبو موسى في ليلة من الليالي، فينصت له رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فلما انتهي، قال: يا أبا موسى! لو رأيتي البارحة وأنا أستمع لك، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود، فقال: يا رسول الله! أكنت تستمع لي البارحة؟ قال: إي والذي نفسي بيده -وفي بعض الروايات: استمع له من صلاة العشاء حتى الفجر- فيقول: يا رسول الله! والذي نفسي بيده لو علمت أنك تستمع لي لحبرته لك تحبيراً} أي: جودته وحسنته، وأبدعت إلقاءه، وأحسنت مخارجه، ورننت بالصوت فيه، فكان عليه الصلاة والسلام يريد أن يعيش مع القرآن، وأحسن لذة يستمعها إذا استمع لكتاب الله يُتلى من قلب حزين تقي عابد لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(279/4)
حال الناس اليوم مع القرآن
عباد الله! الذي نلاحظه في أنفسنا وفي إخواننا والمسلمين عامة هو قلة الاهتمام بكتاب الله والإعراض عنه، والاستغناء بكتب البشر، والصدود عنه -إلا من رحم الله-، وقلة التجويد حتى أئمة المساجد، وقلة الحفظ، وقلة التدبر، وكثرة المشاغل حتى في طلبة العلم، فلا تجد إلا القليل النادر من يحفظ الكتاب، أو يحفظ بعضه، وإذا كلف بحفظ شيء من القرآن استصعب ذلك وكأن جبلاً من جبال الدنيا وقع على رأسه، ومعنى ذلك: هزيمة الإسلام، وذهاب الإيمان من القلوب، فوالله لا نصر لنا ولا تمكين ولا عزة إلا بهذا القرآن، ووالله متى تركناه ونسيناه وأعرضنا عنه؛ ابتلانا الله بخزي وفضيحة في الدنيا والآخرة.
ولذلك يقول أحد عملاء الصهيونية العالمية: "من لي بمن يخرج القرآن من صدور أبناء المسلمين، قال أحدهم: نأتي إلى المصحف فنمزقه، قال: كذبت، لكنك لا تمزق قلوبهم، إنهم يحفِّظون أبناءهم القرآن فيصبون على الإيمان حتى يموتون ويقتلون دون القرآن" أو كما قال.
ويقول البريطاني العميل الفاجر الذي وطَّد لإسرائيل في أرض الإسلام والمسلمين: "ثلاث ما دامت عند المسلمين فلن تستطيعوا لهم: القرآن في صدورهم، والمنبر يوم الجمعة، والكعبة التي يرتادها الملايين من الناس".
فإذا قضوا على هذه قضوا على الإيمان، ولذلك أتى أهل الصهيونية العالمية اليوم وأذنابهم من الشيعة الرافضة يريدون إحداث الشغب في بيت الله، وصد المسلمين عن ذاك البيت ليدبروا المخطط، وأتوا إلى القرآن فهونوا من شأنه، وقالوا: إنه مختلق، وإن فيه آيات زائدة، , وإنه ناقص، فعلماء الشيعة الرافضة لا يحفظون كتاب الله أبداً، وعالمهم لا يستطيع يقرأ القرآن، سُمع ذلك وثبت عنهم بالتواتر، وأتوا إلى منبر الجمعة، فأرادوا تعطيله ليتحول إلى قضايا تافهة لا تغرس الإيمان في قلوب الناس.
فيا أيتها الأمة الموحدة! يا من صاغها الله من فطرة عنوانها السجود! يا من أخرجها من الظلمات إلى النور بالقرآن! أقبلوا بقلوبكم وبأبنائكم إلى كتاب الله، استرشدوه يرشدكم، وتدبروه يعنكم بإذن الله، واستهدوه يهدكم من أنزله، فإنكم تعيشون متاعاً حسناً في الدنيا، والآخرة يغفر الله لكم ذنوبكم ما تقدم منها وما تأخر، ويحيي بيوتكم على الإيمان، ويردكم إليه رداً جميلاً، ويبقي عليكم إيمانكم وإسلامكم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(279/5)
بعض آداب حملة القرآن
الحمد لله، الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس إلى الله أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله! إن من أحسن ما يبشر به المسلم إخوانه في مثل هذا المجتمع الحافل هذا الاهتمام الذي نراه ونحسه ونعيشه في مساجدنا وبلادنا، من كثرة الأبناء الذين أتوا إلى المساجد يتعلمون كتاب الله، وهذا من فضل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ثم من فضل القائمين على هذه المساجد بالتوجيه والمدد والتعليم والتدريس، وهذا حظ عظيم لمن أنار الله فكره فأرسل أخاه أو ابنه أو صديقه إلى المسجد ليتربى فيه، فلا نور ولا علم إلا في المسجد، وانظر كيف قدم الله بعض أبناء المسلمين وأخر بعضهم، ووفق بعضهم وخذل البعض الآخر؟!
تجد هذا يحفظ كتاب الله ويتعلم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتجد ذلك شقياً فاجراً معرضاً عن بيوت الله، طمس الشيطان على نور بصيرته، وطبع على قلبه، فهو في السكك والشوارع لا هم له إلا البذاء والسب والشتم، أين هو ومن جلس في المساجد تحفه الملائكة، وتتنزل عليه السكينة، وتغشاه الرحمة، قد عمر الله قلبه بالقرآن؟!
إذا علم هذا، فالله الله في هذه المساجد، وفي الاهتمام بأبنائنا أن ندخلهم إلى المساجد ليروا نور لا إله إلا الله، ويتعلموا مبادئ الإسلام، ويربون في هذه الحديقة الغناء، وفي هذا البيت الذي عمره الله على التقوى.
وللقرآن آداب، ولتلاوته محاسن:(279/6)
الإخلاص في حفظه وتلاوته
أولها: أن نقرأ القرآن نقصد بذلك وجه الله، لا رياء ولا سمعة، فمن قرأه رياء وسمعة ردَّاه الله في النار، وأحرقه بغضبه وهو الواحد الجبار.
يؤتى بمن قرأ القرآن يوم القيامة مرائياً كذاباً منافقاً دجالاً، فيقول الله له: {أما علمتك القرآن؟ أما علمتك آياتي؟ قال: بلى.
يا رب! قال: فماذا فعلت في ذلك؟ قال: تعلمت القرآن لوجهك وعلمته فيك، قال: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ثم يقول الله: خذوه إلى النار، فيسحبونه على وجهه حتى يُلقى في النار} فالقرآن لا يقرأ إلا لوجه الله.(279/7)
لا يمس القرآن إلا طاهر
ثانيها: أن يتطهر وألا يمسه محدث، وألا يقرأه غيباً من عليه جنابة، فإذا تطهر العبد استقبل القبلة ورتل القرآن.(279/8)
حضور القلب عند القراءة
ثالثها: أن تحضر قلبك لمن ألقى السمع وهو شهيد، وأن تعلم أن من أنزل القرآن هو الذي خلق السماوات والأرض، وأنه يخاطبك من فوق سبع سماوات، فتستمع لخطابه، وتمتثل لأمره، وتنزجر عن زواجره.(279/9)
عدم التشويش على الناس برفع الصوت بالقراءة
رابعها: ألاَّ ترفع صوتك إذا كان هناك مصلون في المسجد، أو تالون لكتاب الله، فتشوش عليهم، وهذا يوجد في كثير من المساجد، وهو علامة الجهل وعدم الفقه في السنة، أن يأتي أحد فيرفع صوته في المسجد، فيشوش على المصلي صلاته، وعلى التالي تلاوته، ويضج عباد الله, وقد فصل في ذلك أهل العلم فقالوا: إن كان بجانبك من يستمع لكلام الله عز وجل وللقرآن فلا بأس أن تسمعه، وإن كان هناك من يصلي، أو من يقرأ وهو مستغنٍ عن قراءتك، فلا ترفع صوتك لتشوش في بيوت الله عز وجل.
قال الإمام مالك: أرى من رفع صوته وشوش على المصلين يوم الجمعة أن يضرب ويخرج من المسجد.(279/10)
تقسيمه أوراداً يومية
خامسها: أن يكون للعبد ورد وحزب من القرآن لا يفتر عنه يومياً ولو تغيرت مجاري الفلك لا يترك حزبه هذا، فهو علامة الإيمان، فليكن لأحدنا جزء من القرآن لا يتركه أبدا.(279/11)
تعليمه للناس
سادسها: أن نعلم الناس ما تعلمنا منه، وأن يكون حظنا منه الأجر والمثوبة، وأن نبلغه للناس كافة، وأن نعلم أبنائنا وبناتنا وأخواتنا وأمهاتنا في بيوتنا، اعمروا بيوتكم بالقرآن عمر الله قلوبكم بالإيمان، واستلهموا من الله الرشد في كتابه ولا تهجروه، فإن الله غضب على قوم هجروا كتابه، فطبع على قلوبهم فأظلمت أفئدتهم، وفسد أبناؤهم، وخربت بيوتهم، وظلوا سواء السبيل.
عباد الله! صلوا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم ألهمنا رشدنا واجعلنا ممن يقرأ كتابك ليقوده إلى الجنة، ولا تجعلنا ممن أعرض عنه فقذفه إلى النار.
اللهم اجعل القرآن حجة لنا لا حجة علينا، اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدل فينا قضاءك، نسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من رسلك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء همومنا وغمومنا، وذهاب أحزاننا، اللهم علمنا منه ما جهلنا، وحفظنا منه ما نسينا، وفقهنا فيه ما التبس علينا.
اللهم اجعلنا ممن يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، اللهم اجعله نوراً لنا في قبورنا ويوم عرضنا عليك، اللهم أزلفنا به من الصراط إلى الجنة، ولا تردينا به من على متن الصراط إلى النار إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلح ولاتنا وأمراءنا وقضاتنا ومسئولينا وكل من تولى أمراً فينا، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، وخذ بأيديهم إلى كل خير وأرشدهم سبل السلام، وثبتهم على الحق.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم وارفع راية الحق بهم، اللهم أدب بهم أعداءك، ومزق أعداءك بهم كل ممزق، اللهم انصر المجاهدين في فلسطين الذين رفعوا لا إله إلا الله في وجه من كفر بلا إله إلا الله، اللهم انصرهم على قتلة أنبيائك ورسلك وأعد إلينا بهم يا رب العالمين أولى القبلتين وثالث المسجدين الشريفين إنك على كل شيء قدير.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(279/12)
الحب والفن والجمال
إن الاحتفال بذكرى المولد وتحديد يوم لذلك بدعة في الدين، لم يفعله ولم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن من هدي الصحابة، ولا القرون المفضلة، وإنما أُحدِثت في القرن الخامس من الهجرة.
والحب الحقيقي يكون بالتفاني في مرضاة الله واتباع شرعه، لا كما يزعم الفنانون والفنانات، ولا كما يزعم المبتدعة، فأبعد الناس عن حبه من يخالفون سنته.
ثم ذكر الشيخ شيئاً من سيرته صلى الله عليه وسلم وترعرعه، ورعاية الله له مند الصغر، وذكر حادثة نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم.(280/1)
الاحتفال بالمولد وتحديد يوم له ليس من دين الله ولا من هدي الصحابة
الحمد لله الذي شرح صدور أهل الإسلام بالسنة، فانقادت لاتباعها، وارتاحت لسماعها، وأمات نفوس أهل الباطل بالبدعة بعد أن تمادت في ابتداعها وتغالت في نزاعها، والصلاة والسلام على حبيب الله قدوة الناس أجمعين، أشرف من خلق الله وأشرف من سوى من البشر، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس: يا أمة الإيمان والحب والطموح! يا أمة الخير والعدل والسلام! يا أمة اليقظة والعطاء والبذل!
يا أمة ضرب الزما ن بها جموح المستحيل
وتوقف التاريخ في خطواتها قبل الرحيل
سكبت لحون المجد في أذن المجرة والأصيل
وسقت شفاه الوالهي ـن سلافة من سلسبيل
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته لا يزال الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته وموكبه وسيرته، وقد مَرَّت أيام ظَنَّ الخرافيون أنهم يحيون من سيرته موالد وقد عطلوا سيرته في العقائد والعبادات والمعاملات تركوا سنته في البيت والمجتمع تركوا سنته في التربية والتدريس والتعليم تركوا عطاءه وبذله وحبه وإيمانه تركوا همته وتاريخه المشرق، وتعلقوا بخرافات ما أنزل الله بها من سلطان، جعلوا ليوم ميلاده تاريخاً أحيوه بطقوسهم ورقصهم، ونشيدهم وتصفيقهم، مكاءً وتصدية، لا خشية ولا خشوع ولا إنابة، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} فذكرى المولد ليست من الإسلام في شيء، والاحتفال بالمولد ليس من دين الله، وتحديد يوم للمولد النبوي خرافة من الخرافات، أنتجتها الأفكار المنتنه المتخلفة التي لا تفهم ولا تفقه، ولقد عاش الصحابة في قرونهم الثلاثة الأولى ولم يعرفوا مولداً وما احتفلوا بمولد.(280/2)
نشأة بدعة المولد في القرن الخامس
لقد أتانا هذا من قبل الخرافيين الذين يعيشون على الخزعبلات، من أهل أَربِل والموصل في العراق، في ما يقارب القرن الخامس من الهجرة، وقد سمعتم شيئاًَ من هذا قبل أيام الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم، وهذا بدعة وخطأ وغلط بَيِّن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا تحيا شريعته بالموالد، ولا تحيا شريعته بالدف والطبل، ولا يحيا تاريخه بالتصفيق والصفير، فميلاده كل حين وكل ساعة وكل ثانية.
إن ميلاده صلى الله عليه وسلم ليس معناه أن تترك سنته وأن تترك شريعته، ثم تأتي مع هؤلاء الخرافيين لتظن ظناً أو تعتقد اعتقاداً أنك بعملك هذا تحيي ميلاده، لقد أخطئوا كثيراً، ولقد رأينا بعض الذين يُحْيُون مولده عليه الصلاة والسلام من أبعد الناس عن السنة، فهم لا يحضرون الجماعات في المساجد، ولا يتلون الآيات من المصاحف، ولا يخشعون ولا يخشون، لا تظهر على سيماهم السنة وتعاليمها وروعتها وإبداعها، لكنهم جادُّون في هذا السير الخرافي الذي سنوه من قِبَل أنفسهم.(280/3)
أبعد الناس عن السنة هم الذين يحبون ذكرى المولد
أريد أن أقول بخلاصة وتلخيص: إن من أراد أن يحيي سنته صلى الله عليه وسلم فليُحْيِها باتباع شريعته، وأما المولد فلا مولد ولا ذكرى للموالد سبحان الله! أيكون يوماً من الأيام يتجمع فيه الناس، فيصفقون ويزمجرون، ويضربون صدورهم كما يفعل أهل الرفض في أيام عاشوراء في ذكرى استشهاده الحسين، وكما يفعل الفرنسيون بـ نابليون والألمان بـ هتلر، وهؤلاء المرتزقة من زنادقة الشعوب؟!
إن محمداً صلى الله عليه وسلم شخص لا كالأشخاص، ورجل لا كالرجال، وقائد لا كالقادة، ومصلح لا كالمصلحين، فحياته معك في كل أربع وعشرين ساعة تشرب وسنته معك، وتأكل وسنته معك، تنام وسنته معك، وتخرج من بيتك وسنته معك، وتذهب إلى عملك وتجلس على كرسيك وتتناول كتابك وسنته معك إنه هو الشخص الذي طرق العالم ثم لم يتكرم بطرق العالم شخص آخر كمحمد صلى الله عليه وسلم صحيحٌ أن في حياته أحداثاً أخرى، وصحيحٌ أن شخصيته مدهشة ومذهلة؛ لكن هل قال لنا: أحيوا مولدي؟ هل سنه الخلفاء الراشدون؟ هل فعله الصحابة؟ هل فعله القرن الأول والثاني والثالث؟ لا والله.(280/4)
قصة ولادته وترعرعه صلى الله عليه وسلم
لنعش قليلاً مع مولده ونحن نبدِّع كل من قال أن في الإسلام يوماً للمولد، وهم مبتدعون بلا شك.
رأت أمه قبل أن تلد به عليه الصلاة والسلام أن نوراً خرج منها، فما هو هذا النور؟ إنه نور خرج منها ليصلح العالم، نور مُشِعٌّ خرج منها ليصل إلى كل قلب ويقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله نور يدخل إلى دياجير الظلم والتخلف والتبعية والرجعية والتقليد، ولما وقع على الأرض، كان متستراً حَيْيَاً من الله تبارك وتعالى، فلما ترعرع ماتتْ أمُّه؛ ليعيش اليتم، وليتدرب على مصاعب الحياة ومشاق العيش، ليكون عصامياً يقوم بنفسه بعد الاعتماد على الله.
ثم نُقِل إلى البادية، فرضع ثدياً طاهراً من ألبانها الصافي صفاء الصحراء، المشرق إشراق الصحراء؛ ليكون فصيحاً من أفصح الناس، وعاد من البادية فبكاه أهلها، فقد أتى إليهم والأرض مُجْدِبة، لا نبت فيها ولا شجر، تموت فيها النوق والإبل كل يوم، أصاب الغنم جدب وقحط لا يعلمه إلا الله، جف اللبن من الضرع، ويبست المياه من الغُدْران والغيوم في بادية بني سعد تجاه الطائف.
فمن نعمة الله ومن فضله أنه لما وصل صلى الله عليه وسلم نزل الغيث، فامتلأت الحدائق عشباً وزهراً وورداً، وتبسمت الفيافي أناقة وروعة وجمالاً، وأتى الضرع يدر باللبن حليباً سائغاً للشاربين، وسال الماء في الغُدْران والجداول والأنهار، وأتت الإبل تشرف بنعمةٍ وسَمْن مع حياتها ومع بيوتها ومع رواحلها، فلما انتقل بكته أمه من الرضاعة، وأبوه من الرضاعة وبكاه كل الحي، فهو مبارك أينما كان مبارك على المنبر، وفي المعركة، وفي البادية، وفي قبره، ويوم يُبْعَثُ الناسُ ليوم لا ريب فيه.
ويوم عاد إلى مكة كان لجده عبد المطلب فراشاً لا يجلس عليه إلا هو فحسب، كان هذا الفراش للعظماء، وجده سيد قريش، الذي هِمَّتُه تمر مر السحاب، {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88].
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
والعظماء يرضعون العَظَمَة مع اللبن منذ صغرهم، فكان محظوراً على الناس أن يجلس على الفراش أحد إلا عبد المطلب، فكان يأتي رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وهو في الرابعة من عمره فيجلس على الفراش، فيؤخرونه فيزحف حتى يجلس عليه، فيتبسم عبد المطلب ويقول: والحُجُب والبيت ذي النصبْ، والشمس ذات اللهبْ، إنَّ لهذا الابن سبباً من السببْ، أي: سوف يكون رجلَ التاريخ، وإنسانَ عينِ الدنيا، وقائدَ البشرية يوم تهتدي لساحل النجاة وبَرِّ العظَمة.(280/5)
نشأته عليه الصلاة والسلام على مكارم الأخلاق
ترعرع عليه الصلاة والسلام فلم يكذب كذبة واحدة، ولم يغدر غدرة واحدة، ولم يغش، ولم يسرق، ولم يزنِ، ولم يشرب الخمر؛ لأن الله كان يربيه لرسالة كبرى، سموه: الصادق الأمين، الناصح المخلص، وحين اختلفوا على وضع الحجر؛ قالوا: أول داخل يدخل نحكِّمه، فأتى بإشراقه ونوره وروعته، كأن وجهه القمر ليلة أربعة عشر، ريحه كالمسك، أما ليونته فكالحرير، ثناياه كالبرد؛ لأن الله أعطاه من أسباب العظَمة ما لم يعطِ أحداً من الناس، فقالوا: نحكمك في وضع الحجر؛ لأننا اختصمنا وكاد القتل أن يقع بيننا، فمن حكمته وذكائه وفطنته أن وضع رداءه ووضع الحجر فيه، وقال: لِتَأْخذ كلُّ قبيلة طرف الرداء، فلما رفعوا الحجر وضعه بيده الشريفة مكانه.
وجاء في صحيح مسلم: أنه كان يمر في جبال مكة فيقول الحجر: السلام عليك يا رسول الله، فيلتفت خائفاً؛ لأنه لا يعلم أنه سوف يكون خاتم النبيين والمرسلين.(280/6)
تعبده صلى الله عليه وسلم في غار حراء خالياً
ولما بلغ الأربعين من عمره رأى الجهل، والخرافة، والتخلف، والزنا، والفجور، وشهادة الزور، والقتل، والحقد، والحسد، فخرج بطهره وعفافه إلى غار حراء، وكان يأخذ طعامه وشرابه، ويجلس في الغار، ويتفكر في السماء من بناها! وفي الأرض من سواها! وفي الحدائق من أنبتها! وفي الماء من أجراه! وفي النسيم من أرسله! سبحان الله! لا بد لهذا الكون من خالق، واستمر على العبادة والتفكر، وهو ينكر هذا المجتمع الضال، وبعد أعوام وأيام نزل عليه قول الله مع معلمه ومدرِّسه وشيخه جبريل، لم يدرس في مدرسة، ولم يتعلم في كلية، ولم يحمل شهادة.
يقول جولد زيهر، المستشرق المجري: لست أعجب من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فالأنبياء غيره كثير، لكن أعجبني كيف ينشأ أربعين سنة في مجتمع بدوي، وفي قرية ما تعلم، ثم يخرج بعد أربعين سنة فيكون أفصح الناس، وأخطبهم وأذكاهم، وأكبرهم وعظاً في الناس، وأعظمهم موجةً فيهم، وأجل إداري في العالمين.(280/7)
قصة بداية نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم
نزل عليه جبريل في صورة إنسان حتى لا يخاف، فسلم عليه وضمه ثلاث ضمات، ضمه في المرة الأولى حتى بلغ منه الجهد، حتى آنسه قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] فضمة الثانية، وقال: اقرأ، قال: ما أن بقارئ، فضمة الثالثة، وقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق:1 - 3] فاندفع يقرءوها وراء جبريل كيف يقرأ؟ أين الكتاب؟ وأين القلم؟ وأين الدفتر؟ وأين المجلد؟ وأين المسطرة؟ لا شيء! قال أهل العلم: معناها: اقرأ -يا محمد- في كتاب الكون.
وكتابي الفضاء أقرأ فيه صوراً ما قرأتها في كتاب
قل للطبيب تخطفته يد الردى مَن يا طبيب بطبه أرداكا؟
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب مَن عافاكا؟
والنحل قل للنحل يا طيرالبوادي ما الذي بالشهد قد حلاكا؟
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا؟
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا؟
فالحمد لله الجليل لذاته حمداً وليس لواحدٍ إلاَّكا
كأنه يقول له: اقرأ في الشمس من رفعها؟ من زينها؟ لكن كثيراً من أهل الشهادة اليوم لا يقرءون كما يقرأ محمد صلى الله عليه وسلم؛ إنهم أميون وهو أمي؛ لكنه مِن أعلم العلماء، بل هو أعلم من في الدنيا، وهم يحملون الشهادات، وهم مع ذلك أميون لا يقرءون في الشمس من جملها! ولا في النجوم من سواها! وكأنه يقول: اقرأ في الغدير في الجدول النمير في الشجر في المدر، اقرأ في الحجر؛ لترى آيات الوحدانية.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحدُ؟!
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد!
ومشى ليعود وهو يرتجف خوفاً صلى الله عليه وسلم، فقال لأهله: {زملوني، زملوني - أي: ألحفوني ألحفوني - لقد خشيتُ على نفسي، وتقول امرأته الرشيدة العاقلة: كلا والله! لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق}.
إن الله لا يُخزي المحسنين، فإن من سنن الله الكونية والشرعية ألاَّ يُخزي من أحسن سبيلاً، أو من اتجه إليه، إنما يُخزى الفجرة والظلمة.
فعاد عليه الصلاة والسلام والله يقول له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:1 - 2] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر:1 - 2].
فقام لينذر الجزيرة العربية، لأن الجزيرة العربية لا بد أن تكون كعبة الوعي والطموح والإيمان، والجزيرة العربية لا بد أن تكون أم البذل والعطاء والسلام، والجزيرة العربية لا بد أن تكون محور الإسلام ومحور اليقين والإيمان الجزيرة العربية قدرها الإسلام والإسلام قدرها، وهي لا تعيش إلا على الإسلام، ولا بد على مَن يعيش على تراب الجزيرة أن يكون مسلماً مؤمناً، سواءً أكان حاكماً أو محكوماً قاضياً أو رئيساً شاعراً أو مسرحياً صحفياً أو أديباً قصصياً أو ممثلاً، لا بد أن تكون قضيته الأولى أن يكون مؤمناً، لأن الجزيرة العربية ترابها مؤمن وهواءوها مؤمن، وماءوها مؤمن إن الجزيرة العربية هي التي سقط فيها النور من السماء، وانبعث فيها الوحي، وانبعث فيها محمد عليه الصلاة والسلام، لا نقول ذلك تعصباً والله، فإن أرض كابول قطعة من أرضنا، وإن الأندلس المفقود شيءٌ من بلادنا، وإن بقاع الهند ونهر اللوار والكونج، كلها لا بد أن تكون من تراثنا وترابنا؛ لأننا نحن الذين ينبغي أن نكون حكام العالم.
يا أمة في عمرها لم تحي إلا بالجهاد
كفرت بمجلس أمن من نصب المنايا للعباد
القاتلو الإنسان خابوا مالهم إلا الرماد
جثث البرايا منهمُ في كل رابية وواد
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين إنه هو التواب الرحيم.(280/8)
الإسلام دين الحب والجمال
الحمد الذي كان بعبادة خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وصلى الله وسلم على من بعثه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، فنصح الأمة وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون: إن الدروشة والخرافة والتخلف لا يعترف بها الإسلام، فقد أنتجتها الصهيونية العالمية، فإن الصهيونية العالمية تبني دينها على السفك والإرهاب، وعلى التخلف والجمود، والنصرانية من الكنيسة تبني دينها على الفكر العفن، وعلى فن الخرافة، وفكر ماركس ولينين أصحاب النفوس الآثمة الكذابة، بناه أصحابه على الحديد والنار، وهتلر الألماني بنى مبادئه على التدمير وسحق المدن، ونابليون الفرنسي بنى منهجه على الإتلاف والإحراق، فكأنهم يجتمعون جميعاً في مسألة تدمير العالم، لكن الإسلام ينفرد بأنه دين السلام، وينفرد عن الجميع بأنه دين الإيمان بالله رباًَ، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وينفرد عن الجميع بأنه دين الحب.(280/9)
الإسلام دين الحب لله ورسوله، لا الحب الذي يقصده المغنون والمغنيات
الحب ليس الذي يزعمه المغنون والمغنيات، والماجنون والماجنات، والفنانون والفنانات، فهذا حب رخيص لا يساوي فلساً واحداً، هذا حب يوضع في القمائم والزبالات، وهذا حب لا يحمل في القلوب ولا في الأدمغة.
إن الحياة هي الحب، والحب هو الحياة، فالذي يستحق الحب هو الإسلام، قالها أحمد شوقي في قصيدة طويلة، وصدق أمير الشعراء حين يقول: نحن أهل الحب، ونحن منتجو الحب، ونحن الذين يصنفون الحب.
وأول من تكلم عن الحب هو محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما} وفرْق بين حب وحب، فذلك يحب امرأة فاتنة، وفتاة مزرية، ومجلة خليعة، وفيلماً هداماً، وأغنية سخيفة، وهذا يحب الله رب العالمين، وهو الذي يستحق الحب؛ لأنه هو الذي خلق الحب سُبحَانَهُ وَتَعَالى.(280/10)
صور من سير المحبين لله تعالى
واسمع إلى من يعرف الحب، يقول أنس بن النضر أحد الصحابة في معركة أحد: [[اللهم إنك تعلم أني أحبك، فخذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]] فَحَضَر المعركة فضُرب في سبيل الله أكثر من ثمانين ضربة، وارتفعت روحه إلى الملأ الأعلى.
وقال عبد الله بن عمرو الأنصاري: [[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]] فقتل في سبيل الله، قال ابنه جابر: {أتيت إلى أبي وهو في ثياب مقطعة فقلت: يا رسول الله! أقتل أبي؟ قال: نعم.
ابكِ أو لا تبكِ، فوالله ما زالت الملائكة تظلل أباك بأجنحتها حتى رفعته.
ثم يقول عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده! لقد كلم الله أباك كفاحاً -مباشرة بدون ترجمان- فقال: تَمَنَّ، قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون؛ فتَمَنَّ قال: أتمنى أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك، قال: فإني قد أحللت عليك رضواني فلا أسخط عليك أبداً}.(280/11)
الحب المزيف هو الغرام والوَلَه، كما يزعم أهل الفن
إن الخرافيين يضعون في الحب أحاديث، وينسجون في الغرام كلاماً وخطباً ومحاضرات، وضعوا على المصطفى حديثاً يقولون إنه يقول: من أحب فكتم فعف فمات مات شهيداً.
أي شهادة هذه؟! شهادة الدعارة والمجون شهادة الموت على الشهوات والمعاصي، لا والله! الحديث باطل، وحاشا لله أن يكون الذي يقتله العشق والوله والبعد عن الله شهيداً، الشهيد هو الذي أسكن القرآن قلبه، والشهيد هو صاحب الفكر والعطاء، والشهيد ليس خرافياً، والشهيد لا يحمل فكراً عفناً، ولا يجري وراء هذه الأمور، إنما همه إرضاء الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما قلت ذلك؛ لأن كثيراً من الناس يقولون: ما لهؤلاء الناس من طلبة العلم والدعاة يحرمون الحب، ويحرمون الجمال، ويحرمون الفن؟! فنقول لهم: أنتم ما عرفتم الحب ولا الفن ولا الجمال، فحبكم ليس بحب، وفنُّكم ليس بفن، وجمالكم ليس بجمال.
أتقول لليل المظلم: أنتَ أبيض؟ أتقول للنار الحامية: أنتِ باردة النسيم؟ أتقول للشوكة المرَّة الحاقدة: أنت وردة وزهرة؟ لا والله!!
أيها الشاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلا
أترى الشوك في الورود وتعمى أن ترى فوقها الندى إكليلا
والذي نفسه بغير جمالٍ لا يرى في الوجود شيئاً جميلا
وربنا جميل يحب الجمال، وسماؤنا جميلة، وأرضُنا جميلة، وكتابُنا جميل، ومبادئنا جميلة، أما أنتم فسماؤكم أحلام، ومبادئكم عشق، وأُسُسُكم وَلَهٌ وبُعدٌ عن الله عز وجل، وقرآنُكم أغنية، ونشيدُكم موسيقى، ومصحفُكم مجلة خليعة، هذا نقوله لأناس ليسوا في مجتمعنا؛ لأنني أعرف أن هذا المجتمع طامح، يحب الإيمان والخير والعدل والطموح، وإن كان هناك أناس ما زالوا، لكن مستقبلهم إلى خيرٌ إن شاء الله؛ لأنهم يحبون الإيمان والخير والطموح.
أيها المسلمون الأبرار: هذه رسالة عن يوم المولد، أو كما طرح في الساحة يوم المولد.
ومن قضايانا الكبرى التي ينبغي أن نطرحها أكثر من ذلك: فضل تحكيم الشريعة الإسلامية.
ومن قضاينا الكبرى: التوجه والصحوة الإسلامية إلى الله.
ومن قضايانا الكبرى: كيف نحافظ على قداسة الحرمين ومهبط الوحي.
ومن قضايانا الكبرى: كيف نصلح بيوتنا، وأبناءنا، ومجتمعاتنا؟
ومن قضاينا الكبرى: كيف نُسَيِّر إعلامَنا وصحفَنا لتكون مؤدية للكلمة، مسئولة عن العطاء، حاملة للبذل والحب والإيمان والخير والطموح.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].(280/12)
الحياء من الإيمان
في هذا الدرس شرح لحديث: (الحياء من الإيمان) وفيه تعرض الشيخ لكثير من المسائل والأحكام المتعلقة بالحياء، تعريفه، أنواعه، ثم تطرق للحديث عن بعض مسائل الإيمان، فذكر أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان وأن الشهادتين مجردة عن الأعمال لا تعصم الدم عند أهل السنة والجماعة خلافاً للأشاعرة وغيرهم، وأن الأحكام للظاهر، والسرائر إلى الله تعالى, وفيه عدم تكفير أهل البدع إلا ما استثني كغلاة الرافضة، وتقديم النفع المتعدي على القاصر, وأن اختلاف إجاباته صلى الله عليه وسلم إنما هو بحسب الأحوال والمخاطبين.(281/1)
شرح حديث: الحياء من الإيمان
إن الحمد لله، نحمده ونستيعنه ونستغفرهونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: باب الحياء من الإيمان.
حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك بن أنس عن ابن شهاب , عن سالم بن عبد الله , عن أبيه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {دعه، فإن الحياء من الإيمان}.
هذا الحديث، وأحاديث أخرى معه هي موضوع درسنا إن شاء الله.(281/2)
ترجمة لرجال السند
أما رجال هذا السند, فقد مروا معنا, عبد الله بن يوسف هو التنيسي من مصر، وهو من أعظم شيوخ الإمام البخاري.
ومالك بن أنس يكفي أنه نجم هذا العلم وشمسه.
ومالك حيث أفتى في مدينته فلست أرضى بفتوى غير فتواه
يكفي أنه كالنار على العلم فلا يُعرّف.
وأما ابن الشهاب فهو الزهري , واسمه: محمد بن شهاب الزهري من بني زهرة.
وسالم بن عبد الله هو ابن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم جميعاً، وسالم هو من علماء التابعين, ومن فقهاء المدينة السبعة، وكان ابن عمر يقبله وفي رأسه الشيب، ويقول: انظروا إلى شيخ يقبل شيخاً، ولذلك كان سالم إذا فارقه لا يستطيع أن يصبر، بل كان يبكي حتى يعود، ويقول ابن عمر:
يلومونني في سالم وألومهم وجلدة بين العين والأنف سالم
[[دخل سالم البيت الحرام يطوف به معتمراً، فلقيه الخليفة هشام بن عبد الملك، فسلَّم عليه، وقال: يا سالم! ألك حاجة إلي؟ أعليك دين أقضيه؟ وهشام بن عبد الملك كان خليفة المسلمين آنذاك، فقال سالم -وقد احمر وجهه غضباناً-: "أما تستحي تقول لي هذا الكلام في بيت الله" أي: أنه لا يُسأل في هذا المكان إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فلما خرج هشام بن عبد الملك ومعه موكبه من الحرم تعرض لـ سالم، فلمَّا خرج سالم، وحِذَاؤه بشماله؛ قال هشام بن عبد الملك: إنني عرضت عليك قبل فاعتذرت، وأريد أن تخبرني بحاجتك.
قال سالم: أمن حوائج الدنيا، أو من حوائج الآخرة؟
قال هشام: وهل أملك أنا حوائج الآخرة؟!
فقال سالم: "والله ما سألت الدنيا ممن يملكها -وهو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- فكيف أسألها منك أنت؟!]] فكان رضي الله عنه وأرضاه من أزهد الناس، وكان من أجمل الناس، حتى إن هشام بن عبد الملك لما زار المدينة جلس معه سالم، فنظر إليه، فقال: يا سالم! أتأكل اللحم؟
قال: إن اشتهيته أكلت قليلاً فأصابه بالعين، فمرض؛ فمات؛ فقال أهل المدينة: لا رحم الله هشاماً؛ أخذ جيشنا وأرسله في بلاد الروم حتى قتله عن آخره، وقتل عالمنا بعينه، وهذه أوردها الذهبي وغيره من أهل العلم.
يقول: عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار، وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال: {دعه، فإن الحياء من الإيمان}.
مجمل معنى الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل يؤنب أخاه، ويقول: قد أضر بك الحياء، وقد استحييت حتى تركت حقوقك، وتركت ما ينبغي لك، وقد بالغت في الحياء، هذا معنى الحديث.
وقد يفهم على أنه يقول له: استحي، أو استحي من الله عز وجل.
وهذا فهم مقلوب، بل الفهم الذي صرح به أهل العلم أنه يقول له: إنك أصبحت تستحي حتى أضر بك الحياء، فما هذا الحياء؟! فيقول صلى الله عليه وسلم ينكر على الناصح الذي يوصي أخاه: {دعه -أي: لا تنصحه- فإن الحياء من الإيمان}.
أتى الإمام البخاري رحمه الله بهذا الحديث ليدلل على أن أعمال القلوب تدخل في مسمَّى الإيمان، وهو لا يزال يشن حرباً ضروساً على المرجئة من أول الكتاب, فمرة يتجه إلى الخوارج فيرد عليهم، ومرة إلى المرجئة، ومرة إلى الكرامية، فهو بهذه الفصول والأبواب المتأخرة يرد على المرجئة.
والقضية التي نتكلم عليها هنا هي: ما هو الحياء المطلوب؟ وما هو الحياء المحمود؟ وهل كل حياء يحبه الله عز وجل؟ وهل هناك حياء مذموم لا يحبه الله عز وجل ولا رسوله؟(281/3)
أنواع الحياء في الإسلام
الحياء في الإسلام قسمان: قسم ممدوح، وقسم مذموم.
فأما الممدوح فهو: ما حملك على الجميل من الأقوال, والأفعال, والأعمال, والأحوال، وكذلك ما ردك عن المنكر، وعن كل ما يدنس المروءة، فهو من الحياء الممدوح؛ لأن المسلمين في الإسلام على ثلاث طبقات:
1 - أناس يحافظون على الفرائض ويستحيون من الله ثم من الناس أن يخلوا بالفرائض، وبعض الناس يحملهم إيمانهم وحياؤهم على ألا يخلوا بالفريضة حياءً من الله عز وجل.
2 - وبعضهم يستحي من الله ثم من الناس أن يخل بالسنن كالنوافل والسنن الرواتب، وغيرها من السنن الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، وبعض الناس يرتقي به الإيمان إلى أن يستحي من الله عز وجل فيحافظ على السنن والنوافل.
3 - ثم من الناس بعد أداء الفرائض والنوافل من يحافظ على آداب المروءة؛ فلا تراه يأكل واقفاً في السوق، ولا يمازح في السوق، ولا يأكل وهو يمشي، ولا يرفع صوته، ولا يمدح بمدح لا يليق بالمسلم، فهذا حياء محمود, وإن كان ليس بواجب عليه.
أما الحياء المذموم: فإنه ما رد صاحبه عن الخير.
يقول مجاهد رحمه الله: [[لا يطلب العلم مستحٍ ولا مستكبر]] فالحياء إذا منعك من طلب العلم، فهذا مذموم وباطل، وقد يأثم به الإنسان.
والحياء إذا منعك من حضور مجالس الذكر فهو مذموم؛ لأن بعض الناس يقول: كيف أنا أتواضع وأذهب وألبس بشتي، ثم آتي إلى المجالس؛ وأجلس من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، وأدخل مع الناس.
ذكر الذهبي أن بعض الناس يقول: أنا لا أصلي مع الجماعة في المسجد؛ لأنه سوف يصلي معك الزبالون والبائعون؛ وأنا مروءتي تمنع ذلك، قال الذهبي معلقاً عليه: "لعنها الله من مروءة!! "
نعم, إن كانت مروءة تحمل صاحبها إلى أن يترك الأعمال الصالحة والسنن ومجالس الذكر فهذه مروءة ملعونة؛ لأن المروءة كل المروءة في أن تتواضع، وتجلس في حلق الذكر، وتأتي إلى من هو أقل منك علماً وفهماًَ وديناً واستقامةً فتستفيد منه.
[[كان علي بن الحسين (زين العابدين) رضي الله عنه وأرضاه يأتي إلى زيد بن أسلم -وهو مولى- فيجلس بين يديه، فقال له التابعون: يا علي! كيف تجلس لهذا المولى وأنت سيد من السادات؟
قال: السيد من اتقى الله، وإنما يجلس الإنسان إلى من يستفيد منه، أو يفيده علماً]].
ومن الحياء المذموم ما منعك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا باطل ويأثم عليه العبد؛ لأنه ليس مقبولاً عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(281/4)
تعريف الحياء
تعريفات الحياء عند أهل السنة والجماعة كثيرة أبسط بعضها، وبعضها أتركه اختصاراً.
قيل: الحياء هو أن تذكر الآلاء والانكسار من عدم القيام بالحق.
تذكر الآلاء: أي: أن تتذكر النعم التي أنعم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بها عليك؛ فتنكسر وتخجل وتستحي أن تعصي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, هذا من الحياء.
ولذلك يؤثر أن رجلاً أتى إلى مالك بن دينار رحمه الله فقال: يا مالك! إنني تبت إلى الله من المعاصي إلا معصية واحدة، قال: وما هي؟ قال: كبيرة من الكبائر، قال: تب إلى الله، واتركها، قال: لا أستطيع.
قال: سوف أعرض عليك أموراً.
إذا أردت أن تفعل هذه المعصية فلا تعص الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في أرضه.
فقال الرجل: إلى أين أخرج؟ والأرض كلها أرض الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟
فقال: كيف تعصي الله تبارك وتعالى على أرضه، أيدخلك داره، ثم تعصيه فيها؟!
قال: إذا أردت أن تعصيه فلا تأكل من طعامه، ولا تشرب من شرابه.
قال: ومن أين آكل وأشرب؟ والأكل والشراب من رزقه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
قال: فكيف تستعين بنعمه على معاصيه؟!
قال: فإن لم تستطع وعصيته فحاول ألا تلقاه يوم القيامة.
قال: لا أستطيع إلا لقاءه.
وفي الرابعة قال له: وإذا أردت أن تعصيه، فاختبئ في مكان لا يراك فيه.
فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأتوب إلى الله.
فإذا تذكر الإنسان الآلاء؛ فإنه يعود بإذن الله من المستقيمين والتائبين إلى الله عز وجل.
التعريف الثاني: قالوا: هو انتفاض النفس خشية المكروه.
بعض الناس يترك أعمال الشر لا ديناً منه، ولكن حياء من الناس، وهذا محمود، ولو أن من تركها مخافة من الله أحمد منه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} وهذا حديث ثابت عنه صلى الله عليه وسلم.
قال أهل العلم: الحديث يحمل على معنيين اثنين:
إما أن المعنى: إذا لم تستحِ من الله عز وجل فما عليك، أي: فقد انفرط حبلك، فافعل ما شئت من الكبائر، وارتكب ما شئت من المعاصي، هذا معنى.
والمعنى الثاني: إذا لم تستحِ من الشيء، وعلمت أنه حلال، وأنه مباح، وعلمت أنه ليس معصية، فافعله، فإنه مباح وحلال.
وهذان المعنيان واردان في شرح الحديث.
أما التعريف الثالث للحياء: فهو حفظ الجميل بترك القبيح، يعطيك الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فتكافئه بالطاعة.
ولذلك ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: {عجباً لك يابن آدم! ما أنصفتني، خلقتك وتعبد غيري، ورزقتك وتشكر سواي، أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وتتبغض إليَّ بالمعاصي وأنت فقير إليَّ، في كل يوم لي إليك رزق نازل، وفي كل يوم لك إليَّ عمل سيء صاعد} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
يقول: ما أنصفت أي: ما عدلت في الخصومة بيني وبينك، وفي هذا تذكير بالآلاء, وحفظ الجميل بترك القبيح يحمل صاحبه على الحياء من الله.
والتعريف الرابع للحياء هو: مراقبة القهار مخافة من النار، وبعداً من العار.
فإن من لم يراقب الواحد القهار، فعليه أن يخاف من النار، فإن لم يخف من النار، فليخف من العار في الدنيا؛ لأن المعاصي تكسب صاحبها ذلة ووصمة لا يعلمها إلا الله، ولذلك يقول سعيد بن المسيب رضي الله عنه وأرضاه: [[الناس في كنف الله، وفي ستر الله، فإذا شاء أن يفضح أحدهم؛ أخرجه من كنفه ومن ستره، والمفضوح من فضحه الله]].
وهذا الذي يصاب بالخذلان؛ لعدم إخلاصه في القصد والتوجه إلى الله عز وجل، فإذا افتضح بالمعاصي؛ أصابه الخذلان, نسأل الله العافية.(281/5)
حياء الرسول صلى الله عليه وسلم
أتى الرسول صلى الله عليه وسلم بالحياء المحمود وترك المذموم، فهو قدوتنا في كل عمل، فمن لا يأخذ قوله وهديه وحاله صلى الله عليه وسلم فقد ذل، فيؤخذ القول من قوله صلى الله عليه وسلم، ويقتدى به صلى الله عليه وسلم بالأفعال والأحوال، ولذلك يقول أبو سعيد رضي الله عنه في الصحيحين: {كان صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها}.
ولا يحمل ذلك بعض الناس على أن يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يرى منكراً أو حقاً لله فيستحي ويحجم، لا.
فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأى حدود الله تنتهك، غضب غضباً لا يقوم له أحد عليه أفضل الصلاة والسلام، لكن حياءه كان حياء عبادة، وحياء تكليف من الله عز وجل, وكان من حيائه إنه ما كان يمد بصره إلى الناس؛ لأنهم يجلسون أمامه صلى الله عليه وسلم في الصلوات, بل كان ينكس رأسه صلى الله عليه وسلم وربما نظر إلى بعضهم.
قال البراء بن عازب رضي الله عنه: {كنا نصلي على يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم عله أن ينظر إلينا، فيبتسم إلينا ونبتسم إليه}.
ويقول أنس: {كان صلى الله عليه وسلم يبقى في بيته إلى قرب إقامة صلاة العشاء} أو كما قال.
فكان لا يخرج صلى الله عليه وسلم إلا وقت الإقامة، فإذا اجتمع الناس خرج عليه أفضل الصلاة والسلام من الجهة اليمنى؛ لأن بيت عائشة رضي الله عنها كان في الروضة من الجهة اليمنى للمصلي إذا استقبل الناس، قال أنس: {وكان في علية القوم، وفي الصف الأول أبو بكر وعمر، فينظر إليهم صلى الله عليه وسلم، وينظرون إليه، هو مقبل، فيبتسم إليهم، ويبتسمون إليه، ثم تقام الصلاة}.
كان من هديه صلى الله عليه وسلم: أنه ما كان يبدي للإنسان نظره إذا أخطأ, وما كان يقوم على المنبر، ويقول: أنت يا فلان فيشهره أمام الناس، أو يعلن توبيخه على الناس، لا.
بل كان يقول صلى الله عليه وسلم: {ما بال أناس يفعلون كذا وكذا} فيعرف المخطئ، ويعرف العاصي، فيعود بإذن الله ويتوب إلى الله عز وجل، هذا هديه صلى الله عليه وسلم.
والتشهير بالناس وبأخطائهم مذهب خاطئ، وغلط في المنهج والمبدأ، لا يقبله الإسلام، ولذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث سلمان أنه قال: {إن الله حيي يحب الحياء} وفي لفظ: {ستير}.
وقد سألني بعض الإخوة: كيف تورد مثل هذه الألفاظ في صفات الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الله نظيف يحب النظافة، وجميل يحب الجمال، وستير يحب الستر} وهل الحديث في ذلك ثابت؟
فنقول: هذه الألفاظ أطلقت من الرسول صلى الله عليه وسلم، والحديث في الترمذي.
ويرى ابن تيمية أن هذه الأسماء واردة منه صلى الله عليه وسلم، يقول: لكننا نتوقف فيها، فلا نطلقها حتى نتأكد من أسانيدها هل هي صحيحة أم لا؟ مع العلم أن في الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: {إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة} قال ابن حزم الظاهري:"أحصيتُ الأسماء الحسنى في الكتاب والسنة، فوجدتها ستة وستين، لا زيادة" فقال ابن تيمية: وجدت أكثر من الستة والستين.
والواجب في الأسماء والصفات أن نقولها كما قالها صلى الله عليه وسلم، ونقف على ذلك؛ لأن الأسماء توقيفية، وليس لنا أن نزيد في أسماء الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, كبعض الناس يسمي ابنه عبد الموجود, وعبد اليقظان، فهذه ليست من الصفات التي ورد بها التكليف والتشريع والاعتقاد.
وإنما ذكرت هذه المسألة عرضاً واستطراداً، والشاهد عند قولنا: إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يحب الستر، ولا يحب التشهير بالناس، حتى إنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يكره من الإنسان العاصي أن يجاهر بالمعصية، يعصي بالليل، ثم يخرج بالنهار، فيخبر الناس أنه عصى، وأنه ارتكب، وأنه فعل وفعل، فهذا لا يغفر له {كل أمتي معافى إلا المجاهرين} أي الذين يجاهرون بالخطأ، ولذلك من استصلاح القلوب: ألا يشهر المسلم بالعاصي، بل يأخذه على انفراد وينصحه؛ لأنهم يقولون: إن الدعوة: إما نصيحة، وإما فضيحة.
وقد سبق لنا أن ذكرنا كلام الشافعي للإمام أحمد في رسالته له، قال:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
تعمدني بنصحك في انفرادٍ وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة(281/6)
قوة النبي صلى الله عليه وسلم في الحق
ثبت في سنن أبي داود: {أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مضمخ بطيب -والطيب له لون أحمر، ونحن منهيون جملةً عن الصبغة الحمراء، أو عن لبس الثوب الأحمر الذي ليس فيه أعلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنه- فنظر صلى الله عليه وسلم إلى الناس، ثم قال: لو نهيتم هذا} وهو صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، وهو المسئول عن إخبار الناس بالأحكام، لكن حياءً ألا يواجه الناس بما يمكن أن يثير في أنفسهم شيئاً، فهو صلى الله عليه وسلم حيي ويستحي, لكنه لا يستحي صلى الله عليه وسلم من الحق، بل تقول عائشة: {كان إذا غضب صلى الله عليه وسلم لله لا يقوم لغضبه أحد} ونحن نعلم أنه ليس هناك أشجع منه صلى الله عليه وسلم، حتى يقول علي رضي الله عنه -وتعرفون من هو علي أبو الحسن -: [[كنا إذا لقينا القوم، واشتد الكرب اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أقربنا إلى القوم]] وكانوا يتقون به من السيوف والرماح.
ولذلك لم يثبت أبداً -وهذا معروف بالاستقراء- أنه صلى الله عليه وسلم فر من معركة، بل واجب عليه ألا يفر، ويحرم عليه صلى الله عليه وسلم لو فر الناس جميعاً أن يفر، حتى يقول بعض أهل العلم منهم القرطبي وابن العربي: لو قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الدنيا بأسرهم، وكانوا في صف وكان في صف، لما تأخر ولما فر أبداً، لأن الله يقول: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84] فهو لا يكلف إلا نفسه بالثبات، أما غيره فله أن يوصيهم بالثبات عليه الصلاة والسلام.
ولذلك في حنين، لما أتى مالك بن عوف النصري، واقتحم باثني عشر ألف مقاتل على جيش الرسول صلى الله عليه وسلم، ففر الناس، قال جابر p>>: فأمطرونا بالنبل حتى كأنه الغمام على رءوسنا، ففرت الدواب، والجمال والخيول بأصحابها.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {يا عباس! نادِ في الناس}.
فأخذ العباس يرفع صوته -وكان جهوري الصوت حتى كان ينادي أبناءه من بيته في المدينة، وفي الغابة فيسمعون صوته- فيقول: يا أهل سورة البقرة! يا من بايع تحت الشجرة! هلموا رحمكم الله، فلا يجيبون، ومالك بن عوف بهوازن وغطفان تعلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجبل.
فقال صلى الله عليه وسلم: {نادِ بالأنصار، قال: يا أيها الأنصار! يا حماة الدار! يا آخذين بالثار! عودوا إلى الرسول المختار، فما سمع ولا رأى صلى الله عليه وسلم أحداً يعود} بل فروا؛ وبعضهم فرت به دابته، وبعضهم متشكك من أول الطريق، ما صمم على القتال أصلاً، منهم مسلمة الفتح.
وقال صفوان بن أمية: اليوم بطل السحر - نسأل الله السلامة-، لأنه من مسلمة الفتح.
فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {نادِ بني الحارث، فنادى العباس في بني الحارث، وكانوا أشجع الأنصار من الخزرج، فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهم ثمانون- فاجتلدوا أمامه}.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقاتل من أول النهار، لم يفر أبداً ولم يتأخر، حتى يقول العباس: كنت آخذ ببغلته علها ألا تتقدم، فأبى صلى الله عليه وسلم إلا أن يتقدم، ثم نزل عن بغلته، وسل سيفه، ويقول: {أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب} حتى رد صلى الله عليه وسلم كتيبة مالك بن عوف النصري على وجهها.
قال الأنصار -بني حارثة-: ما أتينا إليه صلى الله عليه وسلم إلا وقد انهزم القوم، وأخذ حفنة من التراب فسفا بها في وجوههم، وقال: {شاهت الوجوه} فما بقيت عين إنسان من العدو إلا دخل في عينه من هذا التراب، فأخذت عيونهم تدمع، وأتى بنو حارثة, فقاتلوا أمامه صلى الله عليه وسلم حتى سمع لشظايا السيوف كسير من على رءوس الناس.
فرفع صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: {الآن حمي الوطيس} وهو أول من قالها من العرب كما يقول أبو قتيبة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول من قالها وتمثل بها, والوطيس أي: اشتد الكرب، واعتلت المعركة.
المهم أنه صلى الله عليه الصلاة والسلام في وقت الشجاعة، والإقدام، وإقامة الحدود، لا يمكن أن يتأخر، ولذلك يقول فيه مالك بن عوف النصري لما رآه، وهزم جيشه، ورده صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وأنزله مكرهاً مرغماً، قال:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله في الناس كلهم كمثل محمد
أعطى وأجزى للنوال إذا اجتدى ومتى تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابها بالزمهرير وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله وسط الهباءة يخاذل في مرصد
فحياؤه عليه الصلاة والسلام حياء تعبدي تكليفي، ولو أن الله أعطاه من الحياء الغريزي، لكان المقصود الذي نتبعه فيه صلى الله عليه وسلم هو حياء العبادة التكليفي الذي يحجم صاحبه عن القبيح، وسبق في تعريف لأهل العلم في الحياء: مراقبة القهار مخافة من النار، وبعداً من العار، فهذا هو الحياء الذي يذكره صلى الله عليه وسلم والذي قال للأنصاري: {دعه فإن الحياء من الإيمان}.
ومقصد البخاري رحمه الله أن يستدل بهذا على أن أعمال القلوب والآداب تدخل في الإيمان، وهو بهذا يرد على المرجئة؛ وقد بدأ الصحيح في الرد على الطوائف المبتدعة, فرد أولاً على الخوارج، ثم على الكرامية، ثم واصل المسيرة في الرد على المرجئة، وسوف يمر معنا أنه سوف يرد على من قال: بخلق القرآن من الجهمية المعطلة.(281/7)
شرح حديث: أمرت أن أقاتل الناس
الحديث الخامس والعشرون بوب له البخاري بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5].
وهذا تفنن منه رضي الله عنه وأرضاه، وقد سلف معنا قول ابن حجر وأهل العلم: إن للبخاري أساليب في التبويب منها: أن يأتي بآية تشريفاً للموضوع الذي سوف يتكلم عنه، وتعضيداً إلى ما يذهب إليه، ومنها: أن يأتي بحديث إما صحيح، وإما ضعيف، فالصحيح اكتفى به في إيراده؛ لأنه على شرطه، والضعيف ليجمع بين فائدة الحديث الذي ليس على شرطه؛ لأنه لم يشترط في التعليق، ولا في الأبواب أن يكون حديثاً صحيحاً، بل اشترطه في الأحاديث المسندة.
ومنها: أن يأتي باستنباط في التبويب، وهذه مهمة أهل العلم أن يستنبطوا كما استنبط هو.
قال الإمام البخاري رحمه الله: بابٌ {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5].
حدثنا عبد الله بن محمد المسندي قال: حدثنا أبو روح الحرمي بن عمارة قال: حدثنا شعبة , عن واقد بن محمد قال: سمعت أبي يحدث عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى}.
هذا من أعظم الأحاديث في الإسلام، وفيه أصول يجب وينبغي أن تعتقد وأن تفهم, وفي هذا الحديث قضايا.(281/8)
دخول الأعمال في الإيمان
مقصود البخاري وأهل السنة والجماعة أنهم يدخلون الأعمال في الإيمان، وأما إيمان بلا أعمال فهو مضحكة على الإنسان وعلى المسلمين؛ فكون الإنسان يؤمن ويعتقد، ثم لا يعمل هذا كذاب دجال مفتر على الله عز وجل, والذي قال هذا القول هم المرجئة، ومنهم الأحناف، قالوا: يكفي الإنسان أن يعتقد، وأما الأعمال فهي باب زائد لا يدخل في مسمى الإيمان، ولذلك يرد عليهم بقوله: " باب دخول الأعمال في الإيمان " ويؤخذ هذا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة} فإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة عمل.
فالأعمال تدخل في الإيمان، ومن ترك العمل -على تفسير- كالصلاة جحداً أو تهاوناً فقد كفر، لأن بعض الفقهاء قسم الترك إلى جحد وتهاون.
ويرى ابن تيمية: أن التقسيم إلى جحد وتهاون لا أصل له, يقول في كلام ما معناه: إنه لا يبلغ بالمسلم الترك إلى درجة أن يترك الصلاة إلا وقد بلغ درجة الكفر، سواء تهاون، أو جحد.
أما أن نأتي للإنسان (إذا ترك الصلاة) فنقول: أتركتها تهاوناً أم جحداً؟ يمكن أنك كسلان عنها؛ هذا الذي جعله يترك الصلاة، وهو يعرف أنها فريضة إلى درجة الكفر، فهذا التقسيم أحدث اضطراباً كثيراً عند الناس، وهو قول للمرجئة؛ لأنهم يريدون أن يبرئوا الناس، أو يعتذروا لهم، أو للمجرمين والعصاة حتى يجعلوا العمل لا يدخل الإيمان على أصلهم -وهذا لا ينبغي أبداً- بل من ترك الصلاة فقد كفر.
لأن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لم تذكر جاحداً ومتهاوناً، إنما قال صلى الله عليه وسلم: {ومن تركها فقد كفر} وهذا كَفَرَ على الكفر المعروف، لا على الكفر دون الكفر؛ كما يقول بعض الناس.(281/9)
عظم الصلاة والزكاة
هذا الحديث أحدث خلافاً بين الصحابة رضوان الله عليهم لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الحديث الذي تدارسوه، والذي أراد البخاري أن يأتي به في هذا المكان، وقد تكلم الشراح عند شرح هذا الحديث على اختلاف أبي بكر وعمر في قتال المرتدين، وهذا الاختلاف وارد، والله عز وجل له الكمال المطلق, وهو عز وجل يعطي البعض علماً لا يعطيه للآخرين وسوف يتبين لنا هذا من قضايا الحديث.
لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم قال بعض العرب: نرى أن هذا الدين لا بد أن يستمر معه صلى الله عليه وسلم، فإذا مات؛ فقد انتهى الدين، فارتدوا، وهؤلاء قسم قليل من المرتدين، لا يعدون ولا يذكرون.
والقسم الثاني قالوا: الزكاة إنما كانت تدفع للرسول صلى الله عليه وسلم، فلما مات الرسول عليه الصلاة والسلام، قالوا: كيف نؤديها لـ أبي بكر؟ هل النبوة وراثة؟ حتى يقول شاعر بني حنيفة من اليمامة:
رضينا رسول الله إذ كان بيننا فما بالنا نرضى بحكم أبي بكر
أيملكها بكر إذا مات بعده فتلك لعمر الله قاصمة الظهر
يقول: كيف يملكنا أبو بكر بعد الرسول صلى الله عليه وسلم؟
قاتلهم الله إلا من تاب منهم، فقد تاب الله عليه، فقد فرقوا بين الصلاة والزكاة.(281/10)
قتال أبي بكر لمانعي الزكاة
أتى أبو بكر رضي الله عنه إلى الناس يوم الجمعة في المسجد -لأنه يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم فكان يجعل المسجد للأمور المهمة وللدعوة وللعلم وللشغل العسكري- فكان يكلم الناس في حال هؤلاء المرتدين, وماذا يفعل معهم, ثم أكمل رضي الله عنه خطبته، وصلى بالناس، ثم عاد إلى المنبر، فقال: [[إني رأيت أن أقاتلهم.
فقام عمر رضي الله عنه وقال: كيف تقاتل من قال لا إله إلا الله وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله}]] الحديث الذي استدل به عمر لم يذكر فيه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهو حديث ثابت.
حتى يقول ابن حجر وابن تيمية رحمهما الله: ربما لم يتذكر أبو بكر هذا الحديث، أو أنه لم يسمعه رضي الله عنه، فإن العالم قد يخفى عليه بعض أمور العلم، وبعض المسائل، وإن كان أعلم من غيره في الجملة، فـ أبو بكر أعلم من عمر وابن عمر، ومن كثير من الصحابة في الجملة, لكن خفي عليه هذا، فاستعمل القياس رضي الله عنه وأرضاه، فقال: [[والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال]].
قال ابن حجر: "هذا من استعمال القياس، وهو وارد، وفيه رد على من أنكر القياس".
فقام عمر فأنكر على أبي بكر رضي الله عنه.
فقال أبو بكر للناس: ما ترون؟ قالوا: نرى ألا نقاتلهم، فقال أبو بكر: [[والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه]].
عجيب! كل المسجد من الصحابة من المهاجرين والأنصار يجمعون على رأي، وأبو بكر رضي الله عنه على رأي واحد، ويصبح الحق والصواب مع أبي بكر رضي الله عنه!
قال عمر: [[فتأملت أن الله عز وجل ما شرح صدر أبي بكر رضي الله عنه إلا للتي هي خير، فقمت فأيدته، فقام الناس، فأيدوه]].
لأن الله عز وجل ثبته وسدده، وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يختار إلا أحسن وأتقى الناس لله عز وجل ويقدمه في الصلاة.
حتى يقول عمر: [[والله لئن أتقدم في غير حد من حدود الله، فتضرب عنقي، لكان أهون علي من أن أتقدم بقوم فيهم أبو بكر رضي الله عنه]] لأنه يعرف حقه، خلافاً لما تدعيه الشيعة -الذين يقول فيهم ابن تيمية: قاتلهم الله، لو كانوا من الوحوش، لكانوا حمراً -يعني حميراً- ولو كانوا من الطيور، لكانوا رخماً- يقولون: أنه اغتصب الخلافة غصباً.
يقول علي - كما ثبت في الصحيحين - على منبر الكوفة يوم الجمعة: [[والله لا يأتي أحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري]] ثمانين جلدة؛ لأنه كذاب على الله، وعلى رسوله، وعلى المؤمنين.
فـ أبو بكر رضي الله عنه رأى قتالهم، ثم أرسل خالداً إلى أهل اليمامة، وإلى كذابهم العنيد المجرم الدجال مسيلمة، فلما وصل الجيش إلى هناك قاتلهم خالد رضي الله عنه، ومر بطريقه فأخذ سادات فزارة من غطفان منهم عيينة بن حصن، وأدخله في المسجد كرهاً حتى أدخله ملبداً في عمامته.
هذا الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {ائذنوا له بئس أخو العشيرة}.
وكان مسلماً ذاك الوقت، لكن عليه الصلاة والسلام كأن عنده خبر أن هذا الرجل سوف يفعل شيئاً، فلما مات صلى الله عليه وسلم ارتد، فأدخله خالد، وهو ملبد في العمامة يقوده أمام أبي بكر، فقال أبو بكر للمرتدين: [[اختاروا واحدة من اثنتين: إما حرب مجلَّية، وإما سلم مُخْزِية.
قالوا: يا خليفة رسول الله! -الآن عرفوا خليفة رسول الله بعد سيف أبي سليمان خالد بن الوليد - ما هي الحرب المجلية؟ وما هي السلم المخزية؟
قال: أما السلم المخزية: فتسلمون سلاحكم وعتادكم، وتبقون معنا كالحريم وكالنساء، لا تحضرون قتالاً، ولا لكم حظ في الفيء.
وأما الحرب المجلية: فهي أن نخرج لكم وتخرجون لنا مرة ثانية، فمن ينتصر، فليأخذ الأمر.
فقالوا: بل سلم مخزية]] فبقوا في الإسلام، ولكن بعضهم ربما أدخله أبو بكر وعمر باستثناء في أمور الحروب.
الشاهد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة} فكيف غاب هذا الحديث عن أبي بكر رضي الله عنه؟
قال أهل العلم: إما أنه لم يسمعه رضي الله عنه، ويعذر في ذلك، فإن الصحابة ليس هناك أحد - كما يقول الشافعي في الرسالة - ما هناك أحد من الأمة جمع السنة كلها، وقد يجمع العالم غالب السنة، لكن تفوته بعض الأمور.
الأمر الثاني: يمكن أن أبا بكر رضي الله عنه سمع بهذا الحديث، لكن نسيه مع الغضب، ومع أمور المعركة، أو نسيه غفلة وهي التي تعتري البشر، وذكَّره ابن عمر رضي الله عنه فيما بعد في آخر حياته رضي الله عنه بهذا الحديث، فسكت رضي الله عنه وأرضاه، ولو أن هذا الحديث معه، لعرضه على الناس، لكنه استخدم القياس، فقال: [[والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة الزكاة؛ فإن الزكاة حق المال]] فاستخدم القياس، وترك النص رضي الله عنه؛ لأنه لم يبلغه، أو نسيه.(281/11)
التلفظ بالشهادة لا تعصم الدم والمال
الشهادة وحدها لا تعصم الدم، على رأي أهل السنة والجماعة إلا المرجئة، فـ المرجئة يرون أن من فقد انتهى الأمر، من اعتقد وشهد سواء صلى أم لم يصلِّ، ولذلك يقولون: لا يكفر من ترك الصلاة، لأن الصلاة عندهم عمل زائد على الإيمان.
أما أهل السنة: فإنهم يرون أن الشهادة وحدها لا تعصم الدم، بل لا بد من الصلاة معها.
وأما الزكاة فلا تدخل في هذا الحديث؛ لأن فيها خلاف؛ ولأن بعضهم منع الزكاة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وما قاتلهم, وقال فيمن منع أداء الزكاة: {فإنا آخذوها وشطراً من ماله عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى} وامتنع من أداء الزكاة بعض الناس، بعضهم لعذر، وبعضهم لنفاق، فما سمعنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم، لكن هذا الحديث -كأنه والله أعلم- يخصص فعله صلى الله عليه وسلم من قوله.
أما الصلاة فإنهم يقاتلون، ويكفر من ترك الصلاة سواء جحداً، أو كسلاً على ما قسمه بعض الفقهاء، ولا أثر لهذا التقسيم وليس بصحيح.
والمرجئة يقولون: اعتقاد وقول فحسب.
والكرامية يقولون: قول فحسب، يقول: لا إله إلا الله، ويدخل الجنة، سواء اعتقد، أو لم يعتقد، صلى، أو لم يصلِّ، فهم ينقصون عن المرجئة بأنهم يقولون: قول فحسب.
وقد مر معنا تقييم مذهبهم الباطل، فالشهادة وحدها لا تعصم الدم، فمن شهد أن لا إله إلا الله، ثم لم يصلِّ فدمه حلال، ولم يعصم دمه.(281/12)
المقاتلة غير القتل
يرى الشافعي في هذه المسألة: أن قوله: {أمرت أن أقاتل الناس} هو على عمومه فيقاتلهم جملة هو في صف، وهم في صف، لا أنه قال: أمرت أن أقتل تارك الصلاة والزكاة، لكن بعض أهل العلم قالوا: لا، هذا لا يؤخذ من هذا الحديث، وإنما يؤخذ من أحاديث أخرى، فقاتلوا المشركين، يعني: قاتلوهم جملة، أما على الأفراد، فقد يسلم بعضهم، أو يتوب، أو بعضهم مستضعف لكنه خرج مع الجيش، فالمقاتلة غير القتل، ولا تؤخذ من هذا الحديث، وإنما ذكرت هذا؛ لأن ابن حجر أورده، واستراح لهذا الرأي؛ لأنه شافعي فصادف قلباً خالياً فتمكن.
وابن تيمية رأى: أنهم يقاتلون على القتل، لا على المقاتلة؛ لأنه من المفاعلة المشاكلة, يقول: فمن يقتل يقتل على الجملة، ومن يتب يتب، لكن على القتل، من ترك الصلاة فإنه يقتل.(281/13)
أهل المعاصي لا يقاتلون
أخذ هذا من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حصر المعاصي في ترك إقامة لا إله إلا الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فغيرها يؤخذ بالمفهوم، فما سكت عنه لا يؤخذ حكم المنطوق، كما أقره ابن حجر في هذا الخبر، وكذلك العيني في عمدة القاري، فإن أهل المعاصي لا يقاتلون.
فإن من شرب الخمر وزنا؛ فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة أنه يقام عليه الحد، إلا أن يستحل هذه الأمور، فإنه يقتل.
أما إذا عصوا الله عز وجل، فإنهم لا يقاتلون، لكن تقام عليهم الحدود، أما من استحلها، ورأى أنه لم ينزل الله تحريمها، أو أنكر التحريم، فهذا لو استحل أي سنة من السنن؛ فقد كفر، نسأل الله السلامة.(281/14)
ترك تكفير أهل البدع المؤدين للشرائع الملتزمين بالتوحيد
أهل البدع لا يكفرون، وهذا أصل من الأصول ينبغي أن يفهم، وقد فهم، ويفهمه كثير، لكن أهل البدع إن ابتدعوا بدعة في الدين، فهم فسقة، ولا يكفرون ببدعهم إلا ما استثنى بعض أهل العلم مما سوف أذكره.
وابن تيمية رحمه الله له كلام جميل منقول في منهاج السنة، وجمعه الشيخ/ عبد الفتاح أبو غدة من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية فيما يقارب ثلاثين صفحة في حكم أهل البدع هؤلاء.
يرى ابن تيمية رحمه الله: أنهم لا يكفرون، والحديث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: {تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار} أو: {كلها في النار إلا فرقة واحدة} هم أهل السنة والجماعة يقول: إنه لا يلزم من ذلك تخليدهم ولا تكفيرهم، وهذا الحديث يقول: ليس في الصحيحين ولا في أحدهما، بل هو حديث حسن بمجموع طرقه في السنن، ثم يقول: لأن الله عز وجل ذكر بعض العصاة، وقال: يدخلون النار, كالقاتل وكغيره ممن ارتكب بعض المحرمات، فدخوله النار لا يستوجب كفره.
هذا الأمر الذي يُفهم، فـ الأشاعرة مثلاً والمعتزلة والجهمية على وجه العموم -إلا ما خصصه بعض أهل العلم بأعيانهم، أو من فعل كذا فهو كذا- لا يكفرون.
أما الشيعة، فقسمهم ابن تيمية إلى قسمين: قسم أتى بما يوجب الكفر، فنكفره أبداً، وقسم أتى بما يوجب التفسيق، فنفسقه.
فأما من أتى بما يوجب الكفر، كمن قال: بأن القرآن ناقص، ومن قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم خان الأمانة.
ومن تكلم في عرض عائشة رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق المبرأة من فوق سبع سماوات، ومن كفَّر الصحابة، فإنه يأخذ هذا الحكم.
وأما غير ذلك, كأن قدم علياً رضي الله عنه على أبي بكر وعمر، فهذا فاسق، أو اتهم بعض الصحابة، أو سب، فهذا يأخذ هذا الحكم، فلا يؤخذ من هذا الحديث تكفير أهل البدع، لأنه لم يذكر صلى الله عليه وسلم إلا هذه الأمور، فمن أداها، وقام بها، ولم يأت بموجب الكفر الذي يعارض هذه الأمور، فهو مسلم على الظاهر، والسرائر عند الله تبارك وتعالى.(281/15)
قد يخفى على العالِم ما يعلمه من هو أقل منه
وهذا معروف في قصة أبي بكر، وقد خفي على العلماء من الصحابة بعض المسائل علمت من صغار الصحابة رضي الله عنهم.
فالمقصود: أنه لا يغتر بالكثرة الكاثرة أنها سلكت منهجاً، أو اعتقدت مبدأ أو طريقة أنها بذلك هي التي مع الصواب.
أتى رجل إلى علي رضي الله عنه يوم الجمعة، فقال: يا علي أرى أنك ظلمت.
قال: [[ثكلتك أمك، ومن أخبرك أني ظلمت؟
قال: أتظن أن الزبير وطلحة وعائشة، وفلاناً وفلاناً ضلال وأنت على الحق؛ لأنهم قاموا في مواجهته.
فقال علي رضي الله عنه: ثكلتك أمك، اعرف الحق تعرف أهله، ولا تعرف الحق بالرجال]].
اعرف الحق أنه حق؛ تعرف أهله تبعاً لا أصلاً، ولا تعرف الحق بالرجال، أي: لا تقل فلان يفعل كذا، وفلان كذا إذاً هو مصيب، فهذا خطأ، فالحق قد يكون مع الواحد، ويكفي أن يكون الواحد على الحق، وأهل السنة هم من اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كان واحداً.(281/16)
بيان أن الحكم للظاهر وإيكال السرائر إلى الله تعالى
العمل في الظاهر مقبول من الناس، والسرائر إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة} قد يكونون منافقين، وفعل هذا الأمر كثير من الناس عند الرسول صلى الله عليه وسلم فما قاتلهم، فنحن نقبل سرائر الناس، ولذلك نأخذ بالتعديل في الشهادة، وفي التوفيق الظاهر من الناس، حتى في الإمامة لا نأتي إلى إمام مسجد، فنقول له: قبل أن تكبر اصبر، ما هو معتقد أهل السنة في الأسماء والصفات؟ وهل الله عز وجل مستوٍ على عرشه حقيقة، وهل تعتقد كذا؟ فإن هذا تنطع وتعمق وبدعة ما أنزل الله به من سلطان.
وكذلك يقول أهل العلم فيمن يذبح الذبائح وظاهره أنه مسلم لا نأتي إليه ونقول: هل أنت تصلي الخمس في جماعة؟ وتحضر الفجر؟ وتعتقد مذهب أهل السنة والجماعة في الصفات والأركان؟ وترى وترى وترى! هذا ليس بوارد، بل نكتفي في الجملة أننا نعرف أنه من المسلمين، وأنه يصلي -إن شاء الله- في الظاهر، ولكن السرائر إلى الله عز وجل، فهذا يعرف ويعلم من هذا الحديث، وعليه كلام أهل العلم.
وفي الحديث أن كلمة (لا إله إلا الله) وإقام الصلاة، عصمت دم المنافق وماله في الدنيا، لكن حسابه عند الله ناراً تلظى، وهو في الدرك الأسفل من النار.(281/17)
عدم التعنيف على المخالف فيما يسوغ فيه الخلاف
ويستفاد من هذا الحديث: اجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم، وعدم تثريب بعضهم على بعض، والخلاف وارد، ولذلك يقول سفيان الثوري رحمه الله: "من قلة علم الرجل أن يعنف على المخالف" إذا رأيت الإنسان يعنف على المخالف، فاعرف أنه لا أدب عنده ولا علم، ولذلك اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في الفروع، يقول ابن القيم في أعلام الموقعين: لكنهم بحمد الله وبفضله وبعونه لم يختلفوا في الأصول أبداً، وما تكلموا في الأسماء والصفات، ولا اختلفوا فيها، بل أجروها على الظاهر وسكتوا، ولذلك ما سمعنا من اختلف في الأصول، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يلقي عليهم الأسماء والصفات، فما كانوا يناقشونه، كان يقول صلى الله عليه وسلم: {يضحك ربك} وهم فيهم العلماء والعباد والأعراب، فما كانوا يقولون: هل ضحك يليق بجلاله يا رسول الله أم لا؟ سكتوا؛ لأنه يعرف على الظاهر، أما في مسائل الفروع فاختلفوا، ولذلك يؤخذ من هذا عدم التثريب والتعنيف من بعض المخالفين على بعض، ومسائل الاجتهاد واردة.
وابن تيمية له كتاب" رفع الملام عن الأئمة الأعلام " يبين أن الخلاف أنه قد يكون وارداً من عهد الصحابة، وقد ورد، ثم يعلل ويعتذر للأئمة بستة أعذار، قد سبق أن أوردنا بعضها، وبعض الناس يعنف على بعض المسلمين في سنن صغيرة لا تحتاج إلى هذا التشدد والتنطع والتعمق الذي لامه صلى الله عليه وسلم.
فأحدهم إن رأى بعض المسلمين يضم يديه على صدره قال: أين أنت من حديث علي: أنه تحت السرة.
ثم يغضب عليه ويهجره، وهذا ما عنده من العلم إلا الجهل، والآخر يقول كذلك في دعاء الاستفتاح: لا تستفتح بذاك الدعاء؛ لأنه في أبي داود، وذاك في الصحيحين ثبت من طرق.
فلسنا مأمورين بهذا، بل المنازع لا يثرب عليه، ولا يعنف، فما دام أن في المسألة خلافاً، فالأمر فيه سعة.
هناك مسائل خلافية، فمن فعل هذا فقد أصاب، ومن فعل هذا فقد أصاب، لكن الإنسان يتحرى لنفسه الحديث الصحيح دون ما يعرضه على الناس، لك أن تعرف أن الحديث الصحيح الذي في البخاري يقدم على الحديث الضعيف في أبي داود، فتعمل به، لكن ترى بعض الناس يفعل هذا فلا تثرب عليه، وهذا من الاشتغال بالخلافيات، ومن التشديد على المسلمين، والتجهيل بسبب هذه المخالفات البسيطة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ومن فعلها فهو آثم.
حتى أن ابن تيمية رحمه الله في كتاب أصول الفقه يرى أن المسائل المتنازع فيها يكون فيها سعة، وأنه لا يحرج على من فعلها، ولا يعنف عليه بل حتى ولا يرد عليه.
مثلاً: الصلاة لمن دخل المسجد بعد صلاة العصر, فإن هذا وقت نهي عند بعض أهل العلم, لقوله صلى الله عليه وسلم: {لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس} وبعض أهل العلم يرجح أنه يصلي ركعتين لقوله صلى الله عليه وسلم: {من دخل المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} فإن رأيت أحداً من الناس يصلي ركعتين، وأنت ترى عدم الصلاة؛ فلا تثرب عليه، ولا تعنف، لأن هذا الأمر فيه سعة، نسأل الله عز وجل لنا ولكم التوفيق والهداية.(281/18)
شرح حديث: أي الأعمال أفضل
ثم قال الإمام البخاري رحمه الله: باب من قال: إن الإيمان هو العمل، لقول الله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93] قال: عن قول لا إله إلا الله، وقال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) [الصافات:61].
قال: حدثنا أحمد بن يونس , وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا إبراهيم بن سعد , قال: حدثنا ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: {أي الأعمال أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور}.
في الحديث كثير من القضايا التي مرت معنا لكن بقيت بعضها، منها:(281/19)
اختلاف الأجوبة بحسب الحال والمخاطب
أولاً: يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب بأجوبة مختلفة، وقد مر معنا بعض الأسئلة التي عرضت عليه صلى الله عليه وسلم، والسؤال هو السؤال، ولكن الجواب تغير منه صلى الله عليه وسلم، فما هو سر هذه المسألة؟.
ثانياً: لماذا كان يسأل صلى الله عليه وسلم من بعض الناس عن فضائل الأعمال، وعن بعض المعاصي، فيجيب صلى الله عليه وسلم بإجابات مختلفة؟
والقاعدة في هذا: أنه صلى الله عليه وسلم كان يجيب على اختلاف الأشخاص والأحوال؛ لأنه معصوم عليه الصلاة والسلام، لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، أما غيره فإنه لا يستطيع ذلك مهما بلغ من العلم، فبعض أهل العلم يأتيه إنسان، فيقول: دلني على أفضل عمل، فيقول: أدلك على الجهاد في سبيل الله، وهذا السائل من أخوف الناس، يموت قبل الموت؛ لأن بعض الناس يموت قبل الموت مرات، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليست إجابته هكذا، كان صلى الله عليه وسلم يعرف استعدادات الناس وما يستوعبونه، وما يمكن أن يقوموا به، وأن يوفوه حقه، فيخبرهم على قدر حاجتهم، وعلى ما يستطيعون له، ويقدرون عليه.
أتاه أبو ذر رضي الله عنه، وأبو ذر فيه حدة رضي الله عنه قال: أوصني يا رسول الله! لو قال له صلى الله عليه وسلم عليك بالصدقة، فأي مال عند أبي ذر حتى يتصدق؟ أو إنفاق في سبيل الله، أو الجهاد؟ لكن قال له: {لا تغضب، قال: أوصني، قال: لا تغضب، قال: أوصني، قال: لا تغضب} فعرف صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل دواؤه وعلاجه عدم الغضب؛ لأن الغضب مركوز فيه، ووجد فيه رضي الله عنه حتى فيما بعد لم يستطع أن يسيطر عليه، لكنه غيَّر ما استطاع منه رضي الله عنه وأرضاه.
وروى عبد الله بن بشر كما في سنن الترمذي أن رجلاً قال: {يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتثبت به} هل يقول عليك بالجهاد في سبيل الله؟ ماذا يفعل هذا عمره ثمانون سنة؟ قال: {لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} يذكر الله وهو راقد على الفراش، لا يصلي، ولا يصوم، ولا ينفق، ولا شيء من تلك النوافل، بل يسبح فقط، يحرك لسانه لأن أقوى شيء فيه لسانه.
وأتاه ابن غيلان الثقفي وكان من أشجع الناس, كان جثة هامدة قوية، فأتاه فلما دخل عليه أسلم، فأحيا الله هذه الجثة بالإيمان، وأصبح حياً يقظان، فقال: دلني يا رسول الله على أفضل عمل، قال: عليك بالجهاد في سبيل الله؛ لأن هذا إذا حضر معركة نفع الله به.
ويأتي الآخر، فيخبره صلى الله عليه وسلم بما يمكن، لكن هذا لا يتهيأ لكل الناس، ولا لأهل العلم مهما بلغوا، وإنما يتهيأ للرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول ابن حجر هنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل نفس هذا السؤال في حديث ابن مسعود، وفي حديث أبي ذر، وفي حديث أبي هريرة، فتغيرت الإجابات.
فهنا يقول صلى الله عليه وسلم حين سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: {إيمان بالله ورسوله} وعند ابن مسعود سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: {الصلاة في أول وقتها} وفي حديث أبي ذر سئل أي العمل أفضل؟ فقال: {الجهاد في سبيل الله}.
المقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر بهذا راعى حال المخاطبين، فإنه قد يوجد في هذا المجلس الذي تكلم فيه صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث لفيف من الناس لم يقوَ إيمانهم، فلو قال: الصلاة في أول وقتها، ما كان حاجتهم إلى ذكر الصلاة أول الإجابة، بتلك الحاجة التي تحوجهم إلى أن يتعلموا الإيمان، فعرض صلى الله عليه وسلم الإيمان، أما ابن مسعود فعالم من علماء الصحابة.
وهل إذا سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل، وهو مؤمن من أخمص قدميه إلى شغاف رأسه هل يقول له صلى الله عليه وسلم: إيمانك بالله ورسوله وهو مؤمن، لا.
فقال: {الصلاة في أول وقتها} لأن لسان الحال يقول لـ ابن مسعود: لأنك إمام وعالم ومعتبر، فعليك بالصلاة في أول وقتها.
ولذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، صاحب هذا السؤال أدرك أمراء يؤخرون الصلاة عن أوقاتها، فأفاده هذا الحديث، فكان يصلي في بيته الصلاة في أول وقتها، ثم ينزل إليهم في مساجدهم، فيصلي معهم، وصرح له صلى الله عليه وسلم بأن قال- وهذا من حديث ابن مسعود وحذيفة - {يا رسول إذا أدركت قوماً يميتون الصلاة عن وقتها -يؤخرونها حتى أصبحت ميتة، ولا أصبح لها أثر، ولا قبول، ولا محبة، ولا رفعة- فماذا أفعل؟ قال صلى الله عليه وسلم: صل الصلاة على وقتها، ثم صلِّ معهم} وفي رواية أبي ذر: {ولا تقل إني صليت} لكن صل في بيتك، ثم تعال فصل معهم، فكان يفعلها الصحابة لما أتى بنو أمية، فأماتوا الصلاة، وأخرجوها عن وقتها، حتى يقول ابن تيمية: إن من سبب زلزلة ما كانوا عليه من سلطان، تأخير الصلاة عن أوقاتها، لما أخروها أخرهم الله عز وجل.
فالمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يغير الإجابات بحسب أحوال السائلين.
وفي الحديث أيضاً: ترتيب الأعمال على الإيمان؛ لأنه وجد في المجلس من لم يستعد أولاً بالإيمان, أو لفيف من المسلمين الذين هم حديثو عهد بالإسلام، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه لا عمل، ولا قبول، ولا حج إلا بالإيمان.(281/20)
تفضيل الجهاد على الحج لما فيه من نفع متعدٍ
قدم الرسول صلى الله عليه وسلم هنا الجهاد على الحج، مع أن الحج ركن والجهاد في سبيل الله ليس بركن عند جمهور العلماء، وإن كان بعضهم قالوا: إنه ركن، عدوه ركناً سادساً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث معاذ عند الترمذي: {وذروة سنامه الجهاد} لكن الصحيح أنه ليس بركن، وقالوا: إن سبب تقديم النبي صلى الله عليه وسلم له على الحج، لما فيه من نفع متعد؛ لأن المجاهد يرفع راية الله، ويحمي حوزة المسلمين، ويدفع الكفار، وأما الحج، فإنه يحج لنفسه، فاهتم به صلى الله عليه وسلم.(281/21)
الاعتقاد القلبي عمل
القضية الرابعة: اعتقاد القلب عمل.
يريد البخاري بهذا الكلام أن يبين أن اعتقاد القلب عمل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سأله سائل: {أي العمل أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله} فجعله صلى الله عليه وسلم عملاً، ولذلك يقول البخاري: باب من قال: إن الإيمان هو العمل.
ثم أتى بهذا، وهو شفاف دقيق رحمه الله رحمة واسعة وهو من أذكياء العالم كما يقول أهل العلم عنه، يأتي بالفائدة، فلا تدرك عند كثير من الناس، وحتى يأتي ابن المنير كثيراً، فيقول: ما مناسبة هذا الباب لهذه الترجمة؟ من أين أتى البخاري بهذا الباب لهذه الترجمة؟ ويقول ابن التين: أظن البخاري غلط وأتى بباب وركب حديثاً عليه، لكن ابن حجر يقول: لم يغلط، ولا ركب، ولا اضطرب، بل هو الصحيح معه، ثم يوجه ما قاله.(281/22)
معنى قوله سبحانه وتعالى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
قال أهل العلم: إنما قال الله عز وجل: {أُورِثْتُمُوهَا} [الزخرف:72] دليل على الاستحقاق، أي لما أحقها الله عز وجل كانت كأنها حق لكم في الإرث, لا أنكم ورثتموها كابراً عن كابر.
وقال بعضهم: لا.
لما قسمت الجنة بعلم الله عز وجل أصبحت ميراثاً ينتظره المؤمن وكل من يدخل الجنة.
فنسأل الله ألا يحرمنا ذاك الميراث: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] كيف هنا يقول: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] وهناك يقول عليه الصلاة والسلام: {لن ينجوا أحدكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته} فكيف ينفي صلى الله عليه وسلم دخول الجنة بالعمل، والله عز وجل يقول: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72].
لـ ابن القيم في هذا مذهب، ولبعض أهل العلم مذهب آخر، فـ ابن القيم رحمه الله يقول هنا: هي المنازل في الجنة بالعمل، أما الدخول فبرحمة الله، وأما المنازل والدرجات فبالعمل، من يدخل الجنة برحمة الله -نسأل الله من فضله- لكن المنازل والدرجات تختلف باختلاف العاملين، فالله عز وجل يقول: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} [الزخرف:72] أي: الدرجات والمنازل: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] أما الدخول فعلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فهو برحمة الله.
وبعضهم يقول ويميل إليه ابن حجر: أن معناها: أنكم لما عملتم العمل، قبله الله منكم، وقبول العمل من الله رحمة، فمعنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إلا أن يتغمدني الله برحمته} أي يقبل عملي الصالح، ويتجاوز عن السيىء، كقوله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16]
فهناك تقبل من الله للعمل الصالح، وتكفيره للسيء رحمة وهذا كأنه أولى -والله أعلم- وعليه كثير من أهل العلم؛ ولأن الآيات تأتي {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] بالمقابلة والعوض، وعلق عليه الشيخ/ عبد العزيز بن باز، قال: إنها للسببية، وابن حجر يرى: أنها للمقابلة والعوض، فأما السببية، فإنه قد لا يدرى، لكن هي سبب في الأعمال، لكن الصحيح أن الله عز وجل يرحم من يرحم منا بقبول العمل، وبتكفير السيئات، وهي رحمة.
وأما قول البخاري (وقال عدة من أهل العلم) أبهم الكلام وهم أنس رضي الله عنه، وابن عمر، وأبو ذر , قالوا في قول الله عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93] قيل: عن قول: لا إله إلا الله، فشاهد البخاري أنه لما قال: لا إله إلا الله اعتده عملاً، فالقول والاعتقاد والعمل كله دين، وهنا يريد أن يثبت هذا، ويريد أن يرد على الكرامية الذين قالوا: العقيدة إنما هي قول، وعلى المرجئة الذين قالوا: إنما هي اعتقاد وقول، ثم يريد أن يثبت أن القول والعمل والاعتقاد كلها دين من دين الله عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93] أي عن قول: لا إله إلا الله، وهذا مذهب، وقيل: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:93] وهو رأي لبعض المفسرين: عما كانوا يعملون من الجرائم في الحياة الدنيا.
وقال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61].
أي لمثل هذا النعيم الذي ذكره الله في سورة الصافات فليعمل العاملون، فاستدل به البخاري على أنه لابد أن يقدموا عملاً، فإنه دين يدخلون به الجنة، وهو دين الله عز وجل، وابن المبارك كان يدعو الله أن يتوفاه غريباً؛ لأنه ثبت في بعض الأحاديث أن الغريب شهيد، وأتى به السيوطي في تنوير الحوالك في شرح موطأ الإمام مالك، وذكر أن الغريب شهيد.
وكان ابن المبارك له ثوب يصلي فيه, فإذا صلى قال: [[اللهم أمتني غريباً وكفني في ثوبي هذا]] واستحب بعض أهل العلم مثل: ابن المبارك وإسحاق بن راهويه أن المسلم يدفن في ثيابه التي كان يصلي فيها ويصوم فيها، ويعبد الله فيها؛ لأن آثار العبادة عليها، ولذلك كفن صلى الله عليه وسلم في ثيابه التي كان يصلي فيها صلى الله عليه وسلم، وكفن أبو بكر في ثيابه رضي الله عنه.
الشاهد: أن ابن المبارك أنه لما حضرته الوفاة توفي في جيت -بلد من البلدان في الشمال- وهو غريب، فبكى غلامه وقال: يا أبا عبد الرحمن! أبعد العلم، وبعد الإفادة، وبعد تلك المجالس تموت وحيداً، قال: اسكت، فإني سألت الله أن يميتني غريباً، ثم التفت ابن المبارك، ثم تبسم وضحك - وهو في سكرات الموت- ثم قال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] وكأنه والله أعلم رأى مقعده في الجنة، أو رأى بعض المبشرات.(281/23)
شرح حديث: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه
قال البخاري رحمه الله: باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام، أو الخوف من القتل، لقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14].
فإذا كان على الحقيقة، فهو على قوله جل ذكره: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19].
حدثنا أبو اليمان , قال: أخبرنا شعيب عن الزهري , قال: أخبرنا عامر بن سعد بن أبي وقاص عن سعد رضي الله عنه: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطاً -وسعد جالس- فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً هو أعجبهم إلي، فقلت: يا رسول الله! ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً، فقال: أو مسلماً.
فسكت قليلاً، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي، فقلت: ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً، فقال: أو مسلماً، ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا سعد إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه خشية أن يكبه الله في النار} ورواه يونس وصالح ومعمر وابن أخي الزهري عن الزهري.(281/24)
ترجمة سعد بن أبي وقاص
سعد رضي الله عنه هو خال الرسول صلى الله عليه وسلم, وخوله يعني: قريبه من قرابة خئولته صلى الله عليه وسلم، وهو أحد المبشرين بالجنة.
قال له صلى الله عليه وسلم يوم أحد: {ارم سعد فداك أبي وأمي} يقول علي: [[والله ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدِّي أحداً إلا سعد]] وقال صلى الله عليه وسلم: {هذا خالي فليرني كل خاله}.
وسأل سعد الرسول صلى الله عليه وسلم عن أسباب إجابة الدعوة، فقال له: {أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة} ولذلك قال له صلى الله عليه وسلم: {اللهم سدد رميته، وأجب دعوته} فكان كلما دعا أصابت دعوته بإذن الله.
وثبت عنه أنه لما قطعت الجسور بالنار، قال: يا خيل الله اركبي -خيل المسلمين- وقد وقعت في الماء، ووقع كثير من الجيش، فجمَّد الله لهم النهر فمشت بإذن الله حتى خرجتْ.
يقول أبو إدريس وكان معهم: فَقَدَ رجل منا مخلاه، فرجع إليها، فوجدها معلقة في شجرة في النهر، فأخذها وخرج.
وثبت في البخاري أن عمر رضي الله عنه ولاه على الكوفة , وأهل الكوفة كانوا من أشغب الناس حتى انتقم الله لسعد، وعلي بن أبي طالب بـ الحجاج بن يوسف الثقفي، علمهم كيف يتعاملون مع المؤمنين، فهؤلاء نقموا على سعد حتى الصلاة يقولون: لا يعرف يصلي، فحاكموه إلى عمر رضي الله عنه.
قال سعد: [[عجباً لبني أسد، قاتلتهم على الإسلام بيدي هذه، وأدخلتهم بسيفي في الدين، ثم ينقمون علي الصلاة، والله إني كنت أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين]] قال عمر رضي الله عنه: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق، ثم أرسل عمر رضي الله عنه، ليستجلي الأمر؛ لأنه رضي الله عنه كان فيه من الدهاء والذكاء الشيء العجيب، والعلوم بالله عز وجل، لكن لا بد من الفطنة.
فأرسل محمد بن مسلمة وقوماً معه من الأنصار، فلما وصلوا الكوفة مروا بالمساجد جميعاً ومعهم سعد شبه المعزر يماشيهم ويقول محمد بن مسلمة: هذا أميركم أتنقمون عليه شيئاً، فيثنون عليه، وعلى صدقه وأمانته، وزهده وعبادته، فمروا بمسجد بني عبس - ناحية من نواحي الكوفة - فقال شيخ كبير: أما إذا سألتمونا فوالله ما كان يمشي مع السرية، ولا يعدل في الرعية، ولا يقسم بالسوية، ولا يحكم في القضية، أو كمال قال، سجع كلامه.
فقال سعد: [[اللهم إن كان عبدك هذا قام رياءً وسمعة فأطل عمره، وكثر ماله وولده، وعرضه للفتن]] فكبر هذا الشيخ على كبر سنه وتعرض للفتن، وأكثر الله ماله وولده وشغله، حتى كان يتعرض للجواري -للبنات- في سكك الكوفة ويغمزهن، ويقول: شيخ مفتون، أصابتني دعوة سعد.
وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء: أن سعداً رضي الله عنه كان يخطب في الكوفة، فنزل من على المنبر بعد أن صلى بالناس وخرج، فإذا الناس مجتمعون ويسمع ضجة وصجة، فقال: ما هذا؟
قالوا: هذا رجل يسب علي بن أبي طالب، فتقدم إليه سعد، وقال: لا تسب أخي -يقصد أخاه علي رضي الله عنه- فقال الرجل: والله لأسبنه، فقال سعد: اللهم اكفناه بما شئت-يعني هذا الرجل- قال: فندّ جمل من الكوفة، وأتى إلى المسجد، فتأخر الناس عنه، فقرب من هذا الرجل فلطمه الجمل بيده - لطم الرجل، وهذا سنده صحيح- فوقع الرجل ميتاً على الأرض، فأجاب الله دعوة سعد.
قيل لـ عامر الشعبي: ما قولك في أهل صفين؟ في قوم معاوية وعلي.
قال: أهل الجنة التقوا، فاستحيا بعضهم من بعض.
استحيا بعضهم أن يقر من بعض، هؤلاء من الجنة وسلفت أعمالهم.
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
إنما الشاهد أنه اعتزل الفتنة رضي الله عنه، وخرج بخيمة وبغنم يرعاها في الصحراء، فقال له ابنه: أتترك الخلافة والناس يتقاتلون على الملك وترعى شويهاتك؟
قال: اغرب عني لا أم لك، والله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله يحب العبد الخفي النقي التقي}.
ولما أتته الوفاة كانت ابنته عائشة عند رأسه، فبكت، قال لها: [[ابكي، أو لا تبكي والله إني من أهل الجنة]].
قال الذهبي: صدق والله، هنيئاً له ومريئاً، فقد أخبره صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة.(281/25)
الأسئلة(281/26)
الإرجاء عند الأحناف
السؤال
لقد ذكرت أن من المرجئة الأحناف، فمن من الأحناف من المرجئة؟
الجواب
أما أبو حنيفة رضي الله عنه، يقولون: نسبة القول له خطأ، وكتاب" الفقه الأكبر " ليس له، وإنما ألفه بعض طلاب طلابه في القرن الثالث، مصرحاً: بأن الأعمال تدخل في الإيمان، أما بعضهم، فصرح بهذا ووجد عنه وذكر ذلك اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، وابن حجر دائماً يتعرض له، كما مر معنا في أكثر من ستة مواطن، وهذا معروف أنه قولهم مما أعرف بالذات من الذي قاله بأعيانهم، لكن هذا قول للأحناف.(281/27)
الجمع بين حديث: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) وبيان ذم الكثرة
السؤال
قلت: إن الكثرة دائماً معها الضلالة والخطأ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تجتمع أمتي على ضلالة} فما هي درجة هذا الحديث؟ وكيف يوفق بين هذا الحديث وما قلت؟
الجواب
أنا ما قلت دائماً أن الكثرة معها الخطأ، بل قلت في الغالب وفي الجملة، وفي الاستقراء من الكتاب والسنة أن الكثرة دائماً مذمومة، {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة:100].
ولكن لا بد من احترازات؛ فإن الكثرة قد تصيب، وأنا ما قلت ذلك على إطلاقه، أما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تجتمع أمتي على ضلالة} فهذا الدليل على الإجماع، فلا تجتمع على ضلالة، إذا اجتمعت الأمة علماؤها واجتمع جمهورها على أمر، فيعلم أنه حق، مع العلم أن هذا الحديث ليس بصحيح وفيه ضعف، ولو أنه صحيح لأخذه الشافعي به من أول الطريق وارتاح؛ لأنه جلس يقرأ القرآن عشرات المرات حتى أخرج دليل الإجماع الذي يقول فيه ابن حزم الظاهري والشوكاني: ليس بدليل للشافعي رحمه الله؛ لأنه يقول: قرأت القرآن أبحث عن الإجماع حتى وجدت قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115].
مع العلم أنه ليس كما تعرفون، وليس بقاطع في الإجماع؛ لأنه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء:115] والذي يخالف في رأي ما شاق الرسول صلى الله عليه وسلم بل فهم أمراً: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115].
فقالوا: إن التهديد والتنديد والتوعيد بنار جهنم إنما هو على أمور كفرية اعتقادية تخرج صاحبها، مع العلم أني لا أناقش أدلة الإجماع في هذا المكان إنما أقول: إن هذا الحديث ضعيف.
وأما استدلال الجمهور بالإجماع، فهذا له بحث آخر، والإجماع حجة عند أهل العلم، إلا من أنكره بأدلة، لكن يقول بعض أهل العلم: لم تثبت مسألة واحدة أنه أجمع عليها الناس حتى نقلت إلينا, حتى إجماعات ابن المنذر يقول الإمام أحمد: هي كمهب الريح، يقول: أجمع الناس على أن الظهر أربع.
معروف، وأجمعوا على أن المغرب ثلاث، وأجمعوا على أن الفجر ركعتان، فهذه تعرف من النصوص الصريحة الصحيحة، لكن الإجماع حجة لا شك، والأمة إذا أجمعت وإذا تألفت كلمتها، فإجماعها حجة، ولا يرد الإجماع إلا من لا يرى حجية الإجماع، "وفسر الماء بعد الجهد بالماء".(281/28)
الحياء الممدوح
السؤال
ذكرت أن الحياء قسمان: ممدوح ومذموم، فكيف نجمع بين هذا، وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {الحياء خير كله}؟
الجواب
قوله: {الحياء خير كله} يريد به الحياء الممدوح فهو خير كله, والمذموم شر كله، فجمع بين الحديث وهذا، أما المذموم فيقول مجاهد -كما يمر معنا- في باب طلب العلم: "لا يتعلم العلم مستحي، ولا مستكبر".
فهذا الحياء المذموم الذي يرد عن تعلم العلم، وطلبه، وعن الجلوس في حلق الذكر، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن الدعوة، وعن أمور الخير، فهذا حياء مذموم، وأما الحياء الممدوح فهو: ما حمل على الجميل، ورد عن القبيح.
في ختام هذا الدرس نتوجه إلى الله العلي القدير أن يجعل العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل، وأن يرزقنا الاستقامة في الأقوال والأعمال، وأن يثبتنا حتى نلقاه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(281/29)
حلية طالب العلم
العلم فضيلة، وصاحبه مفضل على غيره بالنص، والعلوم لا خير فيها إلا ما ذكر بعمل الآخرة، ولطلب العلم وسائل، ولتحصيله ضوابط، ولطالبه آداب وقيود، ولأخذ العلم من الكتب والشيوخ نظام وترتيب، وفي كل ذلك مهم وأهم، وفي هذا الدرس تطواف حول ما ذكر بأسلوب يسير مفهوم.(282/1)
الرسول الأمي
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ، يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، والصلاة والسلام على معلم البشرية، وهادي الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية، صلى الله عليه وسلم، فأظهر الله علمه على كل علم، وأظهر رسالته على كل رسالة، ونصر مبدأه على كل مبدأ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بَعْد: إخوتي الفضلاء الأجلة طلبة العلم.
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وإنها لفرصة سانحة أن يجلس الأخ مع إخوانه، والزميل مع زملائه، فأنتم شارة المجتمع، وأنتم واجهة الناس، وأنتم الخاصة إذا اتقيتم الله في علمكم، والمحاضرة ستكون عن حلية طالب العلم: ما هو لباسه؟ وما هو معتقده؟
وما هي وظيفته؟
وما هو دوره في الحياة؟
وما هو برنامجه اليومي؟
وما هو تحصيله؟
وكيف يحفظ؟
وكيف يفهم؟
وكيف يحقق المسألة، وكيف يدعو الناس، وكيف يعاملهم؟
وكيف يسير مع الناس؟
كل هذه المسائل وغيرها تكون مطرح البحث إن شاء الله.
وإني أحبكم في الله تبارك وتعالى، وإنه لا يجمعنا بكم سبب من الدنيا، ولا نسب بين الناس، ولكن سبب الدين ونسب العلم.
إن كيد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يفترق ماء الغمام فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يختلف نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] لمن الخطاب؟
إنه للمصطفى صلى الله عليه وسلم، لصاحب الرسالة الغراء، والأمي الذي ما قرأ ولا كتب، ولا تعلم في مدرسة ولا دخل جامعة، ولا جلس في كتاتيب، وليس له أستاذ ولا شيخ، ما انتسب ولا انتظم في جامعة من جامعات الدنيا، لكن هكذا بلغ الأربعين سنة، فقال له الله عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48].
أي: أنت لم تكتب ولم تقرأ، ولم تحفظ شيئاً، بل جئت من الصحراء من بين جبال مكة السود؛ لتبعث الإنسان، وترفع رأسه.
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] أين يقرأ؟
أين الصحف والمجلدات؟
أين الجرائد والمجلات؟
أين المصنفات؟
أين السبورة؟
أين الأستاذ والمعلم والدفتر؟
لا شيء.
قال أهل العلم: كأنه يقول: اقرأ في كتاب الفضاء، اقرأ في سور ما قرأتها في كتاب، اقرأ في الشمس من خلقها؟
أليست آية؟
اقرأ في القمر؟ أليس فيه آية؟
اقرأ في النجوم اللامعة كيف تبدد الظلام! أليست آية، اقرأ في خرير الماء يوم يتسلل بين الحصى، اقرأ في هفيف النسيم بين الشجر أليست آية؟
اقرأ في السفح والغدير، والماء المرير، والجدول والرابية، اقرأ مع الطير، إنها آيات الله في الكون.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فخرج عليه الصلاة والسلام من غار حراء داعياً إلى الله ما عرف معلماً إلا جبريل، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:1 - 9].
الله أكبر! ياللدنيا يوم سمعت الله أكبر، يا للبشرية يوم أنصتت إلى كلمة (الله أكبر).
إنها والله أمور ومعجزات تحطم القلوب التي لا تعي، وتدوس الرءوس التي لا تؤمن بالله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1].
وانطلق عليه الصلاة والسلام فتكلم فكان أفصح فصيح، وأفتى فكان أكبر مفتٍ، وقاد الجيش فكان أعظم قائد، وساس الأمة فكان أعظم سائس، وربى الأجيال فكان أعظم مربٍ، يقول شاعر وادي النيل للمستشرقين يوم طلبوا معجزة له صلى الله عليه وسلم:
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه
أما يكفي الناس معجزة له صلى الله عليه وسلم أنه أحيا القلوب بالعلم، نزل عليه الصلاة والسلام إلى بطحاء مكة فحفظَّه الله القرآن وعلَّمه السنن، ثم قال الله له في أول الطريق: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فقبل أن تتكلم أو تُعلِّم تَعلَّم، وقبل أن تدعو تَعلَّم، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19].
وهذه رسالتكم يا طلبة العلم، ويا حملة خلاصة الرسالات، والواجهة الوضيئة في المجتمع، يا بسمة في جبين التاريخ؛ هذه رسالتكم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
وأنا سوف أتعرض في هذه الجلسة لنقاط مهمة، تمر معنا في الفصل، وفي البيت، وفي الطريق، مع الناس كافة، ومع النفس والأهل خاصة:
أولها: نبذة عن فضل العلم.
ثانيها: الإخلاص في طلبه.
ثالثها: التقوى.
رابعها: العمل بالعلم.
خامسها: التوبة والاستغفار.
سادسها: الحفظ وكيف يكون
سابعها: الفهم.
ثامنها: كيف يبدأ طالب العلم.
تاسعها: كيف يُكوّن مكتبته.
عاشرها: لباس طالب العلم.
حادي عشرها: معتقد طالب العلم.
ثاني عشرها: السنن على طالب العلم.
ثالث عشرها: نوافل طالب العلم.
رابع عشرها: الإنفاق من العلم، والزكاة من العلم.
خامس عشرها: التسرع في الفتيا؛ داؤها وعلاجها.
سادس عشرها: التصدر قبل حينه.
سابع عشرها: خلق طالب العلم: التواضع، الشجاعة، علو الهمة.
ثامن عشرها: علم الواقع والثقافة المعاصرة.
هذه سوف تكون على بساط البحث ونحن نقبل أي حوار في آخر هذه الجلسة، من عقلياتكم المشرقة، ومن فهمكم السديد لنتعاون على الخير والبر والتقوى.(282/2)
فضل العلم
أما فضل العلم: فهو أكبر من أن يذكر فضله، وأشرف من أن ينوه بشرفه، وأعلى من أن يذكر علوه، أتقول للقمر إنه بهي وهو قمر.
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قلن: تعرفن الفتى؟ قلن: نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر؟(282/3)
ادعاء العلم من ليس من أهله
قال علي رضي الله عنه، كما في جامع بيان العلم وفضله لـ ابن عبد البر: كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وأن يتخلى عن الجهل من هو فيه.
والمعنى: يكفي بطلبة العلم شرفاً أن العلم يدعيه بعض الناس وهو جاهل، فإن الجاهل الذي لا يحسن الوضوء ولا الغسل من الجنابة، ولا يحسن قراءة الفاتحة إذا قلت له: ما شاء الله على علمك ونور بصيرتك وفقهك ترنح في مجلسه، وارتاح لهذه الكلمة وهو جاهل، وإذا قلت له -وهو جاهل أبكم أصم أعمى لا يعرف شيئاً- إذا قلت: يا جاهل! غضب، وربما قال: أنت الجاهل وأبوك وجدك؛ فهذا معنى كلام علي رضي الله عنه.
قال ابن عبد البر: أحسن كلمة توارثها الناس بعد كلام النبوة، قول علي رضي الله عنه وأرضاه: [[قيمة كل امرئ ما يحسنه]] هذه درة، فقيمتك في الحياة الذي تحسنه، وميزانك في الحياة الذي تجيده، يقول أبو إسحاق الألبيري يوصي ابنه بطلب العلم في قصيدة رنانة تفضي إلى القلوب مباشرة بلا وسيلة:
أبا بكر دعوتك لو أجبتا إلى ما فيه حظك لو عقلتا
إلى علم تكون به إماماً مطاعاً إن نهيت وإن أمرتا
ويجلو ما بعينك من عماها ويهديك السبيل إذا ضللتا
هو العضب المهند ليس ينبو تصيب به مضارب من أردتا
وكنز لا تخاف عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث كنتا
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا
فبادره وخذ بالجد فيه فإن أعطاكه الله انتفعتا
وإن أوتيت فيه طويل باع وقال الناس إنك قد رأستا
فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخ علمت فهل عملتا
إذا ألقاك فهمك في مغاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
أي: إذا ألقاك علمك في المعصية والبدعة والشرك والتفلت على أوامر الله، والاعتداء على حدوده، فليتك ثم ليتك ما فهمت، وإذا تخلفت عن صلاة الجماعة وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتدبر، والتوجه إلى الله، فليتك ثم ليتك ما فهمت.
وإذا عطلت لا إله إلا الله في قلبك وفي بيتك وفي مجتمعك، وفي أسرتك، فليتك ثم ليتك ما فهمت.(282/4)
يرفع الله أهل العلم درجات
{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] هل يستوون؟
عالم يتدبر الآيات ويعيش في ظلال الأحاديث، ويعيش في رياض الفقه والتفسير، أيستوي هو ورجل أغلف ما همه إلا الطعام والشراب والرقص واللهو واللعب؟ يعيش على العود وينام على العود، نغمة الموسيقى تقيمه وتجلسه وتحييه وتميته، هل يستوي هو ومن أنار الله بصيرته بالعلم؟ قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] وذكر الدرجات هنا، لأنها عظيمة لا يعلم عددها ولا عظمها ولا فخامتها إلا الحي القيوم.
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [المجادلة:11] فيه تنبيه على أهمية الإيمان، فعلم بلا إيمان ليس بعلم، وتوجه بلا إيمان ليس بتوجه، وثقافة بلا إيمان وبلا حب ليست بثقافة، ومعرفة بلا إيمان ليست بمعرفة، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [المجادلة:11] أيها المسلمون {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] والعلم لا ينفع إلا بإيمان، إن الخواجة يستطيع أن يصنع الطائرة والبارجة والثلاجة، لكن كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
وقال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] إذا تزود الناس بالدراهم والدنانير والسيارات والفلل والثياب والغتر؛ فتزود أنت بالعلم النافع: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] لا تتزود من الحطام، وتزود من العلم كل يوم آية، وحديثاً، ومسألة، فإنها تُكوِّن عقلك وقلبك وفكرك، وتكون بها من السعداء يوم القيامة.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80].
خرج قارون في حلة تعجبه نفسه، فخرج وعليه كبرياء وخيلاء وبطر، فقال أهل الدنيا السخفاء الحقراء، أهل الغناء والمجون: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] ووقف طلبة العلم من أمثالكم أيها الطلاب، فقالوا: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80].(282/5)
العلم يفتح البصيرة ويفتق الذهن
إن هذه الدنيا تزول ولا يعرف زوالها إلا بالعلم، إن المعصية معصية، ولا تعرف أنها معصية إلا بالعلم، وإن الخمر خمر، ولا يعرف أنه حرام إلا بالعلم، وإن الجهل جهل، ولا يعرف أنه جهل إلا بالعلم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49].
آيات راسخات، ومعان جليلة، وأهداف نبيلة، ومبادئ أصيلة في هذا الدين ولكن في صدور من؟ أفي صدور أهل المجون، وأهل الوسوسة، وشيوخ القمار، والمخططون على النجوم، وأهل السقع والرقع؟ كلا، إنما هي في صدور طلبة العلم.
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] من الذي يفهم الآيات، من الذي يفهم المنشورات، ومن الذي يفهم المبادئ، ويفهم العقليات، ومن الذي يرجح المصالح على المفاسد إلا طلبة العلم.
وقد صح عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر} فليس ميراثه عليه الصلاة والسلام مناصب ولا وظائف، ولا ثياباً ولا دوراً، ولا عقاراًَ ولا قصوراً، لا والله! فقد كان بيته من طين، وفراشه من حصير، وقعبه من خشب، وشملتة مقطعة، ولكنه بنى آلاف القلوب والأرواح.
كفاك عن كل قصر شاهقٍ عمد بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيم
فميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العلم.
تعال يا من حاله في وبال ونفسه محبوسة في عقال
يا نائماً لم يستفق عندما أذن في صبح الليالي بلال
روض النبي المصطفى وارفٌ أزهاره فاحت بريا الجمال
ميراثه فينا جميل الحلا وأنتم أصحابه يا رجال
من يرث محمداً عليه الصلاة والسلام إلا أنتم، من يحفظ كلماته الناصعة إلا أنتم، من يحفظ تركته وميراثه إلا أنتم، ومن يؤدي رسالته إلى العالم إلا أنتم.
ففضل العلم أجل من أن يحاط به، يقول ابن كثير في تفسيره ناقلاً عن الطبراني حديثاً يجوده: {إن الله عز وجل إذا حاسب الناس جعل العلماء في ناحية من الموقف، ثم يلتفت إليهم فيقول: إني ما منحتكم العلم إلا لكرامتكم علي، أنتم تشفعون في الناس}.
وفي بعض الآثار التي لا تصح مرفوعة: {توزن دماء الشهداء بمداد العلماء} فالعلم أفضل ما أجمع عليه العقلاء قاطبة، اليهود والنصارى والمجوس والصابئة، والمسلمون والهندوس، فالجميع أجمعوا على أن العلم أفضل مطلوب؛ لكنهم اختلفوا في ماهية العلم وأهمه!(282/6)
صفات ضرورية في طالب العلم
.(282/7)
الإخلاص
اعلموا -أيها الإخوة الأجلاء- أن هذا العلم الشرعي لا يحصل، ولا يبارك فيه، ولا يؤتي ثمرته، ولا يحفظ في الأذهان إلا بإخلاص، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] وقال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى} قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] وقال أيضاً: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20].
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أن أول من تسعر بهم النار، قارئ يقال له: {تعلمت العلم وقرأت القرآن فماذا فعلت فيه؟ قال: علمت الجاهل وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فيقول الله -وهو أعلم بالسرائر- كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، إنما تعلمت ليقال عالم، خذوه إلى النار، فيؤخذ فيدهده ويجر حتى يقذف على وجهه في النار}.
وفي حديث حسن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من تعلم العلم ليجاري به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسافة أربعين سنة} وفي حديث عنه صلى الله عليه وسلم: {من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا فالنار النار} وفي لفظ: {فليتبوأ مقعده من النار} وكان معاذ وابن عمر يبكيان من هذا الحديث بكاء عظيماً؛ لأنه حديث مرهب ومخوف؛ لكن لمن عاش خوفه وإرعابه ورهبته.
فالإخلاص: أن تطلب العلم لوجه الله، ولرفع الجهل عنك، فإنك إذا فعلت ذلك أعطاك الله خيراً من الدنيا وما فيها، والذي يطلب العلم للدنيا، ينال حظاً سهلاً ووظيفة، أو منصباً أو جاهاً، ولكن والله ما عند الله عز وجل من النعيم وقرة العين والكرامة، والإغداق والسرور، والحبور والدور والقصور في جنة عرضها السماوات والأرض لا يعادله أي نعيم، لكن لطلبة العلم العاملين، وهذا أمر لا بد أن يرسخ في الأذهان.
ومن مقاصد طلب العلم بالإضافة إلى أن ترفع به الجهل عن نفسك، أن ترفع به الجهل عن أبناء أمتك، ثم تصبر على الأذى فيه، وتعمل به في حياتك ومع الناس.(282/8)
التقوى
قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] فإن اتقيت الله علمك الله، وفي أثر في سنده نظر، ومن أهل العلم من حسنه: {من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم} فأنت إذا عملت بما علمت من الحديث اليسير أو القرآن زادك الله علماً.
وجرب نفسك في أحاديث الأذكار، أو الأحاديث العملية، تجد أنك إذا حفظت حديثاً واحداً من أحاديث الذكر ثم ذهبت لتعمل به، وتطبقه، يمنحك الله فهماً وزيادة في الإشراق، وفي النبوغ والذكاء والفطنة والإدراك.
فيا إخوتي في الله! لا ينقصنا علم، وأنا أجزم جزماً أن أصغر جالس في هذه الحلقة يستطيع أن يعلم أمة من الأمم، وأن يكون من أكبر الدعاة في الدنيا، إذا اتقى الله وعمل بعلمه، فنحن لا ينقصنا كثرة علم، نحن ينقصنا العمل والتقوى والإنابة والإخلاص.
والتقوى تشمل العمل والخشية، خشية القلوب وعمل الأركان والجوارح.
قال أحد المحدثين: ذهبت إلى بغداد لأطلب الحديث، فمات الراوي الذي أريد أن أطلب الحديث منه، فلقيني يحيى بن سعيد القطان وقال: يا فلان! إن فاتك هذا الشيخ فلا تفوتك تقوى الله.
أي: إن فاتك شيء من العلم، أو التحصيل، أو الذكاء، أو الفطنة فلا تفوتك تقوى الله.
وترجم الذهبي لـ ابن الراوندي وهو فيلسوف زنديق ملحد، كلب معثر، أكل عجين المسلمين، ألف كتاب " الدامغ على القرآن " يدمغ به القرآن، وكان من أذكياء العالم، قال الذهبي: لعن الله الذكاء بلا إيمان، وحيا الله البلادة بالإيمان، رجل بليد مؤمن خير من ذكي فاجر، فماذا ينفع الذكاء إذا دهده الإنسان وساقه على وجهه إلى النار، يؤتى به يوم القيامة، ويشنق ويعلق في نار تلظى؛ لأنه استخدم ذكاءه وفطنته في محاربة الإسلام والدين.
فنحن لا نشكو من قلة الذكاء إنما نشكو من قلة العمل، وأبو العلاء المعري أحمد بن سليمان هذا الشاعر الفاجر اعترض على الشريعة، وكان ذكياً بارق الذكاء، نقل عنه ابن كثير وفي صحتها نظر، أنه نام على سرير فوضع تحت سريره درهماً من فضة، فقال: نزلت السماء بمقدار درهم أو ارتفعت الأرض بمقدار درهم، فهو أعمى، أعمى القلب وأعمى البصر لكنه ذكي وليس بزكي، قال: فاكتشفوا الدرهم تحت سريره كما نقل ابن كثير والعهدة على البداية والنهاية.
إنما انظر إلى الفجور، ذكي لكن ماعنده تقوى لله عز وجل، حافظة معلومات، شاعر مصقاع، أبياته كأنها أسياخ أو سلوس من ذهب، لكن ما وفقت بترتيب وإيمان، يقول في منظومة له جميلة ظريفة طريفة، ينقل منها ابن القيم:
يا راقد الليل أيقظ راقد السحر لعل في القوم أعواناً على السمر
يود أن ظلام الليل دام له وزيد فيه سواد السمع والبصر
وهذه من أحسن ما يقال، لكن ليته توقف على هذا، ليته أبدع في مجال الشعر، لكن انظر إلى الشعر في الساحة يوم ترك الإيمان، كيف ركب مركب الحداثة في الزندقة والإلحاد ومحاربة الإسلام، يقول: كم دية اليد قال: أهل العلم كذا، قال: في كم تقطع في الشريعة؟ قالوا: إذا سرقت ربع دينار، قال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستعيذ بمولانا من النار
يقدح في الشريعة، وأصول الإسلام، ويحارب الدين، يقول: لماذا هذه اليد إذا قطعت في غير الحدود وديت بخمس مئين ذهب، ولكن إذا سرقت ربع دينار قطعت، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
وانطلق له القاضي عبد الوهاب المالكي الشاعر السني الكبير وقال:
قل للمعري عار أيما عار جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عاري
عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمه الباري
لا تقدحن بنود الشرع عن شبهٍ شرائع الدين لم تقدح بأشعارِ
يقول: أنت عار، أنت مسلوخ لا في وجهك حياء ولا دين، أنت فاجر القلب، تعترض على شريعة الله، النار لك، والعار لك والدمار، وهذا نموذج للفجور إذا دخل في العلم.
ومنهم ابن سيناء كان من أذكى الناس، لكن لم يكن زكياً، أخذ عقيدته عن الصابئة أذناب المجوس، عميل ذكي، لكن ما استقبل القرآن والسنة، بل رفضهما وأخذ مبادئه وأسسه وأخلاقه من المجوس والصابئة الفراخ العملاء، فيقول ابن تيمية: إن كان صح عنه ما يقول في بعض الكلمات، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
لكن العلم إذا رشد، وكذلك الذكاء يكون كما قال تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:25].
فهذا ابن تيمية من أذكياء العالم، عبقري عملاق، يقرأ المجلد مرة واحدة، فينتقش في ذهنه، ينظم القصيدة الواحدة من صلاة الظهر إلى صلاة العصر مائتان وثمانون بيتاً يرج بها رجاً، كتب التدمرية من صلاة الظهر إلى صلاة العصر، يضع رِجلاً على رِجل، ويكتب التدمرية يرد بها على الفلاسفة، ونحن نقرؤها في سنة كاملة في كلية أصول الدين ولا نفهمها ونرسب فيها لأنها التدمرية {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25].
ابن تيمية ما وجد أستاذاً يعلمه الفلسفة، فأخذ كتب الفلسفة فقرأها بنفسه ورد على الفلاسفة، كتاب سيبويه الحديد، جمله ما تفكك كأنها السلاسل، قرأ الكتاب بنفسه يوم اتقى الله، فوجد ثمانين خطأ، فرد على سيبويه مؤلف الكتاب، يقول: إذا أعجمت علي المسألة استغفرت الله ألف مرة فيفتحها الله عليّ.
ومن الذي يفتح إلا الله، كانت يد ابن تيمية -يقولون دائماً- كأنها يد مسكين، يقولون: يمرون به في بعض الأسياب، فإذا هو وحده في السيب يبكي ويمد يده كأنها يد شحات، والشحاتة حرام إلا عند باب الله، فهي واجب من الواجبات.
وابن تيمية يخرج إلى الصحراء، فتدمع عيناه لأنه يناجي الله ويقول:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا
>>
هذا البيت لـ مجنون ليلى، بيت طريف جميل، لكن استخدمه في غير محله، يقول مجنون ليلى في محبوبته:
وإني لأستغشي وما بي غشوة لعل خيالاً منك يلقى خياليا
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خالياً
عجيب! عقل كبير وقلب كبير، أيعيش الرجل المفكر الذكي الأريب لامرأة، أو لأغنية، أو لمجلة خليعة؟! لكن ابن تيمية عاش للمبادئ الخالدة الكبرى.
السلطان السلجوقي في دمشق يقول: يـ ابن تيمية أتريد ملكنا، قال: ما ملكك وملك آبائك أجدادك يساوي عندي فلساً واحداً، إنه يريد جنة وعرضها السموات والأرض، ولذلك رد هذا البيت وقلبه إلى حب الله فقال:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنكَ النفس بالسر خالياً
وفي الحديث: {ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} ونحسب ابن تيمية من هؤلاء والله حسيبه.
قال له رجل: كيف يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] كيف يأمر الله عباده في وقت المعركة بذكره؛ وهم مشغولون والرماح تشتعل والسيوف تتكسر، وجماجم الأبطال تقع على الأرض؟ فقال ابن تيمية: إن أهل الجاهلية من العرب تعودوا على أن يذكروا محبوباتهم وقت الأزمات أما سمعت عنترة يقول:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
فبدل هذا الهيام والعشق والوله والضياع، اذكروا الله.(282/9)
العمل بالعلم
العلم كالمال، ألف الخطيب البغدادي كتاب اقتضاء العلم العمل، وقال: العلم كنز ككنوز المال فإذا لم ينفق منه، فوالله لا ينفع صاحبه حفظ المعلومات في الذهن، بل يصبح سلة مهملات، لأنه حفظ المتون والمجاميع، وحفظ الأشعار والقصائد والمقطوعات، لكن لا عمل، فلا يصلي الفجر في جماعة، وتسمع أذنه للحرام، وقلبه موله، لا ذكر ولا قرآن، ولا تسبيح، ولا حب لله ولرسوله حباً صادقاً قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
إنما يصلي في الجماعات العلماء، وإنما يعتقد اعتقاد السلف ويقدر الرسول عليه الصلاة والسلام حق قدره ويتدبر القرآن العلماء، وإنما يحضر مجالس الخير والعلم وينصح، ويحب للمسلمين ما يحبونه لأنفسهم العلماء، أما الجهلة فلا يفعلون ذلك.
إن بني إسرائيل أخذوا المجلدات فحفظوها فما نفعتهم لأنهم حمير، والحمار لو وضع عليه فتح الباري، وتفسير ابن كثير، ورياض الصالحين فهو حمار، لأنه حمار هو وأبوه وجده وعمته وخالته كلهم حمير: قال تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5].
والكلب تدخله في غرفة مكيفة، فيمد لسانه ويلهث لأنه كلب، وتخرجه في الشمس فيمد لسانه ويلهث، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176].
تقول له: اقرأ سورة طه التي لو نزلت على الجبال لدكدكتها ولقطعت بها الأرض، ولو نزلت على الأموات، لاستفاقوا من قبورهم، فيقول: لا، القرآن له وقت! أعطني هذه المجلة، إنه يريد امرأة خليعة ماجنة سافرة داعرة، تفني الدين واليقين والعقل.
وتقول له: اسمع هذه المحاضرة في هذا الشريط الإسلامي، فيقول: لا.
الأغنية العصرية التي وردت اليوم.
تقول: خذ السواك الذي سنه صلى الله عليه وسلم وفيه من الحكم أكثر من ثلاثين حكمة ومصلحة، فيقول: السجارة، تقول: نسمر الليلة في مدارسة صحيح البخاري وصحيح مسلم، فيسمر على اللهو والمجون، لأنها عقول ما رقت إلى الفهم الذي يريده صلى الله عليه وسلم للإنسان.
في مناسبة ذكرت كلمة لـ محمد إقبال شاعر الباكستان -كما يقول الندوي في روائع إقبال - يقول: يا رسول الله! أنا هندي تعاطفت مع رسالتك حباً فيك، دخل حبك كل قلبي، ودخل تراب مدينتك أنفي، فخرج حب الغرب والحضارة الغربية، وخرجت من نارهم كما خرج إبراهيم الخليل من نار النمرود.
ثم يقول: خان العرب رسالتك فتعاطفت معك.
إن هذه المعاني لا بد أن تكون مؤصلة عند العبد وهو العمل بالعلم، فإذا لم نعمل بعلمنا فهو الخسارة والتباب، وهو والله الفناء والزلل نسأل الله العافية.(282/10)
التوبة والاستغفار
التوبة والاستغفار تدخل في العمل بالعلم، لكن فصلتها لأهميتها، العلم لا تزداد فيه بصيرة وإدراكاً وفهماً إلا مع كثرة التوبة والاستغفار، تجلس على الكرسي وأنت تستغفر، وفي الفصل تستغفر، وفي الطريق تستغفر، وفي السيارة، وفي الغرفة، ومع زملائك، لأن الله يفتح على المستغفر، قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:11 - 12] وقال تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [هود:3].
المتاع الحسن في العقل، ترى الآية والحديث يعرضان على السبورة، فتجد هذا الطالب يفهم منها ما لا يفهم هذا، وهذا أعقل منه وأذكى، لأن ذاك تقي وهذا فيه فجور ومعصية، ومفاتيح القلوب بيد الواحد الأحد.
من الذي يفتح إلا الله، ومن الذي يهدي إلا الله، العقول تحت تصرف الله، فلا يفتح على الإنسان إلا الله عز وجل، والله يوم ذكر الفتيا في القرآن أمر رسوله أن يستغفر: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:106] هذه التوبة والاستغفار أرشد بها نفسي وإياكم قبل قراءة كتاب، أو مطالعة في مادة أو امتحان، أو مراجعة درس، أو حفظ مقطوعة، أو آية أو حديث، فأكثر من الاستغفار، ومد يديك إلى الواحد الأحد.
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
فسبحان من يرضى من كثرة سؤال العباد! وكلما أكثرت من سؤاله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كلما رضي عنك ورحمك وتولاك.(282/11)
الحفظ والفهم
كيف نحفظ المعلومات؟ وكيف نحفظ المتون؟ وكيف نحفظ القرآن؟(282/12)
أقسام الحفظ
أولاً: هنا مبدأ لا بد أن نذكره لكم، وهو أن الحفظ على قسمين:-
الأول: حفظ فطري جبلي.
الثاني: حفظ سببى كسبي.
فبعض الناس جبله الله من صغره على الحفظ، فعقله من أذكى العقول، كالسيف، لا يسمع آية ولا حديثاً ولا مقطوعة ولا كلمة إلا يحفظها.
ورجل آخر لا يحفظ شيئاً، تحفظه اسمه في النهار، فينسى في العصر.
قيل لرجل من الحمقى: ما اسمك؟ هذا الرجل عصري، أدرك الكمبيوتر، قال: أنا عقلي كمبيوتر، أحفظ اسمي واسم أبي وجدي وأخوالي في الكمبيوتر، فأي عقول هذه؟! لكن لا يلام العبد على ذلك لأننا لا نلوم على المصائب ونلوم على المعايب.
وكما أسلفت أن التقوى والفضل عند الله لا يتوقف على الذكاء، فقد تجد بعض الناس بليداً غبياً ولكنه عند الله ذكي، وبعض الناس عبقري وذكي، لكنه عند الله عميل وعدو.
فإذا آتاك الله ذكاءً فطرياً فنمه، وإذا لم يؤتك حافظة، فحاول أن تفهم العلم، والفهم أحب من الحفظ و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
وأنت سوف تفضل في العلم، وسوف تكون عالماً إن شاء الله ولو لم تكن حافظاً، والإمام أحمد حفظ عنه أنه كان يقول: فهم العلم أحب إلينا من حفظه، ولكن في الصغر يستغل الحفظ، ووقت الصغر أحسن للحفظ وأجدى.(282/13)
ما يبدأ بحفظه
وأول ما يحفظ القرآن الكريم.
وعجباً لمن يبدأ بالمتون ولا يحفظ القرآن، تجده في الرحبية، وفي ألفية العراقي، وهو لا يحفظ القرآن، عمامة بلا ثوب لا تصلح، القرآن ثوبك وسترك، وحياتك وحليتك فابدأ بالقرآن، وإذا حفظت القرآن فبيض الله وجهك ويكفيك من متن، إنه الكتاب الذي استهلك حقائق الدنيا، وكنوز المعمورة، ووقائع التاريخ.
وإذا حفظت القرآن فكل شيء يجزئك مع القرآن، لكن الذي لا يحفظ القرآن، فلا يجزئه شيء عن القرآن، وهذا أمر لا بد أن يفهم، فإذا فاتك سن الصغر، فاحفظ ما تيسر من القرآن، وحفظ المفصل لا بد منه لطالب العلم، وهو من (ق إلى الناس) وهي الآيات التي تصلي بها في الجمع والجماعات والأعياد والمناسبات، وتأخذ منها إشراقك ونورك، وإبداعك وبلاغتك ودعوتك، وهي التي تربي بها نفسك ومجتمعك، فهذا المفصل الأربعة الأجزاء لا بد أن تكون في صدرك، إن فيه جمالاً يخلب العقول، ويبهر الألباب، ألا تريد أن تعيش يوماً من الأيام مع ق، والنجم إذا هوى؟ مع الرحمن والطور؟ ما أجملها خاصة في صلاة الفجر! إنها تسري إلى القلوب المؤمنة، وتؤثر في الأرواح تأثيراً بديعاً.
ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في سورة النجم في الظلال: كنت مع زملائي أسمر في القاهرة، قال: فمرة من المرات بعد صلاة العشاء ارتفع صوت الراديو، وإذا بصوت مقرئ من المقرئين ينبعث من عند جيراننا فأنصتنا نسمع، فإذا المقرئ يقرأ بصوت حسن: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] فأنصتنا قال: فأما أنا فسافر قلبي في رحلة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، لأن السورة تتكلم عن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: وتركت زملائي وهم جلوس -أو كلاماً يشبه هذا- قال: وحاولت أن أتملك نفسي؛ فأما الدموع فنزلت، وفي الأخير رفع المقرئ صوته حين بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم:39 - 41] يقول: والله الذي لا إله إلا هو لقد أصبح جسمي يهتز هزاً عضلياً، ونسيت نفسي.
فهذا القرآن لا بد أن يعتنى به خاصة بعد الفجر، فيفتتح يومك بقراءة القرآن، فجرك.
يقول الندوي في ترجمة محمد إقبال في روائع إقبال: ذهب إقبال إلى ملك أفغانستان قبل ما يقارب خمسين سنة، فقال محمد إقبال للملك الأفغاني: أريد أن أكلمك في وصية، قال: ماهي وصيتك؟ قال: هذا القرآن، أسألك أن يكون سميرك هذا القرآن، قال: فبكى محمد إقبال وبكى الملك الأفغاني، ثم قال الملك الأفغاني: يا محمد إقبال! والله الذي لا إله إلا هو لقد مرت عليّ سنوات ما يسمر معي إلا كتاب الله.
قال ابن كثير في ترجمة المتقي لله الخليفة العباسي كان إذا صلى العشاء -وكان خليفة على المسلمين، وعلى البلاد الإسلامية قاطبة- أخذ المصحف وقال للأمراء والوزراء: أستودعكم الله، اذهبوا فأنا سميري هذا المصحف، وقد كان الخلفاء جميعاً يسمرون مع الأمراء والوزراء والشعراء والأدباء، وأهل المجون، وأما هو فيأخذ المصحف بعد صلاة العشاء ويقول: هذا سميري وكفى بالقرآن سميراً.
قال الشاطبي في الموافقات: إن من يريد أن ينصح نفسه فليكن أنيسه وسميره القرآن، وفيه والله من العلوم التي إذا خلصنا قلوبنا من الذنوب والشوائب فتح الله علينا فتوحاً عظيمة.
فإذا فاتك الحفظ، فكرر المختصرات، خذ لك مختصرات في الفنون، مثل: بلوغ المرام في أحاديث الأحكام، أو رياض الصالحين وهو في الواقع كتاب الخطيب والمتكلم والداعية، وزاد المستقنع في الفقه، والبيقونية في مصطلح الحديث، والرحبية في الفرائض، فهذه تقرب لك المعاني؛ فإن لم تستطع حفظ هذه المتون فكررها كثيراً، واقرأ الكتاب عشرين مرة، ليكون في متناول يدك، إذا أردت أن تبحث عن قضية أو مسألة أو حديث.(282/14)
الفهم
الفهم: وهو نظرية التأمل والإصغاء، ولا بد منه، بل لا خير في قراءة بلا فهم، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] وقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].
هل تدبرنا لماذا نزل القرآن، وما يريد منا، وماذا نعمل معه؟
أيها الأبرار، وأيها الأخيار، يا طلبة العلم! لا بد أن تكون نظرية التأمل والتدبر حية في أذهاننا.
الحديث ينفعك بالتدبر، والفقه ينفعك بالتدبر، لقد رأينا وسمعنا وعشنا أن المذكرات التي يؤلفها البشر في الامتحانات نسهر عليها في الليل، ونضع تحت كل سطر خطين أو ثلاثة، ونستخرج منها الكنوز وليس فيها كنوز، ونقف مع الدرر وليس فيها درر، ونستخرج الجواهر وليس فيها جواهر، فإذا أتينا نقرأ القرآن يوم الجمعة نعسنا.
نقرأ آية من هنا وآية من هنا، وقلوبنا في الوادي.
إنه كلام رب البشر، إنه كلام من أنزل هذا القرآن على سيد البشر، كلام يحيي القلوب، ويحرك العواطف، وتجيش له الأرواح.
فقضية الفهم -أيها الإخوة- في القرآن وفي غيره لا بد منها.
تقرأ الحديث أولاً، ثم تستنبط منه، فإن استطعت أن تجالس زميلك وتقول: ماذا تستنبط من هذا الحديث؛ فعلت، وكذلك تناقشه ليثبت العلم.
إن دراسة العلم للامتحان تذهب في وقت الامتحان، يخرج الطالب من الفصل وقد ترك العلم في الفصل يقول الشافعي:
علمي معي حيثما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا بطن صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق
أي: أنا لا أغلق عليه في الصناديق بل أنا أحفظه وأفهمه وأتدبره، وقيل: إنها للفقيه منصور.(282/15)
كيف يبدأ الطالب
كيف يبدأ طالب العلم؟
الناس طبقات، ولكن يبدأ طالب العلم أولاً بدراسة العلم على الأساتذة والعلماء وطلبة العلم، والثانويات والمعاهد العلمية والمدارس والكليات تكفي لمن لم يجد غيرها، وفيها خير، فإذا وجدت المساجد فهي أحسن وأحسن، وإذا وجد الشيوخ في المساجد فهم أحسن وأحسن، ولكن إذا لم نجد المشايخ، فأين نبحث؟ أنترك طلب العلم؟ لا.
بل نقول: في هذه المدارس والمعاهد والثانويات والكليات البركة والنفع الكثير، وهي تعطيك المفاتيح فقط، لكنها لا تعطيك كل العلم، فأنت إذا درست تبدأ تكوّن نفسك في بيتك -وسوف يأتي معنا كيف يكون طالب العلم مكتبته- فتبدأ بنفسك فتحفظ القرآن كما أسلفت، وتطالع تفسيراً ولو مختصراً، وأحسن التفاسير ابن كثير فتمر به مرة، وتصبر حتى تنتهي منه، وتتصور معاني القرآن، أما قراءة شذر مذر من كل بحر قطرة، فيكون الإنسان مثقفاً ولكن لا يكون عالماً، ثم تبدأ بدراسة المختصرات وتكرارها؛ مثل بلوغ المرام، ورياض الصالحين، وزاد المستقنع، والبيقونية، وألفية العراقي في الحديث، والرحبية، وأمثالها، أو ماتيسر من أي متون أخر فتطالعها، فإن استطعت أن تحفظها فكمال، وإلا فكررها كثيراً، ثم تبدأ بالمطالعة الكبرى.
بعض الناس يقول: إن المطالعة في المجاميع كـ المغني وفتح الباري والمجموع، والمحلى، لا تنفع، لا.
بل لها نفع كبير لمن كان أهلاً، فإنها تفتق ذهنك، ويشرق عليها عقلك، وتستفيد منها ملكة ودربة في مناقشة العلماء، والأخذ والعطاء والمداولة وفحص المسألة، وتحريرها وتحقيقها، ولو لم تفهم لكنه سوف يعلق بذهنك الكثير الكثير، وسوف تتحدث بطلاقة، وسوف تكون عالماً.
يقول ابن الجوزي: لا يخلو كتاب من فائدة، فأنا أرشدك أن تقرأ كل ما وقع في يدك، وكن قارئاً ممحصاً.
وطالب العلم يعرف ما هو الفن الذي يجيده، فبعضهم يصلح أن يكون مفسراً لا محدثاً، أو محدثاً لا فقيهاً، قال تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60].
فأنت تعرف المادة التي تجيد فيها، فأشغل بها ليلك ونهارك، إن كنت محدثاً لتخريج الأحاديث، والرجال، ومخطوطات الحديث، ومراسلة طلبة العلم، والجلوس في دروس الحديث، ومسامرة العلماء، ومناقشته المشايخ، حينها تكون محدثاً.
فإن كنت فقيهاً فاجمع كتب ورسائل الفقه، والبحوث العصرية، والمجلات التي تعرضت للبحوث الفقهية، واحرص على المراسلة، والمكالمة مع العلماء في المسائل الفقهية حينها تكون فقيهاً.
وإن كنت مفسراً فاجمع كتب التفسير، وابحث عن دلالات الألفاظ، وعن لغات القرآن، ومقاصده، فإنك تكون مفسراً.(282/16)
تكوين المكتبة
كيف يكون طالب العلم مكتبته؟
طالب العلم الذي ليس في بيته مكتبة نقص عليه خير كثير، لأن سلاح طالب العلم المكتبة، وجماله المكتبة، ولا تسمع لقول أبيك وأمك إذا قالا: أخرج الكتب؛ فإنها أخذت علينا البيت، وضايقت علينا، أو ليس من ورائها طائل، أو أنها تلهيك عن الأعمال، وتلهيك عن المهام وعن مستقبلك في الحياة!
بل هي مستقبلك وكنزك وشرفك، فإن مكتبتك يجلس معك فيها العلماء، والفقهاء والمفسرون، والأدباء، فإذا أغلقت غرفتك على نفسك مع المكتبة، فقد جالست الإمام أحمد، ومالكاً، وسفيان الثوري، والشافعي، وأبا حنيفة، وابن تيمية، وابن القيم، ومعك الشعراء ومعك الأدباء بعد العلماء.
قيل لـ ابن المبارك: أين تذهب بعد صلاة العصر ولا تجلس معنا؟
قال: أجلس مع الصحابة، وأنتم تغتابون الناس.
قالوا: وأين الصحابة؟
قال: أجلس مع كتبهم أستفيد.
وليست المكتبة بكثرة الكتب، وفي بعض البيوت مجالسهم الكبرى فيها من كل الكتب، ولكن لا استفادة، يعرف العناوين وأسماء المؤلفين والمحققين ولكن إذا دخلت به داخل المجلد لا يعرف شيئاً.
تراه يعرف مؤلف الكتاب ومتى توفي، ومن حققه، وطبعة بولاق ودار الشروق، لكن داخل الكتاب لا يدخل إليه، والعبرة بالقراءة لا بكثرة الكتب، فإن بعض طلبة العلم، عنده عشرون أو ثلاثون كتاباً قد هضمها وشربها، وأكلها، وفهمها، وأخرج منها الكنوز، وسيرها للعالمين، فهو العالم حقاً.
والمكتبة الجيدة لا بد أن تنص على هذه القائمة من الكتب:(282/17)
أهم كتب التفسير والفقه
أهمها القرآن الكريم: فلا بد أن يكون معك حضراً وسفراً؛ في السيارة وفي البيت والفصل، وفي كل مكان، إذا بدأت تقرأ في أي كتاب، فابدأ بالقرآن ولو ثلاث أو أربع أو خمس آيات؛ فإنه البركة والنور والإشراق، إنه مفتاح العلم.
الثاني: تفسير ابن كثير: فلا بد أن يكون معك في المكتبة، وإن أردت أن تتوسع فـ تفسير ابن جرير الطبري لكن تفسير ابن كثير فيه الكفاية.
وتفسير القرطبي للأحكام والمسائل التي في القرآن من أحكام وفرعيات.
وفي ظلال القرآن -مع ملاحظة بعض المسائل فيه- ربط الواقع وعلم الثقافة العصرية بالقرآن.
الثالث: الفقه فلا بد أن يكون معك المغني والمغني مثل اسمه، فمن كان في بيته المغني فقد بلغ النصاب وعليه الزكاة إذا حال عليه الحول، ألفه ابن قدامة بدمه وروحه وعرقه وجهده وإخلاصه، فكان كتاباً بارعاً أخذ العقول، ومع المغني المحلى لـ ابن حزم ولا تسمع لمن أرجف ضد المحلى أو حارب المحلى أو عقد حلفاً ضد المحلى، يقول بعض أهل العلم في ترجمة ابن تيمية: وتحلى بـ المحلى وتولى منه ما تولى، فاجعل المحلى في بيتك واقرأ، وانتبه لأربعة أمور في المحلى:
أولها: العقيدة، اغسل يديك في الأسماء والصفات، ولا يعديك فإن فيه جرباً في هذه المسألة، حيث إنه يؤول في الأسماء والصفات، فانتبه إليه.
المسألة الثانية: لا تسمع لقوله في الغناء، فإنه يبيح الغناء.
واجزم بتحريم الغنا كجزمي ولا تطع قولاً لـ ابن حزم
فالأحاديث ترد عليه رداً بارعاً، وقد ضعف الصحيح، ولكنه لا يسمع الغناء، فإنه زاهد عابد تقي داعية، لكن لم يظهر له تحريم الغناء، وتحريم الغناء في صحيح البخاري وغيره.
المسألة الثالثة: أنه أنكر القياس، ومن أنكر القياس فقد ذهب عليه ما يقارب ثلث الشريعة.
المسألة الرابعة: الرجل يقع في العلماء غفر الله له، يمر بعالم فيقول: هذا عبد أضله الله على علم، ويأتي عالم يقول: ينجس من الدم مقدار الدرهم البغلي، فيستهزئ فيقول: من بغال الكوفة أو من بغال البصرة.
أما إبداعاته وإشراقاته، فأولاً: الرجل محدث يجرح ويعدل ويصحح ويضعف ويتكلم بجدارة وقوة.
لما حضرنا كشفنا عن جماجمنا ليعلموا أننا بكر فينصرفوا
قال البقية والهندي يحصدهم ولا بقية إلا السيف فانكسروا
والأمر الثاني: أن الرجل أوتي عقلية فياضة نظار أصولي، له كتاب في الأصول من أبدع ما يكون.
والأمر الثالث: الرجل عنده فقه واستنباط، ليس بالسهل فهو عملاق، يقول الشوكاني في البدر الطالع: ما بين ابن تيمية وابن حزم أقوى من الرجلين.
مرة يحلق بك تحليقاً بارعاً، ومرة يسقطك على التراب، حتى يقول ابن تيمية: والله إني أعجب لذكائه وفطنته، عجبي من شواذه وغرائبه، مرة يستنبط استنباطاً كأنه اللؤلؤ والجوهر والمرجان، ومرة يأتي فيركب عليك فحماً، فهذا المحلى.
والكتاب الثالث في الفقه: المجموع للنووي وليته كمله لكن وصل رحمه الله، إلى باب الربا فكمله الإمام السبكي وغيره من الشافعية.
الكتاب الرابع في الفقه: التمهيد لـ ابن عبد البر، قال: الذهبي في ترجمة ابن حزم في سير أعلام النبلاء أربعة كتب من جمعها، وأمعن النظر فيها وأتقنها فهو العالم حقاً، التمهيد لـ ابن عبد البر، والمحلى لـ ابن حزم، وسنن البيهقي، والمغني للحنابلة، هذا جانب الفقه.
ومن الكتب الفقهية الحديثية التي لا بد أن تكون في بيتك ومكتبتك سبل السلام، للصنعاني ونيل الأوطار للشوكاني وإذا ضممت السلسبيل للبليهي وهو تعليق على زاد المستقنع فقد أحسنت أيما إحسان.(282/18)
أهم كتب العقيدة والتاريخ والتراجم
أما في جانب العقيدة فعليكم بثلاثة كتب لا بد أن تكون في المكتبة: كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب وشروح هذا الكتاب، ومعارج القبول للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، وما يدور حوله، وشرح الطحاوية لـ ابن أبي العز.
ثم لا تنس كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، التي تكلموا فيها عن الأسماء والصفات، وعن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وفي القضاء والقدر، وفي مسائل المعتقد، هو وابن القيم، فاجمعها وهذا يكفيك في المعتقد.
أما في التاريخ: فعليك بـ البداية والنهاية لـ ابن كثير فهو كتاب فياض، وإذا حصل في يديك تاريخ الإسلام للذهبي فهو مؤرخ الإسلام وعلامة الإسلام فحسبك به، وكل الصيد في جوف الفرى.
أما في التراجم: فعليك بـ سير أعلام النبلاء، فإنه من أحسن الكتب، وتذكرة الحفاظ للذهبي، والكمال لـ عبد الغني المقدسي، وتهذيب التهذيب، وتقريب التهذيب.(282/19)
أهم كتب في الحديث وشروحه
أما الحديث -والواجب أن يقدم بعد القرآن- فعليك بكتب في الحديث، أولها: الكتب الستة فلا بد أن تكون في بيتك، ومسند الإمام أحمد فمدار رحى الإسلام على هذه الكتب، ويكفي من ذلك جامع الأصول لمن أراد أن يكون متوسط العلم في الحديث، وهو لـ ابن الأثير، فإنه جمع الكتب الستة، وجعل مكان سنن ابن ماجة موطأ مالك، وأضف إلى جامع الأصول مسند الإمام أحمد، وفتح الباري، ولا هجرة بعد الفتح، فلا يفوتك أبداً.
وشرح النووي على مسلم، وتحفة الأحوذي على الترمذي، هذه في جانب الحديث، ويضاف رياض الصالحين، وبلوغ المرام، الترغيب والترهيب، وزاد المعاد.
والخلاصة كل كتب ابن كثير وابن تيمية وابن القيم تكون في مكتبتك.
هذه مكتبتك، وهي لا تكلفك شططاً، وليست بالكثيرة، لكن كل خير ونفع وفائدة في هذه المكتبة، فإذا قرأتها وتدبرتها، وأمعنت النظر فيها، وراجعت المسائل فيها فأنت العالم، قرة عين لك.(282/20)
التركيب الشخصي لطالب العلم
.(282/21)
لباس طالب العلم
قد يقول أحدكم: هذه مسألة خفيفة، كيف تتحدث في اللباس وهو أمر ظاهري لا ينبغي أن يعتنى به؟
فأقول: إن أمر اللباس ليس بالسهل، فإن لطالب العلم لباساً خاصاً، لا: نقول إنه لباس خاص عن المسلمين؛ لكنه شارة في اللباس، واللباس ولو أن أمره سهل لكن له مدلولات، أولاً: اجتنب من اللباس ما يزريك من المحرم والإسبال في الثياب، ولبس الأحمر الذي فيه أنوثة وميوعة ودلال، ولبس الحرير؛ لأنه مُحرَّم، فهذه ونحوها تلحقك بالازدراء وعدم الاستقامة والالتزام، فهذا أمر لا بد أن تعرفه في اللباس، لكن تلبس اللباس الذي يتوسط فيه المسلمون، وحبذا اللباس الأبيض إلا للحاجة في صيف أو شتاء أو في غيره، فإنك تلبس ماتيسر، ويكون لباسك وسطاً مقتصداً لا يلحقك بالكبراء ولا بالمنجرين الشرهاء، بل وسطاً من الناس، وتكون معتنياً بهيئتك ولطافتك ونضرتك، وتسمى الأناقة، وبعض الناس أنيق ولو كانت ثيابه رخيصة، وبعضهم ولو كانت ثيابه كثيرة غالية لكنه مبعثر، يلبس الغالي لكنه يبعثر نفسه، فالأناقة والهندام من صفات طالب العلم.
يضاف إلى ذلك، الطيب، والسواك، والبسمة الرقيقة الشفافة التي تظهر بشجاعة وعلو همة، وثقة بالنفس، فهذه تضاف إلى اللباس الذي لا يزري بك.
ويراعى في الثوب النظافة والاقتصاد، وقد كان الإمام أحمد يلبس ثوباً بين ثوبين؛ لا غالٍ جداً ولا رخيص رخيص، وكذلك ابن تيمية قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143].
فهذا أمر لا بد أن يتنبه له، ولا يقال هذه أمور عادية، لا، إن هذه قوادح كبرى، إن من يأتي يخطب الناس ويتكلم في الناس فيرون ثوبه مسبلاً يخط في الأرض لا يقبلون منه، وكذلك من يلبس أحذية أتت بها الموضات الجديدة وما رخص فيها أهل العلم ولا توافق السنة، فإن في ذلك غضاضة، وإن من يلبس أحمر يلحقه بأهل التعنت والتخنث لا يقبل، وإن من يتشبه بأعداء الله الكفرة لا يقبل، فليتأكد طالب العلم من اللباس فإن أمره خطير.(282/22)
معتقد طالب العلم
ما هو معتقد طالب العلم؟
أيعيش طالب العلم على هامش الأحداث؟ أليس له مبدأ يعتقده؟ أليس له عقيدة مضبوطة محددة معلومة، مسيرة له، متشادة العناصر والأواصر تأخذ أهدابها بأهداب بعض، معلومة في قلبه وواقعه وذهنه، لا يحد عنها قيد أنملة؟ هذا هو الواقع، والذي ينبغي لطالب العلم أن يكون معتقده معتقد السلف الصالح.
فلا بد أن يكون طالب العلم سلفي المعتقد، في كل ما أتى به المصطفى صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة على مذهب السلف الصالح في الثلاثة القرون، فإنهم أعلم وأحكم وأسد وأسلم، لأن ابن تيمية ينقل أن بعض المناطقة والفلاسفة وأهل علم الكلام يقولون: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أحكم وأعلم.
فكذبهم رحمه الله وقال: بل طريقة السلف هي أسلم وأحكم وأعلم، وطريقة الخلف أظلم وأغشم، وليس فيها خير إذا خالفت طريقة السلف، وأنت مطلوب منك أن يكون اعتقادك اعتقاد القرون المفضلة، في الأسماء والصفات وفي غيرها، واعرف أن هذه البدع لا يقبلها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن أهلها مخالفون لـ أهل السنة وهم مختلفون، بعضهم صاحب بدع طفيفة، وبعضهم كثيرة، وبعضهم صغرى وبعضهم كبرى، فـ الأشاعرة ليسوا في الأسماء والصفات على مذهب السلف، ولا المعتزلة، ولا الجهمية ولا الرافضة، ولا المرجئة، ولا القدرية، ولا الخوارج، فكن سلفي المعتقد، تأخذ اعتقادك من معتقد السلف، وأحسن من كتب عن السلف ومعتقد السلف شيخ الإسلام ابن تيمية حيا الله ذاك الرجل، وحيا كتبه، هذا أمر لا بد أن ينبه عليه حتى يتأكد العبد.
وأما أن يقول: ليس بيننا وبين العباد خلاف، بل خلاف وأي خلاف، ولماذا أقيمت المناظرة والمحاجة، وقام الغضب من أجل لا إله إلا الله، ومن أجل الأسماء والصفات إلا لهذه الأمور، الخلاف موجود لكن يختلف الخلاف من خلاف إلى خلاف، حجمه وتأثيره ومداه، فلا بد أن نعرف أن هذا أخطأ في هذه المسألة فيبدع فيها بحدها وبحجمها.(282/23)
السنن والنوافل في حياة طالب العلم
طالب العلم حليته السنة وإذا تحلى بها رزقه الله قبولاً وإخلاصاً وقُبِلَ كلامه، والأصل فيه أن يجعل صورة الرسول على محياه، ولا يستصغر بعض السنن كاللحية, والأصل في طالب العلم أن يكون ذا لحية، ولا يقال أنتم لا تتكلمون إلا في اللحى وإسبال الثياب، فإنها من السنة، وهي جزئيات من حياتك، لتكون صورة كاملة، هذه حياتنا، وهذا مجدنا وهذا ديننا، وإسلامنا.
والكافر الذي يتبع قادته وزعماءه يقلدهم ويتشرف بذلك، وزعيمك وقائدك محمد عليه الصلاة والسلام قصر الثوب، وأرشد إلى خصال الفطرة: وهي قص الشارب، وتقليم الأظافر، وحلق العانة، ونتف الإبط، والغسل، والنظافة والنقاء.
ومن السنن: عند دخول البيت: باسم الله، والسلام على أهل البيت، والخروج مع السلام، والجلوس جلسة المصطفى عليه الصلاة والسلام، والأكل باسم الله، والقيام باسم الله، والنوم على السنة، والقيام على السنة، وقراءة كتب أعمال اليوم والليلة، والأذكار للنووي فإنها تعلمك السنة لتكون مطبقاً للسنة بارك الله فيك.
أما نوافل طالب العلم، فأعظم نافلة بعد الفرائض طلبك العلم، وحفظك وبحثك وتحقيقك، فهذه نوافل تؤجر عليها، أنت تسهر على علم الحديث، وعلم الفقه، والتفسير، أو أي علم تنفع به الإسلام، وأنت أعظم من ذاك الذي يسهر في النوافل، يصلي ويركع؛ لأن نفعك متعدٍ للمسلمين، وخيرك عام للأمة، وأنت تحيي الأجيال وتريد نهضة الشعوب وردها إلى معين محمد عليه الصلاة والسلام، ذاك يصلي لنفسه، ويجمع الحسنات لنفسه، وأنت مأجور أكثر منه إذا أخلصت النية والمقصد.
لكن لا بد أن يكون لك حد أدنى من النوافل تقتصد فيه، والحد الأدنى على حديث أبي هريرة، في الصحيحين، وفي السنن والمسانيد: {أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث، لا أدعهن حتى أموت، صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام} ولا بد أن يكون لك جزء من القرآن في اليوم أو ما يقارب جزءاً، لا يمر يومك إلا وتقرؤه، وتحافظ على الأذكار والتسبيح في الصباح والمساء.
وصلاة الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر إذا استطعت ولم تضر بدراستك وامتحانك، وأن توتر قبل أن تنام، أو تؤخر الوتر إذا علمت أنك تقوم إلى السحر.
ولتكن لك ابتهالات وخلوة مع الله في مناجاتك وعبادتك، ولك دعاء ورقة، حتى تكون هذه سنتك وأورادك، ليكون لك تأثير في الناس، لأن القلب إذا بقي على العلم ولم يكن له أوراد ونوافل جف القلب وقسا، وخمدت الروح فلا يكون لها إشعاع.(282/24)
الإنفاق من العلم
العلم ينفق منه كما ينفق من المال، في كل أربعين شاة، هذا من الغنم، ولكن يقول بعض السلف: يا أهل العلم زكوا الحديث في كل مائتين حديث خمسة أحاديث، لأنه قرأ قراءة منهجية، أن الأحاديث العملية قليلة، وأحاديث الفضائل، وأحاديث الأخبار والسير والقصص كثيرة، فكلما مر بك حديث يقبل العمل فاعمل به فوراً.
يقول الإمام أحمد: كتبت المسند فيه أربعون ألف حديث مع المكرر، وثلاثون بغير المكرر، وما من حديث مما يقبل العمل إلا عملت به، حتى إني وجدت حديثاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام اختفى في غار ثور ثلاثة أيام فاختفيت في غار في بغداد ثلاثة أيام.
والتطبيق يقع في الحال.
ليس المسألة أن نمتحن وننجح إنما المسألة العمل بالعلم.
سبحان الله! يعرض علينا الحديث في الصحيحين على السبورة، ويكتب ويشرح قوله صلى الله عليه وسلم: {من قال في يوم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة، كتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له عدل عشر رقاب، وكان له حرز من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجلاً عمل بعمله أو زاد عليه} ثم لا يعمل به أحد! إذاً فما فائدة حفظ الحديث واستنباطه إلا للعمل، ومعنى الإنفاق من العلم: أن تعلم به الناس.
إن القرى تشكو إلى الله عز وجل من الجهل والبدع والخرافات والتقليد.
لا يعرفون أوليات الإسلام وأساسيات الدين: كالغسل من الجنابة، والوضوء وكيفية الصلاة، والطلبة الجامعيون يملئون القرى، ولا يتصدر أحدهم ليقرأ بالناس أو يعلمهم.
إن الناس لا يريدون عالماً متخصصاً يعلمهم بتصحيحات الأحاديث واختلافات أهل العلم، إنما يريدون علماً مبسطاً ميسراً، وأضعف واحد عندنا في هذه الجلسة يستطيع أن يكون عالماً مفيداً لبني قومه في قريته وضاحيته، ويوم تنفق يزيدك الله عز وجل: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17].
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا
كل شيء ينقص إذا أنفقت منه إلا العلم، فكلما أنفقت منه زاد، ويأتيك كالسيل وكالبحر، كلما تحدثت وشرحت ولخصت ودعوت وخطبت، تداعت عليك الخواص، وأتتك إن شاء الله الفتوحات، وفتح الله عليك فأصبحت تسيل سيلاناً.(282/25)
التحذير من التسرع في الإفتاء
التسرع في الفتيا مرض خطير، لعلك تجد شاباً في الخامسة عشرة من عمره، قد جلس ولف رجله وقال في المسائل الصعبة: الذي تطمئن إليه نفسي كذا وكذا، من أنت يـ ابن تيمية حتى تطمئن نفسك؟ من أنت يا مالك بن أنس حتى توصلت إلى هذا اللموع والإشراق في المسألة؟ يهز رأسه ويقول: أرى والله أعلم أن هذه المسألة فيها ستة عشر قولاً، فيقال: أعطنا القول الأول فيقول: نسيته.
دخل أبو دلامة على الخليفة العباسي المهدي فقال: أتحفظ الحديث؟
قال: طلبت الحديث أياماً.
قال: حدثنا مما أعطاك الله.
قال: حدثنا فلان عن فلان عن عكرمة عن ابن عباس أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {من حفظ خصلتين دخل الجنة} نسي عكرمة خصلة، ونسيت الثانية.
وماذا استفدنا إذاً؟ إن الإجهاض الفكري والتصدر قبل حينه معناه الهضم والفشل والانهزامية، من تصدر قبل حينه، فاته التصدر في حينه.
لأنه قد تأتي من المجتمع أسئلة كثيرة؛ فإذا قال: لا أدري كشف أوراقه، كلما أتته مسألة قال: لا أدري! لا أدري، حتى لو قال العوام: كيف يتوضأ المتوضئ؟ قال: الله ورسوله أعلم.
كم صلاة الظهر؟ لا أدري.
كم صلاة العصر؟ لا أدري.
كم أركان الإسلام؟ لا أدري.
فلماذا لبست العمامة والنظارة والعكاز أمام الناس؟
قد يتوجه سؤال فيأتي الجواب قبل أن يكمل
السؤال
الحديث ضعيف، الحديث حسن، الحديث صحيح، ويغضب ذاك على أن قاطعه ذاك بالجواب، نسأل الله العافية، وهذا هوى لا بد أن نخلص أنفسنا منه، فلا بد أن نتمهل في الفتيا، لأنها صعبة.
قال رجل من التابعين: والله إنكم لتفتون في مسائل لو عرضت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر، وسأل رجل زيد بن ثابت في مسألة، فقال زيد: أوقعت؟ قال: لا.
ما وقعت؛ لكن أسأل عنها لأنها ربما تقع، قال: اذهب، فإذا وقعت تجشمنا لك جوابها.
وسئل علي بن أبي طالب عن مسألة فقال: لا أدري، وما أبردها على قلبي لا أدري!
وسأل رجل ابن عمر: فقال: لا أدري قال: أقول: إن ابن عمر لا يدري، قال: اذهب وكل من لقيت فقل: ابن عمر لا يعرف شيئاً.
وقال ابن عمر: أتجعلوننا جسراً إلى جهنم، إنسان يطلق زوجته ثم يأخذك بتلابيب ثوبك، لأنك فقيه في الشريعة ويريد أن تنقذه، فيربطك وينطلق، ثم يوم القيامة يأتي وليس عليه شيء، وأنت رددت له زوجته، وحللت له زوجته، كإنسان وقع في رضاعة مع زوجته فتفتيه فتقول: نتوكل على الله الفتاح العليم، هذا يجوز فليتزوج من فلانة، فيُحلّ ما حرم الله عز وجل، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116].
أتى رجل إلى الإمام مالك في أربعين مسألة، فأجاب عن ثمان مسائل ورد اثنتين وثلاثين مسألة، قال: يا مالك! أتفتي في هذه وقد ضربت لك أكباد الإبل من العراق إلى هنا، قال: ما أعرف إلا هذه، ارجع إلى الناس وقل: مالك لا يعرف.
لكن الوعظ والدعوة غير الفتيا، الفتيا لها أناس، من بلغ في العلم مبلغاً عظيماً فليفت، وأما الدعوة فكل إنسان يدعو بما عنده، ولا يلزمك إذا خطبت الجمعة، أو ألقيت درساً أو محاضرة أن تفتي الناس، أو أفت فيما تعرف، ولا تفت من عندك، بل إذا لم تعرف فقل: لا أدري والله أعلم.
وأما التصدر فمرض خطير، وهو أن يأتي إنسان في أول الطريق فيتصدر، وهو محمود من جانب ومذموم من جانب، أما حمده فإنه من قوة الهمم، قال تعالى في صفات عباد الرحمن: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] قال عثمان بن أبي العاص في سنن أبي داود يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، قال: {أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً} فمن إبداعك وعلو همتك أن تكون إماماً أو خطيباً أو محاضراً أو متحدثاً، فهذا من إشراقك وإبداعك وروعتك، لكن الخوف أن تعطي نفسك أكثر من حجمها، فربما يصح أن تكون خطيباً لكن لا تقل: أنا مفتي الزمن! أنا فريد العصر! أنا درة الدهر! أنا بركة الوقت! {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3].
فليتدرج تدرجاً، ولا يعطي نفسه أكثر من حقها ولا يهضمها، لأنه إذا هضمها وسوس له الشيطان، يجلسه في زاوية ثم يقول له: لا تفت ولا تحدث ولا تخطب، فتبقى الأمة في جهل.(282/26)
خلق التواضع في طالب العلم
أعظم خلق لطالب العلم: التواضع، قال: بعض السلف: حق على طالب العلم أن يحثي بالتراب على رأسه من التواضع.
مر إبراهيم بن أدهم بقرية، فأتت امرأة برماد تريد أن تلقيه بالمزبلة، فألقته فوقع على رأس إبراهيم بن أدهم، فأتى أهل القرية يعتذرون منه، فقال: رجل استحق النار؛ إذا صولح بالرماد فهو رابح، يقول: أنا أستحق النار عند الله، وأنا صولحت على الرماد في الدنيا، فماذا عليّ؟
ومرة زاحم رجلاً في الطريق فأخذ هذا الرجل العصا وضرب إبراهيم بن أدهم على رأسه، وقال: إنك رجل سوء، قال: إبراهيم بن أدهم: ما عرفني إلا أنت، وسكت.
وقالوا عن عمر بن عبد العزيز: إنه ذهب يصلي صلاة الليل في الجامع الأموي -وهو خليفة زاهد، مجدد الأمة الإسلامية في القرن الأول- ذهب يصلي في ظلام الليل ولم يكن هناك سراج، فذهب وصلى وهو يبكي، فلما انتهى من صلاته ذهب ليعود إلى بيته، فوطئ رجلاً وهو نائم، فقام الرجل فقال: يا حمار! قال: أنا لست بحمار أنا عمر بن عبد العزيز وذهب.
فهذا هو التواضع.
وزاحم سالم بن عبد الله رجلاً في منى فقال له الرجل: يا مرائي يا منافق، قال: ما عرفني إلا أنت.
وقالوا للإمام أحمد -إمام أهل السنة والجماعة الذي شيعه مليون وثمانمائة ألف في بغداد - قالوا له وهو يحمل الحطب في السوق: نحمل الحطب عنك، فاحمر وجهه وقال: نحن قوم مساكين لولا ستر الله لافتضحنا.
سفيان الثوري حصد الزرع بالمنجل وأخذ أجرة، والإمام أحمد كان يلقط السنابل ويضعها في مكتل بأجرة، وكان زكريا عليه السلام -كما يقول ابن كثير - يخيط، فكانوا يقولون: كان لا يدخل الإبرة من ثقبها إلا ويقول: سبحان الله! قالوا: فأوحى الله إليه: يا زكريا! لقد رفعتك مكاناً علياً، قال: بماذا يا رب؟ قال: انظر إلى صحائف العباد كل مساء، فإن صحيفتك أعظمها عملاً} تسبيح وتهليل وتكبير، فالتواضع من سيما طالب العلم.
وكلما نزلت إلى التراب كلما رفعك الله، والغبار أخف شيء يرتفع، لكن قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
إذا مات الكلب في البحر طفا على الساحل، أما الجواهر والدرر فإن الغواص ينزل لها بكلفة، ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر على الله وضعه، وكلما أراد الإنسان أن يرتفع وضعه الله، وقال: اخسأ فلن تعدو قدرك، ولكن المتواضع كلما تواضع قال: ارتفع رفعك الله، انتعش نعشك الله.(282/27)
الشجاعة وعلو الهمة
ومنها الشجاعة في طالب العلم: شجاعة في الحوار بأدب، فلا يقول للمخطئ صدقت وأحسن الله إليك، وبارك الله فيك، وهو يعلم في قرارة نفسه أن هذا أمر خطأ، يأتي الأستاذ بمعتقد أهل البدع والجهمية ويقول: فتح الله عليك يا شيخ! لا.
عليك أن تكون شجاعاً وتقول: يا أيها المعلم! يا شيخنا! أنت أعلم مني، لكن هذا خطأ، هذا رأي ابتداعي، فإن رأيته يأتي بمسألة يبيح فيها ما حرم الله، فتوقفه عند حده بأدب، أو يأتي بقضية مجاملة ومداهنة ورياء وسمعة، أو ترى عليه معصية فتنبه عليه، أو تكتب له ورقة بأدب، أما النفس الإنهزامية والفاشلة فهذه نفوس اليهود؛ أهل السوط والاستعمار، ضربهم هتلر على رءوسهم حتى أصبحوا بهائم، يسكتون أبداً، هز رءوس فقط.
ومن خلق طالب العلم: علو الهمة، فلا يقول أحفظ كتاباً، وأفهم كتاباً، لا.
بل يجعل في ذهنه أن يصلح الكرة الأرضية، حتى استراليا يكون مصلحاً لها، ومن ذا حجبك عن أبواب الخير؟
إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن فيك ما يعجبك
فليس عن المجد والمكرمات إذا رمتها حاجب يحجبك
فلتكن همتك أكبر، لتكون علامة في العلوم وموسوعة فيرزقك الله على قدر همتك.
أيها الإخوة الفضلاء! يا طلبة العلم النبلاء! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وهذه حلية طالب العلم، وقد بلغت، وأسأل الله أن ينفعني بها أولاً، ثم ينفعكم بما سمعتم، ويجعل طلبة العلم على ما يحبه الله ويرضاه قادة وسادة وموجهين ومربين ومعلمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(282/28)
قالوا وقلنا
من باب تجديد الخطاب الدعوي وتنويعه ألقى الشيخ هذه المحاضرة متنقلاً من قول إلى قول بقصد إمتاع السامعين وإفادتهم، ولكنه خص موضوعات حرية المرأة، وعن تعليم المرأة، وعن الأدب ووظيفته، وعن الشيوعية والجهاد الأفعاني، وعن الصحوة الإسلامية وانتشارها وما يوجه لها من نقد.(283/1)
الخطاب الدعوي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن سار على منهجه إلى يوم الدين.
عنوان هذه المحاضرة: قالوا وقلنا، وقبل أن أبدأ في تفاصيلها وبعض مسائلها أنبه على مسألة خطيرة:
إن من أسباب عظمة هذا الدين أنه يخاطب كافة طبقات الناس، يخاطب الأغنياء والفقراء؛ والسادة والعبيد؛ والرجال والنساء؛ والكبار والصغار.
إن محمداً عليه الصلاة والسلام بعثه الله إلى الرجل ليخاطبه، وليكلمه، وليفهمه، وليقوده إلى الجنة، وبعثه الله إلى المرأة ليوعيها ويفهمها ويكرمها، ويقودها إلى الجنة.
وأنا أعرف أن بيننا شيوخاً كباراً, شابت رءوسهم في طاعة الله، واحدودبت ظهورهم في مرضاة الله، واقتربوا من الرحيل وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، ومعنا في هذا المجلس أطفال رضعوا لا إله إلا الله، وشبوا على منهج الله، وارتضوا الله رباً، ومحمداً نبياً، والإسلام ديناً، ومعنا في هذا المكان نساء طاهرات عفيفات مؤمنات مصليات، كن داعيات وما زلن؛ حافظات للغيب بما حفظ الله.
ونفهم من ذلك عظمة الإسلام، وعظمة محمد عليه الصلاة والسلام.
-بأبي هو وأمي- خاطب الملوك ودعاهم إلى الله فاستجابوا له، وأتى إلى الأطفال وحملهم وهو يصلي، وقام بأدبهم، وأذن في آذانهم، الرجل الذي عاش مع المرأة أباً وأخاً وزوجاً وشفيقاً حميماً بقريباته صلى الله عليه وسلم، ومعلماً للأجنبيات، علمهن الحجاب والأدب، وغض البصر والكرامة، وتربية الأطفال، والدعوة إلى الله.
أعلن حقوق المرأة في عرفات فسمعه العالم، وأنصتت له الإنسانية صلى الله عليه وسلم.
هذه أطروحة بين يدي هذه المحاضرة، ولعله من الطريف أن يجدد الداعية أسلوبه؛ لأن الباطل يجدد سلاحه، والله يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فإذا أنشد الباطل قصيدة فحق لنا أن نرد عليه بقصيدة، وإذا نشر في صحيفة فواجب أن ندمغه في صحيفة، وإذا تناول الإسلام على منبر فواجبنا علينا أن نهدده على منبر، وإذا قاتلنا بالسلاح قاتلناه بالسلاح.
إن بني عمك فيهم رماح(283/2)
حرية المرأة
قالوا: نحن ندعو إلى حرية المرأة، قلنا: حريتها ليست فيما تدعون إليه، فهل تدرون ما هي حرية المرأة؟ حريتها في الحجاب الشرعي، والستر والعفاف، والطهر والوقار والسكينة، وأن تكون أمة لله، تملأ قلبها بلا إله إلا الله، وعينيها بالحياء من الله:
كأن رقيباً منك يرعى مسامعي وآخر يرعى مسمعي وجناني
فما لفظت من فيّ بعدك لفظة على القلب إلا عرجت بجناني
قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33].
حرية المرأة أن تصلي الصلوات الخمس في أوقاتها، وأن تخرج من البيت أطفالاً يؤمنون بالله لا أطفال شوارع.(283/3)
حرية المرأة عند أعداء الله
أما حريتها عند أعداء الله، عند سعد زغلول وقاسم أمين وأتاتورك وأمثالهم وأشكالهم وأضرابهم، فحريتها أن تكون عارضة أزياء، وبائعة في البوفية، ومشترية تجوب الأسواق صباح مساء، معروضة للفساق.
وقف أعرابي فرأى امرأته تنظر إلى الأجانب؛ فقال: أتنظرين للأجانب؟ قالت: إني أنظر فقط، أنا لم أخالطهم ولم أضاجعهم ولا أدخلتهم بيتي، قال: نظر؟! -وهو بدوي- قالت: نعم؛ فطلقها بالثلاث، فقال له الناس: ما نظرت إلا نظراً، قال: أضاجعها وأدخلها بيتي وقد ملأت عينيها من الأجانب؟! ثم قال:
إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كن الكلاب ولغن فيه
إنها العزة والشمم!(283/4)
غيرة سعد بن عبادة على نسائه
كان سعد بن عبادة بن دليم هو وأبوه وجده يسمون أجواد العرب الثلاثة، يقولون: إذا ضيف ضيافة كسر الناس عتبته من كثرتهم، نحر في يوم من الأيام مائة ناقة حتى أشبع الذئاب والكلاب والطيور، وكان من أغير الناس يقول: {يا رسول الله! إذا وجد أحدنا مع امرأته رجلاً أجنبياً ماذا يفعل؟ قال عليه الصلاة والسلام: يذهب فيأتي بأربعة شهداء -حتى لا تضيع دماء وأعراض وسمعة الناس- فقال: يا رسول الله! أمكث حتى أجمع أربعة؟! والله لأضربنه هو وإياها بالسيف غير مصفح، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: تعجبون من غيرة سعد، والذي نفسي بيده، إني أغير من سعد، وإن الله أغير مني}.
وكان سعد إذا تزوج امرأة حملها على فرس، فإذا وصل إلى بيته نحر الفرس، قالوا: مالك؟ قال: لئلا يركب الفرس رجلٌ في مكان زوجتي التي ركبت فيه.
هذه عروبة الإسلام لا إسلام العروبة، وأصالة النخوة لا نخوة الأصالة المدعاة، إذاً فهذه هي الحرية التي ينادي بها العلماء والدعاة، أن تكون أمة لله، وطاهرة صينة وقورة، لا تكون عرضة.
الأمريكان أخرجوا المرأة في الحرب العالمية الثانية من البيت تحمل السلاح تقاتل به القوات، وأوصلوها إلى فيتنام، وحملوها على الطائرة، وأركبوها الدبابة؛ فضاعت المرأة.
خلقت المرأة أمة لله تربي الجيل في البيت، وخلقت معلمة ومحاضرة ومربية؛ لكن في بني جنسها وفي سترها وعفافها، أما ثقافة الغرب فأخرجت المرأة على الشاشة تنشر شعرها، لا إله إلا الله! {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5] {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63] جعلوها في المسرح تسكر مع الأجانب، وتسافر بلا محرم، وتجوب الأسواق بلا زوج وبلا أخ ولا ابن، هذه حريتهم التي يريدون للناس.(283/5)
الثقافة(283/6)
الغناء
قالوا: الغناء حلال، قلنا: في شريعة الشيطان, أملى لهم وسول لهم، وسوف بهم؛ فقالوا حلال، قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28] يبحثون عن أرخص الفتاوى، وإذا وجدوا عالماً ضل في هذه المسألة، أو أخطأ اجتهاده وخالف جميع علماء الدنيا، أخذوا بقوله ومدحوا هذا العالم، وقالوا: كثير المعلومات، وواسع الثقافة، وسمح الجانب، ويفهم العصر، ومشرق، ومنفتح على العالم، حتى يؤيدوا أخذهم هذه الفتيا، وإلا فالغناء حرام بالإجماع كما قال الشوكاني والآجري وغيرهما، بفتاوى من إذا أفتى أفتى، كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز:
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
الفتاوى التي تعتمد على قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام.(283/7)
الشعر سلاح ذو حدين
قالوا: هل في الشعر كفر؟ وما أمثلة ذلك؟ لأن بعض الناس يقول: لا تدخلوا الحلال والحرام في الأدب، اتركوا الناس ينشدون، ويلقون الأمسيات الشعرية، أحلال وحرام حتى في الشعر؟! اجلسوا أنتم في المساجد وفي المنبر يوم الجمعة، أما أن تدخلوا حتى الأمسيات والدواوين، ومع الشعراء فلا.
قلنا: إن الإسلام لابد أن يدخل إلى المنتدى، ويدخل إلى الميدان، ويحاسب الشعراء، ويتكلم مع الأدباء لأنه دين الله، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
أنا أعرض عليكم بضاعة بعض الشعراء وأنتم تحكمون، أحد الشعراء دخل مع بعض الجيوش العربية فلسطين يوم الهزائم السوداء، يوم دخلت بعض الجيوش بغير لا إله إلا الله، دخل الشاعر هذا فكتب على أحد الأعلام:
آمنت بـ البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ماله ثاني
هذا كفر أم لا؟ هذا كفر بإجماع العلماء والحمقى والمغفلين والحيوانات.
وقد أراهم الله أي بعث بعثهم، وأي عروبة عروبتهم، تركوا أحذيتهم وفروا من وجه موشي ديان، ولاحقتهم جولدا مائير حتى أدخلتهم جحورهم كالضباب: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45] ويقول شاعر آخر:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
ألا يا هلاً كفراً يؤلف بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
هذا كفر أم إيمان؟ هذا أكفر الكفر، وأطغى الطغيان، وألحد الإلحاد، أفيقال: لا تتدخلوا في هذا الشأن؟! أيكفر بالله، وتمزق شريعة الله، وتمرغ لا إله إلا الله، ثم يقال: لا تتدخلوا في هذه الجوانب؟!
ومنها -وأستغفر الله! - ما قاله العكوك وهذا شاعر قديم، والضياع والكفر قديمان من عهد إبليس, قال لأحد السلاطين:
أنت الذي تنزل الأيام منزلها وتنقل الدهر من حال إلى حال
وما مددت يداً في اللوح كاتبة إلا قضيت بأعمار وآجال
ودخل زنديق على سلطان قال:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
ودخل ضال غاوٍ آخر على سلطان مصر -وسلطان مصر كان من أظلم الناس- يقول أهل العلم: زلزلت مصر بسبب ظلمه، كان يأتي إلى المرأة وهي حامل، فيأخذ الخنجر، فيشق بطنها فإذا ابنها أمامها، نزل للسوق وأقسم للناس: إن لم تسجدوا لي لأذبحنكم جميعاً؛ فسجدوا له في السوق، ولما أصابت مصر زلزلة دخل عليه الشاعر يخفف عليه المصيبة قال:
ما زلزلت مصر من كيد ألم بها لكنها رقصت من عدلكم طربا
هل بعد هذا كفر؟ يقول: لا تظن مصر زلزلت، بل رقصت فرحاً من هذا العدل.(283/8)
تعليم المرأة
قالوا: أنتم منعتم المرأة من مزاولة الأعمال والمهن، قلنا: هذا كذب، فإن ديننا علمها العمل الكريم والمهنة الشريفة، علمها أن تكون مربية، يقول البخاري بيض الله وجهه في كتاب العلم: باب هل يجعل الإمام للمرأة يوماً من نفسه.
ويوم الإثنين كان يوماً معروفاً عند الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم فيه النساء، ويفقههن ويفتيهن في الحيض والنفاس والولادة والزوجية والبيت، وكل دقيقة وجليلة من حياتها، وعلمها كيف تربي الأجيال.(283/9)
أمهات الصحابة
أم عمر امرأة، وأم خالد امرأة، وأم أبي امرأة، وأم طارق امرأة، فالنساء منتجات الرجال، لما علمهن الإسلام كيف يكن مؤمنات أخرجن الأبطال، فلما ضيع الناس المرأة أخرجن سفهاء، عمر الواحد منهم أربعون سنة, وهوايته جمع الطوابع والمراسلة وصيد الحمام، ومغنياً عمره خمسون سنة، وبعض المغنيين عمره سبعون سنة اليوم، والله يقول: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] ويلقون معه مقابلة، قالوا: كيف بلغت هذا المستوى؟ قال: بدأت من الصفر، وصبرت وثابرت حتى بلغت هذا المستوى.(283/10)
الجهاد والكفر
قال الشيوعيون: الإسلام دين التطرف، قلنا: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5].
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
لكن الله أراهم ما هو التطرف.
رئيس رومانيا قام عليه شعبه فسحبوه كالدجاجة حتى ذبحوه في الشارع، وآمنوا بالتعددية وكفروا بـ الشيوعية.
جرباتشوف يلوح في حديقة من حدائق موسكو إلى الناس أن يثبتوا؛ فقاموا عليه بالتراب، وسفوه على وجهه بعد تنازلاته الكبيرة، لأن الإلحاد لا يثبت للأرض، والتطرف ليس له أساس، والأصل لا بد أن ينتصر، ولأن لا إله إلا الله وصلت إلى موسكو، وسوف يأتي هذا في آخر هذه المقالة.(283/11)
مقارنة ظالمة بين النبي صلى الله عليه وسلم ونابليون في العسكرية
قالوا: الرسول عليه الصلاة والسلام أشد وأعظم في عسكريته من نابليون، كما قال العقاد في عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم , وكأنه اكتشف شيئاً ما اكتشفه الناس، يقول: توصلت بعد استقرائي إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام أشد عظمة في العسكرية من نابليون.
قلنا له:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
لا يجوز لك هذه المقارنة، حسبك الله، ويل لك من الله! تقارن بين عظيم يتلقى الوحي من السماء بعثه الله رحمة للناس، وبين مجرم فرنسي سحق الأطفال والشيوخ، واستعمر العالم، وسفك الدماء، وهدم المساجد، ذاك يقول الله فيه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4] ويقول فيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] وأما ذاك نابليون فيقول العالم: لعنه الله!(283/12)
الجهاد الأفغاني واستمراريته
قالوا: الجهاد الأفغاني انتهى.
قلنا: لا.
بل لا يزال قائماً؛ لأن الكفر ما زال قائماً، ومن قال: انتهى الجهاد، فهو لا يعرف شيئاً عن الجهاد، إذ مادام نجيب الشيطان في كابل فذلك أكبر دليل وأكبر برهان على أن الجهاد لا يزال قائماً، كيف انتهى الجهاد وأطفال المجاهدين شذر مذر، وشيوخ المجاهدين في الجبال، والمساجد مهدمة، والمصاحف ممزقة، والناس خارجون بلا إرادة إلا إرادة الكافر الذي أخرجهم من بيوتهم على وجوههم؟!(283/13)
بين أهل الهوى وأهل الحب
أهل الفن والعشق والغرام يقولون: هؤلاء متزمتون، والملتزمون لا يعرفون الحب ولا يحبون؛ لأنهم هم يحبون سلوى والربابة، والأغنية الماجنة والسهرة الخليعة!
قالوا الهوى والحب هل تعنو له أم أنت في دنيا الهوى متجلد
قلت المحبة للذي حمل الهدى فحبيب قلبي في الحياة محمد(283/14)
نماذج من حب الصحابة لله ورسوله
الحب مثل حب سعد بن معاذ، يقول: {يا رسول الله! والذي نفسي بيده، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد}.
أنس بن النضر يقول: [[إليك يا سعد! والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة من دون أحد]] هذا هو الحب!
وحب جعفر الطيار:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
وحب عمير بن الحمام يلقي التمرات ويقاتل ويقول: {بخ بخ! إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات}.
وحب سعد بن الربيع الذي قال: [[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]].
قالوا: إن شاعر الإنجليز شكسبير دخل على فنانين (رسامين) في حديقة في لندن، فقالوا: ما رأيك في اللوحات؟ قال: جيدة.
قالوا: هل لك اقتراح؟ قال: لي اقتراح أن يعلق الرسامون بدل هذه اللوحات.(283/15)
من لا يحبون الجهاد ضيعوا القدس
قالوا: إسرائيل تقتل الأطفال والشيوخ بهمجية.
قلنا:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا شدوا الإغارة فرساناً وركبانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم للنائبات على ما قال برهانا
تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي مربض المستأسد الضاري(283/16)
مشكلة العنوسة وتأمين المستقبل
قالوا: كثرت العنوسة في النساء؛ لأنهن مشغولات بتأمين المستقبل، وهذا طاغوت عند النساء، والمستقبل لا يؤمنه إلا الله، قال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] وفكرة تأمين المستقبل نشرها الغزو الفكري على أسماع بنات الإسلام، فأصبحت المرأة ترى أن مستقبلها في الشهادة؛ فتترك الزواج إلى أن يفوت وقت الزواج، ثم لا يرغب فيها أحد بعد أن تصبح في سن جدة.
ٍتأمين المستقبل هو طاغوت لا يكسره إلا أن تؤمن بالله، وتعلم قوله عليه الصلاة والسلام: {إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض} رواه الترمذي بسند صحيح.
يقول مصدر مطلع: بلغ نسبة الرجال للنساء رجل واحد إلى أربع نساء، أي: (ثلاثة صفر) هذا العدد أربع إلى واحد، هذا الفائض والتعدد تسألوا عنه أهل العلم قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].(283/17)
ابن تيمية تحت راية إياك نعبد
قالوا: ما هي أجمل عبارة؟ قلنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] يقولون: إن شيخ الإسلام ابن تيمية لما حضر لقتال التتار كان يحمل في اليسرى عموداً فيها قطعة قماش ترفرف بلا إله إلا الله، والسيف بيده اليمنى، هذا ابن تيمية صاحب المصحف والكتاب والسنة، الخطيب المفتي، والشجاع الجهبذ، والذكي اللمَّاع، مكتوب على رايته {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وانتصر بإذن الله.(283/18)
ابن تيمية يواجه التتار
أقبلت جيوش المغول من الصين , وكانوا يزحفون على البحيرة فيشربونها حتى يتركوها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، يأكلون الشجر، أدهى جيش مر بالعالم، فوقف لهم ابن تيمية في السابع عشر من رمضان، وأخذ كأساً من الماء البارد أمام الجماهير في دمشق في ساحة الإعدام هناك، ووقف وقال: أفطروا أيها الناس، فأفطروا، قالوا: يـ ابن تيمية! أنت لا تعرف التتار، قال: معنا الواحد القهار، والله لننتصرن عليهم، قالوا: قل إن شاء الله، قال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، فلما أشرف عليهم قبل المعركة، قال: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:119].(283/19)
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) هي أجمع آية لمعاني القرآن
يقول ابن تيمية في دروسه الصباحية لتلاميذه: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب, جمع حكمته في أربعة كتب في الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن، ثم جمع حكمة الأربعة في القرآن، ثم جمع القرآن في المفصل، ثم جمعه في الفاتحة، ثم جمع الفاتحة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].(283/20)
أجمل الأسماء وأعرف المعارف
وأجمل اسم! قلنا: الله! سيبويه هذا النحوي لما توفي، يقول عنه المؤرخون: رئي في المنام، قالوا: ما فعل الله بك؟ وإذا وجهه أبيض يلمع، قال: غفر لي، قالوا: بماذا؟ قال: لما وصلت في كتاب النحو إلى لفظ الجلالة قلت: الله أعرف المعارف.
وآياته في الكون تدل على وحدانيته:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
السماء تشهد أن لا إله إلا الله، والأرض، والماء، والهواء، وكل شيء.
يقولون: كان شيخ الإسلام إذا نظر إلى شجر روضة دمشق تدمع عيناه، ويقول:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
وهذا على حد قوله عليه الصلاة والسلام: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه}.(283/21)
الأمر بالتفكر لمعرفة الله
والله يقول للناس: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] لماذا لم يقل الفيلة؟ لأن الأمة العربية أمة إبل، وهذا من لطائف المفسرين.
يقولون: الجمل جمع مائة صفة من الحيوانات، رأسه يشابه رأس الجرادة، وأذناه أذن الذئب، وذنبه ذنب السرحان، وركبتاه كالنعامة، وزوره كحيوان آخر، ويحقد مثل حقد الإنسان أو أكثر، فيقول الله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:17 - 18].
يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال: أفلا ينظر أهل الصحراء إلى السماء، والسماء في الصحراء لها طعم ومذاق، فكأنه لا سماء إلا في الصحراء، لكن نحن ما أصبحنا نرى السماء، أصبحنا بين الأفران والخبازين والغسالين والسيارات، والصياح والمطاعم والفنادق، والحراج والبيع والشراء، فما أصبحنا نرى السماء ولا النجوم، ولا القمر، ما تسمع إلا حمحمة وطمطمة وغمغمة، فيقول سيد قطب: {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:18] قال: أفلا ينظر أهل الصحراء إلى السماء، والسماء في الصحراء لها طعم ومذاق كأنه لا سماء إلا في الصحراء، السماء بأصيلها الفاتح وبحديثها الساحر، السماء وفيها النجوم في الليل، النجمة الواحدة كأنها مهجورة، أي: كأنها طردت من بين النجوم فهي محرومة، والنجمتان كأن بينهما حديث الود والنجاة، والمجموعة من النجوم كأنها في مهرجان الحياة، فهذا كما قال الأول:
وكتابي الفضاء أقرأ فيه سوراً ما قرأتها في كتاب(283/22)
الرسول يتفكر في ملكوت الله
الرسول صلى الله عليه وسلم ما حمل كتاباً في حياته، ولا قلماً ولا مسطرة، فهو أمي لا يقرأ ولا يكتب.
وفي صلح الحديبية قال لـ علي: اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سهيل بن عمرو مندوب المشركين: لا.
لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، اكتب محمد بن عبد الله، قال علي: والله لا أمحو رسول الله، أي: صعب على قلبي أن أمحو (رسول الله) قالوا: فمحاه صلى الله عليه وسلم بنفسه.
علمه الله أين مكان الرسول وهو أمي؛ لأنها معجزة، لو كان يكتب لقالوا: هو الذي كتب القرآن من رأسه، كيف وقد افتروا عليه وهو لا يقرأ ولا يكتب، كما قال تعالى عنهم: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:5 - 6] فكيف لو كتب؟! {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:48 - 49].
الشاهد: أن الله قال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] وهو في الغار وعمره أربعون سنة، أين يقرأ؟ وأين يكتب؟ ما عندهم دفاتر، ولا أقلام، ولا ملحقات، ولا سبورات، ولا طباشير، قال أهل العلم: اقرأ في السماء، واقرأ آيات الله في الكون.
كان عند حليمة السعدية وعمره صلى الله عليه وسلم ما يقارب أربع سنوات، وكانت تدخله الخيمة؛ لأنه كان يرضع منها عند بني سعد في البادية، فكانت تدخله الخيمة في الليل، فيخرج يحبو ويمشي قليلاً من الخيمة ويخرج ينظر في السماء، لا إله إلا الله! تدخله الخيمة ويخرج ينظر إلى النجوم والقمر، ولذلك فهو الذي سوف يغير العالم، وتلاميذه بعد خمس وعشرين سنة خطبوا في قرطبة، وذبحوا الملك داهر في الهند، وخطبوا على منبر كابل، وصلوا بالناس في جوامع صنعاء والفرات واللوار والنيل، وبعض الناس اليوم عمره أربعون سنة لا يسجد لله سجدة ولا يتفكر، بل الإسلام في آخر اهتماماته، هذا إن كان مسلماً أما إذا كان كافراً فكما يقول القائل:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
إن بعض المسلمين ممن ظاهره الإسلام آخر اهتمامه الإسلام، يفكر في الطبيخ والثلاجة والبرادة والسخانة والسيفون, وفي الأخير يفكر في الإسلام، ويفكر في صلاة الجماعة والدين، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].(283/23)
القرآن والحرم وشخصيات تخرجت منهما
قالوا: وما أجمل كتاب؟ قلنا: القرآن الكريم، المصحف، الذي ما أعطيناه حقه، وما عشنا معه كما ينبغي أن يعاش معه، أخذت المجلة والصحيفة وقت المصحف، الآن جرب نفسك اركب من أبها إلى جدة والرياض , وانظر في الركاب وهم مسلمون جميعاً، من الذي يفتح المصحف في الرحلة إلى أن تصل؟ نادراً، بل تجد كل رجل معه صحيفة يقرأ، والصحف لابد من قراءتها لمعرفة الواقع، وأخبار العالم والناس، لكن أين وقت القرآن؟ أين وقت سورة ق وطه؟ أين وقت الآيات البينات؟(283/24)
السلف الصالح واهتمامهم بالقرآن
يقول عبد الله بن إدريس المحدث حين حضرته الوفاة: يا بني تعال، فأتى ابنه، قال: يا بني! لا تعص الله في هذا البيت، فوالله الذي لا إله إلا هو، لقد ختمت كتاب الله في هذه الزاوية ثمانية آلاف مرة، إذا أردت أن تعصي الله فاخرج من هذا البيت، بيته كان من طين في الكوفة وهو من أكبر العباد: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16] {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29] إن الأمة كانت ميتة فأنزل الله عليها روحاً هو هذا القرآن: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
حدثنا بعض العلماء في الرياض، أن بعض العباد في الرياض ما زالوا أحياء اليوم كباراً في السن؛ في السبعين والثمانين، يصلون صلاة الفجر يوم الجمعة في المسجد الجامع، ثم يفتحون المصحف من الفاتحة، وقبل دخول الخطيب بدقائق ينتهون من سورة الناس، لا يقل أحدكم: لا يمكنهم، بل يمكنهم، فقد داوموا عليه وأعادوه حتى أصبح كالماء على ألسنتهم، فكم من حسنة سجلوها من الصباح، يقول عليه الصلاة والسلام: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} ويقول: {من قرأ القرآن فله بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف} هذه الحروف يسجلها الله كل حرف بعشر حسنات: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ثم قال: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10].(283/25)
بيت الله الحرام وحرمة دم المسلم
قالوا: ما أجمل بيت؟ قلنا: الكعبة، نظر إليها عليه الصلاة والسلام وقال: {ما أعظمك وما أشد حرمتك! والذي نفسي بيده للمسلم أعظم حرمة منكِ} عرض المسلم أعظم، ودم المسلم أغلى.
يقولون: إن الرسول عليه الصلاة والسلام -والحديث عند الحاكم - لما أتى في -عمرة القضية- بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- كان عمر بجانبه، يقول بعض الشراح: كان إذا رأى الزحام اقترب من عمر؛ لأنه كالحصن، مثل السارية، وعنده قلب:
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
فكان عند الزحمة كالحارس عند الرسول عليه الصلاة والسلام، إذا رأى الزحام أرسل كتفه أو يده فرد مجموعة من الناس، وكان يحدث أبا بكر عند الكعبة، فلما رأى الكعبة دمعت عيناه، فقال عمر: مالك يا رسول الله؟ قال: {هنا تسكب العبرات يا عمر} فنسأل الله عز وجل أن يجمعنا به في الجنة، وأن يشفعه فينا، وأن يسقينا بيده شربة من الحوض لا نظمأ بعدها أبداً، وأن إذا تعس الناس بمتبوعيهم أن يسعدنا به عليه الصلاة والسلام، فقد رضينا به إماماً:
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
وإني لأستغشي وما بي غشوة لعل خيالاً منك يلقى خياليا(283/26)
حسان شاعر الرسول
قالوا: ومن أحسن شاعر؟ قلنا: حسان.
حسان حبيبنا، وهو قائد الشعراء إلى الجنة يوم القيامة، يدخل الجنة بالأدب: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق:20] من عنده شعر وأدب وقصة؛ فلماذا لا يستخدمها في طاعة الله وفي نصرة الإسلام؟
حسان يدخل الجنة بالشعر، تخصصه في قسم الأدب، كان عليه الصلاة والسلام يسمع هجاء المشركين يسبونه ويشتمونه، فيقول: يا حسان! كيف تفعل مع المشركين؟ -أي: هل تستطيع أن تمرغهم بالتراب؟ - قال: يا رسول الله! أستطيع، قال: بماذا؟ فأخرج لسانه وضرب به أرنبة أنفه -ونحن لا نستطيع، كل من في المسجد لا أعلم أن أحداً إلا في القليل يستطيع، وهذا ليس وقت إخراج الألسن- فأخرج حسان لسانه وضرب أرنبة أنفه وقال: يا رسول الله! بهذا؛ لو وضعته على صخر لفلقه، ولو وضعته على شعر لحلقه، قال: {اللهم أيده بروح القدس} من هو روح القدس؟ جبريل؛ لأن جبريل يحب حساناً، وحسان يحب جبريل، وحسان مدح جبريل بقوله:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
يقول: القيادة العليا بيد جبريل وبيد محمد، قال بعض العلماء: بل القائد الأعلى محمد صلى الله عليه وسلم، وجبريل تحت قيادته؛ لأن جبريل لما نزل بألف ملك، يقول بعض الخطباء العصريين: نزل بكمندوز، لكن نحن نقول: ملائكة مسومين عليهم العمائم، نزل بهم على العقنقل، والغبار على ثناياه, ومعه ألف مقاتل من الملائكة قد صدر إليهم الأمر الإلهي: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] فوصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فاشترك معه، وجعل القيادة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يقولون: أشرف بيت قالته العرب:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
يقولون: علي بن موسى ولي عهد المأمون كان رجلاً صالحاً كبير القدر؛ مات مسموماً شهيداً، كان يصلي نصف الليل، فأتوا لشاعر من الشعراء اسمه الحسن بن هاني، قالوا: مدحت الناس جميعاً وتركت ابن بنت الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ينتسب إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، فهو علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب , فأتى الحسن بن هاني هذا إلى علي بن موسى، قال: سامحني، لأني ما مدحتك؛ لأنك أكبر من المدح، ولكن قلت فيك أبياتاً، قال: ما هي؟ قال:
قيل لي أنت واحد الناس في كل معنىً من الكلام بديهي
لك في جوهر الكلام بديع يثمر الدر في يدي مجتنيه
فعلام تركت مدح ابن موسى بالخصال التي تجمعن فيه
قلت لا أهتدي لمدح إمام كان جبريل صاحباً لأبيه
يقول: كيف أمدحك وأبوك كان جبريل صاحبه؟! لا أستطيع أمدح الناس لأنهم ناس، أما أنت فأبوك كان معه جبريل عليه الصلاة والسلام.(283/27)
حسان يمدح الرسول ويهدد قريشاً
هذا حسان قائد الشعراء، صاحب الأبيات في الرسول عليه الصلاة والسلام، التي يقول فيها:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم فداء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم يعز الله فيه من يشاء
ثم يقول:
عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
يقول: جعل الله خيلنا لا تعود إلينا، إذا لم تثر الغبار على مكة
تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساء
يقولون: دخل عليه الصلاة والسلام يوم الفتح، فكانت خيول خالد بن الوليد من جهة الخندمة، وكان خالد على الخيالة، فخرج نساء مكة، أما المقاتلة ففروا، دخلوا البيوت وأغلقوا عليهم الأبواب، فخرج نساء مكة يضربن خيول المسلمين بالخمر، فتبسم عليه الصلاة والسلام وما كان يحفظ الشعر: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] فالتفت إلى أبي بكر، وكان أبو بكر أحفظ الناس للشعر، قال: يا أبا بكر! كيف يقول حسان؟ فتبسم أبو بكر وقال:
عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساء
رضي الله عن حسان.
قالوا: وأقوى ركن؟ قلنا: التوكل على الله أقوى شيء.(283/28)
من أنبل الزعماء عمر
وأنبل زعيم؟ قلنا: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، يجعله مايكل هارف صاحب كتاب العظماء رقم ستة وخمسين أو سبعة وخمسين.
فهل تدرون من هو الأول في الكتاب؟ عظماء العالم مائة، العرب واليونان والصين واليابان والأمريكان والإنجليز؛ كل العالم، الأول محمد عليه الصلاة والسلام، ويستأهل أبو الزهراء.
أبا الزهراء قد جاوزتُ قدري بمدحك غير أن لي انتساباً(283/29)
خالد بن الوليد أنجح قائد
وأنجح قائد؟ قلنا: خالد بن الوليد.
قاد خالد بن الوليد في الجاهلية والإسلام مائة معركة، وما غلب لا في الجاهلية ولا في الإسلام، حتى المعارك التي شارك فيها في الجاهلية كسب فيها نصراً جاهلياً، هو لم يشارك يوم بدر كان غائباً، فأتى يوم أحد فشارك، وكان قائد الخيالة ذاك الوقت، وما شارك في المعركة إلا في الأخير، وقال صلى الله عليه وسلم للرماة: قفوا على هذا الجبل ولو رأيتم الطير تخطفنا فلا تنزلوا، فلما رأوا الغنائم، ورأوا الناس انتصروا في أول المعركة نزلوا وتركوا الجبل، فرآهم خالد فالتف من وراء الجبل، وصعد بالخيل فانتصر المشركون.
وبقي سنوات بعدما فتح الله الفتوح على المسلمين، وقتل أعداء الله، واستسلمت ثلاثة أرباع الدنيا بنصر الله ثم بسيف خالد؛ وأتت الغنائم من الذهب والفضة والحدائق والقصور والبساتين، فتركها خالد، وأتى إلى قرية في حمص، فأخذ مصحفاً لا يزال إلى اليوم في المسجد الأموي بـ دمشق كما يقول المؤرخون، غلافه في المتحف، غلافه جلد جمل، كان يفتحه من الصباح ولا يطبقه إلا في صلاة الظهر، وكان يبكي ويقول: شغلني الجهاد عن القرآن، فلما أخرجوا جنازته أخذت أخته تبكي وتقول:
أنت خير من ألف ألف من القو م إذا ما كبت وجوه الرجال
ومهين النفس العزيزة للذكر إذا ما التقت صدور العوالي
وأتى الخبر عمر في المدينة، فأخذ بردته يجرها، وجلس في المسجد وحده يبكي، وأخذ يضرب رجله بعصا عنده، ويقول: ذهبوا وتركوني، فأتاه رجل فقال: امنع النساء فإنهن ينحن على خالد، قال: [[دعهن، على مثل أبي سليمان فلتبك البواكي]].
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
كان بينه وبين عمر مثل ما بين البشر من إحن في بعض الأمور، ولما حضرته الوفاة هل تدرون إلى من أوصى أن يقسم تركته وصدقاته وعقاره؟ قال: بلغوا عمر بن الخطاب عني السلام، وقولوا: أنت خليفة خالد ونائبه في أمواله.
فلما أخبروا عمر -وكان واقفاً- بكى حتى جلس.(283/30)
شخصيات أخرى
قالوا: ما رأيك في هذه الأسماء؟ نزار قباني، قلنا: هو الذي أضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة.
قالوا: شعره جميل، قلنا: كقول فرعون: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90] له قصائد جميلة، لكن لا يعني ذلك أن نتبناه، أو أن ننشر شعره، أو أن نطالع ما يبثه من سموم، فهو متهتك متعدٍّ لحدود الله، عدو لله.
قالوا: نازك الملائكة، قلنا:
وما شر الثلاثة أمَّ عمروٍ بصاحبك الذي لا تصحبينَ
قالوا: طه حسين، قلنا: تاريخ الفراعنة، وهوية باريس، إذا عاد إلى مصر قال: الفراعنة الفراعنة!! وإذا ذهب إلى الغرب، قال: باريس باريس!
قالوا: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، قلنا:
عليه سلام الله ما أشرق الضحى ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية شهم باع لله نفسه مقاصده أعلى وأغلى وأعظما
قالوا: الشباب لا يقرءون، قلنا: إذا كبروا سوف يندمون.(283/31)
أعز مكان وخير جليس
قالوا: ما هو أعز مكان، وأحسن جليس؟ يتولى الإجابة أبو الطيب المتنبي شاعر العربية، يقول:
أعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب
يقول: أعز مكان في الدنيا ظهر الفرس إذا قاتلت به في سبيل الله، وقبل الإسلام كان يتمنى الإنسان إذا مات أن يموت على ظهر الفرس، أتى عامر بن الطفيل أحد شجعان العرب في الجاهلية وعظماء العرب، أتى هو وأربد بن قيس يريدون اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام، فحماه الله منهم، فلما ولى عامر بن الطفيل، قال صلى الله عليه وسلم: {اللهم اكفنيهم بما شئت} فدخل عامر هذا في بيت عجوز سلولية, فأصابه الله بغدة، فأصبحت الغدة كالثدي في نحره، فعرف أنه الموت، فأخذ سيفه وصعد على ظهر الفرس، وقال: غدة كغدة البعير في بيت امرأة سلولية، لا أموت إلا على الفرس، ونقول: مت على الفرس، أو تحت الفرس أو في بطن الفرس فأنت عدو لله.
إنما الشاهد أنهم يرون أن أعز مكان سرج الفرس، وخير جليس في الزمان كتاب الله.(283/32)
خليفة ينادم المصحف
يقول ابن كثير عن المتقي الخليفة العباسي: لما تولى الخلافة كان متقياً، كان إذا صلى العشاء أغلق أبوابه، وأتاه الوزراء والأدباء والعلماء، فيقول لهم: أريد أن أخلو بنفسي هذه الليلة مع كتاب الله، فربما تكون آخر ليلة، فيقرأ إلى صلاة الفجر، فيأتون الليلة الثانية فيقول: ربما تكون آخر ليلة، فقطع الخلافة كلها هكذا حتى لقي الله، قال له الناس في الصباح: نريد أن نسامرك، قال: كفى بالله جليساً، وكفى بكتاب الله أنيساً!
لا إله إلا الله! يوم يخبرك الله عز وجل بوعده ووعيده، وما أعد لأوليائه, وما فعل بأعدائه, وأيامه الخالية، والمثلات في الأمم، والمنازل والديار، والأخبار والحكم، والعظات والأسلوب والأدبيات التي في القرآن التي تقودك إلى رضوان الله عز وجل.
قالوا: صف لنا الزهرة، قلت: يقول أبو نواس:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيونٌ من لجين شاخصاتٌ بأحداق هي الذهب السبيك
على قصب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك(283/33)
ورد القرآن قبل الصحف والمجلات
قالوا: متى نقرأ الصحف والمجلات؟ قلنا: إذا قرأتم حزبكم اليومي من القرآن، قبل أن تأتي بالصحيفة ابدأ بالمصحف، وقبل أن تطالع المجلة ابدأ بالقرآن، وقبل أن تنظر إلى صفحة الفن أو الرياضة أو الفكر طالع وردك وحزبك من كتاب الله عز وجل.(283/34)
من أخبار الأعمش
قالوا: حدثنا عن الأعمش رحمه الله؟ قلنا: الأعمش كان يسمى شيخ الإسلام، المحدث، امتاز بخفة الروح، وفيه دليل على أن الإسلام دين لطيف، وأن فيه متسعاً للناس، قيل لـ سفيان الثوري: المزح هجنة، قال: بل سنة.
كان الأعمش مزاحاً، يقولون: إذا أتاه الثقلاء من الناس، قال: ربنا اكشف عنا العذاب إنا موقنون! وكان من تواضعه لا يعتني بالمظهر، والاعتناء بالمظهر طيب، لكنه متواضع يظهر البذاذة، كان يلبس الفرو مقلوباً، فيقول له أحد تلاميذه: لو قلبت فروك كان أحسن، قال: أشر على الخروف بذلك؛ لأن الفروة أصلاً على الخروف على هذا اللبس، يقول: انتقدت عليّ ولم تنتقد على الخروف!
قال له أحد الحاكة: هل تجوز إمامة الحاكة؟ قال: نعم.
بلا وضوء، ذكر ذلك الذهبي في السير وغيره.(283/35)
الصحوة الإسلامية
قالوا: من هم المتطرفون؟ قلنا: هم مروجو المخدرات، وتاركو الصلوات، وعاقو الآباء والأمهات.
قالوا: إلى أين وصلت الصحوة الإسلامية؟ قلنا: إلى موسكو، فقد خرج هذه السنة من موسكو من قلب عاصمة الملحدين، عاصمة بريجنيف وجرباتشوف ألفا حاج أو ما يقاربهم يقولون من هناك: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.(283/36)
الأذان يصدح في هيئة الأمم
قالوا: ما هو الخبر الشيق الطريف، آخر الأخبار؟ قلنا: يوم أذن أحد المجاهدين الأفغان لصلاة الظهر في هيئة الأمم المتحدة، قبل ثمانية أشهر حضر وفد المجاهدين -أخبرنا بذلك أحد المجاهدين الذين قدموا في أبها - حضر وفدهم في مجلس هيئة الأمم، وفي هيئة الأمم أكثر من مائة وثمانين من ممثلي الدول، ولما حانت صلاة الظهر والمجاهدون بعمائمهم ولحاهم كأنهم خرجوا من المدينة
رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ
فلما حانت صلاة الظهر، قام جلال الدين حقاني أو غيره إلى الميكرفون في هيئة الأمم المتحدة وصدح بالأذان، فسمع العرب والعجم والسود والحمر والشقر والسمر، واسمع يا زمن واكتب يا تاريخ: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر.(283/37)
أحد المجاهدين يدعو ريجان إلى الإسلام
من هؤلاء المجاهدين يونس خالص وهو شيخ مخضوب اللحية كبير، شارح العقيدة الطحاوية من قادات الجبهة الذين ردوا الملاحدة على أدبارهم خاسرين، دخل على ريجان رئيس أمريكا في البيت الأسود فقال له: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم كل أمريكي على وجه الأرض.(283/38)
النساء والصحوة
يقولون: لماذا لا يحضر النساء الدروس والمحاضرات النافعة؟ قلنا: لأن أزواجهم لا يحضرون، وكثير من النساء لا يحضرون، وحضورهن فيه خير وبركة، وسعادة وتنبيه ووعي، وكثير من المدن والنواحي والمناطق بدأت الصحوة فيها عارمة، صحوة علمية راشدة في صفوف النساء، تتلقى تعاليمها من الكتاب والسنة الناهجة نهج محمد عليه الصلاة والسلام.(283/39)
أحسن هدية
قالوا: ما هو أحسن هدية للصديق المسلم؟ قلنا: هذا الشريط الإسلامي.
قالوا: قدم المصطافون أبها؟ قلنا:
ضيوف الخير قد شرفتمونا بلقياكم ربوع الجو طابا
فـ أبها من زيارتكم تباهت بثوب الخلد أطلقت الضبابا(283/40)
القضاء على الفراغ
قالوا: كيف نقضي على الفراغ؟ قلنا: تذكروا قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] وقوله عليه الصلاة والسلام: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} وتذكروا قول الشاعر:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني(283/41)
العالم والأخطار والرزق
قالوا: ما هو الخطر الداهم الذي يهدد العالم؛ هل هي المجاعة؟ هل هي البراكين؟ هل هي الزلازل؟ هل هو سباق التسلح؟ قلنا: الخطر الذي يداهم العالم هو الموت والساعة، قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] يقول عليه الصلاة والسلام: {أكثروا ذكر هاذم اللذات} يقول الشاعر:
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعل الردى مما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخرب
إلى الله نشكوا قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب(283/42)
التوكل على الله
قالوا: العالم مهدد بالمجاعة، يصورون لك كأن ليس هناك إله، ولا رازق، ولا خالق، ولا متكفل بالخلق، حتى تجد بعض المغفلين حريصاً على اكتناز الحبوب والأموال، لعدم الثقة بما عند الله، ويخاف على ذريته وأولاده خوفاً عظيماً، كأن ما عنده من التوحيد ذرة.
يقول المؤرخون: كان القاهر الخليفة العباسي من أطمع الناس في الأموال، أتى فحفر حفراً في الأرض -برك وخزنات- وملأها بالذهب والفضة، لم يتكل على الله، اتكل على ذهبه وفضته وخزاناته، فسلبه الله ملكه وماله، وخلعوه وسملوا عينيه واقتلعوها بالحديد والنار، فكان يقوم في مساجد بغداد يقول: من مال الله يا عباد الله؛ لأنه ما ركن إلى الله.
قالوا: العالم مهدد بالمجاعة، قلنا: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] يرزق النملة في جحرها ولا يرزقك.(283/43)
من عجائب النملة في الرزق
النملة من عجائبها أنها تأخذ الحبة في الصيف، وتدري -بإذن الله- أنه سيأتي فصل الشتاء أربعة أشهر، النمل لا يخرج في الشتاء؛ لأن عنده رصيداً ومخازن وبيت مال ادخره فيه من الصيف، ويقولون: هناك ثلاث فرق: فرق الاستهلاك، والعاملات، والملكة، الاستهلاك هذه تنظم المخازن، الشعير على حدة، والبر على حدة، والعدس على حدة، والعاملات تنقل المؤن، وهذا موجود في مفتاح دار السعادة، والعلماء يقولون: هذا القول رد به موسى على فرعون، قال تعالى يحكي لنا هذه القصة: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49 - 50] أي: أعطى النملة خلقها ثم هداها، والنحلة خلقها ثم هداها.
السؤال عند أهل العلم، قالوا: لماذا لا ينبت الحب الذي تأخذه النمل وتدخل به بيتها؟ قالوا: بإذن الله تأتي النمل، فإذا أدخلته أتت المستهلكات من النمل، خرقت الحبة من وسطها، فتصبح غير قابلة للإنبات {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].(283/44)
من عجائب النحلة في الرزق
النحلة تأتي فتأخذ الرحيق من الزهرة، فإذا نقلْتَ الخلية عن مكانها، تأتي النحلة بهدى الله إلى الخلية، يقولون: عندها رموز، ترسل ذبذبة في الهواء إلى النحلات، فتستدعيها النحلات حتى تأتي إليها، يقول كريسي موريسون: عندها (أوريال) وعندها جهاز اتصال، قال سيد قطب: لا.
عندها أعظم، قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68] هذه قدرة الله، فالذي رزق النحلة يرزقك وهو أعظم، يقول سبحانه في عموم لا خصوص له: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6].(283/45)
العصفور والحية
يقول أحد المؤرخين: مر أحد الصالحين فوجد عصفوراً يأتي إلى مزبلة فينقل منها اللحم والخبز ويذهب إلى رأس نخلة، والعصفور لا يعشعش في النخل، يعشعش في الشجر القصير، قال: فارتقيت إلى رأس النخلة فرأيت حية عمياء، فإذا أتى العصفور واقترب باللحم والخبز وصوص بصوته ففتحت فمها فألقى اللحم والخبز لها، من الذي سخر العصفور أن ينقل اللحم إلى هذه الحية في النخلة؟ قالوا: هناك ثلاث قضايا:
أولاً: العصفور ليس من جنس الثعابين والحيات، فهو عدوها وهي عدوته؛ لكن سخره الله لها.
الثاني: جعل الله الحية في رأس النخلة حتى لا تقتل في الأرض.
الثالث: إذا اقترب وصوص لها ففتحت فمها، فأعطاها رزقها قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] انظر الاستثناء بالجزم والقطع (إِلَّا هُوَ) بالضمير، تحدٍ للعالم: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] فسبحان من أعطى! وسبحان من هدى! وسبحان من خلق!
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6] لا يعلم المستقر والمستودع إلا الله، يقول بعض المفسرين: المستقر هو: مكان البيتوته، لأن للنملة مكاناً للنوم، ومكاناً للطعام، فيقول الله عن المستودع هذا:: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6] قالوا: المكان الذي تأكل فيه، والمكان الذي تنام فيه، وكذلك النحل وكل الحيوانات؛ لأنها ممالك، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} [الأنعام:38].(283/46)
البسطة في الجسم
قالوا: الكفار أكثر الناس أموالاً ودنيا, وهم أكثر من المسلمين.
قلنا: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} [التوبة:55].(283/47)
القوة بين المصارعين والمؤمنين
قالوا: المصارعون أقوى الناس أجساماً.
قلنا: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4].
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر جسم البغال وأحلام العصافير
وتجد أكثر العباد والزهاد والصالحين ضعافاً، وتجد أكثر الفجار والمنافقين كالسواري، وهذا في العموم الغالب، وإلا فإنك تجد كثيراً من المؤمنين من أقوى الناس، يوقف بعضهم السيارة وهي تمشي.
يقول الأستاذ علي الطنطاوي في المذكرات: عندنا شيخ في دمشق، سماه أظن في الجزء الثالث أو الرابع من مذكراته، يقول: من أعبد وأتقى وأصلح الناس، يقول: والله ما رأيت في حياتي أقوى منه بنية، ومن ضمن قصصه يقول: أتى فرس يقود عربية، ونزل بالعربية هذه في شارع ضيق نازل دمشق، والأطفال في آخر الشارع، والفرس مسرع، ومعنى ذلك أن الفرس إذا نزل بالعربية فسوف يحطم الأطفال ويسحقهم سحقاً، خرج النساء من أعلى الشارع من البيوت يصرخن: الله الله الله، لأن الفرس مسرع لا يدري أن هناك أطفالاً، والعربية محملة وراءه، قال: فخرج هذا الشيخ من بيته، واعترض للفرس، وأخذ يقول: الله الله، قال: فلما مر الفرس أمسك بالعربية، قال: والله إنه يتزحزح ويتزحزح الفرس معه حتى أوقف الفرس في منتصف الطريق، هذا من قصص البطولات، فالصالحون أقوياء، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، لكن هذا في العموم الغالب، وعمر كان من أقوى الناس.(283/48)
من عجائب المعتصم في القوة
يقولون: كان المعتصم يأخذ السيخ الحديد ويكتب اسمه فيه، ويقولون: إن قواده وجنوده ربطوا أرجله بوتدين، فقفز من الوتدين فاقتلعها، وصعد على ظهر الفرس، ويقول أحمد بن أبي داؤد وذكر ذلك الذهبي، يقول: خذ ذراعي وعضه، قلت: أستحي منك وأنت أمير المؤمنين، قال: عضه، قال: فعضضته فكأنه الحديد، والله ما أثر فيه.
قالوا: اليهود يهاجرون إلى فلسطين.
قلنا: يسعى إلى حتفه بظلفه.
لقيناهم بأرماح طوال ولاقونا بأعمار قصار(283/49)
القوة في الصحوة
قالوا: على الصحوة الإسلامية ملاحظات.
قلنا: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
شرف الأمة الإسلامية في هؤلاء الشباب، فهم رفعتها وعزها وكرامتها ومجدها، فاخرنا بهم في أمريكا يوم كانوا دعاة ملتزمين، وفي فرنسا وبريطانيا وفي كل دولة من دول العالم، أصبحوا تاجاً على رأس الأمة الإسلامية، هؤلاء الدعاة الأخيار مهما لاحظ الناس عليهم الملاحظات، فقد تجاوزوا القنطرة، وأصبحوا بحمد الله عدولاً بررة وأخياراً، وأصبحوا على نهج محمد عليه الصلاة والسلام، عناقهم شرف، والجلوس معهم كرامة، وتعليمهم ريادة، والاستفادة من دعائهم بركة ونور وهداية، والاستماع إلى نصائحهم إرشاد وفهم وفقه، إنهم ذخيرة الأمة من الشباب والشابات، لأن الصحوة الآن تسير مزدوجة بين الرجال والنساء، وعودة عارمة على صفوف الناس.
في كتاب التنصير وهو لرجل أمريكي: اجتمع في بوسطن أمريكان مراقبون، فقالوا: الصحوة تجاوزت الناس، أي: إنها تجاوزت حدود الناس، وأقطار العالم العربي، أصبحت الصحوة في موسكو وبكين، وفي كل مكان.
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس
بشرى لهؤلاء الشباب، وبشرى لتلكم الفتيات المؤمنات المقبلات على الله، فتيات يكتبن الآن، ويحدثن في صفوف النساء، ويعظن ويربين ويرشدن، ويوجهن إلى الله، فاللهم زد وبارك: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:193].(283/50)
تنبيه لصوم عاشوراء
أيها المسلمون! العاشر من هذا الشهر يوم عاشوراء، وأنتم مدعوون لصيامه عسى الله أن يتقبل منا ومنكم، ومن السنة أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده معه، اليوم العاشر والحادي العاشر، أو التاسع والعاشر؛ فإن من السنة صيام العاشر من هذا الشهر، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام صامه.
وصامه الرسول صلى الله عليه وسلم لأن اليهود كانوا يصومونه؛ لا متابعة لهم
صامه اليهود لأنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، حين كان الصراع العالمي بين فرعون وموسى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] يقول أحد المفسرين: عجيب! أصبح فرعون داعية، فخرج موسى فالتقيا، فكانت المعركة في العاشر من المحرم، فقال صلى الله عليه وسلم لليهود: {نحن أولى بموسى منكم} فصامه عليه الصلاة والسلام وأمر الناس بصيامه، أتدرون ما جزاء من يصوم يوم عاشوراء؟ يكفر الله عنه سيئات السنة الماضية كلها، السنة اثنا عشر شهراً أي: ثلاثمائة وستون يوماً يكفر الله عز وجل الصغائر، أما الكبائر فلابد من التوبة منها، فصوموا، ومروا أهلكم وأبناءكم وجيرانكم، وأخبروا الناس بهذا؛ لأن لك أجر من أخبرته، ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله، هذا عن يوم عاشوراء.(283/51)
الأسئلة(283/52)
الزنداني وسياف
السؤال يقول: بعض الناس من المسلمين المصلين يسب بعض العلماء مثل الشيخ الزنداني، وعبد رب الرسول سياف؟
الجواب
سبحان الله! هذان علمان وداعيتان ومصلحان، أما عبد المجيد الزنداني فرجل نفع الله به العالم الإسلامي، رجل أخرج إعجاز القرآن للعالم، وهدى به الله عز وجل أدمغة كافرة كانت من أذكى الأدمغة، دكاترة وأصحاب درجات علمية هائلة كانوا يرون أنهم أذكى الناس، أتى هذا الرجل العملاق فغسل أدمغتهم بالإسلام، وأدخلهم في دين الله، هذا الرجل جند نفسه للدعوة في سبيل الله، محتسب فقير يجوب العالم الإسلامي ليلاً ونهاراً يدعو إلى سبيل الله، هذا الرجل يعيش القرآن أربعاً وعشرين ساعة، ويستخرج منه كنوزه، وينشره للعالمين، أفيكون جزاؤه أن يأتي هذا وأمثاله ويتكلم فيه؟!
لا يضر البحر أمسى زاخراً إن رمى فيه غلام بحجر
{فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69].
أما عبد رب الرسول سياف فقائد يروي ملاحم خالد بن الوليد، وطارق بن زياد، وصلاح الدين، وسياف الذي يسكن خيمة، ويجاهد أكثر من عشر سنوات، أوذي في عرضه، وسكب دمه ودموعه، وتغربل من أجل أن تبقى لا إلا الله، سياف حاصره الثلج ليلة من الليالي، فما استطاع أن يخرج إلى المجاهدين، فبقى يصلي ويبكي حتى صلاة الفجر، ويدعو الله بالنصر، سياف الذي قدم روحه ويتمنى الشهادة صباح مساء، ويكون جزاؤه هذا؟! إن هذا عدوان لا نرضاه، وهذا حرام، وهذا خطأ.
إن هؤلاء العلماء لحومهم مسمومة، ولهم سياج من النور، وسياج من حماية الله عز وجل، ومن حصانة الواحد الأحد، فحذار حذار أن يأتي جافٍ أو سفيه، فيلغ في دماء هؤلاء، فإن مصيره عذاب من الله عز وجل، ونار تلظى، وسحق ومحق، وعاقبة وخيمة وردى في الدنيا والآخرة.(283/53)
الموت بالسرطان شهادة
السؤال
هل الذي يموت من مرض السرطان يعد شهيداً؟
الجواب
بعض أهل العلم يقولون: السرطان هو مرض البطن، وأكثر ما يصيب مرض السرطان البطن، وأصحابه على هذا القول من الشهداء عند الله، والشهداء سبعة منهم: مريض السرطان الذي يصاب به صاحبه في البطن: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19].(283/54)
وصية للشباب
السؤال يقول: ماذا توصي إخوانك الشباب؟
الجواب
أوصيهم بتقوى الله، والتزود من النوافل، وكثرة قراءة القرآن الكريم، وتقديمه على غيره من الكتب، والتآخي فيما بينهم، وعدم التعرض للأحقاد الذي يثيرها إبليس بين الشباب، وأوصيهم أيضاً أن يجتهدوا في الدعوة إلى الله، وينشروا هذا الدين، جعلنا الله وإياكم من خدامه ومن أنصاره.(283/55)
شاعر زنديق
السؤال يقول: ما رأيك في هذه الأبيات:
إلهي ليس للعشاق ذنب ولكن أنت تبلو العاشقينا
فتخلق كل ذي وجه جميل وتسبي به قلوب الناظرينا
وتأمرنا بغض الطرف عنه كأنك ما خلقت لنا عيونا
الجواب
هذا كفر، هذه الأبيات كفر، وقد تعرض لها كثير من العلماء، وأورد ابن الجوزي في صيد الخاطر أبياتاً شبيهة بها، يقول:
أيارب تخلق ألحاظ حور وأغصان رند وكثبان رمل
وتنهى عبادك أن يعشقوا أيا حاكم العدل ذا حكم عدل
استغفر الله، هذا لكافر غضب الله عليه إن لم يكن تاب.
وأحدهم قالوا له: تب من حب هذه، قال:
أتوب إليك يا رحمان مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوب
وأما عن هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوب
أستغفر الله! يقولون: بلغت أحد العلماء فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، قالوا: مالك؟ قال: والله إني أذنبت في شبابي ذنباً ما زلت أستغفر منه ثلاثين مرة.
فكيف يقول هذا: لا أتوب؟!
وشاعر آخر والعياذ بالله، أتى الناس، فلما اجتمع الحجاج، وأصبحوا يطوفون بالبيت، وهم يبكون حول بيت الله عز وجل، ويسيلون دموعهم الحارة، قال:
قف بالطواف تر الغزال المحرما حج الحجيج وعاد يقصد زمزما
لو أن بيت الله كلم عاشقاً من قبل هذا كاد أن يتكلما
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5].
عمر بن أبي ربيعة هذا الشاعر يقول:
وغاب قمير كنت أرجو غيابه وروح رعيان ورقد سمر
يصف الليل، فأتى الخبر سعيد بن المسيب وهو يستغفر في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، سعيد الذي أذن المؤذن من أربعين سنة وهو في المسجد، قال: قاتله الله! صغر القمر والله عظمه في القرآن، يقول الله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30].
أيها الإخوة الفضلاء: الحق والباطل في صراع، أدب إسلامي وأدب كافر، خطابة إسلامية وخطابة كافرة، صحافة إسلامية وصحافة كافرة، حتى في الرسم، هناك رسم إسلامي ورسم كافر، حتى الأزياء، وهيئة البيوت، إن من الغزو الهندسي في العالم الإسلامي أن ترسم البيوت على هيئة بيوت الأوروبيين، ليس هناك ستارة بين الرجال والنساء، بعض البيوت تبنى الآن على شكل بيوت أوروبا والأمريكان، بيت مفصل أجنبي، فإذا خرجت المرأة من هناك رآها الرجل داخل المجلس، ويقولون: الأمر سعة وحرية، أما أن يكون النساء في جهة والرجال في جهة، فما سمعنا أن رجلاً أكل امرأة، الرجال لا يأكلون النساء.
نقول: لكن الله عز وجل أمر أن يفصل بين الرجال والنساء إلا فيما أباح الله، فاتقوا الله عباد الله، وتعالوا إلى هذا الدين، فإن فيه الكفاية والريادة والخير والسعادة، ومن لم يكفه الدين فلا كفاه الله، ومن لم يشفه الإسلام فلا شفاه الله، ومن لم يتعاف بصحة هذا التراث فلا عافاه الله.
أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين, فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.(283/56)
الشهادة في سبيل الله
كان زيد بن حارثة مولى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر أحد من الصحابة في القرآن إلا زيد بن حارثة، وقد سبته إحدى القبائل في الجاهلية، ثم أسلم على يد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم وقدمه على أبيه وأعمامه.
وفي الإسلام كان له مشاركة عظيمة، ففي مؤتة كان قائداً للمعركة وقتل شهيداً فيها.
ثم جاء بعده ابنه أسامة، فكانت منزلته عند الرسول كمنزلة أبيه.
ثم تطرق في حديثه إلى امتنان الله على هذه الأمة، فجعل لها خصائص تختص بها عن جميع الأمم.(284/1)
منزلة الشهادة في الإسلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم.
أحيي هذ الوجوه التي لا ترى إلا في الخير, قدَّمكم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وأخَّر غيركم, وأكرمكم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وأهان غيركم, فإن المهان كل الإهانة هو الذي لا يتصل بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى, وهو الذي لا يعفر وجهه ساجداً لله, وهو الذي يصاب بالإهانة كل الإهانة، وهو الذي يفقد قوامه لهذا الدين.
أنتم تصلون وتستمعون آيات الله البينات التي أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم صفوف، وغيركم في المنتزهات والملاهي والمقاهي يستمعون الأغاني الماجنة, ويستمعون العهر, وكل ما يدعو إلى الفاحشة ويبعدهم عن الله عز وجل.
أنتم في روضة من رياض الجنة, وغيركم في مجلس من مجالس الشيطان أنتم تظلكم الملائكة، وتحفكم السكينة، وتغشاكم الرحمة، ويذكركم الله فيمن عنده, وغيركم تحفهم الشياطين، ويغشاهم الغضب والسخط؛ لأن كل من ابتعد عن هذا الدين أصابه الله بقارعة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126].
فالمقصود -أيها الأبرار- أن المسلم لا بد له أن يتذكر نعمة الله عز وجل عليه, كثير من الناس في نعمة الله, مستقيم ويحافظ على الصلوات لكنه لا يشعر بهذه النعمة حتى يذوق الضلال ومرارة البعد عن الله عز وجل, ثم يرده الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى إليه.
معنا في درسنا هذا زيد بن حارثة وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة من سادات الشهداء عند الله عز وجل, وأما أسامة بن زيد فله حديث عندنا هنا في الوضوء.(284/2)
الدين يرفع زيد بن حارثة
زيد بن حارثة هو مولى للرسول صلى الله عليه وسلم, لم يذكر أحد من المسلمين في القرآن باسمه إلا زيد بن حارثة، فَلَمْ يُذكر في القرآن أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا خالد، وإنما ذكر في كتاب الله زيد بن حارثة يتلى إلى قيام الساعة.
كان رقيقاً, ليس له قيمة عند قريش, فالجاهلية تدوس الإنسان كما تدوس أنت التراب, الجاهلية لا تعبد إلا القيم, والمناصب, والجاهات, والشارات، والأوسمة, فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم كرم الإنسان وعرف قيمته.
أحد الناس -ولا أريد أن أستشهد بأبياته في مثل هذا الموقف؛ لأنه أعمى القلب والبصر لكن لا بأس, يقول علي رضي الله عنه: [[الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنّى وجدها]] هذا الأعمى هو البردوني شاعر اليمن , أعمى القلب والبصر, كان في شبابه يمدح الإسلام لكنه انتكس, يقول في بعض العصاة الفجرة المردة على الله:
قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا
مهلاً فديت أبا تمام تسألني كيف احتفت بالعدى حيفا أو النقب
إلى آخر ما قال.
إنما المقصود أن الذي لا يرفعه الله لا يرتفع أبداً, فـ زيد بن حارثة أتى إلى هذا الدين، ووضع كفه في كف محمد صلى الله عليه وسلم؛ فأعطاه صلى الله عليه وسلم درساً من التربية لا ينساه أبداً.
أتى أبوه وعمه إلى محمد صلى الله عليه وسلم يريدونه؛ لأن زيد بن حارثة فارق أهله وهو صغير, سبته قريش في الجاهلية, فأخذته وأدخلته معها في دينها وفي طاغوتها وأصنامها, فلما دعا صلى الله عليه وسلم إلى لا إله إلا الله, كان أول من استجاب له العبيد، والرقيق، والضعفاء، والمساكين.
يقول الأستاذ الشهيد سيد قطب نسأل الله أن يجعله شهيداً، يقول: إن هذا الدين خال من الطلاء -أي: ليس هناك دعايات على الدين- من أراد الدين يأتي للدين لنفس الدين، أي: ينقاد من نفسه, فليس هناك دعايات مغريات كما تفعل الشيوعية أو النصرانية أو اليهودية أو البابية أو البوذية التي تدعو وتضخم وتقول: عندنا وعندنا!! فإذا أتيت إليها وجدتها هباءً منثوراً, لا تجد منها شيئاً, إنما الإسلام ينصب نفسه، ويقول: من يريدني فليأتِ, سواء أكان الآتي ملكاً أو وزيراً أو غنياً أو فقيراً.
يقول سيد قطب: إن هذا الدين خال من الطلاء, من أراده أتاه لذاته, فأتى زيد بن حارثة، ووضع كفه في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعلمه صلى الله عليه وسلم ورَّباه, وما ظنكم بإنسان كأنه أبوه, كان يدعى زيد بن محمد , ومن لطافته صلى الله عليه وسلم أنه ما أثار ولا خدش ولا جرح شعور إنسان رافقه في الحياة الدنيا ولو بكلمة, حتى أعداؤه من الكفار, ونتحدى أن يأتينا عدو من أعداء الإسلام بكلمة نابية قالها صلى الله عليه وسلم لأعدائه, فهذه كتب الحديث والسيرة والتراجم, تعالوا بكلمة واحدة نابية مؤذية أو جارحة للشعور قالها صلى الله عليه وسلم حتى لأعدى أعدائه, فقد بُصِقَ في وجهه صلى الله عليه وسلم, ونُثر التراب على وجهه, وأُهينت كرامته في الحرم وضربت بناته, وطرد من دياره, وقوتل وأوذي وسُب, وشُهِّر في كل مكان, وما قابل ذلك إلا بالسكوت وبالصمت وبالحكمة وبالأناة وبالحلم، حتى يقول الله من فوق سبع سماوات: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
من يتحمل مثلك هذه الأمم؟ من يستطع مثلك أن يشق طريق الحياة بعزم وتصميم وخلق حسن؟
ويقول سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
فجاء أبو زيد بن حارثة , وجاء أعمامه, وكانوا يُعلنون عنه في سوق عكاظ: من وجد ابن حارثة؟ -والجريدة التي اسمها عكاظ سميت باسم سوق عكاظ آنذاك- فقال لهم رجل: أنا وجدت غلاماً اسمه زيد يمشي مع الذي ادعى النبوة، دائماً يمشي معه, فأتى أبوه وعمه وإخوانه ودخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأول ما رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم انشجروا، أي: تصوروا أن العرب يعيشون في الصحراء في مكة تحرقهم الشمس فتؤثر في أبدانهم وألوانهم إلا الرسول عليه الصلاة والسلام, فكأنه أتى من السماء, وجهه كالقمر ليلة البدر, حتى من رآه يعرف أنه ليس بكذاب, حتى اليهود قالوا ذلك, فلما رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم خجلوا, كان قصدهم أن يضاربوا ويصارعوا من أخذ ولدهم, لكن لما رأوه صلى الله عليه وسلم وجلوا وخافوا, فقالوا: هذا ابننا, قال صلى الله عليه وسلم: {أهذا أبوك؟ قال: نعم.
قال: وهذا عمك؟ قال: نعم.
قال: اختر إن شئت أن تذهب إليهم فاذهب، وإن شئت أن تبقى معي فابق معي, فدمعت عينا زيد , وقال: يا رسول الله! أتتركني؟ قال: أنت بالخيار، إن تردني فأنت معي, قال: والله لا أريد إلا أنت في الدنيا وفي الآخرة.
فبكى صلى الله عليه وسلم, وقال: أنت معي, قال أبوه: أنا أبوك, وقال عمه: أنا عمك, وقال إخوانه: نحن إخوانك، كيف تتركنا وتذهب إلى محمد؟ قال صلى الله عليه وسلم: قد قلت لكم: إن أرادكم فليذهب معكم، وإن أرادني فليبق معي, قال: لا أريد إلا أنت يا رسول الله}.
فذهب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, واستمرت به الحياة, وطالت به حياته وأيامه التي لا تنسى مع الرسول صلى الله عليه وسلم, ما كان يغضبه أبداً, بل كان -كما في السيرة- ما قام صلى الله عليه وسلم إلا لقلائل من الناس, فما كانت عادته أن يقوم صلى الله عليه وسلم من مجلسه.
يأتي بعض ملوك العرب وفيهم من الكبر والعتو، ويريدون أن يقوم لهم الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يقوم, يسلمون ويجلسون هنا وهنا, فإذا أتى زيد بن حارثة قام صلى الله عليه وسلم، وشق الصفوف، وعانقه وأجلسه بجانبه, لماذا؟ ليخبر الرسول صلى الله عليه وسلم الإنسانية أن هذا الدين دين قيم وأخلاق وتعامل, لا دين مناصب ووظائف وشارات وأوسمة.(284/3)
استشهاد زيد بن حارثة في معركة مؤتة
أتت معركة مؤتة التي في الأردن في معان -وسوف أسوق لكم هذا لأجل الشهادة التي تليت، نسأل الله تعالى أن يشرفنا بالشهادة، وأن يتوجنا بتاجها, فإن من سأل الشهادة أعطيها ولو لم تصبه, إذا سألتها بصدق ولو لم تمت شهيداً أعطاك الله الشهادة ولو مت على فراشك- فأتت معركة مؤتة، وحضر الصحابة رضوان الله عليهم, بنو هاشم وبنو عبد شمس, أعظم أسر في الدنيا وفي الكرة الأرضية, ما خلق الله في المعمورة، لا في آسيا ولا في أفريقيا ولا في استراليا ولا في أوروبا ولا الأمريكتين أعظم من بني هاشم وبني عبد شمس, فأتوا لأنهم يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يجهز جيشاً، فيريدون أن يكونوا قواداً, ليشرفهم صلى الله عليه وسلم بأن يعطيهم الراية, فخطب صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن الروم أصبحوا في بلد معان في الأردن , وأن عدد الروم ما يقارب مائة وثمانين ألفاً, فاختار ثلاثة آلاف من الصحابة إننا نقاتل بالحفنات لكن معنا لا إله إلا الله والأعمال الصالحات، نحن لا نقاتل الناس ببشر، ولا بكثرة معدات وإنما نقاتلهم بلا إله إلا الله مع الإعداد, فلما جهز صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف, قال: {من نولي عليكم؟} كلٌ رفع رأسه, الإمارة محبوبة وطعم، وهي أشهر من هاروت وماروت, ولذلك فإنك تجد حتى الأطفال في البيت وهم صغار يحبون الإمارة وهم في الصغر, إذا قلت: من يفتح الباب؟ يتقافزون على فتح الباب, لأن الإنسان يريد الناموس, فسكت بعضهم وبعضهم استشرف, فقال: {قم يا زيد بن حارثة} -والرسول صلى الله عليه وسلم مما علمه الله أن زيد بن حارثة سوف يقتل- قال: {فإذا قتلت فليتول بعدك جعفر بن أبي طالب.
فقام جعفر , قال صلى الله عليه وسلم: وأنت يا جعفر إذا قتلت فليتول بعدك عبد الله بن رواحة} وذهب الجيش، وودعوا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبدأت المعركة، ولبس زيد بن حارثة أكفانه؛ لأنه أراد ألا يعود مرة ثانية, وولّى وجهه شطر الأعداء، وأخذ يقاتل من الصباح إلى قبيل الظهر, حتى كلّت يداه من كثرة الضرب, وفي الأخير ضُرِبَ رضي الله عنه وطعن ووقع شهيداً على الأرض, والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، والمعركة في معان قريب مؤتة في الأردن , والرسول صلى الله عليه وسلم يعيش لحظات المعركة, لحظة بلحظة وحركة حركة, وسكنة سكنة، يطلع عليهم, فلما قتل زيد بن حارثة التفت صلى الله عليه وسلم، وبكى وبجانبه أسامة ولد زيد، فدعاه صلى الله عليه وسلم وقبّله، فقالوا: ما لك يا رسول الله؟ قال: {شوق الحبيب لحبيبه.
قالوا: أحدث شيء؟ قال: قتل زيد بن حارثة}.
وأخذ الراية جعفر رضي الله عنه، أأخذها ليستميت؟ لا.
تناول السيف وأخذ الراية رضي الله عنه، وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إن لاقيتها ضرابها
ثم أخذ يضارب حتى قرب العصر, ثم قطعت يده اليمنى، ثم أخذ الراية باليسرى, فقطعت اليسرى, فضم الراية, فضرب بالرماح على صدره رضي الله عنه فوقع شهيداً, فقال صلى الله عليه وسلم، وهو يبكي: {وأخذ الراية جعفر فقتل وأبدله الله مكان يديه جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء} ثم قام من مجلسه صلى الله عليه وسلم, وأتى إلى أبناء جعفر في بيتهم مع أمهم أسماء بنت عميس الخثعمية , فقال صلى الله عليه وسلم: {أين أبناء أخي جعفر؟ وهو يبكي, فأخذت تولول وتبكي، عرفت أن في الأمر شيئاً, فقالت: يا رسول الله! قتل جعفر؟ قال: نعم, قالت: من أبونا إذاً؟ قال: أنا أبوكم بعد أبيكم، أنا وليكم في الدنيا والآخرة} ثم أخذ صلى الله عليه وسلم أطفاله، وأخذ يضمهم ويقبلهم عليه الصلاة والسلام.
وعاد إلى مكانه ليتابع ما تنتهي إليه المعركة, فأخذ الراية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه وكان صائماً, ومع الغروب دعي إلى أن يأخذ الراية فتلكأ, لأنه يريد أن يفطر على شيء, لأنه جائع من الصباح, فناولوه قطعة لحم فأخذ يأكل فما استساغها؛ يرى الرايات تتكسر والسيوف تتحطم, والرماح وشظايا السلاح تتدفق على رءوس الناس معركة طاحنة اشتدت قبل صلاة المغرب, وهو القائد المعين من الرسول صلى الله عليه وسلم ليأخذ مكانه, فألقى العظم هذا, ولم يأكل شيئاً, وقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
ثم قتل رضي الله عنه وأرضاه, فرفع الله هؤلاء الشهداء, وقام عليه الصلاة والسلام على المنبر، وقال: {لقد ارتفعوا على أسرة من ذهب، ودخلوا الجنة وفي سرير ابن رواحة ازورار} رضي الله عنهم وأرضاهم.
هذه هي الشهادة, وهذه هي أعظم المنازل بعد منزلة النبوة, وعلى المسلم أن يتشرف لها دائماً، وأن تكون همته عالية, لأن أي حياة ليس فيها طلب شهادة أو طلب استقامة أو طلب تضحية أو طلب فداء فهي حياة بهائم، نسأل الله العافية!(284/4)
أسامة بن زيد يتولى قيادة جيش المسلمين
أما ابنه أسامة رضي الله عنه وأرضاه فقد عاش مع الرسول صلى الله عليه وسلم مدللاً, حتى كان صلى الله عليه وسلم يمسح على رأسه ويلاعبه، ويقول له: {لو أن أسامة جارية لحليته بالذهب}
عاش أسامة وكان كأبيه يصلح للقيادة رضي الله عنه, ولاه عليه الصلاة والسلام القيادة وعمره ثمان عشرة سنة, فلما ولاه القيادة أتدرون من الجيش أو من الجنود؟
كان عمر بن الخطاب، الذي تهتز له الدنيا تحت قيادة أسامة بن زيد، ومعه عثمان، وعلي، وخالد بن الوليد والسادات الكبار, فلما ذهبوا أخذوا يتكلمون بينهم ويقولون: يولي علينا صلى الله عليه وسلم هذا الغلام؟!
فأخذ الكلام يدور فيما بينهم حتى وصل الكلام أسامة رضي الله عنه وأرضاه, فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تترقرق دموعه، يقول: {يا رسول الله! نقموني في إمارتي، وقالوا: إني لست أهلاً.
فجمعهم صلى الله عليه وسلم، وقال: نقمتم على أسامة إمارته، والله لقد كان خليقاً بالإمارة، وإن أباه قبله خليقاً بالإمارة} أي: أنه أهل لها وكفء.(284/5)
أسامة بن زيد يشفع للناس عند الرسول
عاش رضي الله عنه وأرضاه حتى كان الناس يتشفعون به في حوائجهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, فقد كان يقبل منه لأنه كان قريباً منه, ومن ضمن الشفاعات التي شفع فيها أسامة بن زيد: القصة التي في الصحيحين عن عائشة في قصة المخزومية التي سرقت، وهي امرأة من بني مخزوم, وبنو مخزوم أسرة أبي جهل وخالد بن الوليد، كان الناس يمشون على الأرض وهم يمشون في الهواء من الكبر, حتى يقول معاوية رضي الله عنه: [[لا تجدوا مخزومياً إلا متكبراً إلا من أصلحه الله بالإسلام كـ خالد]] أما هم في الجاهلية فما كانوا ينظرون إلى الناس, أسرة قوية كانوا يكسون الكعبة سنة, وقريش كلها تكسوها السنة الأخرى, كان الذهب عندهم يقسم بالفئوس, فلما أتى الإسلام أتت امرأة منهم كانت ذكية، تستعير الحلي من جارتها من ذهبها وفضتها، فإذا مكثت عندها شهراً جحدت، وقالت: ما استعرت منك شيئاً, فطال الأمر وانتشر الخبر بين الناس, وفي الأخير شكوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, فأتي بها، فأقرت واعترفت أنها كانت تستعير الحلي وتجحده، فقال صلى الله عليه وسلم: {لا بد من قطع يدها} فسمع بنو مخزوم فقامت قيامتهم, قامت الحرب العالمية الثالثة!! قالوا: كيف يقطع يد امرأة منا؟ كيف نخرج عند العرب بعدها؟ وكيف نجالس؟ ومن الذي سوف يرفع لنا ذكرنا بعدها؟ فأرادوا التوسط في القضية, فقالوا: لا نرى إلا أسامة بن زيد ذاك الشاب الحبيب عند الرسول صلى الله عليه وسلم, فورطوا أسامة رضي الله عنه وأرضاه, فتورط وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: {يا رسول الله! أرى أن تسامح وتعفو عن المخزومية، فقال صلى الله عليه وسلم: ماذا تقول؟ قال: أرى أن تعفو عن المخزومية، قال: التي تجحد العارية؟ قال: نعم.
قال: أتشفع في حدٍ من حدود الله؟ ثم تغير وجهه صلى الله عليه وسلم، وأخذ يرفع صوته على أسامة , ثم جمع الناس وارتقى المنبر، وقال: أيها الناس: إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد -وحاشاها أن تسرق- سرقت لقطعت يدها} ثم قام صلى الله عليه وسلم فنفذ فيها الحكم.
واستمر أسامة، ثم توفي رضي الله عنه وأرضاه فيما بعد، وقد رزقه الله المراتب العالية في خدمة هذا الدين, وشَّرفه، ورفع ذكره, وأخفض الله ذكر أعدائه من أبي جهل وأبي لهب، فلا يذكرون أبداً إلا بالخسة والحقارة والمهانة.(284/6)
فضل الوضوء
معنا درس لطيف خفيف، وهو قول الإمام البخاري: باب فضل الوضوء, والغر المحجلون من آثار الوضوء.
وليس معناه: باب فضل الوضوء والغر المحجلون، كان يقول: الغر المحجلين, لكنه قطع الكلمة وجعل فاصلة ثم بدأ (والغر) مبتدأ، وصفته (المحجلون) من آثار الوضوء، أي: ما لهم من الثواب، وخبره محذوف.
قال: عن نعيم المجمر -سمي مجمراً لأنه كان يجمر المسجد في عهد أبي بكر وعمر , أي: كان يبخر المسجد- قال: رقيت مع أبي هريرة رضي الله عنه على ظهر المسجد فتوضأ، فقال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء, فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل} في الحديث قضايا:(284/7)
المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: أمتي؟
والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: {إن أمتي} هي أمة الاستجابة وليست أمة الدعوة, أي: التي أجابت الرسول صلى الله عليه وسلم وأطاعته واتبعت هداه، هذه هي المقصودة في الحديث, أما أمة الدعوة فتشمل الذي استجاب والذي لم يستجب, فاليهود والنصارى والمجوس والشيوعيون وغيرهم يدخلون في أمة الدعوة, فإنهم مدعوون, وأما أمة الاستجابة فهي كهذه الأوجه النيرة الباسمة من أمة الاستجابة التي استجابت للرسول صلى الله عليه وسلم.(284/8)
بعض خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم
يقول عليه الصلاة والسلام: {إن أمتي يدعون} أي: ينادون على رءوس الأشهاد تشريفاً وتعظيماً واحتراماً لهم {يدعون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء} إن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من الخصائص أكثر من مائة خصيصة أو ميزة تمتاز بها عن غيرها من الأمم.
الميزة الأولى: أن توبتنا في الاستغفار والندم والإقلاع, أي: أننا إذا عصينا الله وأردنا أن نتوب فما علينا إلا أن نندم ونستغفر ونتوب إلى الله عز وجل, أما من كان قبلنا فتوبتهم أن يقتلوا أنفسهم, كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في بني إسرائيل, ولذلك لما عبدوا العجل أوحى الله إلى موسى أن استدع منهم سبعين ليلاقوا الله عز وجل, فاستدعى من خيارهم سبعين, فلما كلمهم الله عز وجل, قال: عودوا وتوبوا وتوبتكم أن تقتلوا أنفسكم.
فحضر بنو إسرائيل كلهم جميعاً، وأخذوا السكاكين في أيديهم، وأنزل الله عليهم غماماً من السماء (سحابة) حتى غطت على رءوسهم فلا يرى بعضهم بعضاً، فأصبحوا مثل الليل, فأخذ الإنسان يقتل أخاه وأباه وعمه وخاله وقريبه, وأخذت المرأة تقتل زوجها حتى تقاتلوا جميعاً, قال بعض المفسرين: فقتل منهم سبعون ألفاً هذه هي توبتهم.
أما نحن فنتوب ونستغفر الله مهما فعلنا, فمن يذنب في الإسلام فما عليه إلا أن يتوب ويستغفر, ومن يشرب الخمر, ومن يشرك, ومن يفعل الأفاعيل، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
الميزة الثانية: أن أول أمة تحاسب يوم القيامة هي أمة الرسول صلى الله عليه وسلم, يقول صلى الله عليه وسلم: {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة} الآخرون، أي: آخر الأمم، لكن نأتي يوم القيامة سابقين بإذن الله عز وجل, نحاسب قبل الناس وندخل الجنة قبل الناس.
هذه امرأة أعرابية تمتدح جملها, تمشي في آخر القافلة، ولكن إذا وصلوا منازل القرى وصلت قبل الجمال، تقول:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
فيقول صلى الله عليه وسلم: {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا} , فأول من يحاسب أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول البوصيري في قصيدته التي لخبط فيها, والبوصيري صوفي أتى بشركيات وبدعيات، لكنه أتى بأبيات جيدة, فما مثله إلا مثل من يأتي بالدر فيجعله في المزبلة ثم يخلطه يقول:
بشرى لنا معشر الإسلام أن لنا من العناية ركناً غير منهدم
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
الميزة الثالثة: تفضيلهم بيوم الجمعة, فليس هناك أمة من الأمم لها يوم الجمعة إلا نحن والحمد لله, أضل الله أهل الكتابين عن يوم الجمعة, أرادوا يوم الجمعة فأضلهم الله عنه وأعماهم؛ لأنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا يريد لهم فلاحاً, فأما اليهود فأخذوا يوم السبت، والنصارى أخذوا يوم الأحد.
ومن النكات العجيبة التي سمعنا بها أن بعض المسلمين في أمريكا لما دخلوا الإسلام أرادوا أن يتعاطفوا مع الشعب الأمريكي؛ لأنهم قريباً دخلوا في الإسلام، وليس عندهم فقه في الدين, قالوا: نريد أن تنقلوا لنا صلاة الجمعة إلى يوم الأحد! من أجل أن يكون العيد والعطلة واحداً؛ لأن الأمريكان كلهم يشتغلون في يومي الجمعة والسبت ولا يعطلون إلا يوم الأحد, فقالوا: ما رأي السماحة وأصحاب الفضيلة في نقل صلاة الجمعة إلى يوم الأحد، أفتونا مأجورين؟ هذا فقه عجيب!
يقولون: شريك بن قرة أحد العرب، وكانوا يذكرونه مثل ابن الجوزي وغيره, يقولون: صلّى الجمعة بأعراب في خراسان يوم الإثنين -والعهدة على الراوي- لكن لا ندري أهو صحيح أم لا؟!
فوقف شريك بن قرة على المنبر, يقول ابن الجوزي: وقف على المنبر وكان عامياً لا يعرف شيئاً لا من الكتاب ولا من السنة وهو من أجهل الناس, لكنه غلب أهل خراسان بالسيف، فلما ارتقى إلى المنبر، قال: صدق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:
اعملي أم خالد رب ساع لقاعد
.
فهذا بعض الفقه العصري يصل إلى هذه المرتبة.
الميزة الرابعة: ومن الميز لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: الوسطية، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] أي: عدولاً، وهو الراجح عند أهل العلم؛ لأن بعض الناس يقول: وسط أي: أفضل؛ لكن ليس هذا هو الوسط, والوسط: هم العدول أو الخيار {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أي: أعدلهم, وقيل: أخيرهم, وقيل: وسطاً، أي: أنكم متوسطون، وذهب إلى هذا سيد قطب , وأنا أدعوكم إلى مراجعة هذه الآية في ظلال القرآن، فقد أتى بتفسير عجيب ما سمع الناس بمثله, يقول: نحن أمة وسط في الأفكار والشعور, لا نميل مع أهل الخيال بخيالهم، ولا نميل مع أهل الجمود في جمودهم, ونحن أمة وسط في العبادة، لا نميل مع أهل الشهوات كاليهود فنترك العبادة، ولا نميل مع أهل الصوامع والرهبنة كالنصارى فتقتلنا العبادة, ونحن أمة وسط في الجمال والروعة والفن, وفننا وروعتنا الواقعي يوافق الحس والعقل, ولا نميل مع أهل الخيال الجامح الذين يرسمون الخيالات ويظنون أنها أمجادهم, لأن الرسامين في إيطاليا وأسبانيا وغيرها هم عندهم كأنهم ملائكة نزلوا من السماء, أهل رسم وأهل فن؛ لأنه ليس لهم رسالة في الحياة.
قال: ونحن وسط في العقيدة؛ فنعظم الله عز وجل كل التعظيم, ونقدر الرسول صلى الله عليه وسلم ونحترمه, لكن لا نقدسه صلى الله عليه وسلم، ولا نرتقي بمكانته مرتبة النبوة كما فعل النصارى، ولا نذمه صلى الله عليه وسلم، ولا نطرحه، ولا نقتل أنبياءنا كما فعل اليهود.
فالوسط هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.(284/9)
معنى الغرة والتحجيل في الوضوء
قال صلى الله عليه وسلم: {إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً} الغرة: هو البياض في وجه الفرس, تقول العرب للفرس: الأغر، إذا أتى البياض في وجهه مستديراً أبيض وباقي جسم الفرس أسود أو أحمر, وإذا أتى في يديه ورجليه، قالوا: أغر محجل, فيقول صلى الله عليه وسلم: {إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين} لأننا نتوضأ ونغسل وجوهنا, فمكان الوضوء الذي يصله الماء يأتي يوم القيامة أبيض كالبدر, من كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم, أما الأمم الأخرى فتأتي عادية, اليهود ألوانهم تعرف فلا يأتي عليهم غرة, والنصارى ليس عندهم تحجيل, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أن هذه أمته، فيستدعيهم ويرحب بهم صلى الله عليه وسلم، ويردهم الحوض المورود، ويسقيهم عليه الصلاة والسلام.
يقول صلى الله عليه وسلم: {إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء} أي: على أثر الوضوء, أو بسبب الوضوء, ثم قال: {فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل} وكأن كلمة (من استطاع أن يطيل غرته فليفعل) من كلام أبي هريرة , قال بعض الحفاظ من المحدثين: كلمة (من استطاع منكم أن يطيل غرته) من كلام أبي هريرة!
أي: ليست من مشكاة النبوة، إنما من كلام أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.
وكان أبو هريرة إذا حدث في بعض الأحاديث وزاد فيها قال: هذه من كيسي, وهكذا ذكرها أهل التراجم مثل صاحب كتاب الدفاع عن أبي هريرة.
فالمقصود من الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يندبنا إلى أن نعتني بالوضوء ونكمله, وأن نحرص على هذه الشعيرة؛ لأن الغرة تأتي على قدر ما في الوجه {محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل}.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل} قيل: أنه يطيل ويبالغ في الغرة أو يوسعها؛ كأن يتوضأ إلى الكعب، وقال بعض أهل العلم: ليست الغرة في الوجه إنما الغرة في اليدين والرجلين، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته في يديه ورجليه, لكن التحجيل في اليدين والرجلين والغرة في الوجه, لكن هذا كأنه من حمل بعض الشيء على بعض, ومقصود أبي هريرة أن من استطاع منكم أن يطيل غرته، أي: يبالغ في الوضوء, ويزيد هنا وهنا, فعليه أن يفعل, وهذه السنة كان يفعلها أبو هريرة رضي الله عنه.
قال نعيم المجمر: رقيت مع أبي هريرة على سطح المسجد، فرأيته يتوضأ فرفع ثيابه حتى بلغ الكتفين، ثم توضأ إلى العضدين, قال: فسألته, فقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا ًمحجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع أن يطيل غرته فليفعل}.
ما هو موقف أهل العلم من رواية: {من استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل} هل هي معتبرة أم لا؟
الصحيح أن هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفعه عن الكعبين والمرفقين, لكن ما كان يبلغ به الكتفين عليه الصلاة والسلام, وهذا من فعل أبي هريرة , فنحن نأخذ بما رأى، أي: بما نقل إلينا من الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا نأخد بما رآه هو أو بما استنبطه ووجده واستنتجه من النص, لأن كثيراً من الصحابة يروون أحاديث ويفسرونها، فنأخذ بالرواية ولا نأخذ بالتفسير إلا إذا كانت صحيحة.
يقول شاعر الشام يمدح الوضوء وأهل الوضوء:
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا
وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
بلال مات رضي الله عنه, لكن يقول: قل لبلال قلبك إذا توضأت وأنت على الفراش، والنوم على أجفانك، وسنة النوم تداخل في كراك, وأنت تسمع داعي الله على المآذن، والبرد شديد وقارس, والفراش وثير، واللحاف دفيء وتسمع: (الله أكبر) والشيطان يقول: نم, فتريد أن تقوم, فيقول: نم, فتريد أن تقوم, والشيطان يقول: نم, فيقول الشاعر:
وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا(284/10)
الأسئلة(284/11)
حكم مسح الرقبة
السؤال
هل مسح الرقبة من إطالة التحجيل؟
الجواب
ليس مسح الرقبة من إطالة التحجيل، إطالة التحجيل في غيرها, أما مسح الرقبة فيذكرنا بقول الشاعر العربي:
أم الحليس لعجوز شهربة ترضى من اللحم بعظم الرقبة
الشاهد أن الرقبة تطلق في الإنسان وفي غيره.(284/12)
صيام شهر رمضان ليس من خصائص هذه الأمة
السؤال
هل صيام شهر رمضان من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
الظاهر أن الذين قبلنا صاموا بل هو الصحيح, لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
وهنا مداخلة للشيخ جبريل جزاه الله خيراً، فمن مثله نستفيد.
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
والقضية التي ذكرها قد ذكرها الطبري في تفسيره , عند قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة:51] السبب أن موسى عليه السلام فيما يذكر ابن عباس: أنه صام ثلاثين يوماً, فلما صام ثلاثين تغير فمه هكذا يذكرون, وقصص بني إسرائيل -كما تفضل الشيخ- كالوردة تشم ولا تعك، لا تصدقوهم ولا تكذبوهم, يقول الإمام مالك: أهل العراق مثل بني إسرائيل لا تصدقوهم ولا تكذبوهم.
فالمقصود: أن موسى عليه السلام لما صام ظهرت من فمه رائحة -خلوف فم الصائم- فأخذ سواكاً وتسوك, فلقي الله عز وجل، فأوحى الله إليه: يا موسى! أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك؟ عد فصم عشرة أيام, فعاد {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف:142] فعاد فصام عشرة، فأصبحت أربعين.
لكن السؤال الذي يتوجه: هل اسم رمضان، أو هذا الشهر بالذات كان يصام من قبلنا؟ لا ندري، إنما الأسماء أسماء إسلامية {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} [التوبة:36] أما الأسماء فهي إسلامية بلا شك, والرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم والعرب تصوم من باب أولى، لكن صام صلى الله عليه وسلم ثمان رمضانات، وقد فرض في السنة الثانية.(284/13)
مقولة الإمام مالك في أهل العراق
السؤال
ما مقصود الإمام مالك في قوله: أهل العراق مثل بني إسرائيل لا تصدقوهم ولا تكذبوهم؟
الجواب
المقصود أن هذا في زمن الإمام مالك , أما الآن ففيهم صالحون، وأولياء، وعلماء، وأخيار، وبررة إن شاء الله, ففيهم مثلما فينا, أي: كل بيت بما فيه.(284/14)
حيل بني إسرائيل
السؤال
ما هي حيل بني إسرائيل؟
الجواب
من حيل بني إسرائيل: كلما حرم الله عليهم شيئاً لفوا وأتوا من جانب آخر, فقد حرم عليهم الشحوم كما في صحيح مسلم في حديث جابر فقالوا: إن الله حرم الشحوم أن نبتاعها وأن نذيبها, ولكن ما حرم علينا الحميس هذا, الذائب منه لم يحرمه علينا, فأذابوه على النار، وقالوا: ليس بشحم, إنما هو ذائب وباعوه, وحرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت, فماذا فعلوا؟ حفروا خنادق، فتأتي الحيتان يوم السبت فيغلقون عليها ويصيدونها يوم الأحد ما شاء الله!! هذا ذكاء خارق, ولذلك قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13].(284/15)
حكم الصلاة في البيت لجار المسجد
السؤال
ما صحة حديث: {لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد}؟
الجواب
حديث: {لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد} حديث ضعيف رواه ابن عباس , وقد ضعفه أهل العلم, بعض الناس يقول: الحمد لله! فتح الله علينا ضعف الحديث، فيذهب يصلي في البيت، لا.
هناك أحاديث تكفي في البخاري ومسلم، منها: حديث التحريق أن الرسول صلى الله عليه وسلم همّ أن يحرق عليهم بيوتهم بالنار لولا ما فيها من الذرية، وجاء من حديث ابن أم مكتوم: {أتسمع النداء؟ قال: نعم, قال: فأجب فإني لا أجد لك رخصة} , وحديث آخر صحيح: {ما من ثلاثة في قرية من قرى لا تقام فيهم الجماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان} نعوذ بالله من الشيطان.
في الختام: نسأل الله عز وجل أن يتولانا وإياكم، وأن يهدينا وإياكم إلى سواء السبيل، وأن يتوب علينا وعليكم، وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه, كما أسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم, وأن يتغمدنا وإياكم برحمته، وأن يجعلنا من عتقاء هذا الشهر إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(284/16)
تعظيم شعائر الله
لا يزال المؤمن يخطئ ويخاف، أما المنافق فإنه عديم الإحساس، فالأول يعظم شعائر الله، والثاني قد امتهن شعائر الله، وفي ثنايا هذا الدرس صور لا متهان شعائر الله كما فيه صور لتعظيم شعائر الله ممثلة في الصحابة والتابعين، وفيه تعرض إلى الموقف الشرعي من ذلك، وماذا يجب علينا أن نفعل؟(285/1)
مراقبة المؤمن وخوفه الدائم من الله
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، الحمد لله الذي رفع السماء بلا عمد، وبسط الأرض ومهد.
الحمد لله الذي خلق الإنسان في كبد، والصلاة والسلام على معلم الخير، وهادي الإنسان، ورسول البشرية، ومعلم الإنسانية، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أمَّا بَعْد:
أيها الناس! فإن المؤمن يحسن ويخاف، وإن المنافق يسيء ويرجو، المؤمن مرهف الإحساس حي العاطفة، يعظم شعائر الله وحرماته الله، ويراقب الله في السر والعلن، وفي الجلوة والخلوة، ويرى ذنوبه كما في الأثر: {كأنه جالس في أصل جبل يخاف أن يقع عليه}.
والمنافق يمشي قُدماً، يرى ذنوبه كأنها ذباب مر بأنفه، فقال به هكذا فلا يخاف منها، والمنافق يخاف من الناس أعظم من خوفه من الله، قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء:108] يستحيون من الناس ولا يستحيون من الله، يقِّدرون الناس ويوقرونهم ولا يوقرون الله تبارك وتعالى، فتعالوا نرى كيف كان السلف الصالح يخافون الله ويراقبونه.
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولا يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطأ(285/2)
خوف عمر من النفاق
كان عمر رضي الله عنه وأرضاه من أشد الناس خوفاً من الله، ومع ذلك كان صادقاً مع الله، وصادقاً مع الناس، ومع نفسه، قائماً لليل، وصائماً للنهار عادلاً فيما ولاه الله زاهداً في الدنيا، ومع ذلك يرى أنه هالك، فيبكي طويلاً ويقول: [[يا ليتني كنت شجرة تعضد]] ويقول لـ حذيفة الذي علمه صلى الله عليه وسلم أسماء المنافقين الذين لا يدخلون الجنة: [[يا حذيفة! أسألك بالله، أسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟]].
لا إله إلا الله! إذا لم تكن يا عمر مؤمناً فمن هو المؤمن؟! وإذا لم تكن صادقاً فمن هو الصادق؟! وإذا لم تكن مخلصاً فمن هو المخلص؟! لا إله إلا الله! بذلت مالك ودمك في خدمة لا إله إلا الله، وتبكي على نفسك أن تكون منافقاً!
جلس الصحابة في مجلس، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام: {أيكم يحفظ قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ فقال حذيفة: أنا، قال عمر: إنك عليها لجرئ -أي: تستطيع أن تتكلم في هذه المواضع الخطيرة- قال: نعم.
قال: ماذا سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الفتنة؟ قال: يقول: فتنه الرجل في أهله وماله، يكفرها الصوم والصلاة والصدقة، -أي: سبه وشتمه لأهله، كفارتها الصوم والصدقة والصلاة- قال عمر: ليس عن هذا أسألك، لكن عن الفتنة التي تموج موج البحر، ما هي كفارتها؟ -أي: فتنة الدماء، وفتنه أن يسل السيف على المسلمين، وفتنة الاختلاط، والزندقة والنفاق والإلحاد- قال حذيفة: يا أمير المؤمنين! لا تخف، إن بينك وبينها باباً قال: أيفتح الباب أم يكسر؟ والباب في الفتنه هو عمر بن الخطاب فيوم قتل بدأت الفتنه، وسل السيف على الأمة المحمدية، وبدأت الفتنة في الجزيرة العربية تموج موج البحر، قال: يا أمير المؤمنين! إن دونك ودونها باباً، قال عمر: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: بل يكسر، فدمعت عينا عمر وقال: الله المستعان! فسئل حذيفة: هل علم عمر من هو الباب؟ قال: إي والذي نفسي بيده، إنه علم كما علم أن دون الليلة البارحة} ويوم اغتيل أتته سكرات الموت، رضي الله عنه وأرضاه فما بكى على أطفاله أو على أمواله أو منصبه، أو وظيفته، ولكن بكى ذنوبه وخطاياه.
حياءً من إلهي أن يراني وقد ودعت دارك واصطفاك
فيقول: [[يا ليت أمي لم تلدني]] ودماؤه تثعب، مات شهيداً في سبيل الله، قالوا: مالك، قال: [[ذنوبي وخطاياي يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت شجرة تعضد، يا ليتني ما توليت خلافة، يا ليتني ما عرفت الحياة]] هذا وهو عمر رضي الله عنه وأرضاه، فكيف بنا أهل الذنوب والخطايا؟ ذاك وهو المؤمن الذي يصوم ويتصدق، ويعمل صالحاً، ويتوب ويخاف من الذنوب.
والمنافق يترك الصلوات، ويلعب بالمحرمات، وينتهك حقوق الواحد الأحد رب السماوات، ويضحك.
ويتكلم بالنفاق، ويعمل بالنفاق ويضحك.
إذا بايع الناس غش وظلم، وإذا أخذ المال وأعطاه رابى، وإذا خاصم فجر وشهد شهادة الزور، ولعن وتعدى وهو يضحك قاطع للرحم عاق للوالدين فاجر في بيته ومجتمعه، وفاجر مع أمته وهو يضحك.(285/3)
نماذج أخرى من خوف الصحابة
لقد كان أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر الناس خوفاً من الله؛ أتى أحدهم والرسول صلى الله عليه وسلم محاصر ليهود بني قريظة، فأرسله صلى الله عليه وسلم، وقال: {اذهب إلى هؤلاء اليهود، وفاوضهم علَّهم أن ينزلوا على حكم الله، فدخل على اليهود، فقال اليهود له وهم يتباكون نساءً ورجالاً شيوخاً وأطفالاً، قالوا: ترى ماذا يصنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأخذته الرحمة لكن في غير موضعها، والرقة بأعداء الله، إخوان القردة والخنازير، فأشار إليهم ألا ينزلوا، وهي خيانة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لم يتكلم، وإنما قال بيده على عنقه هكذا -أي: انتبهوا، لا تنزلوا فإنه سوف يذبحكم ذبحاً- وخرج من الحصن، وشعر أنه قد خان الله ورسوله، وخان دين الإسلام، فذهب إلى المسجد فربط نفسه بسارية في المسجد، وقال: والله الذي لا إله إلا هو، لا أطلق نفسي حتى يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ يبكي صباح مساء}.
فأخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم بخبره قال: {{ما دام أنه قيد نفسه فوالله الذي لا إله إلا هو لا أطلقه حتى يتوب الله عليه}} وأتت التوبة من السماء، يوم اعترف بذنبه وخطيئته؛ فتاب الله عليه، فأتى صلى الله عليه وسلم فحل وثاقه بيده الشريفة.
وحين أنزل الله قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2].
ومعناها: لا ترفعوا أصواتكم، وتأدبوا عند المصطفى، صاحب الرسالة الخالدة صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت أتى ثابت بن قيس بن شماس وهو خطيب الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يخطب في حماية الإسلام، وفي الدفاع عن الإسلام فيرفع صوته على صوت الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس هذا مقصوداً في الآية، لأن الآية تعني الذين لا يتأدبون، أما هو فيرفع صوته براية الحق، فذهب فأغلق بابه في البيت؛ فبكى حتى كادت أضلاعه أن تختلف وقال: {والذي لا إله إلا هو، لا أخرج من بيتي، حتى يتوب الله علي أو أموت في بيتي]] فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة فقال: أين ثابت قالوا: يا رسول الله! نزلت الآية فظن أنها فيه فأغلق عليه بابه ولم يأكل ولم يشرب، وحلف ألا يخرج حتى يتوب الله عليه أو يموت في بيته، قال عليه الصلاة والسلام: بشروه أنه من أهل الجنة، فأتوا يطرقون عليه الباب ويبشرونه أنه من أهل الجنة، فبكى حتى أغمي عليه} حياء من الله.
وهذا هو فعل المؤمن يتقي الله ويخافه ويعظم حرماته، ويتهم نفسه.
والشاهد من هذا الكلام أنه ينبغي لنا أيها المسلمون الأبرار الأخيار! أن نعظم حرمات الله تبارك وتعالى، فحق على المسئول فينا ألا يتصرف ولا يعمل إلا وهو يعلم أن الله عز وجل حافظه ومتوليه وراعية، وأن يراقب الله في السر والعلن، وحق على من يكتب مقالة نثرية أو شعرية في الصحف والمجلات، أن يتق الله في نفسه، ويعرف أن الله سوف يجمعه ليوم لا ريب فيه.(285/4)
صور من الذين لا يخافون الله وما حل بهم
كم رأينا من أناس كتبوا فما خافوا الله، كتب أحدهم إلحاداً وزندقة يوم نسي الله فأنساه الله نفسه.
يقول أحدهم يخاطب الأمة العربية، والأمة العربية بلا إسلام أصفار، والأمة العربية بلا دين بادية مضمحلة في ثياب من الغنم، والأمة العربية بلا لا إله إلا الله محمد رسول الله أمة مهزومة فاشلة، يوم دخلت الأمة العربية بدون لا إله إلا الله محمد رسول الله ساقها اليهود وساقوا كتائبها في سيناء وفلسطين وفي كثير من بقاع الدول العربية، ساقوها بطائراتهم.
فأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا تحدت ناره الخطب
إذا تبدت لنا الميراج تقذفنا سعت لتسقطها الصيحات والخطب
فالأمة العربية إذا نزع الإيمان منها فقل: عليها السلام، وهذا مجرم لبناني يكتب في صحف لبنان الكبار، ويقول عن الأمة العربية في الحرب مع إسرائيل:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
يقول: ائيتوني بدين يجعل العرب أمة، ولو كان قومية أو بعثية أو حزبية غير الإسلام، ولو كان دين برهم الهندوسي المجرم اللعين، الذي لا يخاف موعود الله.
ويقول الثاني وقد وقف أمام سلطان من سلاطين الدنيا، وهو شاعر يمدح السلطان ونسي عظمة الله {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95] وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] يقول هذا السفيه الخرافي الذي نسي الله فأنساه نفسه، والإنسان إذا نسي نفسه تكلم بلا إيمان ونافق الناس ونسي الواحد الديان، يقول هذا للسلطان:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
يقول لهذا الفقير الهزيل الذي يموت ورزقه وحياته ووجوده وسمعه وبصره وكل شيء فيه من الله، وهو يقول هذا الشعر! فابتلاه الله بمرض أقعده على فراشه، بقي ينبح منه كما ينبح الكلب، لأن الذي لا يعرف الله، يعرِّفه الله بنفسه في الشدة فهو له بالمرصاد.
فرعون ما عرف الله وهو على الكرسي وعلى الحكم، يقول كما قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] فقاده الله بتلابيب ثيابه حتى أنزله في الطين والوحل وأمضى الأنهار والمياه على رأسه؛ فعرف الله وقت الشدة، قال تعالى على لسان فرعون: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] آلآن يا دجال! آلآن يا لعين! وقد نسيت عظمة الله وجلاله.
فابتلى الله هذا الشاعر بمرض فبكى وأبكى، وأخذ يتقلب على فراشه ويقول يخاطب رب العزة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ويعتذر:
أبعين مفتقر إليك نظرت لي فأهنتني وقذفتني من حالقِ
لستَ الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالقِ
من يعلق أمله بغير الله، يقطع الله حبله وولايته، ويقطع أثره في الأرض، ومن يعتمد على غير الله يهزمه الله ويجعله على دائرة الفشلة، وقد سمعنا ورأينا من الذين أساءوا للإسلام ولو ادعوا الإسلام، ولو سكنوا في بلاد الإسلام، ولو تكلموا بلغة الإسلام أتوا، فإذا حلت بهم الأزمات إما مرض عضال فأصبح في المستشفى على السرير الأبيض، أو أصابته كارثة في أطفاله، فعندها عرف الله فأصبح يراجع حسابه، لكن في وقت ضائع، لأنه نسي الله عز وجل، فراعوا يا عباد الله، تعظيم حرمات الله في مجالسنا واجتماعاتنا ومدارسنا.
فإن من الكلمات ما تهوي بصاحبها في النار سبعين خريفاً يطلقها بلا اعتبار، يستهزئ بالرسول عليه الصلاة والسلام، أو يستهزئ بالسنة الخالدة، أو بالدعاة والدعوة، ولم يعلم أنه يستهزئ برب العالمين تبارك وتعالى، يقول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
هذا هو الكفر والنفاق، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] لم يدخل النور والإيمان قلوبهم {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:11] لا تفسدوا في إعلامنا وصحفنا لا تفسدوا في كتبنا ومصنفاتنا، لا تفسدوا في دوائرنا ومدارسنا {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11].
أي: نحن أهل التطور وأهل التقدم، وهم الرجعيون المتخلفون المتأخرون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13] أي: المتطرفون {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:13 - 14] إذا جلسوا مع الدعاة الأخيار، والعباد والزهاد، لبسوا جلود الغنم من الليِّن، وقلوبهم قلوب الذئاب {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14 - 15].
أتدرون ما معنى الاستهزاء هنا؟ يقال في بعض الآثار الصحيحة: إن الله يأتي بهم يوم القيامة، فيجعل لهم نوراً على الصراط، فيظنون أن هذا النور بإيمان سوف ينجيهم ويجتازوا به الصراط، والصراط مظلم، نسأل الله أن ينور لنا ولكم ما في الصراط.
فإن من الناس من يأتي ونوره كالظفر، ومنهم من يأتي ونوره يلمع كالنجم، ومنهم من يأتي ونوره كالقمر، ومنهم من يأتي ونوره كالشمس، فيأتي الله بهؤلاء فيوقد لهم نوراً فيظنون أنهم في نور، فإذا أصبحوا على الصراط انطفأ نورهم فوقعوا على وجوههم {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18].
فالله الله في تعظيم حرمات الله {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30] {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] وإن منها تعظيم أسماء الله وصفاته، وكتبه، وأنبيائه، ومساجده وأوليائه، وكل ما يمت للإسلام بصلة فعظمه؛ ليعظمك الله تبارك وتعالى.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(285/5)
صور من عدم تعظيم حرمات الله
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.(285/6)
امتهان أسماء الله عز وجل
أيها المسلمون! فإن حرمات الله عز وجل صور متنوعة، ولو أنها سهلة عند كثير من الناس لكنها عظيمة، فمنها: صورة امتهان أسماء الله عز وجل في الصحف، والجرائد، والمجلات، فقد رأينا وسمعنا من أناس كثيرين امتهان كثير من الناس لهذه الأمور، والتي فيها آيات الله المحكمات، وأسماؤه المشرَّفات، فتوضع موائداً وسفراً للطعام، وتلف ويرمى بها في الأرصفة والشوارع والمزابل، وهذا استهانة بأسماء الله وآياته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، إذا كانت هذه الصحف والمجلات تحمل اسم الواحد القهار.
وفي كثير منها مقالات إسلامية وأجزاء من سور القرآن، تؤخذ عند كثير من الناس الذين ضعف عظمة الله في نفوسهم فتوضع سُفَراً للطعام، فيضعون الطعام عليها وعليها اسم الله، ثم ترمى في المزابل مع الأطعمة ومع ما يلقى من التفاهات والحقارات، وإن هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أمرين اثنين:
أولهما: قلة تعظيم الله الواحد الأحد في القلوب، وعدم الحياء منه سبحانه وتعالى.
ثانيهما: عدم الأدب والمستوى الراقي الذي لم يبلغ إليه هذا المجتمع الذي يراد منه أن يكون قدوة للناس؛ ولذلك نسمع في مجالسنا أن مدناً كافرة في أمريكا وأوروبا بلغت من تنظيف أرصفتها، وتجمعات الناس، وساحاتها وسككها أمراً عجيباً، ونحن أهل الحضارة والتقدم، وأهل الرقي نرمي صحفنا وكتبنا وجرائدنا وفيها أسماء ربنا تبارك وتعالى، فهذا يدل على التخلف في عالم الأدب، وعدم الرقي في عالم الصيانة والحضارة والمعرفة والثقافة.
ومن تلك الصور أيضاً: تساهل كثير من الناس في دخول بيوت الخلاء، وأماكن قضاء الحاجة، بأسماء الله تبارك وتعالى، أو بأوراق ومستندات فيها ذكر الله، أو بالمصحف، أو شيء من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهذه استهانة، وهي إما عن جهل وإما عن قلة إيمان، فأما الجاهل الذي لا يدري ما الحكم؟ فالحكم ألا يدخل بيت الخلاء وهو مصطحباً لها؛ لأن أسماء الله مقدسة معظمة، مساكنها المساجد وبيوته تبارك وتعالى، والشيطان يسكن في بيوت الخلاء وذريته وأقاربه وقريباته، فله من أمثاله ما يساكن ذاك المكان.
وأما قليل الإيمان فنقول له: اتق الله في نفسك، وعظم أمر الله تبارك وتعالى، حتى يعظِّمك الله.
هذا إبراهيم بن أدهم من أعظم الزهاد، كان في أول حياته مسرفاً على نفسه بالخطايا والذنوب، لكنه يحب الله، لأن بعض الناس يسيء ويذنب ولكنه يحب الله.
نزل إبراهيم بن أدهم إلى السوق وهو مسرف على نفسه، فوجد ورقة مرمية في الأرض مكتوباً عليها اسم الله تبارك وتعالى، والناس يطئونها بأقدامهم وهم داخلون إلى السوق وخارجون منه ولا يعلمون، فأخذ القرطاس فإذا فيه اسم الله، فبكى، وقال: سبحانك! يهان اسمك هنا، لا والله! فأخذ هذه الورقة وطيبها ورفعها في بيته، فلما أمسى سمع هاتفاً يقول: يا من طيب اسم الله ورفع اسم الله! ليعظمن الله اسمك، يا من طيب اسم الله، وعظم اسم الله! ليعظمن الله اسمك، فهداه الله إلى التوبة النصوح، فأصبح من عبّاد الإسلام، ولما توفي اجتمعت في جنازته ألوف مؤلفة من أمراء وقادة الجيش، والفقراء والمساكين، حتى وصلوا المقبرة وقد تقطعت أحذيتهم من كثرة الناس وازدحامهم وبعد الطريق، لأن من يعظم الله يعظمه، ومن يحتقر شيئاً من معالم أسماء الله، يحقره ويذله تبارك وتعالى.(285/7)
صور السلام والتحية في الإسلام
مما ينبغي أن نتنبه له كذلك:
صور السلام والتحية في الإسلام، وتقديس وتعظيم هذا الدين، قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44] وتحية الإسلام (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) وقد سمعنا من إذا لقي صاحبه قال: (صباح الخير) و (حياكم الله) وهذه التحية جائزة وواردة وطيبة لكن بعد تحية الإسلام، وبعد شعار الإسلام، يرفع الهاتف فيتصل بالناس فلا يسلم ولا يرد السلام، وهذه أتتنا من عالم الخواجات والوثنيات، ومن عالم الدعارة والانحطاط، ولم تأتنا من المدينة من محمد عليه الصلاة والسلام، تحيتنا السلام ونحن نسلم ونتقبل السلام؛ ليبقى شعارنا شعار السلام، فالله الله في المحافظة على شعيرة السلام، دخولاً وخروجاً، استئذاناً وزيارة لنبقى مسلمين، وهذه قضايا تطول وتطول، ولعل الله أن يهيء من الأوقات ما تبسط للناس ليعرفوا كيف يعظمون الواحد الأحد، ويعظمون الإسلام وشعائره وحرماته؟
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلَّ على نبيك محمد، اللهم اعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، اللهم وفقنا لاتباع سنتك، والسير على منهجك، اللهم ارض عن الصحابة الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، واعنَّا معهم بكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم ولِّ علينا خيارنا، اللهم أصلح ولاة أمورنا، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة التي تهديهم إلى الحق وتدلهم على الصواب، وجنبهم بطانة السوء التي ترشدهم إلى الباطل، وتدلهم على الضلال.
اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضلة، ولا فتنة مظلة برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين الأفغان الذين أعلنوا عظمة كلمة لا إله إلا الله، وقوة لا إله إلا الله، وسمو لا إله إلا الله، اللهم ثبتهم، اللهم زلزل أصنام الشرك بأيديهم، اللهم رد أرضهم عليهم، وردهم ظافرين منتصرين يا أرحم الراحمين، اللهم رد لنا أولى القبلتين على يد المسلمين في فلسطين، اللهم دمر اليهود وأعوانهم وأذنابهم وكل من أحبهم وشايعهم، اللهم خذ أعداء الإسلام أخذ عزيز مقتدر، اللهم العنهم كل لعنة، اللهم ومزقهم كل ممزق.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(285/8)
حياة شيخ الإسلام ابن تيمية
لقد أخرج الله لهذه الأمة رجالاً يجددون لهذه الأمة أمر دينها، فينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية.
والمتأمل في سيرته في مجال الدعوة، والعلم والتأليف، والتدريس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، ومحاربة البدع، يعجب أشد العجب من هذه الشخصية الفذة كيف جمعت تلك الأوصاف.(286/1)
ثلاثة أمور مهمة تتعلق بالعلم والدعوة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الجمع المبارك الكريم: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته سلام الله عليكم يوم اجتمعتم على ذكر الله وسلام الله عليكم يوم تعلقت قلوبكم لمرضاة الله وسلام الله عليكم يوم أتيتم لتسمعون دعاة الله، وتراجم أئمة هذا الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
معنا اليوم إمام عملاق، وجهبذ قدير، وعظيم في هذا الدين معنا مجدد من المجددين، وزاهد من الزاهدين، وعابد من العابدين، وعالم من العاملين بعلمهم معنا ابن تيمية، وينبغي أن تعرفوا ابن تيمية معرفة واسعة مكثفة.
اسمه: أحمد بن عبد السلام بن عبد الحليم بن تيمية الحراني.
ولد سنة (666هـ) وتوفي سنة (728هـ).
وقبل أن نبدأ في ترجمة الرجل أبين لكم ثلاثة أمور لا بد أن تعرفوها:
الأمر الأول: العلماء هم الدعاة والدعاة هم العلماء؛ فلا علم إلا بدعوة ولا دعوة إلا بعلم، يقول الله تبارك وتعالى مندداً ببني إسرائيل حينما توقف علماؤهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187].
الأمر الثاني: زكاة العلم نشره؛ فعلم لا ينشر بين الناس ولا ينفق منه كنزٌ مشئوم على صاحبه يقول أبو إسحاق الألبيري، يوصي ابنه بطلب العلم، ويمدح العلم، ثم يوصيه بنشره فيقول:
هو العضب المهند ليس ينبو تصيب به مضاربَ من أردنا
وكنزٌ لا تخاف عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث كنتا
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شدتا
الأمر الثالث: تهاون العلماء بالدعوة هزيمة للأمة؛ فما تأخرت أمة الإسلام ولا انهزمت ولا انحصرت إلا بسبب تهاون بعض العلماء عن إبلاغ دعوة الله، وعدم جلوس العلماء مع الأمة وتفهيمها، والله تبارك وتعالى يقول: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175 - 176].
معنى الآية: مثل هذا العالم الذي ما نفع نفسه وما نفع الأمة كمثل الكلب، والكلب يلهث ويمد لسانه دائماً وأبداً، سواء أكان في الظل أم في الشمس سيَّان، فهذا السيء المشئوم سواء تعلم أو لم يتعلم فحاله حاله لم يتغير.(286/2)
مؤهلات ابن تيمية في مجال الدعوة
ابن تيمية ولد في بيتٍ ملتزم عابدٍ زاهد يريد وجه الله والدار الآخرة، ونشأ على هذه الحياة.
بعضنا الآن عمره عشرون سنة ولا يعرف كيف يشتري الخبز من الفرن، والبعض عمره عشرون أو ثلاثون سنة وما يعرف البدهيات في هذا الدين؛ إنما هو سبهلل أخبل.
وهذا عمره ثمان سنوات ويمرغ وجهه في التراب مع الفجر، ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني ويبكي.
انظر إلى مستقبل هذا الذي يدعو دائماً، وينيب إلى الله ويمرغ وجهه في التراب، فعلَّمه معلم إبراهيم وفهمه مفهم سليمان، وأعطاه علماً لا كعلم بعض الناس، وفهماً لا كفهم بعض الناس علم اخترق به ما يقارب عشرة قرون، وأمضاه هذا العلم حتى أصبح مجدداً لمئات السنوات.
يقول مستشرق فرنسي وهو يترجم لـ ابن تيمية ويأخذ كلامه في التربية وعلم النفس: ابن تيمية وضع ألغاماً في الأرض، فجر بعضها ابن عبد الوهاب، وبقي بعضها لم يفجر.
ومؤهلاته في مجال الدعوة خمسة مؤهلات:(286/3)
الإخلاص والنصيحة عند ابن تيمية
المؤهل الأول: الإخلاص والتجرد والنصيحة فقصده وجه الله عزوجل، ومراده ما عند الله والدار الآخرة.
ولذلك أنصح نفسي وإياكم إذا أراد أحدكم أن يتكلم بموعظة، أو أراد أن يتحدث بحديثٍ في ناد، أو يلقي قصيدة في أمسية، أو يشارك بكلمة في حفل أو سمر؛ أن يصحح نيته ويقف مع نفسه وقلبه ويقول: ماذا أريد بهذه الكلمة؟ أليمدحني زملائي؟ أو يثني عليَّ مشرفيّ أم ماذا؟
فلذلك ينبغي أن نقف مع أنفسنا، ونمحص قلوبنا.
وابن تيمية كان من هذا الطراز؛ من المحاسبين لأنفسهم دائماً وأبداً.
يقول شيخ الإسلام: ينبغي الاعتناء بقوله صلى الله عليه وسلم: {ثلاثٌ لا يغلُّ عليهنَّ قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط بمن وراءهم} وكثيراً ما كان ابن تيمية يعيد هذا الحديث ويشرحه؛ فقد شرحه في الفتاوى، وذكره عنه ابن القيم في الوابل الصيب.
وكان يكرر ويعيد دائماً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {الدين النصيحة} ومعنى هذا الحديث: أن تنصح ولا تفضح، فالدين النصيحة وليس الفضيحة.
كتب الإمام الشافعي للإمام أحمد يخبره بأصول الدعوة؛ والإمام أحمد يعرف أصول الدعوة، ولكن الإمام الشافعي يريد أن يخبر غير الإمام أحمد؛ كأنه يقول: إياك أعني واسمعي يا جارة.
يقول الإمام الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وهذا تواضع منه.
والآن الإنسان منا الذي لا يصلي الفجر في جماعة، إذا قلت له: أنت لست من الصالحين؛ قام لمضاربتك وقال: مَنْ في الوجود من الصالحين إذا ما كنت أنا، أما تعرفني؟! فمن تقصيرنا ونقصنا ندعي الصلاح.
أما الشافعي لإمامته وجلالته وزهده وعبادته يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة
ثم يقول:
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
أي: إذا أردت أن تنصح أخاً لك ثوبه طويل؛ فلا تأت من عند المكرفون وتقول: يا فلان بن فلان ثوبك طويل، الله يجزيك بما أنت أهلٌ له، نسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إما أن يصلحك أو يزيلك فهذا مبدأ خطأ، وأسلوب غلط، يلغيه الإمام الشافعي والإمام أحمد، ويتفق الجمهور على إلغائه، بل هو شبيه بالإجماع.
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوعٌ من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعطَ طاعة
وكثير من الناس يظن أنه يدعو إلى الله وهو ينفر عنه بشدته وكلماته السيئة.
فالمقصود: أن ابن تيمية كان يريد النصيحة لعباد الله عزوجل، ويريد أن يهدي القلوب إلى الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْرِ النعم}.
إذاً ماذا نفعل مع الناس؟
الأمر الأول: إذا أردنا أن نتحدث مع الناس فيجب أن نكلمهم على أنهم بشر وليسوا ملائكة.
الأمر الثاني: أن نتكلم معهم بخلق حسن، ووجه منبسط ضاحك بالبسمة والكلمة الطيبة ولا نأتي إلى المسلم ونمسكه من تلابيب ثوبه ونجره، ونقول: اتق الله عزوجل، احضر الصلاة في المسجد، قصر ثيابك، ربِّ لحيتك هذه أوامر سلاطين المغول والتتر والبرابرة!
أما المسلم فإنه يعتني بالدعوة، ويعرف أنه يسير على منهج محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يقول الله فيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
يقول ابن تيمية في مختصر الفتاوي: بعض الناس يتعصب لهوى، أو مذهبٍ، أو طائفةٍ، أو حزب؛ فيجعلها هي المقصودة بالدعوة، وهذا أخطأ خطأً بيناً، فإن المقصود بالدعوة هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ليس الحزب، وليست الطائفة، وليست الفرقة، وليس الرأي الذي يدعو إليه.
ويقول في باب الإخلاص، في مختصر الفتاوي أيضاً: من أراد أن يبحث عن منصب في الدنيا فليعلم أنه لن يحصل على منصب أرفع من منصب فرعون ولكن أين فرعون؟! يعرض على النار غدواً وعشياً، يفطر ويتغدى في النار {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] هذا الفطور والغداء، وأشد العذاب: العشاء.
ولذلك يسمى هذا: المنشر والمحشر؛ فالمنشر أن تخرج بالغنم في الصباح، والمحشر أن تردها في المساء.
فيقول: أما المنشر ففي القبر، والمحشر يوم القيامة.
فـ ابن تيمية يقول: إن كنت تريد المنصب فانظر إلى فرعون صاحب المنصب، وإن كنت تريد المال فاعلم أن قارون حصل على مالٍ كثيرٍ لا تحصل عليه أنت فكيف كانت عاقبتهما؟!
فعليك بإخلاص العمل لوجه الله؛ فإن وجه الله هو الباقي وما سواه فان.(286/4)
العمل بالعلم
المؤهل الثاني من مؤهلات ابن تيمية في النصيحة والدعوة إلى الله عزوجل: العمل بعلمه وتقواه لربه تبارك وتعالى وعلم ليس فيه عمل ولا خشية ولا ابتهال؛ إنما هو حفظ للمعلومات، وسلة مهملات يحفظها الإنسان في ذهنه ولا تنفعه أبداً، ولا تقربه من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وعمله بعلمه له جوانب:
الجانب الأول: الزهد
فقد كان منقطع النظير في الزهد، وللعلم فإن ابن تيمية رحمه الله لم يتزوج وترك الزواج ليس من الزهد، بل من الزهد أن تتزوج؛ لأن أزهد الناس عليه الصلاة والسلام وهو أكثر الناس نساءً، وعلي رضي الله عنه كان من أزهد الناس على الإطلاق وعنده أربع زوجات وتسع إماء فتركُ الزواج ليس من الزهد، لكن ابن تيمية لم يتركه تزهداً، وما تولى منصباً في حياته بالإجماع.
فقد جاء في كتاب العقود الدرية لـ ابن عبد الهادي، وكتاب الأعلام العلية للبزار: أن ابن تيمية كان له ثوب أبيض، وعمامة بيضاء من الخام العادية، وكان ربما ارتدى في البرد ثوبين، فقد كان ذات مرة يمر في سكة من سكك دمشق فمر به فقير يسأله، فبحث في جيوبه فلم يجد شيئاً من الدراهم والدنانير، فاختفى وراء سور ثم خلع ثوبه الأعلى وطواه وأعطاه المسكين.
ومرة يسأله مسكين فيبحث فلا يجد إلا ثوبه الذي عليه؛ فيأخذ العمامة فيقسمها نصفين ويلف رأسه بنصفها ويعطي المسكين النصف الآخر.
يقول صاحب الأعلام العلية: تأتيه الدنيا من ذهب وفضة وجوار وخيول إلى غير ذلك فينفقها من ساعتها، ولا يدخر درهماً واحداً.
أما في جانب الشجاعة؛ فحدث عنه ولا حرج وقف مع سلطان المغول لما دخل دمشق وحدثه بقوة وجرأة منقطعة النظير المغول (التتار) الذين اجتاحوا العالم الإسلامي وما وقف أمامهم أحد من الناس، كانوا يموتون قبل أن يقتلوا من خوف التتار، وبلغت الذلة بالمسلمين في تلك الفترة أنه كان التتري يأتي فيقول للمسلم: انتظر هنا حتى آتي بالسكين فأذبحك بها؛ فيقف المسلم منتظراً، وفاء بالعهد، لأنه لا يريد أن يكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: {ثلاثٌ من كنَّ فيه كان منافقاً -منها-: وإذا وعد أخلف} فمن أمانة هذا المسلم أن وقف ينتظر حتى يذهب التتري إلى البيت ويأتي بالسكين فيذبحه كما تذبح الشاة!!!
بل بلغ من الذلة في فترة من الفترات -ويرويها ابن كثير -: أنه كان يقول التتري للمسلم: ضع خدك على هذه الصفا حتى أذهب وآتي بالسكين فيضع خده على الصفا -ما شاء الله تبارك الله، الطاعة في موضع المعصية- فيأتي ذاك بالسكين ويذبحه بها.
ولكن ابن تيمية لم يرض بهذا المبدأ فقد دخل التتار دمشق في رمضان، وأرادوا اجتياحها ليلحقوها بـ بغداد، التي فعلوا فيها الأفاعيل؛ فقد أخذوا الكتب وقذفوا بها في نهر دجلة ونهر الفرات حتى تغير لون الماء والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه؛ أن الكتب التي ضاعت في النهر هي كتب الفلسفة وكتب الخزعبلات، أما كتب الحديث والتفسير والفقه وكل ما يتعلق بدعوة الإسلام فقد حفظها الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وأما كتب الخزعبلات فأغرقت في النهر {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].
دخل التتار يوم الجمعة في رمضان، فخرج رحمه الله وجمع الناس وسل سيفه، وقال: أيها الناس! أفطروا هذا اليوم ثم تناول كوباً من الماء أمام الناس فأفطروا، ثم قال للسلطان: ينبغي عليك أن تنزل الجيش من الثكنات للقتال؛ فأنزل الجيش، وبدأت المعركة وشيخ الإسلام في المقدمة، وكان يقول: والله لننتصرن هذا اليوم.
فيقول له تلاميذه: قل إن شاء الله.
فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.
وذكروا عنه: أنه كان إذا ضرب بالسيف تتكسر شظاياه على رءوس الناس وقد آتاه الله قوة في الجسم وبسطة؛ لأن الرجل زعيم يريد أن يقود أمة فهو مفكر وموجه ومنظر.
وكان يدخل على السلاطين فيكلمهم بجرأة حتى يرتعد منه السلطان مع أن السائد في مفهوم الناس أن الإنسان يرتعد إذا دخل على السلطان، لكن ابن تيمية يدخل على السلطان فيرتعد السلطان لا أن يرتعد ابن تيمية، حتى قال مرة لسلطان دمشق: ماذا تريدون غير تحكيم كتاب الله عزوجل؟
فقال له السلطان: إنني سمعت أنك تريد ملكي وملك آبائي.
فقال له ابن تيمية: أريد ملكك وملك آبائك؟! والله ما ملكك وملك آبائك يساوي عندي فلساً واحداً ثم خرج وتركه.(286/5)
الأخلاق عند ابن تيمية
وأما مؤهلاته في عالم الأخلاق؛ فقد آتاه الله تعالى حسن الخلق، لولا بعض الأمر الذي سوف أبينه وهو أنه كان فيه حدّة لقوته، حتى يقول شاعر من اليمن وهو يمدح شيخ الإسلام ويرد على السبكي، يقول:
وقاد ذهنٍ إذا سالت قريحته يكاد يخشى عليه من تلهبه
يمدح ابن تيمية بأنه إذا سال ذهنه في الكتابة والتأليف يخشى أن تحترق ثيابه وملابسه من كثرة ذكائه.
فأكسبه هذا الذكاء حدة في الطبع، فكان يرد بعنف، لم يكن عنده إلا نسف وتدمير للجاهلية، ولا يعرف بناءً وتعميراً لها: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25].
لذلك ألف رسالة التدمرية؛ وهي لأهل تدمر في الشام، لكنها {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] حتى إن أكثر الطلبة في أصول الدين لا يرسبون إلا في التدمرية.
والمقصود: أن ابن تيمية كان عنده من الصبر الشيء العجيب، فقد كان له خصوم من العلماء، يريدون قتله ولو قلت لأحدهم تمنَّ.
لقال: أتمنى أن يقتل السلطانُ ابن تيمية لنرتاح لماذا؟ لأنه اجتاح الدنيا، حتى أصبح التاريخ كله، يقول ابن كثير: ودخلت سنة كذا وكذا وفيها كان ابن تيمية في السجن فقد نُسي التاريخ، ونسيت السلطان، ونُسي الدولة، وأصبح التاريخ كله ابن تيمية، وعليكم أن تقرءوا البداية والنهاية في الجزء الرابع عشر، يقول: ودخلت سنة كذا وكذا وفيها كان ابن تيمية يجاهد النصيرية في جبل كسروان، ودخلت سنة كذا وكذا وفيها كان ابن تيمية يجلد البطائحية الصوفية في السوق فإذا خرجت ضحى النهار وجدت ابن تيمية يجلد المخالفين في السوق، ويقيم الحدود، وتأتي يوم الجمعة وإذا به على المنبر يزلزل كأنه صاعقة، وتأتي بعد الفجر وإذا به يشرح التفسير، وتأتي في الليل وإذا به قائم يصلي لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وتأتي وقت الصدقة وإذا به ينفق ويعطي، وهو متبسم يصدق فيه قول القائل:
محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة القلوب
يقول ابن القيم: مات أحد أعداء ابن تيمية من العلماء، فأتيت أبشره؛ فاحمرَّ وجهه ودمعت عيناه وقال: تبشرني بموت مسلم! ثم قام فقمنا معه، حتى ذهب إلى بيت خصمه الذي كان يعاديه، والذي أفتى بقتله، قال: فدخلنا على أهله فسلم ابن تيمية عليهم وعزاهم ودعا لميتهم، وقال: أنا أبوكم بعد أبيكم، ما تحتاجون إليه فارفعوه إليَّ.
قال: فبكى أهل البيت تأثراً من هذا الموقف بالأمس أبوهم ألد الأعداء لـ ابن تيمية واليوم يقول ابن تيمية هذه الكلمات الطيبة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].(286/6)
اعتصام ابن تيمية بالكتاب والسنة
المؤهل الرابع لـ ابن تيمية في مجال دعوته: اعتصامه بالكتاب والسنة.
يقول في المجلد العاشر من فتاويه: وعلى طالب العلم أن يعتصم بالدليل في كل مسألة، وأن يترك كل رأي يخالف ما فهمه من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنه المعصوم.
ولما اعتصم بالكتاب والسنة رزقه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى تمييزاً وذكاءً وفهماً، فيأتي ويقول: أهل السنة والجماعة وسط في الأسماء والصفات، ووسط في الوعد والوعيد، ووسط في الإيمان، ووسط في القدر، ووسط في النظر، ووسط في الأمر بالمعروف، ووسط في الفقه.
وسوف أفصل لكم هذه السبع النقاط، وهي جديرة بمحاضرة وبكتيب صغير تجمع فيه؛ لأنها من أحسن ما كتب ابن تيمية في كتبه.
فأما في القدر فيقول:
أهل السنة والجماعة وسط بين القدرية والجبرية.
فإن الجبرية يقولون: إن العبد مجبور على فعل المعصية والقدرية يقولون: الأمر أنف، وما قدَّر الله شيئاً قبل أن يحدث، فإذا حدث علم الله به.
فـ ابن تيمية يتوسط بـ أهل السنة والجماعة في هذا، وليُعلم أن ابن تيمية هو المنظر لـ أهل السنة والجماعة.
صحيح أن العقيدة محفوظة في الكتاب والسنة، لكن ابن تيمية جمع أقوال الفرق، ومحضها، وصحح مسارها، ثم اختار منهج أهل السنة والجماعة، وقرره، وحدده، ورسمه للناس، وما أعلم أحداً قبل ابن تيمية نظَّر هذا المنهج العقدي المنظم لـ أهل السنة والجماعة.
ويقول: أهل السنة والجماعة وسط في باب الإيمان بين الخوارج والمرجئة.
فإن الخوارج يقولون: مرتكب الكبيرة كافر.
فإذا شرب الإنسان الخمر عند الخوارج كفر بالله العظيم، واستبيح دمه وعرضه.
والمرجئة يقولون: العمل لا يدخل في الإيمان، فلك أن تقول: لا إله إلا الله، ثم لا تصلي أبداً وأنت مؤمن، والذي يصلي ويتقطع ظهره من قيام الليل فأنت وهو في ميزان واحد، والذي يشرب الخمر في المقهى -على مبدئهم- والذي يقوم الليل ويبكي سيان؛ لأن الإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، والعمل لا يزيد في الإيمان ولا ينقصه.
ولكن ابن تيمية لا يرى هذا، بل يقول: أهل السنة وسط، فلا نكفر صاحب الكبيرة ولكنه فاسق، ولا نخرج العمل من الإيمان بل العمل من أركان الإيمان.
ويقول: أهل السنة في باب الأسماء والصفات وسط بين المعطلة من والجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وبين المشبهة وهذا له مجالات خاصة، لكن أريد أن أعرض لكم شيئاً من فهم الرجل لهذا الدين.
يقول: وهم وسط في النظر والفكر.
فإن الفلاسفة يقولون: الدين أن تفكر فقط فهم لا يعرفون (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) يصلون في المسجد لكنها صلاة ميتة مثل صلاة البدو.
ولذلك يقول في المجلد الرابع: أهل الكلام بمنزلة المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
فـ أهل السنة وسطٌ في إعمال الفكر، بخلاف أهل الباطل الذين يقولون: اذكر الله وسوف يفتح الله عليك ويلهمك، والعلم معروف، وهذه القضايا التي تقرءونها معروفة، فتجد بعض الطلاب يذاكر في الامتحان وزميله الفاشل العاطل الباطل لا يذاكر، فإذا قلت له: لماذا لا تذاكر؟ قال: الحمد لله هذه مفهومة، وهي قضايا مسلمة وسهلة، فلماذا أجهد نفسي وأضيع وقتي في هذا الكلام.
فدائماً أهل البطالة والعطالة يرسبون.
فيقول ابن تيمية: أهل السنة والجماعة وسط، يعملون الفكر ويشتغلون بالذكر فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
ويتوسط في كتاب الاستقامة ويقول: أهل العلم في باب الفقه ثلاث طوائف:
فطائفة حكمت الرأي كبعض الأحناف، فقط حكموا الرأي، وعندهم افتراضات دائماً: لو حدث كذا لصار كذا، ولو صنع كذا لصار كذا، حتى إن بعض الفقهاء يمزحون على الأحناف ويقولون: لو خرجت سمكة من البحر فصلت بالناس جماعة ثم عادت إلى البحر، فهل صلاتها صحيحة؟ وهذا من كثرة افتراضاتهم هذه الطائفة الأولى.
وأتى ابن حزم الظاهري وقابل هذه الطائفة فأولئك غلوا في جانب الرأي، ولا يوجد دليل، وابن حزم أتى في الطرف الآخر وقال: القياس ملغي، والإجماع فيه شيء، فأرى أنه لا بد لكل مسألة من دليل، والدليل ظاهر الكلام.
يقول في المحلى فالاضجاع واجب عند ابن حزم، ومن لم يضطجع لم تجزئه صلاة الفجر لحديث: {إذا صلى أحدكم سنة الفجر فليضطجع على شقه الأيمن}.
وأتى ابن تيمية فقال: منهج التطرف في الرأي فيه شيء من الخطأ، ومنهج التطرف في الظاهر فيه شيء من الخطأ، والأحسن أن نأخذ الأدلة ونفهمها كما فهمها الفقهاء والمحدثون من أهل السنة والجماعة.
بالله لفظك هذا سال من عسلٍ أم قد صببت على أفواهنا العسلا
أم المعاني اللواتي قد أتيت بها أرى بها الدر والياقوت متصلا
هل هناك فهم كهذا الفهم الذي منحه الله هذا الرجل؟!(286/7)
صدق لجوء ابن تيمية وتوكله
المؤهل الخامس من مؤهلاته في عالم الدعوة: صدق اللجوء وقوة التوكل على الله.
فقد كان ابن تيمية يجلس بعد صلاة الفجر إلى ارتفاع النهار -كما يقول ابن القيم في الوابل الصيب - فيكرر الفاتحة حتى يهتز في بعض الأوقات من كثرة ما يجد من يقينٍ وسكينةٍ واطمئنان حتى إنه كان يقول لـ ابن القيم: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
فكان يكرر الفاتحة حتى يرتفع النهار، ويقول: إنه لتصعب وتستغلق عليَّ المسألة فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل فيفتحها الله عليَّ.
لكننا لم نعش هذه المعاني كما ينبغي يأتي الواحد منا في صالة الامتحان وهو خائف، ويركز على مذاكرته فقط، ويلمح هل ماسة زميله متقدمة حتى يلقط كلمتين بالرادار مع السرعة والعجلة، أو يرسل برقية للجانب الأيسر يأخذ منه بعض المعلومات للتصحيح!! ابن تيمية لا يرى هذا، يرى أن المدد كل المدد والسبب كل السبب واللجأ كل اللجأ إلى الله، فيقول: كلما استغلقت عليّ المسألة, استغفرت الله ما يقارب الألف أو أكثر أو أقل فيفتحها الله علي.
وكتاب سيبويه كتاب معقد في النحو، يقولون: نسجه كما ينسج الإنسان الحرير من الهواء, وهو أول كتاب وضع في النحو أتى ابن تيمية يبحث عن شيخ يقرأ عليه هذا الكتاب فما وجد, فأخذ القلم والكراسة ثم بدأ يقرؤه من أوله إلى آخره، وأخرج ثمانين خطأ على سيبويه.
قال أبو حيان صاحب البحر المحيط: إن كتاب سيبويه كتاب عجيب لا يؤلف مثله فقال ابن تيمية:
نعم! كتاب عجيب لكنه يؤلف مثله، وفي كتاب سيبويه ثمانون خطأ لا تعرفها أنت ولا سيبويه.
وأتى إلى علم الكلام الذي هو مثل الحديد, فبحث عن شيخ ليقرأ عليه فما وجد، فاستعان باللهَ عز وجل وأخذ كراسة وقلماً وبدأ يقرأ علم المنطق على نفسه، وفي الأخير استظهر علم المنطق، وألف كتابه: الرد على المنطقيين، وخطَّأ فيه ابن رشد , والغزالي , وابن سيناء , والرازي , وخطأ أشياخهم إلى أفلاطون جدهم العاشر، يقول: أخطئوا في هذه المسألة في علم المنطق.
وفي الحديث يقولون: حديث لا يحفظه ابن تيمية ليس بحديث حتى أنه في بعض الأوقات يكتب في المسجد وليس عنده مرجع؛ أما نحن الآن فإذا قلنا لأحدنا: ابحث في المضمضة جمع خمسة عشر كتاباً وبحث وفي الأخير يقول: وهذا البحث يحتاج رسالة دكتوراه وما أستطيع أن أحيط به, وعندي مشاغل واهتمامات، وقد بحثت جهدي، وسهرت ليلي، وأفنيت نهاري، وفعلت وصنعت ثم يأتي البحث خطأ.
أما ابن تيمية فكان يأخذ الكراسة ويبحث من نفسه، فيأتي بالحديث بسنده، ومن قرأ في الفتاوى في باب القصر في السفر وصلاة الجمعة والعيدين، فإنه يجد أنه قد جمع الأحاديث من كتب السنة وهو في السجن، ثم وقف مع كل عالم وأوقف كلاً عند حده، وتكلم مع كل عالم فإذا انتهى منه أخذ العالم الثاني وتكلم معه وناقشه وهكذا حتى انتهى وحقق المسألة.
وهذا دليل صدق اللجوء إلى الله، ولذلك أورد عنه ابن القيم في مدارج السالكين: أنه كان يقول بين أذان الفجر والإقامة: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أربعين مرة.
وذكر عنه الذهبي أن عينيه كأنهما لسانان ناطقان يكاد أن يكلمك باسمك قبل أن تتكلم عنه، وهذا من كثرة الذكر والذكاء.
ولذلك يقول المزي صاحب تحفة الأشراف: ما أظن أنه وجد كـ ابن تيمية من خمسمائة سنة نقلها صاحب طبقات الحنابلة ابن رجب الحنبلي في ترجمة ابن تيمية وكانت فيما يقارب ثلاثين صفحة.
وقال الذهبي عنه في معجم الشيوخ: لو حلفت بين الركن والمقام أني ما رأيت كـ ابن تيمية لصدقت، ولو حلفت بين الركن والمقام أنه ما رأى مثل نفسه لصدقت.
ويقول ابن دقيق العيد كما ينقل عنه ابن رجب في طبقات الحنابلة أيضاً: والله ما أظن أن الله يخلق مثلك.
وابن دقيق العيد هو مجدد الشافعية في القرن السادس، وهو رجل موهوب، يأتي بالمعاني الدقيقة، حتى إنك تبقى في المعنى الواحد ساعتين وأنت لم تفهم سطراً واحداً.
أما كثرة اللجوء والذكر فحدِّث ولا حرج، يقولون: ما كان لسانه يفتر من ذكر الله عزوجل دائماً وأبداً؛ حتى قال له بعض تلاميذه: نراك ما يفتر لسانك من ذكر الله.
قال: قلبي كالسمكة إذا خرجت من الماء ماتت، فإذا تركته من الذكر مات.
ويقول عنه ابن القيم: رأيته في السجن وهو ساجد يبكي ويقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يرددها ليلاً طويلاً.
وأما صلاته؛ فكان يصلي بعض الأحايين بالناس في مسجد بني أمية في دمشق، وكان إذا قال: الله أكبر؛ رفع صوته حتى يسمعه من في الطرقات، فتكاد تنخلع القلوب إذا كبر ويروي ابن القيم في روضة المحبين ونزهة المشتاقين عن تقي الدين بن شقير: أنه رأى شيخ الإسلام ابن تيمية صلى صلاة العصر في مسجد بني أمية، ثم خرج إلى الصحراء وحده، قال تقي الدين بن شقير وكان من تلاميذه: فخرجت وراءه حيث أراه ولا يراني، فلما توسط الصحراء رفع طرفه إلى السماء وقال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ثم بكى، ثم قال:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
وهذا البيت لـ مجنون ليلى، يقول:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنكِ النفس بالسر خاليا
وإني لأستغشي وما بي غشوة لعل خيالاً منكِ يلقى خياليا
فأخذه ابن تيمية واستخدمه في جانب المحبة الواجبة التي لا ينبغي أن تكون إلا لله، لا محبة النساء، ولا الأوثان، ولا الصلبان، ولكن جعله في حق الحي القيوم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
هذا موقفه من اللجأ وقوة التوكل؛ ولذلك يقول ابن رجب: إن من الأسباب التي منعته وحمته من كيد الأعداء: كثرة الذكر والأوراد التي ما كان يُخلُّ بها كان له بعد كل صلاة ذكر يذكر الله به؛ فحماه الله تعالى من الحسدة والحقدة، ومن الأعداء والخصوم، فما استطاعوا أن يكيدوا له أبداً، وكلما كادوه رفع الله منزلته.(286/8)
معرفة الواقع عند ابن تيمية
المؤهل السادس من مؤهلات ابن تيمية رحمه الله في عالم الدعوة: معرفته لواقعه وحال عصره.
وبعض الناس يعيش هذا العصر وهو يعيش في القرن الثالث، عقله وفكره ومعرفته في القرن الثالث، لكن ابن تيمية يعيش في القرن السابع؛ ويعرف مشاكل العصر ومتطلباته، وماذا يريد منه أبناء العصر، ولذلك عرف الكتاب والسنة، وعرف هذا الدين، ثم أتى يتكلم إلى الناس بواقع العصر.
واقرءوا إن شئتم كتابه: اقتضاء الصراط المستقيم، الذي سماه محمد حامد الفقي: القنبلة الذرية لا.
ما صنعه اليهود والنصارى هذا الكتاب ينبغي أن يقرأ وأن يكرر وأن تحفظ منه جمل؛ فإنه كتاب ألفه ابن تيمية بعد أن بلغ النضوج والنبوغ مبلغه في ذهنه، فألف هذا الكتاب وهاجم فيه الجاهلية التي عاشرها، وعراها وفضحها.
واقرءوا -إن شئتم- السياسة الشرعية؛ لتعرفوا مدى فهم هذا الرجل للدين.
ومعرفته لواقعه وحال عصره؛ أفاده ذلك حيث كان يضع الدواء على الداء، ويضع الأمور في نصابها، فقد حلَّ كثيراً من مشكلات عصره، وصحح كثيراً من الأخطاء التي عاشها في عصره، وعالج كثيراً من الأمراض التي رآها في عصره.(286/9)
وسائل الدعوة عند ابن تيمية
وسوف نتكلم هنا عن وسائل دعوة ابن تيمية، ووسائل دعوة ابن تيمية ثلاث وسائل:(286/10)
التأليف والكتابة عند ابن تيمية
الوسيلة الأولى: التأليف والكتابة؛ وهي على ثلاثة أقسام:
الرسائل، والردود، والمصنفات الكبار.
وهذه الوسيلة التي استخدمها ابن تيمية في الدعوة؛ هي أكبر وسيلة نفذ بها حتى بلغ بها هذا العصر، ونفع بها أهل هذا العصر.
فالرسائل: إما أن يسأل عن قضية فيجيب عليها -رحمه الله- كـ الحموية لأهل حماة، والواسطية لأهل واسط، والتدمرية لأهل تدمر، فيرسل الرسائل للناس، ينفعهم ويفيدهم، ويقودهم إلى الله عزوجل.
ويقول في مقدمة اقتضاء الصراط المستقيم: سألني بعض الإخوة أن أؤلف لهم كتاباً يبين هذه المسائل فأجبت سؤالهم.
أما الردود: فكان -دائماً- مشغولاً بالرد على الأفكار التي تجتاح أصول الدين وتؤثر فيها، فكتابه الصارم المسلول سببه أنه سمع أن نصرانياً يشتم الرسول صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى السلطان فشكا النصراني، فشهد العوام الحمقى للنصراني على ابن تيمية!
نصراني، وشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشكاه ابن تيمية عند سلطان المسلمين، فأتى العوام فقالوا: لا.
الحق مع النصراني والخطأ مع ابن تيمية!! فأتى السلطان وجلد ابن تيمية في المجلس؛ لكن:
إن كان سركمُ ما قال حاسدنا فما لجرحٍ إذا أرضاكمُ ألمُ
فما دام الجلد في ذات الله فأهلاً به وسهلاً.
فخرج مغضباً من المجلس، وكتب الصارم المسلول على شاتم الرسول، وقد أبدع في هذا الكتاب أيما إبداع، ونزل فيه على اليهود والنصارى بحكمةٍ وأناةٍ ودليل.
ومن الردود: الرد على الأخنائي، وهو مالكي، رد عليه في مسألة الزيارة، ورد على السبكي كذلك في الزيارة؛ وهو في الفتاوى، لكن كتاب الرد على الأخنائي مستقل.
ومنهاج السنة رد به على الشيعة، يقول في أوله: يقول عامر الشعبي: قاتل الله الشيعة، لو كانوا من الطيور كانوا رخماً، ولو كانوا من الوحوش كانوا حُمُراً.
ويقول: هم من أجهل الناس في المنقولات، ومن أضلهم في المعقولات حشفاً وسوء كيلة.
أما المصنفات الكبار: فقد ألف درء تعارض العقل والنقل؛ وهذا الكتاب من يفهمه فهو من أذكى أذكياء العالم.
يقول ابن القيم: ما طرق العالم مثل هذا الكتاب بعد كتاب الله عزوجل والسنة المطهرة، وقد رد في أوله على الرازي وقال: قال الرازي: عند تعارض الدليلين المتضادين (العقل والنقل) إما أن نقدم العقل، وإما أن نقدم النقل، وإما أن نبطلهما، وإما أن نعمل بهما؛ فقال شيخ الإسلام: لا تعارض بينهما، وألف هذا الكتاب.(286/11)
تفاعل ابن تيمية مع قضايا الناس
ومن وسائله في إبلاغ الدعوة: اللقاء مع الناس، ولقاؤه مع الناس على ثلاث طوائف:
التقى مع العلماء، والتقى مع السلاطين، والتقى مع عامة الناس.
فأما العلماء: فكان يلتقي معهم ويخرج وهو أذكى وأقوى من في المجلس، وقد جُمع له قاضي قضاة الحنابلة في الشام، وعالم الشافعية ابن الزملكاني، وعالم المالكية الأخنائي، وعالم الأحناف؛ فاجتمعوا في المجلس، وبدأ كل واحد يتكلم، وابن تيمية ساكت، فلما انتهى الأربعة، عاد ابن تيمية يعيد الشريط من أوله، فقال للمالكي: أما أنت فتقول كذا وكذا، وقد أخطأت في كذا وكذا، وفي كتابكم كذا خطأ كذا حتى انبهر الناس ثم أتى إلى الحنفي وقال: أخطأت في كذا وكذا وكذا ثم أتى إلى الشافعي، ثم الحنبلي -وهو في الأصول حنبلي- وفي الأخير كان الناس يهللون ويكبرون ويقولون: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:119].
وأما مع السلاطين: فإنه -كما أسلفت لكم- دخل على سلطان الشام وتهدده مرات كثيرة بلا سيف، ولا رمح، ولا جيش، ولا جند، ولا شيء، لكن عنده قلب كبير؛ قلبٌ فيه نور وعلم وهداية، وقلبٌ فيه نصيحة وشجاعة ويتحدث ذاك، وعنده الجنود والحرس والجيوش، وهو يرتجف وابن تيمية صامد كالجبل، حتى اضطره إلى أن ينازل التتر وكلم قائد المغول فارتجف من شيخ الإسلام، وقال له -وهو لا زال كافراً-: ادع لنا.
فرفع ابن تيمية يديه وقال: اللهم إن كان هذا العبد يريد ما عندك فوفقه بهدايتك، وإن كان غير ذلك فاعم بصره واطمس بصيرته وذاك يقول: آمين آمين ما يدري ما يقول.
أما الطائفة الثالثة فهم عامية الناس:
ولما دخل السجن -لا أدخلكم الله السجن- حوله إلى روضة من رياض الجنة قرآن وحديث صحيح البخاري وصحيح مسلم، فأصبح الناس في السجن ملتحين، والسواك في أفواههم، ويسبحون، ويهللون، فقاد السجن حتى أحياه وأصبح روضة وقد تحدث ابن القيم عن موقفه في السجن، وكذلك صاحب العقود الدرية ابن عبد الهادي.
أما في المسجد: فكان يجلس يوم الجمعة بعد الفجر يفسر القرآن، وقيل عنه: أنه بقي في تفسير سورة نوح خمس عشرة سنة، كان يفسر كل جمعة، وما كان ينتهي من المجلس حتى يرتفع النهار، وحضر مجلسه بعض أهل العلم، وقالوا: لما حضرت المجلس أغلق ابن تيمية عينيه، ثم بدأ يندفع في الكلام، فوالله لكأن القرآن أمام عينيه، وكأن الحديث أمام عينيه، يأخذ منه ما شاء ويترك ما شاء، ووالله لقد استفاد من في المجلس؛ من الصوفية، والفلاسفة، ومن أهل أصول الفقه، والفقهاء، وأهل العقيدة، حتى انبهر الناس، ثم فتح عينه وختم المجلس، ثم اعتذر إلى الجلوس، وسلم عليهم يميناً ويساراً.
وأما في السوق: فكان يخرج إذا ارتفع النهار ومعه تلاميذه ومحبوه، فيأتي إلى أصحاب المعاصي فيؤدبهم، ويأتي إلى من يشهد الزور ومعه عصا ويأمر تلاميذه أن يجلدوه وهو يعد، حتى ينتهي السوق وقد حاسب المخالفين، ثم يعود إلى هناك حتى أصبح يحرك التاريخ.
أما في المعركة: فقد أسلفت لكم عن شجاعته في المعركة، وبذله وعطائه.(286/12)
خاتمة فيما لقيه ابن تيمية من الصعوبات
أما عن الصعوبات التي لقيها ابن تيمية، فهي تتمثل في الآتي:
أولاً: وقوف السلاطين مع خصومه.
ثانياً: جرأة وحدة في طبعه رضي الله عنه ورحمه، هكذا خُلق؛ فما كان يلين، بل كان قوياً دائماً، فلو لان لتألف الناس رحمه الله.
ثالثاً: خطورة القضايا التي عالجها؛ فكان يتكلم في الأصول ولا يتكلم في الفروع؛ ما كان يتكلم في الحيض، والغسل من الجنابة مع أن هذه من العلم وهي مهمة، لكنه كان يتكلم في العقيدة والحاكمية، ويتكلم في قيادة الناس إلى الله، ويتكلم في محاربة الطاغوت الحي قبل الميت وهنا طواغيت في الأمة الإسلامية يحكمون بغير ما أنزل الله، وتجد بعض الناس يتكلمون دائماً في القبور، وفي النذر، وفي الكواكب، وفي عبادة الشجر، وهؤلاء هم أكبر الطواغيت فهو يتكلم إلى الطاغوت الحي قبل الميت.
رابعاً: كثرة الخصوم وتعدد الجبهات.
فإلى أين يتوجه ابن تيمية؟ مرة إلى الصوفية، ومرة إلى الفلاسفة، ومرة إلى متعصبة الفقهاء، ومرة يتعرض للمغول من التتر، ومرة يتعرض للظلمة من السلاطين، ومرة إلى جهلة العامة ففي كل مكان له كمين.
من تلظي لموعه كاد يعمى كاد من شهرة اسمه لا يسمى
خامساً: الحبس والكبت.
فقد حبس وكبتت أنفاسه فما يزداد إلا قوة، كالبركان كلما حبسته انفجر بقوة وعنف.
سادساً: الجلد والتشهير فقد جلد وشهر به، وتكلم في عرضه في كل مجلس؛ وما زاده الله إلا رفعة.
وفي الختام: نجاح منقطع النظير يحققه ابن تيمية في عالم الدعوة، وينتهي إلى أن يُعقد إجماع من قلوب الموحدين في الأمة، ويكون هو رجل الساحة، ورجل الساعة في فترته، ويستمر عطاؤه وبذله حتى هذا الحين، وتحيا كتبه حياة تنفض الغبار عن رءوس الجامدين، وتنفض الجهل عن قلوب الراقدين الغافلين، وتيقظ رءوس اللاهين السادرين.
فرحمك الله يـ ابن تيمية، وهنيئاً لك الفردوس -إن شاء الله- ونسأل الله أن يجمعنا بك في مستقر رحمته {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم:8] {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} [الحديد:12].
ومن أراد منكم أن يتزود من ترجمة شيخ الإسلام فعليه بـ العقود الدرية في مناقب ابن تيمية لـ ابن عبد الهادي، والأعلام العلية للبزار، وفي طبقات الحنابلة، وفي معجم الشيوخ للذهبي، وفي الدرر الكامنة لـ ابن حجر العسقلاني، وترجمته في البدر الطالع للإمام الشوكاني.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(286/13)
الأسئلة
.(286/14)
من مواقف شيخ الإسلام في السجن
السؤال
أرجو أن تزودنا من مواقف ابن تيمية رضي الله عنه في سجنه؟
الجواب
من مواقف ابن تيمية رحمه الله في سجنه ما يلي:
أنه لما دخل السجن أغلقوا عليه الباب، نظر إلى الباب، وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
ولما دخل السجن وقف يتأمل ثم قال: ماذا يصنع أعدائي بي؟ -انظر هذه الكلمة ما أعظمها! - يقول: ماذا يصنع أعدائي بي؟ ماذا يريدون؟ وأي كيد يكيدون؟ إنهم لا يستطيعون.
ماذا يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى سرت فهي معي أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة مع الله عزوجل.(286/15)
رسائل في تكفير ابن تيمية
السؤال
سمعنا عن رسائل حضرت في تكفير ابن تيمية رحمه الله، أرجو منكم نبذة حول هذه الرسائل إن وجدت؟
الجواب
أما رسائل الماجستير والدكتوراه لا أعلم شيئاً في ذلك.
لكن بعض أهل العلم تحاملوا عليه وضللوه، فهذا تاج الدين السبكي يقول في طبقات الشافعية في ترجمة الذهبي: أما ابن تيمية فقد أوقف الذهبي والمزي وفلان وفلان في دكدكٍ من النار.
ويقول ابن حجر الهيتمي صاحب الفتاوى الكبرى المكية: ابن تيمية عبدٌ أضله الله على علم.
وهنا من العلماء من أهل البدع من كفره لمسائل نسأل الله السلامة، ونسأل الله ألا يجعل فقهنا كهذا الفقه.(286/16)
لماذا لا يكون لابن تيمية مذهب
السؤال
لماذا لا يكون لـ ابن تيمية مذهبٌ خاصٌ به، مثل: الشافعي وبقية الأئمة، بالرغم من علمه الغزير؟
الجواب
التمذهب مسألة فيها نظر، وإن أبا حنيفة وأحمد والشافعي ومالك لم يدعوا الناس إلى أن يتمذهبوا بمذهبهم؛ لكنهم لما جمعوا مسائل قلدهم الناس، فأصبح هناك مالكية وشافعية وحنابلة وأحناف، وإلا فـ ابن القيم يقول في إعلام الموقعين: من خصص هذه الأنفس الأربع بالاقتداء والتقليد من بقية العلماء!!!
أما ابن تيمية فهو أولاً: اهتم بالأصول أكثر من الفروع، فليس له كتب في الفروع؛ أعني: في فروع دقائق المسائل، لأنه يرى الأصول والخطوط العريضة هي المهمة.
الأمر الثاني: أن الرجل لا يرى أن يتمذهب لرجل بعينه، بل هو اتباع الدليل في أي مسألة؛ ولذلك ليس بواجب أن تتبع إماماً حتى تموت، ولا أن تكون حنبلياً ولا شافعياً، ولا مالكياً، ولا حنفياً، بل عليك أن تتبع الدليل من المعصوم صلى الله عليه وسلم حتى تلقى الله.
الأمر الثالث: أن الرجل عاش عصر مشاكل، وفتن، وأزمات؛ أخذت عليه جانب هذه الدقائق، أو تجميع التلاميذ في مذهب خاص.(286/17)
السبب في كثرة تأليف ابن تيمية في العقيدة
السؤال
لماذا كانت أكثر مصنفات ابن تيمية في علم العقيدة؟ وهل له كتب في التفسير والفقه والحديث وغير ذلك؟ وما هي؟
الجواب
أما سبب كثرة تأليف ابن تيمية في العقائد والأصول؛ فهو لأن الخلاف في الفروع وفي دقائق المسائل أمر سهل، لكن الأصول هي التي يكفر بها الإنسان، ويخرج -نسأل الله السلامة- من الملة فلذلك اعتنى بهذا الجانب.
أما في جانب الفقه فقد شرح جزءاً من العمدة في فقه الحنابلة ثم توقف.
وأكثر مصنفاته في الفقه في الفتاوى ما يقارب ستة أو سبعة مجلدات، من المجلد الحادي والعشرين فما بعد.
وأما الحديث فلم يؤلف كتاباً منظماً على أبواب الحديث، لكنه جمع له في الجزء الثامن عشر من فتاويه في علم المصطلح، رسائل وأسئلة في علم الحديث وأكثر مؤلفاته في العقيدة.
وأما في التفسير؛ فله أربعة مجلدات في التفسير، حتى يقال عنه: إنه كان يطلع في تفسير الآية على مائة تفسير، وبعدها قد لا يطمئن لبعض التفاسير فيمرغ وجهه في التراب ويبكي ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني ثم يكتب هو بعد.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(286/18)
فضل القرآن
إن الله سبحانه وتعالى أنزل كتاباً من السماء وهو القرآن الكريم، وأمرنا بتدبره والتعبد به وتطبيق أحكامه وشرائعه، ليكون لنا نبراساً يضيء لنا الطريق، فبين لنا فضله وفضل تدبره وقراءته وعاقبة هجره.
وقد ضرب لنا سلفنا الصالح أروع الأمثلة في الاهتمام بالقرآن قراءة وتدبراً وعملاً وتحكيماً.(287/1)
الخطبة الأولى: حال الناس مع القرآن
الحمد لله القائل: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:61 - 62].
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، أمره ربه أن يتهجد بالقرآن، فقال: {فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79].
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصبحه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:(287/2)
تدبر القرآن
أيها الناس: فإن الله أخذ على نفسه عهداً أن من قرأ القرآن وعمل بما فيه، وتابعه في أوامره واجتنب نواهيه ألا يضله في الدنيا يوم يضل المضلين، وألا يشقى في الآخرة يوم يشقى الأشقياء.
وأخذ على نفسه تبارك وتعالى عهداً، أن من أعرض عن كتابه، وعن تدبر آياته، وجعل كلامه ظهرياً فلم يعمل به، أن يجعل معيشته في الحياة الدنيا ضنكاً، ويجعله خاسئاً مطروداً من رحمته، وأن يخزيه في الآخرة، وأن يفضحه على رءوس الأشهاد، وأن ينكل به.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:123 - 126].
ينساه الله ولا ينسى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكنه يسقطه في العذاب، ويتغافل عنه كما تغافل عن آيات الله تبارك وتعالى، ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[من تبع هذا القرآن هداه الله وسدده في الدنيا، وأسعده في الآخرة، ومن أعرض عنه أضله الله في الدنيا وجعل عيشته ضنكاً، وأخزاه في الآخرة]].
والمعيشة الضنك: هي أن يسد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليه أبواب الطلب، يعيش معافى، وأبواب النجاح والسعادة مفتوحة أمامه، وإن جمع المال والولد، أو ترقى في المنصب، فإن الله ينكده ويضيق عليه، ويجعله خاسئاً، كأن اللعنة جمعت في وجهه، ولذلك يقول الله للناس: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] يقول: مالهم لا يتدبرون هذا الكتاب العظيم، ولو كان من تصنيف البشر أو من تأليف الإنسان؛ لكان فيه النقص والثلب والتناقض، فما هو الذي يمنعهم إذاً أن يتدبروا كتاب الله الحكيم؟!
ويقول عز من قائل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] أقفلت القلوب بالمعاصي والسيئات، فلا تقرأ ولا تفهم القرآن!
ويقول عز من قائل: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] ولذلك بعث صلى الله عليه وسلم الصحوة في قلوب أصحابه بالقرآن، فجعلهم خير أمةٍ تمشي على الأرض، وخير أمة تحضر الأرض، وخير أمةٍ تقيم ميزان الله في الأرض، بل كان يسمع الصحابي الآيات فينطلق بها شعلةً وهدايةً، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر.(287/3)
ابن مسعود يقرأ والرسول يتدبر
مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة، فوجد ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قبل أن يسلم، وهو غلامٌ يرعى الغنم، فطلب منه صلى الله عليه وسلم شيئاً من لبن، فاعتذر بأنها كلها حوائل، فقال: {قرب لي شاةً منها، قال: إنها حائل -أي: ليس بها لبن- فقال صلى الله عليه وسلم: وإن كان، فلما قرب الشاة إليه، مسح صلى الله عليه وسلم على ضرعها، وسمى وبرك، وقرأ شيئاً من القرآن، فقال ابن مسعود: علمني من هذا -ولم يعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: إنك غلامٌ معلم} فأسلم رضي الله عنه وأرضاه، فزاده الإسلام نوراً، وذكاءً وتوقداً وانطلاقةً كبرى ما شهد التاريخ مثلها لجيل إلا لذاك الجيل.
بل سمع سورة الرحمن فحفظها من أول مرة، وذهب بها إلى الحرم، وأصنام الضلالة، وعملاء الجهالة، من أمثال أبي جهل وأبي لهب، في حلق الحرم يصدون عن كتاب الله، وعن رسالته وعن بيته، فقام يقرأ عليهم سورة الرحمن، وأخذوا يضربونه على وجهه الكريم، فما قطعها حتى انتهى منها، ثم سقط مغشياً عليه في الأرض.
لقد كان دقيقاً في بنيته، ولكن هذا الدين، وهذا القرآن يصنع العجائب في الناس، يقول المؤرخون: كان ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، إذا قام ساوى الرجل الجالس، أي: أن قامته تساوي الرجل الجالس، ولكن علم الله ما في قلبه من إيمان، وما في روحه من إخلاص، وما في نفسه من صدق، فرزقه الله المثوبة، وأعطاه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ما تمنى من السعادة.
صعد شجرةً ذات يوم، فأخذت الريح تهز أغصان الشجرة وهو عليها كالعصفور، فتضاحك الناس من دقة ساقيه ونحافة جسمه، فقال عليه الصلاة والسلام: {أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده، إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد} هنا العظمة يوم تكون العظمة بالقلوب، وهنا القوة يوم تكون القوة بالأرواح، يوم يتساقط الأشقياء، ولو كانت أجسامهم كأجسام البغال:
لا بأس بالقوم من طولٍ ومن قصرٍ جسم البغال وأحلام العصافيرِ
ووصف الله أعداءه وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] ما دخلها القرآن، وما استضاءت به، ولا عرفت رسالته القرآن، فهي تأكل وتشرب وتتنعم وتتكلم وتتمتع؛ لكن في مسالخ البهائم.
يقول عليه الصلاة والسلام، وهو يجلس مع التلميذ البار، مع ابن مسعود: {اقرأ عليَّ القرآن -فيخجل رضي الله عنه وأرضاه، ويستحي أن يقرأ أمام معلم البشرية، وهادي الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية- فيقول: يا رسول الله! كيف أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! قال: اقرأ فإني أحب أن اسمعه من غيري، فيندفع رضي الله عنه وأرضاه في خشوعٍ يقرأ فلما بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال عليه الصلاة والسلام: حسبك الآن، قال ابن مسعود رضي الله عنه: فنظرت إليه صلى الله عليه وسلم وإذا عيناه تذرفان} هكذا كانوا يعيشون مع القرآن ويحيون معه!! والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه} ومفهوم المخالفة: أن شرنا وأحمقنا وأضلنا من ضيع القرآن ولم يعمل به ولم يتدبره أو يحكمه.(287/4)
فضل قراءة القرآن
ويقول عليه الصلاة والسلام: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} رواه مسلم، وفي لفظٍ للبخاري: {اقرءوا سورة البقرة وآل عمران، اقرءوا الزهراوين فإنهما تأتيان يوم القيامة كغمامتين، أو غيايتين، أو كفرقان من طيرٍ صواف، تظلان صاحبهما يوم القيامة}.
فيا من أراد أن يستظل بذاك الظل في يوم الشمس والكرب والخوف! استظل بآيات الله تبارك وتعالى، والقلب الذي لا يعي شيئاً من القرآن، قلبٌ مخذول ملعون محروم مغلوبٌ عليه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "كل قلبٍ لا تشرق عليه شمس القرآن فهو قلبٌ ملعون،، وكل نفسٍ لا تشرق عليها شمس هذا الدين فهي نفس ملعونة"، ويقول في كلمته المشهورة: "من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدىً غير هدى الله الذي بعث به محمداً صلى الله عليه وسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذابٌ أليم".
يقول عليه الصلاة والسلام، فيما رواه الترمذي {اقرءوا القرآن، فإن القلب الذي ليس فيه شيءٌ من القرآن كالبيت الخرب} كالبيت الذي عشعش فيه الطيور والغربان، وعشعشت فيه الحيات والزواحف، فهو لا يضيء ولا يزهر، ولا يسعد ولا يفرح، ويقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي: {اقرءوا القرآن فإن من قرأ حرفاً فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (آلم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف}.(287/5)
صور من حياة السلف مع القرآن(287/6)
أبي بن كعب سيد القراء
ومن سادات المسلمين الذين تعلموا القرآن وعاشوا على القرآن أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه، دخل عراقي والصحابة مجتمعون في المسجد النبوي الشريف على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فإذا عمر بن الخطاب، وهو خليفة يتكلم بينهم، كلما تكلم التفت إلى رجلٍ منهم، فقال العراقي: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: [[ثكلتك أمك، أما عرفت هذا، هذا سيد المسلمين أبي بن كعب، أنزل الله عز وجل: {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} [البينة:1] وأمر جبريل عليه السلام يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ هذه السورة على أبي بن كعب]] يا للفضل ويا للشرف! شيخ يجلس بين يدي تلميذه، شيخٌ يعرض العرض بين يدي طالب من طلابه، فيأتي عليه الصلاة والسلام بتواضعه وحسن خلقه، بالسورة هذه في صدره، ويطرق الباب على أبي بن كعب، فيخرج أبي، ويقول: {فداك أبي وأمي يا رسول الله! شرفتني بزيارتك، والله ما من أهل الأرض أحدٌ يشرف بزيارة أحد إلا أنا هذا اليوم} فلما بسط له البساط، وجلس صلى الله عليه وسلم قال: {يا أبي! قال: لبيك يا رسول الله، قال: إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة (لم يكن الذين كفروا) قال أبي -مندهشاً متعجباً-: أسماني ربي في الملأ الأعلى؟! فقال صلى الله عليه وسلم: إي والله لقد سماك في الملأ الأعلى، فبكى رضي الله عنه وأرضاه، واندفع صلى الله عليه وسلم يقرأ عليه القرآن}.
وصلى عليه الصلاة والسلام بالناس فتجاوز آيةً من سورة نسيها، فلما سلم صلى الله عليه وسلم قال الصحابة: {يا رسول الله! نسيت آية، أنسخت أم نسيتها؟ قال أفي القوم أبي بن كعب، ولم يسأل إلا عنه، فقال: نعم يا رسول الله! قال: يا أبا المنذر! أنسيتُ آية، قال: نعم} فتأكد صلى الله عليه وسلم لما أعطى أهل التخصص تخصصهم، وأنزل أهل التخصص منازلهم، على حد قول المثل: أعط القوس باريها.
يقول عليه الصلاة والسلام وهو يجلس مع الصحابة ومعهم أبي بن كعب: {يا أبي! أي آيةٍ في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم.
! قال: أي آيةٍ في كتاب الله أعظم؟ قال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم -آية الكرسي- فضرب صلى الله عليه وسلم في صدره، وقال: ليهنك العلمُ أبا المنذر}.
هذا هو العلم النافع المفيد في الدنيا والآخرة، ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يشغلهم شاغلٌ عن القرآن، وكثيرٌ من الناس اليوم يعتذرون بأطفالهم وبأسرهم، وبتجارتهم وبمناصبهم عن تلاوة القرآن وتدبره، فلا حياة لهم إذن.(287/7)
عثمان يقرأ القرآن في ليلة
كان عثمان وهو خليفة رضي الله عنه وأرضاه، يجلس من صلاة الفجر فيفتح مصحفه حتى الظهر، فيقول له الصحابة: لو رفقت بنفسك يا أمير المؤمنين! قال: [[والله لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من القرآن]] وكان يصلي الليل في ركعة بسندٍ صحيح عند المروزي وغيره، وذكره ابن حجر، أنه صلَّى الليل كله بركعةٍ واحدة، قرأ في الركعة القرآن كاملاً، ولما قتل بكته الأمة، حتى يقول حسان:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
هذا وهو خليفة، وهو مسئول عن الأمة، وأمور الأمة تدبر تحت يديه، فلم يشغله شاغلٌ عن القرآن، حتى أن ابن عباس وهو يقرأ قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].
بكى وقال: [[ذلك عثمان بن عفان]] يأخذ المسلم من هذا ألا يشغله شاغل عن كتاب الله، ولا يصدنه صاد، بل عليه أن يعيش حياة المسلمين إن كان يريد الحياة والسعادة في الدنيا والآخرة، وكثيرٌ من القلوب، نعوذ بالله، ونبرأ إلى الله، ونستعين بالله، من أن تكون قلوبنا كقلوبهم؛ هجروا القرآن، وأعرضوا عنه، واستبدلوه بكتبٍ خليعة، أو أغانٍ ماجنة، أو سخفٍ ألفه البشر قدموه هدماً للأمة، فيا ويلهم في الدنيا، لن يجد حلاوة الإيمان ولا طعم السعادة، ويا ويلهم في الآخرة، بل المسلم أحب ما لديه القرآن يتمتع بسماعه.(287/8)
الأشعري يؤتى مزماراً من مزامير آل داود
وفي الصحيحين عن أبي موسى قال: {قمت من الليالي أقرأ القرآن في مسجده صلى الله عليه وسلم، وإذا به يستمع مني فلما أصبحتُ سلم علي صلى الله عليه وسلم وقال: يا أبا موسى! لو رأيتني البارحة وأنا أستمع إلى تلاوتك، قال أبو موسى: يا رسول الله! أئنك لتستمع إلى تلاوتي؟! قال: أي والله.
قال: والله لو أعلم أنك تستمع لتلاوتي لحبرته لك تحبيراً -أي زينته وجملته وحسنته ليكون أبلغ تأثيراً في القلوب- فيقول صلى الله عليه وسلم: لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود} فالصوت الحسن عجيبٌ يؤثر في القلوب، إذا كان بآيات الله البينات، وبمواعظه الجليات، وينفع أيما نفع.
وفي تفسير ابن أبي حاتم، {أنه صلى الله عليه وسلم مر في سكة من سكك المدينة، فسمع عجوزاً تقرأ، وهي تردد من وراء الباب في الليل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] تقف عندها وترددها وتقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، فوضع رأسه يبكي ويقول: نعم أتاني، نعم أتاني}.(287/9)
أين نحن ممن سلف؟!
هؤلاء العجائز فأين رجالنا من هذه العجوز في تدبرها وتهجدها وتلاوتها؟ أين الرجال، وأين شباب الأمة الذين أعرض الكثير عنهم -إلا من رحم الله- عن معايشة هذا القرآن؟ إننا أمة خالدة، لا خلود لنا إلا بكتابنا العظيم، ولا بقاء لنا إلا بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن هجرناه وتركناه؛ ضعنا والله، وأخذتنا المبادئ الهدامة، واستولت علينا الأمم الحاقدة التي تحقد على هذه البلاد، وعلى شريعتها وأبنائها ومؤسساتها، وعلى حرمتها وقدسيتها وشرفها، فلا ملجأ لنا إلا الله، ولا كافي لنا إلا الله، وأي حلٍ آخر فمعناه الخسارة والندامة، ولذلك يقول المستشرق المجري جولد زيهر:
لا يستطيع أن يُغلب هؤلاء العرب ما دامت فيهم ثلاث، وهو يعني المسلمين فلا عروبة عن الإسلام ولا إسلام إلا لمن أسلم وجهه لله: صلاة الجمعة، والكتاب العظيم كتاب الله، والحرمين الشريفين، القبلة والحرم النبوي، فإذا بقيت هذه الثلاث، بقينا إن شاء الله، إذا آمنا بشرع الله، وأسلمنا قيادنا لله تبارك وتعالى.
يا أيتها الأمة الخالدة! يا أبناء من وزع الهداية على الإنسانية! يا أحفاد من نشروا لا إله إلا الله، وساروا بها مهللين ومكبرين مشرقين ومغربين! إن هذه الأمة أمة ريادة، تعطي الناس من القرآن ولا تأخذ منهم شيئاً، وتوجه الناس إلى الحق ولا تتوجه بهم.
قال الراوي -أحد الصحابة رضوان الله عليهم-: [[كنتُ مع عمر رضي الله عنه لما ذهب يعتمر، فلقي مولاه على مكة، فقال عمر: لمن تركت إمارة مكة؟ -لأنه كان أمير مكة من قبل عمر الخليفة- قال: تركتها لـ ابن أبزى، قال عمر: ومن ابن أبزى هذا؟ قال: مولى يا أمير المؤمنين! قال: ثكلتك أمك، ومولى أيضاً، قال: يا أمير المؤمنين! إنه عالمٌ بكتاب الله، عالمٌ بالفرائض، قال عمر رضي الله عنه: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين} فصلى الله عليه وسلم من معلم، لقد جربنا أطوارنا مع التاريخ، كلما تمسكنا بالقرآن كلما انتصرنا، وكلما تركناه خذلنا، في القرن السابع لما ترك وتُرِكَ العمل به، وأخلي العمل به؛ جاء الرافضة، ومن وراءهم من التتر المغول، مع جنكيز خان، فقتلوا في ثمانية أيام ثمانمائة ألف، ودمروا مساجدنا، وأحرقوا مصاحف، وقتلوا أبناءنا ونساءنا.
لما تركنا القرآن أخذت مقدساتنا وحرماتنا، فهل من عودة يا شباب الأمة، ويا شيبها، يا رجالها ويا نساءها؟ أضيئوا بيوتكم بالقرآن، وأحيوا قلوبكم بتدارس القرآن، عمر الله قلوبنا وقلوبكم بكتابه، وأحيا الله أرواحنا وأرواحكم بآياته، وردنا إليه رداً جميلاً، وهدانا إليه صراطاً مستقيماً.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(287/10)
هجر القرآن
الحمد لله ربِ العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة السالكين، وحجة الله على الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فيقول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30] قال بعض أهل العلم: هجر القرآن على خمسة أضرب: وهو الهجر الذي تتوجه إليه هذه الكلمة؛ هجر تلاوته، وهجر تدبره، وهجر العمل به، وهجر التداوي به، وهجر تحكيمه في دنيا الناس.(287/11)
هجر التلاوة
أولاً: هجر تلاوته؛ هو أن يهجره الإنسان فلا يتلوه، ولا يكون له حزبٌ يومي، ولا يعود إليه، ولا يتملى أسطره، ولا يعيش مع آياته، فهذا عبدٌ ضالٌ مضل، وإن كان من القارئين المطلعين الذين يجيدون الكتابة والقراءة، وهذا عبدٌ طبع على قلبه، واتبع هواه، واستغنى عن القرآن فلا أغناه الله، تمر به الأسابيع والأشهر ومنهم من لا يعرف القرآن إلا من رمضان إلى رمضان إذا كان من المسلمين، فكيف يعيش هذا وهي تمر عليه الأربعة والعشرون ساعة، وما جلس جلسةً مع الله، وما تزود من الزاد الذي يقربه من الله؟
فهذا من الهالكين وهو ممن يلعب بدينه، وممن يستهزئ بآيات ربه.(287/12)
هجر التدبر
وهجر تدبر القرآن؛ أن يقرأ القرآن لكنه ساهٍ لاهٍ لاغٍ لاعب، يردده بلسانه، وقلبه في السوق أو المزرعة، أو في المكتب أو في المدرسة، قد أخرج روحه ووزعها مع الناس، وقد أرسل عينيه ولسانه يردد كلاماً لا يفقهه، فهذا من الذين هجروا تدبر القرآن، وكل الحياة، وكل النور في تدبر هذا النور، فهذا أعرض بشق التدبر وما أعرض بالتلاوة، فهذا له أجر التلاوة، وأما أجر التدبر، وما يحصل به التدبر من نورٍ وإيمانٍ وفقهٍ واستنباط، فلا يحصل عليه.(287/13)
هجر التلاوة والتدبر
وهؤلاء من الذين: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16] القرآن يلعنهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يشهد عليهم، وإن قرءوا القرآن فهي حجةٌ عليهم لا حجةً لهم، لا يعملون به، ولا يصلون مع المصلين، ولا يزكون مع المزكين، ولا يتأدبون بآداب القرآن، يستهزئون بالصالحين، وينكتون وراءهم، ويعلقون عليهم، فهؤلاء أشبه شيءٍ بالمنافقين، بل هم من المنافقين: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فهو كفر، ومن اعتقد أنه لا خير في القرآن، أو أنه سوف يستغني بغير القرآن عن القرآن؛ فقد كفر.(287/14)
هجر التداوي
وقومٌ هجروا التداوي به، وقالوا إنها من الخزعبلات أن يقرأ القرآن على المريض أو المصروع، وكيف يستشفى بالقرآن؟ وكيف يتداوى بالقرآن؟ وهؤلاء خالفوا العقل والنقل، فأما النقل فدلت النصوص على أنه يتداوى به، ويستشفى به، وأما العقل فإنه يؤمن بالأسباب.
ومن ضمن أسباب إنعاش الروح وإسعادها القرآن، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستشفي بالقرآن، ويقرأه عليه صلى الله عليه وسلم، لما سحره اليهودي، قرأ المعوذتين فشفاه الله، وإذا أراد أن ينام نفث على جسمه الطاهر صلى الله عليه وسلم، وقرأ بالمعوذات، بل رقى صريعاً صرع بالجن، ونحن على ذكر هذه المسألة، أحب أن أذكر لكم، أن من عقيدة أهل الإسلام وجود الجن، ومن أنكر وجود الجن في الدنيا فقد كفر؛ لأن الله ذكرهم في الكتاب والسنة، وأما تلبسهم بالآدمي فإنهم يتلبسون به، وإن الجنية تتلبس بالإنسي، وكذلك الجني يتلبس بالإنسي، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ} [البقرة:275] والذي يتخبطه الشيطان من المس هو المصروع! وقال عز من قائل: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128].
قال ابن تيمية: والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف:
قوم يكذبون بدخول الجني في الإنس.
وقوم يدفعون ذلك بالعزائم المذمومة، فهؤلاء يكذبون بالموجود وهم لا يعصون بل يكفرون بالمعبود, والأمة الوسط تصدق بالحق الموجود ونؤمن بالإله الواحد المعبود، وبعبادته ودعائه وذكره وأسمائه وكلامه تدفع شياطين الإنس والجن.
وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أُتي بصريع، فقرأ عليه، وقال: اخسأ عدو الله أنا رسول الله، اخسأ عدو الله أنا رسول الله حتى أخرجه} والذين ينكرون ذلك قد خالفوا النقل والعقل، فإنا نسمع وتسمعون من حديث هذه الجنية على لسان الإنسي صوتاً يخالف صوته، وحديثاً يخالف حديثه، فهي تتكلم بصوت المرأة على لسانه، وهذه ليست مسألتنا، إنما المسألة كيف يتداوى بالقرآن؟(287/15)
كيفية التداوي بالقرآن
والناس في هذه ثلاثة أقسام:
قومٌ جعلوا القرآن دائماً في كل أمر، ولم يجعلوه للتداوي فحسب، من باب تعليق التمائم، ومن باب حضوره في المآتم، وفي المناسبات، وقراءته على القبور، كغلاة الصوفية فهؤلاء لا حظ لهم، وقد أخطئوا في ذلك، والصحيح أن القرآن سببٌ من الأسباب، يقرأ به فيما ورد، لا يعلق تميمة، ولا يعتقد أنه بنفسه ينفع أو يضر، فهؤلاء جعلوا القرآن مهمتهم في الحياة، أن تكون قراءته في المآتم، أو في الأعراس، أو في المناسبات، أو على القبور، فإذا أتى تحكيمه في دنيا الواقع في الحكومات القائمة، في الاقتصاد، في السياسة، في تدبير أمور الأمة، وفي الأدب والفن، أعرضوا عنه وتركوه، وقالوا: هذا شيء، وتلك شيء، وقابلهم قومٌ آخر متطرفون، فقالوا: القرآن لا يستشفى به، ولا يتداوى به وهو من باب الطلاسم، ومن باب التنجيم والكهانة، فهؤلاء أخطئوا كذلك.
وتوسط قوم فقالوا: مهمة القرآن هداية البشرية أولاً، يحكم به الحاكم في الأمة، في اقتصادها وجيشها، وسياستها وعلاقتها في كل ما يمت إلى الحياة بصلة، فهو دستور الحياة، وقائدٌ إلى الآخرة، ومحكمٌ إلى القلوب، وموجهٌ إلى الأرواح، ثم كذلك يتشافى به بما ورد.(287/16)
هجر التحكيم
وهو أكثر ما ضربت به الأمة الإسلامية -إلا من رحم الله- لما زعزع كرسي الخلافة، فهؤلاء جعلوه لا يدخل في تحكيمهم؛ فما حكموه ولا تحاكموا إليه، ولا نفذوا حدوده، وإنما استبدلوا بقوانين البشر، كقوانين هتلر وتعليمات نابليون، فهؤلاء يحشرون يوم القيامة عمياً بكماً صماً، مأواهم جهنم وساءت مصيراً.
بل لا حياة للناس إلا بالقرآن.
قال ابن القيم رحمه الله: إذا عطلت تحكيم القرآن في الحياة، أوحشت القلوب، وأقفرت الديار، وجدبت المنازل، وأنزل الله على الناس اللعنة، وقست القلوب واختلفت.
لذلك قال الإمام أحمد يصف أهل البدع: لا يتحاكمون إلى القرآن، مجتمعون على ترك القرآن، مختلفون في القرآن، نبذوا القرآن.
فكل من نبذ القرآن وظن أنه لا يتحاكم إليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، يفضحه على رءوس الأشهاد، ويزلزله ويمحقه، ويقطع دابره يوم يقطع الله دابر الذين ظلموا.(287/17)
دعوة لإحياء القرآن
عباد الله: فلا يصدنكم صادٍ عن كتاب الله، أحيوه في منازلكم وأسركم، وبيوتكم وفصولكم وسياراتكم، أحيوا هذا الكتاب؛ لتسعدوا، ولينصرنا الله، وليديم الله علينا الأمن والاستقرار والأمان، ولئلا يغضب الله علينا فيزلزلنا كما زلزل غيرنا، ويمحقنا كما محق غيرنا، فإن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين.
ومن أكبر ما يعارض القرآن، الأغاني الخليعة الماجنة التي أغوت شبابنا فجعلتهم شباباً مائعين ضائعين، منسلخين تائهين، يكبر أحدهم فإذا بلغ الخامسة والعشرين من عمره، أخذ العود فطنطن به أربعاً وعشرين ساعة، فنسي مهمته ومستقبله، ونسي مصيره إلى الله، ونسي مكانته من العالم، ثم أتى أمثاله وأضرابه فسموه الشاب الصاعد، وهو نازلٌ، لأن الذي يصعد هو الذي يكرم نفسه بالسجود لله، والذي يصعد هو الذي يحمل في قلبه لا إله إلا الله، والذي يصعد هو الذي يتشرف بعبودية الله، والذي يصعد هو الذي ينقي نفسه من معصية الله:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكُدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
أما هؤلاء فهابطون نازلون منحدرون، كفقير اليهود لا دنيا ولا آخرة، تشرفوا بالغناء، وعشقوه فأعرضوا عن كتاب الله، والبيوت التي يدندن فيه الغناء لا يحل فيها القرآن؛ القرآن أشرف من أن يمتهن، وأعظم من أن يتبذل، وأجل من أن يسخر به ويستهزأ: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام:155] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدمِ
جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم
أتى على سفر التوراة فانهدمت فلم يفدها زمان السبق والقدم
ولم تقم منه للإنجيل قائمة كأنه الطيف زار الجفن في الحلم
فعودةً يا أمة الإسلام إلى الله! وعودةً يا أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي! يا أحفاد فاتحي الدنيا ومعلمي الإنسانية! يا أحفاد من رفعوا رأس الإنسان، وكان على الأوثان يطبل ويزمر، ومع الشياطين يعشعش ويعيش.
أقولُ ما تسمعون وأدعوكم للصلاة والسلام على رسول الله، فإن الله قال في محكم كتابه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى عليَّ صلاةً واحدة، صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم قُدهم إليك، ووجه شبابهم، وكفر عنهم السيئات واهدهم شبابهم لما تحبه وترضاه، وردهم إليك رداً جميلاً، عرفهم بالقرآن وحببهم إليه، واجعلهم من حملته وأبعدهم عن كل ما يغضبك من دسائس الشيطان، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنةٍ مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء لا إله إلا الله، اللهم ثبت أقدام كل من رفع لا إله إلا الله، اللهم انصر من نصر لا إله إلا الله، اللهم انصر المجاهدين المسلمين في أفغانستان، وفي فلسطين وفي كل بلادٍ من بلادك يا رب العالمين.
اللهم وفق إمام المسلمين لما تحبه وما ترضاه، اللهم ألهمه رشده، وخذ بيده إلى كل خير، وارزقه بطانةً صالحة تدله على الخير، وتهديه إلى الصواب، إنك على كل شيءٍ قدير، ربنا إننا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(287/18)
نصيحة للشباب
الشباب هم أمل الأمة المرجو، والدعامة التي سوف تتحمل مسئولية هذا الدين، فما علاقة هذا الشاب بكتاب الله؟
وما هو موقفه من الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته؟
وكيف يصرف وقته ويقضي حياته؟
وما موقف هذا الشاب من المعاصي؟
إجابات هذه الأسئلة هي محتوى هذه المادة التي بين أيديكم.(288/1)
علاقتنا بكتاب الله
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، لك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد صلى الله عليه وسلم، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، والصلاة والسلام على من أرسلته معلماً للبشرية، وهادياً للإنسانية، ومزعزعاً لكيان الوثنية، أدَّى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
سلام عليكم يوم تواضعتم واجتمعتم منصتين لتسمعوا ما يقال، وسلام عليكم حينما حييتم من أتاكم زائراً ومحباً، وإن كان هناك من شكر فإني أتوجه إلى الله العلي العظيم بالشكر، الذي وفقنا لأن نجتمع بهذه الوجوه المباركة الخيرة النيرة، ثم أشكر أستاذ ومدير هذه المدارس الأستاذ الكريم محمد الزيداني وهيئة التدريس، وأشكركم أيها الإخوة الأخيار، واعلموا بارك الله فيكم أن موضوعنا ليس بجديد، بل هو قديم في الأخوة، وقديم في العراقة، وقديم في النصوص؛ ولكنه جديد في اللقاء، وتدور هذه الكلمة على أربعة عناصر لا خامس لها، هي مفاد كلمة هذا اليوم إليكم أيها الأخيار:
العنصر الأول: علاقتنا بكتاب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
العنصر الثاني: المعاصي التي دمرت علينا مستقبلنا، وضيعت علينا أعمارنا وأفكارنا وذكاءنا وإنتاجنا، وجعلت منا تلك الثلة التي انحرفت عن منهج الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
العنصر الثالث: الوقت -حياتنا وأعمارنا- فيم نصرفه؟
العنصر الرابع: موقفنا من الرسول صلى الله عليه وسلم.(288/2)
ارتباط الحضارة العربية بالإسلام
اعلموا -بارك الله فيكم- أننا كنا قبل القرآن وقبل محمد صلى الله عليه وسلم أمة أعرابية بدوية لا تعرف شيئاً، كانت أمتنا تتقاتل وتتنازع على موارد الماء، كان الزنا والفحش والعهر فيها فاشياً، حتى أن الأمم غير أمة الإسلام لم تكن تعرف أمة الإسلام ولم تكن تعرف الأمة العربية.
يقول أهل القومية الآن: " إن تاريخنا بدأ من فجر البشرية "، فما صدقوا في ذلك بل كذبوا، فإنه تاريخنا لم يبدأ إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أثبت التاريخ أن الأمم لم تكن تعترف بنا.
دخل ربعي بن عامر على رستم قائد فارس في معركة القادسية، فلما دخل ربعي -وهو مجاهد من المجاهدين- دخل بثياب ممزقة، وفرس هزيل، ورمح مثلَّم، فضحك رستم منه؛ وقد أرسله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه قائد المسلمين؛ ليفاوض رستم قبل المعركة، فقال رستم: بماذا جئتم؟! هل جئتم تفتحون الدنيا بهذا الفرس الهزيل وهذا الرمح المثلم؟! قال ربعي: [[بعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى سعة الإسلام]] قال رستم: والله لا تخرج حتى تأخذ تراباً على رأسك من تراب بساطي.
فحمَّله التراب على رأسه وخرج من عنده، ولما خرج من هناك قال المنجمون: هذه علامة على أنه سوف يسلب ملكك وملك آبائك وأجدادك، وخرج رستم ليشاهد المسلمين وهم يصلون صلاة الظهر، فوجدهم يركعون بعد سعد رضي الله عنه ويرفعون بعده، إذا قال: (الله أكبر) كبروا، وإذا قال: (سمع الله لمن حمده) قالوا: ربنا ولك الحمد، فعضَّ أنامله الخمس، وقال: علَّم محمدٌ الكلابَ الأدب -وهو الكلب-.
كانوا يتصورون أن العرب قبل الإسلام في هيئة الكلاب، لم تكن لهم حضارة ولا معرفة ولا ثقافة ولا أدب، حتى يقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].(288/3)
واجبنا تجاه القرآن
إن مطالب القرآن التي تتجه إلينا ثلاثة مطالب:
الأول: أن نعده أعظم ثقافة عرفتها البشرية، وأن نقرأه آناء الليل وأطراف النهار.
الثاني: أن نحفظ ما تيسر منه.
الثالث: أن نجعله تعاليم سلوكية، وأدبية واجتماعية، ونعمل بها ونلقى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى به.
يقول عليه الصلاة والسلام: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} ويقول عليه الصلاة والسلام: {اقرؤا الزهراوين؛ البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان كغمامتين أو غيايتين أو كطيرين من طيرٍ صواف} وكان عليه الصلاة والسلام يجلس مع تلاميذه الأخيار الذين تأثروا بالقرآن فيقول عليه الصلاة والسلام: {أريد أن أسمعه من غيري} يقول ابن مسعود وكلكم يعرف من هو ابن مسعود، وليس أنتم فحسب في أبها تعرفونه، بل يعرفه كل من في الجزيرة العربية، ويعرفه سكان الدول العربية وأهل الشرق الأوسط، ويعرفه مسلم اليابان ومسلم الصين ومسلم أمريكا، كلهم يعرفون ابن مسعود؛ لأنه اتجه بهذا القرآن ورفع الله قدره به، كانت قامة ابن مسعود على قدر جلوس الرجل، أي: يوازيك وأنت جالس برأسه من نحافته وهزاله وضعفه، لكن القرآن لما دخل قلبه جعله أمة، حتى أن الصحابة لما صعد شجرة ضحكوا من دقة ساقيه، حتى كاد يسقط من على غصن الشجرة كأنه طائر، فقال صلى الله عليه وسلم: {أتضحكون من دقة ساقيه؟! والله إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد}.
يقول صلى الله عليه وسلم لـ ابن مسعود: {اقرأ علي القرآن.
قال ابن مسعود: أأقرأ عليك القرآن وعليك أُنْزِل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ ابن مسعود من سورة النساء قال: فلما بلغت قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: حسبك الآن، فنظرت فإذا عيناه تذرفان} تأثر أيما تأثر بهذا القرآن.
ولذلك ليس لنا ثقافة نقدمها ولا تاريخ ولا معرفة ولا تربية ولا علم نفس نقدمه على القرآن، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " من ظن أنه سوف يهتدي بهدي غير القرآن فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
ويقول: كل أرض لم تشرق عليها شمس القرآن فهي أرض ملعونة، وكل قلب لم يشرق عليه هدى القرآن فهو قلب مغضوب مسخوط عليه.
فأنت -أيها الأخ الكريم- إذا غربت عليك شمس يومك ولم تقرأ فيه آيات، أو لم تعش فيه مع المصحف، أو لم تتدبر آيات؛ فاعتبر ذلك اليوم منسياً من عمرك، وأنك خاسر ومغبون فيه، لأن ثقافتنا نأخذها من القرآن، يقول سيد قطب في ظلال القرآن هذا الكتاب الذي أنصحكم وأرشدكم باقتنائه، الذي يعلمكم فيه حياة الواقع وردها إلى القرآن الكريم.
صاحب هذه الظلال عاش أربعين سنة في الضَّلال، عاش في الضياع كما يضيع الكثير منا الآن، يضيعون ويتيهون بلا رسالة في الشوارع، في الذهاب والإياب، وفي المقاهي ومع جلساء السوء، لا يعلمون أنهم من خير أمة أخرجت للناس، ولا يعلمون أن أجدادهم فتحوا الدنيا وعمروا التاريخ، وبنوا منابر الحق سلوا كل سماء في السماء عنا، وسلوا كل أرض في الأرض عنا، ما أوجد العدل إلا أجدادنا، فهذا الشاب الذي يضيع كأنه يتلاشى ويكذب ما فعل أجداده.
يقول سيد قطب: عشت أربعين سنة في الضياع، فلما عدت للقرآن تهولت منه، وأن الله من فوق سبع سماوات يخاطبني، وأنا العبد الضعيف المسكين قال: وكنت أقرأ أن الصحابة يتأثرون بالقرآن ويبكون منه، فلم أشعر بذلك حتى سافرت مرة من المرات في سفينة من مصر إلى أوروبا، وكان معي شباب من العرب يريدون أوروبا، فركبوا معي في السفينة ومعنا جاليات، منها جالية من يوغسلافيا فرت من بلادها، ومعهم امرأة يوغسلافية جالسة في الجالية، فلما أتت صلاة الجمعة قمت فصليت بزملائي وقرأت بعد الفاتحة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] وسورة الغاشية، ثم انصرفت من الصلاة، والتفت فإذا هذه المرأة اليوغسلافية التي لا تعرف اللغة العربية تبكي، فقلت للترجمان: ما يبكيها؟! قال الترجمان: قالت: إنها تبكي لأنها سمعت إيقاعاً منك خاصاً أثر عليها في قلبها، إيقاعاً من القرآن فهي تسألك كلام من هذا؟! قلت: أخبرها أنه كلام رب السماوات والأرض، فلما أخبرها زاد بكاؤها بكاءً ونحيبها نحيباً.
ثم يورد سيد قطب قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة فيقول: " كان من هديه صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث ثابت وصحيح-: {أنه صلى الله عليه وسلم كان يدور على أصحابه آخر الليل ليسمع من يقرأ القرآن، فاستمع مرة من المرات من وراء الباب إلى عجوز تقرأ قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] وتردد مرات والرسول صلى الله عليه وسلم يردد معها ويقول: نعم أتاني، نعم أتاني}.
فالذي أدعو نفسي وإياكم -يا شباب الإسلام، يا أيها الأخيار، يا أيها الأحبة، لأنكم أنتم أمل هذه الأمة- أن تجعلوا وقتاً من أيامكم لهذا الكتاب العظيم، اعتبر وقتك إذا لم تقرأ فيه القرآن أنه يوم ضائع مغبون عليه.
يقول الحسن البصري رحمه الله: كل يوم تشرق فيه الشمس يقول: يا بن آدم! اغتنمني فوالله لا أعود إليك أبد الدهر.(288/4)
حال شباب الصحابة عندما أخذوا بالقرآن
نعجب كيف ساءت أخلاقنا، وكيف فسدت بيوتنا وفسد شبابنا! لأننا أخذنا تعاليمنا من غير القرآن، أخذناها من المجلة الخليعة والأغنية الماجنة، ومن جلساء السوء، حتى إن أحدهم يعرف المغنين والمغنيات والفاجرين والفاجرات الأحياء منهم والأموات، ولا يعرف حياة صحابة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين فتحوا الدنيا وعمروا المعمورة ونوروا عقول البشرية، ولا يتحاشى أحدنا أن يحفظ الأغنية بحروفها وبلحنها وبطولها وبعرضها، ومَن لحَّنها، ومَن أنتجها، ولا يحفظ سورة من كتاب الله عز وجل! أي خيبة وصلت إليها الأمة بعد هذه الخيبة؟! وأي حسرة وصلنا إليها بعد هذه الحسرة؟!
فبعد حياة كنا فيها أرقى الأمم، حتى إن الصحابي كان يقف عند الرسول صلى الله عليه وسلم وهو شاب في سن الشباب، فيأتي في معركة أحد ويقول: يا رسول الله! إنني ذاهب إلى الجنة والله لا أعود.
جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
يأتي عبد الله بن عمرو الأنصاري الشاب فيستشهد ويقطع بالسيف أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فيبكي عليه ابنه، فيقول عليه الصلاة والسلام: {إن الله كلمه كفاحاً -أي: بلا ترجمان- فقال الله عز وجل: تَمَنَّ يا عبدي، قال: أتمنى أن أُعاد إلى الدنيا فأُقتل فيك ثانية، قال: إني كتبتُ على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتَمَنَّ، قال: أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك، قال: فإني قد أحللت عليك رضاي فلا أسخط بعده أبداً، فجعل الله روحه في حواصل طير ترد ماء الجنة تشرب منه وتأكل من شجر الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة في السماء}.
ويأتي شاب آخر ويقول: إني أجد ريح الجنة من دون أحد؛ فيُقتل ويُضرب بالسيف سبعين ضربة حتى مات، فلم يعرفه إلا أخته ببنانه.
وجاء في الحديث الصحيح: {أن ابن الزبير دخل على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم، -والحجامة: إخراج الدم الفاسد- فأُخرج الدم منه صلى الله عليه وسلم ووُضِع في إناء، فقال لـ ابن الزبير: اذهب بهذا الإناء وضعه في مكان لا يراه أحد، فذهب ابن الزبير وكان عمره عشر سنوات، فلما اختفى في سكة من سكك المدينة شرب دم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما عاد قال صلى الله عليه وسلم: أين وضعت الدم؟ قال: وضعته في مكان لا يراه أحد.
فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ويل لك من الناس وويل للناس منك، لا تمسك النار}.
هل عرف التاريخ شباباً مثل هذا الشباب؟! هل عرفوا إقداماً مثل هذا الإقدام؟
إنهم شباب محمد صلى الله عليه وسلم الذين رباهم بالقرآن، ولذلك فقد تربى الكثير منا -إلا من رحم الله- على الأغنية الماجنة، والمجلة الخليعة، وعلى جلساء السوء، فأخرجت هذا الإنتاج العجيب: المعاصي، والسجون المعبأة، والمخدرات، والانحراف عن منهج الله، والشرود عن آياته التي نراها في مجتمعاتنا، ونسمع قضاتنا يتحدثون عنها صباح مساء، يندى لها جبين المسلم، وفي الأخير نقول: ما لنا لم نفعل مثل الصحابة؟! وما لنا ننحرف؟! وما لنا ليس عندنا استقامة ولا منهج قويم؟! والسبب أننا لم نعش مع القرآن ولم نتأثر به.
فمحتوى هذا العنصر: أن نعيش مع القرآن، وأن نتدارس كتاب الله عز وجل.(288/5)
المعاصي دمرت حياتنا
العنصر الثاني: الانتهاء عن المعاصي.
سائل نفسك وعرِّفها أن الذي يدمر مستقبلك وينهي عمرك ووقتك إنما هو المعصية، إذا عصيت الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى فقد اقترفت في حقك وفي حق أمتك وأسرتك أكبر جريمة في تاريخ الإسلام، ولذلك ينادي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عباده، وينادي كل الأمة شباباً وشيوخاً، كباراً وصغاراً، ذكوراً وإناثاً أن يتوبوا إليه، فقال عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].(288/6)
الخوف من الله عز وجل
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح: {كان هناك رجل من بني إسرائيل فقال لأبنائه لما حضرته الوفاة: إذا أنا مِتُّ فاجمعوا حطباً ثم أشعلوا النار وأحرقوني، فإذا أصبحتُ فحماً فاسحقوني وذرُّوني، لعل الريح تذهب بي فلا يجدني الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يستطيع أن يجمعني! - أليس الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول للشيء: كن فيكون؟! - فلما توفي هذا الرجل جمع له أبناؤه حطباً وأشعلوا ناراً وحرَّقوه، فلما أصبح فحماً سُحِق وذُرِّي في يوم فيه ريح، فذهبت به الريح يمنة ويسرة وفي كل مكان، فجمعه الذي بدأه أول مرة، فلما أصبح أمامه رجلاً قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ما حملك على ما صنعتَ؟ قال: يا رب! خشيتك من كثرة ذنوبي - وهو موحد مؤمن في الأصل -، فقال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يا ملائكتي! أشهدكم أني قد غفرتُ له وأدخلته الجنة} قال ابن تيمية: لما شك في القدرة غفر الله له بسبب أنه خاف من لقائه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يقول أحد شعراء الإسلام:
وإذا خلوتَ بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
أي: أنك إذا خلوت لوحدك ليس معك إلا الله، ولا يراك إلا الله، ولا يشاهد حركاتك وسكناتك إلا الله، وتظن أنك خلوت وانفردت وأنك أصبحت في مكان وحدك، فوالله إنك لم تنفرد، فمعك رقيب وعتيد، ومعك الذي لا ينام ولا يغفل، ومعك الذي لا ينسى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى
وإذا خلوتَ بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحِ من نظر الله واعلم أنه: {يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219].
ورد في بعض الآثار أن رجلاً اختفى في غابة وهَمَّ بمعصية فقال: لا يراني أحد، أنا في غابة وحدي وقد تسنت لي المعصية، فسمع هاتفاً يهتف ويقول: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] يقول ابن مسعود: [[الله الله في السرائر، الله الله إذا خلوت]].
وهذا الإمام أحمد -الإمام الزاهد العالم الكبير- قال بعض تلاميذه: والله إنا لنسمعه يبكي من وراء البيت وهو يقول:
إذا ما خلوتَ الدهرَ يوماً فلا تقل خلوتُ ولكن قل علي رقيب
وصاحب هذا البيت هو أبو نواس الذي تعرفونه وتسمعون به، وهو الذي توفي على فسق ومعصية، وقد رئي في المنام - كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية - فقيل له: " ما فعل الله بك يا أبا نواس؟ قال: غَفَر لي وأدخلني الجنة، قالوا: بماذا؟ قال: وصفتُ الزهرة - واسم القصيدة: (القصيدة النرجسية) في ديوانه - ورَدَدْتُ أمرَها إلى الله، وقلت: إنه هو الذي أبدعها وزينها وحلاها وجملها.
فغفر الله له بذلك السبب، ولذلك بعض الأسباب السهلة في الحياة تستطيع أن تدخل بها الجنة.
وهذا رجل من بني إسرائيل رأى غصناً من شجرة ذا شوك في طريق الناس، فصرفه عنهم فأدخله الله بذلك الجنة.
ويقول ابن كثير في البداية والنهاية: رؤي جرير بن عطية الشاعر المشهور في المنام بعد أن توفي، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غَفَر لي وأدخلني الجنة، قالوا: بماذا؟ قال: أذَّنْتُ وحدي في البادية حيث لا يراني إلا الله.
أذن في البادية، هذا الأذان الذي فتحنا به الدنيا، والذي أرسلناه نغماً في آذان البشرية، والذي تهاوت به أصنام الوثنية، وقد أصبح شبابنا الآن يخجلون إذا ذهبوا في رحلة أو في سفر من الأسفار أن يؤذن أحدهم، ويقول: لو أذنتُ لأصبحتُ مطوعاً، وأنا لست بمطوع، أي: أنه بمفهوم مقالته عاصٍ.
يقول محمد إقبال شاعر باكستان:
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنسَ أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
شباب الصحابة كادوا يقتتلون على الأذان في معركة القادسية، لأن مؤذنهم عبد الله بن أم مكتوم، عبدٌ أعمى قُتل في المعركة، وقد عذر الله الأعمى أن يحضر لكنه قال: لا بد أن أحضر المعركة، فلما حضر المعركة قُتل في سبيل الله، فكاد شباب الصحابة أن يقتتلوا على الأذان، لكننا الآن أصبحنا نخجل أن نتقدم ونؤم الناس ونصلي بهم ونخطب على المنابر، وأن نؤذن بالناس ونقول: نحن لسنا مطاوعة، نحن شباب متطور أو متهور، فألغينا هذه الوظائف التي رفعت رءوسنا بين الأمم.
والشاهد - بارك الله فيكم - هو: أن المعصية دمار لمستقبل الإنسان، وأنها غضب وعقاب من الله.(288/7)
التوبة سبب البركة والسعادة
وهذا موسى عليه السلام القوي الأمين، وصاحب التوحيد، صاحب أكبر صراع في تاريخ الإنسان مع فرعون الطاغية، خرج يستسقي ببني إسرائيل، فلما خرج قال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، فأوحى الله إليه: يا موسى عد ببني إسرائيل، وعزتي وجلالي إن لم تعد بهم لأرمينهم بالحجارة على رءوسهم، أكلوا الربا، وفشا فيهم الزنا، وتواصوا بالفُحش والعُهر، فبكى موسى عليه السلام وقال: يا بني إسرائيل! عودوا لا يلقين الله تعالى على رءوسكم الحجارة.
فلما انتشرت فينا المعاصي قلَّت بركاتُنا، وقلَّ ذكاؤنا وفهمُنا، حتى أصبح أهل الدنيا أكثر إنتاجاً منا، من أكثر نحن أم أوروبا وأمريكا إنتاجاً وتصديراً وتوريداً؟! هم أكثر مِنَّا؛ ولكننا تساوينا نحن وإياهم في المنهج، فغلبونا في أسباب الدنيا، والله تعالى يقول فيهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
فيا أيها الإخوة: أريد أن تفهموا من العنصر الثاني: أن تتوبوا إلى الله عز وجل، وأن تستغفروه دائماً وأبداً، وأن تجعلوا في أذهانكم مراقبة الله الحي القيوم.
كان عمر بن الخطاب إذا خرج وحده إلى الصحراء أخذ بمطرق معه (عصا) فضرب رجليه وبكى وقال: [[يا عمر! لتتَّقين الله أو ليعذِّبنك الله عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين]].
وقال عبد الرحمن بن عوف: [[رأيت عمر دخل المقبرة يسلم على الأموات فرأى قبراً محفوراً، فسمعتُ بكاءه وأنا وراء السور وهو يقول: ويل لأمي إن لم يرحمني ربي]].
هذا وهم مبشرون بالجنة فكيف بنا نحن الذين لم نبشر بها ونحن تحت رحمة الله عز وجل؟! إن معاصينا ومخالفاتنا وأوقاتنا الضائعة تشهد علينا أننا لم نتأثر بالإسلام.
فيا إخوتي! الله الله في ترك المعاصي والانتهاء عنها، كالمعاصي العين؛ من النظر إلى المحرمات، من كالأفلام الخليعة الماجنة، والصور العارية، والنظر إلى حرمات المسلمين، فهذه هي عيوب وذنوب العينين
وعيناك إن أبدت إليك معايباً لقوم فقل يا عين للناس أعين
يسألك الله يوم القيامة بعد أن يختم على فمك، فتتكلم عينك ولسانك ويداك وجلدك فيشهد كلٌّ عليك بما فعلت، ولذلك أوصي نفسي وإياكم بالتوبة من المعاصي ما ظهر منها وما بطن، واصرف وقتك أخي الكريم فيما ينفعك ويقربك من الله عز وجل.(288/8)
الوقت وحياتنا وأعمارنا فيمَ نصرفها؟
العنصر الثالث: هو الوقت الذي ضيعناه، والعمر الذي صرفناه، يقول عليه الصلاة والسلام: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ} تجد الشاب صحيحاً معافىً غنياً، عنده كل أسباب الحياة، عنده سيارة وبيت ومكتبة، فتأتيه فإذا هو أكسل الناس، فهو لا يصرف وقته إلا في الهوى واللعب، يتحدث مع فلان وعلان، ويركب ويجتمع ويجلس مع مَن شاء، فهذا هو الذي خسر عمره في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] أتحسب أن هذا الوقت الذي تصرفه لا يحاسبك الله عز وجل عليه، ولا يوقِفُك يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه -: {لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: وذَكَرَ منها: وعمره فيما أفناه}.
عمرُك والله لتسألن عنه دقيقة دقيقة، وثانية ثانية
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
مجلسُنا الذي جلسناه من يوم أن بدأنا إلى الآن لا يعود هذا الوقت الذي فرض فيه، ولو اجتمع أهل العالم لكي يعيدوا هذا الوقت فإنهم لا يستطيعون أن يعيدوه أبداً؛ لأنه انتهى من أعمارنا.
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجات من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
ولذلك نحن نتقدم خطوة خطوة إلى الموت والهلاك والفناء ونحن لا نشعر، فالله الله! كم من ساعة ضيعناها! ولا إله إلا الله! كم من يوم صرفناه في المعصية وفي الهوى واللغو وفي الإعراض عن الله! وبعدها ندَّعي أننا شباب الإسلام وأننا أمل الأمة!
أخي في الله: إن أمل الأمة أن تقرأ وتحقق وتواظب وتجد وتجتهد، فلا تضيع ساعاتك الطويلة في اللهو واللعب والغناء ومع كل من هب ودب.
نفسي وإياكم باغتنام الوقت وصرفه فيما ينفعك عند الله، وأن يكون عندك برنامج يومي تعرف على منواله وعلى ضوئه حياتك، وتسير حتى تلقى الله عز وجل، فالقرآن وقت تقروءه فيه، ولمذاكرة دروسك وقت، ولصلاتك وقت، فلا تتخلف عن هذه الأشياء ولو تخلَّفَتْ الشمسُ فأتت من المغرب ولم تأت من المشرق، والزيارات والجلوس مع الإخوان لها وقت خاص، ووقت لمطالعة المكتبة ولجلوسك مع كتبك، من الكتب الصفراء كتب العلم والسلف الصالح، التي لمَّا تركناها ورجعنا إلى المجلات الخليعة هَبَطَت عقولُنا، وسَخُفَت أرواحُنا، وضاعَت بيوتُنا، وشاهَت أخلاقُنا، ودُمِّرَت عقولُنا لما تركنا الإنتاج الهائل الذي تركه أجدادنا لنا أتدرون كيف كان حفظهم يقول الذهبي عن ابن عقيل، أحد علماء الأمة: ألَّف كتاباً عدد أجزائه سبعمائة مجلد مخطوط، وهو موجود كما يقول أهل العلم.
يقول ابن تيمية النوافل: وهي ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، فمن داوم على ترك هذه النوافل والركعات التي جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم سنناً رواتب فإنه فاسق تُرَدُّ شهادتُه -نسأل الله العافية! - فليت ابن تيمية يدري أن منا من يترك الصلاة! وأن منا من يتهاون بها! وأن منا من يدخل عليه الوقت ويخرج وهو لم يهتم بالصلاة ولا انضبط مع أمر الله عز وجل! مسلمٌ يسمع: (الله أكبر) ولا يقوم فيتوضأ! أيُّ مسلم هذا؟! يقول الله في المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] يقومون ببرود، فإذا أردت أن تعرف المنافق فلا تعرفه بلونه، أنَّه أحمر أو أسود أو أصفر، ولا بشكله، ولا بعضلاته؛ بل تعرفه بموقفه من الصلاة، إذا رأيتَه - عندما يؤذن المؤذن - يتكاسل ويتهاون فاعلم أن فيه نفاقاً.(288/9)
المبادرة إلى الطاعة
تقول عائشة: {كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع الأذان أو النداء قام إلى الصلاة كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه} يقطع أعماله وأشغاله ويقوم إلى الصلاة وذكر الذهبي عن عامر بن عبد الله بن الزبير أحد الصالحين الأخيار، يقول: أُذِّن لصلاة المغرب وهو في سكرات الموت - حضره الموت وأصبح في آخر ساعة من ساعات الدنيا - فقال: احملوني إلى المسجد، قالوا: إن الله عذرك وسامحك وعفا عنك، قال: والله لا أسمع: (الله أكبر الله أكبر) ثم أبقى على فراشي! فحملوه وهو في سكرات الموت، فصلى وهو معتمد على رَجُلَين، ثم توفي وقبض الله روحه وهو في السجدة الأخيرة، فلما أخبروا أهله بذلك قالت زوجته: والله لقد علمتُ أن الله سوف يتوفاه ساجداً؛ لأنه كان يقول كلما أصبح: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، فرزقه الله الوفاة وهو ساجد.
وذكر ابن الجوزي في صفوة الصفوة: أن أحد الصالحين كان يشتغل نجاراً وكان النجار في عهد السلف الصالح أتقى لله منا ونحن طلبة علم، ونسمي أنفسنا طلبة علم وواجهة للمجتمع، كان البائع التاجر أتقى لله في عهد السلف الصالح، منا فكانوا كلهم أخياراً إلا ما شذ منهم، حتى إن عمر رضي الله عنه عيَّنه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه قاضياً، قال: فبقيتُ سنة في المدينة لم يأتني متخاصمان؛ لأنهم عرفوا الحق.
يقول ابن الجوزي: أتى أحد النجارين لينجر، فكان إذا رفع المطرقة يضرب بها المسمار وسمع: (الله أكبر) لا يردها ثانية؛ بل يلقيها ويطرحها وراء ظهره ويقوم إلى الصلاة.
ولا يُعرف إيمانُ المؤمن إلا من استعداده للصلاة وقيامه إليها.
إخواني في الله: يومُنا هذا أو غيره من الأيام يسدَّد فيه الإنسان بسبب حضوره لصلاة الفجر، واسأل نفسك وأنت جالس الآن إن كنت صليت الفجر في جماعة فأنت في ذمة الله وفي حفظه ورعايته؛ فقد جاء في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فمن طلبة من ذمته فقد أدركه، ومن أدركه أهلكه}
لماذا امتلأت السجون من الشباب الذين يتعاطون المخدرات؟! لماذا امتلأت السجون من الشباب الذين زاولوا الزنا والمخالفات والشذوذ الجنسي؟! لماذا هتكت المحرمات؟!
كل ذلك بسبب تركنا للصلوات؛ حتى يقول العلماء: إن من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة لا يصاب بكبيرة بإذن الله، فلا يقترف كبيرة ولا يمكن أن تتعرض له كبيرة من كبائر الذنوب.
يقول أحدهم: كنت حارساً في سجن في الشمال، فدخل علي في سبع سنوات ما لا أحصي من المسجونين من أهل المعاصي، فكنت أسألهم بعد صلاة العشاء وأقول: أسألكم بالله! أصليتم العشاء اليوم في جماعة؟ قالوا: لا.
فابتلاهم الله بالفواحش والمنكرات والكبائر، فضُرِبَت ظهورُهم، وسُجِنُوا، وذَهَبَت عقولُهم بالمخدرات بسبب تركهم للصلوات.
فالله الله -يا شباب الإسلام- في الصلوات الخمس، التي لما تركناها رأينا كثيراً من الأجيال قد انحرفت عن منهج الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ورأينا البيوت مهدمة على أعقابها، والتربية السيئة، والعصيان من الولد لوالده، يقول الله عز وجل في حديث قدسي: {أبي تغترون، أم عليَّ تجترئون؟! فبي حلفت لأنزلن عليكم فتنة تجعل الحليم حيران} ولكن الله يرحمنا بسبب الشيوخ الذين يركعون ويسجدون، وبسبب الأطفال البرآء الذين لا ذنب لهم، أما نحن فنسأل الله العافية!
ورد في الحديث القدسي أن الله يقول: {لولا الشيوخ الرُّكَّع، والأطفال الرُّضَّع، والبهائم الرُّتَّع لخسفت بكم الأرض خسفاً}.
زلزلت المدينة في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه، وأصابها زلزال سهل ليس بكبير حتى تساقطت بعض الجدران وبعض البيوت، فجمع عمر الناس في المسجد، فلما اجتمعوا رجالاً ونساءً وأطفالاً، بكى رضي الله عنه عنه وأرضاه ثم قال: [[والذي نفسي بيده! إن وقع الزلزال مرة ثانية في المدينة لا أجاوركم فيها أبداً، وليكونن آخر العهد بي.
قالوا: فما علاقتنا يا أمير المؤمنين بالزلزال؟ قال: أنتم الذين أوقعوا الزلزال، فما وقع إلا بذنوبكم.
فبكى المسجد حتى ضج بالبكاء وقالوا: تبنا إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى]].
فلم تقع المصائب التي وقعت في الأمة إلا بسبب ذنوبنا وإعراضنا عن الله.(288/10)
موقفنا من الرسول صلى الله عليه وسلم
العنصر الرابع: بعد حفظ الوقت، وحفظ نفسك من المعاصي وحفظ الله في الطاعات، عليك أن تعرف موقفك من الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالله لم يخلق أشرف ولا أرحم ولا أكرم ولا أجل من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك أغلق الله أبواب الجنة، فلا تدخل إلا عن طريقه، فمن أتى من غير طريق الرسول صلى الله عليه وسلم حرمه الله تعالى من دخول الجنة قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
وموقفك من الرسول صلى الله عليه وسلم يدور على ثلاث قضايا:(288/11)
الاهتمام بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم
القضية الأولى: أن تعيش معه في السيرة، بأن تعرف سيرته وحياته، فهي معرفة جليلة وجميلة ولا أعلم فيها كتاباً أحسن من كتاب زاد المعاد لـ ابن القيم، يقول أبو الحسن الندوي: ما دَبَّجَت كفُّ مسلمٍ أفضل من زاد المعاد.
فأنصحُ نفسي وإياكم باقتناء مثل هذه الكتب، فخذوا هذا الكتاب أو كتاباً آخر في السيرة كـ سيرة ابن هشام، وأجلُّها زاد المعاد، لـ ابن القيم تستصحبونه معكم وتقرءونه وتتدبرون ما فيه، علَّكم أن تعرفوا محمداً صلى الله عليه وسلم وحياته، وعلَّكم أن تعرفوا هذا الإنسان العظيم الذي زكاه الله من فوق سبع سماوات فقال فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
وقراءة السيرة ليست للتسلية ولا للسمر، لكن لنقتدي به صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد ورد في الحديث: {والله لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا أدخله الله النار} ووالله لا يسمع بالرسول صلى الله عليه وسلم سامع ثم لا يقتدي به ولا يسلك مسلكه إلا دخل النار.
يا مدَّعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهوينا
خذها جميعاً تجد خيراً تفوز به أو فاطَّرحها وخذ عنه الشياطينا
فالواجب أن تأخذ كل صغيرة وكبيرة أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم فتحكمه في نفسك، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
كان محمد عليه الصلاة والسلام يصلي، فأنت يجب عليك أن تصلي مثلما صلى عليه الصلاة والسلام، يقول صلى الله عليه وسلم: {صلوا كما رأيتموني أصلي} كيف ندعي أننا طلبة علم ولا نعرف كيف كان يصلي صلى الله عليه وسلم؟! صحيحٌ أننا أجَدْنا علم الدنيا، فعرفنا وأتْقَنَّا علوم الجغرافيا والتاريخ والتربية، لكن علم السيرة وعلم الأثر والحديث لم نُجِدْه كما ينبغي وعلينا أن نعلم كيف كان يشرب، وكيف كان يأكل.
وأوصي الأساتذة والمربين والموجهين أن يتقوا الله في شباب المسلمين، وأن يتقوا الله في هذا الفلذات التي عُرِضت أمامهم على كراسي الدراسة، بأن يمنحوها ويحضروا لها علماً نافعاً، وأن يخلصوا لله عز وجل، ولا يكن هَمُّ الأستاذ أن يُنْهِي الخمسَ والأربعين الدقيقة ثم يخرج من الفصل ويعتبرها وظيفة، لا.
والله ليسألنه الله يوم القيامة عن هؤلاء، وليسألنه ماذا فعل بهم، وليسألنه في هذا المرتب الذي قبضه، وهذه الأكباد والوجوه والقلوب ماذا فعل بهم.
وأوصي نفسي وهؤلاء الشباب أن يتقوا الله في أيامهم وفي جلوسهم على مقاعد الدراسة، وأن يستفيدوا العلم من أساتذتهم، وأن يحترموهم ويوقروهم لأنهم يهدونهم إلى الصراط المستقيم إن شاء الله.(288/12)
خلاصة موقفنا من الرسول صلى الله عليه وسلم
أيها الإخوة: إن موقفنا من الرسول صلى الله عليه وسلم يتمثل في أشياء ثلاثة:
أولاً: أن نعيش سيرته.
ثانياً: أن نتأدب بأدبه.
ثالثاً: أن نكثر من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
واعلموا أنكم لن تجدوا في العالم كله أزكى منه قلباً، ولا أطهر ولا أوضح منه منهجاً، ولا أحسن منه سيرةً صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى:52 - 53].
أيها الإخوة الكرام: هي أربع نقاط أحببنا أن نتدارس مع هذه الوجوه الخيرة النيرة فيها وهي:
الأولى: موقفنا من الكتاب العظيم، من القرآن الذي أهملناه وما حفظناه.
الثانية: موقفنا من الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثالثة: موقفنا من أيامنا وأوقاتنا الغالية.
والعجيب أن أحد الأمريكان له كتاب موجود في السوق، عنوانه: دع القلق وابدأ الحياة، وهذا الكاتب اسمه: دايل كارنيجي، يقول فيه: الأمريكان يقرءون في اليوم والليلة ست عشرة ساعة من أربع وعشرين ساعة.
وهم لا يعتقدون أن الله يبعث الناس يوم القيامة، ونحن الذين نحن من سلالة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ونقول: أننا فتحنا العالم، وكلما أتانا إنتاج قلنا: هذه بضاعتُنا رُدَّت إلينا، ونقول نحن في مهبط الوحي، ولا يقرأ الواحد منا - إلا من رحم الله - في اليوم ساعة أو ساعتين، وإذا قرأ ساعة ذهب وأخبر إخوانه وجيرانه أنه قرأ ساعة، ويقول: مللت وأصابني النعاس وأصابني كذا وكذا.
فلذلك سوف يكون أهل الكفر الذين لا يعلمون إلا ظاهر الحياة أكثر منا قراءة يقول موشى ديان الميت الهالك إلى نار جهنم: العرب لا يقرءون، وذلك عندما قيل له: نشرتم أسراركم في صحفكم فكيف إذا قرأها العرب؟! قال: إن العرب البدو أسوأ منا، فيقرءون أقل منا.
فنحن أقل الناس قراءة.
فالذي أريده منكم أن تُقْبِلوا على مكتباتكم، وأن تستشيروا معلميكم في الكتب الجيدة، فإنه ليس كل ما يُعرَض في السوق يُشْتَرى، بل تأخذون الكتب النافعة الطيبة كـ الصحيحين وكتب ابن القيم، وكتب ابن تيمية، وكتب ابن كثير، وكتب التفاسير التي تزيدكم علماً ويقيناً وتهديكم إلى الصراط المستقيم، ثم أدلكم على الشريط الإسلامي أن تقتنوه في سياراتكم وبيوتكم بدلاً من شريط الأغنية.
مسلمٌ ويستمع الغناء! مسلمٌ ويستمع العهر والفجور! مسلمٌ ويستمع ما يُقال في الفحش!
يقول عمر بن عبد العزيز لأبنائه: [[الله الله لا تستمعوا الغناء، فوالله ما سمعه مستمع إلا حبب إليه الفاحشة]].
ويقول عقبة بن عامر القائد المسلم الكبير فاتح أفريقيا لأبنائه: [[أسأل الله عز وجل أن يعصمنا وإياكم من الغناء، فوالله إذا سمعتموه لن تحفظوا كتاب الله أبداً]].
فالغناء هو سبب إضاعتنا للقرآن، وسبب ضياع أوقاتنا، وسبب إنهاء علمنا من رءوسنا.
أيها الإخوة الفضلاء: لا أريد أن أطيل عليكم، وإلا فالحديث كثير، و (يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق) وأشكركم شكراً جماً على تواضعكم وبقائكم، فجزاكم الله خير الجزاء، وشكراً لكم الشكر الكبير.
وأسأل الله الذي بيده مفاتيح القلوب أن يفتح على قلوبنا وقلوبكم، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل، وأن يجعل منا ومنكم مفاتيح للخير ومشاعل للهداية، حتى نقود أنفسنا وبيوتنا ومجتمعاتنا إلى سواء السبيل، فنعرض عمن أعرض عن الله، ونتحاكم إلى شرع الله، ونستروح إلى هداه ونسير على منهجه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
اللهم افتح علينا من فتوحاتك، واهدنا سواء السبيل، وتقبل منا ما قلنا وما استمعتم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(288/13)
النفوس التي هاجرت إلى الله
استعرض الشيخ وفقه الله سيرة معركة أحد مجلياً فيها بعض المواقف البطولية التي أبرزت بجلاء شجاعة الصحابة الكرام وإقدامهم وتضحيتهم، وحبهم وفدائهم للرسول صلى الله عليه وسلم.
ومستخلصاً في نهاية درسه نتفاً من الفوائد المستنبطة من تلك الغزوة.(289/1)
معركة أحد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
صلى الله على النعمة المهداة، والعطية المسداة، أفصح من نطق بالضاد، ورفع علم العباد.
صلى الله على باني دولة الإسلام، وهادم دولة الأصنام، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فإننا في هذا الدرس سوف نعرض بإذن الله موقعة أحد، حيث المهُج التي سافرت إلى الله، والأرواح التي هاجرت إلى الحي القيوم، حيث المواقف الخالدة التي لا تنسى أبد الدهر، حيث البيعة المجيدة التي بايع فيها المهاجرون والأنصار ربهم تبارك وتعالى، فما نكصوا وما تأخروا، ويشترك القرآن مع الحديث النبوي في هذه الموقعة لينتقل القرآن بنا إلى معركة أحد، يصور لنا المعركة والقتل في سبيل الله والشهادة والثبات، ثم ثمرة النصر أو الهزيمة.
ولنكن ونستمع إلى الإمام البخاري وهو يصل إلى كتاب الغزوات، ويواصل مسيره في نقل الأحداث بأسانيد كنجوم السماء.
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
يقول رحمه الله تعالى في كتاب المغازي: باب غزوة أحد، ثم ساق بسنده إلى البراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه قال: {لما حضرنا معركة أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر على الرماة رجلاً من أصحابه -اسمه عبد الله- قال: فلما بدأنا المعركة فر المشركون، حتى إني لأرى خدم سوق نسائهم يصعدن في الجبل، قال: فلما رأى الرماة هذا الفرار؛ نزلوا إلى الغنائم، وقد خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت الهزيمة، فالتجأنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدناه جالساً ومعه أبو بكر وعمر، وإذا بـ أبي سفيان ينادي: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلم يجبه أحد، فقال: أين أبو بكر؟ فلم يجبه أحد، فقال: أين عمر؟ فلم يجبه أحد، قال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم -أو فقدتموهم كما في بعض الروايات- فقام عمر لما آنس هذه الغضبة لله عز وجل في نفسه فقال: لا والله لقد أبقى لك الله ما يسوءك يا عدو الله، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وأنا عمر، فقال أبو سفيان: اعل هبل -وهبل صنم لهم يعبدونه من دون الله- فقال عليه الصلاة والسلام: ردوا عليه، فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل.
فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم -يعني هناك صنم آخر اسمه العزى وليس لكم عزى- فقال صلى الله عليه وسلم: ردوا عليه، قالوا: وماذا نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم فقالوها، فقال أبو سفيان: يوم بيوم والحرب سجال، فقال صلى الله عليه وسلم -أو قال بعض أصحابه-: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار} أو كما قال البراء والله أعلم.
والقرآن ينتقل بنا في سورة آل عمران من الآية العشرين والمائة إلى قبل أواخر السورة ليعرض لنا تلك المشاهد الحية، ومعركة أحد تصل إلى روح المؤمن وتلامس قلبه، وتحدث شغاف روحه، وهي معركة حية في ضمير الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وفيها صور عجيبة، ومن يقرأ أواخر سورة آل عمران بتدبر؛ يجد العجب العجاب.
يقول الله عز وجل وهو يتحدث عن تلك الأحداث والوقائع للرسول عليه الصلاة والسلام: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:121 - 122] ثم يقول جل ذكره: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:123 - 128] وهذه ست آيات من أربعين آية أو ما يقارب الخمسين تتحدث عن معركة أحد.(289/2)
سبب معركة أحد
لما عاد الرسول صلى الله عليه وسلم من معركة بدر منتصراً، متواضعاً لله عز وجل، وقد قدم قرباناً إلى الله سبعين من كفار قريش؛ لأنهم عارضوا الله عز وجل وخالفوا أمره، فعاد إلى المدينة المنورة عاصمة الإسلام، وسكن فيها ما يقارب سنة، ولكن كفار قريش ما أعجبهم هذا، وبقيت حرارة الهزيمة تعمل في قلوبهم يوم كان العربي بلا دين، يغضب لعرضه، ويغضب لماله، ويغضب لدوره فحسب، فقل لي بالله: أي عربي معه دين يدعي أنه ديِّن ثم لا يغضب لماله ولا لأرضه ولا لعرضه؟!
يأتي أبو سفيان ليعلن المعركة والحرب مرة ثانية على الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، ويتوجه بجيش قوامه ثلاثة آلاف، قلوبهم تغلي من الحقد والمرارة والأسى واللوعة على أقاربهم الذين قتلوا في معركة بدر.
ولم يعلم عليه الصلاة والسلام بالجيش إلا عندما طوق المدينة، ونزل تجاه جبل أحد المعروف، وشاك الجيش برماحه وبسيوفه أطراف المدينة، وأصبح أبو سفيان في مركز قوة يهدد عاصمة الإسلام، عاصمة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، كلما خرجت سارحة من إبل أو بقر أو غنم أخذها أبو سفيان، وكلما خرجت امرأة سباها، وكلما رأى رجلاً من المهاجرين والأنصار آذاه بسب أو شتم أو ضرب، فأصبحت المدينة تعيش في مأساة وفي خوف ورعب.(289/3)
خطاب النبي لأصحابه ومشاورته لهم
حينها ألقى عليه الصلاة والسلام بيانه التاريخي، وخطابه الشهير على المنبر، وأخبر ماذا فعل أبو سفيان بالناس، يوم أتى بثلاثة آلاف يهدد أمن مدينة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأعلن صلى الله عليه وسلم الحرب عليه، لأن الظالم إذا اعتدى فما جزاؤه إلا أن يرد اعتداؤه.
أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا
فجرد حسامك من غمده فليس له اليوم أن يغمدا
وقف عليه الصلاة والسلام وأصحابه أصحاب المهج الحارة والكتائب المنتصرة من الذين بايعوا الله يوم العقبة وقبلها وبعدها، والذين اشترى الله أرواحهم منهم.
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أم من رمى نار المجوس فاطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
واستشارهم عليه الصلاة والسلام وهم في المسجد، وليس بينهم وبين أبي سفيان إلا ما يقارب الميل والمعركة حتمية لا بد منها، هل ترون أن نبقى في المدينة عاصمة الإسلام، فتدار رحى الحرب داخل العاصمة؟ أو نخرج إليهم، خارج حدود المدينة فنقاتلهم هناك؟ وما هو الرأي الأحسن؟ ولماذا يشاورهم عليه الصلاة والسلام والله قد آتاه من الرشد والسداد والحكمة ما الله به عليهم؟
إن المشاورة معناها: التواضع، ومعناها: التربية، وذلك درس لكل مسئول أو مدير أو رئيس هيئة بأن يشاور مقربيه وأعضاءه، ليكون أقرب إلى قلوبهم، يقول تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] فلذلك شاورهم عليه الصلاة والسلام، وإلا فإنه يعلم الرأي السديد، وكان رأيه أن تبقى المعركة داخل مدينته عليه الصلاة والسلام، وأن تدار رحى الموت داخل العاصمة، وأن تبقى السكك مفتوحة للكتائب، ويقوم النساء والأطفال برجم المعتدين داخل شوارع المدينة؛ لأنهم سوف يدخلونها، وهذا هو الرأي السديد في منطق الحق، وقد ذكر ذلك بعض الذين تكلموا في سياسته صلى الله عليه وسلم، وأظنه سعيد حوى وقارن بينه صلى الله عليه وسلم وبين نابليون في الجوانب العسكرية، ولكن أين الثرى من الثريا.
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
فقام الكبار والشيوخ من الصحابة، وقالوا: نرى رأيك يا رسول الله! نرى أن تدار المعركة داخل المدينة، فهو الرأي السديد، وقام عبد الله بن أبي رأس الضلالة وعمود الجهالة المنافق الشهير حربة النفاق، وما أصاب في حياته إلا في هذا الرأي، والمخطئ قد يصيب، والظالم قد يعدل ولو مرة، فقال: يا رسول الله! والله ما اعتدى علينا معتدٍ فبقينا في المدينة إلا هزمناه، فنرى أن تبقى في المدينة حتى يدخلوا، فإنا إذا قاتلناهم هزمناهم بإذن الله، وهذا هو الرأي.
ولكن شباب الصحابة غلت مراجلهم، وتحركت أرواحهم، فخرج من المسجد ما يقارب ثمانين شاباً، أعمارهم بين الثلاثين إلى العشرين، يقودهم حمزة وقد نصب ريش النصر على عمامته، ودخلوا بعد برهة في المسجد وانتظموا في آخر المسجد وقالوا: يا رسول الله! كيف تبقى بنا في المدينة؟ إنه لا يقاتل أحد في أرضه إلا ذل.
وقام أحد بني سالم بن عوف فقال: {يا رسول الله! اخرج بنا إلى الأعداء لا نقاتلهم داخل المدينة، لا تحرمني دخول الجنة، فو الذي لا إله إلا هو لأدخلن الجنة، فتبسم عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر، وقال: بم تدخل الجنة؟ قال: باثنتين: -انظر إلى المؤهلات والشهادات العالية- أولاهما: أني لا أفر يوم الزحف، والثانية: أني أحب الله ورسوله، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: إن تصدق الله يصدقك}.
ثم وقف رجل آخر وقال: يا رسول الله! تسبى ذرارينا، وتؤخذ بهائمنا، ولما نقاتل! اخرج بنا إليهم يا رسول الله!
ورفع أنس بن النضر صوته من آخر المسجد وعليه السلاح، وقد سل سيفه وقال: يا رسول الله! أنا فاتني يوم بدر -أي أنه لم يحضر معركة بدراً - فلا تحرمني قتال الأعداء، فوالذي لا إله إلا هو لئن حضرت ليرين الله ما أصنع.
وتتابع كلام شباب الصحابة من يمين المسجد ويساره، وفي الأخير رأى صلى الله عليه وسلم أن الأغلبية الساحقة مع الذين يرون الخروج، فقال: نخرج إليهم إن شاء الله.
ثم ترك المنبر ودخل إلى بيته واغتسل ولبس الدرع عليه الصلاة والسلام، ثم خرج والسيف مسلول، سيف ذي الفقار -بالتخفيف- وعليه لامة الحرب قد غطت رأسه الشريف عليه الصلاة والسلام، وقال: الرأي أن نخرج.
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها
فلما رأوا ذلك رجعوا إلى أنفسهم وقالوا: لعلنا أكرهناك يا رسول الله! نرى أن تبقى في المدينة -ولكن الله يقول: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]- فقال صلى الله عليه وسلم: {لا والله لنخرجن إليهم، ما كان لنبي إذا لبس لامته أن يخلعها حتى يقضي الله أمره}.
وفي الأخير سكتوا، وأعلن صلى الله عليه وسلم أن المعركة سوف تقوم غداً، وأن من بايع الله فعليه أن يثبت على بيعة الله عز وجل؛ لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] من أصدق من الله؟ من أوفى بعهده من الله؟ من الذي يثيب بالإخلاص إخلاصاً وبالصدق صدقاً إلا الله.(289/4)
خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أحد
ثم قام صلى الله عليه وسلم فاستنفر الناس، وسأل عن أقرب طريق يخرج منها من المسجد النبوي الشريف إلى جبل أحد -وكلكم يعرف جبل أحد - وأراد صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً أقرب ما بين نقطتين ليختصر الوقت، وليناجز أعداء الله في مكانهم الذي نزلوا فيه، ثم خرج عليه الصلاة والسلام واقتحم مزارع رجال هناك؛ لأن الطرق سوف تبعدهم وسوف تشتت الكتائب والجيش، ففتحت له مزرعة من النخيل لرجل من المنافقين أعمى القلب والبصر، يدعي الإسلام ظاهراً ولكنه منافق.
دخل عليه الصلاة والسلام مزرعته، ودخلت الجيوش بعده من الصحابة، وقوامهم ألف مقاتل، فلما رأى الرجل ذاك قال: يا محمد! -ينادي الرسول صلى الله عليه وسلم- لا تدخل مزرعتي؛ فإني لا أبيح لك ذلك، ثم أخذ حفنة من التراب، وقال: والله لو كنت أعلم أنها لا تصيب إلا وجه الرسول صلى الله عليه وسلم لرميت بها وجهه، فغضب الصحابة وتقدم إليه رجل من الأنصار بقوسه فضربه حتى أدماه، وأراد الآخر أن يقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: اتركوه، هذا رجل أعمى الله قلبه وأعمى بصره.
ووصل صلى الله عليه وسلم إلى جبل الرماة، ولكن في الطريق أتى النفاق العائر، وأتى الفشل والهزيمة في قلوب الذين ما أخلصوا وصدقوا مع الله، والذي لا يصدق في أيام الرخاء لا يصدق في أيام الشدة، فانعزل عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة مقاتل، أي: بثلث الجيش، فقد كانوا ألفاً، فظل يوسوس لهم كالشيطان ويمنيهم، ويقول: خالفوا رأيي وخرجوا من المدينة، والرأي أن نقاتل في المدينة، ولو أطاعوني ما خرجوا، فاستمع له بعض الناس، وقد قال تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].
وكادت فئتان اثنتان هما بني سلمة وقبيلة بني حارثة أن تسمعا وتفشلا، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران:122] همت كتيبتان أن تتراجعا من المعركة: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران:122] فالله هو الذي عصم وسلم، قال جابر وكان من بني سلمه: نزلت هذه الآية فينا، وما أحب أنها لم تكن نزلت لأن الله يقول فينا: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122].
كادوا يستمعون لكلام هذا المجرم الآثم، وكادوا يعودون من الطريق إلى المدينة ولكن الله سلَّم وعصم، فتوجهوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ونزل عليه الصلاة والسلام عند جبل الرماة وأسند ظهره، ورأى كفار قريش تمور في وجوههم الضلالة وتغلي قلوبهم بالبغي، وكانوا تعاقدوا وتعاهدوا ألا يفروا في المعركة أبداً.
وأتى أبو سفيان قبل المعركة -وهو قائد نحرير نسأل الله أن يغفر له ذنوبه فقد أسلم- وكانت الراية عند بني عبد الدار، وهم أسرة مجيدة عندهم مفاتيح الكعبة، وعندهم اللواء دائماً، فإذا كانت معركة مع قريش سلموا لهم الراية، فأراد أن يحمسهم على المعركة، ويضريهم على القتال، فقال: يا بني عبد الدار! أعطونا اللواء، قالوا: ولم؟ قال: لأنكم أخذتم اللواء يوم بدر فهزمنا، فاليوم نخاف أن نهزم، فسلموا لنا اللواء، فهموا أن يقتلوه فحال بينهم الناس، وقالوا: كيف نسلم إليك اللواء؟ لأنهم ورثوه كابراً عن كابر.
فوقفوا هناك، ونزل عليه الصلاة والسلام ورأى أن ذاك الرجل الداهية والعسكري الفارِه أبو سفيان قد غلب على المكان، وهو مخطط جهبذ علمته التجارب، فأخذ جبل أحد وهو الجبل الذي يضرب به صلى الله عليه وسلم الأمثال في الحديث، ويقول: مثل جبل أحد، ويقول: {جبل أحد جبل يحبنا ونحبه} فأخذ أبو سفيان الجبل وراء ظهره ليحمي ظهره وظهر الجيش، وسبق إلى المكان، فتلفت صلى الله عليه وسلم فلم يجد إلا الصحراء وراءه، وفي الأخير وجد الجبل الصغير جبل الرماة، فتمركز فيه صلى الله عليه وسلم، واختار خمسين مقاتلاً من أصحابه، وقال: أميركم عبد الله بن جبير، وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل إذا رأيتموهم اقتربوا، ولو رأيتم الطير تتخطفنا فلا تنزلوا من الجبل أبداً حتى نهاية المعركة، هذا رأيه صلى الله عليه وسلم، وهو من أحسن الآراء.
وأتى عبد الله بن جبير فلبس أكفانه لأنه صدق مع الله، وهو أمير الخمسين ووقف على رأس الجبل، وأتى صلى الله عليه وسلم قبل المعركة فسل سيفاً بيده، وقال: {من يأخذ هذا؟ -هذه جائزة المعركة، وهذه هي المباراة العظيمة التي تمتحن فيها القلوب والأرواح إلى الله عز وجل- فكل الأيادي امتدت إلى أخذ السيف، فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فأحجمت الأيادي لأن الحق صعب، وهم لا يدرون ما تحت هذه الكلمة، فقال أبو دجانة: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تضرب به أعداء الله حتى ينحني، فقال أبو دجانة: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه ثم أخرج لفافة حمراء فلف بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت} ومعنى هذه العصابة: خطر ممنوع الاقتراب، أي: أن هذا هو الموت فمن أراد أن يقترب فهذا الموت أحمر.
فأخذها ثم أخذ يتبختر ويمشي أمام صفوف القرشيين، وقد آتاه الله بسطة في الجسم، فقد كان كالأسد.
فجرد حسامك من غمده فليس له اليوم أن يغمدا
ثم أخذ يختال أمام الكفار كأنه يقول: من كان في رأسه حب لم يطحن فسوف أطحنه هذا اليوم، ثم اقترب رضي الله عنه وهو ينشد ويزمجر بنداء الموت ويقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم اليوم في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
يقول: أنا الذي عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أقف في آخر الصفوف، عاهدته بين النخل، وسوف أضرب بسيف الله وسيف الرسول، وسوف ترون ماذا أصنع، قال الزبير بن العوام: فتتبعته أنظر ماذا سوف يفعل؟ فوالله لقد رأيته يضرب بها هام الأعداء فينزلها في الأرض.
فعليه فصل الرءوس وعلى زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يقسم التركة يعطي الجدة السدس، ويعطي البنت النصف.(289/5)
مواقف بطولية لبعض الصحابة
نشبت المعركة في أحد واستمر حزب الله وأولياؤه يتقربون، ولكل واحد من الصحابة المشاهير موقف في المعركة:(289/6)
مواقف أسد الله حمزة
دلعت نيران المعركة واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط الميدان وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين، فقد تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء، فأما قائدهم الأول طلحة بن أبي طلحة فقد قتله الزبير بن العوام، فحمل اللواء بعده أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة وتقدم للقتال وهو يقول:
إن على أهل اللواء حقا أن تخضب الصعدة أو تندقا
فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب، فضرب عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه وصلت إلى سرته فبانت رئته.
قال أحد الأنصار: رأيت حمزة يوم أحد يمور في الناس كالأسد، والله لقد رأيت المشركين يفرون من بين يديه كالمعز.
وكان حمزة قد قتل يوم بدر عتبة بن ربيعة وبعض أقاربه، فجاءت هند امرأة أبي سفيان إلى وحشي وقالت: أعتقك وأسلم لك ما عندي من مال إذا قتلت حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسد الله في أرضه، سيد الشهداء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فأخذ وحشي حربته وكان رجلاً حبشياً يجيد رمي الحراب، فلم يشارك في المعركة، وتخبأ في شجرة في أرض المعركة، وأقبل حمزة يمور في الكتائب ويضرب بسيف الله عز وجل.
يقول وحشي: فخرجت مع الناس، وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالجربة قذف الحبشة قلما أخطئى بها شيئاً، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس هداً ما يقوم له شيء، فوالله إني لأتهيأ له أريده، فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني، إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فلما رآه حمزة قال له: هلم إليَّ يا ابن مقطعة البظور -وكانت أمه ختانة- قال: فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه.
ثم أرسل ووحشي عليه الحربة، فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل على رجليه إلى خلف الشجرة يريد قتل وحشي، فضرب الشجرة بضربة من ضربات الحق والخير، لكن الموت سابقه، فوقع شهيداً على الأرض.
وأتى صلى الله عليه وسلم يدور في القتلى، فوجد حمزة قتيلاً، فتأثر عليه الصلاة والسلام كل التأثر، وأصابته لوعة وحسرة ما بعدها حسرة، حتى يقول: {والذي نفسي بيده، ما وقفت موقفاً أغيظ لي من هذا الموقف، والذي نفسي بيده إن ظفرت منهم لأمثلن منهم بسبعين} لأن حمزة رضي الله عنه قطعت أذناه وأنفه، لكن يلقى الله وهو سليم معافى، ويدخل الجنة كما قيل: ابن ثلاثٍ وثلاثين سنة، وهم جرد مرد حسان الوجوه.
فوقف عليه الصلاة والسلام ورأى بطنه قد بقرت، وأخذ من كبده الشريفة، فلاكتها هند، ولكن لم تمضغها فألقتها، حتى لما سمع عليه الصلاة والسلام قال: {ما كان لشيء من حمزة أن يدخل النار} ثم دمعت عينه صلى الله عليه وسلم وقال: {والذي نفسي بيده لولا أن تجزع صفية -يعني صفية بنت عبد المطلب أخت حمزة - لتركته حتى يكون في حواصل الطير وبطون السباع}.(289/7)
أنس بن النضر
أتى أنس بن النضر أحد الأنصار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فلما رأى انهزام المسلمين في آخر المعركة وفعل المشركين قال: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل هؤلاء -يعني المشركين- وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المسلمين- ثم تقدم فقاتل حتى قتل، وأخذ دمه من نحره يتدفق سلسبيلاً عابراً، يعلن الشهادة والتضحية في سبيل الله عز وجل.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: {من يلتمس لي أنس بن النضر فإني أريد أن أراه} فقد علم صلى الله عليه وسلم أنه ما تأخر إلا لشيء، قال زيد بن ثابت: فقمت ألتمسه فوجدته في القتلى وهو في آخر رمق من حياته فقد ودَّع الحياة، وأشرف على لقاء الله عز وجل {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] ارجعي من حيث جئتِ فإن أصلك من الجنة.
فوقف عليه زيد بن ثابت وسلم عليه، وقال: كيف تجدك يا أنس؟ قال يا زيد! بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، وقل له: جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، كأنه رأى مشاهد أو وقفات أو بعض الملامح، يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32] فوصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فبلغه السلام، فدعا له عليه الصلاة والسلام.
وهذا أنس بن النضر هو الذي حلف في المسجد: لئن حضرت المعركة ليرين الله ما أصنع، فأرسل درعه وأتى مقبلاً بسيفه إلى الأعداء، فقال له سعد بن معاذ: يا أنس بن النضر! هون عليك، أما ترى كيف انهزم الناس والمشركون أقبلوا، قال: إليك عني يا سعد! إليك عني يا سعد! والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد، هبت نسمات الجنة في أرواح المتقين فبايعوا الله رب العالمين، فأتى فقاتل ولكنه ما قتل لأول وهلة، وقف وسط جيوش المشركين، فاجتمعت عليه السيوف والرماح حتى ضرب أكثر من ثمانين ضربة بعد ما قتل فيهم مقتلة، ووقع على الأرض، قال أنس بن مالك: والله ما عرفته إلا أخته ببنان كفيه، ما عرفت وجهه، ولا رجليه ولا يديه ولا جسمه، وإنما عرفت بنان الكف، حين رفعت كفه فقالت: هذا أخي.(289/8)
عبد الله بن عمرو بن حرام
ثم أتى عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري وقد بايع الله، ووصى ابنه جابراً في بناته خيراً، فأتى المعركة فقاتل حتى قتل، قال جابر: أتيت إلى أبي وقد قتل وهو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى والثوب على وجهه، فكنت أرفع الثوب وأبكي والناس ينهونني أن أبكي والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، فيقول عليه الصلاة والسلام لـ جابر: يا جابر! أتدري أين أبوك؟ قلت: لا.
قال: في الفردوس الأعلى، ثم قال: يا جابر! أتدري ماذا فعل الله بأبيك؟ قلت: لا.
والله يا رسول الله، قال: والذي نفسي بيده لقد كلمه هو وإخوانه من الشهداء في أحد بلا ترجمان، فقال: تمنوا عليّ، قالوا: نتمنى أن تعيدنا إلى الدنيا فنقتل فيك ثانية؛ لأنه ما من أحد يموت فيدخل الجنة إلا كره أن يعوده لما يرى من الجنة ونعيمها، إلا الشهيد يريد أن يعود إلى الدنيا فيقتل مراراً، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في البخاري: {والله لولا رجال من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت خلف سرية تغدو قط، ولوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل} فقال الله لهم: تمنوا، قالوا: نتمنى أن تعيدنا إلى الدنيا فنقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، لكن تمنوا: قالوا: نتمنى أن ترضى عنا فإنا قد رضينا عنك، قال: فأني أحل عليكم رضواني لا أسخط عليكم أبداً، فجعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر، ترد الجنة فتأكل من أشجارها، وتشرب من أنهارها، وتأوي إلى قناديل في العرش حتى يرث الله الأرض ومن عليها، أنزل الله مصداق ذلك: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].(289/9)
مواقف بطولية أخرى للرسول صلى الله عليه وسلم
وأتى عبد الله بن جحش أول من سمي في الإسلام أميراً وهو شاب، فوقف قبل المعركة، وقال: يا رب! أسألك أن تواجه بيني وبين كافر شديد حرده، قوي بأسه فيك، فيبقر بطني، ويجدع أنفي، ويقطع أذني، ويفقأ عيني، فإذا لقيتك يوم القيامة قلت: يا عبد الله! لم فُعِلَ بك هذا؟ قلت: فيك يا رب! فلما انتهت المعركة وجد وهو مقتول على تلك الصفة، قال سعيد بن المسيب وهو من رجال السند: نسأل الله أن يوفي له ما سأل وقلنا: آمين.
ووقف طلحة بن عبيد الله يقاتل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضرب في كل مكان حتى يقول: والله لقد ضربت في كل مكان يوم أحد حتى في فرجي، وشلت يده اليمنى، وذاك رجل بايع الله، قال أبو بكر رضي الله عنه: [[يوم أحد كله لـ طلحة بن عبيد الله]] طلحة ذو الجود رضي الله عنه.
أما الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه من أول المعركة وهو يقاتل في سبيل الله، وقد أثخن بالجراح صلى الله عليه وسلم، وضرب على مغفره حلقتان من حلق المغفر في رأسه، وكسرت رباعيته، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، وأتى عليه الصلاة والسلام حتى ما استطاع أن يعلو على صخرة حتى جلس له طلحة بن عبيد الله فارتفع حتى علا على الصخرة، وقد أنهك عليه الصلاة والسلام من كثرة الضرب وكثرة ما قاتل، وفر الناس في آخر المعركة وما ثبت معه إلا سبعة.
وأما الرماة الذين قال لهم صلى الله عليه وسلم: ابقوا في هذا المكان، فإنهم لما رأوا الغنائم ورأوا كفار قريش قد فروا في أول المعركة ظنوا أن المعركة قد صفيت للرسول صلى الله عليه وسلم، فنزلوا فوقف أمامهم عبد الله بن جبير أميرهم المجاهد رضي الله عنه وقال: أسألكم بالله لا تعصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال: لو رأيتم الطير تتخطفنا فلا تنزلوا، فعصوا أمره ونزلوا، وبقي وحده، فلما نزلوا رأى خالد بن الوليد الصاعقة وسيف الله المسلول، وكان يقود الخيالة في قريش ولم يكن قد أسلم ذاك اليوم، فرأى أن الرماة قد نزلوا من الجبل، فأتى من خلف الجبل وطلع على ظهر الجبل هو والخيالة من قريش، وأخذ عبد الله بن جبير الأمير يدافعهم، فاجتمعوا عليه فقتلوه، والتفت الرماة وإذا مواقعهم قد احتلها خالد بن الوليد والخيالة معه، وأصبح المسلمون شذر مذر، حتى فرَّ كثير منهم ودخلوا المدينة وأصبح صلى الله عليه وسلم مع سبعة يصارعون الأحداث، ويقفون أمام الإعصار في معترك لا يعلمه إلا الله عز وجل.
ثم عاد الناس في آخر المعركة واجتمع الصحابة بعد ما فر بعضهم -غفر الله لهم فرارهم- حول الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ظهر الجرح فيه صلى الله عليه وسلم ودخلت حلقات المغفر في رأسه، فأراد أبو بكر إخراج حلق المغفر، فقال أبو عبيدة لـ أبي بكر: أسألك بالله أن تترك ذلك لي، فأخذ الحلقة الأولى بثنيته، فسقطت ثنية أبي عبيدة الأولى، ثم أخذ الحلقة الثانية بنيته الأخرى فسقطت، فما رئني رجل أهتم -أي: ساقط الثنيتين- أجمل من أبي عبيدة؛ لأنها سقطت في سبيل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم جاءوا بماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوا جراحه.
ولما قتل مصعب وكان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصاح ابن قمئة بين الناس أن محمداً قد قتل، فلما سمع بعض الصحابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل سقطت سيوفهم من أيديهم، وجلسوا على الأرض، فمر بهم أحد الصحابة -قيل: أنس بن النضر، وقيل: غيره- وقال: مالكم؟ قالوا: قتل عليه الصلاة والسلام، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قموموا قوموا على ما مات عليه، ثم قاتل حتى قتل.
وقد كانت الشائعة خطأ، فإن مصعباً هو الذي قتل رضي الله عنه.
مصعب الذي دخل في الإسلام وهو أغنى شاب من شباب قريش، فلما أسلم قالت له أمه: إما أن ترجع عن دينك فتبقى في النعيم، وإلا فوالله لأسلبن عنك كل شيء، قال: والله لأسلمن، فسلبت عنه كل شيء حتى ما وجد من اللحاف إلا شملة، ورآه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تغير لونه وتغيرت ملابسه، فلما رآه عليه الصلاة والسلام دمعت عيناه، وقال للصحابة: هل تعلمون شاباً كان أحسن من هذا الشاب وأنعم؟ قالوا: لا.
قال: لقد كان يمر في الطريق من طرق مكة، فيجد الناس ريح المسك منه، وترك ذلك كله من أجل الله فعوضه الله خيراً منه، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فلما هاجر كان سفير الإسلام، واستفاقت المدينة على صباح جديد من دعوة مصعب بن عمير سفير الإسلام إلى الأنصار، فهو الذي علم القرآن أبناء الأنصار، وترك بهرج الدنيا وزينتها وأقبل على الله، فقتل يوم أحد، فأشيع في الناس أنه الرسول صلى الله عليه وسلم فخارت قوى كثير من الناس، وألقوا بالسيوف، فأنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] وقال سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].
وكان من أحسن الكلمات ومن أحر العبارات التي قالها صلى الله عليه وسلم في تلك الموقعة: {قفوا ورائي لأثني على ربي تبارك وتعالى} بعد المعركة، بعد أن ما قتل سبعون من أصحابه صلى الله عليه وسلم ومن أقاربه، يقول: {قفوا ورائي لأثني على ربي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى} فوقف الصحابة فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الله تبارك وتعالى، وحمده بمحامد، وبجله بتبجيلات.
وقبل أن ينتهي صلى الله عليه وسلم من هذا الثناء، إذا بمجرم من المجرمين وبكافر من الكافرين اسمه أبي بن خلف، ما شارك في المعركة، علف فرسه بالحنطة شهراً كاملاً وشحذ سيفه بالسم، وكان يقول: أقتل بهذا السيف محمداً -يعني به الرسول صلى الله عليه وسلم- فلما أتت معركة أحد أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! سمعنا أن أبي بن خلف يقول: إنه سيقتلك، قال: بل أنا أقتله إن شاء الله، وكان أبي بن خلف من أشجع الناس، ومن أقوى الناس قلباً، فلما أتت المعركة لم يشارك فيها وبقي حتى انتهى القتال، وحتى أثخن صلى الله عليه وسلم بالجراح وتعب، فأتى بفرسه عامداً قاصداً للرسول عليه الصلاة والسلام، وكان أبي بن خلف قد لبس درعاً تحت ثيابه إلا موضع درهم عند ترقوته.
وسل سيفه يريد أن يقترب من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقام المهاجرون والأنصار بسيوفهم، فأشار إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن اتركوه، وطلب عليه الصلاة والسلام أن يناولوه حربة، فناولوه حربة فهزها حتى تمكنت من يده، ثم أرسلها {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] فتركت كل مكان في جسمه لأنه مدرع ومصفح، وأتت إلى الترقوة فوقعت فيها فوخزتها وخزة بسيطة كوخز الشوكة، فوقع صريعاً من على ظهر فرسه إلى أقدام فرسه، فأتى الكفار من المشركين يسحبونه ويقولون: ما عليك بأس، ما أصابك بأس، فحلف باللات والعزى لو أن ما به أصاب أهل ذي المجاز لماتوا عن بكرة أبيهم، فسحبوه يجرجروه وهو يخور كالثور، فمات إلى النار، وسوف يلقى غضب الملك الجبار سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(289/10)
تكفين الشهداء ودفنهم
وانتهت المعركة ومر الرسول صلى الله عليه وسلم، والتفت فوجد الشهداء صرعى، وكأن لسان حالهم يقول:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكمُ ألمُ
فوقف صلى الله عليه وسلم وألقى كلمته الخالدة ومنها: {أنا شهيد عليكم يوم القيامة أنكم شهداء} ثم أمر بهم أن يكفنوا في ثيابهم وألا يغسلوا وأن يدفنوا، ولم يصلِّ عليهم صلى الله عليه وسلم، فأتوا يكفنون مصعباً، فما وجدوا إلا نمرة -قطعة قماش ثوب صغير- إذا غطوا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطوا رجليه بدا رأسه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغطوا بها رأسه وأن يجعلوا على رجليه من الإذخر، لكنه سيجلس إن شاء الله على أرائك عند الملك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وعلى فرش من إستبرق، وفي خير عميم عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من نور وحبور.
وأتوا إلى حمزة فوجدوه ممثلاً به، فما وجدوا ما يغطوه إلا شيئاً يسيراً؛ لأنهم تركوا الدنيا وأعرضوا عنها وطلبوا ما عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الإبل قد توجهت بالشهداء إلى المدينة، فنادى: {ردوا الشهداء وادفنوهم في مصارعهم فإنها تشهد لهم} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فنادوا في الجمال وقد أوشكت تدخل المدينة، وعادت محملة والأسى واللوعة يعلو قلوب كثير من الناس، والبكاء يرتفع، والرسول صلى الله عليه وسلم يهدئ من روع الناس، ويدخل السكينة بكلماته الباردة على القلوب، فعادوا فدفنوهم في أماكنهم، ودفنوا حمزة هناك ومعه بقية السبعين.
قال جابر: دفن مع آخر فلم تطب نفسي بذلك، فنقلته بعد ست وأربعين سنة، فوالله ما تغير منه شيء إلا شيئاً في أذنه من طين، من خرم جرح في أذنه من المعركة قال: فحملته وما تغير منه شيء وإن ريحه ريح المسك، بعد ست وأربعين سنة، وأنزلوا في منازلهم رضي الله عنهم.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد عاد متوجهاً إلى المدينة عليه السكينة والوقار؛ قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:165 - 166] توجه عليه الصلاة والسلام وسمع البكاء في بعض دور الأنصار، ولكنه لم يجد من يبكي على حمزة، فقال: {لكن حمزة لا بواكي له} فتأثر الأنصار وأرادوا أن يشاركوا الرسول صلى الله عليه وسلم حتى في البكاء على قريبه وعمه.
وإن أولى الموالي أن تواليه عند السرور الذي واساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن
فأمر سعد بن معاذ نساء بني عبد الأشهل أن يبكين على حمزة.(289/11)
بعض الفوائد من غزوة أحد
ولقد تكلم سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن أحداث المعركة، وعن الذين تخلفوا عنها، وعمن استشهد في المعركة.
وسوف نأخذ من هذه الغزوة ومن هذا الدرس فوائد:(289/12)
الابتلاء سنة من سنن الله
الفائدة الأولى: سوء عاقبة المعصية وسوء ارتكاب النهي، قاله ابن حجر في الفتح وسبقه ابن القيم إلى ذلك، يؤخذ ذلك من مخالفة الرماة للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يقول بعض أهل العلم: يا سبحان الله! رماة خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والموت على رءوسهم، وأنت تخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة عشرات المرات ولا تخشى، ولذلك كان من نتيجة هذه المخالفة حلول الهزيمة وحلول الغلبة على المؤمنين رضي الله عنهم وأرضاهم، فمخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم شؤم وفساد كبير، وما هناك تدمير لمستقبل الإنسان ولا خيبة أمل ولا تعكير لفهمه وذكائه ورزقه وولده مثل المعصية نعوذ بالله من المعاصي!(289/13)
سنة الله في رسله
الفائدة الثانية: أن من عادة الرسل أنهم يبتلون وتكون العاقبة لهم، تكون الحرب بينهم وبين أعدائهم سجالاً، ولا ينتصرون مرة واحدة، لأنهم لو انتصروا مرة واحدة لدخل في الدين من لم يكن من أهله، وما عرف المؤمن من المنافق، يقول تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] فميز الله بهذا بين المؤمن والمنافق، فلو كانت المسألة مسألة نصر وعافية ونعمة لدخل في الدين من ليس من أهل الدين، ولكنه صلى الله عليه وسلم ابتلي مرة وانتصر مرة، ولو هزم الرسول صلى الله عليه وسلم دائماً لما تمت الرسالة الخالدة، ولما أخرج الله الناس من الظلمات إلى النور، ولما تم المقصود من الرسالة، ولو انتصر دائماً لدخل في الدين غير أهل الدين، ولكن غُلب مرة؛ وانتصر مرة، ليميز الله الخبيث من الطيب، والعاقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين والمتقين، وانتصر الإسلام، وارتفعت مآذن الإسلام في كل مكان، وبقي صوت الحق مدوياً ودمغ الباطل وزهق إنه كان زهوقاً.
ومنها: أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضماً للنفس وكسراً لشموخها وجماحها، لأن النفس إذا أنعم عليها جمحت وشمخت إلا من رحم الله، فلو أن الرسول صلى الله عليه وسلم انتصر في كل معركة، وانتصر في كل موقف هو وأصحابه لدخل بعض الصحابة شيء من العجب والتيه، وشيء من الزهو، لكن أراد الله أن يربيهم بالمعارك، مرة نصر ومرة هزيمة، وفي الخاتمة نصر لا هزيمة بعده للإسلام، لذلك لما أتت في معركة حنين قال بعض الصحابة: لن نغلب اليوم من قلة، فانهزموا في أول المعركة ثم انتصروا بعد أن تلقوا تأديباً، وأنت إذا بقي جسمك معافى بلا أمراض ولا ابتلاءات دخلك من العجب ما الله به عليم، والله عز وجل يعرف النفوس فيداويها.
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
ربما يكون في صحة جسمك المرض، وفي صحة قلبك الفقر والابتلاء، فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.(289/14)
إكرام الله لعباده المؤمنين
الفائدة الثالثة: أن الله هيأ لعباده المؤمنين في دار كرامته منازل لا يبلغونها بأعمالهم، فابتلاهم الله عز وجل، وفي الجنة منازل مرتفعة للمؤمنين، نسأل الله ألا يحرمنا تلك المنازل، فهذه المنازل لا يستطيع كثير من الناس أن يبلغها بعلمه ولا بصلاته ولا بصيامه ولا بحجه ولا بصدقته، فيبتليهم الله في أجسامهم بالأمراض، والابتلاءات المختلفة، فيرفعهم الله إلى تلك الدرجات.
الفائدة الرابعة: أن الشهادة من أعظم مراتب الأولياء، وقد ساقها الله إلى كثير من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، لما علم ما في قلوبهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ودرجات الفضل أعلاها النبوة، وبعدها الصديقية التي نالها أبو بكر رضي الله عنه، ثم الشهادة ثم الصلاح.
الفائدة الخامسة: أراد الله إهلاك الكفار، فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وطغيانهم واعتدائهم، والله إذا أراد أن يجر أحداً إلى الهلاك جره إلى المعصية وإلى الاعتداء، فلما أراد الله أن يخزي أولئك، ليدخلهم النار؛ جعل لهم من الأعمال الكسبية التي اكتسبوها بقضاء وقدر ما دخلوا بها النار، واستوجبوا غضب الواحد القهار سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(289/15)
بعض أحكام الجهاد
الفائدة السادسة: أن الجهاد يلزم بالشروع فيه: حتى إن من لبس لامته وشرع في أسبابه وتأهب للخروج، ليس له أن يرجع كما فعل صلى الله عليه وسلم، فمن تهيأ لحضور المعركة التي وجبت عليه، فليس له أن يرجع وليس له أن يعود ما دام قد عزم، لقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159].
الفائدة السابعة: أنه لا يجب على المسلمين إذا طرقهم عدوهم في ديارهم الخروج إليه، واستدل بذلك ابن القيم على أنه ليس بواجب أن يخرج المسلمون من دورهم وقصورهم ومدنهم إلى الأعداء إذا طوقوا مدنهم، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم رأى أن يبقى داخل المدينة، ويكون القتال داخل المدينة، فهذا فيه أن المسلمين لهم أن يبقوا في مدنهم ومساكنهم حتى يأتي الأعداء، فيقاتلوهم إذا أحاطوا بهم واقتربوا منهم، وهذا ذكره ابن القيم في زاد المعاد.
الفائدة الثامنة: جواز تصرف الإمام في بعض أملاك رعيته؛ فيجوز للإمام وقت المعركة ووقت الأزمات أن يتصرف ببعض الأملاك وأن يأخذ بعض الأشياء لمصلحة الجهاد، بشرط ألا يتجاوز الحد في ذلك، أو يضر بالناس ضرراً بيناً، وأخذ ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم حين مر في مزرعة ذاك المنافق.
الفائدة التاسعة: لا يؤذن للصبيان غير البالغين في القتال؛ وقيل: حد ذلك خمسة عشر سنة، وقالوا: أكثر أو أقل، وقالوا: باختلاف الأشخاص؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم منع بعض الصبيان وأجاز الذين بلغوا منهم، فالصبيان لا يشاركون في المعركة، والجهاد ليس عليهم بواجب، بل يبقون في دورهم ويتعلمون العلم، وليس مرحلتهم مرحلة الجهاد، لأنهم لا يستطيعون الحضور، فعذرهم صلى الله عليه وسلم.
الفائدة العاشرة: جواز الغزو للنساء؛ فإن النساء شاركن في معركة أحد، وأفضل من شارك في المعركة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء فقد شاركت فاطمة وأتت إلى أبيها صلى الله عليه وسلم فأعطته ماء، وغسلت الجراح عنه، وأحرقت بعض السعف ثم حشته في الجراح.
وحضرت نسيبة الأنصارية وقاتلت حتى يقول عليه الصلاة والسلام: {ما التفت في جهة إلا وجدتها تقاتل عني} فرضي الله عنها.
وكانت النساء يوم أحد يزفرن القرب، ويملأنها للمقاتلين؛ ولذلك حين أتي إلى عمر رضي الله عنه في خلافته بشيء من الذهب والفضة فأعطى أم سليط وترك نساءه، فقلن له رضي الله عنه: تعطي أم سليط وتتركنا؟ قال: إن أم سليط لا أنسى موقفها يوم أحد، كانت تملأ القرب للمسلين، فانظر كيف قدمها رضي الله عنه بهذا وترك نساءه، فرحم الله تلك العظام، وأسكنها فسيح الجنان.
الفائدة الحادية عشرة: قال أهل العلم ومنهم ابن القيم بجواز الاستماتة كما فعل أنس بن النضر، أي: الإقدام على الهلاك والاقتحام في القتل، كما فعل أنس بن النضر، فإنه ألقى درعه وكسر غمد سيفه، واقتحم حتى لقي العدو حاسراُ وفي بعض الآثار: {إن ربك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يضحك للعبد يلقى العدو حاسراً} أي: لا درع عليه حتى يقاتل ويقتل، وليس ذلك من الهلكة.
ولذلك لما حضر أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه بمعركة جهة القسطنطينية في بلاد الروم فألقى أحد المجاهدين بنفسه واستمات في المعركة، فقال بعض الناس المتأخرين في الإسلام: أما يقول الله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] قال: لا.
إن التهلكة هي أن يمسك المال أو ألا يقاتل في سبيل الله.
وطلب أبو أيوب من الصحابة أن يدفنوه في آخر بقعة من بقاع المسلمين وأول بقعة من بقاع الكفار، قال: حتى أبعث يوم القيامة من قبري وأنا مسلم بين كفار.
الفائدة الثانية عشرة: أن الإمام إذا أصابته جراحة صلى قاعداً وصلى الناس وراءه قعوداً، وهذه الفائدة أخذها ابن القيم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه في أحد صلى الفريضة إما الظهر وإما العصر قاعداً من كثرة الجراح، وصلى الناس وراءه قعوداً، فإذا كان الإمام الراتب إمام الحي العالم يصلي قاعداً لعذر، فللناس أن يصلوا وراءه قعوداً، وفرَّق بعض أهل العلم فقالوا: إن ابتدأ قاعداً فيبتدئون معه قعوداً، وإن طرأ عليه القعود في أثناء الصلاة فيواصلون قياماً وبسط هذه المسألة في مجال آخر.
الفائدة الثالثة عشرة: جواز دعاء الرجل أن يقتل في سبيل الله عز وجل؛ فإن عبد الله بن جحش دعا أن يقتل في سبيل الله، وليس ذلك من تمني الموت المنهي عنه، بل هو من طلب الشهادة وطلب ما عند الله ورضوان الله عز وجل، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من سأل الله الشهادة بصدق؛ بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه}.
الفائدة الرابعة عشرة: أنَّ المسلم إذا قتل مسلماً أو قتل نفسه فهو من أهل النار، إذا قتل المسلم نفسه فهو من أهل النار؛ لأن رجلاً اسمه قزمان حضر معركة أحد، وقاتل فلما أصابته جراحة، لم يصبر ولم يحتسب، فأخذ سيفه وسله واتكأ عليه حتى خرج سيفه من ظهره، فأوحى الله عز وجل إلى رسوله أحاديث: {بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة} فحرام على المسلم أن يقتل نفسه مهما أصابته الابتلاءات.
الفائدة الخامسة عشرة: أن السنة ألا يغسَّل ولا يصلى على شهيد المعركة، أما التغسيل فمعروف، وأما الصلاة عليه فإنه ورد في آثار عند الطحاوي والنسائي أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على بعض الشهداء، وورد في حديث صحيح أنه ترك الصلاة على بعضهم، قال ابن القيم في تهذيب السنن: الإمام مخير إن شاء صلى وإن شاء ترك، وفي صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف على شهداء أحد يصلي عليهم كالمودع لهم، قيل: هذا الدعاء، وإلا فإنه لم يصل عليهم في الحال، فالإمام مخير في شهداء المعركة؛ أن يصلي أو يترك، وأكثر أحواله صلى الله عليه وسلم أنه ما صلى على شهداء المعركة، لأن الصلاة تزكية والله قد زكاهم.
ومنها: أن الشهيد إذا كان جنباً غسل قاله ابن القيم، لأن حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه كان مع زوجته فلما سمع داعي الله خرج جنباً وباع نفسه، فقتل في المعركة، فقال عليه الصلاة والسلام: {سلوا أهله ماله؟ قالوا: خرج جنباً ولم يغتسل، قال: والذي نفسي بيده، لقد رأيت الملائكة تغسله بين السماء والأرض في صحاف من ذهب بماء المزن} فاستدل بذلك بعض أهل العلم على أن الجنب إذا عُلم أنه مات جنباً وهو من الشهداء أنه يغسل وقد رجح ذلك ابن القيم.
الفائدة السادسة عشرة: أن السنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم ولا ينقلوا من أماكنهم؛ لأنها شاهدة لهم عند الله، فلا ينقل الشهيد إلى بلده، بل يدفن في أرض المعركة.
ومنها: جواز دفن الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، فلما كثر القتلى في أحد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ابحثوا أيهم المتحابون في الدنيا فادفنوهم كما تحابوا في الدنيا، يعني: الصديق مع صديقه، والحبيب مع حبيبه، فكانوا يدفنونهم وكان يقول: {التمسوا أيهم أكثر أخذاًَ للقرآن فقدموه تجاه القبلة} فأكثرهم أخذاً للقرآن يقدمونه تجاه القبلة ويدفنون صاحبه وحبيبه معه؛ لأنها روضة نسأل لله أن يوسع علينا وعليكم، ولا توسع إلا بعمل صالح، والجار الصالح مطلوب، كما أن الجار الصالح في الأحياء نعمة من النعم، فكذلك عند الموت، فعلى المسلم أن يلتمس المقبرة التي يدفن فيها حبيبه أو ولده أو صفيه ليكون في سعة، ولا يضره إذا دفن مع فساق، إذا كان عمله صالحاً، وإذا مات صاحبك وعليه بعض المعاصي وهو مسلم، فعليك أن تكثر الدعاء له والصدقة، وأن نكثر له الاستغفار فإنها تصل إليه أحوج ما يكون.
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشد ويل لعبد عن سبيل الله صد
ومنها: أن من عذره الله في التخلف عن الخروج في المعركة بمرض أو عمى أو عرج، وأبى إلا أن يحضر، فله ذلك وهو مأجور مشكور، لقد عذر الله الأعمى أن يحضر المعركة، ولكن عبد الله بن أم مكتوم قال: لا والله! إن الله يقول: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] وأنا ثقيل والله لأنفرن، فحضر معركة القادسية وهو أعمى وبقي يحمل الراية حتى قتل في سبيل الله.
ومنها: أن المسلمين إذا قتلوا واحداً منهم يظنونه كافراً فعلى الإمام ديته، ولذلك كان أبو حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مسلماً، وظنه المسلمون من المشركين، فاجتمعوا عليه فقطعوه بالسيف، فقال حذيفة: يغفر الله لكم فقال صلى الله عليه وسلم: أدفع ديته لك، قال حذيفة لا.
غفر الله لكم، فما زالت بقية الخير في حذيفة حتى لقي الله.
ومنها: استخراج عبودية الله لأوليائه في السراء والضراء، فالله ابتلاهم بالسراء ليشكروا، وابتلاهم بالضراء ليصبروا.
ومنها: أن معركة أحد كانت مقدمة لموته صلى الله عليه وسلم، ودرساً شهيراً، فقد نزل فيها قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] ثم مات عليه الصلاة والسلام فثبتوا؛ لأن الله أعطاهم في أحد درساً لا ينسونه.(289/16)
النعاس في الخوف والحرب نعمة
ومنها: أن النعاس في الخوف والحرب نعمة، وفي الصلاة ومجالس الذكر غفلة، ففي معركة أحد لما أراد الله أن يمن على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة، أصابهم نعاس حتى سقط سيف أبي طلحة من يده كما قال أنس قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11] أي: سكينة وهدوءاً، وراحة لقلوبكم، فهو في الخوف والحرب أمنةٌ وهدوءٌ من الله، ولكنه في الصلاة وفي مجالس الذكر من الشيطان.
ومن تمام ثبات قلب المؤمن أن ينعس في المعركة، ومشاهير الشجعان في الإسلام كانوا ينعسون وسط المعركة علامة على قوة قلوبهم، وقد ذكر ابن كثير عن شبيب بن يزيد الخارجي البطل الكبير وهو من قوادهم ما سمع بأشجع منه بعد الصحابة، يقول ابن كثير في البداية والنهاية: كان في ستين رجلاً يلقى ثلاثة آلاف فيهزمهم، وكان ينعس قبيل المعركة على بغلته، وهذا من شجاعة قلبه ومن حماسته ينعس والصفوف أمامه، حتى إن زوجته واسمها غزالة، دخلت الكوفة، فأرهبت الكوفة كلها، والحجاج كان أمير الكوفة في عهدها، فلما دخلت من باب الكوفة الشرقي خرج هو من الغربي، فدخلت بعمود في يديها تضرب باب الإمارة وتقول للحجاج: اخرج يا عدو الله، ثم ارتقت المنبر منبر الجامع، فخطبت خطبة، فيقول أحد المسلمين للحجاج: يا ذليل تقتل علماء المسلمين وتقتل ضعفاء المسلمين، ولما أتت غزالة الخارجية هربت منها.
أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى أم كان قلبك في جناحي طائر
ونسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم الهداية، ونسأله أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتولانا في الدارين، وأن يفقهنا في دينه، وأن يسدد خطانا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(289/17)
خصائص الجمعة
الجمعة عيد المسلمين، وهي خير أيام الأسبوع، ولذا اختصت بخصائص ليست لغيرها من الأيام، وسن لها بعض الآداب، وهناك عشرون خصيصة من خصائصها، مفصلة في هذا الدرس من خلال شرح أحاديث من صحيح البخاري في أبواب تتعلق بالجمعة.(290/1)
حياة عبد الله بن المبارك
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فإن من أعظم القضايا التي يلتمسها المؤمن ويبحث عنها في تدبر كتاب الله عز وجل، وفي قراءة سنة رسوله صلى الله عليه وسلم قضية الهداية، وكيف ينقذ الإنسان نفسه من غضب الله وعذابه ولعنته.
ولأن رجال صحيح البخاري هم ممن عرفوا الله عز وجل، كما قال أهل العلم: كل من روى له البخاري فقد تجاوز القنطرة لذلك فقد أثرنا أن نقف في هذا الدرس، مع رجل طالما مر معنا في كثير من الدروس، وفي بعض الأحيان نتعرض له وفي بعضها نهمل ذكره استعجالاً أو لضيق الوقت، وهو عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وأرضاه وكثرة ترداد هذه التراجم لا تمل، بل كان هذا منهج كثير من أهل العلم: أنهم إذا أرادوا أن يشرحوا حديثاً، أو أرادوا أن يعرضوا درساً للناس، بدءوا بذكر الصالحين في مقدمة درسهم.
قال أبو حنيفة رحمه الله: سير الرجال -أي: أخبار الرجال الصالحين- أحب إلينا من كثير من الفقه.
وقال مجاهد رحمه الله: القصص جند من جنود الله يسلطها الله على من يشاء.(290/2)
ابن المبارك وطريق الهداية
هذا الرجل - عبد الله بن المبارك - هو مثل لكل شاب يريد الله والدار الآخرة، أو لكل رجل أسرف في أول عمره أو أخطأ، ثم أراد أن يراجع حسابه، وأراد أن يعيد نفسه إلى الله تبارك وتعالى.
عاش حتى بلغ السابعة والعشرين من عمره، وكان يصلي كما يصلي كثير من الناس، لكنه ما كان يعيش مع الإسلام في ليله ونهاره، ما كان يشغل أوقاته بطاعة الله بدقائقها وثوانيها وأنفاسها مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فلما أراد الله أن يوقظ قلبه، وكان مع عصابة من القرناء الذين يريدون أن تكون الحياة معبراً للذات والشهوات، جلس في شمال إيران، وكانت هناك حديقة قريبة من منزله، فسمر مع هؤلاء القرناء، فلما انتهى من سمره نام، وكانت تلك الليلة ليلة مباركة أراد الله أن يوقظ قلبه، فسمع أن هاتفاً يهتف ويقول: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون115 - 116].
فاستفاق وعلم أنه مقصود بالخطاب، وأنه مدعو إلى الجواب، فقام من تلك الليلة وبدأ حياة جديدة مع الله عز وجل، حياة التفقه في دين الله، وتدبر كتابه، والتزود بالنوافل؛ ففتح الله عز وجل عليه، وعاهد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عهداً أوجبه على نفسه ولم يوجبه غيره من الناس عليه؛ ولذلك يقول ابن تيمية: إن الحق الذي يذكره الله في كتابه كقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] أوجبه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على نفسه ولم يوجبه أحد من الناس عليه؛ فحق عليه تبارك وتعالى أن من طلب الهداية وأراد الخير أن يهديه، فهدى الله هذا الرجل؛ فاستنار قلبه.(290/3)
خوف ابن المبارك من الله وإنفاقه في سبيل الله
قال أحد تلاميذه: سافرنا معه إلى الحج، فجلسنا في ليلة ظلماء فانطفأ السراج، فذهبنا نلتمس سراجاً، فعدنا إليه، وإذا بدموعه تنهمر على لحيته، فقلنا: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: لما تركتموني في هذه الغرفة تذكرت القبر والله.
وقال الإمام أحمد: إن ابن المبارك رفعه الله بخبيئة من الخشية في قلبه.
وكان مع ذلك قد رزقه الله بسطة في المال والمال لا يحاربه الإسلام كما يظن كثير من العباد أو الزهاد أو المتصوفة، بل إن الإسلام يستثمر المال ويوجهه في طرق الخير، وكان كثير من الصحابة يشتغلون بالتجارة وبالغنى، لكنهم ينفقون أموالهم في سبيل الله.
بلغ من عطائه أنه كان يدعو القافلة ليحجوا، وينفق عليهم مما آتاه الله، حتى إنه في يوم من الأيام مر بقرية من قرى العراق وهو حاج؛ فوجد امرأة خرجت من بيتها فوجدت دجاجة ميتة في زبالة، فأخذتها فقال لغلامه: اذهب وراءها واسألها، فلما ذهب وسألها قالت: ما لنا طعام منذ ثلاثة أيام إلا ما يلقى من الأموات في هذه المزبلة.
فلما عاد وأخبره دمعت عيناه، وقال: نحن نأكل الفالوذج والناس يأكلون الميتة من المزابل! والله لا أحج هذه السنة، واذهبوا بقافلتي هذه إلى أهل هذه القرية، فرد القافلة بأحلاسها وأقتابها وجمالها وبما عليها من متاع وطعام، ووزعها على أهل القرية، وعاد إلى خراسان ولما نام أول ليلة هناك رأى في منامه قائلاً يقول: حج مبرور وذنب مغفور وسعي مشكور.
وله قدم ثابتة في الجهاد عرفتموها في بعض المناسبات، أو من قراءتكم واطلاعكم وله كذلك وفاة حميدة وخاتمة حسنة، يقول غلامه: لما حضرته الوفاة رأيته يتبسم وهو في سكرات الموت، قلت: ما لك؟ قال: لمثل هذا فليعمل العاملون.
هذا هو عبد الله بن المبارك الذي يروي عنه البخاري ويقول: حدثنا عبدان -تلميذ عبد الله بن المبارك - قال: حدثنا عبد الله بن المبارك.(290/4)
عمر يسأل الناس عن سبب تأخرهم عن الجمعة وهو على المنبر
مازلنا في كتاب الجمعة الذي أجاد البخاري كل الإجادة في ترتيب أبوابه على عادته رحمه الله، يقول: (باب).
ثم سكت ولم يأت بباب، وقد أكثر البخاري أن يبوب ثم لا يأتي بترجمة، وكأنه -والله أعلم- أراد أن يبيض الكتاب فلم يتسن له، أو أراد أن يفصل بين الأبواب، أو أراد ترجمة ثم تركها وأهملها وأبهمها لأنها تفهم من الحديث.
عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: بينما عمر رضي الله عنه يخطب يوم الجمعة إذ دخل رجل فقال عمر: لم تحتبسون عن الصلاة؟ فقال الرجل: ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت.
فقال: ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل} وهذا الرجل المبهم الذي دخل وعمر يخطب الناس هو عثمان رضي الله عنه، ولم يذكر في هذا الحديث ستراً عليه؛ لأنه ليس في مقام محمدة، فقد تخلف عن الجمعة، وليس من محمدة المحدثين أن يقولوا: دخل عثمان وتخلف عن صلاة الجمعة؛ إنما يقولون: دخل رجل؛ فالعبرة بالقصة وبالمعنى لا باسم الرجل، فليس فيه فائدة.
وفي هذا الحديث مسائل.(290/5)
التبكير للجمعة والغسل لها
المسألة الأولى: طلب التبكير من عمر لـ عثمان رضي الله عن الجميع؛ فإن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنكر على عثمان بن عفان تأخره.
المسألة الثانية: التوضؤ والغسل للجمعة.
واعلم أن الغسل سنة مؤكدة، بل إن بعض أهل العلم من أهل الظاهر وغيرهم أوجبوه، وقد جاء في ترجمة سهل بن عبد الله التستري وهو من عباد الله الصالحين، وكان من رآه ذكر الله والدار الآخرة، عاش في القرن الثالث دخل على أبي داود صاحب السنن فقال: أسألك يا أبا داود مسألة.
قال: سل.
قال: أن تلبي لي ما أسألك.
قال: ألبي لك إن شاء الله.
قال: مد لي لسانك، فمدها فقبلها وقال: هذه لسان تكلمت بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل له: إلى متى يحمل طالب العلم المحبرة؟ قال: إلى أن يوضع رأسه في المقبرة.
وقال -وبعض أهل العلم كـ الغزالي يرفع هذا الحديث وليس بمرفوع- قال: [[مداد العلماء خير عند الله من دماء الشهداء]].
يعني الحبر الذي يكتبون به.
وليس كل طالب علم -نسأل الله السلامة والعافية- فإنه هو الذي يطلب العلم للدار الآخرة ولتقوى الله، أما الذي يطلبه للشهادة فمداده أرخص من الماء.
الشاهد: أنه خرج لصلاة الجمعة فانقطعت حذاؤه؛ فقال: الله المستعان! إنا لله وإنا إليه راجعون! لم أغتسل هذا اليوم؛ وعاد فاغتسل.
ويعلق بعض أهل العلم ويقول: إن الله عز وجل ينبه هؤلاء على أخطاء بسيطة تصدر منهم ليتنبهوا، وبعض الناس يرتكب من الجرائم كالجبال ولا ينبه عليها؛ لأنه عمي عن الطريق المستقيم.(290/6)
كلام الخطيب مع المأمومين
المسألة الثالثة: كلام الخطيب مع المأمومين؛ فللخطيب أن يتكلم وله أن يرد وأن يجيب، ولذلك اشترط بعض أهل العلم؛ خاصة من المفكرين في العصر الحديث كـ أبي زهرة في كتاب الخطابة: أن يكون الخطيب سريع البديهة؛ لئلا يرتبك في الخطبة؛ وألا يتكلم مع أحد فيضيع الخطبة فإنه اشترط هذا الشرط، وهذا الشرط ليس وارداً عند أهل العلم، وإنما هو من باب الملح والطرف.
وقد دخل أعرابي والرسول عليه الصلاة والسلام يحدث أصحابه، وكان أمام الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقارب ألف رجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يواصل إسداء المعاني، ويواصل إعطاء الناس من القوة الروحية التي ما أعطاها الله بشراً إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، فيأتي هذا من جهله ومن جفائه، ثم يقف وسط الناس فينظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: يا رسول الله! متى الساعة؟ فلم يقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه فيعيد الرجل سؤاله ماذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الجواب؟ إن قال: الساعة لا أدري بها؛ قطع على الناس حديثهم.
وإن قال: اجلس واسكت، كانت هذه من الفظاظة والغلظة التي برأه الله عنها فقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]
وإن أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ قطع حديثه الذي كان يتكلم فيه مع ألف رجل، وترك الموضوع الذي كان يتكلم عنه؛ لأجل أن يتكلم عن هذه القضية فسكت صلى الله عليه وسلم، وما كأنه سمع.
قال أبو هريرة: فقال بعضنا: سمع ما قال فكره ما قال.
وقال بعضنا: بل لم يسمع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما تلعثم ولا تغير ولا التفت، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من حديثه قال: أين السائل عن الساعة؟ فقال: أنا يا رسول الله.
فخطأه في السؤال؛ لأن من جواب الحكيم أن يعرض عن سؤال ورد لا فائدة فيه لتفاهته وسخفه، وأن يأتي بجواب هو أملح وأصلح، كأن يقول: لم تسأل عن هذا؟ ولذلك يقول الله عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة:189] أي: كيف يبدو صغيراً ثم ينحني، ثم يبدو ضئيلاً ثم يكبر حتى يتضخم، ثم يعود كذلك؟ فما الفائدة من هذا السؤال؟! قال الله عز وجل: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189].
أي لماذا لا تسألون عن فائدة الأهلة؟ فالجواب هو هذا الجواب.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {ماذا أعددت لها؟ -والشاهد سوف يأتي- قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكنني أحب الله ورسوله.
فقال: المرء يحشر مع من أحب}.
وقطع الرسول صلى الله عليه وسلم حديثه للرجل الأعرابي الذي دخل من نحو دار القضاء، فقال هذا الأعرابي: يا رسول الله! هلكت الأموال، وتقطعت السبل، وجاع العيال؛ فادع الله أن يسقينا.
هذا كلام في محله، وإن أخر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا فإنه لا يمكن أن يتأخر عن صلاة الجمعة، وهي مناسبة عبادة، وإن قال له: اجلس؛ جفاه كذلك، وإن تكلم في موضوع الاستسقاء فليس الحديث موضوع محاضرة تلقى على الناس؛ فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطبة مباشرة ورفع يديه وقال: {اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا}.
الوقت في الصيف والناس في شدة حرارة، حتى يقول أنس: والله ما في السماء من سحابة ولا قزعة، والشمس تتوهج في الصيف وقد هلك الناس، فلما قال عليه الصلاة والسلام هذا -وكان المسجد شماسياً، يرون ما خلفه- ثارت سحابة كالترس، فارتفعت هذه السحابة، قال أنس: والله لقد ثارت مثل الجبال.
وهو في الخطبة بعد أن استسقى صلى الله عليه وسلم ثارت كالجبال حتى غطت سماء المدينة، ثم نزل الغيث والرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر، فأخذ الماء يتحدر من السقف ويصب على جبينه الطاهر الذي كأنه البدر.
يزيدك وجهه حسناً إذا ما زدته نظرا
فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يتبسم وهو في خطبته من هذه المعجزة التي شهدها أكثر من ألف ونقلت إلينا بالتواتر فلعن الله الملحدين أنى يؤفكون!
وكان صلى الله عليه وسلم يخطب فدخل رجل اسمه سليك الغطفاني فلم يصلِّ، فقطع صلى الله عليه وسلم خطبته وقال: {أصليت؟} وهذا من الأدب؛ لاحتمال أنه قد صلى، ولذلك فأهل العلم يعتبرون الاحتمال حتى لا يكذب الصادق، ولذلك يقول سليمان عليه السلام للهدهد: سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين.
ولم يقل: أكذبت أم أنت من الصادقين، وهذا من حسن الظن بالصاحب.
يقول ابن القيم عن قصة سليمان عليه السلام والهدهد في بدائع الفوائد: على المسلم ألا يستنكف من طلب العلم؛ فإن الهدهد عرض كلمة على سليمان وتواضع سليمان عليه السلام، حتى قال له بزعم وقوة: جئتك من سبأ بنبأ يقين، فما تكبر سليمان وما زها عليه السلام.
الشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقامه فصلى ركعتين فهذه مسألة الكلام من الخطيب إلى المأموم ومن المأموم إلى الخطيب.
وقد مر معنا ولا بأس بإعادته مرة ثانية لحسنه.
أعد ذكر نعمان لنا إنَّ ذكره كما المسك ما كررته يتضوع
وقف عمر رضي الله عنه على المنبر يخطب الناس فقال: أيها الناس، اسمعوا وعوا.
فقام سلمان رضي الله عنه وقال: والله لا نسمع ولا نعي.
قال: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: ألبستنا ثوباً ثوباً، ولبست أنت ثوبين! لأن عمر كان يوزع الثياب التي كانت تأتيه من اليمن، وكان عمر رجلاً طوالاً جسيماً، فأعطى الصحابة ثوباً ثوباً، ولما لم يكفه هذه الثوب أخذ ثوب ابنه عبد الله بن عمر الذي هو حصته مع المسلمين؛ فقال: لا يرد عليك إلا ابن عمر، قم يا عبد الله، فقام عبد الله فرد على سلمان، فقال سلمان لما سمع
الجواب
الآن قل نسمع وأمر نطع.
فقال عمر: أرأيتم لو انحرفت عن الجادة ما كنتم فاعلين؟ فقام أعرابي من طرف المسجد وسل سيفه وقال: والله يا أمير المؤمنين، لو قلت كذا لقلنا بالسيوف هكذا، فتبسم عمر وقال: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من إذا قال كذا برأسه قالوا بالسيوف هكذا.
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها(290/7)
معرفة حقوق أهل الفضل ورعاية حرماتهم
المسألة الرابعة: أهل الفضل أحق بالفضل.
فإن عمر رضي الله عنه استنكر على عثمان، أي أنت عثمان وتأتي في هذا الوقت؟! يقول القائل:
لا تضع من عظيم قدر وإن كنت مشاراً إليه بالتعظيم
فالعظيم العظيم يصغر قدراً بالتحري على العظيم الكريم
فـ عمر رضي الله عنه عرف أنه عثمان، ولو كان أعرابياً لما قال له عمر: أأعرابي وتأتي في هذا الوقت؟! حتى لو أنه أتى بعد الصلاة لما كان ليقول له عمر هذا، ولذلك يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
فقال لـ عثمان: تأتي في هذا الوقت؟! ليتك لست بـ عثمان!! ولذلك يقول الله عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30] وذلك لأنها امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فالشهير العظيم المحترم يكبر منه الذنب، ولكن الحسن كذلك يتضاعف منه، يقول عز وجل: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:31] فيضاعف لها الأجر.(290/8)
التطيب والادهان يوم الجمعة
ثم قال البخاري رحمه الله تعالى: باب الدهن للجمعة.
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهن أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام؛ إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى}.(290/9)
سند الحديث وترجمة رجاله
أولاً: رجال السند: قال البخاري: (حدثنا آدم) وهو آدم بن أبي إياس؛ جاء رجل إلى الفضل بن دكين وطرق عليه الباب، فقال: من؟ قال: رجل من ذرية آدم؛ فخرج وعانقه وقال: ما ظننت أنه بقي من ذرية آدم في الدنيا أحد!
(قال: حدثنا ابن أبي ذئب) هو الإمام الشهير، قرين الإمام مالك، كان من أقوى الناس، ويقولون: إنه كتب موطأً -والله أعلم- أراد أن ينافس به الإمام مالك، فقال الإمام مالك: ما كان لله سيبقى.
كان ابن أبي ذئب يكتب إلى الإمام مالك بالعزلة، ويوصيه بالقوة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان من قوة ابن أبي ذئب أنه دخل على أبي جعفر المنصور وقيل إنه طاووس، وأبو جعفر هذا يقول فيه الإمام أحمد: جبار الدنيا، ما كان يستطاع أن يتكلم بين يديه فقال له أبو جعفر: ناولني هذه الدواة يا ابن أبي ذئب كانت الدواة على ماسة هناك، والخليفة أمير المؤمنين أبو جعفر جالس هنا، وابن أبي ذئب عالم المسلمين بينهما، فقال: والله لا أناولك الدواة.
قال: ولم؟ قال: إن كنت تكتب باطلاً فلا أكون شريكاً لك في الباطل، وإن كنت تكتب حقاً فلست بخادم لك؛ فأرسل من أخذها وأتى بها.
يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: دخل المهدي بن أبي جعفر المنصور المدينة -وهذه قصة معروفة- فلما دخل المسجد قام الناس جميعاً في المسجد؛ لأنه من بني العباس، ومعه أمراؤهم وعلماؤهم، وهو الخليفة، فلما دخلوا قام الناس كلهم إلا ابن أبي ذئب فما تحرك وكان ماداً رجله، فأتى المهدي فسلم عليه وقبل بين عينيه؛ لأنه كبير في السن وشيخ ومحدث وعالم وزاهد، وقال: لم لم تقم لي وقد قام الناس لي؟ قال: أردت أن أقوم لك وتحفزت وتهيأت فتذكرت قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فتركت القيام لذلك اليوم.
فقال المهدي: والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت.
قال: (عن سعيد المقبري) وهذا من مشايخ أهل المدينة ومن التابعين الكبار، وكان فيه عرج ولكنه من العباد الصالحين؛ كان يقوم من وسط الليل يصلي حتى الفجر، فتظن ابنة جاره إذا خرجت أنها خشبة منصوبة على السقف، فما انتقل من جيرتهم إلى بيت آخر قالت لأبيها: يا أبتاه! أين الخشبة التي كانت على بيت جارنا؟ قال: هذا المقبري، انتقل إلى بيت آخر، وما كان ينام كما تنامين (أو كما قال).
قال: (أخبرني أبي عن ابن وديعة) وابن وديعة ليس من المشهورين المكثرين؛ ولذلك فترجمته قصيرة.
(عن سلمان الفارسي) الباحث عن الحقيقة، رجل الحق الذي تمرس في الأديان وجربها في أرض الواقع، وخرج بنتيجة لكل عاقل إلى قيام الساعة؛ وهي أنه لا فلاح للإنسان إلا بهذا الدين.
دخل مع المجوس في نارهم، ودخل مع النصارى في عبادتهم، واستقرأ أخبار اليهود، وفي الأخير أتى إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا
وأكرم الله محمداً صلى الله عليه وسلم عن كافور.
وفي الحديث مسائل:(290/10)
التجمل والتنظف للجمعة
المسألة الأولى: ما هو الغسل؟ وماهو التطيب؟ وما هو التدهن؟ وما هو التنظيف؟ ألا تتداخل هذه الجمل؟
قال ابن حجر: لا تتداخل.
الغسل غسل الجسم، والتطهير تطهير الرأس، والتنظيف بأخذ الشعر والظفر من الجسم، والدهن إزالة شعث الرأس والتزين للجمعة، والطيب تغيير رائحة الجسم فهذه المعاني التي يريدها صلى الله عليه وسلم.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يلبس للمناسبات حقها ولبوسها فإن كان صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه لبس عليه الصلاة والسلام ما تيسر من لباس، وإن أتى في الجمعة لبس الفاخر، يقول ابن عباس: [[خرج صلى الله عليه وسلم يوم العيد في حلة حمراء، فوالله ما رأيت أجمل منه]].
ويقول البراء بن عازب: {صلى بنا صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء ورأيت ساقيه كالجمارتين (قلب النخلة) من البهاء؛ فقرأ بنا والتين والزيتون، فوالله ما سمعت صوتاً أحسن من صوته} وقد قيل:
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها
وفي المعركة يلبس درعاً وربما لبس درعين ولذلك كان صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين وأعرف بحقائق الأمور، فمن أراد أن يقتدي فعليه بمحمد صلى الله عليه وسلم في لباسه وفي طعامه وفي شرابه.
وهديه في الجمعة أنه كان يلبس أفخر اللباس، حتى أنهم أهدوا إليه حلة لما رأوا منه العناية بلباس الجمعة -ولكنه حرمها- وقد كانت ترعد وتبرق وتزبد من حسنها ومن منظرها ومن زخرفتها، والصحابة ما كانوا يعهدون هذه الألوان رضوان الله عليهم، بل كانوا في فقر وفي حاجة ومشقة، وأما هذه فإنها لباس الملوك، فأتوا يلمسونها ويمشون أيديهم وأصابعهم عليها، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يتبسم، وعلم أن الدنيا تافهة وقال: {أتعجبون من هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه}.
سعد بن معاذ هو الشهيد الكبير الذي اهتز له عرش الرحمن؛ أبو عمرو
وما اهتز عرش الله من موت هالك سمعنا به إلا لـ سعد أبي عمرو
يقول عليه الصلاة والسلام: أتعجبون من هذه؟ لمناديل المخاط التي ربما يبصق فيها -إن كان لأهل الجنة بصاق- أو يمسح -إن كان له عرق وهو الجشاء- فمناديله أحسن من هذه التي تفتخرون بها ثم أتت المناظرة الأدبية التي مرت معنا في السير.
إنما كان عليه الصلاة والسلام يلبس لباس الجمال، والذي أدعوكم في هذا الموقف إلى أن نجعل أحسن لباس للجمعة وقد مر هذا، واللباس الجميل هو ما تعارف عليه الناس في أي بلد أنه جميل، فعندنا هنا أن اللباس الجميل هي الثياب والبشت؛ فالإنسان إذا أتى الجمعة يلبس الجميل ولا ينبغي أن يختار لحضور المحافل لبس الجميل، وإذا أتى إلى الجمعة لبس الثوب العادي أو ثوب النوم.(290/11)
تخطي الرقاب
وفي الحديث: كراهية تخطي رقاب الناس، ويدل عليه قوله في الحديث: {فلا يفرق بين اثنين} ورأى صلى الله عليه وسلم رجلاً يتخطى رقاب الناس فقال له: {اجلس فقد آذيت}.
وفي لفظ: {اجلس فقد آنيت}.
أي: تأخرت وآذيت الناس.
فالتخطي ممنوع، قال الإمام مالك: ليس التخطي ممنوعاً إلا إذا وقف الخطيب على المنبر، وأما قبل ذلك فله أن يتخطى.
وقال الشافعي: من كان له مكان لا يبلغه إلا بالتخطي فله أن يتخطى، وقال: إن كان له منزلة في الإسلام فله أن يتخطى.
والصحيح أنه لا يتخطى رقاب الناس، لا يتأخر ويبقى في بيته ويضيع بركة الوقت وأجر التبكير، ثم يأتي ويضر الناس ويتقدم عليهم هذا خطأ يخالف العقل والنقل.(290/12)
النافلة يوم الجمعة
مشروعية النافلة قبل الجمعة.
وهذه مسألة عويصة؛ لأنها لم تنقل لنا بحديث، وابن تيمية يرى أنه يصلى قبل الجمعة، ولا أعلم في ورود الصلاة في المسجد قبل الجمعة حديثاً صحيحاً، أو أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بها، وإنما أمر بالصلاة أربعاً بعد صلاة الجمعة كما سوف يأتي، وأما قبلها فقال ابن تيمية: هي من الأوقات التي يصلى فيها؛ فإن الصلاة الممنوعة هي حين يقوم قائم الظهيرة قبل الزوال؛ فهذا نهى عنه الشارع الحكيم، كما في الحديث الذي رواه مسلم عن عقبة بن عامر: {نهانا عليه الصلاة والسلام أن نصلي في ثلاث ساعات وأن نقبر فيهن موتانا وذكر منها: وحين يقوم قائم الظهيرة} أما يوم الجمعة فلك أن تصلي ولو قام قائم الظهيرة؛ يقول ابن تيمية: لأن الناس ما كانوا يخرجون من المسجد ليروا هل قام قائم الظهيرة أو زالت الشمس، بل يصلون حتى يدخل الخطيب.
وأما جواز النافلة نصف النهار يوم الجمعة، وهي تتداخل مع تلك؛ لكن هذه مطلقة، أي أن النافلة المطلقة واردة ومشروعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: {ثم صلى ما كتب له} أي: قبل الجمعة؛ وجواز النافلة نصف النهار تقتضي أنه لا نهي ولا كراهة في الصلاة في هذا الوقت.
السؤال
بعض الناس يدخل المسجد فيصلي ركعتين ثم يقرأ القرآن؛ فإذا ظن أن الخطيب قد اقترب قدومه وقف وصلى.
فما الحكم؟
الجواب
هذا جائز ووارد؛ لأنه يدخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: {ثم صلى ما كتب له} فالوقت وقت صلاة ولا كراهية فيه.(290/13)
تكفير الذنوب بالحضور يوم الجمعة وشروط ذلك
وأما التكفير للذنوب فمشروط بما تقدم من الغسل والطيب كما قاله أهل العلم؛ لأنها كفارة كما قال صلى الله عليه وسلم: {إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى} أي: غفر له لأنه اغتسل وتطيب وتدهن ولبس وبكر، ولم يتخط رقاب الناس، ودنا من الإمام وأنصت؛ فهذه كلها تقتضي أن تكفر له ذنوبه.
أما إذا تأخر ولم يغتسل ولم يتطيب ولم يتنظف، وتخطى رقاب الناس، وآذى ولم ينصت؛ فهل تحصل له الكفارة؟ لا فإن مفهوم الشرط معتبر عند أهل العلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم شرط هذا بهذا.
وقال ابن حجر: مفهوم الشرط معتبر؛ فلابد من تحصيل هذه الأمور؛ ليكفر الله عنه ما بينه وبين الجمعة الأخرى.
وأما هل تدخل فيها الكبائر؛ فإن الشيخ عبد العزيز بن باز يعلق على هذا؛ لأنه يرد على الشافعية الذين يرون أن الأمر مطلق، والصحيح -كما هو رأي الجمهور- أنها تكفر الصغائر، أما الكبائر فلا تكفر إلا بالتوبة والاجتناب، يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة: {الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، والعمرة إلى العمرة؛ كفارات أو مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر}
وفي حديث عثمان في صحيح مسلم: {ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله}
لكن هنا إيراد أورده ابن حزم الظاهري صاحب المحلى: وهو من لم تكن عنده صغائر فماذا يفعل به؟
الجواب
يكفر بها من الكبائر، وهذا رأي لـ ابن حزم.
فمن ليس عنده صغائر ولا كبائر يرفع الله به درجاته ويعظم ثوابه.
وليس المهم من الإيراد أن يكون واقعاً؛ فإنه قد تورد قضايا، لكن المقتضى ليس وارداً، المقتضى شيء آخر غير الإيراد، أن نورد قضية ثم نقول من مقتضاها كذا، ولذلك يقول ابن تيمية عن أبي حامد الإسفرائيني: يركب الفتوى لأنه يقول: من فعل كذا فأصبح كذا فصار كذا فهو كذا.
فهذا تركيب الكلام على الكلام بالمقتضى، إنما المهم أن نعرف الأحكام لو وقعت، وسواء وقعت أم لم تقع، فـ ابن حجر ناقش هذه المسألة؛ مسألة: لو لم يكن عنده صغائر ولا كبائر.
وقال: يرفع من درجاته.
ثم هل تكفر الصغائر بصلاة الجمعة وعند صاحبها كبائر؟
الجواب
المسألة فيها قولان: فأصحاب القول الأول قالوا: هذا قيد، ومعناه: إذا انتهى من الكبائر في هذا الأسبوع، وإن كان له كبائر من قبل وهذا فيه تكلف، والصحيح -والله أعلم- أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، وأن التوبة لابد فيها من اجتناب الكبائر، ولكن يبقى عندنا إشكال وهو في قول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]
فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: إذا اجتنبتم الكبائر كفرنا عنكم الصغائر، لا بالجمعة ولا بالصلاة، والشرط في تكفير الصغائر هنا هو اجتناب الكبائر، فكيف تكفر صلاة الجمعة هذه الصغائر وقد كفرت باجتناب الكبائر؟
الجواب: من عنده كبائر تكفر الجمعة عنه الصغائر، أما الذي ليس عنده كبائر فكفر الله سيئاته بغير الجمعة هذه مسائل الكبائر والصغائر، وليس هناك نص في الباب، ولكنه استطراد لقوله: {غفر له ما بين ذلك}.(290/14)
آداب الجمعة وخصائصها
أما آداب الجمعة وسننها، فالسنن العملية والخصائص عشرون خصيصة، يزاولها الإنسان يوم الجمعة، وأورد ابن القيم الكثير في زاد المعاد، لكن نكتفي بالأمور التي صحت فيها أحاديث، أو هي عملية يحتاجها المؤمن في الحياة.(290/15)
خصائص تتعلق بالتهيؤ والتنظف وهي سبع
الخصيصة الأولى: الغسل يوم الجمعة؛ وقد مر الكلام عنه واختلاف أهل العلم فيه، وقلنا: إنه سنة مؤكدة.
الثانية: الطيب.
ومن لم يجد طيباً فعليه أن يتطيب من طيب أهله؛ كما قال عليه الصلاة والسلام، والعجيب أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة كان يتطيب على ما آتاه الله تعالى من طيب، وسواءً تطيب أم لم يتطيب فهو طيب، فقد جاء في حديث أم حرام بنت ملحان لما دخل عليه الصلاة والسلام ونام في بيتها، فجمعت عرقه من جبينه صلى الله عليه وسلم في قارورة وقالت: هو أطيب الطيب.
ويقول أهل العلم: كان عرقه صلى الله عليه وسلم يتحدر كالجمان -أي الدر- وكان يوجد منه الطيب سواء تطيب أم لم يتطيب.
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
والطيب من أشرف خصال الرجل، وهو زكاة للنفس ورفعة للروح وانشراح وبسطة، وورد في بعض الآثار التي لا تصح: {لو أتلف الإنسان نصف ماله أو ثلث ماله في الطيب لكان حسناً}.
ومن حرصه صلى الله عليه وسلم على الطيب أن خصص أحد الصحابة وهو نعيم ليجمر المسجد فكان يفوح من المسجد، وكانت العرب تتمادح بطيب الرائحة، يقول الأول:
رقاق النعال طيب حجزاتهم يحيون بالريحان يوم السباسب
فهم يمتدحون بطيب الرائحة وبحسنها.
الخصيصة الثالثة في هذا الحديث: الدهن.
وهل هو الدهن المعروف لدينا أم غير ذلك؟ يقول ابن حجر: الدهن إما الطيب وإما الدهن المعروف السائر.
ولكن كأن الظاهر من الحديث أنه هو الطيب.
الخصيصة الرابعة: السواك.
قال ابن القيم: له ميزة يوم الجمعة على غيره من الأيام، وقد ورد في السواك أحاديث لو جمعت لأصبحت مجلداً بتحقيقها وتخريجها وشرحها.
يقول عليه الصلاة والسلام: {السواك مرضاة للرب مطهرة للفم} كما عند النسائي وابن خزيمة، ويقول: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء} أو {عند كل صلاة} ويقول حذيفة: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل شاص فاه بالسواك}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {أكثرت عليكم في السواك} ويقول: {لقد تسوكت حتى خشيت على أسناني} فكانت أسنانه كالبرد من كثرة ما يتسوك عليه الصلاة والسلام، وخصص أحد أصحابه وهو ابن مسعود ليجتبي له سواك أراك، فكان يصعد الشجر ويأخذ له منها سواكاً.
وقد جاء في القصة: أن الريح هزت الشجرة وابن مسعود على أغصانها، كأنه عصفور من دقة جسمه، فتضاحك الصحابة، فقال صلى الله عليه وسلم: {أتعجبون من دقة ساقيه؟! إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد}.
أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ويقول أبو الدرداء لأحد رواة الحديث من أهل العراق: أليس منكم صاحب النعلين والسواك والوساد؟
فيوم الجمعة يستحب -بل يتأكد كثيراً- أن يتسوك المسلم وأن يكثر من السواك فيه؛ لأنه مطهرة للفم مرضاة للرب، وعدد ابن القيم من فوائده ما يقارب اثنين وثلاثين فائدة، وابن حجر يوافق على ثمانية عشرة، وأما بعضها فمحتمل وليس ظاهراً.
ومن الخصائص كذلك: غسل الرأس، فإن غسل الرأس عند أهل العلم شيء وغسل البدن شيء آخر، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة: {حق على كل مسلم أن يغتسل في الأسبوع مرة يغسل فيها رأسه وبدنه} ففصل صلى الله عليه وسلم بين الرأس والبدن، ولو قال: يغسل جسمه.
لاحتمل دخول الرأس فيه، ولكن أكده صلى الله عليه وسلم بغسل الرأس.
فمن الميز أن يغسل المسلم يوم الجمعة رأسه، وأقل الغسل عند المسلم مرة في الأسبوع.
الخصيصة السادسة: تنظيف الشعر وتقليم الأظافر؛ وهو يشمل شعر الجسم الذي يؤخذ إلا اللحية فإن أخذها حرام، لكن كالشارب وغيره من فضلات الجسم فإنها تؤخذ، وتقلم الأظافر، ولا أعلم أنه يصح حديث في أخذها يوم الجمعة أو يوم الخميس؛ لأن فيها حديثين ضعيفين؛ حديث يوم الجمعة وهو حديث سفيان الثوري، وحديث يوم الخميس، وكلاهما ضعيف، ومن اطلع على صحة حديث منهما فليفدنا.
يقول أنس في التوقيت لأخذ الشعر: {وقت لنا أربعين ليلة في أخذ الشعر} ولكن هذا هو الحد الأعلى للأخذ، فإنه يتنزل حتى يأخذ بعض الناس في كل جمعة.
الخصيصة السابعة: لبس الجديد.
وقد مر، ويأتي حديث عمر أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله، خذ هذه الحلة السيراء تلبسها للجمعة والوفود}.
وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] فالزينة هي أحسن ما يلبس المؤمن لبيت الله عز وجل، ولحضور الجمعة التي هي عيد المسلمين.(290/16)
التبكير والقرب من الإمام
الخصيصة الثامنة: التبكير، وقد مر معنا في حديث البدنة والبقرة والكبش.
الخصيصة التاسعة: الدنو من الإمام، والدنو من الإمام قيل: إذا كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويستفاد من خطبته، وأما سفيان الثوري فله تنظير آخر، قال: أما الظالم فلا يدنى منه، وكان يصلي فيأتي في آخر الناس، فقالوا له: ما لك؟ قال: أدنو من هذا الظالم، يسفك الدماء، ويلعب بالأموال، ويأمر بالمنكر، وماذا أستمع؟!
ونقل مرة أن سعيد بن جبير صلى مع الحجاج فصلى في آخر الناس، فقام الحجاج على المنبر يسرد خطباً طوالاً في مدح بني أمية، وخالات بني أمية وعماتهم، فكان سعيد بن جبير يصلي إيماءً، فلما انتهت الجمعة قال له بعض الناس: ما لك؟ قال: أخر علينا الجمعة فصليت ظهراً إيماءً ثم صليت معه.
وقال الحسن البصري في الحجاج: يخطب بنا خطب الواعظين، ويلبس لباس الفساق، ويقرأ القرآن على لخم وجذام، ويبطش بطش الجبارين فنعوذ بالله من ذلك!
والغرض من الدنو من الإمام الفائدة وطلب الحكمة والموعظة؛ وحتى يلين القلب ويتأثر بذكر الله.
الخصيصة العاشرة: الإنصات للإمام؛ فقد جاء عند أحمد وأبي داود: {ومن لغا فلا جمعة له} وهي زيادة ضعيفة، لكن جاء في الصحيح: {من مس الحصى فقد لغا} وزيادة: {لا جمعة له} اختلف فيها أهل العلم، لأنها لم تصح، وهي عند أبي داود وأحمد بسند ضعيف.
وأما السواك والإمام يخطب فلا ينبغي، وليس بجائز ولا وارد، وقد قاسه أهل العلم على اللعب بالحصى، ومن فعله فقد لغا، ولا يحق له ذلك.(290/17)
قراءة سورة الكهف
الخصيصة الحادية عشرة: قراءة سورة الكهف، والحديث الوارد فيها رواه الدارقطني والبيهقي بسند صحيح، يقول عليه الصلاة والسلام: {من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلة الجمعة أضاء له نور تلك الليلة} وفي رواية: {وغفر له ذنبه} وهذا الحديث صححه بعض أهل العلم وبعضهم حسنه، فليس بضعيف بل هو صحيح فتقرأ سورة الكهف ليلة الجمعة؛ أي: من مغرب الشمس ليوم الخميس إلى غروب الشمس من يوم الجمعة، فمن أراد أن يقرأ قبل الصلاة فله ذلك، ومن أراد أن يقرأ بعد الصلاة فله ذلك أيضاً، وفي تلك الليلة -ليلة الجمعة- حتى يكتب الله له عظيم الأجر فعلى المؤمن أن يحافظ على هذا.(290/18)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
الخصيصة الثالثة عشرة: كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن أوس أنه قال: {أكثروا علي من الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي قالوا: كيف يا رسول الله وقد أرمت؟! -أي: فنيت وبلي جسمك بعد الموت- قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} وبعضهم يقول: {والشهداء} ولكن لم أر هذه الزيادة، فاللفظة الصحيحة الثابتة (أجساد الأنبياء) أما الشهداء فلا أعرف إلا قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].
وقد صرح عليه الصلاة والسلام في الحديث أن أجساد الأنبياء لا تأكلها الأرض، وهذه ليست قضيتنا، وسوف تمر علينا في كتاب الأنبياء من صحيح البخاري.
وما هي أحسن الصيغ في الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم؟ قال ابن تيمية: إن أحسن الصيغ هي الصيغة التي نقولها في التحيات: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آله محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد) لكن ابن تيمية رحمه الله وهم في هذا الحديث وقال: لا يقول: (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) وإنما يقول: (كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم) وأما (كما صليت على إبراهيم، وكما باركت على إبراهيم) فليست بواردة.
ورد عليه ابن حجر في الفتح وقال: بل صحت كما في معجم الطبراني، وهذا وهم من ابن تيمية، ثم أتى بالحديث.
والشاهد: أن هذه أحسن صيغة في الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
ومن أحسن الكتب التي ألفت في الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم: كتاب لـ أبي إسماعيل القاضي المالكي اسمه: فضل الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، وأحسن منه وأجود كتاب ابن القيم جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام صلى الله عليه وسلم، وذكرها أهل العلم كما في الأذكار للإمام النووي، وفي كتاب عمل اليوم والليلة لـ أبي بكر بن السني، وعمل اليوم والليلة للنسائي.(290/19)
من خصائص الجمعة
الخصيصة الرابعة عشرة: لا يفرق بين اثنين، وقد مر هذا، وأنه من الإيذاء وأنه أمر مستقبح، وللخطيب أن يتكلم ويرد على من يفعل ذلك.
الخصيصة الخامسة عشرة: لا يتخطى الصفوف، قال صلى الله عليه وسلم: {اجلس فقد آنيت وآذيت} تأخرت وآذيت.
الخصيصة السادسة عشرة: السنة بعد الجمعة، قال ابن عمر كما في الصحيحين: {حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات؛ ركعتين بعد الجمعة، وركعتين قبل الظهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتي الفجر في بيته}.
وزاد مسلم: {وركعتين بعد الجمعة في بيته} لكن يقول عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: {إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا بعدها أربعاً} فكيف نجمع بينهما؟ قال ابن تيمية: الجمع بينهما أنه من صلى في بيته فليصلِّ ركعتين، ومن صلى في المسجد بعد الجمعة فليصل أربعاً.
وهذا من أحسن ما جمع به بين الحديثين.
وقالوا: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً بعد الجمعة في المسجد.
الخصيصة السابعة عشرة: الاهتمام بساعة الاستجابة؛ وقد مر معنا أن الصحيح أنها في آخر ساعة من ساعات الجمعة، وهناك من قال بأنها من جلوس الخطيب إلى أن تقضى الصلاة، والحديث في مسلم، وبعض أهل العلم ضعفه كـ ابن تيمية والدارقطني.
ويقول ابن حجر: فيها ثلاثة وأربعون قولاً ثم أوردها في فتح الباري؛ ولذلك فلا هجرة بعد الفتح.
الخصيصة الثامنة عشرة: الصدقة يوم الجمعة.
ولها فضل، ولا أعلم فيها حديثاً، لكن قال ابن القيم في كتابه زاد المعاد: وكان شيخ الإسلام -يعني ابن تيمية - إذا أتى ليصلي تصدق بصدقة قبل صلاة الجمعة، فقلت له في ذلك، فقال: إن الله أمر بالصدقة عند مناجاة الناس لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12] ومناجاة الله أولى، وذلك يوم الجمعة فنتصدق.
وهذا يسمع، ولكن يتوقف حتى يثبت حديث ويصح، ومن تصدق فهو مأجور مشكور، لكن لا نعتبرها من السنن؛ لأنه من كلام ابن تيمية، والعلماء يستشهد لآرائهم ويحتج لآرائهم، ولا يحتج بآرائهم لتصبح أدلة، فإن الذي يؤخذ كلامه ولا يرد هو محمد صلى الله عليه وسلم، والذي يؤخذ من كلامه ويرد هم من سواه صلى الله عليه وسلم.(290/20)
المشي إلى الجمعة وعدم الركوب
الخصيصة التاسعة عشرة: المشي إلى الصلاة، وقد فضلها أهل العلم على الركوب، وكان هدي الصحابة المشي إلى الجمعة، وقد جاء في السنن: {بشر المشائين في الظُلم} وقوله: (في الظلم) وارد على الغالب وليس قيداً مخصصاً؛ فإنه إذا وردت صفة ليست لعلة مطلقة في الوصف فإنها للتغليب فحسب، ويسمى هذا قيداً أغلبياً كقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] فقوله: (اللاتي في حجوركم) قيد أغلبي، وإذا كانت الربيبة في غير الحجر فلها أيضاً نفس الحكم، وقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما} فالسيف هنا قيد أغلبي، فليس لهما أن يلتقيا بمسدسيهما وببندقيتهما، وكذلك المشاءون إلى المساجد سواء في الليل أو في النهار.(290/21)
عدم إفراد الجمعة بالصوم
العشرون: عدم إفراد الجمعة بالصوم؛ وبعض العباد الذين لم يطلعوا على النصوص يصومون هذا اليوم ويفردونه، وما علموا أن من داوم على إفراده بالصوم فقد ابتدع في دين الله.
دخل الرسول صلى الله عليه وسلم على جويرية وهي صائمة، فقال صلى الله عليه وسلم: {أصمت يوماً قبله؟ قالت: لا.
قال: أتريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا.
قال: فأفطري إذن فأفطرت}.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: {نهى صلى الله عليه وسلم أن تخص ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي وأن يخص يوم الجمعة بصيام من بين الأيام}.
هذه عشرون قضية وخصيصة من خصائص يوم الجمعة؛ إنما ذكرتها لأن البخاري فرقها في الصحيح، وكذلك ابن حجر، واعتنى البخاري بالتبويب على مسائل أهل الحديث، لا على المسائل التي في كتب الفقه.(290/22)
لباس يوم الجمعة
قال البخاري باب: يلبس أحسن ما يجد.
قال: أي: فضل ذلك، أو فضل العمل بذلك، أو ما ورد فيه من فضل.
قال: حدثنا عبد الله بن يوسف التنيسي المصري قال: أخبرنا مالك وهو النجم، قال الشافعي: إذا ذكر العلماء فـ مالك النجم (أو الفقهاء) فهذا هو مالك رحمه الله.
ومالك حيث أفتى في مدينته فلست أرضى بفتوى غير فتواه
عن نافع مولى ابن عمر عن عبد الله بن عمر -وهذه تسمى عند أهل العلم: السلسلة الذهبية، فمن أقوى الروايات عند البخاري: مالك عن نافع عن ابن عمر، وزاد بعض أهل العلم الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، وزاد غيرهم: أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر؛ فهذه سلسلة الذهب أو السلسلة الذهبية التي لا تنفصم، وذلك لقوتها وجلالة أصحابها فهم كالنجوم.
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري(290/23)
شرح حديث الحلة التي أراد عمر أن يشتريها النبي صلى الله عليه وسلم
والحديث: {أن عمر رضي الله عنه رأى حلة سيراء} -قال الخطابي: تضبط على (سُيراء) بضم السين، وقال غيره من أهل العلم: (سِيراء) بالكسر.
وقال الخطابي: هي على وزن عُشراء؛ لأن الناقة إذا أصبحت في الشهر العاشر سمتها العرب عُشراء، قال تعالى: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4] وهنا سُيراء لكثرة سيورها {عند باب المسجد} مسجده صلى الله عليه وسلم، وفيه جواز البيع عند أبواب المساجد {فقال: يا رسول الله! لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدم عليك، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة.
ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها حلة، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت!!}.
وهذا هو عطارد بن حاجب التميمي خطيب الوفد الذين وفدوا على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم لما وفدوا قالوا: يا رسول الله! نريد أن ننافرك ونغالبك.
فأتوا بخطيبهم، قيل: أنه عطارد، وقيل: عمرو بن الأهتم فوقف على المنبر ومدح بني تميم وما تعرض للصحابة ولا للمهاجرين والأنصار والمنافرة عند العرب أن يأتي الخطيب ويتفاخر بمآثرهم في الجاهلية، فأقر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك؛ تألفاً لقلوبهم واستجذاباً لأرواحهم للإسلام فلما انتهى قال صلى الله عليه وسلم: أين ثابت بن قيس بن شماس، وهو أنصاري؛ فقام رضي الله عنه فقال له: رد عليه.
فقام على المنبر فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُثبَّت فثبت الله كلامه، فألقى موعظة كأن الصواعق تتحدر من على المنبر حتى غلب خطيبهم، فإذا عرق بني تميم يتصبب على جباههم، ثم قام شاعرهم وهو الزبرقان بن بدر في قصيدته المشهورة التي يقول فيها:
نحن الملوك فلا حي يضارعنا منا الملوك وفينا تنصب البيع
فلما انتهى من قصيدته قال صلى الله عليه وسلم: أين حسان؟ فقال: هأنذا يا رسول الله! فقال: رد عليه، اللهم أيده بروح القدس -يعني بجبريل- أي: ثبت قلبه وأيده؛ لأن الأمر ضيق والوقت عجل، وهو إما أن ينجح في هذا الموقف وإلا فهو الفشل، فقام فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: كيف أنت؟ فقال: يا رسول الله عندي لسان لو وضعته على حجر لفلقه، ولو وضعته على شعر لحلقه؛ ثم مد لسانه فضرب أرنبة أنفه وقليل من الناس من يفعل ذلك.
يقول الذهبي: قال رجل لبعض زملائه: كل من في السوق لا يعقلون شيئاً وليس فيهم عاقل.
قالوا: ما صدقت.
قال: اذهبوا معي، فذهبوا معه فأخذ يهلل ويكبر حتى اجتمع الناس عليه فقال: يا أيها الناس! ورد في الأثر أنه من مس لسانه أرنبة أنفه أدخله الله الجنة!! فأخذ الناس في السوق كل يمد لسانه حتى مد جميع من في السوق فـ حسان رضي الله عنه قالها بجدارة لطول لسانه في الحق، فقام على منبره صلى الله عليه وسلم، وأخذ صلى الله عليه وسلم يقرب له المنبر بيديه الشريفتين، فأخذ ينطلق وهو يقول:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنناً للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
إلى آخر تلك القصيدة الرنانة التي ما سمع الناس بمثلها، فلما انتهى هزموا مرة ثانية، وقالوا: غلب شاعرك شاعرنا وخطيبك خطيبنا؛ فأسلموا.
وكان فيهم قيس بن عاصم المنقري حليم العرب، فقال صلى الله عليه وسلم لما دخل الوفد: من هذا؟ -وكان عمره ستين أو سبعين سنة وعليه لفافة على رأسه- قالوا: هذا قيس بن عاصم.
فقال: ما ذكر لي أحد إلا كان أقل مما ذكرلي إلا هذا فكان أعظم مما ذكر لي، أنت سيد أهل الوبر ولذلك يقول الأول:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من ألبسته منك نعمةً إذا زار عن شحط بلادك سلما
وما كان قيس موته موت واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
{فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! كسوتنيها، وقد قلت في حلة عطارد ما قلت!! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أكسكها لتلبسها، فكساها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخاً له بـ مكة مشركاً}.(290/24)
التجمل ليوم الجمعة وللناس
في هذا الحديث مسائل:
التجمل للجمعة لإقراره صلى الله عليه وسلم لـ عمر بن الخطاب، فإنه قال: لتلبسها للجمعة؛ فأقره وما أنكر عليه وما قال: ولم الجمعة؟ فعلم أن المعهود -كما يقول الخطابي - أن يتجملوا للجمعة.
المسألة الثانية: إظهار التجمل للناس، وللوفود، وفي المناسبات فإن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله تلبسها للجمعة وللوفود.
فالتجمل للناس مطلوب، ولذلك جاء في البيهقي بسند حسن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمته عليه} ومن حسن الطالع أن يتجمل المؤمن، وأن يظهر الجمال في ملبسه ومظهره أمام الناس؛ ليظهر نعمة الله، ويظهر قوة الإسلام وروعته وبهاءه، فإن التكبر شيء والتجمل شيء آخر.
والتجمل لا يدخل فيه الكبر إلا لمن أراد به الكبر؛ فقد جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود: {أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسن -أي: أهو من الكبر؟ - قال صلى الله عليه وسلم: ليس من الكبر؛ الكبر بطر الحق وغمط الناس} بطر الحق: أي رده ودحضه، وغمط الناس: ازدراؤهم واحتقارهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: {إن الله جميل يحب الجمال} وهذه من الصفات التي وردت لله عز وجل، وقد ذكرها صلى الله عليه وسلم.
وجاء في الترمذي: {إن الله نظيف يحب النظافة} وفي هذا الحديث كلام، لكن تهيب بعض أهل السنة من إطلاق هذا اللفظ، والحديث وارد.
فيستحب إظهار التجمل للناس، يقول ابن القيم: المذموم في اللباس لباس الشهرتين، أن يلبس الإنسان لباساً شهيراً من الجودة والفخامة حتى يلحقه بالملوك، أو يلبس لباساً وضيعاً يلحقه بالشحاذين.
وخير الأمور أوسطها، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] وفي حديث في الترمذي: {خير الأمور أوساطها} لكنه ضعيف كما نص عليه الأرناؤوط في تحقيقه لـ جامع الأصول.
وهنا
السؤال
هل إطالة الثوب إلى ما تحت الكعب من التجمل ليوم الجمعة، أم هو من القبح؟
الجواب
يعتبر هذا من القبح يوم الجمعة وغير يوم الجمعة، وليس من التجمل، بل إنه من التهتك في دين الله، وهو خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه ما أسفل من الكعب فهو في النار، وليس فيه شيء من الجمال؛ فإن الجمال في السنة أن يظهر الإنسان بمظهر محمد صلى الله عليه وسلم، فما هناك أجمل منه.(290/25)
رفض النبي صلى الله عليه وسلم للحلة وما يحرم من اللباس
المسألة الثالثة: علة رفضه صلى الله عليه وسلم للحلة، وقوله: {إنما يلبس هذه من لا خلاق له يوم القيامة}.
ذكر أهل العلم أنها من الحرير، وقالوا: هي من الديباج؛ فعلى ذلك فالديباج أعظم، وقد نهي في حديث البراء عن المياثر وعن الديباج، فلا تلبس في الدنيا، إنما يلبسها من لا خلاق له في الآخرة.
و
السؤال
أيلبسها الكفار في الدنيا تحليلاً لهم لأنه قال: لا يلبسها إلا من لا خلاق له في الآخرة؟ وهل يعني ذلك أنها لهم في الدنيا حلال؟ كقوله صلى الله عليه وسلم: {فإنها لهم -يعني آنية الذهب والفضة- في الدنيا ولكم في الآخرة} لا وإنما يعني أنهم استحلوها وهي محرمة عليهم.
المسألة الرابعة: من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وقد ورد هذا في صحيح مسلم عن حذيفة، وقام عليه الصلاة والسلام -كما في حديث علي رضي الله عنه- على المنبر، فأخذ قطعة من ذهب وقطعة من حرير وقال: {إن هذين حرام على رجال أمتي حلال لنسائها} وروى هذا الحديث كذلك أبو داود وأحمد والنسائي وهو صحيح، وفيه رد على من حرم الذهب المحلق، وهناك رسالة بعنوان: القول الجلي فيما ورد في الحلي، وهو كتاب مطبوع ومن أحسن الرد.(290/26)
إعطاء المشرك وأهمية المشاورة
المسألة الخامسة: إعطاء المشرك تأليفاً لقلبه؛ فـ عمر أعطى الحلة أخاه من المشركين، والرسول صلى الله عليه وسلم أعطى الكفار ليتألف بهذا العطاء قلوبهم، فلا بأس أن تعطي منافقاً أو مشركاً إذا كان هناك مصلحة تتألفه بها إلى هذا الدين.
المسألة السادسة: المشاورة في الأمور الخاصة؛ فإن عمر رضي الله عنه اقترح على الرسول صلى الله عليه وسلم في زيه أن يغير منه أو يلبس حلة ليوم الجمعة، وهذا الزي أمر خاص يخص الإنسان فهذه مشاورة وعرض، وهذا يدل على أمرين:
الأول: إجلال الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم له؛ فيريدون له أن يظهر بالكمال والتمام.
الأمر الثاني: تواضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث يستمع ويتكلم في هذا الكلام؛ لأن بعض الناس لا يجد قبولاً أن تقترح عليه، قيل للأعمش -كما ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء - وكان يلبس الفرو أو البردة خلاف ما يلبسها الناس، فأتى أحد تلاميذه وقال: يا أبا محمد، لو لبستها مقلوبة كان أحسن.
فقال: لماذا ما أشرت على الخروف بهذا؟ يقول: الخروف يلبسها مقلوبة؛ لأن فروة الخروف تأتي من الخارج، فيقول: أشر على الخروف، أما أنا فلا تشر علي بهذا.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقبل المشورة، لكنه قال: {إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة} فالمانع من الأمر ليس لأنك تدخلت في الشئون الخاصة؛ لكن لأنك ما عرفت أنها محرمة.
السؤال
من أتى ليصلي سنة من السنن كسنة الظهر مثلاً، فهل يصلي قبلها تحية المسجد أو أنها تكفي عن التحية؟
الجواب
السنة تنوب عن تحية المسجد، فإن النوافل تتداخل، فمن أتى وقصده أن يصلي قبل الجمعة ركعتين فيجعلها سنة للجمعة وتحية للمسجد، وكذلك ركعتي الفجر، إلا عند ابن حزم فإنه يقول: يصلي ركعتين تحية المسجد ثم يصلي ركعتين سنة الفجر، وهذا خطأ بل إنها تتداخل.
وفي ختام هذه الجلسة نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجعلنا وإياكم ممن يتحابون فيه ويتواصون بطاعته، وأن يتغمدنا برحمته.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(290/27)
فضل التبكير إلى الجمعة
قبل أن يبدأ الشيح حفظه الله بشرح أحد الأحاديث في صحيح البخاري في فضل الجمعة، بدأ بنبذة تعريفية عن أحد الصحابة وهو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وذكر بعضاً من مناقبه وسيرته، وما الذي يجب علينا تجاه ما حصل بين الصحابة من فتنة.
ثم ذكر الحديث وشرح ألفاظه ومعانيه، وأبان ما فيه من مسائل وأحكام وفوائد عجيبة وهامة يحتاجها كل مسلم وبالأخص طالب العلم.(291/1)
سيرة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،،
وإنها لمسيرة طيبة مع الإمام البخاري، وإنه لسفرٌ سعيد إن شاء الله تعالى مع هذا الإمام الحبر الذي نفع الله به الأمة، ورفع كتابه، وجعله من أعظم كتب أهل الإسلام بعد كتاب الله عز وجل، ولا زلنا في كتاب الجمعة من صحيحه، وقبل أن نتكلم عن أبواب هذا الدرس، أو عن القضايا الواردة فيه، يجمل أن نتكلم عن يسر بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا في هذه الليلة، معاوية بن أبي سفيان خال المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه، وما اختير معاوية إلا لأن مبغضيه كثيرون في الأمة، وهم الرافضة من الشيعة، فهم يلعنونه على منابرهم، وفي محاريبهم، وليس هذا بمعتقد أهل السنة والجماعة، فإن معتقد أهل السنة والجماعة أن نترضى عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه منهاج السنة: إن الرافضة ليس لهم حظٌ في الفيء لأن الله ذكر أهل الفيء فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] فمن أراد الله والدار الآخرة، فليعتقد اعتقاد أهل السنة والجماعة.(291/2)
الكف عمَّا شجر بين الصحابة رضي الله عنهم
فمعتقدهم في الصحابة أنهم يكفون عما شجر بينهم، ولا يشهرون قضايا الخلاف، ولا ينشرونها في المجالس، ولا يثيرون الحزازات التي وقعت ويعيدونها من جديد.
سُئل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن أهل صفين، وهم جيش علي وجيش معاوية رضي الله عنهما، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[تلك دماءٌ صان الله منها سيوفنا فنصون منها ألسنتنا]] فعلم من ذلك كما يقول ابن تيمية في الواسطية أن معتقدنا في الصحابة أن نترضى عنهم جميعاً، ونعتقد أن بعضهم أفضل من بعض، وأن نكف عما شجر بينهم، ونظن فيهم كل الخير، فهم أعمق الأمة إيماناً، وأبرها قلوباً، وأصدقها لهجة، وأخلصها لله، وأزهدها في الدنيا، وأورعها عن محارم الله وأعلمها بالله، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
سئل عامر الشعبي رضي الله عنه وأرضاه عن أهل صفين، كيف يلتقون وهم مسلمون؟ وكيف ما فر بعضهم من بعض؟
قال: أهل الجنة التقوا فاستحى بعضهم أن يفر من بعض، ونزل علي رضي الله عنه يوم الجمل، وقد قتل طلحة وهو من الفريق المقابل فنزل وترجل من على فرسه وهو يبكي ويقول: يعز عليَّ يا أبا محمد -يقصد طلحة بن عبيد الله - يعز عليَّ يا أبا محمد أن أراك مجندلاً على التراب، وأخذ يزيل التراب من على لحية طلحة بن عبيد الله ذي الجود، أحد العشرة المبشرين بالجنة، ويقول: أسأل الله أن يجعلني وإياك ممن قال فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
فمعنا الليلة المتهم وهو بريء، ومعنا المتنقص وهو كامل، ومعنا المسبوب وهو ممدوح، معاوية رضي الله عنه وأرضاه.(291/3)
مناقب معاوية رضي الله عنه
أسلم مع أبيه، وأخذه صلى الله عليه وسلم كاتباً من كُتَّاب الوحي، وانظر كيف استأمنه صلى الله عليه وسلم ليكتب وحي السماء نزل من عند الله تبارك وتعالى، فهو من الكتبة، ومن أصهاره صلى الله عليه وسلم، فقد تزوج أخته رملة، فهو خالنا، وخال كل مؤمن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فحيا به من خالٍ بار، ومن كاتب للوحي أمينِ.
يقول ابن عباس قال صلى الله عليه وسلم: {ادع لي معاوية فقد نزل عليَّ شيء من الوحي يكتب لي، فذهب أحدهم فأتى فإذا بـ معاوية يأكل في بيته، فدعاه، قال: تعال فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوك، قال: إني ما انتهيت من أكلي، فعاد فصبر صلى الله عليه وسلم قليلاً، فرد الرسول ثانيةً، فقال معاوية: ما انتهيت من غدائي، فصبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فرده ثالثة، فلما أخبر الرسول قال صلى الله عليه وسلم: لماذا لا يأتي؟ لا أشبع الله بطنه} وهذه من مناقبه.
قال ابن كثير هذا منقبة وليست مثلبة كما تقول الرافضة، بل هي منقبة كبرى، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال من على المنبر: {اللهم ما من عبدٍ مسلمٍ سببته، أو شتمته، أو ضربته فاجعلها كفارة له ورحمةً عندك} فهي له رحمة وكفارة عند الله عز وجل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا عليه، وبالفعل وقع ما دعا عليه صلى الله عليه وسلم فكان لا يشبع أبداً، يقول: إني أجزم لنفسي أنني آكل ولا أشبع، ولكنني أعلل نفسي حتى يأتي الموت.
سافر مع الرسول صلى الله عليه وسلم -وكان من دهاة العرب ودهاة العرب في كتب التاريخ أربعة: معاوية، وزياد ابن أبيه، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة - فلما سافر مع الرسول عليه الصلاة والسلام، طلب صلى الله عليه وسلم منه مقراضاً يقرض ويقلم أظفاره صلى الله عليه وسلم، فقلم أظفار رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقصٍ عنده، فكان له الشرف أن يقلم أظفار الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهذه في سير أعلام النبلاء وفي كتب التواريخ، فلما انتهى من تقليم أظافر المصطفى صلى الله عليه وسلم جمعها وحفظها، وجعلها في مكانٍ عنده طيلة حياته، فلما تولى الخلافة أغلق عليها في صندوقٍ محكم، ولما أتته الوفاة واليقين نزل من على سرير الملك رضي الله عنه وأرضاه، وبكى طويلاً، وقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه، ثم قال لمن اقترب منه من وزرائه: ما عندي كلمة أحاج لنفسي بها عند الله إلا: لا إله إلا الله، فإذا أنا مت فعليكم بهذا الديوان فافتحوه وخذوا أظفار رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعوها في أنفي وفي عيني لعل الله يرحمني بها، وبالفعل -وهذا من محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وضعوها في أنفه وعينيه.
يقول ضرار بن الحارث الصدائي أحد أهل العراق من جيش علي بن أبي طالب: دخلت على معاوية وهو خليفة بعدما قتل أبو الحسن رضي الله عنه وأرضاه، فعرف إني من جيش علي فقال: يا ضرار! حدثني عن علي بن أبي طالب، قال: فتحرجت أن أحدثه لأنهما تقاتلا، فقلت: اعفني يا أمير المؤمنين! قال: عزمت عليك إلا حدثتني عن علي فإني أحب الحديث عنه، قال ضرار: أما إن سألتني يا أمير المؤمنين فوالله! لقد صاحبت علياً فوجدته عابداً عالماً زاهداً، والله لقد رأيته في الليل الدامس -أي المظلم- يقبض على لحيته بيديه وهو يقول: يا دنيا يا دنية طلقتك ثلاثاً، زادك حقير، وعمرك قصير، وسفرك طويل، آه من قلة الزادِ وبعد السفر ولقاء الموت، فبكى معاوية حتى تغير على جلسائه وسالت بالدموع لحيته، ثم قال: رحم الله أبا الحسن، ثم قال: صدق الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
وقال شفيٌ الأصبحي: {دخلت على معاوية رضي الله عنه وهو على سرير الملك فقال: حدثني يا شفي! حديثاً يلذ لي ويطيب، قلت: حدثني أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ماذا حدثك؟ قلت: قال لي: أول من تسعر بهم النار ثلاثة، بعالمٍ، وجوادٍ، وشجاع، يؤتى بالعالم -نعوذ بالله من ذلك المنافق- فيقول الله له: أما علمتك العلم؟ قال: بلى.
قال: أما لقنتك الحكمة؟ قال: بلى، قال: أما فقهتك في الدين؟ قال: بلى، قال: فماذا فعلت؟ والله أعلم به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال: تعلمت وعلمت فيك الجاهل، قال: كذبت! وتقول الملائكة: كذبت! ثم يقول الله: إنما تعلمت ليقال عالم، وقد قيل، خذوه إلى النار، فيسحبونه حتى يلقى في النار، -نسأل الله العافية والنجاة- ثم يؤتى بالجواد، فيقول الله: ألم أربعك؟ ألم أسودك؟ ألم أخولك مالاً؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا فعلت؟ والله أعلم به، قال: أنفقته في سبيلك، وأطعمت الجائع وكسوت العاري، وآتيت المسكين، فيقول الله: كذبت! وتقول الملائكة: كذبت! ثم يقول الله: إنما فعلت ليقال جواد، وقد قيل، خذوه إلى النار، فيسحبونه على وجهه حتى يرمى في النار، ثم يؤتى بالشجاع فيفعل به كما فعل بالاثنين، فلما سمع معاوية الحديث نزل من على سريره وبكى ورفع البساط ومرغ وجهه بالتراب وهو يبكي ويقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]}.
ومن مدائحه في السنة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له كما صح في ذلك الحديث: {اللهم علمه الحساب وقه العذاب} فهو مدعوٌ له بأن يقيه ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عذابه يوم يبعث الله الأولين والآخرين.
أيضاً جاء في حديث أم حرام بنت ملحان أن الجيش الذين يركبون ثبج البحر مغفور لهم، وكان هو قائد هذا الجيش، قالت أم حرام بنت ملحان هي امرأة واسمها أم حرام وهذا الحديث في المغازي كما في صحيح البخاري، قالت: {دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهي عجوز والرسول صلى الله عليه وسلم كان يزور العجائز والأطفال والمساكين- فدخل عليها صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام قالت: فلما جلس صلى الله عليه وسلم نام على فراشٍ عندي، قال: فأخذ صلى الله عليه وسلم عرقه يتصبب من جبينه الطاهر، وكان إذا نام صلى الله عليه وسلم أخذ عرقه يتدفق -وهذه من خصائصه أن عرقه في الشتاء وفي الصيف يتدفق بكثرة كأنه الدر أو كأنه الجمان، أو كأنه اللؤلؤ المنظوم- قالت: فأخذت قارورة وأخذت أسلت عرقه وأضعه في هذه القارورة، فوالله إنه لأحسن رائحة من المسك الأذفر، ووالله لقد بقي في بيتنا -تقول أم حرام - فترة طويلة، كلما مرض مريض أخذت قطرة من هذا العرق فوضعته في ماء وغسلت المريض فشفي بإذن الله} وكانت رائحة بيتها تفوح في المدينة وتتضوع.
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره كما المسك ما كررته يتضوع
رقاق النعال طيباً حجزاتهم يحيون بالريحان يوم السباسب
قالت: {ثم نام صلى الله عليه وسلم فاستيقظ في تلك النومة وهو يضحك، فقلت: ما لك يا رسول الله؟ أضحك الله سنك! قال: أضحك أنني رأيت قوماً من أمتي يركبون ثبج البحر كالملوك على الأسرة}.
هو في المدينة معه ثلة من الناس والدين لم ينتشر ففرح صلى الله عليه وسلم أن يرى الأمة المكبرة، المهللة، الموحدة وهي تفتح بلاد الله، ويراهم يعبرون البحار، ينشرون لا إله إلا الله في أصقاع الأرض، فقالت أم حرام: {يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنتِ منهم، ثم نام صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك ثانيةً، فقالت: قلت: يا رسول الله! ما يضحكك؟ أضحك الله سنك! قال: رأيت قوماً من أمتي غزاةً في سبيل الله، قالت: ادع الله أن يجعلني منهم -تريد هذا كذلك- فقال: أنتِ من الأولين} لأنها سوف تستشهد أو تموت فلا يمكن أن تتكرر، وقد وقع هذا، فكان معاوية بن أبي سفيان قائد هذا الجيش وهذه الكتائب التي عبرت على موج البحر تؤدي رسالة الله في الأرض.
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
فلما خرجت مع معاوية رضي الله عنه وعنها وكانت هي زوجة عبادة بن الصامت، فخرجت مع الجيش لغزو القسطنطينية ثم عادوا، فتوفيت وهي في السفينة، ودفنت هناك.
ففرح صلى الله عليه وسلم بالمنام الذي قائده معاوية رضي الله عنه وأرضاه.
ومع أنه كان داهيةً من دهاة الناس، لكنه ضرب أروع الأمثلة في الأناه والحلم، وكان يصفح ويكظم غيظه، ولا يؤاخذ بالزلة، بل يعفو ويتجاوز، تولى أمر الأمة رضي الله عنه وأرضاه فكان سديد الرأي، طيب السيرة، دخل عليه الأحنف بن قيس التميمي، سيد بني تميم فلما دخل عليه قال له معاوية: أنسيت يا أحنف! يوم الجمل ويوم صفين -يعني مع علي - فقال الأحنف وكان رجلاً شجاعاً: يا معاوية! إن السيوف التي قاتلناك بها في أغمادها في بيوتنا، وإن القلوب التي أبغضناك بها في صدورنا فإن عدت عدنا، فاحمر وجهه وسكت، فلما دخل إيوانه قالت ابنته: يا أبتاه! من هذا الأعرابي الجلف الذي يكلمك بهذا الكلام الغليظ وأنت لا ترد عليه؟ قال: هذا الأحنف بن قيس، هذا الذي إذا غضب غضب معه عشرة ألف سيف من بني تميم، لا يسألونه فيما غضب، وإنما يقولون: غضبت زبراء، وزبراء جارية للأحنف، فيسمون الأحنف زبراء، فيقول: لو أنني أغضبته سوف يغضب معه عشرة ألف سيف.
والأحنف بن قيس كان من أجود وأحلم العرب، مع أنه كان هزيلاً أحنفاً يمشي على رجلٍ واحدة مهلهل الشعر، لكن كله عقلٌ وحكمة وذكاء ودهاء، فـ معاوية صفح عنه وكظم غيظه.
في يوم من الأيام، قال وهو يتمازح مع عمرو بن العاص: أيُّنا الأدهى أنا أم أنت؟ فقال عمرو بن العاص: أنا أدهى منك، قال: ولمَ؟ قال: أخرج من عندك في المجلس، فقال معاوية: اخرجوا، فخرجوا، فقال عمرو: ادنُ مني أحدثك، فاقترب منه معاوية، فقال عمرو: وهل معنا أحد حتى تدنو مني!
وهذه القصة مذكورة في عيون الأخبار وفي غيره.(291/4)
حديث عظيم في فضل الجمعة
يقول البخاري رحمه الله: باب فضل الجمعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر} وفي هذا الحديث عدة مسائل:(291/5)
مناسبة الحديث للباب
المسألة الأولى: ما مناسبة ترجمة البخاري للحديث؟ أي ما مناسبة الباب أن يقول البخاري: باب فضل الجمعة ثم يأتي بهذا الحديث، حديث البدنة والبقرة، والكبش والدجاجة والبيضة؟
و
الجواب
المناسبة أنه ما دام قارن صلى الله عليه وسلم بين التبكير وبين الفضل المالي الذي يدفعه العبد ويتقرب به إلى الله، فما قارن صلى الله عليه وسلم بين هذا وهذا إلا لفضل يوم الجمعة وساعاته، فاقتضى أن يوم الجمعة فاضل، فهذه مناسبة الباب للحديث، أنه لما قارن صلى الله عليه وسلم بين التبكير وساعات التبكير والعمل المالي الذي يدفعه المسلم كالبدنة والبقرة اقتضى فضل يوم الجمعة، فأتى به صلى الله عليه وسلم.(291/6)
على من تجب صلاة الجمعة
المسألة الثانية: ماذا يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم (من اغتسل) و"من" للعاقل وهي تصرف عند الأصوليين على ما صرفته النصوص، فهنا (من) قال ابن حجر وغيره من أهل العلم: تشمل كل من يشمله وجوب حضور صلاة الجمعة، فالذكر الحر، القادر، المقيم، يشمله الخطاب، أما المسافر ففيه حديث: {لا جمعة على المسافر} وكذلك المرأة، والصغير، والعبد لا جمعة عليهم، فـ (من) هنا تنصرف إلى من صرفته النصوص أو قيدته نصوص الشارع الحكيم صلى الله عليه وسلم.(291/7)
معنى: (من اغتسل يوم الجمعة)
المسألة الثالثة: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: {من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة}؟
فيه جوابان: الأول أن المعنى: من اغتسل كغسل الجنابة على أنه حذف كاف التشبيه، وهذا رأيٌ لبعض المحدثين، كما يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] أي تمر مراً كمر السحاب.
والقول الثاني وهو الأصوب أن معناه: من أتى أهله ثم اغتسل لرفع الجنابة عنه، وهذا القول هو الأظهر، والخلاصة أنه إذا كانت على التشبيه معناه: من اغتسل غسلاً كغسل الجنابة لا أنه اغتسل غسل الجنابة، فهذا مأجور ومشكور، يعني أن يتوضأ ثم يغتسل فيصبح غسله للجمعة كغسل الجنابة.
والرأي الثاني: من اغتسل غسلاً للجنابة، وجعله للجمعة، يعني أنه يأتي أهله يوم الجمعة ثم يغتسل للجنابة، ودليل هذا: ما جاء في السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من غسل واغتسل} قال الإمام أحمد: أي أن الرجل يأتي أهله يوم الجمعة فيغسل نفسه ويغسلها، أي يضطرهم ويحوجهم إلى الغسل وذلك أغض لطرفه وأسكن لنفسه، وأقبل لروحه إلى ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وكلا المعنيين صحيح عند أهل العلم، ولا تعارض بينهما والحمد لله.(291/8)
معنى الرواح في الحديث
القضية الرابعة: قوله: (ثم راح إلى الجمعة) كيف يقول عليه الصلاة والسلام ثم راح والرواح آخر النهار، لأن العرب اصطلحت أن الرواح من الظهر إلى المساء، واصطلحت أن الغدو من الصباح إلى الظهر، فكيف يقول صلى الله عليه وسلم من راح والرواح في آخر النهار؟ وفي القرآن آية تؤيد أن الرواح في آخر النهار وهي في سورة النحل {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6] فتسرحون الصباح، وتريحون بعد صلاة الظهر، فكيف يقول عليه الصلاة والسلام من راح إلى الجمعة؟ يعني يروح بعد الظهر، والإمام مالك: حمل الحديث إلى أنه يروح بعد الزوال، فقال: يبقى الإنسان في بيته ويغتسل فإذا زالت الشمس يبدأ بالرواح، يعني أن المصلين لا يروحون إلى المساجد عند الإمام مالك إلا بعد الساعة الثانية عشرة بتوقيتنا.
والجواب على هذا الإشكال أن معنى (راح) هنا: معناها سار، فإنها تستخدم بالتضاد لكلمة يغدو، يقول: الصلتان السعدي كما في كتاب الحيوان للجاحظ:
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
أي: نذهب ونأتي، فليس معنى أننا نروح في آخر النهار، ومعنى نغدو أي نغدو في الصباح أي:
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
وهناك في السنة حديث يؤيد هذا الكلام أن الرواح بمعنى الذهاب والمجيئ وهو حديث في فضائل المحافظة على الصلوات الخمس، وفيه: {أعد الله له نزلاً كلما غدا أو راح} أي: كل ما ذهب وأتى، لا بمعنى كل ما مشى في الصباح، لأن الصلوات خمس، ولا بمعنى أنه أتى في آخر النهار، فمعنى غدا أو راح هنا، أي أنه ذهب وأتى، ولذلك سوف يأتي تقسيم الساعات عند الغزالي من الشافعية، وعند الإمام مالك من المالكية، وعند الجمهور.(291/9)
معنى البدنة في الحديث
المسألة الخامسة: يقول عليه الصلاة والسلام: {فكأنما قرب بدنة} فما هي البدنة؟
البدنة في لغة العرب تطلق على الناقة من الإبل خاصة، وتطلق على البقرة تجوزاً، لكن ما هو المقصود بها في الحديث هنا؟ الذي ينصرف إليه لفظ بدنة في الحديث هو إلى الناقة، لماذا؟ لأنه ذكر بعدها البقرة، ويقولون: وقسيم الشيء غير الشيء، وهذا عند الأصوليين أن قسيم الشيء غير الشيء، إذا قال: بدنة وسكت احتمل أن تدخل فيه البقرة، وإذا قال: بدنة ثم قال بقرة خرج القسيم وهو البقرة، وقسيم الشيء غير الشيء.
تقول: جاءني رجلان، أو تقول: جاءني محمد وزيدٌ، أو جاءني رجلان فيهم محمد، اقتضى أن الآخر اسمه يختلف عن اسم محمد، أو أنه مسكوت عنه.(291/10)
استحباب تأخر الخطيب
المسألة السادسة: في قوله عليه الصلاة والسلام: {فإذا خرج الإمام} ماذا يؤخذ من هذا الحديث؟ وماذا نستفيد من هذه القضية؟ فيه فائدة وهي أنه صلى الله عليه وسلم عد ساعاتٍ ست أو خمس ثم قال: {فإذا خرج الإمام} يقول: المازري من المالكية في الحديث استحباب تأخر الإمام لأنه عدد صلى الله عليه وسلم أهل الفضل بدنة، فبقرة، فكبش، فدجاجة، فبيضة، فقال: {فإذا خرج الإمام} ورد عليه ابن حجر؛ لأنه من الشافعية، وقال: قد يجلس الإمام في مكانه في المسجد ثم يصعد، ولا تعارض في الحديث، لكن ما قاله المازري أوجه.(291/11)
الحديث عن الملائكة الذين ذكروا في الحديث
المسألة السابعة: من هم الملائكة وأقلامهم الذين ذكرهم صلى الله عليه وسلم؟ هل هم الحفظة أم غير الحفظة؟
يقول عليه الصلاة والسلام {فإذا دخل الإمام} أي رقى المنبر طوت الصحفَ الملائكةُ وجلسوا يستمعون الذكر، فهل هم الحفظة أم غير الحفظة؟
قال ابن حجر: وليسوا بالحفظة؛ لأنهم لو كانوا حفظة ما طووا صحفهم، لأن الحفظة يسجلون الأجر، أجر استماع الخطبة، وأجر الإنصات، والدنو من الإمام، وأجر صلاة الجمعة ويكتبون الخطايا التي تحدث ومن لغا، فيقتضي هذا أنهم غير الحفظة، فهؤلاء مهمتهم التبكير فحسب، مهمتهم أن يسجلوا المبكرين، فإذا انتهوا من هذا الأمر، طووا الصحف وجلسوا يستمعون إلى الخطيب، وهل هناك من الملائكة غير الكتبة يرافق العبد؟
في القرآن له ملائكة غير الكتبة يرافقونه يقول تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] ما هي المعقبات؟ قيل: هي التي تحفظ العبد من قدر الله، أي له معقبات يحفظونه من أمر الله، وهنا (من) بمعنى بأمر الله، أي أن الله قدر عليهم أن يحفظوا هذا العبد بأمره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا أتى القضاء، وحل القدر تخلوا عنه، كأن يقدر على الشخص الهلاك في اصطدام سيارة أو في تحطم فيحمونه حتى يأتي القضاء والقدر، فإذا أتى تخلوا عنه، فهذا معنى له معقبات من بين يديه ومن خلفه.
أما بالنسبة لأقلامهم: فقد روى أبو نعيم في الحلية أن الملائكة الذين يسجلون يوم الجمعة، أقلامهم من نور، وصحفهم من نور.(291/12)
معنى طي الصحف
المسألة الثامنة: كيف يطوون الصحف وعن ماذا يطوون الصحف؟ يطوونها عن أجر التبكير، فلا يطوونها عن أجور أخرى سوف تحدث، لأن غيرهم موكل بالأجور الأخرى مثل من استمع إلى الخطبة ومن أحسن وخشع في صلاة الجمعة.(291/13)
رحمة الملائكة بالمؤمنين
المسألة التاسعة: أورد ابن خزيمة: أن الملائكة يقفون عند الأبواب، فينتظرون ويسألون الله عز وجل للمؤمنين أن يسهل لهم الدخول إلى المسجد شفقةً من الملائكة.
فهل في القرآن آية تدل على أن الملائكة يشفقون على مؤمني بني آدم؟ نعم.
قوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] فعند ابن خزيمة قال: تقول الملائكة: اللهم إن كان فقيراً فأغنه، يعني المتأخر إن كان فقيراً ما أخره إلا العمل من أجل مهنته ومعيشته فأغنه، اللهم إن كان مريضاً فاشفه، اللهم إن كان ضالاً فاهده، ولذلك ما قالوا إن كان غاوياً فأغوه، إنما من شفقتهم قالوا: اللهم إن كان فقيراً فأغنه، اللهم إن كان ضالاً فاهده، اللهم إن كان مريضاً فاشفه، حتى يدخل الإمام، فإذا دخل الإمام يئسوا ألا يدخل أحد، وإذا دخل أحدٌ بعد هذا فليس له أجر التبكير بعد أن دخل الناس وأصبحوا آذاناً صاغية وأصبح الخطباء على منابرهم وتحصل ساعة الإجابة، وكما سوف يمر معنا كلام أهل العلم عن هذه الساعة.(291/14)
حكم غسل الجمعة
المسألة العاشرة: يؤخذ من الحديث فضل الغسل، وقد مر معنا أنه سنة مؤكدة، وأن الوضوء وارد؟
وسوف يمر معنا أن من لم يستطع الغسل فعليه بالوضوء.(291/15)
تفاضل الناس بأعمالهم
المسألة الحادية عشرة: تفاضل الناس في أعمالهم، أو فضل التبكير، وهذه المسألة في قوله عليه الصلاة والسلام: {من جاء في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن جاء في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن جاء في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن} لماذا قال: (أقرن)؟
الجواب
أن ذلك تعظيم للكبش؛ لأنه أشرف، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا ضحى يضحي بكبشٍ أقرن، وهو عند العرب أفخر وأفضل الكباش، ثم قال: {ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة} فهل بين الدجاجة والكبش نوع آخر من الحيوانات؟
عند النسائي في سننه من رواية الزهري أن بين الدجاجة وبين الكبش بطة، وعند النسائي كذلك بين الدجاجة وبين البيضة فكأنما قرب عصفوراً، ولكن رواية البخاري على خمس ساعات لئلا تزدحم الساعات ولو كانت عنده على شرطه، لما توانى في إيراد الحديث، ونحن سوف نشرح الحديث الذي على شرط البخاري والذي فيه تقسيم الساعات إلى خمس ساعات.(291/16)
تقسيم ساعات الجمعة وما يقابلها من الأجور
{من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة} الحديث ذكر خمس ساعات، وعند النسائي ست أو سبع، وبناء عليه فإنه لما قال الإمام مالك: أن المعنى من قوله: (من راح) أي إذا زالت الشمس يبدأ الناس يخرجون من بيوتهم، فقال مالك: إن هذه الساعات هي لحظات خفيفةٌ لطيفة كأقل ما يكون وتتابع بسرعة، لأن بعد الزوال لا يتحمل خمس ساعات، ورد عليه أهل العلم أن هذا خلاف كلامه صلى الله عليه وسلم، قال الإمام أحمد: أما مالك فقد عارض حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
والإمام مالك ما خالف الحديث متعمداً، لكنه مجتهد أخطأ في هذه المسألة فله أجر واحد، وقال ابن حجر: وتجاسر الغزالي، (ومعنى تجاسر أي: تشجع واقتحم الموقف) وقال: أما الساعة الأولى فهي من بعد صلاة الفجر، ولذلك يقول في كتابه إحياء علوم الدين: إذا صلى العبد صلاة الفجر فليذهب إلى المصلى مباشرة، وكان السلف يأخذون السرج في الطريق يستضيئون به إلى الجمعة، فقال له أهل العلم: من أين لك هذا الاستدلال؟ إنما هذا من كيسك، والغزالي يريد تربية وشحذ همم الأمة، لكن أهل العلم كـ الذهبي، وابن تيمية، وابن القيم وغيرهم يقولون: إنه ضعيف في الرواية والنقل رحمه الله.
فأتى الغزالي بهذه المسألة، فقال: الساعة الأولى: من بعد الفجر إلى أن تطلع الشمس، والساعة الثانية: من طلوع الشمس إلى أن ترتفع، والساعة الثالثة: من ارتفاعها إلى أن تبسط في الجو، والساعة الرابعة: إلى أن ترمض الأقدام (من الرمضاء) والساعة الخامسة من رمض الأقدام إلى قدوم الخطيب.
فقال له أهل العلم: من أين لك هذا حتى تجاسرت على تحديدها بذلك؟!
والصحيح الذي قاله الجمهور أنها ساعاتٍ زمنية معلومة الله أعلم بها، لكن ترتب كالساعات المعروفة عندنا فترتب خمس ساعات من قبل دخول الخطيب، وعليكم بترتيبها، والخطيب يدخل في الثانية عشرة فاحسبوا من قبلها خمس ساعات تنازلياً، فهذا ما ذهب إليه الجمهور، وأخذ منها المالكية جواز التاريخ الإسلامي أن يوضع التاريخ ويحسب من معرفة الساعات، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {نحن أمةٌ أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا} أي: تسعة وعشرين يوماً، أو ثلاثين يوماً فالنبي صلى الله عليه وسلم ما كتب رقماً، وإنما قال: {نحن أمةٌ أمية} يعني على الجبلة والفطرة، لكنها أمة ذكية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، قال الجمهور: فلا يرد التاريخ، قال المالكية: بل يرد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة} فهو صلى الله عليه وسلم أتى بالرقم التسلسلي التنازلي إذا حسب من دخول الخطيب، من جاء في الساعة الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة.(291/17)
العلاقة بين التبكير والجلوس في الصف الأول
وهنا ملاحظة مهمة يكثر الاستفسار عنها، وهي أنه ليس مقصود التبكير هنا الجلوس في الصف الأول، وأجر الصف الأول فيه أحاديث أخرى في فضله: لكن مقصود التبكير هنا أن يحرص الإنسان على الفضل، فإنه قد يأتي في ساعة متقدمة فيكون في الصف الثالث لامتلاء الصفين الأولين وذلك لحرص الناس على التبكير، وقد يأتي في الساعة الخامسة ويصلي في الصف الأول، كما في بعض القرى حيث يدخلون مع دخول الخطيب، فهذا من تكاسلهم وبعدهم عن السنة، فهذا يختلف باختلاف الناس، إنما المقصود من الحديث الحرص على التبكير، لا الحرص على الصف الأول.
ومن الأدلة أيضاً التي استدل بها الإمام مالك على أن الرواح بعد الزوال قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] لكنه لا يقتضي أن يكون السعي بعد النداء، لأن الله عز وجل في آياتٍ كثيرة قدم الطلب على العمل، كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] وليس معنى الآية أنه إذا قرأ خمس آيات فإنه يختمها بأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال أهل العلم: المعنى إذا أردت أن تقرأ فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فحمل الجمهور الآية أي تعالوا واقبلوا حتى تسمعوا نداء الله عز وجل، أو تبقى الآية على عمومها، ولكن معناها ألا تشتغلوا بتجارة إذا سمعتم نداءها وهذا للمتخلفين، أي: هذا هو الحد الأدنى، وهو خاص بالمنشغلين أما أن يبقى الناس إلى الساعة الأخيرة ثم يقول لهم إذا سمعتم النداء فتعالوا فليس كذلك.
ثم العمل يفسر النص، فإن الصحابة كانوا يبادرون من الساعة الأولى، وما كانوا ينتظرون النداء، بل قال ابن القيم في زاد المعاد: إن الناس كانوا يجتمعون في عهده صلى الله عليه وسلم، فإذا دخل عليه الصلاة والسلام أذن بلال.
والمقصود أنه يؤذن وهم موجودون، أما أن يبقوا ثم يأتوا بعد الأذان فهذا ليس بمعروف، والإمام مالك استدل بهذه الآية كما بينا، لكن أكثر استدلاله باللغة (من راح).(291/18)
مسائل هامة في أحكام يوم الجمعة(291/19)
الغسل هل هو لصلاة الجمعة أم ليوم الجمعة
وهنا ملاحظة هامة وهي: هل الغسل ليوم الجمعة أم للجمعة؟
وهذه مسألة شائكة، كما يقول فيها بعض أهل العلم: تساقطت فيها عمائم الأبطال وتكسرت فيها النصال على النصال، وأول من أثارها الإمام ابن حزم في المحلى قال: الغسل ليوم الجمعة ليس للجمعة، وفائدة الخلاف إن كان الغسل ليوم الجمعة فيجوز لك أن تغتسل بعد صلاة العصر من يوم الجمعة أو قبل المغرب، لأنك اغتسلت لليوم، وإن كان للصلاة فلا يجوز لك أن تغتسل بعد الصلاة، بل لا بد أن تغتسل قبل الصلاة، ومن أدلة ابن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من اغتسل يوم الجمعة} ولم يقل للصلاة، فقال له الجمهور: وأين أنت من بقية الحديث؟ من اغتسل يوم الجمعة ثم راح، فهل يروح بعد صلاة العصر؟! فردوا عليه بهذا الرد، ومنهم صاحب المغني وابن حجر في الفتح، وقد أورد ابن حزم هذه المسألة في المحلى وهي جيدة، وإيرادها في هذا المكان مناسب.(291/20)
العلة في الأمر بالغسل
وهناك فائدة أخرى وهي هل الغسل لأجل التنظيف أو للتطيب أو أنه أمر تعبدي؟
أورد ابن القيم هذا في زاد المعاد، والقائلين بأنه للتنظيف أي من لم يجد وسخاً في جسمه فإن الغسل غير واجب عليه، وإن كان تعبيداً فإن عليه أن يغتسل سواءً وجد وسخاً أو درناً أو لم يجد، وفائدة هذا أنه ورد في حديث عائشة الصحيح أن الصحابة كانوا يأتون من أعمالهم وعليهم الصوف فتنبعث منهم الروائح، يعني كانوا يشتغلون في مهن أنفسهم، يشتغلون في الزراعة وغيرها، حتى إن من أسباب ترك بعضهم الرواية وحفظ كثير من الأحاديث الانشغال بالمعيشة، فهم كانوا يعيشون على الفطرة هكذا، وكانوا يلبسون الصوف لأنهم فقراء، فإذا لبسوا الصوف مع الحر الشديد انبعثت منهم روائح كريهة، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسلوا.
فمفهوم المخالفة هنا أنه إن كان الغسل من أجل التنظف فإن من وجد وسخاً فليغتسل، وإن كان الأمر تعبدياً فعليه أن يغتسل مطلقاً، والأقرب في هذه المسألة أن الأمر هنا تعبدي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل} وقال هنا: {من اغتسل يوم الجمعة} ولم يذكر هنا صلى الله عليه وسلم تنظفاً أو غيره.(291/21)
حكم الغسل لمن جاء الجمعة من غير أهل الوجوب
هل الغسل على من يأتي الجمعة من أهل الوجوب أو على من يأتي الجمعة وليست بواجبه عليه، كالمسافر أو المرأة والطفل؟
في الحديث الصحيح عن جابر بن سمرة، وعن ابن عمر مرفوعاً: {غسل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلم} لكن لفظ واجب هنا كما يقول ابن حجر: لا تعرَّف كما يعرفها أهل الأصول أنه بمعنى الأمر، أي بمعنى الحتم الذي عرف عند الأصوليين، لا.
بل هو بمعنى أمرٌ مؤكد، فقال صلى الله عليه وسلم: {غسل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلم} لأنه يروح إلى الجمعة والظاهر من ألفاظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم: أن من أتى إلى الجمعة سواءً من أهل الوجوب أو من غيرهم فعليهم أن يغتسلوا، لماذا؟ لحديث: {من اغتسل يوم الجمعة ثم راح} {ومن أتى الجمعة فليغتسل} رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أتى الجمعة فليغتسل} فلم يحدد عليه الصلاة والسلام.
وللفائدة أنه قد مر معنا أن المسافر في حديث الطبراني حديث: {ليس على مسافرٍ جمعة} لكنه حديث ضعيف، فيه عمر بن عبد العزيز وليس هو الخليفة رضي الله عنه، لكن رجلٌ ضعيف لا يصح حديثه، لكن ابن تيمية كما يذكر البليهي في السلسبيل حاشية زاد المستقنع، قال: من كان مسافراً وحضر بلداً تنعقد فيه الجمعة فعليه أن يحضرها وجوباً؛ لأنه سمع النداء، كأن يذهب إنسان لنزهة أو رحلة فينزل في مكان وهو مسافر فيسمع نداء يوم الجمعة فعليه أن يحضرها وجوباً، فالغسل ليس للوجوب.
وقد ذكر ابن حجر أنه ثبت أن النهار اثنتا عشرة ساعة، والحديث الذي رُوي وفيه أن النهار اثنتا عشرة ساعة رواه أبو داود ورواه الحاكم في المستدرك وقد وضعت الساعات الموجودة عندنا على هذه الساعات، فإن النهار اثنتا عشرة ساعة، واستشهد كذا بعض المالكية وقالوا: كيف بساعات الصيف وساعات الشتاء فإنها تختلف؟ قالوا: تقدر خمس ساعات، هذا ما ورد.
ومن الإشكالات -أيضاً- في موضوع حكم غسل الجمعة إنكار عمر على عثمان عدم اغتساله، فإن عثمان جلس ولم يغتسل، فجلس والصحابة كلهم في المسجد، وهذا يدل أنهم أجمعوا إجماعاً سكوتياً أن الغسل غير واجب، ولو علموا أن الغسل واجب لأنكروا على عثمان ولقالوا: أخطأت، كيف ينكر عليك أمير المؤمنين ثم تجلس، ولو علم عثمان رضي الله عنه أنه واجب لما جلس رضي الله عنه وأرضاه.
ثم الرد الثاني: أن قوله صلى الله عليه وسلم: {من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل} لكن ابن حزم يرى أن الغسل واجب في المحلى، ويستدل بأدلة قوية من ذكائه وفطنته حتى يقول ابن تيمية لما تعرض لمسألة من مسائله: والله إني أعجب من هذا الرجل -يعني ابن حزم - من ذكائه وفطنته ومن شواذه وغرائبه، وليس معصوماً إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فـ ابن حزم يقول: الغسل واجب، وأما حديث عثمان فلم يذهب للاغتسال إما لأن الوقت ما أسعفه، فكيف يذهب يغتسل وعمر على المنبر؟! هذا الأمر الأول.
والأمر الثاني: أن استماع الخطبة أوجب عنده من الغسل والغسل واجب.
والأمر الثالث: أن سكوت الناس ليس فيه دليل، فقد يكون عند أحدهم علم، لكن كيف يتكلم وعمر يخطب.
فهذه مجمل ردود ابن حزم.
لكن الصحيح أن الغسل ليس بواجب، ولو أن بعض أهل العلم أوجبوه.(291/22)
المؤمنون يدخلون الجنة برحمة الله وتكون منازلهم بحسب أعمالهم
المسألة الثانية عشرة: وهي تفاضل الناس في الجنة بأعمالهم: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:14].
وهنا سؤال قبل الدخول في هذه القضية، وهو هل يدخل الناس الجنة بأعمالهم أم برحمة الله؟ فالله عز وجل يقول: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] فكيف نوفق بين هذه الآية وبين قوله صلى الله عليه وسلم: {لن يدخل الجنة أحدٌ بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتداركني الله برحمته} فكيف يجمع بين الآية والحديث.
و
الجواب
أن بعض العلماء ذهب إلى أن الباء هنا سببية، ليست بباء العوض، فباء العوض كأن تقول: أعطاني القلم بريال.
فيكون المعنى: أي أن من الأسباب التي أدخلتكم الجنة أعمالكم، وهذا رأي لبعض أهل العلم، وهو رأي قوي، لكن ذهب ابن القيم إلى قول وسط وهو أنهم يدخلون الجنة برحمة الله وتتوزع عليهم الدرجات والمنازل بأعمالهم، وهذا رأي أحسن من القول الأول.
بالله لفظك هذا سال من عسلٍ أم قد صببت على أفواهنا العسلا
لأنه لو حملناها على السببية لقلنا: الناس كلهم يدخلون ويبقون في درجة واحدة، فلماذا يرتفع هذا مائة درجة وهذا خمسين درجة، فاقتضى أن ابن القيم يحمل هذا الحمل الممتاز، وهذا الرأي الصحيح الفصيح الذي ما سمع بمثله، فيدخلون الجنة برحمة علام الغيوب أرحم الراحمين، ولكنه يوزعهم في الدرجات بأعمالهم.
وهذه المسألة هنا المسألة الثانية عشرة: فضل الناس بأعمالهم، وجه الاستدلال من الحديث هو أنه من أتى في الساعة الأولى، ليس كمن أتى في الساعة الخامسة، فليس فضل الناس بمناصبهم أبداً، كأن يأتي المسئول قبل دخول الإمام بلحظات، فهذا ليس له أجر المبكر، فالتفاضل عند الله عز وجل بالأعمال لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عمم على الناس، وما جعلها على الصفات، كأن يقول: من جاء من العلماء أو من الصلحاء أو من الدعاة، أو من الأغنياء أو من الفقراء، وإنما قال من جاء أو من راح، فعممها صلى الله عليه وسلم، فاقتضى أن التفاضل بالأعمال.(291/23)
عدم احتقار الصدقة القليلة
المسألة الثالثة عشرة: القليل من الصدقة غير محتقر، كما قاله ابن حجر، ويؤخذ ذلك من الحديث، عند ذكر (البيضة) لكن هنا سؤال هام: يقوله أهل العلم: وهو كيف يقول صلى الله عليه وسلم: {فكأنما قرب دجاجة} فهل تقرب أو تهدى الدجاجة أو البيضة؟ لأن الهدي معروف أنه إما إبل أو بقر أو غنم، فكيف يقول صلى الله عليه وسلم: {فكأنما قرب أو أهدى دجاجة أو بيضة} وفي لفظ: {فكأنما أهدى} يعني من الهدي الذي هو في الحج، فكيف نجيب؟
نقول: اشتركت هذه في العطف، ولا يقتضي أن توافقها في الصفات، كما يقول اللغوي الشاعر العربي: "متقلداً سيفاً ورمحاً"، فليس المعنى أنه وضع رمحه كما وضع سيفه على عنقه بل المعنى وحاملاً رمحاً، وكما يقول الآخر: "فزججنَ الحواجب والعيونا" أي وكحلن العيون وليس المعنى وكحلن الحواجب، وهكذا.
ولكن الصحيح أنه لا يلزم أن يكون من الهدي.
والمعنى من الحديث أنه تقرب إلى الله عز وجل سواءً في صدقةٍ أو في هديٍ أو في نافلةٍ أو في إطعامٍ أو في منفعة، أي أنه تقرب إلى الله بأي تقرب.(291/24)
حكم التضحية بالدجاج
ولعله يشكل على البعض مسألة هل يجوز للمسلم أن يضحي بدجاجة؟
أقول: هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، وذكرها الصنعاني صاحب سبل السلام، فقال: وضحى أبو هريرة بديك، ولكن الصحيح أنه لا يضحى بالدجاج، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم توقف إلى حد الغنم، ولم يذكر الدجاج، وإنما الذي رجح جواز الدجاجة أخذ ذلك من هذا الأثر، ولكن لو قلنا ووافقناه، قلنا كذلك: تجوز الأضحية بالبيض، فتصبح المسألة فيها شيء من السخف، لكن الصحيح أنه يوقف عند الغنم.(291/25)
الإبل أفضل من البقر في الصدقات
المسألة الرابعة عشرة: هل الإبل في الهدي أفضل أم البقر؟ وهذه مسألة يذكرها الفقهاء في باب الحج، فبعضهم قدم الإبل، وبعضهم قدم البقر لكن الصحيح أنها الإبل لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بها، وهي أشرف، والله ذكرها في القرآن فبدأ بها قبل البقر، وهذا في قوله تعالى: {وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:144] فقدم الله الإبل على البقر.
ومن الفوائد هنا ما يدل على فقه الإمام أحمد وفطنته وذكائه رحمه الله أنه سئل: هل تنحر البقر أو تذبح؟ والبخاري عقد باباً في كتاب الحج، باب: هل تنحر البقر، لماذا قال: هل تنحر البقر؟ لأن هنا إشكال هل تذبح أو تنحر؟ فسئل الإمام أحمد هل تنحر البقر أو تذبح؟ قال: تذبح، قالوا: وما الدليل؟ قال: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] فأخذها من قصة بني إسرائيل وأتى بها في هذا الموضع، وهل الفقه إلا هذا.
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا(291/26)
متى تكون ساعة الإجابة في يوم الجمعة
المسألة الخامسة عشرة: يوم الجمعة اثنتي عشرة ساعة، وهذا الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي والحاكم، فليعلم أن يوم الجمعة وغيره من الأيام اثنتا عشرة ساعة، ثم هنا
السؤال
أي ساعة تكون هي من هذه الساعات؟
ذكر ابن حجر فيها ثلاثة وأربعين قولاً، والصحيح أنها في آخر ساعة من يوم الجمعة.
ولكن كيف نرد على الحديث الذي جاء عن أبي موسى في صحيح مسلم أنه سئل عن ساعة الجمعة، فقال: يقول صلى الله عليه وسلم: {هي من جلوس الخطيب إلى أن تقضى الصلاة} فما هو الرد؟
من الأقوال التي حكاها ابن حجر، أنها تكون متنقلة، مرة تأتي في الساعة الأولى، ومرة في الثانية، ومرة في الثالثة، ومرة عند جلوس الخطيب، ومرة في آخر ساعة، ولكن هذا جواب فيه احتمال لا يرتضى، لأنه لابد من جزم، ولا بد أن ينقل لنا عن المعصوم أنها متنقلة.
ومن الردود أن هذا الحديث ضعيف، فقد ضعفه شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثامن عشر من الفتاوى، قال: ثلاثة أحاديث في صحيح مسلم ضعيفة، ثم أتى بهذا الحديث، فقال: إن هذا الحديث ضعيف، فيه انقطاع بين أبي بردة، وبين الراوي عنه، وممن سبقه من الحفاظ أبو الحسن الدارقطني حافظ الدنيا، فقال: هذا الحديث ضعيف، وذكره ابن حجر في بلوغ المرام، والصحيح -والله أعلم- أنه ليس بضعيف، فقد سألت عنه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز فقال: ليس في صحيح مسلم حديثٌ ضعيف.
وأما قول ابن تيمية فمسبوقٌ إليه، سبقه الدارقطني، والدارقطني مردودٌ عليه، والأمة تلقت الصحيحين بالصحة والقبول، فالقول بأن الحديث ضعيف يكون فيه نقض للإجماع، فالمعلوم أنه حديث صحيح، وأن الانقطاع الذي فيه ظهر أنه متصل عند مسلم أيضاً، وأن هذا من الحديث الذي أدرك على الدارقطني.
لكن كيف يفهم الحديث؟
هذا الحديث شائك، إن قلنا بصحته فإنه لابد من جمعٍ لهذه الأقوال وإن قلنا ضعيف أرحنا أنفسنا كما فعل ابن تيمية، وأخذنا بحديث أبي هريرة، وهذا لا نستطيع تفصيله هنا.(291/27)
تقسيم ساعات الجمعة
المسألة السادسة عشرة: وقد مرت معنا كيف نقسم ساعات الجمعة؟
إذا أتى في الساعة الأولى ثم نام في المسجد فإنه قد قرب بدنة -إن شاء الله- ولا يلام على النوم إذا أتاه، لكن عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يحافظ على حضور قلبه وخشوعه في المسجد.
وعلى ذكر النوم فإن من دواعي النوم يوم الجمعة: الاحتباء، كأن يحتبي الإنسان، أو يجلس جلسة النائم الذي يريد النوم، لكن يكتب له الأجر، سواءً نام أو لم ينم.
من الفوائد أيضاً أنه يؤخذ من هذا الحديث أن الساعات الغروبية تقدم على الساعات الزوالية، وهذا مما ادعاه أهل العلم، وقاله المالكية، قالوا: التوقيت عندنا يبدأ من الصباح، ولا يبدأ من الظهر.
وهنا مسألة للفائدة: من أتى في الساعة الأولى فهل يأخذ أجر البدنة والبقرة والكبش والدجاجة والبيضة، لأنه أدرك الساعة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة؟
الظاهر أنه لا يأخذها لأنه قسمها، والتقسيم لا يقتضي أخذها كلها، يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قسمها لأشخاص، فالشخص الذي أتى أول مرة يأخذ بدنة، لكنه لو كان يأخذها جميعاً لقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فمن أتى في الساعة الأولى أخذ هذه الأجور، فيكفيه بدنة ويحمد الله عز وجل على البدنة.
وهنا
السؤال
هل للخطيب أجر التبكير؟
نقول: نعم.
له من الأجر ما الله به عليم، يكفي أنه يحضِّر الخطبة ويتعب في تخريج الأحاديث، وفي مراجعة الكتب.
وأيضاً هنا مسألة يستشكلها كثير من الناس، وهي: من متى يبدأ غسل الجمعة؟
أقول: غسل يوم الجمعة يبدأ من الفجر، لأن أهل العلم استشكلوا من اغتسل لجنابة في الليل قبل الفجر، ونوى أنه للجمعة هل يحتسب للجمعة؟ قالوا: لا.
وقالوا: إنما يكون غسل الجنابة بعد أن يطلع الفجر لأن الحديث واضح: {من اغتسل يوم الجمعة} واليوم إنما يطلق بعد أن يطلع فجر اليوم.(291/28)
ساعة الاستجابة وحكم الصلاة بعد العصر
هنا أيضاً مسألة يستشكلها كثير من طلبة العلم وهي على القول بأن ساعة الاستجابة تكون بعد العصر، فكيف نجمع بينها وبين الحديث الذي رواه أبو هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {هي آخر ساعةٍ من يوم الجمعة، ما من مسلمٍ قائمٍ يصلي يدعو الله عز وجل إلا} فكيف يصلي في تلك الساعة؟! وهذا استشكل على أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وذهب إلى عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، وأخبره الخبر، فقال عبد الله بن سلام: هي آخر ساعة من ساعات الجمعة، وهي بعد العصر، فقال له أبو هريرة فكيف يقول صلى الله عليه وسلم: يصلي، وقد منعنا من الصلاة في هذا الوقت، قال: أما علمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من كان ينتظر الصلاة فهو في صلاة} وهذا الحديث رواه أبو هريرة، لكن ما استطاع أن يتذكر هذا الحديث في هذه القضية.
فمعنى ذلك أنه إذا انتظر صلاة المغرب وكان يدعو فهو في صلاة، لكن من دخل بعد صلاة العصر، من يوم الجمعة وكان قصده الدعاء والاستغفار فله أن يصلي ركعتين تحية المسجد لحديث أبي قتادة في الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام: {من دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} فهذا عامٌ وهي من ذوات الأسباب التي تصلى في أوقات النهي فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، ولكن إن دخل بقصد التنفل فلا يصلي، لأنه يقول صلى الله عليه وسلم: {لا تتحروا طلوع الشمس ولا غروبها بصلاة} فهذا كأنه متحرٍ؛ لأنه دخل ليصلي، لكن دخل يدعو الله، ويستغفر ويقرأ القرآن، أو دخل ينتظر صلاة المغرب فعليه أن يصلي ركعتين، وينتظر صلاة المغرب وذلك مع تحية المسجد التي هي من ذوات الأسباب، وهذا كله إذا كان في المسجد، أما في بيته فلا يصلي شيئاً، لأن الحديث علق صلاة الركعتين بدخول المسجد والجلوس فيه، فهو خاص به.
وأما بالنسبة لساعة الإجابة فإنها ليست خاصة بمن في المسجد، بل أجرها يكون حتى لمن كان في البيت أو في أي مكان.
ولتوضيح هذه المسألة أكثر، أقول: جاء في حديث أبي هريرة الصحيح قال: قال صلى الله عليه وسلم: {لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس} وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: {شهد عندي رجالٌ مرضيون، وأرضاهم عندي عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس} وبالمقابل يقول صلى الله عليه وسلم: {من دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} فذاك عام، وهذا خاص، فإن من دخل المسجد عليه ركعتان تحية المسجد، أما العام فإنه لا يصلي الإنسان لا في المسجد، ولا في غيره لقصد الصلاة، بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، فلا يجوز له أن يصلي بقصد الصلاة، فإذا تحرى الصلاة فإنه لا يجوز له ذلك، أما حديث أبي قتادة فإنه على الخصوص من ذوات الأسباب دخل، فتحية المسجد وردت، وإلا فلو لم يصل لكان هناك أمر منه صلى الله عليه وسلم أن يصلي وكان هناك نهي ألا يصلي، فماذا يفعل؟
ولذلك كثير من المالكية كما قال القاضي عياض لا يصلي بعد العصر ولا يصلي بعد الفجر سواءً دخل المسجد أم لم يدخل، والصحيح الذي عليه المحققون من أهل العلم أن عليه أن يصلي ركعتين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالركعتين، وقال: من دخل المسجد، وهذا عام ولم يستثنِ وقتاً من الأوقات، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، ثم إن هناك دليلاً آخر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخطب الناس يوم الجمعة، والناس يستمعون لخطبته فدخل: سليك الغطفاني وجلس، لأن استماع الخطبة واجب، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {أصليت؟ -فقطع الخطبة، والخطبة لا تقطع إلا لأمرٍ مهم وما يقيمه إلا لواجب- قال: أصليت ركعتين؟ قال: لا.
قال: فقم فصلِّ ركعتين وأوجز فيهما} فاقتضى أن ركعتي تحية المسجد تجب على الداخل، ولا يجلس حتى يصلي ركعتين.
ولعل البعض قد يشكل عليه أمر، وهو أن الأمر هل يدل على الوجوب أم على الندب؟
أقول: إن أمره صلى الله عليه وسلم أول ما ينصرف إلى الوجوب، لكن قد تأتي قرائن في الأمر تصرفه إلى غير الوجوب، كقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31] فليس معناه وجوب الأكل والشرب، فهذا أمر، فقد ينصرف بالقرائن وسياق الكلام إلى الندب، لكن الأمر المجرد أول ما يطلق على الصحيح، فإنه يتجه إلى الوجوب، ولكن هناك سياقات مثل قوله صلى الله عليه وسلم: {استاكوا ولا تبقوا قلحاً} فهذا أمر، والذي صرفه عن الوجوب حديث: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء} إذاً مخافة المشقة لم يأمرهم صلى الله عليه وسلم، فليس كل أمر يطلق يدل على الوجوب، فقد يكون للندب.
وبمناسبة الكلام عن ساعة الاستجابة ليوم الجمعة، هناك أيضاً ساعة الاستجابة في الليل، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل} وفي لفظٍ آخر: {حين يبقى من الليل ثلثه، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له، هل من مستغفرٍ فأغفر له، هل من سائل فأعطيه} قال أهل العلم: الثلث الأخير أي: يقسم الليل إلى ثلاثة أثلاث، وكأن مدته ساعة أو ساعتين قبل الفجر، فإذا أتى ثلث الليل الآخر نزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى نزولاً يليق بجلاله، ولا نكيفه ولا نمثله، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق؛ أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(291/29)
ولقد جئتمونا فرادى
ما حقيقة الدنيا؟
سؤال يطرح نفسه بنفسه على كل ذي لب، ما هي حقيقة هذه الحياة التي نعيش فيها؟
بل نتفاخر في التسابق إليها، وتجد الإجابة في كتاب الله: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ).
والمتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحياته يجد العجب العجاب، من زهده في الحياة الدنيا وإقباله على الآخرة، وكذلك سلك أصحابه من بعده والتابعين على هذا المنوال.(292/1)
كونوا من أبناء الآخرة
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلَّّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
إن السلام وإن أهداه مرسله وزاده رونقاً منه وتحسينا
لم يبلغ العشر من قولٍ يبلغه أذن الأحبة أفواه المحبينا
وفي النماص تحياتي مرتلة غرست فيها بأشواقي رياحينا
آخيتمونا على حب الإله وما كان الحطام شريكاً في تآخينا
سلاماً خاصاً وعاماً، فخاصاً لأرواحكم المؤمنة، ولأصالتكم ولطموحاتكم، فأنتم أبناء عمومة الأوس والخزرج.
ومن يشابه أبَه فما ظلم
حمية ونصرة لـ (لا إله إلا الله) أنا وأنتم أزديون، فخرنا ليس بالتراب والطين، وإنما بنصرة محمد والدين.
أنا من الأزد، أنصار الرسول ولي شفاعة الحب إني من محبيه
دمي ودمعي مدادٌ في مدائحه وفيض قلبي عصفوراً يناجيه
أشكر أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والمشايخ، والشباب، وأشكر القلوب الحية، والعيون المبصرة، والآذان السامعة، التي أتت هنا لتجتمع ولتسمع لا إله إلا الله، يوم اجتمع أهل الباطل لسماع الباطل، ولسماع النغمات المزرية والكلمات الفاحشة، أتوا ليستمعوا كلمات من نور، قال تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} [الأنعام94] فالقائل: الله، والمتكلم بها: الله، ومنزلها: الله، فقال الله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] يقول البخاري في كتاب الرقاق من الصحيح: باب ما يحذر من زينة الحياة الدنيا، وقال الله عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌٌ} [الحديد:20] قال علي بن أبي طالب: [[ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل]].(292/2)
حال العرب قبل وبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم
يا معشر العرب: كنا قبل لا إله إلا الله نطوف بالوثن، ونسجد للصنم، لا أدب، ولا ثقافة، ولا حضارة، ولا فنون، ولا رُقِي لنا، فلما بعث الله فينا محمداً عليه الصلاة والسلام، أذن في آذاننا بلا إله إلا الله، فتوضأنا بماء التوبة، وأخذنا سيوف النصر، وفتحنا الدنيا وصلينا على ضفاف دجلة والفرات وسيبيريا والسند والهند، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
يلبس المرقع صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه يقود القلوب إلى الله، ويسكن بيت الطين، ولكنه يبني لأمته قصوراً في الجنة، ويلتحف قطعة من القماش لكنه يُلحف أمته نوراً من وهج الوحي.
إن حقيقة الدنيا، لم يعرفها إلا رسول الله عليه الصلاة والسلام.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "الناس في حقيقة الدنيا صنفان: أهل التصوف الهندي المذموم، وهؤلاء أعرضوا عن الطيبات على مذهب المسيحية النصرانية.
وأهل الدنيا المتوغلون في دنياهم، عُبَّاد الشهوات" الراقصون على الملذات، مجلة خليعة، وأغنية ماجنة، ودُفّ ومزمار وطبلة، لا يعرفون الدعاء ولا الاستغفار، ولا الالتجاء إلى الواحد القهار، وتوسط أهل الإيمان، فعرفوا معنى الحياة، معنى لا إله إلا الله، ما معنى أن تكون عبداً لله؟ وكيف تقضي يومك وليلك؟ هذه معنى رسالته عليه الصلاة والسلام.
يقول أهل العلم من أهل السير والتاريخ: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه؛ ليأخذ مفتاح بيت المقدس الذي ضيعناه يوم ضيعنا لا إله إلا الله، بيت المقدس الذي ذهب منا حين أصبحت راياتنا -إلا ما رحم ربك- غير إسلامية، ونقول لـ عمر:
رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
ذهب عمر على ناقة ومعه خادمه، وظن النصارى في بيت المقدس أن عمر سوف يأتي بموكب حار، وبعَرَمْرَم من الحرس، فأتى عمر بثوب قديم فيه أربعة عشر رقعة.
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
خرج عمر على ناقته يركب ساعة وخادمه ساعة، واقترب من بيت المقدس، وخرج النصارى رجالاً ونساءً وأطفالاً على أسطح المنازل ينظرون إلى عمر بن الخطاب، إلى هذا الرجل الذي دوَّخ العالم وهزَّ ربوع المعمورة.
كيف يأكل؟ وكيف يمشي؟ وما حرسه؟ وما ثيابه؟ وما لباسه؟ وإذا بـ عمر يقبل على ناقة، فقال النصارى: ربما هذا الرجل يبشر بـ عمر فلما علموا أنه عمر ارتفع بكاؤهم تأثراً، يقول أحد المسلمين لـ عمر: [[يا أمير المؤمنين! لو أخذتَ حرساً وجنوداً؟ قال عمر: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]] ويدخل عمر ويصلي في بيت المقدس ويفتحه بإذن الله، ببردته، وبعصاه وبدرته، وبإخلاصه وإيمانه، لأنه عرف الله.
حقيقة الدنيا لم يعرفها إلا محمد عليه الصلاة والسلام، يقول سبحانه: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:116] يقول للناس، وبعض المفسرين قالوا: يقول لأهل الكفر، والصحيح العموم، لأنه لا مخصص، يقول الله للناس يوم القيامة: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:112 - 116] وفي ترجمة نوح عليه السلام الرسول والنبي الكريم، لما حضرته الوفاة، قال له محبوه: كيف وجدت الحياة؟ -وقد عاش أكثر من ألف سنة، منها ألف سنة إلا خمسين في الرسالة- قال: وجدت الحياة كبيت له بابان، دخلت من هذا وخرجت من ذاك.
يقول أبو العتاهية وهو يخاطب المهدي الخليفة العباسي الذي كان يحكم ثلاثة أرباع العالم الإسلامي، خليفة كان يقف على رأسه الوزراء من البرامكة وأمثالهم، ولا يلتفتون إليه من هيبته وصولجانه وسلطانه في الدنيا، لكن سلبه الذي يفرق الجماعات، ويأخذ البنين والبنات، ويهدم اللذات، أخذه سُبحَانَهُ وَتَعَالى! وسبب موته عند بعض المؤرخين: أنه شرب ماءً بارداً فشرغ به فمات، فذهبوا به إلى المقبرة، فيقول أبو العتاهية:
نُحْ على نفسك يا مسكيـ ـن إن كنت تنوحُ
لتموتن ولو عُمرت ما عمر نوحُ
كل بطاح من الناس له يوم بطوحُ
وهذا مصداق قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] وسبب نزول هذه الآية: أن أبا جهل يقول: يزعم محمد أن عند ربه ملائكة، تسعة عشر على النار، أنا أكفيكم بعشرة، وأنتم اكفوني بتسعة، فيقول سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} [الأنعام:94] مَن الذي خرج مِن الدنيا بأحبابه وخلانه؟ مَن الذي ذهب بالثياب والأصحاب؟ لا أحد أبداً، ولذلك يقول سبحانه في سورة أخرى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95].(292/3)
كن في الدنيا كأنك غريب
معنى الحياة: أن تصرفها في رضوان الله وطاعته.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان
وعند البخاري أن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال لـ ابن عمر: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} وكان ابن عمر يقول: [[إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك]].
وأراد عمر أن يولي والياً على حمص، فاختار سعيد بن عامر الجمحي من قريش، وكان عابداًَ زاهداً شاباً من شباب محمد عليه الصلاة والسلام، لا يملك إلا عصاه وثوبه، وصحفته وإبريقه، هذا الذي يملك من الدنيا.
يقول أحد العلماء: " لما ملكنا الدين سخر الله لنا الدنيا، فلما ملكنا الدنيا وتركنا الدين، أخذت الدنيا من بين أيدينا".
سُلِبت أراضينا، وأُخِذت مقدساتُنا، وكل يوم نُهْضَم في بلادنا، لأن الرايات التي قاتلت إسرائيل في فلسطين كان مكتوباً على بعضها.
آمنت بـ البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني
هذه راية البعث، فكان جزاؤهم، أن سُحِقوا ومُحِقوا وعادوا على أدبارهم.
شجباً ونكراً وتنديداً بغارتها الله كم نددوا يوماً وكم شجبوا
ولكن لما وقف الصحابة بلا إله إلا الله فتحوا الدنيا.
يقول الذهبي في ترجمة خالد بن الوليد، سيف الله المسلول، أبو سليمان الذي كان يقرأ القرآن في الليل وفي النهار جهاد، يقول: لما حضر معركة اليرموك، خرج قائد الروم فقال لـ خالد: [[يا خالد! ماذا جاء بكم؟ قال: جئنا لنهديكم إلى سبيل الله، أو نفتح الدنيا بلا إله إلا الله - أو كلاماً يشبه هذا - قال: أنا لا أسمع هذا الكلام، قال خالد: جئنا لنشرب دماءكم.
-لما عرف خالد أن الأمر لا يصلح فيه المسالمة والمجاراة- قال: لنشرب دماءكم، قال قائد الروم: يا خالد! يزعم الناس أنكم تتوكلون على الله، لا يضركم شيئاً، فهذه قارورة مملوءة سماً، إن كنت صادقاً فاشربها - والعُهدة على الذهبي، ويقول: سند الرواية صحيح، وهذا لا بأس به عند أهل السنة إذا كان هناك مباراة مع أهل الباطل فأخذ خالد بن الوليد القارورة مملوءة بالسم، ثم قال: بسم الله، آمنت بالله، توكلت على الله، فلم يصبه شيء]] وخاض مائة معركة لم تهزم له راية.
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
نُصِرَ بلا إله إلا الله، وبالإيمان، وبالصدق مع الله.
أتى عمر فقال لـ سعيد بن عامر، [[اذهب والياً على حمص، قال: لا.
لا أتولى الولاية، الإمارة صعبة، والمناصب مغارِم لا مغانِم، قال: والله لتتولين لي إمرة حمص، أتضعون الخلافة في عنقي وتتركونني؟! فذهب واستعان بالله، وكانت امرأته تاجرة، قالت: يا سعيد! عندي مال، أريد أن تبحث لنا من يتاجر لنا فيه، فأخذ مالها، فتصدق به في سبيل الله، قالت: أين المال؟ قال: أعطيته من يعطينا في الدرهم عشراً إلى سبعمائة درهم، إلى أضعاف كثيرة]] قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].
و [[خرج ووصل إلى حمص، والتقاه أهل حمص، وهو يأكل قطعة من اللحم وكان على حمار فقالوا: أرأيت في طريقك الأمير الذي أرسله عمر، قال: أنا الأمير، قالوا: الأمير على حمار؟! قال: بلى.
فنزل عندهم، وكان عمر يطوف على أمرائه وولاته، كل سنة يحاسبهم، فلما أتى إلى أهل حمص، جمعهم، وأجلس الأمير أمامهم، وقال: ماذا ترون في أميركم وواليكم؟
قالوا: ما ننقم عليه إلا أربع مسائل.
قال عمر: ما هي؟ ثم قال: اللهم لا تخيب ظني فيه!
قالوا الأولى: لا يخرج علينا حتى يرتفع النهار، يعني: يتأخر على الدوام، يأتي حدود العاشرة.
قال: هذه واحدة، وعمر عنده الدرة جاهزة، يخرج بها شياطين الإنس والجن من الرءوس.
قال: والثانية.
قالوا: وله يوم في الأسبوع لا نراه ولا يرانا.
قال: والثالثة.
قالوا: ولا يخرج لنا في الليل مهما طرقنا عليه بعد العشاء.
قال: والرابعة.
قالوا: يغمى عليه أحياناً إذا جلس في مجلس القضاء، لفصل الخصومات.
قال: أجب يا سعيد بن عامر، اللهم لا تخيب ظني فيه.
قال: يا أمير المؤمنين! اعفني.
قال: والله لتجيبن.
قال: أما قولهم: إني لا أخرج حتى يرتفع النهار، فأنا ليس لي خادم وامرأتي مريضة، فأصلح إفطاري وإفطار أهلي، ثم أفطر، ثم أتوضأ وأصلي ركعتين ثم أخرج.
قال: هذه واحدة، وانسكبت دموع عمر.
قال: والثانية.
قال: أما قولهم: إني لا أخرج يوماً في الأسبوع، فليس لنا خادم، وامرأتي مريضة، فأغسل ثوبي وثوبها، في يوم من الأسبوع، فزاد بكاء عمر
قال: والثالثة.
قال: وأما قولهم: أني لا أخرج في الليل، فقد جعلت النهار لهم، والليل لربي أصلي وأقرأ القرآن.
قال: ولماذا يُغْمَى عليك في مجلس القضاء؟
قال: لأني حضرت مقتل أحد المسلمين وأنا مشرك مع كفار مكة في مكة، وهو خبيب بن عدي، فسمعته يقول: اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، فكلما تذكرت ذلك الموقف وأني لم أنصره، أُغْمِي عليَّ.
فارتفع صوت عمر بالبكاء]].
هذا مفهوم الحياة عند السلف، ولذلك ذكرهم الله، وأحسن ذكرهم، وأعلى شأنهم، فهم أخلص الأمة قلوباً، وأعمقها علماً وعملاً، وأقلها تكلفاًَ، يقول سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] هذه نزلت في المترَفين.(292/4)
صور من زهد السلف في الدنيا
ويقول سبحانه: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2] لها سببان:
قيل: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1]: تكاثركم في الأموال والأولاد، حتى ذهبتهم إلى زيارة المقابر، لكن ليس ككل الزيارات يقول الشاعر ابن عثيمين، شاعر الملك عبد العزيز رحمه الله، شاعر مفلق، رثى أحد العلماء يقول في قصيدة تسمى المبكية عند أهل العلم، يقول:
هو الموت ما منه ملاذ ومهربُ متى حط ذا عن نعشه ذاك يركبُ
نؤمل آمالاً ونرجوا نتاجها وعلَّ الردى مما نرجيه أقربُ
ونبني الزهور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنَّا نموت وتخربُ
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظُ الموتِ يندبُ
هذا الموت عجيب، فضح الموت الدنيا فلم يدع لذي لب فرحاً، وهو الذي كسر ظهور الأكاسرة، وقصر آمال القياصرة الذين بغوا وطغوا، فأرداهم ظلمهم في الحافرة.
يقول أحدهم لما دخل على الخليفة المأمون، فرأى الهيلمان، ورأى الذهب والفضة، قال للمأمون:
باتوا قلل الجبال تحرسهم غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز من منازلهم إلى مقابرهم يا بئسما نزلوا
ويذكر الذهبي وابن كثير: أن أبا العتاهية دخل على هارون الرشيد، وقد بنى هارون الرشيد قصراً في الرقة -قصراً جميلاً بديعاً- فنظر إليه أبو العتاهية، فقال هارون الرشيد أمير المؤمنين: " ما رأيك يا أبا العتاهية؟ قال: شيء جميل، قال: أقلتَ فيه شعراً؟ قال: نعم.
قال: ماذا قلتَ؟ قال: قلت:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصورِ
قال: هيه، أي: زِدْ، قال:
يجري عليك بما أردت مع الرواح وفي البكورِ
قال: هيه، قال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدورِ
فهناك تعلم مُوْقِناً ما كنت إلا في غرورِ
فبكى حتى أغمي عليه.
والقصة عند الذهبي وابن كثير.
والمقصود من هذا: أن هذه أمور مُسَلَّمات بها عند جمهور الناس، لكن تحقيقها في الواقع صعب، ولا ينقص الناس تحسين العلوم في الأذهان، لكن ينقصهم تطبيقها في الأعيان وفي الحياة، وهذا الذي ينقصنا، كيف نتعامل مع الرسالة التي بعث بها محمد عليه الصلاة والسلام؟ أوتي إليه بكنوز الدنيا فقال: لا.
قدم له ملك الدنيا، فقال: لا.
ولذلك قال - فيما صح عنه -: {إنما مثلي ومثل الدنيا كرجل قال في ظل شجرة، ثم قام وتركها} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
هذه حقيقة الدنيا أنها قصيرة لاهية، تنتهي؛ لكن لا يعرف ذلك إلا المؤمنون.(292/5)
قصة ربيعة بن مالك الأسلمي
يقول مسلم في الصحيح: {وفد شببة على الرسول عليه الصلاة والسلام -يعني: شباب، شببة جمع شاب- منهم ربيعة بن مالك الأسلمي، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألكم حاجة؟ وطلبوا حوائجهم، منهم من طلب ثوباً، ومنهم من طلب تمراً، ومنهم من طلب زبيباً، إلا ربيعة بن مالك، قال: أريدك يا رسول الله! بيني وبينك، قال: ماذا تريد؟ قال: أريد مرافقتك في الجنة.
قال: أوغير ذاك؟ قال: هو ذاك.
قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود}
يقول: إن كنت مصمماً على الجنة، فأعني على نفسك بكثرة السجود، وكان الصحابة عازمين على الجنة، يقول ربيعة وهو من بني مالك بن سالم، أسرة من الأنصار يقول يوم أحد، والرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم عن المعركة في المسجد، يا رسول الله! لا تمنعني من دخول الجنة، والله الذي لا إله إلا هو، لأدخلن الجنة، فتبسم عليه الصلاة والسلام -والقصة عند ابن هشام - قال: بِمَ تدخل الجنة؟ قال بخَصلتين: بأني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف -أي: يوم المعركة إذا التقت السيوف والرماح، لا أفر أبداً- فقال صلى الله عليه وسلم: إن تصدق الله يصدقك -إن كنت صادقاً أعطاك الله ما تمنيت وما سألت، وبالفعل كان صادقاً مع الله- فحضر المعركة ورآه عليه الصلاة والسلام مقتولاً شهيداً، وارتفعت روحه إلى الله، فمسح صلى الله عليه وسلم التراب عن وجهه وقبَّلَه، وقال: صدقت الله فصدقك الله، صدقت الله فصدقك الله.(292/6)
قصة عبد الله بن عمرو الأنصاري
وبوب البخاري باب البكاء على الميت، وأتى بحديث جابر لكن رحم الله البخاري اختصره لأنه على شرطه، ولم يأتِ بالقصة لأن القصة ليست على شرطه، والقصة أن عبد الله بن عمرو الأنصاري، وهذا يسمى مكلم الله بلا ترجمان، كلم الله مباشرة بلا ترجمان، وأحدنا إذا كلم سلطاناً تمدَّح به سنة بالمكالمة، فكيف بهذا العبد الفقير أنه كلم رب العالمين، مباشرة بلا ترجمان.
{أتت معركة أحد فاغتسل وودع أطفاله، وودع زوجته، ثم لما حضر المعركة وكسر غمده على ركبته -وهذا يسمى عند العرب: خطر، والمتأخرون يسمونه (خطر ممنوع الاقتراب) - فلما كسر غمده على ركبته، قال: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى، فقتل في سبيل الله، بعد أن ضُرِب بأكثر من ثمانين ضربة، لكن في سبيل الله.
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألَمُ
قال جابر: فأتيت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وأنا أسأل عن أبي، ويبكي جابر، قال: كان الناس ينهونني، والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، قلت: أين أبي يا رسول الله؟ قال: هو ذا، قال: فأخذت أبكي، فقال عليه الصلاة والسلام: ابْكِ أو لا تَبْكِ، والذي نفسي بيده يا جابر! ما زالت الملائكة تظلل أباك بأجنحتها حتى رفعته، والذي نفسي بيده يا جابر لقد كلَّم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان، وقال: تمن، قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم لا يرجعون، فثمن، قال: أتمنى أن ترضى عني، قال: فإني قد رضيت عنك وأحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً}.
نسأل الله رضوان الله.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
يذكر أبو نعيم وأمثاله، في كتب السير أن عابداً من بني إسرائيل شابت لحيته في الثمانين من عمره، وبعض الناس يصل عمره إلى ثمانين سنة وهو مخرف، مطبل، مغنٍ، لا يعرف مِن ذِكْر الله ولا من القرآن ولا من الولاية ولا من الاتجاه إلى الله شيئاً.
ويقبح بالفتى فعل التصابي وأقبح منه شيخ قد تفتى
وأقبح القبيح أن ترى شيخاً وهو يرتكب العظائم والقبائح، وهو دائماً مع اللاهين المعرضين عن منهج الله، أقبح الناس من شابت لحيته وهو مازال مصراً على المعصية، يقول ابن عباس في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] النذير: الشيب.
يقول الإمام أحمد - قبل أن آتي بقصة الإسرائيلي- قيل له: ما وصفك للشيب؟ يعني: كيف تصف الشيب والشباب؟ قال الإمام أحمد: ما مثلت الشباب إلا بشيء كان في يدي ثم سقط.
بكيتُ على الشباب بدمع عيني فلم يغنِ البكاء ولا النحيبُ
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
هذا العابد الإسرائيلي وقف أمام المرآة وكان عمره ثمانين سنة، أصلح في الأربعين الأولى، وخرب في الأربعين الثانية، بعضهم يصلح، ثم يدركه الخذلان، فيخرب عمره ويشطب حياته، وينتكس على رأسه والعياذ بالله، وقد وجد أن بعض الشباب في المجتمعات، يشكو أباه، يقول: مقصر في الطاعة، الابن عمره عشرون، والأب عمره سبعون، فسبحان من هدى هذا وأضل ذاك! ومن قرب هذا وأشقى ذاك! حكمة بالغة وقدرة نافذة فما تغني النذر، قال الإسرائيلي: يا ربِّ! أطعتك أربعين سنة، ثم عصيتك أربعين سنة، فهل تقبلني إذا عدت إليك؟ قال: فسمع هاتفاً يقول: أطعتنا فأحببناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإذا عدت إلينا قبلناك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ.
وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] لكن بشرى للعالم أنا صحونا ورجع شبابنا، وشيوخنا، بشرى للدنيا كل الدنيا، أن شبابنا قد امتلأت بهم المساجد، وقد عافوا الغناء، وعادوا إلى القرآن، وملوا المقاهي والملاهي، وسبحوا بحمد الواحد الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
لكن أبشر هذا الكون أجمعه أنا صحونا وسرنا للعلا عجبا
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غابتها غضبا
عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنبا
عاد أبناء خالد وطارق وسعد إلى الله، والله إنه لا سعادة لنا إلا يوم أن نحكم الكتاب والسنة في حياتنا وفي تعاملنا، وأدبنا، وسلوكنا، هذه حقيقة الحياة، ولم يعرفها إلا الصحابة رضوان الله عليهم، أما غيرهم معرفتهم بحقيقة الحياة أمر نسبي، بقدر إيمانهم وصلاحهم، وقربهم من الله عز وجل.(292/7)