حقيقة إيليا أبو ماضي وقصيدة للشيخ عائض
السؤال
ما رأيك في الشاعر إيليا أبو ماضي؟
الجواب
هذا شاعر نصراني من المسيحيين اللبنانيين، وله الخمائل والجداول ثلاثة دواوين، وله ترب وترب، وهذا الشاعر نصراني -كما قلت- منحرف، وله قصائد تعارض لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفيها تهكم بالشرع، وهو صاحب:
جئت لا أعلم من أين! ولكني أتيت!!
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!!
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت!!
كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري!!
ولماذا لست أدري؟!! لست أدري!!
وهو صاحب البيت السائر المشهور، وهو في شعره قوة يقول:
أحبابنا ما أجمل الدنيا بكم لا تقبح الدنيا وفيها أنتم
ومطلع القصيدة:
لم تشتكي وتقول إنك معدم والأرض ملكك والسما والأنجم
وله قصيدة أخرى قال:
قلت ابتسم ولئن جرعت العلقما
على كل حال أغنانا الله عنه وعن شعره بما آتانا من شعراء الإسلام، ومن شعراء الوحي، وبالمناسبة أنا أتلو عليكم قصيدة هنا حتى يختم وكان ابن عباس يرى أن يختم المجالس بمثل هذه الملح، وقال العراقي:
واستحسنوا الإنشاد في الأواخر
يعني في أواخر المجلس أن ينشد فيه شيء من الشعر، وهذه القصيدة عنوانها: (محمد في فؤاد الغار) وهو الرسول صلى الله عليه وسلم صاحب الكلام هذه الليلة والمنهج الرباني:
محمد في فؤاد الغار يرتجف في كفه الدهر والتاريخ والصحف
مزمل في رداء الطهر قد صعدت أنفاسه في ربوع الكون تأتلف
من الصفا من سماء البيت جلله نور من الله لا صوف ولا خزف
والكفر يا ويحه غضبان من أسف لم يبقه الحقد في الدنيا ولا الأسف
ولا حمته سيوف كلها كذب في صولة الحق والإيمان تنقصف
أتى الرسول إلينا والربى جثث مطمورة وعليها يضحك القرف
والظالم المارد المعتوه محترم جماجم الجيل في أسيافه نطف
نجوع نأكل موتانا وسهرتنا أكل الضياع وليل أحمر دنف
جباهنا قبله تحنو إلى حجر وحفنة من لفيف التمر نعتلف
أعرابُ! ويحكم ماذا يقيمكم قومية ليس في آنافها أنف
على موائد كسرى كسرت همم من العروبة واندكت لنا كتف
فأشرقت بسمات الوحي وانقشعت تيجان من قتلوا الأحرار واعتسفوا
وحررت من بلاد الحق مهجته وضل ما نسج الباغون واقترفوا
وعاد أعظم قد لفت عمامته على الشريعة يحويها ويلتحف
أنا الجزيرة في عيني عباقرة الفجر والفتح والرضوان والشرف
أنا الجزيرة في أعماقها رقدت أشلاء أحمد تحوي نورها الغرف
أنا الجزيرة بيت الله قبلتها وفي حمى عرفات دهرنا يقف
جبريل يروي لنا الآيات في حلل من القداسات والأملاك قد دلفوا
من السماوات تهمي كل غادية على ديار بنوها بالعلا شغف
سكان دار العلا رواد كعبتها حجاب وجه الحيا والحق قد عرفوا
من الحثالات طهرنا مرابعها هزت مدافعنا الباغين فانصرفوا
وغسلت أدمع الأبرار تربتها الدر يبقى ويفنى الطين والخزف
الساكبون دماء الحق ما ظمئت روح ومن دمنا الموار تغترف
والساجدون ونجم الليل يشهد ما أضعنا فيه كمن غنوا ومن عزفوا
وقاتلت معنا الأملاك في أحد تحت العجاجة ما حادوا وما انكشفوا
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
أكفانهم بدماء البذل قد صبغت الله أكبر كم في ساحها هتفوا
أملاك ربي بماء المزن قد غسلوا جثمان حنظلة والروح تختطف
وكلم الله من أوس شهيدهم من غير ترجمة زيحت له السجف
العرش يهتز من هول ومن حزن لـ سعد إذ سُفراء الوحي قد وقفوا
وسدرة المنتهى غريدة بسمت لأمة الضاد تهمي عندها التحف
لا اللوح ينسى ولا التاريخ يغفل عن مسيرة النور تروي مجدها السقف
سل المجرة هل نامت على حلم أحلى لها يوم أعلى نجمها السلف
وسل سهيلاً مع الزهراء هل نظرت أبهى من الثلة الأخيار يوم صفوا
كل البرايا على أصنامها عكفت وقومنا عند بيت الله قد عكفوا
جبلة العدل نيطت في تمائمنا إذا تظاهر دجال ومحترف
وهالة النور شعت بين أضلعنا وغيرنا عن سناء النور قد ضعفوا
ثوب من الهدي والفاروق ينسجه فيه صلاح ومأمون ومنتصف
هل أذن الفجر إلا في منائرنا والشرق والغرب بالطغيان ملتحف
ذابت عيون وأسماع وأفئدة حباً لمن حبه في الغار مكتنف
اقرأ فأنت أبو التعليم رائده من بحر علمك كل الجيل يغترف
إن لم تصغ منك أقلام معارفها فالزور ديدنها والظلم والصلف
تاريخنا أنت أمهرناك أنفسنا نمضي على قبسات منك أو نقف
على جماجمنا خُضْ كل ملحمة أغلى الرءوس التي في الله تقتطف
في كفك الشهم من حبل الهدى طرف على الصراط وفي أرواحنا طرف
فكن شهيداً على بيع النفوس فما تحوي الضمائر منا فوق ما نصف
اللهم صل وسلم وبارك عليه، صلاةً وسلاماً تعرضها الآن عليه في الروضة، وتبلغه سلامنا الآن وأشواقناوتحياتنا جزاء ما قدم لهذه المسيرة، ولهذه الأمة والملة، جزاء ما رفع من هذه الرءوس التي كانت مخفوضة، وشرح من هذه الصدور التي كانت ضيقة، وبصر من هذه العيون التي كانت عمياً، وأسمع من هذه الآذان التي كانت صماً.
أيها الإخوة: هذا الدرس -إن شاء الله- سوف يستمر مساء كل سبتٍ -ببركة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وعونه- وهناك درس مساء كل جمعة سبق أن أعلن عنه في جامع الملك فهد، ولكن أطلب منكم هذه الجمعة التوقف، حتى ينسق مع مكتب الدعوة بـ أبها.
وأما هذا الدرس فسوف يستمر -إن شاء الله- حتى يأتي إعلان آخر عن درس مساء الجمعة، وسوف يكون في مادة التفسير بإذن الواحد الأحد، ويبدأ من أول سورة الفاتحة، فنسافر نحن وإياكم مع كتاب الله عز وجل، عله أن يكون نوراً لنا في القبور، ونوراً لنا يوم الحشر والنشور، وممضياً لنا على الصراط، ودافعاً لنا إلى الجنة بحول الواحد الأحد، أشكركم شكراً لا ينتهي، وأسأل الله أن يثيبكم على هذا الحضور، وأن يكرمكم بكرامة مدخرة عنده، وأن يكافئكم لحضوركم هنا، وترككم أعمالكم وأشغالكم وارتباطاتكم، ومشاغل الدنيا، وأعمالها وهمومها، وكلامها؛ لتجلسوا هنا في روضة تحفكم الملائكة، وتغشاكم السكينة، ويباهي الله بكم ملائكته الآن في السماوات العلى: {يا ملائكتي! انظروا عبادي أتوني يريدون ذكري وتسبيحي أشهدكم أني غفرت لهم}.
فأسأل الله أن يتمم لكم هذا الأجر، ويكافئكم جزاء ما أتيتم، وغيركم أتى إلى البارات، ومجالس اللهو، والأندية الحمراء والضياع، والملاعب اللاهية، وإلى الوتر والعود، فأنتم خير فريق وأزكى عملاً وأصوب رأياً، وأسدد منهجاً وأعلى سنداً:
هم القوم يروون المكارم عن أب وجدٍ كريم سيد وابن سيد
وهزتهم يوم الندى أريحيةٌ كأن شربوا من طعم صهباء صرخد
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:193].
اللهم من جلس في هذا المجلس يريد رضاك، وجنتك ورحمتك ويريد أن يتفقه في الدين، وأن يستمع الموعظة، فأثبه واشرح صدره ويسر أمره، واستره في الدنيا والآخرة، وارفع منزلته، ومن جلس في هذا المجلس مستمعاً لا قاصداً وإنما رأى قوماً جلسوا فجلس فأدخله في كرامة هذا المجلس، فإنك قلت: {هم القوم لا يشقى بهم جليسهم} فلا تخرج من هذا المجلس شقياً ولا محروماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(243/36)
صبر الرسول صلى الله عليه وسلم
يجب على المسلم أن يجعل له شخصاً يقتدي به، وخير من يقتدى به المسلم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جعل الله لنا نحن المسلمين من نقتدي به، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
وإن مما يقتدى به عليه الصلاة والسلام في جوانب حياته: جانب الصبر، فقد تعرض النبي صلى الله عليه وسلم لأشياء لو حصلت لأحدنا لانهار أمامها، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم صبر لأن الله يقول له: (فاصبر صبراً جميلاً).
وفي هذا الدرس تفصيل لبعض مواقف صبره عليه الصلاة والسلام.(244/1)
الصبر في القرآن
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير، الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، الحمد لله عبوديةً واعترافاً، الحمد لله استخذاءً وذلة، والصلاة والسلام على معلم البشرية، وهادي الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية، صلى الله وسلم على محمد ما اتصل مرأى بنظر، وما اتصلت أذنٌ بخبر، وما هتف وُرْقٌ على شجر، وما نزل المطر، وما تلعلع الظل على الشجر، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أشهد أن لا إله إلا الله، على رغم من تجبر وكفر، وعلى رغم من جحد واستكبر، وعلى رغم من بعُد وتنكر.
أيها المسلمون!
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
مولاي صلِّ وسلم ما أردت على نزيل عرشك خير الرسل كلهم
لا يزال الحديث عن جانب من جوانب عظمته صلى الله عليه وسلم؛ وعظمته تبهر العقول، وتخلب الألباب، وتحير الأفكار.
إنه عظيم لأنه عظيم، وإنه صادقٌ لأنه صادق، بنى رسالة أرسى من الجبال، وأسس مبادئ أعمق من التاريخ، وبنى جداراً لا يخترقه الصوت.
إنه صلى الله عليه وسلم حيثما توجهت في عظمته وجدت عظمته.
فهيا بنا إلى جانب الصبر في حياته صلى الله عليه وسلم.
ذكر الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعاً؛ مرةً يمدح الله الصابرين، ومرةً يخبر الله بثواب الصابرين، ومرةً يذكر الله عزوجل نتائج الصابرين، يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
إذا رأيت الباطل يتحدى، وإذا رأيت الطغيان يتعدى {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
إذا قلَّ مالك، وكثر فقرك وعوزك، وتجمعت همومك وغمومك {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
إذا قتل أصحابك، وقلَّ أحبابك، وتفرق أنصارك {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
إذا كثر عليك الأعداء، وتكالب عليك البغضاء، وتجمعت عليك الجاهلية الشنعاء {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
إذا وضعوا في طريقك العقبات، وصنفوا لك المشكلات، وتهددوك بالسيئات، وأقبح الفعلات {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
إذا مات أبناؤك وبناتك، وتفرق أحباؤك وأقرباؤك: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
فكان مثالاً للصبر عليه الصلاة والسلام.(244/2)
صور من صبره عليه الصلاة والسلام
سكن في مكة فعاداه الأقرباء والأحباء، ونبذه الأعمام والعمومة، وقاتله القريب قبل البعيد؛ فكان من أصبر الناس.
افتقر، واشتكى، ووضع الحجر على بطنه من الجوع، وظمأ؛ فكان من أصبر الناس.(244/3)
موت أقاربه صلى الله عليه وسلم
مات ابنه بين يديه؛ وعمر ابنه سنتان، فكان ينظر إلى ابنه الحبيب القريب من القلب، ودموع المصطفى صلى الله عليه وسلم الحارة تتساقط كالجمان، أو كالدر على خد ابنه، وهو من أصبر الناس يقول: {تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون}.
ماتت خديجة امرأته، وزوجته العاقلة الرشيدة، الحازمة، المرباة في بيت النبوة، التي كانت تؤيده وتنصره، ماتت وقت الأزمات، ماتت في العصر المكي، يوم تألبت عليه الجاهلية، وكانت ساعده الأيمن، يشتكي إليها من كثرة الأعداء، ومن الخوف على نفسه، فتقول: {كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتعين الملهوف، وتقري الضيف، كلا والله لا يخزيك الله أبداً} فتموت في عام الحزن، فيكون من أصبر الناس؛ لأن الله يقول له: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
تجمع عليه كفار مكة؛ أقاربه وأعمامه، فرصدوا له كميناً ليقتلوه وليغتالوه، فدخل داره، وأتى خمسون من الشباب، كل شابٍ معه سيفٌ يقطر دماً، وحقداً، وحسداً، وموتاً، فلما طوقوا داره كان من أصبر الناس، خرج من الدار، وهم في نعاسٍ وسبات، فحثا على رءوسهم التراب؛ لأن الله يقول له: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5] ولما حثا التراب على رءوسهم وكانوا نياماً؛ تساقطت سيوفهم من أياديهم، والرسول عليه الصلاة والسلام يتلو عليهم: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9].(244/4)
ملاحقة قريش للنبي صلى الله عليه وسلم
خرج إلى غار ثور؛ ليختفي من الأعداء، فتألب عليه الأعداء، وتجمعوا، وصعدوا على سطح الغار، ونزلوا في ميمنة الغار، وأحاطوا بميسرته، وطوقوه، وأرادوا أن يدخلوا الغار؛ فسلط الله وسخر عنكبوتاً وحماماً فعششت تلك وباضت تلك:
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحمِ
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطمِ
فما دخلوا الغار، يقول أبو بكرٍ وهو في الغار مع المصطفى: {يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم وهو فوق الغار إلى موطن قدميه لرآنا} فيتبسم عليه الصلاة والسلام -يتبسم الزعيم العالمي، والقائد الرباني، الواثق بنصر الله- ويقول: {يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما} ويقول: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] وهي دستورٌ للحياة.
إذا ظمئت وجعت، فلا تحزن، إن الله معك.
وإذا مات أبناؤك وبناتك، فلا تحزن، إن الله معك.
وإذا أرصدت في طريقك الكوارث، والمشكلات، فلا تحزن، إن الله معك.
فكان عليه الصلاة والسلام من أصبر الناس.
ويخرج من الغار، ولا يدري الكفار أنه كان في الغار؛ فينسلُّ إلى المدينة، وليتهم تركوه بل يعلنون عن جائزةٍ عالميةٍ لمن وجده، جائزة الدمار، والعار، وقلة الحياء والمروءة، مائة ناقةٍ حمراء لمن يأتي به حياً، أو ميتاً؛ فيلاحقه سراقة بن مالك بالرمح والسيف؛ فيراه صلى الله عليه وسلم، والرسول يمشي على الصحراء جائعاً، ظمآناً، فارق زوجته، وفارق بناته، وفارق بيته، وفارق جيرانه وأخواله، وأعمامه وعمومته، ليس له حرس ولا جنود، لا رعاية ولا موكب، وسراقة يلحقه بالسيف، فيقول أبو بكر: [[يا رسول الله والله لقد اقترب منا]] فيتبسم عليه الصلاة والسلام مرةً ثانية؛ لأنه يعلم أن رسالته سوف تبقى ويموت الكفار، وسوف تبقى دعوته حية، ويموت المجرمون، وسوف تنتصر مبادئه وتنهزم الجاهلية، فيقول: {يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما}.
ويقترب سراقة، فيدعو عليه صلى الله عليه وسلم، فتسيخ أقدام فرسه، ويسقط، وينادي في فرسه فيقوم ويركب ويقترب، فيدعو عليه فيسقط، فيقول: يا رسول الله! أعطني الأمان، ويطلب أن يحقن دمه، والسيف معه وذاك بلا سيف، فرَّ من الموت وفي الموت وقع:
يا حافظ الآمال أنت حميتني ورعيتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
فيعطيه أماناً، يصل إلى المدينة ويشارك في معركة بدر، فيجوع حتى يجعل الصخرة والحجر على بطنه.
يا أهل الموائد الشهية! يا أهل التُخم والمرطبات! والمشهيات والملابس! رسول الإنسانية وأستاذ البشرية، يجوع حتى ما يجد دقل التمر وحشف التمر: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
تموت بناته الثلاث، واحدة تلو الأخرى، تموت الأولى فيغسلها ويكفنها، ويعود من المقبرة وهو يتبسم: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
وبعد أيام تموت الثانية، فيغسلها ويكفنها، ويعود وهو يتبسم {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
تموت الثالثة؛ فيغسلها ويكفنها ويدفنها، ويعود وهو يتبسم {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
يموت ابنه إبراهيم فيغسله ويكفنه ويدفنه، ويعود وهو يتبسم.
عجباً من قلبك الفذ الكبير، لأن الله يقول له: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].(244/5)
صبره في غزوة أحد
يشارك في معركة أحد، فيهزم أصحابه، ويقتل من قرابته، ومن سادات أصحابه، ومن خيار مقربيه سبعون رجلاً أولهم حمزة، عمه، سيفه الذي بيمينه، أسد الله في أرضه، سيد الشهداء في الجنة.
ويقف على القتلى في معركة أحد، وينظر إلى حمزة وهو مقتولٌ مقطع، وينظر إلى سعد بن الربيع وهو ممزق، وأنس بن النضر، وأولئك النفر؛ فتدمع عيناه، وتسيل دموعه الحارة على لحيته الشريفة، ولكن يتبسم {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
ويعود عليه الصلاة والسلام، فيرسل قادته إلى مؤتة في أرض الأردن ليقاتلوا الروم؛ فيُقتل الثلاثة القواد في ساعةٍِ واحدة؛ زيد بن حارثة وجعفر الطيار ابن عمه، وعبد الله بن رواحة، ويراهم وينظر إليهم من مسافة مئات الأميال، ويرى أسرّتهم تدخل الجنة من ذهب فيتبسم وهو يبكي {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].(244/6)
صبره في غزوة الأحزاب
يتجمع عليه المنافقون، والكفار، والمشركون، واليهود، والنصارى، ويحيطون بـ المدينة، فيحفر الخندق، فينزل إلى الخندق، ويرفع الثوب، وعلى بطنه حجران من الجوع، فيضرب الصخرة بالمعول؛ فيتفجر شظى النار في الهواء؛ فيقول: {هذه كنوز كسرى وقيصر، والله لقد رأيت قصورهما، وإن الله سوف يفتحها عليَّ} فيضحك المنافقون، ويقولون: ما يجد أحدنا حفنة من التمر، وهو يبشرنا بقصور كسرى وقيصر، فيتبسم؛ لأن الله يقول له: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
وبعد خمسٍ وعشرين سنة، تذهب جيوشه وكتائبه من المدينة فتفتح أرض كسرى وقيصر، وما وراء نهر سيحون وجيحون، وطاشقند، وكابول، وسمرقند، والسند، والهند وأسبانيا ويقف جيشه على نهر اللوار، وعلى شمال فرنسا، لماذا؟
لأن الله يقول له: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
يأتيه ابن عمه:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على النفس من وقع الحسام المهند
فيدخل على الرسول عليه الصلاة والسلام على معلم الخير، على هادي البشرية؛ فيتبسم، ولا يقول كلمة، ولا يغضب، ولا يتغير وجهه: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
يأتي أبو جهل فيأخذ ابنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، طفلةٌ وديعة، أذكى من حمام الحرم، وأطهر من ماء الغمام، فيضربها على وجهها، ضربه الله، فيتبسم عليه الصلاة والسلام، ولا يقول كلمةً واحدةً: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
يأتي الأعرابي من الصحراء فيجرجره ببردته، ويسحبه أمام الناس، وهو يضحك: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
أيُّ صبرٍ هذا؟!! إنها والله دروس لو وعتها الأمم لكانت شعوباً من الخير، والعدل، والسلام، لكن أين من يقرأ سيرته؟!! أين من يتأمل معانيه؟!!(244/7)
صبره وزهده في الدنيا
تمر عليه الثلاثة الأيام والأربعة في بيته، فلا يجد ما يشبع بطنه لا يجد التمر، ولا يجد اللبن، ولا يجد خبز الشعير، وهو راضٍ برزق الله وبنعيم الله: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
ينام على الحصير، ويؤثر الحصير على جنبه، وينام على التراب في شدة البرد، ولا يجد كساءً: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
بيته من طين؛ إذا مد يده وصلت إلى السقف، وإذا اضطجع فرأسه في جدار، ٍ وأرجله في جدار، لأنها دنيا: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
فرعون على منبر الذهب، وفي إيوان الفضة، ويلبس الحرير، وكسرى في عمالة الديباج، وفي ميزانية الدرر والجواهر، ومحمد صلى الله عليه وسلم، على التراب: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
أتى جبريل بمفاتيح خزائن الدنيا، وسلمها إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقال: {أتريد أن يحول الله لك جبال الدنيا ذهباً وفضة؟ قال: لا.
أشبع يوماً وأجوع يوماً حتى ألقى الله}.
حضرته سكرات الموت، قالوا: تريد الحياة؟ تريد أن تبقى؟ ونعطيك ملكاً عظيماً مثل ملك سليمان أو يقاربه، قال: {لا.
بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى}.
أيُّ عظمةٍِ هذه العظمة!! أي إشراقٍ هذا الإشراق! أي إبداعٍ وروعةٍ هذا الإبداع والروعة!!
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(244/8)
الصبر الجميل
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة.(244/9)
ما هو الصبر الجميل
يقول الله له: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل:10] ما هو الصبر الجميل الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصبره؟
الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه، أن تصبر ولا تشتكي إلى أحد، فالشكوى إلى الله، ولا يرفع الضر إلا الله، ولا يجيب دعاء المضطر إلا الله، ولا يغنيك من الفقر إلا الله، ولا يشافيك من المرض إلا الله، ولا يجبر مصيبتك إلا الله، فلذلك كان عليه الصلاة والسلام لا يشكو همومه وغمومه إلا على الله.(244/10)
الصبر الجميل في مرضه صلى الله عليه وسلم
دخل عليه ابن مسعود رضي الله عنه، قال: {فوجدت الرسول صلى الله عليه وسلم مريضاً على الفراش} سيد البشر، خير من خلق الله، أصابته الحمى وصارعته على الفراش، مع مشاكل الدعوة، ومع هموم الدعوة، ومع محاربة الأعداء، والفقر، والجوع، ومع موت الأولاد والبنات تصيبه الحمى في جسمه.
قال: {دخلت عليه وهو يوعك وعكاً شديداً} أي: يضطرب ويتزلزل على الفراش، من شدة الحمى، قال: {فوضعت يدي على جسمه الشريف، قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي} معناه: أفديك بأبي وأمي، وصدق، رضي الله عنهم فإنهم فدوه بالآباء والأمهات.
فِداً لك من يقصر عن مداكا فما ملك إذاً إلا فداكا
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحلَّ به سواكا
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى
قلت: {يا رسول الله! فداك أبي وأمي، إنك توعك وعكاً شديداً، قال: نعم، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم -جمع الله عليه مرضين- قلت: ذلك بأن لك الأجر مرتين يا رسول الله، قال: أجل، ما من إنسان يصيبه مرضٌ، أو همٌ، أو حزنٌ؛ إلا كفَّر الله بهن الخطايا}.
في صحيح البخاري، باب: هل يقول الرجل: وارأساه؟ هل يتوجع؟ يعني: هل يقول: آه من المرض؟
دخلت عائشة رضي الله عنها على الحبيب صلى الله عليه وسلم قالت: {يا رسول الله! -بها صداع- وارأساه، قال وهو في مرض الموت: وارأساه، والله لقد هممت أن أستدعي أباك وأخاك؛ لأكتب لهم كتاباً} لأنه علم أنه سوف يموت بعد أيام، تأتيه الحُمَّى فتهزه هزاً عنيفاً في مرض موته، مرض مرضاً عجيباً، سمع بلالاً يطلق التكبير على المنارة، لكن لا يسمع بلالاً إلا أهل القلوب الحية، قال: {اجعلوا لي ماءً في المخضب أغتسل لأصلي بالناس؟ قالوا: يا رسول الله! إنك مريض، قال: أسمع الأذان وأصلي في البيت!! فوضعوا له قربة فاغتسل، فلما قام ليذهب إلى المسجد أغمي عليه، فجعلوا له ماءً؛ فاغتسل؛ فأغمي عليه، وجعلوا له الماء ثالثة؛ فأغمي عليه، ورابعة وخامسة} وفي الأخير لفظ أنفاسه، وقال ودموعه تهراق على خده، لأنه يريد الصلاة {وجعلت قرة عيني في الصلاة} كان يقول: {أرحنا بالصلاة يا بلال} أرحنا بها من هموم الدنيا، وتعب الدنيا، ومشاكل الدنيا، ومخالفات الدنيا:
وقل لـ بلال العزم من قلب صادقٍ أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترقَ أبواب الجنان الثمانيا
قال: {مروا أبا بكر فليصل بالناس، فذهب بلال إلى أبي بكر فأمره أن يصلي بالناس، فبكى أبو بكر، وقال: الله المستعان، إنا لله وإنا إليه راجعون}.
فصبر صلى الله عليه وسلم على هذه الأحداث {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
فيا أيها المسلمون! ويا أتباع الرسول! ويا تلاميذ الرسول عليه الصلاة والسلام! من أصيب منكم بمصيبة فليتعزَّ بالرسول عليه الصلاة والسلام.
إن هذا دين العظماء، إنه دين العقلاء، إنه دين الشرفاء، أهل المبادئ الأصيلة، والأهداف الجليلة، والأخلاق الجميلة.
يموت ابنك {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
تمرض زوجتك {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
تذهب عيناك، يصم سمعك: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
تصاب بمرض، بحادث، بكارثة، يزلزل بيتك، يدمر عقارك: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
كل مصيبة تهون إلا مصيبة الدين، كل مصيبة سهلة إلا يوم يتخلى الله عنك، فتصبح بعيداً عن الله، كل شيء سهل إلا يوم يصبح الإنسان فاجراً متنكراً للمسجد، وللمصحف، ولذكر الله، كل شيء سهل إلا هذا الدين، لا يفوتك من قلبك.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين!
وارض اللهم عن صحابته الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه يا رب العالمين!
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم اهدهم إلى سبل السلام.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق؛ أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك، في برك وبحرك يا رب العالمين!
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(244/11)
آداب الرسالة في الإسلام
الرسالة وسيلة مهمة من وسائل الدعوة، وقد استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته في الدعوة إلى الله.
لكن لكتابة الرسالة أحكام وآداب، لابد من معرفتها، وفي هذه المادة تعرض لتلك الآداب والأحكام.(245/1)
حديث رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فنسأل الله تعالى أن يجمعنا بكم وبكل مؤمن يريد الله والدار الآخرة في دار الكرامة، فإنه لا جمع في هذه الدار، وإنما هي دار الهم والحزن والغم، وما فيها أنس إلا بمثل هذه الوجوه الصالحة النيرة، وما هناك أنس إلا بسماع قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أنزل نور مع هذا النور الوهاج الذي أرسله محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا.
نور الهداية ونور الوحي ونور الرسالة، وكل أرض لا تشرق عليها شمس الرسالة فهي أرض ملعونة، وكل قلب لم يشرق بهذا الدين فهو قلب مغضوب ومسخوط عليه.
يحدثنا الإمام البخاري فيقول: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلاً، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فحسبت أن ابن المسيب قال: "فدعا عليهم صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق".
هذا الحديث ذكره الإمام البخاري تحت (باب ما يذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان).
في هذا الحديث مسائل:
أولاً: ترجمة بعض الرجال الذين روى لهم البخاري ولا نأخذ رجال السند كله، لأننا أعفينا أنفسنا وأعفيناكم من طول السند، ولكن نذكر بعضهم، وأنتم تعرفون أن المقصد من عرض تراجم السلف الصالح هو التربية، وإثارة الحمية فينا أن نقتدي بآبائنا وأجدادنا الذين سلفوا.(245/2)
عبيد الله بن عتبة وطرف من أخباره
عبيد الله هو أمة من الأمم التي أوجدها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لحفظ العلم، وهو من الفقهاء السبعة من أهل المدينة، بكى من قيام الليل حتى عمي، مر به أحد التلاميذ، قال: يا أبا عتبة أين العينان الجميلتان؟ قال: "ذهب بهما بكاء الأسحار" هو أستاذ عمر بن عبد العزيز، وكلكم يعرف عمر بن عبد العزيز، والذي لا يعرفه فالواجب أن يعرفه من الليلة، لأن اتصال سندنا بـ عمر بن عبد العزيز اتصال لا بد منه لمن أراد الله والدار الآخرة، فإن هؤلاء الأئمة جعلهم الله يهدون بأمره لما صبروا وكانوا بآياته يوقنون.
فـ عمر بن عبد العزيز الذي تقلد أمر الأمة، هو حسنة من حسنات عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فقد كان شيخه في التدريس، وكان عمر شاباً يطلب العلم في المدينة المنورة، لأن أباه عبد العزيز بن مروان الذي كان والي مصر، أرسل ابنه ليتعلم العلم في المدينة، فكان عمر بن عبد العزيز وهو في ريعان الشباب يصلي العصر بحلة -أي: بلباس- ويصلي المغرب بلباس ثانٍ، ويصلي العشاء بلباس ثالث، هكذا لأن حياته وبيئتة سمحت له بذلك، وسنتعرض لموضوع اللباس -إن شاء الله- في صحيح البخاري، ونذكر ما يحمد وما يذم منه، وإنما الأعمال بالنيات.
سمع عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عمر بن عبد العزيز يتنقص علياً رضي الله عن علي، فاستدعاه، وأجلسه أمامه وهو يحاسبه حساباً عسيراً، فقال عبيد الله: يا عمر بن عبد العزيز! متى سمعت أن الله غضب على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟ متى سمعت أن الله غضب على أهل بيعة الرضوان بعد أن رضي عنهم؟
فبكى عمر وانكسر يبكي أمام عبيد الله، وقال: أعاهد الله ثم أعاهدك ألا أعود إلى ذلك، فلما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة كانت كلمات أستاذه مغروسة في ذهنه أبد الدهر، يقول وهو يبكي بعد صلاة العشاء في ليلة من الليالي: "والله لوددت أن لي ليلة من ليالي عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بالدنيا وما فيها".
والصحيح أنه تولى الخلافة وعبيد الله ما زال حياً.
أدرك ستة أشهر من الخلافة، فارتاح أن يتولى تلميذه العالم الإسلامي، فقادهم إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وقد كان بنو أمية يسبون علياً رضي الله عنه على المنابر، فجعل عمر بن عبد العزيز مكان هذا {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90].
دخل عليه مرزوق مولى علي بن أبي طالب في عيد الفطر، فقال عمر: مولى من أنت؟ قال: فخفض صوته وقال: مولى علي حتى لا يسمع بنو أمية، فدمعت عينا عمر بن عبد العزيز وقال: ارفع صوتك وقل: مولى علي، وأنا مولى علي، لا تولى الله من لا يتولى علياً! ولا قبل منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً يوم القيامة! ثم قال: لك عندي مائتا درهم، أما مائة فلأنك مولى، وأما المائة الثانية فلأنك مولى علي.
لأنه استفاده من ذلك الأستاذ العظيم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.
بكى عبيد الله حتى عمي -كما قلت لكم- وكان يقول الشعر الإسلامي الذي يحرك به القلوب، توفي عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز ابن الخليفة وهو شاب، فاجتمع أهل المدينة، قالوا: نريد أن نعزي عمر بن عبد العزيز، قال: أتريدون شعراً أم نثراً؟ قالوا: نريد شعراً:
باسم الذي أنزلت من عنده السور الحمد لله أمَّا بَعْد يا عمر
إن كنت تعلم ما تأتي وما تذر فكن على حذر قد ينفع الحذر
واصبر على القدر المحتوم وارض به وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
فما صفا لامرئ عيش يسر به إلا سيتبع يوماً صفوه كدر
ويقول:
اتخذني خليلاً أو تخذ لك صاحباً خليلاً فإني مبتغٍ صاحباً مثلي
عزيز منالي لا ينال مودتي من الناس إلا مسلم كامل العقلِ
ولا يلبث الأخدان أن يتفرقوا إذا لم يؤلف روح شكل إلى شكل
توفي وبقي عمله وحديثه، وبقي اسمه يضوع في مساجد المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أما عبد الله بن عباس فهو الحبر الإمام المعتبر، بحر الأمة وترجمان القرآن، والخاشع المبتهل لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك كان الصحابة يقولون: [[إذا حدثكم البحر فحسبكم بالبحر]] أي: ابن عباس.
يقول عطاء: "رأيته في الحرم قبل العشاء، ثم مكث يصلي ويبكي حتى الفجر، فوالله لقد خشيت أن تختلف أضلاعه".
وكان إذا قرأ قول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] يبكي حتى يرثي له جلساؤه، وإذا تكلم قال: يوم الخميس، فيذكر موت الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الخميس فيبكي، كان يلبس مما آتاه الله، كان يلبس الحلة بألف دينار؛ ليظهر نعمة الله عز وجل، وليقدر العلم والصالحين، وليستقبل الناس، فرضي الله عنه وأرضاه وأكرم مثواه، وألحقنا به مع المؤمنين في مقعد صدق عند مليك مقتدر.(245/3)
عبد الله بن حذافة حامل الرسالة
أخبر ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلاً، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين -والبحرين هي الأحساء - فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه، فدعا عليهم صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق.
وبعد وصول هذه الرسالة إلى كسرى أرسل كسرى إلى واليه في اليمن، وأمره أن يرسل رجلين يأتيان بمحمد صلى الله عليه وسلم مقيداً، فذهب الرجلان هذان حتى وصلا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: ماذا جاء بكما؟ قالا: أتينا نأخذك ونوصلك إلى كسرى.
بهذه البساطة يأخذون رسول البشرية صلى الله عليه وسلم، ويشاء الله أن يسحب آل كسرى من على كراسيهم، ويداسون بخيول المسلمين بعد أقل من خمسة عشر عاماً من هذه الرسالة، فيقول صلى الله عليه وسلم: {من أمركما بحلق لحاكما؟ قالا: ربنا أمرنا بذلك، قال: فإن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي} ثم مكثا عنده، فقال صلى الله عليه وسلم: {إن ربي قتل ربكم البارحة}.
فأرخوا من تلك الليلة، فوجدوا أن كسرى قتل في تلك الليلة، وقاتله هو ابنه.
ومزق الله ملك الأكاسرة بدخول سعد المدائن، فدخل سعد إيوان كسرى وهو يتلو قول الله عز وجل: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِين َ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:25 - 29].
وهذا الرجل الذي بعثه صلى الله عليه وسلم بالكتاب هو عبد الله بن حذافة، الرجل الدعوب المرح، القرشي المهاجري الكبير، الإمام الأمير، ولاه صلى الله عليه وسلم على بعض السرايا، وكان فيه دعابة لما ودع الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله! مرهم أن يطيعوني، فقال صلى الله عليه وسلم: أطيعوه ولا تعصوه، فأخذها فرصة رضي الله عنه، فقال لهم: اجمعوا حطباً، فجمعوه، قال: أشعلوا الحطب، فأشعلوه، قال: ادخلوا في النار! هكذا قال، فتهيبوا، قال: أما قال لكم الرسول صلى الله عليه وسلم: أطيعوني، وهو صلى الله عليه وسلم يريد الطاعة بالمعروف، لا على إطلاقها، قال: فَهَمَّ بعضهم أن يلقي بنفسه في النار، وأحجم بعضهم، فتم أمرهم بالإجماع الأخير أن يعرضوا الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن أمرهم بذلك اقتحموا النار، فلما وصلوا المدينة، قالوا: يا رسول الله! أمرنا عبد الله بن حذافة الذي أمرته، فجمعنا حطباً وأشعلنا ناراً وهممنا أن نقع في النار، ولكن قلنا: نعرض الأمر عليك فما عصيناه، فتبسم صلى الله عليه وسلم، وقال: {لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق} ثم قال: {لو دخلوها ما خرجوا منها} وذلك جزاء لهم لأنها معصية، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا يريد من الإنسان أن يهلك نفسه، لكن كان عبد الله بن حذافة يمزح.
كان من مواقفه المشهودة أنه وقع أسيراً في الروم، وكان معه بعض الأسرى، فقال ملك الروم: أخرجوا لي أعقلهم وأذكاهم كي أكلمه فخرج عبد الله بن حذافة فقال له: يا عبد الله! أتريد أن أعطيك نصف ملكي وآبائي وأجدادي وتعود عن ملة محمد صلى الله عليه وسلم، قال: [[والله لو أعطيتني ملكك وملك آبائك وأجدادك على أن أعود عن دين رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت]] قال: خذوه وألقوه في قدر يغلي، فلما ذهبوا به ووجد بعض الأسارى قد تفسخت لحومهم عن عظامهم، وهي تغلي بهم، بكى رضي الله عنه.
فأعاده الجنود إلى العظيم، وقالوا: إنه بكى قال: لماذا بكيت؟ قال: [[أبكي على أنه ليس لي إلا نفس واحدة تُعذب؛ فليت لي بعدد شعر رأسي أنفساً تعذب في سبيل الله]] قال: والله لا أطلقك حتى تُقبِّل رأسي، فقبل رأسه وتفل عليه، فأطلقه وأطلق الأسارى معه، فلما وصل عبد الله بن حذافة إلى المدينة، ودخل المسجد، قال عمر: [[حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة]] فاجتمع عليه المسلمون في المسجد يقبلون رأسه، فكان يفر في ميمنة المسجد فيلحقونه إلى الميمنة، فيأخذ الميسرة، فيلحقونه إلى الميسرة ليقبلوا رأسه، فيمزح يقول: تريد يا أمير المؤمنين أن تجعل رأسي من التقبيل أصلع كرأسك؛ لأن عمر رضي الله عنه ليس في رأسه شعر، رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد مات عبد الله شهيداً ورفع الله درجته عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، نسأل الله أن يجمعنا بهم في مستقر رحمته.(245/4)
آداب الرسائل
وقبل أن ندخل شرح رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، أحب أن أبين آداب الرسالة أو الكتابة في الإسلام.(245/5)
البسملة
ومن أدبها البسملة، أن تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، وأما الحمدلة فليست واردة في الرسائل، بل واردة في الخطب، فمن السنة أن تكتب بسم الله، فتبتدئ بها ولا تبتدئ بالحمدلة، وفي الخطب تبدأ بالحمدلة ولا تبتدئ بالبسملة، والدليل على ذلك أنه ليس في رسائله صلى الله عليه وسلم حمدلة، ولما أرسل إلى هرقل عظيم الروم، قال: {بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله}.(245/6)
كتابة اسم المرسل
الأمر الثاني: أن تبدأ باسمك أنت، فلو كان اسمك محمد بن علي، فتقول: من محمد بن علي إلى فلان بن فلان، ولا تقل: حضرة جناب المكرم الأخ العزيز الموقر الإمام المجتهد الصائم القائم الزاهد، فهذه الألقاب لا تذكرها حتى تأتي على اسمك أولاً في أول الرسالة، قال ابن عمر: [[إلا الابن فإني أرى أن يقدم أباه في الرسالة]] وكذلك إذا أرسلت إلى عالم كبير، فتقول مثلاً: إلى فلان بن فلان من فلان بن فلان، فأجازه ابن عمر، وذكره ابن حجر وكأنه رجَّح هذا.
وابن عمر أراد أن يكتب لـ عبد الملك بن مروان، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن عمر، إلى عبد الملك بن مروان، فاجتمع أبناؤه في البيت، وقالوا: لا بد أن تبدأ باسمه هو قبله، لأننا نخاف عليك منه؛ لأنه خليفة، فما زالوا به حتى كتب إلى عبد الملك بن مروان، من عبد الله بن عمر.(245/7)
الإيجاز والوضوح
ومن آداب الرسائل في الإسلام الإيجاز:
أرسل صلى الله عليه وسلم إلى هرقل رسالة فجعلها في أربعة أسطر، وأما الإسهاب فهو ضياع للوقت، يسأل الإنسان ويريد من أخيه أن يأتي من الرياض أو من جدة، فيكتب له كتيباً صغيراً يصلح أن يكون تأليفاً، يقرؤه في ساعة ونصف، وأخبارنا تسركم، وأمطارنا وأسعارنا، ثم يخبره بأسعار الهيل، وأسعار الموز، وأسعار البيبسي، وما حدث في المنطقة، ومن تزوج، ومن طلق، ومن مات، ومن عاش، فهذه مشغلة وضياع لوقت المسلمين.
إذا أراد الإنسان أن يكتب رسالة فليكتب أربعة أسطر أو خمسة أسطر وتكفي، يدعو له ولا يدعو عليه، ويختم الرسالة.
ومن آدابها -أيضاً- كما يقول أهل العلم: الوضوح، أي أن تكون واضحة المعاني والأساليب، فلا يكتب بالإنجليزي ليظهر للناس أنه يفهم الإنجليزي، لأن بعض الناس إذا تكلم معك يتكلم معك بها لتقول: هذا شاب متنورٌ متطور، ويظن أنه فهم وأنه تثقف، ويقول ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: المداومة على التحدث بلغة غير لغة العرب، والاسترواح بها من علامات النفاق -نعوذ بالله من ذلك- ولا أجمل ولا أفصح من لغة العرب أبداً.(245/8)
الحذر من التصحيف
ومن آداب الرسائل: رفع التصحيف، والتصحيف ثلاثة أقسام:
رفع التصحيف بأن توضح الخط حتى لا يتصحف، وإذا كتبت كتيباً صغيراً، أو رسالة، أو مذكرة، أو أردت أن تكتب شيئاً فعليك بتكبير الخط وبتوضيحه؛ لأن الخط الرديء يخونك يوماً ما، تقرؤه بعد فترة من الفترات فلا تفهم الخط، فلذلك يقول الأول في وصف طالب:
تقول له زيداً فيسمعه عمراً ويكتبه بكراً ويقرؤه فهرا
فهو يجمع تصحيف السماع وتصحيف الكتابة وتصحيف الفهم.
فتملي عليه في الفصل: اكتبْ زيداً، فيسمعه عمراً، ثم يكتبه بكراً، وبعد أن يكتب يفهمه فهراً.
والتصحيف كما قال أهل العلم من المحدثين على ثلاثة أقسام:
تصحيف القراءة: أن تقرأ شيئاً ليس بوارد، وأورد منه ابن الجوزي والعسكري والسيوطي أمراً عجيباً، حتى إن بعضهم كان يقرأ حديثاً قدسياً، يقول: عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الله عز وجل أي: حديثاً قدسياً فيما يرويه عن ربه، فقرأه محدث من المحدثين هكذا: عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه سلم، عن الله، عن رجل، فقال العسكري: من هذا الذي جعل لله شيخاً سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أي: أنه أوصل السند إلى الله ثم رده إلى رجل، فهذا تصحيف القراءة.
وأما تصحيف السماع: فهو كما قلت لكم، أن يقول الأستاذ في الفصل: حدثنا أبو هريرة، فيكتب الطالب حدثنا أبو ذر، أو تقول: كان عمر بن الخطاب، فيكتب: كان أبو بكر الصديق، وتقول: خرج إلى السوق، فيكتب دخل المسجد، فهذا تصحيف السماع.
وأما تصحيف الفهم: فإنه أخطر الأمور، أن يفهم الإنسان عبارة فيصحفها ثم يلقيها على الناس، ووجدنا في كتب التفسير، أموراً عجيبة، وفي بعض التفاسير، ما أورده على سبيل التنبيه: سئل أحد أهل العلم من المصحفين، ما هو اسم أخي يوسف الذي طلبه إلى مصر؟ قال: اسمه نكتل، قالوا: ما هو الدليل؟ قال: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} [يوسف:63].
ونكتل: فعل مضارع، أي: نكتال من الحب، لكنه جزمه لأنه جواب الطلب، فسماه باسم أخيه، فقال: أخانا نكتل.
وأفادني أحد المشايخ أن أحد الأساتذة صحف على نوح عليه السلام، فسمى ابنه عاصم، قال: والدليل على ذلك قول نوح: {قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:43].(245/9)
من فوائد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل
من فوائد الحديث أيضاً:
الأخذ بكتابة الكاتب وعمل القاضي بها، والشهود، وأخذ الوصاية منها، دل على ذلك كلام أهل العلم، قال الإمام مالك: "أقبل كتابة الصك يقرأ على الناس فيقر".
وأخذ أهل العلم بذلك، وأورده صاحب المغني في باب القضاء وأدب القضاء، قال: أخذ أهل العلم على أن الكتاب يؤخذ به، والدليل على ذلك أن سليمان عليه السلام كتب إلى بلقيس عظيمة سبأ، فقال: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30].
وفي الآية كذلك: البدء بالمرسل، فأخذت بلقيس بكتابته وعرفتها، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر في الصحيح: {ما حق امرئ له شيء يوصي به يبيت إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه} فكان ابن عمر دائماً يكتب وصيته عند رأسه، فمن السنة أن تكتب وصيتك وتجعلها عند رأسك، هذا إذا كان عليك دين أو شيء يحتاج، وإذا لم يحتج الأمر إلى كتابة فأخبر أهلك وتقول: الحمد لله ما علي من الدين إلا خمسون ألفاً، فيحفظونها ويعونها وينقلونها إلى الناس.
ومن الفوائد آداب الكتابة.
ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو الناس إلى الله بالرسائل، ويدعوهم بالكلام، ويدعوهم بالخطب، ويدعوهم بالوفود، وإذا لم تجد الرسائل والخطب والوفود، دعاهم بالسيف عليه أفضل الصلاة والسلام، ولذلك لما مزق كسرى رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذهب سعد بن أبي وقاص في ثلاثين ألفاً إلى القادسية، فمزق ملك هؤلاء تمزيقاً لا يرتقع أبد الدهر.(245/10)
حديث سرية عبد الله بن جحش
يقول البخاري: واحتج بعض أهل البخاري في المناولة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث وكتب لأمير السرية، وقال: {لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا} فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ومفاد هذه القصة: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أرسل رجلاً من الصحابة، فقال: اذهب إلى وادي نخلة، وائتني بخبر قريش، فذهب هذا الرجل، فلما جاع في الطريق عاد بالسرية، ودخل المدينة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أرسلتك؟ قال: يا رسول الله! ذهبت فأصابني جوع وظمأ فعدت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والله لأرسلن معكم رجلاً يصبر على الجوع والظمأ، أين عبد الله بن جحش؟} القرشي الكبير الخطيب الذي قتل في أحد رضي الله عنه وأرضاه، وهو أول أمير سمي في الإسلام، فأرسله صلى الله عليه وسلم، وكتب له كتاباً، وقال: {لا تقرأ هذا الكتاب إلا بعد يومين، واقرأه على أصحابك ولا تُكره أحداً} أي: بعد أن تقرأ الكتاب لا تكره أحداً على المضي معك، فلما ذهب ليومين يريد وادي نخلة جهة مكة، قرأ الرسالة وفضها، وقرأها على الناس، فعاد رجلان ممن كانا معه، وذهب الجميع معه رضي الله عنه وأرضاه، فلما وصولوا إلى وادي نخلة، عرضت له قافلة لقريش فيها عمرو بن الحضرمي فقتلوه في رجب، وهو من الأشهر الحرم، فقالت قريش: كيف يستبيح محمد القتل في الأشهر الحرم؟
انظر ما أحسن ورعهم! يخرجون الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة، ويطردونه، ويبيعون أملاكه، ويفتون بالورع والزهد، يقولون: كيف تقتلون ابن الحضرمي في الأشهر الحرم؟ فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:217].
أي: تخرجون الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكفرون بالله، وتبصقون في المسجد الحرام، وتطردون أهل المسجد الحرام، وتستفتون الآن، أتى عندكم الورع؟ عجيب هذه الفتوى وهذا الذكاء، ويشبه هذا قول ابن عمر حين أتاه رجل من أهل العراق في الحج، قال: يا أبا عبد الرحمن ما حكم قتل البعوضة للمحرم؟ قال: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: [[قاتلكم الله يا أهل العراق! لطختم أصابعكم بدم الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألون عن دم بعوضة]] يقتلون الحسين ويسألون عن البعوضة.
هذا مثل من يحافظ على الإبرة ويُضِّيع الجمل، فلما قتلوه رضوان الله عليهم وأرضاهم وعادوا، كانت معركة بدر بعدها، لأن هذا القتل كان في السنة الثانية، هذا مفاد هذا الحديث، وما هناك شيء يستوجب الإطالة والوقوف عنده، ولكن ننتقل إلى قضايا أخرى تمر بنا في السند.(245/11)
حديث نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم
قال البخاري رحمه الله: وعن قتادة عن أنس بن مالك، قال: كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً، أو أراد أن يكتب، فقيل له: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة نقشه محمد رسول الله كأني أنظر إلى بياضه في يده، فقلت: لـ قتادة، من قال: نقشه محمد رسول الله؟ قال: أنس.(245/12)
الكتابة صفة كمال في غير النبي صلى الله عليه وسلم
أولاً: في هذا الحديث قضايا:
الأولى: هل كتب الرسول صلى الله عليه وسلم بيده؟ أو هل يقرأ أو يخط؟
لأهل العلم في هذا نظرات، والصحيح أنه ما كتب عليه الصلاة والسلام ولا قرأ، وأنه أمي لا يكتب ولا يقرأ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48].
فالصحيح عند أهل العلم والجماهير، أنه ما كتب عليه الصلاة والسلام.
يقول القرطبي: صفة الكتابة صفة كمال في غير الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي فيه صفة نقص، لوكان يكتب عليه الصلاة والسلام لقالوا: اكتتب هذه الصحف وأتى علينا بصحف.
ولذا قالوا: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5] كيف يكتتبها صلى الله عليه وسلم وهو لا يكتب؟! والمعجزة فيه أن يكون أمياً، ولذلك يقول جولد زيهر هذا المستشرق الكلب، يقول: ليس العجب أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فإن عيسى وموسى عليهم السلام أنبياء، لكن العجب أن يبقى أربعين سنة في مكة، وليس فيها مدرسة، ولا كلية، ولا جامعة، ولا كتاتيب، ولا عنده شيخ، ثم يظهر بعد الأربعين فإذا هو أعظم مفتٍ في الدنيا، وأعظم خطيب في المعمورة، وأعظم فصيح، وأعظم قائد، وأعظم مربٍّ، وأعظم إداري، وأعظم سائس، هذه هي العظمة، فلو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ويكتب لقالوا: أنت اكتتبتها.
يقول الكفار بعضهم لبعض: الذي علم محمداً صلى الله عليه وسلم الصحف هو مولى آل فلان، كان قيناً يشحذ لهم السيوف (يصقلها) فيذهب صلى الله عليه وسلم يصقل بعض السيوف، قالوا: يذهب إليه يتعلم منه القرآن، عجيب! هذا المولى فارسي، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103].(245/13)
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أمة أمية)
فالرسول صلى الله عليه وسلم على الصحيح لا يكتب ولا يقرأ، وهو أمي، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب} ولذلك علق ابن تيمية في الفتاوى بما يقارب خمسين صفحة على هذا الحديث: {نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب} وقال: نحن لا نتعامل بالحساب ولا بعلم الفلك في مسألة رؤية الهلال، أو مسألة تقدم منازل الهلال، فإذا رأى الناس الهلال أفطرنا أو صمنا.
أما أن يأتي أهل الهيئة فيقولون: رأيناه في منزلة كذا، بمقياس كذا إلى كذا ليفطر الناس؛ فلا إفطار على مقياسهم، لأنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، إذا شهد الشهود أفطرنا، وإذا شهدوا صمنا، فهذا مفاده (أنَّا أمة أمية).(245/14)
دليل أبي الوليد الباجي على أن النبي كان يكتب
أما الذي أثار أن النبي صلى الله عليه وسلم يكتب فهو أبو الوليد الباجي المالكي الأندلسي، وألف في ذلك كتاباً، وادعى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب، والسبب في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في معركة الحديبية يفاوض كفار قريش، فلما أراد صلى الله عليه وسلم أن يفتح مكة، تمركز بجيشه العرمرم في الحديبية، فسمعت قريش أن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يفتح مكة غصباً، فحلفوا باللات والعزى لا يفتحها، فخرجوا بسيوفهم، وقالوا: قبل أن نخرج نرسل إليه رجلاً يفاوضه، فأرسلوا مكرز بن حفص، فلما أتاه قال صلى الله عليه وسلم: {رجل فاجر} فنزل فما تم الصلح، فأتى الحليس بن علقمة، فقال صلى الله عليه وسلم: {هذا رجل من أناس يعظمون النسك أو الهدي فابعثوا الهدي أمامه} فبعثوا الغنم التي يريد صلى الله عليه وسلم أن يهديها للبيت، فلما رآها ذاك قال: ما كان لهؤلاء أن يُصدون عن البيت وعاد.
فأرسلوا سهيل بن عمرو خطيب العرب، فوفد عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم، قال: {قد سهل لكم أمركم}.
وقبل أن يأتي سهيل أرسل الرسول صلى الله عليه مفوضاً، قال لـ عمر: يا عمر! قم واذهب إلى هؤلاء النفر ففاوضهم على الصلح، فقال عمر: يا رسول الله! تعلم أني من أعدى قريش إلى قريش، أي: أكره رجل في قريش إلى قريش.
ولذلك يقول أبو سفيان لما عاد إليه: وجدت محمداً صلى الله عليه وسلم قريباً، وأبا بكر وعلياً، وأما أعدى العدو فهو عمر، والله لو لم يجد إلا الذر ليقاتلكم به لقاتلكم بالذر.
فقال عمر: يا رسول الله: أنا ليس عندي أسرة تحميني -هو من بني عدي بن كعب- عشيرته تأتي في المرتبة الخامسة أو السادسة بعد بني هاشم، وبني أمية بن عبد شمس، وبعد بني مخزوم، وبني سهم، لكن أرسل عثمان يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: عليَّ بـ عثمان فأرسل عثمان.
فلما وصل عثمان أتاه أخوه أو قريب له، وقال: لا تذهب حتى نغديك، فأكرموه، فلما حبسوه، أتت الشائعة بين المسلمين قالوا: قتل عثمان، فانتفض صلى الله عليه وسلم وغضب، وجمع الناس، وبايعهم على الموت تحت الشجرة، فبايعوه صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] إلا رجلاً واحداً من المنافقين خرج معهم من المدينة في ظاهره أنه مسلم، فلما أراد صلى الله عليه وسلم أن يبايعه، قال: أما أنا فوالله -يقول للمسلمين- لأن ألقى جملي الأحمر خيرٌ من أن أبايع محمداً، فقال صلى الله عليه وسلم: {كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر} واسمه الجد بن قيس، فذهبوا إليه، فقالوا: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه، وقال: ألقى جملي قبل أن يستغفر لي، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5].
وأتى سهيل بن عمرو فقال صلى الله عليه وسلم: {قد سهل لكم أمركم} فنزل وجلس، وأخرج صلى الله عليه وسلم الصحابة يحضرون المفاوضة، بين الرسول صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو، فأخذ سهيل بن عمرو بلحية رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسها ويفاوضه، فقال المغيرة وكان مدججاً بالسلاح على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم: اترك يدك فوالله لأن مددتها لا تعود إليك أبداً.
فأخذ سهيل بن عمرو يتكلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سهيل بن عمرو: اكتب بيننا وبينك كتاباً على الصلح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين علي بن أبي طالب؟ فأتى، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: لا نعرف بسم الله الرحمن الرحيم، لا نعرف إلا رحمان اليمامة، اكتب باسمك اللهم، ورحمان اليمامة قيل: رئي من الجن.
وقلت لـ رحمان اليمامة عالجنْ مصابي فإني بالمصاب عليل
سمته العرب رحماناً، ليس مسيلمة؛ لأن مسيلمة ما أتى إلا متأخراً، فقال صلى الله عليه وسلم لـ علي: {اكتب باسمك اللهم} ثم قال صلى الله عليه وسلم لـ علي، {اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله} فكتب، قال سهيل بن عمرو: لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، اكتب محمد بن عبد الله، قال صلى الله عليه وسلم: {أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله} اكتب يا علي وامح، قال علي: والله لا أمحو اسمك من الصحيفة أبداً، فأخذها صلى الله عليه وسلم، فتفل على الكتابة، ومحاها صلى الله عليه وسلم؛ ثم أعاد الكتاب إلى علي، فقال أبو الوليد الباجي: ما دام أنه صلى الله عليه وسلم غيَّر اسمه، فقد عرف مكان (رسول الله) في الصحيفة، فكيف عرفه وميزه؟ وليس في الحديث أن علياً أشار له، وقال: (هذا رسول الله، وهذا باسمك اللهم) قال ابن حجر: والذهبي وابن تيمية وهو الصحيح: الرجل الأمي من كثرة الكتابة يعرف اسمه، ولذلك بعض الناس الآن يعرف أن اسمه محمد مكتوب، من كثرة ما رأى اسمه، وبعضهم يوقع اسمه وهو لا يقرأ ولا يكتب، فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى موقعها من الكلام فمحاها.
فالشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا قرأ ولا كتب، وإنما محا ما عرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرسالة.(245/15)
ترجمة رجال الحديث (قتادة)
وقتادة وهو قتادة بن دعامة السدوسي، والعجيب في أسماء المحدثين أن أكثرها على السجع، يقولون: إنه ولد أعمى فكان أحفظ أهل الدنيا.
يقول ابن المبارك: [[إذا غير الدهر حفظ أحد من الناس فما غير حفظ قتادة]].
وفد قتادة على سعيد بن المسيب العالم الكبير الزاهد الذي دخله لا يكفيه ولا يكفي أحداً، فجلس عنده ثلاثة أيام، وبعد ثلاثة أيام قال سعيد بن المسيب: متى تخرج يا أعمى من بيتي فقد أنهكت مالي؟
لأن سعيد بن المسيب ليس عنده دخل ولا راتب، عنده قطعة من الخبز، وقليل من الزيت، وقليل من العدس، فكان دائماً إذا أتى الصبوح وإذا قتادة جالس، يأتي الغداء وإذا قتادة على المائدة، وكذلك العشاء، فقال: متى تخرج يا أعمى فقد أنهكت مالي؟ قال سعيد بن المسيب: ما رأيت أحفظ منه، سمعت له سورة البقرة فوالله ما أخطأ في حرف، وكان يقول: إذا نزلت السوق وضعت أصابعي في أذني حتى لا أسمع شيئاً فأحفظه.
ومن حفظه أمسكه عمران بن حطان الخارجي في السوق، وهو شاعر من الخوارج، وهو الذي يقول في مدح ابن ملجم الذي قتل علياً:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً
إني لأذكره يوماً فأحسبه بين البرية أوفى الناس ميزانا
فَرُدَّ عليه:
يا ضربة من شقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه من شر خلق عباد الله ميزاناً
وكان عمران بن حطان من أشعر العرب، فأمسك قتادة في السوق، فقال: احفظ مني يا أعمى بيتين لا تنساهما أبداً، قال: قل، قال:
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجُوَّع
أراها وإن كانت تسر فإنها سحابة صيف عن قريب تقشع
أي: الدنيا.
وللعلم فإن قتادة مدلس، إذا عنعن فانتبه له، إلا عند البخاري فإن البخاري يعرف من أين تؤكل الكتف، فلا يأتي بأحاديث مدلسة، لكن إذا قال (عن) في غير الصحيحين فانتبه للرجل فإنه يدلس، قد يكون بينه وبين هذا الرجل اثنين فيقول عنه، مثل أن ألقاك مثلاً فأروي عنك أحاديث، وبعد فترة آتي بأحاديث عن رجال عنك، وأقول: عن فلان، فيتوهمون أني رويته عنك، هذا هو التدليس.(245/16)
حديث اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً
عن أنس بن مالك، قال: {كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً، أو أراد أن يكتب فقيل له: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة، نقشه: محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده، فقلت لـ قتادة: من قال لك: نقشه محمد رسول الله؟ قال: أنس}.(245/17)
محل لبس الخاتم وحكم لبسه
أولاً هناك مسائل:
أين يلبس الخاتم؟ الصحيح عن أهل العلم من المحققين كـ ابن القيم وغيره، أن الأحاديث في لبسه باليمنى وباليسرى صحيحة، فلك أن تلبسه في يسراك ولك أن تلبسه في يمناك، وصحت أحاديث اللبس في اليمنى، وصحت أحاديث اللبس في اليسرى، وأورد ابن تيمية في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم حديثاً فيه زيادة، وصححه، هو ولا جدال في تصحيحه، وكفى به حفظاً وعلماً وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم: {نهى أن يلبس الخاتم إلا لذي سلطان} أي: السلطان له أن يلبس الخاتم، أما غيره فمنهي عنه.
وحمل هذا النهي على الكراهة، والصحيح أنه قد لبسه كثير من الصحابة وليس عندهم سلطان، لبسه أنس، ولبسه البراء، ولبسه الحسن والحسين، وغيرهم من الصحابة والتابعين، فما أظن أن في ذلك حسبما قال أهل العلم إلا الكراهة إن صحت الزيادة التي أتى بها ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم.
أما خاتم الذهب فحرام على الرجال، وتدخل في الحرمة دبلة الذهب؛ لحديث علي في المسند، وعند أبي داود بأسانيد صحيحة، قال: {أخذ صلى الله عليه وسلم قطعة من ذهب وقطعة من حرير ووقف على المنبر، فقال: هذان حرام على ذكور أمتي حلال لإناثهم} فالذهب والحرير حرام على رجال أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا ما خصه الدليل، وبعض أهل العلم -وهي رواية عن الشافعية- على أنه يجوز للصبيان، والصحيح أنه لا يجوز للصبيان، وتجوز منه سن الذهب، فقد اتخذ عثمان رضي الله عنه ذهباً شد به أسنانه، وكذلك عبد الرحمن بن عوف، وكثير من التابعين.
وقد اتخذ ابن عرفجة أنفاً من ذهب، والتداوي بالذهب في الجسم واردٌ للضرورة ولا شيء فيه إن شاء الله، كعملية الأنف، أو عملية الرجل.
أما في غيرها كالحلية والزينة فإنه حرام لا يستخدم للرجال، ولا يلبس، فإن الله حرمها في الدنيا على الرجال، وأحلها في الآخرة لهم، ومن تقلَّد دبلة من ذهب فكأنما تقلد جمرة من نار، وهي محرمة باتفاق جمهور أهل العلم وخاصة منهم المحدثين، من نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك.(245/18)
لبس خاتم الحديد
أما خاتم الحديد فالظاهر من كلام أهل العلم والذي دلت عليه الأحاديث أنه حرام كذلك، رأى صلى الله عليه وسلم رجلاً عليه خاتم من حديد، قال: {ما لي أرى عليك حلية أهل النار} فألقاه الرجل، وهذا الحديث في سنن أبي داود بسند مقبول، فقال أهل الظاهر: هذا لفظ يفيد بمفهومه التحريم، فيحرم أخذ دبلة، أو حلقة، أو خاتماً من حديد.
لكن الذين جوزوه -وهم طائفة قليلة من أهل العلم- استدلوا بحديث سهل بن سعد في البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتاه الرجل يخطب المرأة قال: {التمس ولو خاتماً من حديد} فقالوا: مادام أنه قال: خاتماً من حديد، فيكون مباحاً؛ لأنه لا يجعل المحرم مهراً، والصحيح أن هذا ليس بنص، ولا يفيد بمنطوقه أنه حكم في المسألة، لأنها قد تلبسه أو تبيعه، أو أنه جائز للمرأة وليس بجائز للرجل، فليس حكماً في هذا موطن النزاع، فيبقى على التحريم.
وأما خاتم الفضة فجائز ووارد، ومباح، وهو الذي لبسه صلى الله عليه وسلم.(245/19)
نقش الخاتم بآية أو ذكر لله
ومن نقش خاتمه بآية أو كلام فيه ذكر الله عز وجل، فلا يدخل به الحمام، لحديث معاذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم {كان إذا أراد أن يدخل الحمام خلع خاتمه} رواه أبو داود، وهذا الحديث معلول، قيل سبب العلة: أن الزهري لم يلق معاذاً.
وقيل: فيه راوٍ ضعيف فالحديث لا يصح، ويرى الإمام أحمد أن يجعل فص الخاتم في جهة الكف إذا كان فيه شيء مكتوب، وأن يقبض إذا دخلت الخلاء، ذكره صاحب المغني وغيره من أهل العلم، وورد فيه حديث هو أحسن سنداً من ذاك الحديث الذي فيه خلع الخاتم، فإن خلعه فلا بأس به على فرض صحة الحديث وللتأدب عند دخول الخلاء، وإن وضع الفص داخل كفه فلا بأس بذلك إن شاء الله.
ونقش الرسول صلى الله عليه وسلم على خاتمه (محمد) في سطر، و (رسول) في سطر، و (الله) في سطر، وكان يختم رسائله صلى الله عليه وسلم بذلك، ويبعثها إلى الناس فيقبلونها؛ لأنها من الرسول صلى الله عليه وسلم، فلك أن تنقش على خاتمك آية أو حديثاً كما فعل بعض أهل العلم، ولا شيء في ذلك، والعجيب أن عمران بن الحصين كان نقش خاتمه صورة أسد كما يقول صاحب سير أعلام النبلاء: وبعضكم يتساءل: كيف يضع صورة أسد على الخاتم؟ والصحيح أن هذا من الصور الممتهنة التي لا تضر إن شاء الله فيها.
لأن عائشة تقول كما في صحيح البخاري: {كان لي نمرقة فيه صور، فهتكه صلى الله عليه وسلم فجعلناه وسادتين يتكئ عليها صلى الله عليه وسلم} فإذا كانت الصورة مما يمتهن كالخاتم أو كالوسادة أو البطانية أو ما يقاربها، فالظاهر أنه لا شيء فيها، وتعودون إلى قصة عمران فإنه فعل ذلك.
والعجيب أن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث معه، فلما مات أخذه أبو بكر وجعله في يده الشريفة.
فلما مات أبو بكر، أخذه عمر وتقلده، تشريفاً وتكريماً وتوقيراً، فلما مات عمر أخذه عثمان وجعله في يده، وبقي ست سنوات من حياته، فوقف عند بئر أريس فسقط منه الخاتم في البئر، فأمر بنزح بئر أريس فنزح الماء فما وجدوه أبداً، فبكى عثمان وقال: الله المستعان! فبدأت المشاكل والفتن من ذلك اليوم، حتى انتهت بقتله، وارتفع السيف في المسلمين، وتقلد كثير من الصحابة خواتيم في أيديهم للسنة، وتشريفاً لهم، ومن باب الجمال، ولا شيء فيه إن شاء الله.(245/20)
شرح حديث أبي واقد الليثي وما يستفاد منه
ثم قال البخاري: باب من قعد حيث ينتهي به المجلس، ومن رأى فرجة في الحلَقة -بفتح اللام وسكونها- جلس فيها.
عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأما أحدهم فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفه، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فاوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض، فأعرض الله عنه}.
هؤلاء ثلاثة نفر دخلوا والرسول صلى الله عليه وسلم عنده حلقة في المسجد، فأما أحدهم فذهب معرضاً وهو الأخير في الترتيب، وأما الثاني فوجد فرجة في الحلقة فدخل فيها، وأما الثالث فما وجد مكاناً فاستحيا أن يذهب، واستحيا أن يزاحم فجلس خلف المجلس، ولما انتهى صلى الله عليه وسلم من حديثه وقد لمح الثلاثة، قال: {أما ذاك فاوى إلى الله فآواه الله إليه -أي: رحمه وأدخله في كنفه وفي رحمته وبره- وأما الثاني فاستحيا من الله عز وجل -ثم استحيا من الناس أن يزاحم- فجلس حيث انتهى به المجلس، وأما الثالث -فغلب عليه مزاجه المريض فأعرض، فأعرض الله عنه} هذا هو مفاد الحديث أو جملة ما في الحديث.
أما سند هذا الحديث فيكفينا فيه النجم العلم مالك بن أنس الذي لا يسأل عن مثله، مالك الذي يقول صلى الله عليه وسلم كما في الترمذي: {يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون أعلم من عالم المدينة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الرزاق: أرى أنه مالك بن أنس، رفعه الله بتقواه وبعلمه وبزهده وبورعه، وقد مر معنا في مناسبات وتحدثنا عنه.
وأما الحديث ففيه قضايا:(245/21)
السلام على الجالسين في درس ونحوه
الأولى: يقول ابن حجر: لماذا لم يُسَلَّم الثلاثة؟
لماذا لم يذكر الراوي أن الثلاثة دخلوا المسجد ما سلموا؟
لأنه يقول: دخل ثلاثة والرسول صلى الله عليه وسلم جالس، وما ذكر التسليم، ويعتذر لهم بثلاثة أعذار:
إما أنهم سلموا ولم ينقل، وإما أنهم استحيوا ورأوا ألا يقطعوا على الرسول صلى الله عليه وسلم الحديث، فما سلموا استحياءً، وإما أنهم لم يعرفوا الحكم، أي: لم يعرفوا الحكم في أنه ينبغي ويسن أن يسلم على من في المجلس فما سلموا، وحكم هذه المسألة أنه لا بد أن يسلم على من في المجلس، فإذا أتيت وفي المجلس علم، أو في فصل، أو حلقة دراسية، أوحلقة ذكر ووعظ، فسلم عليهم بلا شك.
لأن الأدلة دلت على أن السلام سنة، منها: الحديث الذي رواه أهل السنن عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: {سألت بلالاً كيف كنتم تسلمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وكيف كان يرد عليكم؟
قال: كنا إذا سلمنا عليه بسط يده -هكذا- رداً علينا} وسند هذا صحيح، ودل عليه حديث خباب كما عند الحاكم، وأصله في صحيح مسلم، من حديث صهيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم عليه رد، قالوا: كان يرد إما بالسبابة هكذا، وإما بالكف هكذا في الصلاة.
ولا يعترض معترض بحديث ابن مسعود الصحيح، أنه يقول: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرد علينا، فلما قدمنا من الحبشة سلمنا عليه فمارد علينا، ثم قال: {إن في الصلاة لشغلاً} وهذا الحديث صحيح، ومعناه: أننا كنا نسلم عليه فنقول: السلام عليكم ورحمة الله، فيقول صلى الله عليه وسلم: وعليكم السلام ورحمة الله وهو في الصلاة، فنسخ هذا الحكم، وقال صلى الله عليه وسلم: {إن في الصلاة لشغلا} وبقيت الإشارة، ولذلك جاء في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: {قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة والناس يصلون، فلما دخلت في الصف، سمعت رجلاً عطس في آخر المسجد، فقلت: يرحمك الله، فسبح الناس، فعطس ثانية، فقلت: يرحمك الله، فقالوا: سبحان الله! قلت: مالكم ويل أمي؟ فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي ما رأيت معلماً ألطف ولا أرحم ولا أحلم منه! فما كفرني، ولا كهرني -كفرني: قطب في وجهي وعبس، وكهرني: أي: انتهرني- وقال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي للذكر والتسبيح وقراءة القرآن}.
قال أهل العلم: فأما الكلام في الصلاة فهو على ثلاثة أظرف:
من تكلم عامداً بطلت صلاته، ومن تكلم ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه، كأن يأتي إنسان من البادية لا يعرف الحكم، فأتى في المسجد وتكلم، وقال: كيف حالك يا شيخ وهو يصلي معه الظهر؟! فلا شيء عليه إن كان جاهلاً أو ناسياً.
وكذلك إذا تفكر في دينه، فرأى أنه عليه خمسة عشر ألفاً، فقال: الحمد لله! اللهم اقض عنا الدين وأغننا من الفقر، فلا شيء عليه، أما رد السلام فيكون بالإشارة، ومن باب أولى أن يسلم على أهل الحلقات في حلقاتهم، وأهل الدروس في دروسهم، وللمعلم أن يرد السلام، وله أن يكتفي برد الناس، لأنه يكفي -كما في الصحيح- أن يرد عليهم واحد ويسلم عليهم واحد.(245/22)
تحية المسجد وأحكامها
الأمر الثاني الذي يتساءل عنه أهل العلم في هذا الحديث: لماذا لم يذكر الراوي تحية المسجد؟
قال القاضي عياض المالكي رحمه الله: الوقت وقت كراهة فما صلوا تحية المسجد، وهذا فيه احتمال، وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال، وليس للقاضي عياض دليل قاطع على هذه المسألة فلا يقبل؛ لأنه يريد أن يستدل بهذا الحديث على المذهب المالكي؛ لأن المالكية يقولون: إذا دخل بعد العصر أو بعد الفجر في المسجد فلا يصل التحية وليجلس.
والصحيح أنه يُعتذر لهم بثلاثة أعذار:
الأول: أنها ربما لم تكن قد شرعت -قاله ابن حجر - فجلسوا.
والأمر الثاني: أنهم يمكن أنهم صلوا ركعتين فما ذكرها الراوي لاشتهارها بين الناس.
والأمر الثالث: ربما لم يكونوا على وضوء، دخلوا المسجد وليسوا على وضوء، ولك أن تدخل المسجد على غير وضوء، ولك أن تدخل -إذا أردت أن تجلس في المسجد أو تذاكر من غير أن تقرأ القرآن أو تصلي- لك أن تدخل على غير وضوء، لأن في سنن أبي داود بسند حسن، قال صلى الله عليه وسلم: {إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب}.
فلما منع صلى الله عليه وسلم من دخول الحائض والجنب المسجد، دل على أن غيرهم لهم ذلك، فمن انتقض وضوءه فله أن يدخل المسجد، وكان ابن عمر -كما في الصحيح-: ينام في المسجد.
ومن نام في المسجد فقد يحدث وهو نائم، وينتقض وضوءه، فهذا دليل على أنه يجوز للإنسان أن يدخل وهو منتقض وضوءه لا أن يكون عليه جنابة، فصاحب الجنابة لا يدخل المسجد إلا عابر سبيل، يدخل من هذا الباب، ويخرج من الباب الآخر، أما أن تدخل وتجلس وأنت جنب فليس لك ذلك.
وقد أورد صاحب المغني رأياً وهو: أن الجنب يتوضأ وله بعد ذلك أن يجلس في المسجد، والصحيح الأول كما قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] فيعبر ولا يجلس، وكذلك الحائض من النساء، وسوف يمر معنا باب الحيض، لندرك عظمة الإسلام في حياة المرأة، وكيف عاش الإسلام معها، وكيف لبَّى طلبات المرأة، وكيف حل مشكلات المرأة، وكيف اعتنى بها، ورفع قيمتها؟!
فالحائض والنفساء من النساء لا يقربن المساجد، وإنما يعتزلن المساجد، ولهن أن يحضرن مجالس العلم إذا كانت في غير المسجد، فتجلس ولو كانت حائضاً أو جنباً، لحديث أم عطية أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر العواتق وذوات الخدور أن يحضرن صلاة العيد ودعوة المسلمين، ويعتزلن المصلى؛ للبركة وللمنفعة من حضور مجالس العلم، هذه قضية دخول المسجد بلا وضوء.
والصحيح أن ركعتي تحية المسجد سنة مؤكدة، ولا بد من أدائها، لحديث أبي قتادة في الصحيحين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} وسواء كان في وقت نهي أو في غير وقت نهي؛ لأن هذا حديث خاص، وأما الحديث العام أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس} فهو عام في الأوقات، يخصصه حديث ذوات الأسباب، كأن نمت عن صلاة فتصليها متى ذكرتها، ولو بعد الفجر أو بعد العصر، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها متى ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك، ثم تلا قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]}.
فالذي يدخل المسجد لا يجلس حتى يصلي ركعتين، ولو كان الخطيب يخطب يوم الجمعة، لحديث جابر الصحيح، قال: {دخل سليك الغطفاني والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فجلس، فقال: أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين -وفي رواية-: وأوجز فيهما، أو خفف فيهما} فأقامه صلى الله عليه وسلم في الخطبة، فمن باب أولى أن يصلي القادم الداخل في أي وقت، وإن دخل والناس في فريضة فيكفيه دخول الفريضة، وإن دخل والناس يصلون على جنازة فيكفيه صلاة الجنازة.
وإن دخل والوقت ضيق ولا يتسع له أن يصلي ثم يدخل مع الإمام في صلاة الجمعة، فلينتظر ويدخل معه في الصلاة، هذا ما يتعلق بذكر تحية المسجد في الحديث.(245/23)
كيفية الجلوس في مجالس العلم
القضية الثالثة: استحباب التحلق: من السنة في مجالس العلم أن تكون حلقة، أي: دائرة، لكن إذا كان هناك كلفة على الناس، أو لم يتسع المكان فلا بأس أن يجلسوا صفوفاً، لأنه ثبت أن الصحابة جلسوا مع النبي حلقاً، وثبت أنهم جلسوا صفوفاً، وثبت أنهم جلسوا وبعضهم ولى بظهره إلى القبلة.
بل بعض الصحابة كان في عهد أبي بكر وعمر، يسمع الخطبة وظهره إلى جهة القبلة، فإذا قامت الصلاة استقبل القبلة فليس في الأمر شيء، فهذا إن شاء الله وارد، لكن أورده ابن حجر فأحببت أن أنبه عليه.
والقضية الرابعة: يقول صلى الله عليه وسلم: {فاستحيا فاستحيا الله منه} فيه إثبات صفة الحياء لله عز وجل، وصرفها ابن حجر عن ظاهرها لأنه أشعري في الصفات كما يظهر، ولذلك تجدون سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز يتعقبه في الصفات في الحاشية.
يقول ابن حجر: استحيا الله منه أي: رحمه ولم يعاقبه، فأوَّل الصفة، والصحيح أننا نثبت صفة الحياء لله عز وجل كما تليق بجلاله لا نشبه ولا نمثل ولا نكيف، لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً} [البقرة:26] فلما نفى الاستحياء عن نفسه في ضرب المثل عن البعوضة، دل على أنه تعالى يستحيي من أشياء أخرى.
فعلم بمفهوم المخالفة أنه يستحيي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك ورد حديث سلمان في السنن بسند حسن، قال: يقول صلى الله عليه وسلم: {إن الله يستحيي من أحدكم إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا} الله عز وجل الذي خلق السماوات والأرض وخلقنا وخلق الناس أجمعين يستحيي منك أيها العبد الضعيف أن يرد يديك صفراً بلا عطاء منه.
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفيك ما علمتني الطلبا
يقول أهل العلم: في هذا الحديث فضل سد الفرجة، ووصل الصفوف، لأن هذا الأول رأى فرجة فدخل فيها، فدل على فضل من عمل هذا العمل، وهو أحسن الثلاثة عند الله عز وجل قال النبي: {أوى فآواه الله} وآوى الأولى تنطق: بالمد، وبالقصر، والأرجح أنها بالقصر لقوله تعالى: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:16] {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50] فلكم المد ولكم القصر، والقصر أولى.
ورد حديث في سد الفرجة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: {من وصل صفاً وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله} وهو صحيح، واعلموا أن من أتى والصفوف قد اكتملت فإنه لا يجر رجلاً من الصف، والحديث الذي فيه ذلك حديث باطل، فيه السري بن إسماعيل وهو متروك، يقول الناظم:
والطبراني قد روى جر الرجل فيه السري ضعفوا ما قد نقل
فهو متروك ولا يصح أن يستشهد به.
فلك أحد الحلول الثلاثة: إما أن تدخل مع الإمام، وإما أن تراص الصفوف مراصة، فتدخل فيها وتصلها، وإما أن تنتظر قليلاً؛ فإذا لم يأت أحد فتصل وصلاتك صحيحة، ولا شيء فيها إن شاء الله، لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وهذا هو الموافق لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية.(245/24)
الأسئلة(245/25)
الجلوس وسط الحلْقة
سؤال يقول: من جلس في وسط الحلقة هل هو ملعون؟
الجواب
نعم، إذا تحلقت الحلقة وجلس وسطهم فهو ملعون، وقد صح الحديث عن حذيفة أن رجلاً جلس في وسط الحلقة، قال: {قم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من جلس في وسط الحلق} والحديث صحيح.(245/26)
حرمة الذهب والحرير على الرجال
السؤال
ما حكم أقلام الذهب؟
الجواب
أقلام الذهب يحرم استعمالها؛ لأنها من باب الزينة، واستعمالها يدخل فيما نهى عنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: {حرام على ذكور أمتي} فأطلق التحريم، ولم يقيده إلا في حديث حذيفة وأم سلمة في الشرب والأكل، فعلم أن الأقلام والأزرار والساعات وما يدخل في حكمها، إذا كانت من ذهب فهي حرام على الرجال، وتدخل في الوعيد الشديد الذي ورد في حق من استعمل الذهب، فليعلم هذا بارك الله فيكم.
أما الحرير: فيجوز للحاجة، لأني قلت لكم: الذهب يجوز للحاجة، وكذلك الحرير، فمن كان فيه حكة في جسمه، وقال أهل الطب: عليه ألا يلبس إلا الحرير، فله أن يلبس حريراً.
ويجوز مقدار إصبعين وثلاث إلى أربع أصابع مطلقاً، ويجوز أن يكون في حاشية اللباس القليلة من إصبعين أو أقل من الحرير.
أما غير ذلك فلا يجوز فإنه محرم على الرجال حلال للنساء.
والسبب في حله للنساء وحرمته على الرجال؛ أن الزوجة مطلوب منها التجمل في بيت زوجها؛ لأن من أدب الإسلام للمرأة أن تكون جميلة في بيتها، وألا تستصحب الجمال إذا خرجت من بيتها، بل عليها أن تخرج في ثياب بيتها ومنزلها التي لا تجلب النظر، وتتحجب وتحتشم، ولا تتطيب في طريقها لئلا تفتن الناس.(245/27)
زينة المرأة وضوابطها
السؤال
هل المرأة التي تلبس الزينة ملعونة؟ وهل يجب عليها أن تتعلم العلم؟ وما مقدار ما تحتاجه من العلم؟
الجواب
هناك آثار تدل على أن من تطيبت بقصد الفتنة فإنها ملعونة -نسأل الله العافية- فعلى المسلمة أن تنتبه لهذا الأمر، إذا خرجت من بيتها، لأن الزينة إنما هي للزوج، أما للأجانب فلا، فإن فعلت فقد انتهكت حرمات الله عز وجل، وتعدت حدود الله، ولو كان أخا الزوج؛ لأن أخا الزوج اشتهر عند الناس أنه من أهل البيت، أي: أن له الحق في أن ينظر لأنه أمين، والحقيقة أنه هو الموت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الحمو الموت} لأنه قد يتسبب في مشاكل وفتن عظيمة، فالواجب عليه ألا ينظر إلى امرأة أخيه، ولا تنظر إليه أبداً.
وهذه حالات تحدث في المجتمع كثيرة، وتسمعون عنها.
فإذا اضطر الشاب أن يسكن مع أخيه أو مع إخوانه في بيت، وعندهم زوجات، فلتكن له غرفة واحدة، ويؤتى بأكله فيها، ولا يرى زوجة أخيه، ولا زوجات إخوانه، ولا يرونه أبداً؛ لأن هذا يحرم عليه.
إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر على حال بواديها
ويجب على المرأة وجوباً أن تتعلم من العلم ما ينفعها، من أمر دينها بادئ ذي بدء، لأنه لا يطلب منها أن تفتي المسلمين، يطلب منها أن تتعلم الصلاة، وما يتعلق بالصلاة، وحق الزوج، وما يجب عليها تجاه بيتها وأطفالها، فإذا تعلمت ذلك واتقت الله فهي المؤمنة الصالحة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها دخلت جنة ربها} فهذه هي المرأة التي يرفع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ميزانها يوم القيامة، وهي التي تربي الرجال.
فالأم مدرسة إن أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
وللمرأة أن تحضر مجالس العلم، والذكر، وتستفيد كما كانت النساء في عهده صلى الله عليه وسلم، فقد حضرن مجالس العلم، وخصص لهن يوماً من أيامه المباركة هو يوم الإثنين، يلتقي بهن فيجدهن وهو المعصوم، وربما ما زحنه من حسن خلقه وكن عنده في يوم من الأيام وكن يرفعن أصواتهن، فأتى عمر فلما سمع النساءُ عمر، ابتدرن الحجاب، وكدن يتكسرن في الطريق من مخافة عمر، فقال عمر: يا عدوات أنفسكن الرسول صلى الله عليه وسلم معكن لا تهبنه وتهبنني، ظن عمر أنها من منزلته رضي الله عنه، فخرجت امرأة عاقلة رشيدة منهن، فقالت: {أنت أفظ وأغلظ من رسول الله والرسول صلى الله عليه وسلم رحيم رءوف بالمؤمنين} أو كما قالت.
فكان صلى الله عليه وسلم يجلس معهن، فمن واجب المرأة أن تحضر وأن تحرص على ما ينفعها.
وأحسن ما أرشد المرأة إليه (برنامج نور على الدرب) لأن فيه الفقه في الدين، وفيه تعليم للمرأة، وأن تحرص على العلم الذي ينفعها في حياتها، فإننا لا نطلب من المرأة أن تكون مهندسة ولا طيارة، ولا جندية، ولا تظنوا أن الإسلام ينتقص المرأة، أو يحرم المرأة حقها حين يمنعها من الاختلاط، نحن في الإسلام نكرم المرأة، ونعظم المرأة، ونشرف المرأة، فنقول: تبقين في بيتك شريفة موقرة، تربين أبناءك ولك كل الحقوق كاملة.
أما أن تصارع المجتمع، وتبقى سكرتيرة على المكتب، وتستقبل وتودع، فليس في الإسلام هذا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة} أن ترأس مكتباً أو أن تكون مسئولة، فليست بمفلحة لا في الدنيا ولا في الآخرة، والذين تتولاهم المرأة هم أنقص منها حظاً ونصيباً، ولذلك ألقى السباعي محاضرة في مصر، فقال: إن الإسلام وفىَّ المرأة حقها، فقامت امرأة مصرية، فقالت: كيف وفّى الإسلام حقها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إنهن ناقصات عقل ودين}.
قال السباعي وكان سريع البديهة ذكياً: نعم يقول صلى الله عليه وسلم: {إنهن ناقصات عقلٌ ودين} وهذا في نساء الصحابة، أما أنتن فلا عقل ولا دين، فقامت أخرى، وقالت: كيف لا تلطفون بنا في محاضراتكم؟
وكانت هذه المرأة لما قامت كانت سمينة، وقامت من آخر الحفل، وقالت: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {رفقاً يا أنجشه بالقوارير}؟ فقال السباعي: نعم! يقول: رفقاً بالقوارير، ولم يقل: رفقاً بالبراميل.
نسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يرشدنا لما يحبه ويرضاه، وأن يتقبل أعمالنا، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يأخذ بأيدينا وأيديكم لما يحب ويرضى، وأن يلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا، وأن يتولانا في الدارين، وأن يفقهنا في دين وميراث محمد صلى الله عليه وسلم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(245/28)
كيف نستقبل رمضان؟
رمضان وما أدراك ما رمضان؟!
إنه شهر تغلق فيه أبواب النيران، وتفتح فيه أبواب الجنان، وهذا الشهر له فضائل ومزايا ومكانة في قلوب المسلمين الموحدين.
فيا ترى كيف يُسْتَقْبَل هذا الشهر الكريم؟!
أيُسْتَقْبَل بالسهر في معصية الله؟!
أيستقبل بالنوم والكسل؟!
بماذا يستقبل هذا الشهر؟!
وكيف كان حال النبي -صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح في رمضان؟
كل هذا ستعرفه في هذا الدرس إن شاء الله.(246/1)
مميزات رمضان
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، أتى بالإسلام، خير من صلى وصام، وطاف بالبيت الحرام، وبنى دولة الإسلام، وكسر دولة الأصنام.
عنوان هذه المحاضرة: كيف نستقبل شهر رمضان؟
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيباً زارنا في كل عام
قد لقيناك بحب مفعم كل حب في سوى المولى حرام
فاغفر اللهم ربي ذنبنا ثم زدنا من عطاياك الجسام
لا تعاقبنا فقد عاقبنا قلق أسهرنا جنح الظلام
ولهذه المحاضرة قطوف وشذور ولها عناصر:
1 - محاسبة النفس على عام انصرم، لا ندري ما الذي فعل به، إما حسنة سجلت في ميزان الحسنات، أو سيئة كتبت في ميزان السيئات.
2 - تذكر لقاء الله عز وجل، والإعداد لذاك اليوم العظيم الذي تتفطر له القلوب من رعبه وخوفه.
3 - اغتنام هذه النفحة الربانية، والعطية الإلهية، التي قد لا تعود على الإنسان مرة ثانية.
4 - الإكثار من الطاعات والمسارعة في الأعمال الصالحات.
5 - التخلي عن العادات الجاهلية والمخالفات الشرعية.
6 - جَدْوَل المسلم في شهر رمضان، كيف يقضي شهر رمضان؟
7 - شذرات وقطوف مع محمد عليه الصلاة والسلام في بستانه وروضه.
من زار بابك لم تبرح جوارحه تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر والسمع عن حسن
أيها المسلمون! أطل عليكم شهر مبارك، وهو فرصة ثمينة لا تقدر بالأموال، بشر به رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، وهتفت له قلوب الموحدين، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنان، وغلِّقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين}.
إذا جاء رمضان تهيأت جنة الرحمن للطائعين.
إذا جاء رمضان أغلقت أبواب النار ليتوب العصاة.
إذا جاء رمضان صفدت مردة الشياطين، فلا يغوون عباد الله.
فرمضان له مميزات عند المسلمين:(246/2)
نزول القرآن في رمضان
أولها: أن هذا القرآن العظيم الذي بأيدينا -وهو الوثيقة الربانية التي فضحت أدمغة البشر- نزل في رمضان، نزل مرة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في رمضان.
هذا القرآن الذي وقف أساطين الدنيا وهم يتحدثون عن معجزاته، فتاهوا ومزقوا وسحقوا.
الشيوعية المنهارة عمرها اثنتان وسبعون سنة، أما القرآن فعمره ما يقارب ألفاً وخمسمائة سنة، وهو يزداد نوراً ويزداد عمقاً وأصالة:
سمعتك يا قرآن والليل واجم سريت تهز الكون سبحان من أسرى
والقرآن أنزل في رمضان، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].(246/3)
رمضان شهر التقوى
الأمر الثاني: أن رمضان شهر للتقوى، فالنفس تذوب في رمضان وتكف جماح المعصية، وتلجم العين، وتنكسر الأذن، فلا تسمع الخنا، فالأعواد والموسيقى تسكت في رمضان ليتكلم القرآن، والبيوت تؤسس على نقاء في رمضان، والأكباد تجوع وتظمأ للسلسبيل الذي يشربه الصائمون إن شاء الله.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فالسر في رمضان أنه تقوى، وأنه يثمر الخشية في قلب المسلم، وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا معشر الشباب! -وإنما وجه الخطاب للشباب؛ لأنهم أهل الثوب القشيب وأهل القلوب الحية، وأهل الطاقة الكامنة التي إن وجهتها إلى الطاعة أفادت، وإلى المعصية عربدت- يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} ووجاء: أشبه بالخصاء، لأنه يذوب معه البطن والكبد فلا تبقى نوازع الشر؛ لأن نوازع الشر في الدم، والشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم، والدم إنما يغذى بالطعام والشراب، ولا يقلص الطعام والشراب إلا الصيام.(246/4)
رمضان شهر التوبة
أيها الإخوة! ومن مميزات رمضان أيضاً: أنه شهر للتوبة فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {رمضان إلى رمضان والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينها إذا اجتنبت الكبائر} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(246/5)
محاسبة النفس على عام مضى
العنصر الأول: محاسبة النفس على عام انصرم، فقد مضت سنة كاملة لا ندري ما عملنا بها، إنما علمها عند ربي في كتاب: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52] وهذا هو الخطاب العجيب! وهو الجواب الأريب الذي سُدد له موسى عليه السلام وهو يتكلم مع فرعون، ففرعون الطاغية المجرم يقول لموسى: ما بال القرون الأولى؟ ما لهم لا يتكلمون، ولا يتحدثون، ولم يخرجوا إلينا؟
فرد عليهم بجواب -يقول الزمخشري: لله دره من جواب- قال تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:51 - 52] لأن الشعور الإلحادي والمتزندق في الساحة ينظر إلى القبور فيجدها هامدة فيقول: لا بعث، فيقول:
أتيتُ القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر؟!
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
لكن -والله- ليبعثرن ما في القبور، وليحصلن ما في الصدور.
يقول الحسن البصري رحمه الله -والكلام إليه صحيح- لما قرأ قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1 - 2] قال معلقاً على النفس: "لا تجد المسلم إلا لوَّاماً لنفسه، يقول: ماذا فعلت بأكلتي؟ وماذا أردت بكلمتي؟ فهو يلوم نفسه دائماً.
أما الفاجر فيعربد ولا يلوي على شيء، غره منصبه ووظيفته وقصره وسيارته: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] وقال تعالى أيضاً: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] وهي حياة الإنسان يوم يبلغ مبلغ البهيمة، ويوم يسير في مسلاخ الدابة لا يرى نوراً ولا إيماناً ولا استقامة.(246/6)
النفوس في القرآن ثلاث
والنفوس في القرآن ثلاث:
1 - نفس أمارة: وهي نفس الجاهل المعربد الفاجر.
2 - نفس لوامة: وهي نفس المؤمن الذي يخطئ ويخلط عملاً صحيحاً وآخر فاسداً.
3 - ونفس مطمئنة: وهي نفس المؤمن الذي يبلغ درجة الإحسان ويطمئن إلى درجة البر: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
وآخر آية من القرآن -على القول الصحيح من أقوال أهل العلم- هي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] وتسمى آية المحاسبة، وآية التنقير؛ لأنها تلاحق العبد ليحاسب نفسه وينظر إلى مستقبله، وفي حديث حسن عند الترمذي عن شداد بن أوس رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني} وهذه الكلمة إنما تخرج من شفاه محمد صلى الله عليه وسلم.
والناس فريقان: قوم حاسبوا أنفسهم وتزينوا للعرض الأكبر فخفف عنهم الحساب، وقوم أقبلوا بالجرائم والفواحش فسوف يرون يوم العرض الأكبر، كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].(246/7)
ابن مسعود ومحاسبة النفس
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه -وكان من المحاسبين لنفسه كثيراً- قال: [[المؤمن يرى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يسقط عليه، والمنافق يرى ذنوبه كأنها ذباب وقع على أنفه فقال به: هكذا]] ابن مسعود هذا العلامة، داعية أهل العراق يروي عنه الإمام أحمد في كتاب الزهد: أن تلاميذه مشوا وراءه فالتفت وقال: [[عودوا، والله لو تعلمون ذنوبي وخطاياي لحثوتم على رأسي التراب]].
كيف به لو رآنا وذنوبنا وخطايانا؟!
كيف به لو عاش في عصرنا وحالنا ووضعنا! كيف به لو دخل بيوتنا ورأى -والعياذ بالله- البعد عن منهج الله عز وجل؟!
فبدل القرآن؛ المجلة الخليعة، وبدل التلاوة؛ نغمة فاجرة، وبدل السواك؛ سيجارة، وبدل الجلسة النبوية؛ جلسة مع البلوت إلا من رحم ربك.
فهذه فرصة لهذه البيوت والقلوب والأجيال أن تعي مدلول رمضان.
إن رمضان لا يقدر بالأثمان، إنه فرصتنا وذكرياتنا، انتصرنا في رمضان على الشيطان والطغيان وننتصر بإذن الله على النفس.
فـ بدر والفتح في رمضان، وقالوا: حطين وشقحب في رمضان.
فكانت غزواتنا دائماً في رمضان، ويسجل النصر بإذن الله للمسلمين، ولكن قبل أن يأتي رمضان، لا بد أن نقف وقفة جادة مع المحاسبة، وننظر ماذا فعلنا في هذه السجلات فإن الله عز وجل يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] وقد صح عن الفضيل بن عياض الذي وعظ الخلفاء فأبكاهم -عابد الحرمين- أنه قال: "والله إني أعرف من يُعَد كلامُه من الجمعة إلى الجمعة"، قال أهل العلم: "ربما يقصد نفسه"؛ لكنه كتم أنفاسه فما أخبر باسمه ورسمه وإلا فاسمه معروف في القلوب، هو الذي يعد كلماته، لأن الله يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].(246/8)
عمر بن الخطاب يحاسب نفسه
وفي الصحيح أن عمر لما فاوض الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديبية، وقال: -في كلام طويل-: {كيف نرضى الدنية في ديننا؟!} أخذ عمر هذا الموقف فما نسيه من نفسه؛ لأنه ما كان يليق به رضي الله عنه قال: [[فعملت لهذا الموقف أعمالاً]] أي: أعمالاً صالحة تكفر عنه تلك الخطايا التي هي بجانب حسناته إنما هي قطرات في بحر.
وعند ابن كثير في حديث أنس بسند صحيح: [[أن عمر وقف وراء حائط وأخذ يحاسب نفسه ويقول: والله يا عمر! إن لم تتق الله ليعذبنك الله]].(246/9)
من مواقف العلماء في المحاسبة
وذكر ابن الماجشون في ترجمة ابن المبارك عن الحسن بن عرفة من تلاميذ ابن المبارك بسند جيد قال: أتى ابن المبارك من خراسان إلى بغداد ومعه قلم استعاره من رجل في خراسان ونسي القلم على أذنه حتى دخل بغداد فرأى القلم وقال: سبحان الله! نرد القلم إلى صاحبه، ثم ركب بغلته أياماً حتى رد القلم إلى صاحبه.
إن من يبلغ هذه الشفافية والمحاسبة والدقة لجدير أن ينال رضوان الله ورحمته.
يقول بعضهم: "ما بال السلف يشكون الذنوب وما بال الخلف لا يشكونها".
قال أحد العلماء: "مثلنا كرجل له ثوب أبيض وأسود، فإذا لبس الأسود فما عليه ما تلطخ به، فتجده ينام في المزبلة ويخرج وثوبه كما كان، ومثل السلف كمثل رجل لبس ثوباً أبيض فهو يتأثر بأي شيء، ولذلك صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في دعاء الاستفتاح: {ونقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس} لأن الثوب الأبيض لا يقبل، وهذا هو مثل السلف.
جاء شيخ صوفي خرافي إلى ابن تيمية وقال: "يا بن تيمية كراماتنا تفسد عندك وتنجح عند التتار، فيعجب التتار من الكرامات التي نأتي بها وأنت إذا أتينا إليك أبطلت كراماتنا.
قال ابن تيمية: مثلك كفرس أبلق، والتتار كأن أفراسهم سود ونحن أفراسنا بيض، فالأبلق إذا دخل بين السود أصبح أبيض، وإذا دخل بين البيض أصبح أسود، فأنت إذا ذهبت إليهم أصبحت أبيض بما عندك من بقية إسلام؛ لأنهم معرضون، وإذا دخلت بيننا أصبحت أسود لما عندك من بدعة"، وهذا مثلنا وحالنا وقد خلطنا، لكن يقول الله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:102].
قال ابن عباس: [[(عسى) في القرآن للتحقيق]] فأسأل الله تعالى أن يحقق لنا ولكم التوبة، فوالله! إنا معترفون بالذنب والخطيئة، وإنا نعترف بالتقصير والندم يوم نقارن أعمالنا بأعمال الصحابة، يوم نقرأ تراجم السلف، من الصحابة والتابعين لا ننظر إلى واقعنا؛ لأن الجيل والشباب المستقيم يوم نظروا إلى واقعنا، رأوا واقعاً مزرياً فعدوا أنفسهم كأنهم من الصحابة، ولو نظروا للأخيار لنقص عندهم المقدار.(246/10)
تذكر لقاء الله
العنصر الثاني: تذكر لقاء الله عز وجل والإعداد لذاك اليوم العظيم، فلم يفطر قلوب الموحدين إلا لقاء الله، وكان عمر يقسم قسماً وقد صح عنه هذا: [[لولا القيامة لكنت غير ما ترون]] والله! ما رد كثيراً من الأقوياء من المسلمين عن بعض الأفعال إلا يوم القيامة.
ويوم القيامة كان في ذاكرة السلف الصالح كالصداع، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد} [الحشر:19]
المهدي الخليفة العباسي، وهو جيد بالنسبة للجرح والتعديل، فهو خير من أبيه في المعتقد، وكان مترفاً، قصور هائلة وأموال طائلة وكنوز وذهب وفضة، ولكن لما جاءه الموت ما أغنت عنه قصوره، نظم فيه أبو العتاهية قصيدة رائعة رائدة، وقد أتى الموت فافترس المهدي وسقاه كأس المنون.
وأتى الوزراء يحملون جثمانه، فقد أصبح جثة هامدة لا يسمع ولا يرى، يقودونه إلى حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، يقول أبو العتاهية وهو يشيع الجثمان:
نح على نفسك يا مسكـ ـين إن كنت تنوح
لتموتن وإن عمرت ما عمر نوح
ثم التفت إلى بنات المهدي ووجدهن يبكين -وقد كانوا في القصر- والدموع تسيل على الخدود قال:
رحن في الوشي وأصبحن عليهن المسوح
إلى إن قال:
كل بطَّاح من الناس له يوم بطوح
ستر الله بنا أن الخطايا لا تفوح
كل من يبطح الرجال يبطحه الله، كان هذا الخليفة يبطح الملوك، ولكنه أتاه بطاح الملوك، الذي بيده مقاليد السموات والأرض: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].
دس ملك الملوك في أنف فرعون الطين، وقتل النمرود ببعوضة، ودكدك سد مأرب بفأرة.
كان سحبان بن وائل يفتخر عند معاوية ويقول: نحن أهل اليمن ونحن كيت وكيت، فقام له رجل من المسلمين، وقال له: اسكت! دل عليكم هدهد، وهدم سدكم فأرة، ونغص عيشكم وزغة، فلماذا تفتخرون؟!
{وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73].(246/11)
من صور تذكر الآخرة عند السلف
دخل ابن السماك الواعظ على أبي جعفر المنصور، فأراد أبو جعفر المنصور أن يشكل عليه بمسألة، وكان على أبي جعفر مهابة، وهو الذي قتل أبا مسلم الخراساني، الذي قتل ألف ألف من المسلمين - (مليون) مسلم- فقتله أبو جعفر وافترسه.
وقتل أبو جعفر أيضاً: عبد الله بن علي، وقتل هرثمة، والوزراء، بدَّدهم وقطَّع رءوسهم، فدخل ابن السماك والمجلس قد اكتمل، فأتى ذباب من خلق الله فوقع على أنف أبي جعفر، ضاقت به الدنيا إلا على أنف أبي جعفر فرماه بيده فطار الذباب، ثم هبط بحفظ الله ورعايته على أنف أبي جعفر مرة أخرى فطيره وهشه، فرجع على أنفه، فطيره مرة ثالثة، وتكرر ذلك، حتى أنه غضب على الذباب وأراد أن يحكم عليه بالإعدام لكنه لا يستطيع أن يصيده ولا يستطيع أن يذبحه، قال: "يا بن السماك، لماذا خلق الله الذباب؟ " قال: "ليذل به أنوف الطغاة".
هذه محاضرة ابن السماك الشهيرة التي حُفِظَت له في التاريخ.
وأعود إلى المهدي بن أبي جعفر.
فهذا المهدي دخل مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام فلما رآه الناس مقبلاً قاموا جميعاً إلا ابن أبي ذئب المحدِّث فما قام، بل جلس في مجلسه، فقال الخليفة المهدي: "قام لي الناس إلا أنت يا بن أبي ذئب "، فقال: "أرت أن أقوم لك، فتذكرت قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] " قال: "اجلس والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت"، فذكَّره بذلك اليوم.
ومحمد بن واسع الأزدي المحدث الكبير يقولون له: "اتكئ على اليمين أو اليسار" قال: "لا، لا يتكئ إلا الآمن، وأنا ما جزت الصراط حتى أتكئ".
وقالوا عن حماد بن سلمة راوية مسلم الشهير: "ما تبسم"، والتبسم سنة، ولكن هكذا، قيل له: "ما لك؟ "، قال: "كلما أردت أن أتبسم تذكرت الميزان والصراط"، أو كما قالوا عنه، وهذه موجودة في ترجمته.
وعلى كل حال يجب الاستعداد للقاء الله، فوالله ما الاستعداد للقاء الله بكثرة الأموال، ولا الأولاد، ولا المناصب؛ لكنه بالعمل الصالح: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] وفي ترجمة سلمان الفارسي - سلمان الذي أتى بـ (لبيك اللهم لبيك) سلمان عصاه: لا إله إلا الله، وقعبه: التوكل، وفراشه: الزهد، ولحافه: آمنا بالله، وأما سجيته: فحسبنا الله ونعم الوكيل، بيته: المسجد، وإمامه: محمد صلى الله عليه وسلم، ومؤذنه: بلال.
وأبو جهل الطاغية أشرف نسباً من سلمان لكن إمامه: إبليس، ومؤذنه: فرعون، وبيته: الخمارة، وأستاذه: الصنم، ومصيره: إلى النار، قال لـ سلمان: من أبوك؟ قال:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
صلى سلمان إلى القبلة، فقال لسان الحال: سلمان منَّا آل البيت، وقدم روحه رخيصة في سبيل الله، دخلوا عليه في سكرات الموت فوجدوا عنده شملة وقعباً وعَصَاً، أين الدنيا -وأنت أمير العراق - قال: [[أوصانا صلى الله عليه وسلم أن يكون قوتنا من الدنيا قليلاً -أو كما قال- وأن أمامنا عقبةً كئوداً لا يجوزها إلا المخف، وقد أكثرت من الدنيا.
قالوا: غفر الله لك! وهل أكثرت من الدنيا؟! قال: نعم أكثرت.
]].(246/12)
أقسام المحاسبة
فهذه معلومات عن السلف الصالح يوم حاسبوا أنفسهم.
يقول بعض أهل الرقاق: المحاسبة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: حساب قبل العمل:
وهذا مثلٌ يذكره الغزالي وهي: أن توجه نيتك إلى العمل الذي تريد أن تفعله فتستخير الله فيه، وتسأل الله فيه القبول، وتطلب من الله أن يوفقك إليه، فهذه أول محاسبة.
وابن الجوزي كانوا يقولون عنه: "إذا أراد أن يعظ الناس مرَّغ وجهه في التراب وسأل الله أن يفتح له القلوب"، فمن الذي يفتح القلوب إلا الله؟ ومن الذي يفتح البصائر إلا الواحد الأحد؟
فـ ابن الجوزي كما في طبقات الحنابلة أخبروه أن الخليفة موجود في مجلس الوعظ، فمرغ وجهه في التراب، وقال: يا رب! أسألك التوفيق والفتح، ثم قال على المنبر:
ستنقلك المنايا من ديارك ويبدلك البلى داراً بدارك
ودود القبر في عينيك يرعى وترعى عين غيرك في ديارك
يقولون: فبكى الخليفة بكاءً عظيماً.
القسم الثاني: المحاسبة أثناء العمل:
والمحاسبة أثناء العمل بأن توقعه على شرطين:
1 - إخلاصٌ لله.
2 - واتباعٌ لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7] قال الفضيل: [[أصوبه وأخلصه: أن يكون خالصاً لوجه الله وعلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام]].
القسم الثالث: المحاسبة بعد العمل:
وهي أن تنظر لعملك وتستغفر الله مما شابه من رياء وسمعة، وأن تردد قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه} وقد ذكر وكيع في كتاب الزهد بسند صحيح أن ابن عمر كان يقرأ قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، وقال ابن عمر: [[يا ليت أن الله تقبل مني مثقال ذرة، فإن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]]].
فنسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح العمل، وأن يغفر لنا ولكم الخطايا والزلل.(246/13)
ضرورة اغتنام هذه النفحة الربانية
العنصر الثالث: اغتنام هذه النفحة الربانية والعطية الإلهية، في حديث صحيح عنه عليه الصلاة والسلام في المسند وغيره: {أنه قام على المنبر فقال: آمين} وكان منبره صلى الله عليه وسلم ثلاث درجات، وهو منبر الهداية ومنبر النور، وهو المنبر الذي أعتق الإنسانية من رق العبودية، وكان قبل هذا المنبر الخشبي أجدادنا عبدة طاغوت، ما كان عندهم إلا سيف عنترة، وصحفة حاتم، فهم ضائعون مردة.
والقوميون والوطنيون الآن يقولون: "نحن أهل تاريخ من قبل الإسلام، ما هو تاريخكم قبل الإسلام؟!
إنه وأد البنات، وعبادة الأصنام، والكفر بالله الواحد الأحد، والربا، والزنا، والغِش، والخيانة، بل يبدأ إسنادنا من منبر محمد صلى الله عليه وسلم، منذ أن وقف على الصفا وقال: {يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} أما قبله فلا شيء:
تاريخنا من رسول الله مبدؤه وما عداه فلا ذكر ولا شان
وهذا المنبر حنَّ لذكره صلى الله عليه وسلم لما عزله وأخذ منبراً آخر، فأخذ الجذع يبكي من الشوق واللوعة - والحديث عند البخاري - فنزل يسكِّنه ويسكِّته.
ونعود للحديث: {فارتقى عليه الصلاة والسلام المنبر، وقال: آمين، ثم قال: آمين، ثم قال: آمين} وفي رواية في غير المسند: {أنه ارتقى الدرجة الأولى فقال: آمين، ثم ارتقى الثانية وقال: آمين، ثم ارتقى الثالثة وقال: آمين} اللهم استجب.
وأحد الماجنين يقول:
يا رب لا تسلبني حبها أبداً ويرحم الله عبداً قال آمينا
{ثم قال: أتاني جبريل فقال لي: رَغِم أنفُ امرئٍ ذُكرتَ عنده ولم يصلِّ عليك - صلى الله عليه وسلم- قل: آمين، فقلتُ: آمين، ثم قال: رَغِم أنفُ امرئٍ أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل الجنة، قل: آمين، فقلتُ: آمين، ثم قال: رَغِم أنفُ امرئٍ أدركه رمضان ولم يُغفَر له، قل: آمين، فقلتُ: آمين}.
أيها الناس! رمضان فرصة لا تتكرر، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: {كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي} وما أحسن كلمة (لي)!
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
فنسبتنا نحن إلى الله، فنحن أمة ربانية تتصل بالله مباشرة، فيأتي البراء بن مالك في المعركة ويلتفت إلى السماء ويقول: [[يا رب! أقسم عليك أن تنصرنا هذا اليوم، وأن تجعلني أول شهيد]] فيُقتل وينتصر المسلمون.
فأي أمة كانت؟!
إنها أمة ربانية.
ومعنى ربانية أي: أنها متصلة بالله مباشرة في قضية السؤال والاستغاثة والطلب، وأما في قضية التبليغ فيبلغها رسولها عليه الصلاة والسلام.
{كل عمل ابن آدم له} لأن عمل ابن آدم: الصلاة، والزكاة، والحج، وغيرها يكتشفها الناس، فأنت تتوضأ أمام الناس، وتصلي مع الجماعة، وتزكي على مرأىً ومسمع من الناس، لكن الصيام من يدري عنك إذا تسترت بالحيطان، هل يكتشفك أحد وأنت بين الجدران؟ قد تشرب ماءً أو تأكل وجبةً، ولا يدري عنك إلا الله.
فالصيام سر بين العبد وربه: {كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، يدَع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي} من أجل الله الواحد الأحد: {للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه}.
وفي الحديث: {ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك} سبحانك اللهم! ما أجمل هذه العبارات! خلوف فم الصائم الذي يخرج من آثار الجوع أطيب عند الله من ريح المسك! وهذا تشريف للصائمين، ولا يناله إلا الصُّوَّام.
وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن في الجنة باباً يُدعى: الريان، يدخل منه الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلا يدخل أحد غيرهم} والريان للصائمين فقط يدخل منه من صام في الحياة الدنيا وجاع وظمئ لمرضاة الله تبارك وتعالى.
وقد سبق معنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الصحيح: {إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وأغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين -وفي رواية-: مردة الشياطين} أما الذي يصاحب العبد فهو معه، أما الشيطان المارد الغاوي فيصفد ويغل فلا يتحرك.
ولذلك تجد السيئات والجرائم تقل في رمضان، وتجد كثيراً من الناس أقبلوا زرافاتٍ ووحداناً إلى المساجد يحملون المصاحف، يبكون ويندمون ويحافظون على الجماعات، وهذا طيب جميل لو أنه يستمر، لكن بعضهم يخلع جلباب الحياء يوم العيد على المسجد ويقول: إلى لقاء آخر في رمضان آخر، وهو لم يفعل شيئاً، وقد أساء كل الإساءة.
فإن رب رمضان هو رب شعبان، ورب شعبان هو رب رمضان، والأيام أيام الله كلها، وهو الواحد الأحد الذي يعلم السر وأخفى.
فهذه النفحة الربانية التي في رمضان قد لا تتكرر، والعمر -يا أيها الإخوة- غال عند المؤمن، ولكنه رخيص عند الفاجر.
فهذا الفاجر المعرض عمر الخَيَّام شاعر الغزل والمجون، وليته غزل فحسب لكن مع إلحاد، يقول في قصيدة له تغنَّى وتنشر في أشرطة الكاسيت على أصحابها من الله ما يستحقونه:
لبستُ ثوبَ العمر لم أسْتَشَر وحُرْتُ فيه بين شتى الفكر
يقول: ما استشارني الله يوم خلقني، لا إله إلا الله! أيستشيرك يا حشرةً يا رِعديد؟! {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2].
إن الإنسان لا شيء قبل أن يخلق، وإنما هو مضغة أو قطعة لحم فإذا خلق لا يعلم شيئاً، ويسقط على الأرض قطعة لحم يحركها الله بالروح الذي ينفخها في هذا الإنسان، ثم يأتي هذا الإنسان يطلب من الله أن يشاوره قبل أن يخلقه ويفاوضه ويطلب منه: هل ينزل من بطن أمه أم لا؟
ولذلك أبو العتاهية يتكلم في هذه القضايا يقول: الطفل ينزل باكياً من بطن أمه؟ لأنه جاء في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام: {ما من مولود إلا ونزغه الشيطان إلا مريم وابنها عليه السلام} فأول ما ينزل الطفل يبكي، هل سمعتم طفلاً يضحك، حتى طفل الأنبوب ما سمعنا ذلك، حتى الطفل الذي نشر في فنزويلاَّ أنه يتبسم كان خرافة، بل أول ما ينزل الطفل يبكي:
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
فهل تعلم ماذا يفعل -عليه الصلاة والسلام- بالطفل؟ أول ما يفعل به -صلى الله عليه وسلم- أنه يأتي إليه ويؤذن في أذنه، لا موسيقى أو صياح الهلوسة أو فلسفة المجانين والمعرضين عن الله، بل يقول في أذنه: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، ثم يتلو عليه كلمات التوحيد فتدخل هذه الكلمات حية إلى القلب مباشرة فتتمكن في السويداء، وهو مولود على فطرة التوحيد، ويأتي الأذان ليزيد التوحيد توحيداً: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] لكن علماء النفس المهلوسون يقولون: "إذا ترجرج الطفل فأعطِه موسيقى فإنه يهدأ" هل نسمعه موسيقى يا أعداء الله؟! سوَّد الله وجوهكم!! إنهم يريدون موسيقى في بلاد الإسلام، أما نحن فعندنا: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2] وعندنا صحيح البخاري وصحيح مسلم.
ما افتُتِحت المستشفيات النفسية إلا بعد القرن السابع، في باريس وواشنطن، فلم يكن عندنا مستشفيات نفسية بل كان عندنا أوراد وأذكار وتسبيح وماء زمزم، وعندنا سجدات ودعاء، فندعو الله فيصلح -إن شاء الله- الحال؛ ولكن لما أتى ديكارت وكانت قالوا: "الموسيقى تهدئة"؛ وذلك لأنهم لا يعرفون معنى الحياة، ويتعاملون كالدواب؛ لأن الفِيَلة أصبحت في البرازيل ترقص على الموسيقى، والجِمال في السويد تلعب، فتجدها إذا سمعت العود تبدأ تراوح بين أرجلها لاعبة فأصبحوا مثلها.(246/14)
أهمية حفظ الوقت في رمضان
إن عمر الإنسان يحاسب عليه منذ عصر التكليف، وفي صحيح البخاري عنه عليه الصلاة والسلام قال: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ} لكن الغبن الآن عند الناس ليس في المال، فلو بحثت في شوارعهم ما وجدت ريالاً مرمياً، وأتحداك أن تمر الليلة لتجد ريالاً على رصيف أو عند باب بقالة أو نافذة، فالناس أحرص على المال من الدماء، لكن تعال إلى الأوقات، نتكلم في أربع ساعات من صلاة العصر إلى صلاة المغرب أو العشاء كلها شذر مذر، كلها شرب شاي وكلام فيما لا ينفع.
ابن تيمية ألَّف كتاب التدمرية من صلاة الظهر إلى صلاة العصر، لوى رجله وليس عنده مراجع، بل مراجعه في رأسه: {دعها فإن معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر} ثم سل قلمه.
وهل تظن أنه مثل تأليف بعض الناس؟! بل تأليف وعلم، فـ التدمرية قواعد، كتبها إلى صلاة العصر، ودرسناها في كلية أصول الدين، ورسب فيها ثلثَي الطلاب، فهذا وقت السلف الصالح.
وابن عقيل كان يأكل الكعك ولا يأكل الخبز، قالوا: "مالك؟ " قال: "حسبت ما بين المسافتين وجدت ما بين أكل الكعك وأكل الخبز قراءة خمسين آية، لكن بعض الناس في هذه المسافة يردد ثلاث أغانٍِ من حفظه، أطفالنا في السابعة يحفظون عشرين أغنية ويعرف المغني وأغنيته، ويعرف الدبلجة في الغناء والفن والموسيقى وهذه الأمور، ولكنا سوف نعود -إن شاء الله- يوم أن نعرف مستقبلنا مع الله، وسوف ننتهي من هذا الدجل والخرافة.
فالشيوعيون الآن يعودون إلى الله، فكيف بالمسلم الذي نشأ في البلاد الإسلامية، وشرب ماء الإسلام.
وأقصد بهذا أن فرصة رمضان لا تتكرر أبداً، وعند الترمذي بسند حسن قوله صلى الله عليه وسلم: {اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك} فالشباب فرصة لا تتعوض، فتجد الشاب يلهو ويلعب ويشرد عن الله، فإذا أصبح في المستشفى ذكر الله، تكسرت ظهور بعض الشباب في حوادث، ودخلت مع بعض الإخوة إليهم ووجدناهم قد عادوا إلى الله، لكن متى؟ لو عادوا وقت الصحة لكان ذلك أفضل، فقد أصبحوا يصلون وهم مكتفو الأيدي، وهم على ظهورهم، فلو صلوا وهم قيام لكان أحسن، ويبكون على تلك الساعات الغالية، التي صرفت في اللهو والعبث، فأحفاد سلمان ومعاذ وطارق وصلاح الدين أصبحوا في الملاهي.
هل كان في معجم المسلمين ملاهي من صلاة العشاء إلى السحر؟ فأي أمة تقدم؟ وماذا يراد من هذه الأمة أن تفعل مع التاريخ؟
قال: {وغناك قبل فقرك} الأموال الطائلة التي تذهب في البنوك الربوية، في المعصية والفاحشة والرحلات الأجنبية التي تخزي أصحابها، فيصرف هذا المال إلى الخير.
{وصحتك قبل سقمك، وحياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك}.
وأقول: إن رمضان فرصة لا تتكرر، فابدأ برمضان لتجعله موسماً للعبادة، علَّ الله أن يتقبل منا ومنكم.(246/15)
الإكثار من الطاعات
العنصر الرابع: الإكثار من الطاعات والمسارعة في الأعمال الصالحات.(246/16)
تلاوة القرآن
وأعظم طاعة -يا أيها الإخوة- بعد الفرائض هي: تلاوة القرآن، قلت وأسلفت: القرآن يحب رمضان وهو شهر القرآن.
كان الإمام مالك إذا دخل رمضان أغلق على كتبه وأتى بالقرآن ففتحه.
وكان السلف يجلسون في المسجد بعد الصلوات يقرءون في كتاب الله حال مرتحل، كلما انتهى من سورة الناس عاد من أول القرآن:
سمعتك يا قرآن والليل واجم سريت تهز الكون سبحان من أسرى
فتحنا بك الدنيا فأشرق نورها وسرنا على الأكوان نملؤها أجرا
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وقال تعالى: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29].
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {كان رسول الله أجود الناس -هذا موجز والتفصيل سوف يأتي- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان} فهي أمة عربية تفهم، أمة عاشت القرآن، ومزقت بين يدي القرآن لترفع القرآن، لكننا لَمَّا بعُد بنا الحال أصبحنا نقرأ القرآن فلا نعي كثيراً منه، وكان الأعرابي يهتز من سماع القرآن.
فهذا جبير بن مطعم القرشي أقسم باللات والعزى أنه لا يدخل في الإسلام، وحاول المسلمون معه ودعوه، فأقسم وصمم ألاَّ يدخل في الدين، لكن هذا القرآن أقوى من كل شيء، فهو يخترق الصوت والزجاج، يدخل القلوب التي هي أقسى من الحديد، قام عليه الصلاة والسلام يقرأ: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1 - 2] وجبير بن مطعم خارج المسجد فسار الصوت حتى دخل أذنه وقلبه، والقرآن لا يمانع، من يستطيع منكم وهو يعي هذا القرآن أن يقول: هذا كلام بشر؟ فسمع قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {* * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور:36 - 38] من يقول: إنه قول بشر؟ أتى يشق الصفوف حتى أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان} فلن تجد أجود من محمد عليه الصلاة والسلام، وما كعب بن مامة وأجواد العرب عنده.
خذ ما رأيت ودع شيئاً سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
والله لا يبلغون عشر معشار جوده صلى الله عليه وسلم: {وكان أجود ما يكون حين يلقاه جبريل في رمضان ويدارسه القرآن} وهذه عبارة لا بد أن نتأملها وأن نتأنق في معناها، كيف يدارسه؟ يجلس جبريل هنا ومحمد هنا عليهم السلام، فيدرس هذا على هذا وهذا على هذا: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة}.
وقد ذكر ابن حجر في ترجمة الشافعي أنه كان يختم القرآن في رمضان ستين مرة، وهذا سنده جيد إلى الشافعي، ولا يستغربن منكم مستغرب، يقول: يختمه في الليل مرة وفي النهار مرة، وهل هذا هو السنة؟ أنا لا أقول بذلك، لكن أورده إلى الإمام الشافعي من باب شحذ الهمم، وليست المسألة بالكثرة، بل المسألة بالتدبر والتمعن.
فهذا القرآن موسمه هذا الشهر، لمن أحب أن يتزود من تلاوته، يقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} وفي ترجمة عبد الله بن عمرو الأنصاري -وهو غير عبد الله بن عمرو بن العاص - أنه لما دفنه صلى الله عليه وسلم، وقف على قبره وقال: {رحمك الله! لقد كنت تَلاَّء لكتاب الله} ووقف على ذي البجادين فذكره بذلك عليه الصلاة والسلام.(246/17)
المحافظة على صلاة الجماعة
ومن عبادة رمضان وهي أروع من عبادة التلاوة: المحافظة على صلاة الجماعة، وبعض الناس يركز على النوافل لكنه يهمل الفرائض، والعبادة -يا إخوتي- الصلاة جماعة، قال ابن المسيب: [[من صلى في جماعة فقد ملأ البر والبحر من البر]].
إن مصداقية المؤمن تظهر في صلاة الجماعة.
فإذا أردت أن تعرف المؤمن من المنافق فانظر إليه في صلاة الجماعة.(246/18)
ذكر الله
ومنها -يا أيها الإخوة- الذكر والتسبيح، فإن القلوب تمرض وتقسو وتصبح بعيده حتى يذوبها ذكر الله، فإذا مرضت فلا علاج لها إلا ذكر الله ولا يصرف العلاج إلا محمد صلى الله عليه وسلم.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
{أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
فيا أهل الزجل المحبب إلى الملك! عليكم بذكر الله عز وجل، ويا أهل الكلمات النافعة الطيبة والألسنة الفصيحة! استغلوا هذا الشهر وغيره في ذكر الواحد الأحد، وفي أوراد هائلة وتسبيحات ترتفع إلى السماء: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10].
كان أبو مسلم الخولاني لا يفتر لسانه من ذكر الله، قال له أحد السلف: "أمجنون أنت؟ " قال: "لماذا؟ " قال: "نراك تتمتم بلسانك بشيء ما ندري ماذا تقول"، قال: "عندي دواء المجانين"، فهو ليس مجنوناً، لكن عنده دواء المجانين، الذي يعالج به المجنون فيشفى بإذن الله.
ولما تركنا تمتمة الألسن وتحريك الشفتين أصبح قطاع هائل من الناس يصابون بالصرع، حتى تجد المشايخ يبركون على الصدور ويقرءون آية الكرسي، وهذا وارد، وقد فعله صلى الله عليه وسلم.
وأقصد لماذا لا نتعالج قبل أن نقع في مثل هذا؟ لماذا قبل أن يُبرك على صدر الإنسان ويلطم على وجهه ويقال له: اخرجي يا عدوة الله وتكلمي، فإذا هي تخرج عليه وهي تتكلم بالإنجليزي -فلبينية- فعلينا أن نذكر الله بالأوراد وبالسور، ونذكره بالأحاديث قبل أن نمرض، أما نتحرى إذا مرضنا ونقول: دواؤه الرُّقْيَة، فلا.
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه
ويحق للمصاريع أن يركبهم الجن الفلبينيين، لأنهم أصبحوا في البيت والسيارة وفي الدكان والخياطة وفي السوق فلا تجد موضع قدم إلا وفيه فلبيني، ونحن لا نستزري بأحد من الناس، لكن متى كانت العمالة الأجنبية الكافرة هي غذاء الجيل؟! ومتى كان الكافر صاحب المسلم؟! فأصبح الطفل ينشأ ويرى السائق والخادم والسائقة والخادمة والخياط كلهم من جنس آخر، فيركبه الجن نعوذ بالله من الجن ونسأل الله أن يثبتنا.
لكن أهل آية الكرسي لا تركبهم الجن، فهي تحرق الجن إحراقاً، حتى الشيطان يوصي بها، فعميد وأستاذ الشياطين أوصى أبا هريرة بذلك- والحديث في الصحيحين - عندما أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم كمية كبيرة من التمر ليحفظها، فأتى الشيطان إلى أبي هريرة في صورة شيخ، وأخذ من التمر، فأمسكه أبو هريرة وقال: {لأرفعنك، فقال: اعف عني فإن لي عيالاً، فعفا أبو هريرة عنه، وفي الليلة الثانية جاء فأخذ من التمر، فأراد أن يرفعه، فقال: اعف عني، وأتى في الثالثة، فصمم أن يرفعه، وقال: اعف عني، وإني أخبرك بشيء إذا قلتَه لا يزال عليك من الله حافظ، قال: وما هو؟ قال: آية الكرسي، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أبو هريرة بما حدث، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أتدري من تحدث يا أبا هريرة منذ ثلاث؟ قال: من؟ قال: إنه الشيطان، صدقك وهو كذوب} قال: صدقك هذه المرة، وهو كذاب في كل مرة، فما دام أنه جاء بها الشيطان، فهو أعرف بما يشينهم ويحرقهم.
قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً} [آل عمران:191] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] ويقول جل اسمه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41 - 42] والذكر الكثير: أن تذكر الله قائماً وجالساً وعلى جنبك، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من ذكر الله بالأذكار الشرعية المأثورة فهو من الذاكرين الله كثيراً"، وقد ذكر ذلك في المجلد العاشر في وصية لـ أبي القاسم المغربي.(246/19)
الإنفاق في سبيل الله
أيها الإخوة الكرام! ومن الطاعات العظيمة في رمضان التي يفعلها أهل رءوس الأموال والتجار وهي مواسمهم، يوم يكونون تجاراً مؤمنين مسلمين؛ الإنفاق، وإطعام الجائعين، وتقديم الصدقات؛ لأنا رأينا الكفرة النصارى والشيوعيين ينفقون أكثر -أحياناً- مما ينفق المسلمون، لكن الآن موسمكم يا أهل رءوس الأموال! الآن تفطير الصائم، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من فطر صائماً فله مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيء} أي: من أجر الصائم، مذقة لبن، أو شيء من تمر، أو قطعة خبز، يتوهم الذي يصف الأشكال والأنواع والحلو والحامض والبارد من الأطعمة أنه لا يوجد في الناس فقير.
امرأة الملك الإنجليزي، عندنا تظاهر الإنجليز في لندن يريدون الخبز، وقد ماتوا من فقد الخبز، فأخذوا يكسرون زجاج القصر، خرجت من الشرفة وقالت: "لماذا لا يأكلون كعكاً أو بسكويتاً؟ لو وجدوا كعكاً وبسكويتاً لكان الخبز متوفراً، فالناس فقراء، ونعرف أن في الناس من لا يجد إفطاراً، وهذا أمر معلوم لمن كان متصدراً لأمور الناس أو إمام مسجد أو مؤذناً أو نحو ذلك من الأمور التي تناسب العامة أو تتداخل مع العامة.
فالآن أتى موسم الصدقات والعطيات، فليفعلوا كما فعل محمد صلى الله عليه وسلم، حيث كان أجود بالخير من الريح المرسلة.
يقولون: إن ابن المبارك كان يعرض سفرته من كل ما لذ وطاب ويفطر الناس ويباشر عليهم - ابن المبارك علاَّمة المسلمين، أمير المؤمنين في الحديث، وصاحب الكتب المؤلفة التي كأنها الديباج، المجاهد إذا طلبت الجهاد، والزاهد إذا بحثت عن الزهاد، والعابد إذا فتشت في صفوف العبَّاد- كان يفطِّر الناس ويباشر عليهم بالإفطار، لماذا؟! {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان:8 - 11].
ابن هبيرة الوزير الحنبلي، حج فكان يصوم في السفر، كان يطعم الناس الفالوذج رضي الله عنه وأرضاه، ولما قحط الناس في مِنَى أو عرفة واشتد الحر بالناس وانتهى الماء رفع يديه وبكى فنزل الغيث، قال: "يا ليتني أني سألت الله المغفرة! " فرحم الله الوزير العادل ابن هبيرة وابن تيمية عندما يذكره يسميه: الوزير العادل، والإمام العلامة الحنبلي، فهذا هو ابن هبيرة الحنبلي، غفر الله لنا وله.(246/20)
صلاة التراويح
ومن عبادات رمضان: قيام الليل، ومن أعظمها: صلاة التراويح، ذاك التضامن العالمي الهائل، يوم نجتمع صفوفاً وراء إمام واحد، يوم نتعلم الأدب والنظام، يوم نسكت لكلام الله -سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- وهو يتلى علينا في هذه الوثيقة الربانية، يوم طأطأنا رءوسنا لنسمع كلام الحق لا كلام غيره، كما تعرفون في ميدان العدل بل ميدان الظلم في موسكو يقولون: كان قبل جرباتشوف إذا قرئت وثيقة لينين نكس الزعماء الروس في الكرملن رءوسهم حتى تنتهي الوثيقة ثم يخنسون كأنهم الضفادع -عليهم لعنة الله- لكن لما جاء هذا صاحب الانفتاح سحقها بجزمته: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38].
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب
ونحن نقف خاشعين إذا سمعنا كلام الواحد الأحد، كما يقول سيد قطب عمر الله حياته في الجنة: "نحن أعلى الناس سنداً لأن الله يقول: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] ".
فسندنا يأتي من جبريل إلى رب السماوات والأرض، أما سندهم فمن استالين إلى لينين إلى الشيطان إلى النار والعياذ بالله.
فنحن نقف خاشعين لنسمع التلاوة في قيام رمضان، وليس قيام رمضان معناه عادة يتخذها الناس ولا تهيئات وأشواق تبث في الهواء فقط، وليست مسارح يبري الإنسان موهبته في التلاوة أو الدعاء أو يحفظ قصصاً عجيبة في الدعاء حتى إن بعضهم يجيد في الدعاء أكثر من القرآن، لكن إذا أتى الدعاء بكوا بكاءً عظيماً لأنه يحكي ملاحم مثل خطب ابن نَباتَة كأنه من كتاب بدائع الزهور في وقائع الدهور، فيقفي بالراء فيقول: اللهم يا عالم ما في الصدور، ويا غافر الذنوب ويا كاسر الظهور، ويبدأ في الراء نصف ساعة، ثم يأتي بالدال ثم بالحاء، فيذهب الخشوع ولو بكت العيون.
والسلف كانوا على السجية، ولم يكونوا يتكلفون -وهذا استطراد- وقد نبه عليه بعض العلماء -أثابهم الله- لنحيا مع القرآن، وقبل عامين اهتز الحرم هزة هي خير من ألف محاضرة، إمام وقف يقرأ في سورة محمد فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد:19] فرفع صوته: فاهتز الحرم بالبكاء.
فعِش مع القرآن خاصة إذا كان المقرئ صاحب نسك وعنده صوت جميل، فإنه التوفيق إذا حضرت القلوب الواعية.
أيها الإخوة! يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} كيف إيماناً واحتساباً؟ أي: يكون مؤمناً لا يكون منافقاً ولا يكون كافراً، واحتساباً: يطلب الأجر من الله، لا رياء ولا سمعة، فبعضهم قد يأتي مجاملة في صلاة التراويح، يجامل الجيران أو الخلان أو الإخوان، فليس له إلا الخسارة والندم يوم العرض الأكبر.
وفي حديث صحيح عن أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له أجر تلك الليلة} فتبقى مع الإمام حتى ينصرف من صلاة التراويح يكتب لك أجر تلك الليلة.
يا إخوتي في الله! وفي السحر ركعتان جميلتان أو أربع أو أكثر.
يا إخوتي في الله! إنه وجد من الجيل من تسيب في رمضان وجعلوها لعب كرة وسوف أبين هذا في النقاط الآتية.(246/21)
التخلي عن العادات الجاهلية والمخالفات الشرعية
فلا بد من التخلي عن العادات الجاهلية والمخالفات الشرعية، فبعض الناس تربى على عادات جاهلية حتى جعلها سنة وجعلها لوازم وكأنها فرائض، فلا يمكن أن ينتهي عنها ولا يتوب منها.(246/22)
الإسراف في إعداد الطعام
ومن هذه العادات:
الإسراف في إعداد الطعام، تعال وابحث في البيوت لترى، من صلاة الظهر يبدأ أهل البيت يصنعون الطعام، فيبدأ في المطبخ حريق، ولم يبق إلا أن يستدعى الدفاع المدني، فهذا قدر يفور، وهذا صحن يصيح، وهذا براد يولول، وأصبح البيت في همهمة! لماذا؟ قالوا: البطون جاعت، والإنسان إذا نزل في النهار ودخل السوق المركزي ظن أنه سوف يأكل ما في السوق، فعبأ الأكياس والأخراج وحمل في الأدراج ما الله به عليم، يصرف للأسرة الواحدة ما يكفي أسراً، وفي المسلمين ثلاثة عشر مليوناً مهددون بالمجاعة، ففي أفغانستان لا يجدون كسرة الخبز، وهؤلاء المجاهدون أهل الثياب المتمزقة، وأهل العزة الإيمانية الذين أرغموا وجه الكافر في التراب وردوه خاسئاً، وهم أهل الأذان في هيئة الأمم.
واسمحوا لي أن أخرج قليلاً ثم أعود.
كيف أذنوا في هيئة الأمم؟
حدثنا يوسف الحمدان بسند جيد "أن كثيراً من قادة المجاهدين حدثوه أن وفدهم لما ذهب إلى نيويورك مقر هيئة الأمم المتحدة، وقد دخل وفد المجاهدين أول مرة ليحضروا الهيئة العمومية لـ هيئة الأمم، فلما وفد المجاهدون المصلون المتوضئون في وفد هيئة الظلم والعمالة والخيانة، وأكل حقوق الإنسان وإرعاب الإنسان؛ وقف المجاهدون لما أتت صلاة الظهر وأوقفوا المؤتمرين وأطلق الأذان"، وقالوا: "خرج وفد إسرائيل إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، ووفد آخر لا ندري من هو، وصلى المجاهدون والقادة.
أذَّن هناك ليعلن أن المكان هناك لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن الكافر دخيل وعميل، فأسمع تلك الهيئة الكافرة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
كنا نقدم للسيوف رءوسنا لم نخش يوماً غاشماً جبارا
وكأن لسان حال هؤلاء يقول: جرباتشوف طاردناك بالكلاشنكوف في أفغانستان، وطاردناك في هيئة الأمم بالأذان.
وهذه فقط رحلة على شاطئ، وأعود بكم إلى الموضوع.
قال رحمه الله: ومن الناس من يسرف في إعداد الطعام إسرافاً عظيماً فتجدهم لا يرضون إلا أن يملئوا النفايات بالطعام والشراب، فأين الأُسَر الجائعة؟! وأين الاقتصاد؟!
يقول أهل الطب: "مَن أكثر من الأنواع أُصيب بالأوجاع".
فالذي يأكل عشرين صنفاً أكثر مرضاً ممن يأكل صنفين، والسلف لم يكن عندهم مستشفيات لكن نحن في كل حارة مستشفى، وقسم الباطنية سبع غرف، حتى لا تجد في بعض المستشفيات قسم حنجرة، ولا عظام، بل كلها باطنية، الغرفة الأولى باطنية والثانية والثالثة والرابعة، وكلها مليئة ما شاء الله! وقسم الحنجرة لا تجد فيه أحداً، دكتور الحنجرة مسكين ينتظر كأنه حارس مرمَى، بينما صاحب الباطنية عرقه يتصبب في الأرض، في كل وقت يدخلون عليه رجلاً منتفخ البطن، مات شهيداً، مالَه رحمه الله؟ قالوا: أكل عصيدة في الظهر حارة، فلما وقعت في بطنه أصيب بإغماء، فما ندري هل قتل شهيداً أم قتل على خاتمة طيبة؟ فيشقوا بطنه فيموت، تغمده الله بواسع رحمته.
يا مسلمون! قسم الباطنية مزدحم من كثرة ما أكلنا وشربنا، ما تركنا جديداً ولا قديماً ولا حديثاً إلا أكلناه، وأحياناً يدعى الإنسان إلى مأدُبة وما معه إلا أربعة وإنها لتكفي ثلاثين أو أربعين، فإلى متى هذه الطاقات هدراً وإسرافاً؟! إن الله لا يحب المسرفين، قال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:27].
يقال: أحد الأَكَلة -ممن يأكل كثيراً- حضر إلى مأدبة فوجد الناس يأكلون، والطعام حار فرفع يده، فما وقفوا، فأخذ يبكي قالوا: "ما لك تبكي؟ " قال: "أكلتم عليَّ الطعام" قالوا: "كُل معنا" قال: "حار" وهذا البكاء لا يؤجر عليه لأنه ليس في عبادة.(246/23)
الإسراف في النوم
ويقع الإسراف -يا أيها الإخوة- في النوم، فبعضهم يصوم وهو في الحلم، هل تدري كيف يعمل؟
بعض الشباب سل بهم خبيراًَ: يصلي الفجر ثم ينام إلى الظهر، ثم يواصل النوم على بركة من الله إلى صلاة العصر، ثم ينام من العصر إلى الغروب، فتوقظه أمه ليفطر فما أحس جوعاً ولا ظمأ ولا عاش عبادة ولا قرآناً ولا نوافل ولا تسبيحاً، يأكل التمر متناولاً كأنه أتى من القرون التي قبل الإسلام، لا حلاوةً، ولا رقةً، ولا شعوراً، ولا خلوداً، ولا طعماً لأسرار الصيام.
إن أسرار الصيام معناها: أن تشعر بالجوع؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] وأنا لا أقول: لا تنام؛ لكن لماذا يُعْكس البرنامج في النهار، فيصبح نوماً كله والليل سهراً، ونعود إلى عمر الخيام -عليه من الله ما يستحقه- حيث يقول:
فما أطال النوم عمراً وما قصر في الأعمار طول السهر
وهذا البيت يُنْشَد، وكثير من الشباب على الرصيف يصفقون لهذا البيت، وما يعلمون أن هذا البيت فيه كفر، وما قاله إلا زنديق، يقول: نم أو قم في الليل فإنه ليس وراءك إلا نوم في القبر لا بعث بعده -عليه من الله ما يستحقه- ولذلك يقول بعضهم الآن في بعض الصحافة: انتقل إلى مثواه الأخير، وليس المثوى الأخير هو القبر -كما يقول القنوي وهو ممن اتهم بالزندقة وبالتصوف- إنما المثوى الأخير: إما إلى جنة وإما إلى نار: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] وقال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].
يقول الغزالي: "من عمره ستون سنة ينام منها عشرين سنة، والتفصيل في ذلك أنك تنام في الأربع والعشرين الساعة ثمان ساعات، فإذا نمت ثمان ساعات في كل أربع وعشرين ساعة فقد نمت في الستين سنة عشرين سنة، ثم صفي من غيرها للأكل وللشرب ولدورات المياه والاغتسال، فبعضهم إذا دخل دورة المياه مكث فيها ساعتين، وبعضهم إذا اغتسل يأخذ في الغسل ساعة ونصف؛ لأن الحياة معقدة، وإذا أكثر الجسم من الترفيه تعقدت الروح، تعقيد في اللباس وتعقيد في الغسل وتعقيد في الطعام؛ وهذه هي المضرة بعينها:
يا كثير الرقاد أكثرت نوماً إن بعد الحياة نوماً طويلاً
وبعد النوم يقظة إلى حساب ومعاد، ثم إلى جنة أو نار، وهذه هي وقت الصيحة التي يصيح بها الملك يوم يجمع الله الأولين والآخرين.(246/24)
اللعب واللهو
ومن الظواهر اللهو واللعب في رمضان عند كثير من الشباب، فالآن يعلن عن دورات الرياضة المكثفة إعلاناً واستعداداً لشهر رمضان، استعداد رياضة لشهر رمضان حتى يقضى في الدورات، وأصلاً ما كان هذا إلا صدَّاً عن العبادة التي يريدها الله عز وجل وأنا أعرف من الشباب من يترك صلاة التراويح لأجل الكرة إلى السحر.
وأنا أقول: الكرة ليست حراماً إذا أتت بضابطها الشرعي وأصلها الجائز في سنة محمد عليه الصلاة والسلام الموافقة للنصوص، ولكن أمة محمدية تلعب الكرة من العشاء إلى السحر، أمة تريد رضوان الله تبقى مع الكرة ومع الأهداف والمرمى والأشواط إلى السحر، شباب يراد منهم أن يكونوا حملة القرآن والرسالة والنصر لهذه الأمة ودعاة وعلماء يبقون أربع ساعات مع الغبار ومع الخسران والدمار والعار، فيأتي أحدهم يصلي الفجر وقلبه كالحجر من لعب الكرة، يقرأ الإمام والبعض منهم لا يدري في أي سورة، ملطخ بالتراب على وجهه وأذنيه ثم ينام نومة أهل الكهف إلى صلاة الظهر، فأين الإيمان؟! وهل هذه أسرار الصيام؟! وقد كان الصحابة كما قال ابن القيم:
في الليل رهبان وعند لقائهم لعدوهم من أشجع الفرسان
إي والله! في الليل رهبان، كانت مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام عاصمة الإسلام تتراد بصوت القرآن والتلاوة الحية، وكانت نسمات القرآن عابقة، وكان محمد عليه الصلاة والسلام يمر فيسمع دوي القرآن، واسألوا تفسير ابن أبي حاتم والعجوز تقرأ قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فيسمعها النبي صلى الله عليه وسلم ويبكي ويقول: {نعم أتاني، نعم أتاني} اسألوا صحيح البخاري فهذا أبو موسى يقرأ في البيت أو في المسجد وقد أوتي مزماراً من مزامير آل داوُد فيعيش معه محمد عليه الصلاة والسلام.
ولكن تعال اليوم واهبط إلى الأسواق واسمع ما يدار من نغمات، وموسيقى، وغناء ماجن، وتمثيليات فاسقة، يستحي الشيطان أن ينظر إليها، وكلمات بذيئة ربتها العلمنة، وفحش في القول والفعل، وخروج على مراسم الشريعة من بعض الناس، فمتى كانت المرأة المسلمة المتحجبة تجوب الأسواق؟! ومتى كانت تعرض نفسها على الخياط السيخي والزنديق؟!
إن هذا حصل يوم انطفأت معالم الرسالة، وأصبحت الأمة لاعبة، فأصبحت أمة بلوت وتريد النصر، لكن النصر على من؟! فإسرائيل أربعين سنة تهاجم العالم الإسلامي، وَعددنا مليار لكن مثل الخفافيش، والأصفار على اليسار:
عدد الحصى والرمل في تعدادهم فإذا حسبت وجدتهم أصفارا
وأخبر بذلك محمد عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {قالوا: أمِنْ قلة يا رسول الله؟ قال: بل أنتم كثير، لكنكم غثاء كغثاء السيل} فالشاب عمره ثلاث عشرة سنة ويحفظ ثلاث عشرة أغنية، ولكنه يخطئ في سورة المسد، يقدمونه يصلي بالناس فيقول: لا.
لا تحرجوني بدون إحراج، لكنه في الكرة وفي البلوت وفي حفظ الأغاني جيد.
وأسامة عمره ثلاث عشرة سنة، ويتولى جيشاً فيه عمر وعثمان وعلي، ثم يأتي على فرسه بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ليودعه أبو بكر وأبو بكر آخذ بلجام الفرس، والفرس كأنه طائرة، وأسامة كأنه أسد على الفرس، فأراد أسامة أن يهبط ليركب الخليفة، فقال أبو بكر: [[والله لا تنزل، ووالله لا أركب، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله؟]] فكأن أبا بكر ما اغبرَّت قدمه قبلها، والله إنها اغبرَّت قدمك منذ أسلمت، لكن نحن متى اغبرَّت أقدامنا؟ ولقد غبرنا أيادينا في الأرز والكبسات، يقول الأول:
سل الرماح العوالي عن معالينا واستشهد البِيْض هل خاب الرجا فينا
فقال الأخير:
سل الصحون التباسي عن معالينا واستشهد البَيْض هل خاب الرجا فينا
غفرانك يا رب! لكن هذه الطلعات والإشراقات، وهذه الصحوة المباركة هي من تلك السلالة العظيمة من سلالة أبي بكر ومن عرين عمر ومن مدرسة أسامة:
لكن أبشر هذا الكون أجمعه أنا صحونا وسرنا للعلا عجبا
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأُسْد تزأر في غاباتها غضبا
عافوا حياة الخنى والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنبا
فالذي يسجد هنا هو الذي انتصر على العمالة والعلمنة والحداثة، وانتصر على الإلحاد والشهوة، لأنك مهاجم من كل جهة، ولكن سجدتك هنا انتصار لك، ومن لا يسجد لله فإنه يسجد لجزمته ولطاغوته وشهوته، والله المستعان!(246/25)
برنامج الصائم في رمضان
العنصر السادس: برنامج الصائم في رمضان، وهذا البرنامج مجرد وجهة نظر واقتراح، ولكل أن يستحسن ما كان أقرب إلى الكتاب والسنة، وأن يستخير الله، لكنه مقترح، وهو خطوط عريضة أو مسارات واسعة يمكن للإنسان أن يختار منها ما يشاء.
أقول أيها الإخوة: مما يعلم أن هذا البرنامج يتفق مع أوقات الصلاة؛ لأن الله يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103].
أقول:
الأمر الأول: صلاة الفجر في جماعة:
أول ما يبدأ به العبد: صلاة الفجر في جماعة، قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه أدركه، ومن أدركه كبه على وجهه في النار}.
ويقول عليه الصلاة والسلام: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر} فهم لا يستطيعونها، فصلاة الفجر محك بين المؤمن والمنافق، فأول ما يبدأ به الصائم أن يصلي الفجر في جماعة.
الأمر الثاني: المكث في المسجد حتى طلوع الشمس، ثم الصلاة ركعتين:
وبعض العلماء -أثابهم الله- يصححون حديث: {من صلى الفجر في جماعة، ثم جلس في مجلسه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت كعدل حجة وعمرة تامة تامة تامة} والبعض يضعف هذا الحديث، ونرجو لمن يفعل ذلك الإثابة الوعدية، الموعودة من معلم الخير عليه الصلاة والسلام، وهو وقت يسير، وخاصة هذه الأيام، لكنه وقت نور ووقت غذاء للقلب ووقت فرح وسرور للخاطر، فتمكث في هذا الوقت العظيم الذي يزيدك من طاقات الإيمان ويغنيك عن كثير من التأليفات، وهذا الوقت أمره عجيب، ثم الصلاة ركعتين كما سلف.
الأمر الثالث: صلاة الضحى:
أقترح لإخوتي ما دعا إليه عليه الصلاة والسلام من ركعتي الضحى، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: {أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت: وذَكَر: ركعتي الضحى} أو أربع أو ست أو ثمان خاصة في رمضان، فهي أحسن ما يكون، وهي صلاة الأوابين، حين ترمض الفصال، فإذا ارتفعت الشمس في أعلى الضحى قم فتوضأ فهو وقت غفلة، الناس في متاجرهم وحراجهم وأسواقهم، وأنت تسبح الله.
الأمر الرابع: الراحة للنوم:
ومنها: الراحة للنوم؛ لأن كثيراً من الناس يسهر في الليل فيرتاح إلى العاشرة ثم يذهب إلى عمله أو وظيفته أو مدرسته.
الأمر الخامس: صلاة الظهر مع رواتبها:
ثم استقبل صلاة الظهر وصلِّ قبلها أربعاًَ وبعدها أربعاً، فقد صح عن عنبسة بن أبي سفيان أن أخته رملة - أم حبيبة - حدثته أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {من صلى أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها حرمه الله على النار.
وفي مسند أحمد: {أن عَنْبَسة هذا لما حضرته سكرات الموت كان أميراً، فبكى وتقلب على وجهه من البكاء، قالوا: ما لك؟ قال: حديث سمعته من أختي رملة ما عملت به، قالوا: ما هو؟ قال: من صلى أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها حرمه الله على النار} ثم صلاة الظهر، ثم صلاة أربع بعدها كما أسلفت.
الأمر السادس: القيلولة:
ثم القيلولة لمن استطاع أن يقيل.
الأمر السابع: صلاة العصر مع راتبتيها:
ثم يصلي أربعاً قبل صلاة العصر، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً}.
الأمر التاسع: قراءة القرآن، والدعاء:
وبعد صلاة العصر إلى صلاة المغرب هذا وقت القرآن، وهذا وقت الاتصال بالمصحف العظيم، ووقت الجلوس في الأدعية والأذكار، وأرى أن يخصص الوقت الأوفر لقراءة القرآن، ويبقى وقت بين المغرب وقراءة القرآن للذكر والدعاء.
الأمر العاشر: إيحاءات قبل صلاة المغرب:-
فإذا حل الإفطار كانت هناك إيحاءات ومشاعر فياضة، وأشواق، فمن الإيحاءات:
الأول: أن انصرام هذا اليوم يذكرك بانصرام العمر.
الثاني: أنه كما ذهب منك هذا اليوم فسوف يذهب عمرك من بين يديك.
الثالث: أن الناس في حياتهم وحسابهم كما هم عند إفطارهم، فمقبول منه مشكور سعيه، ومتبر سعيه باطل ما عمل.
الرابع: أنك تقدم يدك للإفطار وأنت جائع ظامئ الكبد، وتقول ما روي وما ذكر في السنة من الدعاء الذي ذكر: {ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله} وهو حديث في سنده كلام، وتدعو بما تيسر، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {للصائم دعوة لا ترد} وأحسن دعوات الصائم قبل أن يأكل شيئاً وقبل أن يشرب شيئاً؛ لأنه في حالة من الانكسار والعوز والذلة والخشوع والمسكنة، فيرفع كف الضراعة في صلاح نفسه، وقلبه وأسرته وأهله ومجتمعه، ثم يأكل ما تيسر من الرطب، وقد ورد في الحديث: {فإن لم يجد فتمر فإن لم يجد فماء} سبحان الله! أي سر في هذا الدين! ولماذا التمر؟!
لقد اختاره عليه الصلاة والسلام وهو طعام الحامل يوم تضع ولدها، فهو أحسن شيء، وهو ما فعله عليه الصلاة والسلام يوم حنك الأطفال، فأول ما يولدون، وقبل أن يشربوا لبناً أو يذوقوا شيئاً كان يحنكهم عليه الصلاة والسلام بالتمر فيتلمظونه.
وقد أتى أنس بأخيه من أم سليم وهو طفل صغير ما رضع، فحنكه عليه الصلاة والسلام بالتمر، فأخذ يتلمظ الطفل فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: {انظروا إلى حب الأنصار للتمر} فالتمر فيه سر عجيب، يقولون: البطن الخاوي أحسن ما يصادفه الحلو، فإن لم يجد فماء.
الأمر الحادي عشر: صلاة المغرب مع راتبته:
ثم يصلي المغرب مع راتبته.
الأمر الثاني عشر: العَشاء:
ثم يعود فيأخذ ما تيسر ولا يجحف إجحافاً عظيماً، فإن بعض الناس يأكل أكلاً ذريعاً، فيأتي إلى التراويح وكأنه مصاب ببنج، حتى أن بعضهم يصلي العشاء وبعض التراويح وهو جالس؛ لأن بينه وبين أضلعه مخلاة -الله أعلم بها- قد عبئت بأنواع الأطعمة والأشربة ومن السوبر ماركت مباشرة، فلا يستطيع أن يصلي، حتى يقال: إن بعضهم يشرب من هذه الشربة حتى لو غمز بمسمار في قدمه لخرجت الشربة من أذنه.
وعلى كل حال التخفيف وارد؛ ليستطيع أن يواصل الإنسان العبادة، ثم يكمل بعد العِشاء، ومن جرب عرف.
الأمر الثالث عشر: صلاة العِشاء وراتبتيها، والتراويح:
ثم يصلي مع المسلمين العِشاء وراتبتيها، وليحافظ على التراويح.
يا أيها الإخوة! التسيب في صلاة التراويح ليس بجيد، خاصة من طلبة العلم والأخيار، بل يقفون وراء الإمام حتى يقضي الصلاة ويكثرون من الدعاء والاستغفار؛ فإن دعاءهم مع المؤمنين أعظم من دعائهم وحدهم.
الأمر الرابع عشر: السمر مع الأهل وزيارة الأحبة:-
ثم يعودون للسمر مع الأهل أو زيارة الأحبة ولو ساعة أوساعتين.
الأمر الخامس عشر: النوم:-
ثم أحبذ أن ينام المسلم ولو ساعة في الليل، فنوم الليل لا يعوضه شيء، والله قد جعل الليل لباساً والنهار معاشاً، ولذلك أثبت الطب هذه الآيات البينات بل أتى بما يوافقها، ونحن نأخذ بالآيات ولو خالفها الطب، لكن قالوا: إن الخلايا لا تنام في الضوء، ولذلك إذا أرادوا أن ينوِّموا رجلاً في المستشفى أغلقوا النوافذ والنور، فجعل الله هذا الليل هدوءاً للجسم ليرتاح ويهدأ، فسبحان الله الحكيم بعباده! وسبحان الذي جعل النهار نشوراً!
الأمر السادس عشر: الصلاة والدعاء قبل الفجر:-
ثم يستيقظ قبل الفجر فيصلي ما تيسر: ركعتين، أو أربعاً، ويدعو ويستغفر.
الأمر السابع عشر: السحور:-
ثم يتسحر فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {تسحروا فإن في السحور بركة} فالسحور بركة، و: {فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر} ثم يَكُفُّ عن السحور قبل أذان الفجر ولو بمقدار خمسين آية؛ لحديث زيد بن ثابت في صحيح البخاري في ذلك.
الأمر الثامن عشر: الاستغفار والتهيؤ لصلاة الفجر:-
ويبدأ يستغفر ويتهيأ لصلاة الفجر.
فإذا فعل ذلك فإن حياته وصيامه مقبول بإذن الله.
فهذا برنامج مقترح وهو يقبل التعديل من أصحاب الخبرات وأهل التجارب.(246/26)
شذرات وقطوف
العنصر السابع: شذرات وقطوف.(246/27)
انتصار المسلمين في بدر
ففي رمضان انتصاراتنا -كما أسلفت- فيوم بدر وقع في السابع عشر من رمضان، يوم تجلى الله للصحابة وقال: {اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} يوم قدموا دماءهم رخيصةً في سبيل الله، يوم ركزوا علم الحق الذي بقي إلى الآن وسوف يبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يوم كتبوا لا إله إلا الله في الأرض، وكان ذلك في رمضان، يقول صلى الله عليه وسلم: {يا أهل بدر! والله ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء} فيأتي عمير بن الحمام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أفطر هو وأصحابه في ذلك اليوم، فيرمي بالتمرات ويقول: [[والله! إنها لحياة طويلة إذا بقيت حتى آكل هذه التمرات]] ثم يقاتل حتى يقتل فإلى رحمة الله.(246/28)
فتح مكة، وفتح القدس
وكان فتح مكة في رمضان، وأذان بلال يوم طلع من عند الحجر الأسود ليرتقي على الكعبة وليؤذن في الخالدين في رمضان.
وبلال أذن في الفتح مرتين:
المرة الأولى: في فتح مكة:-
يوم انتصر صلى الله عليه وسلم وأعلن كلمة التوحيد، فقال لـ بلال: أذِّن، واختار بلالاً بالذات؛ ليبين أن هذا المولى الذي أتى من أثيوبيا رفعه الإسلام فأصبح سيداً من السادات؛ وأن أبا جهل وأبا طالب والأصنام والأوثان أهل العروبة المزعومة والتراب السحيق قد ذهبوا إلى جهنم، فبدأ يطلق الصوت في الدنيا ليسمع الدنيا الأذان:
قم يا بلال أعد نشيدك في الورى للعالمين وسجل الإنذارا
ودع التماثيل التي قد صورت جذذاً ومزق عبدها الخوارا
فقام فأذن، فيقول صفوان بن أمية -وهو مشبوه الإسلام في تلك الفترة-: لطف الله بـ أمية مات قبل أن يسمع الغراب الأسود هذا على الحجر، وهو ليس بغراب أسود ولكنه منادي الأرض يستقبل نور السماء.
المرة الثانية: في فتح القدس:-
وأذن بلال مرة ثانية عندما دخل عمر بيت المقدس فاتحاً -كما يذكر بعض المؤرخين- يوم أخذ القدس السليبة، التي هي طعنة في قلب كل مسلم، والتي هي دمعة في عين كل مسلم.
القدس التي ضيعناها يوم ماتت في قلوبنا لا إله إلا الله.
أيا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمرُ
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصراتٌ وقُصَّرُ
وليمون يافا يابس في أصوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمرُ
خرج عمر رضي الله عنه وأرضاه ليأخذ مفاتيح بيت المقدس، فأخذ راحلة واحدة ومولاه، فقال: أنت تركب عقبة، وأنا أركب عقبة -أي: أنت مرة وأنا مرة- قال المولى: كيف وأنت أمير المؤمنين؟! قال: والله لتركبن وقتاً وأنا وقتاً، فإذا ركب المولى قاد عمر الجمل، وإذا نزل يقود ركب عمر، واقتربوا فقال عمرو بن العاص: خيبتنا يا أمير المؤمنين - عمرو بن العاص كان أمير إقليم - وقال له: أين الخدم؟ أين الحشم؟ أنت خليفة، والنصارى ينتظرونك؛ لأنه دوخ الدنيا، فالنصارى على أسطح المنازل.
وقد كان عمر يحكم من المحيط إلى الخليج بضعاً وعشرين دولة، فلما اقترب عمر من بيت المقدس أتت نوبة المولى ليركب، قال: يا أمير المؤمنين! وصلنا، فيقول عمر للمولى: أهي عقبتك أو عقبتي؟ قال: هي عقبتي، قال: والله لتركبن.
وأتى عمر يقود الجمل، والتفت النصارى وقالوا: من هذا؟ قالوا: الخليفة فبكوا.
فهذا منظر يبكي وهو منظر يقوي الإيمان في القلوب، وهو منظر أعظم من آلاف المحاضرات والكتابات والرسائل، فأخذ عمر يخوض في طين عند مدخل بيت المقدس يرفع ثيابه ويقود الجمل ثم دخل فصلى ركعتين، وقال: يا بلال! أذِّن، قال: يا أمير المؤمنين! ما أذنت لأحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: عزمت عليك أن تؤذن فقام فرفع الصوت بالأذان فبكى الناس.
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
فهذا أذان بلال.(246/29)
معركة شقحب
والمقصود أن انتصاراتنا في رمضان: فـ شقحب التي حضرها أبو العباس ابن تيمية، وخاض غمارها بسيفه المسلول، رفع القلم والمحبرة والكتب في المدرجة، وأتى بالسيف، فرفع الكوب أمام الناس، وقال: أفطروا، فشرب الناس وخرجوا على أعداء الله التتار، فأقبلت كتائب التتار مثل الجبال، فقالوا لـ ابن تيمية: "نخاف، قال: والله لننتصرن".
فهو موحد من الدرجة الأولى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174] فقالوا له: "قل: إن شاء الله" قال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، وقاتل حتى رُئِيَت الدماء على ثيابه، وتكسر سيفه في المعركة، فكان مجاهداً ومفتياً وخطيباً.
دخل ابن تيمية على قازان، فهزه بموعظة ما سمع الناس بمثلها، فأخذ هذا التتري الذي لا يعرف شيئاً، ولا يعرف قطرة من الإسلام، قال: "ادعُ لي يا بن تيمية إنك رجل صالح"، فقال الترجمان: "ادع له"، فالتفت ابن تيمية إلى القبلة وقال: "اللهم إن كان هذا العبد يريد صلاحاً للإسلام والمسلمين، فانصره وأيده، وإن كان يريد تدمير المسلمين فاجعل تدميره في تدبيره"، ويقول التتري: "آمين" يحسبه أنه دعاء للوالي آمين آمين حتى انتهى، ثم قام ابن تيمية.
وهذه كانت في رمضان.(246/30)
موقعة حطين
وقالوا عن حطين: إنها في رمضان، وهذه لما فتحت بيت المقدس من قِبَل صلاح الدين، وأوقع صلاح الدين بالنصارى موقعة في رمضان، وأفطر الناس يوم الجمعة، وترك الناس في المعركة حتى أصبح الخطباء على المنابر، ثم بدأ باسم الله يقتل أعداء الله، ولما فتح البيت أتاه رجل وقال:
تلك المكارم لا قعبان من لبن وهكذا السيف لا سيف ابن ذي يزن
وارتفع صوت الأذان، وما بقي مسلم في بيت المقدس إلا بكى، وبيت المقدس ينتظر أذاناً ثالثاً، نسأل الله أن نصلي في بيت المقدس نحن وإياكم، يوم نعود إلى الله.
أيها الإخوة هذه محاضرة: (كيف نستقبل شهر رمضان؟) والله الموفق.(246/31)
الأسئلة
.(246/32)
قيام ليلة القدر
السؤال
كيف يكون قيام ليلة القدر؟
الجواب
طلب عليه الصلاة والسلام تحري ليلة القدر في العشر الأواخر، وهي في الوتر منه، وفي ليلة سبع وعشرين آكد، وكاد صلى الله عليه وسلم أن يعلم الناس لكن اختلف رجلان، فقال: {رفعت، ولعله أن يكون خيراً فالتمسوها في السابعة والعشرين، في التاسعة والعشرين، في الخامسة والعشرين}.
فأقول: تُلْتَمس في العشر الأواخر، خاصة في الأوتار منها: ليلة الواحد والعشرين، أو الثالثة والعشرين، أو الخامسة والعشرين، أو السابعة والعشرين، أو التاسعة والعشرين، فالتمسوها بالذكر والدعاء والتلاوة، عل الله أن يوفقكم بها، وورد في الأحاديث أن في فجرها في اليوم التالي تكون الشمس صافية لا شعاع لها، وكثير من المحدثين صحح هذا الحديث.(246/33)
موعد إمساك الصائم
السؤال
متى يمسك الصائم؟ أفي أذان الفجر، أم بعده، أم قبله؟
الجواب
بل قبل أذان الفجر على الصحيح، فإذا أذن الفجر فمعناه: أنه علامة لطلوع الفجر، والله عز وجل قيد الأمر بطلوع الفجر فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} [البقرة:187] فقبل أن يؤذن بقليل يقوم، أما إذا رفع شيئاً في يده ثم أذن فعليه أن يأكله، وهذا موجود عند أبي داوُد والحاكم: {إذا رفع أحدكم الإناء وأصبح في يده فلا يضعه حتى يقضي نهمته} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(246/34)
حكم قضاء صلاة التراويح
السؤال
هل تقضى الركعات إذا فاتت في التراويح؟
الجواب
لك أن تتنفل مكانها، وليكن من باب قضاء النوافل.(246/35)
وصية لمن يعتمر في رمضان
السؤال
بماذا توصيني في عمرة رمضان؟
الجواب
صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {عمرة في رمضان كحجة معي} وهذا حديث صحيح، فأوصيك -يا أخي- أن تحرص على العمرة، خاصة في العشر الأواخر، إذا لم يكن عليك مضرة في أهلك أو عبادتك من زحام أو غيرها أو مشقة أو عدم خشوع أو فتنة نظر أو نحوها، فأرى أن تكثر من النوافل في الحرم، وأن تحضر صلاة التراويح والقيام في تلك البقعة الطاهرة المشرفة التي ما خلق الله أشرف منها.(246/36)
حكم صلاة التراويح مع أكثر من إمام
السؤال
هل يجوز أن نصلي صلاة التراويح مع أكثر من إمام؟
الجواب
إن كان قصدك صلاة التراويح في الليلة الواحدة، أي: تصلي هنا ثم مع إمام آخر ثم ثالث، فلا، بل صلِّ مع إمام واحد في الليلة.
وإن كان قصدك ليلة هنا وليلة هناك فلك أن تبحث عن إمام حسن الصوت تخشع معه، ولا أعلم في ذلك نهي، بل رأيت في ترجمة ميمون بن مهران أنه قال: كان السلف يحبون حسن الصوت، ويتتبعونه في المساجد؛ ولا أعلم في ذلك ما يمنع هذا.
هذا -أيها الإخوة- ما تيسر لي في هذه الليلة، وأسأل الله عز وجل التوفيق والهداية والسداد والرشد.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(246/37)
خطر ممنوع الاقتراب
إن هذا الدين دين شامل لكل جوانب الحياة، وقد حذرنا الله من مخالفة أحكام الدين ومخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحذرنا من التلاعب بالدين وأمرنا أن نوقر الدين ونأخذه بجميع أحكامه في كل أمورنا، وحذرنا من الشبه التي يبثها أعداء الدين ليفسدوا جمال الدين وأحكامه، ووعدنا بأننا إذا التزمنا الدين، وحكمناه في جميع مجالات حياتنا رزقنا الله النصر والأمان والاطمئنان.(247/1)
التحذير من التلاعب بالشريعة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره نستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد شكري للواحد الأحد الذي جمعني بكم أشكر مكتب التوعية بـ جدة، على تنظيمه لهذه المحاضرات واللقاءات والأنشطة، وقبل أن أبدأ في المحاضرة كما أعلن عن عنوانها: خطر ممنوع الاقتراب.
لا يتصور متصور أني أنذركم بحرب ضروس سوف تطحن المنطقة، فأنتم أهل الحروب وأنتم أهل بدر وأحد، وأهل حطين والقادسية، وأهل اليرموك وعين جالوت، وأهل أفغانستان، ثم إني أعلم أن سندكم الله تبارك وتعالى تتوكلون عليه، وتفوضون أمركم إليه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] فإذا توكل الفاني القصير الضعيف على الحي الذي لا يموت، فلماذا يخاف؟
أحد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في ابتهالات من الشعر يوم كان الشعر موحداً ومؤمناً، يوم كان ينطلق من المسجد يقول:
أيا رب لا تجعل وفاتي إن أتت على شرجع يعلى بخضر المطارف
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة يصابون في فج من الأرض خائف
إذا فارقوا أوطانهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف
ما معنى الكلام؟
يقول: يا رب! إذا حانت ساعة منيتي فأسألك ألا تقتلني على فراشي، بل ارزقني الشهادة في سبيلك، واجعلني أموت تحت صقع السيوف وضرب الرماح.
فهذه كانت نفسية المسلم يوم كان يحمل لا إله إلا الله، ويحمل حسبنا الله ونعم الوكيل، ويحمل إياك نعبد وإياك نستعين.
ثم يقول المسلم الأول:
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا صدود الخدود وازورار المناكب
صدود الخدود والقنا متشاجر ولا تبرح الأقدام عند التضارب
يقول: إذا أردنا أن نفر في المعركة صدت فقط خدودنا وبقينا ثابتين نطلب النصر من الله.(247/2)
تعددت الأسباب والموت واحد
ثم لا أخوفكم الموت وما يتكلم به المهرجون من تخويف البشر؛ فليس عندنا من ذلك شيء، والله يقول: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52] فلماذا الخوف؟
ولماذا الهلع؟
ولماذا الجبن؟
أما مات كثير من الناس حبطاً؟
أما مات كثير من الناس بجرعات من الخمر؟
أما تزلج بعضهم على الثلج فانكسر ظهره فمات؟
أما وجد أن بعضهم مات على بعض الجرائم؟
فقضية أن يموت المسلم على لا إله إلا الله ليس في ذلك من خطر، ولكن للمحاضرة معنىً آخر ومساراً آخر، وأعلم أن الذين أمامي هم أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وصلاح الدين وطارق بن زياد، وهؤلاء علَّموا الناس الموت، ولقنوا الناس دروس الهلاك، ووزعوا المنايا على النفوس التي لا تؤمن بالله، فما الخوف وما الجبن وما الرعب وما شبح الموت الذي نصب أمام الناس إلا شيء من أساطير الأولين وخرافات العاجزين الجبناء.
نعم: (خطر ممنوع الاقتراب) إنه إنذار لكل من تسول له نفسه أن يقترب، إنها كلمة يعتادها رجال المرور والمشاة، ولكنها بمعنىً إسلامي خالد يعتادها المؤمنون بالله عز وجل ألا يقتربوا من حدوده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وإن لهذه الكلمة دلالة خاصة يعرفها المسلم يوم يطالع كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن (خطر ممنوع الاقتراب) هبطت مع الإنسان يوم هبط من بطن أمه، ونزلت معه يوم رسا على الأرض، وأتت مع النداء العلوي: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8].
أمر عليه الصلاة والسلام -كما في سنن أبي داود بسند صحيح- أن يؤذن في أذن الطفل إذا ولدته أمه لينشأ على لا إله إلا الله من أول لحظة، وقد فعلها صلى الله عليه وسلم مع الحسن بن علي فما ولدته أمه حتى أخذ أذنه وأذن في أذنه بالنداء العلوي: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لينشأ مؤمناً موحداً من أول لحظة.
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
ونزلت هذه الكلمة العلوية مع قوله سبحانه تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:1 - 3] وتواكب هذه الكلمة خطر ممنوع الاقتراب قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6].
يا أيها الإنسان الضعيف! اتصل بالقوي.
يا أيها الإنسان الفاني! اتصل بالباقي.
يا أيها الإنسان الفقير! اتصل بالغني.
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26 - 27] من يسمع ويطالع ويقرأ يرى أن الناس جعلوا مقاليد الأمور بيد البشر، وكأنه ليس على العرش إله استوى، يتصرف في الأمور كل يوم هو في شأن، يخلع ويولي، ويفقر ويغني، ويهدي ويضل، ويحي ويميت، ويضر وينفع، فما هو أثر هذا التوحيد في كتابات الناس، وفي صحفهم وإذا عاتهم؟
ما أثر لا إله إلا الله؟
وما أثر حسبنا الله ونعم الوكيل؟
وما أثر إياك نعبد وإياك نستعين؟ في مقدرات الأمة وما تقرأ وما تسمع لتتصل بالباري: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] فالأمر من عند فاطر السماوات والأرض، فهو الذي يقرر مصائر الشعوب ويقرر الحروب، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
وهذه المحاضرة على فصلين:
الفصل الأول: خطورة للتقدير والتوقير.
والفصل الثاني: خطورة للإنذار والتحذير.(247/3)
الفصل الأول: خطورة التقدير والتوقير
أما خطورة التوقير والتقدير فهي خطورة أن يقترب الإنسان من انتهاك سياج الشريعة، والشريعة مكرمة معظمة لا ينتهكها إلا من باع حظه من الله عز وجل، لماذا؟
لئلا يلغو فيها البشر، فلا يحق للبشر أن يلغوا في الشريعة، ولا أن يتكلموا في المنهج الرباني بمنطق أن نجعله للحوار فنقبل ما شئنا، ونرد ما شئنا، ونرضى بما شئنا، ونغضب على من نشاء! فهذا لا يجوز، وهذا حرام حرام حرام: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85].
لماذا؟ لأنه: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
لماذا؟ لأنه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ويقول سبحانه عن أناس جعلوا الشريعة مجالاً للقبول والرفض: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:50] أفي قلوبهم زيغ يوم شككوا في مصداقية رسالة رسول الهدى عليه الصلاة والسلام أنها تصلح للإنسان وتهديه، أم ارتابوا في صدقه صلى الله عليه وسلم؟ بل هم ظلمة وفسق والعياذ بالله.
وقوة المنهج الرباني تأتي من أن منرِّل المنهج الرباني هو الله والمتكلم بالقرآن هو الله، وقوة القرآن لا تأتي من كلماته فحسب بل تأتي من مسألة: أن الذي تكلم به هو الذي على العرش استوى.
والآن أنا أضرب لك مثلاً، ولله المثل الأعلى: جاءك خطاب وبأسلوب واحد من سلطان من السلاطين، ومثله خطاب بنصه وبأسلوبه وبلفظه من رجل عادي من الناس، أيهما أوقع في القلب؟
إنه خطاب السلطان، مع العلم أن الكلمات هي الكلمات، والعبارات هي العبارات لكن ذاك اكتسب قوة لأن السلطان كتبه وأرسله، فكيف برب العالمين مالك يوم الدين؟! وكيف بالإله الحق الذي بيده مقاليد كل شيء؟! وهو الذي أنزل هذا الوحي واكتسب هذا الوحي قوة من قوة منزله.(247/4)
دعامات حماية المنهج الرباني
وأنا أريد أن أمهد لمسألة: أن هذا الوحي شيء خاص، ليس للإنسان مهما بلغ أن يجترئ ليتعدى على سياج هذا الشرع، بل حينها يكفر ويرتد عن دين الله عز وجل إذا كان مستهزئاً مستهتراً لا متأولاً.(247/5)
الرقابة
أولاً: من دعامات حماية هذا المنهج الرباني؛ الرقابة، وإني أطالب الجميع برقابة الواحد الأحد، وهي الرقابة التي ما وجدت في أي دستور ولا في أي قانون لا غربي ولا شرقي إلا في كتاب الله، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] هل سمعتم بقانون أرضي يقول: وذروا ظاهر الإثم وباطنه؟
من الذي يقول: باطنه إلا الله؛ لأن الذي يعلم السر وأخفى هو الله، أما البشر فيستطيعون محاربة الجريمة بالحديد والنار والسياط والحبس، ولكن لا يستطيعون باطن الناس.
وما هو باطن الإثم؟
قالوا: فواحش القلب وبواطنه التي لا يعلمها إلا الله.
فالتعاليم الغربية والشرقية تمنع الجرائم الظاهرة في الغالب كالمخدرات والسرقة وقطع الطريق والنهب، لكنها لا تمنع جرائم القلب كالكبر والرياء والحسد والتهتك في حدود الله؛ لأنها لا تعلم شيئاً من قلب الإنسان ولا من علم الإنسان، وما يعلم ذلك إلا فاطر السماوات والأرض.
والرسول صلى الله عليه وسلم ربىَّ الناس على ذلك، والله تبارك وتعالى يقول: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7].
يجلس صفوان بن أمية مع عمير بن وهب تحت ميزاب الكعبة قبل أن يسلما، فيقول صفوان بن أمية لـ عمير بن وهب والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة وهما في مكة عند الكعبة، فيقول صفوان لـ عمير: أما ترى ماذا فعل محمد بنا في بدر؟
أما قتل آباءنا، وسفَّه أحلامنا، وسب آلهتنا؟
قال عمير بن وهب: وددت أن أحداً يقوم بأهلي وأطفالي وأذهب إليه وأقتله في المدينة.
يعني: القتل سهل، واغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم في ذهنه أمر عادي، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يُحرس حتى نزل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] فحرسته عناية الله كما يقول شوقي:
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان
وأما إذا لم تلاحظك عناية الله فأول من يقتلك هو حارسك، كما فعل بالمجرم شاوسسكو في رومانيا فقد جنَّد سبعين ألف جندي من الشرطة ليحرسوه، فكانوا سبباً في ذبحه كما تذبح الدجاجة في الشارع، وكان الشاه عند استافاك فما أغنى عنه سافاكه، وذهب شريداً طريداً وقتل مغضوباً عليه في الدنيا والآخرة.
قال عمير بن وهب: من يضمن لي ذلك؟
قال صفوان: الدم دمي والهدم هدمي، اذهب إليه فاقتله.
فذهب عمير بن وهب وتسلل بالسيف، فرآه عمر فجذبه وشده وخنقه وأتى به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: {يا رسول الله! خذ هذا الشيطان، قال عليه الصلاة والسلام: ماذا أتى بك يا عمير بن وهب؟
قال: أتيت أفتدي -اسمع الكذب المدبلج- أسارى بدر بالمال، قال صلى الله عليه وسلم: كذبت بل جلست أنت وصفوان بن أمية تحت ميزاب الكعبة فقال لك: كذا، وقلت له: كذا ثم جئت لتقتلني، وما كان الله يسلطك علي.
قال عمير بن وهب: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله وأسلم} الدخول إلى الدين بمعجزة.
تقول عائشة رضي الله عنها: [[سبحان من وسع سمعه كل شيء، والذي نفسي بيده! إني كنت مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته، وخولة بنت ثعلبة بجانب البيت تساره وتحاوره لا أسمع كلامها، فسمع الله كلامها من فوق سبع سماوات، فأنزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1]]] رقابة تستحضر عظمة الله عز وجل لئلا تتعدى على المنهج الرباني.
وبائعة اللبن التي يذكرها ابن الجوزي في ترجمة عمر رضي الله عنه ويذكرها السيوطي وغيره:
مر عمر رضي الله عنه وهو يجوب الليل في المدينة، فقد كان يشتغل في العسة.
وكان هو الشرطي والجندي المجهول، يؤدب وينصح ويحرس ويسهر، فمر بباب فسمع امرأة تقول لابنتها: امزجي اللبن بالماء عله يكثر، فقالت البنت: إن عمر منع الناس من ذلك، أي: أن عمر أصدر مرسوماً بالمنع أن يمزج اللبن بالماء، حتى لا يُخدع الناس ويغشوا.
قالت الأم: وهل يعلم بنا عمر؟ وهو يسمع من وراء الباب.
قالت البنت: فإن لم يعلم بنا عمر أما يعلم بنا رب عمر؟! فبكى عمر عند الباب وأوسم الباب وخط عليه خطاً، ثم عاد في الصباح وطرق الباب وخطب البنت لابنه عاصم فتزوجها، وأنجب من تلك السلالة الطاهرة عمر بن عبد العزيز الخليفة الرائد الراشد، والشاب المجاهد الذي أعاد الأمة الإسلامية إلى الله في رأس القرن الأول، وهو المجدد والمجتهد الأول، فهو ابن بائعة اللبن التي تقول: فإن لم يعلم عمر أما يعلم رب عمر، هذه مدرسة عمر مدرسة الرقابة، ويراها عمر مع راعي الغنم، يقول: بعني شاة، فيقول راعي الغنم: الشاة لسيدي، قال: قل: أكلها الذئب، قال: الله أكبر! أين الله يا عمر فجلس عمر يبكي ويقول: إي والله أين الله؟
وجدها هذا الإمام المعتبر مع راعي الغنم وبائعة اللبن ولم توجد الآن مع كبار الناس ووجهائهم ومع أناس لهم كلمتهم؛ لأن لا إله إلا الله لم تؤثر أثرها في حياة الجيل ولم تفعل فعلها كما فعلت في جيل محمد عليه الصلاة والسلام، وكان صلى الله عليه وسلم يردد على أسماع أصحابه: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك}.(247/6)
إقامة الحدود
الدعامة الثانية: دعامة الحدود: الرجم، الجلد، القطع، فأي أمة هذه الأمة المسلمة يوم خرجت مهللة مكبرة متوضئة طاهرة! يزني أحد الناس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم - ماعز بن مالك - فلما اعترف بالخطأ ورأى أنه أساء وأخطأ وأذنب أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والحديث في الصحيحين، فيأتيه من أمامه -انظر إلى المشهد- فيخبره أنه زنى، فيعرض عنه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يحب الستر ولا يكشف النقاب عن ذنوب الأمة، ما دامت الأمة مستترة ومتحشمة، فيأتي عن يمينه ويخبره أنه زنى فيشيح صلى الله عليه وسلم يوجهه إلى يساره، فيأتيه من الجانب الأيسر فيخبره أنه زنى فيلتفت صلى الله عليه وسلم، فيأتيه من ورائه ويخبره أن زنى.
قال صلى الله عليه وسلم: أبك جنون؟
قال: لا.
قال: أحصنت؟
قال: نعم.
فأمر صحابته أن يستنكهوه هل به رائحة الخمر، فلعله يكون سكران.
فشموا رائحته فما وجدوا رائحة الخمر، لكن وجدوا إيماناً في الداخل يريد أن يرده إلى الله، وقد كان ماعز يعلم ما هي النتيجة، إنها حجارة تنصب عليه من كل جهة حتى يموت، ولكن لماذا؟ لئلا يتعرض مرة أخرى للنكبة والسخط في يوم العرض الأكبر والغضب من الله.
فقال صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه، فذهبوا به فرجموه وأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبروه، قال: {والذي نفسي بيده، لقد رأيته ينغمس في أنهار الجنة}.
وتأتي امرأة وتعلم أنها زنت، وتطلب التطهير، وهي هكذا تسميه، ليس تعذيباً، وتعزيراً بل تطهيراً فالحدود مطهرات وبلسم وعلاج للأمة، ويوم تترك الأمة الحدود تنهار وتصبح أمة فاسقة بعيدة عن الله عز وجل مغضوب عليها، ويوم تترك الأمة إقامة الحد على الشريف وتقيمه على الوضيع؛ تصبح أمة مخذولة في حياتها ومنهجها، وفي ربانيتها ولا يقبلها الله.
وكان عليه الصلاة والسلام يقول على المنبر كما في الصحيحين: {والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها} فهذا إعلان للبشر أنه لا مداجاة ولا محاباة.
ويذكر في الحديث، وفي سنده نظر: {حد يقام في الأرض خير للأمة من أن تمطر أربعين صباحاً} وعند عبد الرزاق في المصنف: {إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع} فملعون من يذهب يشفع في حدود المسلمين لكيلا تقام؛ لأن معنى ذلك: خيانة (لا إله إلا الله) واعتراض على لا إله إلا الله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
فتأتي هذه المرأة وهي حامل من الزنا فتطلب التطهير، انظر إلى الإيمان! فيقول صلى الله عليه وسلم: حتى تضعي، فتذهب لأن في بطنها نفس معصومة، فتذهب وتبقى حتى تضع وهي صابرة مصلية محتسبة تريد التطهير، وتأتي بالطفل في لفائف وتطلب إقامة الحد، فيقول صلى الله عليه وسلم: أرضعيه حتى تفطميه، فتذهب وتفطمه وتأتي به وفي يده كسرة خبز، فيقول صلى الله عليه وسلم لأحد الناس: من يكفل هذا؟ -أي: الطفل- فيقول أحد الأنصار: أنا يا رسول الله! فيأخذ الطفل وترجم المرأة، ويقول خالد وقد أتاه دم منها: ما لها لو استترت؟ أو قال كلمة مؤذية عنها، قال صلى الله عليه وسلم: {مهلاً يا خالد! والذي نفسي بيده! لقد تابت توبة لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم}.
وفي لفظ: {والذي نفسي بيده! لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فهذه توبة التائبين، وهذه هي الحدود والدعائم التي جعلت لهذا الدين مكانة وعزة في قلوب المسلمين.
ينسب لـ عمر في التاريخ ويذكره ابن الجوزي أنه أقام الحد على ابنه.
أحد أبنائه أخذ نبيذاًَ في مصر متأولاً فيه، فسكر وهو عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب ويثبتها بعض المحدثين؛ فأتى عمرو بن العاص الأمير ورأى أن ابن عمر لا يمكن أن يجلد في السوق، هكذا تأول وإلا فما الفرق ابن عمر يجلد كأبناء الناس؛ لأن لا إله إلا الله لـ ابن عمر ولغير ابن عمر، فأتى به في دار السلطان وفي الديوان الداخلي وجلده، فسمع عمر فاستدعى ابنه واستدعى عمرو وأدب عمرو بن العاص وجلد ابنه - أي: ابن عمر بن الخطاب - أمام الناس، لماذا؟
ليعلم عمرو وليعلم الناس أن هذه الشريعة ربانية كونية تحوي جميع الناس وسيطرتها على كل البشر.
ولـ عمرو بن العاص وابنه قصة مع عمر.
فقد حصل أن تسابق محمد بن عمرو بن العاص مع رجل من أهل مصر، فسبقه المصري، فلما سبقه قال ابن عمرو بن العاص: أتسبقني وأنا ابن الأكرمين؟
فيذهب هذا المصري إلى عمر فيخبره، قال: أخبره من هو ابن الأكرمين؟ عليَّ به وبـ عمرو بن العاص؟
فأتيا من مصر فلما رآهما قال: والله لا يحول بيني وبينهما أحد من الناس، وأتى بالدرة، وقال: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!]]
والشاهد هنا: أن من الدعائم التي أقامها هذا الدين حفظاً لكرامته ولاستقراره في الأرض؛ الحدود.(247/7)
الوعيد الأخروي
الدعامة الثالثة: الوعيد الأخروي.
لقد ذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ناراً تلظى، وتوعد القاتلين والمفسدين في الأرض والسارقين والزناة والخونة بوعيد شديد، لتعلم أن هناك ناراً، وأن هناك حساباً وعذاباً، يقول عمر: [[والذي نفسي بيده! لولا الآخرة لكان غير ما ترون]] لولا أن هناك حساباً من الله عز وجل لفتك القوي بالضعيف، ولاعتدى الظالم على المظلوم واجتاحه، لكن هناك يوم آخر، يوم يكون الناس كالفراش المبثوث.
وإحياء اليوم الآخر في أذهان الناس؛ لا يكون بالتضييع، وأن تحيا الأمة على الخواء العقدي، والتلوث الفكري، وإبطال الهوية، والتخلف الحضاري، فهذا كله مما أصيبت به الأمة يوم تركت لا إله إلا الله، فلا بد من إرساء العقيدة في النفوس، وذكر الجنة والنار، حتى تعيش الأمة حياة العبودية التي أرادها الله عز وجل لها.
وهنا يذكر الذهبي في المجلد الثامن من السير أن عبد الله بن وهب العالم المصري والمحدث الكبير الشهير، وهو علامة مصر في الحديث في عصره، يقول: ألف كتاب أهوال يوم القيامة، فطلب الناس منه أن يقرأ عليهم كتاب أهوال يوم القيامة، فاعتذر! فألحوا عليه، فقرأ الكتاب فأغمي عليه، وبقي مغمى عليه ثلاثة أيام ومات في اليوم الرابع، وذكر عنه أنه قبل هذه القصة أراد أن يصلي الجمعة فسمع طفلاً يقرأ في بيت وهو في طريقه إلى المسجد: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر:47] فأغمي في الشارع وحمل إلى بيته.
فهذه النفس التي أحياها علم الكتاب والسنة، وأحياها تذكر لقاء الله عز وجل كانت نفساً تعيش لله عز وجل، وترجو ثواب الله، وتتذكر الوعيد الأخروي.
ويذكر وكيع في كتاب الزهد أن ابن المبارك رضي الله عنه وعن أبيه قرأ: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، وقيل: قال: إني أخشى أن يبدو لي من الله ما لا أحتسب.(247/8)
خطر الاستهزاء بالدين
و (خطر ممنوع الاقتراب) لأن مسألة الاقتراب في بعض الزوايا تصل بصاحبها إلى الكفر البواح، فإن من يقترب من هذا المنهج الرباني مستهزئاً يكفر بالإجماع عند أهل العلم.
والاستهزاء في مسائل بسيطة أوصلت بعض الناس إلى درجة الكفر، وعجباً لهذه الأمة أن تأخذ من الدين ما اشتهت وتترك ما اشتهت!
والعجب أنها تحكم الدين إذا كان في التيمم وصلاة الجنازة والحيض والغسل من الجنابة، لكنها لا تحكم الدين في حياتها ومستقبلها.(247/9)
أنواع من الاستهزاء بالدين
في بعض الصحف رأيت شيخاً من الفضلاء سئل في عمود المرأة: عن سحَّاب المرأة هل يجوز أن يكون من أمامها -صدرها- أو من خلفها فأجاب فضيلته بما هو مأجور عليه، لكن في الصفحة الأخرى دغل على الشريعة واستهزاء بالرسالة وبشباب الصحوة.
فانظر إلى هذا السؤال، يعني: هل انتهت مسائلنا وحياتنا وطموحاتنا ومعطياتنا إلى أن وصلنا إلى أن نستفتي ورعاً هل يجوز أن يكون سحَّاب المرأة من أمامها أو من خلفها.
مع العلم أن لا إله إلا الله تسحب على التراب، فما هي الكارثة على المرأة لو جعلت سحابها من صدرها أو من قفاها والشريعة تسحب على الأرض!
وأنا لا ألوم الشيخ، لكني أود أن يأتي الشيخ إذا أراد أن يكتب في مثل هذا بشيء من العقيدة أو بشيء من المنهج الرباني، أو من رسالة الأمة، أو في إياك نعبد وإياك نستعين.
ابن تيمية لما ألف كتبه كانت ثلاث أرباعها في العقيدة، في لا إله إلا الله، في الحاكمية، في الولاء والبراء، حتى سئل -يذكرها عنه الذهبي وغيره- سئل: لماذا لا تؤلف في الفروع؟
ولذلك لم يؤلف كثيراً في الفروع، أي: لم يشرح كتاباً في الفروع شرحاً مستفيضاً.
قال: الفروع أمرها سهل، والعبد إن عبد الله على مذهب مالك أصاب، أو مذهب أبي حنيفة أصاب، أو مذهب أحمد أصاب، أو مذهب الشافعي أصاب، لكن أمور الأصول مهمة لابد للأمة أن تركب على أصول من المعتقد والتوحيد والمنهجية الربانية حتى تحيا حياة خاصة أرادها الله عز وجل لها.
{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] فالتربية الغربية والشرقية هي التي أخرجت الإنسان في البلاد العربية كافراً بالله فهذا بدر شاكر السياب يقول في قصيدته:
منطرح أمام بابك الكبي
يا مفجع النساء يا ميتم الأطفال
يا عالماً دبيب النمل على الرمال
أتستجيب؟ أتسمعني يا مبارك؟
يخاطب الله عز وجل.
اسمع الكلام! أمة تركت كتاب الله عز وجل للمآتم، وللقراءة على المصروع إذا ركبه جان، قالوا: تعالوا بالقرآن، أسمعونا آية الكرسي، لكنه ما داخلها القرآن والسنة في حياتها حتى يوصلها إلى رضوان الله عز وجل، فأنتج هذا الهشيم والركام والفحش والبذاءة والتعدي على المنهج الرباني.
ويذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن هؤلاء (خطر ممنوع الاقتراب) لكم أن تضحكوا بما شئتم إلا بالشريعة، والكتاب والسنة، والأخيار والصالحين والعلماء.
ليس لكم أن تمزحوا، امزحوا في مستهلكات الحياة، امزحوا في المأكولات والمشروبات، امزحوا في الماجريات ولكن في الآيات البينات، وفي شريعة رب الأرض والسماوات فخطر ممنوع الاقتراب.
حدثني بعض الشباب الثقات يقول: حضرت جلسة مع ماجن معربد في الفسحة وكان يدرس في جامعة في أحد الأقسام قال: يجلس يقضي وقته ويضحك زملاءه بالتندر على الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، يقول هذا المجرم -أسأل الله أن يهديه ولعل الله هداه أو أخذه- يقول: حدثنا فلان عن أبي هريرة قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال: أتدرون ما الببسي؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أتدرون ما السيكل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قوموا عني لا تعلمون الببسي ولا السيكل.
وهذه كلمة كفر ومثل هذا حقيق أن يقطع رأسه قطعاً بيناً، ورأيت أحدهم ولا أسميه في هذا المقام تشريفاً للمسجد يقول: جدتي حدثتني عن خالتي أن عمته حدثتها ثم ساق سنداً كسند البخاري ومسلم.
يا مغفل! سند البخاري ومسلم أحيا أمة.
يا مغفل! أنت لما تركت سند البخاري ومسلم كنت عقيماً على موائد الغرب، لفيقاً صفيقاً ذليلاً على موائد الشرق والغرب، ملحقاً لا هوية لك.
يا مغفل! سند البخاري ومسلم أخرج خالد بن الوليد وعقبة بن نافع الذي وقف على الأطلنطي وهو يقول: والله يا بحر! لو أعلم أن وراءك أرضاً لخضتك بفرسي هذا؛ لأرفع لا إله إلا الله.
فـ البخاري في بخارى كان يقرأ الحديث هناك ويحيي أمة، والولايات الإسلامية التي أخذها المد الكافر الإلحادي يوم اشتغل الناس بالموسيقى الإيطالية الحالمة، والعزف على الناي، والمراسلة، وجمع الطوابع ولعب البلوت إلى الساعة الثانية ليلاً، والوقوف على الشواطئ متفرجين متبرجين ذكراناً وإناثاً، فضاعت مقدرات الأمة.
كنا نحكم ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، وكان هارون الرشيد في بغداد يقول للسحابة: امطري حيث شئت فإن خراجك سوف يأتي إليَّ.
وهذا المعتصم تضرب امرأة على وجهها وتقول: وامعتصماه، فيجهز جيشاً جراراً ويفتح عمورية ويدكدك حصونها ويفتح قلاعها.
لكن الآن كم تضرب من امرأة مسلمة؟! وكم يعتدي اليهود على أعراض المسلمين ومقدراتهم؟!
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لا مست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم(247/10)
حكم الإسلام في المستهزئين بالشريعة
يقول سبحانه عن هؤلاء الشرذمة الباطلة التي تتعدى على الشريعة في جلساتها: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:14 - 16].
أعرف أحد الناس دائماً يستهزئ بالشرع، جلس مع بعض المشايخ، فقال: يا شيخ! هل كل أحاديث رياض الصالحين صحيحة سليمة؟
قال: نعم.
إلا أن بعضها ضعيف.
قال: الحمد لله، أريد أن أعتمد عليها، يعني: من باب المناورات، من الورع يريد ألا يعمل بحديث ضعيف مع العلم أنه يطعن في الحديث الصحيح، ويطعن في الآيات، وبعضهم -إي والله- وهو لا زال حياً يرزق ونعرفه، يقول لأحد المشايخ: الآن تقولون: إن الله عز وجل يعلم ما في الأرحام، وخمسة استأثر الله بعلمها مع العلم أن الأمريكان والفرنسيين والبريطانيين علموا ما في الأرحام، فكيف أنتم دائماً تتكلمون بهذا؟ الواجب أنكم تقفون مع العلم الحادث، وهذه تكفي في كفره.
والآية ليست تقصد ما قصد هو لا من بعيد ولا من قريب، لكن هكذا تفعل التربية التي لا تكون على المسجد، ولا على القرآن والسنة والطهر والعفاف، يقول سبحانه: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79] والمنافقون يقولون: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] وقد فعلوها وكرروها دائماً مرات كثيرة، وأذكر على سبيل المثال: أن الإنسان إذا دعى إلى التبرع للمجاهدين الأفغان فيلتقي بأحد الناس يقول: هؤلاء المجاهدون الذين تطلب التبرع لهم هل يغلبون روسيا؟ أنت مجنون أو عاقل؟! أو يغلبون الاتحاد السوفيتي؟! لقد جعلوا هذه الأصنام البشرية كأنها لا تغلب أبداً، وقد كلموا بعض قادات الجهاد مباشرة، وقالوا: لا يمكن أن المجاهدين يغلبون الروس، لكن المجاهدين أروهم أن الإيمان يغلب الكفر، وأن لا إله إلا الله تدكدك مستعمرات الجاهلية وتخرب ديار الذين انحرفوا عن منهج الله، وخرج الروس البلاشفة الحمر وهو يعلنون إشارة الخزي والعار على رءوسهم:
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ
والأكراد ضربوا بالكيماوي وما غضب أحد، أبناء صلاح الدين وأبناء صاحب لا إله إلا الله، وانظر ترجمة صلاح الدين، فهو مسلم موحد أشعري العقيدة، شافعي المذهب، لكن إذا قارنَّا أشعريته مع إلحاد الملحدين وزندقة المتزندقين عذرناه، لأننا أقررناه، ولكنا نحبه؛ لأنه نَصرَ لا إله إلا الله، ونعلم أن هذه الجزئيات خطأ في حياته، ولكنه مع ذلك يتمسك بحبل الله.
كان يبدأ هجومه في الساعة السادسة ظهراً، فجعلها تبدأ مع صلاة الجمعة، إذا بدأ الخطباء أعلنت حالة الاستنفار وساعة الصفر.
فلماذا اختار الساعة السادسة؟
قال: إذا صعد الخطباء في العالم الإسلامي رجوت دعوتهم من الله فنصرت بإذن الله، وحضر المعركة وبدأ، ولما صعد الخطباء على المنابر يدعون الله لـ صلاح الدين، لأن معركة حطين هزت العالم الإسلامي، فمعنى حطين نكون أو لا نكون.
معنى حطين: إما أن تكون أمة إسلامية في الأرض أو يسحقها الصليبيون ويضربون عليها أبد الدهر.
لما تولى العرب إلى الغانيات والجواري وعزف الوتر، وما يطلبه المستمعون وافتح يا سمسم؛ أتى صلاح الدين الكردي تحت مظلة: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] والشريعة ليست ملكاً لي ولا لك، متى ما نتخلى عنها يحملها الهنود أو الأتراك أو الأفغان أو الأكراد، كل من يحمل لا إله إلا الله فهو مرشح لها، لأن الجد أبو جهل الخاسئ الذي لا نعترف به أنه جد؛ كفر بلا إله إلا الله عند الحطيم والحجر الأسود، يشرب الخمر في المسعى، لماذا؟ لأنه لا يعترف بلا إله إلا الله، لكن بلال الحبشي يأتي من الحبشة وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، وصهيب يأتي من الروم، يقول: الله أكبر، وسلمان يأتي من أرض فارس وهو يقول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
وبدأ صلاح الدين وأشعل المعركة وانتصر وفتح بيت المقدس، وصلى الجمعة الثانية في الصف الأول، وكان القادة الأكراد بجانبه، يقول المترجمون: قبل المعركة قرأ قليلاً من سورة الأنفال وكان يبكي ويقول: يا حي يا قيوم! ثم قرئ عليه من موطأ مالك فهو يحب الموطأ كثيراً، وهذا موجود في ترجمته، فقرأ أحاديث الجهاد من كتاب الجهاد، ثم بدأ الهجوم، وفي الجمعة الثانية قام شمس الدين الحلبي الخطيب الشهير، وكان خطيباً ذاك اليوم وارتقى المنبر ليحيي صلاح الدين في أول جمعة بعد أن سقط بيت المقدس في يديه من بعد فتح عمر، يحييه في هذا الفتح العظيم، أتدرون بماذا يفتتح الخطبة؟
اسمع، يقول: الحمد لله مجري السحاب، منزل الكتاب، هازم الأحزاب.
الحمد لله وحده، الذي نصر عبده، وهزم الأحزاب وحده وأعز جنده، ثم قال:
تلك المكارم لا قعبان من لبن وهكذا السيف لا سيف ابن ذي يزن
يقول: هكذا سيفك لا سيف ابن ذي يزن حاكم اليمن الوثني:
تلك المكارم لا قعبان من لبن وهكذا السيف لا سيف ابن ذي يزن
وهكذا يفعل الأبطال إن غضبوا وهكذا يعصف التوحيد بالوثن
فالأبطال إذا غضبوا لاينددون ويشجبون فقط.
بل يغضبون غضباً كغضب صلاح الدين.
ثم وأقام صلاح الدين الفتوى وفتح المدارس في المسجد الأقصى فرحمه الله كما يقول ابن كثير: سقى الله تلك العظام شآبيب الرضوان، وجمعنا به في دار الكرامة.
والمقصود: أن المنافقين يقولون: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] ويعيشون حالة من الرعب والرهق، أما فنلتجئ إلى الله، إذا التجأ البعثي إلى البعث وميشيل عفلق، التجأنا إلى الواحد الأحد، إذا التجئوا إلى:
آمنت بـ البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني
التجأنا إلى حسبنا الله ونعم الوكيل.
فهذه هي مصداقية العقيدة متى أرادها الناس.
أيها الناس: إنه خطر على المتهوكين في الشريعة الخائضين فيها أن يرتدوا عن هداية الله ودينه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].(247/11)
ضرورة أخذ الدين كاملاً
من مميزات الإسلام أنه لا يقبل خلط الأمزجة، فكيف يجتمع مسجد وخمارة، وساعة للغناء وساعة للقرآن؟! امرأة سافرة ومتبرجة تحت مظلة الحرية هذا لا يصح.
أخذ شيء من الشريعة وأخذ شيء من القانون الفرنسي هذا لا يصح، فلا إله إلا الله فقط، فإما الدين كله أو اترك الدين كله:
يا مدعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تهويناً وتدوينا
خذها جميعاً تجد فوزاً تفوز به أو فاطرحها وخذ رجس الشياطين(247/12)
من مواقف عمر في أخذ الدين كاملاً
أيها الإخوة: عند النسائي بسند صحيح أن عمر رضي الله عنه ذهب إلى بعض بيوت اليهود فوجد صحيفة من التوراة، فأتى بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مستبشراً.
أي: أنها فرصة أنه وجد صحيفة فيها كلام أصله من الوحي والتوراة، فأراد أن ينفع بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: إنها مكسب، وهي مخطوطة جديدة والكتب والمخطوطات، والأمة أمية: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2] فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأعطاه الصحيفة، وقال: خذ هذه يا رسول الله فقد وجدتها، فغضب عليه الصلاة والسلام، وقال: {أمتهوكون فيها يـ ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده! لو أن موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي، أما أتيت بها بيضاء نقية كالشمس، فجلس عمر على ركبته وقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً} ومزقت الصحيفة وأحرقت، لماذا؟
سيد قطب يقول في معالم في الطريق: السبب القوي في اتجاه الصحابة أنهم خلعوا كل ثقافة من ثقافات الجاهلية ودخلوا في الإسلام من عتباته، وهذا صحيح، فلو دخلت مكتبة عمر ماذا تجد في بيته؟ تجد المصحف والسيف معلق، ليس عنده دوريات ولا مجلات ولا صحف ولا مؤلفات ولا مصنفات، لكنه هو نفسه قرآن يمشي على الأرض، وتعال إلى الشاب منا الآن فتجد مكتبته ملأت مجلسه وغرفته وأدراجه وليس عنده منها شيء، ربما لا يعرف العناوين، فالأمة شيء والثقافة شيء والعلم شيء آخر: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وقد يكون الكافر أكثر ثقافة من المؤمن لكن العلم لا يكون إلا لمن هداه الله عز وجل.
- وهذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد، عن عمر أنه قتل منافقاً وسنده فيما يظهر لي في الشواهد حسن ولو أن فيه انقطاعاً في السند الذي ذكر.
فيجلس عمر رضي الله عنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول أحد اليهود لأحد المنافقين المتخاصم معه: نذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإن أعطانا ما أردنا رضينا وإن لم يعطنا ذهبنا إلى غيره، فذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فحكم بينهم بحكم لم يناسب المنافق: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فلم يناسبه الحكم، ولم يرغب فيه، فهو متهتك، فذهب إلى أبي بكر عله يجد عند أبي بكر الرجل الثاني ما يصلح، فذهبوا إلى أبي بكر فأخبرهم بفتوى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رحيماً حبيباً لا يستجلي الأخبار، وذهبوا إلى عمر فسألوه قال: أحكم بينكم أحد؟ قال المنافق: نعم! الرسول، صلى الله عليه وسلم.
قال: بماذا؟
قال: بكذا وكذا.
قال: ومن؟
قال: وأبو بكر، قال: انتظروني قليلاً، فظنوا أنه سيراجع مخطوطة بولاق، أو دار الشروق، فذهب إلى السيف البتار الذي صند به الملاحدة والفجرة وأتى به، فدخل عليهم فقتل الاثنين، وهذه قصة ثابتة والحمد لله، وهي من ميز عمر رضي الله عنه:
رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يصب
تدمير معتصم بالله منتقم لله مرتقب في الله محتسب
وهذه هي حرارة لا إله إلا الله، فماذا بعد هذا من كفر؟ وهل بعد الحق إلا الضلال؟!
إنسان يريد أن يأخذ من الشريعة ما أراد ويترك ما أراد، في قلبه زيغ وليس له إلا السيف.
- يذكر الدارمي قصة صبيغ بن عسل مع عمر في أول السنن بسند صحيح، فيأتي أحد الصحابة إلى عمر رضي الله عنه ويقول: عندنا رجل قارن بين الآيات وما استطعنا أن نجيبه، وكان صبيغ في الجيش يقول: كيف تجمعون لي بين قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوا * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً} [الذاريات:1 - 2] وبين قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} [النازعات:1] وبين قوله: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} [المرسلات:1] وبين قوله كذا وكذا؟ فأخبر عمر قال: عليَّ به، وجهز له عمر دواءً شافياً بإذن الواحد الأحد، عصا من النخل القوي الخضراء، فأتى الرجل، وكان عمر ضليع الجسم قوي البنية هماماً:
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
فأتى بالرجل فضربه ضربة حتى أغمي على الرجل، قال: رشوه بالماء، فهذه أول عملية في غرفة الإنعاش، يطرد بها الشياطين، واستفاق الرجل بعد هذه النومة الهانئة، يقول: أصبحنا وأصبح الملك لله، قال: فلما قال عمر: أعقلت؟ قال: نعم.
فضربه حتى أغمي عليه.
فقال: رشوه بالماء، فرشوه فأصبح ورأى الفجر والنور، قال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد قتلي فاقتلني، وإن كنت تريد دوائي فقد داويتني دواء يبرئني إن شاء الله، فهذا علاج يخرج الشياطين من الرءوس، فاشترط عليه عمر ألا يكلم أحداً من المسلمين، ولا يكلمه أحد، ولا يجلس مع أحد، ويبقى منفرداً حتى تصح توبته.
قال بعض أهل العلم: جلس سنة، وقال بعضهم: ستة أشهر، فجلس منزوياً حتى تاب وذهبت الشياطين وعرف أنه المنهج الرباني، وأن الله هو الذي أنزل: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} [الذاريات:1] وأنزل: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} [النازعات:1] وليس له أن يتكلف ولا يدخل بعقله في مسارات الوحي؛ لأن الوحي أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض، ليس بكلام مسيلمة.
أتدرون ماذا يقول مسيلمة المجرم؟
سُئل عمرو بن العاص، ماذا كان يقول مسيلمة قال: كان يقول: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، وكان يقول: يا ضفدع نقنقي ما تنقنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين.
هذا كلامه ولذلك {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].(247/13)
خالد القسري وتضحيته بالجعد بن درهم
من حماية الشريعة: ما يفعله العدول يوم يرون الشريعة تنتهك! فـ الجعد بن درهم يقول: لم يكلم الله موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، قالوا: يا مجرم! اتخذه.
قال: يا ليتني أمحوها من المصحف بدمي، محا الله رسمه ومحاه الله من الأرض، فهو مبتدع، قائد الفرقة المبتدعة التي كونت حلفا استعمارياً في بلاد المسلمين، فهذا المبتدع أتى به خالد القسري -وهذه حسنة من حسناته -يوم عيد الأضحى، فخطب خطبة جليلة، فلما انتهى من الخطبة قال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله منكم أضحياتكم، وذلك بعد أن بين لهم شروط الأضحية وأنه لا يقبل منها جدعاء ولا خرقاء ولا بهقاء ولا هزيلة، قال: فضحوا تقبل الله منكم أضحياتكم فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم.
يقول: أما أنتم فضحوا بالتيوس وأما تيسي أنا فهذا المجرم، وهو مكتوف بجانب المنبر، ومع العلم أنهم طلبوا منه أن يتوب فرفض، وهو مبتدع، فانظر إلى صلابة بعض المجرمين والخرافيين كيف يصبرون إلى آخر لحظة، مع العلم أنه سوف يطعن بالخنجر من السلطان!! قال: ضحوا تقبل الله منكم أضحياتكم فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل وجهه إلى القبلة ووضع ركبته على صدره، وقال: باسم الله فذبحه، فحياه ابن القيم في منظومته الكافية الشافية لـ أهل السنة والجماعة قال:
ولذاك ضحى خالد بـ الجعد يوم ذبائح القربانِ
إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الدانِ
شكر الضحية كل صاحب سنةٍ لله درك من أخي قربانِ
يقول: شكراً لك يا بطل! أحسنت كل الإحسان، هكذا تذبح رءوس الملاحدة والزنادقة والعلمانيين والحداثيين؛ لأنهم تهتكوا في شرع الله، وفي لا إله إلا الله، وإلا فمتى ينسل السيف؟ ومتى تشتغل الخناجر والسكاكين إلا في هذه المواقف؟ وأظن هذا الموقف من أحسن ما يذكر لـ خالد القسري على ما فيه من ظلم وفجاءة وصلافة، وسوف يذكره الله بهذا الموقف الذي جمل فيه وجوه أهل السنة يوم عيد الأضحى.(247/14)
التهم التي ترمى بها الشريعة
إنه خطر على من رمى هذا المنهج العفيف الطاهر أن يأخذ الله سمعهم وأبصارهم ويختم على قلوبهم.
اسمعوا إلى التهم التي يرمون بها الشريعة، وأقول لهم وأكرر: خطر ممنوع الاقتراب!(247/15)
وصف الشريعة بالعقم
قالوا: عقيمة لا توافق الزمن، سبحان الله! يقولون: الشريعة تصلح لـ أبي بكر وعمر أما عصر الذرة والضياء وعصر الطلوع على سطح القمر فلا تصلح له الشريعة.
وشوقي يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول:
شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق سبات
بأيمانهم نوران ذكر وسنةٌ فما بالهم في حالك الظلمات
يقول: عندهم الكتاب والسنة، لكنهم رفضوا منهج الكتاب والسنة إلا من رحم ربك.
فيقولون: عقيمة لا تواكب الزمن، وقد أساءوا؛ فإن العقم في أذهانهم؛ لأن الشرائع الأرضية التي هي موجودة الآن وضعها البشر، أما شريعة الله فوضعها الله رب البشر، الذي يعرف حاجة الإنسان، وطموحه وأقصى ما يبلغه الإنسان.(247/16)
وصف الشريعة بأنها حجرت على الإنسان حريته
ومن الاتهامات على الشريعة أنها حجرت على الإنسان حريته، ويقولون: تحرير المرأة وأنا أعارض هذه الكلمة، وتحرير المرأة كما يأخذها قاسم أمين في كتابه ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده ليس بصحيح.
فتحرير المرأة ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم، أما تعذيب المرأة، وخزي المرأة فهو ما أتى به أعداء الله عز وجل من أذناب البشر وشراذمة البشر، يقولون: حجرت على الإنسان حريته، والله يقول: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] فالأمة كانت مقتولة حتى رفع صلى الله عليه وسلم الأغلال عنها، وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وقال سبحانه: {طه >مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1 - 3] وقال سبحانه: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] وقال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
فيا أيها الإخوة: لماذا هذا التهتك بالشريعة، بأنها غليظة وجافية وشديدة ولا يستطيع أن يحملها الإنسان؟ إن هذا -والله- هو الظلم بعينه.(247/17)
قولهم: إن الشريعة لا علاقة لها بالحياة
ومنها: أنها خاصة بالفرد ولا تقحم في الحياة، وفي الموسوعة الميسرة للمذاهب المعاصرة يقول: ومن مبادئ العلمانية: أن الدين خاص بالفرد.
يقول لك: الدين لك وحدك، صلِّ وحدك، واعبد الله عز وجل؛ لكن لا تدخل الدين في شئون الحياة، لا في الاقتصاد ولا في السياسة ولا في العسكرية ولا في الأدب ولا في الإعلام، والله يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] فهو شرع للدنيا والآخرة، وشرع للاقتصاد والاجتماع، وشرع للأخلاق والسلوك، وهذا هو الخلاف الكبير بين أعداء الله عز وجل ممن يريد حصر الدين بأنه مسألة شخصية كما يفعل بـ المسيحية الآن، فيحضرون في الكنيسة فقط ولا تخرج إلى الحياة.(247/18)
أقسام الناس أمام الشريعة الإسلامية
وانقسم الناس أمام شرع محمد عليه الصلاة والسلام إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: كفروا به جملة وتفصيلاً، وجحدوه وأنكروه، وما استضاءوا بنوره، واستحقوا غضب الله، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [البقرة:161 - 162].
القسم الثاني: وقوم آمنوا ببعض الشريعة وكفروا ببعض، وهؤلاء يلحقون بالصنف الأول، ولا يغنيهم الإيمان الذي أخذوه ببعض الشريعة: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85].
والقسم الثالث: أنتم وأمثالكم من المهتدين -إن شاء الله- ممن قبل شرع محمد صلى الله عليه وسلم، واستجاب لرسالته، وعاش على نوره {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى:52 - 53].(247/19)
أسباب أهمية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم
والبشرية محذرة بخطر ممنوع الاقتراب: بالعقوبة على اللامبالاة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم: لماذا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؟
لماذا الشريعة وحدها؟
لثلاثة أسباب:
أولاً: لأنها من عند الله، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:1 - 3] {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7].
ثانياً: لأنها كاملة، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3].
يا أيها الإخوة: قفوا لحظة، فالله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم في عرفة، وهو يقف أمام البشرية، ويتحدث عن حقوق الإنسان، وعن حقوق المرأة، فينزل الله عليه ويموت بعدها بأيام صلى الله عليه وسلم قيل: بواحد وثمانين يوماً، وقيل: باثنين وثمانين يوماً، وقيل: باثنين وثمانين يوماً، فينزل الله عليه يوم عرفة قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] يقول الله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يضع الحجر على بطنه من الجوع.
يقول: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] وهو يسكن بيت الطين.
يقول: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] وهو يلبس الثوب الممزق.
يقول: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] وهو لا يجد إلا حصيراً من سعف النخل ليجلس عليه.
يقول: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] وهو لم يشبع ثلاثة أيام متوالية، فما هي النعمة؟
نعمة لا إله إلا الله نعمة الرسالة والإيمان نعمة الجنة نعمة البصر والبصيرة والمنهج الرباني الخالد نعمة الاستنقاذ من السجود للوثن وللصنم وللخمر وللتهتك في حرمات الله، هذه هي النعمة حقيقة.
فلما تحول الناس وظنوا أن النعمة أن تكدس البطون من الأرزاق التي قد يأكلها الثور والحمار، وأن تبنى الفلل، وأن تركب السيارات الفاخرة، وأن تسكن القصور العامرة، ثم يتولون عن نعمة لا إله إلا الله، حينها أخفقت الأمة، ملكنا الدنيا فخسرنا الدين، وقبل كان معنا الدين وكنا بالثياب الممزقة نفتح العالم.
فهذا ربعي بن عامر رمحه مثلم يوم دخل على رستم وعمر بن الخطاب بردته فيها أربع عشرة رقعة ويهدد امبراطورية كسرى وقيصر ويسقطها في لحظات.
ويدخل سعد بن أبي وقاص بحذاء من جلد الجمل فيرى إيوان كسرى فيقول: الله أكبر!
ويقول سعد وهو يبكي: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:25 - 27].
محمود بن سبكتكين كان جيشه ألف ألف مسلم -مليون مسلم- هذا محمود يوم فتح الهند أرادوا أن يعطوه ذهباً رشوة، وقالوا: اترك البلاد، وهذه أصنام من ذهب خذها واترك بلادنا، فقال: لـ إياس! مولاه الخادم: يا إياس! ما رأيك، أنأخذ هذه الأصنام ونعود إلى بلادنا سالمين غانمين ولا نقتل ولا نقاتل؟
قال إياس: أستغفر الله! وهذا إياس مسلم وكلهم عجم لكن حملوا لا إله إلا الله.
قال إياس: أستغفر الله، قال: لماذا؟
قال: أتريد أن يدعوك الله يوم القيامة يا مشتري الأصنام؟ فكسر الأصنام واذبحهم عليها، أما تريد أن يدعوك الله يوم القيامة يا مكسر الأصنام، يعني: هذا كلام لا يصلح، هذا محمود وإياس نصروا الإسلام في فترة من فترات التاريخ.
فمحياه محمود، فهو يريد أن يختبر إياس.
وقال محمود لملك الهند: لا والله! لأكسرن رأسك على هذه الأصنام حتى يدعوني الله يوم العرض الأكبر: يا مكسر الأصنام.
فابتدأ الهجوم وكسر رءوس ملوك الهند على الأصنام وأحرقها، وفتح الهند بلا إله إلا الله، فحياه محمد إقبال بقوله:
محمود مثل إياس قام كلاهما لك بالعبادة تائباً مستغفرا
العبد والمولى على قدم التقى فارحم بوجهك عبد سوء في الثرى
أي: أن محمود مثل إياس كلهم مولى.
ويقول في القصيدة الأخرى التي يحيي فيها محمود؛ لأنه من جماعة محمد إقبال وقد كان p=1000553>> محمود بن سبكتكين يسجد ويبكي، ويقول: اللهم اغفر لعبدك الكلب محمود، وهي مذكورة في التاريخ، هذا من التواضع وهو يقود ألف ألف، أي: مليون مقاتل.
هذا محمود يقول عنه محمد إقبال:
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً أو صاغ الحلي والدينارا
والأمر الثالث: أنها نزلت على معصوم لا ينطق عن الهوى ولا يتحدث عن خواطر النفس، ولا هواجس الرأس، ولا يكون له قرار اليوم وينقضه غداً أو ينقضه بعد غد، بل يتكلم بشريعة ربانية تستمر مع الإنسان حتى يلقى الله.(247/20)
الفصل الثاني: خطر ممنوع الاقتراب للإنذار والتحذير
الفصل الثاني: وهو خطر ممنوع الاقتراب للإنذار والتحذير، وهو خطر للمتهتكين في الحرمات المتجاوزين للحدود: {تلك حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] يقول أحد الصالحين: لا تأمن من قطع في ربع دينار يد سارق أن يعاقب من سرق أمانة ربه بأعظم من قطع اليد.
يقول: لا تأمن من الله؛ فقد قطع في ربع دينار، فكيف بمن سرق دينه؟! كيف بمن سرق صلاته؟! كيف بمن سرق توجهه إلى الكعبة في اليوم خمس مرات؟! ما هي عقوبته في الآخرة؟
إذا كان ربع دينار يعاقب عليه بقطع الكف، فكيف بمن بتر دينه من أول حياته إلى أن لقي الله؟
كان من حكمة الله عز وجل أن يحمي أمة الإسلام بالحدود، وهي الضرورات الخمس: النفس، والعرض، والدين، والمال، والعقل، قلت: فالقاتل يقتل والمرتد عن دينه يعدم: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179] والزاني يرجم أو يجلد، والسارق يقطع، والشارب يجلد والمفسدون في الأرض الذين يسرقون القيم ويضيعون رسالة الله عز وجل ويهدمون شرعه عقوباتهم فضيعة، إنهم أخطر ممن يسرق شيئاً من المال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة:33].
إن سيادة لا إله إلا الله في الأرض حتمية الوقوع، ربانية المصدر، كونية الاهتمام، أرأيتم الذين رفضوا لا إله إلا الله ماذا كانت حياتهم ومستقبلهم وعزتهم؟ فرعون يغرق لهذا السبب وحده، وقارون يخسف به، وأمة تؤخذ بالصيحة وأمة بالنسف والإبادة، وأمة بالصاعقة، وأمة بالسنين والقمل والضفادع والطوفان والجراد، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} [الكهف:59] {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13].
إن لا إله إلا الله؛ تكون أو لا تكون الإنسانية، وهذا من المبادئ الكبرى، إما أن يكون في الناس بشر مع لا إله إلا الله أو لا بشر ولا يبقى مخلوق، وتصبح النتيجة والعاقبة على هؤلاء، تبقى أو لا يبقى أحد، يعيش أو لا يعيش أحد: {يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم} فهذا ملخص رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم في لا إله إلا الله.
إن لا إله إلا الله أعظم من أن تفسر نطقاً باللسان كما يقول المرجئة، ما أثر لا إله إلا الله إذا كان صاحب لا إله إلا الله يزني ويشرب الخمر، ويعربد ويضيع صلاة الفجر، ما أثر لا إله إلا الله في حياته؟
إذا كان الإيمان هو إيمان المرجئة إذاً فلماذا أرسل الله الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام؟
ولماذا أنزل الله الكتب، وفرض الحدود، وجعل الجنة والنار؟
إذا كانت المسألة كلمة تنطق في أي مكان وأي مجال ثم لا يكون لها تأثير في حياة الناس، فما فائدتها؟
إن لا إله إلا الله عقيدة وعبادة، أخلاق وسلوك، دنيا وآخرة، غيب وشهادة، أدب وفن، إعلام وسياسة، اقتصاد واجتماع: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] أما لا إله إلا الله فهي ملخص رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وكل رسول بعثه الله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
ثم على الأمة أن تعيد تفكيرها في لا إله إلا الله، وقد اكتشفت الأمة مع هذه الأحداث خواءً عقدياً هائلاً، واكتشفت أنه ليس عندها توكل، وأنها تنطق لا إله إلا الله لكنها لا تعمل بدلالتها، ولا باستشعار عظمتها، واكتشفت أنها في زحمة الأحداث كانت تعيش على الموج، فلما أتتها الأحداث وداهمتها وجدناها تحمل شبح الموت وتخاف الرعب، وتهلع وتنصرع ويود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، وتريد الأمة ألا تلاقي عدواً ولا ترفع راية جهاد، ولا تعلن إياك نعبد وإياك نستعين من جديد، وإلا فما هي النتيجة؟
ما هي الاحتمالات التي تقع بالأمة؟ أسوأ احتمال هو الموت، أما شرع الله فلا يستولى عليه أبداً، فهذا الدين لا بد أن يبقى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
أنا أقول لمعسكرين اثنين: خطر ممنوع الاقتراب، معسكر الإلحاد والزندقة والتعدي على الشرع والمنهج الرباني، ومعسكر أهل الشهوات والمجون أهل السخف والخلاعة، اتقوا الله!
خطر ممنوع الاقتراب.
وإن من يقف بسيارته عند إشارة المرور تحسباً للحادث لهو أهون وأسهل نتيجةً ممن يتعدى حدود الله عز وجل وينتهك حرماته، وإن نتيجته أفظع وأعظم في الدنيا والآخرة.
جعلنا الله وإياكم ممن يقف عند حدوده، وممن يحترم شرائعه وممن يوقر شرعه توقيراً، ويعزر رسوله تعزيراً، ويعلم منهجه ويتبع سنته، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(247/21)
الأسئلة(247/22)
حكم من قال: إن القلب آلة تضخ الدم وليس له علاقة بالإيمان والكفر
السؤال
بعض الأطباء يقولون عن القلب: إنه مجرد آلة لضخ الدم، ولا علاقة له بحب ولا كراهة ولا إيمان، وإنما كل هذا عن طريق الدماء، فكيف أرد؟
الجواب
لأهل العلم ثلاثة أقوال في أيها المقصود بالقلب في القرآن: أهو هذا الجسم الصنوبري مخروطي الشكل أو المقروب هذا كلقمة الإنسان أو هو الدماغ.
منهم من قال: الدماغ، ومنهم من قال: القلب، ومنهم من قال: إنه شيء مشترك بين القلب والدماغ، والله عز وجل ذكر القلب بالقرآن أكثر من العقول؛ لأنه المصدر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره وأشار إلى صدره في الصحيح وقال: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهو القلب} وهذا يدلنا على أن القول الصحيح عند أهل العلم هو من قال: إنه القلب الذي في الشق الأيسر للإنسان، وأما الطبيب فهل يعرف هل هذا هو مستودع الحب والكراهة والإيمان أم لا؟ هو يرى دماً ويرى لحماً، ولذلك هو لا يدفع عن نفسه ضراً ولا يملك لها نفعاً.
فهذا الطبيب الذي يداوي الأمراض يخنق ويصرع بالموت:
مات المداوي والمداوى والذي صنع الدواء وباعه ومن اشترى
فهذا لا يعرف شيئاً ولا يطلع علم الغيب، وهذا شيء أكبر من عقله، وأكبر من شهادته إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى جعل الإيمان والكفر، وهي مسألة يقولها أهل الترف اللفظي، يقولون: لو نقلنا قلب خواجة كافر إلى جسد مسلم فهل يصبح هذا المسلم كافراً؟ أو قالوا: لو نقلنا قلب مسلم إلى كافر فهل يصبح الكافر مسلماً؟ ونقول: هذه خزعبلات.
فإن الله هو الذي أودع الإيمان، وليس هو في هذا اللحم والدم، وليس بنقله ينتقل الدين من شخص إلى شخص، والله تعالى قد حدد هدف هذا الإنسان محمد بذاته لا جورج بذاته.(247/23)
موقف المؤمن من حرب الخليج
السؤال
ما موقفنا الآن من الحرب بين العراق والكويت؟
الجواب
موقفك الآن أن تكثر من الاستغفار: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147] وأن تكثر من التضرع: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43] وأن تردد حسبنا الله ونعم الوكيل، فهذا وقتها ولها طعم في أوقات الأزمات: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
توكلنا على الرحمن إنا رأينا النصر للمتوكلينا
وموقفك أن تجدد التوبة، وأن تؤثر في الناس وأن تطالبهم أن يكدسوا الحسنات والأجور مثلما كدسوا الأرز والسكر والأسرجة والغاز في بيوتهم، وأن يجهزوا عملاً صالحاً يقدمون به على الله عز وجل.
موقفك أن تأمر الناس أن يثبتوا في أماكنهم ولا يفروا من الموت: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8] ما قال: مطاردكم، بل أمامكم ينتظركم، والجبان يموت في اليوم ألف مرة، والشجاع لا يموت إلا مرة واحدة.(247/24)
الاجتهاد في رفع الرياء
السؤال
أنا مؤذن ولكن بعض الشباب يقول: أنت إنسان تؤذن للرياء؟
الجواب
أنت أعلم بقلبك فاستفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك، ولا تأتيك هذه الهواجس والوساوس حتى تترك الأذان؛ بل اجتهد أن تخلص وتقصد به وجه الله، وما عليك من كلام الناس، فإن هذه الخطرات التي أتى بها الخرافيون، والواردات التي يناقشها مثل الغزالي في الإحياء تبطل الإنسان أحياناً من العمل، الحارث المحاسبي صاحب كتاب الرعاية دخل في الخطرات والوساوس مثل هذا الكلام وقال: من يؤمن المؤذن إذا رفع صوته أن يأتيه الرياء فيحبط الله عمله أوله وآخره؛ فترك الناس الأذان، ثم قال: من يؤمن الإنسان إذا أتى إلى المسجد فرآه الناس وقد خرج من بيته متوضئاً يريد وجه الله أن يكون يريد الدنيا بصلاته فتركوا صلاة الجماعة.
فيقول ابن القيم في أول مدارج السالكين: العاقل لا يبني قصراً ويهدم مصراً مثل ما فعل المحاسبي في كتاب الرعاية فإنه لما ألفه ترك الناس المساجد، وأنا أقول: ليتك يـ ابن القيم رحمك الله تركت مدارج السالكين، ليتك صرفت هذا الجهد في كتاب أروع وأبدع منه من كتبك الرائعة البديعة الحية، وقد قالها بعض العلماء قبلي، وما أنا إلا طويلب بالنسبة لهم، فقالوا هذه الكلمة: ليته صرف هذا الجهد في كتاب آخر، إنما أقول لأنه دخل في دقائق لا يعرفها الصحابة دقائق النفس، وعذَّر لـ عبد الله بن محمد الهروي شيخ الإسلام رحمه الله مع أن ابن تيمية يقول: عمله خير من علمه، ومنازل السائرين ينتقدها ابن تيمية ويجرح فيها تجريحاً مع العلم أن ابن القيم تأتي الكلمة وهي أعدل من رجل الحمار فيمسحها رحمه الله ويقول: لا يريد الشيخ كذا، فأنا لا أجادل في الكتب، وإنما قصدي أن تترك الواردات هذه والخواطر والوساوس واجتهد في الإخلاص وصدق اللجوء إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(247/25)
حكم مفارقة العاصي
السؤال
امرأة ذات ستة عيال أطفال وابنة صغيرة، وزوجها يروج المخدرات، فهل يجوز لها أن تعيش معه؟
الجواب
لا.
عليك أن تناصحيه، فإن أعلن توبته وعاهدك بالله عز وجل على التوبة وعدم الرجوع إلى ما يفعل؛ فابقي معه والحمد الله ويتوب الله على من تاب، وإن رفض خذي أطفالك واذهبي إلى أهلك وتكون القاضية حتى يتوب ويعود إلى الله؛ لأنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين.(247/26)
حكم حلق اللحية
السؤال
أتت فتاوى كثيرة جداً حول حلق اللحية من أجل الكمامات؟
الجواب
لا أدري من هو صاحب الفتوى الذي أفتى بحلق اللحية من أجل الكمامات، وقد يكون من المفتين في باريس أو بانكوك أما علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يفتون بهذا أبداً.
وقد طالعت في بعض المجلات رجلاً تسأله امرأة في مجلة خليعة ساقطة تقول: ما حكم زيارة المرأة للمقابر؟ وهو يفتيها قبل صفحات بأن تسافر وحدها؛ لأنه يقول: المجتمع أصبح قرية حضارية، فتقول: ما حكم زيارة المقابر للمرأة؟ قال: يجوز بشرط أن يكون معها محرم، نعم.
حتى لا يخرج الميت عليها.
واللحية لا تؤثر في الكمامات، بل هي كمامات واقية من الكيماوي والمزدوج، وهي مجربة بإذن الله عز وجل؛ لأنها متبعة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأول من يموت في القصف الذين ليس عندهم لحى؛ لأنهم عندهم خوف كبير، بل على الحليق أن يربي لحيته حتى يموت على السنة، ولا يموت وهو حليق؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إذا أتاه الرجل يعرف أمته بالسنن، فيأتيه الرجل وهو حليق فيقول: أنا من أمتك، قال: لا.
أعطني العلامة.
والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء
وهل عند الأمة فراغ حتى تحلق لحاها من الصباح إلى المساء، من الأذن إلى الأذن.
أيها الإخوة الكرام: نسأل الله لنا ولكم حماية ورعاية، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم انصرنا، اللهم ثبت أقدامنا، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم أبق من في بقائه نصرة للإسلام، وأهلك من في هلاكه نصرة الإسلام.
اللهم من دبر لنا حرباً فدبر عليه حرباً شعواء، اللهم من أراد بنا وأراد الإسلام بسوء فاجعل سوءه في نحره، وتدبيره في تدميره، وخذه أخذ عزيز مقتدر وسارع بهلاكه.
اللهم أحي من كان في حياته عز للإسلام والمسلمين، وأمت من كان في حياته ذل الإسلام، اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
اللهم اهدنا وسددنا وتقبل منا عملنا واغفر لنا خطايانا وسيئاتنا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا والضلال والمهرجون والمروجون منا، اللهم خذنا بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم إلى الجنة وإلى دار النعيم ولا تأخذنا بسيئاتنا إلى النار.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(247/27)
سؤال وجواب
إن السؤال ذو أهمية عظيمة، حيث يبين الحق، وينير الطريق، ويشفي من العي.
وقد عرض الشيخ في محاضرته هذه لكثير من المسائل المتنوعة الأبواب، ففي التفسير ذكر أسباب نزول بعض الآيات، وفي الفقه تتحدث عن بعض أحكام العبادات والمعاملات التي يحتاجها المسلم في حياته.
وفي العقيدة تكلم عن بعض المسائل الشركية التي تخالف العقيدة السليمة، وإلى غيرها من الأحكام والمسائل والنصائح.(248/1)
أهمية السؤال
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
عنوان هذه المحاضرة: (سؤال وجواب) ورقمها: السادسة بعد الثلاث مائة، وأشكركم على حضوركم، وأشكر إمام المسجد على تقديمه، وأسأل الله أن يجمعنا بكم في دار الكرامة.
قبل أن أبدأ في هذه المحاضرة وهي على شكل سؤال وجواب، أنبهكم على سنة المغرب؛ فإن من لم يصلها عليه أن يصليها في ختام المحاضرة، ومن لم يتسن له إلا بعد العشاء فليصلها بعد العشاء، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقضي السنن الرواتب، وهاتان الركعتان بعد المغرب من السنن الرواتب التي حافظ عليها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: {حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر، وركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها}.
أيها الإخوة الفضلاء: لقد أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بالسؤال، فقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] والسؤال نصف العلم، والجواب نصف العلم، وحسن السؤال من حسن العقل؛ وعند أبي داود: {أن رجلاً أصابته شجة -جرح في رأسه- فقال لأصحابه: هل لي رخصة في أن أتيمم؟ قالوا: لا رخصة لك، فذهب إلى الماء، فاغتسل، فدخل الماء في جرحه فمات، فلما أُخبر الرسول عليه الصلاة والسلام قال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، إنما شفاء العي السؤال} والله يقول: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].(248/2)
متى يمنع السؤال
السؤال محذور في موطنين:
الموطن الأول: أن تسأل عما لا يعنيك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة:101] فشيء لا يعنيك لا تسأل عنه، كمن يضيع عمره في أسئلة وهو بحاجة إلى أسئلة أحسن منها، ولكن أمضى عمره في الأسئلة، مثل الجدل البيزنطي حول دوران الشمس حول الأرض أو العكس، أو حكم أطفال أهل الفترة، أو أسئلة لا تعنينا ولا تنفعنا في الحياة.
الموطن الثاني: ألا تسأل عن شيء استأثر الله بعلمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، مثل سؤال المتشابه من القرآن، وتتكلف علمه مثل: حم، آلم، طسم، إلى غير ذلك من الحروف التي استأثر الله بعلمها أو علم المتشابه، فإن أهل العلم كـ ابن هبيرة الحنبلي يقول: " إن من معتقد أهل السنة أن يكفوا عن المتشابه " والله يقول: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران:7].
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن كثرة السؤال، قال الإمام مالك: " أراها المعضلات والأغلوطات ".
أي: كثرة السؤال من المعضلات، فالذي يتعجز العلماء والمفكرين والدعاة وليس قصده العلم والفائدة بل أن يعجزهم، فهذا منهي عنه، وقيل: من سأل الناس مالاً تكثراً، فإنما يسأل جمراً.(248/3)
موضوع الأسئلة، وفوائد الأسئلة
أيها الإخوة الفضلاء: بين يدي عشرون سؤالاً، منها: أسئلة في العقيدة، وأسئلة في الفقه، وأسئلة في الحديث النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، وأسئلة في الفكر الإسلامي، ومنها: أسئلة في المؤلفات والأدب، وأسئلة اجتماعية، فعسى الله أن يسددنا ويهدينا بما نقول، وينفعنا بما نسمع، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعل هذا العلم حجة لنا لا حجة علينا، وأن يجعل مجلسنا هذا من مجالس الجنة التي يذكرنا الله بها يوم القيامة.
قال عطاء بن أبي رباح: [[مجلس الذكر يكفر سبعين مجلساً من مجالس اللغو]] ودخل عليه الصلاة والسلام المسجد فوجد حلقتين اثنتين أهل حلقة يدعون الله ويسألونه ويستغفرونه، وأهل حلقة يتذاكرون العلم والمسائل ويبحثون في الفقه، فقال عليه الصلاة والسلام: {أما هؤلاء -أي: الداعون- فيسألون الله إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيتعلمون، وإنما بعثت معلماً وجلس بينهم عليه الصلاة والسلام} فهذه من خيرة المجالس.
قال الحسن بن علي: مجلس العلم لا يفوتك منه أحد من خمسة:
الأول: أن تكتسب فيه صديقاً.
والثاني: أن يغفر لك به ذنب.
فإن الله عز وجل بعد أن يصرف الناس يسأل الملائكة وهو أعلم بهم -والحديث عند مسلم - فيقول: {كيف تركتم عبادي؟ قالوا: تركناهم يسألونك، قال: ما يسألوني؟ قالوا: الجنة -الحديث طويل في آخره يقول الله تبارك وتعالى-: أشهدكم أني غفرت لهم، قالوا: يا ربنا! معهم فلان بن فلان إنما جلس معهم هكذا، قال: وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم}.
والثالث: أن تستفيد مسألة علمية، فتستفيد حلالاً تعرفه، أو حراماً تجتنبه، أو فقه آية، أو معنى حديث من ميراث محمد صلى الله عليه وسلم.
الرابع: أن يزول عنك الوسواس، فإن الشيطان يفر من مجالس الذكر، ولذلك أوصى كثير من العلماء الفطناء من أصابه صرع أو مس من الجن أن يكثر من المحاضرات، والجلسات، والدروس، ومباحثات أهل العلم.
الخامس: التوبة من الله عز وجل والرحمة تغشاك بإذن الله ونحن معك.
من كان ملتمساً جليساً صالحاً فليأت حلقة مسعر بن كدام
فيها السكينة والوقار وأهلها أهل العفاف وعِلْيَةُ الأقوام(248/4)
أسئلة في التفسير وأسباب النزول(248/5)
سبب نزول قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ)
السؤال الأول: ما سبب نزول هذه الآيات: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة:75 - 77]؟
الجواب
قال أهل السنة -من العلماء- على رأسهم ابن جرير وابن كثير: سبب نزولها أن رجلاً اسمه {ابن جميل عاهد الله عز وجل، وكان فقيراً، وقال: يا رب! أعاهدك إذا رزقتني مالاً أن أجعله في طاعتك، وأنفقه في مرضاتك، فأعطاه الله ما شاء من المال، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب يجبي الصدقة، فذهب فمر على المسلمين فأعطوه الصدقات، إلا العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم وخالد بن الوليد وابن جميل، منعوا الثلاثة فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم -وأصل الحديث في البخاري ومسلم - فقال عليه الصلاة والسلام: {أما العباس فهي عليَّ ومثلها -يعني: الزكاة لأنه دفعها لسنتين، فهي دين على الرسول صلى الله عليه وسلم- وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً فقد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله} أي: جعل ماله وقف فلا زكاة عليه، فلماذا تطلب منه زكاة؟
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذله
خالد عنده مائة فرس جعلها وقفاً في سبيل الله، ومائة درع كذلك، والوقف لا زكاة فيه.
وأما ابن جميل الداهية الدهياء، فيقول فيه عليه الصلاة والسلام: {وأما ابن جميل فما ينقم إلا أن كان فقيراً فأغناه الله} يقول لـ ابن جميل كالمستهزئ به والمتظاهر عليه، يقول: {كان فقيراً فأغناه الله} فهذا جزاء المعروف والإحسان، فأنزل الله في ابن جميل آيات بأسلوب لا يجرح ولا يشهر، وهو أسلوب الداعية الناجح فلا يسمي الأسماء ولا الكيانات ولا الهيئات والأشخاص، وقد كان يقول عليه الصلاة والسلام إذا تكلم: يا أيها الناس! إن منكم من فعل كذا وكذا ولا يسمي، أنزل الله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة:75 - 77] وهذه الآية تسري على كل من يفعل ذلك، فالمال مال الله، والمنصب لله، والصحة أعطاها الله، والرزق من الله، فليس لأحد منَّة على الله بل المنة كلها لله، وكثير من الناس تمر بهم ظروف فقر ويعاهدون الله في وقت الرخاء أن يبذلوا وأن يعطوا؛ فإذا منحهم الله؛ تولوا على أعقابهم ونكصوا ونقضوا عهد الله وميثاقه.
أذكر قصة باختصار ذكرها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام وهي في الصحيحين من حديث أبي هريرة، يقول: {كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل ثلاثة: أقرع وأبرص وأعمى؛ الأقرع: الذي لا شعر في رأسه، والأبرص: الذي تغير جلده من البرص وذهب بهاؤه، والأعمى: الذي ذهب بصره، أراد الله أن يبتليهم، فأرسل لهم ملكاً من السماء، فمر على الأقرع، فقال: ماذا تشتهي وتتمنى؟
قال: أتمنى من الله أن يرد علي شعر رأسي الذي قذرني الناس به، فسأل الله أن يرد عليه شعره فرده، ثم قال: ماذا تشتهي من الأنعام؟ قال: أشتهي الإبل، فدعا الله له فرزقه الله بناقة فولدت وأنتجت حتى ملأت الوادي، ثم ذهب إلى الأبرص وقال: ماذا تطلب من الله؟ قال: جلداً حسناً يرده الله علي فقد قذرني الناس بجلدي، فسأل الله فرد عليه الجلد الحسن، قال: ماذا تشتهي من الأنعام؟ قال: البقر، فسأل الله فأعطاه بقرة فولدت وأنتجت حتى ملأت الوادي، ثم ذهب إلى الأعمى، قال: ماذا تشتهي؟ قال: أن يرد الله علي بصري}.
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي عوج وفي فمي صارم كالسيف مشهور
وعند العمى أقول: العمى قسمان: عمى القلب وهو الذي لا طب فيه إلا أن يشاء الله، وعمى البصر وهو سهل، فعمى البصر سهل وأجر من عمي على الله، يقول سبحانه في الحديث القدسي في البخاري: {من ابتليته بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة} وأما عمى القلب فهو الذي ليس بعده عمى، يقول سبحانه: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19] وقال: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
{فأعطاه، ثم قال: وماذا تشتهي من الأنعام؟ قال: الغنم، فسأل الله له شاة فأعطاه شاة فأنتجت حتى ملأت وادياً، ثم ذهب الملك وتغير في صورة مسكين} الله الذي يصوره، فقد صور جبريل له ستمائة جناح كل جناح يسد ما بين المشرق إلى المغرب، ومرة يصوره في صورة رجل كما في الصحيحين يوم أتى يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن الإسلام، واسمع قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1].
{أتى هذا الملك على صورة مسكين، فمر بالأقرع، قال: أريد منك ناقة، أنا فقير ومسكين، قال: المال مالي ولا أعطيك شيئاً، قال: كنت أقرع وكنت فقيراً فرزقك الله، قال: لا.
ورثت المال كابراً عن كابر، قال: إن كنت كاذباً فردك الله على ما كنت، فرده الله أقرع فقيراً، ثم ذهب إلى الأبرص، وقال: أعطني بقرة أتقوت بها، قال: لا.
المال مالي، قال: قد كنت أبرص فقيراً، قال: لا.
ما كنت أبرص وما كنت فقيراً، قال: إن كنت كاذباً فردك الله على ما كنت، فرده الله كما كان، ثم ذهب إلى الأعمى فسأله قال: خذ ما شئت واترك ما شئت، والله لا أشكرك على ما تركت، كنت أعمى فرد الله عليَّ بصري، وكنت فقيراً فأعطاني الله فخذ ما أردت، قال: أما أنت فقد رضي الله عنك وغضب على صاحبيك} وهذه النعم تجري، زكاة البدن تستخدمه في طاعة الله، وزكاة العينين البكاء، وزكاة اللسان الثناء، وزكاة الجسم الحياء، وكلها مما أوجبه الله على عباده.(248/6)
سبب نزول قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ)
السؤال الثاني: ما سبب نزول قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وما هو ظلال الآية في واقعنا المعاصر؟
الجواب
سبب نزول الآية كما في البخاري من حديث عبد الله بن الزبير: {أن الزبير بن العوام حواري الرسول صلى الله عليه وسلم اختصم هو ورجل من الأنصار في مزرعة، فأتى صلى الله عليه وسلم إلى صاحب المزرعة، وكان للزبير مزرعة فوق مزرعة الأنصاري، فقال صلى الله عليه وسلم للزبير: اترك الماء قليلاً حتى يعود للجدر ثم اتركه للأنصاري، قال الأنصاري للرسول صلى الله عليه وسلم: أتقضي له لأنه ابن عمتك؟ فغضب عليه الصلاة والسلام -وكان ذاك الوقت صلح، فلما وصل إلى الحكم- قال: اترك الماء} قال بعض العلماء: حتى الكعب، وقال بعضهم: حتى يصل إلى الجدر، وهذا هو الحكم ثم اتركه يمر، فأنزل الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
الآية لها ظلال ثلاث:
الأول: يقول بعض العلماء المجيدون معنى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65] أي: يرضوا بحكمك ويرضون بك إماماً {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] معنى يحكموك: أي في معتقداتهم وعباداتهم وأخلاقهم وسلوكهم، من رضي بإمامة الرسول صلى الله عليه وسلم فجعله إماماً له في المعتقد والأخلاق والسلوك وأكبرها لا إله إلا الله، وفي سنن منها: اللحية، والثوب فهي من السنة، وإماطة الأذى عن الطريق، والسواك، وفي كل دقيقة وجليلة يحكم فيها محمد عليه الصلاة والسلام.
يا مدَّعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهوينا
خذها جميعاً تجد فوزاً تفوز به أو فاطرحها وخذ رجس الشياطينا
والتحكيم يعني: أن تجعله إمام، الآن أتباع استالين ولينين يحكمونه في كل شيء، وكذلك يقلدونه.
ولي خان باكستاني توفي قبل ما يقارب سنة أو سنتين، وقد دخل ابنه الحزب الديمقراطي في الانتخابات مع بناظير، هذا من حبه لـ لينين وقد أخذ تمثالاً لـ لينين معه في المجلس، كان إذا أراد أن ينام أخذ تمثالاً لـ لينين وينام بجانبه، ويوم حضرته الوفاة في إسلام آباد أوصى أبناءه أن يدفنوه في موسكو بجانب قبر لينين ليحشر معه في نار جهنم، ولكن رفضت روسيا أن تستقبل جثته، وانظروا الحب، وانظروا الخزي والعار، وفي الأخير طلب أن يدفن، فدفن في داخل أفغانستان، وإنما أقول هذا؛ لتعلق بعض الناس ببعض المغرضين، من أمثال: ميشيل عفلق من مؤسسي حزب البعث في العالم العربي، وله أتباع رأيناهم يأخذون صورته ويقبلونه، ويقولون: من أجل عينيك {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] وأولياء الله والرسول عليه الصلاة والسلام أشد وأحسن وأقوى وأعظم.
فعجباً لهؤلاء كيف يقلدون هؤلاء الملاعين الملاحدة الأقزام؟! فأين أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وتلاميذه وأتباعه؟!
تعال يا من حاله في وبال ونفسه محبوسة في عقال
يا راقداً لم يستفق عندما أذن في صبح الليالي بلال
روض النبي المصطفى وارفٌ أزهاره فاحت بريا الجمال
وأنتم أبناؤه وأتباعه على ملته.
يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار}.
والظلال الثاني: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65] تحكيم الدستور الإسلامي (الكتاب والسنة) في حياة الأمم والشعوب {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون * وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:44 - 47].
فمن حكم بغير ما أنزل الله فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا يكلمه الله ولا يزكيه وله عذاب أليم، يقول سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد قصة مشهورة عند أهل العلم وهي: {أن رجلين: يهودي ومنافق اختصما في قضية، فذهبا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول اليهودي: نذهب إلى محمد، والمنافق يقول: لا} لأن اليهودي يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يحكم بالحق، والمنافق خائف لأن الحق عليه.
فلما ذهبا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حكم بالحق، فقال المنافق: ما رأيك نعرض على أبي بكر عله أن يسهل لنا؟
قال: ذهبنا إلى أبي بكر فسألاه فحكم كحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أبا بكر سهل لين رقيق ما سألهم هل حكم قبلي أحد؟ فذهبا إلى عمر وكان في البيت، فقالا: نعرض عليك قضية، قال: ما هي؟ قالا: كيت وكيت! فقصا عليه القصة، فقال: عرضتم القضية على أحد قبلي.
هذا الرجل العملاق، الداهية الذي تفر منه الشياطين، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {هيه يا عمر والله ما سلكت فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجك}
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
{قال: أحكم قبلي أحد؟ قالوا: نعم.
قال: من؟ قالا: الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، قال: هل رضيتم؟ قالوا: أردنا أن نسمع حكمك، قال: انتظروا قليلاً لأخرج شيئاً حتى أرى الحكم، فذهب في طرف بيته وأخرج السيف مسلولاً ودخل على الاثنين فضرب رءوسهما حتى فصلهما عن الأعناق} إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم!!
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
ولا شلت يمينك يا أبا حفص.
الظلال الثالث: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} [النساء:65] بعض الناس يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه يجد حرجاً، وهذا دليل على النفاق، مثلاً: من يحمل السنة وفي قلبه خجل من الناس، وإنما يفعل مجاملة، فهذا في قلبه مرض ونفاق، مثل بعض الناس تجده يحضر صلاة الجماعة لكنه كالمجامل، ويعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم حث عليها لكن في قلبه حرج.
وبعضهم يقول: ليت الرسول صلى الله عليه وسلم ما أتى بالحجاب، أنا أحجب بناتي والله المستعان؛ لكن ليته ما أتى به، هذا يدخل في عموم من في قبله مرض، لا يرضى بالإسلام، ولا يرضى بحكمه عليه الصلاة والسلام.(248/7)
معنى قوله تعالى: (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا)
السؤال الثالث: ما معنى قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43]؟
الجواب
معنى لولا عند أهل العلم: أي: هلاَّ، إذ جاءهم بأسنا، والبأس قيل: النكبة في الحياة، وقيل: المصائب التي يبتلي الله بها الناس، وهي أخذ الله {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:102] فمعنى الآية، يقول سبحانه: لماذا يوم أتاهم بأسنا وعذابنا ونكباتنا ومصائبنا ما رجعوا إلينا وتضرعوا وبكوا وندموا واستغفروا؟!
هذه الآية -أيها المسلمون- نعيش ظلالها هذه الأيام، فلن ينقذنا من أخذ الله ولا من عذابه ومقته وتدميره إلا الله، لا تنقذنا أمريكا ولا بريطانيا ولا فرنسا ولا دول الأرض كلها، فإن الله إذا غضب لا يقوم لغضبه أحد، فالمفر إلى الله، يقول الله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] والذي يعتقد أن قوة الأرض وأركان الأرض هم الذين يحولون بينه وبين أخذ الله فهو جاهل، فعلينا أن نحفظ النعم بالشكر، البلد الذي رأيناه بلداً ناعماً سعيداً، بات هادئاً وما علم أنه سوف يجتاح في الصباح.
يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
سبحان الله! يحدثنا أحد تجار الرياض يقول: ذهبت إلى الخفجي؛ لأستقبل الرعايا واللاجئين الذين خرجوا من الكويت فلقيت تاجراً صديقاً لي يقول: أمواله بالملايين المملينة من أكبر تجار الخليج، قال: فلما رآني وكنت أوزع على الناس من مائة ريال يأخذون بها ماء وببسي، قال: فلما رآني هلت دموعه حتى جلس، فقال: يا فلان! والله ما تعودت آخذ وأنت تعرفني كنت أنفق الأموال والشيكات، والله إني كنت ألعب بالملايين في ليلة واحدة وفي يوم واحد، وأصبحت والله لا أملك ما أملأ به سيارتي وقوداً، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:102] {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] فالقوى لا تحمينا، فالله إذا غضب لا يقوم لغضبه أحد، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] وقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً} [الطلاق:8].
انظر التعبير! عتت: تمردت على آيات الله، قرية ناعمة لكن لا يصلي أهلها في المساجد، ويخرجون على شريعة الله، ويتعدون حدود الله ويسهرون على معاصي الله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [الطلاق:8 - 9] ولسنا من الشامتين على أبناء الكويت المسلمين، فهم إخواننا، وهم المهاجرون ونحن أنصارهم.
سيصغي له من عالم الغيب ناصر ولله أوس آخرون وخزرج
ولكن علنا نعتبر فإياك أعني واسمعي يا جارة! والله يقول: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف:27].
يقول: انظروا الشعوب حولكم! كيف دمرناهم، فلماذا لا تراعون أمر الله؟! هذا من ظلال الآية.
ومعنى تضرعوا: عادوا إلى الله، فقد كان السلف إذا أتت حروب على الحدود يلجأون إلى المساجد بقيادة الخلفاء، ويكثرون من النوافل ومن دعاء النوازل ومن البكاء.
وقعت في المدينة هزة خفيفة، يقولون: سقطت بعض الحوائط، وكان الخليفة هو عمر، فقد كان هو المسئول، فلما وقعت الهزة وقعت بعض الحوائط والجدران، فصعد المنبر ونادى في الظهيرة الصلاة الصلاة، فاجتمع الناس، فخطبهم وبكى، وقال: ما هذه الهزة؟ قالوا: من الله، قال: أنا أدري أنها من الله، ولكن ما سببها؟ قالوا: لا ندري، قال: لا تدرون {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
والذي نفسي بيده لو تكررت هذه الهزة لا أجاوركم في المدينة بعدها، قالوا: ماذا نفعل؟ قال: توبوا إلى الله وتضرعوا؛ فإن الله يقول: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43].
قال أهل التاريخ: هبت ريح شديدة على بغداد، وأخذت بعض الشجر، وهدمت بعض البيوت، والخليفة في ذلك الوقت هو هارون الرشيد، فنزل من قصره، ودخل المسجد، وكشف البساط، ووضع خده، وقال: والله يا رب! لا أرفع خدي حتى تهدأ الريح؛ لأنك إن قتلت أمة محمد فبسبب ذنوبي، قالوا: فما رفع رأسه حتى هدأت الريح واطمأنوا إلى رحمة الله عز وجل.(248/8)
أسئلة وأجوبة عن بعض الأحاديث(248/9)
تشبه النساء بالرجال والرجال بالنساء
السؤال الرابع: شرح حديث: {لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال}؟
الجواب
الحديث رواه أهل السنن وهو صحيح، وأما شرحه، فقوله صلى الله عليه وسلم: {لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء} فهو الرجل الذي يتشبه بالمرأة فيما يخص المرأة، مثل: تشبهه بكلامها، وبمشيها، وجلوسها، ولباسها، وحليتها، وأخذها، وعطائها وفي أنوثتها، ومن فعل ذلك استحق لعنة الله وغضبه.
{ولعن الله المتشبهات من النساء بالرجال} فمن تشبهت من النساء بالرجل في كلامه ولباسه وفي أخذه وعطائه وفي خروجه، فالتشبه بالرجال من النساء يدعو إليه -الآن- العقلانيون الذين ضلوا سواء السبيل بمشاركة المرأة في البرلمان، وتوليها للمنصب، وأخذها للوزارة والوظيفة، وهذا ليس وارداً في الإسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: {لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة} والإسلام يحرم أن تتولى المرأة منصباً تأمر فيه وتنهى؛ لأنها ناقصة عقل ودين، فليعلم هذا حفظكم الله.
وقد رأيت كتيبات تباع في الأسواق وفيها فصول تنادي بهذا الأمر، وبعض الناس من صغار طلبة العلم أو المغرورين بالثقافة المنحرفة والعقلانية المعاصرة، اغتروا بهذا، وناقشوا نقاشاً باطلاً ليدحضوا به الحق، ولكن أمر الله عز وجل على العين والرأس ونحن نكرر هذا الحديث، والتشبه ظهر في هذا العصر في كثير من الناس وأبناء الجيل، لكن بدأت هذه الظاهرة تخف والحمد لله، ظهر في هذا الجيل يوم كانوا يسافرون إلى أوروبا، خف التأنث، والتشبه بالبنات، والتشبة بأعداء الله عز وجل، وجعل الدين رجعية وتخلف، وازدراء سلف الأمة، وتراثها، وميثاقها، وهذه مسحة العلمنة، وسوف أعرض إليها في آخر المحاضرة إن شاء الله.(248/10)
شرح حديث: (من تشبه بقوم فهو منهم)
السؤال الخامس: ما شرح وما صحة حديث: {من تشبه بقوم فهو منهم}؟
الجواب
الحديث صحيح رواه أبو داود، ومعناه: من تشبه بقوم في زيهم وفي حركاتهم التي اختصوا بها فهو منهم ويحشر معهم، نحمله على ظاهره.
يقول سفيان بن عيينة: " أمِرُّوا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم على ظاهرها ".
قد يأتي لك أحد الناس يناقش في الحديث يقول: معنى {من تشبه بقوم فهو منهم} أي: يشابههم، أو ربما سار في طريقهم، أو شابههم في بعض الجزئيات، لا، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {فهو منهم}.
ومن التشبه: ما يفعله بعض المسلمين الآن من الانهزاميين الذين أصيبوا بالإنهزيمة: متشبهون بأعداء الله، فبعض الناس يرى الخواجة كأنه ملك نزل من السماء، لا طهر الله الخواجات فهم أنجس خلق الله، وهم أعداء الله عز وجل في كل عصر ومصر، وفي كل أرض، وهم يرصدون للإسلام المراصيد، والهزيمة النفسية التي أصابتنا نحن، لأننا نرى أننا ما قدمنا للبشرية في مائة سنة أو مائتين سنة شيئاً، نعم يقول:
كم صرفتنا يداً كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه
فنحن الآن عالة على البشر، إذا ما حملنا الدين وقدمناه للناس فما قدمنا شيئاً، يقول كريسي موريسون في كتاب الإنسان لا يقوم وحده: " قدمنا لكم الثلاجة والبرادة والطائرة والسيارة وما قدمتم لنا الإسلام ".
أي: ينتظر منا الغرب والروس والأمريكان أن نقدم لهم الإيمان، لا ينتظرون منا أن نصنع لهم طيارة، نحن لا نستطيع أن نصنع ولا هايلوكس، حتى الطباشير ما صنعناها فكلها مستوردة، مكتوب عليها: صنع خارجي فقط، وحتى الدبابيس والإبر، وما فعلنا شيئاً إنما وقفنا موقفاً سلبياً من توزيع هذا الدين للناس، والناس ينتظرون منا متى نصل به إليهم.
أنا قرأت قصيدة لـ محمد إقبال مترجمة اسمها (بحثت عنك يا رسول الله في ألمانيا).
هذا محمد إقبال شاعر الباكستان وهو شاعر عملاق، شاعر يحب الله عز وجل، كان إذا صلى الفجر أخذ القرآن فيبكي حتى طلوع الشمس، وهو سبب انفصال باكستان عن الهند وقيام الدولة، يقول: بحثت عنك يا رسول الله في ألمانيا فما وجدتك! لقد سافر ليدرس الفلسفة في بون لأن عنده دكتوراه في الفلسفة.
قال: يا رسول الله! بحثت عنك في ألمانيا، والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة ليس في ألمانيا، هو مدفون في المدينة، وهو يدري لكن يقول: بحثت عن عدلك ورأفتك ورحمتك وعن منهجك فما وجدت ذلك يا رسول الله في ألمانيا أين أنت؟ فقد وجدت ناطحات السحاب، وجدت السيارات والقاطرات، لكني ما وجدت الحب، ولا وجدت الإيمان، ولا وجدت السلام، نعم! هم الآن يسعون إلى الهاوية كما يقول دايل كارنيجي: " نسعى إلى الهاوية 100% "؛ قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124].
يقول أحدهم وهو من المهلوسين:
جئت لا أعلم من أين! ولكني أتيت!!
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!!
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت!!
كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري!!
ولماذا لست أدري؟!! لست أدري!!
لكن أهل الإيمان على بصيرة من الله، قال سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
فالتشبه موجود، وهو انهزامية في هؤلاء المتشبهين، التشبه موجود في الأكل، ونحن من عادتنا أهل الإسلام أن نأكل -مثلاً- على السفر، ولكن الأكل على الماسات عادة من الغرب، ولذلك اليابانيون يرفضون ذلك تمسكاً بعادات اليابان، لا لأنهم لهم دين لكن هكذا يقولون: إن رئيس اليابان بعد الاتحاد قبل ما يقارب (66سنة) زار طلابهم في الغرب، فقال: اصنعوا مأدبتين على طريقة اليابانيين والغربيين، ثم اعرضوا لي الشباب من اليابان، فعرضوا له؛ فإذا بعضهم جلسوا في الأرض على عادتهم، وأناس تأثروا بالغرب وجلسوا على الماسات يأكلون، قال: أما هؤلاء فلا يصلحون وأخذهم معتقلين، وأما هؤلاء فيبقون للدراسة، نريد من يبقى على عادات اليابان، هذا واليابان والغرب كلهم على يسارك في النار، لأنهم أمم ضالة، فأين المسلم الذي يعتز برسالته ومبادئه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا التشبه يغني فيه كتاب اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم لـ أبي العباس ابن تيمية نظر الله وجهه في الجنة.(248/11)
من تعاليم الإسلام في التربية
السؤال السادس: يقول عليه الصلاة والسلام: {مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع} ما مدى صحة هذا الحديث وما معناه؟
الجواب
الحديث صحيح رواه أبو داود وأحمد وغيرهما.
ومعنى {مروا أبناءكم بالصلاة لسبع} يقول أهل العلم: إذا بلغ الولد سبعاً أمر بالصلاة أمراً لا ضرباً، فيقال له: صلِّ هداك الله، لماذا لا تصلي، ويلام ويعاتب، فإذا بلغ العاشرة عزر على الترك بالضرب، فالسن الذي يكلف فيها للصلاة في العاشرة، فيؤخذ إلى المسجد في العاشرة ويتأدب به، أما ما دون السابعة فلا يؤتى بهم إلى المساجد، لئلا تتحول المساجد إلى روضة أطفال وتشويش على المسلمين، وإضاعة لمقدسات المسلمين، والأصل هو تقدير واحترام بيوت لله عز وجل.
أما قوله: {وفرقوا بينهم في المضاجع} فهذا عند النوم، وللعلماء تعليق على هذا الحديث، يقولون: لا بأس أن يكونوا في غرفة واحدة، لكن يفرق بين الذكر والأنثى، والذكر والذكر، والأنثى والأنثى؛ لأنه حكم الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام.(248/12)
في الخرافات وما يتعلق بها من الشركيات(248/13)
السحر والكهانة
السؤال السابع: ما حكم تعلم السحر والكهانة، وما حكم من ذهب إلى من يزاولهما؟
الجواب
السحر عند كثير من العلماء كفر، من تعلمه فقد كفر، ولو أن للشافعية رواية في أنه ليس بكافر وإنما هو صاحب كبيرة.
قال عليه الصلاة والسلام: {وحد الساحر ضربة بالسيف} وقد قتلت حفصة ساحرة، وقتل جابر بن سمرة ساحراً، والكاهن: هو الذي يدعي علم الغيب.
ومن ذهب إلى هؤلاء فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد} هذا من صدقه، أما من أتى إليه ولم يصدقه؛ لم تقبل له صلاة أربعين يوماً لقوله صلى الله عليه وسلم: {من أتى عرافاً أو كاهناً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً} قال أهل العلم: هذا فيمن لم يصدقه، أما من صدقه فقد كفر بما أنزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهم منتشرون، وأنا ألفت انتباهكم إلى أناس يدعون إخراج الماء من بطون الأرض، وهؤلاء على قسمين:
قسم جائز وقسم محرم.
الجائز: من يستدل على الماء بالعلامات؛ فيذهب معك إلى الأرض التي تطلب بها الماء، فينظر إلى الشجر والعروق والجبال فيستدل بهذه العلامات، فهذا لا بأس به وهو علم موجود عند العرب من قديم، وقد أثبته في أول مباحثه أهل الجيوليجيا.
أما من يبقى في بيته، ويقول: في البقعة الفلانية بئر، وإذا حفرت كذا وجدت الماء، وخذ لك عن يمينك كذا وعن يسارك كذا، فهذا ضال مضل منحرف ملعون على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم.(248/14)
تعليق الحروز
السؤال الثامن: هل يجوز تعليق شيء من الحروز ولو كتب عليها آيات من القرآن؟
الجواب
الأصل في ذلك المنع، وما علمت أحداً يجيز أن يعلق شيئاً مكتوب على جسمه إلا عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: إذا كان من القرآن؛ ولكن الصحيح منع ذلك، سواء من القرآن أو غير ذلك، فلا يكتب في قراطيس، ولا يعلق على الطفل أو الكبير من هذه الحروز، سواء من القرآن أو من السنة أو من غيرها سداً لهذا الباب، وقد ذكر ذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب، فلا يتجوز في هذا ولو كان من القرآن، ويكفي أن يرقى على المريض المصروع المسحور الذي أصابه مرض فيقرأ عليه الآيات البينات المؤثرة كآية الكرسي والمعوذات والإخلاص.(248/15)
بعض الألفاظ الشركية المنهي عنها
السؤال التاسع: ما هي الألفاظ الشركية المنهي عنها؟
الجواب
اشتهر بين الناس ألفاظ شركية، مثل: لولا الله وفلان، وما شاء الله وشئت، والحلف بغير الله، يقول صلى الله عليه وسلم: {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك} وانتشر بين الناس ألفاظ شركية، مثل: (وحياتي، وشرفي، وحياتك، وشرفك، والنبي) وهذه ألفاظ محرمة وشركية، ويحجب الباب فيها، وقد انتشرت حتى في أبناء التوحيد الذي يجب أن ينشئوا على التوحيد الخالص الصافي، لكن هكذا تفعل السنن واتباع الأقوام والتأثر بالآخرين!!(248/16)
أسئلة فقهية(248/17)
البيع بالتقسيط
السؤال العاشر: البيع بالتقسيط هل هو جائز أم لا؟
الجواب
البيع بالتقسيط على صورتين:
الصورة الجائزة هي: أن تزيد في الثمن من أجل الزيادة في الأجل، يقول ابن القيم: " زيادة الثمن من أجل زيادة الأجل لا بأس فيها".
مثلاً: عندك سيارة! تقول للمشتري: خذها اليوم بعشرين ألف، وبعد شهر بثلاثين ألف؛ فهذا جائز، لأنك زدت عشرة أيام من أجل زيادة عشرة آلاف من أجل زيادة الشهر، فزيادة الثمن من أجل زيادة الأجل لا بأس به، وهو بيع الناس المتعارف عليه.
أما من قال لا: يصح مثل من علق على سنن أبي داود، أو علق على بلوغ المرام كبعض العلماء، فهذا ليس بصحيح، وقد خالف كلام أهل السنة والجمهور، بل يزاد في الثمن من أجل زيادة الأجل، ولا يستوي أن تبيع الآن بيت بمائتي ألف وبعد سنة بمائتي ألف، لا بد أن تزيد من السعر إذا أردت من أجل زيادة الأجل.
أما بيع الجاهلية فصورته: أن تبيع -مثلاً- السيارة بثلاثين ديناً لمدة شهر فتنقضي المدة، فيقول المدين: ما عندي مال! فتقول: أتركك شهراً آخر وأزيد خمسة آلاف، ثم يأتي ويقول: ما عندي شيء، فتقول: أمهلك وأزيد عليك خمسة آلاف، فهذا محرم.
ويقول أهل الجاهلية: أتقضي أم تربي؟ أي: أتقضيني الآن أم أزيد عليك، فهذا هو المحرم فانتبهوا له.
وللفائدة: فقد اطلعت على بنود شركة الراجحي لبيع السيارات، وما أرى -إن شاء الله- بها بأساً؛ لأنه من أول العقد يخبرك بالزيادات على قدر السنوات، فيزيدون ثمناً من أجل زيادة الأجل، فهذا لا بأس به بإذن الله على حسب ما ظهر لي.(248/18)
المسح على الخفين
السؤال الحادي عشر: بيَّن المسح على الخفين أجله ووصفه ومدته وشروطه؟
الجواب
إن من لطف الله عز وجل أن جعل المسح على الخفين رخصة للمسلمين، وما خالف في ذلك إلا الرافضة، وهو شبه إجماع بين أهل العلم؛ فقد رواه سبعون من الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما شروط المسح على الخفين فهي:
أولاً: أن تلبس الخفين على طهارة.
ثانياً: أن يكون ساتراً للمحل الممسوح، ويكون إلى فوق الكعب بقليل، ولو كان فيه ثقوب يسيرة فلا بأس، قال ابن تيمية: " لا بأس بذلك؛ فإن الصحابة كانوا يلبسون اللفائف وفيها ثقوب وكانوا في فقر ومشقة ولا يجدون ما يسترها تامة ".
أي: الثقوب السهلة البسيطة.
ثالثاً: أن يكون داخل المدة؛ فإذا انتهت المدة، أو خلع الخف؛ فقد انتهت مدة المسح عليه.
أما كيفية المسح فهو: أن تأخذ الماء بأصابعك -رشاً- فتمسح على ظاهر الخف من أول أصابع الرجل إلى أول الساق وكذلك اليسرى.
وأما شرط: أن تلبسهما والقدمان طاهرتان؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: {دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين}.
هناك مسألة في المسح على الخفين وهي مسألة: ما إذا كنت طاهراً ولبست خفيك وأنت تمسح عليه، ثم خلعت الخف قبل أن تنتهي المدة هل ينتقض وضوءك؟
الصحيح عند الجمهور: أنه ينتقض؛ وأنها تنتهي المدة وعليك أن تتوضأ، وخالف في ذلك الحسن البصري وابن تيمية، وقالوا: لا.
لأنه ليس من نواقض الوضوء خلع الخف، والصحيح: أنه من نواقض الوضوء؛ لأن الخف بدل المغسول، فلما انتهى بدل المغسول بقي المغسول بلا غسل، فوجب عليك أن تغسل وأن تعيد الوضوء، هذا هو الصحيح إن شاء الله.(248/19)
بعض صفات المنافقين في القرآن
السؤال الثاني عشر: اذكر بعض صفات المنافقين في القرآن؟
الجواب
ذكر الله المنافقين في القرآن بأوصاف كثيرة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] أي: في الأعمال فيظهرون للناس بأعمال وهم في الباطن غير صادقين، قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ} [النساء:142] فهم يصلون ويأتون إلى المساجد لكن يقومون كسالى، والكسل علامة للنفاق، والتخلف عن صلاة الفجر علامة للنفاق، ومن يتأخر عن الصلاة ويأتي وهو كسلان فهذه علامة النفاق.
وقال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] الرياء شعبة من النفاق، وقلة الذكر من علامة النفاق، فإنه لم يقل: يذكرون الله، فهم يذكرون الله قليلاً، المنافق يذكر الآن سيارته ووظيفته ومنصبه وأهله وأطفاله أكثر من ذكر الله.
قيل لـ علي بن أبي طالب وقد قاتل الخوارج: [[أكفار هم؟
قال: من الكفر فروا.
قيل: أمنافقون هم؟
قال: لا.
المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً، لكن مبتدعة ضالة]].
يقول ابن القيم في الوابل الصيب: "لو لم يكن من فوائد الذكر إلا أن صاحب الذكر يأمن من النفاق لكفى بها فائدة ".
إذا رأيت الإنسان يتمتم بالذكر ويستغفر كثيراً ويسبح، فاعلم أنه بريء -إن شاء الله- من النفاق، فهو لا يصطنع الإيمان، لا.
الإيمان لا يصطنع، قد يجامل الإنسان يوماً أو يومين لكن طول الوقت لا يستطيع، لا بد أن يظهر المؤمن من المنافق، ومن أكبر علامات أهل الإيمان أنهم يذكرون الله.
ومن علامة النفاق: أن المنافقين إذا خلوا إلى شياطينهم في السهرات الماجنة، استهزءوا بأهل الدين وأهل العلم والفضل، يقول تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14 - 15] هذه من علاماتهم، وهذه من أساليب العلمانية وسوف أذكرها، وهي: الاستهزاء بالمسجد، والاستهزاء بالملتزمين، والاستهزاء بالدعاة والعلماء، ووصف الدين بأنه تأخر ورجعية وتزمت، كل ذلك من علامات النفاق العملي الذي أصابه، وربما يصل إلى نفاق اعتقادي في نفوسهم.
وهناك شريط بعنوان: (ثلاثون علامة للمنافقين) يغني جواباً عن هذا السؤال.(248/20)
اتباع شرع الله
السؤال الثالث عشر: يقول عليه الصلاة والسلام: {لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به} المطلوب صحة هذا الحديث وشرحه؟
الجواب
هذا الحديث مختلف في صحته، والراجح أنه حسن، يقول النووي " -وهو في الأربعين النووية -: روُّيناه، وفي لفظ: رويناه " في كتاب الحجة بسند صحيح، إذاً فهو حسن وبعضهم يضعفه.
وأما معناه: يقول صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم} أي: لا يكون كامل الإيمان حتى يكون هواه ورغبته تابعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى لا يرتاح إلا في سنته عليه الصلاة والسلام، وحتى لا ينبسط خاطره وينشرح صدره إلا بما يقرِّبه من سنة رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
وتجد بعض الناس الآن يأكل بشماله بدون عذر وهو مرتاح، لكن تعال إلى مؤمن ملتزم، وقل له: كل بشمالك، ينزعج ويضطرب، ويلومه ضميره، ويؤنبه قلبه، ويردعه إيمانه فلا يستطيع، ويظن أن الدنيا قامت عليه، وأن الرأي العام لامه، لا يستطيع؛ لأن هناك إيمان، فهواه تبع لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
لكن بعض الناس لا يبالي، فيأكل باليسار، يقول: ما الفرق بين اليمين واليسار؟
وإذا قيل له: يقول: يقول صلى الله عليه وسلم: {إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله} قال: لا.
الأمر عادي، فالأيدي خلقها الله سواء، هذه من المكابرة، ومن علامات النفاق وعدم اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام.(248/21)
جر الثوب خيلاء
السؤال الرابع عشر: حديث: {لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء}؟
الجواب
هذا الحديث رواه مسلم عن أبي ذر، ومعناه: أن الله عز وجل لا ينظر إليه عقوبة له، وعدم النظر إلى هذا العبد دليل ازدراء الله ومقته له، وهو من باب العتاب والعذاب، لكن هناك حديثان هذا الحديث وحديث: {ما أسفل من الإزار فهو في النار} قال أهل العلم: الإزار سواء الثوب أو السروال أو البشت أو الكوت أو ما يدخل فيها، إذا كان تحت الكعب فهو على قسمين اثنين:
أما من جره هكذا بلا كبر فهو في النار، وأما من جره كبراً ففي النار ولا ينظر الله إليه، إذاً: هنا وهنا النهي وارد، وقالوا: إنما زاد الرسول صلى الله عليه وسلم في ذاك الحديث لزيادة الوصف (خيلاء) فلما قال: (خيلاء) دل على زيادة العذاب، قال: لا ينظر الله إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأزرة المسلم إلى نصف ساقيه وإلا ففوق الكعب وهي سنة محمد وهديه عليه الصلاة والسلام.(248/22)
من غير منار الأرض
السؤال الخامس عشر: حديث: {لعن الله من غيَّر منار الأرض}؟
الجواب
هذا الحديث صحيح من حديث علي رضي الله عنه، وهو حديث طويل منه: {لعن الله من غير منار الأرض، لعن الله من ادَّعى إلى غير والديه، لعن الله من آوى محدثاً} أما معنى {من غير منار الأرض} فهو الذي ينقل الحدود ويسمى في اللغة العامية -وهي تسمية خاطئة- (الوثن) بين المزرعة والمزرعة، والأرض والأرض، ومن نقلها ظلماً وعدواناً فعليه لعنة الله عز وجل.
وهذا إن دلنا على شيء فإنما يدل على تحريم الظلم ظلم الأعراض والأموال، وفي ممتلكات الناس يقول فيه عليه الصلاة والسلام: {من اقتطع مال مسلم بغير حق لقي الله، وهو عليه غضبان، قالوا: ولو كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: ولو كان قضيباً من أراك} حديث صحيح، وقال عليه الصلاة والسلام: {من اغتصب قيد شبر طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين من النار} وهذا الحديث راويه سعيد بن زيد بن نفيل -أحد العشرة المبشرين بالجنة- وقد وقعت عليه مصيبة، ابتلته امرأة في عهد مروان بن الحكم في المدينة قالت: هذا سرق مزرعتي -المزرعة له والبئر له والنخل له، وهو من العشرة المبشرين بالجنة ومن دعاة الإسلام والمسلمين- أتت عجوز إلى مروان تبكي قال: ما لكِ؟ قالت: أخذ مزرعتي، قال: سعيد بن زيد يأخذ مزرعتك؟! قالت: نعم.
فأتى بـ سعيد وقال: أخذت مزرعتها، قال: أنا آخذ مزرعتها، قال: نعم.
ثم قال لـ سعيد بن زيد: أعندك إثبات على أنها مزرعتك؟ قال: الناس يعرفون أنها مزرعتي، قال: اثبت، قال: لا أستطيع لأني أخذتها من قديم والناس يعرفونها لكن دعها تحلف هي، فحلفت أنها مزرعتها، قال: خذي المزرعة.
ثم قال سعيد بن زيد: لقد سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من اغتصب قيد شبر من أرض طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين} اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها، واقتلها في مزرعتها.
قال الذهبي بسند صحيح: فعميت في المزرعة، ثم ذهبت بطفلة لها فوقعت على رأسها في البئر فماتت.
ولعذاب الآخرة أخزى لمن لم يتب، وتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا.
أما والله إن الظلم شؤم وما زال المشوم هو الظلوم
إلى ديان يوم الحشر نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
يقول ابن كثير: دخل أحد الصالحين على سلطان من السلاطين، وهذا السلطان جبار، كان يضرب الناس على وجوههم، وهذا الفعل يفعله فرعون ذو الأوتاد، ولا يفعله مسلم، فدخل على السلطان! فاقترب فقال للرجل: اقرب مني أكلمك عن مسألة؟ فاقترب فضربه على وجهه، فقال الرجل: اللهم إني لست بقوي فانتصر، ولست بمذنب فأعتذر، اللهم إني مغلوب فانتصر، اللهم اقطع يده، قال له: اعف عني، قال: لا أعفو عنك، فما مرت عليه جمعة إلا قطعت يده وعلقت بباب الإمارة في الكوفة، وهذا أمر الله وكلٌ قد يؤخر له إلا الظالم وهذا من ظلال حديث: {لعن الله من غير منار الأرض}.(248/23)
حكم صلاة الجماعة
السؤال السادس عشر: ما حكم صلاة الجماعة وما ورد فيها؟
الجواب
الصحيح عند المحدثين: أنها واجبة، ولو قال بعض الفقهاء: أنها سنة، لا.
بل ما تطمئن إليه النفس أنها واجبة، ورأيت أربعة عشر دليلاً في السلسبيل للبليهي رحمه الله على زاد المستقنع على ذلك:
منها: قوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43].
ومنها وهذا قد يكون مظنوناً: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] لكن الأدلة المحققة أربعة عشر.
ومنها: حديث الأعمى لما أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: {إني شاسع الدار أتجد لي رخصة؟ قال: أتسمع حي على الصلاة حي على الفلاح؟ قال: نعم.
قال: فأجب فإني لا أجد لك رخصة} الحديث عند مسلم والأعمى قيل: ابن أم مكتوم.
ومنها: حديث: {من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر} رواه عبد الحق الإشبيلي وابن ماجة وصححه الحافظ ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة، ونص على صحته الحاكم صاحب المستدرك.
أما حديث: {لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد} فهو موقوف على علي، وحديث: {إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان} ضعيف في الترمذي.
إذن أيها الإخوة: من علامة النفاق ترك صلاة الجماعة في المسجد، إذا رأيت الرجل لا يتعاهد المسجد كل يوم خمس مرات بدون عذر شرعي فاحكم عليه بالنفاق {أنتم شهداء الله في أرضه} ونحن نشهد أن من أتانا خمس مرات في المسجد نشهد له بالإيمان يوم القيامة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].
وفي صحيح مسلم رضي الله عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: [[ولقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يُهادى به بين الرجلين حتى يقام في الصف]] فليعلم هذا.(248/24)
أسئلة حول الفكر والثقافة(248/25)
كتب مشهورة في الساحة فوائدها وما يؤخذ عليها
السؤال السابع عشر: الكلام عن بعض الكتب المشهورة في الساحة مثل: الإحياء للغزالي؟
الجواب
الإحياء يسأل عنه بعض طلبة العلم، وأنا أرى أن الإنسان لو اكتفى بكتب أهل السنة وترك هذا الكتاب كان أحسن؛ لأن هذا الكتاب فيه غبش، فيه ثلاثة أمور وقضايا كبرى انتبهوا لها:
أولاً: لا تأخذ المعتقد عنه، فالمعتقد مهم، وصفاء المعتقد -والحمد لله- لا ننتقص بلداً إسلامياً، وهنا في الجزيرة أكثر صفاء في المعتقد، تجد العامي صافي المعتقد بإذن الله، والله ما نقولها عاطفة ولا تعصباً لكن مما نرى ونشاهد؛ فإنك تجد العامي على التوحيد من غير أن يقرأ كتب ابن تيمية وابن القيم ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولو أنا نعرف أن في العالم الإسلامي أهل سنة وجماعة وسلفيون ومهتدون ومقتدون لكن الصفاء والكثرة تجدها هنا، فأنا أحذركم ألا تأخذوا المعتقد من الغزالي في الإحياء، فهو أشعري مرة وصوفي مرة أخرى ومرة يوافق أهل السنة.
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ وإن لقيت معدياً فعدناني
فليس له ضابط، حتى إن ابن تيمية دائماً يتكلم عنه في بعض القضايا، وابن تيمية يُسمَّى مُنظِّر أهل السنة والجماعة في المعتقد، هو عبقري إمام أهل السنة والجماعة من فترته إلى الآن.
يقول أحد المستشرقين: " وضع ابن تيمية ألغاماً في الأرض فجر بعضها محمد بن عبد الوهاب وبقي بعضها لم يفجر حتى الآن ".
عنده متفجرات فـ ابن تيمية عملاق، فقد رد على الملاحدة والفلاسفة والمناطقة والمعتزلة والأشاعرة والمعطلة والصوفية، ورد على كل فرقة، وقاتل بالسيف، وخطب ووعظ، وأفتى وزهد وألف، فرضي الله عنه وأرضاه.
هو البحر من أي النواحي أتيته فدرته المعروف والجود ساحله
والأمر الثاني في الإحياء: أنه حاطب ليل في الأحاديث لا يصحح ولا يضعف، يأتي بالحديث الموضوع، ويقول: قال الرسول عليه الصلاة والسلام، تقبل أو لا تقبل، ولذلك خرجه العراقي لكن بعد تخريج العراقي أحذر من إحياء علوم الدين.
الأمر الثالث: معجب بـ الصوفية، فإنه يأتي بأمور وخزعبلات ويرتاح لفعل الصوفية، يقول: تأخذ رقعة واحدة فقط، حتى أنه لا يرى ألا تلبس ثوباً واحداً لا سراويل ولا فنيلة من الزهد، ولا تأكل الرطب؛ لأن بعضهم -يمدحهم- يقول: ما أكل الرطب أربعين سنة.
يعني: البلح، يقول: من زهده ما أكله أربعين سنة، والرسول عليه الصلاة والسلام أكل اللحم والعسل والدجاج {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51].
ذكر أبو سليمان الخطابي في كتاب العزلة قصة رجل من الصوفية، يقول: أتى فأخذ لصقة من الشطرطون، فوضعها على عينه اليسرى وغطاها، قالوا: ما لك؟ قال: إسراف وتبذير أن أنظر إلى الدنيا بعينين، والله عز وجل يقول: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] أهذا أحكم من الله؟ الله أبصر يوم جعل عينين لكن هكذا الهلوسة.
يقول الذهبي: أحدهم وقد ترك الطعام ثلاثة أيام بلا فطور ولا غداء ولا عشاء، قال: زهد، حتى رأى أشباح الجوع مثل الدخان، قال: هذه الملائكة هبطت عليَّ، قال الذهبي له: والله ما هبطت عليك الملائكة لكن عقلك هاش وفاش وطاش، يعني: دندن من الجهل.
فسنة محمد صلى الله عليه وسلم تتبعها، ومن يقرأ الإحياء يصاب بهذه الهلوسة، مع العلم أني أقول: إن الأستاذ والمعلم والعالم إذا كان عنده دربة وعلم؛ فبإمكانه أن يستفيد منه، ففيه فوائد جليلة في عالم التربية؛ فإن الرجل مربِّ، والغزالي عملاق، ويُسمى حجة الإسلام، وهو بحر في العلم؛ لكن تجد هذا الدر في مثل المزبلة ما يخرجها إلا غواص أو فطن.
الكتاب الثاني: المحلى لـ ابن حزم، هذا كتاب فقه وهو مشهور بين أهل العلم.
وابن حزم رحمه الله كانت أسرته أسرة وزارة مع ابن جهور في الأندلس، ثم ترك الوزارة يقول: والله إني كنت أكتب في شبابي على ماسة الذهب بقلم من الذهب والدواة من ذهب، ثم تركت ذلك لوجه الله حتى ما أجد اليوم عشاء ليلة، يقولون: خرج من قصره وكان عمره (26سنة) وما تعلم العلم إلا بعد ستة وعشرين سنة، دخل المسجد يصلي على جنازة لأحد الولاة، فلما دخل المسجد بعد صلاة العصر على رأي المالكية لا تصلي فقام فسنن، فقال له ابن دحنون: اجلس هذا وقت نهي، فجلس.
فأتى في اليوم الثاني في وقت الضحى وفي هذا الوقت تجوز الصلاة فجلس، فقال: قم فصل، قال: أمس تجلسني واليوم تأمرني بالصلاة، قال: لأنك لا تعرف من العلم شيئاً، قال: والله لأتعلمن علماً أرد عليك وأمثالك، فذهب فهجر بيته وقصره ووزارته وتعلم حتى أصبح من المجتهدين الحذاق في الأمة، فـ ابن حزم هذا رهيب عقلية جبارة، ويسمى منجنيق الأندلس، لأنه يرمي دائماً بالمنجنيق، لكن في كتابه رحمه الله أمور منها:
أنه سريع أي: إذا رد على العلماء يرد بقوة، وبشراسة، ونسأل الله أن يغفر لنا وله، يقولون: لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقان، فهو يرد على بعض العلماء في مسألة جزئية في الطهارة فيقول: هذا عبد أضله الله على علم.
ويأتي يرد في موطن ثان، فيقول: أعوذ بالله من الهلوسة.
وفي موطن ثالث يقول: هذا كلام المجانين.
والأحناف يقولون: الدم أو قدر النجاسة منه بقدر الدرهم البغلي، فيستهزئ ويقول: الدرهم البغلي هذا من بغال الكوفة أو من بغال البصرة.
الأمر الثاني: أن الرجل مؤول في صفات الله عز وجل، ونحن أهل السنة نمرها كما جاءت مع الإيمان بمعناها بدون تأويل، بينما هو لا يؤول في الفرعيات في الأحكام، يقولون: سال في موضع الجمود، وجمد في موضع السيلان، والواجب عليه أنه يترك الصفات ولا يتكلم عليها، وإذا أتى إلى الأحكام تكلم فيها، لكنه على العكس! إذا أتى إلى الأحكام جمد على الظاهر، وإذا أتت نصوص الأسماء والصفات تكلم.
الأمر الثالث: أنه نفى القياس ففاته ثلث الشريعة، يقول: لا نقيس، فمثلاً الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في زكاة الفطر: {صاع من تمر، صاع من بر، صاع من شعير، صاع من أقط} وفي لفظ: {صاع من زبيب} قال: فقط من هذه الأشياء، فالربا عنده فقط في الربويات التي ذكر، ولا يجري القياس أبداً في المكيلات والموزونات أو المطعومات والمدخرات.
على كل حال! رحمه الله رحمة واسعة، ورأيت كاتباً في صحيفة من الصحف المحلية يستدل برأيه في الغناء ويقول: إنه جائز لأن ابن حزم أجازه، سبحان الله! يترك بعضهم ألف عالم، ويترك علماء القرون، ويذهب يبحث يبحث حتى يجد عالماً ثم يقع على خطأ فيه ويقول للناس: انظروا ابن حزم حلل الغناء والغناء خمر يسكر العقل، أترون أن الأغنية الواحدة يبقى فيها المغني سنة إلى ستة أشهر، يجري له فيها بروفات ويبقى ليلاً ونهاراً، فإذا أخرج الأغنية، قالوا: بلغ القمة ورفع رءوسنا أمام الناس، وقدم لنا خدمات، ويقولون: نحن -والحمد لله- مكتفين اكتفاءً ذاتياً من المطربين، ونستطيع أن نوزع على الناس ونصدر على شعوب العالم.
الثالث: كتب العقاد أيها الإخوة: كتب العقاد كثيرة ومنتشرة ولي عليها ملاحظات:
أولاً: قلة اعتنائه بالنصوص، فلا يورد آية ولا حديثاً! وكأن الرجل يكتب من مخيلته أو من كلامه.
الأمر الثاني: لا يحمد بعض تفسيره وبعض مقارناته في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يقارن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين نابليون في عبقرية محمد، وقد أكرم الله رسولنا ورفع قدره عن نابليون.
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
الأمر الثالث: ليس عنده حرارة إيمانية تتوقد، يقول: وقال محمد، ويذكر عن محمد، ويريد الرسول عليه الصلاة والسلام، سبحان الله! تتكلم عنه بهذه البرودة، ألست من أمته؟ ألست كاتباً من كتاب دعوته؟ فما هذا البرود؟ إنه من وصمات أهل الاستشراق، ومن أثر الغزو الفكري على كثير من الكتاب.
على كل حال! من أراد أن يقرأ فيها فلا بأس لكن ننبه على هذه القضايا.(248/26)
صور الغزو الفكري
السؤال الثامن عشر: ما هي صور الغزو الفكري؟
الجواب
من صور الغزو الفكري وهو من أساليب أهل العلمنة أمور:
الغزو الفكري في الإعلام، الغزو الفكري في التعليم، الغزو الفكري في مجتمعات الناس.
والغزو الفكري في الإعلام: هو أن يبقى إعلاماً سائباً لا موجهاً، إن قلت: حرام كله لا تستطيع، وإن قلت: حلال كله لا تستطيع، فهو إعلام يضيع القضية ويموه على الناس، ويوجد لهم بدل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بديلاً، فالمسلسلات ساعة، والأغنية ساعة، والحوار ساعة، وهذا من الضياع وهو من أقوى أساليب الغزو الفكري الذي فتك بالأمة.
والغزو في التعليم صور: منها بعدم إعطاء الكتاب والسنة وميراث النبي صلى الله عليه وسلم مكانته، فالآن المدارس تجعل حصة القرآن هي السادسة وهي حصة في الأسبوع، فيخرج الطالب من الثانوية لا يعرف القراءة، بل قصار السور لا يحفظها، بينما لو سألته عن تاريخ فرنسا أو الجغرافيا أو عن عاصمة العواصم، أو عن المنتجات، أو عن المناخ والتضاريس يحفظه كالفاتحة!! فأي علم هذا!! من هو الذي خطط هذه المناهج؟ إنه غزو فكري، إنها حمله أهل العلمنة.
ومن صور الغزو الفكري: تهوين شأن الدين، حتى تجد بعض الآباء الآن لا يريد أن يدخل ابنه كلية الشريعة، يقول: أريد الطب والهندسة، أما مجالات الشريعة وأصول الدين فلا.
وأنا أعرف أن هناك فضلاء في الطب وأخيار وجهابذة نفع الله بهم، لكن لا يستزرون بالشريعة على حساب الطب؛ لأننا إذا أردنا قلنا لهم وأنتم كذلك في قسم الولادة، والأمة بحاجة إلى داعية وإلى عالم أحوج من طبيب في قسم الولادة، أي: أننا نستطيع أن نستقدم كل صنف إلا اثنين: (العالم الورع التقي الصادق، والجندي المسلم) فالمهندس تستطيع أن تستقبله، خذ لك من أي مكان من أمريكا، من بريطانيا، من الأرجنتين، خذ من أي مكان؛ فالأطباء بالعشرات، كل عشرة في حبل، أما عالم الشريعة والجندي المسلم فلا يستقدم، هذه قضايا أحببت أن أنوه عليها.
ومن أساليب الغزو الفكري: الهجوم على الدين تحت ستار الغيرة، فتجد بعض الناس يقول: شوهوا الدين علينا وهو يريد أن يهاجمهم في العلانية يمدح الدين، وفي الخفاء يقتل الإسلام، ووالله إني أعلم أن بعض الآباء وقف حجر عثرة في طريق ابنه لا يهتدي ولا يتوب ولا يصلي ولا يستقيم، وإني أعرف شباباً شكوا إليَّ من آبائهم، يقول أحدهم: إن أبي رفض أن أربي لحيتي وأن أقصر ثوبي، ورفض أن أتعاهد المسجد، وأن أمشي مع الطيبين، وأن أحضر المحاضرات والدروس، وهذا غزو فتاك، قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10] وهذه صور كثيرة.
ومن الغزو الفكري: الإعجاب بالكافر، وتجد كثيراً من الأطفال يعرفون سير نابليون وهتلر وأمثالهم؛ لكن إذا سألتهم عن سيرة محمد عليه الصلاة والسلام أو سيرة أبي بكر أو علي أو عمر أو عثمان سكتوا؛ لأن التعليم قدم لهم الصورة هكذا
أنا رأيت مادة التاريخ في بعض المدارس وقد جعلوا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعمر وعثمان وعلي في أربع عشرة صفحة تقريباً، ثم أتوا ببقية التاريخ في أربعمائة صفحة تقريباً حتى أوصلوك إلى سليمان فرنجيه في بيروت وأين ولد؟ وكيف أكل؟ وماذا أفطر؟ ومتى وقع عليه الانقلاب؟
أهذا علم؟ أهذا تاريخ؟! وما علاقتنا بـ سليمان فرنجية أهلكه الله، وهل نحن محاسبون بكل ثورة قامت وانفصلت، وبكل حكومة وانقلاب؟!
ثلاث عشرة صفحة لا تصلح أن تكون ترجمة الرسول صلى الله عليه وسلم، انظر ماذا قالوا: ولد في مكة، حتى بوش يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم ولد في مكة فهذا ليس بعلم، العلم هو المحصل! أما المعروف عند الناس فليس علماً وليس مقصوداً أصلاً.
وقالوا: عنده أربع بنات، يعرف الناس أن عنده أربع بنات صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وهاجر من مكة إلى المدينة، وانتهت السيرة، لا.
أنا أريد أن تحدثني عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما تحدث ابن القيم في زاد المعاد، أنا أريد أن تحدثني عن الرسول صلى الله عليه وسلم العابد المجاهد الصادق الوفي الخاشع الفاتح المنتصر الصابر الثابت الكريم الحليم.
أنا أريد أن تحدثني عن الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يحج؟ {خذوا عني مناسككم} وكيف يصلي؟ {صلوا كما رأيتموني أصلي} أي: نعرض تاريخه صلى الله عليه وسلم في صورة العظمة فنقدمه للناس، ولذلك يتخرج الطالب من الثانوية لا يعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأحكام ولا عنده عاطفة إيمانية نحوه.
يقول أبو الحسن الندوي: " ما دبجت يد مسلم ككتاب زاد المعاد لـ ابن القيم رحمه الله ".
أيها الإخوة: إن من أسباب الغزو الفكري الذي منينا به هو تضخيم العلم المادي الأرضي المنحرف على العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا القرآن الكتاب الخالد والدستور العظيم مر بفترة من الضربات القاسية تلقاها من أهل العلمنة، يوم وضع القرآن حصة في الأسبوع وجعلت السادسة، فيقرأه التلاميذ وهم نائمون، فيتخرجون ما يجيدون قراءته.
وعرفت -والله- وقد مر بي هذا أثناء الطلب أنهم كانوا يخرجوننا في وقت القرآن للتمارين الرياضية حتى ما كنا نعرف كيف نقرأ القرآن؟ حتى أتينا إلى الشيخ عبيد الله الأفغاني، وكنا نعرف (طه والطبلة) كانت لطه طبلة يضرب عليها الخ كنا نحفظها غيباً وأناشيد بالكميات، وفي الجغرافيا نعرف عواصم ست عشرة دولة، ومنتجاتها وتضاريسها، والصادرات والواردات والعلاقات، نعرفها حفظاً، ولكن ما نفعتنا، سقطت بالتراب وبقي كتاب الله {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
وإنما قلت هذا؛ لأن معي أساتذة وطلبة علم، ولعل الإخوة يبلغهم هذا الكلام، فينقذوا تعليمنا في مادة القرآن والسنة مما وصل إليه، وإلا فإن الأمة سوف تمنى بضربة قاصمة لا تتصورها في معتقدها وفي جيلها وفي رسالتها الخالدة الموروثة عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم.(248/27)
مصطلحات يجب معرفتها
السؤال التاسع عشر: ما معنى المصطلحات التالية: (الحلول، الاتحاد، العلمانية، القومية)؟
الجواب
أيها الفضلاء معرفة الشر مطلوب للمسلم؛ لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
عرفتِ الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه
وقال عمر رضي الله عنه: [[إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة من أناس نشئوا في الإسلام لا يعرفون الجاهلية، ومن لا يعرف الجاهلية لا يعرف الإسلام]].
أيها الإخوة: الحلول مذهب ضال إلحادي زنديق، حمله كثير من الناس وعلى رأسهم ابن عربي صاحب كتاب فصوص الحكم، وكتاب الفتوحات المكية، وأمره إلى الله، أما كتابه الفتوحات فقال الذهبي: "إن لم يكن فيه كفر فما في الدنيا كفر".
والحلول -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا- يقولون: إن الله حل في بعض الناس، فيأتي بعض غلاة الصوفية المنحرفة فيقول أحدهم: حل الله في كل شيء -تعالى الله- بل الله عزوجل مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، ليس في ذاته من خلقه شيء ولا في خلقه من ذاته شيء: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة:7] قال الإمام أحمد: أي: بعلمه.
وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ومن اعتقد ذلك فقد ضل سواء السبيل؛ بل كفر بالله العظيم، وحده السيف يقتل كما أفتى علماء الإسلام بذلك.
الاتحاد مذهب ضال ملعون إلحادي، يقولون: إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى اتحد في مخلوقاته، وهي دعوة ينادي بها الآن بعض الصوفية في السودان والهند، ولهم منشورات، ورأيت بعض الصحف تشيد بهذا -عليهم غضب الله وتعالى الله عما يقولون علواً كبيرا- بل الله بائن من خلقة، مستوٍ على عرشه، لا يغيب عنه شيء: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].
وأما العلمانية: فمذهب نشأ عام (1902م) نشأ في فرنسا وهو انفصال بين الكنيسة وبين العلم التجريبي وسببه: أن الكنيسة حظرت على الناس أن يكتشفوا أو يخترعوا ويبدعوا، فظنوا أن كل دين سوف يعادي الاختراع حتى الإسلام، فنادوا بفصل الدنيا عن الدين، ويسمون: اللادينيون، وأدخل في العالم العربي من قديم، وأول من أدخله في العالم العربي هو: مصطفى أتاتورك -عليه لعنة الله- ويسمونه محرر تركيا!! بل هو معذب تركيا، وهو الذي أدخل الشر والبلاء، وسقطت الخلافة على يديه، وهو أول من أتى بـ العلمانية في العالم العربي تزعمها ونادى بها: أبو رقيبة في تونس -عليه غضب الله- ونادى الناس في التلفاز مباشرة ألا يتقيدوا بتعاليم الدين وأن يشربوا في رمضان.
والعلمانية تقوم على أمور:
منها: أن الدين سبب تأخر الشعوب؛ فيسمونه رجعية وتخلفاً.
ومنها: أن الدين أمر خاص، ولذلك لا يريد العلمانيون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنهم يرونه تدخلاً في حريات الآخرين، وجرحاً لمشاعر الآخرين، ويرون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخالف لحقوق الإنسان، فيحاربون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقولون: الدين لك شخصياً، أنت لك أن تصلي وتصوم، وأما أن تتدخل في الدنيا والقوانين، وفي التعليم والإعلام، وفي الرأي العام، وفي ثقافة الناس فلا يجوز لك ذلك، وهذه هي محاربة الله عز وجل نهاراً جهاراً بل الدين يدخل في كل شيء، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
أيها الإخوة: ومن أساليب العلمانية: أن أهل العلمنة قد يصلون بعض الصلوات؛ فيصلون العيد والاستسقاء، وقد يمدح الإسلام في خطبة عامة؛ لكن لا يعتقد نفع الإسلام ولا يعتقد أثره، ولا يحترم أهله، ولا يرى له مكانة في الأرض، ويرى أن الإسلام ليس وفياً، ولا يستطيع أن يقوم بحقوق الناس ولو ادعى بلسانه، ولذلك تجد بعض العلمانيين يصلون العيد والاستسقاء، وقد يصلي الجمعة لكن لا ينفعه ذلك عند الله، وفي قلبه زيغ ومرض وكفر دخيل والعياذ بالله.
وسميت علمانية قيل: لأحد سببين: أنها تدعو إلى العلم ليكون إلهاً، فهي تنادي أن العلم كل شيء، والعلم إذا انفصل عن الإيمان كفر، فهناك إله يعبد من دون الله اسمه: (العلم) طاغوت صنم وهي العلمانية، يجعلون العلم معبوداً، والعلم يوم ينحرف عن الإيمان سوف يكون زندقة وزيغاً، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في المقارنة بين العلم والإيمان: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} [القصص:80].
قبل أن تجتاح الكويت كان هناك جريدة في الكويت -جريدة مؤسفة ومخزية- اسمها: الهدف، نشرت في أول صفحة لها تقول في الاستفتاحية: امرأة من فنزويلا تلد كلباً، أتدري كيف جاء؟
لقحت هذه المرأة بمني كلب، العلم يوم انحرف عن الإيمان وقع في هذه النتيجة وإلا فالإيمان يقول: حرام مني الكلب أن تلقح به المرأة عند أهل العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم، فعندما لم يرتبط العلم بالإيمان يبلغ إلى هذه النتيجة وإلى بحوث أخرى كلها تخالف العقل والنقل.
وقيل: العلمانية اللادينية -أي: لا دين- وينادون بمسخ الدين من الشعوب، وترك الشعوب بلا دين.
هذا ياسر عرفات يقول: " إذا قامت دولة لـ فلسطين فسوف أجعلها علمانية " فعسى الله أن يقيم دولة الإسلام ولا يرينا وجه ذاك المجرم.
بل لا يفتح فلسطين إلا موحدون صادقون مؤمنون، ولن تعود فلسطين أبداً على هؤلاء ولو حملوا ألف راية، وقد جربناهم أربعين سنة وهم لا يجيدوا إلا المعاريض والشجب والتنديد والاستنكار أما القتال فلا يجيدونه، ما يجيده إلا مثل صلاح الدين الذي يحمل بطاقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وهوية لا إله إلا الله.
رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ
أما هؤلاء فلا.
يقول المجاهدون الأفغان: إذا انتهينا -إن شاء الله- من فتح كابل نأتي إلى فلسطين، وهم:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وهذا معروف، روسيا أقوى من إسرائيل، والمجاهدون الأفغان أقوى من العرب؛ لأنهم يحملون لا إله إلا الله، في مساجد كابل لما فوجئوا بالهجوم الشيوعي ماذا فعلوا؟ أخذوا السلاح وخرجوا وقالوا:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
قرأت مقالة في صحيفة هناك: أن ياسر عرفات عرض لـ سياف التدخل لمصالحة بينه وبين روسيا، فكتب له سياف، وقال: أما أنت فلك خبرة في بيع الأراضي، أما في استرداد الأراضي فليس لك خبرة فنرجو ألا تتدخل.
وأما القومية: مذهب أرضي ونزعة كافرة إذا انفصلت عن الدين، وهي تدعو إلى أن يكون لكل قوم شعار متحد كالعروبة، الأكراد وحدهم، والأفغان، والأتراك، شعوب الأرض يكون لها اتحاداً في ما بينها واشتراك، وأول من دعا إليها ميشيل عفلق والبيطار في سوريا ونشأ عليها حزب البعث؛ فهو قومي واشتراكي بعثي، فأركان الكفر عندهم أربعة: اشتراكي في الاقتصاد، وبعثي النزعة الفكرية، وقومي ينص على القومية، وقومية العرب ليس إلا، ولذلك فهؤلاء القوميون لا يرون صلاح الدين لأنه كردي، ولا محمد إقبال لأنه هندي، ولا صهيب لأنه رومي، ولا سلمان لأنه فارسي، والله يقول: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] إذا ترك الرسالة هؤلاء العرب أعطيناها الأكراد، فإذا تركها الأكراد أعطيناها الأتراك، وهذا التاريخ يشهد بذلك.(248/28)
الصوارف عن الهداية
السؤال العشرون: ما هي الصوارف عن الهداية؟
الجواب
الصوارف عن الهداية أربعة:
أولها: الكبر.
الثاني: الغفلة.
الثالث: الخبث في النفس.
الرابع: التسويف.
أما الكبر: فهو أعظم صارف عن الهداية، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146] فالمتكبر لا ينقاد للحق ولا يهديه الله سواء السبيل بسبب كبره، وأعظم صارف لليهود عن الدخول في الإسلام هو: الكبر والحسد، وإلا فيعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] ونعلم من بعض الناس الذين أثرت فيهم النزعة العلمانية، وتعاليم وأساليب العلمانية أنه ما يمنعه من سلوك الهداية وطلب العلم والاستفادة إلا الكبر، وإلا فهو يعلم أنه مخطئ ومذنب، فعسى الله أن يجازيه بفعله.
والثاني: الغفلة، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] فالغفلة حجاب وهي الغفلة عن ذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والغفلة عن الآخرة؛ والغفلة عن تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ والغفلة عن منهج الله.
تجد بعض الناس -أعوذ الله ممن ركب الضلالة- بارع في علوم الدنيا، ومعطياتها، ومتحدث لبق؛ لكنه لا يعرف من الإيمان ولا من الدين شيئاً، فقيه في كل شيء إلا في الإسلام، عالم في كل شيء إلا في لا إله إلا الله وما يتعلق بلا إله إلا الله، يستطيع أن يتكلم ثلاث ساعات لكن في العمار والدور والقصور والأمطار والأشعار والأشجار والخضروات والفواكه؛ لكن إذا أتيت به في أبسط أمور العبادة لا يعرف شيئاً، وهذا دليل على الخسران والخذلان، يقول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {من يرد الله به خيراً يفقه في الدين}.
الثالث: الخبث في النفس: أي: أن بعض الناس مهما سمع ودعي لا يستجيب لخبث نفسه، قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].
الأمر الرابع: التسويف: فإن كثيراً من الناس لم يستجيبوا بسبب التسويف، ولذلك لامهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقال: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] قال بعض المفسرين: استخدم (سوف) بالعتاب واللوم عليهم؛ لأنهم كانوا يعتذرون بسوف كل يوم، وكثير من الناس المعرضين كلما خاطبته بالتوبة وبالصلاة وبالعودة إلى الله قال: سوف أتوب، وهذه هي من علامات الحرمان ومن بذر بذرة (سوف) أخرجت له شجرة (لعل) وأثمرت له ثمراً يسمى (ليت) طعمه الحسرة والندامة.
أيها الفضلاء: انتهت محاضرة (سؤال وجواب) وعسى الله أن يجمعنا بكم في دار الكرامة.(248/29)
الأسئلة(248/30)
من صلى بغير وضوء ناسياً
السؤال يقول: رجل صلى في المسجد ثم خرج وتذكر أنه على غير طهارة هل صلاته صحيحة أم يعيدها؟
الجواب
بل يعيد الصلاة وجوباً وصلاته تلك باطلة، وما دام علم أنه صلى بلا طهارة وجب عليه أن يعيد صلاته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام عند البخاري من حديث أبي هريرة: {لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ}.(248/31)
كتب تميز الحق من الباطل
السؤال
نريد أن تعرفنا على كتب في الساحة تعرفنا العدو من الصديق، وبعض الدواوين لشعراء الإسلام؟
الجواب
من الكتب التي تعرفك العدو من الصديق، أولها: كتاب الله عز وجل، الفرقان، والنور، والهداية، والروح، والحياة، والرسالة الخالدة، هذا الكتاب العظيم الذي من استكفى بغيره فلا كفاه الله، ومن استشفى بغيره فلا شفاه الله، ومن اتبع سواه أضله الله، ومن طلب الهداية في غيره أعمى الله بصيرته وخذله ولعنه، فعليك بكتاب الله.
أما ما يتعلق بأمور الحوادث والأفكار المستجدة: فإني أرشدك إلى كتاب طيب لعالم وداعية غفر الله ذنبه لـ سيد قطب في ظلال القرآن، فإني أطلب منك أن تقرأ كثيراً في هذا الكتاب، لأن هذا الرجل قرأ ثقافة الشرق والغرب، فقد بقي أربعين سنة يقرأ حتى عرف ماذا كتب الغرب.
يحدثنا أحد الأساتذة يقول: أرسل رجل انجليزي يحضر الدكتوراه في التفسير -مستشرق في التفاسير الإسلامية- واشترطت عليه اللجنة في لندن أن يقرأ كل التفاسير إلا تفسير في ظلال القرآن لـ سيد قطب، وأحب شيء إلى الإنسان ما منع الناس، فهم مجبولون على حب الممنوع.
يقول علي بن أبي طالب: [[لو منع الناس من فت البعر لفتوه]] يعني: جبلة فينا، فذاك أخذ في ذهنه! لماذا منعوني من الظلال لـ سيد قطب؟ لا بد أن ذلك لشيء، ولما وصل إلى القاهرة بحث عن الظلال، وأخذ يقرأ فيه حتى وصل إلى سورة الأنفال، ثم أعلن إسلامه، هو سيد قطب إذا أتى إلى {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] لا يقول: (عن وما) هذا علم النحو لا بد منه وكفى فيه السلف، لكن يتكلم عن تجربة، وعن حياة، رجل ذهب إلى موسكو وذهب إلى دنفر وعرف الحضارة وشمها وأكلها وشربها وعاشها، فهو يتكلم لك بحرارة الإيمان، ويكتب من دمه، فيرد على مفكري الغرب، ويتكلم عن قضية الإيمان ودوره في الحياة، ويدخل معك حتى في جزئيات العلوم التي مهروا فيها، أتى في آية {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] فذكر كلام كريسي موريسون في النحلة من يهديها، أعندها أريال؟
يقول الأمريكي: لماذا تذهب النحلة مسافة ألف كيلو ثم تعود إلى الخلية، من يخبرها؟
قال سيد قطب: ليس عندها أريال ولكن عندها {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68] رجل ينطلق من القرآن، وأنا أعرف له قضايا.
وميزة الظلال ثلاث أمور:
أولاً: الأسلوب الجميل البديع، يقول في سورة محمد عند قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1] قال: هذا هجوم أدبي على المشركين، يقول في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:18] قال: أفلا ينظر أهل الصحراء إلى السماء؟ والسماء في الصحراء لها طعم ومذاق، فكأنه لا سماء إلا في الصحراء.
الميزة الثانية: أنه رجل كما قلت عرف الواقع.
الثالثة: أنه رجل يحمل روحه بين يديه أمام الطغاة، يقولون له: اكتب رسالة اعتذار لـ جمال عبد الناصر ليعفو عنك؟ قال: " إن إصبعي التي شهدت لله بالوحدانية كل يوم خمس مرات تأبى أن تكتب لطاغية، إن كنت أقتل بباطل، فأنا أكبر من أن أستخذل الباطل، وإن كنت أقتل بحق؛ فأنا أصغر من أن أعترض على الحق ".
وقتل وهو يتبسم.
يا شهيداً رفع الله به جبة الحق على طول المدى
سوف تبقى في الحنايا علماً قائداً للجيل رمزاً للفدا
ما بكينا أنت قد علمتنا بسمة المؤمن في وجه الردى
لكن أقول لك يا من يقرأ الظلال! لا تظن أنك أمام كتاب عقيدة، العقيدة تجدها في الطحاوية وكتب ابن تيمية؛ لأن الرجل لا يريد أن يعطيك عقيدة يريد أن يحدثك بأشياء وخواطر وظلال وأسرار الله أعلم بها، وكذلك لا يحدثك عن الأحكام، اذهب إلى ابن كثير والقرطبي.
الأمر الثالث: ربما توقف في بعض المسائل على عقيدة الأشاعرة ونحن نقول: غفر الله له {وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث}
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس
جمعنا الله به في دار الكرامة، وتغمدنا وإياكم بالرضوان، وشكر الله لكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(248/32)
أربعة أمور مهمة
تحدث الشيخ في هذه المحاضرة عن أربعة أمور:
أولها: القرآن الكريم وحالنا معه، وواجبنا نحوه.
ثانيها: الرسول صلى الله عليه وسلم وواجبنا تجاهه.
ثالثها: الوقت واستغلاله وعدم تضييعه فيما لا ينفع.
رابعها: المعاصي وخطرها، وأثرها على المجتمع، والتخلص منها بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى.(249/1)
علاقتنا بكتاب الله
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول.
لك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد صلى الله عليه وسلم.
عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت.
والصلاة والسلام على من أرسلته معلماً للبشرية، وهادياً للإنسانية، ومزعزعاً لكيان الوثنية.
أدَّى الرسالة، وبلَّغ الأمانة، ونصح الأمة، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، سلام عليكم يوم تواضعتم واجتمعتم منصتين لتسمعون ماذا يُقال، وسلام عليكم يوم حييتم من أتاكم زائراً ومحباً.
وإن كان هناك من شكر فإني أتوجه بالشكر إلى الله العلي العظيم، الذي وفقنا لأن نجتمع بهذه الوجوه المباركة الخيرة النيرة، ثم أشكر أستاذ ومدير هذه المدارس الأستاذ الكريم: محمد الزيداني، وهيئة التدريس، وأشكركم أيها الإخوة الأخيار.
واعلموا -بارك الله فيكم- أن موضوعنا ليس بجديد، إنه قديم في الأخوة وقديم في العراقة في النصوص، لكنه جديد في الإلقاء، وتدور هذه الكلمة على أربعة عناصر لا خامس لها، هي مفاد كلمة هذا اليوم إليكم أيها الأخيار:
العنصر الأول: علاقتنا بكتاب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
العنصر الثاني: المعاصي التي دمرت علينا مستقبلنا، وضيعت أعمارنا، وذكاءنا، وأفكارنا، وإنتاجنا، وجعلت منا تلك الثلة التي انحرفت عن منهج الله تعالى.
العنصر الثالث: الوقت وحياتنا وأعمارنا في ماذا نصرفها.
العنصر الرابع: موقفنا من الرسول صلى الله عليه وسلم.(249/2)
حالنا قبل الإسلام
اعلموا -بارك الله فيكم- أننا كنا قبل القرآن، وقبل محمد صلى الله عليه وسلم، أمة أعرابية بدوية، لا تعرف شيئاً، كانت تتقاتل على موارد الماء، وكانت تتنازع، كان الزنا والفحش والعهر متفشياً، حتى إن الأمم غير أمة الإسلام -كما تعرفون في التاريخ- ما كانت تعرف الإسلام، وما كانت تعرف الأمة العربية، ولو قال أهل القومية: إن تاريخنا بدأ من فجر البشرية، فما صدقوا في ذلك؛ بل كذبوا، لأن تاريخنا ما بدأ إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك أثبت التاريخ أن الأمم لم تكن تعترف بنا.
دخل ربعي بن عامر على رستم قائد فارس في معركة القادسية، فلما دخل ربعي -وهو مجاهد من المجاهدين- بثياب ممزقة، وبفرس هزيل، وبرمح مثلَّم، ضحك رستم، لأن ربعياً أرسله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قائد المسلمين، أرسله يفاوض رستم، وقبل المعركة، قال رستم: لماذا جئتم؟ أجئتم تفتحون الدنيا بهذا الفرس الهزيل، وهذا الرمح المثلم؟
قال ربعي: [[إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].
قال رستم: والله لا تخرج حتى تأخذ تراباً على رأسك من تراب بساطي.
فحمل التراب على رأسه، ولما خرج من عنده، قال المنجمون: هذه علامة أنه سوف يسلب ملكك وملك آبائك وأجدادك.
فخرج رستم ينظر إلى المسلمين وهم يصلون صلاة الظهر، فوجدهم يركعون بعد سعد رضي الله عنه ويرفعون بعده، إذا قال: الله أكبر، كبروا بعده، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، قالوا: ربنا لك الحمد.
فعض رستم الكلب أنامله وقال: علَّم محمد الكلاب الأدب.
كانوا يتصورون أن العرب قبل الإسلام كالكلاب، لم تكن لهم حضارة ولا معرفة ولا أدب، حتى يقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] فأتى صلى الله عليه وسلم بالقرآن.(249/3)
واجبنا تجاه القرآن
ومطالب القرآن التي تتجه إلينا ثلاثة مطالب:
الأول: أن نعده أعظم ثقافة عرفتها البشرية، وأن نقرأه آناء الليل وأطراف النهار.
الثاني: أن نحفظ ما تيسر منه.
الثالث: أن نجعله تعاليم سلوكية أدبية اجتماعية، نعمل بها ونلقى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بها.
يقول عليه الصلاة والسلام: {اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} ويقول: {اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان كغيايتين أو غمامتين أو كفرقان من طير صواف} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم يجلس مع تلاميذه الأخيار، الذين تأثروا بالقرآن، فيقول: {أريد أن أسمعه من غيري} يقول هذا لـ ابن مسعود، وكلكم يعرف ابن مسعود، ولستم أنتم فحسب في أبها يعرف ابن مسعود، بل يعرفه أهل الجزيرة العربية، ويعرفه أهل الدول العربية، وأهل الشرق الأوسط، ومسلمو اليابان والصين وأمريكا، كلهم يعرفون ابن مسعود؛ لأن ابن مسعود اتجه بهذا القرآن ورفع الله قدره بالقرآن، كانت قامة ابن مسعود على قدر جلوس الرجل، أي أنه يوازيك وأنت جالس برأسه، من نحافته ومن هزاله وضعفه، لكن القرآن لما دخل قلبه جعله أمة من الأمم، حتى إن الصحابة عندما صعد شجرة رضي الله عنه، ضحكوا من دقة ساقيه، كاد أن يسقط على غصن من أغصان الشجرة كأنه طائر، فقال صلى الله عليه وسلم: {أتضحكون من دقة ساقيه، والله إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد} يقول صلى الله عليه وسلم لـ ابن مسعود: {اقرأ علي القرآن.
فيقول ابن مسعود: يا رسول الله! أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! -يستحي أن يقرأ على معلم البشرية، وهادي الإنسانية، يستحي أن يقرأ القرآن على من رفع رءوسنا بعد أن كانت في التراب، وأنار قلوبنا بعد أن كانت مطموسة، وفتح عيوننا بعد أن كانت مغلقة- فقال صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن أسمعه من غيري، فاندفع ابن مسعود يقرأ، قال: فلما بلغت قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: حسبك الآن، فنظرت فإذا عيناه تذرفان}.
تأثر أيما تأثر بهذا القرآن، ولذلك ليس لنا ثقافة نقدمها، ولا تاريخ نقدمه، ولا معرفة ولا تربية، ولا علم نفس نقدمه على القرآن.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من ظن أنه سيهتدي بهدىً غير هدى القرآن، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".
ويقول: "كل أرض لم تشرق عليها شمس القرآن فهي أرض ملعونة، وكل قلب لم يشرق عليه هدى هذا القرآن، فهو قلب مغضوب مسخوط عليه".
فأنت أيها الأخ الكريم! إذا غربت عليك شمس يوم لم تقرأ فيه آيات أو لم تعش فيه مع المصحف، أو لم تتدبر فيه آيات، اعتبر ذلك اليوم منسياً من عمرك، وأنك خسران مغبون في هذا اليوم، لأن ثقافتنا نأخذها من القرآن.
يقول سيد قطب، صاحب ظلال القرآن، هذا الكتاب الذي أرشدكم لاقتنائه وشرائه، الذي يعلمك حياة الواقع وكيفية ردها إلى القرآن الكريم، صاحب هذا الظلال عاش أربعين سنة في الضلال، أي: في الضياع كما يضيع الكثير منا الآن، يضيعون ويتيهون بلا رسالة، في الشوارع، في الذهاب والإياب، في المقاهي، مع جلساء السوء، لا يعلمون أنهم من خير أمة أخرجت للناس، لا يعلمون أن أجدادهم فتحوا الدنيا، وأنهم عمروا التاريخ، وأنهم بنوا منابر الحق، سلوا كل سماء عنا، وسلوا كل أرض في الأرض عنا، ما أوجد العدل في الدنيا إلا أجدادنا، فهذا الشاب الذي يضيع كأنه يتناسى ويكذب ما فعل أجداده.
سيد قطب يقول: "عشت أربعين سنة في الضياع، فلما عدت للقرآن؛ تهولت من القرآن أن يخاطبني من فوق سبع سماوات، من أنا؟ العبد الضعيف المسكين، قال: وكنت أقرأ أن الصحابة يتأثرون ويبكون من القرآن، فما شعرت بذلك حتى سافرت مرة من المرات، يقول: سافر في سفينة من مصر إلى أوروبا، قال: وكان معي شباب من العرب يريدون أوروبا، فركب معنا جاريات، منهن جارية يوغسلافية، فرت من يوغسلافيا، قال: فلما أتت صلاة الجمعة، قمت فصليت بزملائي، وقرأت بعد الفاتحة: (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتاك حديث الغاشية) فلما انصرفت من الصلاة، التفت فإذا هذه المرأة اليوغسلافية التي لا تعرف اللغة العربية تبكي، فقلت للترجمان حولي: ما لها تبكي؟ فقال: إنها تبكي لأنها سمعت إيقاعاً منك خاصاً، أثر في قلبها -إيقاعاً من القرآن- فهي تسألك كلام من هذا؟ قلت: أخبرها أنه كلام رب السماوات والأرض، فلما أخبرها قال: زاد بكاؤها بكاءً ونحيبها نحيباً".
ثم يورد سيد قطب، قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة، يقول: كان من هديه صلى الله عليه وسلم وهذا ثابت في الحديث الصحيح، كان يدور على أصحابه من آخر الليل، صلى الله عليه وسلم؛ ليسمع من يقرأ القرآن، فاستمع مرة من المرات إلى عجوز تقرأ وراء الباب، فوضع صلى الله عليه وسلم رأسه على الباب، فسمع العجوز تقرأ وتبكي وتقول: {هل أتاك حديث الغاشية، هل أتاك حديث الغاشية، وترددها فأخذ يبكي ويردد معها ويقول: نعم أتاني، نعم أتاني} لأنه يعرف عليه الصلاة والسلام فيم أنزل هذا القرآن، ومن أنزله.
فالذي أدعو نفسي وإياكم يا شباب الإسلام! يا أيها الأخيار! يا أيها الأحبة! لأنكم أنتم أمل الأمة؛ أن تجعلوا وقتاً من أيامكم لهذا الكتاب الكريم، واعتبر يومك إذا لم تقرأ فيه القرآن؛ أنه يوم ضائع مغضوب عليه.
يقول الحسن البصري رحمه الله: [[كل يوم تشرق فيه الشمس يقول لابن آدم: اغتنمني يا بن آدم، فوالله لا أعود إليك أبد الدهر]].(249/4)
الفساد وأسبابه
ولذلك نعجب كيف ساءت أخلاقنا، وكيف فسدت بيوتنا، وكيف فسد شبابنا، لماذا؟ لأننا أخذنا تعاليمنا من غير القرآن، أخذناها من المجلة الخليعة، من الأغنية الماجنة، من جلساء السوء، حتى إن أحدهم يعرف المغنين والمغنيات، والفاجرين والفاجرات، الأحياء منهم والأموات، ولا يعرف حياة صحابة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين فتحوا الدنيا، وعمروا المعمورة، ونوروا عقول البشرية، وحتى إن أحدنا لا يتحاشى أن يحفظ الأغنية، بحروفها وبلحنها وبطولها وعرضها وقصائدها، ومن لحنها ومن أنتجها، ولا يحفظ سورة من كتاب الله عز وجل.
أي خيبة وصلنا إليها بعد تلك الخيبة، وأي حسرة وصلنا إليها بعد تلك الحسرة، بعد حياة كنا فيها أرقى الأمم، حتى إن الصحابي كان يقف عند الرسول صلى الله عليه وسلم، الشاب مثلكم أنتم، كان يأتي في معركة أحد فيقول: يا رسول الله! إنني ذاهب إلى الجنة، والله لا أعود، جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
يأتي عبد الله بن عمرو الأنصاري، فيستشهد ويقطع بالسيف أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فيأتي ابنه يبكي، فيعزيه النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله كلم أباك كفاحاً -أي: بلا ترجمان- فقال له: تمن يا عبدي! قال: أتمنى أن أعاد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية.
قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمنَّ.
قال: أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك.
قال: فإني أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً، فجعل الله روحه في حواصل طير ترد ماء الجنة فتشرب منه، وتأكل من شجر الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة في السماء}.
ويأتي شاب آخر، ويقول: يا رسول الله! والله إني لأجد ريح الجنة من دون أحد.
فيقتل ويضرب بالسيف ثمانين ضربة، حتى إنه لم تعرفه إلا أخته ببنانه.
ويأتي شاب ثالث، ابن الزبير فيدخل على الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح: {والرسول صلى الله عليه وسلم يحتجم، ويخرج دم الحجامة -الحجامة: إخراج الدم الفاسد من الرجل أو من المرأة- فأخرج منه صلى الله عليه وسلم، ووضع في طست، فقال: يا بن الزبير! اذهب بهذا الدم فضعه في مكان لا يراه أحد -فيذهب ابن الزبير، وعمره عشر سنوات- فلما اختفى في سكة من سكك المدينة؛ شرب دم الرسول صلى الله عليه وسلم ويعود، فيقول صلى الله عليه وسلم: أين وضعت الدم؟ قال: وضعته في مكان لا يراه أحد، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: ويل لك من الناس وويل للناس منك لا تمسك النار} هل عرف التاريخ شباباً مثل هذا الشباب؟ هل عرفوا إقداماً مثل هذا الإقدام؟ إنهم شباب محمد صلى الله عليه وسلم الذين رباهم بالقرآن.
أما نحن فكثير منا تربى -إلا من رحم الله- على الأغنية الماجنة، وعلى المجلة الخليعة، وعلى جلساء السوء، فأخرجت هذا الإنتاج العجيب، المعاصي والسجون المليئة، والمخدرات، والانحراف عن منهج الله، والشرود عن آيات الله، التي نراها في مجتمعاتنا، ونسمع قضاة يتحدثون عنها صباح مساء، التي يندى لها جبين المسلم، وفي الأخير نقول: ما لنا ما فعلنا مثل الصحابة، وما لنا ننحرف، وما لنا ليس عندنا استقامة ولا عندنا منهج قويم؟!
السبب أننا لم نعش مع القرآن ولم نتأثر به.(249/5)
الانتهاء عن المعاصي
سائل نفسك، واعرف أنه لا يدمر مستقبلك وينهي عمرك ووقتك إلا المعصية، إذا عصيت الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى فقد اقترفت في حقك وفي حق أمتك وأسرتك أكبر جريمة في تاريخ الإنسان، ولذلك ينادي الله عباده، وينادي كل الأمة شباباً وشيوباً وكباراً وصغاراً وذكراناً وإناثاً أن يتوبوا إلى الله، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] ويقول سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
يقول عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: {أن رجلاً من بني إسرائيل لما حضرته الوفاة قال لأبنائه: إذا أنا مت فاجمعوا حطباً، ثم أشعلوه بالنار، ثم أحرقوني فيه، فإذا أصبحت فحماً فاسحقوني وذروني علَّ الريح أن تذهب بي؛ لئلا يجدني الله عز وجل -سبحان الله! أليس الله قادر على أن يجمعه كما جمعه أول مرة، أليس الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يستطيع أن يقول للشيء: كن فيكون- فلما توفي هذا الرجل أحرق بالنار، فلما أصبح حمماً سحق وذري في يوم ذي ريح، فلما ذري ذهبت به الريح يمنة ويسرة، فجمعه الذي بدأه أول مره، فلما أصبح أمامه رجلاً، قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: يا عبدي! ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب! خشيتك وخفت ذنوبي.
قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: يا ملائكتي! أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة} قال ابن تيمية: لما شك في القدرة، غفر الله له بسبب أنه خاف من لقاء الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى".(249/6)
مراقبة الله تعالى
يقول أحد شعراء الإسلام:
وإذا دعيت لريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
إذا أتيت لريبة في ظلمة، أي أنك وحدك لا يراك إلا الله وما معك إلا الله، ولا يشاهد حركاتك وسكناتك إلا الله، تظن أنك خلوت، وأنك انفردت، وأنك أصبحت في مكان فريداً، ووالله ما انفردت، بل معك رقيب وعتيد، ومعك الذي لا ينام، ومعك الذي لا يغفل، ومعك الذي لا ينسى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فاعلم أنه يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين.
ولذلك ورد في بعض الآثار: أن رجلاً اختفى في غابة وهمَّ بمعصية، فقال: لا يراني أحد، أنا في غابة وحدي، وقد تسنت لي المعصية، فسمع هاتفاً يهتف: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] ولذلك يقول ابن مسعود: [[الله الله في السرائر، الله الله إذا خلوت]] يقول الإمام أحمد وقد أغلق عليه البيت -وهو الإمام أحمد الزاهد الكبير، والعالم النحرير- فقال تلاميذه: فوالله إنا نسمعه يبكي من وراء البيت، وهو يقول:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
وصاحب هذا البيت أبو نواس، الذي تسمعون عنه والذي عندما توفي رئي في المنام، كما في البداية والنهاية قالوا: ما فعل الله بك يا أبا نواس؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة.
قالوا: بماذا؟ قال: وصفت الزهرة.
-قصيدة اسمها: القصيدة النرجسية، في ديوانه- ورددت أمرها إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقلت: إنه هو الذي أبدعها وزينها، وحلاها وجملها، فغفر الله له بذلك السبب؛ ولذلك بعض الأسباب السهلة في حياتك تستطيع أن تدخل بها الجنة.
رجل من بني إسرائيل، رأى غصن شوك من شجرة في طريق الناس، فرفعه عنهم، فأدخله الله بذلك الجنة.
ويقول ابن كثير في البداية والنهاية: رئي جرير بن عطية الشاعر المشهور في المنام بعد أن توفي، قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة.
قالوا: بماذا؟ قال: أذنت وحدي في البادية حيث لا يراني إلا الله.
أذن في البادية للصلاة الأذان الذي فتحنا به الدنيا، الأذان الذي أرسلناه نغماً في آذان البشرية، الأذان الذي تهاوت به أصنام الوثنية، وأصبح شبابنا الآن يخجلون إذا ذهبوا في رحلة من الرحلات وفي سفر من الأسفار أن يؤذنوا، يقول أحدهم: أنا لو أذنت أصبحت مطوعاً وأنا لست مطوعاً، وبمفهوم المخالفة أنه عاصٍ، يقول محمد إقبال شاعر الباكستان:
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
شباب الصحابة كادوا يقتتلون في معركة القادسية على الأذان؛ لأن مؤذنهم، عبد الله بن أم مكتوم قتل في المعركة وهو أعمى، وقد عذر الله الأعمى أن يحضر المعركة، فقال: والله لا بد أن أحضر المعركة، فلما حضر المعركة قتل في سبيل الله، فكاد شباب الصحابة أن يقتتلوا على الأذان؛ لكننا الآن أصبحنا نخجل أن نتقدم وأن نؤم الناس، وأن نصلي بهم على المنابر، وأن نؤذن بالناس، ونقول: نحن لسنا مطاوعة، نحن شباب متطور أو متهور، فألغينا هذه الوظائف التي رفعت رءوسنا بين الأمم.
الشاهد هو: أن المعصية دمار لمستقبل الإنسان، وأنها إنهاء وعقاب وغضب من الله.
خرج موسى عليه السلام الأمين القوي، صاحب أكبر صراع في تاريخ الإنسان مع فرعون، خرج يستسقي لبني إسرائيل، فلما استسقى لهم قال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا.
أوحى الله إليه: يا موسى! عد ببني إسرائيل، فبعزتي وجلالي لئن لم تعد بهم لأرمينهم بالحجارة على رءوسهم، أكلوا الربا، وفشا فيهم الزنا، وتواصوا بالفحش والعهر، فبكى موسى عليه السلام، وقال: يا بني إسرائيل! عودوا لا يلقين الله عليكم الحجارة على رءوسكم.
فلما انتشرت فينا المعاصي قلَّت بركاتنا، وقل ذكاؤنا وفهمنا، حتى أصبح أهل الدنيا أكثر إنتاجاً منا، أيُّنَا أكثر؟ نحن أو أوروبا إنتاجاً وتصديراً وتوريداً؟ وأمريكا هم أكثر منا؛ لأننا تساوينا نحن وإياهم في المنهج، فغلبونا في أسباب الدنيا والله يقول فيهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].(249/7)
التوبة إلى الله
يا أيها الأحبة! يجب أن نفهم من العنصر الثاني: أن نتوب إلى الله عز وجل، وأن نستغفره دائماً وأبداً، وأن تجعل في ذهنك دائماً مراقبة الله الحي القيوم.
كان عمر بن الخطاب إذا خرج وحده في الصحراء أخذ عصا، فضرب رجليه وبكى، وقال: [[يا عمر! والله إن لم تتق الله ليعذبنك الله عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين]] وقال عبد الرحمن بن عوف: [[رأيت عمر دخل المقبرة يسلم على الأموات، فرأى قبراً محفوراً، فدخل فيه فسمعت بكاءه وأنا وراء السور، وهو يقول: ويل أمي إن لم يرحمني ربي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى]] هذا وهم مبشرون بالجنة، فكيف بنا ونحن ما بشرنا بالجنة، ونحن تحت رحمة الله عز وجل، لكن معاصينا ومخالفاتنا وأوقاتنا الضائعة، تشهد علينا أننا ما تأثرنا بالإسلام.
فيا إخوتي! الله الله في ترك المعاصي والانتهاء عنها بترك المخالفات.(249/8)
بعض المعاصي
والمعاصي سواءً كانت معاصي بصر وهي النظر إلى المحرمات، والنظر إلى الأفلام الخليعة الماجنة، والنظر إلى الصور العارية، والنظر إلى حرمات المسلمين هذه هي عيب البصر وذنب العينين.
وعيناك إن أبدت إليك معايباً لقوم فقل يا عين للناس أعين
يسألك الله يوم القيامة، بعد أن يختم على فمك، فتتكلم عينك، ولسانك، ويدك، ويتكلم جلدك، فيشهد عليك بما فعلت.
ولذلك أوصي نفسي وإياكم بالتوبة وترك المعاصي ما ظهر منها وما بطن، واصرف نفسك أيها الأخ الكريم! فيما ينفعك ويقربك من الله عز وجل.(249/9)
أهمية الوقت
أهمية الوقت الذي ضيعناه والعمر الذي صرفناه، يقول صلى الله عليه وسلم: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} تجد الشاب صحيحاً معافى، من أسرة غنية، عنده كل أسباب الحياة، عنده سيارة وبيت، وملابس وطعام وشراب، ومكتبة ومرفهات، فتأتيه فإذا هو أكسل الناس، خاملاً لا يصرف وقته إلا في كل لهو ولعب، يتحدث مع فلان وعلان، ويركب مع من شاء، ويجلس مع من شاء، ويستمع ما يشاء، فهذا الذي خسر عمره في الدنيا والآخرة، يقول الله عز وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] أتحسب أن الوقت هذا الذي تصرفه، أن الله لا يسألك عنه، ولا يوقفك يوم القيامة؟ يقول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع -وذكر منها- وعمره فيما أبلاه} عمرك والله لتسأل عنه دقيقةً دقيقة وثانيةً ثانية.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
مجلسنا الذي جلسناه، من يوم بدأنا إلى الآن، لا يعود هذا الوقت الذي صرف فيه، ولو اجتمع أهل العالم أن يعيدوا هذا الوقت لا يعيدوه أبداً، لأنه انتهى من أعمارنا
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
ولذلك نحن نتقدم خطوة خطوة إلى الموت، وإلى الهلاك والفناء، ونحن لا نشعر.
فلا إله إلا الله كم من ساعة ضيعناها، وكم من يوم صرفناه في المعصية، وفي اللهو واللغو والإعراض عن الله، وبعدها ندَّعي أننا نحن شباب الإسلام, ونحن أمل الأمة؟!
أمل الأمة أن تقرأ وتحقق، وأن تواظب وتجد وتجتهد، ليس أمل أمة أن تقضي ساعاتك الطويلة في اللهو واللغو واللعب والغناء، ومع كل من هب ودب.(249/10)
اغتنام الأوقات
فيا أيها الإخوة: أوصي نفسي وإياكم باغتنام الوقت، وصرفه فيما ينفعك عند الله، وأن يكون عندك برنامج يومي، تعرف حياتك على منواله وعلى ضوئه، وتسير حتى تلقى الله عز وجل، للقرآن وقت تقرأ القرآن فيه، لمذاكرة دروسك وقت، وقت الصلاة لا تتخلف ولو تخلفت الشمس فأتت من المغرب ولم تأت من المشرق، والزيارات والجلوس مع الإخوان لها وقت خاص، وقت مطالعتك في مكتبتك وجلوسك مع كتبك، الكتب الصفراء، الكتب المجلدة كتب العلم، كتب السلف الصالح، التي عندما تركناها ورجعنا إلى المجلات الخليعة التي تعرفونها، مثل روز اليوسف وأمثالها من المجلات؛ هبطت عقولنا، وسخفت أرواحنا، وضاعت بيوتنا، ودمرت عقولنا، وساءت أخلاقنا، لما تركنا كتب التراث المجيد، كتب السلف الصالح، لما تركنا الإنتاج الهائل الذي تركه أجدادنا لنا.
من حفظ أجدادنا لنا -وتعرفون ماذا فعلوا- يقول الذهبي عن ابن عقيل أحد علماء الأمة: ألف كتاباً عدده ثمانمائة مجلد، ثمانمائة مجلد مخطوط موجود، كما يقول أهل العلم في مكتبة بون في ألمانيا، لا نستطيع نحن أن نقرأ منه مجلدات.
فالإنسان منا يعيش ويموت ولا يُشعر به؛ لأنه لم يحفظ وقته، يقول ابن عقيل: إني آكل الكعك ولا آكل الخبز.
قيل له: لماذا تأكل الكعك ولا تأكل الخبز؟ قال: " بين أكل الكعك والخبز قراءة خمسين آية".
فهم يحسبون بالآيات.(249/11)
المحافظة على الصلاة
واعلموا -أيها الأحبة- أن تارك الصلاة كافر، يستتاب فإن تاب وإلا قتل نسأل الله العافية، لا يصدَّق ولا يصاحَب، ولا يؤاكل ولا يشارب، ولا يؤتمن، ولا يستشهد، بل زد على ذلك أن ابن تيمية يقول: "من ترك العشر -الركعات التي هي السنن الرواتب، التي هي قبل الصلاة وبعدها- فهو فاسق ترد شهادته" والعشر الركعات: ركعتان بعد الظهر، وركعتان قبله، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر.
يقول: من داوم على ترك هذه العشر الركعات النوافل التي جعلها صلى الله عليه وسلم سنناً راتبة، فهو فاسق ترد شهادته، نسأل الله العافية.
فليت ابن تيمية علم أن منا من يترك الصلاة، وأن منا من يتهاون بالصلاة، وأن منا من يدخل عليه الوقت ويخرج وهو ما اهتم بالصلاة، ولا انضبط مع أمر الله عز وجل، مسلم يسمع الله أكبر، ولا يقوم ويتحرك ويتوضأ، أي مسلم هذا؟! يقول الله في المنافقين: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] فإذا أردت أن تعرف المنافق، لا تعرفه بشكله أنه أحمر أو أسود أو أصفر، ولا بلونه، ولا بعضلاته، بل تعرفه بموقفه من الصلاة، إذا أذن المؤذن، ثم تكاسل وتهاون؛ فاعلم أن فيه نفاقاً، تقول عائشة: {كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع الأذان أو النداء للصلاة، قام إلى الصلاة كأننا لا نعرفه ولا يعرفنا} يقطع أعماله وأشغاله صلى الله عليه وسلم ويقوم إلى الصلاة.
حتى إن الذهبي يذكر عن عامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير أحد الصالحين الأخيار، يقول: أُذن لصلاة المغرب وهو في سكرات الموت، حضره الموت، وأصبح في آخر ساعة من ساعات الدنيا قال: احملوني إلى المسجد.
قالوا: إن الله عذرك وسامحك وعفا عنك، وأنت في سكرات الموت.
قال: والله لا أسمع الله أكبر الله أكبر ثم أبقى على فراشي، فحملوه وهو في سكرات الموت، فصلى وهو معتمد على رجلين، ثم توفي وقبض الله روحه وهو في السجدة الأخيرة، فلما أخبروا أهله قالت زوجته: والله لقد علمت أن الله سوف يتوفاه ساجداً، لأنه كان يقول كلما أصبح: [[اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، اللهم إني أسألك الميتة الحسنة]] فرزقه الله الوفاة وهو ساجد.
وذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة، أن أحد الصالحين كان يشتغل نجاراً، حين كان النجار في عهد السلف أتقى لله منا ونحن طلبة علم الآن، كان الخياط في عهد السلف الصالح أتقى لله منا ونحن طلبة علم، ونسمي أنفسنا طلبة علم وواجهة للمجتمع، كان البائع التاجر أتقى لله في عهد السلف، كانوا كلهم أخياراً إلا ما شذ منهم، حتى إن عمر عينه أبو بكر رضي الله عنه قاضياً، قال: [[فبقيت سنه في المدينة ما أتاني خصم أبداً]].
بقي سنة ما أتاه خصم؛ لأنهم عرفوا الحق.
ولذلك قال ابن الجوزي: أتى أحد النجارين كان يعمل، فكان إذا رفع المطرقة يضرب بها المسمار وسمع الله أكبر لا يردها ثانية، يلقيها ويطرحها وراء ظهره ويقوم إلى الصلاة.
واعرف إيمان المؤمن من قيامه للصلاة ومن استعداده لهذه الصلوات.
إخواني في الله: يومنا هذا أو غيره من الأيام، يسدد فيه الإنسان بسبب حضوره لصلاة الفجر، واسأل نفسك وأنت جالس الآن، إن كنت صليت صلاة الفجر في جماعة؛ فأنت في ذمة الله وفي حفظه وفي رعايته، ففي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من صلى الفجر في جماعة؛ فهو في ذمة الله، فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإن من طلبه أدركه، ومن أدركه كبع على وجهه في النار}.
لماذا امتلأت السجون من الشباب الذين يتعاطون المخدرات؟ لماذا امتلأت السجون من الشباب الذين زاولوا الزنا والمخالفات والشذوذ الجنسي؟ لماذا هتكت المحرمات؟ بسبب تركنا للصلوات، حتى يقول العلماء: إن من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة؛ لا يصاب بكبيرة بإذن الله -لا يقترف كبيرة بإذن الله- ولا يمكن أن تتعرض له كبيرة من كبائر الذنوب.
يقول أحد الناس: كنت حارساً في سجن في الشمال في القرن الرابع، فدخل عليَّ في سبع سنوات ما لا أحصي ولا أعد من المسجونين من أهل المعاصي، فكنت أسألهم بعد صلاة العشاء، وكانوا يأتون بهم بعد صلاة العشاء، قلت: أسألكم بالله! أصليتم العشاء اليوم في جماعة؟ قالوا: لا.
فابتلاهم الله بالفواحش وبالمنكرات والكبائر، فضربت ظهورهم وسجنوا، وذهبت عقولهم بالمخدرات بسبب تركهم للصلوات.
فالله الله -يا شباب الإسلام- في الصلوات الخمس! الصلوات الخمس التي لمَّا تركناها رأيت كثيراً من الأجيال المنحرفة عن منهج الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ورأيت البيوت المهدمة على أعقابها، ورأيت التربية السيئة، ورأيت العصيان من الولد للوالد، يقول الله عز وجل في حديث قدسي: {أبي تغترون أم عليَّ تجترئون! فبي حلفت لأنزلن فتنة تدع الحليم حيران}.(249/12)
المعاصي تسبب المصائب
إن الله تعالى لا يرحمنا إلا بسبب الطيور، بسبب الشيوخ الذين يركعون ويسجدون، بسبب الأطفال البريئين الذين لا ذنب لهم، أما نحن فنسأل الله العافية، فقد ورد في الحديث القدسي أن الله يقول: {والله، لولا شيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع؛ لخسفت بكم الأرض خسفاً}.
زلزلت المدينة في عهد عمر رضي الله عنه -أصابها زلزال سهل ليس بكبير- حتى تساقطت بعض الجدران وبعض البيوت، فجمع عمر الناس في المسجد، فلما اجتمعوا رجالاً ونساءً وأطفالاً؛ بكى عمر رضي الله عنه، ثم قال: [[والذي نفسي بيده! إن وقع زلزال مرة ثانية في المدينة، ما أجاوركم في المدينة وإنه لآخر العهد بي وبكم، قالوا: فما علاقتنا -يا أمير المؤمنين- بالزلزال؟ قال: أنتم الذين أوقعوا الزلزال ولم يقع الزلزال إلا بذنوبكم، فوالله إن وقع مرة ثانية لا أجاوركم أبداً.
فبكى المسجد حتى ضج بالبكاء، وقالوا: تبنا إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى]] فنحن ما وقعت بنا المصائب التي حلت بالأمة؛ إلا بذنوبنا وإعراضنا عن الله.(249/13)
موقفنا من الرسول صلى الله عليه وسلم
العنصر الرابع بعد حفظ الوقت، وحفظ نفسك من المعاصي، وحفظ الله بالطاعات، هو: أن تعرف موقفك من الرسول صلى الله عليه وسلم.
واعلم -يا أخي- أن الله لم يخلق أشرف ولا أكرم ولا أرحم ولا أجل من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك أغلق الله أبواب الجنة أن تدخل إلا من بابه، فمن أتى من غير باب الرسول صلى الله عليه وسلم احرمه الله من دخول الجنة، قال الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
وموقفك من الرسول صلى الله عليه وسلم يدور على ثلاث قضايا:
القضية الأولى: أن تعيش معه في السيرة، أن تعرف سيرته وحياته، جليلها وحقيرها، كبيرها وصغيرها، وما أعلم كتاباً أحسن من زاد المعاد لـ ابن القيم يقول أبو الحسن الندوي: ما دبجت يد مسلم أفضل من زاد المعاد.
فأوصي نفسي وإياكم باقتنائه، أو كتاباً آخر في السيرة كـ سيرة بن هشام، وأجلها زاد المعاد لـ ابن القيم تستصحبونه معكم، وتقرءونه وتتدبرون ما فيه، علَّكم أن تعرفوا سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وحياته، وعلكم أن تعرفوا هذا الإنسان العظيم، الذي زكاه الله من فوق سبع سماوات فقال فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
وقراءة السيرة ليس للتسلية ولا للسمر، لكن لنقتدي به صلى الله عليه وسلم، فإنه ورد في حديث: {والله لا يسمع بالرسول صلى الله عليه وسلم سامع، يهودي ولا نصراني ولا مجوسي، ثم لم يسلم إلا أدخله الله النار} فوالله لا يسمع بالرسول صلى الله عليه وسلم سامع، ثم لا يقتدي به ولا يسلك مسلكه إلا دخل النار.
يا مدعي حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهوينا
خذها جميعاً تجد خيراً تفوز به أو فاطرحها وخذ رجس الشياطينا
تأخذ كل صغيرة وجليلة وكبيرة أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم، فتحكمه في نفسك، يقول الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] كان محمد صلى الله عليه وسلم يصلي كذا، تصلي مثلما صلى، يقول: {صلوا كما رأيتموني أصلي} كيف ندعي أننا طلبة علم ولا نعرف كيف كان يصلي صلى الله عليه وسلم؟
صحيح أننا أجدنا علم الدنيا، وعرفنا وأتقنا علم الجغرافيا والتاريخ والتربية، لكن علم السيرة، وعلم الأثر، وعلم الحديث، ما أنتجناه ولا أجدناه كما ينبغي، يقول صلى الله عليه وسلم: {صلوا كما رأيتموني أصلي} فتعرف كيف كان يصلي وكيف كان يشرب، وكيف كان يأكل.
وأوصي نفسي وأوصي الأساتذة والمربين والموجهين، أن يتقوا الله في شباب المسلمين، ويتقوا الله في هذه الفلذات التي عرضت أمامهم على كراسي الدراسة، أن يمنحوها علماً، وأن يحضروا علماً نافعاً، وأن يخلصوا لله عز وجل، ولا يكن هم الأستاذ أن ينهي الخمس والأربعين دقيقة هذه، ثم يخرج من الفصل ويعتبرها وظيفة لا والله، والله ليسألنه الله يوم القيامة عن هؤلاء، ليسألنه الله ماذا فعل فيهم، ليسألنه الله في هذا المرتب، وهذا المعاش الذي قبضه، وهذه الأكباد والوجوه والقلوب ماذا فعل فيهم.
ثم أوصي نفسي وهؤلاء الشباب، أن يتقوا الله في أيامهم وفي جلوسهم على مقاعد الدراسة، أن يستفيدوا علماً من أساتذتهم، وأن يحترموهم ويوقروهم؛ لأنهم يهدونهم إلى الصراط المستقيم إن شاء الله.
فيا أيها الإخوة: موقفنا من الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً: أن نعيش سيرته.
والأمر الثاني: أن نتأدب بأدبه.
والأمر الثالث: أن نكثر من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
واعلموا أنكم لن تجدوا في العالم أزكى منه قلباً، ولا أطهر ولا أوضح منهجاً، ولا أحسن سيرة منه صلى الله عليه وسلم، يقول الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى:52 - 53].(249/14)
خاتمة
يا أيها الإخوة الكرام: هي أربع نقاط، أحببنا أن نتدارس مع هذه الوجوه الخيرة النيرة فيها، وهي: موقفنا من الكتاب العظيم، من القرآن الذين أهملناه وما حفظناه، وموقفنا من الرسول صلى الله عليه وسلم، وموقفنا من أوقاتنا وأيامنا الغالية.
والعجيب أن أحد الأمريكان له كتاب موجود في السوق، اسمه: دع القلق وابدأ الحياة هذا الكاتب مؤلفه اسمه: دايل كارنيجي أمريكي، يقول: الأمريكان يقرءون في اليوم والليلة ست عشرة ساعة، من أربع وعشرين ساعة، أمريكان لا يعتقدون أن الله يبعث الناس يوم القيامة، ونحن الذين من سلالة أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، ونحن الذين نقول: إننا فتحنا العالم، وكلما أتانا إنتاج قلنا: هذه بضاعتنا ردت إلينا، ونقول: نحن في مهبط الوحي، لا يقرأ الواحد منا إلا من رحم الله في اليوم ساعة أو ساعتين، وإذا قرأ ساعة ذهب يخبر جيرانه وإخوانه أنه قرأ ساعة، ويقول: سئمت ومللت وأصابني النعاس وأصابني كذا وكذا.
فلذلك كيف يكون أهل الكفر والذين لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة أكثر منا قراءة، يقول موشي ديان وزير حرب العدو الميت الهالك إلى نار جهنم: العرب لا يقرءون.
يقولون: نشرتم أسراركم في صحفكم، فكيف لم يقرأها العرب؟ قال: العرب لا يقرءون.
وهذا موجود فينا وأكثر ما يوجد في بلادنا نحن، فالعرب أسهل أو أيسر لكن يقرءون أكثر منا، ونحن أقل الناس قراءة.
فالذي أريد أن أنبهكم إليه هو أن تقبلوا على مكتباتكم، وأن تستشيروا أساتذتكم في الكتب الجيدة، فليس كل ما يعرض في السوق يشرى، بل تأخذون الكتب النافعة الطيبة، كـ الصحيحين، وكتب ابن القيم، وابن تيمية، وكتب ابن كثير، وكتب التفاسير التي تزيدكم علماً وتقوى ويقيناً، وتهديكم إلى الصراط المستقيم.
ثم أدلكم على الشريط الإسلامي، أن تقتنوه في سياراتكم وفي بيوتكم بدل شريط الأغنية، مسلم ويستمع إلى الغناء؟! مسلم ويستمع العهر ويستمع الفجور؟! مسلم ويستمع ما يقال في الفحش؟! حتى يقول عمر بن عبد العزيز لأبنائه: الله الله لا تستمعوا الغناء، فوالله ما استمعه مستمع إلا حبب إليه الفاحشة.
ويقول عقبة بن عامر، القائد المسلم الكبير فاتح أفريقيا لأبنائه: أسأل الله عز وجل أن يعصمكم من الغناء، فوالله إن استمعتموه لا تحفظون كتاب الله أبداً.
فالغناء هو سبب تضييعنا للقرآن، وسبب ضياع أوقاتنا، وسبب إنهاء علمنا من رءوسنا.
أيها الإخوة الفضلاء: لا أريد أن أطيل عليكم، وإلا فالحديث كثير، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، لكني أشكركم شكراً جماً على تواضعكم، وعلى جلوسكم، وعلى تحملكم حرارة وتوقد الشمس؛ لتستمعوا فجزاكم الله خير الجزاء، وشكراً لكم الشكر الكثير، وأسأل الله الذي بيده مفاتيح القلوب أن يفتح على قلوبنا وقلوبكم، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل، وأن يجعل منا ومنكم مفاتيح للخير هداة مشاعل حق، نقود أنفسنا وبيوتنا ومجتمعاتنا إلى سواء السبيل، نعرض عمن أعرض عن الله، ونتحاكم إلى شرع الله، ونستروح إلى هدى الله، ونسير على منهج الله ومنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم فافتح علينا من فتوحاتك، واهدنا سواء السبيل، وتقبل منا ما قلنا وما استمعتم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(249/15)
مكة في يوم الميلاد
هذا درس يتناول فتح مكة، وقد أفتتح الشيخ درسه بذكر حديث علي في قصة حاطب في صحيح البخاري.
ثم ذكر سبب فتح مكة ومسير أبي سفيان إلى المدينة ومحاولته تأكيد الهدنة، وعرض قصة العباس مع أبي سفيان عند دخول الجيش مكة، ومقتل عبد الله بن خطل، واغتسال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وإسلام بعض الوجهاء من كفار مكة كصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام، وما وقع من معجزات يوم الفتح.(250/1)
اكتشاف الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة حاطب إلى قريش
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم لك الحمد خيراًَ مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ومع (مكة في يوم الميلاد) يوم أن أذَّن بلال رضي الله عنه وأرضاه يوم الفتح الذي يقول الله فيه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح:1 - 2].(250/2)
رسل رسول الله لاستخراج رسالة حاطب
يقول الإمام البخاري باب غزوة الفتح، قال: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه قال: {أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد إلى روضة خاخ، فقال لنا: انطلقوا إلى روضة خاخ، فإن فيها ظعينة لـ حاطب بن أبي بلتعة، قد كتب كتاباً إلى كفار قريش يخبرهم أنا قادمون عليهم، قال علي رضي الله عنه: فانطلقت أنا والزبير والمقداد، وكلنا فارس تعدو بنا خيولنا، حتى أتينا روضة خاخ وهي قريبة من المدينة، قال: فالتفتنا فإذا الظعينة بين الشجر، قال: فقلنا لها: أعطينا الكتاب، قالت: ما معي من كتاب، قال علي: والله لَتُسَلِّمِنَّ الكتاب أو لَنُجَرِّدَنَّكِ، فقالت: اختفوا عني لأخرجه من بين ضفائري، -كان في رأسها- فأخرجت الكتاب، فأخذه علي رضي الله عنه والزبير والمقداد، وعادوا إلى المدينة، ففتحه عليه الصلاة والسلام، وقرأه، فإذا فيه:
من حاطب بن أبي بلتعة، إلى أهل مكة.
أمَّا بَعْد:
فإن محمداً -يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم- قادم عليكم بجيش كالسيل، أقبل يتلو بعضه بعضاً كالليل، فأنقذوا أنفسكم.
والسلام.(250/3)
موقف النبي صلى الله عليه وسلم من حاطب
استدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة، وقال: ما حمَلك على ما فعلتَ؟ -كيف خنتَ الله ورسوله- فقال حاطب: والله يا رسول الله! ما تبدلت بالكفر بعد الإيمان، ولكني رجل حليف لقريش، ولستُ من أنفس قريش، وأطفالي وأهلي ومالي عند قريش، وأصحابك كل منهم من قريش، فخفت على أهلي ومالي، فأردت أن أتخذ يداً عندهم، فهذا الذي حملني على ما صنعتُ، فقام عمر فقال: يا رسول الله! دعني لأضرب عنق هذا المنافق، فإنه خان الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: يا عمر! أما تدري لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم -وكان حاطب من أهل بدر - فبكى عمر، وقال: الله ورسوله أعلم، فأنزل الله عز وجل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1]}
وهذا الحديث اتفق البخاري ومسلم على إخراجه، وهو يشتهر بحديث حاطب بن أبي بلتعة، وله أسباب أوردها أهل العلم.
ثم أخذ الإمام البخاري يستطرد بقصة الفتح، والكتائب التي جمعها صلى الله عليه وسلم.(250/4)
نقض قريش للصلح
وفتح مكة كان في السنة الثامنة للهجرة، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وذلك أنه عاد صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية، ولما اصطلحوا كان من ضمن بنود الصلح: أن تضع الحرب أوزارها عشر سنوات، ولكن كفار قريش غدروا، وأتوا إلى حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من حلفائه خزاعة، فكانت بطن نصحٍ للرسول عليه الصلاة والسلام، وبنو بكر كانوا حلفاء لقريش.
فقام بنو بكر بقتل رجال من خزاعة، وهذا معناه نقضٌ للصلح الذي تم ووقع عليه كلا الطرفين، طرف الرسول عليه الصلاة والسلام، والطرف الآخر طرف المشركين ووقع عنهم سهيل بن عمرو.
فلما قتلوا هذا القتيل خاف أبو سفيان وهو في مكة أن يأتي الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وإذا أتى الرسولََ صلى الله عليه وسلم الخبرُ بأن أحلاف قريش قتلوا رجالاً من حلفائه، فسوف يغضب عليه الصلاة والسلام، ويعلن الحرب على أبي سفيان وعلى القرشيين.
فسبق بُدَيْل بن وَرْقاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فوصل إلى المدينة في الليل وأخبره، قال: {يا رسول الله! نقضت قريش عهدك ووعدك، وقتلوا رجالاً منا فسكت عليه الصلاة والسلام واحمر وجهه مُغْضَباً} فرجع بُدَيْل بن وَرْقاء مندوب خزاعة، فلقيه أبو سفيان، وقال له: من أين أتيت؟ -وأبو سفيان كان ذكياً من أذكياء الناس، ورجلاً داهيةً- قال: من أين أتيتَ يا بُدَيْل؟ قال: كان لي مال بالغابة ذهبت إليه، ثم مررت على خزاعة أسلم عليهم -يعني: قبيلته- فنزل أبو سفيان إلى بَعَر بَعِير جمل بُدَيْل، ففَتَّه، فوجد النوى فيه، قال: كذبتَ؛ ولكنك كنتَ في المدينة تخبر محمداً.
ثم ركب أبو سفيان ناقته وذهب إلى محمد عليه الصلاة والسلام فوصل إلى المدينة، فلم يجد أحداً في البيوت، حيث كانوا في اجتماع مع الرسول عليه الصلاة والسلام في المسجد، فدخل على ابنته -وابنته كانت زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام- فلما رأته ما استقبلته ذاك الاستقبال الحافي، وما رحبت به، وما هشت وبشت في وجهه؛ لأنه كافر، وهذه علامة الموالاة والصدق مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فدخل وبيده عصا، وقد ربط ناقته، فأتى إلى مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى فراشه، فسبقته إلى الفراش فلفَّتْه وسحبته عنه، فقال: لقد أصابك بعدي شر، كيف تسحبين عني فراش زوجك؟ قالت: هو طاهر وأنت مشرك نجس، فأخبرها الخبر، فقالت: ما أجد لك إلا هؤلاء النفر يشفعون عند الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: من هم؟ قالت: اذهب إلى أبي بكر ليشفع لك؛ لأنه خاف أن يهاجمه صلى الله عليه وسلم بجيش في مكة.
فذهب أبو سفيان إلى أبي بكر فأخبره الخبر، قال: وتظنني يا أبا سفيان أشفع لك عند الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قال: نعم، قال: والله ما أنا بفاعل، فذهب إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه فأخبره الخبر، وأبو سفيان عنده، قال عمر: ماذا تريد؟ قال: تشفع لي عند الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: اللهم ما كان بيننا وبينك من عهد نسأل الله أن يقطعه، وما كان بيننا وبينك من حبل نسأل الله ألا يتمه، والله لو أني لا أجد إلا الذر لحاربتكم بالذر، فقال أبو سفيان: جزاك الله من رحم شراً، ثم خرج من عنده فوصل إلى عثمان، فأخبره، قال: لا أشفع، فذهب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عن الصحابة أجمعين فوصل إلى علي فوجده في البيت، فأخبره الخبر، قال: ما أجترئ، فقام أبو سفيان إلى فاطمة بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: يا فاطمة! اشفعي لي إلى أبيكِ ألا يطأنا بالخيل بكرة النهار، قالت: ما أجرؤ، قال: فقومي بابنك الحسن، فضعيه في حِجْر جده؛ ليكون هذا الحسن سيداً أبد الدهر ليشفع بين الناس، قالت: ما بلغ السن أن يشفع، فقال: يـ ابن أبي طالب: أنت أقرب الناس مني رحماً -وهذا صحيح؛ لأنهم أبناء عم، هؤلاء من بني عبد شمس.
من الأعياص أو من آل شمس أغَر كغُرَّة الفرس الجواد
وهؤلاء من بني هاشم -فقال علي: وجدتُ لك حلاً، قال: وما هو؟ قال: اذهب فإذا صلى الناس العصر، فقل: أجرتكم أيها الناس -وأراد علي أن يضحك عليه أمام الناس رضي الله عن علي -فلما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالناس العصر، قام أبو سفيان، فوقف في المحراب، والتفت إلى الناس -وهو لم يصل معهم- وقال: قد أجرتُ ما بينكم أيها الناس، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: {أتقول ذلك يا أبا حنظلة؟} قال: نعم، ثم ولى إلى مكة.
وصل إلى أهل مكة، وأهل مكة على أحر من الجمر؛ لأنهم يعلمون أن الرسول عليه الصلاة والسلام أتاه الخبر بقتل الخزاعي، وهذا معناه نقض الصلح وبداية المعركة.
فوصل أبو سفيان إليهم، فقالوا: ما الخبر؟ فأخبرهم، قال: وجدتُ الناس قريبين إلا عمر فوجدته أدنى العدو، قالوا: فماذا فعلتَ؟ قال: تكلمتُ في الناس، فأجرتُ فيما بينهم، قالوا: فماذا؟ قال: محمد! يعنون: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تبسم، وقال: {أهكذا تقول يا أبا حنظلة؟} قالوا: قد ضحك عليك ابن أبي طالب، وما أجدى موقفُك منك شيئاً، فتَرَصَّدْ.
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر في اليوم الثاني، فلما انتهى من الصلاة، وإذا رجل خزاعي اسمه: عمرو بن سالم، من القوم الذين قتل منهم القتيل، دخل بعصاه، وعقل ناقته في طرف المسجد، ورفع صوته ينشد، ويقول:
يا رب إني ناشد محمدا حِلف أبينا وأبيه الأتلدا
فانصر هداك الله نصراً أيدا وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل البدر يسمو مصعدا
إن سيم خسفاً وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالوتير هجدا
وقتلونا ركعاً وسجدا
فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، وقال: {نصرت يا عمرو بن سالم!} ثم التفت عليه الصلاة والسلام فوجد السحابة قد مرَّت من أمام المسجد متجهة إلى مكة -سحابة في السماء- فقال: {هذا النصر على كفار قريش} ثم التفت عليه الصلاة والسلام ورفع يديه، ثم قال: {اللهم خذ عليهم أسماعهم وأبصارهم، فلا يعلموا بنا حتى نطأ أرضهم} فأخذ الله أسماعهم وأبصارهم.
ولكن حاطب بن أبي بلتعة -وهو أحد الصحابة الأخيار من أهل بدر - تذكر أن له أطفالاً ونساءً في مكة، فأراد أن يمنعهم من كفار قريش؛ ليتخذ عند كفار قريش يداً، فكتب رسالة -الرسالة السابقة- وأتى الوحي من السماء على لسان جبريل، يخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أن حاطب بن أبي بلتعة قد كتب رسالة يخبر كفار قريش، ومعناه: إذا أخبرهم اعدوا واستعدوا وتواجهوا في الطريق، والرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يفاجئهم فلا يشعرون به إلا وقد طوق مكة من كل جوانبها، فأخبره جبريل، فأرسل صلى الله عليه وسلم علياً وهو فارس الطوارئ، هو والزبير بن العوام، البطل الحواري، والمقداد رضوان الله عليهم جميعاً، فأخذوا الرسالة، وعرضوها على الرسول عليه الصلاة والسلام، فاستدعى حاطباً، فأعلن معذرته، فصدَّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عمر لحماسه للإسلام، ولغضبه لله ولرسوله ما صدَّقه، حتى أنه قال له صلى الله عليه وسلم: {أما تدري يا عمر! لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم} فهذه من الذنوب التي غفرها الله لـ حاطب.
ولذلك ضربَ حاطبٌ مولى له، فذهب هذا المولى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: {ضربني حاطب، والله إن حاطباً لمن أهل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتَ، كذبتَ، كذبتَ، حاطب من أهل الجنة، إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم}.
وهذا ثبت، فإن الله عز وجل تجلى للناس يوم بدر، يوم التقى الجمعان، يوم كان المسلمون بالعُدوة الدنيا، وهم بالعدوة القصوى، والركب أسفل منهم، فتجلى لهم الحي القيوم، وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم.
وفتح الله لهم أبواب الجنة؛ فهم من أفضل الناس، ومن أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم.(250/5)
التهيؤ لفتح مكة
لما انتهى صلى الله عليه وسلم من التحقيق مع هذا الصحابي الجليل عذره وعفا عنه، وأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتهيئوا، فكانوا عشر كتائب: سعد بن هُذَيْم، وجُهَيْنة، وأسد، ومُزَيْنة، وأشجع، وغِفار، وأسلم، ومَن لَفَّ لفَّهُم، والأنصار في كتيبة، والمهاجرون في كتيبة.
ومضوا رضوان الله عليهم وأرضاهم والرسول صلى الله عليه وسلم قائدهم، وقد أنزل عليه من ذي قبل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2] فقالوا: أي فتح يا رسول الله؟ فأخبرهم أنه فتح خيبر، ثم فتح مكة.
وتحرك عليه الصلاة والسلام هو والجيش وكان في رمضان، فلما بلغ الكديد شق الصيام على الناس، وكانوا ما يقارب عشرة آلاف، فدعا بالإفطار، فأفطر صلى الله عليه وسلم وأعلن الإفطار في الناس، فأفطروا جميعاً إلا بعض الناس أبوا أن يفطروا، وتحرجوا وتأثموا.
يا سبحان الله! أتقى الخلق لربه، وأخشاهم لمولاه، رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر في رمضان، وهم يتحرجون؟! فلما سمع صلى الله عليه وسلم أنهم لم يفطروا قال: {أولئك العصاة، أولئك العصاة، أولئك العصاة} وهذا في صحيح مسلم.
فلما بلغوا مَرَّ الظهران قال أنس: {فنزلنا، فأتى صلى الله عليه وسلم في منزل، فمَرَّت أرْنَبَة، فأنفجناها -أي: طاردناها- ففرت فصدتُها، فأتيت بها أبا طلحة، الفار المشهور، فذبحها وطبخها، وأهدى وِركها لرسول البشرية صلى الله عليه وسلم فقَبِلَه وأكله}.
وهذه من الأحداث التي حدثت في الطريق، يرويها ابن كثير وابن حجر، متابَعةً لوقائع انتقال الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة إلى مكة.
ونزل صلى الله عليه وسلم قبل الظهر، فوجد الأراك وعليه ثمرٌ أحمر، فبدأ يأكل صلى الله عليه وسلم منه، فلما رآه الصحابة نزلوا يأكلون معه مشاركة له؛ لأنهم إذا رأوه في أمر شاركوه فيه من الحب ومن التوقير والاحتشام، فقال: {عليكم بالأسود من الكُباث -أي: من الثَمَر- فتبسم الصحابة، وقالوا: كأنك رعيت الغنم يا رسول الله قال: نعم رعيتها.
وما من نبي إلا رعى الغنم.
} لأنه لا يعرف الثمر الأسود من الأحمر من الجيد من الكُباث إلا من رعى الغنم، فأخبرهم بذلك.
وصل عليه الصلاة والسلام إلى مشارف مكة، وما أتى قريشاً؛ لأنه دعا عليهم أن يأخذ الله أبصارهم وأسماعهم، فلا يأتيهم أي خبر، فما علموا أبداً أنه تحرك بجيش، وهذا خلاف ما أقره العقلاء - باستقراء من أحوال الأمم - أن الجيوش العظيمة إذا تحركت من مكان إلى مكان لا بد أن يأتي خبر، من التجار والرعاة، والمسافرين، والمتنقلين، والأعداء، ومن الجواسيس؛ لكن هؤلاء ما أتاهم أي خبر، وهم في مكة.(250/6)
تقسيم الجيش
وعندما نزل عليه الصلاة والسلام قسَّم جيشه إلى أربع كتائب:
الكتيبة الأولى: يقودها سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه وهي (كتيبة الموت) كما سماها أبو سفيان -و (الموت الأحمر) كان كامناً في هذه الكتيبة كما يقول ابن حجر - وقائدها سعد بن عبادة الخزرجي رضي الله عنه وأرضاه.
الكتيبة الثانية: يقودها خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه ودخل من الخندمة، وهي التي قاتلت أشد القتال يوم الفتح.
الكتيبة الثالثة: يقودها أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه.
الكتيبة الرابعة: يقودها الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه حواريِّ الرسول عليه الصلاة والسلام وقد أتت من جنوب مكة.
فلما نزلوا طوَّقوا مكة من كل النواحي، وأمر الرسولُ عليه الصلاة والسلام الجيشَ أن يشعل كل واحد منهم ناراً تتوقد، فقام كل جندي وجمع حطباً وأشعل ناراً، فأخذت جبال مكة تلمع في الليل، حتى أصبح كأنه نهار، فخرج أبو سفيان، وأخبره بعض الرعاة: أنهم يرون ناراً في جبال مكة، فقال للعباس: يا أبا الفضل! اخرج معي فإني سمعتُ أن هناك نيراناً في نواحي مكة، فخرجوا ومعهم حكيم بن حزام وبُدَيْل بن وَرْقاء، فنظروا إلى الجبال، قال أبو سفيان: ما هذه النيران؟ كأنها نيران عرفة، أي: يوم الحج، فقال حكيم: أظنها نيران بني عمرو، قال: بنو عمرو أذل وأقل من ذلك، قال: أظنها نيران خزاعة، قال: خزاعة أذل وأقل من ذلك، فقال العباس لما علم أنه الرسول عليه الصلاة والسلام: يا أبا سفيان، أنقذ نفسك، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلنك بكرةً نهاراً، قال: وما الحل يا أبا الفضل! فداك أبي وأمي؟ قال: اركب معي، فهذه بغلة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانت بغلته شهباء، فركب في عجزها، ومر بالمخيمات والمعسكرات خيمة خيمة ومعسكراً معسكراً، لا يعرفه الأنصار، لا يعرفون أبا سفيان إلا النادر منهم، ولا تعرفه قبائل العرب.
فلما مر بخيمة عمر، ثار عمر إلى خيمته فاختلع سيفه سالاًّ إياه، وأتى وراء البغلة، فلما رأى العباسُ أن عمر يطاردهم، حرك البغلة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وعمر ينادي في الناس: عليكم بـ أبي سفيان، عدو الله، أمكن الله منه، فدخل أبو سفيان وراء العباس في خيمة الرسول عليه الصلاة والسلام حيث القيادة، وحيث الحِلْم والكرم.
من زار بابك لم تبرح جوانبه تروي أحاديث ما أوليتَ من مِنَنِ
فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر، والسمع عن حسنِ
فنزل العباس، وأنزل أبا سفيان، فلما رآه صلى الله عليه وسلم تربع، وقال: {يا أبا سفيان! أما علمتَ إلى الآن أن (لا إله إلا الله)؟ أما علمتَ أنه لا أكبر من الله؟ فما لك تفر يا أبا سفيان؟ فدخل عمر ولم يَرُد أبو سفيان، فقال عمر: يا رسول الله! أمكني من عدو الله ومن عدو رسوله والمسلمين، هذا أبو سفيان أمكن الله منه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اجلس يا عمر} والسيف مسلول بيد عمر رضي الله عنه وأرضاه.
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
فنزل وجلس، فأخذ عمر يُلِحُّ، لا يريد الصلح مع أبي سفيان، يريد قَتْله، فقال العباس غضباناً: {هوِّن يا عمر! فوالله لو كان من بني عدي بن كعب ما فعلتَ ذلك -يقصد: أسرة عمر - فقال عمر: وهوِّن أنت يا عباس! فوالله لإسلامك أحب إلي من إسلام أبي الخطاب؛ لأن إسلامك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام أبي، وما يحبه صلى الله عليه وسلم أقدم مما أحبه أنا، ثم تكلم صلى الله عليه وسلم مع أبي سفيان، فقال: ألا تقل: لا إله إلا الله؟ فقال أبو سفيان: ما أحلمك! وما أكرمك! وما أوقرك! وما أجلك! -ومن هذا الكلام الذي يريد أن يستدر عطف الرسول عليه الصلاة والسلام به، فقال العباس: يا أبا سفيان، أسلم، لا يقتلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: اشهد أني رسول الله، قال: أما هذه ففي النفس منها شيءٌ، قال العباس: يا أبا سفيان! أسلم، قال: وأشهد أنك رسول الله -دفعها؛ لأنه خاف من السيف المصلت- فقال عليه الصلاة والسلام لما خرج أبو سفيان، وقد حقن دمه بالإسلام، قال لعمه العباس: يا عم! احبسه عند غدير الخُطَم} وقيل: {عند العُقُنْقُل} وقيل: {عند مجرى الوادي حتى تمر عليه الكتائب في الصباح} لأن الرسول عليه الصلاة والسلام خشي منه أن يذهب فيدبر جيشاً يصادم جيش الرسول عليه الصلاة والسلام فيريد أن يرهبه برؤية الجيش يوم يَمُر، فذهب به العباس فأنزله عند الخُطُم، فأوقفه.
ولما ظهر الصباح، وأشرقت الشمس أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الجيش أن يتحرك إلى مكة، لأن الله يقول: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1].
واستفاقت على صباح جديد ملء آذانها أذان بلالِ
فوقف أبو سفيان ومعه العباس فمرت (كتيبة جهينة) وهم ألف مقاتل، لا يرى منهم إلا الحدق، أي: مدجَّجون بالسلاح، قال: من هذه؟ قال: جهينة، قال: وما لي ولجهينة، بمعنى: هل أنا قاتلتُ جهينة؟
ثم مرت كتيبة غِفار فقال: من هذه؟ قال: غِفار، قال: وما لي ولغِفار، حتى مرت كتيبة الموت معها سعد بن عبادة، وهم الأنصار، وهي أعظم كتيبة وجدت في الجيش، فلما مرَّ سعد بن عبادة زاحم أبا سفيان عند مضيق الوادي، حتى كاد أن يُتْلِفَه من مكان هناك، ثم قال: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة، يقصد: يوم القتل، فصفَّق أبو سفيان بيديه، وقال: أُبيدت خضراء قريش، أي: معناه القتل، وذهب أبو هريرة يسعى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في آخر الجيش، وقال: يا رسول الله! أما سمعتَ ماذا يقول سعد بن عبادة؟ قال: ماذا يقول؟ قال: اليوم يوم الملحمة، قال: خذ الراية من سعد بن عبادة -كالمؤدِّب والمعزِّر له- واعطها ابنه قيس بن سعد، فانظر إلى الحكمة، لو أخذها منه إلى غيره لغَضِبَ سعد، ولو تركها عنده خاف أن يُفْشِي قتالاً؛ لأن الرجل جديرٌ وشجاع ومن أرهب الرجال، فأخذها منه تعزيراً له، ودفعها إلى ابنه لئلا يجد في نفسه، فأخذها قيس بن سعد، ومضى عليه الصلاة والسلام فلما مرَّ بـ أبي سفيان قريباً منه، قال أبو سفيان: من هذا؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون، وكان بعيداً عنه قليلاً، فقال: من هذا الرجل الذي يتبسم إليه ويتبسم إليه أي: أن هذا يتبسم لهذا وهذا يتبسم لهذا، قال: هذا أبو بكر، قال: لقد عظم قدر ابن أبي قحافة، أي أنه كان في الجاهلية ما له ذاك الصيت كـ أبي سفيان، والآن هو من القواد الكبار مع الرسول عليه الصلاة والسلام(250/7)
فتح مكة
ومرَّ عليه الصلاة والسلام فقال: {متى تسمعوا بأول راية تصل إلى الحرم فأخبرونا} فكان الزبير بن العوام، أبو عبد الله، الحواريّ الكبير هو أول من كان له شرف السبق، نزل بجيشه بـ (ريع الحُجُون) قريباً من الحرم، فنصب رايته، فلما رآها صلى الله عليه وسلم تلمع مع الهواء، دمعت عيناه فرحاً بنصر الله، ونكس رأسه تواضعاً لله عز وجل.
قال ابن كثير: فانظر إليه في وقت النصر، كيف يتواضع ويهضم نفسه عليه الصلاة والسلام؟!
ثم مضى صلى الله عليه وسلم وكان يسأل: {هل هناك من قتال في أطراف الناس؟} فيخبرونه أن لا قتال، ويلتفت عليه الصلاة والسلام إلى جهة الخندمة، وهي مدخل من كِداء، فيجد السيوف تلمع في الضحى، والغبار ينقاد من على جبال مكة، فيسأل: {من هذا؟ فيقولون: خالد بن الوليد يقاتل كفار قريش فاحمرَّ وجهه صلى الله عليه وسلم} لأنه لا يريد القتال، فأرسل أناساً من الصحابة، اسألوا: ما الخبر؟ فأتوا وأخبروه: أن عكرمة بن أبي جهل رصد كميناً لـ خالد، فتقاتلوا معه، فعاد خالد إلى الصحراء، وهذا من دهاء خالد، ولذلك فإن من عباقرة العسكريين في تاريخ العقلاء وفي تاريخ العالم: خالد بن الوليد، وكتب عنه حتى أهل الغرب الأعداء، كتباً جردوها لسياسته، فإنه لما دخل في سكك مكة بالجيش، قام نساء مكة عليه بالحجارة من على السطوح، وخرج عليه مقاتلون من السكك والشوارع، فتظاهر بالانهزام، فانهزم معه الناس، فلما خرج إلى الصحراء، كرَّ عليهم فأباد خضراءهم.
ولذلك روى ابن كثير والذهبي أن رجلاً من كفار قريش أخذ سيفه يسمُّه شهراً -يسقيه السم من رأس السيف- وكان يرقص عند زوجته ويتمدح عندها ويقول:
هذا سلاحٌ كاملٌ وأَلَّه وذو غِرارَين سريع السله
قالت: ماذا تفعل به؟ قال: أفتك بمحمد وأصحابه، وأقودهم لك خدماً يخدمونك في بيتك.
وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا
فأتت المعركة، فأتى هذا الرجل، فدخل مع صفوان وعكرمة يوم الخندمة، فقاتل فتظاهر خالد بن الوليد بالانهزام، فخرجوا له بنسائهم وأطفالهم، فكر عليهم، فأخذ المسلمون يضربونهم بالسيوف ضرباً لا مرحمة فيه، فدخل هذا الرجل وقد تثلم سيفه ولما دخل بيته أغلق على نفسه الباب وزوجته معه، هذا صاحب التمدح القائل:
هذا سلاحٌ كاملٌ وألَّه وذو غِرارَين سريع السلَّه
قالت: أين أنتَ؟ ما أجدى عنكَ سيفكَ؟ قال:
إنكِ لو شهدتِ يوم الخندمه إذْ فرَّ صفوان وفر عكرمة
يقول: إذا كان فر صفوان وعكرمة وهم القادات فأنا من باب أولى.
والمسلمون خلفنا في غمغمه يلاحقونا بالسيوف المسلمة
أي: أنهم لا يتكلمون مثل الناس.
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
ودخل خالد رضي الله عنه وأرضاه، ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى ريع الحجون - كما يقول ابن كثير - التَفَتَ فرأى الخيالة، -خيالة خالد - وقد دخلوا من سِكَّة من جانبه، وإذا النساء القرشيات الكافرات يلَطِّمْنَ بالخُمُر على وجوه الخيول، يُرِدْن رَدَّ الخيول، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال لـ أبي بكر -وكان أبو بكر حفاظة نسابة علامة في الأشعار والأخبار- قال: {يا أبا بكر! كيف يقول حسان؟} لأن حسان يقول قبل ستة أشهر:
عَدِمْنا خيلَنا إن لم تروها تثيرُ النَّقْع موعدها كِداءُ
تظل جيادنا متمطرات تُلَطِّمُهُنَّ بالخُمُر النساءُ
فوقع ما قال تماماً، فإنهم دخلوا من كِِداء، ولطمت النساء الخيل بالخمر، حتى أنه يقول:
تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخُمُر النساءُ
يرد على أبي سفيان بن الحارث، يقول:
هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجزاءُ
أتهجوه ولستَ له بكفءٍ فشركما لخيركما الفداءُ
فتبسم عليه الصلاة والسلام، وأشار وقال: ادخلوا من حيث يقول حسان، ثم دخل عليه الصلاة والسلام، والصحيح عند أهل العلم أنه دخل من باب بني شيبة، وقيل: من باب تجاه المروة؛ لكن لا يهمنا هذا.
دخل عليه الصلاة والسلام فلما رأى البيت كبر، وهلل اللهََ عز وجل وأخذ المنادي ينادي: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن، ومن دخل الحرم فهو آمن، فأخذ كفار قريش يلقون السلاح، ويتكدسون في الحرم، ويغلقون عليهم بيوتهم ويدخلون في بيت أبي سفيان، وأخذت هند تتعلق برأس زوجها أبي سفيان، لأنها تقول: إنه هو الذي فشل الناس، أي: ما قاتل، وتقول: ماذا تغني عنك دارُك؟ لا أغناك الله، أو كما قالت.(250/8)
دخول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة
دخل عليه الصلاة والسلام مكة والصحيح أنه أول ما دخل لم يكن محرماً، بل كان في لباسه، وكان عليه الدرقة، وعمامة سوداء، أي: كانت عليه صلى الله عليه وسلم الخوذة العسكرية، وكانت عليه عمامة سوداء، قد أرخى ذؤابتها من وراء كتفيه، وأخذ صلى الله عليه وسلم يدعو الله، فلما رأى البيت هلل وكبر وسبح ثم بدأ يطوف.
وأما الصحابة فأخذت جيوشهم تدخل من كل جهة، فدخل الزبير من جهة الحجون، فأخذ على الأبواب بجنوده، ودخل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وسعد بن عبادة، وابنه قيس وأبو عبيدة، فلما تكامل الناس، أمر صلى الله عليه وسلم بغلق الأبواب، ألا يمضي أحدٌ، ولا يدخل ولا يخرج، وقام عليه الصلاة والسلام فدخل في نواحي البيت، ومعه قوس.
وكان - كما قيل عند بعض أهل العلم - يطوف على ناقته، فأخذ على الأصنام وكانت ثلاثمائة وستون صنماً.
وانظر إلى هذه الأصنام كيف تركها عليه الصلاة والسلام ثلاث عشرة سنة في مكة، كان يدعوهم إلى (لا إله إلا الله) وأتى وهذه الأصنام في أماكنها، فما غير صنماً منها؛ لأن تغيير الباطل ليس بهذا الأسلوب، لأنه قد يكسرها من الواقع؛ لكن لا يكسرها من القلوب، وإذا كسرها وهاجمها يغضب إليها ألوف وألوف، فيقعون في إرباك ومشقة.
فدخل عليه الصلاة والسلام فأخذ يسدد رمحه، وقيل: سِيْتَه، وقيل: قوساً في يده، إلى وجوه الأصنام ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً} فكان قبل أن يصل القوس إلى الصنم يسقط الصنم على وجهه، وربما سقط على قفاه، ودخل عليه الصلاة والسلام فأمر بغلق باب الكعبة، ودخل معه أسامة وبلال بن رباح، وانظر إليه كيف يعظم ويوقر المعظمين في الإسلام، فإنه أدخل أسامة وبلالاً وهما من الموالي، ولم يدخل أبا بكر ولا عمر، فأتى عليه الصلاة والسلام فوجد صورة إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل عليهما السلام، وهما مصوران، وبأيديهما الأزلام يستقسمان بها، على مذهب الجاهليين الوثنيين، فقام صلى الله عليه وسلم يمحو الصور ويقول يقصد كفار قريش: {قاتلهم الله! لقد علموا إن استَقْسَما بالأزلام قط} كيف يستَقْسِمُون بالأزلام، وإبراهيم أستاذ التوحيد في الدنيا، وهو الذي أتى بـ (لا إله إلا الله) وقررها في البشرية، ويظهرونه في مظهر المشرك، وهذه هي الدعايات الأثيمة، يوم يأتون ببعض الصور أو ببعض الدعايات عن الدعاة أو العلماء أنهم فعلوا كذا وكذا؛ ليغرروا بها الناس، فيقولون: هذه صورة إبراهيم، وهذه صورة إسماعيل، يسْتَقْسِمان بالأزلام.
ثم أمر صلى الله عليه وسلم بإخراج الأصنام من الكعبة، فأخرجت، فقام فصلى، وهذا على الصحيح؛ لأن بعض الحفاظ عند البخاري ومسلم أنكروا الركعتين داخل الكعبة, والصحيح: أنه ركع عليه الصلاة والسلام.
ففي (الصحيح) من حديث ابن عمر، قال: {دخلت بعدما خرج صلى الله عليه وسلم، فقلت لـ بلال: أين صلى صلى الله عليه وسلم؟ قال: صلى هنا، فوجدتُ أنه ترك عن يمينه عمودين, وعن يساره عموداً، ووراءه ثلاثة أعمدة، واستقبل الباب} أي: استقبل صلى الله عليه وسلم باب الكعبة -الآن من داخل الكعبة- وصلى ركعتين، ثم خرج وقد سكت الناس، وامتلأ الحرم بالناس، ما بين رجال من كفار قريش وأطفال ونساء، وأما المقاتلون فوقفوا عند الأبواب، من المهاجرين والأنصار، وقبائل العرب، فأخذ صلى الله عليه وسلم بحلق الكعبة، فسكت الناس فقال: {الحمد لله الذي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ثم التفت إلى كفار قريش، وقال: ما ترون أني فاعل بكم؟ -معناه: أنكم آذيتموني وشتمتموني وطردتموني وقاتلتموني، فاليوم هذا جيشي، والسيف بيدي، وما بأيديكم شيء، فما الذي تتوقعون أن أفعل بكم؟ - فارتفع البكاء حتى اختلط بكاء الرجال بالنساء والأطفال، وقال كبراؤهم: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم -يقولون: اعفُ عنا، أنت أخونا، ولكنهم ما تذكروا في بدر كلمة أخ كريم وابن أخٍ كريم، ولا في أحد، ولا في الخندق، أما اليوم فتذكروا لما رأوا السيف الأملح أنه أخٌ كريم- فقال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا فأنتم الطلقاء} فتباكوا أكثر، فقام أبو سفيان فقال: ما أرحمك! وما أوصلك! وما أبركك! فنسي عليه الصلاة والسلام كل ما ذاقه، فأنزل الله عليه قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وقوله جل ذكره: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].(250/9)
أمر الرسول بقتل ابن خطل
ونزل عليه الصلاة والسلام من عند باب الكعبة، وتوجه إلى سارية في آخر المسجد، فجلس وألقى خوذته في الأرض، ثم خلع العمامة ليبرك تحت السارية، وقام الصحابة والسيوف حوله، فقالوا: {يا رسول الله! ابن خطل معلق بأستار الكعبة} أي: ما الحل فيه؟
ابن خطل اسمه: عبد الله بن عبد العزى، ونعوذ بالله من الخذلان، يقول ابن تيمية: قد يوجد بعض الأسماء، مثل: بأن يُسمى: تقي الدين، أو صدر الدين، أو ظهير الدين، أو نجم الدين، ومع ذلك يكون من أعدى الأعداء لأهل الدين، وتجد من الناس من يكون اسمه: عبد الله، أو عبد الرحمن، أو عبد الرحيم، أو عبد السلام ويكون من أعداء الله.
فهذا اسمه: عبد الله بن خطل أسلم وارتد على عقبه، أرسله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وأعطاه خادماً معه، قال: {هذا يخدمك} انظر إلى الإحسان وحسن الخلق منه صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يجبي بعض الزكوات أو في مهمة، وقال: {هذا خادم يخدمك، وهذان تَيْسان معك، أحدهما غداء لك اليوم، والآخر غداء لك غداً} فذهب فلما قرب من مكة، نام في الطريق، وقال للخادم: اذبح لنا هذا التيس غداءً ونام، والخادم كان كالاً ومالاً وفاتراً فنام أيضاً، فاستيقظ فإذا الخادم نائم وإذا التيس يقظان، فقام على الخادم فقتله.
وارتد عن الإسلام, ولم يَكْفِه هذا بل أخذ عوداً ومغنية، وجلس عند الحجر الأسود لتغني له المغنية الشعر الذي يُهْجَى به صلى الله عليه وسلم، فلما أتى يوم الفتح، أراد أن يستنجد بأستار الكعبة، فتعلق بثياب الكعبة، وهو يقول: إنه يريد أن يعفو عنه صلى الله عليه وسلم، فأتى الخبر الرسولَ عليه الصلاة والسلام، قالوا: {ابن خطل معلق بأستار الكعبة، قال: اقتلوه فتناوله الزبير بن العوام وأبو برزة، كلٌّ بيد، حتى طرحوه عند المقام وقتلوه}.(250/10)
إسلام بعض الوجهاء من كفار مكة
ولما انتهى عليه الصلاة والسلام قام وترك الناس مكانهم، ثم أخذ طريقه إلى بيت أم هانئ، وهي ابنة عمه -أخت علي بن أبي طالب - وكانت مسلمة، لكنها كانت في الحرم، فسبقها صلى الله عليه وسلم إلى البيت، ومعه ابنته فاطمة، فدخلت فاطمة وراء الرسول عليه الصلاة والسلام، وأتى عليه الصلاة والسلام ليغتسل، وهذا من نظافته واعتنائه بجسمه، حتى أن سعيد حوى يقول: مع هذه المشاغل، وهذه الدواعي، والأحداث لم يترك صلى الله عليه وسلم الاعتناء بنفسه وبجسمه.
تقدم عليه الصلاة والسلام إلى البيت وأمر فاطمة أن تستره بثوب، فاغتسل عليه الصلاة والسلام، وبينما هو في المغتسل إذ دخلت أم هانئ، وقالت: السلام عليكم، فقال عليه الصلاة والسلام وهو في المغتسل، وفاطمة تستره بثوب، وهي من وراء الثوب: {من هذه؟ قالت: أم هانئ، قال: مرحباً بـ أم هانئ}.
ولذلك يستدل به بعض أهل العلم في استخدام الألفاظ كمرحباً وأهلاً وسهلاً، وكلها واردة.
فقالت أم هانئ: فجلستُ في البيت وخرج صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة وصلى ثمان ركعات ضحى، قالت: ما أدري هل يقرأ الفاتحة أم لا؟ من سرعة الركعات، قيل: هذه ركعات الضحى، وقيل: ركعات الفتح، فلما سلم عليه الصلاة والسلام التفت إلى أم هانئ، وقال: {ما الخبر؟ قالت: زعم ابن عمك أنه يقتل ابن هبيرة، وقد أجرتُه يا رسول الله! فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ}.
وابن هبيرة هذا كافر، قريب لـ علي بن أبي طالب.
ولما دخل علي رضي الله عنه ذاك اليوم رأى ابن هبيرة بين الناس، فأخذ علي يتفلت عليه بالسيف يريد قتله في الحرم، فأخذ الناس يحولون بينه وبين علي رضي الله عنه وعلي يأبى إلا أن يقتله، فأتى ابن هبيرة النساء، وهن عمات علي وخالاته ليمسكن علياً -لأن ابن هبيرة وعلياً أقارب- فيتفلت علي والسيف مسلول، ويقول: أقتله اليوم، فأتت أم هانئ تقول: أجرتُه أجرتُه، فما سمع لها علي حتى ذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: {قد أجرنا من أجرتِ}.
فأتت وأخبرت علياً فسكت رضي الله عنه وأرضاه.(250/11)
إسلام عبد الله بن سعد
ونزل عليه الصلاة والسلام فصلى بالناس الظهر، ثم جلس يسمع للناس، وأتاه من يتوب، وأتاه من يعلن الإسلام، فوصل إليه عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وكان كافراً، ملحداً بالله العظيم؛ لكن أعلن إسلامه في ذلك اليوم، وقد آذى الإسلام كثيراً، فشفع له عثمان بن عفان، أخوه من الرضاعة، فسكت صلى الله عليه وسلم وعثمان يتكلم، والرسول عليه الصلاة والسلام ساكت لا يجيب، يريد أن ينبري أحد الصحابة، ليضرب عنق هذا الفاجر؛ لكن سكتوا، فلما طال الكلام عفا عنه صلى الله عليه وسلم فأخذه عثمان بيده وولى به؛ لأنه أخوه من الرضاعة، فقال عليه الصلاة والسلام للصحابة: {لِمَ لَمْ تقتلوه؟ قالوا: يا رسول الله! انتظرنا أن تومئ لنا بعينك أو تحدث لنا، قال: ما كان لنبي أن تكون له خائنة أعين} إنما هي الصراحة والوضوح والصدق والإخلاص مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وبعض الكفار من وجهاء مكة قد فروا، منهم:(250/12)
إسلام صفوان بن أمية
صفوان بن أمية:-
ركب إلى جِدَّة، وجِدَّة - والحمد لله - تُنْطق جِدَّة، وجَدَّة وجُدَّة، قالها أهل اللغة.
فهو يريد الهجرة والذهاب إلى الحبشة.
وقد عاد الناس من الحبشة، وهو بادئ في الهجرة؛ ولكن للشيطان, فوقف وراءه عمير بن وهب وقال: يا صفوان! لا تفجعنا بنفسك.
وعمير بن وهب هذا صاحب قصة قديمة.
أنه جلس مرة عمير بن وهب مع صفوان وغيره تحت ميزاب الكعبة، والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، بعد معركة بدر، فقال عمير بن وهب: يا صفوان! أما ترى ماذا فعل محمد بآبائنا وإخواننا يوم بدر قتلهم؟ قال: نعم.
قال: لو وجدتُ أحداً يقوم بأهلي وأسرتي وأطفالي لذهبت إليه في المدينة فقَتَلْتُه، قال: أنا أبو أسرتك بعدك وأبو أطفالك، فاذهب إليه، فحمَّله بالمال، وأعطاه المِيْرة، وذهب إلى المدينة بسيفه، فلما اقترب من المسجد، رآه عمر، فقال: إني أرى الشر بين عينَي هذا الفاجر، فتقدم عمر إليه فأخذه بتلابيب ثيابه وبحميلة سيفه وأدخله على الرسول عليه الصلاة والسلام في المسجد، فأجلسه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ماذا أتى بك يا عمير بن وهب؟ قال: أتيتُ أفادي بعض الأُسارى من أسارى بدر عندك، قال عليه الصلاة والسلام: لا.
والذي نفسي بيده، لكنك جلستَ أنت وصفوان تحت ميزاب الكعبة، وقلتَ: لو وجدتُ من يكفل أطفالي وأسرتي لذهبتُ إلى محمد أقتلُه، أما فعلتَ؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فرجع مسلماً منيباً إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو من الداخلين في الإسلام.
فلما فَرَّ أصبح صفوان في الميناء، قال له عمير: تعال يا صفوان! إنه من أحلم الناس، وأوقر الناس، قال: وما علامة ذلك؟ قال: هذا، أعطاني صلى الله عليه وسلم أماناً قيل: من العمامة، وقيل: من الثوب.
فأتى صفوان فوقف على رأس الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: أَصَدَقَ هذا أنك أمنتني؟ قال: كم تريد من الأمان؟ قال: أربعة أشهر -حتى يفكر في الإسلام، هل يدخل العقل أم لا؟ والناس قد دخلوا زرافات ووحداناً، وهو باقٍِ يستخير!! -فقال عليه الصلاة والسلام: خذ أربعة أشهر فأعطاه أربعة أشهر، فأسلم رضي الله عنه قبل الأربعة.(250/13)
إسلام عكرمة بن أبي جهل
عكرمة بن أبي جهل:-
وأما عكرمة فذهب إلى أرض اليمن، فلَحِقَتْه زوجته، فأتت به -ابن الطاغية الكبير، ابن فرعون هذه الأمة: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:27].
فأتى عكرمة -فلما رآه الرسول عليه الصلاة والسلام مقبلاً مع زوجته انظر إلى الاحتفاء والعفو والسماحة، لو كان غيره من الأقزام، كان تهدد عكرمة، وقال: انظر كيف فعلنا بكم وهزمناكم وسحقناكم؛ لكن لا، بل قام عليه الصلاة والسلام يجر رداءه حتى لقيه على الفرس، قال: {مرحباً بالراكب المهاجر} -يقصد أنه راكب ومهاجر إلى الله ورسوله، لم يقل: إنك منهزم، وفار، وقال: {مرحباً بالراكب المهاجر، فقال عكرمة: لا أترك موقفاً وقفت فيه ضدك أو مع من حاربك إلا وقفت معك فيه يا رسول الله}.
فَصَدَقَ موعود الله، وبايع الله، فبقيت بيعة الإسلام في عنقه حتى يوم اليرموك، يوم انهزمت ميمنة المسلمين في عهد أبي عبيدة وخالد، فقام عكرمة وذهب إلى خيمته، فاغتسل وتحنط ولبس أكفانه، وسل سيفه، وقال: من يبايعني على الموت؟ فبايعه أربعمائة بطل، فشق بهم الصفوف، وقُتِلوا وأُتِي به إلى خالد، وقد تجندل، وكان قبلها يقرأ القرآن ويقبله ويبكي ويقول: [[كلام ربي كلام ربي]] واستدل بعض أهل العلم على جواز تقبيل المصحف من فعل عكرمة.
ولا بأس بالاستطراد مع عكرمة.
فلما أُتي به إلى خالد، وضعه خالد في حجره، ووضع ابن عكرمة وكان شاباً صغيراً في حجره كذلك؛ لأن خالد هو القائد، وأتى بـ الحارث بن هشام رضي الله عنه وأرضاه.
الحارث بن هشام: عم عكرمة، أخو أبو جهل، انظر كيف هدى الله حارثاً إلى الجنة، وأخذ أبا جهل إلى النار.
والحارث بن هشام من أغنى أغنياء مكة، كان يطوف بجفنته على رأسه مكللة بالثريد كل صباح إلى الأيتام والمساكين.
فلما خرج إلى الجهاد في الشام بكى أهل مكة جميعاً عليه، والحارث بن هشام، هو الذي هجاه حسان يوم بدر، لأنه فر من بدر، حين كان مع المشركين، فيقول حسان:
إن كنتِ كاذبةَ الذي حدثْتِنِي فنجوتِ منجى الحارث بن هشامِ
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجى بفضل طمرَّةٍ ولجامِ
فلما أتى يوم اليرموك صدقوا الله جميعاً فقُتِلوا، فكانوا أربعة: فقال خالد لـ عكرمة: ماذا تريدون؟ فما استطاع عكرمة أن يتكلم -لأن الموت قد داخَلَهُ، وموعود الله عز وجل قد وصله، والعهد الذي قطعه مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قد ختمه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111]-.
فظن خالد أنهم يريدون الماء، فَدُعِا بماء بارد من الخيمة، فقدمه لـ عكرمة فرفض، وأشار إلى عمه الحارث، ليشرب قبله -انظر إلى الإيثار حتى في سكرات الموت: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولها الأشجارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
فوصل الماء إلى الحارث، فقال: إلى عكرمة، فأعطوه عكرمة فرفض إلا أن يشرب المسلم الرابع قبله، فرفض المسلم، فعادوا إلى عكرمة، فوجدوه قد مات، ودفعوه إلى الحارث، فإذا هو قد فارق الحياة، وإلى الثالث فإذا به قد مات، وإلى الرابع فوجدوه ميتاً، فرمى خالد بالكوب، وقال: [[اسقهم في جنتك، زعم الناس أنا لا نموت، بلى والله نموت تحت قصع السيوف وضرب الرماح]].(250/14)
حب الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم
ووصل بعض الناس، وأسلموا عند الرسول عليه الصلاة والسلام يوم الفتح، فقبل إسلامهم، وعاد عليه الصلاة والسلام وإذا الأنصار قد اجتمعوا، فقال: ما لكم رحمكم الله؟ فإذا التأثر قد ظهر عليهم، وبعضهم قد دمعت عيناه، وقالوا: يا رسول الله! سمعنا أنك تقول: سوف تقيم في مكة وتتركنا في المدينة، وكان المتكلم سعد بن عبادة -كما قيل- وقال: يا رسول الله! نصرناك، وآويناك، وبعدها تقيم مع أهل مكة وتتركنا؟ قال عليه الصلاة والسلام: {الحياة حياتكم، والموت موتكم}.
ولذلك أكثر من يَرِدُ الحوض والرسول عليه الصلاة والسلام واقف يسقي الناس جماعات، الأنصار، وهو يقول لهم في الدنيا: {اصبروا حتى تلقوني على الحوض} فهو العلامة الفارقة بين الأنصار والوعد، والرمز الذي جعله صلى الله عليه وسلم هو الحوض المورود، وطوله شهر، وعرضه شهر، والرسول عليه الصلاة والسلام على الصحيح يسقي الناس بيده صلى الله عليه وسلم، فهو يسقيهم بيده يوم القيامة، نسأل الله أن يسقينا بتلك اليد الشريفة، وبذاك الحوض المورود شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
{فلما أقنعهم صلى الله عليه وسلم فرحوا وارتاحوا، وأتى رجل آخر، فقال: أين تنزل غداً يا رسول الله؟ -يقصد: في مكة، هل لك أملاك تنزل فيها؟ - قال: وهل ترك لنا عقيل من رِباع؟}
وعقيل بن أبي طالب، ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام، أخو علي وأبو طالب مات مشركاً كما تعرفون وقد خلَّفَ أربعة أبناء:
أما اثنان فسبقا إلى الإسلام، وكانا نجمين ساطعين في تاريخ الدعوة المحمدية والرسالة الخالدة:
جعفر الطيار: الذي مُزِّق وقُطِّع في مؤتة، والذي ارتفع إلى الله وله جناحان، يطير بهما في الجنة حيث يشاء.
أبو الحسن علي بن أبي طالب: الزاهد العابد، صانع الكلمة الحارة.
وأما الآخران فكانا غير مسلمَين:
طالب: مات مشركاً.
عقيل: كان همه بيع الأملاك، أملاك الرسول عليه الصلاة والسلام في مكة، وأملاك علي بن أبي طالب، يوزعها على الكفار، فباعها جميعاً.
فهم جميعاً أربعة:
طالب أكبر من عقيل بـ (10) سنوات.
وعقيل أكبر من جعفر بـ (10) سنوات.
وجعفر أكبر من علي بـ (10) سنوات.
وعلي الأصغر.
فبين الأكبر والأصغر (40) سنة.
فلما سُئِلَ الرسول صلى الله عليه وسلم: أتنزل في دارك؟ -أي: قبل أن تهاجر- قال: {وهل ترك لنا عقيل من رباع؟} أي: ما أبقى لنا شيئاً، لا بيتاً ولا وادياً، والله المستعان.
لما حانت صلاة الظهر سكت الناس جميعاً، وأمر صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يقوم فيؤذن على الكعبة.
وكان يستطيع أن يؤذن على البساط أو بجانب سارية؛ لكن هكذا؛ ليكون صوت الحق عالياً، وكأنه يقول: هذا العبد الفقير الحقير الذي أخرجتموه، والذي ردَّد: أحدٌ أحد، يردد الآن صوت الحق.
وكان بلالٌ قليل اللحم، فقيل: لَمَّا تسلق الكعبة كان كأنه صقر، لم يكن هناك سُلَّم، وإنما وثب وثباً حتى صعد.
فلما صعد أخذ يصدح بصوته الندي الشجي الذي يأخذ بأطناب القلوب.
فيقول عتاب بن أسيد، أحد سادات مكة: لقد كان من الفتح أن يموت أسيد قبل أن يسمع هذا الغراب يؤذن على هذا المكان.
ويقول عمرو بن سعيد بن العاص: لقد كان سعيد موفقاً يوم أن لم ير هذا السواد على هذا البيت، وسعيد هو أبوه، وكان قد قتل في بدر.
ويقول أبو سفيان: دعوه، فإن كان موفقاً أَتَمَّ، وإلا فسوف يخسف الله بهم الكعبة، بمعنى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان موفقاً في دعوته أَتَمَّ الله له، وإلا فسوف يخسف الله بهم الكعبة؛ لأنهم أطلعوا العبد على الكعبة، انظر إلى الورع والزهد!!
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35] أي: هل هؤلاء أهل صلاة وأهل عبادة؟!
إنهم لا يعرفون إلا تصفيقاً وغناءً.
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {سَامِراً تَهْجُرُونَ} [المؤمنون:67].
ولذلك ليسوا بأوليائه؛ إنما أولياؤه: محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه.
فلما أذن ذلك اليوم، كان يوماً مشهوداً في تاريخ البشرية، وكان ميلاد مكة ذلك اليوم، وكان هو الفتح، فإنها - كما يقول أبو ريشة:
فاستفاقت على صباح جديد ملء آذانها أذان بلالِ
لأنه قبل هذا البيت قال:
قال: ياعمِّ! لا تدعني هنا وحدي ما لي سواك من مفضالِ
فتلقاه بالدموع وسارت بهما الخيل في شعاب التلالِ
فاستفاقت على صباح جديد ملء آذانها أذان بلالِ
فرضي الله عن بلال، وأكرم مثواه، وحشرنا معه، ومع كل صِدِّيق.
وعاد عليه الصلاة والسلام بعد هذا الفتح، وأحداثه تطول؛ لكن فيها دروس وعبر، وسيرته صلى الله عليه وسلم مناطها يدور على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: العقيدة:
فإن المعتقد يطلب من السيرة.
الأمر الثاني: الأحكام:
فإن السيرة مليئة بالأحكام.
قال ابن سريج الشافعي: من أراد دقائق الأحكام فليقرأ السيرة.
الأمر الثالث: الآداب والسلوك والتربية:
فإنها في السيرة.(250/15)
بعض المعجزات التي حدثت في فتح مكة(250/16)
معجزة الرسول مع فضالة
كان الرسول عليه الصلاة والسلام يطوف بـ مكة فلما طاف يوم الفتح، أتى فضالة بخنجر معه، فقال: أريد أن أقاربه ثم أقتله، فأخذ صلى الله عليه وسلم بيد فضالة، وقال: يا فضالة! ماذا تقول؟ قال: أسبح الله وأستغفر الله، يتمتم بلسانه وهو يطوف بالبيت، قال عليه الصلاة والسلام وهو يتبسم: أستغفرُ الله! يا فضالة! ماذا تحدث به نفسك؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله؛ لأنهم لا يدرون أنه رسول حتى يتيقنوا بهذا الكلام.(250/17)
معجزة الرسول مع أبي سفيان
أورد ابن كثير قوله: ومر عليه الصلاة والسلام وإذا بـ أبي سفيان جالس عند المقام، لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد الصلح والعفو وبعد الدخول والخطبة، جلس أبو سفيان يقول في نفسه: كيف تجتمع العرب على محمد هذا الاجتماع؟! لأغزونه بالجيش مرة ثانية -يقول في نفسه، لم يحدث أحداً- فأتى صلى الله عليه وسلم فقال: أما آن لك يا أبا سفيان؟ قال: وماذا فعلتُ يا رسول الله؟ قال: تقول لنفسك: كذا وكذا، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله.(250/18)
بعض الفوائد من فتح مكة
في هذه القصة -كما قلنا- دروس وفوائد:(250/19)
كشف خبر حاطب
الفائدة الأولى: معجزةٌ لرسولنا صلى الله عليه وسلم في كشف خبر حاطب:-
فإن الله أطلعه على بعض علم الغيب، والله هو الذي يطلع على علم الغيب - سُبحَانَهُ وَتَعَالَى - من يريد، ولا يطلع على علم الغيب أحداً غير الأنبياء والأولياء الصالحين.
وأما غيرهم من المشعوذين والكهنة، فقد يأتيهم من الجن، ومن خدامهم، والذين يتولونهم من الشياطين؛ فإن الكاهن يأتي إليه الشيطان، ويأتي إليه وليه، فيخبره، فيكذب معها مائة كذبة، كما قال صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث في (سنن أبي داوُد): قال: {ويقرها في أذنه كما تقر الدجاجة، فيأخذها فيزيد عليها مائة كذبة}.
أما الرسول عليه الصلاة والسلام فيأتيه الخبر صافياً نقياً، لا شائبة فيه، من السماء.(250/20)
قبول عذر المسلم
الفائدة الثانية: قبول معذرة المسلم:
فقد كاد حاطب رضي الله عنه وأرضاه أن يُودي بالإسلام والمسلمين في داهية، ولكن مع ذلك قَبِل صلى الله عليه وسلم معذرته.
ومن حسن إسلام المرء أن يقبل اعتذار من يعتذر إليه؛ فإنه ما اعتذر إليك إلا لجلالتك في قلبه، ولمحبتك إليه، والله عز وجل سِتِّيْرٌ يحب الستر، وعذر العاذرين في الدنيا، ويسامح المسامحين، وييسر على الميسرين، والجزاء من جنس العمل.
فإذا اعتذر إليك مسلم قد أخطأ، فاقبل عذره، واحمله على أتم المحامل فإن هذا من شيم الصالحين، بل إنه من شيم العرب من قبل ذلك.
فـ النابغة الذبياني لما أساء مع النعمان بن المنذر، قبل النعمان معذرته، فيقول:
لئن كنتَ قد بلغت عني وشايةً لمبلغك الواشي أغش وأكذبُ
فقَبِل النعمان عذره، فيقول:
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً وليس وراء الله للمرء مذهبُ
والرسول عليه الصلاة والسلام قبل أعذار الناس، حتى الذين كادوا له، والذين دبروا اغتياله، وأخرجوه من دياره.
وفي حديث في سنده نظر: أن كعب بن زهير قدم على الرسول عليه الصلاة والسلام وقد أساء، وأهدر دمه، فلما وصل إلى المدينة قال للصحابة: ماذا أفعل؟ والرسول عليه الصلاة والسلام قد أهدر دمي، والله ما تهنيتُ بطعام ولا شراب، ولا اكتحلتُ بنوم؛ لأنه كان يمضي في الليل وينام في النهار، قالوا: أنت شاعر مجيد، اصنع لك أبياتاً وقدمها للرسول عليه الصلاة والسلام، فأتى في صلاة الفجر، فلما صلى صلى الله عليه وسلم ألقى عليه تلك المقطوعة الرائعة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ مُتَيَّمٌ إِثْرَها لَمْ يُفْدَ مكبولُ
إلى أن يقول:
نبئتُ أن رسول الله أوعدني والوعد عند رسول الله مأمولُ
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة الـ ـقرآن فيها مواعيظٌ وتفصيلُ
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب ولو كثُرَت فيَّ الأقاويلُ
فعفا عنه صلى الله عليه وسلم وسامحه، ومع ذلك حَطَّ له جُبَّتَه من عليه، فبِيْعَت بأربعين ألفاً في عهد معاوية، وبقيت يتداولها خلفاء الدولة العثمانية في الأتراك، وقيل في بعض الروايات: إنها لا تزال في المتحف في اسطنبول، والله أعلم.(250/21)
غضب الصحابة لله
الفائدة الثالثة: غضب عمر لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم:
الغضب للنفس ردى، والغضب للناس علياء، والغضب لله عز وجل علياء وأجر.
ولذلك يقول بعض أهل العلم: طابع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم يغضبون لله، ويرضون لله؛ فلا يغضبون لأنفسهم.
فـ عُمَر كان يُسَب أمام الصحابة من بعض الناس، ويُسَب أمام الناس، فما يغضب، فإذا سمع أن دين الله أو رسالة الله، أو شيئاً من مبادئ الدين الخالد يناله شيء، غضب وأصبح كالأسد.
فهذا هو الغضب لله، والرضا له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثم هناك حول الغضب لله مسائل:
ورد من الغضب لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه طارد مجرماً كافراً مشركاً، فلما طارده وقع المجرم على ظهره، فأتى علي رضي الله عنه يطعنه بالسيف، فبَصَق هذا المشرك في وجه أبي الحسن، فكَفَّ رضي الله عنه وأرضاه عن قتل المشرك.
قال الصحابة: ما لك؟ قال: أولاً كنتُ أريد قتله لوجه الله، والآن أردت أن أقتله لنفسي، فترك ما لنفسه لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فيا لتلك القلوب! كيف بلَغَت من التربية ومن الصدق؟!
وهم كما قال ابن مسعود: [[أخلص الأمة إيماناً، وأعمقها علماً، وأبرها قلوباً، وأقلها تكلفاً]].
ولذلك يقول الله فيهم يوم الفتح: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحَاً قَرِيباً} [الفتح:18].
قال ابن القيم: علم ما في قلوبهم من اليقين والإيمان، ومن التقوى والبر، فهم أتقى الناس، وأبر الناس، وأصدق الناس، وأخشى الناس.
فسبحان الذي اختارهم لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم.(250/22)
فضل أهل بدر
الفائدة الرابعة: فضل أهل بدر:
حيث أنهم أفضل الناس بعد العشرة المبشرين بالجنة.(250/23)
الفطر في السفر
الفائدة الخامسة: الفطر في السفر، وأنه أفضل لمن شق عليه الصوم:-
وذلك بدلالة هذا الحديث، الذي أفطر فيه صلى الله عليه وسلم وهو مسافر إلى مكة لَمَّا شق على الناس، ولما خالفه بعض الناس، قال: {أولئك العصاة، أولئك العصاة}.
فمن شق عليه الصيام في السفر، فالأفضل في حقه أن يفطر؛ لهذا الحديث ولغيره.(250/24)
إرهاب العدو بالقوة
الفائدة السادسة: إرهاب العدو بالقوة:
وفيها معلم من معالم الإسلام وهو أن الواجب على المسلمين أن يظهروا التكاتف والتعاون، وأن يظهروا المراسيم الإسلامية بقوة، حتى يرهبوا أعداء الله، خاصة في الأعياد، وفي الجمع، ومناسبات الخير.
فمن إرهاب العدو:-
حمل ذلك بعض الصحابة رضوان الله عليهم على لبس الحرير في المعركة؛ ليرهبوا أعداء الله: فإذا رأى المسلم أن من اللباس ما يغيظ به الكافر والمنافق فله أن يلبسه.
وبعضهم مشى مشية الخيلاء: كـ أبي دجانة، الفارس المشهور؛ فإنه أخذ يتبختر يوم أحد، فقال عليه الصلاة والسلام: {إن هذه مشية يبغضها الله؛ إلا في مثل هذا الموطن} حيث أراد أن يغيظ بها الكفار.
وإذا كان من القوة والاجتماع ومن الشيء أن يغيظ به أعداء الله فإن الدين -كما يقول ابن القيم - يكون على المراغمة: أي: أن تراغم أعداء الله، فما أحسن المراغمة! وأعظم ما يُراغَم الشيطان، فإنك كلما عصيتَه أرغمت أنفه في التراب.
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام متعمِّداً لهذا العدو، فإنه دخل بعشر كتائب، وزعها على أربعة جيوش، وأشعل كل جندي ناراً، حتى أخذت جبال مكة تلتهب، فأدخل الله الرعب في قلوب الكفار.
نصرت بالرعب شهراً قبل موقعة كأن خصمك قبل القتل في حُلُمِ
إذا رأوا طائراً في الجو أذهلهم ظنوك بين بنود الجيش والحشمِ(250/25)
قراءة القرآن على الدابة
الفائدة السابعة: قراءة القرآن على الدابة:
فهذا جائز، ولا بأس به، فالرسول عليه الصلاة والسلام في قصة الفتح، قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1] وأخذت تُهَوْجِلُ به الدابة، فأخذ صوتُه يتردد صلى الله عليه وسلم، قال أحد الصحابة: {والله لولا أن يجتمع عليَّ الناس لرَجَّعْتُ بكم بصوتي كما رَجَّعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوته}.
فإذا ركبتَ السيارة، أو الطائرة، أو أي دابة فلك أن تقرأ كتاب الله عز وجل، فإنه نعم الأنيس؛ لأن بعض الناس يتحرج؛ لأنه راكب أو ليس مستقراً في مكان.
وورد عنه عليه الصلاة والسلام: {أن داوُد عليه السلام سهل الله عليه الزبور} وفي لفظ آخر: (القرآن) لكن حَمَلَه بعض المحدثين على أنه الزبور: {فكان يقرأه قبل أن تُسْرَج له الدابة}.
فهذا دليل على أنهم كانوا يقرءون في أسفارهم، فلا بأس من القراءة على الدابة، ولا بأس أن تقرأ وأنت تمشي، إذا كان هذا أصلح لقلبك وأفيد وأحفظ لوقتك.
كان بعض الصالحين إذا رأى الشباب يتوجهون إلى المساجد قال: تفرقوا من طريقكم إلى المسجد وفي رجوعكم.
قالوا: لماذا؟ قال: لأنكم إذا سرتم سوياً تحدثتم, وإذا تفرقتم قرأتم القرآن وذكرتم الله.(250/26)
طمس الصور
الفائدة الثامنة: طمس الصور، وإخراجها:
فالرسول عليه الصلاة والسلام لما دخل البيت، طمس صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهذا واجب المسلم ألاَّ يبقي في بيته صورة، خاصة تلك التي تعلق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة} وفي لفظ: (ولا جُنُب) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فعلى المسلم أن يكون بيته نظيفاً من هذه الصور، خاصة الخليعة منها، أو التي تُعَلَّق للذكرى وللتعظيم، فهذه محرمة.
أما الضرورية التي في الحفائظ والمستندات فلا بأس بها للضرورة.(250/27)
عدم موالاة المشرك ولو كان قريباً
الفائدة التاسعة: عدم موالاة المشرك ولو كان قريباً:
فإن أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان لما دخل عليها أبوها، سَحَبَتْ عنه فراش رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
فعلى المسلم أن ينتبه لهذه، وألاَّ يوالي مشركاً ولو كان ابناً أو أباً أو أخاً إذا كان يحاد الله عز وجل ويعارض كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بل يعاديه، فإن هذا هو الإيمان.(250/28)
كتمان الأمور الهامة
الفائدة العاشرة: الكتمان للأمور المهمة:
فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كتم أمره.
فالواجب على المسلم إذا أراد أمراً في مصلحة لنفسه في الدنيا والآخرة لا إضرار على المسلمين أن يكتب هذا الأمر.
وهناك أثر يرفعه بعض أهل العلم، يقول: {استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان} وقال عمر: [[من كتم أمره كان الخيار في يده]].
فأنت إذا كتمتَ أمرك فالخيار في يدك أن تمضي هذا الأمر أو تسحبه.
فواجب المسلم أن يكتم أموره إلاَّ عن صديق محب يستشيره في ذات الله عز وجل.(250/29)
رعي النبي صلى الله عليه وسلم للغنم
الفائدة الحادية عشرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رعى الغنم:
فقد كان سيد المتواضعين، وكان يعلن حالات الفقر والذكريات الأولى التي مرت به في أول حياته؛ فإن بعض الناس إذا رفعه الله في الدنيا وتولى منصباً أو تصدر في الناس أو توجه، لا يذكر ذاك الماضي، كأنه نشأ في هذا النعيم منذ نعومة أظفاره، وكأنه ما عرف البؤس ولا الجوع؛ لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: {رعيت الغنم على قراريط لأهل مكة لـ ابن أبي مُعَيط}.
وعمر بن الخطاب خطب في الناس، فلما خطب فيهم قال: [[من أنا؟ قالوا: أنت أمير المؤمنين، قال: أنا عمر بن الخطاب، كنتُ أُدْعَى في الجاهلية عميراً، كنتُ أرعى على قراريط لآل أبي مُعَيط الغنم، فلما انصرف قال ابنه عبد الله: ما حملك على ما فعلتَ؟ قال: لما رأيتُ الجموع أمامي أعجبتني نفسي، فأردتُ أن أكسرها]].
وفي فتح مكة أتت بنت قيلة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فرأت الرسول عليه الصلاة والسلام فأُرْعِدت فرائصُها، وخافت من هيبته، فقال: {هَوِّنِي عليكِ} وعند أحمد: أنه رجل، قال له: {هَوِّنْ عليكَ، فإني ابن امرأة كانت تأكل القَدِيْدَ بـ مكة} عليه الصلاة والسلام.
نعم، كانت تأكل القديد بـ مكة؛ لكن أصلح الله على يديك البشرية، ورفع على يديك معالم الإنسانية، وزعزع بفضله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ثم بإرسالك معالم الوثنية.
ذكروا عن الإمام أحمد: أنه خرج إلى السوق، فأراد الناس أن يحملوا الحطب عنه، وكان على ظهره، فقال: نحن قوم مساكين، لولا ستر الله لافتضحنا.(250/30)
قبول الهدية ولو كانت يسيرة
الفائدة الثانية عشرة: قبول الهدية ولو كانت يسيرة:
فإن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو قائد الجيش ومعلم البشرية أُرسِلت له فخذ أرنب طُبِخَت، فَقَبِلَها صلى الله عليه وسلم ودعا لـ أبي طلحة.
فالمسلم يقبل الهدية، ويقبل ما عرض له سواء كان كثيراً أو قليلاً؛ لأنه لا قيمة للمسلم عند نفسه؛ لأن الذي يرفع ويكرم ويسدد ويوفق هو الحي القيوم، أما الناس فليس لأحد عندهم قدر إلا ما قدروه لأسباب دنيوية.
قال ابن تيمية في المجلد الأول وهو يتحدث عن العقيدة: إن الناس إذا أكرموا الإنسان فإنما يكرمونه لأسباب أكثرها دنيوية.
حتى أنه قيل: من استغنيتَ عنه فأنتَ نظيره، ومن احتجتَ إليه فأنتَ أسيره، ومن احتاج إليك فأنت أميره فأنت بين أمير أو أسير أو نظير.(250/31)
الأمان للمشرك
الفائدة الثالثة عشرة: الأمان للمشرك؛ حتى يسمع كلام الله عز وجل:
فإن الرسول عليه الصلاة والسلام ما باهَتَ المشركين وما عاجَلَهُم حتى أسْمَعَهم داعي الله وكلامه، كما فعل بـ أبي سفيان يوم أتاه في الخيمة.(250/32)
صلاة الضحى
الفائدة الرابعة عشرة: صلاة الضحى:
وهي من أعظم النوافل التي يتقرب بها المتقربون إلى الله، وهي صلاة الأوابين، صلاها صلى الله عليه وسلم ثماني ركعات يوم الفتح، وقيل: صلاها ستاً، في بعض الأوقات، وقيل: صلاها أربعاً، وأكثر ما أوصى صلى الله عليه وسلم أن تصلى ركعتين اثنتين، فإنه أوصى أبا هريرة كما في (الصحيح) قال: {أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث، لا أدعهن حتى أموت: بركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام، وبصيام ثلاثة أيام من كل شهر} وعند أحمد في (المسند) في رواية أخرى: {وبغسل يوم الجمعة}.
فعلى المسلم أن يفرغ من وقته دقائق في النهار، ليصلي ركعتي الضحى؛ فإنها تعادل أجر ثلاثمائة وستين صدقة، فالتسبيحة بصدقة، والتحميدة، والتكبيرة، والتهليلة، وإصلاح بين الناس، وأمر بمعروف ونهي عن منكر صدقة، على كل مفصل وكل سُلامَى، وفي الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاًَ، فيغني عن ذلك كله ركعتان من الضحى.
ووقت صلاة الضحى: بعد طلوع الشمس، من ارتفاعها إلى قريب الظهر، سبحاً طويلاً، فمن أراد أن يتقرب فليتقرب.
وقل لـ بلال العزم مِن قلب صادقٍ أرِحْنا بها إن كنت حقاً مُصَليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجِنان الثمانيا(250/33)
الصلاة داخل الكعبة
الفائدة الخامسة عشرة:- الصلاة داخل الكعبة:
وذلك خلافاً لما ذهب إليه بعض أهل العلم، حيث قالوا: لا يُصلَّى داخل الكعبة، والصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام صلى داخل الكعبة، وأنه لا بأس به.
وأما الأمر الممنوع: فهو الصلاة على ظهر الكعبة، فوق السطح؛ لحديث الترمذي عن ابن عمر قال: {سبع مواطن نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها: ظهر الكعبة، ومعاطِن الإبل، والمقبرة، والمجزرة، وقارعة الطريق} إلى آخر تلك السبعة؛ لكن هذا الحديث في سنده زيد بن جبيرة الأنصاري، وهو ضعيف عند أهل العلم.(250/34)
قبول إجارة المرأة
الفائدة السادسة عشرة: قبول إجارة المرأة:
فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل إجارة أم هانئ لـ ابن هبيرة لَمَّا أجارت ابن هبيرة من علي بن أبي طالب.(250/35)
الكلام في المغتسل للحاجة
الفائدة السابعة عشرة: الكلام في المُغْتَسَل للحاجة:
فيجوز لك للحاجة وأنت تغتسل أن تتكلم، إلاَّ إذا كان في مكان تُقضَى فيه الحاجة فكره أهل العلم ذلك، لكن المكان الذي يُغْتَسَل فيه، فلك أن تتكلم ولا بأس؛ لأنه لم يَرِدْ مانع من ذلك.
فالرسول عليه الصلاة والسلام وفاطمة تستره، قال: {من هذه؟ قالت: أم هانئ، قال: مرحباً بـ أم هانئ} فتكلم معها عليه الصلاة والسلام وهو في المغتسل.(250/36)
عودة حرمة مكة
الفائدة الثامنة عشرة: عودة حرمة مكة كما كانت عليه:
فإنه لما خطب صلى الله عليه وسلم الجموع يوم مكة، خاف أن يُتَوَهَّم أنه يجوز استحلال مكة دائماً، والدخول بالجيوش والمقاتلة، فقال: {يا أيها الناس! إنما أُحِلَّت لي مكة ساعة من نهار، ثم عادت حُرمتُها كما كانت يوم خلق الله السموات والأرض، لا يُعْضَدُ شوكُها، ولا يُخْتَلَى خلاها، ولا ينفر صيدُها، فمن فعل ذلك - في بعض الروايات - فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين}.
ولذلك في صحيح البخاري: عن أبي شريح قال: لما حزَّب عمرو بن سعيد الأشدق -وهو أموي، وهو أول مَن رَعَفَ على منبر الرسول عليه الصلاة والسلام حيث يقول صلى الله عليه وسلم في أثر فيه ضعف: {كأني ببني أمية يتَنازَون عن منبري كما تتَنازَى القردة، يَرْعُفُون} أي: يَرْعُفُون بالدم، فأتى عمرو بن سعيد، وكان جباراً بائساً ظلوماً غشوماً، دخل المدينة وخطب على المنبر، ثم سَعَل، ثم رَعَفَ، نزل الدم من أنفه، فعرف الصحابة أن هذا منهم.
فأتى عمرو بن سعيد هذا فحزَّب الجيوش، يريد بها مهاجمة ابن الزبير في مكة، فأتى أحد الصحابة وهو أبو شريح، فقال: يا أيها الأمير! اسمع مني كلاماً، قال: ما هو؟ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة الفتح، سمعته أذناي، ورأته عيناي، ووعاه قلبي، يقول: {إن مكة أُحِلَّت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتُها كما كانت يوم خلق الله السماوات والأرض، لا يُخْتَلَى خلاها، ولا يُعْضَدُ شوكُها، ولا يُنَفَّر صيدُها، فَبَسَرَ الأميرُ في وجهه، وكََلَحَ، وقال: نعم أعلم بهذا منك، يا أبا شريح! والله ليس بأعلم ولا أدرى، لكن هكذ ثم قال: الحرم لا يُعِيْدُ فارَّاً بِخَرِبَة} هذه رواية، بمعنى أنه لا يعيد هذا.
فليُعْلَم هذا.(250/37)
لا يرث المسلم الكافر
الفائدة التاسعة عشرة: لا يرث المسلم الكافر:
وهذا هو الصحيح؛ إلا ما خالف معاذ رضي الله عنه وأرضاه جمهور أهل العلم في المسألة، وقال: المسلم يرث من الكافر؛ لكن الكافر لا يرث من المسلم، واستدل معاذ أبو عبد الرحمن، وهو سيد العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم: {الإسلام يعلو ولا يُعلَى عليه} فيقول: المسلم يرث من الكافر، والكافر لا يرث من المسلم.
لكن جماهير أهل العلم، وهذا هو الصحيح، يقولون: لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم.
فالرسول عليه الصلاة والسلام ترك أملاكَه وتَرِكَتَه لما دخل؛ لأن الكفار أخذوها، ولأن الذي ورث طالب بن أبي طالب، وميراث الرسول صلى الله عليه وسلم كان عند عمه أبي طالب، فأخذها طالب، فأصبحت ميراث مشرك.(250/38)
تغيير الشيب بغير السواد
الفائدة العشرون: تغيير الشيب بغير السواد:
وقد مرت قصة، لكني صدفت عنها، وهي: أن أبا قحافة والد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أبو أبكر اسمه: عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة، فـ أبو قحافة هو أبوه- كان يوم الفتح موجوداً، أتدرون أين كان؟ كان يرعى الغنم في جبل من جبال مكة، ولم يسلم حتى ذلك اليوم، وقيل: أسلم، فقال لابنته، أخت أبي بكر: ماذا ترين؟ قالت: يا أبتاه! إني أرى سواداً يَنْقاد، قال: المَحِي، هل هو ثابت أولا؟ قالت: لا.
ثابتٌ بالأرض، قال: هذا الخيل.
أترين شيئاً؟ قالت: أرى رجلاً يصعد وينزل أمام الخيل، قال: هذا الخيال يَرُدُّ الخيلَ ويصُفُّها أي: خيل الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما قدم الرسول عليه الصلاة والسلام من تواضعه صلى الله عليه وسلم ومن معرفته لمكان أبي بكر ولمقامه في الإسلام، قام صلى الله عليه وسلم وذهب ليزور أبا قحافة هذا، فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: نحن نأتي به يا رسول الله، أي: لمكانة الرسول عليه الصلاة والسلام فأتوا به وهو شيخ كبير، ولحيته كالثغامة البيضاء، أي: أنها بيضاء كلها ليست مُغَيَّرة، لا بأسود ولا بأحمر ولا أصفر، فقال صلى الله عليه وسلم: {غيروا هذا وجنبوه السواد} وجنبوه السواد: ليست ضعيفة، بل هي صحيحة، وليست مُدْرَجة بل هي متصلة في المتن.
فالصحيح أن السواد لا يصبغ به، وأنه منهي عنه؛ ولكن يغير الشيب إما بأحمر أو بحناء، أو بكَتَم، أو بشيء من الأصفر.
وعند أبي داود في سننه حديث فيه كلام: يقول صلى الله عليه وسلم: {ليكونن أقوام من أمتي في آخر الزمان لحاهم كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة يوم القيامة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، قيل: هؤلاء الذين يغيرون بالسواد؛ لأن فيه خديعة.
واستثنى بعضُ العلماء -كما يقول ابن حجر - استثنوا ذا السلطان؛ فإن ذا السلطان يغير بالسواد؛ لكن هذا الاستثناء ينبغي أن يتوقف إلى الدليل، وقالوا: إن الحسن والحسين غيرا بالسواد.
لكن الأولى للمسلم أن يجتنب هذه الأمور التي فيها مخالفة؛ لأنها ظهرت النصوص فيها.(250/39)
أداء الأمانة إلى أهلها
الفائدة الحادية والعشرون: أداء الأمانات إلى أهلها:
فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ مفاتيح الكعبة، فأتى علي بن أبي طالب فقال: {سلم لنا المفاتيح يا رسول الله! فقال: لا، اليوم وفاء وبر، ثم دعا عثمان بن طلحة، وقال: خذها تالِدَة ووالِدَة في يديك، لا ينزعها منكم إلا ظالم} أي: مفاتيح الكعبة، فأخذها، وهي ما زالت في أيديهم إلى اليوم.(250/40)
لبس السواد للحاجة
الفائدة الثانية والعشرون: لبس السواد للحاجة:
فإن بعض أهل العلم كره السواد؛ لكن لا بأس به، فالرسول عليه الصلاة والسلام لبس ثوباً مُرَحَّلاًَ من شعر أسود، ولبس عمامة يوم الفتح سوداء.
ولذلك لما أتى أبو مسلم الخراساني، الطاغية الظالم، الذي قاد حملة دولة بني العباس ودخل إلى بغداد، وهو الذي أسقط دولة بني أمية، وقتل مليوناً من المسلمين، أي: ألف ألف - كما يقول الذهبي - وهو مسلم في الظاهر، وأظنه مسلماً، لما أتى ووقف على المنبر يوم الجمعة وعليه عمامة سوداء، وقف أحد المسلمين وقال: ما لي أراك تلبس السواد؟ قال أبو مسلم الخراساني: حدثني فلان عن فلان عن أبي الزبير عن جابر {أن الرسول عليه الصلاة والسلام دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء} يا غلام! تناوله فاضرب عنقه، فضرب عنقه وسط الصف.
هذا أبو مسلم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لبس السواد صراحةً،؛ ولكن أحسن اللباس هو البياض: {البسوا البياض وكفنوا فيه موتاكم}.(250/41)
لبس أدوات السلاح داخل الحرم
الفائدة الثالثة والعشرون: لبس أدوات السلاح داخل الحرم:
فلا كراهة في ذلك، وإنما كره أهل العلم ذلك لغير الحاجة، أما للحاجة فيجوز لبس السلاح داخل الحرم؛ وهي مسألة عالجها البخاري في (صحيحه) وتطرق إليها.(250/42)
عدم عودته صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلى مكة
الفائدة الرابعة والعشرون: عدم عودته صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلى مكة:-
فإن الرسول عليه الصلاة والسلام ما عاد إلى مكة، وما لبث فيها بعد الهجرة.
هذا، ونسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفقهنا وإياكم في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي سيرته، وأن يحشرنا في زمرته، وأن يأخذ بأيدينا لكل خير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.(250/43)
الدعاء هو العبادة
الدعاء هو العبادة، هكذا قال عليه الصلاة والسلام، وللدعاء شروط وآداب لابد من مراعاتها ليكون الدعاء أحرى بالإجابة.
وفي هذه المادة تحدث الشيخ عن هذه الشروط والآداب، وعن حكم التعدي والاستبطاء فيه، وطلب الدعاء من الصالحين.
وتطرق فيها إلى ذكر بعض أدعية الأنبياء والرسل كنوح وإبراهيم وموسى وغيرهم.(251/1)
الحث على الدعاء
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
رأيت أن نتحدث هذه الليلة عن موضوع خطير وكبير ومهم، وهو موضوع الدعاء وعنوان هذا الدرس: الدعاء هو العبادة.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] ويقول تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] وصح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {الدعاء هو العبادة} رواه الحاكم بسند صحيح.
وعند الترمذي في سننه: {الدعاء مخ العبادة} لكن فيه ضعف، فيه دراج أبو السمح يروي عن أبي الهيثم وهو ضعيف.
فإذا علم هذا -أيها الأخيار- فموضوعنا هذه الليلة: الدعاء هو العبادة يندرج فيه عناصر:-
أولها: الحث على الدعاء.
الثاني: دعاء الأنبياء في القرآن عليهم الصلاة والسلام.
ثالثاً: أعظم الأدعية في السنة.
رابعاً: أدعية نبوية عامة صحت عنه صلى الله عليه وسلم.
خامساً: سيد الاستغفار وشرحه.
السادس: الاستعاذة من الهم والغم وما في حكمهما، أي: الأمور التي استعاذ منها صلى الله عليه وسلم.
المسألة السابعة: نماذج في استجابة الله لأوليائه، يوم تنقطع بهم الحبال ويبقى حبل الله، ويوم تنقطع بهم الأسباب ويبقى سبب الله، ويوم توصد أمامهم الأبواب، فيبقى باب الله، نورد قصصاً ونماذجاً من دعاء الأخيار والأبرار والصالحين الذين التجئوا إلى الله في وقت الحرج، فأجابهم الله فكشف كربهم، وأزال همهم وغمهم، وكان معهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى، على حد قوله تبارك وتعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل:62].
المسألة الثامنة: طلب الدعاء من الصالحين، هل لك أن تقول لرجل صالح: لا تنسانا من دعائك يا أخي أم ماذا؟! وتفصيل القول في ذلك، بإذن الله.
التاسع: التعدي في الدعاء وكيف يكون التعدي؟
المسألة العاشرة: الملل والسأم والضجر والانقطاع عن الدعاء واستبطاء الإجابة؛ فإن كثيراً من الناس يدعون فيستبطئون الإجابة، فيتركون الدعاء ويوقِّتون الأمر لله، ويحددون إجابة دعواتهم بالزمن بشهر أو سنة، فإذا ما أتى مطلوبهم كرهوا الدعاء، وسئموا منه، وانصرفوا عن باب الواحد الأحد، فوقعوا في شر مما فروا منه.
الحادية عشرة: الاستثناء في الدعاء: إن شاء الله، وما في حكمها.
الثانية عشرة: الأوقات الفاضلة للاستجابة، ما هي الأوقات التي إذا دعوت الله فيها أجاب الله دعوتك؟ وما هي الأوقات التي تفضل غيرها، بالاستجابة وبالتحري؟
أما آخر المسائل وهي الثالثة عشرة: فالدعاء والقضاء، وهي مسألة تطرح عند كثير من الناس، كيف أدعو الله أن ينجحني وقد كتب علي أني راسب؟ كيف أدعو الله أن يشفي ابني وقد كتب عنده أن ابني يبقى مريضاً؟ يجاب عن هذه الأسئلة وعن غيرها -إن شاء الله- في غضون هذا البحث.
- الحث على الدعاء، كما سمعتم قوله عليه الصلاة والسلام: {الدعاء هو العبادة}.
وبعض الناس يجعل الدعاء باباً ثانوياً، حتى تجد بعضهم يقول: لا بأس أن تدعو، وكأن الدعاء أمر سهل إن أتى وإن ذهب، وما علموا أن الدعاء سهام الليل.(251/2)
سهام الليل
دخل أحد الصالحين على ظالم من الظلمة، فقال السلطان الظالم: والله لأقتلنك قتلة ما قُتلها أحد من الناس، فقال الرجل الصالح: عندك الجنود -يقول للسلطان- والبنود والسيوف والرماح وأما أنا فعندي سهام الليل، قال: ما هي سهام الليل؟
قال: أوتار أمدها بخشوع وأرسلها بدموع مع السحر فيرفعها الحي القيوم، يقول لها: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين، فقال السلطان -وهو يرتعد-: مادام أنك التجأت إلى الحي القيوم فلا أمسك.
من الذي التجأ إليه فلم ينصره؟!
دخل البرامكة وزراء بني العباس السجن، بطروا وأكلوا وشربوا وضحكوا، وعمروا ورفعوا القصور حتى بلغ من إعجابهم بأنفسهم أن أخذوا ماء الذهب وطلوا به القصور بطراً.
وأخذوا عبيد الله عبيداً وخولاً، وسفكوا الدم، وكان هناك شيخ كبير مسن ظلموه، فرفع يديه في السحر وقال: يا قاصم الجبابرة! خذ البرامكة، فأخذهم العزيز المقتدر، الذي يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ فإن أخذه أليم شديد: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
أليم يصل إلى القلوب، وشديد لا يطاق على الأرواح، فغضب عليهم الخليفة أقرب الأقرباء إليهم، لأنه يقال: من اعتمد على غير الله جعل خوفه من هذا المأمن، فيقطعهم من المكان الذي استأمنوا منه.
ومن تعلق بحبل غير حبل الله انقطع به الحبل، ومن ركن إلى صديق وإلى صاحب ورضي به من غير الله، لا تأتيه الحية أو العقرب إلا من هذا الصاحب.
فأخذهم الله، فغضب عليهم هارون الرشيد، فقتل شبابهم في صباح النهار، وأتى إلى شيوخهم فأوقعهم في السجن، ثم أخذ قصورهم.
دخلوا على شيخ من البرامكة، وهو شيخ كبير سقط حاجباه على عينيه، قالوا له: كيف حالك؟
قال: لست بميت من أهل الآخرة، ولست بحي من أهل الدنيا، ما رأيت الشمس ثمان سنوات، قالوا: ما هو السبب؟
قال: دعوة من مظلوم سرت في ظلام الليل غفلنا عنها وما غفل الله عنها.
ولذلك الدعاء ليس أمراً ثانوياً عند المسلم، بل هو أمر أكيد، وإنما يفعل ذلك الحمقى، يقول ابن الجوزي في كتاب الحمقى قالوا لأحمق: ندعو لك، -وقد أراد سفراً- قال: لا أحتاج إلى دعاء فالمكان قريب.
سبحان الله قريب أو بعيد! فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الحافظ وهو الراعي وهو الرائد، وهم الذين عطلوا مشيئة الله، وأنتم تسمعون إلى الأحمق الآخر الذي قال له الناس: إلى أين تذهب؟ قال: إلى السوق، قالوا: ماذا تفعل؟ قال: أشتري حماراً، قالوا: قل: إن شاء الله، قال: لماذا أقول: إن شاء الله؟ الدراهم في الجيب والحمار في السوق، فضاعت دراهمه وعاد في المساء، فقالوا: أين الحمار؟ قال: ضاعت الدراهم إن شاء الله، قالوا: نفاها في موضعها واستخدمها في غير موضعها.(251/3)
قصة الحسن مع الحجاج
وذلك من الذين لا يتعلقون بحبل الله، ولا يلجئون إلى حبل الله.
أتى الحجاج بن يوسف فمر بـ الحسن البصري - الحسن البصري أمة من الأمم، وعالم من العلماء، وموجه من الموجهين، عرف الله- فمر به الحجاج والحسن يظن أن الحجاج ليس موجوداً -والي العراق - فمر الحسن بجمع من القراء وطلبة العلم، عند قصر الحجاج، قال: أين تذهبون؟
قالوا: نذهب إلى الحجاج لنأخذ أعطياتنا، فغضب الحسن وقام فألقى خطبة، وقال: هذا الحجاج بن يوسف، يقرأ القرآن على لخم وجذام، ويلبس لباس الفاسقين، ويعظ وعظ المعتبرين، ثم دعا على الحجاج.
فدخل الحجاج القصر وقال: علي بـ الحسن البصري، قال له وزراؤه ماذا تريد منه؟ قال: أريد قتله.
فذهبوا إلى الحسن في بيته، وقال الجنود للحسن: اذهب إلى الحجاج، قال: فأمهلوني قليلاً، فدخل واغتسل ولبس أكفانه من تحت الثياب وقال: يا حي يا قيوم،! يا ذا العزة التي لا تضام والركن الذي لا يرام! أسألك أن تقصم الحجاج وأن تسخره لي هذا اليوم.
ثم خرج، وفي أثناء الطريق وإذا بـ الحجاج قد تغير وهو على الكرسي قبل أن يدخل عليه الحسن البصري غيره الذي يغير الليل والنهار، والذي قلوب العباد بين يديه: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].
فلما دخل أخذ يرتعد الحجاج، ثم قام إلى الحسن وأخذ قارورة من الطيب فطيب لحية الحسن، وأجلسه بجانبه، وقال: لعلنا أزعجناك يا أبا سعيد! قال: نعم أزعجتني، قال: عد سالماً مكرماً، فلما خرج قال له مقربوه: ماذا حدث بك؟ قال: والله ما أن خرج من بيته إلا وأوقع الله هيبته في قلبي، حتى ما هبت أحداً من الناس كهيبته، وإنني خفت منه يوم دخل قصري أن يبطش بي.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].(251/4)
شروط استجابة الدعاء
يقول الصحابة: {يا رسول الله! أربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ -يقولون: أين الله؟ هل هو قريب فنخفض الصوت ونتكلم معه، أم بعيد فنرفع أصواتنا- فأتى الجواب من الواحد الأحد فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] قال أهل العلم: اشترط الله عليهم شرطين.
الأول: الاستجابة المطلقة لله ولرسوله، فمن لم يستجب لله ولرسوله، فلا يستجيب الله له أبداً، لأنه عطل طريق الإجابة، فكما تكونوا يول عليكم.
الأمر الثاني: أن يكون مؤمناً عاملاً الصالحات، ومهما طال المدى فإن العبد بين نعمة الدعاء، حتى يقول أحد الصالحين: والله! إني أريد أن يتأخر قضاء حاجتي أو أن تتأخر حاجتي لأجل ما أجد من لذة الدعاء.
فهو يريد أن يُفتح له باب في الدعاء، فيريد أن تتأخر حاجته؛ ليبقى داعياً مقبلاً على الله.
موسى عليه السلام، يقف ويرفع يديه وعنده هارون بجانبه، فيقول داعياً ربه: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:88] فقال هارون: آمين آمين آمين، فأنزل الله: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89] فجعل المؤمِّن والداعي داعين، قال أهل العلم: بعد أربعين سنة أجاب الله دعوته، وما قنط وما هاب وما مل وما سئم.
يعقوب بكى أربعين سنة على يوسف، يقول بعض أهل التفاسير وأهل السير ولله الحكمة البالغة، يقولون: لما جاء إخوة يوسف في الصباح {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:11 - 13] فأوحى الله إليه: خفت الذئب وما رجوتني، فمن الذي بيده الذئب وتصرف الذئب إلا الله، فخاف أن يأكله الذئب فأتى الخوف من غير مأمنه.
يقول: ما كان في أذهان أولاد يعقوب أن يقولوا أكله الذئب، لكن فتح لهم الطريق، قالوا: يقول أبونا: أخاف أن يأكله الذئب، إذاً في المساء إذا أتينا نقول: أكله الذئب، فذهبوا به فألقوه في غيابة الجب، قال ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم: أسقطوا يوسف عليه السلام في حبل فوقع في الماء على صخرة في الجب، فأخذ يسبح الله، يقول: تهدأ الحيتان والضفادع ولا يهدأ هو من التسبيح، حتى أوحى الله إليه: يا يوسف! لا تخف: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15].
يقول: سوف ننجيك، وأنا معك.
وعند الإمام أحمد في كتاب الزهد أن موسى عليه السلام لما عبر أرض مدين وكشف الصخرة وردها وسقى تولى إلى الظل، ثم بكى فرفع يديه فقال: يا رب! فقير مريض جائع غريب، فأوحى إليه: يا موسى! الجائع: من لم أكن أنا مطعمه، والغريب: من لم أكن أنا مؤنسه، والفقير: من لم أكن أنا مغنيه، والمريض من لم أكن أنا طبيبه، ذكرها الإمام أحمد.
فأتى هؤلاء الأبناء -على سبيل الاستطراد- فقالوا: أكله الذئب، قال ابن عباس: خلعوا قميصه خلعاً ولم يشقوه والذئب لا يعرف خلع القميص، بل المعروف أنه إذا أكل أكل، فأتوا بالثوب سالماً معافى ولطخوه بدم، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف:18].
والقميص في سورة يوسف ثلاثة: قميص كذب، وقميص براء، وقميص شفاء.
أما قميص الكذب فهذا القميص، وأما قميص البراءة فهو: لما قد قميصه من دبر، وأما قميص الشفاء: فهو القميص الذي في قوله تعالى: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف:93] فإذا علم هذا، فطالبنا الله بالدعاء وقال عليه الصلاة والسلام: {الدعاء هو العبادة}.
وإذا أردت أن تعرف قوة إيمان العبد فانظر إلى دعائه، فإذا رأيت العبد يبتهل في أدبار الصلوات وبعد الفجر، وإذا قام من النوم وقبل الصلوات ويوم الجمعة، فاعرف أنه مؤمن، وإذا رأيت العبد كالاً فاتراً، ما يدعو إلا بسهو أو لهو فاعرف أن إيمانه على قدر دعائه.(251/5)
الإسرار بالدعاء
قال عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] وقال في الذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} [الأعراف:205] قال هناك: (وَخُفْيَةً) وقال هنا: (وَخِيفَةً) فما الفرق بينهما؟
فالذكر يدعى من الخوف فعلى الذاكر أن يكون خائفاً، وعلى الداعي أن يكون مخفياً فيخفي الداعي دعاءه لأمور:-
أولاً: لا يتشوش قلبه.
الأمر الثاني: لأنه أخلص للعبادة وأبعد عن الرياء والسمعة.
الأمر الثالث: أنه أبعد عن عين الحاسد، فإن الحاسد ينقم على النعمة، وأفضل النعم أن تدعو الله إلى أمور أخرى.
يقول أبو موسى الأشعري: {كنا في ثنية مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فأخذ الصحابة يرفعون أصواتهم بالذكر والتكبير والتهليل والتحميد والتسبيح، فقال عليه الصلاة والسلام: أيها الناس! أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً بصيراً أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، ثم قال -لـ أبي موسى - يا عبد الله بن قيس! قلت: نعم.
يا رسول الله! قال: ألا أدلك على كنز من كنور الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله} وكان أبو موسى يقولها في نفسه، فدله عليه الصلاة والسلام على ذلك.
يقول عز وجل: {
الجواب
=6000192> وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] وهو قرب العلم، وإلا فالله مستوٍ على عرشه بائن عن خلقه استواء يليق بجلاله، ولذلك ذكر الله معية العلم، فقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] فهذا بالعلم ما يكون اثنان إلا والله ثالثهم تبارك وتعالى بعلمه، وإلا فهو مستوٍ على عرشه، قريب يسمع دعاء الداعي ويرى مخ النملة في عظمها الناحل، ويرى دبيب النمل ويسمعها وهي في حندس الظلام على الصفا السوداء في بقاع الأرض أو في قعر المعمورة، يقول تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام مادحاً لهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] فوصفهم بكثرة الدعاء، وما أتى مطلوب إلا بدعاء، وسوف نمر بنماذج من دعاء الأنبياء والرسل، ولا يستهين العبد بالغرض البسيط، فبعضهم لا يدعو في الأمر السهل، لأنه يقول: ما يحتاج هذا إلى دعاء، وهذا خطأ، بل قد صح في الحديث: {ليدع أحدكم ربه، حتى في شسع نعله، فإنه إن لم ييسره لا يتيسر أبداً}.(251/6)
الذنوب والمعاصي وأثرها على الدعاء
والعجيب أن المعاصي تقلب مقاصد العبد عليه، حتى قال بعض أهل العلم: إني لأعرف معصيتي في خلق دابتي وامرأتي وفي لباسي، حتى في لبس الحذاء، فبعض السلف يقول: إذا لم تُلبس لك الحذاء من أول وهلة، فاعلم أنه لذنب ارتكبته.
وذكروا عن سهل التستري أو غيره: أنه ذهب إلى صلاة الجمعة فانقطعت حذاؤه، فقال: أتدرون لم انقطعت؟ قالوا: بقضاء وقدر، قال: لكني أظنها بسبب وهو أني تركت غسل الجمعة، ثم عاد واغتسل.
وأخبروا ابن الجوزي بهذه القصة فقال: قلت ذنوبهم فعرفوا من أين أتوا، وكثرت ذنوبنا فلا ندري من أين أُتينا.
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
فالثوب الأبيض إذا نقطت فيه نقطة سوداء عرفت من كل مكان، أما الثوب الأسود فلطخ فيه ما شئت، لا يظهر عليه الأسود ولا الديزل ولا الشحم ولا الأحمر ولا البنفسجي.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {ونقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس} فالثوب الأبيض مثل المؤمن، والثوب الأسود مثل الفاجر الذي تلطخ من كل جهة، حتى إن بعض الناس إذا قلت له: لا تستمع الغناء قال: ليس معكم إلا مسألة الغناء! والحديث عن الغناء! الناس معاصيهم مثل الجبال، وأنت مع الغناء! وذلك لأن معاصيه مثل الجبال، فأصبح الغناء عنده شيئاً طبيعياً، تحدثه عن إسبال الثوب، قال: ألا تعرفون إلا الثوب؟! الحمد لله نحن أحسن من غيرنا، لو ذهبت أوروبا لرأيت المنكرات والدواهي، لأنه يقيس نفسه على بوش، وريجن، فيرى أنه أفضل منهم، فهو يشهد أن لا إله إلا الله، وهو يصلي الخمس فيرى أن له ميزة أو مزية.
فإذا علم ذلك، فلا بد من الدعاء ولو بالأمر السهل، حتى الصالحون كانوا إذا خرجوا من بيوتهم يدعون الله أن يسهل لهم أمورهم، ويفتح قلوب الناس لهم ويسخر لهم مطالبهم، ويهيئها، فإنها إن لم يهيئها الله لا تتهيأ.(251/7)
دعاء الأنبياء في القرآن
الأمر الثاني: دعاء الأنبياء في القرآن.(251/8)
من أدعية إبراهيم عليه السلام
إبراهيم عليه السلام كان يدعو حتى وصل إلى الذنب والخطيئة فقال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] احترام ووجل وخوف، ما قال: والذي يغفر لي خطيئتي يوم الدين، مع أن الله غفر له لأنه نبي، لكن قال حياء من الله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] ثم دعا بدعوات صالحات: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83] أمتني على لا إله إلا الله، وعلى الدين الخالص: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء:83 - 85].
ما هو لسان الصدق في الآخرين؟ الذكر الحسن، أن تموت ولك ذكر حسن في الناس:
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى
علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، أتاه رجل أعرابي، فقال: أريد منك حاجة يا أمير المؤمنين! -وهذه يذكرها ابن قتيبة - فقال علي: اكتب حاجتك على الأرض لئلا تصب ماء الحياء والمروءة من وجهك -يقول: لا أريد أن أحرجك وأخجلك، فلعل هذه الحاجة طلب شيء، لأن بعض الناس يستحي أن يطلب- فكتب على الأرض حاجته، فأتى علي فقضى حاجته.
وقد كان أمير المؤمنين في الكوفة، فقال الأعرابي وقد أعطاه حلة ومالاً كما طلب:
كسوتني حلة تبلو محاسنها لأكسونك من حسن الثنا حللا
قال علي: ذلك خير، يقول: والله لأثني عليك في الناس أحسن من هذه الحلة التي أعطيتني، قال علي: ذلك خير.
أتى وفد غطفان إلى عمر وفيهم أبناء هرم بن سنان، شيخ قبائل غطفان، وهو الذي أصلح بين قبيلة عبس وذبيان في معركة استمرت أربعين سنة، حتى كانت ديات القتلى آلاف الإبل، وقد قالت قبيلة عبس وذبيان: لا نصطلح حتى تودي قتلانا أنت -شيخ قبيلة غطفان- قال: قتلاكم عندي أوديهم، فذهب هرم في قبائل العرب فجمع الديات وسلمها وأصلح بينهم، حتى يقول له زهير يمدحه:
تداركتما عبساً وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
يميناً لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم
ثم مدحهم مدائح سارت بها الركبان، وكانت العرب تسمر عليها، فأتى أبناء هرم بعد موت زهير الشاعر وموت أبيهم، فقال عمر لأبناء هرم: ماذا أعطيتم زهيراً؟ قالوا: مدحنا فأعطيناه، قال عمر: ذهب والله ما أعطيتموه وبقي والله ما أعطاكم، وهو الذكر الحسن، والذكر الحسن لا يتأتى إلا للمؤمن، والله لو حاول الفاجر أن يجمع الدنيا ويجعل الدنيا صحفاً ويجعلها مجلات ودعايات، ويجعلها لوائح ولافتات، والله لا يقود القلوب إلا من خلق القلوب.
قال البخاري في الصحيح، في كتاب الرقاق: باب: المِقة من الله، أي: الحب من الله، كل شيء يستطيع أن يتصرف فيه العبد إلا الحب هذا، ثم أتى بحديث: {إن الله عز وجل إذا أحب عبداً قال لجبريل: إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فتحبه الملائكة، ثم يضع الله له القبول في الأرض -حتى يشرب قبوله وحبه مع الماء البارد- وإذا أبغض عبداً قال لجبريل: إني أبغض فلاناً فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فتبغضه الملائكة، ثم ينزل له البغض والمقت} حتى يشرب الناس بغضه وكراهيته مع الماء البارد.
فالحب من الله تبارك وتعالى وهو لسان الذكر في الخالدين، فيحرص عليه المؤمن بأن يحسن سريرته مع الله، وبالصدق مع الله تبارك وتعالى.(251/9)
من أدعية نوح عليه السلام
وأما نوح عليه السلام، فإنه دعا بأدعية، لكن كانت أدعيته مؤثرة، فإن نوحاً عليه السلام عاش ألف سنة في الدعوة إلا خمسين عاماً، تحمل وصبر ودعا ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، دعا بكل وسيلة، وفي الأخير ماذا يتحرى من هؤلاء الجثث الهامدة الفجرة، ماذا يتحرى؟ {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:26 - 27].
يقول: يا رب! خذ أولادهم معهم، ما يأتي الولد إلا مثل أبيه.
تلك العصا من هذه العصية لا تلد الحية إلا حية
فيقول: يا رب! أخرجهم من الدنيا جميعاً، لا تترك حتى أطفالهم؛ لأنهم لا يهتدون، أنا جربتهم.
حتى يقول صلى الله عليه وسلم: {أما أنت يا عمر! فمثلك كمثل نوح} لأنه استشارهم في أسارى بدر يقول: ما رأيكم؟ قال أبو بكر: احلم واعف عنهم يا رسول الله! إخواننا وأبناء عمومتنا وأقاربنا، قال: وأنت يا عمر؟ قال: يا رسول الله! ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، هذا السيف واقتلهم، واعط العباس سيفه يقتل قريبه، وأعطني سيفاً أقتل أقاربي، فكان الرأي رأي عمر والإقرار على رأي أبي بكر، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: {أما أنت يا أبا بكر! فمثلك كمثل إبراهيم عليه السلام، وكمثل عيسى، أما أنت يا عمر! فمثلك كمثل نوح ومثل موسى} فنوح قال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:26 - 27].(251/10)
من أدعية موسى عليه السلام
ومن أدعيتهم، وينبغي على المسلم أن يجمعها وأن يحاول أن يتحفظها من القرآن، لأن أحسن الدعاء دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، مثل دعاء موسى، فقد كان يرعى الغنم ويهش على ضأنه بالعصا وفجأة وهو بالصحراء وإذا بالله يناديه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] فقال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28] إلى دعاء أخير أتى به عليه الصلاة والسلام، لكن هذا من أحسن الدعاء، حتى يمتن الله عز وجل على رسوله عليه الصلاة والسلام فيقول: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
يقول سيد قطب رحمه الله معلقاً على الآية: فتش في جوانحك وابحث في خفاياك، أما شرحنا لك صدرك فكان واسعاً فسيحاً، وقد كان ضيقاً قبل أن تأتي النبوة، قال: شرحنا لك صدرك.
وشرح الصدر أعظم منة يمنها الله على العبد، تجد المسلم المؤمن في الزنزانة وصدره فسيح واسع، وتجد الفاسق في القصور وفي الدور، وفي السيارات والعمارات، و: {صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] كأن اللعنة جمعت له، لماذا؟ لأن الله أخذ على نفسه ميثاقاً وعهداً بيَّنه في سورة "طه" فقال: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] في الدنيا ولا في الآخرة، قال ابن عباس: [[أخذ الله على نفسه، أن من اتبع هذا القرآن فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة]] {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] حتى كلمة ضَنْكاً لا تكاد تقرأ، فالضاد حرف ثقيل، ثم النون بين الضاد والكاف، فعيشته مثل نطق الكلمة: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].(251/11)
دعاء يونس بن متى
ومن الدعاء العظيم الذي وصفه عليه الصلاة والسلام لأمته، دعاء يونس بن متى، يقول عليه الصلاة والسلام: {دعاء الكرب، دعاء أخي يونس ما دعاه مكروب إلا فرج الله كربته} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وهذا الدعاء هو: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] وفي هذا الدعاء ميزات ثلاث: -
أوله: أنه اعتراف بالتوحيد.
الأمر الثاني: أنه اعتراف بالتقصير.
الأمر الثالث: أنه استغفار.
فقال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فوجب على العبد إذا ضاقت به ضائقة وأتاه حادث، أو أتاه هم وغم، أن يكرر هذا الدعاء فإنه بإذن الله فتح عظيم، يقول الأندلسي يوصي ابنه:
وناد إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذا النون بن متى
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
ذكر أهل التفسير وأهل السير: أن يونس بن متى غاضب قومه وخرج فأوقعه في البحر الربان وأهل السفينة، لأن القرعة وقعت عليه: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] ما معنى الآية؟
لما ركب في السفينة كانت تتموج، وثقلت وأصبحت على غير العادة، وكانت في العادة تمشي بحفظ وبراعية وبتؤدة وسكينة، لكنه لما ركب وهو لم يستأذن الله ترجرجت، وهذا فيه درس: أن من التعكير والشؤم وبعض الصعوبات والمشاق على المسافرين والمقيمين المعصية، فقال الربان: معنا رجل فيه معصية، لا بد أن نتساهم ونقرع قرعة فمن أتت فيه أنزلناه في البحر، فشرعوا في أول قرعة فوقعت على يونس، قال: نعيد القرعة، هذه خطأ، فاستهموا مرة ثانية فوقعت عليه، قال: الثالثة، فوقعت الثالثة عليه، فأخذوه بيديه -سبحان الله العظيم، أحبابه وأقاربه تخلوا عنه! لأنهم يهلكون لو لم يفعلوا ذلك- فأخذوه بيديه ثم رموا به في البحر، فأصبح في ظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة الحوت، فقد تلقفه حوت يوم وقع فابتلعه فأصبح في بطنه، انظر إلى الموقف! من يسمعه؟ حتى ولو كان هناك فرق إنذار، أو خفر سواحل أو طوارئ ما سمعوه في بطن الحوت، لكن إلى السميع المجيب، إلى الذي أقرب من حبل الوريد: {
الجواب
=6000192> وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] فأتى بكلمة تنفجر من القلب من أعظم الكلمات عند أهل التوحيد، قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] يقول أهل العلم: لما قالها، عبرت بصوته إلى السموات السبع تخترقها، فسمعتها الملائكة فبكت، وقالت: صوت معروف من عبد معروف، يا رب! أين فلان؟ قال: أنا أعلم به، سمعوا الصوت لكن ما يدرون هل هو في بحر قزوين أو في البحر الأحمر، فأنقذه الله، وأخرجه ونجاه لأنه التجأ إليه، فحق على المسلم أنه إذا ضاقت به الضائقة، أن يردد: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] وعند البخاري في الصحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {دعاء الكرب: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش العظيم} فهذا دعاء الكرب الذي -بإذن الله- من دعا به استجيب له.
وذكروا عن العلاء بن الحضرمي أنه لما قحط الناس قال: يا علِيُّ! يا عظيم! يا حكيم! يا عليم! فأغاثه الله, وأغاث الصحابة معه.(251/12)
دعاء سليمان عليه السلام
ومن دعائهم دعاء سليمان عليه السلام، وقد أراد أن يدعو الله في ملك لا يكون لأحد من قبله، فعلم أن الملك ينتهي وأن الملك زائل، وأن الجنود منتهون، وأن الدور تخرب والقصور تهدم: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] فلما أعطاه الله الملك واستعرض جيوشه، حتى كان الطير يحجب شعاع الشمس بالسماء، والبحار ممتلئة بالجن له، وأما الأرض فامتلأت بالجيوش، فسجد على الأرض وبكى: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40].(251/13)
دعاء يوسف عليه السلام
وأما يوسف عليه السلام فقال في آخر حياته بعد ما تملك مصر: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101] ويقول: توفني مسلماً، هذه هي الأمنية العذبة والغاية المنشدودة وهوايتنا في الحياة.
يا معشر المسلمين! والله الذي لا إله إلا هو إن التربية الآثمة، والتربية الأوروبية تربية الخواجات التي أخرجت من شبابنا وفتياننا وأبنائنا من لا يتذكر لقاء الله ولا حسن الخاتمة ولا الموعود الذي وعده الله، ومن يبني مستقبله على هوايات آثمة تضحك العقلاء.
تجد في المجلات صور شباب في الخامسة عشرة من أعمارهم، هواية محمد بن سعيد بن طلال جمع الطوابع، وهواية علي بن محمود المراسلة، وهواية ذاك مطاردة الحمام وصيد الدجاج، أما يخجل الإنسان؟!
من هم أهل هذه الصور؟
إنهم أبناء أبي بكر وعمر، وأبناء عثمان، وعلي، وأبناء خالد وسعد، الذين فتحوا الدنيا، وأذنوا في سمع المعمورة وقدموا أرواحهم رخيصة لترتفع لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
فيربى الجيل على هذه الأمور! حتى إنه في بعض الطلبات في ما يطلبه المستمعون، هناك مريض على المستشفى مكسور الظهر والرأس، قال أهدي لأخواتي وعماتي أغنية عبد الحليم، أو فريد الأطرش، سبحان الله أصبحت في الآخرة وتهدي لأقاربك أغنية! تريد فساداً في الدنيا وفساداً في الآخرة، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16].
سمعت داعية إسلامياً وخطيباً فارهاً، يقول على المنبر: بالأمس فقدوا مغنياً، فقامت فتاة تشيع جنازة المغني، ومعها مسجل فيه شريط للمغني، فلما وصلت إلى القبر، رفعت المسجل ففتحت الأغنية، قال: فكان اتفاقاً وفتحاً من الله، فكان هو صاحب الأغنية -ميت، أصبح تحت الثرى- يقول: نار يا حبيبي نار، قال: نار من فوقك ونار من تحتك لأنك تركت الأمة في نار، فهذه كلماتهم، ولكن كما أسلفنا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] لكن من عرفه الله وبصره ثم انحرف فقد قامت الحجة عليه مرتين.(251/14)
أعظم الأدعية في الإسلام
وأعظم الأدعية في الإسلام، هو قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] فهل تركت من الخير شيئاً؟
هل تعلم خيراً ما ضمته هذه الآية؟
هل تعلم معروفاً في الدنيا والآخرة أو فقهاً أو رزقاً لا يدخل في هذه الآية؟
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200] من هم؟
إنهم أعراب حجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فرفعوا أيدهم في عرفات وفي منى وقالوا: اللهم أدر لنا الضرع، اللهم إنا نسألك غيثاً مغيثاً هذا العام، اللهم أنتج لنا إبلنا، وأحي لنا زرعنا ومواشينا.
وهذا كله في الدنيا، فهم لم يقولوا: ربنا اغفر لنا، وما تذكروا أن يقولوا: رحماك يا رب!
وهذا أعرابي ذكروا عنه أنه ذهب فحج، فلما رمى جمرة العقبة في اليوم الأول ذهب مسرعاً ودخل البيت، فلقيه صديق له عند باب الحرم، فقال: مالك؟ قال: أريد أن أدخل قبل أن يدهم الناسُ رب العالمين، أي: يكثروا عليه، سبحان الخالق! فتعلق بأستار الكعبة وقال: يا رب! اغفر لي قبل أن يزدحم عليك الناس.
والله لا تختلط عليه الأصوات، ولا تتغير عليه اللهجات، ولا تتفاوت عليه الحاجات، ولا تتباين لديه النغمات، يعطي كل واحد مسألته مكانه: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته مانقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر} خزائن الجود عنده، مهما سأل الإنسان فالله أوسع وأعلم وأحلم وأكرم تبارك وتعالى.
فذم الله من قال ذلك -ربنا آتنا في الدنيا حسنة.
فهو من طلب الدنيا فقط.
فبعضهم تجده يقول: اللهم أحي لي أبنائي اللهم اجمع لي دراهمي اللهم نجح بناتي اللهم إني أسألك أن تثمر تجارتنا لكن ما تذكر الآخرة، فذم الله ذلك الصنف ومدح من قال: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
وهناك صنف آخر يطلب الله عز وجل في الآخرة ولا يطلبه في الدنيا شيء، حتى إن بعضهم يطلب على نفسه المرض، وفي حديث صحيح: {أن رجلاً من الأنصار رفع يديه وقال: اللهم ما كنت معذبي به في اليوم الآخر فقدمه لي وعجله لي اليوم، فابتلي بالمرض حتى أصبح كالفرخ -أصبح كالفرخ من المرض- فزاره عليه الصلاة والسلام وقال: يا فلان! أقلت شيئاً؟ قال: قلت -يا رسول الله-: اللهم ما كنت معذبي به من عذاب فقدمه لي، قال: سبحان الله! وهل تطيق عذاب الله؟! بل قل: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]}.
ومن أعظم الأدعية: اللهم إني أسألك العفو والعافية، يقول العباس: {يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به، قال: قل: اللهم إني أسألك العفو والعافية -وبعضهم يزيد كما في المسند لـ أحمد - اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة} فهذا الدعاء عظيم جد عظيم، أن تدعو بالعفو والعافية، العافية في جسمك وأهلك، والعفو من الذنوب والخطايا.(251/15)
الأدعية النبوية
أما الأدعية النبوية فكثيرة فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أدعية صحيحة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: {اللهم اهدني وسددني} ففي صحيح مسلم: قال لـ علي بن أبي طالب: {يا علي! قل: اللهم اهدني وسددني، واذكر بهدايتك هدايتك الطريق، وبتسديدك تسديدك السهم}.
فكان علي دائماً يقول: [[اللهم اهدني وسددني]] وهي من أحسن الدعاء وأوصيكم بها صباح مساء.
ومنها -وهذا صحيح-: {اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي} فعلمه صلى الله عليه وسلم حصين بن عبيد والد عمران بن حصين، كما في السنن: {أنه وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام فقال صلى الله عليه وسلم: يا حصين! كم تعبد؟ قال: أعبد سبعة -هذا وهو مشرك- قال: أين السبعة؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: من لرهبك ولرغبك؟ -يعني: من إذا اشتدت بك الأمور وضاقت عليك السبل وأغلقت عليك الأبواب- قال: الذي في السماء، قال: فاترك التي في الأرض واعبد الذي في السماء، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: ألا أعلمك دعاء؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: فقل: اللهم ألهمني رشدي ,وقني شر نفسي} وهذا من أحسن ما يكون!
وفي الصحيحين عن أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، قال: {قلت: يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به في صلاتي -وهذه الأدعية لا بد أن تحفظ وأنا أوصي الإخوة الذين لا يحفظونها من مرة أن يراجعونها من كتيبات أو يستعيدوها من الشريط- قال أبو بكر: علمني -يا رسول الله- دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً -وفي روية كبيراً- ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم}.
خرج عليه الصلاة والسلام على معاذ بعد الصلاة فشبك أصابعه كذا وقال: {يا معاذ! والله إني لأحبك -من هو القائل؟ إنه محمد عليه الصلاة والسلام- يقول لـ معاذ: والله إني لأحبك، وقال معاذ: وأنا -والله- يا رسول الله! إني أحبك، قال: لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك}.
لأن الأدعية الأحسن أن تكون شرعية ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، أما بعض الأدْعِيَاء تجدهم يدعون بأدعية بدعية، حتى ذكر الغزالي يقول من الأدعية: يا دهر الدهارير، وهو يعتبره اسم من أسماء الله؟!
أحد الحمقى ذكر عنه ابن الجوزي يقول: يا رب! يا أحد! يا صمد! يا رحمان! يا رحيم! يا جبرائيل! يا ميكائيل! يا أويس القرني! ذكر هذا في كتاب الحمقى، وهذه أدعية بدعية، ولذلك تجد من أدعية الناس أحياناً ما يخالف السنة؛ لأنهم ما حفظوا شيئاً، والحفظ سهل لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
في صحيح مسلم كان يقول صلى الله عليه وسلم دعاء إذا قام من الليل وهو من أعظم الدعاء: {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون! اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم}.
يقول ابن تيمية: عند الاشتباه في الأمور، والالتباس في بعض القضايا، يكرر العبد هذا الدعاء، فإنه عظيم.
ومن الأدعية وخاصة في السجود: {يا مقلب القلوب والأبصار! ثبت قلبي على دينك} اللهم ثبت قلوبنا على دينك.
ومن الأدعية العظيمة وخاصة في السجود: {يا مصرف القلوب! صرف قلبي على طاعتك} أو كما قال.
ومن الأدعية الصحيحة، قوله صلى الله عليه وسلم: {اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة والنجاة من النار}.(251/16)
سيد الاستغفار
وأما المسألة الخامسة: فهي سيد الاستغفار.
ذكر صاحب طبقات الحنابلة أن عالماً دفن، فرئي في المنام، قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر الله لي مغفرة عامة وخاصة، قالوا: ماذا توصينا فيه؟ قال: أوصيكم بسيد الاستغفار.
فسيد الاستغفار أمره عجيب وإني أوصيكم جميعاً بحفظه، وتذكره صباح مساء وفي أدبار الصلوات وأن تكرره كثيراً.
وهو قوله صلى الله عليه وسلم: {اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} ففيه توحيد، واعتراف، وتسبيح، واستغفار، وفيه لجأ واعتراف بنعمته، وتبرء من الذنب.(251/17)
الأمور التي يستعاذ منها
أما المسألة السادسة: فما هي الأمور التي ينبغي أن نستعيذ منها دائماً صباح مساء؟
استعاذ صلى الله عليه وسلم من أشياء منها: الهم والغم والحزن، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: {اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال}.
وقال صلى الله عليه وسلم: {اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر} فإن الفقر قد يصل إلى درجة أن يتسخط العبد على الله.
وكان صلى الله علية وسلم يستعيذ من غنى مطغٍ وفقر منسٍ، والغنى المطغي: الذي يبلغ بالعبد إلى أن يطغى على عباد الله، والفقر المنسي: الذي ينسيه رحمة الله وعفوه وجلاله.
وكان يقول عليه الصلاة والسلام: {اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة}.
وكان يستعيذ عليه الصلاة والسلام من عذاب القبر والنار وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال في أدبار الصلوات.
وكان إذا خرج من بيته عليه الصلاة والسلام يقول: {اللهم إني أعوذ بك أن أَضِل أو أُضَل، أو أَزِل وأُزَل أو أَظلِم أو أُظلَم، أو أَجهَل أو يُجهَل عليّ} وعند ابن عساكر {أو أبغي أو يبغى علي}.
وهذا مما يحفظ ويقال دائماً، إذا خرجت إلى وظيفتك أو مزرعتك أو السوق وقلت هذا الدعاء تولاك الله، يكون معك ملكان إذا خرجت وقلت: بسم الله توكلت على الله، أخذ الملكان رايتين واحد عن اليمين وواحد عن اليسار، ويقول أحدهما للآخر: من لك بعبد قد كفي ووقي؟! كفاه الله ووقاه، ويتخلى الشيطان ويقول: من لكم بعبد قد كفي ووقي؟ ما يستطاع له.
وكان عليه الصلاة والسلام يقول: {اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يرفع -أو لا يستجاب له-} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فنعوذ بالله من ذلك.(251/18)
نماذج من استجابة الله لأوليائه
المسألة السابعة: فهي نماذج من استجابة الله لأوليائه.
إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل فصارت برداً وسلاماً.
حسبنا الله ونعم الوكيل قالها النبي صلى الله عليه وسلم في أحد {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
إذا سمعت أحداً يتحرش بك، أو يكيد لك أو يتربص بك، أو يدير لك الدوائر فقل: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وإذا سمعت تحزبات أو جلسات أو تخطيطات، ووصلت إليك، فقل: حسبنا الله ونعم والوكيل.
إذا كادك كائد، أو أراد أن يجتاحك ظالم، أو دبَّر لك مدبر أو وقف بك خبيث فقل: حسبنا الله ونعم الوكيل.
فهذا هو الدعاء وهذا مقامه، فسوف تنقلب برشد لا يمسك سوء بإذن الله.
وأما دعاؤه صلى الله عليه وسلم في بدر، فدعا دعاء عظيماً حتى سقطت بردته من على كتفيه، فنصره الله نصراً مؤزراً ما سمع التاريخ بمثله؛ لأنه التجأ إلى الله حتى يقول علي: {نظرت إلى الناس ما منهم إلا نائم، إلا الرسول عليه الصلاة والسلام فرأيته يدعو عند شجرة حتى الصباح}.
حتى يقول أبو بكر: {يا رسول الله! بعض مناشدتك ربك} يقول: يكفي، فألح عليه الصلاة والسلام حتى نصره الله.
ومن الدعاء المستجاب ما دعاه صلى الله عليه وسلم لدوس لما أتى الطفيل بن عمرو وقال: {يا رسول الله! إن دوساً عصت الله فادع عليهم، فرفع يديه صلى الله عليه وسلم فقال الناس: هلكت دوس ويل لدوس، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد دوساً وأت بهم، اللهم اهد دوساً وأت بهم، اللهم اهد دوساً وأت بهم} فهداهم الله، وأتى بهم مسلمين.
ومن الدعاء المستجاب: أتى أبو هريرة إلى رسول صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! أمي دعوتها إلى الإسلام فسبتني وأسمعتني سباً فيك، فادع الله لها، قال: اللهم اهد أم أبي هر، اللهم اهد أم أبي هر، اللهم اهد أم أبي هر فقال: عدت إليها فسمعت خشخشتها وراء الباب فإذا هي تغتسل، قالت: دونك، فخرجت فلبست ثيابها، وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله}.
ومن دعائه الذي استجيب عليه الصلاة والسلام: أن ابناً لـ أبي لهب أتى فآذى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقيل: بصق في وجهه، فقال: {اللهم سلط عليه كلباً من كلابك} فخرج في تجارة إلى الشام فكان كلما أتوا ينامون، أخذ أصحابه فنام وسطهم، فقالوا: مالك؟ فقال: دعا علي محمد أن يسلط علي كلباً وأخاف من ذلك.
قالوا: ما عليك، قال: لا.
ثم حلف باللات والعزى ما دعا دعوة إلا أتت كفلق الصبح، فذهب فلما أصبح قريباً من الشام، نام وسط أصحابه، فلما انتصف الليل جاء أسد -وهو يسمى تجوزاً كلب من كلاب الله وغضنفر وليث- فاخترق النائمين، فاستيقظوا ورأوا الأسد، قال: كان يدنو من الرجل يشمشم وجهه، ثم يتركه -أي: ليس على الوصف فهو مرسول بوصف إلى رجل محدد- قال: فيتركه ويأتي إلى الذي جواره فيزيل عنه الغطاء ويشمشمه فلا يجد تلك الرائحة التي هو مرسول إليها، حتى أتى إلى الوسط فأخذ رأس ابن أبي لهب لقمة واحدة.
وأتاه رجل فسب الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {اللهم اقتله كيف شئت} فمن حقارته على الله -وحقارة هذا الرجل لأنه استهزأ بالرسول صلى الله عليه وسلم وسط الناس، وجزاء المستهزئين أن يحقروا- أنه ذهب يحلب عنزة فالتفتت إليه فرمحته فبجرت بطنه فمات عند رجلها، ما يحتاج أكثر من عنز، وما كلف إلا عنزاً.
النمرود بن كنعان ملك الدنيا، يقول: أريد أن أقتل إله إبراهيم، فابتلاه الله ببعوضة فأكلت من دماغه حتى أصبحت كالعصفور، فكانت إذا فرفرت وجد طعم الموت، فيضربونه حتى يهدأ، فضربه أحد خدمه فطير رأسه فمات.
وقوم سبأ كان سد مأرب في اليمن، فبطروا وأعرضوا وتجبروا على عباد الله، فأرسل عليهم فأرة فهدمت سدهم، ولذلك يقولون عنهم: هدمت سدهم فأرة، وأخبر بهم هدهد، ودل عليهم عقرب أو كما قالوا.
فإذا علم هذا، فهذا من الدعاء الذي تم، وأتى عامر بن الطفيل وأربد بن قيس يريدان اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال الطفيل لـ أربد: سوف أشغل محمداً عنك، فإذا شغلته فاقتله، فأخذ يكلمه ولا يتقدم ذاك، فكلمه وكلمه فلا يضرب، فلما انتهوا قال: مالك؟ لن أرهبك بعد اليوم، قال: كيف؟ ثم أقسم ما أردت أن أضرب إلا رأيتك أنت بيني وبينه أفأقتلك؟!
فعلم عليه الصلاة والسلام أنهم أرادوا قتله فقال: {اللهم اكفنيهم بما شئت} فأما عامر بن الطفيل فأتت فيه غدة كغدة البعير حتى سالت على صدره، فأخذ يحكها فكلما حكها نزلت حتى غطت بطنه، فقال: أموت في بيت امرأة من بني سلول -وقد كان في بيت عجوز في الطريق- أركبوني على الفرس وأخذ يصيح ويقول: غدة كغدة البعير، في بيت امرأة سلولية، فقتله الله.
وأما أربد بن قيس فأخذ جمله وبضاعته وأراد السوق، فلما أصبح بين بيته والسوق أرسل الله عليه صاعقة، فأخذت الرجل والجمل والخرج والبضاعة والخطام.
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
فهذا من الأدعية.
وأما ما استجاب الله للصالحين فكثير وكثير، وأكثر ما استجاب لـ سعد بن أبي وقاص، يقول: {يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، قال: يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة}.
وفي صحيح مسلم: {وذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له!}.
فقد جاء سعداً رجل وافترى عليه، فقال: لا يحكم بالسوية ولا يعدل في الرعية، ولا يخرج في السرية، فدعا عليه، فقال: إن كان كاذباً فأطل عمره وعرضه للفتن، فأطال الله عمره وعرضه للفتن، حتى سقط حاجبا هذا الشيخ على عينيه، وكان يتعرض للبنات في شوارع الكوفة يغازلهن، ويقول: شيخ مفتون، أصابتني دعوة سعد.
وتكلم رجل في 1000112>طلحة والزبير عند سعد بن أبي وقاص فقال: لا تسب إخواني، فقال: والله لأسبنهم، قال: اللهم اكفنيه بما شئت، فانطلق جمل من الكوفة فتأخر الناس عنه، فأتى إلى هذا الرجل ثم ضربه بيده -الجمل ضرب الرجل بيده، والقصة عند الذهبي في السير - فقتله.
وغيره كثير من دعاء سعد رضي الله عنه، وأرضاه.
وأما العلاء بن الحضرمي، فإن الصحابة قحطوا وهو قائد الجيش، فقال: [[يا عليُّ! يا عظيم! يا حكيم! يا عليم! اسقنا]] فأتت سحابة فأمطروا.
ودخلوا في البحر فسأل الله أن يجمد لهم البحر فجمد لهم فمشوا عليه، وما فقدوا إلا مخلاة، فأتى رجل وإذا هي معلقة في البحر، ما أصابها الماء، فأخذها.
ومن كرامة الأولياء واستجابة دعائهم ما حصل لـ أم أيمن رضي الله عنها وأرضاها، فقد خرجت مهاجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وفي أثناء الطريق عطشت وظمئت، وظلت تبحث عن الماء حتى أشرفت على الموت، فدعت الله، فنزل لها دلو من السماء فشربت منه، ثم عاد الدلو فما ظمئت في حياتها كلها، وقد عاشت بعد هذه الشربة ما يقارب أربعين سنة.
والبراء بن مالك قال عنه صلى الله عليه وسلم: {رب ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، منهم: البراء بن مالك} فكان إذا أقسم على الله أبر الله قسمه، حضر تستر مع المسلمين فقالوا: يا براء! نسألك بالله أن تقسم على الله هذا اليوم أن ينصرنا، قال: انتظروني قليلاً، فذهب ولبس أكفانه وأتى بالسيف، وقال: [[اللهم إني أقسم عليك أن تجعلني أول قتيل، وأن تنصر المسلمين هذا اليوم]] فكان أول قتيل وانتصر المسلمون بإذن الله، فهذه درجة من الإحسان، من الناس من لو أقسم على الله لأبره.(251/19)
حكم طلب الدعاء من الصالحين
أما المسألة الثامنة: فطلب الدعاء من الصالحين، هل لك أن تقول لرجل صالح: لا تنسنا -يا أخي- من دعائك؟ نعم.
ولكن بشرطين: -
الشرط الأول: أن يكون حياً حاضراً.
الشرط الثاني: أن يكون صالحاً.
فأما الحي: فيخرج الميت، فلا يجوز أن تذهب إلى مقبرة ولا إلى ميت وتقول: يا فلان! ادع الله لي، فإن فعلت ذلك فإنك إذاً لمن المشركين، فإن فعلت ذلك فقد خسرت حظك من الدنيا والآخرة وليس لك من خلاق يوم القيامة، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].
والثاني: أن يكون حاضراً، فلا تقل لغائب، كأن يكون في الرياض أو جدة فتقول: يا فلان! ادع الله لي، فهذا لا يجوز.
والأمر الثاني: أن يكون الرجل هذا صالحاًَ، فلا تأتي إلى فاجر أو إلى كافر، أو إلى شيوعي ملحد، فتقول: لا تنسنا -يا أخي- من دعائك، وأي دعاء له عند الله؟! {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:40].
فالكافر لا حظ له عند الله، ولا دعوة ولا قبول، ولا فتح، ولا رضا ولا عفو، وإنما غضب ولعنة ومحق وسخط والعياذ بالله، فلا بأس أن تقول للرجل الصالح: لا تنسنا -يا أُخي- من دعائك، فقد روى الترمذي عن عمر قال: {قلت: يا رسول الله! أريد عمرة - أي يستأذنه- قال: لا تنسنا -يا أخي- من دعائك}.
وابن تيمية يقول: وعلى طالب الدعاء الذي يطلب من أخيه؛ أن يريد نفع الداعي كذلك، فعليك إرادة منفعته، لأنه إذا دعا لك فإن الله يكتب له بقدر ما دعا لك، ويقول له الملك من السماء: ولك بمثل ذلك، ولك بمثل ذلك، ولك بمثل ذلك.
بل قال بعض العلماء: إن دعوة المسلم لأخيه أرجى من دعوته لنفسه، فإنها علامة الصدق والإخلاص، فإذا دعا لأخيه المسلم، قال الملك: ولك بمثل ذلك، وبالمناسبة إني أسأل الله لي ولكم المغفرة نقول: لا تنسونا من دعائكم ونحن -إن شاء الله- لا ننساكم، عسى الله أن يتغمدنا بفضله ورحمته ورضوانه.
السؤال
يقول أحد الإخوة -أنا ما أجبته إلا لضرورة ملحة وإلا فإنه سؤال أشبه بالشخصي- يقول: أنا متزوج والحمد لله، وزوجتي والحمد لله طائعة، ولكن أبوها يجبرها على أن تكشف على أولاد عمها، وأنا غير موافق ولكن إذا أوصلتها على أساس الزيارة أجبروها على ذلك، وهي الآن محتارة بين أن تطيع أباها أو أن تطيع زوجها، حتى إنها كرهت الحياة وتدعو الله بأن يقضي عليها بالموت، علماً بأننا ساكنون في قرية كثيرة الاختلاط -اختلاط الرجال والنساء- خاصة في المناسبات والأعياد وغير ذلك؟
الجواب
أولاً: ما فعلته الزوجة من أنها امتنعت عن الكشف على أبناء عمومتها فقد أصابت في ذلك، فلا يجوز لها أن تكشف عليهم لأنهم أجانب، ولا على أخي زوجها لأنه حمو، والحمو كما قال عليه الصلاة والسلام: الموت، ولا يجوز لها أن تجلس مع من لم يحل لها الجلوس معه، ولو كانوا أقارب، كأبناء الأخوال.
ولو أمرها أبوها أن تجلس معهم وتكشف عليهم فقد عصى الله ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وعليها أن تطيع الله ولا تطيع أباها في هذه المعصية، بل وتطيع زوجها لأن زوجها أمرها بالمعروف وأبوها أمرها بالمنكر، والذي ندعو الله أن يصلح هذا الأب، وأن يلهمه رشده، وأن يعطيه سُبحَانَهُ وَتَعَالى علماً وفهماً لكتابه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] وقوله عليه الصلاة والسلام: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} رواه أحمد بسند جيد.
وقال عليه الصلاة والسلام: {لا تخلون امرأة برجل -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- إلا مع ذي محرم} فإذا علم هذا، فهذا هو الأمر والجواب، وقد أصابت وعليها أن تتقي الله وتطيع زوجها، وقد أحسنت صنعاً، وأما غضب أبيها فعليها أن تسترضيه بغير أن تطيعه في هذا الأمر، لكن تطيعه في طاعة الله، أما أن تطيعه في الكشف فلا طاعة له، ولو غضب فإن رضا الله مقدم على رضاه، وغضب الله أكبر من غضب أبيها، والله المستعان.(251/20)
التعدي في الدعاء
المسألة التاسعة: التعدي في الدعاء: كأن يدعو بمستحيل أو بما ليس له، أو يتنطع في الدعاء، فهذا محرم، كأن يأتي ويقول: اللهم اجعلني خاتم الأنبياء، أو خيراً من أبي بكر أو خيراً من عمر، أو عثمان، أو علي، فهذا لا يجوز وهو محرم.
والدعاء بما ليس له، والدعاء بالمستحيل كأن يدعو أنه حي ميت، أو موجود معدوم، أو متحرك ساكن، فإنه لا يجتمع نقيضان أو ضدان، أو يتنطع في الدعاء، كما فعل ابن مغفل قال: اللهم إني أسألك القصر الأبيض على يمين الجنة، قال: يا بني! إني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ليأتين أقوام يعتدون في الدعاء والطهور} أو كما قال.
وكرهه أهل العلم.
وكذلك السجع، أن يسجع الإنسان في الدعاء كثيراً، ولو أنه أتى في الحديث سجع، لكن بلا تكلف، لكن يسجع فيقول: اللهم إني أسألك سعتة في الدور، وبسطة في القصور، وقوة في الظهور ورفعاً في الدور، إلى غير ذلك، يجمع بالراء محاضرة ويأتي بالدال ويتكلف وبالعين وبالحاء، فهذا خطأ، يدعو بما تيسر.(251/21)
الاستعجال واستبطاء الدعاء
المسألة العاشرة: الملل والسأم واستبطاء ما عند الله تبارك وتعالى، يقول عليه السلام كما صح عنه: {يستجاب لأحدكم ما لم يستعجل، يقول: قد دعوت قد دعوت فلم يستجب لي} فالله الله في عدم الاستعجال، فليواصل العبد الدعاء ولا يستعجل، فإن كل شيء عنده بأجل مسمى، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى له أوقات يجيب فيها بقضاء وقدر فلا تستعجل، فإن إجابة الدعاء قد تكون في الآخرة أصلح لك من الدنيا، أو يمكن أن الله صرف عنك من الشر ومن الحرمان أضعاف ما أعطاك، أو ما يعطيك في هذا الدعاء، أو أن الله ادخر لك من المثوبة، أو سوف يلبي لك لكن بعد عشر سنوات أو عشرين سنة فلا تستعجل ولكن واصل ولا تيأس فإنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون.(251/22)
الأوقات الفاضلة للاستجابة
أما المسألة الحادية عشرة: فهي الأوقات الفاضلة للاستجابة، منها: أدبار الصلوات، إذا انتهيت من فريضة فهو وقت للدعاء، فادع الله بما تيسر، خاصة آخر التحيات قبل السلام، أمَّا بَعْد السلام، أن ترفع يديك مباشرة فلم تأت به سنة، ولم يفعله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه، فتدعو قبل السلام، وأدبار الصلوات.
ومنها: بين الأذانين، بين الأذان والإقامة كما عند النسائي دعوة مستجابة، إذا أذن المؤذن فالوقت الذي بين الأذان والإقامة أكثر فيه من الدعاء، واسأل الله أن يلبي لك ويعطيك ما تمنيت.
ومنها: السجود، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {أقرب ما يكون العبد لله وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم} أي: حري وقريب وجدير أن يستجاب لكم، الله الله في كثرة الدعاء، إذا سجد العبد بعد أن يقول: سبحان ربي الأعلى ما شاء الله، أي: ما قدر الله له أن يقول.
ومنها: الثلث الأخير من الليل: ففي الصحيحين: {ينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟}.
ومنها: عصر الجمعة، ففي يوم الجمعة ساعة لا يدعى الله فيها بخير أو بدفع من شر بغير قطيعة رحم، أو إثم إلا استجاب الله لصاحب الدعوة من المسلمين، وهي آخر ساعة من يوم الجمعة بعد العصر، ومنها: يوم عرفة، يوم يتجلى الله للناس بعرفة وبغير عرفة، لكن بعرفة آكد.(251/23)
الدعاء والقضاء
أما المسألة الثانية عشرة: وهي آخر مسألة: فالدعاء والقضاء، يقول العبد: كيف أدعو والله قد كتب علي هذا الأمر؟
فنقول: الدعاء لا يتعارض مع القضاء، فأنت تدعو لأنه قد كتب الله لك أنه يصرف عنك هذا الشيء بسبب أنك تدعو، أو كتب الله عليك هذا الشيء وكتب لك أنك تدعو فيزيله الله عنك، مثل ماذا؟ مثل أنه قدر على ابنك الرسوب، وقدر أنك تدعو فينجحه، فتأتي فتقول: كيف أدعو لابني أن ينجح والله قد كتب عليه الرسوب فلا ينفع؟ نقول: ادع الله، لأن الله كتب أن تدعو ويقول عليه الصلاة والسلام: {إن الدعاء والقضاء يعتلجان بين السماء والأرض} أي: يتناطح الدعاء والقضاء، فالدعاء يريد صرف القضاء والقضاء يريد النزول على الدعاء، فيمضي الله عز وجل الدعاء أو بما كتب سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
فعليك بالدعاء وعليك دائماً بعدم اليأس من روح الله، وأكثر من الدعاء فإنه لا يعارض القضاء، بل يصرفه بقضاء وقدر آخر من الله، أو يلطفه ويخففه أو يكون أجراً ومثوبة إذا لم يحصل لك هذا الشيء، فإنك لن تدعو إلا بخير، إما يحصل لك غيره، وإما أن يدخر لك الله من الخير، وإما يصرف عنك من الشر.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربما تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
والسلام عليكم روحمة الله وبركاته.(251/24)
صراع المؤمنين مع الملحدين
إن الصراع بين الحق والباطل، وبين أولياء الرحمن وأعداء الإسلام قائم من عهد أبينا آدم عليه السلام إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم وإلى عهدنا هذا، وهذه هي سنة الله تعالى الكونية، التي قضاها بين عباده في هذه الحياة، كما أن لذلك الصراع مصالح وفوائد تعود على هذا الدين وعلى أولياء الرحمن.
والصراع القائم بين الحداثيين وبين شعراء الإسلام هو من الصراع بين الحق والباطل.(252/1)
سنة الصراع بين الحق والباطل
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ورفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي صاحب الغرة والتحجيل، المعلم الجليل، المؤيد بجبريل، المذكور في التوراة والإنجيل صلى الله عليه ما تضوع مسك وفاح، وما ترنم حمام وصاح، وما هدل ورْقٌ وناح وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، سلام الله عليكم يا أبناء التوحيد، ويا حملة التوحيد، ويا أبناء المجدد الموحد الكبير محمد بن عبد الوهاب، سلاماً لا ينقطع إلا بدمع العين.
سلام الله أرفعه إليكم وتهديه الغدو إلى الرواح
يسجله بدمع العين قلبي وأكتبه على متن الرياح
لأجساد بها نهم المعاني وأرواح من التقوى صحاح
إنه معترك عظيم، وصراع هائل، بين لا إله إلا الله وبين لا إله والحياة مادة، معركة عظيمة شعواء بين الإيمان والكفر بين التوحيد والشرك خاضها نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين وسلم تسليماً كثيراً، {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ * أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور:29 - 43].
{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} [الرحمن:1 - 8].
{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28].
إن حاجتنا وجوعنا وضمأنا الإيمان كبيرة، وما كثرت معاصينا ومخالفاتنا وفجورنا وبعدنا عن الله إلا يوم ضعف الإيمان، وابتعدنا عن الإيمان إلا ما شاء الله.
محاضرتي هذه الليلة: "صراع بين الموحدين وبين الملحدين.
أما عناصرها فأربعة:
العنصر الأول: الرسل عليهم الصلاة والسلام في صراع عالمي مع الملاحدة: إبراهيم عليه السلام في حوار ساخن مع أحد الملحدين موسى عليه السلام في مناظرة مع كبير الزنادقة محمد صلى الله عليه وسلم واعتراض ملحد في مسألة البعث.
العنصر الثاني: العلماء يغرسون شجرة الإيمان في القلوب: أبو حنيفة يضرب مثلاً لقدرة الباري تبارك وتعالى الإمام مالك يجيب على سؤال عقدي على هارون الرشيد الشافعي يتفنن في استدلاله للقدرة الإمام أحمد يقرر مسألة أهل السنة في إثبات قدرة الباري أعرابي في الصحراء على الفطرة يصلي وحده الفيلسوف الكندي يعارض القرآن، ابن الراوندي يتزندق مستهتراً.
العنصر الثالث: الأدب الإسلامي الموحد المؤمن يتصدى للأدب الكافر الملحد: أبو نواس موحد في شعره أديب السودان يعلن في قصيدته الإيمان منظومة في التوحيد على نهج: (يا ظبية أشبه شيء بالمها): أبو العلاء المعري يعلن تمرده على الشريعة بشارة الخوري يكفر بالدين إيليا أبو ماضي وطلاسمه اللعينة القبيحة ابن هاني يقول على الله الكذب حداثي متستر يستهزئ بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم.
العنصر الرابع: الصراع الحربي القتالي بين التوحيد والإلحاد: بدر وأحد القادسية واليرموك أفغانستان وفلسطين.(252/2)
الرسل عليهم السلام في صراع عالمي مع الملاحدة
يقول نوح عليه السلام وهو يثبت قدرة الباري تبارك وتعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:10 - 13] أين عقولكم وقلوبكم؟ يا أيها الذين تخلفوا عن ركب لا إله إلا الله! يا أهل التراب! يا أهل الوثنية! يا أهل الإلحاد! يا أهل العلمانية! لماذا تخلفكم عن لا إله إلا الله وقد خلقكم الله أطواراً؟(252/3)
إبراهيم في حوار ساخن مع ملحد
وإبراهيم عليه السلام يدخل على زنديق فيصارعه مصارعة الإيمان مع الإلحاد، ونحن -والله- في حاجة إلى أن نبث أفكار الإيمان، وأن نغرسها أكثر من حاجتنا إلى هذا الترقيع الدعوي من مطاردة جزئيات المعاصي في الناس، وما أتت المعاصي إلا يوم ضعف الإيمان تبرج وسفور، وتناقض على الشريعة، وتخلف عن الصلاة، واستماع الغناء، واقتناء المجلة الخليعة، وصحبة الفسدة، والإعراض عن القرآن، ومحبة الكفار، والتهور في الزنا والربا كل هذا لما ماتت شجرة الإيمان، فأين داعية الإيمان؟ وأين العالم الذي يحمل الإيمان؟
أنت كنز الدر والياقوت في لجة الدنيا وإن لم يعرفوك
محفل الدنيا محتاج إلى صوتك العالي وإن لم يسمعوك
فالعالم يحتاج لك، لابد أن تبدأ كما بدأ الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
إبراهيم عليه السلام يدخل على زنديق في قصره، وهذا فيه دليل على أن الداعية عليه أن يتحرك ليدخل على أهل الباطل في أوكارهم، ولا يبقى بمسبحته في محرابه، فلن يأتيه أهل الباطل أبداً فيدخل إبراهيم عليه السلام، فهل يبدأ للزنديق عن تربية اللحية، أو تقصير الثوب، أو سنة الضحى، أو السواك؟ لا الأمر أكبر من ذلك، الأمر إيمان وكفر، الأمر لا إله إلا الله أو لا إله والحياة مادة.
اسمع إلى القرآن وهو يصور جزءاً من المعركة، مناظرة ساخنة حارة تفجر الجدران، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258] يا ملحد! إن لي رباً له صفات لا توجد فيك يا ملحد! أنا لي إله قادر لا تملك من صفاته شيئاً، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] يا للسخف! يا للتخلف! يا للفكر العفن! يا للعنة إذا طوقت فكر صاحبها! أنت تحيي وتميت؟! جدلاً سلمنا لك: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَر} [البقرة:258] وانتصرت لا إله إلا الله، وبهت الذي كفر، ودوت لا إله إلا الله، وانهزم الذي كفر، وارتفعت لا إله إلا الله.
يا غارة الله جدي السير مسرعة في سحق أعدائنا يا غارة الله
{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].(252/4)
موسى في مناظرة مع كبير الزنادقة
يدخل موسى عليه السلام على الرعديد الملحد المنتن فرعون، وهو يدعي الألوهية، ويقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] قال ابن عباس كما روى ذلك ابن عساكر في قوله تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات:25] قال: [[نكال الكلمة الأولى والكلمة الثانية فدهدهه في البحر]] يقول فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] فكما أجراها الله من تحتك يجريها من فوق رأسك وقد فعل.
لقد ذهب الحمار بأُم عمْروٍ فلا رجعت ولا رجع الحمار
موسى عليه السلام يدخل عليه، فماذا سوف يكلمه؟ لن ينازله حتى يقول لا إله إلا الله، فالمسألة مسألة إيمان وكفر مسألة عقيدة تنزل في الساحة، أو كفر ينزل ويخيم في الساحة إذا لم ينزل الإيمان: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] اسمع إلى الطائش بدأ بالسؤال، والواجب أن يبدأ موسى عليه السلام، لكنه سفيه: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] لو قال موسى: الله، لقال فرعون: إنه هو الله.
ولو قال موسى: ربي الذي فوق سبع سماوات لقال: وأنا فوق كرسي.
ولو قال: الذي له مصر وغير مصر لقال: وأنا لي ملك الدنيا.
فأتى بأعجوبتين في مسألتين مختصرتين دهده بها الكافر على وجهه، {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] لا إله إلا الله! أعطى النحلة خلقها وهي حشرة وحيوان لا تفقه، فهداها إلى خليتها أعطى الذباب خلقه فلا يغلبه غلاب من بني آدم {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] ولم يسكت عن (هدى) لأنه هدى كل مخلوق لخلقه، فالطفل يأتي أبكم أصم أعمى فيهديه الله إلى الطعام، والنملة تعلم أنه سوف يأتي فصل الشتاء فتدخر قوتها لهذا الفصل في الصيف.(252/5)
أديب السودان يعلن في قصيدته الإيمان
وهذه قصيدة السوداني المؤمن إبراهيم بديوي الذي أعلن فيها الإيمان أعلن فيها لا إله إلا الله، ليس من شعر السخف والمجون والضياع، ولا شعر قلة الحياء والمروءة والشهامة، لكنه يعلن لا إله إلا الله بالشعر، يقول:
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
والنحل قل للنحل يا طير البوادي من الذي بالشهد قد حلاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
إنه الله العلي القدير.
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاك
فالحمد لله الكريم لذاته حمداً وليس لواحدٍ إلَّاك
لكن من يقرأ آيات التوحيد؟ من يتدبر ويتأمل؟ قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] يا أمة الصحراء! يا أمة الجمال! اقرءوا التوحيد في الإبل، واقرءوا محاضرة العقيدة في الجمال، لتروا خلق الذي خلق الجمال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:17 - 18] من رفعها وسواها وجملها؟ من جعل النجمة توصوص وحدها كأنها مهجورة؟ من جعل مجموعة النجوم كأنهن يتحدثن في مهرجان الحياة؟ من رفع البدر شامخاً يبدي بنظراته على المخلوقين؟ من أتى بالشمس فطوق بها الأحياء وجعل الأحياء تتنفس على ضوئها؟ سبحان الله! لكن من يتدبر ومن يقرأ؟
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد(252/6)
محمد صلى الله عليه وسلم واعتراض ملحد
ويأتي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فيخوض المعترك الثالث معترك (لا إله إلا الله) مع (لا إله والحياة مادة) فيجلس في مجلسه يلقي رسالة التوحيد بعمق ويؤسسها في القلوب بأصالة، ويغرسها في الأرواح بحب، يدخل عليه العاص بن وائل الوثني، ويأخذ عظماً ويحته ثم ينفخه ويقول: يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذا بعد أن أماته؟! قال: نعم ويدخلك النار.
يحييه ولا يكفي هذا بل تدخل أنت النار، ويقول الله للملحد الزنديق: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} [يس:78] عجيب!! أتى يضرب الأمثال اليوم وقد كان أعمى أصم في عالم العدم، قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:1 - 3] عجيب!! لقد أصبحت الآن تضرب الأمثال!!
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] الجواب سهل، فالذي بدأ الطريق هو الذي ختمها، والذي أتى بالمقدمة هو الذي أتى بالخاتمة {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:79 - 80] وهذا درس للدعاة؛ أن يضربوا الأمثال العقلية في دعوتهم، وأن يقربوا المنقول بالمعقول؛ عل الناس أن يفهموا هذه الأمثال.(252/7)
العلماء يغرسون شجرة الإيمان في القلوب
تعالوا إلى أئمتنا، أئمة أهل السنة والجماعة، ونعوذ بالله أن يوجد في أهل السنة والجماعة دعاة مرتزقة، بل دعاة أهل السنة والجماعة يتميزون بالأصالة، وبأنهم ربانيون، يريدون الخير للمسلمين، ويقدمون علم الكتاب والسنة للناس، وبأنهم يعلنون ولاءهم لله، وبراءتهم من أعداء الله هذه ميزة علماء أهل السنة والجماعة.(252/8)
أبو حنيفة يضرب مثلاً لقدرة الباري
يمر أبو حنيفة على صف من الملحدين فيقول له الزنادقة: يا أبا حنيفة، دلل لنا على وجود الباري.
سبحان الله! أفي الله شك؟! سل الزهرة من خلقها؟ وسل النحلة من أرسلها؟ وسل شعاع الشمس من بثه؟ وسل النسيم من أجراه؟ سل الحب من أسكنه القلوب؟ سل نور العين من ركبها في المقل؟ سل الإشارة ما لها تشير؟ سل الليل ما له يظلم؟ سل النهار ماله يتجلى؟ قال تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:1 - 7] إنه الله جل في علاه.
فقالوا له: يا أبا حنيفة! دلل لنا على وجود الباري.
وأبو حنيفة داعية الإيمان قبل أن يخبر بميراث الجدة والعمة والخالة لقد أتى بالإيمان وأسس دعوته على الإيمان قبل أن يأتي بالسنن والفرعيات التي لا تغفل ولكن تعطى حجمها.
قال لهم الإمام: أرأيتم سفينةً عبرت عباب دجلة، ونزلت بالشاطئ بحمولتها، ليس لها قائد ولا سائق ولا ربان؟ قالوا: ليس هذا بصحيح.
قال: لماذا؟ قالوا: العقول تنكر هذا.
قال: سبحان الله! سماء ذات أبراج، وليل داج، وأرض ذات فجاج، وبحر يزخر، ونجوم تزهر، ألا تدل على السميع البصير؟ قالوا: بلى.
هذا هو الاستدلال، وهو عالم الإيمان، والصراع الدائم والخالد والباقي بين الإيمان والكفر، يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] ويقول تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] إنه صراع بين (لا إله إلا الله) وبين (لا إله والحياة مادة).(252/9)
الإمام مالك يجيب على سؤال عقدي
وذكر ابن كثير في التفسير في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]: أن هارون الرشيد الخليفة العباسي، مخاطب الغمامة، الذي ناجى السحابة وتحداها لتنزل ماءها في غير أرضه، ولكنها أبت، وما استطاعت أن تتجاوز مملكته يقول لـ مالك: دلل على قدرة الباري تبارك وتعالى.
قال أبو عبد الله -شيخ المحدثين وأمير المؤمنين في الحديث- سبحان الله! -أي: أمثلك يسأل مثل هذا السؤال- سبحان الله! اختلاف اللغات وتعدد اللهجات، واختلاف النغمات كلها تدل على السميع البصير.
أصوات مختلفة، لا الصوت هذا يشبه هذا، ونغمات متباينة، ولهجات متعددة، ألا تدل على أن هناك صانعاً حكيماً؟ بلى.(252/10)
الشافعي وأحمد يدللان على قدرة الباري
يأتي الشافعي ويفتح باب الحوار مع الملحدين والزنادقة، وهو داعية الإسلام عنده رصيد من الأدلة، ويبرز في الميدان وهو المنتصر بإذن الله، ولا يختبئ ولا يخاف على نفسه فالله معه.
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس
قيل للشافعي: دلل لنا على القدرة.
فقال: ورقة الشجرة تأكلها الدودة فتخرج إبريسماً حريراً، والغزال فتخرج مسكاً، والنحل فتخرج عسلاً ألا يدل ذلك على السميع البصير؟ بلى والله، يدل على السميع البصير.
فيا سبحان الله! كيف أقفلت العقول؟! لقد أصبح من أعظم أمراض المجتمع اليوم مرض الإلحاد ومرض الشك مرض ركب الحداثة وأمثالها وأذنابها وعملائها ليبث سمومه في الساحة، في جزيرة العرب.
ويأتي الإمام أحمد ودليله رابع الأربعة، وهو في بيته، يلتفت إلى بيضة الدجاجة -وقد سألوه عن دليل القدرة- فقال: هذه البيضة، أما سطحها ففضة بيضاء، وأما باطنها فذهب إبريز، تفقس فيخرج منه حيوان سميعٌ بصير ألا يدل على السميع البصير؟ بلى والله لكن من يتأمل؟ ومن يتفكر؟ ومن يتدبر؟ فما لهم لا يؤمنون! ما لهم لا يؤمنون والسماء تشهد أن لا إله إلا الله؟! ما لهم لا يؤمنون والأرض تشهد أن لا إله إلا الله؟! مالهم لا يسمعون ويستجيبون وينطقون لا إله إلا الله؟!(252/11)
أعرابيان يدللان على قدرة الباري
لا تظنوا أن هذا الفكر الإيماني لا يحمله إلا العلماء، بل من بدونا وأعرابنا من يحمل عقيدة التوحيد وهو في الصحراء لا يعرف إلا شاته وتيسه وجمله، ولكن شاته وتيسه وجمله يدلانه على السميع البصير؟! بلى.
دخل علي بن الجهم على المتوكل وعلي بن الجهم عاش فترة البداوة، فكل المعالم التي معه في البادية تيس وكلب، ويظن أن أحداث العالم تتوقف على التيس والكلب، فأتى يمدح الخليفة يوم عيد الفطر، فقال:
أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب
فتح الله عليك، ما هذا اللموع؟ وما هذا الإشراق؟
فقام الوزراء ليطرحوه أرضاً ويضربوه ضرباً مبرحاً لا يحفظ بعده آية، لكن الخليفة كان ذكياً فقال: دعوه، هو عاش في بيئة لا يعرف فيها إلا الكلب والتيس، أنزلوه عند الرصافة والجمال والحياة فأنزلوه عند الماء وعند الزهر والورد وأنزلوه إلى الحدائق الغناء والبساتين الفيحاء فنزل وبعد سنة أتى وبدأ قصيدته كأنها إطلالة فجر، يقول:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
والنحلة أو البستان أو الحديقة هنا تدل كلها على الله، كما يدل التيس والجمل والشاة على الله.
مروا بأعرابي يصلي، ففال له أحد الملحدين: لمن تصلي؟ قال: لله، قال: هل رأيته؟ قال: سبحان الله! البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على السميع البصير.
ولا تظنوا كذلك أن من حمل العلم سوف يكون مؤمناً، لا فإن من الناس من يحمل علماً ومتوناً ونصوصاً ولكنه فاجر من الفجرة، منتظم في سند فرعون وفي متن إبليس، ولذلك إذا ذكر الله العلم جعله في معرض الإيمان قال: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ} [الروم:56] لأن العلم بلا إيمان يساوي أتاتورك الملعون، فهو الذي أتى بـ العلمانية وفصل الحياة عن الإيمان.
والفيلسوف الكندي عالم ولكنه ملحد ذكي ولكنه ليس بزكي ظريف العبارة ولكنه ليس بشريف الأصالة والإشارة، أتى يعارض القرآن كفى بك خيبة يا عدو الله، وكفى بك لعنة وخسارة أن تعارض كتاب الله دخل بيته -كما ذكر المترجمون عنه- فأغلق الباب وفتح المصحف وقال لتلاميذه: انتظروني ساعة، سوف آتي بسورة أعظم من سور القرآن فدخل البيت وفتح المصحف فوقع نظره على قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] فانبهت، {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] فقال: عجيب!! نادى وأمر وبين واستثنى وفصل وختم في آية! فلما أراد أن يرفع يده وجد نصف جسمه قد شل، وأصبح يابساً جافاً، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16].
وهذا ابن الراوندي يتزندق مستهتراً، وهو عميل آخر عنده علم وفلسفة، وكم حسب على الإسلام من فيلسوف، يقولون: فيلسوف الإسلام! والإسلام لا يعترف بالفلسفة، الإسلام لم يأت بالفلسفة، فهذه كلمة لا صحة لها، ونحن في غنى عن ابن سيناء والفارابي، وعن أضرابهم وأمثالهم.
الإسلام يعترف بقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، بالقرآن والسنة، بقال الله وحدثنا، أما فيلسوف الإسلام فلا
ابن الراوندي هذا ترجم له الذهبي فقال: الكلب المعثر، الذي ألف كتاب الدامغ على القرآن ليدمغ القرآن فدمغه الله، أخذه الله نكال الآخرة والأولى، وذهب، ولكنه ما ذهب عذابه من الله، هذا عذابه في الدنيا، وبعض الناس إذا ترجم لهؤلاء ينسى إلحادهم، وشكهم وريبتهم، كما يفعل بعض الكتاب والصحفيين، يأتي بزنديق ملحد عميل للصهيونية والشيوعية، ويمجده حتى يصبح بارزاً بين الناس، وهذا فحش وعار وشنار.
ابن خلكان ترجم لـ ابن الراوندي هذا فسكت وقلس عليه، قال ابن كثير: قلس وملس عليه كأن الكلب ما أكل له عجيناً.
لكن لما أتى الذهبي أوقف ابن الراوندي ولعنه وأوقفه عند حده.
ونحن اليوم بحاجة إلى دعاة يغرسون الإيمان في القلوب، فقبل تصحيح المعاصي لابد من غرس شجرة الإيمان لتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون.(252/12)
الأدب الإسلامي الموحد يتصدى للأدب الكافر
أما العنصر الثالث: فهو الأدب الإسلامي الموحد يتصدى للأدب الكافر الملحد.
تعالوا بنا إلى أدباء موحدين في الجنة، وأدباء ملحدين في النار، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].
من العلماء والمفكرين والشعراء، والقصاص، والخطباء، والوعاظ، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] ألا تريد أن تنقذ نفسك لتكون من أصحاب الجنة؟! إن هذا هو سر وجودك يوم أوجدك الله في الحياة، هذا هو الأدب الموحد، فلنعرض لبعض الأمثلة والنماذج.(252/13)
أبو نواس موحد في شعره
بإمكان المسلم أن يدخل الجنة ببيت شعر يصدق فيه مع الله ويكون عاملاً بهذا البيت حسان بن ثابت قائد الشعراء إلى الجنة، وامرؤ القيس قائد الشعراء إلى النار؛ لأن ذاك آمن في شعره وهذا كفر في شعره، يقول ابن كثير وهو يستدل على قدرة الباري تبارك وتعالى: ولـ أبي نواس أبيات ما أحسنها في الإيمان أبو نواس يأتي إلى الزهرة -ونحن لا نطلب من الأدباء والشعراء والقصاص أن يكونوا وعاظاً، وإنما نطلب منهم أن يكونوا مؤمنين- فيصفها لكن يذكر من بدأ الزهرة وأبدعها ويصفون الليل ولكن يأتون بمن ألبس الليل جلباب السواد ويصفون الصباح ولكن يتحدثون عمن أعطى الصباح رحيقه ومسكه وجماله فـ أبو نواس يقول:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
هذا هو عرض العقيدة في الشعر.
ذكر بعض العلماء في ترجمته أنه رؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة بقصيدتي في النرجس.
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على كثب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
أديب السودان يعلن بقصيدته الإيمان -وقد مر معنا- يوم يقول:
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
وبعض الناس يعيش بلا رسالة، يصف الغزال والحمار والثور والليل والبهائم والعجماوات لكن ما عنده رسالة الشيوعي يحمل رسالة في قصائده، والحداثي يحمل رسالة حداثية ملحدة في شعره لكن تجد بعض الناس لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، واقف في الوسط، ما دخل في الليل ولا دخل في النهار.
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستشهدون وهم شهود
شاعر ما له رسالة ولا له هدف ومثل من يقول:
يا ظبية أشبه شيء بالمها ترعى الخزامى بين أشجار النقى
وفيها حكمة، لكن الواجب أن يحول شعره ويسكب فيه الإيمان.
ويأتي شاعر بعده بقرن أو أكثر، فيأتي على البحر بقصيدة في الإيمان ويقول:
لطائف الله وإن طال المدى كلمحة الطرف إذا الطرف رنا
كم فرح بعد إياس قد أتى وكم سرور قد أتى بعد الأسى
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
إلى آخر القصيدة التي يذكر في الأسماء والصفات فهذه يدخل بها إن شاء الله الجنة.(252/14)
أبو العلاء المعري يعلن تمرده على الشريعة
ولا يظن الإنسان أن مركب الحداثة والزندقة الحديثة في المتأخرين فحسب، بل وجدت في المتقدمين، فهذا أبو العلاء المعري يعلن تمرده على الشريعة، وكان أعمى القلب وأعمى البصر، حشفاً وسوء كيلة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] كان ذكياً ولكن لم يكن زكياً، قلبه يتوقد ذكاء لكنه مظلم، أتى فقال: كم يقول فقهاء الشريعة في دية اليد؟ قالوا: خمسمائة من الذهب.
قال: في كم تقطع إذا سرقت؟ قالوا: في ربع دينار.
فتفنن -متحذلقاً متزندقاً ملحداً- وقال: معترضاً على الله حين قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38].
يدٌ بخمس مئين عسجد وديتْ ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستعيذ بمولانا من النار
بعد ماذا تسكت يا عدو الله؟! بعد ماذا تسكت يا أيها الكلب المعثر؟! تكلمت في البيت الأول وتسكت في الثاني! خير منه الكلام بالتوبة، ثم يقول: ونستعيذ بمولانا من النار.
لا والله، بل دهدهت قلبك ووجهك إلى النار، وفتحت على نفسك طريقاً إلى النار، وجعلت لله سلطاناً عليك.
لكن رد عليه شعراء أهل السنة والجماعة فليس أهل السنة والجماعة فقهاء فحسب، بل منهم شعراء، ومنهم مذيعون، ومنهم خطباء، وصحفيون، ومتكلمون، ومحاضرون.
فيقول عبد الوهاب المالكي بيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه:
قل للمعري عار أيما عار جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عاري
لا تقدحن بنود الشرع عن شبهٍ شرائع الدين لم تقدح بأشعار
فنّكل الله المعري! وذكر كثير من أهل التاريخ أنه لما توفي وأجلس في قبره فإذا بحية تدهدهت عليه فأخذت بلسانه وبفرجه.
! هذه أول العلامات.(252/15)
بشارة الخوري يكفر بالدين، وإيليا أبو ماضي وطلاسمه اللعينة
أما شعراء وأدباء هذا العصر الذين بثوا سمومهم ووجدوا سوقاً، ووجدوا مقالاً فقالوا، ووجدوا جماهير صفقوا لهم فزادوا، فالله حسيبهم.
بشارة الخوري ينزل في دمشق، فيحمل على الأكتاف من المطار إلى الحديقة، فيقول وهو على أكتاف الناس:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
برهم الهندوكي المجرم الملعون، ثم يقول:
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
ورد عليه شعراء أهل السنة -والحمد لله- فهناك ردود ولكن من ينشرها؟ ومن يقوم بها؟
ويقول إيليا أبو ماضي:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8].
{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:8 - 11] {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] مالك يا أيها الإنسان كفرت بالله؟ مالك يا أيها الإنسان لا تسمع لا إله إلا الله؟ يقول:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
لقد أتيت من نطفة من العدم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:1].
يقول: لقد أتى صدفة وكذب عدو الله، بل ميلاده بقضاء وقدر، وحياته بقضاء وقدر، وأكله وشربه بقضاء وقدر، وسعادته وشقاوته بقضاء وقدر، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:49 - 50] نعم لقد نزل من بطن أمه يبكي.
ولدتك أمك يا بن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
قال:
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!!
طريق استالين وماركس ولينين، ولكنك تركت طريق محمد صلى الله عليه وسلم طريق ليس فيها محمد صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهي طريق ملعونة ومغضوب على أصحابها طريق مظلمة
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!!
والنهاية النار.
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت!!
ولماذا؟ لست أدري لست أدري!!
لكن ستدري إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
أين هذا من إيمان أحد الأعراب يوم أسلم عند الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إني خارج إلى الغزوة، وإني أرى أن أقتل هذا اليوم -إن شاء الله- فأين ألقاك يوم القيامة؟
يا للإيمان! يا لليقين! يا للوضوح والثبات! هو يسأل فقط عن الموعد، وعن مكان ومعلم بارز في القيامة، فيتبسم عليه الصلاة والسلام ويقول: {لا أغادر ثلاثة أماكن: إما الحوض أو الميزان أو الصراط} وفي بعض الألفاظ: {أو عند تطاير الصحف} أين ألقاك؟! اللقاء لابد منه لكن أين المكان؟ وأين أجدك وسط الأمم والشعوب والملايين؟
وأين إيمان ذلك الوثني من إيمان عبد الله بن أنيس يوم قتل خالد بن سفيان الهذلي، ويأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيراه وقد قتله، فيقول له صلى الله عليه وسلم: {أفلح الوجه.
قال: وجهك يا رسول الله.
قال: خذ هذه المقصرة (عصا) عصى، سوف تتوكأ به في الجنة والمتوكئون بالعصى في الجنة قليل} فيأخذ العصا وينام، ويستيقظ وهي معه، ولما مات دفنوا العصا معه؛ لأنه سوف يتوكأ بها في الجنة.
أين إيمان هذا من عمير بن الحمام، يوم أتى إلى بدر! فقال صلى الله عليه وسلم: {يقول الله: يا أهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، والذي نفسي بيده، ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء فتدخلون الجنة.
قال: الجنة يا رسول الله؟! قال: الجنة إي والذي نفسي بيده} فيلقي التمرات وكان يأكلهن، ويكسر غمده على ركبته، ويتقدم إلى الموت فيقتل في سبيل الله.
هذا الشاعر أعلمه الله من هو الواحد القهار، فكان عند مرض الموت يخور كما يخور الثور، وينبح كما ينبح الكلب، حتى أخذ يبكي ولسان حاله يقول -مستعتباً في وقت لا ينفع فيه العتب-:
أبعين مفتقر إليك نظرت لي فأهنتني وقذفتني من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
ورجل آخر يقول لبشر مثله يأكل الطعام والشراب وينام مثله، ويسهى وينسى ويفجر، يقول فيه:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب ترابُ
كذب عدو الله بل الذي إذا صح منه الود الطيب هو الله جاء وفد بني تميم فطرقوا باب الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: اخرج لنا يا رسول الله، فإن مدحنا زين وذمنا شين.
يقولون: إذا مدحنا مدحنا وإذا ذممنا ذممنا، فقال عليه الصلاة والسلام: {لا والذي نفسي بيده، الذي مدحه زين وذمه شين هو الله} هذا هو الذي ينبغي أن يلاحظ على مثل هؤلاء الفجرة الذين ينسون الله وينسون الإيمان، فإذا أتى في الشعر نسي الله، وإذا أتى في الصحافة نسي الله، وإذا أتى إلى المسرح نسى الله، وإذا أتى إلى الفيديو نسي الله، إذا أتى إلى المنتدى والنادي نسي الله فإذا ذكرته بالله قال: الله في المسجد لا والله، بل علمه في كل مكان، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] جل الله وتبارك وتعالى.
وحداثي متستر يستهزئ بالرسول صلى الله عليه وسلم، والطوام أن يأتي من أمهاتنا وفي بلادنا من يشرب ماءنا ويستنشق هواءنا ثم يستهزئ برسالتنا وبأصالتنا وعمقنا وبديننا وإيماننا وبتوحيدنا، فيقول في مقطوعة نثرية في آخرها:
غطى عليها بردائه الهاشمي
يقول: إن دنيانا لم تبصر النور لما أطل بردائه الهاشمي على الدنيا وعلى الجزيرة، يقول: أظلمت، كانت نيرة فلما أتى الهاشمي ووضع رداءه ما رأت النور فمن هو الهاشمي؟ ليس إلا محمداً عليه الصلاة والسلام.
أيها البغيض المتكلم! والله الذي لا إلا هو، لقد رفع الله به رءوس أمتك وأخرجهم من الظلمات إلى النور هذا الهاشمي -أيها البغيض- هو الذي جعلنا نخطب على منابر الأندلس، وعلى ضفاف دجلة والفرات والجنج وطشقند وغيرها من بلاد الدنيا هذا الهاشمي -أيها المتخلف- هو الذي أخرج الله به أمة العرب من أمة متخلفة وثنية مشركة إلى أمة تقدم أرواحها للواحد الأحد.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
فأمدها مدداً وأعلى شانها وأزال شانئها وأصلح بالها
الهاشمي عليه الصلاة والسلام -يا متخلف! - هو الذي أتى بـ أبي بكر الصديق ليكون علماً للعدل والسماحة والنبل، وأتى بـ عمر إنساناً أخرجه الله عز وجل وجعله بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى رجل عدالة، ورجل ريادة وزهد وعبادة يضرب بعدله المثل، وأتى بـ علي وبـ عثمان وبـ الزبير وبـ طلحة وبـ زيد وبـ أُبي {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
لكنها قلوب مظلمة، وعقول متخلفة! وإذا نزع الإيمان فلا تسل عن صاحبه.(252/16)
الصراع الحربي بين التوحيد والإلحاد
العنصر الرابع: الصراع الحربي القتالي بين التوحيد والإلحاد.
إن الصراع والقتال بين الإيمان والإلحاد جزء من الصراعات التي ذكرتُ، فإن بدراً وأحداً هي بين الإيمان وبين الإلحاد والطغيان.
وكذب طه حسين وافترى على الحي القيوم يوم أتى يتكلم عن بدر -واسمع إلى المتخلف العفن- يقول: بدر وقعت بين قبائل قريش وقبائل الأوس والخزرج لحزازات في الجاهلية حزازات! لا والله بل جبريل في المعركة، يقول حسان:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
لا إله إلا الله نزلت في المعركة الله أكبر والحمد لله وسبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله شاركت في المعركة الملائكة متعممون مسومون يضربون بالسيوف وشاركوا في المعركة أهي حرب قبلية؟!
هذه المعلومات أخذتها يا طه حسين من باريس، ولو رجعت إلى المدينة وإلى السنن والمسانيد لرأيت العلم الصحيح، لكنك أخذتها من ديجون وفلريدسكل دستن، وغيرهم وأذنابهم وأشياعهم من أعداء الإسلام.
أحد وبدر واليرموك والقادسية بين لا إله إلا الله وبين الكفر، بين الإيمان والشرك، وأفغانستان اليوم وفلسطين -إن شاء الله- كذلك وما انتصر المجاهدون في أفغانستان إلا يوم أن نزلت لا إله إلا الله في الساحة.
في جحفل من بني الأفغان ما تركت كراتهم للعدا صوتاً ولا صيتا
قوم إذا قابلوا كانوا ملائكة حسناً وإن قاتلوا كانوا عفاريتا
رفعوا لا إله إلا الله، وسجدوا وقالوا: لا إله إلا الله، وإذا نزلت لا إله إلا الله إلى الساحة فلتأت روسيا وأمريكا وبريطانيا وفرنسا {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] واليوم يُشرف على فتح كابل، واقترب فتحها {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:97] قال المجاهدون الأفغان: لا إله إلا الله، آمنا بالله وكفرنا بهيئة الأمم المتحدة.
قال لهم الناس: جنيف قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بـ جنيف، قالوا: مجلس الأمن قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بمجلس الأمن.
يا أمة في عمرها لم تحي إلا بالجهاد
كفرت بمجلس أمن من نصب المنايا للعباد
القاتلو الإنسان خابوا مالهم إلا الرماد
جثث البرايا منهمو في كل رابية وواد
فأخذوا الكلاشنكوف، وتوضئوا وبدءوا في الغارات يذبحون الشيوعيين على الطريقة الإسلامية، ويجوز ذبح الشيوعي إذا كان على الطريقة الإسلامية، فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير.
وفي الأخير أتى الدب الأحمر في موسكو وقال: ننسحب للأخوة الإنسانية عرفتك لا إله إلا الله والكلاشنكوف الأخوة الإنسانية، لكن فلسطين ثلاثين سنة ما اعترف شامير ولا سمع شامير بلا إله إلا الله، والآن نسأل الله أن تنزل لا إله إلا الله في ساحة فلسطين ليعود البيت الأقصى للمسلمين بلا إله إلا الله فلسطين لن تعود حتى نعود إلى الله عز وجل {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] النصر يأتي من فوق سبع سماوات النصر يأتي من هناك، ولا يأتي من عند أحد، لا من واشنطن ولا من موسكو، وإذا أتى النصر من عند الله وصدقنا مع الله نصرنا الله كما تشاهدون وتسمعون من المجاهدين الذين سفَّهوا الشيوعيين، والله لقد سفكوا حتى ماء وجوههم على الأرض، وخرجوا وهم في خجل ورعب.
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ
يسعى فيعثر في سروال خيبته في أذنه من رصاص الحق خرصان
فيا أبناء التوحيد! ويا أبناء الذين رفعوا لا إله إلا الله ووزعوها على البشرية أنا أتكلم في قوم ليسوا بغرباء، هم من نسل خالد بن الوليد وطارق وصلاح الدين، ومن يشابه أبه فما ظلم أعطي خالد السم في اليرموك، وقال له الروم: إنك تزعم أنك متوكل على الله فاشرب السم.
قال: باسم الله توكلت على الله، فشربه، فما أصابه شيء.
وقيل للرسول عليه الصلاة والسلام: الجيش جرار مقبل عليك، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174].
وقيل لإبراهيم: النار محرقة، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فنجى.
وقيل لموسى: الماء مغرق.
قال: حسبنا الله ونعم الوكيل فنجى.
وقيل لـ خالد: جيش الروم في اليرموك مائتان وثمانون ألفاً وجيشك ثلاثون ألفاً، يقول أحد المسلمين بجانب خالد: أما اليوم فالملتجى إلى جبال سلمى وأجا في حائل.
فقال خالد: بل إلى الله الملتجى، فنصره الله، وأتى سعد إلى أهل فارس فرأى الجموع كالجبال فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وأتى المجاهدون الأفغان يوم أتت روسيا بدباباتها وطائراتها وقضها وقضيضها وقواتها وقنابلها، فخرجوا بالسلاح البدائي وبالقماش المرقع وبقطع الخبز وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174].
وأنا أقول من هذا المكان: يا كل فلسطيني على وجه الأرض! لن ينصرك الله حتى تعود إلى الله وتقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، فحسبنا الله أولاً وآخراً.
نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا وقلوبكم، وأن يزرع شجرة اليقين في أرواحنا، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وإن كان لي من شكر فإني أشكر الله تبارك وتعالى، ثم أشكركم، ولا أنسى أن أشكر فضيلة الشيخ: عبد الوهاب الناصر إمام هذا الجامع، وأستغفر الله مما ذكرني به فأنا أعلم بنفسي.
إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(252/17)
الأسئلة(252/18)
آثار الصحوة الإسلامية وبعض الملاحظات
السؤال
الصحوة الإسلامية تثلج صدور المسلمين، فحبذا لو ذكرت ما ظهر من آثارها على الساحة الإسلامية، وهل من ملاحظات عليها؟
الجواب
نعم.
هذه الصحوة والعودة والرجوع إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مما يثلج صدر المؤمن، فلله الحمد أولاً وآخراً، فإن الفضل فيها يعود إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو الذي هدى ووفق، ثم للدعاة المخلصين ومما يفرح المؤمن ثلاثة أمور في هذه الصحوة:
أولها: الإقبال من الشباب على العلم الشرعي، وهذا مطلب عظيم، ومقصد نبيل فإن الدعوة بلا علم خسارة، والتوجه بلا علم ضلال، والسير بلا علم ظلام.
وثانيها: ظهور سنن المصطفى عليه الصلاة والسلام على شباب الإسلام، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فهي وجوه راضية برضى الإيمان ساجدة لله، وقلوب تخفق بذكر الله، وألسنة تلهج بذكر لا إله إلا الله، وسنن تلوح على الجبين.
وثالثها: دعاة بدءوا في الساحة يدعون إلى الله على بصيرة ويوعّون الناس فهذه ثلاثة أمور أشكر المولى تبارك وتعالى عليها وعلى غيرها من النعم، وأطرحها بين أيديكم.
أما الملاحظات، فإن المخلوق ناقص مهما كمل، ولا كمال عند المخلوق في عمله لأنه من نقص، وعندي ثلاث ملاحظات:
أولها: بعض شباب الصحوة لا يهتم بالعلم، بل قد يزجي بعض الكلمات الغير مسئولة في التقليل من شأن العلم، وأننا لسنا بحاجة إلى العلم؛ لتصبح الأمة تعيش على الفكر، أمة إنشائية لا أمة مؤصلة بقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
الملاحظة الثانية: قلة النوافل عند بعض الناس فإنه ولو اهتدى وظهرت عليه السنة إلا أنه يحتاج إلى مدد وذكر وعبادة ونوافل وتلاوة.
وناد إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن متى
وأخلص ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
فالنوافل تقل عند بعض الناس، ونحن بحاجة إلى مدد وغذاء للروح وهي النوافل.
الملاحظة الثالثة: وجود بعض الضغائن والأحقاد عند البعض، وهم في هذا الإقبال والصحوة إلى الله؛ وذلك بسبب اختلاف بعض المشارب أو بعض الاتجاهات والاجتهادات، وهذا ملحظ خطير، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].(252/19)
أبو حامد الغزالي وابن حزم في الميزان
السؤال
هل من كلمة حول هاتين الشخصيتين: أبو حامد الغزالي وابن حزم الظاهري؟
الجواب
أبو حامد الغزالي صاحب كتاب إحياء علوم الدين، واسمه محمد بن محمد الطوسي الغزالي، هذا من أكثر العلماء الذين اختلفت فيهم عبارات أهل العلم، والذي أقوله في هذا الرجل كما قال الذهبي وغيره: أنه رجل مشكور ومأجور عند الله عز وجل، ولكن عليه مآخذ:
أولها: الرجل عاش أدواراً وأطواراً فقد عاش الفلسفة، ثم عاد إلى التصوف، وأتى في آخر عمره إلى أهل الحديث، فمات قبل أن يتم في هذا العمر فالعقيدة لا تؤخذ من كتبه ولا منه، فهو أشعري منطقي فيلسوف، يأتي بالتأويل ويثبته ويرى أنه الصحيح، كما في المجلد الأول من الإحياء.
الأمر الثاني: الرجل في الحديث حاطب ليل.
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل
فيأتي بالموضوعات كأنه ينقلها من صحيح البخاري ومسلم.
الأمر الثالث: الرجل معجب بـ الصوفية، يمجدهم ويسترضيهم، ويمدحهم مدحاً عجيباً فهذه مقاتله الثلاثة.
أما نبله: فيأتي من زهده، وسعة علمه، وغيرته على الإسلام، ونسأل الله أن يكون ممن قال فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
وأما أبو محمد علي بن حزم الظاهري؛ فهذا منجنيق الأندلس -كما قال ابن القيم - وهو شمس ولكنها طلعت من الغرب، ذكي لامع، يقول الشوكاني في البدر الطالع: ما بين ابن تيمية وابن حزم بأقوى من الرجلين.
لكن البشر فيهم نقص، قال أهل العلم: عليه عدة مآخذ:
أولها: أنه ترك القياس ونفاه وأنكره، فضاق عقله في الشريعة، وضاقت دائرته، وأصبح يدور حول نفسه.
الأمر الثاني: أنه شديد على العلماء، فأخذ في أعراضهم -والله يسامحه ويغفر له- ونسي أنه يتخاطب مع مالك وأبي حنيفة والشافعي، لكن اعتذر له، فهم كرماء والله أكرم، وعسى الله أن يتجاوز عنه.
الأمر الثالث: الرجل مؤول في الصفات، فهو سال في موضع الجمود وجمد في موضع السيلان فإن الفروع تحتاج إلى عقلية وقياس، فرد القياس، وأتى إلى الصفات فأتى بالقياس.
يوم يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدناني
فقد أساء في المعتقد في الصفات، حتى قال عنه ابن تيمية: "إن أبا الحسن الأشعري خير منه في الأسماء الصفات".
المسألة الرابعة: أنه أباح الغناء، لأنه ضعف حديثاً في البخاري تجاوز الله عن الجميع.
وعلى كل حال فمناقبه كثيرة فهو محدث وعالم وداعية، دمغ الكفر والنصاري واليهود والرافضة، وحسناته تربو على سيئاته.
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا(252/20)
انتقاد بعض أحاديث الصحيحين
السؤال
انتقُدت أحاديث على الصحيحين من قبل بعض الحفاظ وبعض المغرضين، فما هي الأمثلة وما سبيل الرد؟
الجواب
الصحيحان تعرضا إلى هجوم وانتقاد، فأما الانتقاد فمن الجهابذة من علماء السنة، كـ الدارقطني وأبي مسعود الدمشقي وابن تيمية شيخ الإسلام وغيرهم.
وأما الهجوم فمن العملاء وأذناب الكفر والمستشرقين، من أمثال أبي رية وجولد زهير المجري، لكنهم كنافخ الشمس، ما أثبتوا دليلاً، يقول تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] سكتوا إلى أبد الدهر، ونطق الصحيحان على كل منبر وكل جلسة وفي كل إذاعة وفي كل درس.
وأما نقد أهل العلم فقصدهم حسن وسليم -أثابهم الله على ذلك- والكتب ليست معصومة من الخطأ، إلا كتاب الله عز وجل، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
صحيح البخاري: انتقد فيه بعض الأحاديث كما ذكر ابن تيمية في المجلد الثامن عشر، كحديث: {إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين} قيل: فيه انقطاع بين الحسن وأبي بكرة.
والصحيح أنه موصول وبعض الزيادات في صحيح البخاري تكلم فيها وقالوا: إنها وهم من بعض الحفاظ، مثل: {احتجم صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم} ويحيى بن سعيد القطان يقول: ما احتجم صلى الله عليه وسلم وهو محرم إلى غير ذلك من الألفاظ التي ليس هذا مجال بسطها.
أما صحيح مسلم فتعرض إلى بعض الانتقادات، منها ثلاثة أحاديث أقولها للبيان:
ذكر ابن تيمية ثلاثة أحاديث في مسلم تبعاً للدار قطني منها: حديث في الجمعة ساعة مستجابة من حين يصعد الخطيب إلى أن تقضى الصلاة وهذا الحديث عن أبي موسى، وهو حديث منقطع، وقد ذكر ابن حجر في بلوغ المرام انقطاعه، وذكر هذا ابن تيمية والدارقطني قبلهم ومنها: حديث: {خلق الله التربة يوم السبت} ثم عد سبعة أيام وذكر الله أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، قال أهل العلم: هذا من كلام كعب الأحبار وليس من كلامه صلى الله عليه وسلم ومنها: حديث تعرض له ابن حزم، وهو حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان، أن أبا سفيان قال: {يا رسول الله! أريد منك ثلاثاً} ثم ذكرها حتى يقول ابن حزم: هذا حديث موضوع وقد تجاوز وجازف في هذه المسألة، بل فيه كلام، وقد رأى بعض أهل العلم صحته ومنها: حديث أتى به ابن الجوزي في الموضوعات، وهو في مسلم: {صنفان من أمتي لم أرهما: صنف معهم سياط كأذناب البقر} وهذا خطأ منه ووهم.
ولكن نقول: كل ما في البخاري ومسلم -إن شاء الله- مقبول، وإنما تعرض إليها بالنقد، وهؤلاء الذين نقدوا الصحيحين أناس مجتهدون عندهم خير وحسن نية يريدون الخير فجزاهم الله خيراً، وأناس مغرضون أذناب عملاء جزاهم الله شراً، ومأواهم جهنم وبئس المصير.(252/21)
سؤال عن حال ثلاثة أحاديث
السؤال
سؤال عن ثلاثة أحاديث ما هي درجتها من الصحة: {ماء زمزم لما شرب له} {عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد} {استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان}؟
الجواب
أما حديث: {ماء زمزم لما شرب له} فقد رواه أحمد وابن حبان وسنده حسن، ولو أن بعض أهل العلم ضعفه، لكن هذا ليس بصحيح، بل له شواهد يرقى بها إلى الحسن، ومن أهل العلم من صححه.
وأما حديث: {فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد} فقد رواه ابن ماجة عن ابن عباس، ورفعه ابن ماجة فأخطأ، بل هو من كلام ابن عباس، ولا يصح مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث: {استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان} فقد رواه العقيلي في الضعفاء وابن عدي والبيهقي موقوفاً على عمر وهو الصحيح، ولو أن بعض المحدثين المعاصرين رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الأصح -كما قال السيوطي في الجامع الصغير وغيره أنه موقوف على عمر إذاً: هذه الثلاثة الأحاديث، اثنان ضعيفان وواحد حسن.(252/22)
نصيحة لطالب العلم المبتدئ
السؤال
بماذا تنصح طالب العلم المبتدئ؟
الجواب
أنصح طالب العلم المبتدئ بأمور:
أولها: تقوى الواحد الأحد، فلن ينال العلم إلا بالتقوى، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] وبكثرة الاستغفار، واللجوء إلى الواحد الأحد، وكثرة الدعاء بأن يفتح الله عليه.
الأمر الثاني: الجد والمصابرة في طلب العلم.
الأمر الثالث: -وقد يكون سابقاً على الثاني-: الإخلاص لله تبارك وتعالى: {إنما الأعمال بالنيات}.
الأمر الرابع: أن يبتدئ بالأوليات والمهمات في العلم، فيأتي إلى المختصرات فيحاول أن يحفظ في كل فن مختصراً، وإن وجد عالماً فالأحسن أن يقرأ عليه، وإلا ففي الكليات الموجودة النافعة، ويحاول أن يكون له وقت لحفظ القرآن ويبدأ به قبل المتون، فإنه لا يصح أن يحفظ المتون ويترك كتاب الله عز وجل فهو أعظم المتون فيبدأ بالقرآن ثم ببعض المتون في كل فن فيكررها حتى يستظهرها مثل: رياض الصالحين للواعظ والخطيب والمتكلم، وبلوغ المرام للمفتي، وزاد المستقنع في الفقه، ومنظومات في النحو، كـ منظومة ابن مالك، أو ملحة الإعراب، أو الإعراب في النحو وغيرها وبعدها يرجع إلى الشروح، وبعد أن يقرأها مرة واحدة، يبدأ بتلخيص المسائل وتحقيقها وتحريرها والله معه، وسوف يجد الفائدة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(252/23)
قوله تعالى: (الله يستهزئ بهم)
السؤال
ليس من شك أن منهج أهل السنة إثبات صفات الله وعدم تأويلها، فما هو القول في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15]؟
الجواب
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15] والقول الصحيح في هذه الآية إن شاء الله: أننا نثبت الصفة ما دام أنها وردت، فتثبت لله عز وجل أنه يستهزئ بمن استهزأ به، ونقول: إنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يستهزئ بمن يستهزئ به، كقوله تعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79] فنثبت أن الله يسخر بمن يسخر به سخرية تليق بجلاله، واستهزاءً يليق بجلاله وقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] نثبت أن الله يمكر بمن يمكر به، ولا نؤول الصفة، ولذلك أتى بها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى -كما قال ابن كثير - على باب المشاكلة والمجانسة، ولكن لما أتى بصفةٍ لا تليق به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كالخيانة قال: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} [الأنفال:71] ولم يقل: فخانهم؛ لأن الخيانة صفة نقص، بل قال: {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال:71] فالصفات تلك نثبتها كما وردت وكما يليق بجلاله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
أما مثل كلام ابن حجر في حديث: {لا يمل الله حتى تملوا} قال: هذا لا ينسب وإنما هو من باب المقابلة فهو تأويل، وما فعل الأشاعرة إلا تأويل، والمعتزلة مؤولة إذاً: فالقول الصحيح: نثبتها بأنه يفعلها بمن يفعل به على سبيل المقابلة والمشاكلة والمجانسة، ولا ننفيها عن الله تبارك وتعالى.(252/24)
سؤال أدبي
السؤال
نستأذن في سؤال أدبي: من القائل؟ وما المناسبة؟ وما بقية القصيدة؟
يا أمة النصر والأرواح أثمان في شدة الرعب ما هانوا وما لانوا
الجواب
قائل هذه القصيدة هو عائض القرني غفر الله له، والمناسبة في المجاهدين الأفغان، وهذه بعض أبياتها:
مروا بقلبي فقد أصغى له البان لي في حمى الحب أصحاب وجيران
نعم لك الله ما قد تبت من وله أما لكم صاحبي صبر وسلوان
أنا يراعتك اللاتي كتبت بها رسالة الحب ما في ذاك نكران
دع ذا وهات قوافٍ منك صادقة لأمة مجدها بالأمس فينان
يا أمة النصر والأرواح أثمان في شدة الرعب ما هانوا وما لانوا
هم الرعود ولكن لا خفوت لها خسف ونسف وتدمير وبركان
كم ملحدٍ ماجنٍ ظن الحقوق له زفوا له الموت مراً وهو مجان
وبلشفي أتى كالعير منتخياً رأى المنايا فأضحى وهو جعلان
ردوه كالقرد لو بيعت سلامته بِشَعْبِهِ لشراها وهو جذلان
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ
يسعى فيعثر في سروال خيبته في أذنه من رصاص الحق خرصان
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(252/25)
أثر الصلاة في حياة الفرد
الصلاة ركن من أركان الإسلام، والتهاون بها من أعظم المنكرات، بل من المدمرات للدين وللأمة، وفي هذا الدرس تقرأ كلاماً مفصلاً عن الصلاة وما حل بالمسلمين بعد أن تهاونوا بها.(253/1)
نعمة الإسلام
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، ولك الحمد مثلما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عز جاهك، وجل شانك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وقدوة للسالكين، بصّر به من العمى، وأرشد به من الجهالة، وأخرج به من الظلمات إلى النور، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلامُ الله عليكم ورحمته وبركاته، وإن كان من شكر، فإني أشكر الله العظيم جلَّت قدرته على أن جمعني بهؤلاء الأبطال الأخيار، أولئك النفر الذين قدموا أحسن الخدمات لأمتهم الإسلامية ولشعبهم ولبلادهم، وكلمتي معكم هذا اليوم هي عن مبدأ أصيل من مبادئ هذا الدين.
ماذا نحن إذا تركنا رسالتنا وتعاليمنا وديننا؟
أي أمة نحن إذا تخلينا عن مبادئنا ومنهجنا ورسالتنا الخالدة التي بعث الله بها محمداً رسول الهدى صلى الله عليه وسلم؟ كنا قبل أن يأتي محمد صلى الله عليه وسلم أمة ليس لها حضارة، ولا أدب ولا رسالة، ولا خلق ولا سلوك ولا منهج كنا قبل الإسلام أمة ضائعة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
أتى عليه الصلاة والسلام وكان من أعظم أهدافه في العالم أن ينقذ الإنسان.
والإنسان بلا إيمان ضائع في الحياة!!
والإنسان بلا رسالة متفلت!!
والإنسان بلا مبادئ في مستوى البهيمة والدابة!!
والله تعالى يقول: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
وأنت -يا أخي- إنما أنت جندي تمثل هذا الإسلام، وإنما أنت من مدرسة محمد عليه الصلاة والسلام، وإن ما تقدمه لأبناء أمتك الإسلامية هو في سجل حسناتك يوم أن تصلح ما بينك وبين الله وإذا انقطع الحبل الذي بينك وبين الله فلن يصلح ما بينك وبين الناس، يقول معاوية بن أبي سفيان لـ عائشة رضي الله عنهما جميعاًً: [[اكتبي لي وصية وأوجزي، فقالت: بسم الله الرحمن الرحيم سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من أرضى الله بسخط الناس رضي عنه وأرضى عنه الناس، ومن أسخط الله برضى الناس، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس}]].
وهذا مبدأ معروف؛ أن من قطع ما بينه وبين الله قطع الله ما بينه وما بين الناس.(253/2)
المحافظة على الصلاة
ما هي أمانتك التي حملك الله إياها؟
وما هي أعظم هذه الأمانة؟
وما هي الوديعة التي أمرت بتأديتها؟!
إنها الصلاة.
والذي يخون الصلاة أول ما يخون مرءوسيه، وأمته، وشعبه، وبلاده، والذي لا يتشرف بالسجود للواحد الأحد على الأرض، سوف يسجد لوظيفته ومنصبه، وحذائه وسيارته وشهوته، يقول عليه الصلاة والسلام: {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش}.
سماه عبد؛ لأنه عبد غير الله، ولذلك يقول شاعر ال باكستان الشاعر محمد إقبال وهو يخاطب مبادئ الإسلام:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً(253/3)
أهمية الحفاظ على الصلاة
إن إرادتنا وقوتنا وعزيمتنا في أداء الصلاة جماعة كل يوم خمس مرات، والذي يتعاهد المسجد كل يوم خمس مرات سوف يكون أميناً مؤتمنًا، خالصاً صادقاً منيباً بحول الله وقوته، قال الله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] فصاحب الصلوات الخمس لا يمكن أن يخون أمته وشعبه.
ولا يمكن أن يخون رسالته وأمانته.
ولا يرتكب الفحشاء والمنكر.
ولا يتعاطى المخدرات ولا يكذب ولا يخون.
ولا يضيع وقته ولا أسرته، ولا يضيع منهجه في الحياة.
ولذلك يخبرنا عليه الصلاة والسلام بأول برنامجنا الصباحي يوم أن نستقبل الحياة.
وما هي الحياة بلا صلاة؟! ما هي الحياة بلا إسلام؟!
إنها حياة البهائم، والخواجة الذي يعيش كالبهيمة، يجيد صنع الطائرة والصاروخ والثلاجة والبرادة ولكنه ما صنع روحه، قال الله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66 - 67].(253/4)
من آثار ترك الصلاة
صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره أنه قال: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه من ذمته بشيء كبه على وجهه في النار} ويوم أن تُترك صلاة الفجر جماعة توقَّع لصاحب هذا الترك كل شيء!! ولا تستبعد عليه كل جريمة!!
فمن الذي قاد الشباب إلى السجون في المخدرات؟!
ومن الذي قاد فتيان هذه البلاد وغيرها في السرقات والزنا والمخالفات والسيئات؟!
إن السبب هو: يوم تركوا الصلوات، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36] والذي لا يعرف المسجد يعرفه الله السجن والذي لا يخاف من الله يخوفه الله من كل شيء والذي لا يرجو لقاء الله يسلط عليه من لا يرجو لقاءه.
وقد استقرأت المطالعات المطروحة في الساحة عن أخبار الجيوش العربية التي دخلت فلسطين؛ فوجدت أن بعض الجيوش التي دخلت لتحرير فلسطين لم يكونوا يصلون، قيل لأحد قادات الجيوش العربية: لماذا لا تصلي؟!
فقال: (إذا رجعنا وفتحنا فلسطين نصلي إن شاء الله) أما الآن فلا يصلي؛ فعلمه الله أنه ما دام لا يحفظه فلن يحفظه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى! فترك هذا القائد حذاءه وفر إلى بلده وسلَّم الأرض.
وأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارها الخطبُ
شجباً ونكراً وتنديداً بغارتها الله كم نددوا يوماً وكم شجبوا(253/5)
الصلوات تمحو الخطايا
إخوتي في الله: الرسول عليه الصلاة والسلام يصف لنا الصلوات -ونحن نذنب ونخطئ ونغتاب، وتفلت منا الفلتات من اللسان والعين ومن كل عضو- يقول عليه الصلاة والسلام: {مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جارٍ بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟! قالوا: لا يا رسول الله} وفي لفظ لـ مسلم من حديث جابر: {أرأيتم لو أن على باب أحدكم نهراً يغتسل منه كل يوم خمس مرات، أيبقى من درنه شئ؟! قالوا: لا يا رسول الله، قال: ذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا} إن نار الدنيا تطفأ بالماء، وتطفأ بأمور ومفاعلات أخرى، لكن الآخرة نارها لا تطفأ لا تطفأ إلا لمن أنجاه الله، والفوز عندنا في الإسلام مبني على النجاة من النار، وعلى مبدأ: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] والخزي عندنا نحن أهل الإسلام هو دخول النار، وليس الخزي ألا تزاول عملاً في الحياة، ولا أن تعيش فقيراً أو مسكيناً أو مريضاً، لا!! الخزي هو دخول النار، قال الله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192].(253/6)
السعادة والصلاة
إخوتي في الله: وجد في الساحة بعض الأمور التي طرحت، وضل بها الناس -عسكريون ومندوبون- وهي حرب شعواء وجهت لمن ترك الصلاة، وما بقي معنا من حبال الإسلام إلا الصلاة، ولذلك لما طعن عمر رضي الله عنه وأرضاه وهو في سكرات الموت، قال: [[الله الله في الصلاة، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة]].
والرسول عليه الصلاة والسلام وهو في سكرات موته نادى بالصلاة، وحث عليها، وتوعد من تركها، فإذا علم ذلك؛ فما وجد في الساحة من أمور تجرك إلى الفاحشة والجريمة، إنما هي من تخطيط المستعمر، وهي حرب استشراقية المجلة الخليعة والأغنية الماجنة والفيديو المهدم كل ذلك يقود الأمة إلى العار والدمار، وأذكياء الغرب وأساطين الغرب بدءوا الآن يعلمون أنه لا حل لهم إلا الإسلام، ومن ينظر إلى كتاب الأمريكي دايل كرنجي؛ يعلم أنه عرف الطريق لكنه ما عرف السعادة، يقول: (لا سعادة إلا أن تتعرف على الله) ومن أراد فليقرأ الكتاب، فهو موجود في أسواقنا ومكتباتنا لكن لما رخصت قيمة المسلم في نفسه بترك الصلاة بدأ يزاول هذه المعاصي المجلة الخليعة التي تحمل الصورة الداعرة؛ فتحبب الفاحشة والجريمة، والأغنية التي تشغل القلب وتلهيه عن محبوبه ومطلوبه وهو الله الواحد الأحد.
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
الصور التي تعرض في الساحة كلها لإضلال القلوب ولصدها عن باريها تبارك وتعالى، لكن ما هو سر الخطر؟ إنه يوم أن ترك بعضنا الصلاة، وتهاون بعضنا بالصلاة أحد الأدباء العالميين المسلمين الكبار أتى إلى الجزيرة؛ فرأى المساجد ترتفع منائرها في السماء، ورآها مزخرفة وجميلة، لكنه لم ير مصلين؛ فبكى وقال:
أرى التفكير أدركه خمول ولم تبق العزائم في اشتعال
وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقال
وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خال
والعجب كل العجب أن الله يؤتي العبد ما تمنى، فمن كانت إرادته حفظ الله حفظه الله، ومن كان مقصده الزيغ أزاغ الله قلبه وهذا في القرآن، يقول الله لمن أراد وجهه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للزائغين: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].
أحد الصالحين اسمه عامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير كان إذا صلى الصبح رفع يديه وقال: [[اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، قالوا: ما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد، فأتته سكرات الموت وأذن لصلاة المغرب فقال: احملوني إلى المسجد، قالوا: أنت في الموت كيف نحملك إلى المسجد؟ قال: سبحان الله!! أسمع حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح وأموت هنا، لا والله! فحملوه على الأكتاف ووضعوه في المسجد فصلى جالساً، فلما كان في السجدة الأخيرة قبض الله روحه]] ولذلك يقول محمد إقبال شاعر الإسلام:
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
هذا محمد إقبال عاش أربع لغات، وأربعة شعوب، وأربعة مبادئ، عاش في الهند وبريطانيا وألمانيا، ثم عاش في الإسلام فكان خاتمته الإسلام كان يدرس الاستشراق والفلسفة والمنطق، فرجع فقرأ سيرة الصحابة فكان يمطر الكتب بالدموع يقول في قصيدة منثورة أتى بها أبو الحسن الندوي في كتاب روائع إقبال، يقول: (يا رسول الله! أنا ملأت أنفي من تراب مدينتك فأخرجت حب الحضارة الغربية من قلبي.
يا رسول الله! خذ من أعصابنا طنباً لخيمتك، ومن جماجمنا ابن عليها قصرك) ويقول لما زار لندن في محفل يتكلم عن الإسلام وعن شهداء أحد يقول:
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان آذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
ويقول في صلاة الصحابة في الخوف، والسيوف تضرب، والرماح تتكسر على رءوسهم:
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا(253/7)
لا دين بلا صلاة
ودين بلا صلاة معناه الضياع فلا منهج ولا أخلاق ولا سلوك كيف تطلب من الفرد -مدنياً كان أو عسكرياً- أن يكون صادقاً وهو لا يصلي؟!
كيف تطلب منه أن يكون أميناً وهو لا يصلي؟!
أم كيف تطلب منه أن يكون وفياً وهو لا يصلي؟!
إن من هدم ما بينه وبين الله يهدم الله ما بينه وبين الناس.
إن إرادتنا وقوتنا وأصالتنا وعمقنا في الصلوات الخمس، وحين نتركها نضيع -والله- هباءً منثوراً.
إن مبدأ الصدق هو حفظ الله في ظهر الغيب، ولذلك يقول لقمان لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] ما مناسبة الإتيان بحبة الخردل؟
يقول: لو كانت الخردلة في صخرة صماء لا يظهر منها شيء، لأتى بها السميع البصير.
لماذا؟! ليقول له: يا بني، لو تسترت بالجدران فإن الله معك ولو اختفيت وراء الحيطان فالله معك، ولذلك وجد في الناس من قلَّت رقابته للواحد الأحد؛ فضيع مسئوليته وأمانته وضيع عمله، فإن كان المسئول على رأسه بالسوط والتهديد، فهو أمامك عامل مخلص مجيب، ولكن إذا اختفيت عنه ضيع، لأنه في منظوره اختفى عن نظر الله، ومبدؤنا: {اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يرك}.
يقول الأندلسي وهو يوصي ابنه:
وإذا خلوت بريبة في ظلمةٍ والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
قيل للإمام أحمد: ما دليل قدرة الله؟ قال: يا عجباً! بيضة الدجاجة ظاهرها فضة بيضاء، وباطنها ذهب إٍبريز، فتفقس فيخرج منها حيوان سميع بصير، ألا يدل على السميع البصير؟!
وهذا أعرابي بدوي صلى في الصحراء ركعتين، فقال له رجل من الملحدين: لمن تصلي؟ قال لله.
قال: هل رأيته، قال: عجباً لك! الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وليل داج، ونجوم تزهر، وبحر يزخر، ألا يدل على السميع البصير؟!
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
إنه الله
قل للمريض نجا وعوفي بعد ما عجزت فنون الطب من عافاكا
إنه الله
فيوم تركت الرقابة وقعنا فيما وقعنا فيه، والرقابة تبدأ بالصدق مع الواحد الأحد.
قام عليه الصلاة والسلام على المنبر قبل معركة أحد بيوم، فأعلن الحرب على أبي سفيان، وندد بإجراءاته وظلمه وتعسفه حول المدينة، وقال: {نقاتلهم في المدينة، ولا نقاتلهم في أحد فقام شاب في الخامسة والعشرين من عمره -يوم كنا نحمل المبادئ- قال: يا رسول الله! لا تحرمني دخول الجنة، فوالله الذي لا إله إلا هو لأدخلنها، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: بماذا تدخل الجنة؟! قال: بخصلتين، أولها: أني أحب الله ورسوله، وثانيها: أني لا أفر يوم الزحف، قال عليه الصلاة والسلام: إن تصدق الله يصدقك، فبدأت المعركة وحضر هذا الشاب، وضاهى بنفسه يريد جنة عرضها السماوات والأرض لا يقاتل من أجل ناقة أو شاة أو بعير، لا بل من أجل رضى الواحد الأحد، فقتل، فمر به صلى الله عليه وسلم ومسح التراب عن وجهه، وقال: صدقت الله فصدقك الله، صدقت الله فصدقك الله، صدقت الله فصدقك الله} وليس بغريب أن يأتي من أمثالكم من الأبرار الأماجد فيعيدون سيرة السلف الصالح.
من جدكم؟ خالد بن الوليد، الذي تحدى الموت، قيل له: يا خالد، إن كنت متوكلاً على الله كما تزعم فهذه القارورة مملوءة سماً فاشربها، فقال خالد: [[بسم الله توكلت على الله، وشرب القارورة كلها، ثم قال: الحمد لله، فما أصابه شيء]] لأنه توكل على الواحد الأحد.(253/8)
النصر بالطاعة والصلوات
وجيوش لا تصلي كيف تنتصر؟
جيوش لا تعرف الله كيف تتوجه إلى الله؟!
كيف ينزل النصر والفتح والرزق إلا من عند الواحد الأحد؟!
النصر من هناك وليس من الأرض، أتينا إلى الدنيا وما عندنا إلا خيول قليلة، وثياب ممزقة، ورماح مكسرة، ففتحنا الدنيا، سعد بن أبي وقاص حضر القادسية بثلاثين ألفاً، وجيش فارس مائتان وثمانون ألفاً، فقام سعد يصلي الظهر بالمسلمين، فقال: الله أكبر، فكبر معه ثلاثون ألفاً، ركع فركعوا معه في لحظة واحدة، فسجد فسجدوا جميعاً؛ فقام رستم قائد فارس وهو ينظر من بعيد إلى الجيش بانتظام، فعظ أنامله وقال: (علم محمد الكلاب الأدب) بل علم صلى الله عليه وسلم الأسود الأدب وقبل المعركة قال رستم قائد فارس لـ سعد: أريد أن ترسل لي جندياً من جنودك لأكلمه فهو يريد أن يعرف ماذا أصاب العرب، أمة جاهلة بدوية تريد أن تفتح الدنيا، ماذا أتاهم؟! هل أتاهم مس من الشيطان أو صرع من الجان؟! لا.
بل أتاهم وحي من الرحمن.
فأرسل سعد الصحابي ربعي بن عامر في الثلاثين من عمره وقال: [[لا تغير من هيئتك شيئاً فإنا لم نفتح الدنيا إلا بطاعة الله]] يقول: لا تأخذ شيئاً، لا تلبس تاجاً ولا ذهباً ولا حريراً، كن على هيئتك؛ لأن مبادئنا في قلوبنا، وإرادتنا تحطم الحديد فذهب ربعي بفرسه ورمحه وثيابه، ودخل بلاط رستم فلما رآه هو ووزراؤه وقواد الجيوش ضحكوا، قال رستم: جئتم تفتحون الدنيا بهذا الفرس المعقور والرمح المثلم، والثياب الممزقة! قال ربعي: [[إي والله، إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].
وبدأت المعركة، وفي ثلاثة أيام صفى سعد حساب المجرم وسحقهم في الساحة: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45] ودخل إيوان كسرى فكبر فانصدع الإيوان، ودمعت عينا سعد وقال: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:25 - 29].
حاصر قتيبة بن مسلم مدينة كابل ليفتحها، وقبل الحصار قال: [[التمسوا لي محمد بن واسع، العابد الزاهد أحد العباد الكبار فذهبوا فوجدوه قد صلى ركعتي الضحى واتكأ على رمحه ورفع سبابته إلى الواحد الأحد]] من أين يأتي النصر والفتح إلا من الله.
ومن أين يأتي الرزق إلا من الله.
يا حافظ الآمال أنتت حميتني ورعيتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
دخلت بعض الجيوش العربية إسرائيل ومكتوب على بعض الأعلام:
آمنت بـ البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثان
وضربت الدبابات في الصباح، وإذا بالجيوش قد دخلت بلادها مهزومة، وإذا الثكالى يندبن وينتفن رءوسهن، وإذا موشي ديان يتكلم على الشاشة ويضحك ويقول: العرب لا يعرفون القتال، ابن القرد والخنزير يتكلم على أناس تركوا الصلوات الخمس، وكفر بعضهم بالواحد الأحد فأخذهم؛ لأنه واجه في الساحة شكلاً آخر غير الشكل الذي واجه الصحابة به اليهود، ليسوا من أحفاد خالد وسعد وطارق وصلاح الدين ورجل آخر يقول في مجمع وهم يصفقون له:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
يقول: أعطوا لي ديناً يجمع العرب غير الإسلام:
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
فكان جزاؤه ما علمتم من تنكيس في خلقه وفي خلقه، نسأل الله العافية.
قال قتيبة بن مسلم: [[التمسوا لي محمد بن واسع، فوجدوه يمد إصبعه ويدعو الله بالنصر، فعادوا إلى قتيبة فأخبروه، فقال: الحمد لله، والذي نفسي بيده لأصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف سيف شهير، ومن مائة ألف شاب طرير]] فإذا علم ذلك فلا نطلب التوفيق إلا من الواحد الأحد، والتوفيق إنما يأتي بأن نصلح ما بيننا وبين الله، ليصلح ما بيننا وبين الناس.
يقول أحد الصالحين: والله إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق دابتي وفي خلق خادمي.
من يعص الله يصعب عليه كل أمر، مسئوله لا يرضى عنه، وأمته لا ترضى عنه، وولاة الأمور لا يرضون عنه، ومن تردى برداء ألبسه الله ذلك الرداء.
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب(253/9)
آثار الذنوب والمعاصي
ثم إني أوصيكم -وهذا العنصر الثاني:- باجتناب المعاصي ما ظهر منها وما بطن، فإن آثار والمعاصي مقت وغضب ولعنة من الله الواحد الأحد.
يقول الله عن بني إسرائيل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ الله} [الجمعة:5] والله عز وجل يقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُون} [الحديد:16].(253/10)
مقارنة بين حادثتين لصالح وطالح
اعلم أن من ضيع الله في الطاعات بالمعاصي، وأن من ثبته الله على الطاعات يثبته حتى الموت، قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] حدثني بعض الإخوة أن في الجزائر شاباً عابداً ولياً من الأولياء، وقع عليه حادث انقلاب في سيارة، فأغمي عليه ثلاثة أيام، أتدرون ماذا كان يقول في الثلاثة الأيام؟ كان يقرأ الفاتحة على لسانة وهو مغمى عليه لا يدرك شيئاً، كان يرددها صباح مساء حتى أتاه الموت.
شاب آخر بهذه البلاد أتاه حادث انقلاب سيارة، فوجد تحت العجلة وهو في حالة شنيعة، وهو يردد في إغماء: هل رأى الحب سكارى مثلنا {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
ذلك الشاب يوم نشأ على الفاتحة مات على الفاتحة، وهذا يوم نشأ على (هل رأى الحب سكارى مثلنا) هو وأمثاله؛ ما رأى أفشل منهم في الحياة، فمات على ذلك؛ لأن معتقده ومبدؤه ومنهجه، والله يثبت من يشاء ويضل من يشاء، لكن بأسباب وإرادات ومزاولة من العبد، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم إذا علم هذا فإن واجب العبد أن يكف عن المعاصي، وأن يتق الله ليثبته الله عز وجل ويأخذ بيده، ونحن نقر بنعم الله علينا ظاهرة وباطنة، لكن وجد من بيننا من بدلوا نعمة الله كفراً، كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28].
والذي يطالع الأحداث التي وقعت في الساحة قبل أيام؛ يرى أن هناك أناساً يعيشون بلا إدراك، وأنه ينقصهم الوعي، وأنه لابد على الداعية والأستاذ والأب في البيت أن يوجهوا ذلك الجيل
جيل ترك المسجد! فلما ترك المسجد أتى ليشغل فراغه بكل شيء، جيل يتابع أحداث ما كان لها أن تتابع فهدد الأمن، وأزعج الناس، وضيع وقته ومستقبله، أرى الكافر منا أن هذه أمتنا، وأن هذه رسالتنا في الحياة زمجرة ورقص، وتصفيق وشهيق ونهيق وزفير والإسلام بريء من هذا، بل هو دين ومبادئ خالدة، ورسالة في الحياة: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:18 - 19] فالإسلام رسالة.(253/11)
الكف عن المعاصي وآثاره
يقول الشافعي وقد شكا لشيخه النسيان وترك الحفظ فقال له محذراً من المعاصي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
أحد الناس نظر نظرة لا تجوز له، فقال له أحد العلماء: تنظر إلى الحرام! والله لتجدن غبها ولو بعد حين، قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
وآثار الذنوب كثيرة:
منها: قسوة القلب، وقسوة القلب ضرب به بنو إسرائيل ضربة قاصمة؛ لأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
ومن آثارها: اللعنة، لأن العبد إذا استمر بالذنوب وطبع على قلبه لعن والعياذ بالله.
ومن آثارها: قلة البركة في الرزق.
ومنها: الضنك في المعيشة، فقد رأيناهم ورأيتموهم يسكنون في القصور الشاهقة، بالسيارات الفارهة، والملابس والمشارب والمطاعم لكنهم ما وجدوا الأمن والسكينة، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
إبراهيم بن أدهم -أحد الصالحين- يعيش على الرصيف، لا يجد إلا كسرة خبز، ولكنه بذكره وتلاوته وعبادته يعيش في رغد من العيش وفي جنة، قال له الناس: [[أأنت سعيد؟ فقال: والله الذي لا إله إلا هو إنا في سعادة لو علم بها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف]].
وشيخ الإسلام ابن تيمية ما كان يملك من الدنيا إلا ثوباً وعمامة، لكنه يقول وقد سجنه أهل البدع والمعاصي لما أنكر عليهم، قال: ماذا يفعل بي أعدائي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنى سرت فهي معي أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة.
وردوا عليه باب السجن فقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
يقول له أحد الفجرة من السلاجقة: يا ابن تيمية، يزعم الناس أنك تريد أن تأخذ ملكنا.
قال: ملكك؟! قال: نعم.
قال: والله ما ملكك يساوي عندي فلساً واحداً لأنه يريد السعادة، والسعادة لا تحصل إلا بذكر الله، ومن يقرأ مثلاً كتاب دع القلق وابدأ الحياة لـ دايل كرنجي والإنسان لا يقوم وحده لـ كريس مرسون؛ يرى أنهم ما وجدوا السعادة، يقولون: بحثنا عن السعادة فأخفقنا وهذا الذي ألف الكتاب أخذ السكين ونحر نفسه فمات؛ لأنه ما وجد السعادة.
فما هي السعادة؟!
السعادة هي أن تتوضأ كل يوم خمس مرات وتصلي كل يوم خمس مرات، وأن تتزود بالنوافل السعادة أن تطالع القرآن المجيد وتتدبر آياته وأن تكون ذاكر بقلبك للواحد الأحد وأن تجدد التوبة لله دائماً وأبداً السعادة أن تربي بيتك على القرآن وعلى الشريط الإسلامي، على الكتاب الإسلامي، على الصلوات الخمس، وأن تخرج المنكرات والفواحش والمعاصي من بيتك؛ وأن تكون رجلاً حازماً، مربياً معلماً، موجهاً في مجتمعك وأمتك، وتقودهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
بعض الناس كبر في السن وقد جاوز الأربعين، حُدثنا عنه أنه لما أتت المباراة كان ينظر إلى الشاشة، فلما أتت الصلاة أراد ألا تفوته المباراة؛ فأخذ غترته وبسطها في الأرض، ثم نقر أربع ركعات وسلم ونظر أهذه صلاة؟! أهذه رسالة؟! أهذا قلب أؤتي نوراً؟!
{ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].(253/12)
الحرص على الدنيا وإهمال الدين
وجد من بعض الناس أنه يتحمس للقضايا الدنيوية فلو ضيع ابنه عشرة ريالات لأقام الدنيا وأقعدها على تضييعها ولكن ابنه لا يصلي ويدخن ويستمع الغناء الماجن صباح مساء، ولا يقرأ القرآن، وهو مع العصابات المنحرفة في المقاهي والمنتديات ومع ذلك لا يغضب! فأي قلب هذا؟!
من يهن يسهل الهوان عليه مالجرح بميت إيلام
يا أيها الإخوة الأخيار! ويا أيها الأبطال! يا أبناء من رفعوا لا إله إلا الله، ووزعوها على البشرية! إنني أسألكم بالله العظيم، أن نعرف مسئوليتنا ومهمتنا وقصدنا في الحياة الدنيا؛ وإذا عرفنا ذلك نفعنا أمتنا وبلادنا وقدمنا أنفسنا، وإلا لو كانت المسألة مسألة تقدم مادي وحضاري دنيوي لغلبنا الكافر فإننا لم نصنع سيارة ولا طيارة ولا صاروخاً ولا برادة ولا ثلاجة، لكننا أتينا لنصنع القلوب، ولنقدم للناس إسلاماً وديناً يقول كريس مرسون: أعطيناكم الطائرة والصاروخ والثلاجة والبرادة وأنتم لم تعطونا الإسلام.
فهم يريدون الإسلام لقد أخفق كل دين في الساحة إلا دين الإسلام
فقد جربت العلمانية فإذا هي لعنة!
وجربت النصرانية المحرفة فإذا هي لعنة! وجربت اليهودية المحرفة فإذا هي لعنة! وجربت الشيوعية فإذا هي لعنة!
وأتى الناس يدخلون في دين الله، ولكن كثيراً من شبابنا الآن بدا معجباً، وبدا -عياذاً بالله- يحاول أن يخرج، وإذا كان شباب هذه الجزيرة يفكرون في بعض الأمور، فمن يحفظ هذا الدين؟! الجزيرة هذه هي التي خرج منها الإسلام، وقدرها الإسلام فهي مهبط الوحي -بلا تعصب- أبناؤها حملة نور التاريخ الذين تكلموا على منبر الدهر، وأسمعوا أذن الدنيا.
فيا إخوتي في الله: هذه معلومات ليست بغريبة عليكم ولا جديدة، ولكن من باب الذكرى والاتعاظ؛ علّ الله أن يرحمنا لأن المعاصي قد كثرت، وسببها ترك الصلوات الخمس، ولذلك كتب عمر إلى سعد في القادسية: [[الصلاة الصلاة! فإن عدوكم لن يغلبكم إلا بمعاصيكم]].
إخوتي في الله: أسأل الله أن يغفر لي ولكم الذنوب والخطايا، وأن يجعلنا صالحين مصلحين، مصلين صائمين، ذاكرين عابدين:
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله(253/13)
نداء
يا من يحافظ على أمن الناس: يا أيها الأفراد الأخيار الذين يقدمون النفع للأمة يا من يطفئ النار في الدنيا! أطفئوا عنكم نار جهنم إنكم تطفئون النار عن البشر، وتكونون حائلاً عن الأخطار -بإذن الله- عن الناس، فحيلوا بينكم وبين أنفسكم عن الخطر المدلهم خطر الآخرة، فلا نار إلا تلك النار، ولا عار إلا ذاك العار، ولا شنار إلا ذاك الشنار، ولا دمار إلا ما يحصل يوم الدمار فأنقذوا أنفسكم وبيوتكم من النار، فإن نار الدنيا تطفأ، وعار الدنيا ينتهي، وإن السيل الجارف في الدنيا يتلاشى، ولكن النتيجة الحتمية والمصير المحتوم هو الذي ينبغي أن نعد له ألف حساب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
أسأل الله لي ولكم تسديداً وعوناً، وتوفيقاً وفتحاً، وهداية ورشداً، وأكرر مرة ثانية وثالثة ومرات شكري لكم على إنصاتكم، وجميل استقبالكم وحفاوتكم، وليس هذا بغريب عليكم، فأنتم من الإسلام، والإسلام بني على أكتافكم.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(253/14)
الأسئلة(253/15)
تعليق الصور في البيوت ونحوها
السؤال
ما حكم تعليق الصور في المنازل ومكاتب العمل، من صور أرواح أو مجسمات؟
الجواب
أما غير الأرواح كالمباني والجبال والأشجار، فلا بأس بتعليقها في المنازل والمكاتب، أما الصور ذات الأرواح فتعليقها لغير حاجة لا يجوز؛ لأنه من باب التعظيم، والتعظيم هو سر التوحيد، وتعظيم غير الله سر الشرك، وإنما دخل الشرك بين الأمم لأنهم عظموا غير الله بالصور وأمثالها، فتعليقها لا يجوز، وإنما يجوز من الصور المهمة والضرورية التي لا بد منها للإنسان في الحياة، كصورة الحفيظة وأشباهها، لأنه من باب التنظيم وأما غيرها فليس بجائز.(253/16)
درجة التزام المجاهدين الأفغان
السؤال
ذكرت أننا تركنا وضيعنا أفغانستان لما أضعنا الصلاة، فهل يعني هذا تقصير من المجاهدين الأفغان في الوقت الحاضر؟
الجواب
لا يا أخي! بل المجاهدون الأفغان من المصلين الصلوات الخمس، وقد أثبتوا للمستعمر الشيوعي أن هناك إسلاماً، وأننا عدنا من جديد، وأن الكفر لن ينتصر أبداً المجاهدون الأفغان ثلة من البشر خرجوا بلا إله إلا الله، وبالصلوات الخمس، بسلاح بدائي مع دولة كبيرة من كبريات دول الأرض، فأرغموها وأذلوها أمام العالم، حتى شهد الكفر بعضه على بعض أنه ذُلَّ وخسر في الساحة.
يا أمة النصر والأرواح أثمان في شدة الرعب ما هانوا وما لانوا
هم الرعود ولكن لا خفوت لهم خسفٌ ونسفٌ وتدمير وبركان
كم ملحد ماجن ظن الحقوق له زفوا له الموت مراً وهو مجان
فروا على نغم البازوك في غسقٍ فقهقهت بالكلاشنكوف نيران
حدثنا أحد دعاة وكبار المجاهدين من القادات: أن امرأة متحجبة من نساء المجاهدين نزلت ومعها بندقية تريد الماء من واد، فعرضت لها قافلة، فرفعت البندقية؛ فسلمت القافلة الروسية -ومعهم سلاح- فسلموا جميعاً.
لأن عندهم مسألة: هي أن الأفغان لا يهزمون أبداً، ولذلك بدءوا في المصالحة والانسحاب، وما ذلك إلا لمن حافظ على الصلوات الخمس، لكن الذي ضيع الصلوات الخمس في فلسطين قبل خمس وعشرين سنة ما نفعته طائراته ولا دباباته ولا صواريخه.(253/17)
حكم الأغاني
السؤال
ما حكم الأغاني؟
الجواب
الأغاني -أيها الإخوة- عرفتم من فتاوى أهل العلم أنها محرمة، وربما سمع بعضكم بعض فتاوى المترخصين، لكن ليس عندهم دليل: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64] فالصحيح أنها محرمة لأدلة منها: ما في البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: {يستحلون الخمر والمعازف} واستحلالها يكون بعد التحريم، ومنها قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} [لقمان:6] قال ابن مسعود: [[أقسم بالله أنه الغناء]] وفي آثر موقوف على ابن مسعود: [[الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت البقل من المطر]].
ولـ ابن تيمية كلام مجيد في الغناء في كتاب الاستقامة بين أنه من أعظم الفواحش، وأنه الذي يقود إلى الزنا، وقال ابن القيم الغناء بريد الزنا.
وأول عقوبات من يستمع الغناء: أن يصاب بقسوة القلب، وأن يكره الذكر والقرآن، وأن يبتعد عن المساجد، وأن يحبب له العشق والوله والغرام بالمحرمات، ومن نتائجه: أن يحرم الغناء في الجنة، وهو من نعيم أهل الجنة، الذي يقول فيه ابن القيم:
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان(253/18)
البوصلة
السؤال
البوصلة تستخدم في بعض البلاد خارج المملكة، فهل تعين اتجاه الكعبة؟ وهل يمكن أن يعتمد عليها؟
الجواب
إذا علم أن هذه البوصلة صحيحة المعلومات فلا بأس بها؛ لأن أمر القبلة أمر اجتهادي، غالب ظن، فلا بأس إذا استصحبت معك بوصلة ودلتك بإشارتها على اتجاه القبلة أن تصلي عليها، وهذا من العلامات التي وجدت، ولكن تستخدم بشروط؛ لأنها قد تعمم إلى علم الفلك، وهذا فيه خطورة، حتى إنك تجد بعض البلدان تفطر وتصوم على الفلك في رمضان، وقد ناقش ابن تيمية هذه المسألة، ورأى أن المسلمين يفطرون على الرؤية المجردة، ويصومون على الرؤية بشهادة الشهود لا بعلم الفلك، فنحن لسنا متعبدين إلا بالرؤية إذا شهد عندنا شاهد لأننا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، وأما البوصلة فإذا وجدت للضرورة فلا بأس باستصحابها.(253/19)
قول (إن الله مع الصابرين) عند دخول المسجد
السؤال
بعض الناس عندما يدخل المسجد والإمام في أثناء الركوع يردد كلمة (إن الله مع الصابرين)؟
الجواب
هذه الكلمة لم ترد، واشتهارها بين الناس بدعة، لم يرد فيها أثر ولا حديث صحيح، ولا ينبغي للإمام أن يتأخر، وقد سئل الإمام أحمد: هل ينبغي للإمام أن يتأخر؟ قال: لا أدري! لا أعلم فيه شيئاً، فما دام أن الإمام أحمد لا يعلم فيه أثراً، فنحن لا نعلم فيه أثراً.
فالإمام عليه أن يراعي حال الناس مسجد فيه ألف مصلٍ، وهذا تخلف في البيت يشرب الشاي ثم أتى متأخراً، ويقول: (إن الله مع الصابرين) أيهدر حق ألف مصل من أجل رجل دخل متأخراً؟ لا.
بل يؤدي صلاته مثلما كانت، وهذا لا ينبغي له أن يسرع وأن يتنحنح للإمام، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح: {إذا أتيتم إلى الصلاة فأتوا وعليكم السكينة، ولا تأتوها وأنتم تسعون، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموه} ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة والحمد لله.(253/20)
زخرفة المساجد
السؤال
بعض المساجد تكثر الزخرفة فيها فتلهي المصلين، فما حكم ذلك؟
الجواب
صح عنه صلى الله عليه وسلم في المسند وغيره أنه قال: {ما أمرت بزخرفة المساجد} وإنما تبنى بناء طيباً جميلاً لا بأس به، ولكن الزخرفة وكثرة الخطوط والملهيات ليست من مقاصد المساجد في الإسلام، فينبه على هذا الأمر حتى ينتشر، وذلك لتبقى المساجد بيوتاً للعبادة والاتصال بالواحد الأحد، والذكر والدعاء للاشتغال بشيء.(253/21)
حكم اختلاط القرابة من غير المحارم
السؤال
هل يجوز للأخ أن يكشف على زوجة أخيه؟
الجواب
الحمو! ليس له ذلك، فهو أجنبي، ولا يجوز له أن يكشف على زوجة أخيه، فقد جاء في صحيح البخاري أن الرسول عليه الصلاة والسلام سئل عن الحمو؛ فقال: {الحمو الموت} لأنه مأمون الجانب فيه، ومطمأن إليه، ويأتي الخوف بل الموت من جانبه، لذلك لا يجوز له أن يكشف على زوجة أخيه.(253/22)
حكم الشراء بالتقسيط
السؤال
ما حكم شراء سيارة بالأقساط؟
الجواب
هذا ظاهره الجواز، وأنا أعرف أن الأخ يسأل عن زيادة الثمن من أجل الأجل، وله صور كثيرة، وسأتكلم عن بعض الصور، فأقول: زيادة الثمن من أجل الأجل لا بأس بها، وهي حلال إن شاء الله، كأن يقال لك: هذه السيارة بثلاثين ألفاً إذا سلمت الثمن الآن، وبأربعين ألفاً بالتقسيط، فهذا لا بأس به؛ لأن زيادة الثمن من أجل الأجل، أما بعض الصور التي تحدث في المعارض: أن يبيعك ما ليس عنده، وتتبايع أنت وإياه ثم يشتري السيارة هو فلا يجوز، لقوله عليه الصلاة والسلام: {لا تبع ما ليس عندك}.(253/23)
الموت من أجل إنقاذ الغير
السؤال
ما منزلة من يموت بحريق أو غرق أو هدم عند إنقاذه لأُناس مسلمين؟
الجواب
نسأل الله له الشهادة، وهو من الشهداء الذين عدّهم عليه الصلاة والسلام، بل من أعظم الشهداء، فمن مات بهدم أو حريق أو غرق فهو شهيد من حيث هو، فلو تلف في البحر، أو مات تحت جدار انهد عليه، أو احترق بالنار فهو شهيد فكيف بإنسان يأتي لينقذ الأرواح، وينقذ كثيراً من المسلمين؟! فحسناته مركبة فهو شهيد من حيث الأصل ومأجور؛ لأنه في مقصد نبيل.(253/24)
العلاقة بين الرئيس والمرءوس
السؤال
ما العلاقة بين الرئيس والمرءوس في الإسلام؟ أرجو إلقاء بعض الضوء على ذلك؟
الجواب
الرئيس والمرءوس في الإسلام يجمعهم أولاً: التفاضل بتقوى الله عز وجل.
الأمر الثاني: لا يطاع أحد من الناس مهما كان في معصية الخالق: {لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق}
الأمر الثالث: الرئيس يطاع في طاعة الله عز وجل، ويحترم ويقدر وتنفذ أوامره ما لم تتعارض مع الشريعة وإذا أخذنا الضوابط الثلاثة هذه أفلحنا ونجحنا؛ أن يكون هناك التقوى، وأن يكون هناك التحاب بين الرئيس والمرءوس ليس بالرتب والمناصب، وإنما بتقوى الله عز وجل، ثم لا نطيع أحداً من الناس في معصيته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم نطيع مرءوسينا ونقدرهم ونحترمهم في طاعة الله الواحد الأحد ما لم يأمروا بمعصية، وهم إن شاء الله لا يأمرون بمعصية، فإن حدث هذا فلا يطاع أحد.(253/25)
تأخير الصلاة لعذر
السؤال
بعض الإخوة يتأخر عن الصلاة لانشغاله بحادث حريق، وإذا استمر حادث الحريق فمتى يصلي الظهر -مثلاً- أو العصر أو غيره؟
الجواب
أولاً: لا تؤخر الصلاة عن ميقاتها، فما دام الوقت معك فلك إذا كان هناك أمر مهم أن تقوم بالعمل، لكن إذا خشيت أن يفوتك الوقت فعليك أن تصلي الصلاة على أي حال، فلا يعذر من أخرها حتى يذهب وقتها أبداً، وإذا خشيت وأنت في مطافئ حريق أو أي مكان؛ فلك أن تصلي بالهيئة التي أنت عليها، ولا تترك أبداً ولو كنت في حريق مدلهم وحادث مرعب وأنت لا تستطيع أن تؤدي الصلاة إلا بكيفية صلاة الخوف فصلها صلاة الخوف هذا كما فعل كثير من الصحابة، وسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أن تؤخرها إلى أن يذهب الوقت فهذا نكران وفجور وخذلان والعياذ بالله، وما أجاز أحد من أهل العلم التأخير حتى يفوت الوقت.
إخوتي في الله: أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، والعون والرشاد والسداد، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(253/26)
حوار بين روح القدس ومعلم البشرية
حديث جبريل الطويل فيه من القواعد والأصول والآداب الشيء الكثير، وقد تعرض الشيخ لهذا الحديث شرحاً واستنباطاً وأحكاماً هامة لا يستغني عنها طالب العلم خصوصاً والمسلم عموماً.(254/1)
جبريل ومحمد عليه الصلاة والسلام يتحاوران
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وسلم ما تعاقب الليل والنهار، وما هطلت الأمطار، وما فاحت الأزهار، وما ترعرعت الأشجار، وعلى آله والتابعين لهم بإحسان.
أشكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى على أن جمعني بهذه الوجوه التي سجدت له، وبهذه القلوب التي أحبته، ثم أشكر مركز الدعوة بـ الدمام، وعلى رأسه فضيلة الشيخ حمد الزيد على تبنيه لهذه اللقاءات القيمة، وأما أنتم يا أيها الحضور فأقول:
فَتْحُ نظمي ومقالي حمد رب العالمينا
وصلاة الله تالي تبلغ الهادي الأمينا
ما بدا نور الوصال في وجوه الساجدينا
وعلى الدمام حالي والحضور المكرمينا
أيها الإخوة: ماذا يقول المسلم يوم يرى هذه الجموع وقد توجهت إلى الله؟
يقول: المستقبل لهذا الدين.
يقول: العظمة لـ خالد وطارق وصلاح الدين، ولسان الحال:
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا
لسنا وإن كرمت أوائلنا يوماً على الأحساب نتكل
أما عنوان المحاضرة فهو عبارة عن (حوار بين روح القدس ومعلم البشرية صلى الله عليه وسلم) وروح القدس ليس به خفاء، يقول حسان:
وجبريل أمين الله فينا وروح القدس ليس به كفاء
يسمى: جبريل، ويسمى: روح القدس، وسمي روح القدس تسمية من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ومن رسوله عليه الصلاة والسلام، وكان صلى الله عليه وسلم يحرك داعيته حسان لينثر الأبيات اللاذعة على رءوس المشركين، فيقرب له المنبر، ويقول: {اهجهم وروح القدس يؤيدك} وأجمل بيت قاله حسان في مدح جبريل ومحمد عليه الصلاة والسلام، يوم اشتركت القيادة في بدر، قيادة الملائكة مع قيادة الصحابة تحت علم محمد صلى الله عليه وسلم، يقول:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
من يقول مثل هذا البيت؟ من ينحت مثل هذا الكلام؟
وهذا الحوار سؤال عظيم، أعظم سؤال فيما أعلم، ولعلكم تعلمون ذلك في السنة المطهرة قاطبة، وسوف يرويه لنا إمام معتبر، إن طلبته في الزهد وجدته، وإن استقرأته في الأدب والإشراق والعدل قرأته أبو حفص عمر بن الخطاب، وأنا أستحي منكم أن أعرف عمر! أأقول للبدر يا بدر ما أجملك؟!!
مر أعرابي -بدوي- في الليل بناقة، ولمَّا أتعبه الظلام مرة يسقط ومرة يقوم، وإذا بالبدر قد بدا، والقمر قد طلع، فأصبح يرى مواقع الإبرة في الأرض.
فقال: يا قمر! إن قلت: رفعك الله فقد رفعك الله، وإن قلت: جملك الله فقد جملك الله، وإن قلت: حسنك الله فقد حسنك الله.
وأنا أتقاصر وأستحي أن أقف أمام هذه النهاية من النور عمر بن الخطاب.
أقول: رفعه الله وقد فعل، وجمله الله وقد كان، وحسَّنه الله وقد حصل.
يروي الحديث وأنا أسرده مع الشرح، ثم فيه دروس وقضايا ننتهي بها والله المستعان، وهو الذي يفتح سُبحَانَهُ وَتَعَالى، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.(254/2)
الجلوس آدابه وأنواعه
يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: {كنا جلوساً عند رسول الله عليه الصلاة والسلام}
انظروا الأدب! لم يقل: كان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً معنا، العظيم دائماً يضاف إليه، ولا يضاف العظيم لغيره.
كنا جلوساً مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ومجالسه صلى الله عليه وسلم كانت مجالس إيمان ويقين ونور، ساعة واحدة يجلسها الأعرابي مع محمد عليه الصلاة والسلام يتحول إلى داعية وقائد وزعيم.
شباب جلسوا معه ساعات ثم أخذوا سيوفهم يحملون (لا إله إلا الله) ويقتلون على ضفاف الفرات ودجلة وتستر! وعلماء الصحابة يخرجون من مسجده علماء في ساعات.(254/3)
آداب الجلوس
قال: {كنا جلوساً مع الرسول عليه الصلاة والسلام}.
ومن الطرافة ما الفرق بين اقعد واجلس؟ تقول العرب للنائم إذا أرادت أن تجلسه: اقعد، وتقول للواقف: اجلس.
قالوا: (بعد مشي جلسنا، وبعد نوم قعدنا).
قال: {كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم} وهي إضافة ما أحسن منها!
يقول أبو هريرة: خرجنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويقول زيد بن ثابت في الصحيحين: {تسحَّرنا مع الرسول عليه الصلاة والسلام}.
وليس من الأدب أن تأتي بفاضل أو نبيل أو عالم جليل، وتأتي وتقول: أتى معي، وركب معي، ودخل معي، وخرج معي لا، جلسنا مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وإذا كان إمام المجلس محمد صلى الله عليه وسلم فحسبك به!
يقول مجنون ليلى:
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
يقول: يكفي أن نذكرك للنوق
وإني لأستغشي وما بي غشوة لعل خيالاً منك يلقى خياليا
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا(254/4)
أنواع المجالس
والمجالس مجلسان: مجلس لله، ومجلس للشيطان.
فأما مجلس الله فمجلس أوليائه، وأولياء الله مجالسهم معروفة.
قيل لـ ابن المبارك الزاهد الشهير: مع من نجلس؟ دلنا على جليس؟ فأنشد أبياتاً كأنه كتبها بدمه، قال:
من كان ملتمساً جليساً صالحاً فليأتِ حلقة مسعر بن كدام
فيها السكينة والوقار وأهلها أهل العفاف وعلية الأقوام
مجلسكم هذا من أعظم المجالس لا لحضوري أنا، لكن لحضوركم أنتم
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا
لأنفاسكم، ولجلوسكم، ولتسبيحاتكم خمس فوائد في مجلسكم هذا:
1/ لعل الله أن يغشانا بالسكينة.
2/ ويحفنا بالرحمة.
3/ وتتنزل علينا الملائكة.
4/ ويذكرنا الله فيمن عنده.
وخامسة أحلى من العسل: يقول الله لنا في آخر المجلس: انصرفوا مغفوراً لكم.
فتقول الملائكة: يا رب! عبدك فلان جلس معهم هكذا -أي: ما أراد الجلوس وإنما رأى الجماهير فجمهر- قال: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من جلس مجلساً لا يذكر الله فيه، إلا كانت عليه ترة يوم القيامة} أي: حسرة وندامة.
ومجالس أهل الخير إذا جلسوا فيها عمروها بالتقوى لما حضرت سكرات الموت عمر بن الخطاب وطعن، قال: [[ما آسى على الحياة إلا على ثلاث، ومنها: ومجالس قوم ينتقون لي أطايب الكلام كما ينتقى أطايب التمر]].
مجالس أقوام هي لذائذ في الحقيقة، وبعض الناس لم يجد هذه المجالس؛ إما لوحشته في دهره؛ أو لأنه ما وجد صالحين فأخذ يبكي على مجالس الصالحين.
أما المتنبي فيقول:
أعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب
ونحن نقول: يا أبا الطيب! لو عرفت جلساءنا لما مدحت الكتاب، بل خير جليس في الزمان رجل صالح، يتحدث إليك بقلبه المؤمن، وبسجداته وبتطلعاته الإيمانية، وبإقباله على الله.(254/5)
صفات سائل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإسلام
في الحديث -كما يقول أهل البلاغة- لف ونشر، فـ أبو حفص يلف لنا الحديث في موجز ثم ينشر، واللف معناه: جمع الحديث ونشره، ويسمى في لغة المتأخرين: الموجز والتفصيل، لكن هذه لغة عصرية.
قال: {جلسنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم -وفي رواية البخاري - بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم} وساق مسلم الرواية كلها عن عمر، وساقها البخاري عن أبي هريرة قال: {بينما نحن جلوس عند الرسول عليه الصلاة والسلام}.
(بينما) تستخدم للفجاءة.
إذ طلع: كل شيء بقضاء وقدر، لا يقال: رأيته فجأة، إلا في العربية، ولكن كل شيء بقضاء وقدر لا صدفة.
قال: {إذ طلع علينا رجل}.
من هو الرجل؟ إنه جبريل.
لماذا سماه عمر رجلاً وهو ملك؟
قالوا: لأنه اعتقد أنه رجل فسماه رجلاً، وما كذب عمر وما زاغ وما طغى في كلامه.(254/6)
معنى: شديد بياض الثياب
{إذ طلع علينا رجل -اسمع الأوصاف- شديد بياض الثياب} وهذا أمر طيب، وهو شعار المسلم، والمسلم يحب البياض، ويلبس البياض، ويرتاح للبياض إلا للحاجة، وعند الإمام مالك في الموطأ قال عمر بسند صحيح: [[يعجبني أن يكون لباس القارئ أبيضاً]] حتى أبو مسلم الخراساني الذي قتل ألف ألف من المسلمين وذبحهم، يقول الذهبي: وقف أبو مسلم الخراساني، وعمامته سوداء، ولباس الثوب أسود، وكل قطعة فيه سوداء؛ لأن شعار دولة بني العباس السواد، وقف على المنبر فاعترض عليه أحد الرعية وسط الخطبة وقاطعه، وأبو مسلم هذا يقطر دماً ويتكلم بالدم، وسيفه يقطر دماً، قتل ألف ألف، فقال له هذا المسلم: يا أبا مسلم! ما لك تلبس السواد والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {البسوا البياض وكفنوا فيه موتاكم}؟ وأقول للسائل: ليتك ما أوردت هذا السؤال! رجل يقتل الرقاب، ويأخذ الحرمات، ويأكل الأموال، وتعترض عليه في لباسه!
مثل أحد السلاطين الطغاة، كان عنده حرس يسبلون ثيابهم، وهذا الطاغية يقتل الأنفس ويمزق الأعراض، فقال له الواعظ: عندي لك كلام.
قال: ما هو الكلام؟ قال: بيني وبينك أيها السلطان.
قال: قل.
قال: يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر} وجنودك يسبلون ثيابهم غفر الله لك! وهل المسألة مسألة إسبال؟
يقول الرجل: يا أبا مسلم تلبس السواد لقد خالفت السنة؟
فقال: حدثني فلان عن أبي الزبير عن جابر -وهذا الحديث في مسلم ولا أدري كيف أدركه أبو مسلم وهو ليس من أهل الحديث- حدثني فلان عن أبي الزبير عن جابر: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء} يا غلام! اضرب رأسه؛ فقطع رأسه!!
الشاهد هنا: أن الأبيض مطلوب، وفي الصحيحين كان عليه الصلاة والسلام يقول: {ونقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس}.
لماذا الأبيض؟
لأن شريعتنا بيضاء، يقول عليه الصلاة والسلام: {أتيت بها بيضاء} دينه أبيض، وشريعته بيضاء، ولبسه أبيض، ومنهجه أبيض، {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
وفي سنن النسائي بسند صحيح: أن عمر رضي الله عنه وأرضاه أتى بنسخة من التوراة -وجد أوراقاً، أمة أمية تفرح بالمراسم والأقلام والألوان إذا وجدتها، عمر لا يقرأ، فلما وجد قراطيس عند أهل خيبر، وقيل: في مدراس عند أهل خيبر قال: آتي بها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام- قال: يا رسول الله! خذ هذه من التوراة -أي: استفد منها- فغضب عليه الصلاة والسلام، وقال: {أمتهوكون فيها يـ بن الخطاب؟! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي}
والشاهد هنا قوله: لقد أتيتكم بها بيضاء.
فشريعته بيضاء.
أبي بن كعب سيد القراء، قالوا في ترجمته: كان ثوبه أبيضاً، ولحيته بيضاء، ورأسه أبيضاً، وقلبه أبيضاً {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
قال: {إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب} لماذا استنكر عمر شدة البياض؟
قالوا: لأنه لو كان مسافراً لكان مدنس الثوب، وهذا لا يعرفونه؛ لكنه نزل فجأة شديد بياض الثياب.(254/7)
معنى: شديد السواد
قال: {شديد سواد الشعر}.
شعر جبريل عليه السلام في صورته الخلقية التي حوله الله إليها عجيب!
كان يصوره الله في صورة دحية بن خليفة الكلبي، وكان هذا الرجل جميلاً، فكان يقول الصحابة: رأينا دحية مر من هنا وعليه ثياب بيض، ويدخلون فيجدون دحية فيقولون: يا دحية، رأيناك خرجت.
قال: أنا دحية، قالوا: بل رأيناك خرجت.
قال: أنا موجود هنا؛ فيخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه غير ذلك.
أحد المفكرين -لا زال حياً- كان في الحرم يصلي ركعتين عند المقام، فأتاه أحد الشباب، وقال: يا شيخ! يقول الناس: إنك مت.
قال: لا أنا لم أمت.
قال: والله لقد أخبرني ثقات.
قال: أنا موجود أمامك.
قال: لا.
الذي قال لي ثقة ولا يكذب.
قال: إن كنت صدقته فأجل أنا مت، لكنني عند المقام الآن!
مثل ما قاله عيسى عليه السلام فيما أورده الغزالي: مرَّ بسارق يسرق، فقال عيسى: لا تسرق.
قال: يا روح الله! والله ما سرقت.
قال: صدقتك وكذبت بصري.
يكذب فيك كل الناس قلبي وتسمع فيك كل الناس أذني
وهذا ليس هو الشاهد، بل الشاهد أن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- وصفه أنه رجل، وأنه شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، والسؤال الذي طرحه أهل السنة: كيف يتصور في هذه الصورة عليه السلام؟
و
الجواب
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1] كان جبريل عليه السلام له ستمائة جناح، كل جناح يسد ما بين المشرق والمغرب.
جلس سفيان بن عيينة مع معتزلي ضال مبتدع، قال: دعنا من خزعبلاتك! أتعرف كيف ينص الجناحان؟
قال: نعم.
قال: أعطني جناحاً ثالثاً ونصه؟
قال: لا أدري.
قال: فكيف خلق له ستمائة جناح؟
قال: لا يكون هذا.
قال: جبريل عليه السلام له ستمائة جناح.
فبهت المبتدع والله لا يهدي القوم الظالمين، كان كل جناح يسد ما بين المشرق والمغرب، ولما أرسله الله إلى المؤتفكات -قرى قوم لوط التي عصت الله- اجتاحهم بجناح واحد، ورفعهم وهي أربع قرى فيها ستمائة ألف، فلما اقتربوا وسمعت الملائكة صياح الديكة ونباح الكلاب، رمى بهم في الأرض، فبعداً للقوم الظالمين.(254/8)
مزايا جبريل عليه السلام
وجبريل له مزايا، منها: أنه صاحب صاحبنا عليه الصلاة والسلام، جبريل صديق للرسول عليه الصلاة والسلام، دائماً في الأحاديث: أتاني جبريل، قال لي جبريل، رأيت جبريل، ذهبت مع جبريل عليه السلام، واليهود غضبوا على جبريل عليهم غضب الله.
يقول ابن سلام للنبي صلى الله عليه وسلم: من صاحبك من الملائكة؟ قال: جبريل.
قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]
قال ابن حجر: لماذا عادى اليهود جبريل؟ لماذا لا يعادون ميكائيل وإسرافيل؟
قال أهل العلم: لأنه كشف أسرارهم للرسول عليه الصلاة والسلام، وفضحهم في سورة البقرة، وأخبر بما فعلوه يوم السبت، والرسول صلى الله عليه وسلم أمي، أخبر بما فعلوا وبما كذبوا وبما غشوا وبما زنوا، فقالوا: فضحنا جبريل.
وقالوا: لأنه دمرهم كثيراً.
وقالوا: لأنه جاء بالرسالة إليهم؛ فحول الرسالة إلى العرب وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.(254/9)
معنى: لا يُرى عليه أثر السفر
قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: {إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد}.
من يحكي مثل هذه الكلمات؟! أرأيتم أجمل من هذه الكلمات؟!
{لا يُرى عليه أثر السفر}.
السفر يا إخوان سفران: سفر له أوبة وهو السفر القصير، وهو سفرك من مكان إلى مكان، من الدمام إلى الرياض، فهو سفر مؤقت، وسفر لا أوبة بعده، وهو السفر إلى الدار الآخرة.
كان الحسن البصري يبكي إذا ودع أصحابه، ويقول:
وخفف وجدي أن فرقة واحد فراق حياة لا فراق ممات
يقول: أنا أبكي عليكم لكن السهل أنكم سوف تعودون.
قل لي بالله! من تفارقه من أصحابك وأحبابك وأبنائك كيف يكون شعورك بعده؟
لا لقاء إلا أن تكون صالحاً ويكون صالحاً، فيجمع الله بينكما في الجنة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].
التهامي رجل مفلق، التهامي من أكبر شعراء العرب، كان يحب ولده كما يحب الإنسان ولده، فلما مات ابنه؛ دفنه في حوش البيت من شدة حبه له، ودفنه قريباً من المجلس، لكن وهل ينفع ذلك؟ سواء دفنه وراء ألف ميل أو عند المجلس سيان، لكن انظر إلى شغف الوالد بولده! يريد أن يستأنس بقبر ابنه، فلما دفنه قريباً منه كان يبكي عليه في الليل والنهار، وكان يقول:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري d
يقول: جاورته في البيت، لكن ما رضي جواري بل جاور الله.
قال ابن كثير: رؤي التهامي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي.
قالوا: بماذا؟ قال: ببيتي المشهور:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
امرأة الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فقدت زوجها، فبكت عليه سنة، ونصبت خيمة حول قبره، وهذه أفعال لم يقرها الإسلام، وبعد أن انتظرت سنة هل يخرج لها الحبيب من القبر؟ لم يخرج، ولم يكلمها ولو ليلة، سكوت
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر
مكثت سنة تنتظر أن يكلمها بكلمة فما كلمها.
يقول المتنبي: مال أهل القبور لا يتحدثون؟ ما لهم لا ينطقون؟
أقول: يا متنبي! يقول الله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54].
يقول المتنبي:
خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلال مطلق
لكن لا يتكلمون نصبت خيمتها سنة، ثم اقتلعت الخيمة؛ فسمعت هاتفاً يهتف -والعهدة على أبي الفداء ابن كثير - قال هاتف لأخيه: هل وجدوا ما فقدوا؟
قال: لا.
بل يئسوا فانقلبوا.
قال: {لا يرى عليه أثر السفر} والإنسان في سفر، يقول سيد قطب -متعه الله بالجنة- عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] يقول كلاماً ما معناه: يا أيها الإنسان!
يا من حمل غمومه وهمومه! يا من حمل مقاصده! يا من حمل تبعاته! يا من حمل تصرفاته! إنك كادح إما في الخير أو في الشر كدحاً فملاقيه.
أرى كلنا يبغي الحياة بحبه حريصاً عليها مستهاماً بها حباً
وحب الجبان النفس أورده البقا وحب الشجاع الحق أورده الحربا
كلنا كادح، الذي في البارة والخمارة كادح، صاحب المخدرات كادح، صحاب السيجارة كادح، الذي يرقص على الأغنية الماجنة كادح، الذي يسهر أربع ساعات على البلوت كادح، والمصلي كادح، والذي يبكي في آخر الليل كادح، والذي يجلس مع هذه الطلعات الإيمانية الرائدة كادح، والذي يقرأ ويعلم الناس كادح، ولكن اللقاء عند الله الواحد الأحد.
وفي صحيح مسلم: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر الرجل يطيل السفر-قالوا: سفر الآخرة أو سفر الدنيا، في جمع الأموال أو في العبادة- أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟!}.(254/10)
معنى: ولا يعرفه منا أحد
قال: {ولا يعرفه منا أحد}.
والسؤال الذي أورده الشراح: لماذا يقول عمر: لا يعرفه منا أحد؟ هل جزم أن الناس لا يعرفونه؟
قالوا: على حسب ما ظهر لـ عمر، رأى الوجوه -وبإمكانك أن تستقرئ- أنه لم يعرفه أحد.
فأتى فجلس، ما أحسن الأدب! أدب طالب العلم! الشيخ محمد عليه الصلاة والسلام، والتلميذ: جبريل عليه السلام،
و
السؤال
لماذا أتى جبريل في هذه الفترة؟
قال أنس: [[منعنا من السؤال]].
منع الصحابة من السؤال لأن الله نهاهم عن كثرة الأسئلة؛ لأن الدعوة لو فتحت لاضطرت الأمة إلى تضييقات وإحراجات شديدة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة:101]
وقيل: السبب أن العرب كانوا يسألون أسئلة تافهة مثل وجوههم، يأتي الأعرابي ويربط ناقته في واد، ويقول: يا محمد! أين ناقتي؟ وهل يدري الرسول عنك وعن ناقتك؟! وهل أتى ليخبرك عن ناقتك؟!
أعرابي آخر قال: بماذا يبعث الدجال يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: {يبعث معه ثريد (أي: لحم وخبز) فيغوي الناس بثريده، فمن أطاعه، وأكل من ثريده غوى.
قال الأعرابي البدوي: والله الذي لا إله إلا هو لآكلن من ثريده حتى أتضلع، ثم أقول: آمنت بالله وكفرت بك}.
هؤلاء الأعراب تضيع الصحون معهم، لو يترك لهم صلى الله عليه وسلم المجال لسألوه في كل باب، وضيعوه عليه الصلاة والسلام، وضيعوا دعوته، فأتى الأمر (لا تَسْأَلوا) قفوا حتى يأتي الأمر من الله.
يقول أنس كما في الصحيحين: [[فكان يعجبنا الرجل العاقل الذي يأتي يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم]] ومن ثم أتى ضمام بن ثعلبة الذي مرت أحاديثه في جلسات، فسأل الرسول عليه الصلاة والسلام.(254/11)
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه مع أصحابه
دنا جبريل وأسند ركبتيه إلى ركبتي الحبيب عليه الصلاة والسلام، ما أحسن الصاحبين في رحلة ربانها محمد!
كفرت بـ لينين وأذناب نهجه وآمنت بالرحمن والفوز مطلب
أنا قصة من بدر أرسلها الهدى محمد يرويها وجبريل يكتب
قال: {جلس وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه}.
على فخدي من؟ على فخذي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأنس، وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام؛ لأن من الناس من تستطيع أن تضع يديك عليه.
كان صلى الله عليه وسلم ربما شبك أصابعه بأصابع أصحابه، وربما داعبهم، يأخذ بكتف الصحابي ويضمه، يأتي إلى زاهر في السوق، وزاهر بدوي، يبيع سمناً وعسلاً، فيقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: {زاهر باديتنا ونحن حاضروه}.
فأتى إلى زاهر وهو مشغول بالسمن والعسل، فأتى معلم الإنسانية وهادي البشرية من ورائه، فضمه إلى صدره وهو يقول عليه الصلاة والسلام: {من يشتري العبد، من يشتري العبد}.
وهو في السوق يحرج به، فأخذ زاهر يتفلت من يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ويلتفت، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ يتحنك بكتفيه لا يريد أن يتركه، ويقول: يا رسول الله! كأني كاسد؟ أي: كأني مفلس، فقال: {لكنك لست عند الله بكاسد}.
إنها تربية، والمداعبة في السوق تحتاج إلى محاضرات، لماذا داعبه؟ ولماذا حرج عليه؟ ولماذا مزح عليه؟ أعنده وقت فراغ عليه الصلاة والسلام؟
بعض الناس الآن من متصوفة القرن الثالث، يقولون: لماذا لا تمشط لحيتك؟ قال: مشغول بالعبادة.
عجيب! حتى في مشط اللحية مشغول؟! ومحمد صلى الله عليه وسلم رجَّل رأسه، ومشط لحيته، ومازح الأعراب، وحمل الأطفال، وصلى بـ أمامة، وصعد الحسن والحسين على ظهره صلى الله عليه وسلم، وداعب وضحك وسابق عائشة!
إنها حياة تكامل، روعة وجمال، أما أن تقصر في جانب وتظهر في جانب فهذا ليس بصحيح، بل هذا نقص.
أتى الرسول صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله، فضرب على صدره، ورجل آخر نفث صلى الله عليه وسلم وقرأ، كلها سكينة ولطف، وتجد بعض الناس من غلظته وفظاظته لا تستطيع أن تقربه، بينك وبينه ثلاثة أمتار، ولا تستطيع أن تنظر إليه، وإذا نظرت إليه تقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق! كأن سيف الحجاج بيده! {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم!!
{فوضع يديه على فخذيه، ثم قال: يا محمد!} لأنه لو قال: يا رسول الله! لكشف نفسه، فكأنه لا يدري بالرسالة ولا يدري بالرسول صلى الله عليه وسلم.(254/12)
الإسلام علم وعمل
قال: يا محمد! ما الإسلام؟ فأخبره عليه الصلاة والسلام بخبر علمي وعملي، وهذا تعريف الإسلام تعريف سهل بسيط، الإسلام لا يقتضي تعريفه محاضرات! الإسلام سهل بسيط، الإسلام تقبله العقول، الإسلام يوم ضبط بالكتاب والسنة أخذ يسري مثل الشمس، تنهار أمامه الشيوعية، يصبح الإسلام في مكان ويمسي في مكان آخر، يصبح في أذربيجان ويمسي في أوزبيكان، لماذا؟
لأنه الإسلام، لأنه الصدق والوضوح؛ لأنه يصل إلى النفس.
قال: ما الإسلام؟ قال عليه الصلاة والسلام في الجواب- ويستدل به البخاري على أن الدين عمل، ويأتي بهذا الحديث، قال: فأخبرهم عن دينهم، لأن المرجئة يقولون: إن الإيمان قول واعتقاد فقط، لا.
بل هو عمل يقولون: صلِّ أو لا تصلي، أنت مؤمن مثل المصلي، أنت وأنا مثل أبي بكر الصديق عند المرجئة!
ويقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص كلنا سواء! عجيب! أنا وأنت على ما قدمنا للإسلام يوم نصلي صلاة الجماعة! لا جاهدنا، ولا قاتلنا، ولا عذبنا، ولا دفعنا أموالنا مثل أبي بكر! لا والله ولا يكون هذا.
{قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً}.
جواب ما أحسن منه!
{قال: صدقت.
قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه!} لماذا عجب عمر؟
لأن الجاهل ليس عنده سابق علم، فلماذا يصدق أو يكذب؟
الطالب الآن إذا سأل الأستاذ وقال: يا أستاذ! ما حكم هذه المسألة؟ ثم قال: صدقت، أدبه الأستاذ، وسيقول له: تعلَّم الأدب، تصدقني أنت! أنت تدري أني صدقت أو كذبت، أصبت أو أخطأت في المسألة!
قال عمر: عجبنا لهذا السائل أتى ليسأل، ويقول: صدقت! كيف يصدِّق الرسول عليه الصلاة والسلام؟!(254/13)
مسائل في لا إله إلا الله
قوله: {الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله}
أولاً: شهادة أن لا إله إلا الله الدنيا أقيمت عليها، والأرض دمرت خمس مرات من أجل (لا إله إلا الله) رسالته عليه الصلاة والسلام تبدأ بلا إله إلا الله {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
يقول أبو هريرة كما في البخاري: {يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه}.
الله أكبر كل هم ينجلي عن قلب كل مكبر ومهلل(254/14)
حقيقة لا إله إلا الله
يقولون: لا إله إلا الله نطقها سلمان فركب في سفينة النجاة، فأصبح لسان الحال يقول بين العواصف: {سلمان منا آل البيت}.
ولا إله إلا الله كفر بها أبو طالب فأصبح في ضحضاح من النار، في أخمصه جمرة يغلي منها دماغه.
(لا إله إلا الله) تحول العبد من رعديد في مسلاخ الحمار إلى ولي من أولياء الله، والذي لا يحمل (لا إله إلا الله) أحقر وأذل من الحمار، يرقص ويشجع ويطرب ويغني ويزمر، لكن ما عليه نور أبداً؛ لأن شجرة (لا إله إلا الله) ما غُرست في قلبه
وأعطوني من الإيمان ديناً شباباً مخلصاً حراً أمينا
أمد يدي فأقتلع الرواسي وأبني المجد مؤتلفاً مكينا
الرواسي تدكدك بلا إله إلا الله.
يدخل جنود محمد صلى الله عليه وسلم إيوان كسرى، فيهللون؛ فيقع الإيوان في الأرض.
يدخل محمد صلى الله عليه وسلم الحرم المكي وفيه ثلاثمائة وستون صنماً؛ فيقول: لا إله إلا الله {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] فتتنكس الأصنام على وجوهها
يا غارة الله جدي السير مسرعة في سحق أعدائنا يا غارة الله
الآن من الناس من يقول (لا إله إلا الله) وهو لا يصلي! ويقول (لا إله إلا الله) وهو لا يزكي! ويقول: (لا إله إلا الله) وهو لا يحمل الإيمان، بل يهاجم أهل الإيمان ويستهزئ بهم، فهي كلمة فحسب.
يوم أصبحت (لا إله إلا الله) كلمة في البراويز؛ أصبحنا كالعجائز من المعاجيز.
ويوم أصبحت كلمة (لا إله إلا الله) معلقة في الدكاكين؛ تأخرنا في رحاب الضالين.
ولكن (لا إله إلا الله) تنبعث من جديد؛ لتشهدها هذه الصحوة المباركة، رائدها محمد عليه الصلاة والسلام، ومصدرها الكتاب والسنة، وأنتم أساتذتها، ولك الحمد يا رب.(254/15)
اشتقاقات لا إله إلا الله
يقول أهل العلم: من (لا إله إلا الله) اشتقاقات: الحسب، والتوكل، والمحبة، والقصد، والإرادة.
فأما الحسب: فنطق بها إبراهيم فأصبحت النار هباءً منثوراً، وأصبحت باردة.
كيف الحسب؟ قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، والحسب نطق بها موسى ففجر الله له البحر، اضطرب موسى ووراءه فرعون بستمائة ألف، وقيل: بأكثر، وأمامه البحر، فالتفت؛ فقال هارون: نغرق اليوم! قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] بسم الله، حسبنا الله ونعم الوكيل؛ فانفجر البحر.
سبحان الله! الماء يغرق ولكن بحسبنا الله ونعم الوكيل لا يغرق.
والنار تحرق ولكن إذا أتت (حسبنا الله ونعم الوكيل) لا تحرق، فإبراهيم ما أحرقته النار؛ لأنه التجأ إلى الواحد الغفار، وموسى ما غرق في البحر؛ لأنه التجأ إلى البر الرحيم.
يدخل أحد الخوارج على أحد الصالحين بالسيف، وأراد هذا الصالح أن يضحك على هذا الخارجي، فـ الخوارج يكفرون الناس، مسلم يصلي ويعبد الله ويقرأ القرآن في البيت؛ فدخل الخارجي عليه بالسيف، يقول للصالح الذي يبكي من القرآن وهو فاتح للمصحف من ربك؟ قال: ربي البر؟ أي: الله، البر الرحيم، لكن الخارجي يتصور أنه يعني الصحراء!
قال: ومن نبيك؟ قال: أميٌّ، أي الأميٌّ صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً منهم} [الجمعة:2] فقال: حق دمك.
قال: أسألك بالله أن تنتظرني حتى أتشهد، ثم دعا الناس وقال: اشهدوا عليه، أجبته بجواب ما فهمه، هل يستحل دماء المسلمين بهذا الجواب؟ حسيبك الله يا خارجي، لا تفقه من الدين شيئاً وإنما هذا استطراد.
قال: شهادة أن لا إله إلا الله، ومنها الحسب (حسبنا الله ونعم الوكيل) وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: [[حسبنا الله ونعم الوكيل! قالها إبراهيم لما أُلقي في النار؛ فجعلها الله عز وجل برداً وسلاماً]].
كيف قالها؟
وضع في المنجنيق؛ فلما ركب في المنجنيق وأصبح في الهواء -تصور إبراهيم عليه السلام إمام العقيدة وأستاذ التوحيد، وشيخ الإسلام في الهواء بين الأرض والمنجنيق والنار- أتاه جبريل في الجو في موقفٍ حرج ليس أحرج منه موقف وقال: يا إبراهيم! ألك إلي حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم.
مد الجسور إلى الرحمن معتمداً واشدد يديك فإن الرب برهان
والزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
يقولون للإمام أحمد إمام أهل السنة، وهو يجلد بالعصا على رأسه ويمزع جسمه: كيف التوكل؟ قال: مثل إبراهيم: يأتيه الجنود والحرس والوزراء، يقول ابن خاقان: يا أحمد ويعرض عليه خدماته.
قال: لا أريد الخدمات.
أتريد شيئاً؟ قال: أريد الله.
صدق الإمام أحمد، ولذلك دكدك الإمام أحمد جيوش المعتصم ومن معه وانتصر، وهو وحيد وما هاب؛ لأن الله ثبته وكان معه.
فألقي إبراهيم في النار فكانت برداً وسلاماً.
أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في أحد، وقد أنهك أصحابه وأصبحوا جرحى، وقالوا: يا رسول الله! إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، قال الله: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
يذكر عن علي بن أبي طالب وكان في الكوفة يقضي بين اثنين، تحت جدار، والجدار يريد أن ينقض -ويريد أن ينقض ليس من المجاز بل هو من الحقيقة، وهذا وصف الله بأنه يريد أن ينقض- قالوا لـ علي: يا أمير المؤمنين! الجدار يريد أن ينقض عليك.
قال: [[حسبنا الله ونعم الوكيل]].
وهي كلمة تقال للتوكل لا للتواكل، لا تأتِ وترم بنفسك من على عمارة مرتفعة، وتقول: حسبنا الله ونعم الوكيل! نعم، ولكن رأسك سوف يكون مع الكفرة في الأرض، ولا تأت وتنام في الطريق، وتقول: حسبنا الله ونعم الوكيل! هذا ليس من هذا.
فقام علي من المكان، فلما ذهب سقط الجدار مكانه، وسَلِمَ علي، وهذه كرامة من كرامات الأولياء إن صحت عنه.
وفي (لا إله إلا الله) محبة ذاقها الصحابة، فقد قدموا أرواحهم رخيصة في سبيل الله عز وجل.
وفي (لا إله إلا الله) إرادة، فتعلق إرادة العبد بالله عز وجل حتى ما يراد إلا هو.
وفي (لا إله إلا الله) اعتماد، دخلوا على أبي بكر الصديق في مرض الموت، قالوا له: ماذا تشتكي؟ قال: ذنوبي.
لا إله إلا الله! أبو بكر يشتكي ذنوبه! فكيف بنا نحن المذنبين المقصرين؟
أبو بكر الذي ما وجد وقتاً ليذنب، من يوم أن أسلم وهو في قوة وفي جلاد، وسهاد، وجهاد، وعبادة وزهد، قدَّم دمه ودموعه ووقته رضي الله عنه وأرضاه، قالوا: ماذا تشتكي يا خليفة رسول الله؟
قال: أشتكي ذنوبي.
قالوا: ماذا تريد؟
قال: أريد المغفرة.
قالوا: ألا ندعو لك طبيباً؟
قال: الطبيب قد رآني.
قالوا: ماذا قال؟
قال: يقول: إني فعال لما أريد.
أتته ابنته عائشة وهو في سكرات الموت، فقالت: يا أبتاه -وهو يلفظ الأنفاس الأخيرة إلى جنة عرضها السماوات والأرض- يا أبتاه! صدق الأول (تعني حاتم الطائي):
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فالتفت إليها مغضباً، وقال: يا بنية! لا تقولي ذلك، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22].
عفاء على دنيا رحلت لغيرها فليس بها للصالحين مُعَرَّجُ
كدأب علي في المواطن كلها أبي حسن والغصن من حيث يخرج
جمعنا الله بهم في دار الكرامة!
هذا الاعتماد على الله عز وجل، والتفويض إلى الله، والافتقار إليه، ولذلك جاء في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: أقرب الناس إلى الله أشدهم افتقاراً إليه.
وله قصيدة اسمها (الفقرية) يقول في مطلعها:
أنا الفقير إلى رب السماوات أنا المسيكين في مجموع حالاتي
الفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي
انظر إلى شعر ابن تيمية! شعر علماء، ليس كمثل شعر الشعراء، شعر عالم.
يقول: ابن دقيق العيد في بيت له:
واختلف الأصحاب في وجدنا فرجحوا نجواك وهو الصحيح
كأنه من متون الفقه! فـ ابن تيمية كان يجيد هذا، وشاهدنا لـ ابن تيمية أنه افتقر واعتمد على الله فنصره الله.
دخل الإسكندرية، فقالوا له: إن الناس قد جمعوا لك يريدون قتلك وذبحك، فنفخ في يديه -وكان شجاعاً صنديداً يركب الأهوال مثل الجبال، كان يدوس الرجال وهو فرد
كأنه وهو فرد من جلالته في موكب يوم تلقاه وفي حشم
فنفخ في يديه، وقال: والله كأنهم الذباب.
دخل على الناصر قلاوون، فأصابت السلطان قلاوون حمى من ابن تيمية، رأى النجوم في النهار، علمه درساً في العقيدة لا ينساه، أراد أن يفترس ابن تيمية فافترسه ابن تيمية، كان قلبه قوياً، لماذا؟
كان ابن تيمية إذا صلى الصبح يبقى إلى الضحى يردد الفاتحة، ويستجلي أخبار ودرر وكنوز الفاتحة، كانت مصادرهم الكتاب والسنة، فقوي اعتمادهم وحسبهم وإيمانهم، وأصبح مصادر تلقينا أو بعضنا ما يلقى في الساحة من عفونات وأفكار البشر، فأصبحت ثقافتنا جامدة هامدة، ولا تجد هناك إلا قلة أعلنت توجهها وهم شباب الصحوة.
لكن أبشر هذا الكون أجمعه أنَّا صحونا وسرنا للعلا عجبا
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضبا
عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنبا
أعرابي يصلي في الصحراء، قالوا: لمن تصلي؟ قال: لله.
قالوا: هل رأيته؟
قال: البعرة تدل على البعير، وأثر القدم يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وليل داج، أفلا تدل على السميع البصير؟!
هذا توحيد غرسه محمد صلى الله عليه وسلم، وأهل الدكتوراة كثير منهم شهاداتهم معلقة عندهم في البيوت عليها عشعش العنكبوت وما نفعتهم في الإيمان ولا في الحسب، ولا التوجه، ولا في المحبة، والإرادة.(254/16)
إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
قال: {وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة}
السؤال
لماذا لم يقل: تصلي، إنما قال: تقيم الصلاة؟
أي: تصلي صلاة تمنعك من الفواحش، تصلي صلاة تصلك بالله؛ لأن قطاعاً هائلاً من الناس اليوم يصلون لكن انظر إلى صلاتهم، يعلقونها بعد الصلاة في الأبواب، يقول: مكانك تحمدي أو تستريحي حتى صلاة العصر! ويقول: إن الله غفور رحيم، ولكن تدخل البيت فإذا الربا أمامك كالجثمان، والغناء والفتون والفجور والإعراض والفاحشة!
الصلاة يقول الله عنها: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]
وما وقع من وقع في خزعبلات وتراهات ومعاصٍ وفواحش إلا يوم أخل بالصلاة، نسأل الله السلامة والعافية.
الصلاة قرة عين المصطفى عليه الصلاة والسلام.(254/17)
بلال من مكة إلى بيت المقدس
وفي صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم في مرض الموت سمع نداء الحبيب بلال، أذن بلال بندائه الشجي، بلال يؤذن في الفتوحات والانتصارات، ففي فتح مكة المؤذن بلال، دخل صلى الله عليه وسلم مكة وسقطت مكة بيده، فقال: يا بلال! قم فأذن.
لماذا اختار بلالاً؟
ليسمع صفوان بن أمية وأبناء أمية بن خلف، ورعاديد أبي جهل، هذا الذي كانوا يسحبونه على الرمال ويعذبونه وهو يقول: أحد أحد، أحد أحد، أحد أحد وهم يذيقونه العذاب.
قم أذن؛ فارتقى الكعبة، فيقول أحد الجاهليين لأخيه: ما كنت أظن العيش يطول بي حتى أرى هذا الغراب الأسود يؤذن من على الكعبة! ويقول الآخر: إن من الفوز للوليد أنه مات قبل أن يرى هذا الأسود يؤذن ويصيح من على الكعبة.
لا والله إنه صوت الحق، وأذن بلال فبكى المسلمون، ومرة ثانية أذن بلال في بيت المقدس يوم شهدها وقادها عمر هناك.
خرج عمر ليأخذ مفاتيح بيت المقدس، فما خرج بحرس ولا بجنود، حارسه الله، كان قلبه معه يحمل التوحيد، قال لمولاه: [[أنا وإياك على الناقة.
فقال عمر للمولى -ودائماً عمر عادل حتى في السفر والركوب والمشي: أنت تركب برهة وأنا برهة.
قال: يا أمير المؤمنين! أنا مولى.
قال: والله لتركبن برهة وأنا برهة، والذي ينزل منا يقود الجمل]] فقال: سمعاً وطاعة.
فكان عمر يركب قليلاً؛ فإذا تعب المولى نزل عمر وقاد الجمل وركب مولاه! يريد عمر أن يستلم مفاتيح بيت المقدس، وهذا حدث عالمي أعظم من حوادث هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن على التاريخ.
والجيوش أمامه، بقيادة عمرو بن العاص وأبي عبيدة، وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان، كل واحد بجيش مثل الجبل.
لكن عمر لم يأخذ جيشاً، وانتظر الصحابة قدوم عمر وواجهوه في الطريق، فأشرف عليهم وإذا هو بثيابه القديمة المرقعة، والعصا في يده، وهو يقود الجمل، قال عمرو بن العاص: [[فضحتنا يا أمير المؤمنين]].
يقول: النصارى ينتظرونك تأخذ المفاتيح في أبهة وفي حرس ووزراء ومستشارين وفي كبار الصحابة، وتأتينا بجمل وزيادة على ذلك أنك أنت الذي تقوده!! فقال كلمة لو سمعها الدهر ووعاها، ولو وعتها القلوب وحفظتها، يقول: [[نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]].
والله لما أصبحنا أمة لموع وسطوع وألوان؛ اندحرنا والله، [[نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]].
فأتى الصحابة وقالوا: نمشي معك يا أمير المؤمنين! قال: لا.
انصرفوا.
وذهب عمر، فخرج النصارى ليروا ويسمعوا عمر، هذا الإمام المعتبر، عمر الذي دوخ الدنيا، عمر الذي تخاف منه العجوز في حجر دارها وهي في بيت المقدس.
خرجوا على السطوح فاقترب عمر، وأتت النوبة للمولى ليركب، واقتربوا من دخول بيت المقدس، فقال مولاه: النوبة لي يا أمير المؤمنين وهي لك؛ لأننا اقتربنا من الناس.
قال: والله لا تنزل ولا أركب.
واقترب عمر يقود الجمل، فرفع ثيابه من الطين عند مدخل بيت المقدس، فتباكى الناس على أسطح المنازل.
إنه والله موقف مؤثر، بكوا من هذا الإمام العظيم، يرفع ثيابه من الطين، يالك من عظيم!! رعاك الله! ثم تقدم إلى بيت المقدس؛ فقال: يا بلال! عزمت عليك أن تؤذن هذا اليوم؛ لأن بلالاً اعتزل الأذان بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، قدم استقالته لـ أبي بكر وقال: والله لا أؤذن لأحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
فقال عمر: كفر عن يمينك يا بلال، وأسألك بالله أن تؤذن.
فأتى بلال! فرفع صوته بأذان الفتح.
لا إله إلا الله! فبكى الصحابة والجيش جميعاً، فقد ذكرهم بالحبيب:
وداعٍ دعا إذ نحن بـ الخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائراً كان في صدري
فتوحات وتوكل على الله، والشاهد: الصلاة.
أتى صلى الله عليه وسلم وهو في مرض الموت، فسمع بلالاً يقول: الله أكبر الله أكبر! فقام فتعثر صلى الله عليه وسلم فسقط، فغسل بالماء فأغمي عليه خمس مرات، وفي الأخير قال: مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس.
وسارت هذه الكلمة فبكى الصحابة في المسجد، أشرف رجل من طرف المسجد؛ فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
أين الإمام؟ تعطل الإمام، أين الحبيب؟ جلس الحبيب بأبي أنت وأمي!
فداً لك من يقصر عن فداكا فلا ملك إذاً إلا فداكا
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
قال: مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس، قال: صلِّ يا عمر بالناس؟ قال: أنت أولى؛ فتقدم أبو بكر، فلم يعرف الناس ماذا قال في الصلاة من كثرة البكاء على فقد إمام يقود الأمة إلى قيام الساعة، إلى الجنة، من تخلف عن ركبه والله لا يذوق سعادة، ولو جمع أموال الدنيا.
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {والذي نفسي بيده! لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار} والله جلت قدرته يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].(254/18)
حقيقة الزكاة
: {وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة}.
والزكاة لها أمور:
زكاة القلب تقوى الله، وزكاة العين غضها والنظر بها في آيات الله، وزكاة الأذن استماع الحق وكفها عن الباطل، وزكاة اليد نفع الناس وعدم البطش، وزكاة اللسان إنفاق ما أعطاك الله من العلم والدعوة والأمر بالمعروف، وحبسه عن الغيبة والنميمة والزور.
وبالمناسبة أيها الإخوة! يا مباركين! يا أخيار! يا أبرار! نحن في هذا المجلس في تكييف عجيب، وفي راحة وفي هدوء واطمئنان، الثريا على رءوسنا، والهدوء ينتابنا، والارتياح معنا، والسكينة حلت علينا، لكن إخواننا رفعوا السلاح في الجبهات في أفغانستان، الموت ينتظرهم صباح مساء، يريدون أن يرغموا الكافر، لكنهم يريدون مساعدتهم مادياً، وبعد صلاة العشاء نرجو أن تقدموا لهم ما يحتاجونه من أموال لتلك العمائم التي ارتفعت بها (لا إله إلا الله) لتلك العمائم التي أرغمت أنف جرباتشوف وبريجنيف في الطين في التراب، لتلك العمائم التي رسمت (لا إله إلا الله) في هيئة الأمم.
وهنا أبشركم بخبرين سارين: الخبر الأول وهو آخر خبر: أن مدينة هرات قد سقطت في أيدي المجاهدين، والعهدة على الأستاذ يوسف الحمدان، حدثنا بسندٍ رجاله ثقاة، سقطت هرات قبل يومين، ودخلها المجاهدون بالسلاح وبالكلاشنكوف بعد أن صلوا الفجر، فقد أرسل حكمتيار كتيبة إلى هناك وهم يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
الخبر الثاني من نيويورك: أول مرة في عمر هيئة الأمم يصلَّى فيها صلاة الظهر أثناء انعقاد الجلسة الأخيرة، عندما صلاها وفد المجاهدين الأفغان هناك، حيث قام رئيس الوفد بحضور رئيس هيئة الأمم، فأخذ الميكرفون وحوله ورفع الأذان في هيئة الأمم؛ فخرج وفد إسرائيل، ووفد تشيكسلوفاكيا ودولة أخرى، وبقي الناس مشدوهين مثل الماعز.
أما تعرفون هؤلاء المؤذنين؟! هؤلاء أبناء خالد، وسعد، وطارق، وصلاح الدين، أتوا يؤذنون في هيئة الأمم المتحدة، وهيئة الأمم المتحدة هي لهم وليست لكم يا كفار، وانزلوا من على الكراسي، واخرجوا من هذه الدنيا، فالأرض أرض الله، وهي للمجاهد المسلم.
قام رئيس وفد المجاهدين يؤذن بصوته الجميل وعليه عمامته؛ ليخبر جرباتشوف أن الصحوة في كل مكانـ وأن الدين الإسلامي هو المهيمن على كل الملل والنحل، يقول الناس: إن الخبر هذا نقل على بعض الشاشات فأخذ المسلمون يبكون في مشارق الأرض ومغاربها.
هيئة الأمم النجسة المنتنة التي ما رفع الأذان فيها مرة قط، حتى قام المجاهد الأفغاني هذا بثيابه التي لا تعادل عشرة من الريالات، يوم أتى الظهر أوقف رئيس هيئة الأمم المتحدة، ماذا تريد؟ حول المكرفون إليه، ثم دوى في المجلس: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، حتى ظن الأمريكان أنه رفع القلم عن المجاهدين، وهو ما رفع القلم إلا عن أذناب العملاء الخونة، أما أولئك فالله يكتبهم في الخالدين.
إلى جنة الرضوان سرنا كتائباً نسجل في التاريخ أقدامنا دما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياةً مثل أن أتقدما
فليست على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
فهم يريدون المساعدة، والمعاونة، والإغاثة لكم بالمرصاد عند الأبواب، بكراتينها، الكرتون يأخذ أربعمائة ألف أو خمسمائة ألف وهو يفضل أن تكون العملة من ورق الخمسمائة، فإن لم يكن فمن المائة، فإن لمن يكن فمن الخمسين، ومن تصدق بعشرة جاز، ومن تصدق بريال نفع، ولا يغيب على الله شيء، من تصدق بصدقة؛ فإن الله يقبلها ويربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه، حتى تصبح كـ جبل أحد، أنتم أهل البسالات، خاصة المنطقة الشرقية، يقول أحد المجاهدين: أكثر نسبة من الشهداء في الدول الإسلامية من المنطقة الشرقية، أكثر الشهداء من هنا، واسألوا الصحف واسألوا الأنباء، فمثلما قدمتم أرواحكم، قدموا أموالكم يثيبكم الله، صح فيكم قول الشاعر:
هم القوم يروون المكارم عن أبٍ وجدٍ كريمٍ سيدٍ وابن سيدِ
وهزتهم يوم الندى أريحية كأن شربوا من طعم صرخد
ويطربهم صوت الصوارم في الوغى بيوم الوغى لا ما ترى أم معبدِ
وغيرهم يهتز للغناء والمجون، وهم يهتزون لـ (لا إله إلا الله) والإسلام، فرفع الله منزلتنا ومنزلتكم في الدنيا والآخرة.(254/19)
إجابة الرسول عن بقية أسئلة جبريل
والسؤال طويل في هذا الحوار الشائق مع محمد عليه الصلاة والسلام وجبريل عليه السلام، ولكن ماذا أفعل؟ بياني يقصر، وكلماتي تتلعثم، وهذا الحديث وحده هو منهاج، وهو دستور، وهو حياة، ماذا أقول؟ ماذا أتحدث؟ كيف أتصرف مع الألفاظ؟
إنه يحتاج إلى كلام طويل، ثم يقول في آخر الجواب من السؤال الأول في الفقرة الأولى: {وأن تحج بيت الله إن استطعت إليه سبيلا}.
ثم سأله: ما الإيمان؟ فأجابه.
ثم سأله: ما الإحسان؟ فأجابه.
ثم سأله: ما الساعة وما علاماتها؟ فأجابه.
فشكر الله للسائل وللمسئول، وجمعنا الله عز وجل بمحمد عليه الصلاة والسلام.(254/20)
فوائد من حديث جبريل
هذا الحديث وحده جعله العلماء قاعدة من قواعد الدين، وهو أصل أصيل، وفيه فوائد:
الأولى: أدب السؤال، وهذا أمر افتقرنا إليه يوم افتقدنا مصدر التلقي من الكتاب والسنة، وكيف تسأل؟ وكيف تكون سائلاً؟
الثانية: حرص المسلم على طلب السؤال، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
الثالثة: الجواب الذي يجيبه عليه الصلاة والسلام، وأجوبته صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام:
1/المطابقة.
2/ الجواب الحكيم.
3/ الجواب بأكثر من السؤال.
المطابقة: كأن يفتي السائل، فيقول: نعم أو لا.
وجواب الحكيم: أن يترك السؤال ويفتي بجواب لسؤال آخر، مثل قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]
وأما الجواب بأكثر من السؤال فمثل حديث: {إنا نركب البحر ثم قال السائل: فهل نتوضأ بماء البحر؟ قال: نعم، هو الطهور ماؤه، الحل ميتته}.
والرسول عليه الصلاة والسلام استخدم (لا أدري) ثلاث مرات في حياته، فقد روى الحاكم بسند صحيح، قال عليه الصلاة والسلام: {لا أدري! أذو القرنين نبي أم لا؟ ولا أدري أتبعٌ لعين أم لا؟ ولا أدري هل الحدود كفارات لأصحابها أم لا؟}.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجيب نظر إلى حال السائل فأعطاه جواباً يناسب حاله، فقد ثبت في حديث صحيح أن غيلان الثقفي أتاه وهو قوي البنية، وقال: {يا رسول الله! دلني على أفضل عمل.
قال: عليك بالجهاد} أعطى القوس باريها، وأتاه الشيخ الكبير ابن بُسر وقال: {دلني على عمل.
قال: عليك بذكر الله} وأتاه أبو أمامة فقال: {دلني على عمل؟ فقال: عليك بالصيام} لكن من يستطيع على هذه الأجوبة إلا رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.(254/21)
نداء إلى الأم المسلمة
أيها الإخوة: أوجه كلمة إلى النساء:
أولاً: أسأل الله لي ولكم وللنساء مغفرة عامة وخاصة، وإني لأحمد الله على ما هناك من صحوة في جانب النساء وعودة إلى الواحد الأحد، ولكن الأم المسلمة أطلب منها قضية واحدة: أن تدخل حديث جبريل بيتها، لكن لا تدخله في ورقة معلقة، ولا في برواز ملصق بحائط، ولا في شريط فحسب، تدخله بقلبها ولحمها ودمها في قلب طفلها، تنقش هذا الحديث في قلب الطفل، تربيه على طاعة الله، وعلى (لا إله إلا الله) من يوم يولد الطفل في الإسلام وهو ينقش في قلبه (لا إله إلا الله).
فيا أمة الله! الطفل اليوم مسئوليتك، أنتِ الرائدة في البيت، اكتبي في قلب الطفل (لا إله إلا الله).
أما أن يرسل الطفل فقط ثم يعود من كل مكان بأشعار وبأخبار، وأسعار وأمطار، ولا يحمل عقيدة ولا مبادئ، ما ينشد إلا اللعنات والسباب والشتائم؛ فهذا مسئولية الأم، وهي التي تحاسب عند الله.
الطفل الذي ينشأ على الموسيقى ينشأ راقصاً، حتى تجد بعض الأطفال إذا انتظر عند الدكان ليأخذ غرضاً يرقص في وقت الفراغ، لا يريد أن يضيع شيئاً من حياته! وبعض الأطفال يهز رأسه في الفصل، متعلم ومتدرب على الغناء، وبعضهم يذهب بدون وعي فينشد أغاني، وإذا قلت له: اقرأ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] قال: لا أحفظ هذه السورة.
هذا من القرآن؟ قلنا: نعم من القرآن.
قال: متى نزلت؟ قلنا: نزلت قبل أن تدخل الموسيقى بيتك، وقبل أن تحفظ الأغنيات الماجنات، وقبل أن تتربى في هذا الجو المعتم، الجو الضائع، والطفل ولد مؤمناً لكن حسبنا الله، يريد بعض الناس أن يجعلوه ملحداً ومنحرفاً، لا! الطفل مؤمن، أتى بقرطاس من بطن أمه مكتوب على جبينه (لا إله إلا الله) {كل مولود يولد على الإسلام؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه}
أتى حنيفاً مسلماً، لكن يبدأ التحركات، يرى أباه لا يصلي فيقلده، ويراه يكذب ويخون فينشأ خائناً كذاباً، ووالله إنه ولد أميناً صادقاً خائفاً من الله {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].
يا أم! يا أخت! يا مسلمة! أنت مسئولة أمام الله في أطفالك، أدخلي القرآن في قلوب أطفالك، أدخلي ذكر جبريل وذكر محمد صلى الله عليه وسلم في البيت، ضوِّئي البيت بالحديث النبوي علَّه أن يحيا حياة سعيدة طيبة.
اللهم ثبتنا يا رب العالمين! واقبلنا فيمن قبلت، واغفر لنا خطايانا وذنوبنا.
يقولون في الدمام صحب وإخوة وأسكنتهم لحمي وأسقيتهم دمي
فإن رضوا فلا اللحم يسقي ولا الدم يكفي، ولكن الحب في الله وكفى.
أسأل الله أن يجمعني بهم في دار الكرامة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(254/22)
الأسئلة(254/23)
نصيحة لرجل كبير السن مازال عاصياً لله
السؤال
نريد منك بعض النصائح المختصرة حول رجل كبير في السن وما زال مصراً على بعض المعاصي؟
الجواب
أشكر السائل على شعوره الطيب، وأثابه الله وأكرم مثواه وإياكم، وأما عن حال هذا الرجل الكبير في السن فأمر عجيب ونبأ غريب! الإنسان إذا شاب رأسه وشابت لحيته أتاه النذير.
الإنسان إذا احدودب ظهره وكلَّ بصره وسمعه وقلبه أتاه النذير.
الإنسان إذا فقد الشهية ظمأ إلى لقاء الله عز وجل.
الكبير إذا جاوز الستين كان عليه حقاً أن يشتري كفناً أو يتهيأ، فقد أصبح بينه وبين القبر قاب قوسين أو أدنى.
أحد الفضلاء من الأدباء كان فقيراً يجمع الأموال، يجمع ويجمع، فلما أصبح في الثمانين رزقه الله بمال كثير! فقال:
ما كنت أرجوه إذ كنت ابن عشرينا رزقته بعدما بلغت سبعينا
قالوا أنينك طول الليل يسهرنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا
يقول أطفاله: ما تتركنا ننام، تتأوه علينا في المنام، اتركنا ننام، من ماذا تشتكي؟ أظلمك أحد؟ قال: الثمانين.
أهجرك أحد؟ قال: الثمانين.
آذاك أحد؟ قال: الثمانين
قالوا أنينك طول الليل يسهرنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أنه قال: {أعذر الله امراً بلَّغه ستين سنة} أي: انتهى العذر، يأتي يوم القيامة يقول الله عز وجل له: لماذا فعلت؟
قال: ما أمهلتني حتى أتوب! ما أمهلك وقد أصبحت بعمر ثلاثة حمير؟! الحمار يعيش عشرين سنة، وأنت عشت عمر ثلاثة حمير وما تبت؟! قال: والله لو أمهلتني سنة لكنت ترى ماذا أصنع!
سبحان الله! ستين سنة تجعل السفيه عاقلاً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان} شايب ويزني! ليته شاب؛ ولا يعذر الشاب؛ بل الزنا فاحشة! بل هو وصمة عار! بل هو ذنب! بل هو كبيرة من الكبائر! لكن
وكنت مع الصبا أهدى سبيلاً فما لك بعد شيبك قد نكثتا
مشيت القهقرى وخبطت عشوا لعمرك لو وصلت لما رجعتا
والله لو أطعت الرحمن لما رجعت، عمره ستون ويزني! ستون ومخرف! ويرقص على الأغنية! ويسهر مع الشيشة والدخان والبلوت في المقهى! هذا مجرم، ما كأنه يريد الخير، ولكني لا أقصده لذاته وإنما أقصد من يفعل ذلك؛ لكي يتوب.
يذكر هذه القصة مثل صاحب الحلية وغيره، يقولون: كان رجل من بني إسرائيل عمَّره الله ثمانين سنة، أما الأربعين فصلح فيها أيما صلاح، أطاع الله، ثم أدركه الخذلان فعصى الله أربعين سنة، وأصبح شيبة، فالتفت إلى المرآة ورأى صورته وإذا به قد شاب
رأين الغواني الشيب لاح بعارضي فأعرضن عني بالخدود النواضر
الشيب عجيب! الشيب نذير يقودك إلى القبر!
قال: يا رب! أطعتك أربعين سنة، ثم عصيتك أربعين سنة، أتقبلني؟
فسمع قائلاً يقول: أطعت الله فأحبك الله، وعصيت الله فأمهلك الله، وإذا عدت إلى الله قبلك الله.
ومع ذلك؛ فباب التوبة لا يزال مفتوحاً، فبعضهم تاب في التسعين، أصبح قاب قوسين منحني على عصاه، وكان في انحنائه على عصاه مجرماً ثم تاب، تداركه الله بتوبة قبل أن يموت بشهر أو بشهرين فتاب الله عليه، فالله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
وأنا أوصيك مع كبير السن بأمور:
أولاً: أن تنزله منزلته، فبعض الشباب إذا تكلم مع الشيخ الكبير كأنه يتكلم مع طفل، أما تدري أن هذا الشايب الكبير يظن أنه الإسكندر المقدوني أو فاتح الدنيا؟ فلابد أن تنزله منزلته، وتقول له: أنت أكبر تجربة، وأكبر عقلاً، وأكبر عمراً، ولكن ما رأيك حفظك الله في كذا؟
ثانياً: ألاَّ تجرحه وتنصحه أمام الناس، تدعو ضيوفاً وإذا اجتمعوا في المجلس تقوم وتقول: وأنت حفظك الله فعلت كذا يوم كذا وكذا هذا يزيده غلولاً وحقداً وغشاً ولا يقبل منك.
ثالثاً: أن تحاول أن تسلط عليه بعض الدعاة المقبولين، إما بداعية أو بكتاب أو بمصحف أو بشريط، أو بدعوة في ظهر الغيب، ثم اجعل الأمور لله ولا تيأس من روح الله.(254/24)
افتقار الصحوة إلى بعض الأمور
السؤال
شباب عادوا إلى الله وصحوا من غفلتهم، فما نصيحتكم لمثل هؤلاء في بداية صحوتهم؟
الجواب
الصحوة ليست فقط عندنا، ليست في الرياض ولا في الدمام ولا في جدة ولا في أبها، هذه الصحوة مرت على الأخضر واليابس، هناك صحوة في أوزبيكان وأذربيحان وتشيكوسلوفاكيا، والله في استراليا أتت رسالة قبل مدة -والحسيب الله- من رجل لا أدري هل هو فلسطيني أو سوري، كتب يقول: الأشرطة التي تلقى بعد أسابيع تصلنا في استراليا، وإن الصحوة تجتاح الشباب المسلم هناك، والناس يدخلون في دين الله أفواجاً في استراليا سبحانك يا رب!
حتى استراليا تعيش في صحوة!
نعم؛ لأنها أرض الله، وبلد من بلاد الله، فهذه الصحوة أصبحت في كل قطاع، كل الناس يريد أن يركب في موكب النور الذي أتى به صلى الله عليه وسلم، ذاقوا العمالات والسخافات، جربوا لينين فوجدوه ملعوناً، جربوا هتلر فوجدوه ملعوناً، جربوا كانت وديكرت أحمقين ملعونين؛ فأتوا إلى محمد عليه الصلاة والسلام فوجدوه نوراً وإماماً معصوماً صلى الله عليه وسلم!
خذ ما رأيت ودع شيئاً سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
لكن هذه الصحوة تحتاج إلى أمور:
أولاً: تحتاج إلى علماء ومشايخ وقضاة ودعاة ينزلون للساحة، هذه الصحوة مثل الجمل الهائج، جمل ترسله بلا خطام، هذا الجمل يكسر الحيطان، ويدخل الحدائق، ويقتحم البيوت والمنازل، جمل شجاع لكن ما عنده خطام! هذه الصحوة مثل السيل تحتاج إلى نظام حبس وصرف، ونظام الحبس والصرف هم العلماء، والقضاة، وكتاب العدل، والدعاة، لينزلوا للشباب في حلقات ولو مصغرة، ولو لم يحضر الحلقة إلا واحد أو اثنان أو ثلاثة؛ فإن الله سبحانه وتعالى سوف يبارك فيهم، فقضية نزول العلماء أمر عظيم وأمر مطلوب، وهم مدعوون في كل مكان إلى أن يقيدوا هذا الصحوة ويرتبوها.
ثانياً: أن يحرص الشباب على التحصيل العلمي الشرعي، فصحوة بلا علم لا تساوي شيئاً، تثير حماساً وهيجاناً، فالصحوة تكون بعلم وبتأصيل، ومصدر التلقي هو الكتاب والسنة.
ثالثاً: لا اختلاف! دعونا من الخلافيات، دعونا من النزاع، دعونا من الضغينة، أكلنا لحوم بعضنا في المجالس فلان من طائفة آل فلان وفلان، لا نقبل طريقته، وفلان ذهب مع فلان، وفلان نبرأ منه لماذا هذا الكلام؟
تزيدون الأمة جرحاً! نزيد الطعن في جرح الأمة!
أقول وأنا طويلب علم: أنا مستعد أن أعمل مع كل مسلم فيما أصاب وأتجنب -إن شاء الله- إساءته، لا يمنعك أن تعمل مع أخيك ولو كان في مشرب آخر فيما أصاب {لا يكن أحدكم إمعة! إذا أحسن الناس أحسن، وإذا أساءوا أساء، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسنوا فأحسنوا، وإن أساءوا فتجنبوا إساءتهم} والحديث في الترمذي.
لماذا لا تعمل مع إخوانك؟
يذكر ابن تيمية قاعدة مهمة، وقد ذكرتها مراراً ينقلها الشيخ عبد الرحمن ناصر السعدي علامة القصيم، يقول ابن تيمية: بعض الناس كالذباب لا يقع إلا على الجرح!! يترك محاسن الناس والأفراد والطوائف ويأتي بعيوبهم في المجالس سامحهم الله فيهم كذا وكذا.
لماذا لا تذكر محاسنهم؟ لماذا لا تتعامل معهم؟ لماذا لا تنصحهم في بيوتهم؟ النصيحة ورادة وليست الفضيحة.
فالتي تعطل مسيرة الصحوة هي الخلافيات والمداخلات، والشيطان له وسوسة، كما قال صلى الله عليه وسلم: {إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم}.
وأنا أرى أن يأتي أناس أهل الحل والعقد لا صغار الأسنان ولا أحداث، يأتون إلى هذه المشكلة فيحللوها، ويجلسون في مجالس وينظرون من المخطئ؟ وما هي المسائل التي ينبغي أن تدارس بضابط الكتاب والسنة لا برأي أحد من الناس مهما بلغ؟
وتعظيم هؤلاء الناس والزعماء المفكرين أنا أحبه، لكن أن يجعلوهم في مكانة محمد صلى الله عليه وسلم فلا والله.
تأتي بمفكر أو شهيد أو إمام، وتقول: قال، وكان يفعل، وكان يأكل، وكان يشرب أنا أحبه أكثر منك، لكنه رجل.
يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: [[يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال الله وقال رسوله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!]] أنا أعرف بعض الشباب عنده في جيبه معلومات كلها كلام رجل! يحفظها سرداً مثل الفاتحة! قال: وكان يقول كذا، وكان يقول كذا.
أقول: محمد هو الرسول عليه الصلاة والسلام وليس غيره، لا تغلوا في دينكم، ولا قداسات للأشخاص.
انتبهوا يا إخوتي! المسألة مسألة عقيدة، والله ليس في قلبي ضغينة لأحد، وأنا أحبهم وأتولاهم، لكن لماذا هذا الأمر؟ نتقي الله في إيماننا ومعتقدنا وتوحيدنا هذا ما يحضرني في هذا الباب.(254/25)
لا تتردد في الانضمام إلى شباب الصحوة
السؤال
هذا شاب متردد بين الانضمام إلى الشباب الطيب وبين البقاء مع بيئة الغفلة، فما نصيحتك؟
الجواب
والله يا أخي! ما مثلك يتوقف في مثل هذه المسألة، وأنا أجلك عن مثل لا أقصدك به، يقولون: حمار وقف يشاور نفسه بين ماء وعلف، الحمار جائع أصلاً؛ لكن رأى الماء فخاف أن يذهب إلى العلف يأكل فيموت قبل أن يأتي إلى الماء، فيذهب خطوتين إلى الماء، ثم يتذكر العلف فيذهب إلى العلف، فإذا اقترب من العلف تذكر الماء، فيقولون: مات بين الماء والعلف.
والحمار -للفائدة- من أذكى الحيوانات وأنتم تعلمون ذلك!
هذه قصة من كتاب كليلة ودمنة يقولون: ألقى الأسد فكاهة؛ فضحكت الحيوانات في الحال إلا الحمار، ضحك بعد ثلاثة أيام، قالوا: لماذا تضحك يا أبا حصن؟ قال: تذكرت الفكاهة.
أما أنت يا أخي! فلا تتوقف عن القرب من الشباب، إذا رأيت المصلحة في القرب منهم، لكني أقول هذا نسبياً لبعض الأفراد، وليس هذا الجواب عاماً، بعض الأفراد لا يصلح إلا مع إخوانه في مخيم، في مدرسة، في مركز، وبعضهم قد ينمي نفسه بمطالعة خاصة أو باتصاله ببعض الأفراد، أو بإمامة مسجد، أو بخطابة، فهذا أحسن له {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60].(254/26)
إليك يا من تستهزئ بالمؤمنين
السؤال
هناك بعض الإخوة يستهزئ بالإخوان الملتزمين، أرجو منك أن تنبهم على خطر الاستهزاء ولك جزيل الشكر؟
الجواب
يقول ابن القيم: أهل البدعة يهاجمون أهل السنة، ومثلنا ومثلهم كمثل قول القائل:
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهانَ عليَّ ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
هل تدري من يهاجم شباب الصحوة؟
رجل باع حياته بسيجارة، أو رجل ضائع ضال مارد لا يعرف من القرآن حرفاً، ولا يعرف من السنة شيئاً، أو مروج مخدرات، أي: محكوم عليه بالإعدام غيابياًً.
مروج مخدرات ويهاجم شباب الإسلام! أو رجل انسلخ من العقيدة فقلبه مريض، أو رجل جاهل وجد موقفاً من بعض الشباب فأجرى القياس على كل الشباب، فإن بعض الناس قد يأتي بموقف ليس بصحيح؛ فيجني على الشباب جميعاً.
فأقول: ماذا أقول له؟ أقول له: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] وأقول له: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] وأقول له: قدمت لنا حسناتك، وما أظن أن لك حسنات، وأخذت من سيئاتنا في أطباق وعندنا سيئات يقيناً.(254/27)
الإيمان يزيد في مجالس الذكر
السؤال
عند المحاضرات ومجالس الذكر يزيد الإيمان، وينشرح الصدر، وبعد أيام يضعف الإيمان ويقل الذكر، فأرجو النصيحة في هذا؟
الجواب
هذا السؤال مثل قول الأندلسي، شاعر من الأندلس ما كان شاعراً لكنه يقول:
الليل ليل والنهار نهار والأرض فيها الماء والأشجار
وصدق هذا السائل في قوله، فقد أتى بتحصيل حاصل: يزيد الإيمان في الذكر وينقص إذا فارق الذكر، وقد شكا الصحابة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام من هذا، فأخبرهم بالواقع وبالجبلة، فقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: {والذي نفسي بيده! لو كنتم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة، ولكن ساعة وساعة} أرجوك إذا أدبرت روحك، فألزمها الفرائض، وإذا أقبلت فأكثر من النوافل، إذا كلَّت روحك فأكثر من الذكر والتعلق والدعاء والابتهال خاصة بينك وبين الله، وأوصيك بعمل الصالحات في أوقات الرخاء علَّ الله أن يحفظك في أوقات الشدة {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144].(254/28)
زيادة أجورنا على أجور الصحابة
السؤال
سمعت حديثاً ما معناه: أن أبناء هذه الأمة أو الأمم التي أتت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم عمل أحدهم يعدل بعمل بخمسين رجل من الصحابة، أرجو إفادتي في ذلك؟
الجواب
هذا الحديث صحيح من حديث أبي ثعلبة الخشني، لما زار صلى الله عليه وسلم المقبرة قال: {وددنا لو أنا رأينا إخواننا، قالوا: ألسنا بإخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، ولكن إخواني قوم يأتون بعدي -ثم ذكر الحديث صلى الله عليه وسلم- وقال: للعامل منهم أجر خمسين، قالوا: منا يا رسول الله؟ قال: منكم} لكن أهل العلم يتكلمون على هذا الحديث، فيقولون: أما فضل الصحبة فلا يصل إليها أحد، ولكن مضاعفة الأجور بأجور الصحابة قد يصلها الإنسان منا خمسين ضعفاً من عمل الصحابي، ولكن إذا وصلنا إلى الصحبة تفَّوق علينا الصحابة بصحبتهم للرسول عليه الصلاة والسلام.
ونعود للحديث في الصحيحين، قول النبي صلى الله عليه وسلم: {جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه}.
ولماذا يضاعف لنا الأجر؟
لأن الصحابي يوم كان يصلي كان إمامه محمد صلى الله عليه وسلم، كان عن يمينه أبو بكر، وكان عن يساره عمر، ووراءه أبو هريرة وابن مسعود، وكان المقرئ أُبي، لم يكن عندهم مجلة خليعة، ولا شاشة مهدمة، ولا فتاة متعرية متكشفة سافرة، ولا خمر، ولا مخدرات، وكان الطائعون أكثر من العصاة، وكانت الهيمنة للإسلام فوجدوا أعواناً.
أما نحن فحذاريك حذاريك من كل جانب تنهش! فكان أجرك كأجر خمسين من الصحابة.(254/29)
نصيحة بمناسبة قدوم شهر رمضان
السؤال
أرجو أن تقدم لنا نصيحة بمناسبة قدوم شهر رمضان المبارك؟
الجواب
رمضان كفارة وفرصة لا تتعوض، وهو موسم ذهبي لمن استغله في طاعة الله، ووصيتي -أيها الإخوة- عن أمور هي من التخلية ثم آتي بأمور من التحلية:
التخلية ظواهر لا تستحسن في رمضان: الإسراف؛ الإسراف في النوم، في الليل والنهار، حتى أن بعضهم ينام النهار كله، ثم يستيقظ على الإفطار، وكأنه ليس بصائم، صام في الحلم! لم يجد طعم الجوع، ولا طعم حرارة الظمأ ولا لذة قراءة القرآن والذكر، ومعايشة الصيام؛ لأن المقصد من الصيام أن تحس بالصوم.
والإسراف في السهر؛ بعضهم أسرف في سهره إلى السحر، وأعرض عن التلاوة وعن ركعتي السحر، وعن النوافل، في لعب كرة، أسرف فيه حتى قسا قلبه وأصبح كالحجر.
والإسراف في الأطعمة؛ يصفون الموائد بألوان وبأشكال ولا يأكلون منها إلا قليلاً، ثم يرمونها للكلاب والقطط؛ والمجاهدون المسلمون ينتظرون خبز العيش، وهناك ثلاثة عشر مليون مسلم فقير مهدد بالمجاعة!
وإسراف في ضياع الأوقات؛ في لعب البلوت، والسهرات اللاغية، والنزهات التي لا تنفع، وإسراف في المعاصي غفر الله لنا ولكم.
أما التحلية في رمضان فالقرآن، هذا المصحف اجعله كتابك، الإمام مالك، لما أتى رمضان يقولون: أغلق على كتبه وعطل مجالس التدريس والفتوى، وأخذ القرآن، وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] كان السلف إذا دخل رمضان أخذوا المصحف وجلسوا في المسجد، يكررون ويعيدون ويختمون ويتدبرون ويستغفرون.
الأمر الثاني: صلاة الجماعة في رمضان وفي غير رمضان، وفي رمضان آكد.
الأمر الثالث: أدعوكم يا إخوتي لصلاة التراويح! من يدري لعلك تصلي صلاة التراويح فيغفر الله لك، من يدري لعل باكٍ دعا في الصفوف وبكى، فاستجاب الله دعوته، فغفر لك بمغفرته له.
ومنها: الدروس لطلبة العلم أرى ألا تتوقف في رمضان.
الإمام مالك أوقف الدروس لأن مالكاً كان في أمة علمية تزخر بالعلوم، لكن نحن بحاجة إلى نشاط من الدعاة في رمضان، والانطلاق إلى المؤسسات، إلى المراكز الحكومية، إلى الدوائر، إلى المدارس، إلى المساجد، التكلم، الخطب، الوعظ، أما أن يأتيك الشيطان ويقول: تحب الظهور! فقل له: اخسأ يا عدو الله والله لن تعدو قدرك.
ظهور أو لا ظهور، يقولون: هذا السوق سوق مناهبة، إما أن تنهب أنت أو ينهب أهل الضلالة من شباب الإسلام، إما نهبت أنت في جعبتك وإلا نهب الشيطان في جعبته، والله أعلم.(254/30)
توبة عازف عود
السؤال
لقد كنت عازف عود واستمعت لمحاضرتك، وهداني الله وتبت إلى الله، فأرجو منك أن تدعو لي وتستغفر لي؟
الجواب
أولاً: طوبى لك، وقرة عين لك، وأحسن الله إليك إحساناً وقد فعل، كنت عازف عود ولكن تتحول -إن شاء الله- إلى عازف قلوب، وعزف القلوب أحسن من عزف الأعواد، إذا عزفوا خشبة أو طنجة أو ناياً أو وتراً؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم عزف قلوب العالم فاستجابت لذكر الله، إذا غنوا بالترّهات والسخافات فنحن نردد الآيات البينات.
إذا طربوا للعود في ساعة الخنا طربت لذكر الله فهو المحبب
إذا ظمئ اللاهون للخمر والخنا فزمزم للأخيار ورد ومشرب
وكعبتي الغراء بيتي وقبلتي وبستاني المعمور بالحب يثرب
فشكر الله لك.
ثانياً: دم على هذا الطريق، فالله سبحانه وتعالى أراد لك خيراً أن تتوب، وليس بعجيب أن تتوب، فالفنانون كثير منهم أعلنوا التوبة، جربوا الحياة فوجدوها مرارة وزهقاً وطفشاً، فعادوا فأعلنوا التوبة، واستسلموا لله ودخلوا المساجد؛ فرحبت بهم المساجد، وما استقبلوا من إخوانهم إلا بالضم، وبالعناق الحار، وبالبشاشة وبالاستقبال، وزادوا في صفوفنا.
أنا أفخر بك الليلة أنك جلست معنا؛ لأنك انتصرت على نفسك، يقول الهنود: من انتصر على نفسه فهو أعظم ممن فتح مدينة.
انتصرت أنت على نفسك، كان لك جمهور، أو كان زملاء أو جلساء وأصحاب فتركتهم وأتيت إلى جلساء أهل الخير، إلى الأولياء والصالحين، فطوبى لك، وأقر الله عينك بإيمانك، وزادك يقيناً وإيماناً، وثبتنا الله وإياك والحمد لله رب العالمين.(254/31)
أدب الدعوة في حياته صلى الله عليه وسلم
لقد بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وأمره الله أن يدعو الناس إلى الإسلام، فدعا الناس إلى دين الله بقوله وفعله وسلوكه، بالحكمة والموعظة الحسنة.
فلما رأى الناسُ أدبَه صلى الله عليه وسلم وسلوكَه وأخلاقَه دخلوا في دين الله أفواجاً، وحتى ينجح الداعية في دعوته لا بد أن يلتزم بالآداب التي تحلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(255/1)
مسائل في حديث: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
هذه الحلقة بعنوان: (أدب الدعوة في حياته عليه الصلاة والسلام).
وهذا الأدب نحتاج إليه صباح مساء، ونحن ملزمون إن كنا نريد اتباع محمد عليه الصلاة والسلام أن نتفقه في هذا الباب، وسوف أجعل لهذا الدرس حديثاً من المصطفى عليه الصلاة والسلام، تكون مسائل هذا الباب تدور في فلكه.
هذا الحديث -كما تعرفون- رواه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وعن أبيه، عن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} متفق عليه.
ومسائل هذا الباب تتحدث عن مكانة العلم في دعوته عليه الصلاة والسلام:
- التدرج في رسالته.
- الصبر.
- اللين.
- اطِّراح التكلف.
- أدب الفُتيا في منهجه صلى الله عليه وسلم.
- كيف ندعو إلى الله؟
راوي هذا الحديث هو: خال المؤمنين، معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه، ونشهد أنه مِن كَتَبَة الوحي، وأنه ما تلبس بنفاق، وهذا من كلام أهل السنة فيه، وأنه لو كان فيه مغمز لما جعله عليه الصلاة والسلام كاتباً، وهو خال المؤمنين، وهو أخو أم حبيبة بنت أبي سفيان، زوجة محمد عليه الصلاة والسلام، وله مناقب كثيرة نسأل الله أن يجمعنا به وبأمثاله في الجنة.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: إثبات الإرادة لله بقسمَيها.
المسألة الثانية: ما معنى: {يفقهه في الدين}؟ ولِمَ لَمْ يقل: يحفظه الدين؟
المسألة الثالثة: ما هو الفقه في الدين بضوابطه الشرعية؟
المسألة الرابعة: ما هو مفهوم المخالفة في الحديث؟(255/2)
العلم
أول ما بدأ به عليه الصلاة والسلام: العلم.
ولذلك قال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فبدأ بالعلم قبل القول والعمل.
فمن لوازم الدعوة:
أولاًَ: أن تعلم ما تدعو إليه: ومن دعا إلى أمر يجهله، فقد لبس على الناس، فإن طلب العلم لما تدعو إليه من المسائل، هو الأمر المقرر في منهجه الدعوي عليه الصلاة والسلام، قال الله لنبيه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] وقال له: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] وتجدون جماهير المفسرين يقولون في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] يقولون: الحكمة: هي العلم.
ويقول ابن تيمية، فيما يُذكر عنه في كتاب الجهاد، يقول: "ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر بلا منكر"، بل حمل علماء الصحابة قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] قالوا: البصيرة: هي العلم، وهي العلم الشرعي، الذي تدرك به أسرار الدعوة التي تدعو إليها.(255/3)
خطر الجهل
من دعا الناس وهو جاهل؛ كان ما يفسد أكثر مِمَّا يصلح، وقد منع عمر رضي الله عنه وأرضاه من تصدر للناس وهو جاهل، فقد ورد عنه في سيرته، أنه دخل المسجد، فوجد رجلاً يقص على الناس، على كرسي في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، فسمعه يقص عليهم قصة دانيال فأخذه، مثل مَن يأتي اليوم في المسجد، فيقص على الناس قصة داحس والغبراء، أو قصة أبي زيد الهلالي، أو قصة الجارية تودد، أو قصة كسرى أنو شروان، وأمثالهم وأضرابهم، فـ عمر استمع إليه، فأخذ عمر الدِّرة، وتقدم رضي الله عنه وأرضاه، فخفق رأسه خفقاً، وقال: لا تحدثنا في مسجدنا قاتلك الله، يقول الله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] قالوا: منعه عمر؛ لأنه يتكلم بجهل، حتى القصة، لا بد إذا أُوْرِدَتْ أن تكون بضوابط شرعية، أما أن يتحدث الإنسان بكل ما يسمع، وقد تخالف هذه القصة قواعد الشرع، فهذا خطأ.(255/4)
قصص مكذوبة
وهناك قصص موجودة، يذكرها بعض الوعاظ، جُمِعَت في شريط اسمه: قصص مكذوبة، فهي تُذْكَر يوم الجمعة على المنبر، والعلماء يصلُّون مع مثل هؤلاء الخطباء، مثل: قصة توبة مالك بن دينار، هذه قصة باطلة، لا أساس لها، أنه كان له ابنة، ثم ماتت البنت، ثم كان يشرب الخمر، وكان جندياً، ثم رآها في المنام، وقد فرَّ من ثعبان، فأنقذته بإذن الله، ثم تاب، ثم توضأ، ثم صلى وراء الإمام الشافعي، فهي قصة مكذوبة من نَواحٍ:
- أولاً: سندها باطل.
- ثانياً الإمام الشافعي لم يكن حياً آنذاك، فلقد وُلِدَ الإمام الشافعي بعد مالك بن دينار بما يقارب سبعين سنة، فكيف يصلي وراءه الفجر؟ أتظن أن الشافعي وُلِدَ في ليلة وكبر، ثم صلى إماماً بالناس؟! مالك بن دينار في عهد الحسن والشافعي بعده، قبل أحمد بسنوات، هذا أمر.
- ثالثاً: مالك بن دينار لم يتزوج.
- رابعاً: مالك بن دينار كان صالحاً من الصغر.
أيضاً: مثل قصة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم التي ينقلونها عن معاذ وهي موجودة في شريط في الأسواق، وأنه في اليمن، لما أتاه الخبر، حثا بالتراب على رأسه، وهذا خطأ، ما كان لـ معاذ أن يفعل ذلك، ثم قالوا: وكان معاذ يأتي يطرق الباب على أبي بكر، ويقول: أخبرني بوفاة الحبيب، فيلقي عليه أبو بكر محاضرة من وراء الباب، قال:
مَن بالباب؟ مَن فَجع الأصحابْ؟ مَن وَلَّهَ الأحبابْ؟
ثم يلقي قصيدة، والقصيدة من قصائد مجنون ليلى ومجنون ليلى وُلِدَ بعد أبي بكر بمائة وخمسين سنة.
أيضاً من القصص المشهورة: ما يُنْسَب إلى عمر، أنه سأل المَلَكَين في القبر، فقال: من ربكما؟ ما دينكما؟ من نبيكما؟
ومثل: قولهم: إن أبا بكر رضي الله عنه سلم الله عليه وقال على لسان جبريل: بلِّغ أبا بكر السلام، وقل: إني رضيت عنه، فهل هو راضٍ عني؟ فقال أبو بكر: نعم، ولكن والله لا آمَنُ مكرَ الله ولو كانت إحدى رجليَّ في الجنة والأخرى خارج الجنة؛ فهذا ليس بصحيح، وليس بثابت، ولن يقوله.
من القصص أيضاً: قصة علقمة وأمه، أنه كان لـ علقمة أمٌّ، وكان يقدم زوجتَه عليها، فلما حضرته الوفاة عُسِّرَت عليه الشهادة، فما استطاع أن ينطق الشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم: اجمعو لي حطباً، لأحرق علقمة، فجمعوا حطباً، فعَفَتْ أمه، فنطق الشهادة، فهذا ليس بصحيح.
أيضاً: قصة ثعلبة، يوردها ابن كثير وابن الأثير: أنه امتنع عن الزكاة، فلم يقبلها أبو بكر، ولا عمر بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومات على ذلك.
هذه تخالف أصول الإسلام، قال الله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] إلى آخر تلك القصص التي توجد في هذه المحاضرة والله أعلم.
قال صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، في باب العلم: {مثل ما بَعَثَنِي الله به من الهدى والعلم} انظر إلى الألفاظ المنتقاة، من يستطع أن يصوغ مثل هذه الكلمات؟!
ما بنى جملةً مِن اللفظ إلا وابتَنى اللفظُ أمَّةً مِن عفاء
{مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث} هذا السطر الواحد نقف معه وفقات.
يقول: {مثل ما بعثني} ولم يقل: أرسلني، يقول بعضهم: إنما قال: {بعثني} في باب التوحيد؛ لأنه بُعث في قوم أموات، والرسالة تأتي في باب الإخبار، لكن لما أتى إلى قوم أموات، قال: {بعثني} فكأنه يوم بُعِثَ في الأمَّة الأمية، كأنه بُعث حياً في أموات فأحياهم الله عز وجل بدعوته.
{: مثل ما بعثني} ولذلك في باب التوحيد يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً} [النحل:36] وفي باب الإنذار والإخبار: قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} [هود:25] {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [نوح:1] وهذه من البلاغة التي كان يستعملها عليه الصلاة والسلام في ألفاظه.
قال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم} أليس العلمُ هُدَىً؟ بلى، أليس الهُدَى علماًَ؟ بلى، لماذا لم يكتفِ ويقُل: مثل ما بعثني الله به من الهدى كمثل الغيث، لأن في الهدى علماً؟ ولماذا لم يقل: مثل ما بعثني الله به من العلم كمثل الغيث؟ وإنما قال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم} والعطف يقتضي المغايرة: فالهدى شيءٌ، والعلم شيءٌ، قال ابن تيمية: "الهدى: العمل الصالح، والعلم: العلم النافع".
فالرسول عليه الصلاة والسلام مبعوث بالعلم النافع والعمل الصالح، فمن عنده علم وليس عنده عمل صالح؛ فهو أشبه باليهود، وهو مغضوب عليه في الدنيا والآخرة، ومن عنده عبادة وليس عنده علم، ولا يعبد الله على بصيرة؛ فهو أشبه الناس بالنصارى، وهو ضال، قال الله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
فالعالِم الذي لا يعمل؛ سَمِّهِ مغضوباً عليه، والعابد الذي لا يعلم سَمِّهِ ضالاً، فالنصارى يعبدون الله في الكنائس والمغارات بلا علم، قال سبحانه: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] وقال في اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13] وقال في عالِم اليهود: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف:176] وقال فيهم: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] فوصفهم بالعلم لكن بلا عمل، وغضب الله عليهم، ولعنهم في مواطن كثيرة، وقال: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:61].
وأما النصارى: فحذر الله من اتباع منهجهم، فقال: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77] فهم ضالُّون؛ لأنهم عبدوا الله بلا علم، قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: "وقد وقع في أصناف الأمة بمشابهتهم لتلك الأمتين ما وقع، فوُجِدَ طلبةُ علمٍ لا يعملون، فهم مغضوب عليهم، ووُجِدَ مِن العُبَّاد من لا يفهمون ولا يسألون، فهم ضالون" هذه مسألة مقررة، ومن استقرأ الواقع وجد هذين الصنفين.
هذه مسألة العلم.
قوله: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث} لماذا لم يقل: كمثل المطر؟ تَرَكَ المطر، وأتى بالغيث.
- يقول بعضهم: الغالب في المطر إذا ذُكِر أن يكون بمعنى: العذاب، كما قال الله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [الشعراء:173] هذا في الغالب، ليس على العموم، فترك صلى الله عليه وسلم المطر، وأتى بلفظ الغيث.
- ثم إن في الغيث غوثاً للقلوب.
- ثم إنه صافٍ، الغيث ما زال صافياً، لم يُشَبْ بشائبة، ورسالته عليه الصلاة والسلام لم تُشَبْ بشائبة، بل هي صافية نقية.(255/5)
طلب الأجر من الله
من معالم دعوته عليه الصلاة والسلام، وهي دعوة الأنبياء: أنهم يطلبون الأجر من الله.
قال تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] وقال سبحانه: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [الأنعام:90] فطلب الأجر لا يكون إلا من الله، والداعية إذا طلب أجراً من الناس، أو مثوبة على دعوته؛ سقط من أعينهم سقطة ما بعدها سقطة، فلا يقبلون له كلاماً، فهم لا يحترمونه في الباطن وإن احترموه في الظاهر، ولا يقبلون كلامه، ولا يجلسون على مائدته، وتراهم من أشنع الناس عليه في غيابه، والحديث المشهور: {ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس} وهذا الحديث مما اضطربت فيه الأقوال، فبعضهم يضعفه، وبعضهم يصححه، لكن يقول ابن حجر: حديثٌ حسن رواه ابن ماجة، وغيره بسند حسن.
إذا عُلِمَ هذا؛ فإن من زهد فيما في أيدي الناس؛ قَبِل الناس منه، والداعية لا يطلب الأجر من الناس، ولا يتقاضى مرتباً على دعوته، بل يطلب الأجر من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، قال تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] ولذلك ردَّ الله على كفار مكة، فقال: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور:40] كأنك تطلب منهم شيئاً، فهم مثقلون من الطلب الذي تطلبه، وقد غرموا عليك غرامة، بل أنت ما أخذتَ منهم شيئاً، ولذلك ما مدَّ يده.
وإذا مدَّ الداعيةُ يدَه إلى الناس؛ باءت دعوتُه بالفشل، قال ابن الجوزي عن بعض الوعَّاظ، ذكرهم في القصاص، قال: كان يقف على المنبر، فيُبكي الناس، فإذا انتهى قال: " والله لا أنزل من على هذا المنبر حتى تملئوا هذا الخرج ذهباً "، وهذا مثل أحمد الغزالي، وهو أخو محمد الغزالي صاحبِ الإحياء، كان هذا يأخذ التبرعات بالقوة، ولذلك يقولون: ما قبل الناس منه فيما بعد، قدمت له امرأة سواراً من ذهب، تتبرع، قال: "قدمي السوار الآخر الذي في يدك اليسرى قطعها الله " فقدمته، وهؤلاء ذهبوا إلى الله عز وجل.
وبعضهم يطلب أجراً معنوياً، لا يطلب دراهم؛ لكن يحب أن يُصَدَّر في صَدْر المجلس، ويحب أن يُدعَى بسماحة الشيخ، وفضيلة الشيخ، وأن يُقَبَّل على رأسه، هذا إذا بُلِيَ به واستغفر الله منه أُجِرَ على ذلك، أما إذا طلب هذا الأمر وهو الأجر المعنوي والأجر الحسي فيكون الخلاص منه مدخولاً والرياء حاصلاً؛ بتواجد هذا الأجر المعنوي أو الحسي، ولذلك من يطلب هذه الأمور لا تأتي إليه، كتب أبو بكر لـ خالد: [[فِرّ مِن الشرف يتبعك الشرف]] أي: فِرّ من هذه الأمور، تتبعك هي، لكنك إذا تبعتها فرَّت منك.
والله المستعان!
وإنما تشوَّه علمُ مَن تشوَّه؛ لأنهم طلبوا الدنيا، وجعلوا علمهم شبكة للدنيا ومصيدة لها، فجمعوا وأخذوا، فطمس الله نور العلم منهم.
يقول عبد القادر الجرجاني، في قصيدة مليحة له، وكان منقبضاً عن الدنيا، وعن الناس، كان يعلِّم الناس، ولا يأخذ على ذلك شيئاً، فقالوا: ما هذا الانقباض؟! فردَّ بقصيدة من أجمل القصائد:
يقولونَ لي فيك انقباضٌ وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أأشقى به غَرساً وأجنيه ذلَّةً إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
يقول: أنا أشقى، وأذاكر في الامتحان وأتعب، ثم أكون محروماً من لذته ونوره، إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما.
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما(255/6)
التدرج في الدعوة
ومن أدب الدعوة: التدرج في الدعوة.
وهذا أدب نبوي، أن نبدأ بالأولويات مع الناس، ألا نقدم صغار المسائل قبل كبار المسائل، أن نعرف كيف ندعو الناس، ما هي كبريات المسائل التي ينبغي أن ندعو الناس إليها، وهذا فعله عليه الصلاة والسلام، أتى إلى الأصنام في الحرم، والخمر يُشرَب, والزنى يرتكب، فما أتى إلا يقول: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: معك غير هذا؟ قال: لا.
قولوا لا إله إلا الله، قال لـ أبي جهل: كلمة واحدة، قلها لي، قال: وأبيك وألفاً، ما هي الكلمة؟ قال: لا إله إلا الله، قال: أما هذه فلا.
كان يقول: لا إله إلا الله، وما تعداها ثلاث عشرة سنة، فلما ضمنتها القلوب؛ أتى عليه الصلاة والسلام بالفرائض، فلما قامت القلوب بالفرائض، دعا إلى السنن.
ليس بصحيح أن ندعو الناس إلى السنن وهم لا يقيمون الفرائض، إنسانٌ لا يصلي وتدعوه أن يربي لحيته، ولو كانت لحيته إلى الأرض، إنسانٌ يزني ويشرب الخمر، وتأتي إليه وتقاومه وتهجره من أجل أنه لا يأكل باليمين، وما ينفع ألا يأكل باليمين وهو ما أقام أعظم من ذلك، بل فَسَقَ وفَجَرَ في الإسلام.
فالبداية بكُبْرَيات المسائل قبل صُغرياتها، ثم نعطي كل مسألة حقها.
والناس في هذه المسائل ثلاثة: طرفان ووسط.
- منهم من يأتي فيقيم الدنيا ويقعدها على جزئية، ويتبرأ من الناس، حتى تجده لا يصف الناس إلا بهذه الأوصاف، ما رأيكَ في فلان؟ فلا يَذْكُرُ علمَه، ولا حِلمَه، ولا صبرَه، ولا زهدَه، ولا صدقَه، ولا أمانتَه، ولكن يقول: عنده لحية.
ما شاء الله، تبارك الله، أي: لو رأيته بلحيته وبقِصَر ثيابه لذكَّرك بأهل بدر، ولكن هل هذه هي الضوابط الصحيحة؟
وبعضهم ربما كان صادقاً، مؤتَمَناً، باراً بوالديه، مصلياً، لكن أساء وأخطأ في حلق لحيته، فتسأله عنه، قال: فاجر من الفجرة، حلق لحيتَه من الأذُن إلى الأذُن.
وأنا أقول: من فعل ذلك ففيه فجور، لكن أما أنك تلغي حسناته بسبب هذا الذنب فليس بصحيح.
- وبعضهم يقابل في الطرف الآخر، فأرخى الحبل حتى انسحب، قال: هذه قشور، المسألة ليست مسألة لِحَى، قلنا: ما هي المسألة؟ قال: إيمان، والمسألة ليست مسألة ثياب، المسألة ليست أكل باليمنى ولا أكل باليسار، المسألة أعظم من ذلك.
حتى شذَّر الدين، وقطَّع الدين، ما بقي عليه إلا أن يقول عن الصلاة: المسألة ليست مسألة صلاة.
ما هو هذا الإيمان الذي فهمتَه أنتَ وما فهمَه الصحابة؟!
- وتوسط قومٌ، فأعطوا كل مسألة حقها، قال الله: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3] فأعطَوا الصلاة حقها، واللحية مقدارَها، والثوب مقداره: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثيراً} [البقّرة:269].(255/7)
اللين والرحمة
من معالم دعوته عليه الصلاة والسلام ومنهجه التربوي في الدعوة: اللين والرحمة بالمدعو.
وهذا أمرٌ لو أدركناه؛ لقاد الله لنا القلوب؛ لأن الناس مفطورون على فطرة الله، مفطورون على الخير، أترى لبائع أشرطة الجنس؟ أترى للمغني؟ أترى للسكير؟ كلهم إذا أثرت فيهم لا إله إلا الله، وهم مسلمون، ثارث في قلوبهم، لكن من يثير لا إله إلا الله؟ إن إثارة لا إله إلا الله بالتجريح موتٌ لهذه الفطرة، تميتها أنت في قلبه، لكنك لو أتيت إلى نوازع الخير في قلبه، وذكرته وأخذته، وحاولت أن تدعوَه استنار بإذن الله عز وجل، وقام واستيقظ ووُفِّق، قال الله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:158 - 159].
واللين هنا: أن تُكسِب الإنسانَ مكانتَه، لا يصح أن تهز عليه مكانته، وأن تجرح مشاعره، ثم تقول: أدعوك إلى الله، بعد ماذا؟ لا يصح أن تهينه أمام الجماهير، ثم تدعوه إلى الله، لا يصح أن تشهِّر به على المنابر، ثم تدعوه إلى الله، هذا ليس بصحيح.(255/8)
وسائل اللين
وسائل اللين أمور:
- منها: البسمة الحانية.
- ومنها: الزيارة.
- ومنها: الهدية.
- ومنها: الخدمة التي توجهها له، كأن يكون مريضاًَ فتزوره.
أحد المغنين زاره كثير من الشباب أثابهم الله من أهل الاستقامة، فكرروا عليه الزيارة في المستشفى، فلما خرج وجد أن الأخيار إخوانه؛ لأن الفسقة ما زاروه، أهل الطنبور والعود هجروه في المستشفى، وأتى الأخيار فزاروه، وقدموا له الخدمات، حتى أخجلوه، وفي الأخير عاد إلى الله وتاب؛ لأن هذه معناها ما يقول المتنبي:
وما قَتَل الأحرارَ كالعفو عنهم ومَن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
يقول: إذا أردت أن تقتل الحرَّ، فجُد عليه، وتفضل عليه، هذه المنن هي من اللين، ولذلك قدَّم عليه الصلاة والسلام الكافر، أعطى بعض الكفرة، وهم في التوجه إلى الإسلام مائة ناقة فأسلموا، عفا عن كثير منهم، تبسَّم، وزار، وأهدى عليه الصلاة والسلام.(255/9)
الغلظة والشدة وضررها
أما الانقباض، والفظاظة، والغلظة، فهي أول خسارة في معالم هذا الدين، لذلك بعضهم يأتي إلى صاحب مكان -وهذا ورد في كثير من الأمكنة- فيقول له: يا فاسق، أغلق محلك.
لماذا تأتي بفاسق؟ ما موقع (يا فاسق) من الإعراب؟ هل هي مبتدأ أو خبر؟ هل هي فعل ماضٍ أو مضارع؟ لماذا أتيتَ بـ (فاسق)؟ أليس عندك في المعجم غيرها؟ ألا تحفظ غير هذه الكلمة؟ وأنتم تعرفون القصة المشهورة لأحد الوعاظ، الذي مرَّ بجزار فقال: "صلِّ يا حمار"، قال: "الحمار لا يصلي، لكن يا عدو الله أقْصِمُك بهذه الصامولة اليوم".
ثم أخذ يطارده؛ ليعلمه أدب الدعوة، الجزار يريد أن يلقنه درساً في الدعوة لا ينساه؛ لأن الحمار لم تكتب عليه الصلاة! فلو استبدل هذه الكلمة بلفظة أخرى لكان أحسن.
وبعضهم يجعل من الجزئية طريقاً حائلاً في طريق دعوته.
نُقل إلى بعض العلماء أن طالباً بادئاً دخل في مجلس، والمجلس ليس له، إنما لأحد الناس، دعاه يتغدى مع قوم ضيوف، فدخل المجلس، أتدرون ماذا فعل؟! وجَدَ على المخَدَّة مكتوباً عليها: (الله أكبر) فقام هذا الشاب، فأخرج مفتاح سيارته، ونقضَ المخدة من (الله أكبر) نقضاً، ثم قطع ما هو مكتوب عليها، فوَجَمَ صاحب البيت، وتكدرت الضيافة، وتحول البيت إلى صمت مُطْبِق، وإلى رعب مخيف، وإلى غضب لا يعلمه إلا الله، لماذا؟
أولاً: هل تكلمتَ بينَك وبين صاحب البيت؟
ثانياً: هل البيت لك؟
ثالثاً: هل استأذنته؟
رابعاً: أما في البيت من هو أكبر منك سناً، فتخبره؟
وفي الأخير أصبحوا ينقلون هذه الكلمة عن الدعاة جميعاً، وعن طلبة العلم، وشباب الصحوة، لأن أهل الخطأ أو أهل الانحراف، إذا وجدوا صورة واحدة عمَّموها.
قالوا: يفعلون ويفعلون، ومُتَزَمِّتون، وفيهم من الغلظة، وهي لم تقع إلا من شاب واحد، فجعلوها قاعدة مطَّردة، تسري على جميع الشباب.(255/10)
العمل بما يدعو إليه
من معالم دعوته عليه الصلاة والسلام: أنه كان يعمل بما يدعو إليه.
قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
إن من يدعو بكلام جميل وفعله فعل قبيح إنما يُكَذِّب دعوته، ولذلك لا يثق الناس في الواعظ الذي خالط الناس، ثم ماحَلَهُم في الدنيا وخاصمهم، فلا تجدهم يَقْبَلون منه، فإذا قام يعظهم يوم الجمعة، ينامون ولا يستفيدون، ويدعون عليه بعد الصلاة، فيقال: أما قال كلاماً جميلاً؟ أما أتى بقرآن وسنة؟ قالوا: بلى، أتى بقرآن وسنة، لكنكم لا تعرفون أخباره، نحن نعرف سيرته، ونعرف ترجمته، كلامه كذب، لأنه يكذبه بفعله، لا نقبل منه أبداً.
ولذلك لا يتأثرون، تجد بعض الخطباء خمسين سنة في قرية، ما استفادوا منه مسألة واحدة، بسبب أن عمله وقف عائقاً في طريق القبول منه والاستفادة، يريدون أن يستفيدوا ويسمعوا، لكن يتذكرون أفاعيله.
أحد الوعاظ بكى على المنبر، فيقول أحد الجماعة بعدما خرج: "لا تصدقوه في البكاء، والله ما بكى إلا على الأراضي التي أُخِذَت منه"، ويقرءون حياته، ويرون كلامه بعمله.(255/11)
أدب الفُتيا في منهجه صلى الله عليه وسلم
من أدب الدعوة: أدبُه وهديُه عليه الصلاة والسلام في الفُتيا.
كيف كان يفتي الناس عليه الصلاة والسلام؟
كان له عليه الصلاة والسلام في الفتيا آداب:(255/12)
عدم التكلف
روى الحاكم بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا أدري ذو القرنين نبيٌّ أم لا، ولا أدري تُبَّع نبيٌّ أم لا، ولا أدري هل الحدود كفارات لأصحابها أم لا} والله عز وجل أخبر رسوله بهذا الأدب، فقال له: (وما يدريك) (وما أدراك) قال بعض الفضلاء -من باب الفائدة-: "إذا قال الله: (وما أدراك)؛ فسيخبره بالجواب بعد هذا الاستفهام، وإذا قال: (وما يدريك)؛ فلن يخبره بالجواب"، قال الله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب:63] فلن يخبره عن الساعة، وقال تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ} [القارعة:1 - 4] فأخبره.
فإذا جاء في القرآن: (وما أدراك) فانتظر الجواب، فإنه سوف يأتيك، وإذا قال: (وما يدريك): فلا تنتظر الجواب.
سئل علي بن أبي طالب عن مسألة، فقال: [[لا أدري، وما أبردها على قلبي]] وقال: ابن سيرين: [[إذا فات العالم كلمة: (لا أدري) فقد أُصِيبَت مَقاتِلُه]].
والناس في هذه المسألة أيضاً طرفان ووسط:
- منهم: طلبة علم يقولون في كل شيء: لا أدري، من باب الورع البارد.
يقال له: كم أركان الإسلام؟ قال: لا أدري.
يسأله العامِّي: كم أتمضمض في الوضوء؟ قال: لا أدري، الله ورسوله أعلم! قلنا: ورَعُك باردٌ سامِجٌ ميِّتٌ، أنتَ كتمت العلم بهذا الورع المُهَلْوِس الموسْوِس.
- وبعضهم: قابلهم، فأفتى في كل مسألة، اسأله في كل مسألة، لن يقول: لا أدري، بل يدخل في كل مسألة، ويجيب على كل معضلة، مسائل لو عُرِضت على عمر رضي الله عنه وأرضاه لجمع لها أهل بدر، ومع ذلك يفتي بطلاقة، ويتحدث بقوة، ويشرح ولا عليه! لأنه يقول: إذا قلتُ: لا أدري انكسر جاهي مع الجماعة، والذي عقد رءوس الحبال يحلها، نفتي الآن، وإن شاء الله نبحث عن المسألة، وتجده أحياناً يقول: للعلماء فيها أقوال: قول يقول كذا، بلا أدلة؛ لأنه يدري أنه لا يخرج من الأقوال، لكن إذا قلتَ له: ميز الضعيف من القوي؛ فلن يجيب.
- ومنهم قوم توسطوا -أثابهم الله- فأفتوا فيما يعرفون، وسكتوا عما لا يعرفون؛ وهم أهل الجادَّة، وأهل الخوف من الله.
ثانيها: أما المسائل التي عرضت عليه عليه الصلاة والسلام فكان موقفه منها ثلاثة مواقف، جوابه على ثلاثة أضرب:
- جواب الحكيم.
- وجواب المطابقة.
- وجواب الزيادة.
فجواب الحكيم: أن يُسأل عن مسألة، فيترك المسألة ويأتي بجواب آخر لسؤال آخر، وهذا يسمى عند أهل البلاغة: جواب الحكيم، قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة:189] فما مكان الجواب؟ ما هو شرح السؤال؟
السؤال
يقول كفار مكة لمحمد عليه الصلاة والسلام: "كيف الهلال يبدو صغيراً، ثم يكبر يكبر، ثم يعود صغيراً؟ هذه أسئلة أطفال الروضة، أتى كفار مكة يقولون: يا محمد! ما للهلال يبدو صغيراً صغيراً، ويكبر ويكبر، ثم يصغر يصغر حتى ينتهي؟ وهل الرسول صلى الله عليه وسلم مكلف أن يجيبهم عن هذا السؤال؟ لماذا لم يسألوا عن فائدة الهلال؟ وعن المصلحة من الهلال؟ فأورد الله السؤال، ولكن لم يورد الجواب على السؤال، قال: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة:189] وهو معروف سؤاله، ثم أجاب بجواب لسؤال آخر، فقال: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189].
فائدة الهلال: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189].
وكان عليه الصلاة والسلام ربما أجاب بالمطابقة، يسأله السائل، فيقول: نعم، يسأله السائل فيقول: لا.
وربما زاد على سؤال السائل، يقول السائل والحديث عند الخمسة بسند صحيح: {يا رسول الله! إنا نركب البحر، وليس معنا إلا الماء القليل، فإذا توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ -اسمع الجواب- قال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته} هذه أرقى أنواع البلاغة، التي لا يصل إليها الإنسان، هو الطهور ماؤه الحل ميتته.
فسأله عن الماء، فأفتاه بالماء وأفتاه بحل الميتة؛ لأن مَن جَهِل الماء، فمن باب أولى أن يجهل حكم الميتة، وقوله: {هو الطهور ماؤه} ظرَّفها بمعرفتين، والتظريف بمعرفتين يقتضي الحصر، كقوله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} [المنافقون:4] {هو الطهور ماؤه الحل ميتته} أربع كلمات أوخمس أو ست، جَمَعَت معاني البلاغة، ولذلك شرحها بعض العلماء في عشرات الصفحات، وعجزوا عن شرحها.
هذه مسألة.(255/13)
كيف نكون أمام الخلاف؟
اعلموا -يا أيها الإخوة- أن الخلاف أنواع، منه:
- خلافٌ يُفَسَّقُ صاحبُه ويُضَلَّل.
وهو ما خالف في مسائل أجمع عليها أهل السنة، وهي مسائل الأصول، فهذا لا يؤجَر ولا يشكَر.
- ومن خالف في المسائل الفرعية، مجتهداً وأصاب؛ فله أجران، ومن أخطأ؛ فله أجر واحد.(255/14)
أدب الخلاف
والأدب في هذا: أن تعذر أهل العلم، وأن تعرف أنهم لا يتعمدون الخطأ، وأنهم يريدون الله والدار الآخرة، ولكن لهم أعذار:
- منهم من بلغه الدليل، ومنهم من لم يبلغه، فهذا أفتى بالدليل، وذاك برأيه.
- ومنهم من صحَّ عنده الحديث، ولم يصح عند الآخر.
- ومنهم من كان الحديث عنده ناسخاً، وعند الآخر منسوخاً.
- ومنهم من فهم من الحديث ما لم يفهمه الآخر.
فهؤلاء معذورون، وعليك أن تترحم عليهم، ولا تُشَنِّع على خلافهم لجميع الناس، ولا تُظْهِر عَوَرَهم، ولا تتبجح بأنك أصبت، فإنهم أخطئوا في جزئية، وأصابوا في آلاف الجزئيات.(255/15)
اطِّراح التكلف
ومن معالم دعوته عليه الصلاة والسلام: اطِّراح التكلف.
يقولون: إذا زاد البياض أصبح برصاً.
التكلف في الصوت ضياع لمعالم الصوت، تجد المقرئ قارئاً من أجمل الناس صوتاً، فلا يرضى بقسم الله له في الصوت الحسن، ولا يرضى بهذه الموهبة، حتى يتكلف ويشحب بصوته، ويرفع بنَفَسِه حتى تضيع هذه الموهبة بسبب التكلف، قال عمر في كتاب الأدب من صحيح البخاري: {نُهِينا عن التكلف} تجد الخطيب بارعاً ومفيداً، لكن يتكلف، ويريد أن يقلد غيره فيضيع، يقولون: الغراب قلد مشية الطاوس، فضيع مشيته ومشية الطاوس، أراد أن يعود لمشيته الأولى فضيَّع.
والتقليد هذا ظاهر عند بعض الناس من بعض البادئين؛ أنهم يريدون أن يكونوا صُوَراً طبق الأصل لبعض الناس، حتى يقلد العالِِم في سَعْلَتِه، وفي تَنَحْنُحِه، وصوته، خلق الله له صوتاً ولك صوتاً، وله سَعلةً ولك سَعلة، وله كحَّة ولك كحَّة، وله عُطاس ولك عُطاس، فأما أن تقلده بهذا التقمص فهذا يسمى إذابة للشخصية، ويسمى موت لمعالم الإنسانية في النفس، تسحق شخصيتك سحقاً.
ولكن قلده في العلم، وفي المعنويات، والكرم، والصبر، وفي الحلم.
التكلف هذا عندما دخل على المسلمين ضيَّع معالم سيرتهم، حتى التكلف في الأسئلة، يسألون عن أسئلة ما أنزل الله بها من سلطان ما وقعت، ولكن سَلُوا فيما وقع، وقد أتى بعضهم يسأل عن مسائل كثيرة، منها:
ما رأيكم في أطفال أهل الفطرة؟ وتجد هذا عامياً لا يعرف سجود السهو، هل هو قبل السلام؟ أو بعد السلام؟
وماذا تقولون في تُبَّع؟ هل هو نبي أو لا؟ فأنا محتار، من البارحة وأنا أفكر في هذا الموضوع.
ومسائل أخرى وأخرى.
إذاً: فلا بد من طرح التكلف.
هذه معالم من تربيته عليه الصلاة والسلام، ومن نهجه في الدعوة، ولعلَّ في الحلقة المقبلة إن شاء الله معالم أخرى في حياته، ولكن هذه إنما هي دروس أو إيحاءات من سيرته صلى الله عليه وسلم، في باب الدعوة، كيف دعا إلى الله؟ وكيف علَّم؟ وكيف أفتى؟ وقبل أن ننتهي أستمع إلى سؤالين أو ثلاثة.
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.(255/16)
الأسئلة
.(255/17)
حكم تعلم العلوم الدنيوية
السؤال
ما المقصود بذكر العلم والعلماء في القرآن الكريم؟ فإن كان المقصود بذلك: العلم الشرعي، فما مصيرنا نحن الذين ندرس الهندسة والطب؟ فهل لنا مثل أجرهم؟ مع العلم أننا نحرص على تعلم العلم، وحضور المحاضرات، وسماع الأشرطة الإسلامية، وقراءة الكتب الدينية المفيدة.
الجواب
أولاً: أشكرك على هذا السؤال، وهذا يُنْبِي عن فهم، وقد نُبِّه عليه في كثير من الدروس والمحاضرات، ولكنك أثرت مسألة، وددتُ أنني تطرقت لها في أثناء الكلام.
اعلم أن العلم إذا أطلق في الكتاب؛ فمعناه علم الكتاب والسنة.
ثانياً: لا تظن أنك إذا تعلمتَ الهندسة، أنك لستَ مأجوراً بتعلمك لها، بل العجيب كل العجيب والغريب كل الغريب؛ أني وجدتُ أناساً في الهندسة والطب أكثر تقوىً وصلاحاً من كثير ممن يدرسون الشريعة وأصول الدين.
هذا على الكرسي من الصباح إلى صلاة الظهر، ست محاضرات، في فتح الباري، وفي رياض الصالحين , ومع ابن حجر، ومع ابن تيمية، ومع الشوكاني، ومع الصنعاني، ومع ذلك تجده فاسقاً من الفسقة والعياذ بالله! وهذا من الصباح، في التجريح والتشخيص والتحليل، وتجده ولياً من أولياء الله.
فاعلم أن هذه المسألة واردة، وأحمد الله عز وجل على أن وُجِدَت الصحوة في كثير من هذه القطاعات، حتى تدخل في بعض المستشفيات، فترى الأطباء يذكرون بـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، من سيرتهم وأخلاقهم وتعاملهم.
فإذا سُبِقْتَ إلى العلم والفُتيا، فلا تُسْبَق على التقوى، لا يسبِقُك أحدٌ على التقوى والانضباط، فإنه قد سبق كثيرٌ من الناس كثيراً من أهل الشريعة في هذا الجانب، وصدقوا مع الله، فأعطاهم الله ما تمنَّوا، ورفع منزلتهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثالثاً: اعلم أن الإسلام تخصصات، وأن من أراد أن ينصر الدين من باب الشريعة فله ذلك، وهو مأجور، ومن أراد أن ينصره من باب الطب أو الهندسة أو أي تخصص، فهو مأجور ومشكور.
والأمةُ فرضٌ عليها فرض كفاية؛ أن تقوم بهذه التخصصات.
ويوم تركنا الطب والهندسة لغيرنا؛ غُزينا في عقر دارنا، وأنا سمعتُ من بعض الفضلاء أن النصارى اجتمعوا في الكنيسة، فقال لهم رئيسهم أو كبيرهم الذي علمهم السحر: "تعلموا الطب، واغزوا بلاد المسلمين "، لماذا؟ "… لابتزاز أموالهم، ولكشف عورات نسائهم، ولقطع نسلهم".
فيوم وجد الطبيب المجرم، وأتى الورع البارد في فتراتٍ من الفترات، وتركوا تعلم الطب، أتت هذه النوعية، كشفوا عورات النساء في المستشفيات، وقطعوا النسل، وأخذوا الأموال من أيدي الناس.
فيا أيها الإخوة! يا أطباء الإسلام! ويا مهندسو الإسلام! اعلموا أنكم على ثغرة من الثغرات، من كان في الحراسة كان في الحراسة، ومن كان في الساقة كان في الساقة، ومن كان في الطب كان في الطب، ومن كان في الهندسة كان في الهندسة.
وما يدريك؟ لعل أكبر أمل لك بعد الفرائض أن تدخل الجنة بالهندسة وبالطب.
حسان بن ثابت دخل الجنة بعد الفرائض بالقافية والشعر؛ لأنه نصر الإسلام به.
وامرؤ القيس يوم أجرم شعره؛ كان قائد الشعراء إلى النار.
وخالد بن الوليد دخل الجنة؛ لأنه كان يجيد عمليات قطع الرءوس عن الأكتاف، كان يَفصل الجماجم رضي الله عنه، له طريق خاصة في الذبح، على الطريقة الإسلامية، يستقبل بالأبطال القبلة، ثم يُذَبِّحُهم كما تُذَبَّح الدجاج، فدخل الجنة بهذه الطريقة الممتازة.
وأُبَي بالقراءة.
وزيد بن ثابت بالفرائض.
وابن عباس بالتفسير.
فأنت ما عليك وزر ولا حرج، غفر الله لنا ولكم.(255/18)
حكم التبول قائماً
السؤال
يسأل الأخ العزيز عن حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: {استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه} ويقول: إن جميع دورات المياه في سكننا نحن الطلاب، هي من التصميم الغربي، فهل يجوز التبول قائماً؟ فإن كان لا، فما هي الطريقة الصحيحة والمذكورة في هذا الحديث؟
الجواب
أنا أرى أن الأحوط لك أن تبول جالساً، فإن لم تستطع، وكان عليك ضرر من عَود الرذاذ، أو عَود البول، وأصبحت المضرة أعظم من المصلحة، فَبُل قائماً، فقد صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام، عند البخاري ومسلم، من حديث حذيفة: {أنه أتى سُباطةَ قومٍ، فبال قائماً عليه الصلاة والسلام} والسُّباطة هي: المزبلة، وجاء عن بعض العلماء من علماء السلف؛ أنه خاف صلى الله عليه وسلم أن يتلوث من هذه السباطة فبال قائماً، فإذا تأكدت أنك إن لم تفعل ذلك وقَعْتَ فيما وقَعْتَ فيه فلك ذلك: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].(255/19)
خاتمة عن فضل حِلَقِ الذِّكْر ومجالس العلم
وفي الختام: أشكركم وأسأل الله لي ولكم التوفيق.
وقبل أن أنتهي، هنا مسائل أنبه عليها باختصار:
مثل هذا المجلس، ولو لم يكسب السامع فيه فائدة، فليعلم أنه خرج بفوائد إذا أحْسَنَ النية:
- أن الملائكة حفت به.
- وأن الرحمة تنزَّلت عليه.
- وأن السكينة غشيته.
- وأن الله ذكره في ملأ خير من هذا، وهم الملائكة.
- وأننا نطمع في أمر خامس، وهو من أحسنها؛ أن يقال لنا في آخر المجلس: انصرفوا مغفوراً لكم، فتقول الملائكة: {يا رب! عبدك فلان إنما جلس لحاجة، قال: وله غفرتُ، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم} ويُروى في حديث مُخْتَلَفٍ في صحته: {مَن جلَس بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، فهي كحجة وعمرة تامة تامة تامة} ولعله إن شاء الله حديث حسن.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
والحمد لله رب العالمين.(255/20)
يوسف عليه السلام في بيت العزيز
تضمنت قصة نبي الله يوسف عليه السلام كثيراً من العظات والعبر، والشيخ في هذه الخطبة إذ يقتبس جزءاً هاماً من هذه القصة -وهو ما يتعلق بفتنة يوسف في بيت العزيز- إنما يقدم نموذجاً رائعاً وقدوة صالحة للشباب في كل زمان، وستبقى عبارة يوسف وصرخته: (معاذ الله!) ملاذاً للشباب المسلم في كل زمان.
وقد تحدث الشيخ في مطلع حديثه عن سيرة يوسف حتى وصوله إلى بيت العزيز، وأورد أقوال المفسرين في معنى: (برهان ربي) ومواضيع أخرى هامة ومفيدة تضمنتها هذه المادة.(256/1)
فتنة يوسف والبئر
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد صلى الله عليه وسلم، عز جاهك، وجلَّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت.
في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآياتك.
من استنصرك نصرته، ومن حاربك خذلته، ومن عصاك أدبته، ومن تقرب إليك بالطاعات أحببته وقربته، أنت رب الطيبين، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
والصلاة والسلام على من أرسلته شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وجاهد في الله حق الجهاد، هدى الله به الإنسانية، وأنار به أفكار البشرية، وزعزع به كيان الوثنية.
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا ً.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس: فلنستمع إلى القرآن وهو يواصل معنا عرض قصة يوسف في إبداع عجيب وفي تصوير مشرق رائع، بعد أن تركناه في الجب غريباً وحيداً ولكن معه الله يؤنسه، فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى قال عن نفسه: {أنا جليس من ذكرني} فمن ذكره فهو معه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ولذلك يقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]
هل تذكرونا مثل ذكرانا لكم رُبَّ ذكرى قربت من نزحا
بك أستجير ومن يجير سواكا فأجر غريباً يحتمي بحماكا
إني ضعيف أستعين على قوى جهلي ومعصيتي ببعض قواكا
يقول الله تبارك وتعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:19 - 24].
ترك في البئر وحيداً، وعاد إخوته يبكون بكاء كاذباً، ويعرضون دماً كذباً على قميصه، تركوه وحيداً ولكن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىمعه، ولذلك قال أهل العلم: لما أنزل يوسف عليه السلام في الجب أخذ يذكر الله، ويكبر ويهلل، قال الله: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} [يوسف:19] هو في صحراء منقطع، في بيداء ليس معه أنيس إلا الذئب، وحيداً في الفلاة لكن الله أتى بهذه القافلة، وبهذا الموكب العظيم لينقذ يوسف عليه السلام من الجب أتت القافلة من الشام تريد فلسطين فضلت طريقها، وسوف تعترض على طريقها مصر فذهبت إلى تلكم الصحراء لحكمة أرادها الله، وعناية الله تتابع من يريد الله، ورعاية الله تذهب مع عباده أنّى حلوا وأنّى ارتحلوا، يقول ابن الجوزي في صفة الصفوة: وهو يتحدث عن رعاية الله وعنايته، يقول أحد الصالحين: رأيت عصفوراً كل يوم يأخذ من المزبلة لحماً وخبزاً ويذهب به ويضعه في نخلة، وعهدي بالعصفور أنه لا يعشعش في النخل فصعدت؛ لأرى ماذا هناك، فرأيت حية عمياء كلما أتى العصفور بهذا اللحم فتحت فاها وأكلت.
إن الذي سخر العصفور للحية العمياء هو الذي سخر تلكم القافلة ليوسف عليه السلام لتأخذه من البئر، وأدلى واردهم دلوه في البئر، والقرآن عجيب في العرض، رائع في الأداء، بديع في التصوير، لم يقل: أدلى دلوه، ثم تعلق يوسف بالدلو، ثم سحب الوارد الدلو، فقال له: من أنت؟ ثم ذهب به إلى أصحابه، بل جاء بالفاء التعقيبية؛ لأن عنصر المفاجأة في الآية يقتضي ذلك {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ} [يوسف:19] أدلى دلوه فتعلق يوسف عليه السلام بالدلو، وسحب الدلو فرأى غلاماً صبيحاً أوتي شطر الحسن، فقال لأصحابه: (يا بشرى)! وقرأ أهل الشام: (يا بشرايا هذا غلام) -أي: خادم وعبد أبيعه لي- ثم يقول عز من قائل: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} [يوسف:19] وقيل: أخفوه عن الناس لأنهم ما أخبروا الناس به خوفاً أن يجدوا أباه أو إخوانه، وما علموا أن إخوانه هم الذين تركوه، وهم الذين طرحوه وهجروه وأبعدوه {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف:19].(256/2)
فتنة شراء العزيز له
فالله يتابع سيرة وقصة هذا الرسول الكريم، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف:20] وشرى هنا بمعنى باع، بثمن بخس، وهو: الدنيا وما فيها لو دفعت في مثل يوسف لكانت بخساً وغبناً، وخسارة {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20] لم يقل: موزونة بل قال: معدودة؛ لأن المعدود دائماً أقل من الموزون، فلو قال: موزونة لكانت كثيرة.
{وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20] أي: لا يرغبون فيه.
ومن اشتراه؟ ومن ابتاعه؟ إنه ملك مصر العزيز {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ} [يوسف:22] ولم يذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى العزيز باسمه لأمرين اثنين:
1/ لأن بطل القصة يوسف عليه السلام فما كان لعنصر ثانٍ أن يتدخل في القصة.
2/ ولأن كلمة العزيز لا يستحقها العزيز لأن العزيز من أعزه الله بطاعته، والشريف من دخل في عبودية الله:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
فقال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف:22] أي: أحسني طعامه وشرابه، ومكساه ومنامه، عسى أن ينفعنا في أغراضنا ويقرب لنا بعض حوائجنا، أو نتخذه ولداً {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [يوسف:22] كان العزيز حصوراً لا يأتي النساء، وكانت امرأته عقيمة، فأرادا أن يتخذا هذا الغلام ولداً يترعرع في بيتهم، يهدءون ويرتاحون إليه، وهم لا يشعرون أنه لن يكون لهم ولداً وسوف يكون نبياً من الأنبياء، ورسولاً يحمل رسالة السماء إلى الأرض، وداعية إصلاح، يحرر الشعوب، ويقود الأجيال إلى الله، فكيف يباع الحر في مصر؟ وكيف يسود العبد هناك؟! أيباع الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؟!
عجبت لـ مصر تهضم الليث حقه وتفخر بالسنور ويحك يا مصر
سلام على الدنيا سلام على الورى إذا ارتفع العصفور وانخفض النسر(256/3)
فتنة يوسف مع امرأة العزيز وأقوال المفسرين فيها
بيع عليه السلام ومكث في قصر العزيز تقياً عابداً متعلقاً بالحي القيوم، وتمر الأيام ويزداد حسناً إلى حسنه، وجمالاً إلى جماله، فتراوده امرأة العزيز، فيا للفتنة العظيمة! وياللمحنة اللئيمة! شاب أعزب غريب، شاب فيه هيجان الشهوة، ليس له أهل يعود إليهم، وغريبٌ لا يخشى على نفسه من السمعة القبيحة كما يخشى صاحب الوطن {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:23] تعرضت له كثيرا ًوتجملت له دائماً، وهي ذات منصب وذات جمال، ملكة في قصر ملك، ولكن الله معه يحفظه ويسدده، وفي يوم من الأيام غلقت الأبواب وكانت سبعة، وقال: غلقت، ولم يقل: أغلقت، زيادة في المبنى والمعنى، وغلقت للتكثير والتأبيد، غلقت الأبواب وخَلَت هي وإياه، ولكن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يراهما {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219] الذي يسمع ويرى، تجملت وتزينت وخطرت وهمت به وهم بها، خليا بالمعصية لكن ما خليا عن عين الله:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يران
يا من سترت مثالبي ومعايبي وحلمت عن سقطي وعن طغياني
والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام علي من يلقاني
وقف عليه السلام وحيداً وهم بها، أصابه شيء من النقص البشري، وألمت به الفاحشة ولما يفعل، هاجت الشهوة في قلبه عليه السلام، {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] فما هو برهان ربه يا ترى؟
اسمعوا إلى أقوال المفسرين أعرضها عليكم ثم نخرج بالصحيح الراجح إن شاء الله، قال: ابن عباس رضي الله عنهما: [[لما هَمَّ يوسف بها سمع هاتفاً يهتف يقول: يا يوسف! إنني كتبتك في ديوان الأنبياء فلا تفعل فعل السفهاء]] وقال السدي: سمع هاتفاً يهتف ويقول: يا يوسف! اتق الله إنك كالطائر الذي يزينه ريشه فإذا فعلت الفاحشة نتفت ريشك.
وقال بعض المفسرين كما أورد ذلك ابن جرير الطبري: رأى لوحة في القصر مكتوب عليها {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] وقال غيرهم: رأى كفاً مكتوباً عليه (إن عليكم لحافظين) إننا نحفظ تصرفاتكم وحركاتكم وسكناتكم، إننا نراكم، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [[لما هم يوسف عليه السلام رأى أباه يعقوب في طرف الدار قد عض على أصبعه ويقول: يا يوسف اتق الله]] وهذه الروايات أوردها ابن جرير وابن كثير.
وقال بعض أهل العلم من المفسرين أيضاً: فلما همَّت به وهمَّ بها قالت: انتظر! قال: ماذا؟
فقامت إلى صنم في طرف البيت فسترته بجلباب على وجهه، صنم لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر ولا يأكل ولا يشرب، قال: مالك، قالت: هذا إلهي أستحي أن يراني، فدمعت عينا يوسف، قال: أتستحين من صنم لا يسمع ولا يبصر ولا يملك ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وأنا لا أستحي من الله الذي بيده مقاليد الأمور!
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم أن برهان ربه الذي رآه واعظ الله في قلب كل مؤمن، والحياء من الله والخجل من الله، فارتد عن المعصية، وعاد منيباً إلى الله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] تذكر الوقوف بين يدي الله يوم يحشرهم حفاة عراة غرلاً بهما، فبرهان ربه: واعظ الله في قلبه، يعظه بالتوحيد، ويناديه بالتقوى.
فهل آن لشباب الإسلام أن يتحرك واعظ الله في قلوبهم؟! وهل آن للمسلمين أن يجعلوا من يوسف عليه السلام قدوة لهم؟
فيا من يتطلع على عورات المسلمين! أليس لك في يوسف عليه السلام قدوة؟!
ويا من يعامل ربه بالمعاصي ويرتكب الجرائم ويحرص على الزنا! أما رأيت يوسف عليه السلام قد خلا بامرأة جميلة ذات منصب فتذكر واعظ الله في قلبه؟!
ويا من يدعو إلى تبرج المرأة وإلى الاختلاط! أرأيت ما تفعل الخلطة والتبرج؟!
يوسف نبي معصوم كاد أن يزل وأن يهلك!! وأنت تنادي المرأة بأن تتبرج وتسفر عن وجهها!! فأين الواعظ، وأين التقوى، وأين مراقبة الله؟!
يقول عليه الصلاة والسلام: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس، يقول عليه الصلاة والسلام {لا تتبعوا النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية}.
فيا شباب الإسلام! أما رأيتم ماذا فعل يوسف؟
ثم قال الله له: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] لنعمر مستقبله باليقين، لنجعله من ورثة جنة رب العالمين، مع المؤمنين الخالدين، {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] فإذا أخلص العبد لله، حماه الله من المحن وجنبه الشرور.
يقول سعيد بن المسيب رحمه الله: [[إن الناس تحت كنف الله وظله إذا أراد أن يفضح بعضهم رفع ستره تعالى عنهم]].
فيا شباب الإسلام! ويا معاشر المسلمين! انظروا إلى هذا التقي النقي الورع، انظروا إلى من راقب الله فأسعده الله، ونجاه الله وحفظه.
يا واهب الآمال أنت منعتني وحفظتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(256/4)
فتنة اتهام امرأة العزيز ليوسف
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدون إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رسول رب العالمين، وقدوة الناس أجمعين، وهداية السالكين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
ثم ماذا كان بعد هذا؟
قال الله عز وجل: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:25]-يريد أن يهرب وهي تلاحقه- {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف:25] شقت قميصه وهي تلاحقه وتدعوه إلى نفسها وهو يلتجئ إلى الله ويصيح بأعلى صوته، وصوته يدوي في القصر، {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] قال جمع غفير من المفسرين إن معنى قوله: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] أي: إن زوجك وسيدي أحسن استقبالي وضيافتي فكيف يكون جزاء معروفه ورد جميله أن أخونه في أهله؟
وقال السدي: إنه ربي أحسن مثواي: إنه إلهي الحي القيوم اجتباني ورباني وعلمني وحفظني، فكيف أخون الله في أرضه؟ وكيف أعصي الله؟ وكيف أنتهك حرماته؟
فيا من أراد أن يتجاوز المحرمات ويتعدى على الحرمات! تذكر معروف الله عليك، وقل: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] قل: لا أعصي الله؛ لأنه رباني وكفاني ورزقي وآواني.
{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25] إنها قصة كلها مفاجئات، وإذا بسيده -وزوجها- لدى الباب وانظر إلى كيد النساء، تسبق يوسف بالكلام، وتلطم وتبكي وتشتكي، تقول: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] غلق علي الأبواب، ودعاني لنفسه، فما هو جزاؤه عندك إلا السجن أو عذاب أليم؟ قال ابن عباس: [[يضرب بالسياط]].
وقال يوسف بلسان الصادق الناصح الأمين التقي الورع الزاهد: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف:26] فمن هو الشاهد يا ترى؟ قيل: رجل من أبناء عمومتها شهد عليها، وقيل: ابن خالها، وقيل: رجل من الخدام، والصحيح الذي عليه الجمهور أنه طفل صغير كان في الغرفة لا يتكلم فأنطقه الله الذي أنطق كل شيء، أتوا إلى الطفل في المهد فقال: صدق يوسف وكذبت المرأة، هي التي همت به، وهي التي راودته ودعته إلى نفسها.
ولذلك في مسند أحمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {أربعة تكلموا في المهد: ماشطة امرأة فرعون، والغلام الذي مع جريج، وعيسى عليه السلام، والغلام الذي شهد ليوسف عليه السلام} وهذا سند جيد، وهذا الشاهد، وقبل أن يفضح المرأة عرض قصة ليستدل بها على أن يوسف هو الصادق قال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف:26] فبدأ بتصديقها، لأنها ملكة ولأنها صاحبة منصب، ولأن التهمة بعيدة عنها {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:27] فأتى الحكام والشهود وحضر الناس فاطلعوا فرأوا قميص النقي التقي قُدّ من دبره، فصدقوه وأعلنوا براءته، واستخلصوه ووفوه حقه من التبجيل والإكرام، إلا بعض الأمور التي سوف تأتي.
ثم قال الله عز وجل على لسان العزيز: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29] أي: لا تتكلم ولا تتحدث به في المجالس لا توزعه في الأندية، وكثير من الناس يتبجح في المجالس بالمعصية.
وقال بعض المفسرين: إن العزيز قال ليوسف: أعرض عن هذا، ولا تتحدث به إلى الشعب المصري فيبثها ويوزعها.
ثم قال: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29] انتصار على النفس الأمارة بالسوء ما بعده انتصار، وهل النصر العجيب إلا أن ينصرك الله على نفسك، وأن يعلي حظك، وألا يخيب ظنك، وأن يحفظك من الفتن، ومن المحن ومن المعاصي {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
يا من حفظ يوسف عليه السلام احفظنا بحفظك، ويا من رعاه ارعنا برعايتك يا أرحم الراحمين، ويا من حرسته احرسنا بعينك التي لا تنام إنك على كل شيء قدير.
عباد الله صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وأرض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً.
وارذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(256/5)
ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن الدين الإسلامي قام على أسس وقواعد تحفظ للمجتمع الأمن والاطمئنان والسعادة، ومن هذه الأسس: الأمر بالمعروف والنهي علن المنكر، والشرع قد جعل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضوابط وآداباً، واشترط لأهله مواصفات، وجعل لهم في نبيهم قدوة يقتدون به.(257/1)
صور من حياة السلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً، والصلاة السلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سلام الله عليكم ورحمة وبركاته، وأسعدنا الله بكم وبكل مؤمن، وأسعدنا جميعاً في دار كرامته في مقعد صدق عند مليك مقتدر، يوم يتقبل الله منا أحسن ما عملنا ويتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
معنا هذه الليلة محاضرة بعنوان: (ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ما هي الضوابط التي يقوم عليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
وما هي آداب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؟
تلكم القضايا نسمعها في هذا الدرس مستضيئين بنور الكتاب والسنة، متوكلين على الله الواحد الأحد، جاعلين محمداً صلى الله عليه وسلم إمامنا وقدوتنا.
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
فصلى الله على محمد ما ذكره الذاكرون، وغفل عنه الغافلون.
وقبل أن أبدأ بشيء من التفصيل في هذه المحاضرة أحب أن أستعرض معكم أهم القضايا التي نتدارسها في هذا الدرس:
أولاً: فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثانياً: الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثالثاً: الأسس التي يقوم عليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
رابعاً: هديه صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي.
خامساً: أهل الحسبة في الإسلام من هم؟ وما هي مواصفاتهم وأهليتهم؟
سادساً: سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الأمر والنهي.
اعلموا -بارك الله فيكم- أن بعض علماء أهل السنة عدوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الركن السادس من أركان الإسلام، وأوجبوه وجوباً قطعياً.
وتحدث شيخ الإسلام في المجلد الثامن والعشرين من فتاويه عن هذا، وقال: من ميزات الأمة المحمدية أن فضَّلها الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمم التي سبقت ما أمرت كلها بالمعروف في كل معروف، ولا نهت كلها عن المنكر في كل منكر، بل كان بعضها يأمر ببعض المعروف، وبعضها ينهى عن بعض المنكر، فلما أتى الله بالأمة المحمدية الرائدة الخالدة أمة الكتاب والسنة، الأمة التي نصبت جبهتها للشمس لترفع لا إله إلا الله، قال لها الله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] قرأ أبو حفص الفاروق قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فقال: [[والذي نفسي بيده لا يتم أول الآية حتى يتم آخرها]] لا نكون خير أمة حتى نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله، نأمر بالمعروف ولو كان السيف على الرأس، وننهى عن المنكر ولو كان الموت يتحشرج في الحناجر.(257/2)
طاوس بن كيسان
وسوف أذكر قصتين لعالمين زاهدين عابدين من علماء الإسلام، أولهم طاوس بن كيسان، عابد ومولى من الموالي، ليس له أسرة عريقة من أسر العرب، ولكن رفعه الله بالتقوى والعلم، كان زاهداً من علماء اليمن من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما، وطاوس بن كيسان راوية ثبت ثقة إمام، بل زاد بعضهم في صفته: ثبت ثبت، إمام حجة، لا يسأل عن مثله.
ذهب إلى اليمن فكان يقول الحق ولو كان مراً، دخل على محمد بن يوسف -أخي الحجاج بن يوسف الثقفي وكان ظالماً غاشماً مارداً سفاكاً للدماء- فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، فأعطاه مرة كساءً فأخذه من على رأسه، ووضعه تحت أرجله في الأرض، فقال: مالك؟
قال: ما أتيتك لتكسوني، وإنما أتيتك لآمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر.
قال له: وهل عندي منكر؟ قال: الظلم فاشٍ، أي: منتشر.
ذهب إلى بغداد - دار السلام - ليقابل أبا جعفر المنصور وأبو جعفر لا يسأل عن مثله، أدهى دهاة ملوك الأرض، حتى قال الإمام أحمد: من مثل ابن أبي ذئب كلَّم أبا جعفر، وأبو جعفر هو أبو جعفر؟
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قال تعرفن الفتى قلن نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر
دخل طاوس عليه، وكان على أنفه ذباب فأقلقه، ترك المواضع كلها، ترك السكر، والحلوى، ولا يقع الذباب بحفظ الله ورعايته إلا على أنف هذا السفاك، الذي يذبح الملوك مثل ما يذبح الدجاج، فيترك الذباب الأمراء والوزراء والعلماء ويأتي يقع على أنفه، فأخذ أبو جعفر يذب الذباب، فيطير ويقع على أنفه، قال: يا طاوس! عندي سؤال؟
قال: ما هو سؤالك؟
قال: لماذا خلق الله الذباب؟
قال طاوس: يا أمير المؤمنين! خلق الله الذباب ليذل به أنوف الطغاة!
وهذا أحسن جواب سمع في التاريخ
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] قال أهل العلم: لو أخذ الذباب شيئاً من الطعام ما استطاع أهل الأرض أن يتخلصوه منه.(257/3)
الأوزاعي
الأوزاعي الإمام العظيم لما سئل عنه بعض أهل العلم قال: لا يسأل عن مثله، ريحانة أهل الشام.
قيل: رئي في المنام أن نجماً هوى من السماء، فقيل لبعض العلماء: ما تأويل ذلك؟ قال: إن صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي.
وسألوا أحد تابعي التابعين، قال: رأيت ريحانة قطعت من الأرض وارتفعت إلى السماء، قال: الأوزاعي يموت.
كان الأوزاعي يسكن في الأوزاع في حارة من حارات بيروت عاصمة لبنان وهي ما زالت إلى الآن تسمى بالأوزاعي.
أتى عبد الله بن علي عم السفاح وعم أبي جعفر ففتح دمشق وقتل من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر اثنين وثلاثين ألف مسلم يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون الصلوات الخمس، سفك دماءهم حتى جرت السكك بالدماء، وأدخل بغاله وخيوله مسجد بني أمية ثم جلس في المسجد، وقال: من يعارضني؟ قال له وزراؤه لا يعارضك أحد، قال: هل تعلمون أحداً يمكن أن يقول لي: لا؟ قالوا: إن كان أحد يقول لك لا فـ الأوزاعي قال: عليَّ بـ الأوزاعي.
فلما ذهبوا إلى الأوزاعي قام عبد الله بن علي فدخل قصره، وقال لجنوده: صفوا صفين، واحملوا السيوف معكم حتى نرهب الأوزاعي المحدث العالم، علَّه أن يتخاذل في كلامه معنا.
ذهبوا إلى الأوزاعي فقالوا: يريدك عبد الله بن علي عم السفاح قال: الله المستعان! انتظروني قليلاً، فذهب فاغتسل، ولبس أكفانه من تحت الثياب، ما معنى لبس الأكفان؟
خطر ممنوع الاقتراب، معناه: أنه سيقول كل ما في رأسه، فليغضب من يغضب، وليرض من يرضى، لبس أكفانه وثيابه، وأتى معه عصا يتوكأ عليها وهو في الستين، بينه وبين القبر قاب قوسين أو أدنى! ماذا يريد بعد الستين؟ يقول سفيان الثوري: [[من بلغ منكم الستين فليأخذ كفناً له وليبع الدنيا بلا شيء]].
قال: فدخلت عليه وفي يد عبد الله بن علي خيزران، وقد غضب وعلى جبينه عرق من الغضب، قال: من أنت؟
قال: أنا الأوزاعي.
قال: ما رأيك في الدماء التي سفكناها؟
قال: لا يجوز لك ولا يحل لك، حدثني فلان -حتى السند يحفظه- عن فلان عن فلان.
عن جدك ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة}.
فنكت بالخيزران في الأرض وحوله الوزراء، فرأيتهم يتقبضون ثيابهم خوفاً من دمي لا يرش ثيابهم، والأوزاعي أخذ يرفع عمامته يتهيأ لضربة السيف كي لا يتلكأ السيف في العمامة.
قال: فرفع طرفه، وقال: والأموال التي أكلناها.
قال: قلت له: إن كان حلالاً فحساب، وإن كانت حراماً فعقاب.
قال: خذ من أموالنا ما شئت.
قلت: لا أريد أموالك.
قال: فسلم لي بدرة -البدرة كالكيس فيه مال- قال: فوزعتها على الجنود وهو يراني، حتى بقي كيس النقود فرميت به عند أرجله، قال: فغضب غضباً ما غضب مثله أبداً، وانتظرت متى يضرب السيف.
ثم قال لي: اخرج، فخرج والناس عند الباب، فقالوا: كيف نجاك الله يا أوزاعي؟
قال: والله الذي لا إله إلا هو لما دخلت عليه تصورته على كرسيه كالذباب، والله ما تذكرت إلا الله بارزاً على كرسيه يوم العرض الأكبر.
سبحان الله! لأن من يقدر الله يهون عليه كل شيء.
دخل ابن تيمية الإسكندرية فاجتمع غلاة الصوفية والمبتدعة يريدون قتله، قال الناس: يـ ابن تيمية يريد هؤلاء أن يقتلوك؟ قال: كأنهم والله الذباب عندي.
ابن أبي ذئب المحدث الكبير، جلس يدرس في مسجد الرسول عليه الصلاة السلام، فدخل المهدي بن أبي جعفر المنصور وقد كان خليفة، فقام أهل المسجد جميعاً إلا ابن أبي ذئب لم يقم، قال: لماذا لا تقوم يـ ابن أبي ذئب؟
قال: والله لقد كدت أقوم لك لكني تذكرت قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فتركت القيام لذاك اليوم، قال: اجلس، والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت.
والشاهد من هذا: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة، ولكن ليس من يسمع الفريضة أن يبدأ بها كما قال الأول:
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل
إنما له ضوابط وحدود وآداب، فلنستمع إلى ذلك.(257/4)
فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أما فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] وقوله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] فلا خير في كلام الناس إلا من أمر منهم بالمعروف أو نهى عن المنكر أو أصلح بين الناس أو أمر بصدقة.
قرية من قرى بني إسرائيل قص الله قصتها في القرآن، وأسلوب القرآن لا يحدثنا عن أسماء القرى لا يقول: اسمها أيلة أو يافا أو حيفا أو النقب لأن هذا ليس فيه مصلحة، يقول الله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف:163] لم يسم لنا البحر أيضاً؛ لأنه ليس في ذلك مصلحة لنا أن يكون البحر الأبيض المتوسط أو البحر الأحمر أو المحيط الأطلنطي أو المحيط الهندي، إنما الشاهد: أنها قرية على ساحل البحر، أتت هذه القرية فحرم الله عليهم صيد السمك والحوت يوم السبت، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163].
فأتى يوم السبت فحرم الله عليهم أن يصطادوا، فكانت السمك والحيتان تأتي على ساحل البحر حتى تكاد تقفز على الناس، فإذا انتهى يوم السبت وأتوا يصطادون يوم الأحد لا يجدون سمكة واحدة، ابتلاء من الله.
فقالوا: عجيب! يحرم الله علينا الصيد يوم السبت وفيه يأتي السمك، وبقية الأيام لا يأتي السمك لابد أن نحتال بحيلة، ندخل السمك يوم السبت في خنادق وأنهار ونغلقها، فإذا أتى يوم الأحد اصطدناها.
انظر إلى الخيانة وقلة الأمانة! {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] حرَّم الله عليهم الشحوم فأذابوها وجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها، فخندقوا الخنادق، وفتحوا الأنهار، وأتت الحيتان ودخلت، فإذا دخلت أغلقوا عليها، فإذا أردت أن تعود إلى البحر لا تستطيع أن تعود، وفي يوم الأحد يصيدون.
انقسم أهل القرية إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قسم فعلوا هذه الفعلة النكراء، الغشيمة الصلعاء، والداهية الدهياء، وعصوا رب الأرض والسماء.
والقسم الثاني: سكتوا كالشيطان الأخرس لم يتكلموا بشيء، كل يقول: نفسي نفسي!
والقسم ثالث: قالوا: هذا منكر؛ فخافوا الله، واتقوا الله، وقالوا لهؤلاء الفاسقين: لا نساكنكم في أرضكم، أنتم في جهة من القرية ونحن في جهة، وبنوا بينهم سوراً عظيماً وقالوا: لا تدخلون إلينا ولا نخرج إليكم، أنتم عصاة وأعداء لله، قد تعديتم حدود الله؛ والله لا نأتيكم ولا تأتونا أبداً، تركوا بينهم نوافذ فقط للتهوية أو للنظر بعضهم ينظر لبعض، وأتى عذاب الله.
وابن عباس رضي الله عنه وأرضاه متوقف يقول: ما أدري ما فعل بالثالثة التي سكتت وعكرمة يقول: أظن أن الله أنجاها وفي الصباح أتى أمر الله الذي لا يرد عن القوم الخاسرين، فقال الله لهم: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] كلمة كن {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] أمسوا رجالاً ونساء آدميين وناموا ولهم أعضاء وعيون، يتكلمون ويبصرون، وأصبحوا وهم قردة، وفي الصباح قام هؤلاء فلم يسمعوا صوتاً لأولئك ولا حركة، فنظروا إليهم من النوافذ فوجدوهم قردة.
فيقولون: أين فلان منكم؟ فيرفع القرد يده يقول: أنا، ينادون أين فلانة بنت فلان فترفع يدها.
سبحان الله! هؤلاء هم الممسوخون، وبقي هؤلاء نجاهم الله، أما الطائفة الثالثة فنتوقف فيها لا ندري ما فعل الله بها لكنها طائفة في الحقيقة لم تقدم خيراً لدينها وما غضبت لله.
وفي بعض الآثار أن عابداً من بني إسرائيل اعتزل في قرية، وكان يصلي ويصوم ويعبد الله، لكن المنكرات حوله، الزنا، الربا، شهادة الزور، التقاتل، التناحر، فأنزل الله جبريل، وجبريل عليه السلام متخصص في الإبادة والنسف والإحراق، ولذلك كان بنو إسرائيل لا يحبون جبريل.
يقولون كما في صحيح البخاري للرسول عليه الصلاة السلام من الذي يأتيك؟ قال: جبريل! قالوا: لو سميت لنا غير جبريل لكنا أسلمنا وأطعناك، قالوا: إن جبريل هو الذي كشف أسرارنا، وهتك أستارنا، فأنزل الله عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] ويكفي أن الله عدو لهم لأنهم عادوا هذا، فنزل عليه السلام أراد القرية فوجد العابد وعاد إلى الله والله أعلم قال: يارب! عبد في القرية يعبدك كيف ندمره معهم؟ قال: به فابدأ، لأنه لم يتمعر وجهه من أجلي.
فعلم من ذلك أن خطورة السكوت تعم، وأن الإنسان الذي يعيش سلبياً في المجتمع ليس بمسلم كامل الإسلام، نعم قد ينجو في الآخرة، لكنه أساء لدينه ولمستقبله ولأمته ولبلاده.(257/5)
الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال عليه الصلاة السلام كما في صحيح مسلم عن أبي سعيد: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} ولعلماء أهل السنة شرحان اثنان ومنهجان في هذا الحديث.
المنهج الأول: ينزل معنى الحديث على أصناف الناس، من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، هذا لأهل السلطة التنفيذية، للقضاة والأمراء، لمن في يدهم سوط وسيف، فهذا القسم لهم {فليغيره بيده}.
{فإن لم يستطع فبلسانه} هذا للدعاة وللعلماء وطلبة العلم.
{فمن لم يستطع فبقلبه} هذا للذي لا يملكون حجة وبياناً ولا سيفاً ولا سناناً، فهم: ليسوا من العلماء والدعاة، ولا من الأمراء والقضاة، فعلى هؤلاء أن ينكروا بقلوبهم.
المنهج الثاني: وهو منهج تدريجي تطويري على جميع المسلمين، على المسلم أن ينهى أولاً بيده إن استطاع؛ كما ستأتي الشروط، فلا يجلب مفسدة أعظم، يقول لأحد الناس: لا تسبل إزارك ثم يضربه على وجهه مع الصباح كفاً حاراً، فيأتي هذا، فيقسم بالله لا يصلي في المسجد، كما فعل من فعل من بعض الناس وأخذته العزة بالإثم، فأصبح فاجراً مركباً بعد أن كان فاجراً بسيطاً.
{فإن لم يستطع فبلسانه} يتكلم، لكن إذا خشي الضرر فعليه أن ينكر بقلبه، وهذه درجات، وهما منهجان لا ثالث لهما في شرح الحديث.
وقف أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه -كما عند الترمذي وأحمد - على المنبر، فقال: {يا أيها الناس! إنكم تقرءون هذا الآية وتحملونها على غير محملها، وهي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:105] وإني سمعت الرسول عليه الصلاة السلام يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشكوا أن يعمهم الله بعقاب من عنده}.
أي: أن كثيراً منكم لا يفهم معنى الآية، ويظهر لبعض الناس أن معنى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105] أي: أقيموا أمر الله في نفوسكم، والتزموا أوامر الله ولا عليكم من الآخرين، وهذا خطأ، فإن معنى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105] أي: إذا أمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، فلا يأتيكم ضرر إذا وقع العذاب {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] أي: بعد أن تأمروا وتنهوا.
واعلموا أن الرسول عليه الصلاة السلام قال في أكثر من مناسبة: {والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه قصراً، أو ليخالفن الله بين قلوبكم، ثم يلعنكم كما لعن الذين من قبلكم} نعوذ بالله من لعنة الله، والحديث عند أبي داود وغيره.
والله يقول: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
وربما يتساءل متسائل فيقول: ما هي المنكرات التي يمكن أن نحولها؟
فنقول له: أما رأيت إلى المنكرات، وإلى رءوس الشياطين، وإلى الفتن صباحَ مساءَ، وإلى ما قذفتنا بها الثقافة والحضارة المادية من رجس ومعاصٍ والعياذ بالله، تدخل عند الخياط فتجد عشرات المنكرات، وكذلك عند المصور، والحلاق، والبائع، وغالب الناس، كل مكان لا يخلو من منكر يحب عليك إذا رأيته أن تغيره بحسب المستطاع.
لكن أما ترى عشرات الناس ومئات الناس من أهل الدعوة والاستقامة يمرون صباحَ مساءَ ولا يتكلمون بكلمة، هذا من الأمر السلبي الذي تعيشه الأمة الإسلامية في هذا الزمن، وله تفصيل سوف يأتي.(257/6)
أسس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أما أسس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي ستة، ومن لم يقم بها فقد نقص عليه شيء من مواصفات ومؤهلات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أسردها ثم أفصلها:
الأول: العلم بالمعروف والعلم بالمنكر، ولا يعلم المعروف والمنكر إلا بالكتاب والسنة.
الثاني: الحكمة في الأمر والحكمة في النهي.
الثالث: تحصيل المصلحة من الأمر والمصلحة من النهي، ولا تكون المصلحة أقل بل تكون أعظم.
الرابع: التدرج في المأمورات والمنهيات، كما فعل بعض الناس، رأى رجلاً أجنبياً يدخن، فأتى يتكلم معه في تحريم الدخان، سبحان الله! نصراني لا يعرف الله ولا اليوم الآخر ولا يعرف الجنة ولا النار، هو لم يسلم ولم يتوجه إلى الله عز وجل، ولن ينفعه إذا ترك الدخان وحرم الدخان، أو رأى زنديقاً أو بوذياً يسبل ثيابه أو يأكل باليسار، فيقول: لا تأكل باليسار لأنه ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر بسند رجاله ثقات أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه؛ فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله} هو لا يعرف البخاري ولا مسلماً ولا أبا هريرة ولا محمداً ولا الله ولا اليوم الآخر، فهذا لا يجدي فيه.
الخامس: الحلم والصفح والصبر.
السادس: عمل الآمر بالمأمور واجتنابه للمنهي، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].(257/7)
العلم بالمعروف والمنكر
فلا يكون المعروف معروفاً إلا إذا دل عليه الكتاب والسنة، أنت لا تقول للناس: هذا معروف وهو ليس بمعروف، كيف نعرف أن هذا الأمر صحيح إلا بالكتاب والسنة، بقول الله وبقول الرسول عليه الصلاة السلام، أن نأتي إلى أشياء ونقول: هي المعروف وهي ليست بمعروف فليس بصحيح.
مثل: أن نتحكم في جلسات لم يأتِ بها الكتاب والسنةِ، ونقول للناس: اجلسوا هكذا، كلوا هكذا، تكلموا هكذا؛ فإن هذا ليس بصحيح.
ولا يعرف المنكر أنه منكر إلا إذا عرف من الكتاب والسنة أنه منكر، ولو قال بعض العلماء: إنه منكر ولكن ليس في كتاب الله أو في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه منكر فليس بمنكر، فهذا قاعدة عظيمة، وأحسن من شرحها فيما علمت الشاطبي في كتاب الاعتصام.(257/8)
الحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لابد من الحكمة في تغيير المنكر فيكون الآمر والناهي حكيماً، فليس كل إنسان يستطيع أن يأمر وينهى، فالجاهل والسفيه يفسد أكثر مما يصلح، مثل من يريد تغيير منكر فيجر على الأمة سفك الدماء، واختلاف الكلمة، وتشتيت الأطفال، وتشريد النساء، فهذا أساء وليس بحكيم، بل إبقاء المنكر كما هو أحسن من استحداث فتنة أعظم، لأنه المقصود من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] فمن قاتل لتكون فتنة لم يحسن بل أساء.(257/9)
تحصيل المصلحة من الأمر والنهي
ذا علمت أن هؤلاء يعودون من الضلالة إلى الهدى، ويصلح حالهم فلك أن تأمرهم، أما إنسان يأمر بعض الناس، ويعلم أنه سوف يزداد شراً وخبثاً فالمصلحة ألا تأمر ولا تنهى، كأن تأتي إلى بعض الناس وهو جالس في مكانه فتدعوه إلى الله وتعلم أنه سوف يسب الله لو دعوته، فالمصلحة ألا تدعوه وألا تنهاه قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] وقد وجد من بعض الناس أنه دعا بعض الناس إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فسب هذا المعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم.(257/10)
التدرج في المأمورات والمنهيات
فمثلاً عند أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر تبدأ أولاً بالعقيدة، وبالفرائض، لا يصح أن نأتي إلى مجتمع لا يقيم الصلوات، فندعوه إلى تربية اللحى، لا ينفعنا أن يربي الناس لحاهم وليس لديهم إيمان، لا ينفعنا الشعر إذا لم يكن هناك شعور.
الرسول صلى الله عليه وسلم أتى والخمر يُشرب داخل الكعبة وداخل الحرم، فهل قال لهم: إن الخمر حرام، اتركوا الخمر؟ وهم أليسوا ملحدين، زنادقة، يسجدون للأصنام والأوثان، تركهم والخمر وقالوا: ماذا تريد؟ قال: قولوا كلمة تدين لكم بها العرب والعجم قال أبو جهل: وأبيك وعشراً، نعطيك ولو طلبت مئات الكلمات ما هي الكلمة؟ قال: قولوا: لا إله إلا الله، قال: أما هذه فلا، هذه تغير الدنيا، هذه معناها: الدخول في الدين أو النار.
فلذلك بدأ صلى الله عليه وسلم بالعقيدة عندما أرسل معاذاً إلى اليمن فقال: {ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة} ثم تدرج إلى الزكاة، والصوم، والحج، لكن أن يأتي الإنسان إلى قريب له لا يصلي، معرض فاجر فيبدأ معه في جزئيات، وهذا ليس بصحيح، قد يجاملك ويفعل ذلك لكنك لم تفعل شيئاً في الدعوة.(257/11)
الصبر والحلم والصفح
وهذه الثلاث من ضرورات الداعية المسلم.
يقول لقمان عليه السلام لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] قال أهل العلم: إنما قال {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] لأنه سوف يبتلى ويؤذى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] ضربوا الرسول عليه الصلاة السلام، شجوه حتى سال الدم من وجهه، أتوا إلى بعض الأنبياء فكانوا يضربون النبي حتى يغمى عليه ثم يفيق ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، أتوا بالسيوف فنشروا بعض الأنبياء من بني إسرائيل بالمنشار حتى قسموه نصفين، طاردوا زكريا ففر، وأخذ يحيى فذبحوه، ثم قتلوا زكريا، وكلهم يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، ولذلك سوف نستمع إلى نماذج من حياته صلى الله عليه وسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(257/12)
التطبيق قبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أما عمل الآمر بالمعروف واجتنابه عن المنكر فهذا ضرورة، ولا يجعل الله تأثيراً ولا قبولاً لمن يخالف قوله فعله، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] قال: لا أريد أن أنهاكم عن شيء وأفعله أو آمركم بشيء ولا آتيه.
لكن ليعلم أن هذا يحتاج إلى شيء من التفصيل: وهي قضية أنه لا يلزمك أن تفعل النوافل التي تقولها، ويلزمك أن تفعل الفرائض التي تقولها للناس، فلا يلزم الداعية النوافل التي يقولها للناس أن يفعلها جميعاً لأنه قد لا يستطيع، مثل ماذا؟ مثل أن تأمر الناس بالصدقة قد لا يكون عندك عشاء ليلة، فمن أين تتصدق، حتى تتوقف إذاً عن دعوتهم إلى الصدقة، لا مرهم بالصدقة، قد تدعوهم إلى قيام الليل لكنك لا تستطيع في بعض الفترات أن تقوم الليل، فعليك أن تدعو وتواصل فالنوافل أمرها في سعة، أما الفرائض فلا، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].(257/13)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أما ميزات هديه صلى الله عليه وسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكما يلي:(257/14)
الأسلوب الأول: الدعوة إلى العقيدة أولاً
عندما أتى صلى الله عليه وسلم دعا إلى العقيدة، وقف على الصفا فجمع الناس وقال: يا أيها الناس! يا بني عبد مناف! يا بني هاشم يا بني كعب بن لؤي! يا بني تيم! فاجتمعوا جميعاً حتى ملئوا ما بين الصفا والمروة فقال: {يا أيها الناس لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن هذا الوادي تريد أن تصبحكم أمصدقي أنتم؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، يا فاطمة بنت محمد! أنقذي نفسك، لا أملك لك من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب! أنقذ نفسك، يا بني هاشم!} فلما انتهى قام أبو لهب (والأقارب عقارب).
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
ليتها جاءت من البعيد! قام وقال: أدعوتنا؟ لهذا قال: نعم.
قال: تباً لك سائر اليوم، فتولى الله الرد عليه من فوق سبع سماوات، فقال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] فما زال يدعو ثلاث عشرة سنة إلى لا إله إلا الله.(257/15)
الأسلوب الثاني: البدء بالأقارب
فأول ما ينطلق المسلم من بيته ومن أولاده ومن أطفاله، حتى يجعل بيته ثكنة إسلامية تشع بالأنوار والخير والهداية.
هل يليق أن يذهب إنسان فيروي الظمأى ويشبع الجوعى وأهله يموتون جوعاً وظمأ؟ ليس هذا بلائق، الأقربون أولى بالمعروف {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فعلها صلى الله عليه وسلم، فعلى المسلم أن يبدأ ببيته ثم الجيران ثم القرابة وهكذا، فكان هديه صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بالقرابة قبل الناس.(257/16)
الأسلوب الثالث: اللطف واللين
فلا يوجد ألطف من محمد عليه الصلاة السلام، ولذلك قال عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وقال له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
يجلس في المسجد عليه الصلاة السلام ومعه أصحابه، ويأتي أعرابي وهو ذو الخويصرة اليماني فيبول في طرف المسجد، ويقوم الصحابة يريدون أن يبطحوه.
كل بطاح من الناس له يومٌ بطوح
البطح أسلوب من التعزير، هو أن يوضع الرجل على بطنه فيضرب حتى لا يدري أين القبلة! هل هي هنا أم هناك؟ فإذا استفاق استفاق وهو يقول: أصبحنا وأصبح الملك لله، فقام الصحابة فقال عليه الصلاة السلام: {لا تُزرِمُوه} وفي رواية: {لا تقطعوا عليه بوله} أو كما قال صلى الله عليه وسلم فتركوه، فلما انتهى استدعاه صلى الله عليه وسلم ووضع يده على كتف الرجل، وهذه يد الأنس واللطافة والتحبيب وقال: {إن هذه المساجد لا تصلح لأذى ولا لقذر، وإنما هي للصلاة والذكر والتسبيح، عليَّ بذنوب من ماء} المسألة سهلة حلها محمد عليه الصلاة السلام.
يقول برناردشو لو كان محمد صلى الله عليه وسلم فينا لحَلَّ مشاكل العالم وهو يشرب فنجان القهوة.
والشاهد ليس في شرب القهوة؛ لكن في هدوئه صلى الله عليه وسلم، المشكلة سهلة لكن لو قام الصحابة وتركهم صلى الله عليه وسلم ضربوه وضربهم وهرب من المسجد وكفر بالله ثم تكونت شائعة مغرضة ضد الإسلام، ونفر الناس عن الرسول عليه الصلاة السلام، لا يزال يأتي ويقول: فروا وانجوا بأنفسكم، أتيت إلى رسول يضرب الناس ليس عنده إلا بطح على الأرض، الذي يريد البطح والفرش والضرب يأتي إلى المدينة فلا يسلم الناس، فاستدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم وبين له.
وقام الرجل فتوضأ وأتى يصلي، وقال في التشهد الأخير: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فالتفت الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلاة، فقال: من الذي دعا آنفاً؟ هو يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الأعرابي هل يقولها أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي؟
لا.
هؤلاء علماء وسادة ونجوم يعرفون، والواحد يوجه ملايين من الناس، قال: من قالها؟ -وأسلوب التورية سوف يأتي معنا هو العنصر الرابع في أسلوبه صلى الله عليه وسلم- قال الأعرابي: أنا وما أردت إلا الخير، قال: {لقد حجرت واسعاً} أي: ضيقت رحمة الله التي وسعت كل شيء {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] فعاد إلى قومه فأخبرهم بأخلاق الرسول عليه الصلاة السلام فدخلوا في دين الله أفواجاً.
أعرابي آخر وأصل الحديث في الصحيحين يمشي الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة متوجهاً إلى المسجد والأعرابي يأتي من ورائه صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فيسحبه سحباً عنيفاً، فيلتفت صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم، وفي رواية مسلم يضحك، وقد كان بإمكانه أن يلتفت بدون تبسم أو ضحك، فهو يأسر القلوب، وفي كل بسمة أسر، وفي كل حركة هداية، وفي كل إشعاعة نور.
نسينا في ودادك كل غال فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاًَ يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا
التفت وهو يضحك، قال: ما تريد؟ قال: أعطني من مال الله الذي عندك لا من مال أبيك ولا من مال أمك.
كلمات ليس لها داعي، لكن العقول الفاسدة الجافة لا تعرف الأدب، نسأل الله أن نكون ممن منَّ عليه بالإسلام.
فأتى الصحابة ليؤدبوه فقال: دعوه، فأخذه وذهب به فأعطاه شيئاً من المال، فنزل إلى الصحابة، فقال: يا أعرابي هل أحسنت إليك؟ قال: لا، ما أحسنت إلي، فأخذه صلى الله عليه وسلم مرة ثانية فزاده، قال: هل أحسنت إليك؟
قال: نعم!
جزاك الله من أهل وعشيرة خير الجزاء.
قال: عد إلى أصحابي، فإذا سألتك أمامهم، فقل هذا الكلام ليذهب ما يجدون في صدورهم، عاد فسأله، قال: نعم جزاك الله من أهلٍ وعشيرة خير الجزاء، ثم أسلم الرجل.
هذا في رواية أنس أنه أسلم، وأنا أستغفر الله إن كنت وقفت منه موقف المعارضة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: {إنما مثلي ومثلكم ومثل الأعرابي كرجل كان له دابة فرت منه فذهب يطاردها، فأتى الناس يلاحقونها، فما زادت إلا فراراً، قال الرجل للناس: أيها الناس! دعوني ودابتي أنا أعلم بدابتي} هذه الرواية سندها جيد وليست إلا عند مسلم، لكني أقول: سياقها بهذا بالزيادة، {فأخذ -هذا الرجل- خشاشاً من خشاش الأرض وخضرة الأرض وأشار للدابة فأتت فأمسكها وقيدها، قال: ولو تركتكم والأعرابي لضربتموه ثم كفر ثم دخل النار} أو كما قال عليه الصلاة السلام، حلم وأناة ولطف ولين.(257/17)
لين موسى وهارون مع فرعون
أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون، فقال لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] يقول ابن كثير قال ابن عباس: أي: منياه بالملك والشباب والصحة، قل يا موسى لفرعون إذا أسلمت متعك الله بشبابك وبملكك وبصحتك.
بالله نحن ونحن بسطاء، والواحد منا ليس له ذاك الأثر في المجتمع، لو أتانا رجل ولو كان أعلم أهل الدنيا وقال: يا فلان قاتلك الله لِمَ لا تستقيم على أمر الله؟! دمر الله مستقبلك لِمَ لا تتوب إلى الله؟! والله ليغضبن أحدنا وليخرجن إليه مقاتلاً.
لكن ما رأيك بملك من الناس أو زعيم من الزعماء يرى أن الدنيا يجب أن تصغي له وأن تسير في مساره، وأن تسجد له من دون الله، فأتى إليه موسى وقال قولاً ليناً.
قال أبو أيوب الأنصاري معنى قوله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] أي: نادياه بالكنية قولاً يا أبا مرة وكان اسمه أبو مرة مرر الله وجهه في النار، فكان يقول له والمترجم بينهما هارون: يا أبا مرة إذا أسلمت أبقى الله لك ملكك، يا أبا مرة يا أبا مرة والكنية فيها لطافة.
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه فالسوءة اللقب
كذاك أدبت حتى صار من خلقي إني وجدت ملاك الشيمة الأدب
ولذلك قد يتهم بعض الناس بعض الدعاة بسبب التنازل في بعض الكلمات ولها مقاصد، وقدوتهم في ذلك موسى ومحمد على الأنبياء جميعاً صلاة الله وسلامه، والقلوب لا تنقاد إلا بالحب.
دخل رجل من الوَّعاظ على هارون الرشيد قال: يا هارون! قال: نعم، قال: استمع لي لأقولن لك اليوم كلاماً شديداً، قال: والله لا أسمع، قال: ولم؟ قال: أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] كيف يدخل إلى القلوب بكلمة قاسية؟ هذا لا يكون، كان أسلوبه صلى الله عليه وسلم الدخول إلى قلوب الناس باللين، نحن نتحدى وغيرنا يتحدى أن يوجد في كتب السنة أو كتب السيرة كلمة بذيئة قالها الرسول صلى الله عليه وسلم.
هل سمعتم أنه قال لكافر: يا حمار أو يا منتن أو يا قبيح أو كذا؟ لا، كان عفيفاً قريباً من القلوب حتى أسر الناس.
وفي السيرة لابن هشام بسند جيد أن أبا سفيان لما عفا عنهم صلى الله عليه وسلم في الحرم بكى أبو سفيان، وقال: لا إله إلا الله ما أرحمك، ولا إله إلا الله ما أبرك، ولا إله إلا الله ما أوصلك، ولا إله إلا الله ما أكرمك، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه ورد كما رد يوسف: {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92] عفا عنهم ولذلك كسب قبائل العرب.
يقول الأستاذ علي الطنطاوي: نحن العرب مثل قرون الثوم إذا كشفت قرناً خرجت ثلاثة قرون!! وإذا كشفت القرن الثاني خرج ثلاثة، كلهم زعماء وكلهم أهل سيوف ما جمعهم قبل الإسلام ملك ولا زعيم ولا دولة ولا حضارة ولا ثقافة ولا فنون ولا هيئة، اليهود والنصارى واليونان والصين والرومان وفارس مجتمعون إلا العرب.
الواحد منهم أخوه من أبيه وأمه يذبحه عند مربط الشاة على عود من الحطب، الواحد منهم يجزر أخته بالسيف كما يجزر الدجاجة.
أمة همجية لولا أن الإسلام نظمها وقادها إلى الله، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] يوم كانت هذه الأمة تعلن ولاءها واقفة لله عز وجل نصرها وجمع كلمتها، لكنها لما أعرضت عن منهج الله؛ هزمت وتقهقرت.
كما يقول أحدهم متحدثاً عن العرب:
دمشق يا كنز أحلامي ومروحتي أشكو العروبة أم أشكو لك العرب
أبلت سياط حزيران ظهورهم فقبلوها وباسوا كف من ضربا
وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا
إلى أن يقول:
لكن أُبشِّر هذا الكون أجمعه بصحوة لم تدع في صفنا جربا
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضبا
إلى أن يقول فيها:
لا بائع الرخص في سوق النخاسة أو من همه في الورى أن يكسب اللعبا
إنما هذه وقفة، وللحديث كلام آخر، وإنما أتكلم في موقفه صلى الله عليه وسلم يوم قاد هذه الأمة باللين والحكمة.(257/18)
الأسلوب الرابع: التورية في الخطاب
الفضيحة ليست بنصيحة، الفضيحة علامة فشل، والداعية لا يفضح الناس ولا يصرح بالأسماء على رءوس الأشهاد، والرسول صلى الله عليه وسلم استخدم أسلوب التورية والإمام الشافعي يكتب لـ أحمد رسالة يقول فيها:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
تعمدني بنصحك:
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
أتريد أن تفضحني على رءوس الأشهاد لكي تقودني إلى الجنة؟ قلبي لا يرضى أبداً، هذه طبيعة وضعها الله في الناس، ولذلك كان يقف صلى الله عليه وسلم فيقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا فيعرف صاحب الخطأ خطأه ولا يدري الناس أن صاحب الخطأ أخطأ.
صاحبنا نحن أزد شنوءة من قبائلنا نحن أهل الجنوب، ابن اللتَبِيَة أو اللتْبِيَة كما ضبط عند ابن حجر وغيره، أسلم فوضعه صلى الله عليه وسلم على الصدقات، قال تذهب تجمع الزكوات من الناس والأغنام والمواشي وتأتي بها قال: أبشر حباً وكرامة يا رسول الله.
فيذهب إلى أهل الغنم فيؤدون له هدية، والهدية للعمال غلول لا تجوز، ولولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عينه ما أهدوا له هدية، أتى في المدينة يسوق الغنم، وإذا بسربين من الأغنام في الميمنة وفي الميسرة، قال صلى الله عليه وسلم ما هذه؟ قال: هذه لكم، وهذه أهديت إلي، الرسول صلى الله عليه وسلم غضب.
وقال صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، الصلاة جامعة، الصلاة جامعة، دائماً الأخبار الخطيرة يبثها صلى الله عليه وسلم من على المنبر، لكن هل يقول على المنبر: ابن اللُّتْبِيَة؟ لا، قال: {ما بال أقوام أرسلهم لجمع الصدقات فيأتي أحدهم فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، هلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه، والذي نفسي بيده لا يأخذون كثيراً ولا قليلاً إلا أدوه يوم القيامة} أو كما قال عليه الصلاة السلام.
فقام رجل أسمر من الأنصار من الأمراء فقال: خذ عملك يا رسول الله! قال: ولم؟ قال: سمعتك تقول ما قلت الآن وقام رجل آخر بخيطين اثنين من صوف قال: هذا أخذته من غنيمة كذا وكذا، ومن غزوة كذا وكذا، قال صلى الله عليه وسلم: {كيتان من النار}.
إذاً: الشاهد التورية فلم يكن صلى الله عليه وسلم يظهر الأسماء، ولا يفضح على رءوس الأشهاد، ومخاطبة الناس فن، ولذلك ينصح -وهذه من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم- من يأتي إلى قبيلة أو مجتمع ألا يجرح شعورهم بل يمدحهم بما فيهم من الخير الرسول صلى الله عليه وسلم قال: لبني عبد الله من بني شيبان: {يا بني عبد الله! إن الله قد أحسن اسمكم واسم أبيكم فاستقيموا أو أسلموا} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ليس الصحيح أن يأتي الإنسان إلى مجتمع فيسبه ويقدح فيه ثم يطلبهم إلى الهداية، القلب لا يتحمل، والشعور ينجرح، وماء الوجه يسكب، فحنانيك ترفق إنها القلوب.(257/19)
أهل الحسبة في الإسلام
أهل الحسبة اختفوا إلا قليلاً في هذا العصر، تعريفهم كما قال أهل العلم: هم طائفة من المؤمنين جندوا أنفسهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير طلباً للأجر من الله تعالى وإصلاح العباد والبلاد.
هذه مواصفاتهم، ليس عندهم ألغاز ولا أحاجي ولا دنميت، عندهم إصلاح الناس، يأخذون الإنسان من الخمارة ومن البارة إلى طريق الجنة، يأخذون الإنسان التائه الضال العربيد المغني الراقص بدلاً من أن يضل المسلمين ويطيل ويرقص ويدقدق، يقولون: هذه طريق الجنة، وصلِّ الخمس، بدل أن يجلس على الشاطئ يغازل بنات المسلمين يقودونه إلى جنة عرضها السماوات والأرض، هؤلاء هم أهل الحسبة، ولا يلزم أن يكونوا موظفين وعندهم بطاقات، بل يلزم أن يكون عندهم شيء من الفهم والعقل والخوف من الله والإخلاص، هؤلاء هم أهل الحسبة.
وأعظم من اشتغل في الحسبة أصحاب الرسول عليه الصلاة السلام، ومن التابعين سعيد بن المسيب: كان ينزل إلى أسواق المدينة وعروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة إلى أن وصل الحال إلى شيخ الإسلام فأعلن الحسبة بطائفة معه من الناس، فكان ينزل إلى سوق دمشق ويأمر ويقيم الحدود؛ لأنه وجد في عهده من لا يقيم الحدود، فقام بنفسه وأقام الحدود، فكان خطيباً على المنبر وداعيةً وواعظاً ومفتياً ومجاهداً وزاهداً وعابداً.
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
ينزل إلى السوق مع مقصه إذا رأى طويل الشوارب تصدق وتبرع عليه وقصها، قال: هذا خلاف السنة، مر في السوق، فوجد نصرانياً يتكلم في الرسول صلى الله عليه وسلم فتقاتل هو وإياه وارتفعت القضية إلى السلطان فجلد ابن تيمية، لكنه جلد في سبيل الله.
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
دخل التتار وهو في غرفته قرب سوق دمشق فخرج وشرب في اليوم السابع عشر من رمضان كأساً من الماء، وقال لأهل دمشق: اشربوا الماء، وأفطروا، فالعدو أقبل، يجب عليكم وجوباً أن تخرجوا للجهاد، خرج وأخذ السيف وسله وقاتل، حتى يقول بعض الناس: سمعت شظايا كسار سيف شيخ الإسلام في معركة شقحب من على رءوس الناس، أي عالم هذا العالم؟! أي إنسان هذا الإنسان؟! الحقيقة بالغنا فيه، لكن حبك الشيء يعمي ويصم.
يقولون لـ ابن الجوزي: أنت تحب أحمد أكثر من اللازم، يعنون أحمد بن حنبل فقال على المنبر:
أتوب إليك يا رحمان مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوب
وأما عن هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوب
.(257/20)
مواطن تواجد أهل الحسبة
ما هي المواطن التي يتواجد فيها أهل الحسبة؟
أهل الحسبة يجوبون النوادي وتجمعات الناس والأسواق، ودكاكين الباعة وأهل الخياطة، والمجالس العامة والحوانيت وأهل الصياغة، فيأمرون وينهون بالحكمة والموعظة الحسنة.
إذاً: أهل الحسبة ليس لهم حد، وقضية تحجيم الدعوة في المساجد ليس بصحيح، الداعية يدخل إلى نوادي الرياضة يأمر وينهى؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم دخل سوق عكاظ، الذي كان فيه خمر وزناً ورباً فأتى بجمله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى لا إله إلا الله.
الداعية يدخل إلى المقاهي ينصحهم؛ لأن الذين أتكلم فيهم الآن في المسجد كلهم أولياء لله، سواء كان أحدهم ظالماً لنفسه أو مقتصداً أو سابقاً بالخيرات، لكن في المجمل هم أولياء لله، ولم يأتِ أحدهم إلا ليصلي، لكن قل لي: عشرات الناس الذين في المقاهي، والأندية، والشواطئ، من الذي يدعوهم إلى الله؟!
كل الذين أمامي أعرف أن باستطاعتهم أن يكونوا دعاة إلى الله، وأعرف أن منهم علماء ومشايخ أفضل من المتكلم وأعلم وأحرص على الدعوة.
في تجمع من التجمعات، عند عالم من العلماء، في إحدى المدن تجمع ستة آلاف شاب لحضور هذه المحاضرة، تكاثرهم الناس ورأوا أن العدد كثير -وهو كثير- فلما خرجوا من المحاضرة رأوا نادياً رياضياً، فوجدوا فيه ما يقارب ستين ألف شاب، اجتمعوا للتشجيع، ستة آلاف هنا وستون ألفاً هناك! لأن أهل الخير يوم يجتمعون في مكان يتكاثرون أنفسهم، لكن من يدعو هؤلاء الستين ويدخلهم المسجد، صحيح أن دعوة الناس الجاهزين سهلة، وأن الذين تهيئوا للهداية سهلة، ولكن من الذي يخرج الناس من الضلالة إلى الهدى إلا أولياء الله عز وجل، وهي مهمة الأنبياء والرسل، ولذلك الرجل كل الرجل من يأتي برجل من المقهى لا يعرف الله فيعرفه بالله، يأتي به إلى المسجد، أما من يتكلم في من هو متهيئ سني عابد فهذا أمره سهل، ولو أنه مأجور على كل حال.(257/21)
وسائل أهل الحسبة
نحن نعيش في العصر الذي نعيش فيه، ولكن منهجنا يبقى الكتاب والسنة، لأن البعض كتب في بعض هذه الرسائل -وقد قرأت بعضها- يقول: لا تسرفوا في استخدام الوسائل وتخرجوا عن المنهج، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى الله على حمار فنصره الله! هل نترك السيارة الأمريكية، نسافر إلى الطائف نلقي المحاضرات على حمير؟! ونقول: يحرم التكلم في مكبرات الصوت لأن الفرنسيين صنعوها، ونترك المراوح واللمبات والنظارات، والأقلام، ونقول: صنعها الكفار، فهذا ليس بصحيح، هذه الوسائل وجدت فنستخدمها؛ لأننا إن لم نستخدمها استخدمها أهل الباطل ودمرونا بها والله يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] أليس من القوة أن نأخذ هذه الوسائل؟ بلى.
وسائل السلف كانت الخطابة، وما زالت هي الوسيلة المستخدمة إلى الآن، ولابد من سياط الوعظ في القلوب.
ولا يمكن استغناء الأمة عن الوعاظ ولا عن الفقهاء، الفقهاء مهمتهم أن يفتوا الناس عن الماء إذا خالطه الكافور، وعن بيع العينة، وعن أقسام المياه الثلاثة، ولابد من هذا الواعظ الذي يذكر باليوم الآخر، أما أن نتكلم دائماً عن الماء المشمس والماء إذا خالطه كافور، وعدة المطلقة فسوف تقسوا القلوب ولو أنها فقهت شيئاً من أمور الدين، ولا نبقى دائماً نقول للناس: تموتون وتبعثون وتحاسبون، فأين العلم؟ لابد من مدرسة الوعظ، ومدرسة العلم، وكذلك كان درس النبي صلى الله عليه وسلم، بل القرآن وعظ ترغيبي ترهيبي وعلم تنصيصي فقهي، كما قاله كثير من العلماء، فلا بد من المسارين الاثنين.
فشكر الله جهود العلماء الذي يفقهون ويفتون الناس، وشكر الله جهود الوعاظ الذين يعظون الناس، كلنا بحاجة إلى مدرسة الوعظ ومدرسة الفقه، أما الكلمة العابرة فطيبة.
وأخبركم بقصة رجل حدثت له عندما ذهب مع بعض الشباب إلى مكة لأداء العمرة في رمضان، وفي أثناء الطريق كان هناك محل غناء، فذهبوا فوجدوه يغني ويطبل فنسقوا له خطة لإدخاله في مصيدة الهداية، وليدلوه على الجنة فقط، فهم يريدون منه شيئاً قادياً، أرسلوا أحدهم قالوا: أنت تتكلم قبلنا كأنك لا تدري بنا ولا ندري بك، فذهب هذا الرجل فألقى عليه موعظة، وبعد أن عاد الأول ذهب الثاني، وكأنه لا يشعر بالأول، فألقى عليه موعظة، رجع الثاني وذهب الثالث فصب عليه موعظة.
الرجل انذهل قال: الناس حدث لهم شيء، كلهم يأتونني في وقت محدد، فأخرج لهم بنفسه كتيباً صغيراً عن تحريم الغناء، وأعطاهم موثقاً من الله أن يتوب وأن ينقل تسجيلاته إلى تسجيلات إسلامية.
تصوروا لو أن حلاقاً يحلق ذقون المؤمنين، يتبرع بحلق اللحى من الأذن إلى الأذن كل صباح، لو أنه يمر به عشرات الناس؛ في طريقك وأنت تأخذ خبزاً للأهل وتقول له: اتق الله، أنت على خطأ، وأخوك يمر به وابن عمك وجارك حتى يتوالى عليه عشرة أو عشرين في اليوم، ما هو شعور هذا الحلاق؟ هل يقر له قرار، ويبقى عنده فكر؟!
وهؤلاء الخياطون أصبحوا ثكنات الإفساد في الأرض، بعضهم أصبح يدمر ما لا تدمره مدارس الاستشراق، هندوك وبوذيون وسيخ، يحملون الفاحشة الكبرى، وتعرضوا لعباد الله، ولإماء الله بالفساد المفرق، فهؤلاء لو تعرضوا للكلمات، نحن لا نقول: قاتلوا الناس لكن كلمة اتقوا الله خافوا الله، كبائع المجلات الخليعة وصاحب الاستريو الغنائي وكثير من الباعة الغشاشين، فأين الكلمات العابرة التي كان يطلقها السلف، كانوا يطلقون الكلمات العابرة، ويرشدهم محمد صلى الله عليه وسلم، كان يمر على الأسواق ويتكلم مع الباعة، وأين تأليف القلوب بشيء من الدنيا؟
أحد الصالحين من الدعاة يعتمد على الدعوة الفردية ولا يذهب إلا إلى المجرمين وإلى رءوس الشياطين، الإنسان الملتحي لا يدعوه لأنه متوجه، لكن يبحث عن مجرم، وعن أحد رءوس الشياطين، فيذهب فينصبّ عليه، ويدعوه، وبعد شهر أو شهرين يأتي به يصيده صيداً، كما يقول أحد الدعاة: السوق مناهبة؛ الشيطان ينهب، وأنت تنهب فانهب مع الشيطان، فسئل عند طريقته في الدعوة فقال: أولاً: أدعو الشخص إلى زيارتي في البيت، فإذا قدم إلى بيتي قدمت له وجبة دسمة، ولا أتكلم له عن شيء، يتغدى ويشرب الشاي، ثم أرافقه إلى الباب، ولا ألقي عليه محاضرة.
والمرة الثانية: أهدي له هدية.
والمرة الثالثة: أقوم في الثلث الأخير فأدعو الواحد الأحد أن يهدي قلبه.
والله لقد سمعت هذا الكلام من رجل في الستين من عمره، وهذا الرجل مجرب لا يأتي إلا برءوس الشياطين يدخلهم في دين الله.
قال: فوسيلتي، هذه الوسائل، هدية، ووليمة، ودعاء في الثلث الأخير، والمرة الرابعة أذهب فأدعوه، وفي الأخير يستجيب، قال: وجربت عشرات الناس بل بلغوا المئات الآن، واستجابوا وأصبحوا من أولياء الله، وقد رأيت بعضهم يبكون إذا سمعوا الذكر، هذا هو الداعية، أما الذي يأتي إلى أناس جاهزين فيتكلم فيهم فهو محسن على كل حال، لكن ذاك نوع آخر.
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
وقال آخر:
لا يدرك المجد إلا سيد فطن لما يشق على السادات فعال
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
هذا أسلوب من أساليب أهل الحسبة في الإسلام، وأولياء الله موجودون، فهم في القرى وفي المدن، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31].
أما الأساليب التي جَدَّت وبإمكان الدعاة استخدامها الآن، فمنها: إهداء الكتاب أو الكتيب أو الشريط الإسلامي، وقد أثر الشريط الإسلامي في الناس تأثيراً بالغاً، فيهدي لهم ليسمعوه في البيوت أو في السيارات.
ومنها: المنشور والرسالة: أن تكتب رسالة لحبيبك وصديقك.
ومنها: الاتصال بالهاتف.
ومنها: الكتابة في الصحف، وغيرها من الوسائل التي ينبغي على الدعاة المشاركة فيها.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(257/22)
الأسئلة(257/23)
منهج محمد الغزالي
السؤال
ما قولكم في إباحة محمد الغزالي المعاصر للغناء، وتضعيف الحديث الذي في صحيح البخاري الذي يحرم الغناء؟
الجواب
أولاً: الشيخ محمد الغزالي المفكر الإسلامي المعروف، والذي يدرس الآن في جامعة الجزائر رجل مشكور على كل حال وله حسنات، وهو من الدعاة الذين نحسبهم والله حسيبهم عنده صدق وإخلاص لهذا الدين، ولا نضعه في مواضع بعض المفكرين المغرضين الذين يحملون عداءً لهذا الدين، فهو صادق ويعرف منه هذا الأمر ويحارب الإلحاد والزندقة، لكن ظهر له في الأخير كتاب أثار بعض الريبة والاتهامات والنقد له، وهذا الكتاب اسمه السنة بين أهل الحديث وأهل الفقه، ورأيت هذا الكتاب وقد رد عليه كثير من أصحاب الفضيلة العلماء والمشايخ وطلبة العلم، ومن أحسن ما علمت أنه رد عليه الشيخ سلمان العودة من القصيم وكتابه موجود بعنوان حوار هادئ مع الغزالي، وتنشر المسلمون حلقات منه، وله أشرطة في السوق، ورد عليه الشيخ محمود الطحان وغيره لكن ردهم بسيط سهل.
وخلاصة الكلام: أن الغزالي يؤخذ عليه مآخذ وأمره إلى الله ونزنه بميزان سورة الأحقاف: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
عرف بالاستقراء لكتبه أنه يقدم العقل كثيراً على النقل، وهذا المنهج منهج معتزلي، وهو منهج المناطقة والمتكلمين من الأشاعرة، وقد رد ابن تيمية على هؤلاء بكتاب درء تعارض العقل والنقل وضحَّى بـ الرازي فيه فذبحه إلى الطريقة الإسلامية على القبلة، فيؤخذ ويراجع كتاب ابن تيمية ليتحقق المسألة في هذا الأمر، وأنه لا تعارض بين العقل والنقل، لكن الغزالي ينتبه له، حتى أن له منهجاً في الحديث، وقد نقله في كتبه مثل فن الدعاء للرسول عليه الصلاة والسلام وغيره من الكتب فهو يرى أن الحديث إذا كان معناه صحيحاً بالعقل قبلناه ولو كان ضعيف السند، وإذا كان معناه لا يقبله العقل رددناه ولو كان صحيح السند.
مثل ماذا يا غزالي؟ قال: مثل الحديث الذي في صحيح البخاري، يقول: إن موسى عليه السلام لما أتاه ملك الموت ضرب عينه ففقأها فذهب إلى الله فرد عليه عينه، قال: هذا لا يوافقه العقل فهو مردود، وهذه قاعدة يردها بالإجماع علماء السنة وأهل الحديث وأهل المصطلح ولا يقبلونها، وهي خطيرة كل الخطورة، وقد تعرض لها الألباني بالرد لكنه لم يسم المردود عليه، ولو أنه ناله في بعض الكتب ورد عليه.
المنهج الثاني: أن الشيخ الغزالي تساهل في حجاب المرأة المسلمة، وبيَّن أن الحجاب لا يشمل الوجه والكفين، وذكر أن هذا أتى من الحجاز ومن ناحية نجد، وأن أول من أتى بها أهل نجد ولم تكن معروفة في العالم الإسلامي، وقد أخطأ خطأين: أولاً: أساء الفهم، ثانياً: أساء إلى التاريخ.
فأما إساءته للفهم فإن أدلة الكتاب والسنة تدل على أن الوجه والكفين لابد من تحجيبهما، ولا بد من إدخال الحجاب في ذلك.
وأما التاريخ فلم يأتِ أولاً من نجد، فـ نجد من بلاد الله عز وجل ومن بلاد المسلمين يشملها ما يشمل غيرها والرسول صلى الله عليه وسلم بعث للناس كافة بشيراً ونذيراً للعالمين.
المنهج الثالث: مزلق الغناء، وقد تبع في ذلك ابن حزم وابن الطاهر المقدسي، فأباحه وقال: لا شيء فيه، بل يردد هو وبعض المفكرين أسماء ليس لها داعي من المغنيات وعفا الله عنهم.
والصحيح أنه محرم لحديث أبي مالك الأشعري في البخاري والذي اعترض عليه الغزالي: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} هذا الحديث تعرض له الدارقطني وابن حزم وقالوا: البخاري لم يدرك هشام بن عمار، لأنه قال: وقال هشام بن عمار: حدثنا فلان ثم ساق الحديث، والصحيح أن البخاري أدرك هشام بن عمار وروى عنه يقيناً.
المنهج الرابع: الغزالي يقول: للمرأة أن تتولى الأمر والحكم في الإسلام، ولها أن تشارك في البرلمان، وأن تدلي بصوتها، وأن تتولى الوزارة، وهذا رأي خاطئ لقوله عليه الصلاة السلام: {لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة} فالمرأة في الإسلام لها شئونها لكنها لا تشارك في البرلمان ولا تتولى، ولا يزال قوم تتولاهم النساء أمرهم في سفال وذلة وصغار، وليس عندنا في الإسلام هذا المبدأ، فليتنبه الغزالي ومن وراء الغزالي.
المنهج الخامس: غفر الله له وسامحه الله أنه تناقض في الصفات، فهو مرة أشعري ومرة ينتقد الأشاعرة، ومرة يأخذ في الصفات بمذهب أهل السنة فلا يُدرى حاله، والسبب في ذلك: أن منهجه وعظي عاطفي وليس بعلمي فقهي، إنما يعتمد العاطفة، مرة يمدح الأشاعرة ويقول: هم الذين نزهوا الله، فقد أخطأ في هذا كثيراً سامحه الله، بل منهج أهل السنة هو المنهج الصحيح، والأشاعرة أخطئوا في ذلك، ولم يكن منهجهم صائباً.
يأتي مرة ويقول: أنا لا أعرف رباً له قدم، سبحان الله! إذا أثبت رسول الله قدماً نثبتها لله بلا تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
سادساً: الغزالي في كتاب ظلام من الغرب يقول في كلام فيما معناه: إننا يمكن أن نتضامن مع نصارى العرب ونكون جبهة واحدة، نحن العرب مسلمين ونصارى ضد من ناوأنا، سبحان الله! النصراني يكون أخاً لنا ضد عدونا متى كان هذا؟! هذا معناه غبش في الولاء والبراء.
ويقول: إن العربي يحمل حب محمد عليه الصلاة السلام، كيف يكون العربي النصراني يحمل حب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يكذب الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
فليتنبه لهذا الرجل ولا تغمط حسناته، فإنه قد أجاد في كثير من كتبه، ويستفاد منها مثل كتاب جدد حياتك وعلل وأدواء وهموم داعية فله حسنات على كل حال، لكن يتنبه لهذا الأمر، ويوقف عند حده في هذه المسائل.
وكما قال مالك: كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة السلام.
وإنني أعتب على بعض الإخوة من طلبة العلم على إهدار حسنات الناس، فإنك تجد لبعض الناس حسنات، فيهدرونها بخطأ واحد، ويضيعون جهده ويدعون عليه، وينسفون ما بناه من صروح في خدمة هذا الدين وجهد، فيمزقونها تماماً، وهذا إجحاف، وبعضهم ينسى هذه الزلات والخطايا ويضفي أثواب المدح على صاحب الخير، والله يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].(257/24)
تنبيهات هامة
ينبه على الإخوة المصطافين بأمور نريد أن نذكرها لأننا سمعناها من بعض المشايخ وبعض أهل الفضل والقائمين على الدعوة:
الأمر الأول: أنا أعرف أن أمامي أهل استقامة ورشد وخير والتزام بالحجاب حتى في أماكن الاصطياف وعدم الاختلاط، لأنه تسوهل في بعض المخيمات أن يأتي قرابة من مناطق متعددة، فيجلس الرجال والنساء سوياً، وهذا يخالف منهج الله عز وجل وكتاب الله، وهذه جلسة جاهلية: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
الأمر الثاني: وجد ضياع الوقت في المنتزهات، فلا يوجد عندهم في جلساتهم قراءة قرآن ولا تدارس حديث، ولا استماع شريط إسلامي، ولا ذكر لله، ولا زيادة نوافل، وهذا خطأ، لأن المسلم ليس من مقصده ضياع الوقت، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
الأمر الثالث: وجد أن بعضهم يؤذي جيرانه برفع أصوات الغناء والمسجلات التي فيها أصوات تغضب الله عز وجل، وهذا خطأ، وقد شكي كثيراً من هذه الظاهرة، وهذه لا تبشر بالخير.
الأمر الرابع: الإسراف في الوجبات وتناول المطعومات والمشروبات، وهذه حلال لكن الإسراف فيها هو المحرم، قال تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} [الإسراء:26].
هذا ما حصل في هذه الليلة، وأعود مرة رابعة، وأقول للإخوة الذين ينزلون تهامة للدعوة في القرى كما أخبرتكم: إن أحد المحسنين تقدم بسيارة تبرع جزاه الله خيراً، وهي على وشك أن تشترى بما يقارب خمسين ألفاً، وجهزها للدعاة الذين ينزلون إلى ضواحي تهامة لتعليم الناس الإسلام الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وجهة البادية، والقرى المجاورة لـ أبها ودائماً كل يوم جمعة في العصر يجتمع الإخوة هنا وينطلقون إلى هذا الضواحي يعلمون الناس الدين بشيء مبسط ميسر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} يعلمونهم الفاتحة والوضوء والصلاة، وينهونهم عن الكبائر والمحرمات؛ لينقذوهم من النار ويدلوهم على الجنة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
وأدعوكم كما ذكرني بعض الإخوة في رسائلهم أن أنبه على الإخوة لشراء الأشرطة وإهدائها للناس لتكون أسلوباً للدعوة، لأنه ليس كل أحد يستطيع الكلام مع الناس، فإهداء الشريط الإسلامي مطلوب، وأنا أدعو أهل التسجيلات الإسلامية أن يعنونوا في آخر كل شريط بطلب إهداء الشريط إلى الإخوان المسلمين وإلى الأخوات المسلمات وإلى إدخاله البيوت علَّ الله أن يصلح به وأن يهدي به وينفع.
شكر الله لكم استماعكم، وجمعني بكم في دار الكرامة، وثبتنا وإياكم على الاستقامة، وألهمنا كلمة الخير والعدل والسلامة، وأحلنا بها الجنة، وثبتنا وإياكم حتى نلقاه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وأعتذر عن بعض الأسئلة لأنها إما سؤال شخصي أو سؤال لا يناسب عرضه على الناس، وبالإمكان الاتصال بي أو بأحد الإخوة من طلبة العلم للإجابة، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(257/25)
المسد والنصر والكافرون
هذا الدرس تفسير لثلاث من قصار السور وهي: سورة المسد، والنصر والكافرون.
وفي تفسير سورة المسد دروس، منها: أن النسب لا ينفع لدخول الجنة، وأن عداوة القرابة ليس فوقها عداوة.
وفي تفسير سورة النصر دروس، منها: أن أعظم نصر للعبد أن ينتصر على نفسه، وأن النصر الأكيد هو نصر الله لأوليائه على أعدائه، وأن التوبة فتح من الله.
وفي تفسير سورة الكافرون دروس، منها: أن على المسلم أن يتميز بمعتقده، ويتبرء من الكفر وأهله، ويعلن أنه لا التقاء أبداً مع أهل الباطل.(258/1)
تفسير سورة المسد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نحن وجه الشمس إيمانٌ وقوة نسبٌ حُرُّ ومجدٌ وفتوه
كرب عمي، وقحطان أبي وهبوا لي المجد من تلك الأبوه
والسيوف البيض في وجه الردى يوم ضرب الهام من دون النبوه
نحن من أحمد صغنا مجدنا رصع الحق أكاليل علوَّه
ثمن المجد دمٌ جدنا به يوم حطمنا من الباغي عتوَّه
في مساء السبت حيينا بكم مسجد الصديق يزهو بالأخوه
أيها الأخيار! يا أحفاد من نصروا الإسلام واجتاحوا عَدُوه
وأناروا العقل في ليل الهوى يوم كان الكفر في سبعين هُوَّه
إنني أحييكم في هذا اللقاء تحية خالدة مباركة.
وأسأل الله كما جمعنا في هذا المكان الطيِّب بطيبكم والمبارك بوجودكم أن يجمعنا في دار الكرامة.
والحقيقة: أن هذا الدرس يصل عمره إلى الخمس سنوات، وفي كل مساء سبت أسعد كثيراً، وأجد - يعلم الله - من النشاط يوم السبت والفرحة والبهجة ما لا يعلمه إلا الله؛ لأنني ألتقي بصفوة المنطقة، في العلم، والصلاح، والفكر والأدب والخير، فهم الصفوة الطيبة المباركة، الذين تركوا أعمالهم، وأشغالهم وارتباطاتهم، وحضروا هنا لأربعة أمور:
الأمر الأول: ليباهي بهم الله عز وجل في ملائكته.
الأمر الثاني: لتحفهم الملائكة.
الأمر الثالث: للتتنزل عليهم السكينة.
الأمر الرابع: لتغشاهم الرحمة.
ولعلكم في مساء كل سبت تنصرفون مفغوراً لكم بإذن الله، كما صح في الأحاديث.
وإن السعادة كل السعادة تغمر الإنسان بقصوره وبما عنده من عجز، وبما عنده من تطفل على العلم، وعلى موائد العلماء، أن يجد مثل هذه الطاقات المباركة من الشيوخ الكبار في السن، الصالحين الذين بلغوا الستين والسبعين، ويأتون من أطراف المنطقة، ومن القرى؛ ليحضروا بشيخوختهم وبكبر سنهم هذه الدروس، فيشاركون الشباب توجههم مع محمد عليه الصلاة والسلام.
وأجد كذلك الآباء وهم يجلسون أمام أبنائهم وهم يحدثونهم عن محمد عليه الصلاة والسلام وعن ميراثه.
وأفرح وأنا أجد زملائي من طلبة الجامعات والثانويات والمعاهد والمتوسطات والابتدائيات، وهم يحفون كل مساء سبت فيحضرون فأسعد بهم، وأتمنى من الله عز وجل أن يحشرني معهم، تحت لواء محمد عليه الصلاة والسلام.
أهلاً وسهلاً والسلام عليكمُ وتحية منا تُزَف إليكمُ
أحبابنا! ما أجمل الدنيا بكم لا تقبح الدنيا وفيها أنتمُ
مرَّت ثلاثة دروس في التفسير:
الدرس الأول: (قل أعوذ برب الناس).
والدرس الثاني: (قل أعوذ برب الفلق).
والدرس الثالث: (قل هو الله أحد) وكان في محاضرة.
والدرس الرابع هذه الليلة: ثلاث سور: (المسد، والنصر، والكافرون).
والسبب في إقحام ثلاث سور في درس واحد؛ لما أتاني من بعض الرسائل والاتصالات الهاتفية من كثير من الأحبة، وبعض المشايخ أثابهم الله، منهم من أبدى ارتياحه كثيراً، ودعا، وأشكره على حسن ظنه، ومنهم من لاحظ ووجه، والملاحظ والموجه أحب إلي من المثني والمادح، فرأوا أنه يمكن أن يكون هناك طول إذا أخذت السورة القصيرة من المغرب إلى العشاء، فحببوا لو يختصر في الشرح، ويربط واقع الناس بالقرآن، وتؤخذ سورتان أو ثلاث أو على حسب الحاجة في الدرس الواحد.
فاستجبت لرأيهم شاكراً، فالدرس الرابع هذه الليلة سوف يكون في هذه السور الثلاث.
ونبدأ مع كلام من يحسن كلامه، ومن ترتاح الأسماع لكلامه، وكلامنا مع كلامه بينه بَون، كالبَون الذي بينه وبين خلقه، كلامنا نسبته إلى كلامه كالخزف والفخار إلى الجوهر الغالي الثمين، فكلامه سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] أما كلامنا فإنه عرضة للباطل أن يأتيه أحياناً، وعرضة للوهم وللسهو وللغلط، أما كلامه، فإنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى شرفه أن يعترضه غلط أو وهم أو سهو.
أولاً: سورة المسد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5](258/2)
خبث أبي لهب
سمعتم جميعاً هذا الكلام وتسمعونه في كل يوم، وهو مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور.
من هو أبو لهب؟ أبو لهب: هو عم محمد عليه الصلاة والسلام، عمه في نسب الدم والطين، لا في العقيدة ولا في الدين، عمه من أسرته (بني هاشم) الأسرة الماجدة عبر الكرة الأرضية طولاً وعرضاً ومع ذلك بدأ به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى باسمه فمرغه في التراب، فلا عمومة إلا عمومة الدين، ولا خئولة، إلا خئولة الدين، ولا نسب إلا نسب الدين، ولا محبة إلا محبة الدين.
من هو أبو لهب؟
أولاً: أبو لهب: أستاذ للجهالة وللإعراض وللعناد وللقوى الشريرة في العالم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ثانياً: أبو لهب: رجل تكبر بجاهه وأسرته، ورفض الحق ورفض (لا إله إلا الله، محمداً رسول الله).
ثالثاً: أبو لهب: رجل كتب الله عليه ألا يسلم، ولا يؤمن ولا يعرف الحق، ولا يسجد لمن أنزل (لا إله إلا الله).
رابعاً: أبو لهب: عنده بيت، هيأه بأبنائه وبزوجته وبماله وبإرادته لحرب محمد عليه الصلاة والسلام.
خامساً: أبو لهب: يقف في الصف المعارض والمعسكر المحايد لمحمد عليه الصلاة والسلام.
زوجته (حمالة الحطب) هي أم جميل، تحمل الحطب في طريق محمد عليه الصلاة والسلام تحاربه صباح مساء.
أحد أبنائه اعترض على الرسول صلى الله عليه وسلم وبصق في وجه محمد أشرف الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: {اللهم سلط عليه كلباً من كلابك} لم ينتصف عليه الصلاة والسلام منه ولم يمد يده، ولم يطلب الثأر لنفسه، بل قال: {اللهم سلط عليه كلباً من كلابك} فخرج هذا في سفر إلى الشام، ونام في وسط القافلة، فقال له أصحابه: ما لك تتخفى وتختبئ وسطنا؟! قال: أخشى أن يُرسل عليَّ كلبُ محمد في الليل، ولكن هل يحميه من الله حامٍ؟ {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21] فجعله رفقته وأصحابه وسطهم، وفي وسط الليل الدامس أرسل الله عليه أسداً وهو من كلاب الله، فقام الأسد يتشمشم الناس ليتعرف على ذاك الجسم الخبيث الذي بصق في وجه محمد عليه الصلاة والسلام، فاستيقظ الناس وهم مضطجعون على ظهورهم ونظروا وإذا الأسد ملك الحيوانات يبحث عن فريسة، فكان الرجل يُخْلَع مكانه، وكان عرقه يتصبب، فيشمه الأسد، وينظر إلى خياشيمه فيتركه؛ لأنه ليس الفريسة، إنما أرسله الله على رجل باسمه وبعينه، حتى أتى إلى هذا الابن الضال المجرم للأب الضال المجرم، فالتَقَمَ رأسه لقمة واحدة.(258/3)
سبب نزول قوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)
ما سبب السورة؟ ولماذا نزلت؟ لماذا هذا الهجوم الصاعق فيها، حتى قوافيها صواعق تلتهب كالقذائف، لهب وأبو لهب، ونار ومسد، وحبل وحمالة حطب، كلها وقود ونار وقذائف وألغام وديناميت، لماذا؟
قام عليه الصلاة والسلام على الصفا بعد الأربعين من عمره لما أنزل الله عليه: (اقْرَأْ) وأنزل عليه (لا إله إلا الله، محمداً رسول الله) فجمع كفار قريش جميعاً وجمع بني عبد مناف، وجمع بطون قريش في الحرم، حتى اكتظ بهم الحرم من أوله إلى آخره، رجالاً ونساءً وأطفالاً ليقرأ عليهم منشوراً إلهياً خطيراً لم يسمع الناس بمثله.
يقول أحد المفكرين العصريين: إن أعظم مفاجأة طرقت العالم مفاجأة الرسول عليه الصلاة والسلام، والله يقول: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1 - 2] أي نبأ أعظم من نبأ إرساله عليه الصلاة والسلام؟ هل سمعت خبراً أعظم من إرسال هذا الأمي؛ لينقذ الدنيا ويقودها إلى الله؟ لا.
فلما اجتمعوا جميعاً قال عليه الصلاة والسلام: {يا معشر قريش! أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً في بطن الوادي تريد أن تُصَبِّحكم، أمُصَدِّقِيَّ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً…}.
يقول: لو أخبرتكم أن جيشاً يريد اجتياحكم، وغزاة يريدون تحطيمكم، أتصدقوني؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً.
قال: {…إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قولوا: (لا إله إلا الله) تفلحوا}.
فمن الذي يرد؟ أبو لهب، العم أخو الوالد.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على النفس من وقع الحسام المهندِ
تستطيع أن تتحمل كل إساءة من البعيد، إلا القريب هذا أخو الوالد، في سن الرسول عليه الصلاة والسلام، شيخ شابت لحيته، لكن:
ويقبح بالفتى فعل التصابي وأقبح منه شيخ قد تفتى
...
هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها ما بال أشيب يستهويه شيطان
قام وراء الرسول عليه الصلاة والسلام وجرجره بثيابه وقال: تباً لك سائر اليوم، ألهذا دعوتنا؟
يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: تباً لك وخسارة لك، ضيعتنا من أشغالنا وأعمالنا، وقطعت علينا راحتنا، لتدعونا إلى هذا الأمر البسيط السهل، فسكت عليه الصلاة والسلام، فتولى الله من فوق سبع سماوات الرد عليه.(258/4)
بيان قوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)
قال: اتركه، سوف يعلم من المتبوب والخاسر والهالك، فقال سبحانه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1].
قال أهل العلم: كرر في البدء التباب توكيداً وحثاً على أنه سوف تتب يده لا محالة، (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ).
ماتبت يدك يا محمد: لكن تبت يدا أبي لهب؛ لأنها يدٌ خائنة عميلة، مرتزقة، عدوة لله ورسوله، أما يدك يا محمد! فهي نظيفة بيضاء نقية طاهرة، كماء الغمام.
والله لا تخسر، ولا تهلك مبادؤك، ووالله لتنتصرن، أما هو فـ (تَبَّتْ).
قالوا: ذكر يده كناية عن سعيه، وكسبه، ومنهجه، ومبادئه.
والحقيقة: أن كل من سلك طريق أبي لهب من الناس سواءً كان صاحب منصب، أو صاحب فكر، أو قلم، أو علم، أو أدب، أو موهبة يفعل فعله سوف ينال جزاءه لا محالة من الله.
كنيتُه: أبو لهب، وهي في الحقيقة: كنية استحقت أن يذكره الله عز وجل باللهب في الآخرة، وسوف يصلى اللهب ويذوقه.
قال ابن كثير: فيها معجزة ظاهرة، فإن الله أخبر أنه لا يتوب ولا يسلم، فما تاب ولا أسلم بل مات على كفره.
(وَتَبَّ): التباب هو الخسار والهلاك والدمار والانسحاق والضياع، ولك أن تختار من هذه الكلمات الخمس ما شئت، لكنها لا ترقى إلى مسألة (تبَّ).(258/5)
بيان قوله تعالى: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ)
كان أبو لهب صاحب مال، وكان من تجار قريش، وكان يلبس الذهب؛ لكنه بعيد عن الله عز وجل ولا ينفعه ذلك، قال: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2] قالوا: سمى ماله وما يكسبه في المستقبل لن ينفعه أبداً، فليس له رصيد عند الله، ولذلك ترى بعض الناس يتعزز برصيده أحياناً، وتجده يكون لنفسه مكانة اجتماعية، إما بمنصبه، وإما بماله، أو بولده، أو بأسرته، أو بجاهه، وهو عدو لله، فنقول له: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2] وما أغنى عنه ولده وما كسب، وما أغنى عنه جاهه ومنصبه وما كسب.(258/6)
بيان قوله تعالى: (سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ)
هذا قسمٌ من الله عز وجل أن يصليه النار جزاءاً لهذه المواقف المخزية منه، كان عليه الصلاة والسلام يشكو إلى الله عز وجل، ما يصيبه، يقول: {إلى من تكلني؟ إلى قريب ملكته أمري؟ أم إلى بعيد يتجهمني؟}.
يقول: يا رب! امنعني واحمني، البعيد يتجهمني، والقريب تملكه أمري، مثل أبي لهب، يسومني سوء العذاب.
كان يقف صلى الله عليه وسلم في الأسواق يعلن دعوته، يقف في سوق عكاظ يقول: {يا أيها الناس! قولوا (لا إله إلا الله) تفلحوا} ويأتي أبو لهب وراءه، ويقول: لا تصدقوه، هذا مجنون من بني هاشم، هذا ابن أخي قد جُنَّ، هذا ساحر، هذا كاهن، وكان يأخذ التراب ويحثوه على وجه الرسول عليه الصلاة والسلام، ويسكت عليه الصلاة والسلام.
يدخل صلى الله عليه وسلم الخيام على الحجاج يعلن دعوته، وتوحيده، يقود القلوب إلى الله، وهذا يدخل وراءه في الخيام يكذبه، لا إله إلا الله!
أي صبر يتحمله الإنسان! حتى أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] أي أنه قد ضاقت قلوب الناس إلا قلبك.
فتأمل هذا، فلا يعاقبه صلى الله عليه وسلم ويوكله إلى الله.
{سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3].
وتهدأ مشاعره عليه الصلاة والسلام وتخمد ثائرته؛ لأن الإنسان مهما أوتي من الصبر والحلم، إلا أنه قد يبلغ في درجة أن يغلي دمه على البغي والعدوان والطاغوت؛ لكن الله عز وجل يسليه.
قال: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4](258/7)
بيان قوله تعالى: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)
حتى امرأته المجرمة سوف تذوق ما ذاق، هي مخزومية، وكانت تدخل الحرم وتقول: أين مُذَمَّم، تعني الرسول صلى الله عليه وسلم، دخلت وفي يديها، في يدها اليمنى حجر، وفي يدها اليسرى حجر، تريد أن تضر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقتربت واقتربت، وأبو بكر جالس بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم، فجعل الله من بين يديها سداً ومن خلفها سداً فأغشاها فلم تبصر، فتقول لـ أبي بكر: أين صاحبك؟ قال: التمسيه، وهذا جواب سديد، بمعنى: ابحثي عنه، قال: ولَمَ؟ قالت: يسبني، وهو لم يسبها ولكنه بعد هذه السورة سبها الله، الله الذي تولى سبها وهددها، قالت: لقد علمت قريش أني ابنة سيدها، وماذا يغني عنك أيتها الفتاة! أنك ابنة السيد؟! ماذا يغني عنك وأنت كفرت بـ (لا إله إلا الله) وكفرت بتعاليم محمد صلى الله عليه وسلم وكفرت بالحجاب، وبالبيت الإسلامي، وبالكتاب والسنة، ثم كانت تنشد وتقول:
مُذَمَّمَاً أبَيْنا ودينَه قلينا
وأمره عصينا
وهي تقصد محمداً، يقول صلى الله عليه وسلم: {انظروا كيف يخرس الله ألسِنة قريش عن اسمي فيسموني مذمماً، وأنا محمد}.
ثم تعود إلى البيت.
يخرج صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام في الليل في صلاة العشاء وصلاة الفجر، فتأخذ هي الشوك في حزم الحطب وتنثره في طريقه، فيصيبه الشوك، وتدمى عقباه، ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.
فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: حبلها هذا الذي تحمل به الحطب، وحطبها هذا سوف نوقد عليه وعلى رأسها وشحمها ودمها في نار جهنم.
وأعظم العقوبات أن تعذب العاصي بآلته، وأن تدمره بسلاحه.
وبعض أهل العلم من أهل التفسير يرون أن حمالة الحطب: هي التي تمشي بالنميمة بين الناس، وهي بالفعل كذلك، كانت تفعل هذا وهذا، كانت تذهب إلى البيوت تستثير الناس ضد الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان زوجها يستثير الرجال ضد محمد صلى الله عليه وسلم.
وامرأة أبي لهب هذه موجودة، توجد في الأندية، وفي المسارح، وفي الأقسام العلمية، وفي المستشفيات، وفي أقسام الإعلام، وهي تمثل تلك المرأة القديمة التي تعارض منهج الرسول عليه الصلاة والسلام، فهي تمشي بالنميمة في سب أهل العلم والفضل، وأهل الدعوة، والصلاح، وهي تمشي بالخزي والعار في عداء هذا الدين, وهي تمشي بالهدم والتدمير في معارضة كلما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم.
امرأة أبي لهب موجودة.
فمن تحارب الحجاب: فهي امرأة أبي لهب.
ومن تحارب الدعوة: فهي امرأة أبي لهب.
ومن تدعو إلى الاختلاط والسفور: هي من جنس امرأة أبي لهب.
ومن تستهزئ بأهل الفضل والعلم والدعوة: هي من جنس امرأة أبي لهب.
وسوف تصلى ناراً ذات لهب.
(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ): قال الشافعي -وهذا من استنباطه-: يقر المشركون إذا أسلموا، يقصد: على عقد النكاح فإذا أسلم الرجل المشرك مع امرأته أقروا يقرون على العقد الأول ولا يُنقض نكاحهم، فإن الله أقر أن امرأة أبي لهب امرأة له، فسماها وقال: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4] وهذا من فقه الشافعي؛ لأن الله سماها امرأة.
وكان عليه الصلاة والسلام يقر من أسلم على العقد الأول، ولم يكن ينقضه.
وقول آخر لأهل العلم: إن من كان كافراً وأسلم فإنه يجدد العقد، أو من ارتد فترك الصلاة مثلاً ثم عاد فيجدد العقد، والقول الأول هو الأسلم وهو قول الشافعي وغيره.
(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ): قالوا: لم يسمها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى استهجاناً لذكرها، وقيل: لأنه اكتفى بتسمية زوجها، فألحقها به، واسمها: أم جميل.
وقالوا: إن العقد سوف يستمر إلى النار، أي: سوف يبقى عقد الزوجية هذا ونعوذ بالله إلى النار.
قالوا: وما سمعنا أن زوجين قرن بينهما إلى المطاف الأخير في مقعدين في النار إلا هذه وذاك، وتجد بعض المجرمين مقروناً بإجرامه هو وزوجته حتى يلقوا الله في نار جهنم.
وبعض الأحيان يفترق الزوجان هذا عن هذا، كنوح وزوجته، هذا من معسكر (لا إله إلا الله) وهذه من معسكر الضلالة والخزي، ولوط وزوجته، وفرعون وزوجته، فرعون في النار، وزوجته في الجنة, {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] قال ابن القيم: سألتِ الجار قبل الدار، قالت: عندك، فبنى الله لها قصراً في الجنة عنده.(258/8)
بيان قوله تعالى: (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)
في جيدها: في عنقها، وذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الجيد، قالوا: لأنه موطن الجَماَل، والعرب إذا أنشدت شعراً في الجمَاَل ذكرت الجيد، فذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن هذا الجيد الذي كانت تتجمل به هذه المرأة، وكان يسمونها أم جميل سوف يلطخ بالنار، وسوف يجعل فيه حبل من مسد، قيل: من ليف، وقيل: من حديد والعياذ بالله فتجرجر به في نار جهنم، حبلها الذي تربط به حزمة الحطب هذه، يربط بعنقها وتجرجر على وجهها وظهرها في نار جهنم {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
وقال بعض المفسرين: في رجلها، وفي يدها.
وأقول في جيدها، الأحسن في عنقها.(258/9)
الدروس المستفادة من سورة المسد
في السورة دروس:
الدرس الأول: معجزة له عليه الصلاة والسلام، كما سلف معنا:
أن الله عز وجل ذكر أن هذا لن يهتدي وسوف يعذب وبالفعل مات هو وزوجته وهما كافران.
الدرس الثاني: أن هذا أسلوب أدبي مطلوب، وهو الإغلاظ على أهل الكفر والنفاق، قال تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73] فلا يعترض معترض، كما يكتب بعض الكتبة -الآن- ويقولون: إن بعض العلماء وبعض الدعاة تناولوا بعض الفجرة والمنافقين والكافرين والمرتدين بشيء من التجريح، وهذا لا ينبغي، فيرد عليهم أن أسلوب القرآن أحياناً قد يغلظ على الفاجر والمنافق وعلى الكافر تأديباً وترغيماً وتقويماً وتعنيفاً له.
الدرس الثالث: أن على العبد أن ينجو بأسرته من نار جهنم، وليعلم أن النسب لا يكفي، فإن أقرب الناس من الرسول صلى الله عليه وسلم هو أبو لهب، ولكن لم تنفعه هذه القرابة، قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] بينما بلال مؤذن أهل الحبشة، وداعي السماء أتى من الحبشة فأسلم على (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) وله قصر في الجنة كالربابة البيضاء.
فـ بلال نحبه، ويحبه مسلمو اليونان، ومسلمو اليابان، ومسلمو الصين، ومسلمو المغرب، ومسلمو الجزيرة، وكل مسلم يحب بلالاً، وكل مسلم يكره أبا لهب، فهذا قريب أصيل قرشي، وهذا بعيد في النسب لكنه عبد حبشي، فرفعه الله بـ (لا إله إلا الله) وأخزى الله هذا؛ لأنه كفر بـ (لا إله إلا الله).
الدرس الرابع: أن عداوة القرابة ليس فوقها عداوة، ولذلك ابتلى الله رسوله؛ ليرفع درجته بعداوة القرابة، وعداوة البعيد، وعداوة المرأة، وعداوة الرجل، وعداوة الغني، وعداوة الفقير، ثم نصره الله نصراً مؤزراً.
الدرس الخامس: أن من المؤسسات المحاربة للإسلام، مؤسسات المرأة، وهي التي تنشأ على غير تقوى من الله ورضوان، وتصد عن منهج الله، وهي خلايا أقامتها الصهيونية العالمية وأذنابها الذين تأثروا بالاستعمار وبالكفر، لحرب الدين بواسطة المرأة بما تكتب، وما تنشر وما تقرر وما تربي فلينتبه لهذا.
وهي مدارس توجد في المستشفيات، وفي الأندية، وفي المدارس، وفي المحافل، وفي الجمعيات، وعدد بلا حرج، وهي مدرسة أم جميل.
ومدرسة الضلال لأولئك هي مدرسة أبي لهب.
ومدرسة محمد صلى الله عليه وسلم هي مدرستكم أنتم.
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
وذكر الأستاذ سيد قطب رحمه الله في الظلال وهو ينقل مشاهد يوم القيامة، وجمال السورة، قال في جمالها: أنها متناسقة العبارات، وصدق! بل هي بديعة كل الإبداع، ورائعة كل الروعة، وفيها من أسلوب الهجوم المؤدى الذي ينتهي بوصم القذائف، فإن فيها قلقلة، {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5].(258/10)
تفسير سورة النصر
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3].
ثلاث آيات، فيها قضايا:(258/11)
خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها
يقول ابن عمر رضي الله عنه فيما رواه البزار والبيهقي: {نزلت سورة إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط أيام التشريق، فعرف صلى الله عليه وسلم أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرُحِّلَت، ثم قام فخطب الناس، فذكر خطبته المشهورة، وودعهم عليه الصلاة والسلام، وبكى وأبكى، وقال: يا أيها الناس! إنكم مسئولون عني غداً، وأنا مسئول عنكم، فما أنتم قائلون؟ وكانوا مائة وأربعة عشر ألفاً -وقفوا وعيونهم وأبصارهم وأسماعهم وقلوبهم ودماؤهم تجري بحبه عليه الصلاة والسلام، مائة وأربعة عشر ألفاً، من أنحاء الجزيرة العربية، وقفوا ينظرون إليه وهو يتكلم إلى التاريخ، ويتكلم إلى الدهر، أعلن التوحيد وندد بالشرك، وأقام حقوق الإنسان، وألغى التمييز العنصري، وألغى الربا، وقام بخطبة عظيمة، ثم في الأخير استثارهم وأبكاهم، وجعلهم في موقفٍ صعب، وفعل كذلك في يوم عرفة على صعيدٍ واحد، وهم في الأردية البيض، أردية الكفن- وأخذ يقول ويرفع سبابته: إنكم مسئولون عني غداً وأنا مسئول عنكم، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، فقال: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد} فبكى أبو بكر الصديق وبكى بعض الصحابة، وقالوا: أجله عليه الصلاة والسلام نُعِي إليه.
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3].
المعنى: أنت يا رسول الله! قدمتَ الرسالة، وأنهيتَ مهمتك، وأديت دورك في الحياة، والآن نقبض روحك، لنوفيك أجرك غير منقوص، {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى:4].
الآن انتهيتَ بعد ثلاثة وعشرين، كفيت وعلَّمت، قدمت كتاباً وسنة، قدمت منهجاً للعالم، أخبرت الأمة بالشريعة الربانية، والآن نقبض روحك.
وبكى الناس، وأنزل الله بعدها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
دخل العرب في دين الله أفواجاً العام التاسع من الهجرة، وهي عام الوفود؛ لأن قبائل العرب عقدت اتفاقاً فيما بينها، فقالوا: ننتظر حتى إذا انتصر على قبيلته قريش دخلنا معه، وإذا انتصرت قريش عليه، كنا مع قريش، يظنون أن المسألة لعب كرة، منتخب ومنتخب، وفريق وفريق، ولا يعلمون أن الله عز وجل مع رسوله، لا يعلمون أن الله عز وجل أرسل رسوله بجيش جرار، يوم فتح مكة، وقال له: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} [الفتح:1 - 3].
فلما انتصر صلى الله عليه وسلم ورأوا انتصاره على قريش دخلوا في دين الله، فكانت القبيلة تسلم في يوم واحد، وهذه مسلمة الفتح؛ لأن إسلامهم سهل، والذي يسلم سهلاً يخرج سهلاً.
أما إسلام أبي بكر فهو إسلام من جنس آخر، وإسلام العشرة المبشرين بالجنة جاء في وقت التعذيب والمحنة، في وقت الفقر والجوع، فجعلهم الله من المبشرين بالجنة.
وترى بعض الناس وقت الرخاء، إن أعجبه الوضع وكان مرتاحاً دخل وصلى وخشع في الصلاة وقرأ القرآن، لكن إذا أتته هزات أرضية أو عواصف رملية {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
وبعضهم إذا مرضت ابنته يتسخط على الله!
ذكر لنا بعض المشايخ، وهو ثقة: أن عامياً من بعض الناس، يقول: كان لجاري سبع بنات وعندي بنت واحدة اسمها هيلة، فمرضت هذه، فكان يدعو الله أن يرزقه بنتاً، أو يرزقه ابناً، فرزقه الله هذه البنت، وصاحب الوديعة له أن يرتد الوديعة متى شاء، فهو المعطي، وهو الذي يأخذ، وهو الذي يجعل هذا عقيماً، وهذا ولوداً، ويرزق هذا بنات، وهذا بنيناً، وهذا بنيناً وبنات، فمرضت هذه البنت، وليس لديه غيرها، فأخذ يبكي ويقول: يا رب! فلان عنده سبع بنات، وتأخذ بنتي، ثم ذكر: أنه خرج من الباب، فأخذ ينظر في السماء، ويقول: يا رب! ما وجدتَ غير هيلة لتأخذها؟! سبحان الله! ومن الذي خلقها؟! ومن الذي صور وأعطى غير الله الواحد الأحد؟!
فبعض قبائل العرب دخلوا جملة في الدين، ولذلك لم يكن صلى الله عليه وسلم يعد لهم حساباً كثيراً، فمشايخ القبائل في عهده صلى الله عليه وسلم دخلوا في آخر المطاف الإسلام، كان يعطي الواحد منهم مائة ناقة، أعطى الأقرع شيخ تميم: مائة، وصفوان: مائة، وأبا سفيان مائة، فأسلموا بشيء مادي، ولذلك لما أتت الدائرة في حنين فروا أول الناس، وهربوا وتركوا رسول صلى الله عليه وسلم في المعمعة، وكانوا سبباً في الهزيمة في أول المعركة، وإلاَّ فقد انتصر صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم عندما رآهم الناس هربوا هربوا معهم، حتى أن بعض الأنصار هربوا، وهربت الجمال والخيول، وأخذ أبو سفيان يقول: الآن بطل السحر يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساحراً، حتى ذاك اليوم، وأخذ صفوان بن أمية يقول: لا يرد الناس اليوم إلا البحر، يقصد البحر الأحمر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق معه إلا ستة، وهم الستة الذين أسلموا لأول مرة، أي أن الإسلام القوي الممتاز كان في الذين أعلنوا في وقت القوة ووقت العنف والشدة فوقفوا معه، فأخذ السيف وجرده، وقال: {أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب} والحقيقة: عند المؤرخين أنه صلى الله عليه وسلم هزم ألف مقاتل وحده، كان قبله ألف، من قبائل هوازن، وقائدهم مالك بن عوف النصري نزل مسربلاً بالحديد، يقول: فقلت له:
فقلت لهم ظنوا بألف مدججٍ سراتهم في الفارسي المسردِ
كان معه ألف مقاتل في القلب، لأن هوازن معها ميمنة وميسرة وقلب، فنزل صلى الله عليه وسلم فضرب القلب فهزمه، وهزم الجيش كله {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84].
أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أدبت في هول الردى أبطالها(258/12)
فقه ابن عباس في سورة النصر
جمع عمر رضي الله عنه وأرضاه الصحابة، وسبب جمعهم: أن ابن عباس كان يدخل عليهم وعمره أنذاك [13] سنة، وكان ذكياً فطناً، دعا له صلى الله عليه وسلم في الليل الدامس أن يفقهه الله في الدين، وأن يعلمه التأويل، فكان إذا نزلت السورة كُتِبَ معناها في قلب ابن عباس، وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه خليفة، وأعضاء مجلس الشورى عنده من كبار الصحابة يشترط فيهم أن يكونوا من أهل بدر، ومن العشرة المبشرين بالجنة، أما بقية الناس فلا يدخلون، فيدخل كبار الناس والعلماء، ويدخل معهم ابن عباس، فيُجْلِس ابن عباس على يمينه، وفي الأخير تكلم العشرة وتكلم بقية الصحابة، وقالوا: [[عندنا أبناء مثل ابن عباس، وأكبر منه، فلماذا يدخل عمرُ ابن عباس ويترك أبناءنا؟]] ومجلس الندوة لا يدخله مثل ابن عباس؛ لأن السن القانونية عند عمر لا يسمح له، وأن يكون عنده مواهب في الإسلام، فلا يشترط عمر أن يكون أبيض، أو أحمر، أو أسود، ولا يكون من أسرة آل فلان، ولا يكون سبق أن تولى كذا وكذا، بل يشترط فيه شروطاً هي:
أولاً: أن يكون من المتقدمين في الإسلام.
ثانياً: أن يكون صادقاً مع الله، يدفع دمه في أي لحظة، لخدمة (لا إله إلا الله).
ثالثاً: ألا يكون منافقاً، أو عميلاً، ولا زنديقاً، أو فاجراً.
رابعاً: أن يستولي حبُّ الله ورسوله على لحمه ودمه.
فكان يدخل هؤلاء، فجلس الصحابة، وكان عندهم صراحة، فقالوا لـ عمر: [[لِمَ تدخل ابن عباس وتترك أبناءنا؟]]-فقال ابن عباس: [[فأدخلني مرة، وعلمت أنه ما أدخلني إلا ليريهم علمي وفطنتي]] أو كما قال- فقال عمر في أول المجلس قبل أن يفتتح جدول العمل: [[ما ترون وما تقولون في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]؟]] قال بعض الصحابة: [[معنى ذلك: إذا أسلم الناس ودخلوا في دين الله، أمر الله رسوله أن يسبح وأن يستغفر]] قال: [[وأنتَ يا فلان؟]] قال: [[ما أرى إلا هذا]] قال: [[وأنتَ يا ابن عباس؟]] قال: [[أجل الرسول عليه الصلاة والسلام نُعِي إليه]] أجَلُه قَرُبَ، قال: [[صدقت! ما أعلم منها إلا كما تقول]] فلما علموا ذلك، سكتوا، وأيقنوا أن عمر كان مصيباً في إدخاله لـ ابن عباس.(258/13)
بيان قوله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)
الفتح هو: مكة و (نَصْرُ اللَّهِ): لم نسمع في التاريخ برجل انتصر كما انتصر محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي الحقيقة أن نصره لم يكن رخيصاً، فبعض الناس ربما ينتصر في ساعات، أو في جولات في أول المعركة، لكنْ هو ما انتصر حتى شاب رأسه، وشابت رءوس أعدائه، خاض غزوات هائلة، وسرايا واقتحامات، ودفع أغلى ما يملك، وقُتِل من أصحابه المئات، وقُتِل أحبابُه وأقاربُه، وشُجَّ رأسُه، وانكسرت ثنيتُه، وفُلِّل سيفه، واقْتُحِمَت عليه خيمته مرات، دارت عليه إحدى عشرة محاولة اغتيال، ولكنه في الأخير ينتصر.
أتى بنصر، لكن بثمن باهظ.
ثمن المجد دم جدنا به فاسألوا كيف دفعنا الثمنا
فلما انتصر عليه الصلاة والسلام انتصر انتصاراً لم يسمع الناس بمثله، دخل مكة بعشرة آلاف مقاتل، في عشر كتائب.
الكتيبة الأولى: ألف مقاتل، لا يُرى منها إلا العيون، وكانت مدججة بالسلاح والحديد.
الكتبية الثانية: ألف من قبيلة أسلم.
الكتبية الثالثة: ألف من قبيلة مزينة.
الكتبية الرابعة: ألف من قبيلة أشج.
الكتبية الخامسة: ألف من قبيلة جهينة.
الكتبية السادسة: ألف من قبيلة أسد.
وهكذا ألفٌ فألف.
ثم دخل هو بالأنصار، وكان وسطهم، فلما رآى أعلامهم ترفرف على ريع الحجون قريباً من الحرم المكي، وهي ترتفع، يرفعها الزبير؛ دمعت عيناه من الانتصار، وهذه الدموع دموع النصر، دمعت عيناه وسالت على خده، قال ابن القيم: ونكس رأسه حتى أصابت لحيتُه قَتَبَ الفرس، أو قَتَبَ الناقة تواضعاً لله.
طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
وأخذ صلى الله عليه وسلم ينحدر بالجيش من ريع الحجون تجاه الحرم، وأخذن النساء يخرجن بالخمار، كل امرأة تخرج بالخمار، وتأتي على فرس أحد المقاتلين معه صلى الله عليه وسلم فتضرب وجه الفرس بخمارها، أما المقاتلون من الكفار، ففروا إلى رءوس الجبال، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: أين أبو بكر؟ قالوا: هنا يا رسول الله! قال: تعال، فقَرُبَ منه، قال: كيف يقول حسان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحفظ الشعر، كما قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] ولأن حساناً قال قبل المعركة بستة أشهر:
عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها (كَداءُ)
تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخُمُر النساءُ
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاءُ
وإلا فاصبروا لجلاد يوم يعز الله فيه من يشاءُ
وهي قصيدة رائعة بديعة، شكره عليه الصلاة والسلام عليها ودعا له، وقال: {إن الله يا حسان! شكر لك بيتك} الله من السماء شكر له هذه القصيدة.
فلما أتت المناسبة كأن حساناً كان يعيش لحظات المعركة، فقد خرجت النساء يضربن الخيول على وجوهها، فقال صلى الله عليه وسلم: كيف يقول حسان يا أبا بكر! قال: يقول:
تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخُمُر النساءُ
قليلاً قليلاً وإذا السيوف تلمع عند الخندمة، فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قالوا: خالد لقي قتالاً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزع العشرة آلاف أربع فرق، تُسْقِط مكة أمامه يوم الفتح، العاصمة المقدسة تكون لمحمد صلى الله عليه وسلم، ليست لـ أبي جهل ولا لـ أبي لهب، ليست لأعداء الله، وإنما الأرض لله يورثها من يشاء، فهذه الأقدام المستعمرة الخائنة الخاسئة لا يحق لها أن تعيش على الأرض، فسقطت مكة إلا خالد بن الوليد فإنه دخل فلقيه كفار قريش يقاتلونه في الخندمة، أحدهم كان يسل السيف كل صباح، ويسقيه سماً حتى أصبح السيف أزرقاً فقالت له زوجته: ماذا تفعل به؟ قال: أقتل به محمداً، وقال:
هذا سلاح كامل وأَلَّه وصاحبي بالله ما من عله
يقول: ليس عندي من علة في جسمي، والسيف كامل, وسوف أقتل محمداً، فخرج يلتقي خالداً، فأظهر خالد الهزيمة، واستدرجهم من بين البيوت، والسكك، فخرجوا وراءه فلما أصبحوا في الصحراء كَرَّ عليهم أبو سليمان، فأخذ يُعمل فيهم السيوف إلى صلاة الظهر، فدخل صاحب السيف هذا، وأغلق عليه بابه مع امرأته، فقالت: أينك قاتلك الله؟ أين سيفك؟ أين السم الذي حشوته شهراً؟، قال:
إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة
يقول: إن القادة الذين هم أحسن مني ومنك وأبطل وأشجع قد فروا، فكيف أنا!
إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة
والمسملون خلفنا في غمغمه يلاحقونا بالسيوف المسلمة
المسلمون يصيحون ويكبرون، هذا جيل محمد صلى الله عليه وسلم، وطلابه.
والمسلمون خلفنا في غمغمة يلاحقونا بالسيوف المسلمة
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة
وهذا عذر وجيه.
دخل صلى الله عليه وسلم وفُتِح له الحرم، ومشى ومشى، ثم أتى إلى البيت، فأزال الأصنام، وكان بيده قضيب، فكان يشير إلى الصنم إشارة، فيسقط الصنم على ظهره، ويشير إلى قفاه، فيسقط على وجهه، فلا يسقط إلا ويصبح -وبعضها من الحجارة- حباً منثوراً في الأرض.
فكان صلى الله عليه وسلم يقول: {{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81]} ثم يُخْرِج صلى الله عليه وسلم حِلَق باب الكعبة، والعشرة الآلاف طوقوا أبواب الحرم، لا يدخل داخل ولا يخرج خارج، وكفار قريش كلهم في الحرم، هؤلاء القادات الكافرة الذين قاتلوه في بدر وأحد، كل هؤلاء أمامه، فقال: {ما ترون أني فاعل بكم؟} أي: أن السيف في يدي وليس عندكم سيوف، والسلاح عندي وليس عندكم سلاح، والله نصرني والهزيمة عليكم, ماذا تتوقعون من الجزاء المر؟
فأخذوا يتباكون، ويقولون: أخٌ كريم، وابن أخ كريم، الآن جاءت الأخوة، فقال: {اذهبوا فأنتم الطلقاء، عفا الله عنكم}.(258/14)
بيان قوله تعالى: (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً)
أي أنه: إذ رأيت الناس يدخلون بالعشرات والمئات والقبائل في دين الله، فماذا تفعل؟ قال:
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] فأكثر من الاستغفار؛ فإنا نريدك، وأكثر من التوبة، فإنا نريد أن نقربك إلينا، وأكثر من الذكر، فإن مهمتك قد انتهت.
كان عليه الصلاة والسلام بعد أن نزلت هذه السورة، يقول في ركوعه وسجوده: {سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي} يتأول القرآن، وقالت عائشة: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قوله: سبحان الله وبحمده، أستفغر الله وأتوب إليه}.
وقال صلى الله عليه وسلم: {إن ربي أخبرني أني سأرى علامة في أمتي، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان تواباً، فقد رأيتها: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]}.(258/15)
الدروس المستفاده من سورة النصر
في سورة النصر دروس:
الدرس الأول: أن أعظم نصر للعبد: أن ينتصر على نفسه، وقد انتصر المسلمون على أنفسهم، فنصرهم الله على أعدائهم.
الدرس الثاني: أن النصر الأكيد: هو نصر الله لأوليائه على أعدائه، لا انتصار المسلم على المسلم، والحروب المفتعلة التي تجريها الشعوب والدول الإسلامية فيما بينها، أو القبائل الإسلامية العصبية الجاهلية، ليست من الانتصارات.
الدرس الثالث: أن الفتح العظيم: أن يفتح الله عليك بالتوبة، فإذا فتح عليك بتوبة، فقد فتح عليك فتحاً مبيناً.
والفتح هنا: فتح مكة، ومنه بدأت الرسالة تشع في أنحاء العالم، وبدأت الشعوب تدخل في دين الله، وبدأت جيوشه عليه الصلاة والسلام تذهب إلى المدن والقرى تحررها من ران الطاغوت.
الدرس الرابع: أنه لا يستوي من أسلم من قبل الفتح وقاتل، ومن أسلم من بعد الفتح وقاتل، ولا يستوي من أحب الدين؛ لأن الدين محبوب، ومن أتى مجاملة، أو حضر ليستمع هكذا، أو تفرجة لا يستوي مع الأول، ولا يستوي كذلك من قدم تضحيات من جهده ووقته للدعوة، ومن ماله، ومن عرق جبينه، ومن جلس متفرجاً سلبياً، يصلي الصلوات مع الناس، وقد يزكي، وقد يحج ويعتمر؛ لكنه لا يضحي ولا يعطي ولا ينفق، أفهولاء الآخرون مثل الذين أسلموا من قبل الفتح؟! أمثل عرق أبي بكر الصديق، وجهد عمر، ودم علي، وجمجمة عثمان، هؤلاء الأبطال الذين ضحوا بكل غالٍ ورخيص، حتى انتصرت (لا إله إلا الله)؟! أما الذين أسلموا بعد الفتح، فهم كالمفترج، فإن انتصر الإسلام فهم معه، وإن كان الدين عالياً فهم معه، وإن كان الدعاة في خير فهم معهم، وإن كانت الأمور ميسرة وليس فيها منغصات فالأمور سائرة، أما إن كان هناك خوف أو تنغيص أو ملاحظة أو شدة، فلا، قال تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] ويقولون: اتركونا نصلي، ونزكي ونصوم، ويظن أحدهم أنه إذا صلى وزكى وصام فقد أدى رسالته لهذا الدين، ولكنه ينسى أن الكافر يضحي لمبادئه أكثر من تضحيته هو لها، فهذا السلبي لا ينفع الدين ولا ينفع الإسلام، وقد ينجو في الآخرة، لكنه لا يرتفع عند الله درجات.
الخامس: أن الإنسان لا يزهو بعمله، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أزكى الناس عملاً، وأخلصهم نهجاً، وأصدقهم لهجة، ومع ذلك قال له الله: (وَاسْتَغْفِرْهُ).
يقولون: إن من الدروس في هذه السورة: أن الله عز وجل ذكره بأنه مهما قدم للدين، ومهما دفع من تضحيات، فإنه مقصر عليه الصلاة والسلام، هكذا قال أهل العلم، فبالنسبة للكمال الذي يريده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من العبد فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قيل له: حتى أنت يا رسول الله! وذلك لما قال: {لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: حتى أنا.
إلا أن يتغمدني الله برحمته} {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور:21].
الدرس السادس: أن الأعمال الصالحة تُخْتَم بالاستغفار، فمن السنة بعد الصلاة أن يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] هذا بعد الحج، وقِسْ على ذلك باقي الأعمال.
الدرس السابع: أن على العبد إذا دنا أجله، وقرب رحيله، أن يكثر من التوبة والاستغفار، وهذا لا يعني أن الشباب ليس عليهم توبة واستغفار، لا.
ولكن من قَرُبَتْ راحلتُه وأشرفت على منى ورأى المصلى، وجنب الغضا أن عليه أن يكثر من الاستغفار، وأن يطلب الرضا من الواحد الأحد الذي يعلم السر وأخفى.
ثم ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه تواب يقبل التوبة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه لطيف بعباده، وأنه كريم، وأنه ما طرق بابه أحدٌ فرُدَّ، هل سمعتم بأحدٍ قرع باب الله في توبة، ورُدَّ؟ فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يغفر الذنب و {يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25].(258/16)
تفسير سورة الكافرون
ثالثاً: سورة الكافرون
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6]
ثبت في صحيح مسلم عن جابر: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهذه السورة وبـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في ركعتي الطواف، وكان يقرأ بهما صلى الله عليه وسلم في الركعتين اللتين بعد صلاة المغرب في الراتبة} وكان صلى الله عليه وسلم يحب هاتين السورتين؛ لأنها جردت الإخلاص والتوحيد لله تعالى.
وفي صحيح مسلم: من حديث أبي هريرة: {أن رسول الله قرأ بهما في ركعتي الفجر} وقد تقدم في الحديث أنها تعدل ربع القرآن.
وروى الطبراني: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه قرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] حتى يختمها}
وعن الحارث بن حلبة قال: قلتُ: يا رسول الله، علمني شيئاً أقوله عند منامي، قال: {إذا أخذت مضجعك من الليل، فاقرأ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ؛ فإنها براءة من الشرك}.
سورة عظيمة، وتجريدٌ للتوحيد خالصٌ، وتكريرٌ للمبادئ في تناسق عجيب.
هذه السورة براءة من كل من اعتنق الكفر، أو كل من مال إلى الكافرين، أو كل من أحبهم، أو كل من رغب في مبادئهم، أو كل من أشرك مع الله، أو كل من نافق.
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) إن المأمور بهذا محمد صلى الله عليه وسلم، وكل من يتبعه إلى يوم القيامة.(258/17)
سبب نزول سورة الكافرون
سبب نزول السورة: أن كفار قريش أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد! نعبد إلهك سنة، وتعبد إلهنا سنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتى أراجع ربي، أي: حتى أرى.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لن يعبد الأصنام سنة، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يسجد لصنم قط، حتى قبل إنزال النبوة عليه، وقبل إرساله بالرسالة.
فيقولون: أنت تعبد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى سنة، فإذا انتهت السنة بدأنا نعبد إلهك.
سبحان الله! أهذه لعبة قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يريدون أن تدهن معهم فيدهنون معك، لكن الدين لا مداهنة فيه، ولا خشخشة، فالدين أبلج، حق, واضح، صراط مستقيم.
فكأنه يقول: أذهبُ إليهم وأُخْبِرُهم بهذا الرد من الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لن يوافقهم؛ لكن يريد أن يأتي الرد أقوى من الواحد الأحد، أن يقول: قال لي ربي، أنا متكلم عن الله عز وجل، أنا مرسل من عند الله، وكان بالإمكان أن يقول: لا.
لا أعبد إلهكم سنة أبداً، وعليكم أن تؤمنوا، لكن أراد أن يكون الكلام والرد من الواحد الأحد، فقال الله: يا محمد! {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] أي: اجمعهم، فَجَمَعَهُم قالوا: وماذا رد عليك ربك؟ قال رد علي بما يأتي، قالوا: وما هو؟ قال:
أعوذ بالله من الشطيان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6](258/18)
سبب تكرار قوله تعالى: (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)
وهنا مسألة:
يقولون: لماذا كرر: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:5،3] مرتين؟
وفي الإجابة آراء:
الأول: كُرِّرت الآية للتأكيد، فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أراد أن يؤكد لرسوله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، ويؤكده كذلك للكفار.
هذا الرأي الأول.
الثاني: ما حكاه البخاري، وغيره من المفسرين أن المراد بـ (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ): في الماضي (وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ) (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) في المستقبل.
ٍ
الثالث: أن ذلك تأكيد محض كما قلتُ.
الرابع: وقد نصره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه، وهو أن المراد بقوله: (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) نفي الفعل؛ لأنها جملة فعلية.
(لا أَعْبُدُ) لن أفعل فعلكم.
وقوله: (وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ) نفي قبوله لذلك بالكلية، والجملة الاسمية أكثر نفياً.
ومعنى الكلام: لا يكون هذا شرعاً، ولا فعلاً، ولا أقبله نهجاً، ولا عقيدة، ولا أخلاقاً، ولا سلوكاً أبداً.(258/19)
مسائل سورة الكافرون
في سورة الكافرون مسائل:
من المسائل في السورة أيها الناس الآتي:
المسألة الأولى: أن على المسلم أن يتميز بمعتقده، ومن ذلك:
1 - أن يكون لك تَمَيُّز، لا تشابه الكفار في الحركات، ولا السكنات، ولا في الأخلاق، ولا في السلوك.
من الهزيمة التي دخلت علينا، والغزو الفكري، والأخلاقي والسلوكي: أن كثيراً ممن يصلي ويصوم من أبناء المسلمين يشابهون الكفار في كثير من جوانب الحياة.
2 - أحياناً: الرطانة في الكلام تعتبر شعبة من شعب النفاق لغير حاجة، فإذا كانت لغير حاجة فهي شعبة من شعب النفاق، ذكر ذلك ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم.
3 - أن بعضهم يشابه الكفار في جلوسه، وهيئته، ويعجب بهم، ويثني عليهم، ويمدحهم، ويصفهم بالأوصاف الجميلة، وينتقص المسلمين فحذارِ من هذا.
المسألة الثانية: أن على الإنسان ألا يحاول أن يلتقي مع أهل الباطل في منتصف الطريق.
وأذكر أن أحد الناس، فيه هوس في فكره والعياذ بالله، وفيه ظلمة في معتقده، ولو أنه يصلي، قال له بعض العلماء: نرى أنك تتميز في كلامك، وفيما تكتب، وتتميز حتى تكون على بصيرة، قال: لا أحسن شيء أن تمسك العصا من وسطها.
وماذا يعني: أن تمسك العصا من وسطها؟ إن هذا منهج النفاق {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:62] الله ذكر المنافقين في سورة النساء، فيقول: بأنهم يريدون إصلاح الأمور، {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:62].
فإذا قلتَ: في الساحة بعض الحداثيين الملاحدة الذين يتكلمون بالكفر، قال واحد: لا، أستغفر الله! احملوهم على أحسن محمل.
وإذا قلتَ: إنه يسب الله، قال: ربما يكون له محمل آخر، ربما له توجيه، وإذا قلتَ: إنه يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: لا تدري أنت بنيته، أتحكم عليه؟ فإذا قلتَ: يستهزئ بالحجاب، قال: وَلَوْ وَلَوْ، وإذا قلتَ: يستهزئ بالعلماء، قال: وَلَوْ وَلَوْ.
وَلَوْ وَلَوْ؟! هذا من جنس الذي يقول: الالتقاء في منتصف الطريق، بمعنى: أن يُمايِزج بين الأفكار، ويقول: كل شبابنا فيهم خير، وأبناء الجزيرة ليس عليهم بأس، ولا تكفرون الناس، واحملوهم على أحسن المحامل.
{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [النساء:51 - 52] قيل: المقصود بـ {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [النساء:52] الذين قالوا هذه الكلمة.
إن بعض الناس لسوء معتقده، وسوء بصيرته بالدين، يغلب الفجرة على المؤمنين من طلبة العلم والعلماء والدعاة، ويصفهم بالاتزان، وببعد النظر، وباتساع المعرفة والآفاق، وانشراح الصدر، وأدب الحوار، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء:51 - 52].
قضية أنك تلتقي مع الفاجر على أنصاف الطريق، مثل الحلول، كأن تقول له: اكتب أنت، ولا بأس أن تكتب، ولا بأس أن نكتب، ونتحاور أنا وإياك، مثلاًَ: دعنا نتكلم في قضية القضاء والقدر، ربما تكون ثابتة، وربما غير ثابتة، ثم تقام في ذلك ندوة.
سبحان الله! أمثل هذه القضايا تُطْرح؟!
أنا رأيت محرر صحيفة كتب رسالة إلى بعض الدعاة، ورأيتُ جزءً منها يقول فيها: نريد أن نفتح حواراً عن القضايا، حتى القضايا الكلية في الإسلام، سبحان الله! أتحاورني أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان رسولاً أو لم يكن، أنا أمزق حوارك في وجهك، أنا لا أقبل، محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أصبح حبه يسيل في دمي، وفي سمعي وبصري، تجلس معي في القرن الخامس عشر، وأسيادك تنهار بهم الشيوعية واللعنة الغارقة في موسكو، وتجالسني الآن لأثبت لك نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
والسيوف البيض في وجه الردى يوم ضرب الهام من دون النبوة
منذ ألف وخمسمائة سنة، وأبناؤنا تسيل دماؤهم في الجبهات من أجل مبادئ محمد صلى الله عليه وسلم، والألوف المؤلفة تقتل في سبيل الله في الهند والسند وطاشقند وأسبانيا، وفي كل مكان، ثم تأتيني لأجلس معك في ندوة في نادٍ أدبي ونقرر القضاء والقدر؟ ونقرر الخلافة الراشدة؟ وأتكلم لك: هل هذه الأمور الغيبية صحيحة أم لا؟ وأتكلم لك: هل الرسالة هي للناس كلهم أم أنها فقط للدول العربية والإسلامية؟
ليس هنا حوار، فهناك أمور تقبل الحوار، وهناك أمور لا تقبل الحوار، وليس فيها إلا قطع الرءوس، (دون خَرْط القَتاد) صحيح: أنني أقبل الحوار في بعض الأمور الفرعية التي تقبل الحوار، فتحاورني فيها، مثلما تحاور مالك والشافعي، ما معنى: نريد الحوار المفتوح، ونريد أن نسمع الرأي الآخر؟! أتريد أن تسمعني رأي شامير في المسجد؟ ورأي استالين ولينين؟ ورأي الشيطان؟ وأقول لك هذا حوار؟ فإذا غضبتُ عليك، قلتَ: لا تتشنج علينا، ليس عندك أدب، أنا ليس عندي أدب؟ بل أنت ليس عندك أدب، أنت قليل أدب، هذا من ضمن {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1].
الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول للفجرة: قل لهم: لا.
لا التقاء، هذا الذي هو النفاق والكفر والنفاق في النار.(258/20)
بيان قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ)
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1 - 2] أبداً.
لا أنتهج نهجكم، ولا ألتقي معكم، ولا أجلس معكم، ولا أحاوركم، أنا حجتي بيضاء: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) أنا عندي الكتاب والسنة، أنا عندي مبادئ وليس عندكم مبادئ، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257].
يقول بعضهم: لماذا لا نطرح الآن حواراً عالمياً بين الأديان، فنأتي بالإسلام، ونأتي بعقيدة البعث ميشيل عفلق وزمرته الفاشلة، ونأتي بـ الشيوعية الماركسية، ونأتي بالرأسمالية، وبـ اليهودية، ونأتي بالإسلام، فيمثل الإسلام بعض المشايخ، ويمثل هؤلاء لجنة، وأولئك لجنة، ثم نعقد بينهم مقابلة وحواراً، فتبث وسائل الإعلام هذا الحوار على الهواء مباشرة، ونسمع أيهما الأحق، سبحان الله! {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم:10] وجزاء من يفعل هذا الفعل أن ينبأ بهذا الكلام، وكذلك الذي يريد أن يطرحها للناس؟ حتى بعض المسائل الظاهرة في الدين يريدون عرضها الآن للحوار، وهي مسائل بت فيها الإسلام، وانتهى حكم الإسلام فيها.
مثل:
- دور المرأة في الحياة، يريدون المعالجة فيها.
- نصوص أجمع عليها أهل العلم، يريدون أن تعالج، وأن تعاد دراستها الآن.
هذا هو مرض القلوب.(258/21)
بيان قوله تعالى: (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)
(وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ): حتى أنتم لا تعبدون ما أعبد، وهذا صحيح، فإن الكافر والفاجر والمنافق لا يعبد الذي أنت تعبد، ولا يعتقد ما تعتقد، ولو صلى معك أحياناً.
قرأتُ في نشرة، أحدهم ذهب إلى جنيف، ليحضر المؤتمر الذي عقد قبل فترة فيها، وقد كان من المقرر أن يعقد في نيويورك، ولكنه مُنِع هو من دخول نيويورك، فحول إلى جنيف، فخطب خطبة، فلما وصل إلى قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] توقف، وقد قيل: (وقف حمار الشيخ بالعقبة)؛ لأنه لو أكمل الآية لانتهى ما عنده؛ لأنه هو فاشل، والله يقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] ولكن ماذا بعدها؟ {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].
فنزل اليهود ليصلوا صلاتهم في الطقوس، والنصارى في الكنيسة، وقال هو: أن أصلي الصلاة العربية للقومية العربية؛ لأن محمداً قومي، والقوميون العرب الفشلة الآن يفتخرون بمحمد فقط، لأنه قومي منهم؛ لذلك يمدحونه بالقصائد؛ لكن يقولون: أما رسالته ففيها نظر، وأما قوميته فنعم.
{وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:3 - 5] لكم منهجكم ولي منهجي.(258/22)
الدروس المستفادة من سورة الكافرون
دروس من سورة الكافرون:
في سورة الكافرون دروس:
الدرس الأول: أن على الإنسان أن يكون صريحاً في مبادئه: فلا يكون مُلَبَّساً عليه، يعلن مبادءه نقية واضحة، ولا يتدسس ببعض الأمور، وفي الأصل ليس عند العلماء والدعاة شيءٌ خافٍ، فعندهم مبادئ تعلن كل جمعة من على المنبر، وعندهم كذلك مبادئ يؤذَّن بها كل يوم خمس مرات.
الدرس الثاني: لا تستعد أبداً، ولا تحاول في وقت من الأوقات أن تطرح بعض المسائل التي فصل الدين فيها للحوار، فإن بعض المسائل إذا كنت مستعداً أن تحاور فيها مع أناس في قلوبهم مرض، فقد أخطأتَ.
الدرس الثالث: ألا تترك شيئاً من دينك من أجل أن ترضي بعض الناس، أو تجبر خاطرهم، فهذا هو النفاق الصريح.
الدرس الرابع: أن المسلم مستقل في مبادئه، وفي أخلاقه، وسلوكه؛ لأن دينه كامل.
الدرس الخامس: ألا تطمع في الكافر الذي أعلن إعراضه وهجومه على الدين، وتأمل في أن تمشي أنت وإياه في خط واحد، مثل تلك الندوة التي عقدت قبل سنوات، والتي قالوا عنها: بأنها لتقريب وجهات النظر بين المسلمين والنصارى،، يأتي بابا شنودة مع بعض العلماء، ويقولون: هذا لتقريب وجهات النظر بين المسلمين والنصرانية.
هل كانت بيننا وبينهم خطوط مشتركة؟ قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة:113] أما أن تأتي لتقرب لي النصرانية الآن وهي دين باطل بعد إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام فلا يصح هذا.
وغيرها الكثير، وقس عليها من المسائل ما الله به عليم.
انتهت السور الثلاث.
ومعنا إن شاء الله في درس مقبل سورة الكوثر، والماعون، وقريش.
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليماً كثيراً.(258/23)
الأسئلة
ففي الدرس الماضي رتبت الأسئلة على نواحٍ:
- منها أسئلة تربوية: وسوف يُجاب عنها في درس مقبل مع الأسئلة التي سوف ترد ولن تهمَل بإذن الله.
- ومنها أسئلة عن الفقه، ومسائل تهم المسلم في عبادته.
- ومنها أسئلة متفرقة عن بعض المشكلات، وبعض الخواطر.
- وهنا أسئلة خاصة أشكر من كتبها، ومن أرسلها ناصحاً وموجهاً، وسوف تكون محل العناية والنظر.
والله يتولانا وإياكم.(258/24)
قراءة سورتي الإخلاص والكافرون في راتبة المغرب
السؤال
ما هي الحكمة من قراءة سورتي الكافرون، والإخلاص، في راتبة الفجر، وراتبة المغرب؟
الجواب
لأن هاتين السورتين أخلصتا التوحيد لله عز وجل، فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] أخلصت الأسماء والصفات، وسورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] فيها براءة من الشرك والمشركين.(258/25)
نصيحة للتائبين
السؤال
قبل عرض السؤال هناك كلام حول هذا السؤال؟
صاحب السؤال يبدو أنه لأول مرة يحضر المسجد، وأنا أرحب به، وحياه الله، وأدعو الله له بالتوفيق ولإخوانه وأمثاله، فإنه شرف لنا ولكم أن يزيد أحد التائبين والصالحين في دخول هذا المسجد، وأنا بدوري أضعها أمانة في أعناقكم، أن من استطاع منكم أن يُحْضِر أخاً له في أي درس، أو محاضرة، أو أي ندوة فهو مشكور مأجور، ولو تبنينا مشروعاً قاله بعض العلماء بأن يأتينا كل أخ في الدرس المقبل بأخ له، أو بصديق، وليحرص على أناس لا يحضرون الدروس، أو ليس لهم ميل إلى المحاضرات، أو ميل إلى الدعوة، أن يحضرهم حتى يهديهم الله على يديه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
وأنا أتوقع أن الأخ إذا حضر ولو كان غير ملتزم، وأخذتَه - مثلاً - من الحديقة والملعب والكرة، وجئت به وأجلسته بين هذا العدد الهائل والحشد المبارك، ثم رأى الصالحين، ورأى جلوسهم، ورأى أذكارهم، وغشيته السكينة، وحفته الملائكة، وتنزلت عليه الرحمة، فإنها تكون ليلة مباركة في عمره.
يا ليلة الجزع! هلا عدت ثانيةً إن زمانَك هطالٌ من الديمِ
ولعلك أن تكون أنت المفتاح لقلبه، {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} ألا تريدون أن نجرب في الأسبوع المقبل بأن يُحْضِر كلٌّ منا واحداً، وهذا الأمر أتركه بين يديكم، وقد فعل فضيلة الشيخ المبارك أبو بكر الجزائري في جدة قبل ما يقارب سنة، في ندوة قال فيها: أريدكم غداً أن يُحْضِرَ كلُّ واحد منكم واحداً، فأتت الندوة، فإذا هي الضعف من الضعف من الندوة التي قبلها، والناس على الفطرة، وهم قريبون.
أنا أرى أن بعض الناس يجعل بينه وبين الإخوة حواجز، فالذين يجلسون الآن على الأرصفة من الشباب، ضيعوا أوقاتهم، وما وجدوا من يأخذهم إلى الدروس والمحاضرات والندوات، عندهم طيبة، وهم على الفطرة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].
وأنا أجزم جزماً أن ذلك الشاب الذي يلعب الكرة الآن ونحن مجتمعون هنا، أنه لو مر به أحد الكفرة وسب عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقاتله ويسكب دمه كالماء البارد من أجل محمد صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا نأخذ هؤلاء ونحضرهم ونقربهم من جنة عرضها السماوات والأرض؟ ألا نشفق عليهم؟ لا نريد لهم الضرر، لا في أجسامهم، ولا في دنياهم، فإذا كنا نعتقد ذلك، فإن أعظم الضرر أن نتركهم هكذا، بعيدين عن التوجيه، وبعيدين عن المحاضرات، وعن (قال الله، وقال رسوله) تنتهبهم شياطين الإنس والجن، في سهرة لاهية، ودخان، وضياع، وبلوت، وأغنية ماجنة، ومجلة هابطة.
ألا إني أرشح ترشيحاً ثانياً، واقتراحاً ثانياً: أن نذهب إلى هؤلاء ونزورهم في أماكن لعبهم، وندعوهم بالتي هي أحسن، ونبصرهم، وحبذا لو أهدينا لكل واحد منهم شريطاً مؤثراً؛ علَّ الله أن يهدي قلبه؛ فإن هذا من أعظم ما يكون، وبهذه الأعمال تُصْلَح القلوب، وتُمْطَر البلاد، ويُقِيْمُ اللهُ الأمن، ويعم الرخاء.
صاحب السؤال يقول: أنا حضرت وأنا ممنون ومسرور بهذا اللقاء، وأتمنى أن أقدم شيئاً للإسلام وللدعوة، وأتمنى أن يُقَطَّع جسمي في سبيل الله، وأنا أول ليلة أحضر، ماذا اقدم لهذا الدين؟ فبماذا تنصحوني؟
الجواب
أسر الله قلبك، وأضحك سنك، هذه بداية الالتزام.
فاسأل الله أن يربط على قلبك، وأن يثبتك، وأن يزيد في أمة الرسول صلى الله عليه وسلم من أمثالك من التائبين.
شكراً لك ولجسمك الذي يريد أن يمزق من أجل محمد صلى الله عليه وسلم.
شكراً لك وللحمك ولدمك ولشحمك الذي يريد أن يذهب في سبيل الله.
أسأل الله أن يجعلني وإياك والحضور من الشهداء، الذين ينور الله لهم قبورهم، ومصائرهم ودرجاتهم.
والحقيقة: أن مثل هذه الأفكار، وهذه الكلمات تنبع عن معدن أصيل، وفطرة جيدة، أرادها الله - عز وجل - لهذه الأمة.
فالحمد لله الذي جعل الناس يَفِدُون بالعشرات، وكم يمر من تائبين من هذا الجيل المبارك، وكم يفرح الإنسان وهو يلقى شاباًً يقول: أنا لأول مرة أحضر، وتبتُ من شهر أو من شهرين واهتديت، إنها الفرحة الغامرة، حتى يعلم الله أن الإنسان أحياناً يفرح أعظم من أن يبشر بمولود إذا علم أن هذا ولد من جديد في الإسلام.
يقول شيخ الإسلام: للإنسان ميلادان اثنان:
1 - ميلاد: يوم ولدته أمه، يوم سقط رأسه على الأرض.
2 - وميلاد يوم اهتدى في ركاب محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول في مختصر الفتاوى: ولكل إنسان مسلم أبوان اثنان:
1 - أبوه الجثماني.
2 - وأبوه الروحاني.
فأما أبوه الجثماني: فهو أبوه الذي ولده.
وأما أبوه الروحاني: فهو محمد عليه الصلاة والسلام.
السؤال
ما حكم الاحتفال بالمولد؟
الجواب
الاحتفال بالمولد بدعة، وسبق التنبيه على ذلك، وسيأتي تفصيل لهذا الكلام إن شاء الله.(258/26)
التحذير من الخوض في أحداث أفغانستان
السؤال
حذر الشيخ ابن باز وحذر من الخوض في أحداث أفغانستان الأخيرة، فأريد من الإخوة طلبة العلم ألا يخوضوا، فماذا ترى؟
الجواب
وأنا معك في ذلك، وعلى المسلم أن يحفظ لسانه، ويحمي سمعه وبصره، وما دام أن سماحة الشيخ وهو القمة العلمية، وهو عالِم العالَم الإسلامي الآن قد قال هذا الكلام، فكلامه على العين وعلى الرأس، وعلينا أن نقبله، وعلينا أن نطيع هذا الوالد والإمام العظيم، وهذا الشيخ الفاضل، أثابه الله ورفع منزلته.
وصدق فيما قال، فإن الخوض لا يأتي بخير، وبعضهم يتكلم بغير علم.(258/27)
كيف نستمر في الدروس
السؤال
أحياناً أريد الحضور لمثل هذه الدروس واللقاءات ولكني بعيد عن المكان، وقد لا أجد سيارة، وأبنائي لا يستطيعون الحضور، أو لا يوافقوني في الحضور، فماذا أصنع؟
الجواب
شكر الله لك، ويظهر أن هذا شيخ كبير، وأنه يريد الحضور، فالرجاء منه أن يستمر على هذا الخير، حتى يختم الله له بخير، وباستطاعته إذا صدق مع الله أن يهيئ له أسباب الحضور، أو أن يحاول في أحد أبنائه أن يحضر معه، عسى الله أن ييسر لنا ولكم أسباب الخير.(258/28)
حكم أخذ الهدية مع وجود شبهة فيها
السؤال
لقد ذهب أحد أصدقائي الذي أرجو الله لنا وله الهداية إلى أحد محلات الغناء، واشترى خمسة أشرطة غناء، وكان مكافأته على ذلك أن أُهديت له ساعة يد من ذلك المحل، وكان ممن لا يلبس الساعات، فأهدى لي هذه الساعة، وسألتُه كيف جاءته، فأخبرني بالقصة السابقة، فهل ألبس هذه الساعة؟ أم ماذا أفعل؟
الجواب
أولاً: أرى أن تنصحه، وأن تعلم أن الذي أعطاه الأشرطة الغنائية إنما هذا من باب الإفساد في الأرض، والغناء محرم بإجماع أهل العلم، وقد أفسد البيوت، وعليك أن تناصحه دائماً.
ثانياً: عليك أن تذهب فتهدي له خمسة أشرطة من الأشرطة العلمية المؤثرة إن كنت تريد الخير.
ثالثاً: أما الساعة فدخولها لك دخول شرعي، بواسطة الهدية، وقد يكون أنفع لقلبه أن تقبلها، فالرسول صلى الله عليه وسلم قبل من بعض الناس جبراً لقلبه، واستمالةً له، وأرى أن تحاول إحضاره للدروس والمحاضرات، علَّ الله أن يهديك وإياه.(258/29)
كيف نعمل لهذا الدين
السؤال
أريد أن أعمل لهذا الدين، فكيف أعمل؟
الجواب
الصحيح: أن هذه مشكلة، وأعرف أن الجمع الهائل هذا يريد العمل للدين، ويريد أن يخدم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن بعضهم محتار، لا يدري كيف يتقدم ولا كيف يتأخر.
والحقيقة: أنه قد طرحت حلول، وطرحت اقتراحات، والشيخ الدكتور ناصر العمر له شريط بعنوان: مشروع مقترح، حبذا سماع هذا، وغيره من الندوات، وشراء الشريط الإسلامي، الكتيب، إلقاء الكلمات، التأثير، أخذ الإخوة -إذا كنت لا تستطيع على ذلك- أن تأخذهم وتحضرهم للدرس والمحاضرة، هذا من أسباب الخير.(258/30)
كيف تزيل قسوة قلبك
السؤال
كنت أحس بلذة عظيمة مع القرآن والإيمان، ولكن أظلم قلبي، وبقلبي قسوة لا يعملها إلا الله، فماذا أفعل؟
الجواب
أسأل الله عز وجل أن يلين قلوبنا جميعاً بطاعته وبذكره، وأن يهدينا وإياك سواء السبيل، وعليك بكثرة الذكر والقرآن، وأنا أوصيك بمجالسة الصالحين، والكف عن المعاصي والتوبة منها، ثم حضور مجالس أهل الخير والعلم والفضل؛ فإنها تلين القلوب بإذن الله.(258/31)
دور المرأة في المجتمع
السؤال
المرأة ما دورها في الحياة؟
الجواب
المرأة لها دور وأعظم دور، وهو الدور الذي قدمه محمد صلى الله عليه وسلم للمرأة، وعلمها كيف تكون داعية ومعلمة ومربية، وهذا لا يخفى على أحد، وسوف أخصص بإذن الله جزءً هائلاً من الأسئلة في الدروس المقبلة إن شاء الله، لاهتمامات النساء، حتى يكون لهن دور.
ثم إن الكلام الموجه في الدروس والمحاضرات من تفسير وحديث وعقيدة هو للرجل والمرأة، وليس للرجال فحسب؛ لأنه أحياناً نستخدم أسلوب المذكر، فتظن النساء أن ليس لهن في الكلام دخل.
مع العلم أن أم جميل ذكرناها الليلة، بذكرٍ الله أعلم به.
وهن لسن من طراز أم جميل، بل هن من طراز عائشة وزينب.
لنا الفواطم ربات العلا ولنا كل الزيانب هن أهل وعمات
على كل حال: أكتفي بهذا القدر؛ لئلا أطيل، وأنا أشكر الإخوة، وقد وصلتني رسالة من بعض الإخوة يقول فيها: إنني أكيف البرنامج يوم السبت، حتى العزائم والدعوات أجعلها بعد صلاة العشاء، وأحضر بمن يأتيني من الزوار في هذا الدرس، فأنا أشكره على رسالته، وأشكر هذا الجهد المبارك منه، وهذا التنسيق.
وأسأل الله أن يحفظه ويحفظكم جميعاً، وأن يثيبكم على الحضور، وأن يتولانا وإياكم.
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(258/32)
يا حبذا الجنة واقترابها!
الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، وقد حث الله سبحانه وتعالى ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم على هذا الأمر العظيم، فتسابق رجال الإسلام إليه من الصحابة والتابعين وأتباعهم.
وفي هذه المادة ذكر لبعض مواقف هؤلاء الأبطال.(259/1)
الدين الإسلامي يقوم على الجهاد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من حكمة الله عز وجل أن جعل من أسباب ثبات هذا الدين أن يقوم علم الجهاد، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25] فالرسل تأتي بالبينات، وهذه البينات لا تثبت إلا بحديد وقوة وجهاد، فديننا مصحف وسيف، وكان رسولنا عليه الصلاة والسلام يصلي بالناس ويقاتل أمامهم؛ يقوم في الليل قارئاً وتالياً وعابداً وناسكاً، ويحمل السيف في النهار مقاتلاً ومجاهداً ومتقدماً، وكان من لوازم هذه الفترة التي لا تنسى أن نتكلم عن الجهاد الذي عاشه أسلافنا والناس جميعاً لا يعترفون إلا بالقوي، ولا يحترمون إلا القوي إذا لم يكن هناك دين وورع ومخافة من الله.
والعرب في الجاهلية كان بعضهم يزري على بعض بضعفه وذلته وعدم قتاله، يقول أحد شعرائهم وقد سُرقت إبله، فذهب إلى قبيلته يستنجدهم فما أنجدوه وما نصروه، فقال في مقطوعة له:
لو كنت من مازنٍ لم تستبح إبلي بنو اللقطية من ذهل بن شيبانا
يقول: أنا لو كنت من آل فلان، ما أخذ إبلي آل فلان، لكني منكم وأنتم جبناء:
قومٌ إذا الشر أبدى ناجذيه لهم هبوا إليه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهاناً
فلامهم على ضعفهم وجبنهم وذلهم.
وهذا عمر رضي الله عنه وأرضاه يأتيه أناس يشكون أن أحد الشعراء يسب قبيلتهم، قالوا: يا أمير المؤمنين! سبنا وشتمنا وجدعنا، قال: ماذا يقول فيكم؟ قالوا: يقول لنا:
قُبيِّلَةٌ لا يغدرون بذمةٍ ولا يظلمون الناس حبة خردلِ
فهل هذا سب أو مدح؟ هو مدح عند أهل الإسلام لكنه عند أهل الجاهلية سب، قبيِّلة يعني: صغيرة ذليلة.
قال عمر: يا ليتني منهم، وهو لا يدري أنه سب، قالوا: يا أمير المؤمنين! يعني أننا جبناء.
ولا يردون الماء إلا عشيةً إذا صدر الوارد عن كل منهلِ
قال: هذا أحسن للزحام، يقول: ما يأتون بالإبل إلا إذا صدر الناس عن الماء من الخوف والخور، قالوا: يا أمير المؤمنين يسبنا ويجدعنا، فعرف عمر رضي الله عنه وأرضاه فأدب الشاعر، يقول زهير:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلمِ
فأمر الله عز وجل بالجهاد، وحمل لا إله إلا الله والسيف للقتال، ومبارزة العدو، وقد فعلها خلفاء الإسلام فهذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لما رأى أن الأمر سوف يخرج من يده في حروب الردة، وقد قال عمر: أرى أن نفاوضهم، وكأنها مسائل فنية فنعرض الأمر مثلاً على مجلس الأمن، فإن قرر بالأغلبية قاتلناهم، لكن تحول أبو بكر إلى أسد وصعد المنبر، وقال: [[والذي نفسي بيده لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام لقاتلتهم عليه]] قال الصحابة: لا نرى قتالاً، قال: [[والذي نفسي بيده لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة]] ثم استدعى خالداً، وأعطاه الراية من على المنبر، ثم أدب المارقين تأديباً عظيماً، فعادوا ودخلوا في دين الله، فهذا هو منطق القوة.
عمر بن الخطاب أتاه الهرمزان يفاوضه على الصلح، يقول: نعطيكم بعض الأراضي، واتركوا لنا بعض الأراضي، كان يظن المسألة مسألة الضفة الشرقية والضفة الغربية لكن المسألة ليست مسألة أراضي أو رمال، بل المسألة أن تهيمن لا إله إلا الله في الأرض، فـ عمر لا يكتفي بـ إيران، أو تركيا أو أفغانستان يقول: هذه الأرض لا بد أن تفتح كلها بلا إله إلا الله، إما أن يجيبوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، لماذا المفاوضة على الأرض؟ فهو لا يسمع مفاوضة على الأرض، فأرسل سعد بن أبي وقاص بجيش عرمرم عداده اثنان وثلاثون ألفاً كل واحد منهم في قلبه لا إله إلا الله، يحمل الموت ويصدق اللقاء، وفتحت الأرض حتى يقول الشاعر:
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدمٌ له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
وهذا معاوية يختلف مع علي رضي الله عنه وأرضاه وكلٌ مجتهد والحق مع علي، فيكتب ملك الروم لـ معاوية كتاباً يقول فيه: يا معاوية أجتمع أنا وإياك على علي لتستتب لك الخلافة، فهذا الكلب عدو الله وجدها فرصة أن علياً متشاجر مع معاوية، فيدخل في صراع ضد علي بن أبي طالب، فلو كان غير معاوية، لقال: حيهلاً وسهلاً، فكتب له معاوية: [[من معاوية بن أبي سفيان إلى كلب الروم.
أمَّا بَعْد
فوالذي نفسي بيده إن تقدمت بكثيب -يقصد الأرض- أو عبرت بسفينة البحر، لأجتمعن أنا وابن عمي علي بن أبي طالب عليك، فالحذر الحذر!]] يقول: أنا وعلي تحت مظلة لا إله إلا الله، فابن عمي يحمل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وأنا أحمل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ابن عمي يصلي كما أصلي، ويصوم كما أصوم، أما أنت فمجرم، فلا تقترب أبداً، ولو اقتربت، اجتمعت معه ضدك.(259/2)
المعتصم وفتح عمورية
وتستمر الحال، ويحاول الروم -أهل الصليب- أن يجربوها تجربة خاطئة مع المسلمين، وقد حدث في سوقهم في عمورية في شمال تركيا أن أتت امرأة ضعيفة مسلمة، فلما عرضت ما معها في السوق وكانت وحيدة، ليس في السوق مسلم إلا هي وأعرابي عنده بضاعة في السوق، فقام روميٌ، فلطمها على وجهها، فصاحت: وامعتصماه! من هو المعتصم؟ إنه الخليفة في بغداد، أمير المؤمنين، المعتصم أخو المأمون وابن هارون الرشيد والمعتصم هو الخليفة العسكري الذي كان يأخذ السيخ ويكتب به اسمه في الهواء، كان يربط رجليه في وتدين، ثم يقفز فيكسر الوتدين، ويقطع الحبال، ويعتلي على ظهر البغلة، يقول أهل التاريخ: لم يكن أقوى منه جسماً، قالت المرأة: وامعتصماه! فتضاحك الروم، وقالوا: انتظري للمعتصم حتى يأتي على فرسه الأبلق لينصرك في هذا المكان، بيننا وبين المعتصم ما يقارب ألف ميل، فذهب هذا الأعرابي من السوق إلى بغداد ودخل، قال: أريد الإذن من أمير المؤمنين، قال الحرس: ماذا تريد؟ قال: أمرٌ خطيرٌ، فأدخلوه، ومثل أمامه، قال: يا أمير المؤمنين! كنت يوم كذا وكذا في سوق عمورية، فضُربت امرأة مسلمة بين الكفار، فصرخت باسمك من عمورية تقول: وا معتصماه! فتضاحكوا، وقالوا: انتظريه على فرسه الأبلق لينصرك، فوثب من على الكرسي، وثبة معناها أن يقف له التاريخ، قال: والذي لا إله إلا هو لا يصل رأسي ماءٌ من جنابة حتى أنصرها بإذن الله، القتال القتال، أعلنوا في الأقاليم من يستطيع حمل السلاح ويتخلف فإن عقوبته الإعدام، وجهز جيشاً عرمرماً عداده تسعون ألفاً، وجعل إمامه في الصلاة أبا يوسف القاضي الحنفي العالم، وبدأ الاستغفار والتوبة والعودة إلى الله، ثم مضى بالجيش، ولما وصل حدود الروم بدأ يحرقها مدينة مدينة، أول مدينة وصل إليها بدأت النيران تشتعل في الروم، ثم قال: أين عمورية؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! في الشمال، قال: يأتيها حسابها.
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجربِ
يقول أبو تمام: كل مدينة تغار من الأخرى، يقول: فالخراب يسعى فيها أعدى من الجرب في الغنم، ووصل إليها هناك، قال: هذه عمورية؟ قالوا: نعم، قال: الله أكبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، قالوا: نفاوضك على الصلح، قال: حتى أرى حريقاً في المدينة، لا صلح حتى أرى الحصون تحترق، وبدأت الحصون تحترق، وأتى فارس الروم، فقال: من يبارز؟ قال المعتصم: أنا أبارزك، فنزل المعتصم، فلما برز، قام المعتصم -من الشجاعة- فخلع الدرع من على صدره وقد كان من أشجع الناس، فالتقى بالرومي، فضربه الرومي، فنشب سيف الرومي في درع المعتصم فأخذ المعتصم سيفه، فضرب الرومي، فقسمه نصفين، ثم بدأت المعركة، فسحقهم سحقاً عظيماً، فلما دخلها قال: لن أخرج من المدينة حتى يأتي الرجل الذي ضرب المرأة، فاجتمعوا وقالوا: هذا هو المجرم، فأتوا به، قال: أين المرأة؟ فأتوا بالمرأة، قال: يا أمة الله! أنا المعتصم، وهذا هو الرجل الذي لطمك، فهو عبدٌ لك إن شئت أعتقتيه لوجه الله يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، وإن شئت فهو مولى لك، قالت: قد أعتقته يا أمير المؤمنين!(259/3)
أحوال المسلمين اليوم مع الجهاد
وأما اليوم فـ:
ربَّ وا معتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتمِ
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصمِ
أمتي هل لكِ بين الأممِ منبرٌ للسيف أو للقلمِ
أتلقاك وطرفي حاسرٌ خجلاً من أمسك المنصرمِ
ألإسرائيل تعلو رايةٌ في حمى المهد وظل الحرمِ
أوما كنت إذا الموت اعتدى موجةً من لهبٍ أو من دمِ
كم من امرأة اليوم تقول: وا معتصماه! واإسلاماه! في أفغانستان وفلسطين والفلبين ولا يجيبها مجيب، كم من طفل يقتل! كم من مسجد يهدم! كم من شعيرة لله عز وجل تسحق! ثم لا مجيب يجيب! بلغت الأمة من الذلة والمهانة يوم تركت الجهاد وتخلت عن الدين مبلغاً لا يعلمه إلا الله، يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم} وبيع العينة منتشر وهي أن تباع السلعة من الرجل ديناً، ثم يشتريها بثمن أقل قسطاً قسطاً ومقدماً وهذا موجود وفاشٍ {وأخذتم أذناب البقر} تتحول الأمة من أمة جهاد إلى أمة مزارعة، والزراعة ليست حراماً، لكن أبطال الإسلام وشباب لا إله إلا الله وحملة التوحيد يتحولون إلى باعة بطاطس، وخيار وباذنجان وجرجير وخس في الأسواق، ويصبح حمل السلاح لا يطيقه إلا القليل، ويصبح الآلاف من الشباب لا يستطيع أحدهم شحن المسدس والرمي به، ولا يحمل الرشاش، بل أجزم جزماً لو اعتدي على كثير من البيوت الآن لما استطاع الشباب المدافعة عن بيوتهم، بعضهم لا يملك سلاحاً، عندهم سكاكين للبصل في المطبخ، والسلاح أصبح كيماوي ومزدوج، وبعضهم عنده سلاح لكنه لا يستطيع أن يرمي، ولا يصيب الهدف، وما لديه تدريب قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] والرسول عليه الصلاة والسلام ربى شبابه على القوة العسكرية وعلى حمل السلاح والأنفة، اسمع إلى أبي تمام يصور معركة المعتصم في عمورية، لما انتهى المعتصم، وعاد إلى بغداد، عاد وعلم النصر فوق رأسه والعلماء يبكون لنصر الله ويفرحون، واستقبلته الأمة ونساء الأمة وأطفال الأمة، لأنهم أثبت عدة للا إله إلا الله، وقف أبو تمام يحيي هذا البطل ويقول:
السيف أصدق إنباءً من الكتبِ في حده الحد بين الجد واللعبِ
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به نظمٌ من الشعر أو نثرٌ من الخطبِ
يا يوم وقعة عمورية انصرفت عنك المنى حفلاً معسولة الحلبِ
ثم قال:
تدبير معتصمٍ بالله منتقم لله مرتقب في الله مرتغب
ثم يروي أبو تمام قصة المنجمين الذين أتوا قبل المعركة إلى المعتصم وقالوا: لا تحاربوهم هذا الشهر، قال: ولمَ؟ قالوا: لأن برج الثور حل علينا، وبرج الثور إذا حل، لا ينتصر المقاتل، قال: آمنت بالله وكفرت بكم، قال: أبو تمام:
أين الرواية أم أين الدراية كم صاغوه من زخرفٍ فيها ومن كذبِ
طلاسم وأحاديثٌ منمقةٌ ليست بنفع إذا عدت ولا غربِ
فالنصر في شهب الأرماح لامعةً بين الخميسين لا في السبعة الشهبِ
فالنصر في السيوف وليس في النجوم، إلى أن يقول في آخرها:
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجربِ
إلى أن يقول للخليفة: أنت لست الذي انتصر، بل الله الذي رمى بك: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]:
رمى بك الله جنبيها فهدمها ولو رمى بك غير الله لم يصبِ
إنه تدبير الله وقوته {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] إن يخذلكم بأعمالكم وتصرفاتكم وأكلكم الربا وسكوتكم على المنكرات؛ تبرج النساء، وانتشار المخدرات، وضياع الشباب: {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] من يقدم لكم النصر؟ فهذه أمور عاشها السلف.(259/4)
موقف هارون مع نقفور
هارون الرشيد كانت تسلم له الجزية من كل الأقاليم، وكان يحكم اثنين وعشرين دولة من دول العالم الآن، وهو في بغداد، وقد صعد مرة على قصره في بغداد، وكان مكتوباً على سيفه الحاج الغازي هارون الرشيد، يغزو سنة ويحج سنة، وكان يتنفل في النهار مائة ركعة، صعد على القصر وكان يستبشر بالمطر، فالناس في قحط، فمرت سحابة، قال: اللهم اسقنا الغيث، اللهم اسقنا الغيث، فمرت السحابة، فتبسم وقال: أمطري أنى شئت، فإن خراجك سوف يأتيني إن شاء الله، يقول: اذهبي حيثما شئت، إن تريدين الذهاب إلى إفريقيا، فـ إفريقيا في حكمي، وإن تريدين آسيا إلى السند، فـ السند لنا، وإن تريدين الشمال إلى طاشقند فـ طاشقند لنا.
ماتت امرأة كانت تحكم الروم، فتولى نقفور بعدها، فكتب لـ هارون الرشيد كتاباً، وهو لا يعرف هارون الرشيد يقول: أمَّا بَعْد:
فإن المرأة التي كانت قبلي كانت ضعيفة العقل، وكانت تدفع لك الجزية، وأما أنا الآن فلن أدفع لك درهماً ولا ديناراً، فوصل الكتاب وقرأه هارون الرشيد، ومن الاستهتار به أنه لم يكتب في ورقة أخرى، بل أخرج القلم وكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم.
أمَّا بَعْد فالجواب ما تراه لا ما تسمعه.
ثم قال لقائده: جهز جيشاً، فجهز جيشاً وما أمسى إلا وقد طوق الروم وأخذوا قائدهم وكتفوه، وقالوا له: هل تدفع الجزية؟ قال: أدفع الجزية، قالوا: مضاعفة، قال: مضاعفة، فقد كانوا يدفعون على الواحد عشرة دراهم، فجعل هارون على الواحد عشرين درهماً.
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلمِ
أما نصف البيت فنؤمن به، وأما نصفه الآخر فنكفر به، ولكن نقول:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقى مربض المستأسد الضاري
فالأمة تعيش في سؤدد وقوة وعظمة حتى يتخلى الناس عن الجهاد، ويتولى جيلها وشبابها عن حمل السلاح، وحتى يكون الكافر المستعمر يدرب قوته، ويجرب سلاحه.(259/5)
تخاذل العلمانيين عن الجهاد
في الحرب العالمية الثانية أدخلت أمريكا الفتيات في الجيش، ونحن نقول: لا، هذا حرام وخطأ، والعلمانيون يدخلون شبابهم في الجيوش، ويحولون الثانويات إلى جيش، لكن اهتمامات شبابنا إلا من رحم ربك، سطحية افتح يا سمسم جمع الطوابع المراسلة هواية صيد الحمام وصيد الدجاج السفر إلى بانكوك وباريس التصفيق المنتخب، إننا نحتاج إلى حمل سلاح، وإلى جهاد في سبيل الله، ونسأل الله أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يوفق ولاة الأمر لما يحبه ويرضاه، وأن ينصر بهم الدين، وأن يحمي بهم مقدساته، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] هذه الآية يستشهد بها صدام في الإذاعة، في بيانه الرسمي يقول: انفروا خفافاً وثقالاً، لحماية المقدسات.
قلنا: أنت يا صدام آخر من تنفر، فأنت تنفر لكن على الأطفال والنساء، وعلى أعراض المسلمين، وأنت تنفر لكن على الجيران وهدم البيوت وتمزيق المصاحف، وأنت تنفر لكن لهدم المساجد ولقتل الدعاة والعلماء، فأنت آخر من يتكلم عن المقدسات، أما من ينفرون خفافاً وثقالاً، فهم أبناء التوحيد وأتباع محمد عليه الصلاة والسلام، وأنصار لا إله إلا الله، ليسوا بأتباع ميشيل عفلق والبيطار، أنت لا يحق لك أن تتكلم، لأنك نجس، ولا يجوز أبداً أن تدخل البيت إلا بعد أن تسلم، إذا قلت: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ودخلت في الإسلام، وسجدت لله، وحكمت الشرع في شعبك، وكففت عن سفك الدماء، فعندما تنادي بحماية المقدسات، أما الآن فلا يجوز لك أن تطوف أو تسعى أو تتكلم عن المقدسات، غيرك الذي يحمي المقدسات: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10].
فالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة لمن ترك هذه التجارة، فكأن السائل يقول: ما هي التجارة؟ قال تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف:11 - 12] فلما علم الله من أوليائه أنه يحبهم وأنهم يحبونه، قال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} [الصف:13] فما علموا ما هي الآخرى حتى بينها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا هي خصلةٌ من الجهاد {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:13] ولكن النصر والفتح القريب من الله ينزله على أوليائه متى شاء، فتقدم أهل السلاح يحملون أرواحهم على أكفهم وفتح الله لهم السوق، فأتوا من الصباح، فعرضوا السلعة، وقالوا: من يشتري؟ قال الله: أنا أشتري، والشاهد محمد صلى الله عليه وسلم وأما الثمن فالجنة، وأما السلعة فأرواحكم، قال: تبيعون؟ قالوا: نبيع، فتبايعوا في السوق، ثم قام الأولياء عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: هل تريدون أن تردوا البيعة؟ قالوا: لا، ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، وتمت البيعة، والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإذا تفرقا فقد وجب البيع.
ومن الذي باع الحياة رخيصةً ورأى رضاك أعز شيءٍ فاشترى
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيراً
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا(259/6)
موقف للبراء بن مالك في جهاد الكفار
حضر المسلمون معركة تستر بين المسلمين والكفار، وكان قائدها أبا موسى الأشعري فالتقوا، فإذا جيش الكفار أكثر من المسلمين، قال: يا براء بن مالك! تعال.
والبراء بن مالك ثيابه مقطعة، ليس عنده دراهم، ولا قصر أو سيارة ولا رصيد أو شيكات، ولا شيء عنده إلا لا إله إلا الله، قالوا: نسألك بالله أن تقسم على الله اليوم أن ينصرنا، قال: سبحان الله! قالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنك إذا أقسمت على الله أبر قسمك، ففي صحيح البخاري: {أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخت البراء يريد القصاص منها، لأنها كسرت ثنية امرأة أخرى، فقال صلى الله عليه وسلم للمرأة هذه أن تأخذ دية، وهي تقول: لا بد أن تكسر ثنية الربيِّع أخت البراء، فقال صلى الله عليه وسلم: لا بد من القصاص، حكم الله، قال البراء بن مالك: يا رسول الله! تكسر ثنية الربيِّع؟ قال: نعم قال: والله لا تكسر ثنيتها -سبحان الله! يحلف على أمر عظيم- قال الرسول صلى الله عليه وسلم: اذهبوا إلى تلك هل ترضى بالأرش، بعد ما حاور، فذهبوا، فرضيت، قال عليه الصلاة والسلام: ربًّ أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك} ودخل عليه أخوه أنس وإذا هو رافع رجلاً على رجل، وهو منقعر على ظهره، ويرفع النشيد الإسلامي داخل البيت، قال أنس: تنشد وأنت من الصحابة؟! لكن كان نشيده إسلامياً قوياً، كان نشيده يصل إلى القلب، كان نشيده من النشيد الخالد مثل:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينةً علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
كان نشيده مثل نشيد علي رضي الله عنه:
أنا الذي سمتني أمي حيدره
كليث غابات كريه المنظره
أكيلكم بالسيف كيل السندره
ونشيد جعفر:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبةٌ وباردٌ شرابها
والروم رومٌ قد دنا عذابها كافرةٌ بعيدةٌ أنسابها
عليَّ إن لاقيتها ضرابها
ليس نشيداً ميتاً، كنشيد الطعام والشراب، أو نشيداً من الذي يميت القلوب، فهذا لم يكن عندهم، قال: تنشد وأنت من الصحابة؟! فقال: اسكت عني، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد قتلت مبارزة مائة فارس، ولن أموت إلا شهيداً، فحضروا تستر، قالوا: تقدم، قال: انتظروني قليلاً، فانتظروه، فذهب واغتسل ولبس أكفانه وتحنط وتطيب، قال: [[اللهم إني أقسم عليك هذا اليوم أن تنصرنا وأن تجعلني أول قتيل]] وبدأت المعركة وقتل أول الناس وانتصر المسلمون: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(259/7)
ألا إن سلعة الله الجنة
قال ابن القيم: إن سلعة هذا شأنها لقد هيئت ليوم عظيم وخطب جسيم.
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ
فثمن الجنة هو بذل النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين، تالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق (من يزيد) فلم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطالون: أهل الأغنيات الماجنات، والمجلات الخليعات، وترك الصلوات، وأهل الكيرم والبلوت، وتقدم لها أهل لا إله إلا الله، وأهل إياك نعبد وإياك نستعين من أمثال خالد وسعد وعلي وبلال.
إن دندن الطبل في الخراب دندنا آيات حق علي وبلال دندنها
وقام المحبون ينتظرون من أيهم يصلح أن تكون نفسه الثمن، فدارت السلعة بينهم، فتقدم الصحابة: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] فأتى أبو بكر بجسمه النحيف، فباعه إلى الله، فكان صدِّيقاً، وأتى عمر، فقاتل في الغزوات، فاغتيل في المحراب، وأتى عثمان فضرج بالدماء على المصحف، وأتى علي، فاغتيل في الكوفة مع صلاة الفجر، لأن نفوسهم قد بيعت بعقد ثابت، والله رضي العقد وشهده جبريل والملائكة، فأما أرواحهم فهي في حواصل طير خضر ترد الجنة وتشرب من مائها، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
قال: لما كثر المدعون للمحبة، طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، ولو أعطي الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي، فتقدموا بالشهود، قيل: ما شهودكم؟ قالوا: شاهدان عدلان، والبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، قالوا: ما هي؟ قالوا: قال الله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] فاتبعوه عليه الصلاة والسلام، فأوصلهم إلى رضوان الله، فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الرسل، وجلس البطالون، وتقدم المؤمنون، فهذه سلعة الله عز وجل عرضت في سوق الجائزة، فكسبها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وفازوا بها، وطمأنهم الله عز وجل على ذلك، فقال: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].
حضر جابر بن عبد الله وكان أبوه على الجمل في أحد فقال أبوه: يا جابر، انتظرني قليلاً، فذهب جابر في طلب مخيم الجيش، لأنه صغير في تلك الفترة لا يستطيع أن يقاتل مثل أبيه، وما بقي إلا ساعة وأتى، وإذا الجمل واقف، والرسول صلى الله عليه وسلم جالس عليه الكآبة والحزن والصحابة جلوس، قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: أبوك هذا، فإذا هو قد ضرب ثمانين ضربة، وإذا هو مغطى بثوب بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: فكشفت عن وجه أبي، فإذا هو قد قتل، قلت: يا رسول الله! هذا أبي؟ قال: هذا أبوك، قال: فأخذت أبكي وأخذ الناس ينهونني، ورسول الله عليه الصلاة والسلام لا ينهاني، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: {يا جابر! ابك أو لا تبك، فوالذي نفسي بيده ما زالت الملائكة تظل أباك بأجنحتها حتى رفعته، والذي نفسي بيده يا جابر! لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان} يكلمه الله مباشرة، من فوق سبع سماوات، ويكلمه بلا ترجمان، يقول الله له: تمن، قال: أتمنى أن أعود إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمن، قال: أتمنى أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك، قال: فإني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً، فأنزل الله قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169 - 170].
فحيهلاً إن كنت ذا همةٍ فقد حداك حداة الشوق فاطو المراحلا
وقل للمنادي حبهم ورضاهمُ إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا
وقف ابن القيم يحيي أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ويقول:
أما والذي شق القلوب وأوجد الـ ـمحبة فيها حيث لا تتصرم
وحملها قلب المحب وإنه ليضعف عن حمل القميص ويألمُ
لأنتم على قرب الديار وبعدها أحبتنا إن غبتم أو حضرتمُ
اللهم اجمعنا بهم في الجنة، اللهم أدخلنا في زمرتهم، اللهم اسقنا من حوض نبيك عليه الصلاة والسلام.(259/8)
من مواقف السلف في الجهاد
ثم يقول عليه الصلاة والسلام: {انتدب الله -أي: هيأ الله- لمَن خرج في سبيلي لا يخرجه إلا إيمان بي} لا لشعار باطل، أو من أجل التراب، والقومية، ولكن من أجل لا إله إلا الله: {وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي، ما قعدت خلف السرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل} قال ابن كثير: وقد رزقه الله الشهادة عليه الصلاة والسلام، فإنه مات مسموماً شهيداً، وقال عليه الصلاة والسلام: {مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم} صائم النهار قائم الليل القانت بآيات الله، لا يفتر عن صيام ولا صلاة حتى يرجع، وتكفل الله للمجاهد في سبيله بأن يدخله الجنة، أو يرجعه سالماً مع أجرٍ أو غنيمة.(259/9)
ابن المبارك ورسالة إلى الفضيل
أحد الخلفاء المسلمين لما دعا بالجهاد في حدود الروم، كان ابن المبارك المحدث الزاهد العابد يفتي في الحرم، فسمع داعي الجهاد، فخرج من الحرم، وأخذ بغلته وركبها، ولبس السيف والدرع، قال له أهل مكة: ابق معنا يا بن المبارك قال: والله لا أبقى
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
وذهب يقاتل، يقول عنه تلاميذه: كان من أشجع الناس، قتل في اليوم الأول سبعة فرسان، وأتته في أثناء المعركة رسالة من الفضيل بن عياض من الحرم، يقول فيها: يا بن المبارك تركت الحرم والعلم والفتيا، فكتب ابن المبارك رسالة إليه يقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطلٍ فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
فلما أتت الرسالة للفضيل بكى وبلها بالدموع رضي الله عنهم وأرضاهم.
يقول أحدهم:
أيا رب لا تجعل وفاتي إن أتت على شرجع يعلى بخضر المطارف
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة يصابون في فج من الأرض خائف
إذا فارقوا أوطانهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف
ووافت أحدهم ميتته قتيلاً وشهيداً في سبيل الله في قندهار، فلما حضرته سكرات الموت، قال: بلغوا بناتي السلام وأنا في قندهار، ثم قال:
بـ قندهار ومن تكتب منيته بـ قندهار يرجم دونه الخبر
يقول: أين أنا وأين هم؟ هو في قندهار، لكن في سبيل الله.
خرج سعيد بن عثمان بن عفان غازياً في سبيل الله، وكان مالك بن الريب قاطع طريق في حدود خراسان يسرق القوافل، لا تمر قافلة إلا سرقها، وكان سفاكاً للدماء، فمر به سعيد بن عثمان رضي الله عنه وأرضاه وناداه، فقال: من أنت؟ قال: مالك بن الريب فقال: وما عملك؟ قال: الله أدرى بعملي، قال: ألا تتوب؟ قال: كيف؟ قال: خرجنا نحن في سبيل الله، قال: ماذا تريدون؟ قال: نبيع أنفسنا إلى الله، قال: سبحان الله! أنا آكل أموال الناس سرقة، وأنتم تبيعون أنفسكم إلى الله، اللهم إني أشهدك أني تبت إليك، فتاب وأناب، وذهب معهم، وقاتل معهم الكفار، وبعد المعركة وهو راجع لدغته حية، فأتوا به وهو في سكرات الموت، فقال قصيدة من أعجب ما قيل في القصائد العربية يرثي نفسه، يقول فيها:
وأشقر خنذيذ يجر لجامه إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا
فلله دري يوم أترك طائعاً بني بأعلى الرقمتين وداريا
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا
إلى آخر ما قال، وهي أبيات تقطع القلب تقارب الثلاثين بيتاً.(259/10)
عبد الله بن رواحة في غزوة مؤتة
يقول عليه الصلاة والسلام: {لغدوة في سبيل الله أو روحة خيرٌ من الدنيا وما فيها} وسبب الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام ودع الصحابة صباح الجمعة للغزو في سبيل الله في مؤتة بعد صلاة الفجر، ثم قام وخطب الناس، وقال: يا أهل مؤتة! قائدكم زيد بن حارثة، فإن قتل فـ جعفر بن أبي طالب، فإن قتل فـ عبد الله بن رواحة، ثم أرسلهم على بركة الله، فودعوه ومشوا، فلما مشوا تخلف ابن رواحة ليصلي الجمعة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وظن الرسول صلى الله عليه وسلم أن ابن رواحة قد مضى، فصلى صلى الله عليه وسلم الجمعة، وإذا ابن رواحة يودعه بعد الصلاة ويعانقه، قال: {أما ذهبت مع أصحابك؟} قال: وددت يا رسول الله! أن أراك آخر ما أراك على المنبر، فقال صلى الله عليه وسلم: {لقد فاتتك غدوة في سبيل الله، لغدوة أو روحة في سبيل الله، خيرٌ من الدنيا وما فيها} فقال الصحابة: يا بن رواحة تعودون بالسلامة إن شاء الله، قال:
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً وطعنةً ذات فرغ تقذف الزبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا
فرزقه الله الشهادة، يوم ورد المدينة ينظر إلى الناس ويبكي ويقول:
خلف السلام على امرئ ودعته في النخل خير مودعٍ وخليل
يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام، فنسي أهله وأطفاله وزوجته وإخوانه، وتذكر الحبيب عليه الصلاة والسلام، وأتى إلى المعركة، وكان يصوم -كما في البخاري - في السفر، وحضر المعركة مع صلاة المغرب وكان صائماً، فأتته النوبة، فقد قتل زيد بن حارثة أول النهار، وتقدم جعفر فقطعت يداه، واحتضن الراية، فقتل، فلما أتى الغروب، قال المسلمون: يا بن رواحة! يا بن رواحة، وإذا هو يأكل مع الغروب، لأنه يريد أن يتقوى، كان يأخذ من عرق بيده من اللحم، فلما سمع جلبة الصفوف ينادونه، ما عاد للطعم مذاق، وانتهى طعم الأكل، انتهى الطعام والشراب، أقبل على الجنة، فرمى ما في يده وأخرج اللقمة وقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
فقاتل وقتل، وقام عليه الصلاة والسلام في المدينة وقد أراه الله المعركة من وراء ما يقارب ألف ميل، وعلم ما جرى في نفس اللحظة فقام وأخبر الصحابة، وقال: {ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: تقدم زيد بن حارثة ثم بكى عليه الصلاة والسلام، لأنه رأى أسامة، قالوا: ما لك يا رسول الله؟ قال: شوق الحبيب إلى حبيبه، قال: فقتل، وتقدم جعفر الطيار، فقتل، وقد أبدله الله بيديه جناحين في الجنة يطير بهما في الجنة حيث يشاء، ثم تقدم ابن رواحة فقتل، والذي نفسي بيده لقد رأيتهم على أسرة ثلاثة من ذهب قد دخلوا الجنة} ثم يقول صلى الله عليه وسلم في آخر كلامه: {وتقدم خالد بن الوليد وهو سيفٌ من سيوف الله سله الله على المشركين، فأخذ الراية من غير إمرة، وفتح الله عليه} فهذه بعض المواقف للمجاهدين المسلمين.
ويقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: {أيما عبدٍ من عبادي خرج مجاهداً في سبيلي ابتغاء مرضاتي، ضمنت له -إن أرجعته- أن أرجعه بما صاب من أجرٍ أو غنيمة، وإن قبضته أن أغفر له وأرحمه وأدخله الجنة} أخرجه النسائي.
يقول أنس بن مالك: لما التقى المسلمون في اليمامة مع مسيلمة الكذابة، قال ثابت بن قيس بن شماس: يا أيها الأنصار! انتظروني، فانتظروه، فذهب فاغتسل وتحنط، ثم أخذ سيفه، وقال: بئسما عودتم أقرانكم، وبئس ما فعلتم، يقصد: مسيلمة، ثم قاتل رضي الله عنه وأرضاه، وقال بعض المؤرخين: حفر لقدميه في الأرض، ثم غرس قدميه، ثم ثبت في المعركه يقاتل حتى قتل في سبيل الله.(259/11)
من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحث على الجهاد
وقال صلى الله عليه وسلم: {جاهدوا في سبيل الله، فإن الجهاد في سبيل الله بابٌ من أبواب الجنة ينجي الله به من الهم والغم} رواه أحمد وهو صحيح، المجاهد لا يجد هماً ولا غماً، وهذا مجرب، وسلوا من ذهب إلى أفغانستان، فإن عندهم الخبر اليقين، وقال عليه الصلاة والسلام: {أنا زعيم -والزعيم هو الذي يقوم بالضمان- لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت بربض الجنة -في أسفل الجنة- وببيت في وسط الجنة، وأنا زعيمٌ لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة وببيت في أعلى غرف الجنة، من فعل ذلك، لم يدع للخير مطلباً، ولا من الشر مهرباً، يموت حيث شاء أن يموت} رواه النسائي، وابن حبان، والحاكم وهو صحيح صححه ابن حبان، والحاكم ووافقه الذهبي، وقال صلى الله عليه وسلم: {من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة -مقدار ما تحلب الناقة- وجبت له الجنة} حديث صحيح رواه أبو داود والدارمي والنسائي، وصححه ابن حبان ورواه أحمد وغيرهم.
كان أبو بكر يودع أسامة رضي الله عنه وأرضاه، وأسامة يذهب لتنفيذ وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فقال أسامة: [[يا خليفة رسول الله! إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال: والله لا تنزل، ووالله لا أركب، وما عليَّ أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله]] وكأن أبا بكر ما غبر قدمه في سبيل الله، وهو الذي منذ أسلم وقدمه مغبرة في سبيل الله، وكأنه لم يقاتل في تلك الجبهات، وفي تلك الأيام المشهودة، وكأنه لم يقدم روحه في أكثر من غزوة يريد ما عند الله، فرزقه الله الصديقية العليا التي هي بعد النبوة مباشرة، يقول عليه الصلاة والسلام: {إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة} رواه البخاري في التوحيد (باب وكان عرشه على الماء) وأحمد من حديث أبي هريرة، يقول صلى الله عليه وسلم: {فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة} وقال عليه الصلاة والسلام لـ أبي سعيد: {من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، وجبت له الجنة} فعجب أبو سعيد، فقال: أعدها عليَّ يا رسول الله، فأعادها، ثم قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: {وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله} رواه مسلم والنسائي، وقال: {من أنفق زوجين في سبيل الله، دعاه خزنة الجنة، كل خزنة باب: أي فُلُ -ترخيم يا فلان- أي فل هلَّم؛ فمن كان من أهل الجهاد، دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام، دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة، دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من يدعى من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم.
وأرجو أن تكون منهم} رواه البخاري ومسلم والنسائي.
أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يدعى يوم القيامة من أبواب الجنة الثمانية، لأنه صادق مصل صائم مجاهد ذاكر، كل شيء فيه، يضرب في كل غنيمة بسهم، فهو الذي اكتملت فيه أعمال الخير، وقد صح عند مسلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال للصحابة: {هل زار أحد منكم مريضاً اليوم؟ قال أبو بكر: أنا يا رسول الله! قال: هل شيع أحد منكم جنازة؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: هل تصدق أحدٌ منكم بصدقة؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: هل أصبح أحدٌ منكم اليوم صائماً؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة} كان يجمعها كلها مع أنه كان هزيل الجسم ضعيف البنية، لكن -سبحان الله! - قلبه فيه همة تمر مر السحاب: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] وقال عليه الصلاة والسلام: {من أنفق نفقةً فاضلةً في سبيل الله فسبعمائة} هذه سبعمائة تتكرر كثيراً، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].
جاء أعرابي والرسول عليه الصلاة والسلام يدعو إلى البذل في سبيل الله، وليس عند الأعرابي شيء، قال: {يا رسول الله! والذي نفسي بيده ما عندي من الدنيا قليل ولا كثير، ولكن عندي هذه الناقة، فخذها في سبيل الله، قال عليه الصلاة والسلام -وكانت الناقة مخطومة بليف- فإن لك بها عند الله يوم القيامة سبعمائة ناقة في الجنة} حديث صحيح، فهذا جزاؤه عند الله عز وجل، لأنه قدم ما عنده، {ومن أنفق على نفسه وأهله، أو عاد مريضاً، أو أماط الأذى عن طريق؛ فله الحسنة بعشرة أمثالها، والصوم جنة، ومن ابتلاه الله بجسده، فهو له حطة} أي: كفارة.
رواه أحمد في المسند من حديث أبي عبيدة وفي سنده عياض بن غطيف ويقال: غطيف بن الحارث ترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، فلم يذكر فيه جرحاً، ولا تعديلاً، وباقي رجاله ثقات وفي الباب عند أحمد والترمذي والنسائي من حديث خريم بن ثابت مرفوعاً: {من أنفق نفقة في سبيل الله، كتبت له سبعمائة ضعف} وسنده صحيح وقد صححه الحاكم.(259/12)
ضرورة تحديث النفس بالغزو في سبيل الله
يبقى هناك أمر عظيم وهو أن تحدث نفسك بالغزو في سبيل الله: {من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {جاهدوا المشركين بأموالكم وألسنتكم} وفي رواية: (وأنفسكم) وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من سأل الله الشهادة بصدقٍ، بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه} إذا سأل الإنسان الشهادة بصدق، أعطاه الله الشهادة ولو مات على فراشه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وقد ذكر ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل أبياتاً لأحد الشعراء، وقد ارتاح لها ابن تيمية، يقول فيها:
وحقك لو أدخلتني النار قلت للذين بها قد كنت ممن أحبه
يقول: يا ربي والله لو أدخلتني النار، لأقولن لأهل النار: أنا والله كنت أحب الله.
وأفنيت جسمي في أمورٍ كثيرةٍ وما منيتي إلا رضاه وقربه
أما قلتمُ من كان فيها مجاهداً سيكرم مثواه ويحسن شربه
وذلك لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
{أتى أعرابي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فبايعه، فلما بايعه على الإسلام أعطاه مالاً، قال: يا رسول الله! ما على هذا بايعتك، بايعتك على أن يأتيني سهمٌ يقع هنا ويخرج من هنا -أي: في حلقه ويخرج من قفاه- قال عليه الصلاة والسلام: إن تصدق الله يصدقك} فأتت المعركة، فأتاه سهمٌ وقع في لبته وخرج من قفاه، فقال عليه الصلاة والسلام والرجل قد أصبح قتيلاً: {صدقت الله فصدقك الله، صدقت الله فصدقك الله، صدقت الله فصدقك الله} {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21].
فتحديث النفس بالغزو والجهاد وإعداد الجيل وإعداد الأمة، وإخراج جيل يجاهدون ويقاتلون ويحملون لا إله إلا الله، هو الأمر المطلوب وهو المفروض علينا جميعاً، وقال عليه الصلاة والسلام كما رواه أحمد والحاكم وهو حديث صحيح بمجموع طرقه: {من أعان مجاهداً في سبيل الله، أو غارماً في غرمه، أو مكاتباً في رقبته، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله} فليس هناك ظل آخر، أرض المحشر كلها شمس تدنو من الرءوس إلا من أظله الله.
فنسأل الله أن يظلنا في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ويقول عليه الصلاة والسلام والحديث عند البخاري والترمذي وأحمد: {من اغبرت قدماه في سبيل الله حرّمه الله على النار} >
ابن المبارك لما ذهب إلى الجهاد مرَّ في الليل، فرأى قصر عبد الله بن طاهر أمير خراسان، قال: يا فلان، والله لليلتي هذه خيرٌ لي من قصر ابن طاهر، يا فلان ضيعنا حياتنا في المسائل وقال فلان وقال فلان، ما الحياة إلا الجهاد في سبيل الله؛ فرضي الله عنه وأرضاه، ويقول عليه الصلاة والسلام: {لا يجتمع شحٌ وإيمانٌ في قلب رجل واحد، ولا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخان جهنم في أنف واحد} يقول ابن المبارك في قصيدته:
ولقد أتانا من كلام نبينا قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يكذبُ
لا يجمعان غبار خيل الله في أنف امرئٍ ودخان نارٍ تلهبُ
ابن المبارك من أكبر الشعراء، وهو عالم محدث، لكنه من أكبر الشعراء، وشعره من أجمل الشعر وهو صاحب: يا عابد الحرمين، وهو صاحب:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا عفافٍ وحياءٍ وكرم
قوله للشيء لا إذاقلت لا وإذا قلت نعم قال نعم
وهو الذي يقول:
إذا صاحبت قوماً أهل ودٍ فكن لهمُ كابن رحمٍ رفيقِ
ولا تأخذ بزلة كل قومٍ فتبقى في الزمان بلا رفيق
وهو صاحب:
عجبت لدجال، يقصد: الجهم بن صفوان
عجبت لدجال دعا الناس جهرةً إلى النار واشتق اسمه من جهنمِ
إلى آخر تلك الأبيات الجميلة، غفر الله له وأكرم مثواه، وقد ذكر الإمام أحمد قوله عليه الصلاة والسلام: {من اغبرت قدماه في سبيل الله ساعةً من نهار، فهما حرامٌ على النار} وذكر عليه الصلاة والسلام قوله: {لا يجمع الله في جوف رجل غباراً في سبيل الله ودخان جهنم، ومن اغبرت قدماه في سبيل الله، حرم الله سائر جسده على النار، ومن صام يوماً في سبيل الله، باعد الله بينه وبين النار مسيرة ألف سنة}
اللهم باعد وجوهنا عن النار، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تحرمنا على النار.(259/13)
مواقف لبعض الصحابة في اليرموك
قصة في الجرحى في سبيل الله من أعجب القصص، لما حضر المسلمون مع خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه معركة اليرموك، كان معهم الحارث بن هشام، أخو أبو لهب، كان من سادات مكة، كان يكسو الكعبة سنة وكفار قريش يكسون الكعبة سنة، قاتل الرسول عليه الصلاة والسلام في الغزوات الكثيرة حتى هجاه حسان بقصيدة يقول فيها:
إن كنتِ كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشامِ
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجى بفضل طمرة ولجامِ
فلما أسلم الحارث بن هشام، أخبره بالقصيدة فبكى، وقال: والله لأجلون العار عن نفسي، يقول حسان: لمحبوبته: إن كنت كاذبة، فالله ينجيك مثل ما نجا الحارث بن هشام عنا يوم بدر يوم فر وترك أصحابه سبعين مقتلين، وهو من أفرس الفرسان، لكن غلبه حسان في الشعر، فبكى وقال: والله لأطهرن العار عن نفسي، فلما أتت معركة اليرموك، خرج من مكة، وكان يربي سبعين يتيماً في البيت، وكان من أغنى الأغنياء، وكان لا يشبع حتى يشبع كل من عنده في الدار، فلما خرج بكى اليتامى وتعلقت به الأرامل والمساكين قالوا: أين تذهب يا أبانا، قال: أذهب لأجلّي عني العار لأني أقسمت، فخرج إلى اليرموك، فلما أتى وقت الضائقة ووقت الشدة، لبس أكفانه، وقال للمسلمين: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، ثم خرج، فقاتل قتالاً عظيماً ما سمع الناس بمثله، فقتل، فأتوا به، فحمله خالد بن الوليد وهو والحارث من أسرة واحدة، فاحتضنه، وقال: يا عماه! قتلت؟ قال: نعم قتلت جلوت العار عني
إن كنتِ كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشامِ
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجا بفضل طمرَّة ولجامِ
يا خالد! هل رأيتني تركت الأحبة؟ فبكى خالد، وقال: لا والله ما تركت الأحبة، وإذا عكرمة بن أبي جهل الذي أبوه فرعون هذه الأمة يقول: من يبايعني على الموت؟ لأن الدائرة دارت على المسلمين في تلك الفترة، ولما رأى خالد جيش الروم، أقبل، قال: لا إله إلا الله يا خيل الله اركبي، وتقدم أحد الروم إلى فرس خالد الأشقر فطعنه، فوقع الفرس على وجهه، فإذا خالد على الأرض واقفاً، واعتزى خالد وصاح، فسمع صديقه عكرمة، فقال: من يبايعني على الموت؟ يظن عكرمة أن خالداً قتل، فتقدم عكرمة، فشقوه بالرماح، فحملوه شهيداً في آخر رمق إلى الحارث ووضعه خالد بجانبه، وبعد قليل إذا ابن عكرمة يهادى، وإذا رجل من المسلمين يؤتى به كذلك، قال خالد: ماذا تريدون؟ فالتفت إلى عكرمة وكان في الرمق الأخير وهو يشير إلى الماء يريد ماءً، فأخذ خالد ماءً بارداً من الخيمة وسلمه لـ عكرمة، فرفض عكرمة حتى يشرب الحارث عمه، فسلموها إلى الحارث، فرأى الشاب الصغير، فرفض حتى يشرب الشاب: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] فأعطى الشاب، فرفض حتى يشرب المسلم، فأعطى المسلم، فامتنع، فأعطاه إلى الحارث، فوجده قد مات، فأعاده إلى عكرمة، فوجده قد مات، وإلى الشاب وقد تاقت روحه وخرجت ومات، وإلى المسلم، وقد انتهى، فانسكب الكوب من يد خالد وبكى وقال:
[[زعم الناس أنا لا نموت من ضرب السيوف لا ورب البيت بل قصعاً تحت الرماح]]
اللهم فاسقهم من جنتك، قال تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19]
وذكر ابن ماجة رحمه الله أنه عليه الصلاة والسلام قال: {من راح روحة في سبيل الله، كان له بمثل ما أصابه من الغبار مسكاً يوم القيامة} وهذا الحديث إسناده حسن، فيجعل الله مثل وزن هذا الغبار مسكاً.(259/14)
السلطان نور الدين وجهاده لأعداء الله
نور الدين محمود زنكي هذا كردي من الأكراد الذين قتلهم شر حكام العراق، وهو ابن عم صلاح الدين الأيوبي الذي فتح بيت المقدس وصاحب حطين.
ونور الدين زنكي أمره عجيب، يقولون: عدول العالم الإسلامي ستة: الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز ونور الدين زنكي، كان إذا بقي من الليل ثلث، قام الحراس على قصره، فأيقظوا أهل مدينة دمشق وأيقظوا العسكر يصلون كلهم في الليل حتى يأتي الفجر، كان يقاتل في سبيل الله في الغزوات، فجمع الغبار الذي اجتمع له من الغزوات وصنعت منه لبنة له، وجعلت عند رأسه في القبر، هذا الغبار الذي كسبه في المعارك من ثيابه، ومن خوذه، وملابسه على فرسه؛ جمعوا منه لبنة توسدها رضي الله عنه وأرضاه.
نور الدين محمود له قصة عجيبة، وهي قصة القبر وهي أن بعض الناس من النصارى أرادوا الاعتداء على قبر الرسول عليه الصلاة والسلام وأخذ جثمانه الشريف عليه الصلاة والسلام، وكان نور الدين محمود في دمشق، فرأى في المنام أن الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: أنقذني يا محمود! فقام، فسأل العلماء، فقالوا: قبره يؤذى عليه الصلاة والسلام، فجهز جيشاً عرمرماً، ودخل المدينة وطوقوها بالجيش، ودعا الناس إلى وجبة الغداء، وقال: من تخلف فاقتلوه، فأتى الناس جميعاً إلا مغربيين في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم تظاهرا بالعبادة، وهم نصارى، لكن تظاهروا بلباس المسلمين، قال: هل بقي أحد؟ قالوا: ما بقي إلا مغربيان، قال: عليَّ بهما، فلما أُتي بهما، فإذا هما كما رآهما في المنام بجانب الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو يقول: أنقذني ويشير إلى الاثنين، فسألهما، فلم يخبرا، قالوا: عباد وزهاد، فأمر الجنود أن يجلداهما بالسياط، فجلدوهم فاعترفوا، فذهب فوجدهم قد حفروا تحت البساط إلى قبره عليه الصلاة والسلام، فصب ما حول القبر قيل: بالرصاص وقيل: بالفضة، فهو هناك إلى الآن.
نور الدين محمود كان عنده مهرجان، وقد جمع الجيوش بعد فتح بعض المدن، فقام أحد الحكماء، وقال:
مثَّل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمورُ
إن قيل نور الدين جاء مسلماً فاحذر بأن تأتي وما لك نور
حرمت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدورُ
فبكى حتى سقط من على كرسيه على وجهه ورشوه بالماء، كان من أخشع الناس لله والشاهد هذا الغبار، وأتى ابن عمه صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه وأرضاه، ففتح فتحاً ما سمع الناس بمثله، فرفع الله منازلهم وجمعنا بهم في عليين، يقول بعض المؤرخين: نور الدين لما مات، رؤي في المنام وهو يطير من شجرة على شجرة، قيل: أأنت نور الدين محمود؟ قال: أنا نور الدين محمود، قالوا: أين أنت؟ قال: أما كان في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: {المرء يحشر مع من أحب} وهذا ذكره ابن كثير، لكن ما ذكره في ترجمة نور الدين محمود، بل ذكره في ترجمة رجل من الأكراد في أول المجلد الرابع عشر، أو آخر الثالث عشر، والصحيح أنها في نور الدين محمود، وقصة القبر ذكرها السهيلي، قصة القبر، وأنا ذكرتها بمن رواها في شريط: (قتل المجرمين عدالة) ومن خرجها، فمن أراد أن يراجع هذه القصة فليراجعها في شريط: (قتل المجرمين عدالة) وقال عليه الصلاة والسلام: {ما خالط قلب امرئ رهج في سبيل الله إلا حرم الله عليه النار} رواه أحمد في المسند، يقول هنا: ما في بطن الإنسان من خوف أو جزع، وليس الرهج هنا الغبار، لكن الرهج في غير هذا الحديث الغبار، (رهجُ السنابك) هو الغبار، ولكن حين أتى مع القلب يصرفه إلى الخوف والجزع، فهو من أسماء المعاني لا من أسماء الذوات التي هي الغبار، وعرف بالسياق، فليعلم هذا أيها الإخوة الأجلاء.(259/15)
الأسئلة(259/16)
التدرب على السلاح
السؤال
أرجو أن تنبه على هؤلاء الإخوة بأنه قد فتح هذا اليوم مكتب تدريب المتطوعين وذلك في خميس مشيط سلاح المهندسين؟
الجواب
أنا أنبه الآن أن هذا مشروع موفق، وأن هذا يهاب به ويشاد ويشكر من قام به ومن أمر، نسأل الله لهم الرشد والسداد والصلاح ظاهراً وباطناً، فمن لوازم المسلم أن يذهب وأن يتعلم حمل السلاح، ويتدرب، فإنها فرصة، لأن السلاح أصبح متطوراً ومعقداً، ولو مدة شهر كل يوم ساعتين من الرابعة إلى السادسة عصراً، وسوف يكون هناك إن شاء الله حضور من بعض الدعاة وطلبة العلم، وتوجيه بعض الكلمات في التوحيد والتوكل على الله وفي التوبة والعقيدة، ومع ذلك توجيه إلى آداب الجهاد وسنته عليه الصلاة والسلام وآدابه في ذلك، وهي أيام مشهودة وفاضلة، فمن ذهب فلينو نية صالحة وصادقة، ويريد بهذا أن يحدث نفسه بالغزو، وأن يتهيأ للشهادة في سبيل الله، وأن يتهيأ للقتال تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.(259/17)
ضرورة التوكل على الله
السؤال
أرجو أن تنبه الناس على الاعتماد على الله عز وجل لا على الاعتماد على غيره؟
الجواب
أنا تكلمت في أول الحديث عن الاعتماد على الله، وهو الركن الذي لا يغلب: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] فالناصر هو الله وأقول: لا بد للناس أن يقفوا مع التوكل كثيراً، وأن يعودوا بأنفسهم إلى مسألة التوحيد، وهذا ينبه على الدعاة وعلى طلبة العلم أن يكرروها في دروسهم ومحاضراتهم وندواتهم كثيراً، ويلزموا الناس بها، ويشدوا من الأزر في هذه مثلاً، لأنه وجد خور في بعض الجوانب عند الناس، بعض الناس خاف من الموت، وبعضهم هلع، وبعضهم يقول: نحن مغلوبون، وهذا خطأ، وهذا قاله بعض المنافقين: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] وأما الأتقياء فقالوا كما قال أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام: {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22].(259/18)
توقع نتائج حرب الخليج
السؤال
بعضهم يتساءل ما هي النتائج التي تتوقعونها في الخليج؟
الجواب
الله أعلم ولا يعلم الغيب إلا الله: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65].
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانعُ
تقضون والفلك المسير ساخرٌ وتقدرون وتضحك الأقدار
والأمم والشعوب والدول والحكومات كالذر، فالله عز وجل بكلمة كن فيكون يغير الأمور، أبرهة الأشرم أتى لمهاجمة الحرم فأتى الخبر عبد المطلب جد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأبرهة الأشرم كانت عنده قوة، فالفيل في تلك الأيام لا يطاق مثل: الكيماوي، فالعرب لا تدري ما هو هذا الفيل، فلما دخل وادي محسر وقف الجيش، فأتى الخبر لـ عبد المطلب، قال: لا نستطيع لـ أبرهة، والحكمة أن نخرج بأطفالنا ونسائنا إلى رءوس الجبال، لكن قبل أن نخرج اتركوني ألقي أبياتاً وقد كان مشركاً، لكن أراد أن يوصي بها، فذهب إلى الكعبة، فأخذ بحلقة الكعبة وقال:
يا رب إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك
وقد كان عبد المطلب مشركاً ولكن فيه نخوة وشجاعة وشهامة، وكان من سادات العرب:
يا رب إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك
فنحن لا نستطيع القتال، وأما هو فذهب إلى أبرهة، وسمع أبرهة أنه قادم، وقال حراس أبرهة وهو جالس في طرف وادي محسر وقد نزل في خيام وهيلمان وألوف من الجنود، قالوا: عبد المطلب أقبل، قال: من؟ قالوا: شيخ مكة، فظن أبرهة أنه جاءه يفاوضه مفاوضة سلمية في ترك بعض الأراضي والوقوف حتى يأتي ويصلح بينهم، فوصل عبد المطلب، فلما وصل قام أبرهة وأجلسه على السرير، ثم نزل معه، رآه جليلاً وشيخاً وفيه وقار، وكان سيداً من السادات، حتى يقول صلى الله عليه وسلم: {أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب}
قال: ماذا تريد؟ قال: أريد إبلي عندي مائة ناقة أخذها جنودك، قال أبرهة: ظننت أنك عاقل أتيت أهدم بيتك وبيت آبائك وأجدادك، وأتيت تكلمني في الناقات، أعطوه الإبل، فأعطوه الإبل، قال: أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه، ثم تولى، فتقدم أبرهة، فوجهوا الفيل إلى البيت، فرد الله رأسه إلى اليمن، ضربوه فرفض، فتقدم أبرهة والجيش وتركوا الفيل، فأرسل الله عليهم الطير الأبابيل، يقول بعض المفكرين العصريين: الأفواج الاستطلاعية، والمفسرون من السلف على قسمين: قسم يقول: خلقها الله من البحر، وقسم يقول: خلقها الله تلك اللحظة: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] وفي الصباح يقف عبد المطلب يتباكى هو والنساء والأطفال في رءوس الجبال، وإذا بجبال مكة تمتلئ من هذه الطيور، ويأتي كل طير معه حجر كالحمصة بين أرجله مكتوب عليها اسم الجندي، فلان بن فلان صاحب الحفيظة كذا ورقم الهاتف كذا، يعني: حجر أبرهة يهوي عليه لا على غيره، وعلى الجندي الذي في الطابور الخامس فلا تأتي إلى الطابور السادس، فسحقهم الله، ثم يقول الله للرسول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] أما سمعت؟ أما حدثك أشياخ مكة ماذا فعلنا بعدوهم؟ لأن أبا جهل يقول: يا محمد لو اتبعناك تخطفتنا العرب {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57] يقول: أوما سمعت ماذا فعلنا؟ أما قرأت الأخبار؟ أما أتى في التاريخ؟ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] سماهم أصحاب الفيل تهويلاً لهم، ولم يقل أصحاب أبرهة، مثل: الناس معهم حمار يقال لهم تصغيراً أصحاب الحمار: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5] بعض أهل العلم يقول: كانت هذه إذا رمت عادت فأخذت حجارة من جديد أي: أنها تعود إلى قواعدها وتتحمل مرة ثانية، وهذه هي التي ما شوهدت في التاريخ، وما صنعت في المصانع، وما عرفت إلا الغارات الموفقة، وما أخطأت واحدة منها، وهي عناية الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
ونستودعكم الله على أمل اللقاء بكم، وشكر الله لكم تعاونكم وحضوركم، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من الشهداء في سبيله، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(259/19)
الباحثون عن الحقيقة
إن أكبر قضية في حياة الإنسان هي قضية البحث عن الهداية ومعرفة الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبودية والتوحيد، والذي يريد الهداية عليه أن يحرص عليها ويلتمسها في مظانها، ويدعو الله أن يثبته عليها، فإن من طلب الشيء وجده، ولنا أسوة حسنة في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحث عن الهداية، أمثال سلمان والطفيل بن عمرو الدوسي وغيرهما، فيجب علينا أن نتأسى بهم، وأن نبحث عن الهداية وأسبابها ونتجنب موانعها.(260/1)
البحث عن الهداية
الحمد لله رب العالمين، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
والصلاة والسلام على رسول الله خير من تكلم بالقرآن وفهمه وبلغه، هدى الله به الإنسانية، وأنار به أفكار البشرية، وزعزع به كيان الوثنية.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس: إن أكبر قضية في حياة الإنسان، هي قضية البحث عن الهداية، وقضية معرفة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فإنه لا أكبر من الله، فلا إله إلا الله، ولا إله غير الله.
الله ربي لا أريد سواه هل في الوجود حقيقة إلا هو
قد ضل من يرجو سواه وأفلست من كل خير في العلا يمناه
يقول عز من قائل: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنعام:19] ولذلك كانت هذه القضية هي القضية الكبرى التي ينبغي للمسلم أن يبحث عنها، فأين الباحثون عن الحقيقة الكبرى؟
وأين الملتمسون للهداية؟
وأين المتطلعون إلى معرفة الله؟(260/2)
بحث سلمان عن الهداية
لنقف اليوم مع بعض أولئك النفر الصالحين، مع المتلمسين للهداية، والباحثين عن الحقيقة.
وفي مقدمتهم، وفي أولهم سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه، سلمان ابن الإسلام الذي لما اجتمع مع نفر من العرب فسألوه عن نسبه، حيث يقول هذا: أنا قرشي، وذاك يقول: أنا قيسي، وذاك يقول: أنا تميمي، فقال:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
هو لا يعرف إلا الإسلام، فأبوه الإسلام، وأمه التقوى.
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
أتى من أرض فارس، يتلمس الهداية، ويطلب النور ويريد لا إله إلا الله، وأبو جهل وأبو لهب وأبو طالب، عند الركن اليماني والحجر الأسود يبغضون لا إله إلا الله ويحاربونها، فعجباً كيف يقود قدر الله وهدايته واصطفاؤه هذا الرجل من وراء بلاد فارس، ليكون من حماة الإسلام؟ وكيف تطرد قدرة الله وعنايته هذه الشرذمة وهم عند الحجر الأسود والركن اليماني، فيموتون ويكون مصيرهم إلى نار جهنم.
كان سلمان يعبد النار من دون الله الواحد القهار.
وأصبح عابدو الأصنام حماة البيت والركن اليماني
يقول عن نفسه: كنت مع أبي وكان من سدنة النار التي يسجد لها المجوس من دون الله فانشغل ذات يوم من الأيام في شغل له في مال؛ فأرسلني لأوقد النار مكانه، قال: فذهبت فأوقدت النار، فمررت في طريقي؛ فوجدت قوماً من النصارى يعبدون الله على دين المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، قال: فأعجبتني عبادتهم، وتلهيت معهم ساعة، وعدت إلى أبي في المساء، فقال لي: أين كنت؟ فأخبرته الخبر، قال: فحبسني ووضع الحديد في رجلي -لأنه خرج عن دينه، وخاف أن يرتد عن دين المجوسية، وهكذا حماس أهل الباطل لباطلهم، فأين حماس أهل الحق لحقهم؟
قال: فسألت الناس هل هناك من دين مثل هذا الدين في غير هذه الأرض؟ قالوا: نعم في الشام في سوريا، قال: فمر بي ركبٌ فوضعت الحديد من رجلي وركبت معهم وتركت أبي وأهلي لألتمس الدين الحق، قال: فأركبوني معهم حتى نزلت بـ الشام، فأنزلوني عند راهب في صومعة، فجلست عنده، فوجدته رجل سوء شريراً يأمر الناس بالصدقة ويأكل أمولهم، ويأمرهم بطاعة الله ويعصي الله في الخفاء.
قال: فلما مات حملوا جنازته، وحفروا له قبراً، قلت: لا تسرعوا إن هذا رجل سوء، عنده سبع قلال من المال من الذهب والفضة، وأريتهم إياها، فرجموه بالحجارة، ولعنوه وصلبوه، قال: ثم سألت الناس، فدلوني على راهب في العراق، فذهبت إلى ذاك الراهب في صومعته؛ فوجدته من أعبد الناس لله ومن أصدقهم لمولاه، ما رأيت رجلاً غير المصلين أفضل منه -يستثني المسلمين- قال: فكنت معه بأحسن حال، فلما دنت منه الوفاة، قلت: إني صاحبتك وإن للصحبة حقاً، فدلني على رجل صالح، قال: فدلني على رجل صالح آخر فذهبت إليه، فوجدته كصاحبه في الصلاح والعبادة، فلما دنت منه الوفاة -وللفائدة فإن سلمان عاش ثلاثمائة سنة في الجاهلية، والمجوسية والنصرانية، وفي الإسلام، فهو مجرب كل التجارب، وهو مخضرم أكل عليه الدهر وشرب، واستقرأ الحوادث والوقائع والأيام، وخرج بنتيجة أنه لا دين إلا دين الله الذي رضيه للناس- قال: فلما دنت منه الوفاة، قلت: بحق الصحبة معك، دلني على رجل صالح في الأرض، قال: لا أعلم راهباً بقي في هذه الأرض، ولكن هذا زمان مبعث رسول يرسل من العرب، قد أظلك زمانه، وهو يخرج في هذه الأيام، وسوف يهاجر من بلاده إلى أرض ذات نخل بين حرتين، أرض شديدة الحرارة، فإذا سمعت به فاذهب إليه.
قال: فاشتغلت ببعض الكسب فحصل لي بعض الأموال من البقر والغنم، فتعرضت على ساحل البحر، فوجدت أناساً من العرب من التجار؛ فأعطيتهم الإبل والبقر والغنم أجرة على أن يحملوني إلى الجزيرة، قال: وكانوا ظلمة، وادعوا أني عبد لهم -وما أصابته عبودية ولا رق إلا لله تبارك وتعالى- قال: فلما نزلنا ظلموني وباعوني من رجل من أهل وادي القرى قريباً من المدينة -وانظر إلى عناية الله كيف يقربه تبارك وتعالى من المدينة - قال: فأتى رجلٌ من اليهود في تلك الليلة من أهل المدينة، فاشتراني من هذا الرجل في وادي القرى؛ فذهبت معه، فكنت أجذ له النخل، وأسقي له على الناضح، وأشتغل له في الزراعة، وأتلمس الأخبار، وأتسمع الأنباء عن مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وبينما أنا في النخلة، وإذا بيهودي آخر أتى يستهزئ ويستهتر على اليهودي الثاني صاحب المزرعة، ويقول: أتى جد بني قيلة -وبنو قيلة: هم الأنصار، وجدهم أي: حظهم، أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال له: أقدم اليوم؟ قال: نعم قدم، قال سلمان: فو الله ما إن سمعت كلامه وقع في أذني، حتى أصابتني رعدةٌ في جسمي فكدت أسقط من أعلى النخلة.
من الفرح لما وقع الخبر في أذنيه.
طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ فزعت منه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
قال: فوقفت بجانب سيدي، وقلت: ما الخبر؟ فلطمني على وجهي لطمة أجلستني، وقال: عد إلى شغلك، ما شأنك وهذا الشأن؟ قال: فعدت، وكان آخر الرهبان الثلاثة أخبرني بعلامات الرسول صلى الله عليه وسلم وهي ثلاث علامات:
أولها: أنه لا يأكل الصدقة.
وثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية.
وثالثها: أن بين كتفيه خاتم النبوة.
قال: فلما أظلم الليل أخذت مكتلاً معي من تمر، وأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قباء حيث بنو سلمة في أعالي المدينة، فسلمت عليه؛ فرأيت وجهه ليس بوجه كذاب كأنه البدر.
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
فوضعت المكتل بين يديه، وقلت: سمعت أنكم غرباء قدمتم؛ فخذوا هذا التمر صدقة، قال: فأمسك صلى الله عليه وسلم ولم يأكل، وقال لأصحابه: كلوا بسم الله، قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة، قال: ثم عدت إلى النخل فلما أتت الليلة المقبلة، حملت مكتلاً آخر، وأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوضعته بين يديه، وقلت: هذه هدية، فقال: بسم الله وأكل، فقلت: هذه الثانية.
قال: ومشيت وراءه فأخذ يلمحني بعينيه صلى الله عليه وسلم، وعلم أنني أريد أن أرى خاتم النبوة بين كتفيه؛ فرفع رداءه صلى الله عليه وسلم فرأيت خاتم النبوة بين كتفيه، فانحنيت عليه أبكي وأقبله، قال: فهداني الله وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فأعتقني صلى الله عليه وسلم.
وسار سلمان في طريق الهداية، وتوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتاج: {سلمان منا آل البيت} فهو من أهل البيت نسباً في التقوى، وسلالة عريقة في النجابة والنبل والجهاد، وهو من أهل البيت في العبادة والطهارة والنزاهة، ولذلك كان من أصدق الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيجب علينا أن نتأسى به في طلب الهداية، والذي يحرص على الهداية ويلتمسها ويدعو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبلغه سبل الهداية يجدها، ويوفقه الله لها، ويعطيه الله عز وجل ما تمنى، والذي يعرض عن الهداية، ولا يحرص عليها، ولا يريدها، يطبع الله على قلبه، ويسيء ذكره، ويجعل الشيطان يستحوذ عليه، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] ويقول عز من قائل: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].
فيا من يريد الهداية التمسها تجدها، فإن الهداية لا تتعلق بنسب ولا بمنصب ولا بولد ولا بمال ولا بجاه، ولكن الله ينظر إلى قلوب العباد، فإذا رأى قلباً يستحق الهداية أعطاه وأولاه واجتباه واصطفاه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(260/3)
الطفيل بن عمرو الدوسي وقصة إسلامه
ورجل آخر، ورائد ثان من رواد الحقيقة ومن الباحثين عن النور، الطفيل بن عمرو الدوسي، كان يعيش في جبال السراة، لا يعلم أن هناك رسولاً، ولا كتاباً، ولا إلهاً، فلما أراد الله أن يهديه ويهدي قومه به، قدم مكة من السراة من جبال زهران في دوس قدم في التجارة؛ فرآه كفار قريش، فعلموا أنه سيد شريف لبيب، فخافوا عليه من الإسلام، فأتوا إليه وتجمعوا عليه، وقالوا: يا طفيل! أنت سيد في قومك، ومعنا هنا رجل كاهن ساحر، إذا سمعت كلامه فرق بينك وبين زوجتك، وبينك وبين أولادك، قال: فو الله ما زالوا يخوفونني به حتى جعلت القطن في أذني لئلا أسمع شيئاً.
قال: فكنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يصلي في الحرم، وأرى علامات الصدق في وجهه، قال: فاقتربت منه -انظر إلى هداية الله كيف تقرب البعيد, وانظر إلى الشقاء كيف يبعد القريب- قال: فما زلت أتقرب منه، وقلت لنفسي: عجباً لي! أنا رجلٌ لبيبٌ وشاعر لا يخفى علي حسن الكلام من قبيحه، قال: فما زالت نفسي تحدثني حتى وضعت القطن من أذني، فاستمعت إليه وهو يقرأ القرآن، فوقع القرآن في قلبي، قال: فسلمت عليه؛ فرد عليه السلام، فأخبرته الخبر، وقلت: ما الذي تدعو إليه؟ فأخبرني صلى الله عليه وسلم بالإسلام، فوقع حب الإسلام في قلبي، وهذه عناية الله واصطفاؤه، فقلت: يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
قال: {ممن الرجل؟ قلت: من دوس، فتبسم صلى الله عليه وسلم} لأن دوساً تبعد الكيلو مترات عن مكة فيهدي الله منهم هذا الرجل وأهل البيت كفرة بالله العظيم، يعبدون الحجارة من دون الله، فقلت: يا رسو الله! ادع الله أن يجعل لي آية وعلامة وكرامة أدعو قومي بها، فقال صلى الله عليه وسلم: {اللهم اجعل له آية} قال: فذهبت فلما انحدرت على قومي -في بلاد زهران - وإذا بالنور في وجهي أصبح مد البصر، فقلت: اللهم اجعله في غير وجهي، فإني أخاف أن يقول قومي: هذه مثلة أو مرض، فجعله الله في عصاي؛ فكان كالقنديل، فلما وصلت إليهم، أقبل أبي ودنا مني، فقلت: أنت مني حرام، وأنا منك حرام حتى تؤمن بديني، قال: وما هو دينك؟ فأخبرته، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، قال: ودنت مني صاحبتي، فقلت لها مثل ما قلت لأبي، فشهدت أن لا إله إلا الله، ثم خرجت على قومي؛ فأخبرتهم الخبر فكفروا وأعرضوا، وعدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! غلب الزنا على دوس، فادع الله عليهم، قال: فرفع يديه واستقبل القبلة، فقلت في نفسي: هلكت دوس، فقال صلى الله عليه وسلم: {اللهم اهد دوساً وأت بهم، اللهم اهد دوساً وأت بهم، اللهم اهد دوساً وأت بهم} {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
قال: فعدت إليهم، فآمنوا كلهم عن بكرة أبيهم، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقدمت بهم إلى رسول الله.
وبقي الباحث عن الحقيقة الطفيل بن عمرو الذي هداه الله إلى لا إله إلا الله وافياً مجاهداً عابداً، ناصراً لكلمة الحق، حتى أتت معركة اليمامة مع مسيلمة الكذاب الدجال، وقبل أن تصبح صباح المعركة نام الطفيل بن عمرو؛ فرأى في نومه كأن رأسه حُلق، وكأن طائراً خرج من فمه، وكأن امرأة أدخلته في فرجها، وكأن ولده يجري وراءه فلم يدركه -رؤيا في المنام- فأولها في الصباح، فقال: أما الطائر فروحي تخرج من فمي، وأما حلق رأسي فيقطع رأسي في سبيل الله، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تبتلعني فيها، وأما ابني الذي يجري بعدي فهو يطلب الشهادة ولا يوفق بها في هذه المعركة.
وابتدأت المعركة، وقتل الطفيل بن عمرو في سبيل الله، ومن أجل لا إله إلا الله، فكان ممن قال الله فيهم: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169 - 170] والبحث عن الحقيقة قائم لمن يريدها إلى قيام الساعة، وأتى الله بأجيال يحبهم ويحبونه، فمن أراد الله وفقه الله إليه، ومن أعرض عن الله استغنى الله عنه وطبع على قلبه وجعله من الأشقياء: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] ويهدي الله لفضله، ويمنح الله عطاءه من يريد عطاءه.
فيا أيها الجيل! ويا أيتها الأمة المباركة! ويا أيها الناس المحمودون بتقواهم وبعبادتهم! هلموا إلى الهداية، واطلبوا النور من الله الواحد الأحد، والتمسوها في كل حين وآن، في سجودكم، وأدبار صلاتكم، وصيامكم، وابتهالاتكم، علَّ الله أن يهدينا وإياكم سواء السبيل.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(260/4)
أسباب الهداية
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس! إن الهداية من أعظم ما يمن الله به على العبد، وإن لها أسباباً، فمن أسبابها:
أولاً: تلاوة كتاب الله عز وجل وتدبره، والعمل به، ومن لم يتله فليعمل به، فإن أعظم تلاوة له العمل به قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] فمن لم يهتد بالقرآن فلا هداه الله، ومن لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله، فإنه النور والنجاة.
ثانياً: سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والاهتداء بهديه، والاستنارة بنوره عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
ثالثاً: كثرة الدعاء والابتهال للحي القيوم في كل وقت وآن، أن يثبتك الله ويهديك، ويريك رشدك ويصلح بنيك وبناتك وأهل بيتك، فإن هذا أعظم المثوبة والفخر في الدنيا والآخرة.
رابعاً: التقرب إلى الله تبارك وتعالى بالنوافل، من صلاة وصيام وصدقة وبر وجهاد، فإن الله عز وجل يقول في الحديث القدسي: {ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه}.(260/5)
موانع الهداية
وأما موانع الهداية التي تحول بين العبد وبينها فكثيرة:
أولها: خبث النفس، فتجد بعض الناس معرضاً عن الله، لا يريد الله ولا الدار الآخرة، ولا يريد ذكر الله ولا كتابه ولا رسوله، وإذا ذكر الله في مجلس أو ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم اشمأز واحمر وجهه، وتكدَّر خاطره، وساء حاله، فنعوذ بالله من هذا الخبث.
يقول عز من قائل في من هذا شأنه وحاله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] وما صرف الله من صرف عن الهداية إلا لأنهم لا يريدونها.
ثانيها: مرض الشبهه، وهو مرض الشك والإلحاد الذي ابتلي به كثيرٌ من الشباب إلا من رحم الله، شكٌ في القدرة والإيمان، وشكٌ في الرسول عليه الصلاة والسلام، ولذلك حوربنا في هذه الفترة بحرب شعواء، أعظم من حرب الطائرات والصواريخ، إنها حرب الإلحاد، والرأي العفن المتخلف، رأي لينين واستالين وماركس الذي نشروه في المعمورة، واجتاحوا به البلاد الإسلامية، وأورثوا الشبه والشكوك في المجلات، والجرائد، والمؤلفات، واتخذوا في نشرها الوسائل المغرية، حتى ألحد كثير من الناس بالله العظيم، وصرفوا الناس عن باب المسجد، وعن تلاوة القرآن، ودلوهم على جهنم وبئس المصير.
ثالثها: مرض الشهوة، والتهالك على الحطام والشهوات، ولا نعني بذلك أن المال حرام، فجمع المال مطلوب، والصحابة جمعوا المال، ولكن لا يعبده الإنسان من دون الله، وكثيرٌ من شباب الإسلام ابتلوا بالشهوات، إلا من عصم ورحم الله وابتلوا بالزنا، والخمر، والفحش، والإعراض عنه تبارك وتعالى؛ فتركوا الطاعات، وهجروا المساجد، وقاطعوا كتاب الله عز وجل، وامتلأت بهم السجون، فما نفعت فيهم الحدود، لأنه لا يقومهم إلا لا إله إلا الله، ولا يهديهم إلا فتح من الله، في أن يعودوا إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فإنه هو الذي يهدي، وهو الذي يوفق: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:193] {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين!
والحمد لله رب العالمين.(260/6)
سددوا وقاربوا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا).
والله عز وجل لم يكلفنا في هذا الدين بأشياء لا نستطيع القيام بها، وإنما أمرنا بأشياء يسيرة يستطيع أن يعملها من يسرها الله عليه، والذين يكلفون أنفسهم بأشياء لا يستطيعون القيام بها؛ فإنهم يخالفون أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.(261/1)
يسر الدين
الحمد لله رب العالمين، نحمده تعالى ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فمعنا في هذه الليلة حديث عظيم، من الأحاديث التي دبَّج بها الإمام البخاري رحمه الله تعالى صحيحه يقول: وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة}.
هذا الحديث أول قضية فيه؛ هي قضية (إن الدين يسر) والرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا لسعادة الإنسان وليحمل هذا اليسر، يقول تبارك وتعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] والدين الإسلامي يسير على من يسَّره الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عليه، ليس على كل الناس ميسر، بل هو من أصعب الأمور على المنافقين، نسأل الله العافية والسلامة، قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] ويقول تبارك وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125].
أي: كأنما يعرج بنفسه في السماء فيختنق من قلة التنفس، فوصفه سُبحَانَهُ وَتَعَالى بالصاعد في السماء، كلما ارتفع كلما ضاق نفسه.
يقول أبو هريرة قال صلى الله عليه وسلم: {إن الدين يسر} ودائماً يمر معنا أبو هريرة رضي الله عنه، وكم من مرة مر معنا وأراد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يرفع اسمه، وأن يضوع اسمه في المنتديات، وفي مجالس المسلمين، فهذا الرجل عناية الله عز وجل أتت به من بلاده، وهو في قرية بعيدة من قرى جبال السراة، ويأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل في هذا الدين، وأكسبه الله تعالى من هذا النور، ومن هذا العلم، فرفع الله اسمه، وأبى كثير من أهل الحرم الذين كانوا يطوفون بالبيت، وكانوا بجانب الحطيم وزمزم أن يسلموا، فأخفض الله ذكرهم، وأدخلهم ناراً تلظى؛ لأنهم ما استضاءوا بهذا الدين.
يقول صلى الله عليه وسلم: {إن الدين يسر} لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8].(261/2)
اليسر في التفكير
يقول سيد قطب رحمه الله: نحن لم نطلب ولا يطلب منا في الدين أن نفكر في مسألة تشق على أذهاننا.
ولذلك يقول عمر رضي الله عنه، كما علق عنه البخاري: [[نهينا عن التكلف]] مسألة لا تستطيع أن تهضمها أو لا يستطيع ذهنك أن يفهمها لا يجوز لك أن تتدخل فيها، أو تعمل ذهنك فيها، بل كل مسائل هذا الدين مُسلَّمات وبديهيات، ومفهومات لدى جمهور المسلمين، أما المسائل العويصة والصعبة فيقول عمر: [[نهينا عن التكلف]] فهذا اليسر في التفكير.(261/3)
اليسر في العمل والعبادة
واليسر في العمل والعبادة، فكل عبادة أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم تناسب جمهور الناس، فلم يكلفنا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى شططاً، ولذلك مر صلى الله عليه وسلم برجل من الصحابة، وهو يركع ويصلي ويخفض رأسه ويكثر من الركعات، فالتفت بعض الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكره أحمد في المسند، وقالوا: {هنيئاً له يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، خير دينكم أيسره} وفي مسند الإمام أحمد: {أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة} أي: السهلة الواضحة، التي يستطيع الإنسان أن يتمشَّى معها طول العمر، فهذا هو السهل المحبوب الطيب عند الله عز وجل.
ولذلك التكثير من العبادة ليس مطلوباً قصداً في الدين، لأن الله عز وجل يقول: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ولم يقل: أيكم أكثر عملاً، وإنما دخل التكثير والكثرة بلا جودة من الصوفية، يصلي أحدهم في اليوم خمسمائة ركعة، أو ثلاثمائة ركعة، ويظن أن هذا هو الدين، ولكن الدين الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم سهل ميسر على من يسَّره الله عليه، حينها لما رأى الناس تيسيره صلى الله عليه وسلم دخلوا في هذا الدين زرافات ووحداناً.(261/4)
اليسر في القرآن
فهو سهل ميسر، واليسر والسهولة في هذا الرجل العظيم الذي أتى ليقود البشرية صلى الله عليه وسلم يرونه فإذا هو رجل سهل، يتعامل مع الناس بوضوح ويسر وتواضع، يمازح الأطفال ويلاعبهم، ويجلس مع أصحابه صلى الله عليه وسلم، ويزورهم في أماكنهم، ويقضي مع العجوز الساعات الطويلة، فإذا هو سهل ميسر صلى الله عليه وسلم.
يقول تبارك وتعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1 - 3] ويقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ويقول سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ويقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].
حينها يقول صلى الله عليه وسلم: {إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه} وسوف يأتي بعد حديثين حديث آخر يعاضد هذا الحديث، لكن لا يتوهم متوهم أن معنى اليسر هو التفلت، أن يصلي الصلاة متى يريد وفي أي وقت، وأن يصوم متى يريد، وأن يتفلت على تعاليم القرآن ويقول: الدين يسر، فهذه العبارة يستخدمها بعض الناس على أهوائهم.
ولذلك يقول ابن الجوزي في أحد كتبه: إن الأعراب فهموا من أن الدين يسر، أنه التفلت على شريعة الله، حتى إن أحد الأعراب سافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة الرباعية ركعتين، والظهر ركعتين والعصر والعشاء، فلما عاد سأله إخوانه من الأعراب البدو، قالوا: ماذا وجدت في سفرك هذا؟ قال: أحسن ما وجدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حذف عنا ركعتين، وسوف يحذف إن شاء الله في السفر الثاني ما بقي من الركعات، يريد أن تبقى المسألة يسراً على الطبيعة، فلا صلاة ولا صيام.
وذكر ابن الجوزي أن أعرابياً آخر بشروه بالهلال أنه أهل عليهم، قالوا: نبشرك بهلال رمضان، قال: والله لأشتتن شمله في الأسفار، أي: لا يستقر حتى آخر الشهر، يقول ابن الجوزي: وهذا منع فهمه كثير من الخلف، يظنون أن اليسر هو التفلت من الفرائض.
لا.
هناك حد وسط لا بد أن يسير معه الإنسان، ولكن لا ينقص عنه، وسوف يأتي حديث النوافل.(261/5)
الغلبة للدين
{إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه} لفظ الحديث: {ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه} ويجوز على رواية: {ولن يشاد الدين أحداً إلا غلبه} على أن: (أحداً) مفعول به أو فاعل، فمعنى هذا اللفظ، أي: أن الإنسان أو المسلم إذا شاد الدين غلبه الدين، لأن كثرة طرق هذا الدين لا يستطيع أن يقوم بها الإنسان، وفكر في نفسك وأنت مسلم تحب الله والدار الآخرة: هل تستطيع أن تقوم بالجهاد، وبر الوالدين على أكمل وجه؟ وصلاة الليل، والنوافل، والعبادات، والإنفاق في سبيل الله، وتعليم الناس، والخشوع في الصلاة بحيث لا تفكر في أمر آخر؟ إلى آخر تلك الأمور لا يستطيع أحد أبداً.
ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه} لأن الدين دائماً يغلب، حتى القرآن غالب لن يغلب، مهما حفظ الإنسان كتاب الله عز وجل، واستجراه في صدره، ثم قال: سأصلي بالناس، يجد أنه سوف يخطئ وينسى بعض الآيات أو الحروف، لأن هذا الدين قوي ومتين، كما قال صلى الله عليه وسلم في لفظ آخر: {فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا ظهراً أبقى، ولا أرضاً قطع} المنبت: هو الذي يسابق بالخيل أو بالجمال، فيسبق المتسابقين في أول الطريق، ويجهد دابته ثم ينقطع في وسط الطريق، فلا أبقى ظهر دابته، ولا قطع الطريق.
ولذلك يقول أبو سليمان الخطابي: رأيت بعض الصوفية يصلون الضحى إلى مائة ركعة، فإذا أتت صلاة الظهر ناموا وتركوا صلاة الظهر إلى قرب العصر، وهذا من قلة الفقه في الدين، وبعضهم يقوم الليل من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، فإذا قربت صلاة الفجر نام عنها، وصلاها مع طلوع الشمس، ما هذا الفقه الأعوج!!
فالشريعة التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم هي سهلة ميسرة على من فقهها وفهمها، لا على فهم الصوفية والخوارج، ولذلك قابلت الخوارج طائفة أهل السنة بالتشدد في الدين، حتى أنه صلى الله عليه وسلم يقول: {يحقر أحدكم صلاته إلا صلاتهم، وقراءته إلى قراءتهم، وصيامه إلى صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} يكثرون من نوافل العبادات، ولكن ما دخل الإيمان في صدورهم، وما وقر في قلوبهم، حتى من قلة فقههم مر بهم خنزير وهم قرب دجلة، فقالوا: مر بسلام، فقالوا للراشد منهم: كيف تقول هذا الكلام قال: لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83].
أهذا الخنزير من الناس!! ثم مر بهم نصراني، فقال: إن أحدكم عدى على نخلتي فجذ منها؟ قالوا: خذ ثمن نخلتك، يعني: عوضوه ومر بهم عبد الله بن خبيب رضي الله عنه فذبحوه -وهو من الصحابة- كما تذبح الشاة، وأخذوا امرأته وهي حبلى فبقروا بطنها وأخرجوا الجنين وذبحوه.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} وقتلهم أمير المؤمنين أبو الحسن رضي الله عنه وأرضاه، وهي من حسناته عند الله تبارك وتعالى، صفى حسابهم في غداة واحدة أربعة آلاف، ثم سجد لله شكراً أن قتلهم، لأن في قتلهم قربى إلى الله تبارك وتعالى، ولما قتلهم خرج عبد الرحمن بن ملجم وكان في جبهته كركبة العنز من كثرة السجود، ومن كثرة ما يصلي في الليل، فشحذ سيفه بالسم الأزرق شهراً، ثم عدا على أمير المؤمنين سيف الله المرتضى أبي الحسن رضي الله عنه فقتله، فلما طعنه وحمل عليه رضي الله عنه دعي بهذا المجرم الخبيث عبد الرحمن بن ملجم، وقال علي: ما حملك على ما فعلت، قال: هذا السيف شحذته بالسم شهراً، وحلفت بالله العظيم أني أقتل به شر الناس، قال علي: فأنت شر الناس، والله لا يقتل بهذا السيف إلا أنت، فقتل بسيفه الذي قتل به أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه، حتى أنه لما أتوا ليقطعوا لسانه قبل أن يقتل، قال: كيف تقطعوا لساني، وأتعطل عن ذكر الله!!! وهذا من قلة الفقه في دين الله عز وجل.
بل الفقه ليس هو التخلع والتجافي كما فهمه الأعراب، ولا الانحراف عن هذا الدين، ولا هو الغلو والإفراط كما فهمه الخوارج، لكن دين الله هو الوسط.(261/6)
السداد والمقاربة
يقول صلى الله عليه وسلم: {سددوا} معنى: سددوا أي: اطلبوا السداد من العمل الأصلح الأقوى: {وقاربوا} أي: إذا لم تستطيعوا السداد فقاربوا، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم لـ علي رضي الله عنه وأرضاه كما رواه مسلم: {قل: اللهم اهدني وسددني} وفي لفظ: {قل: اللهم إني أسألك الهداية والسداد واذكر بهدايتك هدايتك الطريق، وبسدادك سداد السهم} فالسداد هو طلب القصد والصواب في العمل؛ ثم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {فإن لم تستطيعوا أن تسددوا فقاربوا} أي: إذا لم تستطع أن تأتي على الهدف فحول الهدف، لا أن يكون الهدف في المشرق وتضرب في المغرب، لا.
يكون حوله، إذا أخطأت فيكون قريباً منه، أي: قريباً من الصواب.
وأبشروا: يقول صلى الله عليه وسلم: أبشروا، ما دام أنكم تسددون وتقاربون فمن التسديد والمقاربة أنا إذا أخطأنا تبنا إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وإذا أسأنا استغفرنا لأننا من الخطائين، وأبونا آدم عليه السلام هو أول من سن لنا الخطيئة، ومن يشابه أبه فما ظلم، وهذه شنشنة نعرفها من أخزم، فأما أن نقلده في الخطيئة ولا نقلده في التوبة فهذا ظلم وجور، لا يستشهد في الأذهان ولا في الأعيان.(261/7)
البشرى لمن سدد وقارب
يقول صلى الله عليه وسلم: {أبشروا} أي: ما دمتم على ذلك فأبشروا {واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة}.
عند قول الرسول صلى الله عليه وسلم: أبشروا، كلام، فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعيشون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، يأتون إليه فيسمعون كلامه صلى الله عليه وسلم، فينقلهم كأنهم في رحاب الجنة، وكأنهم في عرصات القيامة، ينسون الأهل والزوجات والأموال والمساكن، وإذا رجعوا إلى دورهم غفلوا بعض الغفلة، ونسوا بعض النسيان مما ذكره صلى الله عليه وسلم، فأتى حنظلة بن الربيع الكاتب: {أتى إلى أبي بكر رضي الله عنه، وقال: يا أبا بكر! نافق حنظلة! قال: غفر الله لك، وما ذاك؟ قال: نكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فيحدثنا في الآخرة حتى كأننا نراها رأي العين، ثم نعود فنلاعب أطفالنا وننسى كثيراً، فيقول: أبو بكر وأنا والله كذلك، اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبروه، فقال صلى الله عليه وسلم: والله لو تكونوا كما تكونون عندي في حلق الذكر أو في الذكر، لصافحتكم الملائكة في السكك، ولكن ساعة وساعة يا حنظلة} لأن هناك ساعة للترويح، وساعة قد يخلو بها الإنسان المسلم في المباحات التي ليست بحرام، وهناك ساعات الجد والعمل والعبادة، هذا هو المفهوم، ولا يستطيع الإنسان أن يمضي في هذه الحياة إلا أن يروح على نفسه، ويأخذ بعض المباحات التي لا حرام فيها.(261/8)
الاستعانة بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة
ثم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة} الغدوة: هي أول النهار بعد صلاة الفجر إلى الضحى، وهي معروفة عند العرب، وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: {إذا غدا المسلم إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح} ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الأعراف:205].
في كتابه بالغدو: أول النهار، والآصال: هي ما بعد صلاة الظهر إلى الغروب، يقول النابغة الذبياني:
زعم البوارح أن رحلتنا غداً وبذاك خبرنا الغراب الأسود
أي: في غدو النهار، فيقول صلى الله عليه وسلم: {استعينوا بالغدوة} أي: ما بعد صلاة الفجر، وأغلى وقت في حياة المسلم هو ما بعد صلاة الفجر، إذا أراد مهمة أو عبادة أو ذكراً فعليه بذاك الوقت، وإذا أراد أن يطلع في كتاب أو يفهم فعليه بما بعد صلاة الفجر، وإذا أراد عملاً ما، أو سفراً، أو تجارة فعليه بما بعد صلاة الفجر، ولذلك روى الإمام أحمد في مسنده، عن أبي صخر الغامدي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {بارك الله لأمتي في بكورها} ومن أراد كذلك أن يخصص وقتاً لقراءة القرآن وتدبره فبعد صلاة الفجر، قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير:17 - 18] قالوا: تنفس وكأنه كان في الليل مكبوتاً حزيناً، فتنفس مع الإصباح، وتنفست معه الطيور، ووزعت الأرزاق في الصباح، والمواهب والأعطيات، ونزل خير الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ورحمته، فيقول صلى الله عليه وسلم استغلوا هذه الساعة، أي: بعد صلاة الفجر وهذه بالغدوة والروحة، قال أهل العلم: الروحة بعد صلاة العصر، ومن لم يستطع بعد صلاة العصر فقبل الغروب قال تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17 - 18] فبعد صلاة الفجر وقبل صلاة المغرب هما أفضل وقت، وأصفى وقت للمسلم ليحاسب نفسه، ويراجع معاملته مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى من ذكر وعبادة.
ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {وشيء من الدلجة} أي: من الليل، خذوا قليلاً بعد صلاة الفجر، وقليلاً بعد صلاة المغرب، وخذوا قليلاً من الدلجة، وكأنه يقول في السحر؛ لأنها أعظم ساعة تتصل فيها بالحي القيوم تبارك وتعالى، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: واستعينوا بالدلجة؛ لأنه نهى عن قيام كل الليل، إنما يقام شيء من الليل قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] وحملها بعض أهل التفسير على أنهم يصلون قليلاً من الليل، فليكن للمسلم ساعة من أي جزء من أجزاء الليل، وإن لم يستطع ذلك فليوتر قبل أن ينام، ثم ليذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ لتسبح روحه في الملأ الأعلى، وليكون من الذاكرين الله وهو نائم على فراشه، وهذا هو نوم العباد الصالحين المتصلين بالحي القيوم، هذه هي قضايا هذا الحديث، يريد صلى الله عليه وسلم أن يقرب إلى الأفهام أن هذا الدين ليس بالمغالبة، وإنما هو باليسر وبالسهولة، وبأخذه بالتي هي أحسن؛ لأن الله تعالى يسره للناس.(261/9)
حديث تحويل القبلة
الحديث الثاني: عن البراء رضي الله عنه وهو البراء بن عازب، وسوف نسرد الحديث وقضاياه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر إلى مكة وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت} وكان اليهود وأهل الكتاب قد أعجبهم، إذ كان يصلي قبل بيت المقدس، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم.(261/10)
نزول النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة
هذا الحديث يتكلم عن القبلة، وعن البيت العتيق وعن بيت المقدس، الرسول صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فنزل على أجداده، وأجداده هم بني عدي بن النجار، وليسوا أجداده كما في هذا الحديث ولا أخواله، ولكن في هذا الحديث تجوز، أي: مسامحة في اللفظ، وإنما هم أخوال جده عبد المطلب، نزل عندهم النبي صلى الله عليه وسلم ليكرمهم، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد أن ينزل في أي مكان، أول ما قدم المدينة، وأطل بطلعته البهية على الناس، قام الأنصار بما يقارب خمسمائة رجل بالسيوف، فاستقبلوه بـ الحرة، وحيوه بأجمل التحية، يقول أنس: {ما كنت أظن أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت الأنصار يبكون مما رأوا من النبي صلى الله عليه وسلم} ولذلك يقول الأول:
طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
فكانوا يقولون: إلينا يا رسول الله؛ لأنهم ستة منازل، وست قرى، كل قرية تقول: انزل عندنا يا رسول الله! يقول عمرو بن عوف: انزل عندنا يا رسول الله، عندنا السيف والجد والمنعة، فيقول صلى الله عليه وسلم: {دعوها فإنها مأمورة} حتى الناقة مأمورة من السماء، تمضي بأمر الله، وتنيخ بأمر الله؛ لأنه قضاء الله ورسالة الله، فكان صلى الله عليه وسلم يترك الناقة وكان الناس حول الناقة يمشون، كل يريد أن يأخذ بزمامها، فيبتسم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس، ويسلم عليهم، فأخذت الناقة تسير وكان يريد في نفسه صلى الله عليه وسلم أن تنزل عند أجداده أو أخواله بني النجار ليكرمهم صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكنه استحيا صلى الله عليه وسلم أن يقول: أريد آل فلان من تلك القبائل، فتركها فأراد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوافق رسوله في هذا النزول، فأتت الناقة فلما أصبحت في منازل بني النجار الذي هو مكان مسجده صلى الله عليه وسلم اليوم، أناخت هناك، فقالوا: انزل يا رسول الله! قال: لا.
ثم قامت مرة ثانية، ثم استعرضت ثم رجعت مكانها، فأخذ أبو أيوب رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل صلى الله عليه وسلم معه.(261/11)
تحويل القبلة
لما نزل صلى الله عليه وسلم المدينة ظل يصلي ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، على خلاف بين أهل العلم، منهم من يحسب الكسر في الأيام فيجعلها سبعة عشر شهراً، ومنهم من يلغي بعض الأيام فيجعلها ستة عشر شهراً، كان يصلي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ولكن كان يحز في نفسه فلا يريد أن يوافق اليهود؛ لأن اليهود يأخذون هذا حجة عليه صلى الله عليه وسلم، ويقولون: انظروا إليه، حتى القبلة يستقبل قبلتنا في فلسطين وهي بيت المقدس، ما عنده قبلة يستقبلها، فكان صلى الله عليه وسلم يدعو الله كثيراً، ويقلب وجهه في السماء، ويدعو أن يحول الله قبلته إلى البيت العتيق، فيقول تبارك وتعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] فولاه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى شطر البيت العتيق، فلما انحرف صلى الله عليه وسلم إلى البيت العتيق، قال اليهود: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142] فأتى الرد من الله عز وجل: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة:142] سفهاء لا أحلام لهم ولا عقول: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142] وهل لكم بيت المقدس أو مكة؟ وهل هي من دخلكم أو من صنيعكم؟ يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:142] لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى المشرق والمغرب، له ما كان يولي إليه في بيت المقدس وفلسطين، وله الكعبة ومكة ولا دخل لكم أنتم، قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142] فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستقبل البيت العتيق، ويترك بيت المقدس، فوَّلى البيت العتيق، فأتى صلى الله عليه وسلم فلما ولَّى شطر البيت العتيق، أرسل رجلاً ممن كان معه صلى الله عليه وسلم، وقال: اذهب إلى بني سلمة في قباء، وأخبرهم أن القبلة قد حولت فليتحولوا، فأرسل عباد بن بشر رضي الله عنه، وهو من الشباب الذين رباهم صلى الله عليه وسلم على سمع وبصر، وتركوا كل لذة في الدنيا وكل راحة، وجعلوا أوقاتهم وأيامهم ولياليهم شهادة في سبيل الله تعالى، أرسله صلى الله عليه وسلم في مهمات، فكان يأتي في كل مهمة وهو ناجح ظافر فالح، ويدعو له صلى الله عليه وسلم بالجنة.
أرسله صلى الله عليه وسلم مع رجال معه من الأنصار ليغتال سيد خيبر من كفار اليهود؛ لأنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {يا عباد! اذهب إلى ذاك} ذهب عباد ونادى ذلك اليهودي في ظلام الليل، فخرج ذلك اليهودي، فقتله بالسيف، ثم عاد عباد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى وجه عباد ذاك الشاب المستنير بالإيمان: {أفلح وجهك يا عباد قال: ووجهك يا رسول الله! قال: ماذا فعلت به؟ قال:
صرخت له فلم يعلم بصوتي وأقبل طالعاً من رأس جدر
فعدت له فقال من المنادي فقلت: أخوك عباد بن بشرِ
فأقبل نحونا يهوي سريعاً فقطعه أبو عبس بن جبر
وكان الله سادسنا فعدنا بأعظم نعمة وأجل نصر
فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: {اللهم اغفر لهم وأدخلهم الجنة} وبقي عباد رضي الله عنه على العهد، يقوم الليل دائماً، وكان يبكي بصوته إذا قام الليل حتى يقول صلى الله عليه وسلم: {رحم الله عباداً! لقد أذكرني البارحة آية كنت أنسيتها من القرآن} فهو صلى الله عليه وسلم ينسى فترة، ولكن يعود له القرآن لأنه منزل في قلبه لا ينسى منه شيئاً، لكنه ينسَّى ولا ينسى، إلا ما شاء الله.
وحضر عباد معركة اليمامة ضد مسيلمة الدجال الكذاب، وضرب على وجهه بالسيف أكثر من عشر ضربات بعد أن قتل ما يقارب خمسمائة مقاتل حتى ما عرفوه وقتل رضي الله عنه، ولكنه لم يقتل أبداً، قال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:170].
أرسله صلى الله عليه وسلم فأتى إلى بني سلمة الذين هم في قباء -الآن المسجد المعروف- وهم يصلون العصر فقال: إن القبلة قد تحولت فتحولوا، فدار الإمام وهو في الصلاة، ولم تبطل صلاتهم؛ لأن الحركة إذا كانت في صالح الصلاة لا تبطل الصلاة، وفيه من الحكم والفوائد:
أن خبر الواحد يقبل، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل هذا، فقبلوا خبره وامتثلوا خبره، وتحولوا عن القبلة رضي الله عليهم.
هذا الحديث وهذا ما ورد فيه، ولم نعرج على بعض الخلاف للألفاظ التي لا طائل من ورائها.(261/12)
الإسلام يهدم ما قبله
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها، وكان بعد ذلك القصاص: الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها، إلا أن يتجاوز الله عنه}.
هذا الحديث من المبشرات، وهو من أعظم ما يهدى للأمة الإسلامية، وراوي الحديث أبو سعيد من جلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، عالم من علمائهم، وشاب من شبابهم، مات أبوه في معركة أحد قتيلاً، ولذلك هو من الأنصار، وقتل (80%) في سبيل الله من الأنصار رضوان الله عليهم، ولم يمت منهم موتاً إلا ما يقارب (20%) لكلام أهل العلم في ذلك، فدعا له أبوه وهو شهيد بأن يبارك الله فيه، فبارك الله في هذا الولد الصالح، فكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم دائماً وأبداً، سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا أسلم العبد فحسن إسلامه، يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها} الإسلام يهدم ما قبله من أفعال الجاهلية، مهما فعل الإنسان قبل أن يدخل هذا الدين، أشرك أو قتل أو زنى أو شرب الخمر أو سرق، ثم دخل في هذا الدين فكأنه ما زال داخلاً في هذا الدين، ولا يكتب عليه شيء من أعمال الجاهلية إذا أحسن الإسلام.(261/13)
شرح الحديث وذكر حديث يؤيد معناه
حضرت الوفاة كما روى الإمام مسلم حضرت عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، فبكى بكاء طويلاً، حتى أشفق عليه الناس، ثم حول وجهه إلى الحائط، وكان عمرو بن العاص فاتح مصر في عهد عمر رضي الله عنه، وداهية العرب، يقول عمر: [[رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب]] لدهائه وسياسته، فلما حضرته الوفاة بكى بكاء عظيماً، فقال له ابنه عبد الله: ما لك تبكي يا أبتاه؟ قال: [[إني كنت على طباق ثلاث؛ كنت في الجاهلية لا أعرف الإسلام، فلو مت على تلك الحالة لخشيت أن أكون من جثا جهنم، وكان أبغض الناس إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أسلمت، فقدمت عليه في المدينة، فلما رآني هش وبش في وجهي صلى الله عليه وسلم، وقام وحياني وأجلسني بجانبه، فمددت يدي وقلت: يا رسول الله! مد يدك لأبايعك، فبسط يده فقبضت يدي، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما لك يا عمرو؟ قلت: أشترط يا رسول، قال تشترط ماذا؟ قلت أن يغفر ذنبي، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: يا عمرو! أما تعرف أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها، قال عمرو فأسلمت، فوالله ما كان أحد من الناس أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما ملأت عيني إجلالاً منه، والله لو سألتموني الآن أن أصفه لما استطعت أن أصفه، فلو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم لعبت بي الدنيا ظهراً لبطن فلا أدري!! هل يؤمر بي إلى الجنة؟ أم يؤمر بي إلى النار؟ ولكن معي كلمة سوف أحاج بها عند الله، ثم قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم]] ثم قبض يده وغسل ويده مقبوضة، وأدخل إلى أكفانه وقبره ويده لا تزال مقبوضة، ويقول وهو في سياق الموت: [[حلوا أزراري، فسأله ابنه: كيف تجد الموت، صف لنا الموت؟ قال: كأن جبال الدنيا على صدري، وكأنني أتنفس من ثقب إبرة، ثم قال: حلوا أزراري فإني محاسب في قبري علي أن أدافع عن نفسي]] رضي الله عنه وأرضاه.
والشاهد: أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا أسلم العبد وحسن إسلامه} قال ابن حجر: حسن إسلامه، أي حسن بالإخلاص، فلم ينافق في الدين، ولم يراء، ولم يطلب بعمله السمعة والنفاق، حسن إسلامه؛ فلم يصر على الصغائر والكبائر، ولا يشترط في المسلم أنه لا يذنب أبداً، لأنه ليس ملكاً من الملائكة؛ لأنها ما خلقت للتكليف، ولا تبتلى بالذنوب، وأما الإنسان المسلم أو غيره فإنه يدخل في الذنب، ويغفر الله له بالتوبة.(261/14)
الدواوين عند الله ثلاثة
{إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها} أي: قدمها رويت أَزْلَفها، وهي بمعنى قدمها، فإذا غفر الله له كل سيئة في الجاهلية كان قدمها، كان بعد ذلك القصاص، أي كلما عمل من حسنة وسيئة وهو مسلم كان القصاص عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] ميزان للحسنات وميزان للسيئات، والدواوين عند الله ثلاثة:
الأول: ديوان يغفره الله عز وجل: وهو ما كان بين العبد وبين الله عز وجل وتاب منه.
الثاني: ديوان لا يغفره الله أبداً: وهو الشرك بالله عز وجل، هذا لا يغفره سُبحَانَهُ وَتَعَالى أبداً، بل يدخل صاحبه النار، ولا يأبه بعمله، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
الثالث: ديوان يتعلق بمشيئة العبد: وهي ذنوب العباد بين بعضهم البعض، الغيبة وظن السوء واغتصاب الأموال، وسفك الدماء، هذه تحت مشيئة العباد، إن عفوا عفا الله، وإن سامحوا سامح الله، وإن أبوا فإن الله يقتص من بعضهم البعض، فهذه الدواوين عند الله عز وجل.
وكان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها، فضلاً من الله، وجوداً وكرماً إلى سبعمائة ضعف، وفي رواية ابن عباس الصحيحة: إلى أضعاف كثيرة؛ لأن الله عز وجل يقول: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] إلى أضعاف كثيرة قد يضاعفها الله إلى أكثر من سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها جوداً وكرماً من الله.
فالذنوب التي نحدث بها أنفسنا ولم نعملها يكتبها الله حسنة كاملة، وإذا عملناها كتبها الله سيئة واحدة، وانظر إلى لفظ كاملة وواحدة، واللفظ واحد، لكن هذه بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجذب للأرواح واستقطاب للقلوب إلى الله عز وجل، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله تبارك وتعالى.
فيا لسعادة من يدخل هذا الدين؛ ويعتنق هذه الشريعة السمحة؛ ويواصل السير إلى الله ولن يهلك على الله إلا هالك، وليتدبر المسلم منا الآن، يجد أن يومه حافل بالسعادة إذا داوم على الصلوات الخمس في جماعة، وداوم على الوضوء وقراءة القرآن والذكر والاتصال بالله؛ سوف يجد أنه لن يهلك على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى إلا هالك.
هذا الحديث الذي زفه النبي صلى الله عليه وسلم بشرى للأمة، وأخبرنا أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى صاحب المن والعطايا وهو صاحب الجود والإحسان تبارك وتعالى.(261/15)
تكلفة النفس بما تطيق
ثم أورد البخاري رحمه الله رحمة واسعة القضية التي كان أسلفها قبل حديثين وهي قضية يسر الدين وسهولته؛ قالت عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، فقال: من هذه؟ قالت: فلانة تذكر من صلاتها، قال: مه! عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا -أو تملوْا- وكان أحب الدين إلى الله أو إليه ما داوم عليه صاحبه}.(261/16)
معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء
عن عائشة الصديقة بنت الصديق، المطهرة المبرأة من فوق سبع سماوات، زوج نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة وأم المؤمنين، أم عبد الله، ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم بكراً سواها، ولذلك فقد كانت تسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، تستفتيه في مسألة وتداعبه، تقول: {يا رسول الله! أرأيت لو نزلت في عجوة -أي في مكان وفي واد لم يرع- ونزلت بغنمك ونزلت في واد قد رعي، أيهم أحسن؟ فيتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: الوادي الذي لا يرعى}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {إنني أعرف رضاك من غضبك} وهذا من تعامله صلى الله عليه وسلم مع أهله، ومع المرأة، لا كما يفهمها أعداء الإسلام، وهذا هو القدوة لكل إنسان أن يتعامل الإنسان مع أهله كما يتعامل صلى الله عليه وسلم مع أهله، يقول: {إني أعرف رضاك من غضبك! قالت: بماذا يا رسول الله؟ قال: إذا رضيت قلت لا ورب محمد -تقسم بالله ثم تذكر اسمه- وإذا غضبت قلت: لا ورب إبراهيم، فتقول هي رضي الله عنها: والله ما أهجر إلا الاسم} يعني فقط الاسم، أما المسمى فلا تهجره.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها وعندها امرأة فقال: من هذه؟ -هذه المرأة اسمها الحولاء بنت تويت القرشية وكانت كثيرة العبادة؛ والصيام، وكثيرة الصلاة، دخل صلى الله عليه وسلم وهي جالسة عند عائشة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل لأنه يريد أن يتصل بالناس جميعاً، يتصل بالعجوز وبالمرأة وبالجارية وبالطفل، لأنه مكلف أن يبلغ الرسالة إلى جميع الناس، حتى تقول عائشة: {ما غرت من امرأة من جاراتي ومن ضرائري ما غرت من خديجة وقد ماتت قبل أن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم} لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل عن صديقات خديجة، فيرسل لهن الهدايا، حتى كان يقطع اللحم من الشاة فيقول: اجعلوا هذه لصديقة خديجة فلانة، وهذه لعمة خديجة، ويقول: {حسن العهد من الإيمان}.
حتى دخلت عجوز على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطع حديثه مع الناس، وقال: {كيف أنتم يا فلانة، هل أتاكم من أمطار، كيف أنتم بعدنا} لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد سكن معهم في البادية ردحاً من الزمان، وتأثر الناس بهذه المواقف منه صلى الله عليه وسلم.(261/17)
شرح حديث: عليكم من الأعمال ما تطيقون
يقول: من هذه؟ فتقول: هذه فلانة، ثم تذكر عائشة من صلاتها، يعني أنها تقوم الليل وتكثر من النوافل والعبادة وكأنها ذكرت هذا والمرأة جالسة تسمع، فالرسول صلى الله عليه وسلم أنكر، فيقول صلى الله عليه وسلم: مه، هذه كلمة عربية أصلها ما هذا؟ فاختصرتها العرب فقالت: مه، يقول صلى الله عليه وسلم: مه، يعني لماذا تقولين هذا الكلام، أو كيف تقولين هذا الكلام وهي جالسة، فكأنه أنكر عليها أن تمدحها في وجهها، لأن المدح هو الذبح، ويقول صلى الله عليه وسلم لأحد الناس يمدح صاحبه: {ويلك قطعت عنق صاحبك}.
وكأن الصحيح والراجح أن قوله صلى الله عليه وسلم مه، أي كيف تعجبين من كثرة عبادة هذه، ثم يذكر صلى الله عليه وسلم السبب، فيقول: {عليكم من الأعمال بما تطيقون، فو الله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إلى الله، وفي -لفظ إليه- ما داوم عليه صاحبه} ينكر صلى الله عليه وسلم على عائشة أن تعجب بكثرة إجهاد هذه المرأة نفسها، ويقول: لا.
دين الله عز وجل سهل وميسر، فعليكم بما تطيقون، فإن الذي يكثر على نفسه ينقطع ويمل، فيقطع الله عنه الثواب، ولذلك يقول: خذ من العمل ما تستطيع أن تواصل عليه، وأن تستمر عليه، والإنسان فقيه نفسه، وأعرف بنفسه.
ولذلك لا تقلد أحداً في العبادة، ترى بعض الناس آتاه الله بسطة في الجسم وصحة وقوة، فيواصل الصيام والقيام، فتقلده في ذلك فتنقطع حتى ما تستطيع أن تصلي الظهر مع الناس، وهذا ليس مطلوباً؛ لأن الإنسان أعرف بنفسه، والناس طاقات، قال تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60].
يقول أحد العلماء في صحيح البخاري في شرحه: وقد جربنا وجرب الناس قبلنا أن من تنطع في العبادة، وغلا فيها، أنه يفضي به ذلك إلى الانقطاع، وإلى ترك المعهود والانصراف عنه، بل الذي يقتصد في العمل ويداوم أفضل عند الله عز وجل، لأن القليل المداوم خير من الكثير المنقطع.
يقول حافظ الحكمي:
عليك بالقصد بقول وعمل ودم عليه واجتهد ولا تمل
ولذلك يقول ابن الجوزي في شرح هذا الحديث: إنما كره صلى الله عليه وسلم الغلو والإفراط في العبادة لأنه يؤدي بصاحبه إلى الانقطاع، والمداومة على القليل خير من التكثير لسببين: الأول أن من داوم على قرع الباب دائماً يوشك أن يفتح له، تجد بعض الناس ينشط يوماً من الأيام على صلاة الضحى فيقوم فيصلي ثلاثين ركعة، لكن يأتي اليوم الثاني ويتفكر في تعبده، وأن ظهره كاد أن ينكسر أمس، فيقول: يكفي هذا، فلا يصلي أبداً، ولو أنه صلى ركعتين وداوم عليها لكان خيراً عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وأدوم وأحسن.
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكلف الناس ويتكلم إلى الناس دائماً باليسر والسهولة، يقول لـ عبد الله بن عمرو: اختم القرآن في شهر، لكن يأتي الآن متحمس وهذا كثير في الشباب، فيقول: كيف أختم القرآن في شهر، بل أختمه في ثلاثة أيام إن شاء الله، بعد ذلك يختمه في سبعة شهور، ولذلك لو داوم عليه شهراً لما كره هذا الوقت، لكنه كره إلى نفسه العبادة فمل منها، ومل من الترداد فهجره أكثر من شهر.
ويقول أبو هريرة: {أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث وصايا لا أدعهن حتى أموت: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام} وهذه سهلة ميسرة، يفعلها الإنسان ويداوم، لأن من يداوم على ركعتي الضحى في كل يوم يصلي في السنة سبعمائة ركعة، لكن لو قلت له: جزاك الله خيراً صل في اليوم سبعمائة ركعة من أجل أن ترتاح في السنة، لما استطاع ذلك، ولأفضى به ذلك إلى ما يفعله الصوفية، لأنهم يحسبون هذه ويجعلونها في اليوم، حتى يقول ابن القيم: بعضهم كان يصلي خمسمائة ركعة، وكان ينام وهو يصلي، أهم شيء فقط عندهم العدد؛ من قلة فقههم في دين الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.(261/18)
معنى قوله: لا يمل الله حتى تملوا
فيقول صلى الله عليه وسلم: {فوالله لا يمل الله حتى تملوا} وهنا قضية كيف يقول صلى الله عليه وسلم لا يمل الله، وهل يمل الله تبارك وتعالى؟ وهذه فيها بسط، فالله عز وجل يوصف بصفات الكمال، أما صفات النقص فلا يوصف بها سُبحَانَهُ وَتَعَالى، لا يجوز أن يقول الإنسان: كل صفة يوصف بها العبد يوصف بها الله، لأن العبد يجوع ويمل وينام ولكن الله عز وجل مبرأ عن صفات النقص، فهو لا يمل تبارك وتعالى، لكن معنى الحديث، لا يقطع ثواباً، وهذا من أفعال المقابلة، كأنه يقول: فلان لا ينقطع عن خصمه حتى ينقطع، وجزاء سيئة بمثلها، والله عز وجل يقول جزاء السيئة التي يفعلها سيئة مثلها، يعني أنا نعذبه يوم القيامة مثلما فعل بالسيئة، وليس معناه أن عذاب الله سيئة، لكن من باب المقابلة، فقابل صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وقال: {لا يمل الله} على المقابلة ليس على المعنى، لأن في الكلام مجازاً ومعناه لا يقطع الله ثوابه.
{وكان أحب الدين إلى الله ما داوم عليه صاحبه} وورد في لفظ في الصحيح: {أحب الدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم} وكلا المعنيين صحيح، فإن المحبوب عند الله عز وجل محبوب عند رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله تبارك وتعالى.
قال ابن العربي: ولا يجوز أن نسند المحبة إلى الله عز وجل، بل بمعنى الإرادة، وقال أهل السنة: الإرادة شيء والمحبة شيء، لله إرادة تليق بجلاله، وله محبة تليق بجلاله عز وجل، لا تدخل هذه في هذه، و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].(261/19)
فضل لا إله إلا الله
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير} هذا الحديث أيضاً من المبشرات، لكن لا بد من بعض البيان وبعض الوقفات معها.
أولاً: عن أنس، مر معنا أنس كثيراً، وهو خادم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وروى النعمان عن ماء السماء كيف يروي مالك عن أنس
دعا له صلى الله عليه وسلم كما تعلمون بطول العمر، فأطال الله عمره حتى بلغ المائة، وأكثر الله ماله، وبارك فيه، وهو من السعداء إن شاء الله في الدنيا والآخرة، كان يخدم الرسول صلى الله عليه وسلم دائماً وأبداً، فأورثه الله بفضل الخدمة بركة في الدنيا والآخرة.(261/20)
(لا إله إلا الله) تحتاج إلى الإخلاص للتخلص من النار
قال صلى الله عليه وسلم: {يخرج من النار} وفي لفظ في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله عز وجل: أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله} وفي مثل هذا الحديث ومثل: {من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة} أو {من قال: لا إله إلا الله لا يخلد في النار} يقول بعض الناس: إذا قلت لا إله إلا الله دخلت الجنة، وهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكنه قد يقول: لا إله إلا الله ويكفر بلا إله إلا الله، فلا ينفعه قولها؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {خالصاً من قلبه} ثم إنه قد يقول: لا إله إلا الله ويدخل النار، ولا يخلد في النار، ثم يدخل الجنة، فمن للإنسان إذا دخل ألف سنة أو خمسمائة سنة أو مائة سنة ثم جلس في النار، ثم يخرج من النار، هذا نسأل الله السلامة عذاب لا يطيقه إلا من كتب الله عليه الشقاء، نسأل الله العافية.
لكنه خير من غيره، يعني خدماته قليلة هذا الذي يدخل النار مائة سنة أقل من الذي يدخل دائماً بلا خروج، يعني إقامة أبدية، نسأل الله السلامة والعافية.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا أدخل الله أهل النار النار، وأهل الجنة الجنة} وهم الذين ما تعرضوا للنار من أهل الجنة من الموحدين الذين قاموا بالفرائض، وتابوا إلى الله، {قال الله عز وجل: أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله} بعد أن يدخلوا، ثم يخرج من في قلبه مثقال وزن شعيرة من خير، فيخرجون وقد اسودوا من طول ما لبثوا، وقد أصبحوا حمماً، فيغمسون كما مر معنا في نهر الحياة، وهو نهر قريب من الجنة، ثم يخرجون وعليهم أسماء: هؤلاء الجهنميون، يعرفهم أهل الجنة، فيدخلون الجنة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {كما تنبت الحبة في حميل السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية} فيدخلون الجنة ويعرفهم الناس، ثم يمحو الله عز وجل عنهم هذا الاسم الذي على جباههم ووصمة العار، فيكونون من أهل الجنة، لكن من يريد أن يعلق رجاءه وآماله بهذه الأحاديث التي فيها إشارة إلى عذاب بعض الموحدين؛ لأن بعض الناس يدخل النار -نسأل الله السلامة- وقد صلى وصام، فيقول الله عز وجل: خذيهم يا نار، إلا جباههم فإنهم طالما سجدوا بها لي أو كما ورد في بعض الآثار، لأنهم ارتكبوا أعمالاً أوجبت دخولهم النار، وهم من الموحدين، لكنهم لا يخلدون في النار.(261/21)
شرح ألفاظ حديث الإخراج من النار
ووزن شعيرة يقول ابن حجر: كأن الشعيرة في بعض البلاد أكبر من البرة؛ لأنها قدمت هنا، وهذه مقاييس هي عند الله عز وجل، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقربها للأذهان، ولذلكم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] ليقربها إلى أذهان الناس.
ويقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:7] فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا البيان، تقريباً للأذهان.
قال صلى الله عليه وسلم: {ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن برة من خير} والبرة قالوا: أقل من الشعيرة، وهذا فيه دليل على أن الأعمال تتفاضل، بتفاضل ما في القلوب وبعض الناس يقف بالصف بجانب صاحبه يصليان، وراء إمام واحد، في مكان واحد، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، كما قال أهل العلم.
هذا في قلبه إيمان وإخلاص ومحبة وشوق، والبعيد في قلبه نفاق ورياء وسمعة، فيفاوت الله عز وجل بين الصلاتين، كما بين السماء والأرض، ويحاسب الله العباد على ما في القلوب من الأعمال، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10] ويقول ابن مسعود: [[الله الله في السرائر اللاتي هن خَوَافٍ على الناس، وهن باديات على الله عز وجل: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]]].
فالمقصود أن المسلم يهتم بالقلب أكثر مما يهتم بعمل الجوارح، ولذلك طلب أهل السنة كـ ابن رجب وغيرهم من أهل العلم: أن يجتهد المؤمن في تصحيح قلبه، أكثر مما يجتهد في الأعمال الظاهرة، يقول {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89].
{ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة من خير} يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[إذا وضعت يدك في التراب، ثم نفضتها فخرج منها شيء فهو الذر]] وقال ابن حجر: الذر هو الشيء الذي لا يرى بالعين المجردة، ولكن يرى في ضوء الشمس؛ وقال غيره: الذرة هي هذه الحشرة الصغيرة التي ترى وتمشي وتسمى عند الناس (ذرة) لكن سواء كان بهذا المفهوم أو هذا، أو أقل مقدار يعرفه الناس، يحاسب الله العبد به يوم القيامة.
أتى أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله، هل في الحمر زكاة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنزل علي إلا هذه الآية الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8]} فكل ذرة يعملها المسلم يلقاها عند الله عز وجل، فبكى الأعرابي وولول وهو يقول: أنحاسب على الذرة.(261/22)
مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاته
قال الإمام البخاري رحمه الله رحمة واسعة: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: {أن رجلاً من اليهود، قال: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرءونها لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: أي آية هي؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بـ عرفة يوم جمعة}.(261/23)
المعنى الإجمالي للحديث
معنى الحديث على الإجمال: أتى رجل من اليهود اسمه كعب الأحبار، فقال: يا أمير المؤمنين! يخاطب عمر في خلافة عمر، عندكم آية في القرآن لو كانت هذه الآية نزلت علينا لعظمها لاتخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً، قال عمر: ما هي الآية؟ قال: قوله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً} فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قائم بـ عرفة في يوم جمعة.
ويجد لفظ آخر أورده ابن حجر، أن عمر قال: [[الحمد لله، نزلت في يوم هو لنا عيد، يوم الجمعة، ويوم عرفة عيد لنا كذلك]].(261/24)
حجة الوداع في يوم الجمعة
والرسول صلى الله عليه وسلم حج وكان حجه في يوم جمعة، لأن الكفار الجاهليون من كفار قريش خالفوا بين الأشهر، عندهم أربعة أشهر لا يقتلون فيها أحداً، فإذا أرادوا الانتقام من عدو قدموا بعض الأشهر وأخروا بعضها حتى يستحلوا الدماء، فجعلوا صفر مكان محرم، وشوال مكان ذي القعدة، وخالطوا بين الأشهر، وقدموا وأخروا، فقال الله عز وجل: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة:37].
فلما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحج، أتى وإذا الأشهر مخلوطة ليست منسقة ولا مرتبة، فترك صلى الله عليه وسلم الحج، وكان يرسل أمراء من قبله صلى الله عليه وسلم يقودون الحجيج، حتى إن آخر حجة حجها أبو بكر قبل حجته صلى الله عليه وسلم كانت في شهر ذي القعدة، ما أتت في ذي الحجة؛ لأن الأشهر ما ترتبت لهم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لما لم تترتب له الأشهر ما حج أبداً، فأرسل أبا بكر الصديق فحج بالناس، وكان حجه في ذي القعدة، ولما رتب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الأشهر وأعادها، كما يقول صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: {إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض} فأدار الله له ذي الحجة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم حاجاً، فوافق الجمعة اليوم التاسع، وهو واقف بعرفة، فكان حجه موافق لسنة الله عز وجل في الأيام، فنزلت عليه الآية وهو على ناقته بـ عرفة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فوقف صلى الله عليه وسلم يقرأ على الناس، فبكى أبو بكر!! فقال الناس: كيف يبكي هذا الشيخ؟! يخبرنا صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول: أكملت لكم الدين، وأتممت عليكم النعمة، فيبكي هذا الرجل، فسألوا أبا بكر: ما لك تبكي؟ فقال: أجل الرسول صلى الله عليه وسلم قد دنا.
قال أبو سعيد: فكان أفقهنا وأعلمنا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، وعاد صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية ومكث ثمانين ليلة، وقيل ثلاثاً وثمانين أو أربعاً وثمانين، ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم بعدها، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].(261/25)
مرض الرسول صلى الله عليه وسلم
قال أنس: [[مرض صلى الله عليه وسلم يوم الخميس]] ويقول ابن عباس وهو في الحرم، وهو يقلب الحصباء بيديه: يوم الخميس، وما يوم الخميس!! ثم يبكي حتى يرثي له جلساؤه، ثم يعود فيرفع رأسه، ويقول: يوم الخميس وما يوم الخميس!! ثم يبكي حتى يرثي له جلساؤه، قال: يوم الخميس بدأ بالرسول صلى الله عليه وسلم مرضه، فلما مرض صلى الله عليه وسلم في يوم الخميس، أراد أن يقوم لصلاة الظهر فثقل صلى الله عليه وسلم، فقام من على فراشه لأنه سمع الأذان فسقط بأبي هو وأمي على الفراش، فقام مرة ثانية فسقط، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
فأتى بلال فقال: الصلاة يا رسول الله؟ فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فأخذ بلال يبكي، ويقول: الله المستعان! أول يوم من الأيام يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وأول يوم يتوقف ذاك النبع الفياض، وذاك النور الذي يرى دائماً في المحراب يؤم الناس، مسئول البشرية وهادي الإنسانية يقف أمام الصفوف وهو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة ويتعطل عن العطاء وعن الأخذ، وعن البذل، وعن التعليم والتوجيه، إن في الأمر شيئاً، كأنه يراد أن يقبض إلى الله تعالى.
فتقول عائشة وهي تبكي وتجعل الخمار على وجهها رضي الله عنها وأرضاها: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف -يعني كثير الحزن ما يستطيع أن يقرأ بالناس، كان يقرأ الفاتحة فيقطعها بالبكاء، لا يستطيع أن يتمها - فمر غيره يا رسول الله! فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: {إنكن صويحبات يوسف -وفي لفظ- صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس!!} فخرج بلال ينادي أبا بكر رضي الله عنه، وقال: يا أبا بكر قم صل بالناس، يأمرك صلى الله عليه وسلم أن تصلي بالناس، فدمعت عينا أبي بكر رضي الله عنه، لأنه علم أن في الأمر شيئاً، وقال: الله المستعان!
فقام يصلي بالناس، قال أنس: {فلما دخلنا في الصلاة كشف صلى الله عليه وسلم الحجاب، وهو قطعة من قماش على باب غرفته صلى الله عليه وسلم، وغرفته في الروضة، تشرف مباشرة على المحراب الذي كان يصلي فيه صلى الله عليه وسلم، قال: فالتفتنا بأبصارنا إليه صلى الله عليه وسلم فرأينا وجهه، كأنه ورقة مصحف، وهو يتبسم إلينا صلى الله عليه وسلم، فظننت أنه لما تبسم يريد أن يخرج، قال: فكدنا نفتتن في الصلاة -كادوا يقطعونها من الفرحة- فأشار النبي صلى الله عليه وسلم أي مكانكم، ثم أرخى الحجاب} وتبسمه صلى الله عليه وسلم كأنه فرح وسر بهذا المنظر العجيب، منظر هؤلاء الذين كانوا وثنيين لا يعرفون الله، وكانوا يسجدون للحجارة، ويعبدون التمر، وكانوا كالأنعام والبهائم، ثم أخذهم صلى الله عليه وسلم بفضل من الله ورحمة؛ فزكاهم ورباهم ووجههم وعلمهم، ثم قاموا صفوفاً، كل إنسان منهم أمة من الأمم، فيتبسم صلى الله عليه وسلم لهذا الموقف.(261/26)
الوداع وموت الرسول
أسدل صلى الله عليه وسلم الستار، وبقي ما يقارب ثلاثة أيام، ثم خرج إلى الناس في خطبة أخيرة ليودع الناس ويودعونه، خرج وأخذ بجانبه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، وفي الجانب الآخر علياً، وأخذت أقدامه تخط في الأرض من شدة المرض، وكان عليه عمامة دسمة أي: متينة، بدينة على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: في يده قضيب.
فجلس على المنبر، ثم أخبر الناس، ثم قال: {أيها الناس؛ اللهم من سببته أو شتمته أو لعنته -يعني: من المسلمين- فاجعلها له قربة ورحمة عندك، ثم قال: أيها الناس! من آذيته بسب أو شتم أو أخذت شيئاً من ماله فاقتصوا مني اليوم، قبل ألا يكون درهم ولا دينار} فبكى الناس جميعاً، وقام أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، ثم أخذ صلى الله عليه وسلم يخبر الناس، ويعظهم، ويقول: {تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي}.
فودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وودعهم، ثم عاد صلى الله عليه وسلم واستمر به المرض، وفي اليوم الأخير من أيامه صلى الله عليه وسلم أتاه اليقين، وأخذ يقول: {لا إله إلا الله، اللهم أعني على سكرات الموت، لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} ثم قبضت روحه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى} فتقول عائشة: {خيرت -بأبي أنت وأمي- فاخترت يا رسول الله}.
وأتم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى النعمة، وأكمل الدين، قال أبو ذر رضي الله عنه: ما ترك صلى الله عليه وسلم أمراً، ولا طائراً يطير بجناحيه إلا وأعطانا منه خبراً، فأكمل الله به هذا الدين، فمن قال: إن في الدين نقصاً، أو يحتاج إلى تكميل فهو ضال مضل، أزاغ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قلبه وسمعه وبصره، بل الدين كامل، والشريعة كاملة، فله الحمد وله الشكر على هذا الدين، وله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى منا الرضى، نسأل الله أن يرضى عنا وعنكم.(261/27)
الأسئلة(261/28)
إقبال النفس وإدبارها
السؤال
يقولون النفس تقبل وتدبر، وقد شبهت بالطفل الصغير، فمثلاً يقول: ينشط المسلم في يوم فيجد نفسه يريد أن يصلي كثيراً فيصلي ويكثر، أربع ركعات أو أكثر، ثم يتكاسل في يوم من الأيام فلا يصلي إلا ركعتين، فهل يحاسب العبد على هذا؟
الجواب
إن في النفس إقبالاً وإدباراً، لكن ليكن عند الإنسان شيء من العمل ميسور يستطيع أن يداوم عليه حضراً وسفراً، لكن إن زاد عليه فلا حرج إن شاء الله، كأن يختم القرآن في شهر، يقرأ في كل يوم جزءاً، فالجزء هذا يقرؤه في اليوم، لكن إذا نشطت فزدت عليه فبها ونعمت، ولا تقل عن هذا الجزء إلا أن تكون مسافراً أو مريضاً؛ لأن المسافر إذا سافر أو مرض كتب الله له ما كان يعمل مقيماً صحيحاً؛ فضل من الله عز وجل، وكأن تصلي الضحى ركعتين فتداوم على الركعتين، لكن تتنشط في يوم من الأيام، فلك أن تصلي كما كان يصلي النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر في بعض الأحاديث، ثمان ركعات، أو ست ركعات، أو أربع ركعات، أو تزيد ما شاء الله، فهذا لا يمنع ذلك، وليس هناك تعارض بين هذا الحديث وبين ما أسلفنا، فإن الممنوع هو أن يتنطع الإنسان ويشدد على نفسه في العبادة حتى يمل الدين ويكره العبادة، ويفضي به إلى الانقطاع نسأل الله العافية.(261/29)
حكم تارك الصلاة
السؤال
هل تارك الصلاة يخلد في النار؟
الجواب
أهل العلم لهم في المسألة رأيان: رأي يقول: تارك الصلاة ليس بكافر، ويعذب بفسقه، لكنه لا يخلد.
والرأي الثاني وهو الصحيح: أنه كافر، من ترك الصلاة عمداً فقد كفر، لقوله صلى الله عليه وسلم: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} ويقول صلى الله عليه وسلم: {بين المسلم والكافر ترك الصلاة} فإذا تركها فقد كفر، وماذا يبقى معه بعد أن يترك الصلاة من الإسلام، يبقى معه أن يقول: لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، اللهم حبب إلي هذا الدين وزينه في قلبي، ما يبقى شيء أبداً، وهذا الذي عليه أهل العلم من المحققين.(261/30)
حكم لبس السراويل الكاشفة للعورة تحت الثوب
السؤال
ما حكم الصلاة في السراويل القصيرة تحت الثوب الخفيف؟
الجواب
إن كانت العورة تبدو منه فلا تصح الصلاة فيه، وتعاد عند كثير من أهل العلم، وأفتى ابن تيمية رحمه الله في المسبل وهي صورة توافق هذا أنه يعيد وضوءه ثم يصلي، وإن كان هناك شفاف ولا يبدي شيئاً من العورة فلا بأس عليه إن شاء الله لكنه يكره الصلاة به.
قضية أخرى: قضية الإسبال في الصلاة، فإن كثيراً من أهل العلم يذهبون إلى أن المسبل يعيد الصلاة، وهذا هو الصحيح؛ لأنه ورد حديث في أبي داود، أن النبي صلى الله عليه وسلم: {رأى رجلاً مسبلاً ثوبه فقال: أعد وضوءك} وبذلك أفتى ابن تيمية رحمه الله تعالى.(261/31)
حكم رفع الصوت بقراءة القرآن بين الأذان والإقامة
السؤال
ما حكم رفع الصوت بالقرآن بين الأذان والإقامة؟
الجواب
رفع الصوت لغير حاجة لا يجوز، والحاجة في أن يكون بجانبك رجل يريد أن يستمع، وهو لا يستطيع أن يقرأ القرآن، بشرط ألاَّ يتضرر الآخرون فلك أن ترفع بقدر الحاجة، أو يكون ليس في المسجد أحد، أو أناس لا يتضررون فلك أن ترفع، أما أن ترفع صوتك، وتشوش على الناس، فالفتوى فيما قال الإمام مالك بن أنس عندما سئل عمن يفعل ذلك فقال: أرى أن يضرب بالأحذية ويخرج من المسجد.(261/32)
حكم السلام على حلقة علم أو قرآن
السؤال
ما حكم السلام على حلقة العلم، أو على من يقرأ القرآن؟
الجواب
الظاهر والمعروف من النصوص أنه يسلم عليهم، وإن قال بعض أهل العلم: لا، فلا دليل لهم؛ لأنه كان يسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، وكان يرد الرسول صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي، فما دام يسلم وهو في صلاة، فمن باب أولى أن يسلم على حلقة العلم والذكر، وعلى حلقة القرآن، وفي الفصل الدراسي يسلم ولا شيء في ذلك.
وهناك حديث عن أبي واقد الليثي في البخاري: لما دخل رجل سلم، ودخل الثلاثة وفي حديث عمران بن حصين في السنن: {أن الرجل دخل والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الناس، فقال: السلام عليكم، قال: عشر، فقال الثاني: السلام عليكم ورحمة الله، فقال: عشرون، فقال الثالث: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: ثلاثون} فأقره صلى الله عليه وسلم على ذلك الأمر.(261/33)
حديث (لا صمت إلا في ثلاث)
السؤال
ما صحة هذا الحديث: {لا صمت إلا في ثلاث: عند قراءة القرآن، وعند الزحف، وعند اتباع الجنائز}؟
الجواب
هذا الحديث لا يصح، وليس بحديث، ولا يرفع للرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما في معناه شيء من القبول يبينه ببعض التفسير، عند قراءة القرآن مطلوب أن يسمع؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204].
فلا يجوز رفع الصوت، ومن رفع صوته عند قراءة القرآن فقد شابه المشركين، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] وعند الزحف ورد عن معاذ كما في البداية والنهاية عن أبي عبيدة رضي الله عنه، أنهم قالوا لأناس وهم يقاتلون أهل الروم في اليرموك: اصمتوا أيها الناس! ولا تتكلموا، ولا ترفعوا أصواتكم فإن رفع الصوت في المعركة فشل، لكنه يذكر الله سبحانه ويحمده، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} [الأنفال:45] قيل لـ ابن تيمية: كيف أمرنا الله عز وجل أن نذكر الله عز وجل عند ملاقاة الكفار وقت المعركة، وهو وقت شغل -وقت مجابهة الأعداء، ووقت مقاتلة-؟ قال: لأن علامة المحب أن يذكر المحبوب وقت الأزمات، قاله ابن تيمية، أما سمعت أن عنترة يقول في محبوته:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي(261/34)
الفرق بين الفاسق والعاصي
السؤال
هل يجوز أن نطلق على المسبل إزاره فاسق؟ وما هو الفرق بين الفاسق والعاصي؟
الجواب
الفاسق اسم إضافة، يختلف باختلاف الإطلاقات، وأهل السنة يطلقونه على من ترك شيئاً من الفرائض، ليس الصلاة، لأن الصلاة لها حكم خاص وهو الكفر، لكن من ترك شيئاً، أو تعاطى شيئاً، كالسرقة فهو فاسق، بشرط ألا يستحل هذا العمل، فإن استحله فهو كافر.
وبعض الناس يطلقه على من يترك بعض الآداب، وأما هذا ففاعله عاص لله تعالى، وكأنه يتحفظ بهذه الإطلاقات، والفاسق هو من ارتكب الكبائر، والكافر هو من استحلها أو كفر بالله العظيم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فكأن العاصي من أتى الذنوب من الصغائر، وخالف بعض المندوبات، ولو أنه يشمل الجميع، وكأن الفاسق من أخذ الكبائر، ولكنه لم يكفر ولم يستحلها، والكافر من أنكرها واستحلها وكفر بالله العظيم.(261/35)
حكم الصلاة وراء الإمام المسبل أو الحالق لحيته
السؤال
ما صحة الصلاة وراء الإمام المسبل، أو الحالق لحيته؟
الجواب
أما المسبل؛ فإن صُلي وراءه وكان إماماً راتباً فلتصل وراءه، وصلاته صحيحة لا شك، يقول بعض السلف: السؤال عن الإمام الراتب بدعة لا تعرف عند السلف، لك أن تصلي وراءه سواء كان حليقاً أو مسبلاً إذا كان إماماً راتباً في المسجد؛ لأن الصحابة صلوا وراء الفسقة، أمثال الحجاج وغيرهم ولم يسألوه، لأنهم مأمومين.
وأما إن كان إماماً متبرعاً لفعل الخير للمسلمين، فيؤخر ويصلي مكانه آخر، وإن حضرت وصلى الناس وصليت ورأيت بعد الصلاة أنه مسبل، فصلاتك في نفسك صحيحة، ولا عليك إن شاء الله، وما أعلم أن هناك دليلاً لمن قال أنها تبطل الصلاة أو تعاد.(261/36)
حكم حفظ مقاطع من القرآن لمدة وترك بقيته
السؤال
ختم القرآن في ثلاثين يوماً أو أربعين يوماً، فهل يعني حفظ مقاطع من القرآن مدة، وترك بقية القرآن يعتبر هجراً للقرآن؟
الجواب
الصحيح أنه من انشغل بحفظ القرآن فهو مأجور مشكور، ولا عليه من بقية القرآن إذا أراد أن يحفظ القرآن كله، كأن يأخذ جزءاً من القرآن يحفظه في شهر، والبقية ما قرأه في هذا الشهر فما عليه حرج إن شاء الله؛ لأنه متشاغل بالقرآن، وابن عمر ثبت عنه أنه حفظ سورة البقرة في ثمان سنوات، ثم نحر بدنة ناقة للناس وضيفهم عليها، ولذلك يقول ابن مسعود: [[إنكم في زمان تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه، وسوف يأتي زمان تحفظ حروفه وتضيع حدوده]] تجد الشاب الصغير يحفظ عشرين جزءاً والناس يصلون وهو لا يصلي، وتسأله ولا يخطئ أبداً في القرآن، لأن حفظ القرآن أصبح مهنة عند الناس، ويحفظ فقط للجوائز وللأقلام وللحقائب الدبلوماسية، وللمدح من الوالد، وليعلق شهادته في البيت، فهذا الزمان الذي حذر منه ابن مسعود رضي الله عنه.(261/37)
حكم الهجر فوق ثلاثة أيام للمصلحة
السؤال
هل يجوز الهجر فوق ثلاثة أيام للمصلحة؟
الجواب
نعم يجوز، لكن ما بين المسلم والمسلم لأسباب دنيوية ثلاثة أيام فقط، كأن يطأ على رجله وهم يصلون صلاة الظهر، فله أن يهجره ثلاثة أيام لكن لا يزيد عليها، وأما في الأمور الدينية فيهجر، قال الإمام البخاري في الصحيح في باب الأدب: باب الهجر إلى خمسين يوماً، ثم أتى بحديث كعب بن مالك: {أن النبي صلى الله عليه وسلم هجره خمسين يوماً} فلك أن تهجر خمسة وأربعين يوماً، وخمسين يوماً، لمصلحة دينية إذا كان لوجه الله عز وجل، أما لأنه أخطأ عليك، أو لأمر ما، أو ضرب ابنه ولدك، أو تقول أنا هجرته لوجه الله أن يكتب لي الله عظيم الأجر، فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم وهو أدرى.(261/38)
التوفيق بين الحقوق الخاصة والعامة
السؤال
لله حقوق وللرسول وللوالدين وللأقارب وللمسلمين حقوق أيضاً فكيف نوفق بينهما؟
الجواب
توفق بينهما بدون اختلاف، فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى علمنا بحقوقه في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحقوق الوالدين والأقارب والمسلمين هي من الميسورة والمسهلة، لكن قاعدة: {لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق} [[إذا أمرتك أمك -كما قال الحسن في صحيح البخاري معلقاً- أن تصلي العشاء في البيت فصل العشاء في المسجد]] أمرتك ألا تقرأ القرآن فاعصها واقرأ القرآن، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
هذا ونسأل الله عز وجل التسديد والهداية، والتوفيق لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يثيبنا وإياكم، وأن يجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا يجعل فينا ولا منا ولا بيننا شقياً ولا محروماً، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يفقهنا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(261/39)
ساعة الصفر
غزوة الأحزاب من أعظم غزوات المسلمين، فيها تجمع أحزاب الكفر لاستئصال شوكة المسلمين والقضاء على دينهم، ولقد بلغ حال الصحابة فيها مبلغاً حرجاً حتى زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وفي هذه الغزوة مواقف عظيمة، وأحداث جسيمة أظهرت ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فتصفح هذه المادة لترى هذه الأحداث عن قرب، وتأخذ منها الدروس والعبر.(262/1)
من أحداث غزوة الأحزاب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ومع حادثٍ آخر، وموقف آخر من مواقف الرسالة الخالدة؛ التي أتى بها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ومع الإمام البخاري وهو يتحدث لنا عن غزوة الأحزاب، تلك الغزوة كما قال بعض العلماء العصريين: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والصحابة في هذه الغزوة درجة الصفر، أي: أن فيها انتهت الآمال، وانقطعت الحبال، إلا حبل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ حتى يقول الله تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11].(262/2)
ضيافة جابر للمصطفى عليه الصلاة والسلام وما فيها من المعجزة
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في غزوة الأحزاب وهو يسوق بسنده إلى جابر رضي الله عنه وأرضاه، قال جابر: {بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحزاب إذ عرضت لنا كدية -أي صخرة وهم يحفرون الخندق- قال: فشكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل عليه الصلاة والسلام إلى الخندق بمعولٍ بيده، وعلى بطنه حجرٌ مربوطٌ من الجوع عليه الصلاة والسلام، قال: فلما رأيت آثار الجوع في بطنه عليه الصلاة والسلام، ذهبت إلى أهلي، وقلت: هل عندكم من شيء؟ قالت: عناق وشيءٌ من شعير، فَذبحتُ العناق وطحنت هي الشعير وعجنته، ثم ذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فأخبرته الخبر وقلت: يا رسول الله! تعال أنت واثنين معك، قال: فلما انتهيت من كلامي لرسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان قد ساره الخبر لئلا يشعر الناس- نادى عليه الصلاة والسلام في أهل الخندق، وقال: يا أيها الناس! إن جابراً صنع لكم طعاماً فحيهلاً بكم -وكانوا مئات من الصحابة من المهاجرين والأنصار، وبلغوا من المجاعة مبلغاً عظيماً الله أعلم به- فلما سمعوا الخبر ألقوا المساحي من أيديهم والمكاتل وهرعوا إلى الصوت زرافات ووحداناً.
وانطلق أمامهم مربي البشرية، ومعلم الإنسانية صلى الله عليه وسلم- قال جابر: فأتاني من الحياء ما الله به عليم.
فدخل عليه الصلاة والسلام وقال: يا جابر! أين اللحم؟ قلت: يا رسول الله! في البرمة قال: وأين العجين؟ قلت: هذا هو يا رسول الله، فبصق عليه الصلاة والسلام فيه -بصقاً مباركاً طيباً ألذ من العسل المصفى، وأحلى من الشهد، ودعا الله عز وجل وسمى- ثم قال: يا جابر! أدخل الناس عليَّ عشرة عشرة} فأخذ الصحابة يدخلون عشرة عشرة والرسول عليه الصلاة والسلام صاحب الضيافة في هذا اليوم يدخلهم ويدنيهم صلى الله عليه وسلم، فكلما أكل عشرة قاموا وأتى عشرة، ثم يقوم العشرة فيأتي عشرة، فدخل هذا العدد الكثير، وهو عدد جيشٍ ضخم يريد أن يرد كيد المعتدين عن المدينة المنورة، فلما انتهوا نظر عليه الصلاة والسلام إلى اللحم كما هو لم ينقص شيئاً، وإذا بالشعير بحاله لم ينقص شيئاً.
لو لم تكن فيه آياتٌ مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
ثم قال: {يا جابر! تعال كل، قال: فدنوت فالتفت إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم وقال: أشهد أني رسول الله، فيقول جابر: أشهد أنك رسول الله، فيقول: يا جابر! كل أنت وأهلك واقسم لجيرانك -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- قال جابر: فقسمنا على جيراننا، فوالذي نفسي بيده لقد باتوا على خبزٍ ولحمٍ في تلك الليلة} وقد ذكر الله عز وجل هذه الغزوة وعلق عليها، وندد في كتابه بالمعتدين، وأخبر أنه قطع دابرهم، وفل شوكتهم، وأنه كفى المؤمنين القتال.
قال جل ذكره وهو يتحدث في سورة الأحزاب عن ساعة الصفر التي بلغها الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:9 - 11] ثم يتحدث الله عز وجل عن المنافقين: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12].(262/3)
تجمع الأحزاب لاستئصال المسلمين في السنة الخامسة للهجرة
وغزوة الأحزاب وقعت حدثاً تاريخياً في واقع المسلمين في السنة الرابعة وقيل في الخامسة، والأصوب أنها في الخامسة، فمن قال في الرابعة ألغى الكسر، ومن قال في الخامسة جبر الكسر، وهذه الغزوة من أشد الغزوات في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكادت هذه الغزوة أن تودي بالرسالة وبصاحبها وأن تجتاح الصحابة والمهاجرين والأنصار، وأن تقطع حبل هذه الرسالة، ذلك أن العرب اجتمعوا في حزبٍ ائتلافي، وكونوا جيشاً يريدون به خوض المعركة ضد المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحزب الائتلافي المشرك يتكون من قريش التي بغت على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ويقودها آنذاك أبو سفيان ومن غطفان التي يقودها عيينة بن حصن ومن بني قريظة اليهود الذين نقضوا عهد الله وكفروا برسل الله.
اجتمعوا عشرة آلاف وتوجهوا إلى المدينة وتعاهدوا وتواعدوا على أن يقاتلوا رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى ينتهي الدين تماماً، وتنتهي لا إله إلا الله من الأرض، وتنتهي الرسالة، فلا يكون هنالك رسولٌ ولا رسالة، ولا مصل ولا صائم، ولا معتمرٍ ولا حاج: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] يقول أحد المفكرين المسلمين: إن المشرك أو الملحد الذي يريد أن يطفئ نور رسالة الإسلام كالطفل الذي ينفخ في الشمس، وهل يطفئ الطفل نور الشمس؟! فهذه رسالته عليه الصلاة والسلام.
نزل الأحزاب هناك وتمركزوا حول المدينة، وجعلوا النخل وراء ظهورهم، وطوقوا المدينة والرسول عليه الصلاة والسلام داخل المدينة، وتصوروا هذا الحدث العظيم، تصور أنك في قرية من القرى مثل المدينة المنورة أنت وجماعة معك، وينزل بك عشرة آلاف مقاتل من أشجع شجعان العرب على الإطلاق؛ كل مقاتل يغلي دمه حقداً وحسداً وبغياً وعدواناً على من في المدينة، يقطعون عنهم الإمدادات، المواصلات، وكل ما استطاعوا أن يقطعوه قطعوه، نزلوا هناك، وحق للقرآن أن يتحدث ويقول {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] فالقلب في موضعه لكنه من الخوف يرتفع حتى يبلغ الحنجرة، ضاقت الأمور وزلزلوا زلزالاً شديداً حتى يقول الله: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] حتى أن بعض من أسلم ظن أن الرسالة سوف تنتهي، ولن يعود هناك توحيد في الأرض ولا إسلام، فلما نزلوا هناك اعتد عليه الصلاة والسلام بقوة الله عز وجل، وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل؛ واجتمع بالصحابة الأخيار الذين قاتلوا في بدر وأحد؛ أصحاب السيوف البيضاء، وأهل الأيادي الطولى في دين الله عز وجل، واستشارهم ماذا يفعلون؛ فالموقف مربك، أيتركهم يدخلون، ثم يقاتلهم في الزقاق وفي السكك وعلى أفواه الطرق، أم يستسلم ويقدم خطةً استسلامية لينتهي الدين، أم يقدم غرامة مالية وهو لا يملك هو والصحابة ما يملئون بطونهم من الخبز، حتى يربط على بطنه صلى الله عليه وسلم الحجارة، أم ماذا يفعل؟
لكن الله في السماء.
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
فتوجه إلى الحي القيوم الذي إذا نصر نصر، وإذا هدى هدى.
واستشار أصحابه عليه الصلاة والسلام، فتقدم الرجل الذكي المدره الداهية سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه الباحث عن الحقيقة، الذي أتى يقطع آلاف الأميال ليملأ قلبه بلا إله إلا الله، وبعض الناس يسكنون في بعض الأحياء القريبة من المساجد ويسمعون: لا إله إلا الله تتردد فلا يأتون ولا يستمعون.(262/4)
حفر الخندق وما فيه من بشارات
فأشار سلمان بأن يُحفر حول المدينة خندقٌ لا تخترقه خيول المشركين، فاستجاب صلى الله عليه وسلم لهذا الرأي، وقام الصحابة يحفرون الخندق، وشاركهم المصطفى عليه الصلاة والسلام بحفر الخندق بيده، وقامت المعاول والمساحي تشتغل ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم معهم، كل اثنين من الناس معاً، فأحدهم يحمل المكتل على ظهره، والآخر يعبئ المكتل (الزنبيل).
والرسول صلى الله عليه وسلم جعل له رفيقاً من هذا الجيش، وهو جعيل، وهو رجلٌ ضعيفٌ، فكان رفيقاً للرسول صلى الله عليه وسلم، فكان عليه الصلاة والسلام ربما يعبئ له الزنبيل، فيحمله هذا المسكين حتى يوصله إلى المكان الآخر، وربما يحمل صلى الله عليه وسلم الزنبيل، وكان يقول له صلى الله عليه وسلم: يا جعيل! أنت عمرو، فيقول الصحابه:
سماه من بعدِ جعيل عَمْراً وكان للبائس يوماً ظهراً
وأخذوا ينشدون هذا النشيد الحبيب ليحركوا النخوة القتالية في نفوس المقاتلين؛ الذين ما أصبح في بطونهم شيءٌ من الطعام، وأوشكوا أن يسقطوا على وجوههم من الجوع، فأخذ ينشد معهم صلى الله عليه وسلم كما قالوا:
سماه من بعدِ جعيل عَمْراً وكان للبائس يوماً ظهراً
يقول: عمرا، ويقول ظهراً.
وأتى عليه الصلاة والسلام في كوكبةٍ من الصحابة وهم يحفرون، فأخذ يردد معهم ويقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فثبت الأقدام إن لاقينا إنا إذا كيد بنا أبينا
وهذه الأطروحة والأنشودة الغالية أرسلها عبد الله بن رواحة المقاتل العظيم نشيداً للمسلمين، فكان ينشد بها صلى الله عليه وسلم.
وبينما هو يحفر عليه الصلاة والسلام إذ هو بـ زيد بن ثابت قد أخذ سلاحه عليه ونام في الخندق وهو شاب، فأتى عليه الصلاة والسلام يمازحه فحمله بيده، وكان عليه الصلاة والسلام قوي البنية، قوي العاطفة، زعيماً إدارياً يقود الدنيا إلى الله عز وجل، فحمله بيده وقال له: {قم يا أبا رقاد} فتبسم الصحابة رضوان الله عليهم.
وبينما هم يحفرون، عرضت لهم في الخندق صخرة كبيرة، فتوقفوا عن الحفر؛ لأنها لا تعمل فيها المعاول، ولا تشتغل فيها المساحي، فدُعي الرسول صلى الله عليه وسلم، فأتى والحجر على بطنه الشريف؛ فأين الذين يرمون الموائد في الزبالات والقمائم.
والمسلمون يموتون جوعاً وعرياً وهلاكاً في أفغانستان وفلسطين وإفريقيا وفي كل صقع؟ وهم يموتون في المستشفيات تخماً وحبطاً وتبجحاً بنعمة الله عز وجل.
فينزل عليه الصلاة والسلام فيطلب فأساً، فيناول فأساً عليه الصلاة والسلام فيضرب الصخرة؛ فتلمع لمعاناً رهيباً في الجو، فيقول: {والذي نفسي بيده لقد أضاءت لي قصور كسرى، وإن الله سوف يفتحها عليَّ، ثم يضرب الضربة الثانية فتلمع الصخرة لمعاناً رهيباً في الجو، ويقول: والذي نفسي بيده لقد أضاءت لي قصور قيصر الروم، ثم يضرب ضربة ثالثة ويلمع البرق العجيب في الجو ويقول: والذي نفسي بيده لقد أضاءت لي قصور صنعاء} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فيتغامز المنافقون ويقولون: لا نجد كسرة الخبز وهو تلمع له قصور كسرى وقيصر!
فلذلك صور الله هذه الصورة ونقلها لنا وهو يبكتهم ويخزيهم -انظر إلى الرسالة الخالدة كيف انتشرت في الأرض- قال سبحانه: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] يقولون: لا قصور كسرى ولا قصور قيصر ولا صنعاء وإنما هذا غرور وكذب، ولكن بعد خمسٍ وعشرين سنة يسقط إيوان كسرى الطاغية الظالم على وجهه في الأرض، وينصدع بتكبيرات كتائب الإسلام التي دخلت، فهل هذا غرور؟! وهل هذا كذب؟! وهل هذا دجل؟!
من الذي سجد في صحراء سيبيريا؟!
ومن الذي أعلن لا إله إلا الله في الأندلس؟
ومن الذي خاض بحر الجنج إلا أتباع من ضرب تلك الصخرة.
أرواحنا يا ربِّ فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
وبينما هو يحفر عليه الصلاة والسلام، وقد بلغ به الجوع مبلغه، واحمر وجهه من الجوع مع الصحابة، أتاه جابر، فوجد هذا الجائع العظيم وهو يكد ويكدح لصالح: لا إله إلا الله، فذهب إلى امرأته وعرض عليها الخبر، وكانت امرأة صالحة قوامة صوامة، فقالت: عندنا عناق، والعناق عند العرب لا تكفي إلا اثنين أو ثلاثة، فما بالُك إذا كانوا جائعين، وبعض الناس يستطيع أن يأكل عناقين إذا جاع لكبر جسمه أو لتعبه.
وقالت: وشيءٌ من شعير فذبح جابر العناق، وسلخها وأنزلها في القدر، وأتى بالشعير فطحنته زوجته وعجنته، وذهب ونادى الرسول صلى الله عليه وسلم بصوتٍ خافت؛ لئلا تنفضح المسألة ولا تصبح شائعة فيأتي الناس، فيتكدسون في الشوارع على عناق وعلى شيءٍ من شعير.
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم رفع صوته ونادى الناس، فظن جابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما فهم الدعوة، فقال في نفسه: حسبنا الله ونعم الوكيل، وذهب ووصل الناس مع الرسول صلى الله عليه وسلم وقدم الطعام، ولكن بركة الهادي صلى الله عليه وسلم، والمعجزة الحقة من رب السماوات والأرض تنزل على هذا الطعام، فيأكلون عشرة عشرة، فينتهون كما سلف في الحديث.(262/5)
مبارزة علي رضي الله عنه لعمرو بن ود
ويعود عليه الصلاة والسلام إلى الخندق، فيأمر بالنساء والأطفال فيلجئهم في الحصون وراء ظهره عليه الصلاة والسلام، ويدعو الأبطال لينزلوا في أرض المعركة، فينزل ابن أبي طالب ذاك الفارس الذي سجَّل أسطورة الفداء في ذاك اليوم، ويتم والحمد لله حفر الخندق حول المدينة، ويأتي أبو سفيان فيتمركز قريباً من الخندق وتأتي غطفان وتنزل بجانبه، وتأتي قريظة من اليهود، فلما اجتمعوا قال أبو سفيان: إن هذا شيء لا تعرفه العرب، وإنما هو من عند فارس.
ويحاول أبو سفيان أن يخترق الخندق ثلاث مرات ولا يستطيع، وفي المرة الرابعة يخترق أحد فرسان المشركين، واسمه: عمرو بن ود وهو من أشجع العرب على الإطلاق، يسمى بيضة البلد، فيخترق الخندق بفرسه يثب به وثباً ويقفز به قفزاً -وسلاحه عليه- فيدعو: من يبارز؟ من يبارز؟ فيبرز له علي بن أبي طالب.
وعلي في السابعة والعشرين من عمره، وذاك فوق الخمسين، وذاك كأنه اسطوانة، وإن شئت فقل: عمود، فإن عمرو بن ود يصفه المؤرخون: بأنه عظيم جسيمٌ مدره فياض.
فينزل ويقول: من يبارز؟ فيبرز له علي، هو في السابعة والعشرين من عمره لكنه يتوقد حماساً وغيرة لدين الله عز وجل، فقال له عمرو بن ود: من أنت؟ قال: أنا ابن أبي طالب فقال له: أنت ابن شيخ الأباطح؟ لأنهم يعرفون أبا طالب، قال: نعم، قال: إنك شابٌ وإني لا أحب أن أهريق دمك، أي: لا أحب أن أذبحك أو أن أسيل دمك، يظن الرجل أنه استعد مائة في المائة للذبح، فقال علي: ولكني والله أحب أن أهريق دمك، فنزل من على فرسه ونزل علي، وكان على علي درع قصيرٌ رضي الله عنه، ولكن:
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطم
وتجاولا، وسد الغبار الأفق، وأصبح المسلمون يكبرون من هذه الناحية، والمشركون يقولون: اعلُ هبل، اعلُ هبل، اعلُ هبل، وأصبحت الرؤية منسدة أمام الأعين، والرسول عليه الصلاة والسلام يلتجئ إلى الله أن ينصر هذا الفارس المجاهد؛ فارس الإسلام والمسلمين الذي خرج غيرةً لدين الله، وما أخرجته إلا (لا إله إلا الله) وما وقف في هذا الموقف إلا لينصر شرع الله عز وجل، والله عز وجل يغار، والله يغضب لأوليائه، والنصر للمؤمنين مهما بلغ كيد المعتدين، ومهما ضرب المسلم وأهين، فإن الدائرة على أعداء الله، وينكشف الغبار وإذا بـ أبي الحسن رضي الله عنه وأرضاه -ورحم الله تلك العظام- على صدر الكافر وقد ذبحه كما تذبح الشاة، فيكبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعود علي مرتجزاً ومنشداً أغنية المعركة وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدره
كليث غابات كريه المنظره
أكيلهم بالسيف كيل السندره
ويلتجئ صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل أن يفك هذا الحصار الذي طوق هذه المدينة، ونحن واجبنا أن نلتجئ إلى الله أن يفك كل حصار على الإسلام، فإنه قد حصر الإسلام في كل مكان، ففي أفغانستان يخنق الإسلام ويموت الأطفال في الشوارع، وعلى مطارح الطريق، وتهدم المنازل على رءوس الشيوخ، وفي فلسطين يأتي أعداء الله من إخوان القردة والخنازير بالهراوات، وما كان لهم أن يعتدوا على أعراض المسلمين لكن:
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
أمتي هل لك بين الأمم منبرٌ للسيف أو للقلم
أو ما كنتِ إذا البغي اعتدى موجةً من لهبٍ أو من دم
ألإسرائيل تعلو راية في حمى المهد وظل الحرم
أين لا إله إلا الله التي تلبي دعوة المسلم من قطرٍ إلى قطر؟ لكن أملنا في الله عز وجل.(262/6)
انهزام المشركين بجنود الله والاستكشاف عن أخبارهم
ويظلم الليل وتهب رياحٌ شديدة وراء الخندق، فتقتلع الأشجار وتأخذ الخيام فتلقيها على الأرض، أما ما دون الخندق -والمسافة بضعة أمتار- فنسيمٌ عليل بارد على القلب، فسبحان الله! يوم يُذكِّر المؤمنين يقول: انظروا كيف أرسلنا الرياح فهي هوجاء عاصفة تلقي بالشجر في هذه الناحية، وفي هذه الناحية نسيم، فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] ريحاً عاصفاً وجنوداً من السماء، وفي تلك الليلة الظلماء الدامسة أراد عليه الصلاة والسلام أن يعلم أخبار المعتدين وراء الخندق، قال حذيفة: كدنا من الظلام إذا مد أحدنا يده لم يرها، فيقول عليه الصلاة والسلام: من يذهب إلى الأعداء ويأتينا بخبرهم؟ فيسكت الناس جميعاً؛ لأن المسألة مسألة موت، لأنهم في جوع، وخوف، ومتلفة، وتعب وإعياء لا يعلمه إلا الله، فيقول صلى الله عليه وسلم: {من يذهب وهو رفيقي في الجنة} انظر إلى الجائزة، ليس هناك دراهم ولا دنانير، ولا مناصب ولا كراسي، ولا سيارات أو وظائف، أو قصور.
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
فيسكت المقاتلون، فيقول: {من يذهب وهو رفيقي في الجنة؟ فيسكتون، فيقول: قم يا حذيفة!} وهذا أمر لا يحتاج فتوى، فهذا أمر ولا بد أن ينفذ هذا الأمر إن كنت تؤمن بالله، قال حذيفة: {فلما سمعت اسمي ما كان لي من أمر الله، ولا من أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فقمت وبي من الجوع ما لا يعلمه إلا الله، وبي من الخوف ما لا يعلمه إلا الله -في ظلام لا يعلمه إلا الله- قال: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله} انظر ما أحسن الدعاء! وهو الآن أصبح في حراسة وحفظ الله.
يا واهب الآمال أنت حفظتني ورعيتني
وعدا الظلوم عليَّ كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
فذهب، قال: فوالله ما وجدت للخوف مكاناً في قلبي، وقال: مرةً أحبوا على يدي؛ لأنه في ظلام بين النخل لا يرى يده، ومرة أمشي حتى نزلت الخندق وذهبت ودخلت في جيش المشركين، فوجدتهم حلقاً حلقاً وأبو سفيان يتدفأعلى نارٍ عنده قد أوقدها، وهذا هو القائد العسكري للحملة كلها، وهو رئيس الحزب الائتلافي غطفان وقريش واليهود، قال حذيفة: فلما جلست رأيت الريح ما أبقت لهم خيمةً إلا أخذتها، وأخذت تكفأ القدور من على النار، فتجعله على وجهه: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45] قال أبو سفيان وكان من أذكياء العرب: يا أيها الناس! إن الرياح لم تبق لنا قدراً ولا خيمةً إلا أخذتها، فالتمسوا فإني لا آمن أن يرسل محمد في هذا الليل من يأتيه بخبرنا، قال حذيفة: فقال أبو سفيان: كلٌ منكم يسأل من بجانبه، قال حذيفة: فخفت أن يسألني من بجانبي فسبقت وقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان، ونزلت إلى هذا وقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان، لأنه لو سكت وقالوا: من أنت؟ وأتى باسمٍ غريب أو كذب لكُشف فسبقهم.
قال حذيفة: فرأيت أبا سفيان قام على بعيره وقال: أيها الناس! إني مرتحل، كما قال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً} [الأحزاب:25] ردهم والغيظ والنار في صدورهم، لم ينالوا خيراً من الإسلام والمسلمين: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب:25].
ثم التفت الله إلى أبناء القردة والخنازير وقال: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الأحزاب:26 - 27] فخرج أبو سفيان، وانفل هذا الحزب الظالم، الذي ائتلف لسحق الحق.(262/7)
إصابة سعد بن معاذ وحكمه في بني قريظة ووفاته رضي الله عنه
أما سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه فله الموقف المشهور يوم الخندق، وإن ننس كل موقف فلن ننسى موقفه.
فالشاب الذي بلغ من العمر سبعة وثلاثين عاماً، أما ثلاثون فكانت في الجاهلية، وأما سبعٌ ففي الإسلام، لكنها سبع سنوات تعادل سبعة قرون، لأنه لا يجوز لك بعد أن تهتدي إلا أن تجعل كل دقيقة لله عز وجل، فبعد سبع سنوات جعله الله شهيداً يهتز له عرش الرحمن، حتى يقول بعض المفكرين: بعض الناس يعيش في الإسلام سنة لكنها خيرٌ عند الله من ألف سنة.
عاش فلما أصبح في هذا السن نزل ليشارك في الخندق وينزل بدرعٍ عليه، فلما تصاول الفريقان أرسل ابن عرقة أحد المشركين سهماً، فوقع في ذارع سعد بن معاذ صاحب الخطب والمواقف المشهودة التي لا تنسى أبد الدهر، أسكن الله تلك العظام الجنة، وسقاه من الحوض المورود، وحشرنا معه وإياكم أجمعين.
فوقع سهم في ذراعه فقال ذاك الكافر: خذها وأنا ابن عرقة، فقال سعد بن معاذ: عرق الله وجهك في النار، وعاد رضي الله عنه وأرضاه وذراعه يسيل بالدم وتقبل منه صلى الله عليه وسلم هذه الهدية التي رفعها إلى الله وهي نفسه، لأنه وقع السهم في الأكحل، والأكحل عند العرب من أصعب المناطق التي إذا ضربها السهم فإن معناه الموت والقتل، وكان يرتجز لما ضرب بالسهم ويقول:
لبث قليلاً يشهد الهيجا حمل ما أجمل الموت إذا الموت نزل
فيأتي ويسيل دمه قطرة قطرة وجاماً بعد جام، ودفعة بعد دفعة، لكنه يسيل مسكاً أذفر، يلقى الله عز وجل الريح ريح المسك واللون لون الدم.
فيضرب له صلى الله عليه وسلم خيمةً في المسجد وينزله فيها ليمرضه من قريب، ويأتيه ويزوره في تلك الليالي ودمه يسيل، وسعد يلتفت إلى القبلة ويرفع يده ويقول: اللهم إن كنت أبقيت حرباً لقريش مع رسولك عليه الصلاة والسلام فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب فتوفني في هذه الساعة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
ثم يستمر الحال به، ويزوره عليه الصلاة والسلام، وبينما يفتح صلى الله عليه وسلم قريظة قال: من ترضون أن يكون حكماً بيني وبينكم؟ فقالوا: نرضى بـ سعد بن معاذ؛ لأنه كان حليفهم في الجاهلية، وظنوا أنه سوف يداهنهم ويحابيهم، وظنوا أن الصداقة مكانها، ولكن ما دروا أن الأحداث تغيرت، وأن القلوب غير تلك القلوب.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: اذهبوا إلى سعد وأتوا به، فذهبوا إليه فأركبوه على حمار، وكان رجلاً طويلاً، وجهه كالبدر ليلة أربعة عشر، وعليه مطارف -كلما لبس لباساً أثقله وأغرقه من دم ذراعه، فأخذوا يركبونه وحوله صف من الأنصار، وعن يمينه صف وعن يساره صف، ويقودون الحمار ويقولون: يا أبا عمرو! تلطف بحلفائك، أي: حاول أن تشفع لهم، أو مثل هذا الكلام الطائش، فيقول: والله لا تأخذني بالله لومة لائم، فلما وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: أيرضى بحكمي من هنا؟ احترام للرسول صلى الله عليه وسلم، قال: نعم.
وقال: أترضون بحكمي؟ -يقول: لأبناء القردة والخنازير- قالوا: نعم.
فيلتفت ويقول: أحكم فيهم -يا رسول الله- بأن تقتل مقاتلتهم -كل من حمل السلاح يعدم إعداماً- وأن تسبى ذراريهم، وأن تؤخذ أموالهم، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: {فوالذي نفسي بيده لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سموات!}.
هذا هو حكم الله في أعداء الله، وقتلة الأنبياء والرسل.
أخذوا صحيفة الرسول صلى الله عليه وسلم -المعاهدة- يوم دخل المدينة ووقعها فوقعوها: أنه إذا اعتُدي على المدينة أو على أي حيٍ من أحياء المدينة أن يكونوا يداً واحدة، أو على أي حيٍ من أحياء اليهود أن يقوموا يداً واحداً، فأتوا إلى هذه الصحيفة فشقوها، وتفلوا فيها، وداسها بعضهم بأرجله، وقالوا: تنفع محمداً صحيفته، ودخلوا مع أعدائه في حلفٍ وحزبٍ ائتلافي ليهاجموا المدينة فما جزاؤهم إلا هذا.
وعاد سعد وقام السيف يجزر في أعداء الله حتى ارتفع النهار، وقتل سبعمائة ملك من ملوكهم في الخندق، وسُبيتْ ذراريهم وأُخذتْ أموالهم، وعاد سعد فيسيل جرحه، ويعود صلى الله عليه وسلم سعداً وهو في آخر رمق، وهو يتلفت إلى الحياة وهي زهيدة في عينه، ذهبها لا ينفع، وفضتها لا تجدي، لا مناصب، ولا دور ولا قصور، وإنما الدور والراحة العميمة في الجنة، ويودعه صلى الله عليه وسلم وهو في الرمق الأخير، قالت عائشة: {فوالله الذي لا إله إلا هو، لقد كنت أنظر من صائر الباب، فأعرف بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من بكاء عمر من بكاء أبي بكر}.
وأخذ أبو بكر -كما في سير النبلاء للذهبي - يقول: [[واكسر ظهراه عليك يا سعد! واكسر ظهراه عليك يا سعد]] لأنه هو القائد الشهير في الأنصار، فلما ارتفعت روحه قال في الألفاظ الأخيرة: جزاك الله يا رسول الله، عن الإسلام خير الجزاء، لقد لقينا ما وعدنا ربنا حقاً.
ثم توفي فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له.
لعمرك ما الرزية فقدُ مالٍ ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد شهمٍ يموت بموته بشرٌ كثير
ويقول صلى الله عليه وسلم: أتدرون ماذا حدث لموت سعد؟ قالوا: لا والله، قال: {والذي نفسي بيده لقد اهتز عرش الله لموت سعد} وفي بعض الروايات لما توفي سعد اهتز عرش الله لموته، فأخذت الملائكة بأقطاب العرش يقولون: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
وأخذ حسان يترنم بمرثية عظيمة وهو من شعراء الأنصار يقول:
وما اهتز عرش الله من موت هالكٍ سمعنا به إلا لـ سعد أبي عمر
ويحضر صلى الله عليه وسلم مراسيم تشييع الجنازة والدفن، ويكفكف ثيابه، فيقولون: ما لك يا رسول الله؟! قال: {والله ما أرى شبراً في الأرض إلا وفيه ملك، والله لقد شيع سعداً سبعون ألف ملك من ملائكة السماء} ويستحق هذا الفارس البطل الشاب الذي بذل مهجته في سبيل الله، فهنيئاً لأولئك النفر: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
ويعود أبو سفيان، وتعود غطفان وقريش، ويُسحق بنو قريظة سحقاً تاماً، وتنتصر: لا إله إلا الله، وترتفع كما كانت دائماً وأبداً.
إن هذا الدين لن يموت، إنه يمرض ولكنه لا يموت، وإنَّ أصحابه يمرضون ولكن لا يموتون، وسوف ينتصر -بإذن الله- مهما طالت الأزمان.(262/8)
غزوة بني قريظة
وينتهي صلى الله عليه وسلم من المعركة ويعود من الخندق، والغبار قد عبأ ثيابه صلى الله عليه وسلم وقد أشعث رأسه، فيدخل إلى المغتسل، ويخلع درعه وثيابه ويغتسل بالماء صلى الله عليه وسلم، فيأتيه جبريل ويقول: يا رسول الله! تضع الدرع من عليك والسلاح! والله ما وضعت الملائكة الدروع من عليها والسلاح، وإنها تريد بني قريظة؛ لأنهم خانوا العهد، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أيها الناس! لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة} وهم قريب من المدينة، فيخرجون في كتائب، ويخرج جبريل في أول الكتائب عليه السلام، والغبار ينقاد من على رأسه، قال أحد الصحابة: مر بنا رجلٌ كأنه دحية الكلبي، والغبار على رأسه وعليه عمامة بيضاء، فقال عليه الصلاة والسلام: هل رأيتم أحداً مر من هذا المكان، قلنا: نعم يا رسول الله! رأينا دحية الكلبي، فتبسم وقال: ليس ذاك بـ دحية الكلبي ولكنه جبريل، ذهب بالملائكة إلى بني قريظة، فوصل عليه الصلاة والسلام، فلما اقترب من بني قريظة، قال: يا إخوان القردة والخنازير! انزلوا عليكم لعنة الله، قالوا: يا أبا القاسم! ما كنت فحاشاً، اسمع التلطف ما أحسنه، وهم قبل ليلة كانوا يزعزعون المدينة ويزلزلونها، ويشعلون النار، فأخذ عليه الصلاة والسلام يحرق أشجارهم، وأخذ يضيق الحصار عليهم.(262/9)
قصة أبي لبابة
وفي الأخير قالوا: أرسل لنا رجلاً، فقال: من يخرج إليهم؟ قال أبو لبابة: أنا، فقال صلى الله عليه وسلم: اصعد لهم في الحصون، فصعد إليهم وكان حليفاً لهم، فلما رأوه بكوا بكاءً شديداً وتنابحوا في وجهه كالكلاب، وأخذوا يقدمون الأطفال والجواري في وجهه، ويقولون: أترضى بأن يذبح هؤلاء؟ بماذا تنصحنا؟ أتنصحنا أن ننزل لمحمد أم تنصحنا أن نبقى في حصوننا؟ فقال: كذا، (يشير بيده إلى رقبته) يقول: إذا نزلتم فسوف يذبحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الإشارة تكفي عن الكلام.
فينزل رضي الله عنه وأرضاه وقد أساء وعلم أنه قد أساء، فيذهب ولا يمر بالرسول عليه صلى الله عليه وسلم ولا بالصحابة، ولكن يذهب إلى المسجد فيأتي إلى سارية من سواري مسجده عليه الصلاة والسلام، فيربط نفسه بالسارية ويبكي ويقول: والله الذي لا إله إلا هو لا أفك نفسي ولا أحل الحبل حتى يحله الرسول صلى الله عليه وسلم، لقد خنت الله ورسوله، وبالفعل هذه خيانة، فيسمع عليه الصلاة والسلام ويقول: أين أبو لبابة؟ ما عاد إلينا، قالوا: حدث من أمره كذا وكذا، فيقول عليه الصلاة والسلام: وأنا والذي نفسي بيده لا أحله حتى يتوب الله عليه.
لأنه هو الذي أساء، فلما أنزلهم صلى الله عليه وسلم وذبحهم توجه إلى المدينة ونزل فيها وأخذ الصحابة يمرون على أبي لبابة وهو يبكي بكاءً مراً، وكلما اقترب منه رجل ليحل الحبل أبى قال: لا.
حتى يحله الرسول صلى الله عليه وسلم، فينزل الله توبته من فوق سبع سماوات، ويغفر له ذنبه، ويقوم عليه الصلاة والسلام فيفك الحبل بيده، فيقوم وقد فرح بتوبة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بتوبته.
هذه أحداث الأحزاب والخندق، وإن شئت فألحق معها بني قريظة وما حدث فيها، وفي هذه القصة مسائل:(262/10)
المسائل المهمة في غزوة الأحزاب(262/11)
حضور جابر للمعجزات
جابر بن عبد الله رجل الموقف المشهود ومعجزته في أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا في طعامه بالبركة، وبارك الله في طعامه، وجابر من أكثر الصحابة روايةً للمعجزات، ودائماً يعيش المعجزات مع الرسول عليه الصلاة والسلام.
فمن ضمن المعجزات التي يرويها جابر، يقول: {استلفت من يهودي مالاً فأتى يستقضيني أو يطلب مني القضاء، فما وجدت له شيئاً إلا من تمر، فضيق عليَّ؛ فذهبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: اجمع لي ما عندك من التمر، قلت: يا رسول الله! لا يكفي! قال: اجمعه لي، قال: فجمعته على حصير، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا فيه بالبركة، قال: فقضيت اليهودي، وقضيت كل من له دينٌ عليَّ وبقي التمر كما هو، كأنه والله لم ينقص تمرةً واحدة، فقال لي عليه الصلاة والسلام: يا جابر! أخبر عمر بن الخطاب بهذا، قال جابر: فذهبت إلى عمر فأخبرته، فتبسم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنه رسول الله، والله لقد علمت أنه ما خرج إلى تمرك إلا وسوف يبارك الله في التمر}.
ومرة ثانية في صحيح مسلم، يقول جابر: {خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في البرية في إحدى الغزوات، يقول: فانطلقت معه ليقضي حاجته صلى الله عليه وسلم، فقال: يا جابر! اذهب إلى تلك الشجرة فقل: يقول لكِ رسول الله: تعالي، فذهب إليها وقال لها: يقول لكِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعالي} وهذا الحديث في صحيح مسلم؛ الذي سنده كنجوم السماء.
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
قال: {فقلت لها: تعالي، قال جابر وقد عمي في آخر حياته: والذي أخذ بصري لقد رأيتها تخد الأرض خداً، أي: تشق الأرض شقاً، فأتت ووقفت عنده!! ثم ذهب إلى الشجرة الأخرى، فقال لها: يقول لكِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعالي، فأتت تشق الأرض حتى وقفت بجانب أختها!! فلما انتهى صلى الله عليه وسلم قال: يا جابر! قل لهما تعودان فعادتا إلى مكانيهما، ثم قال جابر: أشهد أن لا إله إلا لله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله}.(262/12)
لمن تكون الدنيا؟
ومما يستنبط من هذه الغزوة أن هذه الدنيا يعطيها الله البر والفاجر، وأن أولياءه قد يجوعون ويتعبون ويضربون ويسجنون، ولكن الخاتمة لهم والعاقبة للمتقين: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].(262/13)
حذيفة بن اليمان وقصة الفداء
حذيفة بن اليمان صاحب قصة الفداء، والذي قدم نفسه رخيصة فحفظه الله في تلك الليلة، وأعطاه الله الجنة، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدفع الثمن للصحابة سلعةً ليست برخيصة، وهي السلعة الغالية الجنة، لم يكن يمنيهم بالدنيا أبداً، ولذلك ينبغي على المسلم والمربي أن يجعل أماني أبنائه وتلاميذه وطلابه الجنة؛ فلا يقل لأبنائه: من يحفظ منكم جزءاً من القرآن؛ أعطيه سيارة، فإذا حفظ الجزء؛ أعطاه سيارة، فأخذ يفحط بها ويدور وينسى الجزء، وفي الأخير ينسى الصلاة فلا يصلي مع الناس في المسجد، ولا يجعل أمانيهم دائماً في الأكل والشراب والأموال، ليتعلق دائماً وهو يدعو في السجود، ويقول: اللهم نجحني لآخذ الأموال.
ولذلك لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر سوف تكون الخليفة بعدي، ولا قال لـ خالد سوف تقود الجيش، ولا قال لـ علي سوف يكون ترتيبك الرابع في الخلافة، فإن الدنيا سهلة وهينة.
ولذلك لما انتصروا، وقدمت لهم الدنيا؛ ما رضوا بها؛ لأنها لا تكافئ تعبهم، ولا توفي ما قدموه للإسلام، فإنسان يجهد ستين سنة ويتعب ويجوع ويضرب ظهره، ويمزق جلده في سبيل الله وبعدها يحصل على إمارة!!
إن الإمارة لا تكافئ هذا التعب، يقول: أنا لا أريد إلا الجنة، ولا أريد إلا رضا الله، حتى يدعى سعد بن أبي وقاص إلى الخلافة، فيقول: لا والله أنا لا أريد الخلافة، قالوا: لم؟ قال: أنا لا أسعى إلى الخلافة، فخلافة الدنيا لا تساوي تعب سعد بن أبي وقاص ساعة واحدة من نهار، حتى يقول: والله إني أولى بعد موت علي بالخلافة، وإني أولى بها من بردي هذا.
ولما حضرته الوفاة أخذت ابنته تبكي، فقال: [[ابكي أو لا تبكي، فوالله إني من أهل الجنة]] قال الذهبي: صدقت هنيئاً لك ومريئاً، والله إنه من أهل الجنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة.
فمن الدروس التربوية هنا: أن على الأستاذ والمربي وصاحب البيت أن يربي ابنه على هذا، فيقول: إذا حفظت جزءاً أو شيئاً من القرآن؛ دعاك الله يوم القيامة على رءوس الأشهاد، وألبسك حللاً من حلل الجنة، والحافظ منكم يدعوه الله كما صح في الحديث ويقول: {اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك أو درجتك عند آخر آية تقرؤها} وهذه الأماني والتربية التي أحدثها صلى الله عليه وسلم في الكون، ولذلك بقيت تربيته خمسة عشر قرناً.(262/14)
إنشاده صلى الله عليه وسلم وجواز الحداء
النشيد في المعركة هو أغاني المعركة التي تستحبه العرب دائماً، فهم ينشدون، فالرسول صلى الله عليه وسلم أنشد واستمع له، وردد الصحابة معه صلى الله عليه وسلم، فلك أن تنشد وأنت مسافر، وذكر ابن الجوزي في كتاب مناقب عمر: أن عمر قال: [[أنشدوا لنا في السفر، فهو زاد الراكب]].
فما أحسن النشيد الذي يحثك على طاعة الله! ويحبب لك القدوم بين يدي الله عز وجل ويرفع من معنوياتك! وهذا يسمى الحداء عند العرب، وسبب الحداء -كما مر معنا في مناسبة- أن رجلاً من العرب ضرب غلامه، فبكى الغلام، فأخذت الرواحل تهز رءوسها وتمشي بقوة، فاكتشف هذا الاكتشاف العجيب، أن الإبل تسرع على الحداء، فكانوا ينشدون.
وفي صحيح البخاري أن أنجشة صاحب الصوت الجميل أخذ ينشد فأخذت الجمال تلعب بالنساء على ظهورها وتكاد أن تسقطهن، ويقول عليه الصلاة والسلام: {يا أنجشة! رويداً بالقوارير} -يعني بالنساء لا تسقطهن من على الجمال.(262/15)
جواز المزاح بضوابط
وفيه مداعبته صلى الله عليه وسلم لـ زيد بن ثابت، وجواز المزاح إذا لم يخل بالشرف، ولم يكن فاحشاً ولا مكثراً صاحبه، قيل لـ سفيان الثوري: المزاح هجنة، أي يهجن الإنسان، ويقلله ويصغر من قدره، قال: بل سنة، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ألطف الناس، وكان قريباً إلى القلوب، لأنه يأسر الأرواح إلى الله عز وجل، ولم يكن يقبض وجهه في وجوه الناس؛ لأنه يريد أن يقود الناس إلى جنة عرضها السماوات والأرض، لذلك يقول فيه سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].(262/16)
علي بن أبي طالب يذبح طاغية المشركين
وعلي دائماً فارسٌ في القتال، وهو صاحب أسطورة التضحية والبذل في سبيل الله، فرضي الله عنه وأرضاه، أقبلت إليه الدنيا وقد تولى الخلافة فأدبر عنها، وأخذ يقول للشباب وللأجيال وللمدارس وللمؤسسات العلمية وهذه المقولة مكتوبة في صحيح البخاري يقول: [[يا أيها الناس! إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل]] رضي الله عن عبده المرتضى علي بن أبي طالب، وسيفه المنتضى، وحشرنا معه في جنةٍ عرضها السماوات والأرض.(262/17)
تأخير صلاة العصر ودعاؤه صلى الله عليه وسلم على المشركين
وقد صح في أحاديث أن الصلوات التي فاتته يوم الخندق وهو محاصر: صلاة الظهر وصلاة العصر، وصلاة المغرب ثم دخل في صلاة العشاء، هذا في روايات، وبعض أهل العلم يصحح صلاة الظهر، وبعضهم يضعفها، لكن الذي في الصحيحين أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {شغلونا عن الصلاة الوسطى -صلاة العصر- ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً} وفي رواية: {شغلونا عن الصلاة الوسطى -صلاة العصر- ملأ الله صدورهم وقبورهم ناراً} يعني المشركين.
وسبب ذلك أن عمر أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! والله ما صليت العصر! قال صلى الله عليه وسلم: وأنا والله الذي لا إله إلا هو ما صليت العصر إلى الآن -وقد غربت الشمس- فأتى عليه الصلاة والسلام بعدما غربت الشمس، فأذن بلال وأقام فصلى الظهر؛ وهذا في رواية ذكرها ابن كثير ثم صلى العصر ثم صلى المغرب، ثم صلى العشاء} ثم بيَّن صلى الله عليه وسلم في هذا أموراً، وأول شيءٍ نستفيده أن الصلاة الوسطى صلاة العصر: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فالقول الراجح أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
الأمر الثاني: ما هي العلة في أن يؤخر صلى الله عليه وسلم الصلوات هنا، والله عز وجل قد شرع صلاة الخوف وقت المعركة؟
فالسؤال المطروح: لماذا لم يصل صلى الله عليه وسلم صلاة العصر وقد فرض الله صلاة الخوف؟ يجاب عن هذا بجوابين لا ثالث لهما عند أهل العلم:
الجواب الأول: أن صلاة الخوف لم تنزل إلا متأخرة، ولم تفرض صلاة الخوف آنذاك، ولو فرضت لصلاها عليه الصلاة والسلام صلاة الخوف، وهذا جواب للإمام الشافعي، ورد عليه أن صلاة الخوف نزلت قبل الخندق، فلا دليل له إذاً في النسخ.
وقيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم نسي الصلوات، وهذا جوابٌ بعيد ولا أعده من الجوابين، لكن أورده ابن كثير وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم نسي هو والصحابة الصلوات، فما صلوها إلا بعد المغرب.
وقيل: يستبعد أن ينسوا؛ لأنهم أكثر الناس اهتماماً بالصلاة، ولأنهم جمعٌ غفير فكيف ينسون كلهم ويجمعون على النسيان؟ لا يكون هذا.
والجواب الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم شغل حتى ما استطاع أن يصلي صلاة الخوف، فأخرها صلى الله عليه وسلم فبدأ يصليها مرتبةً صلى الله عليه وسلم.
القضية الأخرى الكبرى: من فاتته صلواته فهل له أن يقضيها مرتبة، أو له أن يقدم أو يؤخر فيها.
وهذه تشمل صورتين: مثلاً نمت عن صلاة العشاء، وصلاة الفجر، وصلاة الظهر، وصلاة العصر، واستيقظت بعد صلاة العصر، فماذا تفعل؟
السنة أن تقضيها مرتبة، فتبدأ بالعشاء ثم الفجر، ثم الظهر، ثم العصر هكذا، ولا تقدم بعضها على بعض.
واستدل الشافعية بترتيب الفوائت بهذا الحديث، لكن هنا صورة يوردها ابن تيمية، مثلاً: نمت أنت عن صلاة الظهر، وأتيت المسجد، فوجدت الناس يصلون العصر، فهل لك أن تدخل معهم لتصلي العصر، ثم تصلي الظهر بعدها، أم تنفصل وتصلي الظهر ثم تدخل معهم؟ أم تصلي الظهر معهم وهم يصلون العصر فتشاركهم في صلاة العصر، وأنت تصلي الظهر؟ لك حلان في هذه المسألة:
أولاً: لك أن تدخل معهم بنية أنك تصلي الظهر وهم يصلون العصر، فتصلي الظهر ثم تصلي العصر بعد.
ثانياً: أن تدخل معهم فتصلي العصر، فإذا صليت العصر فصل بعدها الظهر، وهذه الصورة التي يقع فيها كثير من الناس وحلها كما ذكرت، والحل الأخير هو الأصوب والراجح إن شاء الله فيما يظهر، فتدخل معهم في صلاة العصر، فإذا صليت العصر فصل بعد العصر الظهر.(262/18)
سعد بن معاذ وجرحه في الخندق
إن الشهيد الذي يقتل في غير معركة يغسل؛ لأنه أثر أنه غسل؛ لأنه ما مات في المعركة مباشرةً، وإنما مرَّض فترة من الزمن، ثم مات بعدها من هذه الجراح، فغسِّل وكفن وصلي عليه، فالشهيد الذي لا يقتل مباشرة في المعركة، وإنما يبقى فترة أشهر يغسل ويصلى عليه، هذا هو الراجح في هذه المسألة.(262/19)
نعيم بن مسعود الداهية الأريب والدبلوماسي الناجح
فهذه من كلمات بعض أهل العلم في هذا العصر؛ يتحدثون عن أحد الناس الذين شتتوا كلمة المشركين، فـ نعيم بن مسعود مسلم من غطفان، أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أسلمت، وإن لي رأياً ومكيدةً في الحرب، فهل تأذن لي أن أشتت كلمة المشركين، وأن أقول في غيابك ما أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: خذل عنا ما استطعت، أي خذل في صفوف المشركين في صالح الإسلام ما استطعت.
فذهب هذا الإسلامي الأريب الداهية إلى المشركين، فأتى كل قبيلة على حدة، ظاهره النصيحة، وباطنه يريد أن يفت في عضدهم ويشتت شملهم، فذهب إلى كفار قريش فقال: أما ترون أني أخوكم وأني ناصحٌ لكم؟ قالوا: لا نتهمك، قال: أرى أن اليهود سوف يقولون لكم إذا نزلتم في المدينة، لا نقاتل معكم حتى تعطونا أسرى من أشرافكم، وقصدهم أنهم يذبحونهم أو يقدمونهم لمحمد لأنهم اتفقوا مع محمد وقد لاموا أنفسهم على حربه وقالوا: إذا أتانا المشركون فسوف نأخذ من أعيانهم أناساً ونعطيك إياهم فداءً فاقتلهم وارض عنا، قالوا: أصبت ونصحت وأجدت، وهذا العهد بك.
ثم ذهب إلى غطفان وقال: يا غطفان! أنا أخوكم وصديقكم ولا تتهموني، قالوا: لا نتهمك أنت الناصح، قال: إن اليهود سوف يأخذون من أشرافكم أناساً ويطلبونكم أسرى؛ فلا تعطوهم أسارى فإنهم سوف يعطونهم محمداً يقتلهم لأنهم ندموا، قالوا: أجدت وذلك العهد بك.
ثم ذهب إلى اليهود وقال: يا بني قريظة! أنا صاحبكم وأخوكم، قالوا: صدقت لا نتهمك، قال: فإن قريشاً وغطفان سوف يقاتلون محمداً ثم يذهبون، ويتركون الدائرة عليكم فيقتلكم ويسبي ذراريكم، فأرى أن تأخذوا من أعيانهم أسارى، وتأخذوا من وجوههم أناساً، ليكونوا أسارى عندكم حتى يقاتلوا معكم إلى آخر المعركة، قالوا: ذاك الرأي ولا نتهمك.
فالتقوا جميعاً فبدأت اليهود تقول: أعطونا من أعيانكم، فقالت قريش: صدق نعيم بن مسعود يا أعداءنا! أو كما قالوا، وقامت غطفان وقالوا: نصحنا نعيم بن مسعود، فأخذوا يتحاثون بالتراب ويتسابون ففت الله في عضدهم.
ولذلك المكيدة جائزة ضد أعداء الله عز وجل، والحرب خدعة، ولك أن تخدع أعداء الله عز وجل، أو كل كافرٍ ومنافق بما للإسلام صلاح، وأن هذا ليس من النفاق، ولا يعد من الذنوب وإنما يعد في الصالح العام.(262/20)
إدخال الناس عشرة عشرة على الطعام
ويمكن أن يؤخذ منه سنة أن من يجلس على المائدة -هذا الأولى والأحسن اقتداءً بفعله صلى الله عليه وسلم- أن يكون عشرة عشرة، فإذا قدمت الناس في وليمة أو في مناسبة فاجعلهم عشرة عشرة لتصيب السنة كما فعل عليه الصلاة والسلام، وليتنا نطبق في أمورنا وشئوننا في الحياة كما نفعل في الطعام، فأحاديث الطعام والحمد لله محفوظة، لكن أحاديث القيام بأمر الله عز وجل وبالاستقامة على أمره تنسى كثيراً.
فإن من قدم إحدى عشر على مائدة سوف يبقى من أهل السنة والجماعة إن شاء الله، ولكن لو قدم عشرة لا بأس، وإذا نقص ضيوفك وما كانوا إلا ثمانية فلا تؤخرهم؛ حتى تبحث عن اثنين وتحضرهم، فيجوز أن تقدمهم ثمانية بالإجماع.(262/21)
ابتلاء المؤمنين
ومنها امتحان المؤمنين بالخوف والفزع، فبعض المرات حين تأتيك الأزمات اعلم أنها تربية من الله عز وجل وتهذيب لروحك، تخاف من امتحان أو رسوب، تأتيك زلزلة، أو مرض، أو محن، أو حادث يصاب به قريبك، فاعلم أنها تربية روحية لقلبك لتتصل بالله عز وجل، وأنت لا تدري هل التربية في الأمن أم في الخوف، أو في الجوع أو في الشبع، فاعتبر أن كل منزلة ينزلك الله عز وجل فيها أنك إنما تتعبد الله فيها، حتى يقول ابن تيمية: إن كل لحظة يمر بها المؤمن هي تربية له فتدبر ذلك.
وابن الوزير العلامة اليمني صاحب العواصم والقواصم يقول في كتابه إيثار الحق على الخلق: إن الله عز وجل قد يبتلي بعض الناس بالمصائب والأحزان والخوف يبتليهم ليردهم إليه، وليدخلهم باب التوحيد، فالتوحيد لا يحصل بمحاضرات ولا قراءة كتب، لكنك كلما زلزلت وامتحنت كلما زاد توحيدك واعتصامك بالله عز وجل، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].(262/22)
فوائد عن صلاة العصر في بني قريظة
ومنها صلاة العصر في بني قريظة, وهذا فيه لأهل العلم كلام، يقول عليه الصلاة والسلام: {لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة} فكان فهم الصحابة لهذا الخبر على قسمين:
قسم يظنون أنه يريد صلى الله عليه وسلم العجلة، ولكن ليس على ظاهر الخطاب، فصلوا العصر في أماكنهم أو في الطريق، وذهبوا إلى بني قريظة، وقسم أخروا صلاة العصر حتى صلوها في بني قريظة؛ لأنهم فهموا أن المراد الظاهر.
ونستفيد منه فوائد:
أولاً: أن الخلاف وارد في هذه الأمة، وأن الخلاف في الفروع جائز، وأنه رحمة واسعة، كما يقول ابن تيمية: الإجماع حجة قاطعة، والخلاف رحمةً واسعة، وأن الخلاف يجري حتى بين الصحابة، ولا يشنع أحدٌ على أحد، ولا تتقاتل الأمة إذا اختلفت في وضع اليدين على الصدر، أو وضعها تحت السرة، فلا يقوم أحدٌ فيدعو أدبار الصلوات أن الله يجعل كيدهم في نحرهم ويدمرهم، ويجعلهم غنيمة للمسلمين؛ من أجل أنهم وضعوا أياديهم تحت السرة، لا يكون هذا، وأن أحدهم إذا قام فرأى أنه يجهر بالبسملة لا يخرج من الملة والدين، بل يبقى من المسلمين إن شاء الله.
فهذه مسائل فرعية يُختلف فيها دائماً وأبداً، وأنت لا تنازع كثيراً، إذا رأيت إنساناً اقتنع بهذا الفكر في الفرعيات، فاتركه وادع الله له، والمسألة في سعة والحمد لله.
أما أن يحمل بعضنا على بعض الضغائن في هذه الجزئيات، فهذا من قلة الفقه في الدين، وقلة العلم، وهذا الوارد والمعروف إن شاء الله.
ولذلك قد تشغل المجالس ويرتفع الصوت، ويتهاجر الأحباب؛ على مسألة من يبدأ به في المجلس بالفنجان، هل من وسط المجلس أو من آخره؟
وقد يأتي بعض طلبة العلم -إذا سميناهم طلبة علم- فيختلفون، فبعضهم يقول: تدور الأرض حول الشمس، وبعضهم يقول: الأرض ثابتة، فيقومون يقتتلون، وبعضهم يعض بعضاً ويتقرب بدمه إلى الله، يقول الشيخ/ علي الطنطاوي: الله لا يسألنا يوم القيامة ولا يسألنا منكر أو نكير، هل الشمس تدور أم الأرض تدور، فهذه من ترف المسائل، فنحن لسنا من علماء الهيئة، فالله يعلم بها، نشهد بأن الله الذي خلقها، وأنه الذي خلق الشمس ولا تزيدنا هذه المسائل إلا إيماناً، سواء تدور ثلاثين مرة أو واحداً وثلاثين مرة فالحمد لله والشكر، ولا ندخل أنفسنا في هذه المسائل.
ولذلك ذكر أن بعض الناس نزل في بادية عند عوام وعندهم عرس في خيمة -أخبرنا بهذا ثقات، والثقات كثروا في هذا العصر- فأخبرنا فقال: حضرنا هذه الوليمة، وقلنا لبعض هؤلاء تكلم في الحاضرين، قال: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، سمعتم المقالة الآثمة التي صدرها الكفار أنهم يقولون: إن الأرض تدور، ووالله الذي لا إله إلا هو إنها لا تدور، ثم أخذ يورد الحجج، من ضمن الحجج القوية التي أوردها يقول: منذ أن خلقني الله في قرية بني فلان ما دارت القرية، فانظر إلى هذا الرد العلمي الوجيه القوي، كيف يرد هذا الرد.
المسألة تطول، لكن الشاهد من القصة أن الخلاف وارد.
والفائدة الثانية: من الصلاة عند بني قريظة أن من أخر الصلاة لعذرٍ وجيه، من نوم أو لأنه ظن أن الوقت معه فبان خلاف ذلك، فإن شاء الله ليس ملاماً، أما من أخرها بدون عذر وخرج وقتها فإنه قد أبطل وقتها وأبطل أداءها، حتى قال بعض أهل العلم: إذا أخرها متعمداً حتى خرج وقتها، فلا يقضيها؛ فإنه ذاك الوقت بلغ درجة الكفر، فالمسألة مسألة وقت، لكن الصحابة تأولوا في هذه المسألة رضي الله عنهم وأرضاهم.(262/23)
كرامات الأولياء وخرافات الدجالين
ومنها أن الملائكة شاركت في المعركة وهذا عضد للرسول صلى الله عليه وسلم وأنها كرامات لأولياء الله لا تنقطع أبد الدهر، سواءً في عهد الصحابة أو في عهدنا، فإذا سمعتم بالكرامات فلا تكذبوها.
ولكن كذلك لا نشرك في سماع الكرامات، وذلك كأن تأتينا كل يوم عجوز تحدثنا: أنها رأت ملائكة تنزل من السماء، وأنها صلت على سطح بيتها، أو كذا فنقول: ما شاء الله صدقتي، لأن الملائكة شاركت في بني قريظة! فنحن نؤمن بالكرامة، لكن إذا ثبتت بأسانيد، وكانت لا تخالف القواعد الشرعية.
وهنا خطبٌ عجيب وكذبٌ صراح: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] يقول الكاتب: إخواني المسلمين، أخواتي المسلمات فرصة: فتاة عمرها ثلاث عشرة سنة مرضت مرضاً شديداً وعجز الأطباء في علاجها، وفي ذات ليله اشتد عليها المرض وبكت المسكينة حتى غالبها النوم، ورأت في منامها: بأن السيدة زينب رضي الله عنها وأرضاها وضعت في فمها قطرات، وبعد أن استيقظت من النوم وجدت نفسها أنها قد شفيت من مرضها تماماً، وطلبت منها السيدة زينب رضي الله عنها: أن تكتب هذا الرواية مرةً واحدة، لا أدري في أبها أو في خارج أبها على المسلمين والمسلمات لينظروا في قدرة الله تبارك وتعالى، وعند توزيع النسخة وجدت الآتي:
النسخة الأولى: وصلت إلى يد فقير، كتبها ووزعها على الناس وبعد مضي ثلاثة عشر يوماً أغناه الله عز وجل، بعد ما كتبها ووزعها، ووصلت إلى يد عامل أهمل في كتابتها ثلاثة عشر يوماً ففقد عمله، أي فصل من العمل بقرار رجعي.
النسخة الثالثة: وصلت إلى يد غنيٍ رفض كتابتها وتوزيعها وبعد ثلاثة عشر يوماً افتقر، فنرجو إبلاغ الإخوة بها ونشرها بين الناس.
وأنا ما قرأتها، إلا لفائدة أن تعرفوا أنها كذب، لكن لتأتي بأخبار غيرها، فهذه المنشورات كثرت في الناس، ووجد قبل أسابيع وهي قبل أشهر ووزعت قبل سنوات الكتابة من خادم المسجد النبوي أحمد، أو الحرمين، أو الحرم المكي، وقال فيها كلاماً طويلاً، وهذا كذب صراح ولم يحدث هناك شيء وليس للمسجد خادمٌ كما قال بعض أهل العلم اسمه أحمد، وإنما دجلٌ وتضليل على أمة الله، وقصدهم إشغالهم عن العلم، وهؤلاء إما مخرفون، وإما أناس مستهزئون بالدين، وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
فإياكم وإياهم! لا يغرونكم عن دينكم، والغرائب هذه كثرت في هذا الزمن، كل إنسان يحدث بغريبة ويجلعها كرامة، والذي يلاحظ أن الغرائب والعجائب أمور، منها ما هو قدح في الدين، وهذا أتى على يد المشعوذين والمسمعين والكهنة والعرافين -قاتلهم الله أنى يأفكون- نصبوا أنفسهم دجاجلة في كل قرية، الواحد منهم يدعي علم الغيب، حتى سمعنا في قرية قريبة أن فيها امرأة دجالة أفاكةٌ أثيمة، أنها تقول: تعلم الغيب وتعلم البلاد التي فيها ماء، والآبار التي فيها، فيأتيها الناس ويقولون: نحن من الأرض الفلانية، فتقول: فيها ماء وفيها كذا، واحفر ثلاثة عشر متراً أو خمسة عشر متراً وسوف تجد الماء.
وهذه المرأة يعينها الجن في الخبر، وغيرها من الدجالين يعينونها، فيعطونها كلمة فتزيد عليها مائة كذبة، وهؤلاء من أتاهم وصدقهم بما قالوا؛ فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتاهم فلم يصدقهم، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة.
وأما غيرهم من الذين يستدلون بعلامات، كرؤية الصخور والعروق في الأرض والشجر، فهذا لا بأس إن شاء الله؛ لأن لهم مقداراً من الرؤية، ولهم أحاسيس في التربة أعطاهم إياها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا بأس باستخدامهم وبالاستعانة بهم في البحث عن الماء، أما الذين يدعون ولا يأتون ولا يحضرون فهؤلاء كذبة ودجلة على شرع الله، فينتبه لذاك المنشور وينتبه لهذا.
وقد أكثروا الكذب في دين الله، وانتشر بين الناس أن زينباً رضي الله عنها وأرضاها لها كرامات حتى بعد موتها، والإنسان إذا مات لا يصبح له أثر، والرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته لا يحل ولا يحرم، ومن رآه في المنام فكأنما رآه عليه الصلاة والسلام، لأن الشيطان لا يتمثل بصورته الحقيقية، فهو عليه الصلاة والسلام إذا رُئي فهي بشرى للرائي أو تحذير له، فإن بعض الناس قد يراها فيكون بشرى له، وبعضهم يراه قد يكون تحذيراً له، يقول: انتبه، إنك مجرم، وإنك مسرف على نفسك، تب إلى الله عز وجل.
وانتشر بين الناس حتى سمعنا أن بعضهم إذا عرك عينه أو دخل في عينه شيء قال: يا فاطمة بنت النبي، إن كان دقيقاً فدقدقيه، وإن كان شديداً فأخرجيه أو كما قال وهذا كذب! فإنه استعان بها وهي ميتة لا تنفع ولا تضر رضي الله عنها وأرضاها، حتى نسبوا من الأباطيل على علي بن أبي طالب ما سمعت بأذني من أحدهم أنه قال: أتينا من البلد الفلاني وفيه نهر جارٍ يجري، قلت: سبحان الله! قال: مر علي بن أبي طالب على هذا النهر، فرأى تلك الصخور، ورأى أهل الأراضي ما عندهم ماء، فضرب برمحه في الصخرة فخرج النهر، فرددت عليه وقلت: هذا كذب، قال: لا، نعوذ بالله، قاله العلماء والناس، وأنا أشهد أنه صحيح.
فالمقصود أن بعض الأساطير والخرافات ترسخ في قلوب الناس، وما علاجها إلا العلم الشرعي، وإني أدعو إخواني جميعاً إلى التفقه في الدين، وإلى نشر العلم في القرى، وفي البوادي، وفي الصحاري، فإننا والحمد لله نعيش الصحوة، لكن الصحوة التي لا تكون على قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى المصحف وصحيح البخاري وصحيح مسلم، صحوة مشكوكٌ فيها.(262/24)
واجب الدعاة
إن الصحوة الحقيقية تبنى على العلم النافع، وعلى الفقه في الدين، أما أن يبقى الناس في البوادي على خرافة وفي المدن على تعاسة، فهذه صحوة مشكوكٌ فيها، فليعلم إن شاء الله أن الأمة بخير، وأن واجبنا أن نجلس للناس، وأن نعلم الناس، ولا يستصغر أحدنا نفسه، بعض الناس يأتيه توجيه من الله وتوفيق ويقول: سوف أجلس للناس وأدرسهم هذا الكتاب، في بادية في قرية في حارة، في مدينة، فيأتي الشيطان اللعين، ولذلك يقول بعض المفكرين من الدعاة: الشيطان ثبت لدينا أن عنده شهادة دكتوراه في علم النفس، إذا أتيت من اليمين أتى بك من اليسار، فإذا صممت أن تجلس للناس جاءك، وقال لك بتلطف: من أنت حتى تجلس؟ أأنت الشيخ ابن باز؟! أأنت ابن عثيمين؟! يا فلان رحم الله امرأً عرف قدر نفسه، اجلس في بيتك وتفقه في الدين حتى تبلغ أربعين سنة، وإن تخرجت من الثانوية فادخل الجامعة حتى تأخذ الشهادة، وإذا تخرجت من الجامعة فخذ الماجستير، وإذا أخذت الماجستير فخذ الدكتوراه وتصبح أستاذ مشارك حتى يسمع الناس كلامك، وهذه خطة ماسونية، يبقى الإنسان يحضر في بيته، ويكتب مذكرات، ويقابل بين نسخة بولاق ونسخة دار الشروق، والأمة ضائعة وكل إنسان يأتي ويتخرج وعنده العلم حتى والله الذي عنده الكفاءة يستطيع أن يدرس في البوادي عندنا، وليست المسألة بالطنطنة، ضاعت الأمة ونحن نراجع حساباتنا وشهاداتنا ونعلقها براويز في البيوت، والكتب ما شاء الله امتلأ المجلس وملأنا المكتبة من المجلدات والمؤلفات والقصص، وبعد الأربعين يموت الإنسان، وينقل إلى القبر، وما سمع الناس منه شيئاً، ويضيع الناس، ولذلك الأمة ليست بحاجة لكثرة الترف العلمي.
يروي الخطيب البغدادي أن الخليل بن أحمد النحوي الذكي الذي بلغ من ذكائه أنه أتى بخمسة عشر بحراً للعروض، رُئي في المنام، قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: ذهبت بحور العروض والله ما نفعتني شيئاً، وذهب النحو ما نفعني شيئاً، قالوا: ماذا نفعك؟ قال: نفعتني سورة الفاتحة كنت أعلمها لعجائز عندنا في القرية.
إن تعليم الفاتحة لبادية من البوادي، أو لعجائز، أو لشيخين كبيرين؛ ضمينٌ أن يرفعك الله عز وجل به حتى تصير كالكوكب الدري في الجنة.
ولذلك يأتي يوم القيامة كثير من الناس يحملون شهادة الدكتوراه، فيقول الله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:24 - 25] فليست المسألة مسألة مظاهر؛ فالشكوى إلى الله عز وجل من حالنا، وما وصلنا إليه، حتى وجدت شركيات في بعض النواحي، وعندنا صور ومستندات وزعت حتى عند كثير من الوجهاء والدعاة والعلماء في هذه المنطقة، صور أناس علقوا شاة بشجرة وهم يتقربون بهذه الشاة إلى هذه الشجرة، وصور أناس علقوا تمائم على القبر، وصور أناس يطوفون بقبر، وهذا موجود في هذه النواحي، فهل بقي أن نجلس في بيوتنا ونقول ما بقي عندنا علم، أصغر واحد، حضر في هذا المجلس يستطيع أن يغطي البوادي والقبائل والقرى، وأن يعلمهم الأمور المهمة في الدين، لأن البوادي والقبائل والناس لا يسألونك عن ابن لهيعة هل هو قوي الرواية أم لا؟ ولا يسألونك عن مستدرك الحاكم، ولا يسألونك عن مدريد وأين تقع، ولا يسألونك عن استراتيجية الدعوة وديكتاتورية المبدأ، وهذه الكلمات الرنانة، إنما يسألونك عن الفاتحة، وعن التحيات، وعن (قل هو الله أحد) وكيف نتوضأ، وكيف نتيمم.
شيخ كبير كتب يقول: أنا قدمت من البادية وعندي بعض الناس، قال: وأنا لا أدري إلا اليوم أن الإنسان إذا جامع امرأته يغتسل للجنابة، فكنت أصلي ولا أدري أن عليَّ غسلاً للجنابة، سبحان الله! أربعين أو خمسين سنة يعيشها، ولا يدري أن المجامع يغتسل من الجنابة، ذنب من هذا؟!
فالله الله في الدعوة إلى الله، والجلوس للناس وتعليمهم.
نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يتغمدنا وإياكم برحمته، وأن يرزقنا وإياكم الصدق والإخلاص إنه سميع قريب مجيب الدعاء، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(262/25)
الطامة الكبرى
إن الله تعالى خلق الخلق في هذه الدنيا ليبتليهم، وليرى أعمالهم، فهذه الدنيا دار ابتلاء واختبار وامتحان.
ثم جعل الله بعد ذلك يوماً يحاسب فيه كل نفس بما عملت وبما صنعت، وذلك هو يوم القيامة.
وفي ذلك اليوم يجد كل إنسان ما قدم من عمل.
فلا ينفع مال ولا منصب ولا جاه ولا نسب، ولكن من تزود في هذه الدنيا فهو الفائز.(263/1)
إنكار المشركين ليوم المعاد
الحمد لله رب العالمين، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم من معلم أنار الله به أفكار البشرية، ونَّور به أفئدة الإنسانية، وزعزع به كيان الوثنية، وعلى آله وصحبه والتابعين له بإحسان.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس لم يكن لنا تاريخ قبل الإسلام ولم يكن لنا نور ولم تكن لنا معرفة ولا ثقافة، كنا نعيش لكن بلا هداية وبلا حبل يصلنا بالله عز وجل، حتى بعث الله فينا هذا الرسول صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] فعلمنا وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وفهمنا وأدبنا ورقى بنا عليه الصلاة والسلام.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
عنوان هذا الدرس: الطامة الكبرى.
الطامة الكبرى في القرآن والسنة: هي يوم القيامة، يوم العرض الأكبر على الله، وهي القضايا الكبرى التي عالجها عليه الصلاة والسلام للوثنيين من العرب، الذين فهموا كل شيء إلا الطامة الكبرى، وعرفوا كل شيء إلا الطامة الكبرى، وما استعدوا أن يتنازلوا أبداً ليفهموا اليوم الآخر الذي أتى به عليه الصلاة والسلام.
فهموا كل الجزئيات إلا قضيتين اثنتين: قضية الألوهية: توحيد الباري تبارك وتعالى في العبادة والتوجه، وقضية اليوم الآخر فقد أنكروها تماماً {وقَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون:82] وهذا استنكار منهم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى وهو يعالج هذه القضية ويدمغ أدمغتهم بهذه الأساسية الكبرى في الإسلام: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7].(263/2)
طرق تناول القرآن لليوم الآخر
يقول بعض العلماء: إن القرآن يتناول قضية اليوم الآخر على ثلاثة أضرب: إما بضرب الأمثلة، وإما بالابتداء الجازم، وإما بالقصص.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في مجلس مع قوم من الناس، فقدم العاص بن وائل بعظم يحته في يديه ثم نفخه، وقال: {يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذا بعد أن يميته؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم ويدخلك الله النار، ثم أنزل الله قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79]}.
وضرب الأمثلة: هو أن يضرب الله عز وجل من حياة الناس ومن استقرائهم وسبرهم ما يرونه عياناً بياناً أمامهم يدلهم على اليوم الآخر، وكثير من الناس يؤمن لكن إيمان الظن أن الله سوف يبعث من في القبور، لكن هذه القضية لو آمنا بها حق الإيمان ما كذبنا ولا غششنا ولا احتلنا ولا خادعنا ولا تأخرنا عن الصلوات ولا أكلنا الربا ولا فشا فينا الزنا، ولا جعلنا مجالسنا مسارح للغيبة، ولا هتك بعضنا عرض بعض، ولا أساء جار إلى جاره ولا أُخِذَت حقوق الناس، ولا سُلِبت أموالهم لأن هناك يوم آخر.
قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[والذي نفسي بيده لولا اليوم الآخر لكان غير ما ترون]].
أي: لتغيرت الموازين ولسطا القوي على الضعيف ولهتك الظالم عرض المظلوم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو يقرر قضية الطامة الكبرى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:9 - 11] ثم يقول الله بعد ذلك: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:6] وهذه من قضية الاستقراء وضرب المثل.
وأما التقرير بالقصص في البعث والنشور، فيا لقصص القرآن من قصص! يقول بعض أهل السير: دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه المسجد في خلافته وبيده درة -قطعة عصا يخرج بها شياطين الجن من بعض الرءوس- وإذا برجل كبير في سنه يحدث الصحابة على كرسي من خشب في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: من هذا؟ قالوا: قاص.
قال: بماذا يقص؟ قالوا: يقص على الناس من كتب دانيال -وهو رجل عاش في قدم التاريخ وهذه القصص من أساطير الأولين وفيها خرافات- فأخذ عمر درته وتقدم إلى الرجل يضربه على رأسه ويقول: ويلك يقول الله عز وجل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] وأنت تقص قصصك على الناس؟!(263/3)
من قصص القرآن في البعث والنشور
اسمع إلى أحسن القصص في قضية البعث والنشور، قضية الطامة الكبرى {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:259] هذا رجل من بني إسرائيل قيل: إنه رجل صالح، وقيل: إنه نبي على اختلاف بين المفسرين، والمقصود أنه مر بحماره على قرية بين بيت لحم وبيت المقدس، وكان عهده بالقرية أنها حية، أطيارها وحيواناتها وبشرها وحدائقها وبساتينها، ولكن الله عز وجل أهلك من فيها، فنظر إليها وقلب طرفه في السماء وضرب يمناه بيسراه وقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:259] فأراد الله أن يجري قضية الإماتة والإحياء عليه، قال بعض العصريين: أدخله الله بحماره المختبر.
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:259] ميتة لا حركة فيها ولا حياة {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة:259] قال بعض المفسرين: أماته الله ضحى، وبعثه بعد مائة سنة في وقت العصر، فلما انتبه عصراً؛ ظن أنه ما نام إلا من الصباح إلى العصر، فقيل له: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً -ثم استدرك- فقال: أو بعض يوم.
فقال الله له: {قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} [البقرة:259] وكان عنده في خرجه على حماره طعام -الله أعلم به- ومكث الطعام عنده مائة سنة ولم يتغير، فسبحان الذي ما غير الطعام ومن طبيعته أن يتغير! وسبحان من أمات هذا في لحظة وأحياه بعد مائة سنة وقد بلي!
ثم أحياه الله قال: {كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِك >) [البقرة:259] كان حماره ميتاً فلما قام بحث عن حماره فوجد الجلد أصبح بالياً متقطعاً على التراب، فقال: أين الحمار؟! فأراه الله أنه قد أصبح في عالم آخر وأصبح رفاتاً ليريه الله عز وجل كيفية الإحياء، فركبه الله بكلمة "كن" {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ركب العظام أمامه، ثم قال للحم: كن لحماً فكسا العظام لحماً، ثم ركب الجلد على الحمار، ثم نفخ الروح في الحمار فهز رأسه ومشى، ثم قال: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] أي انتبه لا يخالجك شيء من شك أو ظن أو أوهام أو حدس: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] وأن الله سوف يبعث من في القبور وأن هذه القضية الكبرى هي التي أتت بها الأنبياء والرسل بعد التوحيد.
القرآن يقرن كثيراً بين التوحيد والإيمان باليوم الآخر؛ لأنها القضية التي إذا ما رسخت في القلوب والعقول صلحت الأمة بإذن الله.
خرج إبراهيم عليه السلام إلى ضفاف نهر -قيل: دجلة، وقيل: غيره- فرأى بقرة منحورة على شاطئ الماء وقد أتت النسور والغربان والذئاب والكلاب تأكل من هذه الفريسة، قال: يا رب! أنت تعيد الخلق يوم القيامة، وكذلك الحيوانات، فكيف تعيد هذه البقرة؟! فقد أصبح لحمها في بطون السباع والكواسر من الطيور، فلما قال ذلك؛ ذكر الله قصته، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة:260] هو لم يشك لكن يقول كما قال عليه الصلاة والسلام: {ليس الخبر كالمعاينة} وعند البخاري في كتاب الأنبياء يقول عليه الصلاة والسلام: {نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام} والمعنى عند المحدثين على طريقتين:
قيل: لو كان يشك فمن باب أولى أن نشك نحن؛ لأننا أقل إيماناً منه وهذا على وجه التواضع، فهو لم يشك إذاً.
وقيل: ما دام أنه خاطر قلبه هذا الوارد، فنحن لا نأمن على قلوبنا أن يأتينا مثله.
والمعنى الأول هو الصحيح {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى -يعني آمنت- وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] قال الله: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة:260] قيل: ضمهن وقال بعضهم: قطع رءوسهم، فقطع الطيور ولا يهمنا أن تكون كما قال صاحب الخازن وغيره: وزاً أو بطاً أو حماماً أو دجاجاً
خذا جنب هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق
المقصود أنها طيور حية قطع رءوسها وأخذ الرءوس في يده ونثر لحومها وريشها وأجنحتها ودماءها على الجبال ثم نزل في السهول، وقال: تعالي بإذن الله؛ فأتى العظام والريش والأجنحة وتركب كل جزء من أجزاء الطائر ثم طارت قال الله: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260].(263/4)
القرآن يتحدث عن اليوم الآخر
تعال إلى القرآن وهو يتحدث عن اليوم الآخر الذي ينبغي أن نعيشه في حياتنا، يقول ابن كثير في كتابه البداية: مر عمر رضي الله عنه وأرضاه فسمع أبي بن كعب يقرأ بالناس قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:24 - 25] فوضع الدرة من يده ووقع على الأرض وحمل إلى بيته ومرض شهراً كاملاً يعودونه لا يدرون مرضه! هذا أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه.
وقال الذهبي في المجلد التاسع من سير أعلام النبلاء: عن ابن وهب وقد ألف كتاب أهوال يوم القيامة، فأتى يقرؤه على الناس فسقط مغشياً عليه ثلاثة أيام ثم مات في اليوم الرابع! فهذا عبد الله بن وهب عالم مصر، وهو من رواة الصحيحين، محدث شهير جهبذ كبير، يروي مائة ألف حديث، قال عنه الإمام أحمد: ما رأينا أعبد منه.
هذا الرجل سقط مغشياً عليه بعد أن ألف كتابه أهوال يوم القيامة فنسأل الله عز وجل أن يسهل علينا وعليكم أهوال يوم القيامة.
إذا قيل أنتم قد علمتم فما الذي عملتم وكل في الكتاب مرتب
وماذا كسبتم في شباب وصحة وفي عُمُرٍ أنفاسكم فيه تكتب
فيا ليت شعري ما نقول وما الذي نجيب به إذ ذاك والأمر أصعب
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب
يقول تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] وتنكير اليوم تعظيم له، ولم يضفه ولم يعرفه بأل {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
من ميزة هذا اليوم أنه اليوم الذي يعود الخلق فيه إلى الله، وهذا أسلوب القرآن كلما أراد أن يذكر اليوم الآخر ذكر الرجعة؛ لأننا بدأنا من هناك وسنعود إلى هناك {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] والله يقول: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} [الأنعام:94].
يقول بعض المفسرين: سبب نزول هذه الآية أن أبا جهل عليه غضب الله يقول: يزعم محمد أن لربه تسعة عشر من الملائكة أنا أكفيكم بعشرة وأنتم اكفوني بتسعة! فقال الله عز وجل: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} [الأنعام:94] وقيل هذه القصة سبب لقوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] ثم قال: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} [المدثر:31].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى راداً على من قال: يأتي بحشمه وجنوده وأبنائه {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95].
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
هذه القصيدة قالها الواسطي لـ نور الدين محمود زنكي سلطان الشام، وكان قد عمل مهرجاناً جمع فيه الجيوش في دمشق فلما اجتمع الناس وظهرت الزينة واستعرض الجيش، خرج عليه الزاهد الواسطي فألقى عليه هذه القصيدة قالوا: فأغمي عليه من البكاء وسقط مغشياً عليه حتى رش بالماء! يقول فيها:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل نور الدين جاء مسلماً فاحذر بأن تأتي وما لك نور
حرمت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور(263/5)
الطامة الكبرى وتباين الناس فيها
أيها المسلمون: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] هذه هي الطامة الكبرى، وليوم القيامة أسماء منها: الغاشية والزلزلة والقارعة والطامة الكبرى والصآخة والحآقة، وغيرها من الأسماء {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] قال سيد قطب: نعرض مجردين مكشوفي السرائر والضمائر، الجسم مكشوف، والتاريخ مكشوف، والسجل مكشوف لله رب العالمين؛ فنسأل الله أن يسترنا وإياكم يوم الفضائح، وأن يغفر لنا ولكم الزلات، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل.(263/6)
حال الصحابة مع الطامة الكبرى
{أتى أعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث سنده جيد- فقال: يا رسول الله! أين ألقاك يوم الزحام؟ (أي يوم العرض الأكبر)؟ فقال عليه الصلاة والسلام: في إحدى ثلاث مواطن لا أغادرها: إما عند الصراط، أو عند تطاير الصحف، أو عند الميزان}.
علم الصحابة كان علم اليقين وأما علمنا فهو ظن، والفارق بيننا وبينهم أنا نسمع عن اليوم الآخر ونعرف أن هناك يوم آخر ولكن هم يعملون ويكدحون ويتهيئون له، فأما نحن فقاعدون غافلون، هذا هو الفارق العظيم.
من الذي جعل جعفر الطيار رضي الله عنه يأتي إلى مؤتة فتقطع يمينه ويساره ويحتضن الراية بعضديه ويقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
من الذي جعل أنس بن النضر يقول لـ سعد بن معاذ: [[إليك عني، والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة من دون أحد]].
قال أهل التاريخ -وأصل الحديث عند البخاري في كتاب الجنائز: باب البكاء على الميت-: لما حضرت معركة أحد أتى عبد الله بن حرام الأنصاري والد جابر رضي الله عنه وأرضاه، فتمنى على الله الشهادة ورأى في المنام أنه أول قتيل في المعركة، وحضر معركة أحد بعد أن لبس أكفانه وسأل الله قبل المعركة بقوله: اللهم خذ هذا اليوم من دمي حتى ترضى.
وقتل رضي الله عنه.
قال جابر: فأتيت الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي مسجىً في ثوب، وأنا أبكي والناس ينهونني عن البكاء والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، فقال جابر -وقيل عمة جابر أخت عبد الله كما قال الشوكاني - قالت: يا رسول الله أأخي في الجنة فأصبح محتسبة أم هو غير ذلك؟ قال: {إنها لجنان كثيرة وإن أخاك في الفردوس الأعلى}.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: {يا جابر! أتدري ماذا فعل الله بأبيك؟ قال: لا.
يا رسول الله.
قال: والذي نفسي بيده! لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان فقال: تمن يا عبدي.
قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية.
قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون؛ فتمن.
قال: أتمنى أن ترضى عني؛ فإني قد رضيت عنك.
قال: فإني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً}.
وقال سبحانه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان:27] قيل: يا ليتني اتخذت الرسول صلى الله عليه وسلم سبيلاً وطريقاً اهتدي به، وأل في الرسول هنا للعهد وهو محمد صلى الله عليه وسلم، أي: يا ليتني اتخذته إماماً وقدوة، وقد أغلق الله أبواب الجنة بعد مبعثه عليه الصلاة والسلام فلا تفتح إلا من بابه.(263/7)
حال المعرضين عن الطامة الكبرى
يتعرض شيخ الإسلام ابن تيمية لـ ابن الريوندي الملعون، أحد الزنادقة والفلاسفة الكبار، وهو محسوب على المسلمين وله بعض الكتب ويقولون عنه: فيلسوف الإسلام وهو عدو الإسلام، هذا الفيلسوف وقف على نهر دجلة ومعه كسرة خبز، فمر أحد العبيد بخيول وإبل، فقال: يا رب! ترزق هذا العبد الخيول والإبل وأنا فيلسوف الدنيا ما أجد كسرة!! هذه قسمة ضيزى، ثم رمى بالخبز في النهر.
هذا الملعون لما عرض له ابن تيمية قال: من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدى غير هدى الله الذي أرسل به محمداً عليه الصلاة والسلام؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.
ويقول في مختصر الفتاوى: كل أرض لا تشرق عليها شمس الرسالة فهي أرض مغضوب عليها، وكل قلب لا يرى شمس هذا الدين فهو قلب ملعون - (أو كما قال) - وهذا هو الحق {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وعند مسلم في الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار -وفي لفظ آخر- ولا يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار} هذه دعوته.
يا مدَّعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهوينا
خذها جميعاً تجد فوزاً تفوز به أو فاطرحها وخذ لبس الشياطين
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28] وهم جلساء السوء وأدعياء الضلالة وعصابات الإجرام الذين وقفوا في طريق الأنبياء والرسل فصدوا عن سبيل الله، بالدسائس وبالأغراض وبالأذى، وبكل ما يصد عن منهج الله عز وجل: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:29].
وهذه سنة الله عز وجل: أن يبقى الصراع أبدياً بين أهل الخير وأهل الشر {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] أي: هادياً يهدي القلوب ونصيراً ينصر أولياءه.
ويقول سبحانه عن الطامة الكبرى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} [طه:102 - 104] وهذا مشهد من مشاهد يوم القيامة يأتي أهل الدنيا والأعمار الطويلة والساعات الفارغة التي صرفوها في الغناء الماجن وفي الغيبة والنميمة وفي شهادة الزور ومتابعة السهرة الحمراء والمجلة الخليعة والصد عن منهج الله.
يقول الله لهم: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:112 - 116] أي نزه الله نفسه عما يعتقده البعض أن الله خلق الناس عبثاً.(263/8)
حال الملوك عند الموت
دفن الخليفة العباسي المهدي وقد كانت ميزانيته كما يقول الذهبي: ثلاثمائة ألف ألف دينار في خزائنه، ثم سلب في صباح يوم باكر قال بعض المؤرخين: إنه شرب ماء بارداً فشرغ بالماء وغص به، وعنده الأطباء مثل ابن بختيشوع وأطباء الدنيا، ولكن:
مات المداوى والمداوى والذي صنع الدواء وباعه ومن اشترى
فمات على فراشه والوزراء على رأسه والعلماء والأطباء والأمراء، يقولون: إنه كان يقول وهو يشرغ: أأموت الآن؟ قالوا: نعم تموت.
فحملوه إلى المقبرة قال أبو العتاهية:
نح على نفسك يا مسكيـ ـن إن كنت تنوح
يقول: الذي يبطح الرجال له يوم يبطحه الله على رءوس الرجال، فهذا البطاح الذي كان يبطح الملوك في الأرض بطحه الله
كل بطاح من الناس له يوم بطوح ستر الله بنا أن الخطايا لا تفوح
وأتى ابنه هارون الرشيد فبنى قصراً عظيماً في الرقة، وستره بالستور وجعل فيه الحدائق والزهور وأجرى فيه الماء، وأخذ فيه الحيوانات والطيور، ثم قال للشعراء: ادخلوا وامدحوا القصر؛ فدخل أبو العتاهية بين الشعراء فقال لـ هارون الرشيد:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
قال: هيه (زد).
قال:
يجري عليك بما أردت مع الغدو مع البكور
يقول: بما تريد من الدنيا من المطعومات والملبوسات والمفروشات أنت في راحة.
قال: هيه.
قال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
قالوا: فخلع الستور، ونزل من القصر، وسكن بغداد.
يقول الوليد بن عبد الملك وهو في سكرات الموت ويلطم وجهه ويقول: يا ليت أمي لم تلدني {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:27 - 29] لكن أهل التقوى وأهل البصيرة وأهل الولاية لا يقولون ذلك.(263/9)
حال الصالحين عند الموت
في ترجمة سعيد بن المسيب، عالم التابعين وزاهد الأمة لما حضرته الوفاة بكت ابنته فقال: [[لا تبكي علي، والله ما أذن المؤذن منذ أربعين سنة إلا وأنا في مسجد محمد عليه الصلاة والسلام]].
هنيئاً لك:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيباً بماء فعادا بعد أبوالا
هذه مؤهلات المخلصين: صلاة في المسجد جماعة وذكر وتلاوة وخشوع وزهد.
أما الأعمش سليمان بن مهران فإنه: لما حضرته الوفاة قال لابنته: "لا تبكي علي، فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام في الجماعة ستين سنة"! هذه هي المؤهلات التي تنجي أصحابها.
أما الخليفة عبد الملك بن مروان الخليفة لما حضرته الوفاة بكى وقال: يا ليتني كنت غسالاً، يا ليتني ما توليت الملك ولا عرفت الخلافة.
قال سعيد بن المسيب: " [[الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الموت ولا نفر إليهم]].
هذه القضية الكبرى علمها قوم علم الظن وعلمها قوم علم اليقين، فأما الذين علموا هذه القضية علم اليقين فحافظوا على الصلوات الخمس، وبروا مع الله، ووصلوا الأرحام، وأحسنوا إلى الجيران، وصدقوا، وأكثروا من ذكر الله، واجتنبوا الحرام، وأما أهل الظن فإنهم يصلون -ربما- مع الناس، ويصومون -ربما- مع الناس، ولكن سهرات مائعة وليال حمراء، وفجور ومراوغة لحدود الله وانتهاك لحرمات الله.
في صحيح البخاري: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام تناول ذراع الشاة فنهش منه نهشة فقال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة.
أتدرون مما ذاك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: إذا جمع الله الأولين والآخرين يقوم الناس إلى آدم فيقولون: يا آدم! اشفع لنا عند ربك أما ترى ما نحن فيه -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى نوح فيقول: اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إلى إبراهيم فيعتذر ويقول: نفسي نفسي، فيأتون موسى فيعتذر، فعيسى فيعتذر، فيأتون الرسول عليه الصلاة والسلام فيقول: أنا لها، أنا لها}.
قال حافظ الحكمي رحمه الله:
واستشفع الناس بأهل العزم في إراحة العباد من ذي الموقف
وليس فيهم من رسول نالها حتى يقول المصطفى أنا لها
وهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون صلى الله عليه وسلم، والذي ندعو له به في أدبار كل أذان: {اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه اللهم المقام المحمود الذي وعدته}.
هذه هي الدعوة التي ندعو بها لرسولنا عليه الصلاة والسلام، وهذا هو المقام العظيم في الطامة الكبرى.
في الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عباس: {إذا جمع الله عز وجل الناس، يقول الله يوم القيامة: يا بن آدم جعت فلم تطعمني، قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان جاع فما أطعمته، أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا بن آدم مرضت فلم تعدني، قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان مرض فلم تعده، أما إنك لو عدته وجدت ذلك عندي الحديث} وفي الحديث دروس منها: أن من فعل خيراً وجده {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] ومنها: أن أقرب الناس من رب الناس أنفعهم للناس وهناك حديث يحسنه بعضهم مثل السخاوي: {الخلق عيال لله عز وجل، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله} وكثير من أهل العلم من المحدثين يضعفون هذا الحديث عنه عليه الصلاة والسلام، ولكن معناه صحيح.(263/10)
مواقف من استعداد السلف للطامة الكبرى
الطامة الكبرى كانت قضية متحركة في أذهان الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم وفي أذهان السلف، يقولون عن سفيان الثوري رحمه الله: مكث يردد إذا زلزلت الأرض زلزالها من بعد صلاة العشاء إلى الفجر، وهذا في سيرته رحمه الله، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى} [النازعات:34 - 35] والطامة هي التي لا أكبر منها ولا أعظم وهي التي تطم من هولها على الناس، وهي مأخوذة من الطم: وهو تراكم الشيء بعضه على بعض والله أعلم بمراده.
ويقول سبحانه: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} [عبس:33] من الصوت الصاخ؛ وهي التي تصخ الآذان بصوتها {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] والزاد هناك تقوى الله عز وجل.
دخل سعيد بن جبير على الحجاج والحجاج قد حكم على سعيد بن جبير بالإعدام غيابياً، وظل مطارداً منه ما يقارب اثنتي عشر سنة، ذكر المباركفوري في تحفة الأحوذي المجلد الأول قصة رائعة بديعة في مقابلة هذا الإمام مع ذاك الطاغية، فقال: "دخل سعيد بن جبير على الحجاج، فقال الحجاج له: من أنت؟ -والحجاج يعرف أنه سعيد بن جبير علامة التابعين، وزاهد الدنيا، والعابد الكبير- قال: أنا سعيد بن جبير.
قال: أنت شقي بن كسير.
فقال: أمي أعلم إذ سمتني.
فقال: شقيت أنت وشقيت أمك.
فقال سعيد: ليس هذا إليك.
قال الحجاج: والله لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى.
فقال سعيد: لو أعلم أن ذلك عندك لاتخذتك إلهاً.
فأحضر الحجاج له المال من الذهب والفضة ونثره أمامه ليرى ما هو تعليق سعيد بن جبير، فلما رأى الذهب والفضة قال: يا حجاج! إن كنت اتخذت هذا المال لتكف به عذاب الله عنك؛ فنعم ما فعلت، وإن كنت أخذته رياءً وسمعة؛ فاعلم أنه لا يغني عنك من الله شيئاً.
فقال الحجاج: علي بالعود؛ فأتوا بجارية تغني وتضرب العود فبكى سعيد.
فقال الحجاج: بكيت من الطرب؟ قال: لا والله، لكن بكيت يوم رأيت عوداً قطع في معصية وجارية سخرت في غير طاعة.
فقال الحجاج: اقتلوه.
فلما قاموا لقتله، قال: ولوه لغير القبلة.
فقال سعيد: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] قال: اطرحوه أرضاً.
فقال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه:55] قال: اذبحوه.
قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، خذها يا حجاج حتى ألقاك بها عند الله غداً: اللهم لا تسلطه على أحد بعدي؛ فلما ذبحه ثارت ثائرة كالبثرة أو الدرهم -في كف الحجاج ومرض- فأخذ يخور كما يخور الثور وظل على هذه الحالة شهراً كاملاً لا يهنأ بنوم ولا بطعام ولا شراب، ويرى في المنام أنه يسبح في الدم حتى أخذه العزيز المقتدر".
أما والله إن الظلم شؤم وما زال المشوم هو الظلوم
إلى ديان يوم الحشر نمضي وعند الله تجتمع الخصوم(263/11)
شهادة فيلسوف على يوم المعاد
يقول الفيلسوف الألماني عالم النفس " كانت " في مذكرة مترجمة له: "في النظر إلى الوجود دليل على أن هناك حياة أخرى غير هذه الحياة".
هو لا يعرف القرآن ولا يعرف السنة بل يعيش كالحيوان {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] لكن نظر بالاستقراء والسبر، فقال: في النظر إلى الوجود دليل على حياة أخرى، قيل له: كيف؟ قال: لأن مسرحية الحياة لم تنته.
أي: أنه رأى كم من الظلمة ظلموا الناس ثم لا ينتصف منهم، وغالب ومغلوب ثم لا يحكم على الغالب، وتنتهي الحياة، لابد من حياة أخرى وهي حياة يوم الدين.(263/12)
وقفة مع سورة القارعة
يقول سبحانه: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 2] وسميت القارعة؛ لأنها كما قال ابن كثير وغيره من المفسرين: تقرع القلوب بهولها، وتقرع أبواب السلاطين والأغنياء والكبراء {مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:2 - 3].
يقول أهل العلم: إذا قال الله للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَدْرَاكَ} [القارعة:3] فسوف يخبره، وإذا قال: (وَمَا يُدْرِيكَ) فلن يخبره، فلما قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:3] أخبره، وهناك يقول: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب:63] ولم يخبره، أما هنا فقد أخبره بقوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:4 - 5] هذه صورة ذكرها الله للناس ليتأملوها، ووالله الذي لا إله إلا هو إنها سوف تمر بنا رأي العين وسوف نراها جهاراً نهاراً لا لبس فيها.
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شيء
فنسأل الله أن يثبتنا وإياكم في الحياة وعند الموت وفي اليوم الآخر يقول تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].(263/13)
ساعات الاحتضار ثبات وخذلان
يتحدث ابن القيم في الجواب الكافي عن سوء الخاتمة للمجرمين الذين يخزيهم الله بأعمالهم، فذكر أن رجلاً حضرته سكرات الموت، فقيل له: قل لا إله إلا الله.
قال:
أين الطريق إلى حمام منجاب
قالوا: قل لا إله إلا الله.
قال:
أين الطريق إلى حمام منجاب
فبحثوا عنه فوجدوه، كان مطبلاً مغنياً مطرباً لاهياً لاغياً لا يعرف كتاب الله ولا فرائضه.
ويقول ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين: حضروا رجلاً من التجار انهمك في الدنيا فقالوا: قل لا إله إلا الله.
قال: 5×6 كم تساوي؟ قالوا: قل لا إله إلا الله.
قال: 5×6 كم تساوي؟ نسأل الله أن يحسن خاتمتنا.
يقول الذهبي في كتاب التذكرة في ترجمة أبي زرعة المحدث الكبير الذي كتب ألف ألف حديث -أي: مليون- بالآثار والمراسيل والمقطوعات والموقوفات فقال: حضرت أبا زرعة الوفاة فأغمي عليه ولم يقل: لا إله إلا الله، فخاف أبناؤه وتلاميذه وبكوا عليه قالوا: سبحان الله! يغمى عليه وهو المحدث ولا يقول لا إله إلا الله! فاستفاق فقالوا: دعونا نذكره بحديث معاذ: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة}.
وأبو زرعة يروي هذا الحديث من عشر طرق، فأرادوا أن يذكروه فضيعوا السند من خوف موت الإمام يقول الأول: حدثنا الربيع بن سليمان وقال الثاني: حدثنا غندر، وكلاهما خطأ، فأتى هو فجلس فقال: حدثنا هشيم عن فلان عن فلان عن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} ثم مات.
! وهذه من كرامات الأولياء وهي من التثبيت لعباد الله الصالحين، فنسأل الله أن يثبتنا وإياكم يوم يضل الله أعداءه.(263/14)
مواقف من جحود المشركين
خرج عليه الصلاة والسلام -والحديث صحيح- وإذا بكفار قريش جلوس في المسجد الحرام، ومنهم: أبو جهل، فقال عليه الصلاة والسلام: قولوا لا إله إلا الله.
فقال أبو جهل: أقسم باللات والعزى لا أؤمن لك حتى تشق لي هذا القمر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أفئن شققته بإذن الله تؤمنون؟ قالوا: نعم.
فدعا الله أن يشق له القمر، فشق الله له القمر فلقتين، فقال لهم: آمنوا.
فنفضوا ثيابهم وقاموا يقولون: سحرنا محمد سحرنا محمد.
ولذلك من أسلوب السخرية بهم يوم العرض الأكبر يعرض الله لهم النار ويقول: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] أهذا سحر مثل القمر أو غير ذلك؟ {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:16].
فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى معلقاً على هذا الموقف: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:1 - 3].
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2] وفي الآية قضايا:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ولم يقل يا أيها الذين آمنوا؛ لأن الخطاب عام يدخل فيه كل من كان إنساناً، فهو للمؤمنين ولغيرهم.
{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج:2] والمرضعة هي التي ترضع في التو والحال ابنها وطفلها وتضعه على ثديها ثم تقوم الساعة؛ فلا تدري من الهول فيقع الطفل في الأرض ولا تدري أنه وقع على الأرض!
{وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} [الحج:2] قالوا: سكارى من الخوف الشديد ومن هول الأمر وليس من الخمر، أي لم يسكروا من الخمر وإنما من هول ما رأوا، فنسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو يتحدث عن أصناف من المشركين الذين أعرضوا عن اليوم الآخر وكذبوا به وتولوا عنه واستهزءوا بالبعث بعد الموت وهم ثلاثة: الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأبو جهل.
أما الوليد بن المغيرة فرزقه الله عشرة أبناء منهم خالد بن الوليد سيف الله المسلول: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الروم:19] فالميت هو الوليد والحي هو خالد، حي بالإيمان، وكان خالد قبل الإسلام ميتاً، كان ميتاً يوم ما عرف لا إله إلا الله، ولم ير النور حتى هداه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] فلما رأى النور وأبصر الضياء وعرف لا إله إلا الله أصبح حسنة من حسنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاض في الجاهلية وفي الإسلام مائة معركة ما هزم في معركة واحدة!!
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
وأبوه كفر بالله، وأعرض عن لا إله إلا الله، وكان ليله غناء وزنا وشرب خمر وربا وتخلفاً عن فرائض الله، ونهاره سفكاً وسلباً وتكذيباً، قال الله حاكياً عنه:: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر:11 - 17] قال أهل العلم: "صعودا" جبل في النار -نعوذ بالله منه- يصعد فيه المعذب مائة عام فإذا قارب أن ينهي رأس الجبل سقط على أم رأسه في وسط جهنم ثم عاد من جديد.
أما العاص بن وائل فقد كان له سيوف يصقلها عند خباب بن الأرت وخباب عبد ومولى وكلنا عبيد لله، ولكن خباب أصبح منارة من منارات الإسلام.
بلال وخباب وسلمان من أهل الجنة، وأبو جهل والعاص وأبو لهب من جثث جهنم، فهذه الأنساب ألغاها محمد صلى الله عليه وسلم إذا كانت تمييزاً عنصرياً، وإذا كانت استعراضاً للأسر.
فذهب خباب بن الأرت إلى العاص بن وائل فقال: أعطني أجرة السيوف التي صقلتها.
قال: أتؤمن باليوم الآخر؟ - يستهزئ به- قال: نعم أؤمن.
فذاك يؤمن باليوم الآخر وهذا لا يؤمن، قال: فإذاً دعني، فإذا بعثني الله وإياك في اليوم الآخر سوف أقضيك هناك فعندي أموال وأولاد؛ فأنزل الله رداً عليه: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} [مريم:77 - 80] فهذه قضية العاص بن وائل المجرم، الذي كفر باليوم الآخر، وهو صاحب العظم الذي حته أمام الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويقول أبو جهل: يا معشر قريش لا يهمكم -محمد عليه الصلاة والسلام- يتوعدكم بالزقوم يوم القيامة، أتدرون ما الزقوم؟ قالوا: ما ندري! قال: الزقوم: التمر والسمن.
فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:43 - 49] يقول -سخرية به- ذق هذا الزقوم سواء كان تمراً أو سمناً، وفسره أنت كما تريد وكما تتصور فوالذي لا إله إلا هو لتذوقنه؛ لأنك كنت عزيزاً بجاهليتك وكفرك في قومك.(263/15)
التزود من الصالحات هو النجاة يوم الطامة الكبرى
تزود للذي لابد منه فإن الموت ميقات العباد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد
والزاد: العمل الصالح، وأجمع الصالحون على أنه لا أعظم من تقوى الله عز وجل {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] قال الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور: أجمل بيت قالته العرب
الخير أبقى وإن طال الزمان به والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وسوف يرى الناس بماذا تهيئوا وماذا حصلوا وماذا جمعوا يوم يجمعهم الله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان -وهذا الكلام هو كلام يليق بجلاله سُبحَانَهُ وَتَعَالى- فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار فاتقوا النار ولو بشق تمرة}.
وذكر عليه الصلاة والسلام أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة، وهذا يوم الطامة الكبرى: عالم وجواد وشجاع.
يقول الله للعالم: أما علمك الله العلم؟ قال: بلى.
قال: فماذا فعلت فيه؟ -والله أعلم- قال: علمت الجاهل وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر.
فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقال: إنما تعلمت ليقال عالم وقد قيل؛ خذوه إلى النار.
ثم يقال للجواد كذلك وللشجاع كذلك.
وهذا مصداق قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] فأول الزاد الإخلاص: أن تقصد الله بالعمل، وأن تحذر من الرياء والسمعة كما قال تعالى: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف:29] وقال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3].
وعند مسلم عن جابر قوله عليه الصلاة والسلام: {يقول الله عز وجل: من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه} لأن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان له خالصاً كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] قيل: أي: أصوبه وأخلصه، ومعنى أخلصه: أن يكون خالصاً لوجه الله، وأصوبه: أن يكون متابعاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأول شرط: الإخلاص لوجه الله.
والشرط الثاني: أن يكون إمامك في العمل محمداً صلى الله عليه وسلم، فلا تتبع غيره ولا تقتدي بسواه، ولا تبتدع من عندك شيئاً فإن المحدثات لا يقبلها الله عز وجل ولا رسوله عليه الصلاة والسلام قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيّ} [الكهف:110] {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4] ويقول عليه الصلاة والسلام: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.
إذاً فعليك أن تتعلم العلم الشرعي وهو الشرط الثاني من شروط القبول لتنجو من الخسارة والخذلان والعياذ بالله.
ومنها: أن تكثر من السجود، روى مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: {كنت أبيت مع رسول صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: سل.
فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة.
قال: أو غير ذاك؟ قال: هو ذاك يا رسول الله.
قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود} وعند مسلم عن ثوبان: {فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة}.(263/16)
مواقف السلف في التزود للآخرة
أتدرون كم كان الإمام أحمد يصلي من غير الفرائض؟ يقول الذهبي وابن كثير وصاحب الحلية وهو شبه إجماع بين أهل السير: كان يصلي من غير الفرائض ثلاثمائة ركعة، وهو إمام أهل السنة والجماعة {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] قال ابنه عبد الله: فلما جلد أبي كان يصلي مائة وخمسين ركعة.
رحم الله الإمام أحمد وجمعنا به في دار كرامته فهو إمام أهل السنة والجماعة، ذاك الرجل الذي وقف في وجه الباطل حتى نصره الله نصراً مؤزراً ما سمع التاريخ بمثله!
سئل ابن تيمية في المجلد العاشر من الفتاوي: ما هو أفضل عمل بعد الفرائض؟ -سأله أبو القاسم المغربي - فأجاب بجواب عظيم وقال: أما أفضل الأعمال بعد الفرائض فما أعلم أفضل من ذكر الله عز وجل.
وهو شبه إجماع بين أهل العلم، وهذا الذكر هو أسهل الأعمال وأيسرها وأنفعها للعبد {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ودل عليه القرآن والسنة والأثر قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41].
ويقول عليه الصلاة والسلام عند أحمد وأهل السنن: {ألا أنبئكم بأفضل أعمالكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: ذكر الله} فهو أفضل الأعمال.
فناد إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن متا
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
والذكر يكون بالتهليل والتسبيح والتحميد والاستغفار والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعظم الذكر تلاوة القرآن.
وأما بالنسبة للذكر الكثير المذكور في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41] فقد قال ابن الصلاح: ذكر الله دائماً هو الذكر الكثير، وقال ابن تيمية: من ذكر الله بالأذكار الشرعية التي علمها معلم الخير عليه الصلاة والسلام فقد ذكر الله كثيراً، وقال ابن عباس: أن تذكر الله في السراء والضراء، والحل والترحال - (أو كما قال) -.
وأولى الأقوال كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ابن بسر لما قال له: {يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي؛ فدلني على شيء أتشبث به قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} فالله الله في كثرة الذكر، والله الله في التزود بالصالحات للقاء الله عز وجل.
ومما يجعلك تعيش هذه القضية الكبرى (الطامة الكبرى): قصر الأمل، بأن تكون قصير الأمل، وأن تستعد للموت كما مثله الحديث: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} وقال ابن عمر -وبعض المحدثين يرفعونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم-: [[إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح]].
يذكرون عن معاذ رضي الله عنه أنه قال: [[والله ما نقلت قدمي من الأرض إلا خشيت ألا أضعها من فجاءة الموت]]-أو كما قال-.
وقالوا عن الربيع بن خثيم أنه قال: [[أنا أتحرى الموت مع الأنفاس]].
ولما بلغ سفيان الثوري الستين اشترى كفناً وقال: "حق على المسلم إذا بلغ ستين سنة أن يشتري له كفناً" {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] قالوا: النذير هو الشيب، وقيل محمد، وقيل القرآن، وقيل النذير الموت، ولكن الشيب هو نذير للموت
إذا الرجال ولدت أولادها وأخذت أسقامها تعتادها
وكثرت من مرض عوادها فهي زروع قد دنا حصادها
يقول الإمام أحمد: والله ما وصفت الشباب وفواته إلا بشيء كان في يدي ثم سقط
بكيت على الشباب بدمع عيني فلم يغن البكاء ولا النحيب
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
اللهم تولنا فيمن توليت، واجعل خاتمتنا في مرضاتك وعلى سنة رسولك عليه الصلاة والسلام.(263/17)
أسباب معينة على التزود للآخرة(263/18)
تجديد التوبة
ومما يعين على التزود لليوم الآخر: تجديد التوبة دائماً وأبداً؛ فإن العبد خطاء، ومن مذهب السلف أنهم يصبحون تائبين ويمسون تائبين {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] وعند ابن حبان عن عائشة رضي الله عنها قالت: {جاء رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله إني رجل مقراف للذنوب -أي كثير الذنوب والخطايا- قال: تب إلى الله.
قال: فأعود.
قال: تب إلى الله.
قال: فأعود.
قال: تب إلى الله.
قال: إلى متى يا رسول الله؟ قال: حتى يكون الشيطان هو المدحور} {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فحق على العبد إذا أصبح أن يجدد توبته دائماً وأبداً.
وعند أبي يعلى بسند فيه نظر يقول عليه الصلاة والسلام: {يقول الشيطان: أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله وبالاستغفار} ولذلك طالما يقرن الله عز وجل بين التوحيد والاستغفار فيقول: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فإنه لا يصلح الحال إلا بإخلاص الموحد المعبود وباستغفار من التقصير الموجود، ويقول سبحانه عن ذي النون: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فالاستغفار دائماً يكون مقروناً بالتوحيد وأيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن}.(263/19)
رد المظالم إلى أهلها
ومن أسباب التزود للآخرة: رد المظالم على الناس، وهي المظالم التي أخذت من الأعراض والأموال والحقوق وذلك بأن ترد على أصحابها قبل ألا يكون درهم ولا دينار ولكن حسنات وسيئات، يؤخذ من سيئات الناس وتوضع عليك ويؤخذ من حسناتك وتدفع إلى الناس وهذه هي المقاصة عند الله يوم القيامة فلا درهم ولا دينار.
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق؛ لقي الله وهو عليه غضبان قالوا: ولو كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: ولو كان قضيباً من أراك} وهذا الحديث من رواية سعيد بن زيد بن نفيل، وله قصة فقد كانت له مزرعة في العقيق والعقيق ضاحية من ضواحي المدينة فأتت امرأة عجوز فشكته إلى مروان بن الحكم، وقالت: هذا اغتصب أرضي ومزرعتي، والمزرعة له، فدعاه مروان والي المدينة وقال: أتأخذ حقها؟ قال: ما كان لي أن آخذ من حقها شيئاً بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان} ولكن ليس له بينة وكان عليها أن تحلف أو تقسم.
فأقسمت العجوز أن الأرض لها فأخذت الأرض.
فقال سعيد بن زيد: [[اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في مزرعتها]] فعمي بصرها وذهبت تأخذ ماءً فوقعت في البئر ميتة.
وهذه من كرامات الأولياء، والمقصود من هذا أن على العبد أن يرد مظالم الناس التي أخذها من عقار ودار ومال وأعراض بسب أو شتم وأن يستغفر لهم ويتوب من ذلك وأن يستسمحهم قبل العرض الأكبر وقبل الطامة الكبرى.
هذه جولة عن هذه القضية التي يجب على الإنسان أن يعيشها صباح مساء، وأن يتأملها وأن يعلمها علم اليقين {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:1 - 8] اللهم هون علينا السؤال يوم العرض الأكبر، ويسر علينا الوقوف يوم الحشر، وتولنا فيمن توليت.
وأسأل الله أن يصلح أحوالنا الظاهرة والباطنة، ونسأله -كذلك- سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يصلح ولاة الأمر وأن يهديهم سواء السبيل، وأن يصلح علماءنا وأمراءنا وقضاتنا وموظفينا، ويصلح أمتنا وبيوتنا وشبابنا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(263/20)
الأسئلة(263/21)
زكاة الحلي
السؤال
هل في الحلي زكاة؟
الجواب
قبل أن أجيب على هذا السؤال أحب أن أبين للإخوة أن الأحكام والمسائل الفرعية يختلف فيها أهل العلم والاختلاف وارد.
يذكر ابن تيمية في مختصر الفتاوى كلمة يقول فيها: الإجماع حجة قاطعة والاختلاف رحمة واسعة، ويذكر في رفع الملام عن الأئمة الأعلام أسباباً لاختلاف أهل العلم، في هذه المسائل؟
والحمد لله أن الأمة لم تختلف في أصول دينها، ولا في معتقدها، والصحابة والتابعون وسلف الأمة أجمعوا على أصول الدين والمعتقد، أما المسائل الخفيفة فاختلفوا فيها توسيعاً للأمة ورفعاً للحرج، ومن تلك الأسباب:
أن الحديث أو الدليل قد يبلغ عالماً ولا يبلغ الآخر.
ومنها: أن الحديث قد يصح عند عالم وهو ضعيف عند عالم آخر.
ومنها: أن هذا الحديث قد يكون ثابتاً عند هذا العالم منسوخاً عند العالم الآخر.
ومنها: أن يفهم العالم من الدليل غير ما يفهمه العالم الآخر؛ فلا مشاحة، ولا منازعة.
ولا يقول القائل: لماذا يختلف العلماء؟ وما هذا الاختلاف؟ وما هذا التموج؟ وما هذا التشويش؟ لا، الحمد لله كل على بصيرة، وكما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد} فكلهم مجتهد وكلهم يطلب الحق، لكن بعضهم يوفق للصواب وبعضهم يخفى عليه.
والذي يظهر والله أعلم من أقوال أهل العلم ومن النصوص أن في الحلي زكاة لأدلة منها: أن بعض العلماء أخذوا من عموم القرآن قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34] وهذا عموم، ودلالة العموم على أفراده وارد، ومن أفراده زكاة الحلي.
الأمر الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: {أيما صاحب ذهب وفضة لا يؤدي زكاته إلا صفحت له صفائح يكوى بها جنبه وظهره وجبهته يوم القيامة -أو كما قال عليه الصلاة والسلام-} وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام عند الحاكم وأبي داود بسند صحيح: {أن امرأة دخلت على الرسول صلى الله عليه وسلم بسوارين في يديها فقال صلى الله عليه وسلم: أتؤدين زكاتها؟ قالت: لا.
قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار!} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وعند أبي داود بسند حسن أن أم سلمة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: {أكنز هذا يا رسول الله؟ قال: أتؤدين زكاته؟ قالت: نعم.
قال: فليس بكنز}.
وأيضاً حديث فاطمة بنت قيس وحديث عائشة عند البيهقي وغيرها من الأحاديث التي تدل على وجوب زكاة الحلي، ثم الاعتبار أن هذا مال وأنه من النقدين العالميين وأنه من الأحوط على العبد أن يزكي عليه، فهذا هو الرأي الصحيح إن شاء الله، فعلى المسلم أن ينبه أهله على الأمر بزكاة الحلي -سواء لبس أم لم يلبس- على رأس الحول فعليه أن يثمنه بثمن ويخرج من النقود في الألف ريال خمسة وعشرون ريالاً وفي المائة ريال اثنين ونصف ريال.(263/22)
مسافة قصر الصلاة
السؤال
ما هي المسافة التي يقصر فيها المسافر؟
الجواب
هذه المسألة مثل سابقتها فيها كلام طويل، وأحسن من تكلم فيها ابن تيمية فيما يقارب مجلداً كاملاً، والصحيح -كما قال- أن الله لم يحد ولا رسوله عليه الصلاة والسلام مسافة القصر لا بالأميال ولا بالكيلومترات وإنما الذي يسمى سفر عند الناس فهو سفر، وما تعارف عليه الناس أنه سفر فهو سفر، يقصر فيه، ويفطر فيه الصائم؛ لأن الله أطلق السفر في القرآن ولم يحده بمسافة فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فما تعارف عليه الناس أنه سفر فهو سفر، كأن يقول القائل منا مثلاً: أريد السفر من هذه المنطقة إلى منطقة أخرى فهذا سفر، لكن أن يأتي إلى منطقة قريبة ويقول: أريد السفر إلى المنطقة هذه فلا يسمى سفراً.
والأصل في ذلك أن ما يسمى سفراً في اللغة وفي عرف الناس فهو سفر والله أعلم.(263/23)
أحكام المسح على الخفين
السؤال
ما هي كيفية المسح على الخفين؟
الجواب
للخفين شروط أربعة عند المحدثين منها: أن تلبس على طهارة، ومنها: أن تكون مما يسمى خفاً في الشريعة، ومنها: ألا تتجاوز المدة، ومنها: ألا تخلع في أثناء مدة المسح.
هذه هي الشروط الأربعة، أما الشروط التي وضعها بعض الناس رحمهم الله وأنها تسعة شروط أو ثمانية، وقال: أن يكون قائماً بنفسه، جلداً، ساتراً، لا ينفذ الماء.
يقول ابن تيمية: هذه من الآصار والأغلال التي جاء محمد صلى الله عليه وسلم لرفعها عن الأمة، فالصحابة كان لهم خفاف مشققة ويمشون عليها وربما لا يستطيعون المشي عليها ويمسحون عليها.
فما ستر محل الفرض من قماش ونحوه فيمسح عليه بشرط أن يلبس على طهارة لحديث المغيرة: {دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين} وألا يخلعهما في أثناء المدة وألا تتجاوز المدة.
وهذا هو القول الراجح، وللمقيم يوم وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها لحديث صفوان بن عسال وعلي: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقت للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاثة أيام} رواه مسلم.
أما كيفية المسح: فبعد أن يلبس الخفين على طهارة، فإذا أحدث وأراد أن يتوضأ، فعليه أن يرش يده بالماء ثم يمسح برأس أصابعه من رأس أصابع الرجل إلى ظهر القدم وكذلك اليسرى، وذكر بعض العلماء في بعض حواشي الفقه أن: اليد اليمنى لليمنى واليسرى لليسرى وهذا جائز لكن الأفضل أن يمسح اليمنى ثم اليسرى بعدها تيامناً.(263/24)
كفارة اليمين
السؤال
ما هي كفارة اليمين؟
الجواب
كفارة اليمين ذكرها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89] فالأول على التخيير والثاني على الترتيب -بعد فمن لم يجد- إما إطعام عشرة مساكين، وجبة كاملة تكفيهم غداءً أو عشاء أما الفطور فهو رخيص ولا يدخل فيه لكن الغداء والعشاء مما يكفيهم وهذا في عرف الناس {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ -كسوة كاملة- أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] وفي قراءة ابن مسعود (متتابعات) وهو رأي الجمهور أن تكون متتابعة وهو الصحيح وهذه الكفارة تكون إذا حلف العبد على شيء ولم يفعله أو حلف ألا يفعل شيئاً وفعله.(263/25)
كيفية الغسل من الجنابة
السؤال
ما هي كيفية الغسل من الجنابة؟
الجواب
الغسل الكامل من الجنابة كما ورد في حديث عائشة وميمونة أن يتوضأ صاحب الجنابة الوضوء الكامل وضوءه للصلاة، فإذا انتهى من الوضوء؛ بدأ فغرف ثلاثة غرف على رأسه وأوصل الماء إلى أصول الشعر وأروى البشرة، ثم أفاض على رأسه ثلاث مرات، ثم غسل الميامن قبل المياسر وما على من جسمه قبل ما سفل، وهذا هو الغسل الكامل.
أما الغسل المجزئ فهو أن يعمم جسمه بالماء ولا يتوضأ قبل، وإذا نوى الوضوء دخل فيه وهو الصحيح إلا إذا مس فرجه فإنه يعود للوضوء.
وأورد الشوكاني عن حذيفة يقول: من لم يطهره الغسل فلا طهره الله؛ لأن بعض الناس يقول: لابد من الوضوء مع الغسل، لكن إذا نوى دخول الوضوء في الغسل فإنه يكفي.(263/26)
أضرار العصبية
السؤال
هل لك أن تحدثنا عن أضرار العصبية؟
الجواب
السائل يقصد العصبية القبلية الجاهلية التي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمها ولقطعها وإزالتها قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103] وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
وقال صلى الله عليه وسلم: {المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ولا يسلمه، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه}.
العصبية الجاهلية طاغوت وصنم موجود في بعض الأماكن والمجتمعات القبلية التي يكثر فيها القبائل، والتحزبات القبلية، وذكر مناقب القبيلة على حساب القبيلة الأخرى، وتربية الأطفال عليها فيرضعونهم مع اللبن العصبية الجاهلية والتمييز العنصري، يقول: أنا ابن فلان وهذه من دستور أبي جهل وفرعون وهامان وقارون، أما محمد صلى الله عليه وسلم فإنه منها بريء، ولا إله إلا الله كم شتت من القلوب! وكم فرقت من الأرواح! وكم سفك في سبيلها من الدماء! وكم انتهكت في طريقها من المحارم، وهي من العادات الجاهلية التي لا تنتشر إلا في المجتمعات المتخلفة التي ما رأت نور الوحي، ولا سمعت بدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام أو سمعت سماعاً في الجملة.
وعلى كل حال: فالله الله في التآخي وأخذ مقياس الإسلام، ففي حديث -فيه نظر- عن أسماء بنت يزيد: {أن الله إذا جمع الأولين والآخرين يوم القيامة يقول: يا أيها الناس إني وضعت أنساباً ووضعتم أنساباً، فوضعتم نسبي ورفعتم أنسابكم (أي في الدنيا) اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم} قلت: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وقلتم: أكرمنا فلان بن فلان وبالفعل قالها أبو جهل يقول: إنه سيد العير والنفير، وبلال مولى يباع، لكن أتى الإسلام فقال: لا بلال سيد وأنت حقير زنديق رعديد لأنك كفرت بلا إله إلا الله.
وهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه جلس مع نفر من العرب، يريدون أن يكبتوا سلمان وهو في العراق فقال رجل: ممن أنت؟ قال: من بني تميم، والثاني من غطفان، والثالث من فزارة، ولما أتى الكلام إلى سلمان قال:
أبي الإسلام لا أب له سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
يذكر ابن القيم في طريق الهجرتين كلاماً معناه: قالوا لـ أبي جهل: من أبوك؟ قال: العير والنفير، من أنت؟ قال: سيد أهل الوادي، ماذا تريد؟ قال: أريد الرئاسة أو ما يشبه ذلك.
وقالوا لـ سلمان: ما زادك؟ قال: التوكل على الله.
قالوا: وما عصاك؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله.
قالوا: من إمامك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم.
قالوا: ماذا يريدون؟ قال: يريدون وجهه.
قالوا: أين مسكنهم؟ قال: المسجد.
قال: {دعها فإن معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها}.(263/27)
حكم بيع التقسيط
السؤال
زيادة الثمن من أجل زيادة الأجل.
هل فيه شيء؟
الجواب
لا أعلم فيه بأساً، زيادة الثمن من أجل زيادة الأجل لا بأس فيه، وصورته أن تبيع سيارتك إلى أجل أو إلى ستة أشهر أو سنة ديناً فترفع القيمة من أجل الدين؛ لأنه لا يستوي البيع نقداً وديناً، فالدين مثلاً تقول هذه السيارة ديناً بمائة ألف ونقداً بخمسين ألف، فالمائة ألف كانت بسبب زيادة الأجل، وابن القيم يرى أن حديث أبي داود الذي فيه {نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة} ليس معناه هذه الصورة، ولو أن بعض الفقهاء مثل محمد حامد الفقي من العصريين ذكروا هذه الصورة لكن يقول ابن القيم: البيعتان في بيعة هي بيع العينة، أما زيادة الثمن من أجل زيادة الأجل فوارد.
لكن هناك صورة محرمة لابد أن ينتبه إليها، يعرفها كثير من الناس، وهي ما إذا أتى الرجل يطلب منك ثمن سلعته فتقول: لا أجد.
فيقول: أزيد من الثمن وأزيد عليك الأجل، وهذا من فعل الجاهلية الذي تقول فيه عائشة: تقضي أو تربي.
هل تقضيني الآن أو أمهلك وأزيد عليك في الثمن، فهذا محرم ولا يجوز.
أما بيعتان في بيعة فهي بيع العينة التي هي محرمة، وصورتها أن يشتري رجل من رجل سلعة ديناً وبعد فترة يشتريها الأول نقداً بأقل من الثمن؛ فهذا أمر محرم، ويفعله بعض الناس، نسأل الله أن يتوب علينا وعليهم.(263/28)
حكم الإيداع في البنوك
السؤال
ما حكم الإيداع في البنوك؟
الجواب
هذا يتكرر كثيراً، الإيداع في البنوك الربوية محرم، وقد أفتى كثير من علمائنا كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وقال: هذا من التعاون على الإثم والعدوان، ولا يجوز الإيداع في هذه البنوك التي تتعامل بالربا، فلا الإستقراض منها ولا الإيداع فيها ولا التعامل معها يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء} حديث صحيح رواه مسلم عن جابر.
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(263/29)
الدعاة والورقة الرابحة
أهل السنة والجماعة هم وسط بين الفرق، ومن أئمة السنة الشيخ عبد العزيز بن باز، وقد وجه الشيخ لأهل السنة توجيهاً خطابياً فيه من الإرشاد الكثير، واستغله بعض الناس في الكلام على طلاب العلم من أهل السنة، وفي هذا الدرس يوضح الشيخ ما غمض فيها، ويبين أهم معالم أهل السنة والجماعة.(264/1)
خطاب ابن باز للدعاة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
إخوة الإيمان! حملة التوحيد! رواد العقيدة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نعم! عنوان هذه المحاضرة: (الدعاة والورقة الرابحة) وقبل أن أبدأ؛ أشكر المولى على أن جمعني بهذا الجمع المبارك الكريم، وأسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يتمم هذا الاجتماع بكم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأشكر الزميلين الفاضلين: فضيلة الدكتور/ إبراهيم الهويمل، وفضيلة الشيخ/ أحمد الباتلي، وأتوجه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى من هذا المنبر الكريم أن يحفظ إمام السنة، وعالم الأمة في هذا العصر؛ سماحة الوالد الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وله مناسبة ولسماحته مقام في هذه المحاضرة؛ إذ خطابه الذي وجهه إلى الأمة هو الورقة الرابحة للدعاة إلى الله على بصيرة.
ائذنوا لي قبل أن أبدأ بالمحاضرة أن ألقي على مسامعكم مقطوعة بعنوان: (أسماحة الشيخ).
أسماحة الشيخ الجليل تحية تهدى إليك وأنت فيض خطابي
براقة كجلال وجهك يا أبي محفوفة بالأهل والأصحاب
أنا إن مدحتك صرت أمدح مهجتي فرضيت تلويحاً عن الإعراب
يا بن الثمانين التي أفنيتها في العلم والأخلاق والآداب
يا بن الثمانين التي أهديتها لله بين هداية وصواب
يا بن الثمانين التي أمهرتها للمجد لا لملذة وكعاب
أنت الصدوق إذا تلعثم كاذب برقاعة الأسمال والأثواب
أنت الوفي إذا تعثر خائن وأتاك بالأحفاد والنواب
لله درك لم تزل متوقداً كالفجر في إقدامه الوثاب
حلفت قلوب الناس إنك صادق نسب المحبة أعظم الأنساب
يا عالم الإسلام كل معلم تلميذكم في هذه الأحقاب
بالله يا محبوب أي فضيلة خلفتها للصيد والأحباب
أسرج فديتك خير جيل محمد من طنجة الفيحا إلى البنجاب
عرضي لعرضك من سفيه فدية سود العيون تصان بالأهداب
ودمي على مسعاك سال منادياً شاهت وجوه الزمرة الأذناب
أهل الحداثة والتفرنج والخنا هم زعزعوا الإسلام بالأطناب
مردوا على الكفر العظيم وظاهروا أسيادهم بالفكر والأسباب
ورووا خطابك يا كريم فحرفوا ألفاظه أشباه أهل كتاب
حملوه من مرض النفوس محاملاً مغلوطة في الحضر والأعراب
وتقصدوا أعراضنا بخناجر مسمومة من صنع ذاك الغاب
ورموا حمانا بالتطرف ويلهم من زمرة الأوثان والأنصاب
يا رب فاقبلنا حماة عقيدة نرجوك في الأخرى عظيم ثواب
أيها الكرام البررة! يا تلاميذ المدرسة الربانية؛ مدرسة أهل السنة والجماعة، المدرسة الخالدة التي تستمر وتعطي وتنتج، رضيها الله عز وجل، طائفة منصورة إذا اجتمعت معصومة من الخطأ والزلل، يمثل هذه المدرسة إمامها محمد صلى الله عليه وسلم، ومن تلاميذها: أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ: محمد بن عبد الوهاب، والشيخ: عبد العزيز بن باز، وهذه المسيرة الرائدة.
وإنني من هذا المكان أدل الجيل على كتب جيدة علمها من علم! وطرحها من طرح؛ لفضيلة الشيخ الدكتور/ ناصر العقل، فلله دره! كيف أجاد في عرض مذهب ومنهج أهل السنة والجماعة بعرض عصري مع احتفاظه بروح النص، وجلالة المأخذ من الكتاب والسنة، وأنا أدعوه من هذا المكان إلى المزيد من الكتابات والأطروحات في هذا المنهج الخالد وتوضيحه؛ وإنني لألتمس إليه باسمكم -جميعاً- أن يضع كتاباً في مسائل الدعوة والعمل، والخلاف والافتراق، وما للدعاة من مكانة، وماذا يجب عليهم تحت مظلة أهل السنة والجماعة؟!
أيها الإخوة الكرام! سبق وأن ألقيت محاضرة بعنوان: (كيف يذبح الإسلام؟) وهي طريق إلى هذه المحاضرة التي هي بعنوان (الدعاة والورقة الرابحة) وسوف ألخصها في دقائق، عرض هناك كيف ذبح ديننا بسكاكين إسلامية، أي: أن الإسلام ذبح على الطريقة الإسلامية! ونحن نقول هذا مضطرين دفاعاً عن دين الله عز وجل.
ذكر الإمام الذهبي أن أحد المحدثين أتته سكرات الموت، وهذا المحدِّث طوال حياته يسمع حدثنا، حدثنا ويعيش معها، ويحبها، ويعشقها، ويتلذذ بها، فلمَّا سمع (حدثنا) وهو في سكرات الموت استفاق وجلس.
قالوا: تجلس وأنت في سكرات الموت! قال:
سقوني وقالوا لا تغنِّ ولو سقوا جبال سليمى ما سقيت لغنَّتِ
والبيت لـ مجنون ليلى، ومعناه: أنه سقي الخمر - مجنون ليلى - فلما سكر غنى، قالوا: لا تغنِّ، الغناء حرام، قال: تسقوني الخمر ولا أغني؟!
فالدعاة مضطرون إلى أن ينفاحوا ويكافحوا، وأنتم كذلك -جزاكم الله خيراً- يوم كثرتم السواد وحضرتم، منكم من هو أفضل من المتكلم وأعلم وأتقى وأنبل وأجل، ولكن حضر ليكثر السواد، وليراغم أهل الردة والنفاق، وليحضر بكيانه ليقف في جبهة التوحيد، ولينصر مسيرة أهل السنة والجماعة؛ فحضر أولئك ليكثروا السواد، ومنكم من هو على أبواب الامتحان، لكن أتى ليرابط على الثغر في مسجد فاضل، يسمع قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام.(264/2)
من مظاهر محاربة الدين
ذكرت في تلك المحاضرة (كيف ذبح الإسلام) في قرآنه الخالد، الأطروحة الحضارية التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لينقذ البشر؛ أصبح يقرأ في الحفلات وعلى الموتى، وإذا صرع مصروع يقرأ عليه من مس، وهذا فحسب، ولو أن هذا من السنة، ووارد؛ لكن مهمة القرآن فوق ذلك.
وانظروا الأعجوبة! إننا أبناء العرب أنا وأنت، وليست العروبة التي نتفاخر بها لكن اللغة العربية الخالدة، أنا وأنت أبناء قحطان وتغلب ومضر وربيعة ومذحج والأزد؛ أصبحنا ندرس في المساجد بأساتذة من العجم، فأصبح أساتذتنا -والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه- من باكستان وأفغانستان، وليس هذا تهويناً بهم ولا ازدراء، فإن الله يقول: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89].
وذبح الإسلام في السنة، فطعن في رواتها، وفي أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي مصداقيتها، وآخر من طعن حاكم ليبيا الخسيس الحقير معمر القذافي، وهو يعرض في مذكراته وخطبه أن السنة ليست مصدر تشريع، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام صلح لفترة بدوية قديمة ولا يصلح الآن، وكأنه المقصود بقوله عليه الصلاة والسلام في السنن: {رُبَّ شبعان ريان متكئ على أريكة يأتيه الأمر من أمري، فيقول: حسبكم ما في القرآن، ما وجدتم من حلال فأحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه، ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه} والله أعلم.
وممن طعن في السنة من الكتبة المعاصرين أبو ريه -لا أرواه الله من الحوض المورود- وقد صلمه محمد أحمد الراشد في كتاب دفاع عن أبي هريرة، ولو كان هناك كتاب يرشح لهذا القرن كان هذا الكتاب المجيد، فأثابه الله.
وذبح الإسلام بالطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم؛ في شخصه الكريم، في عصمته، في عرضه، وآخر من فعل ذلك المجرم اللعين/ سليمان رشدي.
ثم انظر إلى أهل البدعة ماذا فعلوا؟
تحركوا في خطب الجمعة باستنفار عجيب، وألقت إذاعاتهم وصحفهم، وحكموا على هذا المجرم بالإعدام غيابياً ولم يتحرك من أهل السنة أحد، والعجيب أنهم كما قال عليه الصلاة والسلام: {كل له بواك إلا حمزة فلا بواكي له}.
وطُعِن الإسلام في العلماء والدعاة لتسقط عدالتهم، وجاء سماحة الشيخ الوالد/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز يدافع عن الدعاة، ويصفهم أنهم من أهل السنة والجماعة، وأنا أدعو الذين لم يفهموا الخطاب أن يفهموه وأن يعيدوا قراءته، وأن يتمعنوه وأن يردوه إلى أهل العلم وأهل الاستنباط.
وطعن الإسلام في أن حول العامة إلى المعيشة فحسب، لا نصرة للإسلام؛ فيشتغل الواحد منهم بمكسبه ومطعمه من الصباح إلى المساء.
وطعن الإسلام في أن وجه الناشئة إلى المسائل الخلافية والجدل العقيم، والغرور والعجب، وعدم الوثوق بالعلماء.(264/3)
حديث معاذ وموقف الدعاة أمامه
وقبل أن أدخل إلى هذه المسائل معي لكم هدية كأنها وقفة أو استراحه في غضون المحاضرة، أروي هذا الحديث من مسند أحمد ولو أن أصل الحديث في الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، قال: {كنت رديف الرسول صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له: يعفور} سمى الحمار ومعنى ردفه: أي ركب وراءه مباشرة، ومعلم البشر وخير من خلق الله، ومخرج الناس من الظلمات إلى النور، يركب على حمار عليه الصلاة والسلام! فلما ردفه قال: {سار بنا الحمار فعثر فسقطت أنا والرسول عليه الصلاة والسلام} لك أن تتأمل المشهد ولك أن تتصور.
ركب الرسول صلى الله عليه وسلم الحمار ورديفه معاذ، وانطلق بهم الحمار، فعثر فسقط الرسول صلى الله عليه وسلم من على الحمار، وسقط معاذ، قال: {فذكرت من نفسي أسفاً} يقول معاذ: تأسفت على سيد البشر صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس زعيماً ولا مفكراً ولا أديباً ولا عالماً، وإنما سيد البشر، وخير من خلق الله!
قال: {فذكرت من نفسي أسفاً، وقام صلى الله عليه وسلم يضحك -هكذا رواية أحمد - ثم ركب ثانية فعثر الحمار فسقط! فقام صلى الله عليه وسلم يضحك -وعند أحمد الثالثة- ثم سار الحمار فقال صلى الله عليه وسلم: يا معاذ! قال: لبيك وسعديك يا رسول الله! قال: أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم.
قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار، وقال: وهل تدري ما حق العباد على الله إن هم فعلوا ذلك؟ قال: الله ورسوله أعلم.
قال: ألا يعذبهم} وهي بشرى تحرَّج معاذ أن يخبر بها الناس، ولكن أخبر بها الناس عند موته تأثماً؛ لأن سيد العلماء خاف أن يتكل الناس على هذا الحديث ويتركوا العمل.
ولذلك توج الإمام الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (هذا الحديث في كتاب التوحيد بباب التوحيد وما يكفر من الذنوب).
ثم أتى بهذا الحديث، فهي بشرى أزفها بين يديكم من محمد عليه الصلاة والسلام.
أيها الإخوة الكرام! في غضون هذا الحديث، هناك مطالبات يطالب بها الداعية إخوانه وطلابه وأحبابه في هذه الفترة الحرجة من فترات التاريخ؛ التي كثرت فيها الردود والأهواء؛ وتشعبت فيها الأفكار، وتفرقت فيها الكلمة، ما هي العصمة يا عباد الله؟
كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، والالتجاء بعد الله إلى العلماء، إلى أهل الفقه في الدين، إلى علماء أهل السنة والجماعة، ومنهم: كبار العلماء في بلادنا، فإن لهم من الحسنات ما الله به عليم، وإن أخطئوا في بعض المسائل فهم مجتهدون، وكما قال الأول:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
فلهم من العقيدة الصافية، ولهم من كثرة الاطلاع، ومن الفقه في الدين، ومن حب الله ورسوله ما يشفع لهم أخطاءهم التي لا يسلم منها البشر، فالرجاء الاحترام لهم، والالتفاف حولهم، وزيارتهم ومعرفة قدرهم، فإنها من الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله تعالى.(264/4)
مميزات أهل السنة والجماعة(264/5)
حب العلماء
من ميزة أهل السنة أنهم يحبون العلماء، وأهل البدعة يمقتون ويبغضون وينفرون من العلماء.
أيضاً عدم الاستقلالية بالفكر والفتوى والرأي، فإنه قد ينشأ الناشئ ويحصل على شيء قليل من العلم فيظن بنفسه الظنون، ويذهب بنفسه كل مذهب ويظن أنه بلغ رتبة الاجهاد، وحنانيك لا تطر حتى تريش، إذا أصبح للعبد ريش فليطر، ولا يستقل برأيه؛ فإن علياً -كما في البخاري - قال: [[رأي الاثنين أحب من رأي الواحد]].
وقال أهل العلم: ورأي الثلاثة أحب من رأي الاثنين.
وكان عمر رضي الله عنه إذا وقعت به معضلة جمع أهل بدر يسألهم ويستفتيهم، وفي بعض الآثار: {أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار} فالواجب على طالب العلم ألاَّ يستقل برأيه، وأن يشاور أهل العلم والفضل، وأن يعود إلى العلماء والدعاة ولا تعجبه نفسه؛ فإن العجب مهلكة، وهو من كبائر الذنوب، حتى تجد شيخ الإسلام ابن تيمية كما في المجلد العاشر والحادي عشر من الفتاوى ينبه على الكبائر التي في القلوب وتناساها الناس، نحن نتحدث الآن عن الكبائر الظاهرة، مثل: شرب الخمر والزنا والسرقة؛ ولكن هناك كبائر قد تكون أعظم من هذه الكبائر؛ كالعجب والحسد والكبر والغرور والعياذ بالله، وقد توصل العبد إلى درجة من الطاغوتية والنمرودية والتجبر على عباد الله، وعلى غمط الحق ودحره ما لا يعلمه إلا الله، حتى إنك تجد الناسك يقوم الليل ويصوم الإثنين والخميس، ويقرأ القرآن وهو يرد الحق، ويعجب برأيه، ويتفلت على أهل العلم، وينكر ويدحض الحجج.(264/6)
عدم التعالم والتطاول على العلماء
ومنها: عدم التعالم والتطاول على الإخوة والزملاء؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كما ورد في صحيح مسلم: {إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد} {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
وكان بعض السلف يرافقون ابن مسعود فالتفت إليهم، وقال: [[عودوا إلى بيوتكم، والله لو علمتم من أنا، لحثيتم التراب على رأسي]].
وكان إبراهيم النخعي إذا جلس على سارية جلس إليه اثنان، فإذا زادوا قام وتركهم، وكانوا يندسون خوف الشهرة والظهور، فنسأل الله أن يخرجنا منها مخرجاً حسناً، وأن يرزقنا وإياكم الصدق والإخلاص والتوفيق.
وإن من المطلوب في مثل هذه الفتن أن نلتم حول علمائنا وأن نستفيد منهم، وإذا كان هناك ما يوجب التنبيه نبهنا، فإنه قد يستفيد الفاضل من المفضول، فهذا هو واجب أهل السنة في وقت الفتن وتشعب الآراء والأهواء.(264/7)
معالم مدرسة أهل السنة
أيضاً أيها الإخوة الكرام! أبين لكم معالم أهل السنة والجماعة التي يذب وينافح عنها سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز؛ لأنه صاحب فكرة، وصاحب أطروحة وعرض حضاري يلائم العصر قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، فعلمك الوحي لا من علمه علم الرجال، ويقول في موطن آخر:
تشفي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم دراً غير أصداف
فهو يوجه هذه المسيرة، وينافح ويكافح عنها ويرد عن دعاتها رد الله عن وجهه النار يوم القيامة.(264/8)
تتبع الدليل
من معالم هذه المدرسة: أنها مدرسة تتبع الدليل؛ فهي لا تتعرف إلا بالوحي، والعصمة لكتاب الله عز وجل ولرسوله عليه الصلاة والسلام.
قرأت أن بعض المستشرقين أراد أن يسلم وقد تعلم العربية وكان سبب إسلامه أن عرض عليه المصحف فابتدأ بسورة البقرة (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2] قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
قال له أحد الناس: ولم؟
قال: كل كاتب إذا كتب كتابه، بدأ في المقدمة يعتذر من النقص والتقصير إلا الله، فإنه بدأ متحدياً أن يوجد في كتابه نقص أو تقصير!!
انظر إلى الكتبة! انظر إلى رسائل الماجستير والدكتوراه وكل كاتب في أي علم يقول: معذرة، وإن أتى سهو أو خطأ فمن نفسي، والشيطان، ومن وجد عيباً فليصلحه أو يتصل بي، لكن الله عز وجل يقول: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2] يقول: ليس فيه شك ولا نقص ولا تقصير ولا تردد ولا ريبة، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن كتابه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جمال العتق والقدم
أتى على سفر التوراة فانهدمت فلم يفدها زمان السبق والقدم
ولم تقم منه للإنجيل قائمة كأنه الطيف زار الجفن في الحلم
لا إله إلا الله! سبحان من أنزله وأحكمه! فـ أهل السنة يؤمنون بهذا الدليل أنه وحي {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] ورسوله عليه الصلاة والسلام هو الذي قال: {ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه} قال تعالى فيه: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4 - 5].
فمدرستنا مدرسة أهل السنة والجماعة ليس فيها معصوم غير الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى تجد بعض الناس يبالغ في حب بعض المنظرين، أو الدعاة المشهورين أو العلماء، حتى يصير كلامهم صحيحاً لا يقبل الخطأ، وكلام غيرهم خطأ لا يقبل التصحيح، وهذا خطأ.
وأنتم تعرفون فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية حين سئل عمن قال: إنه يجب أن يتبع إمام من الأئمة ولا يخالف قوله؟
قال: يستتاب من قال هذا القول؛ فإن تاب وإلا قتل.
وكان الإمام أحمد -كما روي عنه في السير- يقول: خذ من حيث أخذ مالك والثوري وابن المبارك ومقصوده: من بلغ درجة الاجتهاد وأصبح لديه الملكة والآلة وقال ابن عبد البر: "أجمع أهل العلم على أن المقلد ليس من أهل العلم".
ومقصودي أيها الإخوة الكرام! أن ميزة مدرسة أهل السنة والجماعة أنها تتبع الدليل؛ وهو قول الله وقول رسوله الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول أحد الفضلاء في بعض كتبه: على طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل من المعصوم عليه الصلاة والسلام، فالعلم إنما هو مسألة محققة بدليلها، والدليل مطلوب حتى نبه الله عليه في القرآن، فقال: {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] فالعلم: هو الدليل.
وقال سبحانه: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] وجاء في حديث رواه ابن خيثمة ولكن في سنده نظر كما ذكره ابن حجر: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس، فقال للرجل: أترى هذه؟ قال: نعم.
قال: على مثلها فاشهد} دل على ذلك قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (َ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86].
وهو أن تعتصم في كل مسألة بدليل من المعصوم عليه الصلاة والسلام ينقذك بإذن الله ويحميك، وهو البصيرة {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] قال مجاهد -: البصيرة: العلم.
وصدق، فإن أصحابه عليه الصلاة والسلام لا يتعاملون بأهواء ولا عواطف ولا كلام فكري، سمعت بعض الناس في شريط أو شريطين ما يقارب ثلاث ساعات يتكلم في الدعوة ولم يأتِ بآية ولا حديث، فكلها مركزية الدعوة والمنهجية والأُطر، وهذا مجرد كلام، وإلا فالعلم آية وحديث، فهذا مَعْلَم بارز من معالم مدرسة أهل السنة والجماعة.(264/9)
البعد عن التكلف
الثاني: مدرسة أهل السنة والجماعة التي ينادي بها سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز مدرسة ميسرة سهلة بعيدة عن التكلف والتعقيد، إنما دخل التعقيد يوم أتى الفلاسفة لا حيا الله مطلعهم.
يقول ابن تيمية: إن الله لا يغفل عن المأمون؛ لأنه ترجم كتب الفلاسفة.
ومن يوم بزغ علينا فجر المأمون وجد علم الكلام في العقيدة الصحيحة السلفية؛ عقيدة أهل السنة والجماعة.
أُتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ كما في السنن من حديث معاوية بن الحكم السلمي بجارية، فقال لها: {أين الله؟ فأشارت إلى السماء، فقال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة}.
ما أحسن العقيدة! ما أسهل العرض!
أتاه ضمام بن ثعلبة؛ كما في الصحيحين فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الآيات البينات؛ فأخبره صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص، أنا ضمام بن ثعلبة ثم ولى، أليس هذا تيسير؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: {من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا}.
وفي مسند أحمد بسند جيد أن أبا جُريَّ الهجيمي وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم من البادية، وانظر إليه صلى الله عليه وسلم يتكلم له بحالة البادية، وببيئة البادية، وبوضعه الاجتماعي، يقول البدوي: {من أنت؟ قال صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله! قال: من أرسلك؟ قال: الله.
قال: من هو الله؟}.
أسئلة جادة حارة ساخنة! والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأتِ بتعريف الفلاسفة، المعقد؛ يقول ابن سينا: العقل الفعال.
وغيره يقول: المؤثر، عرف الله عز وجل نفسه لموسى حين كلمه كفاحاً، فقال له: يا موسى! {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] وأعظم تعريف لله عند أهل السنة والجماعة أنه: لا إله إلا الله، وفي سورة محمد قال للرسول عليه الصلاة والسلام: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] أي: قبل أن تدعو، وقبل أن تعمل أو توجه أو تربي، وقبل أن ترشد: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] قال: أنت رسول من؟ قال: رسول الله.
قال: من هو الله؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم يجيبه، لكن اسمع الإجابة الحارة المؤمنة الصادقة، قال: {أنا رسول من إذا أصابك قحط وأنت في الصحراء فدعوته كشف عنك، وأنا رسول من إذا ضلت عليك راحلتك وأنت في البادية فدعوته ردها عليك} فأسلم الأعرابي.
هذه عقيدة ميسرة يدعو إليها أهل السنة والجماعة، فهم يقدمون ميثاق التوحيد، ويدعون الناس إليه بصدق وإخلاص حتى يقوم الناس على منهج رباني.
فمن معالم هذه المدرسة: أنها ميسرة، قال تعالى: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2] ما فيها تقعر ولا تنطع ولا تعمق، تلقي العلم بسيطاً سهلاً حتى يفهمه الناس.
ومنهجه عليه الصلاة والسلام: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] بعث عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين.(264/10)
محاربة أهل البدع والأهواء
الثالث: من معالم هذه المدرسة التي ينادي بها سماحته: أنها تحارب البدع في الدين والأهواء، مدرسة صافية كالثوب الأبيض، لأنها ليست شركة تجمع، ولا مؤسسة لها أعضاء ووكلاء؛ إنما هي مدرسة ربانية لا تدخل فيها إلا بشروط وهي: أن تكون سنياً سلفياً صرفاً موحداً، لك منهج رباني تتعبد الله به، أما التلفيق والترقيع فهذا لا يصلح أبداً، حتى يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عامي موحد يغلب ألف مشرك مخلط.
أو كما قال، وهذا صحيح، فإن علماء المبتدعة بحور في العلوم لكنهم مخلطون، وقد يكون عالم أهل السنة أقل في العلم، لكنه صافي المنبع كالنطفة من الماء، أو كالساقية الصغيرة أمام البحر المالح.
يقول عليه الصلاة والسلام: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} وأول خطبة للصديق على المنبر: إنما أنا متبع ولست بمبتدع.
فهو يخبر الناس، فيقول: أنا تلميذ، الشيخ مات، وأنا خليفته في المدرسة، فأنا متبع ولست مبتدعاً، لا أقنن لكم ولا أخترع، ولا أصنف، إنما أنا متبع للرسول عليه الصلاة والسلام.
وقد كتب عمر بن عبد العزيز كتاباً كما في سنن أبي داود في السنة أنصح بقراءته وتأمله فهو من أحسن الكتب، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية وذكره كثير من أهل العلم، وذهب عمر بن عبد العزيز إلى أبعد من ذلك، فقال: وما بعد السنة إلا التعمق والتنطع أو كما قال.(264/11)
علماؤنا مجتهدون لا مقلدون
أيها الفضلاء! علماء مدرسة أهل السنة والجماعة التي يذب عنها سماحته مجتهدون لا مقلدون، فإذا بلغوا رتبة الاجتهاد لا يجعلون كلام غير الرسول صلى الله عليه وسلم ككلام المعصوم، ولا يأخذون كلام الناس كأنه نصوص قاطعة، إنما يأخذون المتون ويدرسونها الطلاب، فيها الصحيح وفيها الخطأ، مثل: زاد المستقنع وأنا ضد من يتهجم على مثل هذه الكتب كـ الروض المربع وزاد المستقنع، وهي ليست ككلام الرسول صلى الله عليه وسلم، في صحيح البخاري أو في صحيح مسلم، إنما هي كلام فقيه أعلم منا، لكن فيه مسائل مرجوحة نبه عليها أهل العلم، وأعظم من نبه على مثل هذه الأخطاء شيخ الإسلام ابن تيمية، أول مسألة في زاد المستقنع يقول: والمياه ثلاثة.
قال ابن تيمية: بل هي قسمان.
ثم ذهب بعد ثلاثة أسطر وقال: وإذا اختلطت ثياب طاهرة بنجسة صلى في كل ثوب صلاة وزاد صلاة.
وهذا من الآصار والأغلال، بل يتحرى ويصلي صلاة واحدة.
وما مقصودي أن أنقد الكتاب هنا، لكن مقصودي هو ألا نجعل هذه المتون كأنها من كلام المعصوم عليه الصلاة والسلام، ثم لا نهاجمها، بل نتأدب مع العلماء، وأحسن من عرض لهذه الفكر هو ابن تيمية في أول كتاب الاستقامة بعرض جيد، فأنا أنصح طلبة العلم بقراءته.(264/12)
الوسطية
أيها الأخوة! هذه المدرسة وسط بين الطوائف، فالأمة الإسلامية وسط بين الأمم، وأهل السنة وسط بين الطوائف قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] انظر إلى اختيار الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لهذه الطائفة المنصورة؛ أن جعلها وسطاً بين المرجئة والخوارج، فـ المرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، ويرون أن أصل الإيمان واحد، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن إيمان أبي بكر مثل إيماني وإيمانك! أبو بكر الذي دفع دمه وعرقه ووقته وماله في خدمة ونصرة لا إله إلا الله مثلي ومثلك الذي لا يحضر الواحد منا إلا بكل إلحاح لصلاة الفجر!! هؤلاء المرجئة.
وخالفهم الخوارج فوقفوا في الطرف المقابل، وقالوا: صاحب الكبيرة كافر خارج عن الملة، وهذا خطأ.
وتوسط أهل السنة فقالوا: الإيمان يزيد وينقص، وصاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ما لم يستحلها؛ فإن استحلها كفر، وإلا فهو مسلم، لكنه ناقص الإيمان كما ذكروا ذلك، وهذا هو الوسط.
وسط بين الرافضة والنواصب، الرافضة غالوا في آل البيت حتى ألهوا علياً رضي الله عنه وأرضاه، أتى ابن سبأ بفكرة لعينة إلحادية في عهد علي وقال: هو الإله.
فلما سمع علي رضي الله عنه ذاك؛ ضاق ذرعه وقام وأوقد النار في أخاديد، وأخذ مولاه قنبر وهو نشيط قوي وقال له: عليَّ بهم.
فكان يجرهم قنبر ويضعهم في النار ويحرقهم ويقول علي:
لما رأيت الأمر أمراً منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا
يقول: لما رأيت أن هؤلاء خرجوا عن الملة أحرقتهم.
فهذا موقف علي من الرافضة السبئية وهو موقف حازم يشكر عليه، أثابه الله عن الإسلام والمسلمين.
أيضاً النواصب وقفوا في المقابل فسبوا أهل البيت، ووقف أهل السنة وسطاً، فعرفوا حقوق أهل البيت، بمقابل الرسول عليه الصلاة والسلام: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23].(264/13)
الواقعية
من معالم مدرسة أهل السنة والجماعة أنها واقعية لا تجمح في الخيال!! فهي تخاطب الناس بالواقع، وتحل مشكلات الناس التي يعيشونها، وأنا أنصح إخواني طلبة العلم ألا يتكلفوا في المسائل التي لم تقع، قال ابن عباس لمولاه عكرمة وكان يفتي الناس: [[لا تفت الناس إلا في مسائل وقعت، فإنك إذا فعلت ذلك وضعت عنك نصف الكلفة]].
وأنت تجد كثيراً من الناس يفترضون افتراضات في أسئلتهم، وبعضهم يدخل في استشكالات واستفسارات لا تخصه، كبعض الناس يسمع أن رجلاً في الحارة طلق زوجته؛ فيذهب هو ويتبرع إلى العلماء، ويقول: رجل طلق زوجته وهو مغضب، ما حكم ذلك؟ فقيل له: أنت طلقت زوجتك؟
قال: لا.
فقيل: من؟
قال: رجل في الحارة.
وما دخلك برجل في الحارة؟!
وكثير من الناس يتحمل أسئلة الناس وهمومهم!
أيضاً: من المسائل الافتراضية التي كثر فيها الرد ما يُكتب في الصحف كثيراً، وأنا رأيت اثنين ممن يعدون أنفسهم في القمة الفكرية، ويسمون النخبة المثقفة، يتكاتبون في مسألة جدة، هل هي جِدة أو جَدة أو جُدة؟!
يا أخي جِدة وإلا جَدة فهذا سواء، ولا يسألنا الله يوم القيامة عن الفتح والكسر والضم في جدة.
وجازان أو جيزان وسوق عكاظ كم يبعد عن مجنة ثلاثة كيلو أو أربعة كيلو؟
وهل سوق عكاظ ثابت في الجزيرة؟
فألفوا مجلداً أن سوق عكاظ ثابت في الجزيرة العربية أثابهم الله؛ لأنهم لو لم يفعلوا ذلك ظن الناس أن سوق عكاظ في الأرجنتين أو في البرازيل.
وأخبرونا أيضاً أن أبرهة الأشرم قدم من جبال السروات ومر؛ لكن اختلفوا هل أتى من تهامة أو أتى من السراة.
ولا يزالون يؤلفون ويكتبون وسوف يرسمون لنا خطاً للفيل!
يا هذا! أهلك الله الفيل وأهلك أبرهة والعبرة: أن الكفر اندحر والتوحيد انتصر، لا تشغل الأمة ولا تشغلنا، الكفرة يصنعون صاروخ أرض جو، وجو أرض، وأرض أرض، وجو جو، وأنت تخبرنا عن الفيل من أين أتى!
أيضاً مما وقع فيه كثير من الغثائيين وأنا أحترم المفسرين؛ لكن وجد في بعض كتب التفسير: أتوا إلى كلب أهل الكهف، ذكر الله في القرآن أنه كلب {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18] ولو كان هناك فائدة من ذكر لونه لذكره الله، قالوا: مبرقش على عينيه نقطتان حمراوان لله درهم!
وقال آخر: لا، بل هو أسود، وقال الثالث: خطأ بل هو أبيض.
أبيض أو أسود المهم أنه كلب.
وفي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة:260] أربعة من الطير، العبرة أنه يقتل طيراً ويحييه الله تعالى وهو على كل شيء قدير.
قالوا: معناه: خذ بطاً وإوزاً -هذا في زاد المسير عودوا إليه وفي غيره من الكتب- وحماماً ودجاجاً، قال الآخر: لا.
الدجاج لم يذكر وإنما هو غيره، لم يذكر الله هذه ولسنا في حديقة حيوانات، فلا نشغل الأمة بهذه المسائل.
أيضاً يوجد كتيبات عن أدنى الأرض هل غور الأردن أو جزيرة العرب؟
يا أخي! عندنا مسائل عظمى من توجيه الجيل وتربية النشء وطرد الشرك والسحر والوثنية، وإقامة الأمة على ملة سمحاء، وتحرير الإنسان من رق العبودية لغير الله.
بعثنا هداة مبشرين، ننقذ الإنسان ونخرجه من الظلمات إلى النور، هذا هو المطلوب في هذه المدرسة، فهي لا تجمح إلى الخيال.
عمر رضي الله عنه سائل: قال عمر: هل وقعت المسألة؟
قال: لا.
قال: دعها حتى تقع، فإذا وقعت تجشمنا جوابها.
وذكر الدارمي بسنده: أن صبيغ بن عسل تعلم سوراً من القرآن ثم ذهب إلى الصحابة في المجالس، وفي الجيش يقول: كيف يقول الله عز وجل: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} [المرسلات:1] ويقول: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} [الذاريات:1] ويقول: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} [النازعات:1] اجمعوا لي بين هذا الكلام، وكأن الرجل يريد أن يشكك، قالوا: لا نستطيع؟ الذي يجمع لك هذا هو عمر بن الخطاب، وهو الذي سيجمع أضلاعه لا يجمع له الأقوال، فأتوا به إلى عمر، فقال عمر: عليَّ بجريد النخل؛ لأن هذا دواء لا يخرج إلا من صيدلية الفاروق، فأتوا بجريد النخل الأخضر فرشَّه بالماء، ثم أمر به، فلما رآه، قال: والله لا يحول بيني وبينه أحد فبطحه.
كل بطاح من الناس له شهم بطوح
فضربه حتى فقد وعيه! فاستفاق الرجل، وقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد شفائي فقد برئت -والحمد لله- وإن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً.
الآن برئ وعرف السنة، وعرف المنهج الرباني، تخرج من مدرسة أهل السنة والجماعة بتقدير ممتاز!! وبعض الناس يحتاج إلى مثل هذا التأديب؛ لأن الحجة -أصلاً- لا تنفعه، حجة الله بالغة لكن لا تنفعه؛ لأن في قلبه هوى.(264/14)
الدعوة إلى الجماعة ونبذ الفرقة
مدرسة أهل السنة والجماعة تجمع وتوحَّد ولا تفرَّق، لا تحب الشتات، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103].
سبحان الله! العالم الآن يسعى إلى وفاق الدول وإخاء الإنسان، وتصبح أوروبا في دولة واحدة، وتتجمع الدول إلا هذا العالم الإسلامي كل يوم تنقسم الدولة إلى دولتين وإلى ثلاث!!
مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موطنها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
فالتبديد والتشتيت ليس من منهج الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي أنزله على رسوله، بل الجمع وتوحيد الكلمة؛ لكن على المنهج الرباني منهج أهل السنة والجماعة.
أما أن تتآخى معي وأتآخى معك، وتغض عن خطئي في العقيدة وأغض عن خطئك، وهذا لي وهذا لك فلا، ولابد من هذا المنهج؛ فمن وافقنا فهو أخونا وحبيبنا وفي مسيرتنا.
فمدرسة أهل السنة والجماعة تنهى عن الشتات، ولا يشتت ولا يفرق إلا أهل البدع، وهم خطباء فتنة، حتى تجد الآن بعض الناس من الكتبة لا يتكلم في اللين، أو في الرخاء، أو في السعة، أو في حاجات الأمة، أو ما يحتاج إليه الناس من علم الدين والدنيا، إنما يبقى في مباته الشتوي، فإذا سمع ثائرة فتنة قام يتكلم! كما فُعِلَ بخطاب سماحة الشيخ.
بعض الناس أظنه لا يحضر صلاة الفجر مع الناس! ويوم تكلم الشيخ أتوا يُعنونون، تقول إحدى الصحف: سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز يُحذِّر الدعاة من التكفير والتبديع والتفسيق.
وهل الشيخ يتهم طلابه وتلاميذه أنهم يكفرون الناس وهي مدرسته؟!
أنا ممن سماحته أنالت وممن دربت تلك الأيادي
وما سافرت في الآفاق إلا ومن جدواه راحلتي وزادي
ويأتي هذا الذي لا يعرف ولا يفهم نواقض الوضوء، يخبرنا أن الشيخ يُحذِّر، وبعضهم كتب في صحيفة الندوة يقول: وأنا كنت منذ زمن أعترض على هؤلاء وأحذر منهم حتى وافقني سماحة الشيخ.
ومن أنت حتى يوافقك سماحة الشيخ؟! أنت يوافقك سماحة الشيخ؟! [[رأى عمر رضي الله عنه وأرضاه بعض الناس أقبلوا وراء سارق، قطعت يده، لأن بعض الناس أوباش، فضوليون، فوضويون، لا يجتمعون إلا في الحوادث؛ حوادث المرور والحريق، تجدهم ليس عندهم أشغال فيجتمعون بسرعة في دقيقة واحدة، فاجتمعوا وراء السارق يمشون وراءه، فأخذ عمر رضي الله عنه حفنة من التراب ونضحها على وجوههم، وقال: شاهت هذه الوجوه التي لا ترى إلا في الشر]] فتجد بعض الكتبة لا يكتب إلا في الشر والإثارات والفتن، والنيل من الدعاة والعلماء، وسماحته قام بسيف على العلمانيين والحداثيين والمرتزقة يذب عن مدرسته -مدرسة أهل السنة والجماعة - وهؤلاء الدعاة من روادها أثابهم الله.(264/15)
ربانية المصدر
أيضاً: هذه المدرسة مدرسة متميزة ربانية، لا تستورد أفكارها من غير الوحي؛ لأنه ليس عندنا مواد نستقبلها من نابليون أو حمورابي أو هتلر أو من المادة الثانية عشرة أو التاسعة عشرة، عندنا: قال الله وقال رسوله، وهي مدرسة ربانية نزلت من فوق سبع سماوات، هم سندهم إذا رووه -كما تعرفون- عن صدام وميشيل عفلق وأحمد حسن البكري وهذا إبليس وفرعون إلى النار، وسندنا نحن يبدأ من البخاري ثم ينطلق إلى المديني إلى أحمد إلى الثوري إلى إبراهيم إلى علقمة إلى ابن مسعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا هو السند
ذهبوا يرون المدح ذكراً ثانياً ومضوا يعدون الثناء خلودا
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
فهذه ربانية المدرسة، ولذلك لا نحتاج إلى أفكار أخرى ترد علينا، قال الشاعر:
وما استعرت تعاليماً ملفقة من صرح واشنطن أو رأس شيطان
وما مددت يدي إلا لخالقها وما نصبت لغير الحق ميزاني(264/16)
وضوح المبدأ والصدق في التعامل
أيضاً المنتسبون إلى هذه المدرسة لا يكذبون بخلاف أهل الأهواء والساسة؛ فهم يحتاجون إلى الكذب كثيراً؛ لأن عدوك اليوم صديقك غداً، وصديقك اليوم عدوك غداً.
أما أهل السنة والجماعة فمنهجهم واحد، تلقاه اليوم وبعد سنة؛ لأنه يحمل قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88] لا يسعى إلى مطمع دنيوي إنما يسعى إلى إقامة شريعة الله، وإلى تصحيح عقائد الناس، وإلى توضيح المنهج الرباني، وإلى النهي عن الشرك والخرافات والخزعبلات، وإلى رد الناس إلى الصراط المستقيم هذا هو الملخص؛ فلذلك لا يكذبون، ولا يحتاجون إلى الكذب، وأعرف أن بعض الناس يسأل، وقد سأل بعضهم يقول: أخي يتخلف عن صلاة الجماعة فاختلقت عليه قصة عله أن يصلي في المسجد، فقلت له: رأيت في المنام أنك تعذب فسألتك لماذا تعذب؟
فقلت لي: إني لا أصلي في المسجد، فهل يجوز أن أقول مثل هذا أو أختلق أحلاماً وهي لم تقع حتى أخيف أهلي وحتى يعودوا إلى الله؟
و
الجواب
لا، لا يدعى إلى الله بحرام، وسبل الله وإقامة الحجة أوضح بكثير من هذه الطرق الملتوية، والغاية لا تبرر الوسيلة، فحجة الله بالغة، أقم عليه الحجة، حذره وأنذره، أما أن تكذب لتدعوه إلى صلاح فلا يجوز لك هذا، وفي كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم غنية عن الكذب، فهم لا يكذبون، بخلاف أهل الأهواء فهم أكذب الناس، يختلقون الأفاعيل، وبعضهم يقسم حتى على المصحف ولا عليه؛ لأن الإيمان انتزع من قلبه انتزاعاً.(264/17)
عدم التثريب على المجتهد إذا أخطأ
وهذه المدرسة من مميزاتها أنها تعذر المجتهد المخطئ فيما يُخطئ فيه، مما يسوغ فيه الاجتهاد، وأقول لكم -وأنا واحد منكم ومن طلبة مدرسة سماحة الشيخ-: إن الخلاف في الفرعيات وارد منذ حياة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فلا يأتي العامة وينالون من أهل العلم إذا رأوهم اختلفوا في مسألة فرعية يسع فيها الخلاف، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام أعذار أهل العلم حين يختلفون.
يقول ابن القيم في أعلام الموقعين: والصحابة -بحمد الله- لم يختلفوا في مسألة عقدية أبداً.
فالعلماء لهم أعذار إذا اختلفوا في الفرعيات منها:
أن يبلغك الحديث ولا يبلغني، ويكون عندك صحيحاً وعندي ضعيفاً، أو عندي ثابت وعندك منسوخ، أو أفهم فيه غير ما تفهم أنت هذه أعذار فلا نشنع على أهل العلم أنهم اختلفوا فيما يسع فيه الخلاف، ولذلك تجد بعض العامة يتشدق على العلماء يقول: هذا يحرم التصوير الفوتوغرافي وهذا يحلله؛ هذه فوضى.
لا، هم اجتهدوا وأرادوا الخير والرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(264/18)
الشمولية وقول الحق
ومن مميزات هذه المدرسة: أنها تؤمن بالشمولية في حياة العبد؛ الروح والفكر، ذهب الفلاسفة إلى الفكر -فقط- فقست قلوبهم، وذهب الصوفي إلى الروح -فقط- فجهلت عقولهم، وذهب أهل السنة والجماعة إلى الفكر وإلى الروح فاكتمل عندهم: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].
وقد ذكر الله الفكر والذكر في آية واحدة، والفكر تفرد به الفلاسفة ففكروا في غير النصوص، والذكر تفرد به الصوفية فذكروا الله بغير الذكر الشرعي، فأخبر الله في القرآن بالفكر الشرعي لـ أهل السنة والجماعة وبالذكر الشرعي لـ أهل السنة والجماعة فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].
ومن معالم هذه المدرسة: أنها تقول الحق لا تخشى في الله لومة لائم، قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] فهي تبلغ بقوة؛ لأنها تحمل الميثاق ولا ترهب إلا من الله، ولا يجمع أهل السنة والجماعة على السكوت على منكر أو باطل فقد عصمهم الله، كما سوف يأتي ذكر ذلك؛ لكن المقصد أنهم يحملون ميثاقاً ويبلغونه الناس {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160] فـ أهل السنة والجماعة يبينون، وانظر إلى أعظم البيان فيما فعله الإمام أحمد في فتنة القول بخلق القرآن، قامت الدولة والجيش والسلطة والعامة في كفة وقام أحمد بن حنبل في كفة وحده:
كأنه وهو فرد من جلالته في موكب حين تلقاه وفي حشم
واستمر يدافع ويبين الحجة حتى نصره الله.
وهذا ابن تيمية قامت المحسوبية والكيان الموجود في عصره في كفة؛ فقام وحده يعارض في كفة أخرى، وتعرض للحبس والجلد، وتعرض لأنواع الإساءة والإدانة ومع ذلك ثبت منهجه، وكلكم يسمع بـ ابن تيمية ويعرف كتبه، ولكن الذين عذبوا ابن تيمية وسجنوه وآذوه، لا نعرف أسماءهم وليس لهم عندنا مكانة، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].(264/19)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وهذه المدرسة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وهو الواجب الشرعي الإيماني؛ الذي أحمله كل فرد منا جميعاً، أن نكون باذلين مضحين، وعلى الأقل انظر إلى أهل المبادئ المنتنة من النصرانية والشيوعية واليهودية، هذه التضحيات وهذه الأعطيات وهذا التحمس والتمزق والتهالك على مبادئ فاسدة ممسوخة.
في مؤتمر مدريد يسافر شامير إلى القدس حتى يحضر اليوم المقدس عندهم يوم السبت، وكثير من الوفود لا يصلون صلاة الجمعة، ويقولون: أتينا نمثل المسلمين!!
انظر إلى هؤلاء النصارى كيف يذهبون إلى المؤسسات والمستشفيات والشركات ليبثوا سمومهم للناس؛ حتى يحرفونهم عن الدين الصحيح إلى الدين المنحرف؛ أفلا يكون للمؤمن غيرة؟
ألا يكون له حماس؟
ألا يكون له توقد إيماني؟
ألا يكون له إبداع في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ على قواعد أهل السنة والجماعة وأدبهم وحكمتهم وضوابطهم؟(264/20)
نبذ التعصب
وهذه المدرسة لا ترضى بالتعصب المذهبي ولا الحزبية المغلقة، فهي تعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال، التعصب المذهبي كان وصمة في جبين الأمة الإسلامية على مر التاريخ، ولك أن تضحك ما شئت إذا قرأت المنتظم لـ ابن الجوزي أو البداية والنهاية أو أمثالها من الكتب، يذكر لك أن في سنة كذا وكذا تضارب الأحناف والحنابلة بالأحذية عند المسجد، كان عندهم خلاف في مسألة فرعية فتصارعوا عند المسجد بالأحذية، والروم يغزون شمال البلاد الإسلامية ويأخذون الممالك، ويدمرون المدن، ويستولون على بلاد المسلمين، وهؤلاء يتضاربون على سنة من السنن!
ثم يذكر لك صورة أخرى أن واعظ الشافعية قام ليعظ الناس فقام عليه الحنابلة فبطحوه أرضاً وضربوه، أهذه صورة تقدم؟! لأنه حنفي وأنا مالكي وهو شافعي وأنا حنبلي!!
لابد أن نعرف أن هؤلاء المجتهدين يريدون الحق -أقصد أهل المذاهب- لكن أن نجعل بين الأمة قواسم مذهبية فهذا خطأ خطير، والواجب على أهل السنة والجماعة -الآن- أن يسعوا إلى إنزال هذه اللّافتات والشعارات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإلى توحيد الكلمة وجمع الصف.
برمجة العبد في مسار ضيق وفي دائرة محدودة حتى يحب ويوالي من هذه النظرة الصغيرة الضيقة فلا يفهم إلا بهذا المنظار، ولا يقرأ إلا بهذا المنظار، ولا يسمع إلا في هذا المنظار، ولا يحب إلا من وافقه في هذا المسار ويكره من خالفه ولو كان فاضلاً!!
هذه ليست من الإسلام، وليس في القرآن إلا حزبان: حزب الله عز وجل وحزب الشيطان، فاجعل نفسك مع حزب الله عز وجل؛ فكل من والى في الله وقام بفرائض الله، وانتهى عن المحرمات التي حرم الله فهو أخوك، أما تمزيق الأمة إلى حزبيات ضيقة مغلقة متخلفة فهذه لا يريدها الإسلام وهي مدانة بحكم الشرع.
يقول ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه وهو يسأل عن مسألة فأفتى فيها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: لكن أبا بكر وعمر قالا: كذا وكذا.
قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول: قال الله وقال رسوله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!! وهما هذان الشيخان الجليلان العظيمان، فكيف بغيرهم من الناس؟.
وهذه المدرسة تدعو إلى جمع الكلمة ونبذ الفرقة كما ذكرت سالفاً، وإلى مناصحة من ولاَّه الله الأمر بالحكمة والكلمة اللينة، فإن هذه فريضة على الرعية للراعي، والدعاء له بالصلاح في ظهر الغيب.
وهي مدرسة ليس عندها معصوم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، بعض الناس عندهم اثنا عشر معصوماً، أما نحن فليس عندنا إلا معصوم واحد، حتى لا يؤخذ كلام العلماء على أنه مسلم، بل يحتاج إلى عرض على الكتاب والسنة؛ ولذلك يقول بعض العلماء: كل يحتج لقوله إلا الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يحتج بقوله.
فـ مالك وأحمد والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم يحتاج قوله أن يحتج له بقول المعصوم عليه الصلاة والسلام أو بقول الله تبارك وتعالى.(264/21)
لا تجتمع الأمة على ضلالة
هذه المدرسة لا تجتمع على ضلالة، وهذه بشرى أزفها لكم، فإذا رأيتم أهل السنة والجماعة اجتمعوا على أمر فاعرفوا أنه حق، وأنه هو الأمر الذي أراده الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وإذا اختلفوا ففيه نظر، لكن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عصمهم أن يجمعوا على ضلالة، وحديث {لا تجتمع أمتي على ضلالة} ضعيف، لكن من مجموع النصوص ودلالات البراهين يدل على أنه صحيح المعنى.
أما كلمة ابن تيمية في مختصر الفتاوي: الإجماع حجة قاطعة والاختلاف رحمة واسعة.
فيقصد في الفرعيات، وبعض العلماء له ملاحظة على هذه الكلمة، وعموماً نجري على ابن تيمية القاعدة الأولى أنه ليس معصوماً، وأن علينا أن نحتج لقوله ولا نحتج بقوله، فيحتاج إلى حجة إلا إذا وافق الدليل.(264/22)
خير الأمة علماؤها
ومن معالم هذه المدرسة: أن أخيارها علماؤها، وهم عدول مزكَّون بخلاف أهل الكتاب من بني إسرائيل، فإن أشرارهم علماؤهم.
فأشرار بني إسرائيل علماؤهم، هم أهل المصائب والفتن والكوارث والمحن، وخيار الأمة الإسلامية علماؤها ودعاتها، ورد كما عند الخطيب البغدادي وابن عدي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ويرى ابن عبد البر أن من حمل العلم فهو عدل، العدل عندنا من حمل العلم، ولذلك لا يقبل فيه الجرح إلا مفسراً، فحمل طالب العلم للعلم يزكيه، ويعدله ويعتبر مقبولاً عند أهل السنة والجماعة، وهذا رأي لـ ابن عبد البر ووافقه بعض أهل العلم وخالفه آخرون.
وذكر الله علماء بني إسرائيل، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في موطن آخر: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63] فهناك من العلماء أشرار ومردة وخونة، والعلماء هنا بررة مخلصون صادقون، أقل وأضعف عالم عندنا أنه يحب الله ورسوله، وأنه -إن شاء الله- لا يمكن أن يرضى في دماء الأمة المعصومة ولا في أعراضها، ولا في سمعتها أو منهجها، ولكنهم ليسوا بمعصومين.(264/23)
الجهاد خلف كل بر وفاجر
ومدرسة أهل السنة والجماعة ترى الجهاد وراء كل بر وفاجر ما لم نرَ كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان، فالصلاة وراء أئمة الجور والجهاد معهم وارد حتى نرى منهم كفراً بواحاً، فإذا رئي هذا فلا طاعة، هذا منهج رباني ذكره رسول الهدى عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم.
ونرى الدعوة لهم وجمع الشمل ومناصحتهم، ولا نعتبر أن مناصحة ولاة الأمر فتنة، ولا نرى أنه من سوء نية، لكنه من حسن نية، ومما أعطى الله أهل العلم من الميثاق، ورزقهم من البصيرة، أن يناصحوا بالحكمة، والتي هي أحسن، واللين حتى يصلح حال الأمة.(264/24)
مميزات عقدية
.(264/25)
مبدأ الولاء والبراء
الولاء والبراء عند أهل السنة والجماعة التي ينادي بها سماحة الشيخ عقيدة، يرون أن الولاء والبراء، والحب والبغض عقيدة، لا يسيرون الحب والبغض بلا ضابط، بل كما ورد عند أبي داود: {من أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان} والله تبارك وتعالى يقول في الولاء: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56] ويقول سبحانه: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22].
والملاحظ في بعض الملتزمين من المقصرين من أمثالنا: أن الواحد منهم إذا التزم، لا يزال يستمر في صحبة كثير من الأشرار والمنحرفين عن السنة، ممن يستمعون الغناء -مثلاً- أو يتخلف عن الصلوات، أو يتمرد على السنة، تجده أكيله وشريبه دون أن يدعوه، فإذا قلت له: لماذا لا تنفصل؟
أو لماذا لا يكون لك انفصال عنه وهجر حتى يعود؟
قال: أنا أرتاح له، فدل على أنه لا يحمل الولاء والبراء.
أيضاً: وجد ثلم في الولاء والبراء في بعض الشركات والمؤسسات، أن يستقدم النصراني واليهودي والبوذي والسيخ، فتجدهم يؤاكلون ويشاربون ويلاطفون، ويزارون ويحترمون وهذا نقض للولاء والبراء.
كتب أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه وأرضاه- كتاباً إلى عمر يستشيره في كاتب عنده هل يستكتبه، فقال عمر: [[لا.
فقال: إنه فطن يا أمير المؤمنين! قال عمر: قاتلك الله! تُقربهم بعد أن أبعدهم الله، وتُحبهم بعد أن أبغضهم الله، وترفعهم بعد أن أنزلهم الله!! أو كما قال رضي الله عنه، فطرده أبو موسى]] فنصيحتي لأهل رءوس الأموال والتجار والمؤسسات والشركات أن يتقوا الله في هذا المنهج الرباني، ولا يستقدموا عمالاً غير مسلمين، أو خبراء أو مستشارين أو غير ذلك من أي عمل؛ لأن هذا محرم في الإسلام.(264/26)
الاتباع ظاهراً وباطناً والكف عما شجر بين الصحابة
من معالم مدرسة أهل السنة والجماعة: أنها توجب الاتباع الظاهر والباطن في أعمال الجوارح والقلوب، لا تكتفي بالباطن فقط، تجد بعض الناس يرى أن عمل الظاهر أو الجوارح قشور، لا تتكلم عنده في الثوب واللحية ولا في نحو هذه المسائل، ويرون أنها قشور وهم القشور بأنفسهم!! بل هي لباب، وكل ما أتى به صلَّى الله عليه وسلم فهو لباب.
فهذه المدرسة تعنى بالظاهر أن يكون سلوكك ومظهرك وشخصيتك على السنة، وتعنى بالباطن فتجرد الروح من الذنوب والخطايا؛ من الكبر والحقد، والحسد والغل، والعجب والغرور ونحو ذلك، هذه هي المدرسة الربانية الرائدة التي تعتني بالظاهر والباطن، وبعض المناهج يعتنون بالباطن أكثر من الظاهر وبعضهم بالعكس، فيخالفون السنة في هذا وهذا والكمال جمع الأمرين.
والمدرسة هذه توقر الصحابة وتحترمهم وتكف عما شجر بينهم، ورد بين الصحابة خلاف، وسئل عامر الشعبي عن أهل صفين، فقال: ما لهم؟
تقاتلوا ولم يفر بعضهم من بعض؛ لأن علياً رضي الله عنه لقي معاوية رضي الله عنه بمائة ألف ومعاوية لقيه بمائة ألف فاقتتلوا في صفين.
قال عامر الشعبي لما سئل عن جيش علي ومعاوية قال: أهل الجنة التقوا فاستحى بعضهم أن يفر من بعض.
وقال عمر بن عبد العزيز وقد سئل عن تلك الفتن والدماء قال: دماء سلم الله منها سيوفنا فلماذا لا نسلم منها ألسنتنا؟
وهذا هو الواجب على المؤمن، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
وإذا رأيت الإنسان يبحث عن ذنوب الصحابة، ويضخم خطاياهم، ويبحث عن الإشكالات والفتن التي حدثت، فاتهمه على الإسلام، واعرف أن في قلبه مرضاً أو هوى -والعياذ بالله- فهم يكفون ويقولون: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] ونعلم أنهم أفضل منا، وأن عندهم أعمالاً صالحة كالجبال، وكما قال صلى الله عليه وسلم: {ولو أنفق أحدكم مثل أحد ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه}.(264/27)
لا يكفرون بالكبائر
وهذه المدرسة لا تكفر أهل الكبائر ما لم يستحلوها؛ خلافاً لمن زعم أن الدعاة يكفرون الناس ويبدعونهم {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] الدعاة من برز منهم وأصبح إمام مسجد أو أصبح يسمع له أو يستطيع الفتيا ولو في صغائر المسائل لا أعلم أحداً منهم يكفر مسلماً، ولا يكفر صاحب كبيرة ما لم يستحلها، وتجد من يتنكت على هؤلاء الدعاة ويعلق عليهم ويستهزئ بهم، لم يدرس الشريعة سنة واحدة، بينما أقل واحد من هؤلاء الدعاة درس الشريعة ست عشرة سنة، فانظر إلى الحيف! وانظر كيف تعطي القضية إلى غير أهلها، حتى إنك تجد بعض الكتبة يكتب عن التطرف، ويحلل التطرف وهو لا يحسن الشريعة ولا يجيد أن يتكلم عن الشرع، حتى أن بعض المنافقين يقول: هؤلاء الدعاء يفهمون الدين بالمقلوب!
سبحان الله!! أتباع دين محمد يفهمون الدين بالمقلوب! الذين قرأوا المنهج الرباني، وتبحروا في علم الكتاب والسنة يفهمون الدين بالمقلوب! فمن إذاً يفهم الدين فهماً صحيحاً راشداً؟!
من هو إذاً الذي يقود الأمة ويوجهها؟ ويخرجها من الظلمات إلى النور؟
من يرفع علم التوحيد إلا علماء الأمة ودعاتها، ولكنَّ مقصدهم من ذلك -وهم يعرفون أنهم جهلة بهذا الشرع- أن يبطلوا ثقة الناس بالعلم والدعاة والعلماء.
أيها الإخوة! هذه نصيحة أقولها سراً ولا تخبروا بها أحداً!! والمجالس بالأمانات وليكن كلامنا بيننا أثابكم الله: على طالب العلم والداعية أن يكسب ثقة الناس؛ فإذا كسب ثقة الناس فقد كسب الحب والرشد والقبول، ويُكسب ذلك بالعمل وبالعلم، وباتباع مدرسة أهل السنة والجماعة، واحترام أهل العلم، وجمع الكلمة؛ فإذا حصل هذا فليقل ما شاء.
ويستطيع ذلك حين لا يكون فظاً غليظاً، فإنه إذا كان فظاً غليظاً لا يرافقه أحد، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] قال ابن المبارك:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا عفاف وحياء وكرم
قوله للشيء لا إن قلت لا وإذا قلت نعم قال نعم
الموافقة في الخير، واللين، وهي مدرسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، هل رأيت ألطف منه عبارة؟! هل سمعت أحسن منه إشارة؟! هل سمعت أنه قدح أو نال أو جرح؟
لا هو على الباطل سيف مصلت، لكن مع إخوانه وطلابه، ومع الدعاة هو المدرسة الربانية، والتوجيه والرشد، واللطافة والحكمة والهدوء؛ تتمثل في هذه المدرسة التي هو إمامها، أثابه الله وحفظه ذخراً للإسلام والمسلمين.(264/28)
الإيمان يزيد وينقص، والنفع المتعدي أفضل من اللازم
أيضاً أهل السنة عندهم الإيمان يزيد وينقص، وأهل السنة يرون أن النفع المتعدي أفضل من النفع اللازم، فهم يضحون بأوقاتهم في الدعوة، وقد غلب على البعض من الدعاة فتوى لا أدري من أفتاهم بها، أصابهم ورع بارد، فتجد أن الواحد منهم في النفع اللازم فقط من نوافل وصلاة وصيام، وهي جيدة، وطيبة وتنفعه عند الله، لكن أعظم منها رد الأرواح إلى الله، وهداية القلوب، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} وهذا كما قال عليه الصلاة والسلام في السنن: {الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم} وهو الكفاح العظيم والجهاد الكريم الذي بعث به صلى الله عليه وسلم؛ أن تدل وتدعو، وأن توجه وتنصح وترشد، وأن تكون فاعلاً، ونفعك متعدياً يصل إلى الناس {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} فالدعوة أفضل من النفع اللازم الذي خيَّله بعض الناس لبعض الناس فرضوا به وركنوا إليه.(264/29)
أسباب بطء الغيث وانقطاع الرحمة
قبل أن أنهي محاضرتي هذا هناك تساؤلات تكثر حول بطء نزول الغيث؟(264/30)
منع الزكاة
الجواب
قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] ولا نيأس من روح الله، لكن هناك أسباب منعت القطر من السماء، من أعظمها: منع الزكاة، أو عدم صرفها صرفاً شرعياً؛ كما أمر به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ورسوله عليه الصلاة والسلام؛ فكثير من الناس قد لا يدفع الزكاة ويتهاون بذلك، فما منعت الزكاة إلا جف القطر.
ومنهم من يصرفها لكن في غير مصارفها الصحيحة الشرعية، فقد تجده يصرفها في مصارف قد تصل إلى بعض الكفرة بأنواعهم كالنصارى والبوذيين، أو في مشاريع ليست من مصارف الزكاة الثمانية، إلى غير ذلك من الوجوه.
فالواجب أن تصرف في مصرفها الشرعي الذي أمر به صلى الله عليه وسلم، ودل عليه القرآن.(264/31)
التعامل بالربا
أيضاً: التعامل بالربا وكثرته وانتشاره، وهو مما يؤسف ويندى له جبين المسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه} وتجد أن هؤلاء يتورعون في دقائق المسائل، ويأخذ أحدهم الجبال من الربا ولا يبالي، ويأتي مع المصلين في صلاة الاستسقاء يقول: يا رب! يا رب! وقد ذكره صلى الله عليه وسلم، فقال: {أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب له؟} أي: لا يستجاب له، فهذه المعاملات الربوية سد منيع دون نزول الغيث، وروى أبو يعلى بسند فيه كلام أن الله عز وجل، يقول: {وعزتي وجلالي! لولا شيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع لمنعت عنكم قطر السماء}.(264/32)
ظلم العمال والأجراء
من الممارسات الخاطئة أيضاً في مجتمعاتنا: ظلم العمال؛ فإن عندنا قطاعاً هائلاً من المسلمين الوافدين يعملون هنا؛ أخرجتهم الحاجة والجوع والفقر من بلادهم، أتوا إلى إخوانهم -والبلاد الإسلامية من طولها إلى عرضها بلد واحد- ليروا العطف والرحمة، ففوجئوا بمعاملات قسرية قاسية من كثير من قساة القلوب، وكم شكا هؤلاء وكم بكوا!
تصوروا أن بعض العمال يتقاضى راتباً لا يبلغ الثلاثمائة ريال، وتصوروا أن العشرة إلى أكثر يجمعون في غرفة واحدة ويعاملونهم كالحيوانات!
تصوروا أن الواحد منهم يأخذ عرق هذا وجوعه، وكده وتعبه مالاً في دخله، ويأكل من دخل هذا العامل الضعيف؛ الذي يكدح على عشرة أطفال في بلاده.
وتصوروا أن بعضهم يؤخر الراتب عن هذا العامل أشهراً طويلة حتى يشكوه، ثم يقيم هذا الحجة عليه، ويتكلم عليه، ويدمغه بالبرهان، وبذاك من ضعف الغربة، وضعف اللهجة مابه، حتى يأخذ حقه عليه!
ثم نقول بعد هذا كله: لِمَ لَمْ ينزل القطر من السماء؟!
إنها ذنوب تراكمت فتأخر عنا الغيث، ولكننا لا نزال نطمع في رحمة الله عز وجل.(264/33)
التمييز العنصري
أيضاً من الممارسات الخاطئة: التمييز العنصري بين المسلمين، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] هذه لافتة الإخاء الإيماني، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وقال صلى الله عليه وسلم: {كلكم لآدم وآدم من تراب} لكن بعض الناس لا يعبأ! فيمايز هذا لبلده أو لجنسه أو لدمه أو للونه أو لحيثيات أخرى، والحقيقة أن هذا محرم في شرع الله، والواجب علينا أن نتحد ونتآخى تحت منهج الله، وألا نميز بين الشعوب ولا بين الأجناس أو المواطن؛ لأننا نتعبد الله بكتاب وسنة.
هذه أفكار أردت أن أطرحها هذه الليلة بين أيديكم، وأسأل الله أن يحفظنا وإياكم بحفظه، وأن يتولانا وإياكم في الدارين.(264/34)
قصيدة الوحي مدرستي الكبرى
وهذه قصيدة ألقيت في محاضرة (خطاب عالم الأمة) ولكني أعيدها؛ لطلب الأخوة، عنوانها: (الوحي مدرستي الكبرى) وهي مشاعر عن مدرسة أهل السنة والجماعة بثت في أبيات، وقد قيلت مقدمة القصيدة في بعض المناسبات لكني أكلتها حتى قاربت الأربعين بيتاً:
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني
بـ الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
وفي ربى مكة تاريخ ملحمة على ثراها بنينا العالم الفاني
دفنت في طيبة روحي ويا ولهي في روضة المصطفى عمري ورضواني
النيل مائي ومن عمَّان تذكرتي وفي الجزائر آمالي وتطوان
دمي تصبب في كابول منسكباً ودمعتي سفحت في سفح لبنان
فأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
والوحي مدرستي الكبرى وغار حرا ميلاد فجري وتوحيدي وإيماني
وثيقتي كتبت في اللوح وانهمرت آياتها فاسألوا يا قوم قرآني
جبريل يغدو على قومي بأجنحة من دوحة الطهر في نجواه عرفاني
بدر أنا وسيوف الله راعفة كم حطمت من عنيد مارد جاني
كتبت تاريخ أيامي مرتلةً في القادسية لا تاريخ شروان
وما استعرت تعاليماً ملفقةً من صرح واشنطن أو رأس شيطان
وما سجدت لغير الله في دعة وما دعوت مع معبودنا ثاني
وما مددت يدي إلا لخالقها وما نصبت لغير الحق ميزاني
فقبلتي الكعبة الغراء يعشقها روحي وأنوارها في عمق أجفاني
وليس لي مطلب غير الذي سجدت لوجهه كائنات الإنس والجان
لا أجمع المال مالي كل أمنية طموحة تصطلي بركان وجداني
وكل فدم جبان لا يصاحبني على الشجاعة هذا الدين رباني
ليت المنايا تناجيني لأخبرها أن المنايا أنا لا لونها القاني
ليرم بي كل هول في مخالبه ما ضرني وعيون الله ترعاني
ممزق الثوب كاسي العرض ملتهباً أنعى المخاطر في الدنيا وتنعاني
مريض جسم صحيح الروح في خلدي حب لأحمد من نجواه عرفاني
بلال صوتي هتاف كله حسن أذانه في المعالي رجع آذاني
وعزم عمار في دنيا فتوته أسقي شبابي به من نهره الداني
عصا الكليم بكفي كي أهش بها على تلاميذ فرعون وهامان
ونار نمرود أطفئها بغادية من الخليل فلا النيران تصلاني
في حسن يوسف تاريخي وملحمتي من صنع خالد لا من صنع ريجان
داود ينسج درعي والوغى حمم لا يخلع الدرع إلا كف أكفاني
دعني ألقن قوماً ما لهم همم إلا على العزف من دان ومن دان
قوم مخازنهم نهب ومطعمهم سلب وموكبهم من صف فئران
هم في الرؤى نقطة سوداء إن لمعوا يا للرجال وهذا العالم الداني
يا جيل يا كل شهم يا أخا ثقة يا بن العقيدة من سعد وسلمان
يا طارق يا صلاح الدين يابن جلا يا عين جالوت يا يرموك فرقان
يا بائع الأنفس الشماء في شهب من الرماح على دنيا سجستان
يا من بنوا المجد من أغلى جماجمهم في شقحب النصر أو في أرض أفغان
يا من سقوا دوحة الإسلام من دمهم من كل أروع يوم الروع ظمآن
يا صوت عكرمة المبحوح يقطعه قصف العوالي من سمر ومران
هيا إلى الله بيعوا كل ثانية فصوت رضوان ناداكم وناداني
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(264/35)
يوم من أيام الله
تحدث الشيخ -حفظه الله- عن غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وهي غزوة حنين, وذكر أسباب هذه الغزوة وما عاناه المسلمون من بداية الهزيمة، بسبب افتخارهم بقوتهم, فأدبهم الله بهذا الأدب ليعلموا أن القوة لله جميعاً وأن النصر من عنده وحده.
وأوضح الشيخ مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم وثباته وشجاعته في الحروب وأدبه مع الأسرى, وإكرامه وتأليفه لوجهاء القبائل الذين يرجى منهم الإسلام، ثم ختم حديثه بدروس مستفادة من هذه الغزوة.(265/1)
غزوة حنين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ومع يوم من أيام الله الخالدة التي جعلها لرسوله عليه الصلاة والسلام، ومع الإمام محمد بن إسماعيل البخاري وهو ينتقل بنا في صحيحه إلى غزوة من غزوات المصطفى صلى الله عليه وسلم, ينتقل بنا من المدينة المنورة إلى وادي حنين في تهامة بين الطائف ومكة , لينقل لنا مشهداً تاريخياً من المعركة العالمية التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه, وشارك فيها أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار, والتي ذكرها الله في كتابه في سورة التوبة فقال: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:25 - 27].(265/2)
الرسول يواسي الأنصار بعد غزوة حنين
قال الإمام البخاري رحمه الله: (باب غزوة حنين) حدثنا محمد بن عبد الله -أي المسندي - حدثنا هشام حدثنا معمر عن الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: {أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض العرب الذين شهدوا حنيناً , كلاً منهم مائة ناقة، وترك الأنصار.
فاجتمع الأنصار وقالوا: غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً وسيوفنا تقطر من دمائهم أفلا يعطينا؟!
فسمع عليه الصلاة والسلام ذلك, فجمعهم في حظيرة -وفي رواية الزهري في قبة من أدم- ثم أشرف عليهم وقال: يا معشر الأنصار, ما قالة بلغتني عنكم؟
قالوا: هو ما سمعت يا رسول الله، أما رؤساؤنا وفقهاؤنا فلم يقولوا شيئاً, وأما شبابنا فقالوا: غفر الله لرسول الله, يعطي قريشاً من المال ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقام عليه الصلاة والسلام خطيباً.
فقال: يا أيها الناس, صدقتموني وقد كذبني الناس، وآويتموني وقد طردني الناس، ونصرتموني وقد خذلني الناس.
فقالوا: لله المنة ولرسوله، فرفع صوته.
فقال: ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ قالوا: بلى.
قال: وأتيتكم فقراء فأغناكم الله بي؟ قالوا: بلى.
قال: وأتيتكم متخاذلين فألف الله بين قلوبكم بي؟ قالوا: بلى، والمنة لله ولرسوله.
فرفع صوته وقال: يا معشر الأنصار, أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير, وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فوالله لما تذهبون به إلى رحالكم خير مما يعود به الناس، يا معشر الأنصار, أنتم الشعار والناس الدثار, والله لو سلك الناس شعباً ووادياً لسلكت شعب الأنصار وواديهم، غفر الله للأنصار، ورحم الله الأنصار، ورحم الله أبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار, فارتفع بكاؤهم وقالوا: رضينا بالله رباً وبمحمد نبياً}.
هذه الرواية جمعها البخاري وبددها وصنفها في كتابه على حسب ما رأى من إخراجه الفني في الصحيح رحمه الله رحمة واسعة.
وهذا الحديث حدث عالمي هائل، وهو من أرق الأحاديث في السيرة النبوية, وهذا الحديث من أعظم خطبه عليه الصلاة والسلام، رواه الجمع عن الجمع وتناقله الأنصار عن الأنصار, وهو أعظم حديث للأنصار رضوان الله عليهم وأرضاهم، وكانت هذه القصة في معركة حنين الخالدة التي تناقلها أهل التاريخ والسير باستفاضة, وهي معركة مذهلة ذكرها الله عز وجل في كتابه, وجعل قسماً من سورة التوبة في حدث هذه الغزوة.(265/3)
أسباب غزوة حنين
أما سببها: فإن الرسول عليه الصلاة والسلام حين فتح الله عليه مكة وانتهى منها في السنة الثامنة, سمع أن أهل الطائف اجتمعوا على مالك بن عوف النصري وهو شاب ذكي أريب شجاع, عمره يقارب الأربعين سنة، وهو من شباب العرب الشجعان، جمع قبائل هوازن التي هي قبائل الطائف ومنها: عتيبة الآن, وقبائل ثقيف وشيء من قبائل غطفان ونجد ومعهم بعض بني تميم, فجمعهم جميعاً ثم قال: أيها الناس يظن محمد أنه إذا فتح مكة -يعني رسول الهدى صلى الله عليه وسلم- أنه سوف يأتينا في الطائف , ثم حلف باللات والعزى لنقاتلنه قتالاً ما سمعت العرب بمثل هذا القتال، ثم قال: نخرج إليه ونلاقيه واخرجوا معكم بالإبل وبالبقر وبالغنم وبالنساء والأطفال, وأما النساء والأطفال فاجعلوهم صفين خلفكم, واجعلوا الإبل صفاً, والبقر صفاً, والغنم صفاً, حتى يخرج الرجل وهو يعلم أن وراءه أهله وماله فيقاتل عن أهله وماله.
فخرج بهم, وسمع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل الشجاع العربي قد جمع قبائل العرب، وتوجه يريد ملاقاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قوام جيشه اثنى عشر ألفاً كلهم من أشجع العرب, وهم أرمى العرب على الإطلاق, لا يرمي راميهم بالسهام إلا أصاب, وتوجه بهم في كتائب تتدفق كالسيول.(265/4)
الإعداد النبوي للغزوة
علم بذلك صلى الله عليه وسلم فقام خطيباً في الناس وأعلن الحرب على مالك بن عوف النصري , وعد كتائبه فكانت اثني عشر ألفاً من المقاتلين، فجعلهم عشر كتائب عليها عشرة قواد، ثم ذهب عليه الصلاة والسلام وتمركز في وادي حنين لأن المثل عند العرب: ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا " والرسول صلى الله عليه وسلم يخاف أن يتقدموا إلى مكة أو إلى المدينة فيصعب عليهم مقاتلتهم, فباغتهم عليه الصلاة والسلام فلاقاهم في وادي تهامة في أرض يقال لها حنين.
وبات عليه الصلاة والسلام في تلك الليلة ومعه اثنا عشر ألفاً, فيهم المؤمن الصادق الإيمان من أمثال أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي؛ الذي يقول أحدهم -من كثرة يقينه وإيمانه-: [[والذي لا إله إلا هو لو كشف الله لي الحجاب ورأيت الجنة والنار ما زاد إيماني ويقيني مثقال ذرة]] وفيهم مسلمو الفتح الذين أسلموا ترغيباً وترهيباً, وأسلموا رجاء الغنائم, ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.
ثم توقف عليه الصلاة والسلام فقال: من يحرسنا الليلة وله الجنة، فتبرع أصحابه وقاموا أمامه, وقال ابن أبي حدرد: أنا أحرسكم يا رسول الله على الشرط -أي على شرط الجنة- فصعد الجبل ومشى عليه الصلاة والسلام.
فلما اقترب الفجر قال الرسول صلى الله عليه وسلم لحارسه ابن أبي حدرد: انتبه للقوم فإنا نخاف منهم أن يباغتونا في غسق من الليل -وكان عليه الصلاة والسلام يعرف هذه الأمور والقوم من رماة العرب- وإنا نخاف إذا رمونا أن تفر منا الخيل والإبل فلا يثبت أحد.
فقال ابن أبي حدرد: لبيك وسعديك يا رسول الله، فقام في رأس الجبل, وكان مالك بن عوف النصري وقبائل العرب المقاتلة في جهة الوادي, والرسول عليه الصلاة والسلام في الجهة الأخرى, وابن أبي حدرد في رأس الجبل.
نام عليه الصلاة والسلام ونام أصحابه، فلما لمع الفجر وأذن المؤذن، قام صلى الله عليه وسلم فتوضأ وصلى ركعتي الفجر, وإذا بذاك الحارس سهر من أول الليل حتى أقبل الفجر ثم نام، وكان ذلك أمر الله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38] فقام صلى الله عليه وسلم لما سمع المؤذن يؤذن في الناس للصلاة, ولما صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم, وإذا الجبل كأن أعلاه أقبل على أسفله.
قال ابن أبي حدرد: استيقظت فإذا مالك بن عوف النصري في أول كتيبة كأنها السيل الجرار شاكون في السلاح, قوامها ألف وقد وصل إلى جانبي, ووالله لا يمكنني إلا أن أرفع صوتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال مالك بن عوف النصري: احبسوهم بالنبل, وكانوا من رماة العرب, فأخذوا يرمون من رءوس الجبال بالنبل, فصارت كالغمام على رءوس الناس، فطوقت معسكره عليه الصلاة والسلام, وأحدثت ذهولاً عاماً في الناس, وأخذت الخيول والإبل تفر في كل جهة.
فقام عليه الصلاة والسلام ودعا الناس إلى المعركة وإلى أن يستقبلوا مالك بن عوف النصري؛ أما الجبل فأقبل بعضه على بعض، ونزل الاثنا عشر ألفاً من الجبل جميعاً, ووراءهم الإبل ثم البقر ثم الغنم, وبين الإبل والمقاتلة النساء والأطفال.
وقد قال دريد بن الصمة لـ مالك قبل المعركة وكان حكيماً من حكماء هوازن، وقد كان رجلاً أعشى لا يبصر كثيراً, وهو شاعر مشهور قال: يا مالك! إنني أسمع بكاء الصغير ورغاء البعير وثغاء الشاة, فلماذا جمعت الناس وجمعت هذا الجيش؟ قال: إني أخاف أن يفروا إذا علموا أن أهلهم في ديارهم وأموالهم.
قال: والله ما هذا بالرأي -ويحلف باللات- لا يرد المنهزم شيء.
فأراد الناس أن ينخذلوا عن مالك بن عوف النصري , فسل سيفه وهو في الجبل, ثم قال: يا معشر العرب, إما وافقتموني هذا اليوم، وإلا اتكأت على سيفي حتى يخرج من ظهري، فقالوا: وافقناك، فكان لسان حال دريد بن الصمة:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
فنزلوا ووافقوا مالك بن عوف.(265/5)
الرسول صلى الله عليه وسلم ينادي أصحابه
وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فنادى في الناس إلى الجبل, فأقبلت الكتائب, ولكن خانتهم الإبل والخيول ففرت، وفر كثير من الناس, بل الصحيح كما في السيرة لـ ابن إسحاق وغيره أنه لم يثبت إلا ثمانون, ثم فر الثمانون وثبت ستة, فأخذ صلى الله عليه وسلم ينادي في الناس ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني رسول الله، فلما رأى أنهم فروا من بين يديه وأن الرجل يركب جمله ليأتي يؤم القوم ويأتي للقتال، فيطرد عنه الجمل، فيترك الجمل، ويهوي على أرجله في الأرض، ويأخذ سيفه وقوسه، ويأتي صاحب الفرس على فرسه، فيأبى الفرس أن يعود لأنه جفل, فينادي عليه الصلاة والسلام في الناس فلا يسمعون في الأخير لما رأى أن الدائرة خاف أن تدور على الإسلام وأهله، ومعنى ذلك أن هوازن تصفي حساب هذه الرسالة الخالدة, وسوف ينتهي الإسلام ويقطع دابره من الأرض, فترجل صلى الله عليه وسلم وكان على بغلته, وقال: {أنا ابن العواتك} فلما وصلت أرجله إلى الأرض سل سيفه وقال: {أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب}.
فانتسب إلى جده عليه الصلاة والسلام, والعرب أمة ذكية إذا رأت المعركة ورأت الجيوش تهدَّرت بالشعر.
قال أهل السير: الرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى الموقف ورأى السيوف والرماح جاد خاطره بهذا البيت ليشجع نفسه, ويقول: {أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب}
وحرام عليه أن يفر؛ لأن الله قال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84].
ثم قال: يا عباس! يا عم رسول الله؛ إذ كان في الناس وكان معه بجانب بغلته وفي الجانب الآخر أبو سفيان بن الحارث ابن عمه من مسلمة الفتح الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكان العباس بن عبد المطلب جهوري الصوت, وكان كما يقول ابن حجر ينادي غلمانه من على سطح بيته وهم في الغابة فيسمعونه, قال: نادِ في الناس، فقال: يا معشر المهاجرين! يا معشر الأنصار! هلموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستجب أحد, لأن الخيول والإبل أخذتهم, ومسلمة الفتح أتى عليهم هذا الأمر سهلاً وطيباً؛ لأن بعضهم كان يضمر العداء للرسول عليه الصلاة والسلام, وكان منهم أبو سفيان بن حرب؛ لأنه أسلم يوم الفتح في مكة وفي نفسه ما فيها على الإسلام.
فقال لما رأى كتائب الرسول عليه الصلاة والسلام تفر: ما يردهم اليوم إلا البحر.
يعني: البحر الأحمر.
ويقول صفوان بن أمية: اليوم بطل السحر.
يظن أن الرسالة سحر أبطل اليوم, والرسول صلى الله عليه وسلم نادى في الأنصار؛ لأنهم بايعوه يوم العقبة على أن يحموه مما يحموا منه أولادهم وأطفالهم ونساؤهم وأموالهم, فهو يذكرهم ذاك الميثاق والعهد الذي بينه وبينهم عليه الصلاة والسلام, وهو يذكرهم ذاك العقد الذي وقعوه والذي أتى به -كما يقول ابن القيم - أتى به جبريل, وأملاه رب السماوات والأرض, والمشتري الله عز وجل, والسلعة الجنة, والثمن أرواحهم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111].
ناد يا أهل الشجر.
قال: يا من بايع رسول الله تحت الشجرة, يا من تنزلت فيهم سورة البقرة, فلم يجب أحد، قال: ناد بني الخزرج وهم القبيلة الثانية من قبائل الأنصار, لأن الأنصار قبيلتان: الأوس والخزرج، فنادى في الخزرج فلم يجب أحد.(265/6)
الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حمي الوطيس
قال: ناد في بني الحارث، وكانوا عشيرة واحدة, ولحمة واحدة قوامها ثمانون رجلاً من أشجع العرب على الإطلاق, كانوا يشربون الموت كما يشربون الماء، ومدحهم شعراء العرب وقالوا: كانوا إذا حضروا المعركة تحمر أحداقهم حباً للموت، فلما سمعوا: يا بني الحارث تشجعوا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خصهم أمام الناس بهذا الاسم, فتواثبوا من خيولهم وإبلهم, ثم أخذوا أغماد سيوفهم وكسروها على ركبهم، ثم أتوا بالسلاح وهبوا لنجدة الرسول صلى الله عليه وسلم, وقد كان يقاتل من بعد الفجر إلى الضحى وما تأخر خطوة واحدة, بل وقف عليه الصلاة والسلام أمام الجيش , وأوقفهم في منتصف الجبل, فما تقدم منهم جندي واحد.
ثم أخذ حفنة من التراب ورمى بها وقال: {شاهت الوجوه} قال العباس: والله ما بقيت عين أحد منهم إلا وقعت فيه ذرة, فأخذت تدمع عيونهم.
فلما رأى بني الحارث أقبلوا على أقدامهم معهم السيوف فتح لهم صلى الله عليه وسلم طريقاً, فتقدموا بينه وبين الكتيبة الوسطى, كتيبة مالك بن عوف النصري، فاقتتلوا معه حتى سُمع شظايا السيوف -أي: كسار السيوف- من على رءوس الناس, فقال عليه الصلاة والسلام: {الآن حمي الوطيس}.
قال أهل العلم: هو أول من قالها من العرب, وهو مَثَلْ, وحمي أي: اشتد، والوطيس: هو التنور الذي يخبز فيه, ومعناه أن الأمر ضاق, وأنه لا يفرجه إلا رب السماوات والأرض.
فأخذ بنو حارث يقاتلون حتى تكسرت كثيراً من سيوفهم, فأخذوا يعوضون من المسلمين سيوفاً، وتوارد الناس، والتحمت الكتائب بعده صلى الله عليه وسلم, وأخذ يرد هؤلاء على أعقابهم في أعلى الجبل, فأخذوا يتأخرون، فما أُذن لصلاة الظهر إلا وقد سُلسلوا في السلاسل وقيدوا في الأسلاب.
وأخذ عليه الصلاة والسلام يقول لـ ابن أبي حدرد: {خذ إليك السبي} أي: النساء والأطفال, أنت يا فلان عليك بالإبل, وأنت يا فلان عليك بالغنم، وأنت يا فلان عليك بالبقر.
قال ابن كثير: فجمع صلى الله عليه وسلم من الغنائم ألوفاً مؤلفة لا يعلمها إلا الله.
وقدر ابن إسحاق الغنم بأربعة وعشرين ألف رأس، والإبل بسبعة آلاف؛ لأنهم أهل بادية وهم أكثر العرب مواشي.
وتقدم عليه الصلاة والسلام إلى كتيبة مالك بن عوف النصري وهم ألف، وردهم على أعقابهم، فأعلنوا الهزيمة, ثم فروا وتركوا نساءهم وأطفالهم وإبلهم وبقرهم وغنمهم.
فأخذ عليه الصلاة والسلام يلحق بهم هو والجيش.(265/7)
شيبة بن عثمان في غزوة حنين
وبينما هو يطاردهم بالجبل عليه الصلاة والسلام، وإذا برجل من المسلمين اسمه شيبة بن عثمان، وهو صاحب مفتاح الكعبة, والمفتاح في ذريته وفي نسله إلى اليوم, وقد أسلم يوم الفتح, وكان في قلبه شيء على الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال: فخرجت معه إلى حنين والله ما كان من قصدي أن أنصره أو أقاتل معه, ولكن قصدي إذا سنحت لي فرصة أن أقتله, ومعي خنجر كخافية النسر جعلتها تحت إبطي سممتها بالسم شهراً.
ثم أخذ يلاحظ الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يقترب منه فيغتاله.
قال: فاقتربت منه فوجدت عن يمينه العباس بن عبد المطلب فخفت الرجل، قلت: عمه لن يسلمه إليّ, وسوف يقتلني في الحال، فأتيت عن يساره فوجدت ابن عمه أبا سفيان بن الحارث، فقلت: ابن عمه وسوف يقتلني في الحال، فتأخرت وراءه فأمكنتني الفرصة فتقدمت، وإذا شواظ من نار نزل من السماء, رجف له قلبي، فلم أرَ أمام بصري, فرجعت خلفي خطوتين, والله لقد كان يلتمع بصري حتى وضعت يدي على وجهي.
فالتفت إليّ صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم وقال: يا شيبة، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قلت: يا رسول الله, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
قال: اللهم اغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ثم أخذه صلى الله عليه وسلم بيده، وما ذكرها لي بقية حياته عليه الصلاة والسلام.
ثم فرَّ مالك بن عوف النصري إلى حصون الطائف، فانطلق عليه الصلاة والسلام وراءه وقال للناس: عليكم بالسبي من النساء والأطفال أكرموهم، وعليكم بالإبل والبقر والغنم احصروها، وذهب عليه الصلاة والسلام بما معه من المقاتلين ولحقهم في حصون الطائف.(265/8)
نهاية غزوة حنين
حاصر النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه مالكاً في الحصون, فمكثوا في حصونهم وأرسل له مالك بن عوف النصري -وكان رجلاً شهماً ذكياً- قال: يا رسول الله! إن العرب سوف تعيبنا أبد الدهر إذا نزلنا لك بالقوة، لكن اذهب فإذا أصبحت في الجعرانة فإنا سوف نأتيك مسلمين, وكأنا أتيناك نطلب الصلح.
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام لبيباً حليماً آتاه الله حسن الخلق: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] فعاد صلى الله عليه وسلم وأمر الناس أن يعودوا.(265/9)
النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم
وصل عليه الصلاة والسلام الجعرانة وتأخر بالناس, وأعلن أنه يريد أن يؤدي عمرة, لئلا يتعجل الناس بالذهاب، فتأخر مالك بن عوف النصري قائد القبائل, لأنه سوف يأتي مسلماً فقام صلى الله عليه وسلم يوزع الغنائم, وانظر إلى المتأخرين وقت المغارم ووقت القتال يتقدمون.
فيأتي حكيم بن حزام وهو سيد من سادات قريش من مسلمة الفتح وهو ليس في الإسلام كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وكان يكسو الكعبة سنة, وقريش جميعها تكسو الكعبة سنة.
فقال: تقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله! أعطني من مال الله، قال: يا حكيم: أتنظر الغنم التي بين الجبلين من غنم هوازن، قال: نعم، قال: هي لك، فأخذها، وأتى في النهار الثاني، وقال: أعطني يا رسول الله، قال: خذ مائة ناقة، وكان ذلك ليتألفه في الإسلام؛ لأنه إذا أسلم أسلم معه ألوف.
فأتى في اليوم الثالث وهو يظن أن الدعوة مفتوحة, كل يوم مائة ناقة، فقال: يا رسول الله أعطني فأعطاه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال حِلوٌ خضرٌ، وإن الله مستخلفكم فيه -شارك مسلم البخاري في هذه الرواية-فينظر ماذا تعملون فيه, فإياكم والدنيا، يا حكيم اليد العليا خير من اليد السفلى، اليد العليا هي التي تعطي واليد السفلى هي التي تأخذ، فقال حكيم: والله يا رسول الله, ما أسأل بعدك أحداً ولا أرزأ بعدك أحداً.
فكان حكيم بن حزام متعففاً من أموال الناس, يسقط سوطه وهو على الفرس، فلا يسأل أحداً من الناس أن يرفعه له, بل ينزل يأخذ السوط، حتى أتى أبو بكر فأعطاه من بيت المال فرفض، وأعطاه عمر فرفض، وقال عمر يوم الجمعة: [[يا معشر المسلمين, أشهدكم على حكيم بن حزام أنني أعطيته عطاءه فأبى، فلا يكون خصمي يوم القيامة]] قال حكيم: إنني قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدته، والله لا أرزأ أحداً بعده من الناس, فلن آخذ من أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً.(265/10)
توزيع النبي صلى الله عليه وسلم للغنائم
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب الذي كان قائداً رهيباً عسكرياً من قواد قريش, أعطاه مائة ناقة ليتألفه للإسلام، وأعطى عيينة بن حصن الفزاري الغطفاني مائة ناقة، وأعطى الأقرع بن حابس التميمي مائة, وأعطى كثيراً من صناديد نجد من مائة ناقة ليتألفهم على الإسلام.
فلما أعطاهم العطاء, أعطى العباس بن مرداس سيد بني سليم خمسين ناقة ولم يعطه مائة, وكان العباس رجلاً شاعراً، فصنف قصيدة ورفعها للرسول صلى الله عليه وسلم، يقول فيها: كيف تعطيني خمسين ناقة وتعطي أبا سفيان مائة وتعطي الأقرع مائة, وعيينة مائة؟ يقول:
أتجعل نهبي ونهب العُبيد بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع
يقول: آباؤهم ما كانوا يفوقون أبي, فكيف تفوقهم اليوم علي؟ -في قصيدة طويلة- فوصلت القصيدة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في خيمته, فقال أبو بكر -وكان حفاظة داهية نسابة يحفظ الأشعار والأخبار- قال: يا رسول الله! أتدري ماذا يقول عباس بن مرداس السلمي، قال: لا، قال: إنه يقول:
أتجعل نهبي ونهب العُبيد بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع
فتبسم عليه الصلاة والسلام وأخذ يقلب شيئاً في يده, والله يقول من فوق سبع سماوات: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] وكان إذا سمع قصيدة كسر أبياتها؛ لأنه لو كان ألقاها لقال القرشيون أو أهل الوثنية: إن هذا القرآن شعر, وبالفعل قد قالوا: إنه شعر: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5] فيقول صلى الله عليه وسلم وهو ينشد الأبيات:
أتجعل نهبي ونهب العُبيد بين الأقرع وعيينة
فكسر البيت، فتبسم أبو بكر وقال: صدق الله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69].(265/11)
النبي صلى الله عليه وسلم مع الأنصار
فخرج عليه الصلاة والسلام إلى الناس، وإذا برجل من الأنصار أمام الخيمة, فقال: ما وراءك؟ قال: يا رسول الله الأنصار اجتمعوا وتقاولوا كلاماً وقالوا: غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً وصناديد نجد ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم.
فقال عليه الصلاة والسلام: كيف أقوال ساداتكم وفقهائكم؟
قال: ما قالوا فيك شيئاً يا رسول الله.
هذا قول سفهائنا, وقيل: شبابنا وفتياننا.
فقال عليه الصلاة والسلام: اذهب إلى سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي (الإمام الكبير الشهيد الذي قال عنه الذهبي: الجواد الفارة) يجمع لي الأنصار.
فذهب إليه وأخبر سعد بن عبادة وجمع الأنصار في حظيرة, ثم أتى صلى الله عليه وسلم ودلف عليهم وعليه بردة, فخطبهم تلك الخطبة التي مرت, ولما انتهى صلى الله عليه وسلم وأقنع الأنصار أن الدنيا زائلة: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] وقال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في حنين: {يا أيها الناس -وهم يطاردونه يطلبون الغنائم حتى ألجئوه إلى شجرة فنشب رداؤه في الشجرة وقال: فكوا علي ردائي- والله لو كان لي كجبال تهامة إبلاً وبقراً وغنماً لأنفقتها فيكم, ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذابًا، ثم قال: والله إني لأعطي أناساً منكم لما جعل الله في قلوبهم من الطمع والهلع، وأدع قوماً منكم لما جعل الله في قلوبهم من الإيمان والسكينة منهم عمرو بن تغلب
قال عمرو بن تغلب -وهو يروي هذا الحديث وكان في حياته كلما رواه بكى-: كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها}.
ولما صلّى صلى الله عليه وسلم صلاة العصر وقد قسم الغنائم وأخذ أبو سفيان مائة والأقرع مائة وعيينة مائة وأخذوا يستاقونها, وإذا مالك بن عوف النصري ومعه وفد قوامه ثمانية أنفار على خيولهم الشقر, وهم يخوضون في الصحراء حتى وصلوا إليه بعد الصلاة، فوقفوا على رأسه فأنزلهم صلى الله عليه وسلم، فقام مالك بن عوف النصري سيد هوازن وكان شاعراً لبيباً خطيباً وفصيحاً، فقال: [[يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله, وأنك رسول الله, ائذن لي أن أقول أبياتاً قال:
ما إن رأيت وما سمعت بمثله في الناس كلهم كمثل محمد
أعطى وأجزل للنوال إذا اجتدى ومتى تشأ يخبرك عما في غدِ
وإذا الكتيبة عردت أنيابها بالسمهري وضرب كل مهندِ
فكأنه ليث على أشباله وسط الهباءة خادر في مرصد
]]
فاستحسنها صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا تريد يا مالك؟ لأن قصيدته هذه مقدمة يريد منها شيئاً, يريد السبي والإبل والبقر والغنم أن تعود.
ولذلك يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[نعم الرجل يقدم أبياتاً بين يدي حاجته]] لأن هذه الأبيات فيتامين (واو) تسهل للشخص أمره, فمن تعسر عليه أمر من بعض الناس فعليه أن يدعو, وإذا لم يصادف شيئاً فعليه أن يسجل له أربعة أبيات, فسوف يلبي دعاءه إن شاء الله.
فـ مالك بن عوف يعرف العرب أن سوف يستجيبون, فأتى بأربعة أبيات, فعرف صلى الله عليه وسلم أنه يريد شيئاً "إياك أعني واسمعي يا جارة" قال: يا مالك! إن أحب القول إلي أصدقه فماذا تريد؟
قال: يا رسول الله! أريد السبي وأريد المال، يقول: أريد النساء والأطفال وأريد المال, قال عليه الصلاة والسلام: اختر بين اثنتين إما السبي وإما المال.
كأنه يقول له: بعدما هزمناك وألحقنا بكم الدائرة نرد لك السبي والمال سالمة مسلمة، في شرع من هذا؟!
فسكت وقال: ما أعدل بالنساء شيئاً -يقول: كيف تخيرني بين الإبل وبين النساء؟ علي بالأطفال والنساء، فقال عليه الصلاة والسلام: ردوا عليه نساءه وأطفاله، فقال بعض العرب: والله لا نرد عليه نساءه وأطفاله -لأن بعض النساء أصبحوا سبايا- فقال صلى الله عليه وسلم: {لا ندري من طيب منكم ممن لم يطيب ولكن ارفعوا ذلك إلى عرفائكم} فبعضهم وافق وبعضهم أبى.
فقام عليه الصلاة والسلام خطيباً فيهم وذكرهم بالله وبالسماحة وبالعفو وقال: ردوا عليهم السبي والذي لا يرده منكم إلا بشيء فأنا أعوضه في أول ما يغنمنا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, فردوا له السبي من النساء ومن الأطفال.
فقاموا يأخذونها.
وأما الإبل والبقر فراحت في رحمة الله, ورجع مالك بن عوف النصري مسلماً مؤمناً ونزل عليه الصلاة والسلام معتمراً.
وبقيت أحداث من هذه القصة لأن البخاري روى أول الحديث ثم هالته قصة الحديث, فما استطاع أن يكمل الحديث, لأنه يريد الموعظة والعبرة فسكت وقال: الحديث.(265/12)
دروس من غزوة حنين
وفي هذا الحديث أمور وقضايا ودروس وعبر والسيرة مفسرة للقرآن، يقول سيد قطب: "أعظم ما يفسر القرآن سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام, فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يذكر الأحزاب, فالمسلم الذي يعرف معركة الأحزاب يعرف معاني السورة, ويذكر بدراً، فالذي يعرف معالم بدر يعرف ما هو المقصود بـ بدر في القرآن, وكذلك حنين , فالسيرة أعظم ما يفسر كتاب الله عز وجل، والسيرة درس عقدي ودرس عملي وفقه وأحكام وأدب وسلوك ورقائق لمن تدبرها وعقلها:(265/13)
الدرس الأول: أن القوة لله جميعاً
لا عبرة بالكثرة فالنصر من عند الله عز وجل، أكبر جيش جمعه الرسول صلى الله عليه وسلم جيش حنين كانوا اثني عشر ألفاً، فلما رآهم أبو بكر الكتيبة تتدفق بعد الكتيبة، قال: [[لا نهزم اليوم من قلة]] والمسلمون بشر أتاهم ضعف واتكلوا على قوتهم المادية, فأراد الله أن يلقنهم درس عقيدة لا ينسونه, وهو أن القوة من عند الله, وأن النصر من عند الواحد الأحد, فيقول الله عز وجل: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التوبة:25] يقول: اذكروا كم نصركم الله في مواطن كثيرة:
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25] قال أهل التفسير: قال أبو بكر: [[لن نغلب اليوم من قلة]] فأخبره الله عز وجل بالانهزام في أول المعركة, وأن النصر من عند الله فانهزموا، فدرس للإنسان ألا يغتر بقوته وألا يعتمد على حوله وذكائه وفطنته.
قال ابن القيم في كلام معناه: فوض الأمر إلى الله عز وجل, وأعلن عجزك, فإن أقرب العباد من الله الذين يعلنون الانكسار بين يديه.
فأقرب العباد إلى الله أشدهم انكساراً إليه، وأقربهم إلى النصر أشدهم تواضعاً لله, وكلما ذل العبد وتواضع لله رفعه الله, وكلما تكبر، قال الله: اخسأ فلن تعدو قدرك, وعزتي وجلالي لا أرفعك أبداً.
فكان هذا الدرس في العقيدة: أن القوة من عنده تبارك وتعالى, وأنه هو الذي يهدي وينصر, ويسدد فلا قوة تأتي من غيره مهما أجلبوا بخيل ورجل وقوى واتصلوا بأمور فإنها كبيت العنكبوت: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41].(265/14)
الدرس الثاني: إرسال العين لطلب أخبار العدو
فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أرسل ابن أبي حدرد وقال: اجلس بينهم وخذ أخبارهم وائتني بأعلامهم -هذا قبل المعركة- فجلس بينهم في الليل، فسمع مالك بن عوف النصري يقول: إذا أتينا غداً فصبحوهم واضربوهم ضربة رجل واحد، فأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام، فإرسال العين لصالح المسلمين لا بالإضرار بالمسلمين, لكن لتقصي الحقائق ولنصرة الإسلام, ولتأييد كتاب الله ولرفعة لا إله إلا الله لا بأس به.(265/15)
الدرس الثالث: أخذ السلاح من المشرك
والرسول عليه الصلاة السلام لما أراد حنيناً قال لـ صفوان بن أمية وقد كان طلب مهلة أربعة أشهر حتى يفكر في دخول الإسلام- قال: {يا أبا وهب: أتعيرنا مائة درع وسلاحها؟ قال: غصباً يا محمد، قال: بل عارية مضمونة} فأخذها صلى الله عليه وسلم عارية مضمونة، فلا بأس باستعارة السلاح من المشرك, فلو قاتل المسلمين كافر فلا بأس أن يأخذوا من كافر آخر سلاحاً آخر يقاتلون به هذا الكافر, فإن الرسول عليه الصلاة والسلام فعله سواء بشراء, أو عارية, أو على مصالح مشتركة يتبادلها الفريقان فلا بأس بذلك.(265/16)
الدرس الرابع: ضمان العارية إذا تلفت
فإن صفوان {يقول: غصباً يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة} يقول: إذا تلفت هذه الدروع والسلاح نضمنها لك, فلما تلفت بعض السيوف وتكسرت في أيدي الأنصار كما يقول الأول:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
يقول: كلهم ما شاء الله أخلاقاً وسماحاً وجوداً وشجاعةً لكن فيهم عيب واحد وهو يمدحهم قالوا: ما هو؟ قال: سيوفهم مثلمة من كثرة ما قاتلوا الأعداء.
فالصحابة تثلمت سيوفهم وثلموا سيوف صفوان بن أمية , فأتى يقلب السيوف وهي مثلمة فيقول: للرسول صلى الله عليه وسلم: أهذا سلاحي؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: نضمنها لك، قال: لا لقد أسلمت والإسلام خير لي لا آخذ منها شيئاً، فرزقه الله الإسلام, وهو خير من الدروع والسيوف، وقبل المعركة كان صفوان وراء الزبير بن العوام.
ويقول أحد عيون الرسول صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم ليكونوا بين مالك بن عوف النصري وقبائل الطائف , يقولون: وقفنا معهم فلما مرت كتائب الرسول عليه الصلاة والسلام، سمعنا مالك بن عوف النصري يقول: أي كتيبة هذه؟ وقد مدوا سيوفهم على آذان خيولهم- قالوا: هؤلاء بنو سليم لا يقتلون أحداً ولا يقتلون، يعني: أنهم عند العرب ليسوا بشجعان.
قال: والكتيبة الثانية -أناس مروا على الخيل سيوفهم معروضة على أكتافهم- قالوا: هذا الموت الأحمر الأوس والخزرج، قال: ومن مر، قالوا: مر خيال واحد -ذكر هذا ابن كثير - على رأسه عصابة حمراء كأنه صقر على فرسه نحيف، قال: هذا الزبير بن العوام واللات والعزى لا يفارقنكم حتى يخالطكم بسيفه.
قالوا: فلما اقترب الزبير وراء الكتيبة ووراء الشجر أقدم إليهم ثم خالطهم بسيفه, حتى عمل فيهم معركة.
وكان صفوان يقول: لما رأيت الزبير دخل في الكتيبة فررت.
لأنه من أهل المداخل: أما صفوان فلا يورط نفسه في هذه الورطات، بل ينتظر حتى تأتي مائة ناقة؛ رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}.(265/17)
الدرس الخامس: مشابهة هذه الأمة الأمم السابقة
هذا الحديث علق عليه ابن تيمية في الرسائل والمسائل يقول: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين نزل الناس في الظهيرة ومعهم سيوفهم وسلاحهم -وهذا الحديث عند أبي داود من حديث أبي واقد الليثي - قالوا: يا رسول الله! إن للمشركين ذات أنواط -أي: ذات معاليق يعلقون فيها سلاحهم- فاجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؛ فقال عليه الصلاة والسلام: {الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة}.
فيقول ابن تيمية: "سوف يقع في هذه الأمة ما وقع في اليهود والنصارى؛ فإن علماءنا إذا فسدوا كان فيهم شبه من اليهود -نعوذ بالله من ذلك- فإن اليهود تعلموا العلم ولم يعملوا به؛ فختم الله على قلوبهم ولعنهم وغضب عليهم، قال جل ذكره: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13] ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى؛ فإنهم يعبدون الله بلا علم, لا يتفقهون في الدين؛ فلهم صلاة وصيام وذكر لكن على ضلالة: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27].
يقول ابن تيمية: وسوف يقع في هذه الأمة ما وقع بين اليهود والنصارى لهذا الحديث؛ ولقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113] قال ابن تيمية: "سوف تأتي طوائف وأحزاب في هذه الأمة تقول: ليست الطائفة الأخرى على شيء ونحن على الحق، وتقول الأخرى: لستم على شيء ونحن على الحق فهي السنن".(265/18)
الدرس السادس: النهي عن مشابهة المشركين
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من تشبه بقوم فهو منهم} حتى في الأزياء، قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: "أمرنا أن نتبع السنة، ونهينا عن مشابهة أجناس المشركين والأعاجم إذا خالفوا السنة والحيوانات والبهائم" ثم ذكر أمثلة على ذلك.
فمشابهة أهل الكتاب من أعظم ما جرنا إلى الخطر وإلى مخالفة السنة، فهي حرام بالإجماع إذا لم يكن في سنتنا مستند.
مثلاً: يقول بعض الناس: نرى بعض الخواجات يربون لحاهم، وإذا ربينا لحانا ألا يكون ذلك مشابهة لهم؟ يقول أحد العلماء: كذلك إذ دخلوا في الإسلام ألا نخرج نحن حتى نخالفهم؟! نسأل الله العافية والسلامة؛ فمعنى المخالفة أن نقف نحن على الحق الذي معنا الذي أتى به صلى الله عليه وسلم ونخالفهم فيما خالفوا فيه الإسلام, أما ما وافقوا فيه الإسلام فلا نتزحزح نحن إذا دخلوا في الإسلام أو وافقوا بعض السنن التي عندنا.(265/19)
الدرس السابع: التكبير عند التعجب والاستغراب
فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قالوا: اجعل لنا ذات أنواط قال: الله أكبر! وهذه من أحسن الكلمات التي تقال في النوادي والمحافل, فنحن لا نعرف التصفيق وليس في ديننا تصفيق، ولا يصفق إلا اللاهون اللاغون إذا أعجبوا بمقولة أو كلمة.
فعلى المسلمين أن يكبروا, فإن التصفيق والمكاء والتصدية من علامات الجاهلية ومن شعائر الوثنية , والله ذكر المشركين وطوافهم بالبيت فقال: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35] أي: صفيراً وتصفيقاً, فذم التصفيق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقال ابن مسعود: [[كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أعجبهم شيء كبروا]] وربما كبر عليه الصلاة والسلام فكبروا خلفه, ولذلك يقول: {أترضون أن تكونوا ثلث الجنة؟ قالوا: بلى، قال: ألا ترضون أن تكونوا نصف الجنة؟ قالوا: بلى، قال: فإنكم ثلثا أهل الجنة، فكبروا جميعاً}.
صفوفها عشرون بعد المائة أما ثمانون فمن ذي الأمة
فثلثا الجنة، وفي رواية: {نصف الجنة} من أهل السنة والجماعة، فالتكبير مطلوب عند التعجب والاستغراب، أو من حدث أو كلمة حماسية، أو من بيت أو قصة, فسنتنا أن نكبر وألا نتشبه بأهل الكتاب الذين أضلهم الله على علم وطبع على قلوبهم.(265/20)
الدرس الثامن: الحراسة في الغزو
إن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا كان في الأسفار أو الغزو جعل حارساً يحرس الناس، وما كان يعطيه راتباً عليه الصلاة والسلام، بل كان يعدهم بالجنة, جنة عرضها السماوات والأرض, فكانوا يتسارعون إلى هذا، كما فعل حذيفة في الليلة الظلماء عند أهل الأحزاب، وضمن له صلى الله عليه وسلم الجنة.
وكما حرس بلال بن رباح المسلمين في غزوة من الغزوات فقال له صلى الله عليه وسلم: يا بلال! ارمق لنا فجر هذه الليلة، فقام بلال فرمق من أول الليل, فلما قرب الفجر صلى الليل ما شاء الله، ثم جلس برمحه عند الناقة، فاعتمد عليها فنام، فلما نام جاء الفجر, ثم طلعت الشمس حتى أصاب الناس حر الشمس, فاستيقظ عمر رضي الله عنه أول الناس، فاستحيا عمر أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: قم صل، ومن عمر حتى يوقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وله ذلك فإنها من المصالح والفوائد لكنه استحيا.
فأتى بجانب أذن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: الله أكبر، الله أكبر، فاستيقظ عليه الصلاة والسلام وقد استيقظ أكثر الناس وأصابهم من الخوف ما الله به عليم, تذكروا أنهم ما صلوا, وأن الشمس قد طلعت وارتفعت, فقال صلى الله عليه وسلم: لا عليكم، ثم أمرهم أن يقوموا، وقال يا بلال: أين رمقك الفجر هذه الليلة، فقال بلال: أخذ بنفسي يا رسول الله ما أخذ بأنفسكم، فتبسم عليه الصلاة والسلام.
يقول: أنتم وقعتم فيما وقعت أنا فيه, فلماذا تعاتبونني على هذا؟ فصلّى عليه الصلاة والسلام فصلوا، والشاهد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجعل حارساً من الصحابة في الغزو وفي الأسفار لفوائد:
1 - أن يوقظ المصلي والموتر في الليل.
2 - أن يخبر الناس بهجوم طارئ على جيشهم وعلى متاعهم وعلى أهلهم.
3 - تدريب الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه على هذا العمل الجهادي الشاق.
4 - أن يجعل أجوراً لأهل هذه الأعمال ليتباروا في عمل الآخرة وليتقدموا عند الله.
قال عمار بن ياسر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما أمسينا ذات ليلة، قال: من يحرسنا هذه الليلة؟ فسكتنا، فقال: ليقم رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، قال: فقمت، وقام عباد بن بشر رضي الله عنه وعن عمار , الشاب الصادق الذي قتل يوم صفين ضرب على وجهه حتى سقط لحم وجهه من كثرة السيوف, ولما رآه الصحابة قالوا: نشهد أنك عند الله من الشهداء.
فبدأ عباد بالحراسة ثم قام يصلي, فبدأ يقرأ في سورة الكهف، فأخذ الأعداء ينظرون إليه وهو حارس يقرأ في الليل, وهم لا يعرفون الصلاة ولا القراءة فأخذوا يرمونه بالسهام, وما أراد أن يقطع القراءة، فأخذ كلما انغمس السهم في جسمه يخرجه وينزله في الأرض, ويستمر في القراءة، وكلما أتى السهم الآخر أخرجه ودماؤه تنصب من جسمه, وأتى السهم الآخر ويخرجه, فلما غلبته الدماء خفف في الصلاة, وقام وزحف إلى عمار، وقال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أقتل فتفتح ثغرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ما ختمت هذه الصلاة حتى أتم سورة الكهف، فقال عمار: رحمك الله، ألا كنت أيقظتني؟! فأخبره، فقام عمار رضي الله عنه وأدركوا هذا, فأيقظوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا يوضح لنا كيفية حراسة الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام وللمسلمين.
وكان حارسه عليه الصلاة والسلام ربما حرسه عند باب بيته قبل أن ينزل الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] يقول أنس: رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر فلما اقتربنا من المدينة دخل صلى الله عليه وسلم بيتاً له -أي خيمة- قال: فسمعته بالليل يقول: {ليت رجلاً صالحاً يحرسنا هذه الليلة} قال: فأتى سعد بن أبي وقاص فسمع من بعض الناس أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {ليت رجلاً صالحاً يحرسنا هذه الليلة} فتوضأ سعد بن أبي وقاص ولبس سلاحه وأخذ سيفه ووقف عند باب الخيمة من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، فلما عَلِم صلى الله عليه وسلم بـ سعد قال: {اللهم اغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر} فكان من الحراس الصادقين.
أفضل أيام أبي عبيدة:
قيل لـ أبي عبيدة -وقد مر معنا هذا- أي يوم من أيامك أنت عند الله؟ وأي ليالٍ من لياليك أحسن عند الله؟ قال: ليلة واحدة من ليالي اليرموك، قالوا ما هي؟ قال: كنت أمير الجيش فقمت وسط الليل وقد نام الناس جميعاً، وكان ذاك اليوم مطيراً، والناس في نومة ما أحسن للمقاتل والمسافر منها، فأيقظت امرأتي وقلت: أتريدين ليلة من ليالي الجنة؟ قالت: بلى، قلت: قومي معي نحرس الناس، فقام يدور هو وامرأته في المخيم كلما رأوا إنساناً قد خرج لحافه من عليه ردوا اللحاف وألحفوه حتى أصبح الصباح، فهي من الليالي الخالدة التي يتقدم بها أبو عبيدة وكأنه ما عنده من الليالي إلا هذه الليلة، وكل لياليه لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(265/21)