حتى لا نتخلف عن الركب
التخلف عن ركب محمد صلى الله عليه وسلم خسارة كبيرة جداً، فعلى كل من تخلف عن ركبه صلى الله عليه وسلم أن يتوب ويستغفر وينيب إلى الله عز وجل، وينضم إلى ذلك الركب الجليل، ولا يتخلف عنهم فيصبح من المنافقين، أو يلتفت إلى المغريات فيتأخر عن اللحاق بهم.(224/1)
غزوة تبوك
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن.
من أطاعك أحببته، ومن تذلل إليك قرِّبته، ومن حاربك أدَّبته، ومن ناوأك خذلته.
لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
أشهد أنك الملك الحق وأن ما سواك باطل، وأشهد أنك الباقي وأن ما سواك فان، وأشهد أنك قوي وما سواك ضعيف، وأشهد أنك الغني وما سواك فقير، وأشهد أنك الدائم وما سواك زائل.
أشهد أن محمداً خاتم، وصادق، وناصح، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أشكر لأهل الفضل فضلهم، وعلى رأسهم القائمون على هذه القاعدة، أسأل الله أن يثبتهم على الحق، وأن يرزقهم القبول، وأن يسددهم إلى طريق الطاعة.
عنوان المحاضرة: حتى لا نتخلف عن الركب.
ركب من؟!
ركب محمد عليه الصلاة والسلام.
ومسيرة من؟! مسيرة محمد صلى الله عليه وسلم.
طريق من؟! طريق محمد صلى الله عليه وسلم.
لكن قبل ذلك من واجبي التحية إلى أحباب أحببتهم في الله، وهم أحبوني فيه، فأشهد الله في هذه الليلة -وهو يسمع ويرى- أني أحبكم فيه، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجمعني بكم في دار الكرامة: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] يوم يجمع الأشقياء الخونة العملاء في دار الضلال والشقاء، جهنم وبئس المصير:
سلامٌ على الأحباب ما بارقٌ سرى أرصعه مسكاً وأرويه عنبرا
لمن سكن الدمام من كل ماجدٍ بنفسي تلك الدار ما أحسن القرى
أتيتك من أرض الجنوب مسلماً على ملة التوحيد لا نهج قيصرا
إذا نحن سرنا فالرسول إمامنا دم الجيل من أجل المبادئ قد جرى
رضينا بك اللهم رباً وخالقاًَ وبالمصطفى المختار شهماً وهاديا
أيها الأخيار: يا حملة المبادئ! يا من باعوا أنفسهم من الله! حتى لا نتخلف عن الركب أرويها قصة وأربطها بواقعنا، ونعيشها كلمة نسأل عنها عند الله يوم القيامة.(224/2)
تجهيز جيش تبوك
تخلف بعض الناس عن ركبه عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك، فلامهم عليه الصلاة والسلام، وعاتبهم كثيراً، وما كان لهم أن يتخلفوا أبداً، بل قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة:120] وما كان لمؤمن ولا مؤمنة ولا مسلمٍ ولا مسلمة أبداً أن يتخلف عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، لا في الصلاة ولا في الزكاة، ولا في الصيام، ولا في السنة ولا في اتباع الظاهر والباطن؛ فإن فعل ذلك فقد خان الرسالة.
وقف عليه الصلاة والسلام بعاصمته المقدسة المدينة المنورة يعلن الحرب على الروم، ويخبر أنه سوف يرتحل إلى تبوك فمن شاء فليذهب معه، ليقطع هذه الجزيرة التي تصهرها الشمس في سبيل الله، والتعب في سبيله راحة، والظمأ في سبيله رواء، والجوع في سبيله شبع:
جزى الله الطريق إليك خيراً وإن كنا تعبنا في الطريق
فكم بالجهد بتنا قد نراعي نجوم الليل من أجل الصديق
وقف على المنبر فقال: من يجهز جيش تبوك وله الجنة؟ وهو الذي يضمن وغيره لا يضمن، وهو الصادق وغيره قد لا يصدق في هذه المواقف، وهو المتكلم عن الله بشرعه، على المنبر؟ فقال عثمان: أنا يا رسول الله! -الجيش بجماله وبأحلاسه وبدراهمه وبدنانيره- فدمعت عيناه عليه الصلاة والسلام، الدموع الصادقة الحارة التي لا تعرف الكذب وقال: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راضٍ، ثم نزل من المنبر عليه الصلاة والسلام، ومشى الجيش.(224/3)
تخاذل المنافقين
وأتى المنافقون الخونة -ثمانون منافقاً أو أكثر- الذين تعطلهم شهواتهم وأراضيهم وبطونهم وقدورهم عن الجهاد في سبيل الله، والتضحية لمنهج الله، وعن الحضور لصلاة الفجر، والتخلف عن صلاة الجماعة، والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى عنهم: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح:11].
جاءوا يستأذنون، يقول أحدهم: يا رسول الله! زوجتي مريضة.
قال: معذور! وهذه أعذار تافهة، لكن عذرهم صلى الله عليه وسلم على الظاهر.
وقال الثاني: طفلي مريض! قال: معذور.
وقال الثالث: رأسي يؤلمني! قال: معذور.
وقال الرابع: أنا لا أستطيع الحرب، قال: معذور.
قال الخامس: أنا رجل إذا رأيت بنات الروم أفتتن، قال: معذور.
قال الله عز وجل من فوق سبع سموات: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43] أما تعلم أنهم خونة؟
أما تعلم أنهم ما صدقوا في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؟
أما تعلم أنهم ما صدقوا في لا إله إلا الله؟
الآن يزعم أن عدد العالم الإسلامي مليار، لكن أين المليار أمام إسرائيل؟!
عدد الحصى والرمل في تعدادهم فإذا حسبت وجدهم أصفارا
من كل مفتونٍ على قيثارةٍ كلٌ رأيت بفنه بيطارا
أو كاذبٍ خدع الشعوب بدجله عاش السنين بعمره ثرثارا
أو عالم لو مالقوه بدرهمٍ رد النصوص وكذَّب الأخبارا
أذن لهم صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة:
منهم كعب بن مالك؛ يروي معاناته، وأنا أرويها لكم هذه الليلة، وهي رواية أبكت أهل العلم، وأبكت الفضلاء على مر التاريخ.
إنها حسرة، وإنها دمعة أن يتخلف الإنسان عن الصلاة، أو عن الجهاد، أو عن فعل الخير.
تخلف رضي الله عنه ولم يكن له عذر، فقد ارتحل صلى الله عليه وسلم، وقال كعب بن مالك الشاعر -وهو من الأنصار الصادقين لكن أراد الله أن يتخلف لحكمة أرادها- والله ما كان لي من عذر، وقد قلت: سوف أرتحل غداً وألحق بالرسول عليه الصلاة والسلام، وقد ارتحل عليه الصلاة والسلام حين طابت الثمار في المدينة، وحين أصبح البلح يتدلى من نخل المدينة، وكان حر الجزيرة يلتهب، فالصحراء تخرج قذائف كالبراكين، والشمس تصهر الناس، ولكن يقول الله عزوجل لهؤلاء الخونة، المارقين المنافقين: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81] يقول بعضهم لبعض: انتظروا لا تخرجوا في الحر، الحر مؤذي، قال الله عزوجل: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81] بالله يا مسلمون! يا أخيار! يا أحفاد محمد عليه الصلاة والسلام! أي حر أشد الجزيرة العربية في الظهيرة أم حر جهنم:
تفر من الهجير وتتقيه فهلاَّ من جهنم قد فررت
وتشفق للمصِّر على الخطايا وترحمه ونفسك ما رحمت
مشيت القهقرى وخبطت عشوى لعمرك لو وصلت لما رجعت(224/4)
حر الجزيرة أثناء غزوة تبوك
خرج عليه الصلاة والسلام، والحر يلتهب، والشمس المضنية تسحق ذرات الرمل، ومع ذلك أراد الله والدار الآخرة، وذكر الله أنهم لا يطئون موطئاً يغيظ الكفار، ولا يصعدون جبلاً، ولا يهبطون وادياً، أو يجوعون أو يظمئون إلا كان في سجل حسناتهم.
مشى صلى الله عليه وسلم بجيش عداده عشرة آلاف يخترق وسط الجزيرة العربية إلى شمالها في اتجاه تبوك، ليطرد المستعمرين والمحتلين والخونة عن حدود الجزيرة؛ لأنه يريد أن يطهرها لتبقى جزيرة لا إله إلا الله، جزيرة (إياك نعبد وإياك نستعين) جزيرة محمد رسول الله:
أنا الجزيرة في عيني عباقرة المجد والفجر والتاريخ والشرف
أنا الجزيرة بيت الله قبلتها وفي ربى عرفات دهرنا يقف
ومشى عليه الصلاة والسلام ولما اقترب من تبوك تخلف أبو ذر الغفاري، فقال: أين أبو ذر؟
قالوا: تخلف يا رسول الله! قال: إن يرد الله به خيراً يلحقه معنا، وإن لم يرد الله به خيراً لا يلحقه بنا.
كان أبو ذر له جملاً، فضربه وأراده أن يرتحل ولكن الجمل ما فعل، فأخذ متاعه على ظهره وترك الجمل، وأتى يقتلع خطاه في الصحراء، ليلحق بالرسول عليه الصلاة والسلام، فلما اقترب قال صلى الله عليه وسلم: {كن أبا ذر} فكان أبا ذر.
وكان صلى الله عليه وسلم ودموعه تهراق من عينيه يقول: {رحمك الله يا أبا ذر!
تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك}
يقول: أحد الفضلاء المعاصرين: " تعيش وحدك؛ لأن مبادئك وحسناتك لا تترك لك من يزاحكمك، وتموت وحدك؛ لأن ميثاقك واحد، وتبعث وحدك؛ لأنك صادق أمة واحدة ".
ونزل صلى الله عليه وسلم في تبوك، وتمر به صلى الله عليه وسلم قصص هائلة يجدها من يتدبر السيرة.(224/5)
دور المنافقين في غزوة تبوك
يأتي المنافقون وهم في كل زمان موجودون، إن سكنت قرية فمعك الأعداء، وإن سكنت مدينة جعل الله لك أعداء:
ليس يخلو المرء من ضد ولو حاول العزلة في رأس الجبل
والله يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] وهو الصراع العالمي: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251].
في النادي مصارعة بين الحق والباطل، وفي الملعب حرب بين الحق والباطل، وفي الحارة، والحديقة، والشاطئ، والساحة، والجامعة، والمدرسة، وحول المسجد، وفي كل مكان صراع بين الحق والباطل، فقد أراد الله أن يتصارع الحق والباطل، وأراد الله معتركاً عالمياً بين (لا إله إلا الله) (ولا إله والحياة مادة) مثل عراك النور والظلمة، والحلو والحامض، والحار والبارد.
جلس المنافقون يتشفون في محمد صلى الله عليه وسلم، يسبون ويسخرون مثل من يسخر الآن بالأخيار؛ يصفونهم بالتطرف وبالفضوليين وبالأصوليين وبالمتزمتين، وغيرها من التهم التي لا توجه إلا لليهود والنصارى.
فقالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء؛ يقصدون الصحابة أنهم جبناء ويأكلون كثيراً.
وكان المنافقون مندسين في الصف، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وإنما يعلمه الله الذي يعلم السر وأخفى.
نزل جبريل عليه السلام يقول: في الصف دخلاء وعملاء وخونة، استدعهم الآن واسألهم ماذا قالوا البارحة، فاستدعاهم صلى الله عليه وسلم فكانوا يتعلقون بناقته، ويقولون: يا رسول الله! إنما كنا نمزح البارحة، ونخوض ونلعب، ونقطع الطريق، ما أردنا الإساءة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أبلله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فالمسألة ليست مسألة استهزاء باللحى والثياب القصيرة والخطب والوعاظ والعلماء، المسألة مسألة هجوم ساحق على الإسلام وعلى الدين، وعلى شباب الصحوة.
إذاً: الحرب شعواء منذ القدم، فالذي يحاربني ويحاربك الآن قد حارب محمداً عليه الصلاة والسلام، فوالله لقد نجح محمد عليه الصلاة والسلام في حرب الإغراء والابتلاء؛ والوسائل التي يجربها دائماً أهل الباطل هي نفسها، جربوا معه الدراهم والدنانير فأبى عليهم، قالوا له: نزوجك أجمل فتاة؟ قال: لا.
قالوا: نملكك على العرب؟ قال: لا.
قالوا: نجمع لك مالاً حتى تكون أغنى الناس؟ قال: لا.
قالوا: أتترك مبادئك وعقيدتك؟ قال: {والذي نفسي بيده! لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه} فلله درك، هكذا فلتكن التضحيات والشجاعة، وجربوا معه الإيذاء.
سجد عند الكعبة فأتوا بسلى الناقة فوضعوه على رأسه، فقام يبعد الدم عنه، ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.
أخذوا بناته يضربونهن في وجوههن أمامه، فقال: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.
أخرجوه من مكة وحاصروه، فقال: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.
طردوه إلى الطائف فطرده أهل الطائف وأدموا قدميه، فقال: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.
يقول له ملك الجبال، أتريد أن أطبق عليهم الأخشبين؟ -جبلي مكة -فيقول: {إني أسأل من الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً} هذا الذي نجح فيه صلى الله عليه وسلم.
هؤلاء استهزءوا فكفرهم الله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].(224/6)
كعب بن مالك وتخلفه عن الركب
وانتهت الغزوة في مواصفات كثيرة، وفي أحداث مبكية مضنية، ورجع عليه الصلاة والسلام.
أما كعب بن مالك فهو في المدينة يعيش أياماً سوداء في حياته، قال: [[كنت أخرج بعد ذهاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعد ذهاب الصحابة فلا أرى إلا شيخاً كبيراً في السن، أو عجوزاً، أو امرأة، أو رجلاً مغموساً عليه في النفاق، فلما اقترب عليه الصلاة والسلام من المدينة قال: حضرني بثي وحزني]] وكان كعب بن مالك شاعراً بليغاً، يجهز المعاذير لكنها سوف تتساقط، ويأتي بحجج يتحفظها في صدره لكنها سوف تهوي.
واقترب صلى الله عليه وسلم من المدينة، وكان إذا اقترب من المدينة يدخلها وقت الضحى فيستقبله أهل المدينة كأعظم ما يستقبل الأخيار إمامهم وعظيمهم وفاتحهم.
والصحيح عند أهل السير أن الأطفال خرجوا يحيونه بـ (طلع البدر علينا) يوم أتى من تبوك، خرج الأطفال من المدينة والجواري -البنات الصغار- خرجن على أسقفة المنازل يحيون أعظم قائد عرفه تاريخ الإنسان، فقد أخرج الناس من عبودية الإنسان للإنسان لعبودية الإنسان لرب الإنسان، وأخذوا يهتفون:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع(224/7)
استقبال كعب بن مالك للنبي صلى الله عليه وسلم
أخذ صلى الله عليه وسلم يوزع البسمات على هؤلاء، ويحمل أحياناً الأطفال ويقبلهم وينزلهم من على راحلته، ومرة يردف أحدهم ومرة يجعله وراءه؛ لأنه أبو الأطفال، واليتامى، والمساكين، ومحرر المرأة، ورافع حق الإنسان، وموجد حق الحوار.
فوصل صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد فصلى ركعتين، فأما المنافقون فاعتذروا فعذرهم صلى الله عليه وسلم وخرج، وأما كعب بن مالك فجلس أمام الرسول صلى الله عليه وسلم والحسرة تملأ قلبه.
وانظر إلى عِظَم الحسرة! وهي أن يتخلف تلميذٌ عن شيخه في إحدى مقامات التضحية، لم يكن هناك تحضير للأسماء، لكن الله يعلم الغيب وأخفى، سجل عشرة آلاف الله يعلمهم واحداً واحداً، وأخبر رسوله أن ثلاثة تخلفوا، لكن هؤلاء الثلاثة لهم مكانة في الإسلام.
أتى كعب بن مالك فجلس أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: [[يا رسول الله! والله لو جلست أمام أحدٍ من أهل الدنيا غيرك لظننت أني سوف أخرج بحجة، فإن الله آتاني بياناً وجدلاً، ولكن يا رسول الله! والله إن اعتذرت لك اليوم بعذر كاذب وترضى عني، فإني أخشى أن يسخطك الله عليَّ ويسخط الله عليَّ، وإن اعتذرت لك بعذر صادق وتغضب عليَّ أسأل الله أن يرضيك ويرضى عني، أما أنا فلا عذر لي.
قال: قم ويقضي الله في شأنك ما شاء، فقام فتلقته قبيلة بني سلمة، قالوا: ما رأيناك فعلت فعلاً أقبح من فعلك إلا عذرك، عد إليه واعتذر ولو كنت كاذباً.
قال: فأردت أن أعود فأكذب نفسي، فذكروا لي رجلين من أهل بدر تخلفا معي واعتذرا بمثل عذري.
فقلت: لا ولم ألتفت إليهم]].(224/8)
إعلان المقاطعة على كعب بن مالك
عاد كعب إلى بيته وأعلن عليه الصلاة والسلام في الناس مقاطعة هؤلاء الثلاثة، لا يزارون ولا يكلمون ولا يسلم عليهم ولا ينكحون، ولا يُباع منهم ولا يُشترى، ولا يلقون أبداً ولا يحيون.
وسمع كعب بن مالك فضاقت عليه الدنيا بما رحبت، لا إله إلا الله! وهذا تأديب من الله لهم.
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
وهذا تأديب يفعله الزعماء الأخيار، والفاتحون العظماء -الذين هم على بصيرة من الله عز وجل- لكي يكون دواءً.
وهكذا يفعل بأهل المعاصي، فمن وعظته ونصحته ولنت له وبينت له الحق ثم لم يستجب لك فاهجره، حتى يرى أنك على دين الله عز وجل.
أما أن تُآكل أهل المعاصي، وتشاربهم، وتستقبلهم في بيتك، فهذا معناه: أنك تتضامن وتتكاتف معهم، ومعناها: أنك تتوحد معهم ضد الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22].
يقول عليه الصلاة والسلام فيما يروى عنه: {إنما أهلك بني إسرائيل أنهم كان أحدهم يلقى أخاه على المنكر فيقول له: اتق الله لا تفعل، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه من آخر النهار} أي: تمييع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتضييعه، يسمونه الآن جرح للمشاعر، ويسمونه التدخل في شئون الغير، ويسمونه بتسميات حتى يصفونه بأنه فتنة وهو الحق الصُرَاح.
مقاطعة أعداء الله عزوجل أو من فيه معصية أو انحراف لا بد أن يكون لكي يكون هناك بيان واضح للناس.
وبقي كعب لا يكلمه أحد، فاسمع الآن لمعاناته، يقول: أنزل إلى السوق فأسلم على الناس فلا يردون عليَّ السلام.
وفيه درس امتثال المسلمين لرسولهم عليه الصلاة والسلام، وإلا ليس هناك مراقبة لهم بتجسس، أو بطريقة بوليسية تخبر الرسول صلى الله عليه وسلم من الذي يرد على كعب أو يسلم عليه، السوق لا تنقل أخباره إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
بل يقول صلى الله عليه وسلم: لا تكلموهم، فينزل كعب فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، فلا يرد عليه أحد من أهل السوق؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلن مقاطعته، وحضر السلام عليه واستقباله ومبايعته ومشاراته.
يأتي بسمن يريد أن يبيعه في السوق، فيقولون: لا نشتري منك.
قال: أريد سمناً، قالوا: لا نبيعك.
فقال: أريد ثوباً؟ قالوا: لا نبيعك أبداً، منع الرسول عليه الصلاة والسلام.(224/9)
صور من معاناة كعب بن مالك
يعود إلى بيته فيسلم على أهله، فلا يردون عليه السلام.
يطرق الباب على جيرانه فيقول: السلام عليكم فلا يردون.
قال: فلما ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت تسورت -أي: تسلقت- حائط ابن عمي أبي قتادة.
وهو أحد الأبطال، وفارس الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو جار كعب وابن عمه ومن أحب الناس إليه، وقد تسور عليه كعب؛ لأنه لا يفتح له الباب أبداً، فصعد عليه من الجدار وسقط في حوش بيته، فخرج أبو قتادة، وقال كعب: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فما رد أبو قتادة عليه السلام، قال يا أبا قتادة: أنشدك الله عزوجل هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟
فسكت أبو قتادة، فأعاد عليه ثانية، فسكت، فأعاد عليه ثالثة، فقال كلمة في منتهى البرودة والجفاء -ولو أنه قريبه ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري إلا أن يخبره الله- قال: الله ورسوله أعلم، ففاضت دموع كعب وبكى.
فهذا موقف مؤثر، لكن إن دل على شيء فإنما يدل على مدى النفس الإيمانية التي عاشها السلف، ومدى اتباعهم للرسول عليه الصلاة والسلام وصدقهم معه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول للناس: اجلسوا؛ فيجلس ابن رواحة خارج المسجد في الشمس.
قالوا: لماذا تجلس في الشمس؟ قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: اجلسوا.
ويستمر بـ كعب وبقية الثلاثة الحال وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت كما ذكر الله في محكم التنزيل.
فتغيرت الأرض، فما هي بالأرض التي يعرفونها، وتغير لون الشجر، وهذا كما قال ابن القيم: "المعصية تغير البصائر والأبصار"، والله تعالى يقول: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} [الأنعام:110] وفيه دليل عند الفضلاء المتأخرين من أهل التفسير: أن الشيوعية سوف تسقط، قالوا هذا: قبل خمس وعشرين سنة، وسقط قبل أيام الحزب الشيوعي، وخرجوا عراة الأجساد أمام الدبابات يطرحونها، فهم يريدون أن تعود لهم حرية التنفس والرأي، ويقولون: الموت والخزي والعار للشيوعية.
والله يقول: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] فهم خالفوا الفطرة، فقال سبحانه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].(224/10)
رسالة ملك غسان إلى كعب بن مالك
اسمع إلى حدث وقع: خرج كعب بن مالك إلى السوق يريد أن ينظر إلى الناس فقط، وبينما هو في السوق إذا برجل من النصارى العرب.
فقومية العرب بلا إسلام، فالذين حاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر وفي أحد وفي الأحزاب وأهل صبرا وشاتيلا، وأيلول الأسود، واحتلال الكويت، هم بلا إله إلا الله محمد رسول الله.
فأتى الرجل برسالة من ملك الغساسنة لـ كعب بن مالك، قال: فأخذت الرسالة فإذا هو يقول: من ملك الغساسنة إلى كعب بن مالك أمَّا بَعْد: فسمعنا أن صاحبك قد جفاك -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى تلهف أهل الباطل- ولم يجعلك الله بدار هوان، فالحق بنا نواسك.
فتعال نكرمك، ونحترمك، وننزلك منزلتك، لا إله إلا الله، والله لو كان كعب بن مالك من أهل الدنيا، والذين يبحثون عن المناصب، والذين ضيعوا حياتهم في الوظائف والسيارات الفخمة والقصور بلا مبادئ لركب راحلته وذهب إلى ملك الغساسنة، ولقال: ماذا أفعل بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ فقد قاطعني في المدينة، وحجبني عن أهلي وأصحابي وزملائي؛ ولذلك نرى بعض الناس ينضم إلى معسكرات الكفر بمجرد كلمة، وهذا من ضعف الولاء والبراء، وضعف الانقياد لله عزوجل، فماذا فعل ابن مالك؟
كان بإمكانه أن يشقق الرسالة، لكن أراد أن يصهرها بالنار ليعلم الله أنه صادق.
قال: [[فتيممت بها التنور فسجرته بها]] إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم.
وهذه مبادئ أهل الباطل دائماً تحرق، وأعلامهم دائماً تمزق: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].(224/11)
تعزيز المقاطعة باعتزال النساء
وعاد كعب بن مالك وأتى الإعلان الثاني، قال صلى الله عليه وسلم: اذهبوا إلى الثلاثة الذين تخلفوا وقولوا لهم: اعتزلوا نساءكم.
الله أكبر! فذهبوا إلى الثلاثة فأخبروهم، فقال: كعب بن مالك: ماذا نفعل: أنخرجهنَّ من بيوتنا؟ قال: لا.
بل لا تقربوهن، فهي تبقى عندك في البيت ولكن لا تقربها أبداً؛ جزاءً ونكالاً حتى يتحرر هذا الإنسان ويكون عبداً لله عز وجل؛ لئلا يكون للشيطان فيه حظ وللرحمن حظ، لأننا نجد كثيراً من الناس أن للمجلة الخليعة وللمصحف منه حظ، وللمقهى وللمسجد منه حظ، وللموسيقى وللتلاوة منه حظ، ولأولياء الله وللشيطان والشريرين في العالم منه حظ، لا.
بل لا تكون عبداً لله حتى لا يكون لأحدٍ سوى الله منك حظ.
كان عمر يسجد، ويقول: [[اللهم اجعلني عبداً لك وحدك]] لله درك فما أحسن هذا الكلام.
فإنك ترى من الناس من هو عبد للسيارة، وعبد للوظيفة، وللمنصب، وللأغنية، وللكرة، وللمجلة، وللفيديو، وللمسلسل، وللهواية: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23] ويقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {تعس عبد الدينار -بعض الناس يعبد المال، وهو أحب إليه من الله- تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش} وبعضهم يعبد العمارة والتخطيط والصبة والخلطة والحديد ولبن البناء.
وبعضهم يعبد السيارة، فتجد اعتناءه بشخصيته وسيارته أكثر من اعتنائه بصلاته، وهؤلاء يسمون الهامشيون في الحياة، أو الذين هم خارج الخارطة.
يقول كعب بن مالك عن المعاناة: [[فنزلت إلى المسجد، فكنت أسارق الرسول صلى الله عليه وسلم النظر، فإذا أتيت إليه، قلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فألتفت إليه هل يحرك شفتيه بالسلام عليَّ فلا أسمعه يقول شيئاً، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل عليَّ، وإذا سلمت انحرف عني]] تصور معلم البشر عليه الصلاة والسلام أفضل من خلق الله، وأصدقهم وأخلصهم يعامل هذه المعاملة.
يأتي يسلم عليه فلا يرد، فيقبل كعب بن مالك على صلاته فينظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فينظر في قامته وفي وجهه ويتأمل فيه صلى الله عليه وسلم، وذاك يشعر في الصلاة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فإذا نظر إليه كعب رجع صلى الله عليه وسلم ونكس ببصره الشريف إلى الأرض.
واستمرت الليالي تلو الليالي، واستمرت المعاناة:
أيها المحرقون في كفى دار فالدموع التي تركت غزار
كلها ومضة إلى المصطفى الهادي وفي كفنا العظيم انتصار(224/12)
الفرج بعد الكرب ينزل على كعب بن مالك
أتى الفرج من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى والفرج دائماً يأتي من عنده، ولذلك يقول تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] والذي في السماء هو الله.
يعرفها الأعرابي البسيط الذي علمه محمد صلى الله عليه وسلم، أعرابي يصلي مع الناقة لكنه مثقف ثقافة إيمانية أوصلته إلى أن يعرف الله عز وجل، فيصلي ركعتين في الصحراء للواحد الأحد.
قال له أحد الوثنيين الملحدين: "لمن تصلي؟ قال: لله.
قال: هل رأيته حتى تصلي له.
قال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وليل داج، ونجوم تزهر، وبحر يزخر، ألا يدل على السميع البصير" بلى، هذه عقيدة التوحيد التي أخرجها صلى الله عليه وسلم إلى الناس.
إنها ثقافة الإنسان يحملها الأعرابي في الصحراء.
أعرابي بدوي صلى مع عمر بن الخطاب في آخر الصفوف، ومعه سيف بتار، فخطب عمر، وعلى عادته يفتح مجال الشورى، وسماع الحوار، والنصيحة، والرأي الآخر.
قال عمر: [[أيها الناس! كيف أنتم لو رأيتموني ملت عن الطريق هكذا -يشير بيده على المنبر- يعني: ما رأيكم لو اعوججت عن الطريق، أي: ملت، أو خنت، أو تركت شرع الله، أو حكمت بغير ما أنزل الله.
فسكت الصحابة، وقام الأعرابي من آخر المسجد -أقلهم ثقافة، أو يعرف بمستوى عصرنا الإسلام، لا من أعرفهم- وسل سيفه، وأشاح به في آخر المسجد، وقال: والله يا أمير المؤمنين! لو رأيناك ملت عن الطريق هكذا، لقلنا بالسيوف هكذا، فتبسم عمر، وقال: الحمد لله الذي جعل في رعيتي من لو ملت عن الطريق هكذا لقال بالسيف هكذا]] لم يقل: خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه، اغمطوه، ورشوه، واسحقوه، هذه مسيرة ميشيل عفلق "أمة واحدة ذات رسالة خالدة" حتى يقول فيهم الشاعر:
وحدويون: هم هذا العرب بدون إسلام.
وحدويون والبلاد شظايا كل جزء من لحمها أجزاء
ماركسيون والجماهير جوعى فلماذا لا يشبع الفقراء
لو قرأنا التاريخ ما ضاعت القدس وضاعت من قبلها الحمراء
ماركسيون في عدن يقولون: أتينا نحرر الإنسان، أتى رجل عدني مسلم يحج ويعتمر فقال له أحد العلماء في المسجد الحرام: "كيف حالكم مع الماركسية والشيوعية؟ قال: القائم سدحوه، والقادح قدحوه".
هذه هي شيوعية الغاز، وشيوعية السكر، وشيوعية الخطوط المزفلتة، يقف الواحد عندهم طابوراً بالبطاقة يأخذ كيلو سكر في ساعتين؛ ولذلك خرجوا ثائرين في موسكو ضد هذه الخيانة والظلم والتعسف وكسروا الحديد.
يقول أحد العلماء: سافرت إلى موسكو في عهد برجنيف في مهمة في جمع مخطوطات ومعلومات، قال: "مررت بالحدائق ذات الأسلاك، وقد وضع فيها الناس كالحيوانات، عندهم ماء وخبز وصناديق تظللهم من الشمس؛ لأنهم خرجوا على الحزب الشيوعي "مثل معاملة الحمير، كأنها حظيرة حمير.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أوقفهم أمام الأمر الواقع حتى يأتي العفو من الله، لأنه إذا عفا عنك البشر ولم يعفُ عنك الله فلن ينفعك، والله يقول: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] ثم قال: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135].
هل سمعتم أن أحداً من الناس يملك أن يغفر ذنبك إلا الله؟
هل سمعت أن باستطاعة أي إنسان أن يمحو خطيئتك إلا الله؟
لا.
{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135].
ثم ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى أنه يجيب المضطر، وهذه من الأمور التي تقصم ظهور الشيوعية، أنه لا يجيب المضطر إلا الله، وفي حالة من اضطرار الإنسان يعرف أن هناك إلهاً واحداً مدبراً رازقاً خالقاً متصرفاً في الكون.
يركب الوثني العربي سفينته في البحر الأحمر، فإذا هزته الريح -وهذا قبل مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام- يقول: يا الله! يا الله! يا الله! فالله يذكرهم، يقول: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65].
ولذلك مجموعة الأمريكان الذين ألفوا كتاب: الله يتجلَّى في عصر العلم، إنما أسلموا بسبب رسو سفينة في المحيط الأطلنطي وأخرجهم الله؛ لأنهم نادوا الله.
لأن الإنسان على الفطرة، إذا ضاقت به الحيل التفت إلى الله ودعا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].(224/13)
بعد خمسين ليلة
وقف كعب بن مالك في هذه المرارة بعد أن مرت به خمسون ليلة، وهو في كل ليلة لا ينام، تزوره كل ليلة، حملة هائلة من الهموم:
وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظام
أبنت الدهر عندي كل بنتٍ فكيف نجوتِ أنت من الزحام
وبعد ذلك أتى الفرج من الله، ونزل جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعال: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:118] وعاد برحمته ليعودوا، وهداهم إلى التوبة ليهتدوا إلى صراط الله المستقيم.
أيها الفضلاء: يا أبناء الأمة! يا أمة التوحيد: من أراد الله وجده، يعرف ذلك من جرب الدعاء في الضوائق والشدائد أن الله قريب، وأنه يكشف الكرب، وأنه أقوى قوة تنصر الإنسان حين يلتجئ إليه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] والله يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52] والله يقول: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36] ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] أي: يكفيك الله، ومن ركن إلى الله فلا يخاف.(224/14)
نزول التوبة من السماء
نزلت توبة الثلاثة من السماء قبل صلاة الفجر، ولماذا نزلت قبل صلاة الفجر ولم تنزل قبل صلاة العشاء، أو بعد المغرب، أو قبل العصر أو بعده، أو في الظهر؟
قال بعض الفضلاء: نزلت قبل صلاة الفجر؛ لأن هذا الوقت وقت نزول الرحمات، ولأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في كل ليلة -كما هو معتقد أهل السنة والجماعة - يتنزل إلى سماء الدنيا، فيقول:
هل من سائل فأعطيه؟
هل من مستغفر فأغفر له؟
هل من داعٍ فأجيبه؟
وأنا أقول: إن على الإنسان أن يعرض نفسه أمام هذا الفيض الإلهي، وأمام الرحمة المباركة التي لا تنقطع، وأن يعرض نفسه على ربه، وإن وقع في زنا أو مخدرات أو ترك الصلاة، أو ارتكاب فواحش ومنكرات، أو تخلف عن الصلوات، أو قطيعة لميثاق الله، أو غير ذلك، ليقول: أخطأت وعدت.
فالله عزوجل في الثلث الأخير من الليل -يوم لا يقوم إلا الخواص من أوليائه- يبارك في تلك الدقائق وفي تلك الساعات.
نزلت توبتهم على الرسول عليه الصلاة والسلام، فتسابق الناس من يخبرهم أولاً؛ فأتاه فارس على فرس، ورجل يسعى وآخر يمشي.
صلى كعب بن مالك الفجر ثم جلس على سقف بيته -وبيته وبين الرسول صلى الله عليه وسلم جبل سلع - يسبح الله عز وجل في حالة من الضنك والأسى واللوعة والهم والغم كما وصفه الله، وإذا برجل على جبل سلع، يقول: يا كعب بن مالك! أبشر بتوبة الله عليك، فيسجد على التراب سجدة الشكر لله:
وحسان الكون لما أن بدت أقبلت نحوي وقالت لي إلي
فتعاميت كأن لم أرها حينما أبصرت مقصودي لديّ
وإذا الحسن همى فاسجد له فسجود الشكر فرض يا أخي
سجد لله عزوجل، ثم رفع رأسه ودعا الله وانهلت ودموع الفرح تنهل من عينيه:
طفح السرور عليَّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
وهي دموع باردة ليست دموعاً حارة كدموع الأسى واللوعة والحزن، لكن دموع باردة هي دموع الفرح، ودموع التائبين، ودموع تحصل على أعظم جائزة يطمح إليها البشر وهي جائزة رضوان الله، لا جائزة نوبل ولا غيره، جائزة رضوان الواحد الأحد أن يرضى عنك.
يقول أحد الناس: ليتني كنت مع الصحابة تحت الشجرة؛ لأعيش مشاعرهم يوم بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الموت، ثم أنزل الله جبريل من السماء، يقول: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] حتى تدري أنت باسمك واسم أبيك أنك من الذين بايعوا تحت الشجرة وأن الله رضي عنك، لا إله إلا الله.
قال: وأتى الفارس على الفرس لكن صاحب الصوت الذي في الجبل سبقه، قال: فأردت أن أكرمه -هذا المبشر الذي يبشرك بشيء لا بد أن تكرمه، وأعظم ما يبشرك أن الله تاب عليك- فخلعت ثوبي له وبقيت في إزار وأعطيته، لم يكونوا يملكون من الدنيا شيئاً، حكموا ثلاثة أرباع الكرة الأرضية بالرماح الممشوقة، والسيوف المثلمة، ودخلوا يصلون ويكبرون في قرطبة، وخطبوا في الحمراء، وسجدوا لله في أسبانيا وسيبيريا والأندلس والسند والهند وطاشقند وغيرها.
هذه الجمهوريات الروسية التي تنفصل عن الاتحاد السوفيتي فتحها أجدادنا بالرمح والسيف والبغال، جمهوريات كازخستان جمهورية البخاري، وجمهورية أزبيكان جمهورية الترمذي وسيبويه والكسائي وعلماء الإسلام، نعم!
قال: وذهبت إلى ابن جاري فاستعرت ثوباً لأقابل الرسول عليه الصلاة والسلام، لم يجد ثوباً آخر ليحمله أو ليرتديه، فأخذ ثوباً آخر من ابن جاره.(224/15)
لقاء الأحبة بعد فرقة
مشى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر جلس للصحابة يؤول الرؤيا التي تعرض عليه، ويسمع ما وقع في الأمة من وقائع، ويجيب صلى الله عليه وسلم.
قال فدخلت المسجد، فقام لي طلحة بن عبيد الله، والله ما قام لي إلا هو ولا أنساها لـ طلحة؛ يعني: من التبجيل أنه قام له وعانقه.
أحد العلماء يمشي وأحد الأدباء جالس، فقام الأديب فقال العالم لا تقم، قال:
قيامي والإله إليك حقٌ وترك الحق ما لا يستقيمُ
وهل رجلٌ له لبٌ وعقلٌ يراك تجي إليه ولا يقوم
عانقه طلحة، فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فهش وبش، عاش السرور كله عليه الصلاة والسلام كأن الفيض له وحده، وكأن الفرح له وحده، قال: فتهلل وجهه عليه الصلاة والسلام حتى استنار، والذي نفسي بيده إني أرى أباريق وأسارير وجهه عليه الصلاة والسلام، وكان إذا استنار وجهه أصبح كالقمر ليلة أربعة عشر، فرحاً بأن أحد محبيه تاب الله عليه، والله يقول له: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].(224/16)
باب التوبة مفتوح
والله لو تركت الرحمات للبشر ما رحم أحدٌ أحداً، الآن بعض الناس يحجر على الناس طريق التوبة، وتجد بعض الناس يريد أن يغلق باب التوبة على الناس.
رجل من بني إسرائيل قال لأحد الفسقة: {تب إلى الله، قال: اتركني وربي -يقول الفاسق للعابد: اتركني وربي، أنا أصطلح مع الله- قال: والله لا يغفر الله لك -أصدر حكماً من الأرض، والذي في السماء يرفض هذا الحكم- فأوحى الله عز وجل إلى موسى: من الذي يتألى عليَّ -من الذي يحلف علي: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] ويقول: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21]- أشهدكم يا ملائكتي أني قد أحبطت عمل هذا العابد، وغفرت لهذا الفاسق، فليستأنف العمل}.
صلى عليه الصلاة والسلام إحدى الصلوات -إما الظهر أو العصر- فصلى معه أعرابي أتى من البادية وكان يتحملهم صلى الله عليه وسلم كثيراً وقبل أن يسلم الأعرابي من التحيات قال: " اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً " انظر العبارة ما أحسنها.
ضاقت عليه الأدعية إلا هذا الدعاء، فسلم عليه الصلاة والسلام- ولم يكن ينادي بالأسماء -قال: من القائل، وهو يعرف أنه هذا؛ لأن أبا بكر لا يقول هذا، ولا عمر، ولا أُبي، قال من القائل آنفاً: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فسكتوا، وقال الأعرابي: أنا يا رسول الله! قال: {لقد تحجرت واسعاً} والله رحمت الله وسعت كل شيء، يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156].
تهلل وجهه صلى الله عليه وسلم وارتاح عند رؤية كعب، وهذا واجب إيماني أن ترتاح إذا تاب الله على أخيك، أو عاد ضالٌ من ضلاله، أو رجع علماني، أو تاب حداثي، أو كان هناك متخلفاً عن المسجد ثم صلى وسلك الهدى، أو كان هناك من يتناول المخدرات فتاب الله عليه، أما أن تكون مصدر إزعاج وتشهير عليه، وتقول: أنت الذي كنت تفعل وتفعل، هذا خطأ ولا يقره الإسلام، بل تفرح وتحمد الله على هذا الفضل، وتشاركه السرور.(224/17)
من ثمار التوبة
قال صلى الله عليه وسلم: {يا كعب بن مالك! -هذا بيانه صلى الله عليه وسلم بالتوبة- أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك} خير يوم منذ ولدته أمه هو ذاك اليوم، قال شيخ الإسلام: "وفيه أن يوم التوبة هو أفضل يوم يمر على الإنسان، وفيه أن العبد يكون بعد التوبة أرفع منه قبل التوبة"؛ فإن كعب بن مالك قبل هذا الذنب لم يكن كدرجته بعد الذنب والعودة إلى الله عزوجل، بل كان أرفع وأرفع كثيراً.
وفيه: أن الخطايا يكفرها الله لمن تاب.
وفيه: أن الله لا يتعاظمه ذنب.
وفيه: أن العبد عليه أن يصلح حاله بعد الذنب ليدرأ بالحسنة السيئة إلى غير ذلك من القضايا.
قال كعب: [[يا رسول الله! أمن عندك أم من عند الله؟]] يريد أن يتأكد من الخبر، يقول: التوبة من عندك يا رسول الله! أو من عند الله عز وجل؟ قال: {بل من عند الله} لأنه هو الذي يتوب على من تاب، وهو الرحمن الرحيم.
قال: يا رسول الله! فإن من توبتي أن أنسلخ من مالي.
يقول: مالي أدفعه يا رسول الله! مزارعه وأملاكه وماله ودراهمه ودنانيره، يدفعه للرسول عليه الصلاة والسلام في سبيل الله، لا إله إلا الله! أي قدرات تلك القدرات، أي تضحيات أن يبلغ بالإنسان أن يتخلى في لحظة واحدة عن كل ما يملك، تصور وأنت جالس تتوب أمام الله، وتقول: لا أعود بشيء وأتوب إلى الله وأنسلخ من مالي.
قال صلى الله عليه وسلم: {أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك} وهذه حكمته عليه الصلاة والسلام ألا يتخلى الإنسان ويضيع أمواله، أو ينفقها مرة واحدة ويبقى متكففاً للناس، لأن الحياة تحتاج والأسرة والأطفال محتاجون إليه، ولا بد أن يبقى معه شيء من قوام عيش ومن عصب حياة.(224/18)
ما يستفاد من قصة كعب بن مالك
تلكم هي قصة كعب وتوبته وإنابته، وعودته إلى الله.
فما هي الدروس المستفادة إذن، من الدروس أيها المسلمون:(224/19)
التخلف عن مجال الخير خسارة
لا ينبغي للعبد أن يتخلف عن مجال الخير، ولا يثبطه الشيطان فإن الله يقول: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46] فقد تسمع النداء فتتخلف وتقول: أنتظر دقائق حتى تقرب الإقامة، بل قم إلى المسجد، واذهب إليه من أول الوقت؛ لأن الشيطان يثبطك حتى يضيعك من الصلاة.
إذا سمعت عن المحاضرة والدرس واللقاء العلمي والفائدة وكل عمل فيه خير فلا تتوقف بل بادر فإن الشيطان سوف يثبطك، وهذا درس من هذه القصة لأن الله لام من تخلف.(224/20)
البذل في سبيل الله والصبر من أجل الله
وفيه أيضاً من الدروس: أجر من بذل في سبيل الله عز وجل، وأن ما يأكله العبد، أو يلبسه، أو يبنيه؛ إنما هو في قسم الضياع، أما من ادخره عند الله عزوجل فلن يضيع:
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن سرور المال أحزان
ومن الدروس أيضاً: أن على المسلم أن يجاهد بنفسه، وأنه مهما تعرض له من ألم أو أذى أو مشقة أو تشهير أو تبكيت أو تعنيف في جانب الله وفي سبيل الله فهو سهلٌ ميسر، وعذب وزلال.
حتى يقول ابن القيم: "يا ضعيف العزم! ناح في هذا الطريق نوح، وذبح فيه يحيى، وقتل زكرياء وضرج عمر بدمه في المحراب، وذبح عثمان، وقطع رأس علي -لماذا؟ لأنهم حملة المبادئ- وسجن الأئمة، وجلدت ظهور العلماء، وأودعوا السجون؛ لماذا؟ لقوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] لا يظن مسلم ولا مسلمة، ولا يظن صالح أو داعية، أو من يحمل هموم هذا الدين أن الطريق سوف تفرش له بالياسمين والورد بل هي بالشوك مفروشة؛ لأن الله أراد أن يمحص أولياءه الذين يريدون طريق الجنة:
قد حفت الجنة بالمكاره والنار بالذي النفوس تشتهي
مع كون كل منهما أدنى إلينا من الشراك في نعلينا(224/21)
فضل أبي ذر
ومن الدروس أيضاً: فضل أبي ذر؛ والشيوعية تعتقد أن أبا ذر في صفها، وقد ألف في موسكو كتاباً اسمه أبو ذر قائد الثورات ومدبر الانقلابات، رسموه على الغلاف مع لينين، ومعه عكاز ولحية طويلة وعليه قبعة.
وكذبوا لعمر الله؛ لأنه كان دخل في مسألة في الدين يقول: ممنوع الاكتناز؛ لأنه فهم الآية على غير ما فهمها الصحابة، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] وقد أخطأ الكاتب الأستاذ: خالد محمد خالد في كتابه رجال حول الرسول في ترجمة أبي ذر، وهو يقول أنه مدبر الثورات، وعدو الثروات، فهذا ليس بصحيح، بل أبو ذر أخطأ في هذه المسألة، ولكن رعى الله أبا ذر وحماه، لم يكن في المعسكر الشيوعي أبداً بل كان مسلماً حنيفاً صادقاً ولم يكن من المشركين.(224/22)
لا يسكت على المستهزئين بالدين
ومن الدروس أيضاً: أنه لا يجوز للإنسان بحال أن يحضر أو يسكت في مجلس تهان فيه القيم، ويلعب بالمبادئ، ويشهر بأهل العلم والدعاة وطلبة العلم والعلماء والدين، فلا يجوز له بحال أن يسكت، فإن هذا من الخطأ الكبير، فالحذر كل الحذر.
وسمعت والعياذ بالله أن بعض الناس يقلد أصوات العلماء ويستهزئ بفتاويهم، ويقلد نغمات صوتهم، وهيكلهم بالمشي وبالجلوس، ويستهزئ ببعض أصوات المؤذنين والأئمة وخطباء المساجد؛ فحسيبه الله ونسأل الله أن يهديه، لكن الإنسان لا يمكن بحال أن يجلس في مجلس يطعن فيه بالدين، وقد نسمع ويأتينا من الأخبار العجيبة التي يندى لها الجبين، ويتمعض لها القلب، ويقذف الإنسان دم، ومع ذلك يصبر والله تعالى يقول: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186].
ولكن المطلوب منا أن نرد، فمن حمى عرض أخيه المسلم حمى الله عرضه في مكانٍ ينتهك فيه الأعراض، ومن أسلم عرض أخيه المسلم أسلم الله عرضه للطامعين والحاقدين: {ومن تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في عقر داره}.
يؤخذ ذلك من قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمَْ} [التوبة:65 - 66] حتى إن بعض الفضلاء من أهل العلم يرون أنه من استهزأ بمجرد اللحية لأنها سنة؛ فقد كفر وخرج من الملة؛ لأنها لحية وسنة؛ ولأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو من أتى بها ولم يأتِ بها موشي ديان ولا هتلر، وإنما أتى بها محمد عليه الصلاة والسلام، والله يقول للأمة ويقول لكل تابع على وجه الأرض: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].(224/23)
إنتظار الفرج وهجر العصاة
ومن الدروس أيضاً: أن على العبد أن ينتظر الفرج، وفي الترمذي: {خير العبادة انتظار الفرج} ولا ييأس العبد من روح الله، فإنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون، يعني جرب التوبة وربما تسقط أول مرة لكن جرب مرة وأخرى وعاشرة ومائة وألف وسوف يجتبيك الله، وسوف يوفقك لطريق التوبة.
ومن الدروس أيضاً: أن العبد لا يطمع إلا في رحمة الله عزوجل، كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] فيطمع في فضل الله تعالى وفي رحمته.
ومن الدروس أيضاً: أن على الأمة أن تهجر العصاة الذين بلغتهم الدعوة واستمروا على فجورهم ومعصيتهم لتأدبهم، وهذا مثل العزل الصحي حتى لا يختلطوا بالمجتمع فيؤثروا فيه؛ لأن الجرباء تعدي الصحيحة، والصحيحة لا تعدي الجرباء، هكذا قال أهل فن الطب.(224/24)
امتثال أمر الله والفرح بتوبته
ومنها أيضاً: أن على الناس أن يمتثلوا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] بل عليهم أن يذعنوا ويسلموا ويؤمنوا ويتبعوا نهج الله الذي أرسل به رسوله عليه الصلاة والسلام.
ومنها أيضاً: تبشير التائبين بتوبة الله عليهم، وتبشير أهل الالتزام أنهم على خير، وتشد من عضدهم، وتَحْبوهم، وتقف بجانبهم، وتدلهم على الخير: {من دل على خير فله مثل أجر فاعله}.
ومنها أيضاً: أن على العبد أن يفرح برحمة الله ويستبشر: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] فأنت ترى حملة المبادئ يفرحون بنصر الدين، ولا يفرحون بشيء آخر، وإنا نعلم من الصادقين لله عزوجل أنهم إذا سمعوا انتشار الإسلام في بقعة من بقاع الأرض والله يتهلل وجه أحدهم مثل ما يتهلل وجه أحدكم إذا سمع أنه زاد راتبه، أو نجح ابنه، أو حصل على أرض، أو على سيارة، أو على قصر، يقول القاضي الزبيري:
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
قرأت في أحد الجرائد قصيدة لرجل نبطي موحد مؤمن داعية، يتحدى الأشرار في أنه سوف يعلن مبادئه مهما كان الثمن، هذه الشجاعة الإيمانية، يقول:
أنا يا كرى مثلك أحب العلا شجعان يراهن براسه ما يخاف الشماليه
أنا بعت راسي من محمد ولد عدنان قبضت الثمن والله يشهد على النيه
هذا بطل، فهذه تصلح في عقيدة الطحاوية معتقد أهل السنة والجماعة تكتب في الأخير، وتدرس في الجامعات.
يقول: أنا يا كرى؛ أي: يا صاحب الباطل، يا أيها اليهودي، أو النصراني، أو البعثي، أو الوثني، أو العلماني، أنا أشجع منك، أنت تموت تحت الدبابة من أجل مبادئ ميشيل عفلق، وأنا من أجل مبادئ محمد صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا أضحي؟ أنا يا كرى مثلك أحب العلا شجعان، يراهن برأسه -هذا ما عند الإنسان إلا رأس واحد- ما يخاف الشمالية أي: دار أبى سفيان.
أنا بعت رأسي من محمد ولد عدنان قبضت الثمن والله يشهد على النيه
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} [التوبة:111] والله تعالى يقول: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] ويقول تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140].
حدثنا الشيخ عبد الله عزام رحمه الله قبل أن يستشهد بقليل: "أن امرأة فرنسية كانت في جبال أفغانستان تبشر بالدين النصراني وهي بملابسها وبمتاعها في الجبال والثلوج، وتهبط وتنام على البعوض وفي المستنقعات من أجل أن تبشر بالدين المسيحي المحرف" ثم إذا جئت تقارن بين أهل الإسلام وأهل الدعوة حتى شباب الصحوة، أين البذل، وأين التضحيات؟ وأين تقديم الدين للناس؟ وأين التأثير في البشر؟ وأين كسر الحواجز؟ حتى نصل إلى الناس في نواديهم، وفي ملاعبهم، وفي مقاهيهم، وعلى الشواطئ، ونبلغ دين الله عزوجل، أين التضحيات؟!
بل إنك تجد من الفجرة والخونة على مر التاريخ من يضحى لمبادئه الفاجرة أكثر من تضحية أهل الإيمان لمبادئهم، فنشكو الحال إلى الله.(224/25)
من قضايا الساعة
وفي ختام هذه المحاضرة هناك قضايا وهي من قضايا الساعة:(224/26)
الإخاء والاعتصام
أولاً: على المسلم أن يسعى إلى الإخاء الذي أنزله الله عز وجل لرسوله مع إخوانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [آل عمران:103] ولا يكون مصدر إزعاج لإخوانه، أو تشتيت لصفوفهم، بل يتألف من تألف معهم على سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو منهج أهل السنة والجماعة؛ المنهج الجميل البديع، المنهج الصافي الواضح، فمنهج أهل السنة والجماعة هو المستقرأ والذي ينظره مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، فلا يكون مصدر إزعاج، ولا اختلاف، بل يكون مصدر إسعاد ونَصَيحة فإن المؤمنين نصحة والمنافقين غششة.
ثانياً: أن على الإنسان أن لا يتشاغل بعيوب إخوانه المسلمين، يقول شيخ الإسلام: "بعض الناس مثل الذبابة لا يقع إلا على الجرح" وهذا مثل بعض الناس يشهر بالذنوب والخطايا، وينسى الحسنات ولم يراجع نفسه، ولم يشتغل بعيوبه، فيجازيه الله أن يشغل الناس بعيوبه فيتحدثون فيه:
ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل(224/27)
الدعوة إلى الله عز وجل والصبر عليها
ثالثاً: أننا في مرحلة تستوجب منا المشاركة، والمفاعلة، وبذل الدعوة بأي وسيلة، فنقرأ مواهبنا واستعداداتنا التي جعلها الله فينا، فما هي موهبتك؟ هل أنت خطيب، أو مفتي، أو متحدث، أو منظر، أو إداري، أو موظف، أو تاجر، أو فلاح، أو مهندس، أو غير ذلك، أو جندي؟ فابذل دعوتك من طريقك، كلكم على ثغور الإسلام فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلك، الله الله لا يهدم دين محمد صلى الله عليه وسلم وأنت حاضر، الله الله لا يتلاعب بالدين وأنت موجود، فاحمِ مبدأ محمد صلى الله عليه وسلم، بل انصر الدين، وحاول أن تكون صابراً متجلداً.
رابعاً: أن تصبر أمام العواصف، مثل السخرية والاستهزاء والسب والشتم، واعلم أنها في درجات حسناتك، وأنها من ذخيرتك عند الله وتكفير سيئاتك.
خامساً: على المرأة المسلمة أن تعيش دورها الذي جعلها الإسلام فيه، وهي مسئوليتها أمام الله وأمام رسوله عليه الصلاة والسلام وأمام المسلمين، فعلى المرأة أن تكون داعية في بنات جنسها، داعية إلى منهج الله، وإلى جنة عرضها السموات والأرض، ملتزمة بشرعه، عاملة بالكتاب والسنة، مؤثرة تحمل هموم الدعوة؛ لأننا قصرنا كثيراً في جانب تعليم النساء، وتثقيفهن وتفقيههن ومدارسة العلم معهنَّ، هذا تقصيرٌ حاصل، وهو كثير ومستقرأ ومستفيض.
فأنا أوصي المرأة الآن أن تقوم بدورها في الحياة فهي مستهدفة، ويريد أهل الباطل أن يدخلوا من طريقها لهدم هذا الدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم.(224/28)
التثبت من الأخبار
سادساً: أن على المسلمين عامة في وقت الفتن أن يثبتوا، وأن يتأكدوا من مصادر الأخبار، وأن لا يتعجلوا، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] وليحذر الخطيب والواعظ والداعية والمتحدث أن يقدم على شيء قبل أن يستقرأ خبره، ويتأكد منه؛ قلت هذا بمناسبة قتل المجاهد الشيخ جميل الرحمن رحمه الله وأسكنه الله في فردوس رحمته، وجمعنا به في دار الكرامة، والحقيقة أنه سعى لشيء وقد أدركه.
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فقدم على ما قدم، ولقي الذي يطمح إليه، فنسأل الله أن يجمعنا بالصالحين في دار الكرامة.
فعلى الإخوة ألا يتحدثوا في مثل هذه المسائل حتى تتضح ويصدر فيها شيء من أهل العلم بعد التبين، وبعد أخذ الحيطة، وبعد معرفة الأخبار، ومصدر الأخبار: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] لأني سمعت أن بعض الناس تعجل في بعض كلماته، واتهم بعض الناس، ونحن نبرأ إلى الله عزوجل من اتهام المسلمين أنهم يريدون دماء المسلمين؛ لأن دم المسلم ليس بالرخيص، في حديث صحيح قدسي، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وعزتي وجلالي لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل امرئٍ مسلمٍ لكببتهم على وجوههم في النار} ويقول عليه الصلاة والسلام: {ولزوال الدنيا بأسرها أهون عند الله من قتل امرئٍ مسلم}.
يقال ابن تيمية استقبل القبلة قبل أن يموت وقال: "تبت عن كل من كفرت من أهل القبلة" مع ذلك يُنسب أن فلاناً سفك دم فلان.
ثم أقول لكم إن الفتنة وقعت بين طائفتين من المسلمين في عهد علي ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين، والله تعالى يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] فأثبت أنهم يقتتلون، وقال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] فسماهم إخوان ولم يخرجهم من الإسلام، وقد اقتتل الصحابة في الجمل وصفين فلم يكفروا بالقتال، وما خرجوا من الملة، وما خرجوا من الدين.
ثم إني أطالب من الإخوة ألا يسافروا في هذه الفترة إلى أفغانستان، وقد رأى كثير من أهل العلم وأهل الفضل أن السفر في هذه الأيام ليس بسديد، وينتظر العبد حتى تصفوا الأمور وتظهر، وأرى أن يسددوا من جهود إخوانهم، وأن يدعوا للمجاهدين بأن يجمع الله شملهم وينصرهم على الباطل، ثم لا يشهرون بأحد، ثم لا يكونون مصدر إزعاج، ثم لا يكونون دخيلاً ومعيناً للمنافقين والحاسدين والحاقدين في ضرب الجهاد.
هذه مسائل أحببت أن أعرضها على إخواني فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الحسيب، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يغفر لنا ولكم الخطأ والزلل، وأن يجمعنا بكم في دار الكرامة، وأن يرحمنا وإياكم رحمة عامة وخاصة ظاهرة وباطنة، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل، وأن يوفق كل من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأن يهدم كل من في هدمه صلاح للإسلام والمسلمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
ولا يفوتني أن أشكر باسمكم جميعاً المقدم سعيد الدخيل وإخوانه وزملاءه والحضور أجمعين.(224/29)
الأسئلة(224/30)
تمكين المشركين
السؤال
نحن نعلم ما للمشركين فيه من تمكينٍ في الأرض، فهل مُكنوا لأنهم مشركون لكي يضلوا من في الأرض، أم لأنهم أخذوا بأسباب التمكين، فإذا كانت الثانية فما هي نصائحك للمسلمين لكي يمكنوا في الأرض؛ لأن في ذلك قوة للإسلام والمسلمين؟
الجواب
الأمر الأول: مُكن المشركون في الأرض، وأنا لا أسميه تمكين، بل هو شيءٌ من البقاء الوقتي الطارئ الذي سوف يزول، أما التمكين فلأولياء الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور:55] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [الحج:41] فالتمكين للمؤمنين.
لكن نقول: لماذا الكفار مكنوا؟ تقول: مكنوا أولاً: هذا ابتلاء، فهي سنة المدافعة، أن يدفع بها الله عزوجل أولياءه، ويدفع أولياءه بالكافر، فهم أخذوا وملكوا من الأسباب ما جعلتهم يبقون ردحاً من الدهر، أو يحكمون قطعة من الأرض.
الأمر الثاني: تَخَلى المسلمون عن أسباب التمكين، فحوصروا في أنحاء الدنيا وفي أنحاء الكرة الأرضية، وأخذت عليهم حتى بلادهم التي فتحوها بالإسلام.(224/31)
حتى لا يفوتنا الركب
السؤال
ماذا نصنع حتى لا يفوتنا الركب؟ وما الذي تنصح الشباب باتباعه والعمل به في هذا المجال؟
الجواب
اسمع كلمات حتى لا يفوتك الركب، هي تلخيص المحاضرة، ولو أنها وردت فيها:
أولاً: أن تتوب وتعلن توبتك من الليلة، وتركب في ركب محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الإمام مالك: "السنة كسفينة نوح من ركب فيها نجا، ومن تركها هلك"، وليس هناك سفينة إلا سفينة محمد صلى الله عليه وسلم:
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
وإني لأستغشي وما بي غشوة لعل خيالاً منك يلقى خياليا
فإما حياة نظم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا(224/32)
جماعة الدعوة والتبليغ
السؤال
إني شاب ملتزم ولله الحمد، وإن هناك جماعة تأتي إلي وهم جماعة الدعوة والخروج، يريدونني أن أخرج معهم إلى الدعوة في بعض الدول، وهناك بعض الناس يقولون: إنهم جماعة أصحاب بدع، فما ردك على هؤلاء؟
الجواب
جماعة الدعوة والتبليغ؛ جماعة في مجموعها تعمل وتريد الخير، ولها جهود تشكر عليها مثل: الصبر، والتحمل في الدعوة، والحلم، وأنهم جابوا الأقاليم ووصلوا إلى كثير من الأمكنة، وأن الله هدى بهم كثيراً من العصاة نعرفهم، حتى إني رأيت كثيراً منهم في بلاد خارجية ورأيت كثيراً منهم هدى به الله ملأ من الناس، عندهم روحانيات، وعندهم أذكار، وعمل صالح، لكن لا بد أن نناصحهم في مسائل:
المسألة الأولى: أن يهتموا بالعلم الشرعي؛ علم محمد صلى الله عليه وسلم، علم الكتاب والسنة.
المسألة الثانية: لا يغتروا بكثير من مذكرات المؤسسين مثل: محمد بن إياس الذي أسس الجماعة، أو غيره من الذين ليسوا في هذه البلد، لأني ما أعرف جماعة الدعوة في هذه البلاد هنا إلا على منهج السلف، لكن هناك قد يوجد شركيات وبدع وخرافات رأيناها وقرأنها فلينتبه لها.
المسألة الثالثة: لا يصح أن الواحد منهم إذا قام أمام الناس أن يذكر ماضيه الأسود، يكفي أنه تاب إلى الله، أما أنه يقول: كنت أفعل وأفعل وأعصي وأترك الصلاة، فليس هذا من منهج الدين، بل المنهج أن تستر نفسك.
أما أن تخرج معهم فإن كنت طالب علم، أو عندك حصيلة من العلم، وبإمكانك أن تعرف البدعة من غيرها، وأن تؤثر فأرى أن تخرج معهم.
لأنك ينفع الله بك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وتكون داعية، هذا رأيي، وإن كنت لم تبلغ هذا المستوى فأرى أن تقترب من طلبة العلم، ومن المحاضرات، ومن الدعاة الصادقين.
أما إذا أنست بعقيدة أحدهم وبعلمه وبفعله وعرفت أنه يحمل عقيدة أهل السنة والجماعة، فلا بأس أن ترافقه.
هذا ما عندي في المسألة باختصار.(224/33)
الغناء والطرب
السؤال
هناك أناس يحلون الغناء والطرب عن طريق هذا الحدث الذي هو: استقبال المصطفى صلى الله عليه وسلم بطلع البدر علينا، وهو غناء أهل المدينة عند قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم، فما هو ردك على هؤلاء؟
الجواب
لم يكن معهم طبول فيما أعلم ولم ينقل حتى في كتب الحديث، إنما هم شباب وأطفال خرجوا ينشدون، والنشيد جائز لمثل هذا المستوى، والرجز جائز، لكن لا يصاحبه دف ولا طبل للرجال، ولا مزمار ولا زير؛ لأن هذه قد حرمت على الرجال.
أما النساء فلا بأس بالدف لهن في الزواجات، فلا دليل في هذا على ما استدل به هذا الشخص، والذي يستدل بهذا على أنه يجوز استصحاب المعازف وآلات اللهو، كمن يستدل بأن الحبشة لعبوا في مسجده صلى الله عليه وسلم بالحراب فيأتي بعد كل صلاة يلعب بالحربة، فبعد الظهر يلعب وبعد العصر يلعب وبعد المغرب وبعد العشاء وبعد الفجر، فإذا سألته قال: الحبشة لعبوا، وهم ما لعبوا إلا مرة في الحياة ثم هم مؤلفة قلوبهم والرسول صلى الله عليه وسلم رأى من الحكمة أن يمكن لهم قليلاً حتى يعو الدين، ولم يكن معهم دف ولا طبل ولا مزمار، وهذا مثل هذا.(224/34)
المولد النبوي
السؤال
ما حكم إقامة الموالد احتفاءً بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ حبذا لو كان جواباً موجزاً غير مخلٍ حفظكم الله ورعاكم.
الجواب
إقامة الموالد للرسول صلى الله عليه وسلم بدعة: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} ولم يفعله أحد من السلف الصالح، وإحياءه صلى الله عليه وسلم إنما هو بإحياء ذكراه بالعمل، باتباع السنة، وبنشر مبادئه في الناس، وبتعليم سنته في العالمين، وبالمحافظة على سنته، وليس بالموالد الخرافية.(224/35)
بعض من يعتدي على الجيل الأول
السؤال
حول بعض الأدباء، حيث إنهم من العلمانيين، ولهم بعض الكتابات في السيرة وفي التاريخ, وقد يشوبها بعض التجني على العصر الأول، نريد توضيح ذلك حيث إنني قرأت لهم وملت إلى هذه القراءات فما رأيكم؟
الجواب
الحق معلوم، وأرى أنه إذا اشتبه في رجل منهم أن تسأل أهل العلم والدعاة عنه بذاته، وإن كان لك بصيرة أنت وأصبحت في مستوى من العلم يمكنك أن تعرف الحق من الباطل، فلا بأس أن تقرأ.
لكن والحمد لله هناك عند أهل الإيمان من البدائل ومن الدعاة والأدباء ومن الشعراء ما يكفيك عن هؤلاء، فإن أولياء الله وأنصاره كثير، في قسم الأدب والعقيدة والفقه والتفسير والفكر والكتابات وكل أطروحة.
فأدلك على أدباء وكتاب الإسلام في الفكر: أبو الأعلى المودودي، أبو الحسن الندوي، سيد قطب، محمد قطب، وأمثال هؤلاء الأخيار، ومن علمائنا الكبار كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محمد بن الصالح بن عثيمين، والشيخ حمود التويجري، ومن كتب من أمثالهم، وقبلها كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبنائه، وقبلها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، والحمد لله الخير كثير.
ومن الشعراء مثل شعر: إقبال على بعض المآخذ فيه من أنه جعل الإسلام في قسم الفلسفة، أو أنه كان عنده شيء من التصوف لكن أفكاره في الجملة كانت مسددة، وكان نابغةً في الأدب والشعر.
ومن الشعراء العصريين الآن: الدكتور عبد الرحمن العشماوي، والدكتور أحمد بهكلي، والدكتور صالح عون، وكثير من شباب الصحوة وشباب الدعوة.
ومن الكتاب: أحمد التويجري وأمثاله من الأخيار الفضلاء الذين يستفاد بهم.
وأدلكم على الدعاة الفضلاء الذين لهم تواجد في ساحة الإسلام، وأنا ذكرت العلماء وهم علماء أيضاً: كالدكتور ناصر العمر، والدكتور سعيد آل زعير، والشيخ سلمان العودة، والشيخ سفر الحوالي، والشيخ عبد الوهاب الطريري، والدكتور محمد بن سعيد القحطاني، والدكتور عبد الله التويجري، والشيخ عوض القرني، والشيخ سعيد بن ناصر الغامدي، هؤلاء الفضلاء والأخيار أرى أن تسمعوا لهم كثيراً فإني أعرفهم، وأعرف ثقافتهم، وأعرف درايتهم، ومكانتهم ولهم قدم صدق، وقد نفع الله بهم الأمة، فأرى الاطلاع على كتاباتهم والسماع لهم كثيراً.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.(224/36)
المخرج السينمائي أنيس عبد المعطي
السؤال
ذكرت في المحاضرة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه، وذكرت بعض التائبين إلى الله في بعض أشرطتك، كتوبة المخرج السينمائي أنيس عبد المعطي، ولأنك والشيخ سفر الحوالي ستشرفون على كتابه محاكمة أهل الفن، فنرجو منكم نبذة مختصرة عن هذا الكتاب، وإذا كنت التقيت بهذا التائب فنرجو منك تعريفه للشباب؟
الجواب
هذا الأخ الأستاذ أنيس عبد المعطي قد رأيته في مكة وقابلته، ورأيت فيه الخير ولنا الظاهر من الناس وقد اهتدى، وهو صاحب تجربة مع أهل الفن، وقد ألف كتاباً سوف يكون له أثر ودوي وهو محاكمة أهل الفن من واقع تجربته، وهو مزود بالوثائق والحقائق عن عالمهم، وعما يدور وراء كواليسهم، ووراء حجبهم، وما يدور في حياتهم وفي دنياهم، وسوف يخرج هذا.
وقد قدم له الشيخ سفر الحوالي وختمتُ له الكتاب، وعسى الله أن ينفع به، هذا بإيجاز.(224/37)
قصيدة عاصفة الصحراء
السؤال
نطلب من فضيلة الشيخ أن يختم هذا اللقاء بقصيدته عاصفة الصحراء؟
الجواب
أعتذر من عاصفة الصحراء؛ لأنها انتهت عندكم وانتهت عندي، ولكني -إن شاء الله- أعوضكم مكانها قصيدة: (محمد في فؤاد الغار يرتجف) لخللٍ فني، فلا أريد لكم عاصفة الصحراء لكني أريد لكم آخر قصيدة وهي (محمد في فؤاد الغار يرتجف) أحفظ منها أبياتاً، فهي ما يقارب الخمسين بيتاً، وهي في حبيبنا وعظيمنا محمد صلى الله عليه وسلم:
محمد في فؤاد الغار يرتجف في كفه الدهر والتاريخ والصحف
مزملٌ في رداء الوحي قد صعدت أنفاسه في ربوع الكون تأتلف
من الصفا من سماء البيت جلله نور من الله لا صوف ولا خصف
والكفر يا ويحه غضبان من أسفٍ لم يبقه الحقد في الدنيا ولا الأسف
ولا حمته سيوف كلها كذبُ في صولة الحق والإيمان تنقصف
أتى الرسول إلينا والربا جثثٌ مطمورةٌ وعليه يضحك القرف
والمارد الفاجر المعتوه محترمٌ جماجم الجيل في أسيافه لطف
نجوع نأكل موتانا وسهرتنا أكل الضياع وليل أحمرٌ دنف
ومنها:
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
اقرأ فأنت أبو التعليم رائده من بحر علمك كل الناس يرتشف
إن لم تصغ منك أقلام معارفها فالزور ديدنها والظلم والصلفُ
في كفك الشهم من حبر الهدى طرف على الصراط وفي أرواحنا طرفُ
وفي الختام! أشكركم شكراً جزيلاً، وأشكر لكم تعبكم وصبركم وعرقكم، وأسأل الله أن يبدلكم رضواناً في الجنة، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(224/38)
المثل المائي والمثل الناري
المنافقون أكثر الله من ذكرهم في القرآن، وتوعدهم بأليم عقابه، فقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء:145] وما ذاك إلا لخبثهم ودسيستهم ودجلهم، وقد مثل الله أعمالهم بأمثلة كان من أهمها مثلهم الناري والمائي.(225/1)
أمثلة المنافقين في الكتاب
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراًَ، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
مع كتاب الله عز وجل عوداً على بدء، وجلسة محمودة، جلسة من رياض الجنة، نسأل الله تعالى أن يرزقنا فيها المثوبة والإخلاص والفتح من عنده، وأن يفقهنا في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" "بسم الله الرحمن الرحيم": (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [البقرة:17 - 18].
لا يزال الحديث عن المنافقين، وقد مَّر بنا هذا المثل لكننا ذكرناه بإيجاز، أما هذه الليلة فسوف نذكره بتوسع ونذكر كلام أهل العلم وما قالوه في هذين المثلين اللذين ذكرهما الله عز وجل للمنافقين.
لقد وصف الله عز وجل المؤمنين في أول سورة البقرة بخمس آيات، ثم ثنىَّ بآيتين في وصف الكافرين، ثم ثلَّث في وصف المنافقين بثلاث عشرة آية، فلعظم خبثهم ونفاقهم ودسيستهم ودجلهم أكثر القرآن من ذكرهم.
قال ابن القيم في كلام ما معناه: لا إله إلا الله كم من حصن للإسلام هدموه! ولا إله إلا الله كم من علم للإسلام نكسوه! ولا إله إلا الله كم من ركن للإسلام دمروه!
وهؤلاء المنافقون ذكرهم الله عز وجل في القرآن في مواطن كثيرة، وسوف نتعرض لها بإذن الواحد الأحد.(225/2)
معنى قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ)
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة:17].
ما هو الشيء الذي ضربه الله من أحوال المنافقين؟
قال ابن الجوزي: المثل الذي ضربه الله في أحوال المنافقين مختلف فيه بين أهل العلم على أقوال:
القول الأول: مثل كلمة الإسلام التي يحملونها وهي: لا إله إلا الله محمد رسول الله، كمثل نار أوقدت لهم، لكنهم لم يقوموا بلا إله إلا الله، ولم يحكموها، ولم يسجدوا لربها، فأطفأت عليهم أنوارها.
القول الثاني: مثل إقبالهم على المؤمنين وسماعهم الهدى من المصطفى عليه الصلاة والسلام كمثل الذي استوقد ناراً.
يجلسون مع المؤمنين ويصلون مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فجلوسهم وصلاتهم مع الرسول عليه الصلاة والسلام وسماعهم للقرآن كمثل نارٍ أوقدت لهم، لكنها لم تنفعهم فاطفئت عليهم.
القول الثالث: مثل إقبالهم على الخير والهدى وتشوفهم لذلك، وإظهار النسك في الظاهر، وهم في الباطن حيات وعقارب كالذي أوقدت له نار، ثم انطفأت عليه.
وإنني أسأل الله أن يخلص نفسي ونفوسكم من النفاق، فإنه مرض عضال.
قال الحسن البصري كما في صحيح البخاري: [[ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق]] فإذا رأيت الشخص يخاف النفاق ويخشاه، ويسأل الله أن يدرأه منه فاعلم أنه مؤمن، وإذا رأيت الإنسان يبرئ نفسه من النفاق، فاعلم أن فيه وصمة منه.
قال عمر بن الخطاب وهو الصادق الزاهد لـ حذيفة بن اليمان: {أسألك بالله يا حذيفة! أسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟ -سبحان الله! أعمر يكون من المنافقين، فمن يكون إذن من المؤمنين؟!!
قال: لا، والله ما سماك من المنافقين، ولا أزكي أحداً بعدك} فهكذا خوفهم رضوان الله عليهم من النفاق.(225/3)
المثل في القرآن
المثل في القرآن إذا أطلق على قسمين:
القسم الأول: المثل بمعنى الصفة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد:35] مثل الجنة، أي: صفة الجنة.
القسم الثاني: المثل بمعنى الشبه، {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ} [البقرة:17] أي: شبههم كشبه من يفعل كيت وكيت.(225/4)
أنواع الظلمات
قال تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) [البقرة:17] الدنيا مظلمة ما لم تشرق عليها شمس الرسالة، والقلوب التي لا تشرق عليها شمس الرسالة قلوب ملعونة، فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول في هؤلاء المنافقين: إن مثلهم لما سمعوا الهدى ونطقوا بلا إله إلا الله كرجل سار في ليل داجٍ مظلم، فاستوقد ناراً فأضاءت النار ما حوله، فلما أبصر ورأى قام يمشي فانطفأت عليه النار، فلا هو بالذي حرم النار من أول وهلة، ولا هو بالذي بقيت معه النار، فأبصر بها ومشى في ضوئها، ولكن أخذه الله أخذ عزيز مقتدر.
قال: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17] ما هي الظلمات؟
لأهل العلم أربعة أقوال فيها:
1 - قيل: العذاب.
2 - وقيل: ظلمة النفاق.
3 - وقيل: ظلمة البعد عن المؤمنين.
4 - وقيل: ظلمة القبر وما يأتيهم في الآخرة.
فالله المستعان على من لم يُطهر قلبه من النفاق والشك والريبة.(225/5)
أنواع النفاق
والنفاق مرض يستشري في المجتمعات، وهو على قسمين:
1 - نفاق عملي.
2 - نفاق اعتقادي.
فأما الاعتقادي فصاحبه خارج من الملة، ملعون مدحور، لا حجة له عند الله، كالذي يكفر بالقرآن وظاهره أنه يصدق به، وكالذي يستهزئ بالرسول عليه الصلاة والسلام ويكذبه، وظاهره أنه مسلم.
كما يفعل بعض الناس في الساحة لهم كتب أحدهم يقول في خطاب أمام الناس والجماهير: محمد -يقصد الرسول عليه الصلاة والسلام- رجل أعرابي أتى من البادية، فأتى بشعوذة وكهانة على الناس.
ألا لعنة الله على الكافرين، أعرابي؟! وهو {لا ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} [النجم:3 - 4] أعرابي يخرج مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟!
أعرابي يخرج الدنيا من الظلمات إلى النور؟!
أعرابي يأتي بقرآن يتحدى به فصحاء الناس، ويأتي بسنة ويقيم بها مجتمعاً؟!
ويقول أحدهم: انتهى الدين ولابد الآن من أن تنزل القوانين في الساحة.
ويقول طه حسين -الذي سموه عميد الأدب العربي وهو من المنافقين- في كتابه حديث الأربعاء وغيره من الكتب: إن معركة بدر وأحد والأحزاب كلها معارك قبلية حاقدة وقعت بين أناس قبليين بدائيين.
أهذه قبلية حاقدة يا عدو الله؟!
بل هي والله بين التوحيد والإلحاد، وبين الإسلام والكفر، وبين النور والظلام، لكن (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) [البقرة:17].
القسم الثاني: أهل النفاق العملي وهم من {إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر}.(225/6)
سبب ضرب المثل بالنار
قال أهل العلم: إنما ضرب الله لهم المثل بالنار لثلاثة أسباب:
أولاً: أن النار لا توقد إلا بوقود وبحطب، فحطبها الإيمان، وهو العقيدة والأعمال الصالحة، وهذا ليس عنده وقود، فالمنافق يتكلم بلسانه غير الذي يضمره في قلبه لأنه لا وقود عنده، ولا يوجد في قلبه شيء يسقي به هذا الإيمان والأعمال الصالحة، فانطفأت عليه جذوة الإيمان.
ثانياً: قالوا: إنما جعل الله لهم النار مثلاً؛ لأن الذي ليس عنده نار ولا ضياء أهون ممن كان عنده نور ثم ذهب عنه، فلو كنت في الصحراء في ظلام من صلاة المغرب إلى الفجر لكان أسهل عليك من أن توقد لك النار برهة من الليل ثم تنطفئ؛ لأنك تجد من لوعة فراقه أشد مما تجد لو كان معدوماً.
ثالثاً: قيل: جعل الله لهم النار مثلاً؛ لأن فيها احتراقاً، فهي إما أن تضيء وإما أن تحرق، فذهب الله بالنور فبقي احتراقهم في قلوبهم لعنة يلقونها إلى يوم القيامة.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة:17] انظر! كيف قال: (استوقد) قال أهل العلم: السين هنا هي سين الطلب؛ وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} [فاطر:37] أي: في النار، وكلمة يصطرخون أصلها: يصرخون -نعوذ بالله من النار- لكن انظر إلى الجمال وإلى الإبداع والروعة، فقد أراد الله عز وجل أن يذكر صياحهم فقال: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ} [فاطر:37] ولم يقل: (يصرخون) بل قال: (يصطرخون) فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
فمعنى (استوقد) طلب الإيقاد، والسين سين الطلب، وقيل: السين زائدة -وليس بصحيح- واستدلوا على ذلك بقول الشاعر:
وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الردى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
ولكن ليس في القرآن زائد؛ حاشا وكلا، ولو حرفاً واحداً.
والصحيح كما قال بعض المفسرين: إذا سمعت مفسراً يقول: "لا" زائدة، فليس هذا بصحيح؛ لأن القرآن ليس فيه شيء زائد مثل: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) [القيامة:1] قالوا: لا زائدة، وهذا خطأ؛ بل هي: للنفي، والمعنى: لا نرد على كلامهم الأول، بل أقسم بيوم القيامة.(225/7)
السر في قوله: (بِنُورِهِمْ)
قال تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة:17] لماذا لم يقل: ذهب الله بإضاءتهم؟
لأن أصل الفعل: فلما أضاءت، والمصدر: إضاءة؛ فالأصل أن تكون (فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بإضاءتهم) لكن في القرآن قال: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة:17] ما هو السر؟
السر قالوا: لو قال الله (ذهب الله بإضاءتهم) لاحتمل أنه بقي لهم شيء من النور، ولكن أصل النار بقيت، فقال الله: (بنورهم) لكي يدلل أنه لم يبق لهم شيء.
وأما الوصف فقد قالوا: ذهب الله بإيمانهم الذي في قلوبهم، ولكن الله قال: عندهم من حيطة وإيمان ورشد، ولم تبق دماؤهم معصومةً بكلمة التوحيد.(225/8)
الحواس وحفظها في صغر السن
دخل أحد كبار السن على معاوية بن أبي سفيان وهو كبير في الثمانين من عمره، فسأله معاوية فلم يسمع، فرفع معاوية صوته وقال له: لماذا لا تسمع؟ قال:
إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
إذا مرت الستون أو السبعون على أحدنا وبعدها الثمانون فنسأل الله العافية، تذهب قوة البصر والسمع والإدراك، ويذهب سواد الشعر ويأتي البياض في البصر والبياض في الشعر، ثم يذهب الإنسان رويداً رويداً.
دخل أحد الشيوخ الكوفة وكانت له لحية بيضاء على صدره، فرآه الأطفال وهم يلعبون في السكك، فقال أحدهم: من أعطاك هذا القوس الأبيض الذي على صدرك؟
وكانت لحيته كالقوس؟!
فقال الشيخ: أعطانيه الدهر بلا ثمن، وسوف يعطيك قوساً مثله.
ولذلك قيل للإمام أحمد بن حنبل: ما وصف الشباب الذي كنت تحمله؟
قال: والله ما وصفت الشباب الذي كنت أحمله -أي: الفتوة والقوة- إلا كشيء حملته تحت إبطي، ثم سقط مني.
وبكت العرب الشباب، ولكن هيهات! لا شباب إلا لمن أحسن الله شبابه في الآخرة، ولا شباب إلا لمن أسعد الله شبابه بالعمل الصالح، ولا شباب إلا من أحيا أوقاته بالذكر والصلاة والصلاح.
يقول أبو العتاهية:
بكيت على الشباب بدمع عيني فلم يغن البكاء ولا النحيبُ
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيبُ
هذا أبو الطيب الطبري وهو عالم شافعي كان في المائة من عمره، يقولون: كان سمعه قوياً، وكذا بصره، وبنيته قوية، وثب من سفينة على الشاطئ، فإذا هو على الساحل، وأتى الشباب بعده من تلاميذه يريدون الوثوب فما استطاعوا، قالوا: سبحان الله! نحن في العشرين وقد بلغت المائة وتستطيع الوثوب ولا نستطيع، قال: هذه أعضاء حفظناها في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر.
ومما يذكر في كتب الرقاق: أن رجلاً من بني إسرائيل أطاع الله في شبابه أربعين سنة، ثم عصى الله أربعين سنة، فنظر إلى المرآة فلما رأى الشيب قال: يا رب! أطعتك أربعين سنة وعصيتك أربعين سنة، فهل تقبلني إذا عدت إليك؟
فسمع هاتفاً يقول: أطعتنا فأكرمناك وقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن عدت إلينا قبلناك.
ومصداق ذلك حديث عند الترمذي، وهو حديث قدسي صحيح، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قال الله تبارك وتعالى: يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي.
يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غرفت لك ولا أبالي.
يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة}.
فالله الله في حسن استغلال الشباب وقوته، فلا قوة إلا مع من أحسن شبابه مع الله، وليس الشباب بالقوة فقط ولا بالتمتع بالشهوات، ولا بالرقص ولا بالغناء، ولكن الشباب بمن حصن عينه وسمعه وبصره وفرجه وبطنه ويده.
علي بن الحسين زين العابدين هو مثال وقدوة ونموذج لشباب الإسلام وهو ابن الحسين بن علي بن أبي طالب.
قال الذهبي والعهدة عليه: كان علي بن الحسين يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فكان إذا ضمه الليل بدأ في بكاء ونحيب، وإذا أتى الصباح فإذا وجهه يتلألأ نوراً من الخير والصلاح.
ذكر أبو نعيم في الحلية في ترجمة مسلم بن يسار -أحد المحدثين الزهاد العباد- أنه كان جميلاً جد جميل، فسافر من المدينة إلى مكة، فلما نزل في البادية، رأته امرأة جميلة نظرت إليه فأحبته وتولهت به، فعرضت نفسها عليه فاستعصم بالله {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف:24] فأخذ يبكي فأتاه رفيقه قال: مالك تبكي؟
قال: لأمر حدث في صدري.
قال: والله لتخبرني؟
قال: ابتليت ببلية، أتتني امرأة تراودني عن نفسها، فبكيت من هذا المنكر، ثم ذهب.
قالوا: فطاف في العمرة الطواف الأول وجلس عند المقام، فأتته سنة من النوم فنام، فرأى يوسف عليه السلام يطوف في البيت، قال مسلم بن يسار: أأنت يوسف؟
قال: نعم، أنا يوسف الذي هممت، وأنت مسلم بن يسار الذي لم تهم، وهذا من الذين حفظوا شبابهم مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
وبعض الناس يسمع وهو لا يسمع! فهو يسمع الكلام، ولكنه لا يستفيد منه، فقد طرح سمعه جانباً وهو شاهد حاضر في المجلس، فبعض الناس يكون جالساً ويسمع المواعظ والأذكار والمحاضرات والدروس، لكن ليس له وعي بسمعه فلا يستفيد.(225/9)
بيان معنى الأصم والأبكم والأعمى
قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18] والأبكم: الأخرس.
وقيل: من أصابه ثلم ومرض في لسانه، وهذا يشبه الأول.
وقيل: الذي تباكم قلبه، فلا يفهم شيئاً، وكل الأقوال تندرج تحت قول واحد.
والأبكم: هو الذي لا يعرف أن يتكلم، وقد يصاب بعض الناس بالخرس في لسانه والصمم في سمعه -نسأل الله العافية- فيكون هذا من المكفرات، ولكن ذكرهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى هنا لا لأنه ورد فيهم حسياً وإنما معنوياً، فأما عيونهم فتبصر، لكن لا يعون، وقلوبهم تعي، لكن لا يفقهون، وأسماعهم تسمع، لكن لا يعون أبداً كالحيوانات.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: (عمي) والأعمى: من ذهب بصره، والأعمه: الذي ولد وهو أعمى، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4] {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ} [آل عمران:49] الأكمه قيل: من ولد وهو أعمى، وكذلك الأعمه.(225/10)
ذكر بعض من ولد أعمى
ومن الناس من ولدوا وهم عمي كـ بشار بن برد، وهو شاعر من شعراء المولدين، عباسي أعمى القلب والبصر -نسأل الله العافية- حتى قال عن نفسه: أنه لم يرَ شيئاً منذ ولادته وكان يقول الشعر.
قال له بعض الناس: كيف تعشق وتتغزل وأنت لا ترى؟! قال:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا
هو من أشعر الناس، وليته سخر شعره في رفع لا إله إلا الله، وفي نصرة الإسلام، يقول:
يا ليتني كنت تفاحاً مفلجةً أو كنت من ثمر الريحان ريحانا
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا
كلام جميل، لكنه لا يحمل رسالة.
سمع رجل بيتاً من شعره يقول فيه:
إن في بردي جسماً ناحلاً لو توكأت عليه لانهدمَ
وكان من مكة فقال: والله لأذهبن وأرى هذا الرجل الذي صار ناحلاً، فلما وصل إليه ورآه فإذا هو كالدب الأسود، يقولون: وضع فراشاً له وجلس عليه يتململ كالدب الأسود، فدخل عليه، وقال: أنت بشار؟!
قال: نعم، قال: كيف تقول:
إن في بردي جسماً ناحلاً لو توكأت عليه لانهدمَ
وأنت بهذا السمن؟!
قال: أما سمعت الله يقول: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) [الشعراء:224 - 227].
مات هذا في سفينة، قيل: مات أعمى القلب والبصر، وقد كان شعوبياً يدعو إلى الإقليمية والقومية، وينقد العرب وكثيراً من مبادئ الإسلام، وإنما أذكر هؤلاء كنماذج لمن قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18].
وممن ولد أعمى أبو العلاء المعري أحمد بن سليمان وهو شؤم على الإسلام وقد ذهب إلى الله، كان ذكياً بدرجة عظيمة، وبالغوا في ذكائه.
وأنا أذكر هذه المبالغة التي لا تقبل، ولكن ذكرها الذهبي وابن خلكان وصاحب البداية والنهاية.
فقالوا: نام على السرير -وكان عنده سرير مرتفع- ووضع تحت السرير درهماً، ثم قال: نزلت الليلة السماء بقدر درهم، أو ارتفعت الأرض بقدر درهم، فكشفوا فوجدوا درهماً فراشه، والعهدة على هؤلاء المؤرخين.
ولكنه من ظلمه وعماه وصممه عارض الشريعة.
يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [المائدة:38] فجاء هذا يقول: كم دية اليد؟
قالوا: ديتها خمسمائة دينار من الذهب.
قال: في كم تقطع؟
قالوا: إذا سرقت ربع دينار قطعت.
قال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
وهو بكلامه هذا يعارض الله وكتابه، ولكن أخذه الله ثم لم يفلته أبداً، قال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له ونستعيذ بمولانا من النار
بعد ماذا تستعيذ بمولاك؟!
بعد أن هاجمت الشريعة واستهزأت بالقرآن؟!
وقد رد عليه عبد الوهاب المالكي -بيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه- فقال:
قل للمعري عارٌ أيما عارِ جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عاري
يقول: اخجل من نفسك؛ فأنت عارٍ من التقى والأدب والمروءة؛ لأنك هاجمت الشريعة.
قل للمعري عارٌ أيما عارِ جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عاري
لا تقدحن بنود الشرع عن شبهٍ شعائر الدين لم تقدح بأشعار
وقد توفي وذهب إلى الله، وذكروا عنه في تراجمه: أنه كُشف قبره بعد حين، فوجدوا حية باركة على صدره {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16] {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] هؤلاء صم بكم عمي فهم لا يرجعون.
وهذا الكلندي الفيلسوف المشكك في الإسلام يستهزئ بالقرآن، يقول: أحاكي القرآن فأخذ قلماً ودواةً وصحيفةً ليكتب آيات عنده فيبست يده وشل نصف جسمه، والله المستعان.(225/11)
بيان معنى قوله تعالى: (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] لها ثلاثة معانٍ:
1 - قيل: لا يرجعون إلى الهدى من ضلالهم.
2 - وقيل: لا يرجعون رجوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن يفارقوه، فهم يخرجون بقلوب ولا يرجعون بتلك القلوب.
3 - وقيل: لا يرجعون إلى الإسلام، لا يرجعون عن الصم والبكم والعمي، فأحوالهم لا تتغير أبداً.(225/12)
مَثَل المنافق المائي
قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:19] والصيب: المطر، واعلموا أن الغيث إذا نزل من السماء ارتاحت القلوب.
والله قارن بين غيث البلدان وغيث الأرواح والجنان بمقارنة، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد:16] ثم قال بعدها: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] فيا من يحيي الأرض بعد موتها بالمطر نسألك أن تحيي قلوبنا بالإيمان والقرآن والسنة.
قوله تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ): (أو) قيل: هي للتخيير.
قالت العرب: جالس الحسن أو ابن سيرين، للتخيير.
وقيل: هي للتقسيم، تقول العرب: (خذ هذا القلم أو هذا القلم أو هذا القلم) فهذا تقسيم وليس بتخيير.
وقيل: هي للتنويع وهو أقرب إلى التقسيم.
وقيل: هي عاطفة ليست بمعنى التخيير ولا التشريك.
يقول مجنون ليلى:
وقد زعمت ليلى بأني فاجرٌ لنفسي تقاها أو عليها فجورها(225/13)
العاصم من التوله بالأجنبيات
ومجنون ليلى ترجم له الذهبي وهو من الذين تولهوا وضيعوا قلوبهم وإيمانهم على امرأة، وهو من الذين يسمون عباد المرأة، كما يفعل بعض الناس الآن إذ يجعلون من المرأة إلهاً يعبد من دون الله بصوتها وبنغمتها وبنشر صورها على المجلات الخليعة بالهيام بها بكلمات يستحي الإنسان أن يذكرها في هذا المكان، ولذلك من يفعل هذا الأمر يصيبه مثلما أصاب مجنون ليلى فقد جن وذهب عقله من أجل امرأة.
والعاصم من التولع بالنساء وعشق الأجنبيات ثلاثة أمور:
أولاها: الاعتصام بالكتاب والسنة، قراءةً وتدبراً.
ثانيها: المحافظة على الفرائض الخمس والتزود بالنوافل.
ثالثها: كثرة الدعاء والذكر والابتهال إلى الواحد الأحد.
والإنسان قد يصاب بهذا، وبعضهم إذا أصيب بهذا وصبر عليه يؤجر، فيعف سمعه وبصره وفرجه، فربما كتم حبه حتى توفي، فيكون من المأجورين عند الله، أما حديث: {من عشق فأحب فكتم فمات مات شهيداً} فحديث موضوع باطل كذب على المصطفى عليه الصلاة والسلام.
ومن أصيب بالعشق فكتمه واستغفر الله وتاب وقرأ القرآن، ثم مات وهو على هذا الشيء فهو مأجور عند الله، وقد حدث هذا لأناس كثيرين، حتى من الصالحين كـ محمد بن داود الظاهري فقد أصيب بهذا، فغض طرفه، وقرأ القرآن وصبر، وتوفي قبل الأربعين من عمره، فهو من المأجورين إن شاء الله، والإنسان لا يستدعي هذه الأسباب؛ لأنه إذا استدعاها وقع فيها، فيكون من هؤلاء -نسأل الله العافية- فمن رخص لسمعه أن يسمع الأغنية، ومن نظر إلى المجلة الفاتنة، ومن أطلق بصره في أسواق المسلمين وأعراض المسلمين ونال أعراضهم فإنه سوف يصاب.
يقول المتنبي:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
وأنت متى أرسلت طرفك رائداً إلى كل عين أتعبتك المناظر
أصبت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابر(225/14)
بيان معنى قوله تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ)
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة:19] والصيب: المطر؛ ولأهل العلم في الصيب قولان:
1 - القول الأول: هو المطر، وهو الصحيح.
2 - القول الثاني: هو كل ما ينزل من السماء من رذاذ وطش وسحاب وما يشابهه، قاله ابن قتيبة، ولكن الرأي الأول هو الأحسن، فالصيب الذي يصوب.
وللمطر أسماء منها: (الوكل- الغادي- الوسمي- الولي- الطش- الرش- المطر- الغيث- إلخ) والعجيب أن الغالب في القرآن إذا ذكر الله المطر فهو للعذاب: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) [الشعراء:173].
وإذا ذكر الله الغيث فهو للرحمة، وهذا في الغالب؛ ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث} ولم يقل: المطر.
وقسم ابن الجوزي في المدهش أقسام المطر، فقال: الرش والطش والغادي والولي والوسمي وغيرها من الأسماء التي تبلغ العشرات.
فأما الرش فهو: الذي ينزل رذاذاً قطرة قطرة.
وأما الطش فهو: الأكثر منه.
وأما الغادي: فغالباً يأتي في أول النهار.
وأما الولي فهو: الذي يسبقه مطر كثيف، ثم يأتي مباشرة.
وأما الوسمي فهو: يأتي على ميقات من الزمن.
وأما الديمة فهو: الذي يستمر دائماً.
وسبحان الذي جعل في المطر آيات، وله حكمة بالغة تبارك وتعالى.
وذكر بعض أهل العلم كـ ابن الجوزي: أن من أسباب إجابة الدعاء: نزول الغيث، ولذلك ترتاح القلوب إذا سمعت الطش والرش، وأنت تسأل الله أن ينزل على قلبك رحمةً كما أنزل على الأرض رحمةً سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(225/15)
حقيقة الرعد
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) [البقرة:19] هنا أمور:
والمفسرون لهم في الرعد ثلاثة أقوال:
القول الأول هو: صوت الملك يزجر السحاب، وهذا فيه حديث عند أحمد وهو حديث صحيح نص عليه الترمذي والنسائي.
القول الثاني: هو ريح تختنق بين السماء والأرض.
القول الثالث: اصطكاك أجرام السحاب.
أما القول الأخير، فهو لبعض المفسرين المتقدمين، وهو قول لعلماء الهيئة وأهل التكنولوجيا الحديثة والعلم الحديث، وأما الأقوال السابقة فقد نسب القول الأول إلى المعصوم الذي وقفت عليه أنه صحيح عنه صلى الله عليه وسلم، وإذا صح الكلام عنه صلى الله عليه وسلم فلا نعدل إلى كلام غيره مهما كان كائنٌ من الناس، ونجعل كلامه على العين وعلى الرأس، وكلام الذي يعارضه -مهما كان- ويعارض.
إذن فنجعل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المقبول، وقد يجتمع مع كلام غيره وليس هناك مانع أن نجمع بينه وبين القول الثالث أنها اصطكاك السحاب، فقد يكون الملك يقول هذا القول ويحدث الاصطكاك في نفس الوقت والله أعلم.
وما قاله صلى الله عليه وسلم، يجب أن نقول فيه: سمعاً وطاعةً (وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل).(225/16)
ماهية البرق
أما قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) [البقرة:19] فلأهل العلم في البرق ثلاثة أقوال:
القول الأول: هو مخاريق يسوق بها الملك السحاب، وهذا الحديث عند أحمد والترمذي والنسائي، وهو صحيح.
القول الثاني: تتلالؤ الماء، في السحب، وهو قول لبعض السلف.
القول الثالث: هو نار تنقدح من اصطكاك السحاب، وهذا القول الثالث لبعض علماء الهيئة من المحدثين، والقول الأول نقدمه ولا بأس أن نجمع بينه وبين الثالث في أنه قد يحدث الصوت مع الاصطكاك، أو قد يحدث الصوت مع هذا اللون والنور، فيكون في وقت واحد.
وهنا
السؤال
ما هو وجه وصف الله عز وجل للمنافقين بالظلمات، قال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ} [البقرة:19]؟
قال أهل العلم: الظلمات هذه -وقد سبق أن عرجت عليها- هي: ظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة ما يجدونه في قبورهم.
وقيل: ظلمة بعدهم عن الهداية.(225/17)
وصف الرعد بحال المنافق
قال تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ} [البقرة:19] ما هو وجه وصف الرعد بما عليه حال المنافقين؟!
قالوا: لأن صوت الحق كصوت الرعد، فهم يسمعون الإنذارات والتهديد والزجر من القرآن فيقع عليهم كالرعد، ولذلك السارق أو الزاني أو الجاني أو القاتل يخاف دائماً من الإعلانات، فإذا سرق أحدهم وسمع خطيراً إعلاناً مهماً، أو سمع الناس يقولون: السلطان يبحث عن أناس من المجرمين، خاف وارتعد حتى كاد يفضح نفسه؛ ولذلك يقول المثل: (كاد المريب أن يقول: خذوني).
والقرآن فيه تصديق لهذا، وأن المنافقين يخافون من الأصوات، يقول الله تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4] إذا سمعوا بصائح، أو بإنذار، أو بتوعد، قالوا: أخذنا هذا اليوم وقيدنا هذا اليوم، لأنهم مريبون مشككون، ولذلك الصادق لا يخاف.
قال الإمام أحمد: الصدق كالدواء ما وضع على جرح إلا برئ.
وقيل له: بماذا نجاك الله في فتنة القول بخلق القرآن؟
قال: والله ما نجاني الله إلا بالصدق، والصدق لا يخاف صاحبه أبداً.
مر عمر رضي الله عنه وأرضاه بأطفال أهل المدينة، ففر الجميع في كل وجهة إلا ابن الزبير ثبت مكانه، فأراد عمر أن يمتحن ذكاءه فقال: لِمَ لَمْ تفر معهم؟.
قال: لست بجانٍ فأخاف، وليست الطريق ضيقة فأوسع لك.
فدعا له عمر ومسح على رأسه، وذكر أنه سوف يكون له شأن، وبالفعل كان له شأن، فقد تولى أمر الأمة الإسلامية ست سنوات، وهو الفارس المصلوب، لم يكن له قبر في الأرض فصلب على الخشب من عظمته.
فالشاهد: أن الله وصفهم بالرعد، لأن ما يسمعون من قوارع كأنه رصاص على رءوسهم أو رعد، ولذلك الآن لو حضر المنافق خطبة الجمعة وسمع المواعظ والتهديد فهو خائف، يقول: الخطيب قصدنا هذا اليوم، حسبنا الله عليه تكلم عنا هذا اليوم وشن الغارة علينا ونقدنا، وهذا ليس بأسلوب دعوة، وهؤلاء ليس عندهم إلا تجريح أعراض الناس، ولو كان هذا الرجل سليماً لم يكن ليشك، ولذلك إذا تحدث عن النظر في الحرام، والنظر في الأسواق، قال: حسبه الله، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستخدم أسلوب اللين والرحمة مع الناس، أما هو فلا يعرف إلا التجريح، رغم أنه لا يقصده ولا يدري أنه نظر إلى الحرام.
وإذا تكلم عن الغناء والربا والزنا والمخدرات والخمر شك وظن أنه هو المقصود: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4].
ولذلك يقولون: إن رجلاً من الحكماء أتته امرأة، فقالت: رجل سرق دجاجتي ولا أدري من هو هذا الرجل، ميزانيتها ورأس مالها هذه الدجاجة؛ لأن بعض الناس من فقره ليس عنده إلا شيء من هذه الصغار.
فجمع هذا الحكيم الناس، وقال لهم: لقد علمنا بسارق الدجاجة، وعلامته: أن على رأسه ريشة من ريش الدجاجة، فذهب السارق يمسح على رأسه ليزيل الريشة، فكشفه الحكيم، والمثل يقول: (كاد المريب أن يقول: خذوني).
ذكر ابن كثير أن أحد الخلفاء جاءه أحمق فطبخ له دجاجة وهو من المقربين إليه، لكنه متخلف، وقدمها هدية له فقال الخليفة: جزاك الله خيراً! جدت بالميسور فهي أعظم عندنا، وهذا مقدار طاقتك، فأعطاه الخليفة جائزة، فكان يتقرب دائماً من الخليفة، فيقول: كلما سئل ودارت مسألة، حدث هذا قبل أن أهدي للخليفة الدجاجة بسنة، وهذا بعد أن أهديت له بشهر، وهذا الحادث وقع مع إهدائي الدجاجة له، فقبحه وقبح دجاجته وطرده من مجلسه.
ولذلك يحسبون كل صيحة عليهم، بعض الناس إذا ركب معك، وربما سمع شيئاً من القرآن، قال: أرجوك أن تطفئ هذا الشريط أزعجتنا دعنا نعيش ونأكل ونشرب، دائماً قرآن قرآن خوفتنا يا أخي، دعنا نضحك ونبتسم، لأنه يقع على أدواء قلبه، ويرصد شيئاً فيه، ولذلك يقول سيد قطب: إن القرآن يأخذ على منافذ القلوب، فلا يترك منفذاً من نفس إلا ويدخل من هذا المنفذ يريد علاجه.
ووصف القرآن بالرعد؛ لأن زواجر القرآن على قلب المنافق كالرعد الذي ينصب على آذان الناس.(225/18)
وصف البرق بحال المنافق
(وبرق): الشبه بين البرق وبين أحوال المنافقين أن البرق الذي يلوح لهم عارضاً، والبرق إنما يكون بقدر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وقضائه، لا يمشيك في الطريق بضوئه المنقطع حتى تصل إلى بيتك، ولا يتركك في مكانك، ولكنه يلمع تارة ويخبو تارة فتمشي خطوات فينطفئ كلما لمع.
فالمنافق يرى اللمع ويسمع القرآن، والخطب على المنابر، والدروس والمحاضرات، لكنه لا يدخل إلى قلبه من هذا شيء؛ لأن قلبه مغلق عليه فلا تدخل إليه الهداية.
قالوا: فوصف البرق مثله كمثل ما يرى من نور الإسلام الذي يراه المنافق من بعيد، ولكنه يلمع لمعاناً فلم يهتد به.(225/19)
بيان معنى الصاعقة وذكر بعض من أحرق بها
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} [البقرة:19] لأنهم خائفون من زواجر القرآن والسنة {مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:19].
الصاعقة: هي صوت شديد يصحبه احتراق، وهي تتنزل من السماء بإذن الواحد الأحد، وقد أحرق الله بها أقواماً منهم من ذكر الله عز وجل كـ أربد بن قيس وهذا أخو لبيد بن ربيعة.
فقد ذهب أربد هذا وعامر بن الطفيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من سادات العرب بعد أن حلف بآلهته وأصنامه ليقتلن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال لـ أربد بن قيس -كان صديقاً له-: نذهب إليه في المدينة، فإذا كلمت الرسول (عليه الصلاة والسلام) وشغلته بكلامي فاضرب أنت رأسه، لكن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة:67] لا تنالك يد.
إحدى عشرة محاولة اغتيال ينجو منها صلى الله عليه وسلم بسلام؛ لأن الله يريد له أن يوصل البشرية إلى بر الأمان، وأن يدخلهم جنة عرضها السماوات والأرض.
أتى أربد وعامر إلى المدينة، فاقترب عامر من الرسول عليه الصلاة والسلام فأخذ يحدثه يريد فقط أن يشغله، أخذوه من بيته وأخرجوه من بين أهله ليجدوا فرصة للفتك به، فخرج معهم صلى الله عليه وسلم بلا سلاح ولا درع ولا سيف، لكن كما يقول البوصيري:
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم
عناية الله أغنت عن مضاعفةٍ من الدروع وعن عالٍ من الأطم
خرج معهم بثيابه صلى الله عليه وسلم وهو القائد الشهير، والزعيم الذي لم يطرق أسماع العالم أفصح ولا أنبل ولا أكرم منه، فلما أصبح هو وإياهم في الصحراء، قالوا: نريدك في أمر، قال: ما هو؟ وقد أتى أربد بسيف مسنون يقطر دماً وموتاً أحمر، فوقف خلف الرسول صلى الله عليه وسلم وأتى عامر يتحدث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: خذ المدر وأعطنا الوبر، يقول له: نقتسم الدنيا أنا وإياك.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {الأرض لله يورثها من يشاء} وعامر يشير أثناء كلامه لـ أربد بعينيه أن يضرب (اضرب الرجل) ولكن أين يذهب من الله عز وجل؟
فتوقف طويلاً وأعاد الكلام عليه مراراً فلم يتحرك، ثم أعاد الكلام، وفي الأخير ودع الرسول صلى الله عليه وسلم وذهب، فقال: لا أصحبك بعد اليوم، لقد كنت عندي من أشجع العرب وأنت الآن من أجبنهم، لماذا لم تضرب الرجل؟
فحلف بآلهته، وقال: ما رفعت سيفي لأضربه إلا رأيتك بيني وبينه فكيف أضربك بالسيف؟!
وعرف النبي أنها مكيدة، فقال: {اللهم اكفنيهم بما شئت} فأما عامر بن الطفيل فقد كان سيداً من سادات العرب، لكنه سيد في الجهل والكفر، وعنده ألف مقاتل من الشباب، فلما ذهب دخل عند عجوز سلولية فشرب عندها لبناً فإذا بغدته تنتفخ كغدة البعير، فقام من الخيمة يقول: غدة كغدة البعير في بيت امرأة من بني سلول، وأنا سيد عامر بن صعصعة، أركبوني على الفرس، فأركبوه ليموت على الفرس عنجهية وغطرسة، فأركبوه على الفرس فأخذت الغدة تكبر وتكبر، ثم انخدشت فمات.
وأما أربد بن قيس فذهب بجمله إلى السوق، فأرسل الله عليه من جنوده صاعقة {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) [المدثر:31] فاحترق هو وجمله وبضاعته وقماشه مرة واحدة.
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس
يا غارة الله جدي السير مسرعةً في أخذ هذا الفتى يا غارة الله
فهذه من الصواعق التي وقعت ويستعاذ بالله منها، فإنها تقع في بعض الديار ابتلاءً من الله، تقع على الشجر والبيوت والمزارع فتحرقها، فعلى المسلم إذا سمع صوت الرعد أن يقول: {اللهم لا تهلكنا بعذابك، ولا تقتلنا بغضبك، وعافنا قبل ذلك} أو كما ذكر عنه صلى الله عليه وسلم.
وورد في بعض الآثار، ولكن في صحته نظر: {سبحان من سبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته} وإذا وقع في الإنسان فليحتسبه عند الله، فإنها مصيبة يؤجر إن صبر عليها، كأن يأخذ البرق ابنه، أو ماشيته، أو يأخذ شيئاً من مزارعه فهي مصيبة إن صبر أجر عليها.(225/20)
بيان معنى الإحاطة
قال تعالى: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) [البقرة:19] قالوا: (محيط بالكافرين) أي: مهلكهم، كقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف:42] أي: أهلك ثمره.
(محيط بالكافرين) فيها ثلاثة أقوال:
1) القول الأول: لا يفوته منهم أحد؛ لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) [الطلاق:12].
2) القول الثاني: يهلكهم؛ لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف:42].
3) القول الثالث: لا يخفى عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ما يفعلون، فهو محيط بحركاتهم وسكناتهم.(225/21)
إحاطة الله تعصم نبيه صلى الله عليه وسلم
عمير بن وهب وصفوان بن أمية -وهما مشركان، وقد أسلما فيما بعد، وأبو صفوان اسمه أمية بن خلف قتل في بدر مع صناديد قريش.
قال صفوان: يا عمير بن وهب، تذهب تقتل محمداً بـ المدينة وأنا عليَّ بأطفالك ومالك وأكون رشيداً ووالياً عليهم.
قال: يتشاورون عند ميزاب الكعبة، والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة.
فقال عمير بن وهب: أذهب.
فقال له صفوان: لا يأتي بعد عشر إلا وقد ظهر الخبر بمقتله، قال: لا عليك.
فسم سيفه حتى صار أزرق، ثم ذهب، فلما وصل إلى المدينة رآه عمر قد أقبل، فما تمالك عمر نفسه، وكان رجلاً قوي البأس شديداً.
ومن اللطائف التي ذكرها بعض المشايخ والعهدة عليهم: أن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان يحلقه حلاق أيام منى، فعطس عمر فأغمي على الحلاق، كان قوياً جداً، قويَ جسمٍ وقوي فكر، وهو عملاق عبقري، وقوي في كل شيء.
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
فلما وصل أخذه عمر بتلابيب ثيابه وسيفه، وأخذ يجره جراً حتى سلمه للرسول صلى الله عليه وسلم {قال صلى الله عليه وسلم: ما لك يا عمير، ما قدم بك؟
قال: قدمت للأسرى هؤلاء أفتديهم بمال.
فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال له: بل جلست أنت وصفوان عند الكعبة، وقال لك كذا وكذا، وقلت له كذا وكذا، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله} فإحاطة الله هي التي نقلت الخبر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [المجادلة:7] فسبحان من وسع علمه كل شيء!
قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1] قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: {سبحان من وسع علمه كل شيء وسمعه كل شيء، والله الذي لا إله إلا هو إن امرأة أوس بن الصامت دخلت على الرسول عليه الصلاة والسلام -وبيت الرسول عليه الصلاة والسلام وعائشة صغير- وإنها لتناجيه في طرف البيت وما سمعت ماذا تقول حتى أنزل الله عز وجل {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]} البيت ثلاثة أمتار فيما قدره بعض أهل العلم، ومع ذلك تنصت عائشة لتسمع كلمة، لكنها لم تسمع، ولكن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] أي: ما قلت أنت وما قالت هي.(225/22)
معنى قوله تعالى: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ)
ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة:20].
يقول: هذا لمعان الدين وما يرون من قوة الإسلام يكاد يخطف ما عندهم من يقين، لأن المنافق يغيظه اجتماع الإسلام وأهله، ولذلك أمرنا يوم الجمعة أن نجتمع في مصلى واحد.
وأمرنا أن نقلل من المساجد في المدينة الواحدة ليكثر الجمع، وأمرنا أن نلبس الملابس الجميلة لنغيظ المنافقين.
وأمرنا في الأعياد أن نجتمع لنكون قوة نبدي التضامن والتكاتف والقوة، فإذا رآنا المنافق، فكأنما أصابه برق في عينيه فينغمس ويغتاظ، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {ما رئي الشيطان أدحض ولا أبعد ولا أخسأ من يوم عرفة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة:20] قال أهل العلم: كلما قالوا: لا إله إلا الله حقنوا دماءهم بها.
وقيل: كلما حضروا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أتاهم شيء من الهدى، ولكنه ينتهي.
وقيل: يأتيهم نوبات من سماع الإسلام، ثم تنتهي هذه النوبات، فتأتيهم الظلمة ويعود لهم الكفر والنفاق {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:20] توقفوا حائرين.
ثم انطفا نور المنافقينا فوقفوا إذْ ذاك حائرينا
لأنهم بالكفر ما استضاءوا فكذبوا فذا لهم جزاء
وفي الحديث: {إن المنافق يأتي يوم القيامة فيبدي الله له نوراً، ويضاء له، فإذا أصبح على الصراط انطفأ النور، فيتوقف، ثم يضرب على وجهه في النار} له نور، فلما توسط الصراط انتهى النور، فهذا حاله في الدنيا والآخرة.
(كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) [البقرة:20] قالوا: أفقدهم إياها، وهذا هو الصحيح.
(إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:20] هذا عموم لا خصوص له، فكل ما يقبل قدرته سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فهو قدير سُبحَانَهُ وَتَعَالى عليه، وأظن أن القول: مما يقبل القدرة للمعتزلة ليست لـ أهل السنة، فأنا أقول {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:20] فهو على كل شيء قدير كما ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى بعمومها وإطلاقها ومدلولها ومقصودها، لأن ابن تيمية ناقش المعتزلة في هذا الكلام.
يقولون: إن الله على كل شيء قدير مما يقبل القدرة، لأن الله قدير، ولكنه لا يخلق مثل نفسه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ليس إلا إلهاً واحداً وقد جعل الألوهية له سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهذه المسائل مغاصات ومغارات أتى بها أهل الكلام، لكن أوقفهم ابن تيمية عند حدهم، والصحيح أنه على كل شيء قدير، أما كلام المعتزلة أنه قدير على ما يقبل القدرة، فهذا الكلام لا يوافقون عليه.(225/23)
معنى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة:21] من هم الناس؟
قال ابن الجوزي في زاد المسير هم واحد من أربعة: إما الكفار، أو اليهود، أو المنافقون، أو عامة المخلوقين.
(يا أيها الناس) إما الكفار من مشركي العرب من أهل قريش وغيرهم، وإما اليهود، وإما المنافقون، وإما كل الناس، والصحيح كل الناس، والله نادى بـ (أيها الناس) و (يا أيها الذين آمنوا) (ويا أيها النبي) و (يا أيها الرسول) فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1].
وقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67].
وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج:1].
وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1].
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
وقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53].(225/24)
المخاطبون في القرآن بـ (يَا أَيُّهَا …)
يا أيها الناس! يخاطب به في الجمل العقدية والبعث والنشور التي ينكرها الكفار، ويدخل فيها المؤمن.
ويا أيها الذين آمنوا! في الأحكام والعبادات وحتى في النهي عن كثير من المعاصي.
ويا أيها النبي! فيه أمر للرسول صلى الله عليه وسلم، وأمته تخاطب بما يخاطب به صلى الله عليه وسلم.
ويا أيها الرسول! في تبليغ الرسالة عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
(يا أيها الناس) وأصلها من (ناس ينوس إذا تحرك) وسموا ناساً لأنهم يتحركون في الأرض.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الفرقان: (وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً) [الفرقان:49] أناسي: أناس كثير، لكن هل تسمى الأنثى إنسانة؟
الجواب
كأن هذا اشتقاق ليس بصحيح في العربية، إنما لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إنما ذكر الناس وذكر الإنسان ولكنه لم يذكر لفظ إنسانة، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر إنسانة، وهذا مثل بعض الاشتقاقات التي ليس لها مدلول في العربية.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] اعبدوا: قيل معناه: أخلصوا التوحيد.
وقيل: ادخلوا في دين الله، وهو بمعنى الأول.
وقيل معناه: تعبدوا وتزودا من النوافل بعد الفرائض.
فإن كان معناه: النوافل بعد الفرائض فهو للمؤمنين، وإن كان معناه: أخلصوا الدين فهو للمنافقين، وإن كان معناه: ادخلوا من الكفر إلى الإسلام فهو للكافرين، والصحيح أن (اعبدوا الله) يدخل فيها الجميع.
والعبادة أشرف مرتبة، وشرفك في الحياة أن تكون عبداً لله.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
ومن أحسن من تكلم في العبودية شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو إذا تكلم في موضوع شفى عليلك، وأروى غليلك، فأنبه الإخوة للرجوع إلى كتابه العبودية، وهو لا يكلف وقتاً، يقع في مائتي صفحة أو ما يقاربها، وهو كتابٌ مجيدٌ على عادة ابن تيمية، رحم الله روحه، وسقى الله عظامه شآبيب الرضوان.(225/25)
القرآن يقرر توحيد الألوهية
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:21] الخلق لله، والرزق له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والله ذكر الربوبية هنا ثم ذكر الخلق، فإن الكافر يشهد أن الرب والخالق والرازق هو الله، فهل يعصمه ذلك من النار؟
وهل يمنعه من عذاب الواحد القهار؟
لا.
فـ أبو جهل يعرف أن خالق الشجر ورافع السماء هو الله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87].
لكن هذا ليس بتوحيد الألوهية، هذا توحيد الربوبية، وهذا مقرر وقد اعترف به حتى فرعون باطناً، قال موسى عليه السلام لفرعون: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] ولكن التوحيد الذي أتى به صلى الله عليه وسلم وهو توحيد الألوهية، فـ أبو جهل يعلم أن الله خلق السماوات والأرض ولكنه جعل معه آلهة أخرى، فالرسول صلى الله عليه وسلم أتى يقول: لا إله إلا الله (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) [مريم:65] لا خالق، ولا رازق ولا معبود بحق ولا يستحق العبادة إلا الله.
إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلقكم ولا ينكر أحد هذا إلا ما فعل فرعون فإنه أنكر الصانع، والملاحدة كـ استالين ولينين وماركس عليهم لعنة الله وغضبه، يقولون: (لا إله والحياة مادة) وذكروا أن الطبيعة هي التي خلقت وأوجدت وصورت واستدلوا بأمور منها: الجراثيم والبكتيريا وغيرها وهذه {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور:40] وهم يبثون أفكارهم وسمومهم في الشعر الحداثي في قالب الحداثة وفي الرموز المتهتكة اللعينة الرخيصة، في كتابات في مركب الاقتصاد، وفي كتبهم التي تغزو أسواق المسلمين، لكن {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف:8].(225/26)
معنى التقوى
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] قال أهل العلم: تتقون فتعرفون لا إله إلا الله.
وقال بعضهم: تتقون فتعرفون أنه لا يستحق العبادة إلا الله.
وقال بعضهم: تتقون الله وتتقون غضبه وعذابه.
وكل الأقوال تدور في كلمة، ومن أحسن المنازل تقوى الله، وأنت أوص نفسك بها صباح ومساء.
ينسب لـ علي بن أبي طالب أنه قال لما قيل له: ما هي التقوى؟ فقال: [[التقوى: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل، والرضا بالقليل]].
وقال عبد الله بن مسعود: [[تقوى الله: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر]].
وقال طلق بن حبيب [[التقوى: هي عمل الحسنة بنور من الله ترجو رحمة الله، والكف عن المعصية على نور من الله تخاف عذاب الله]].
وقال ابن كثير: التقوى: هي أداء ما أمرت بأدائه، واجتناب ما نهيت عن اجتنابه.
وقال ابن تيمية: التقوى: هي إتيان المأمورات واجتناب المنهيات وتصديق الأخبار.
وقال بعض أهل العلم من أهل السنة: التقوى هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية.
والوقاية عند العرب تسمى: الستر الواقي، والحجاب وقاية، ويسمى ما يتخمر به وقاية، قال لبيد بن ربيعة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
يعني: جعلت بيننا وبينها وقاية بيدها، وقد أورد هذا الشاهد ابن جرير وغيره من المفسرين.
قال سبحانه: من هو الله؟ تعريف الله عند خلقه يكون بنعمه؟
ولذلك أكبر ما يُعرف سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بنعمه، فإن آثاره في الكون من النعم هي التي تدل عليه، فقد عرف عباده بالسماء، وعرفهم بالأرض وبالأمطار والرزق والثمرات -وهذا سوف يأتي- وعرفهم بنعمة الليل والنهار، ونعمة النوم واليقظة، وقد ذكر ابن كثير عند هذه الآية فصلاً طويلاً وأنا لا أذكره هنا، لأني كررته كثيراً ودليل القدرة ذكره عن مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، وقد كررته فيعاد إلى الدروس السابقة في التفسير وقد أوردت هذا الكلام من تفسير ابن كثير، فلا أكرره.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد(225/27)
معنى قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً)
قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} [البقرة:22] سمى الله الأرض: فراشاً وذلولاً وقراراً ومهاداً وهذه هي أسماء الأرض.
(فقراراً) مستقرة لأرزاقكم وخلقكم.
و (مهاداً) أي: مستوية لا تتعبكم.
و (ذلولاً) أي: تركبونها وتمشون في جنباتها وتطلبون رزق الله، فهي قرار بالجبال، وهي تدور كما قال بعض أهل العلم -وهو الصحيح- وهذا لا يتعارض مع معتقداتنا، كما يقول بعض الناس: الأرض لا تدور وألفوا في ذلك رسائل.
بل هذا يزيدنا إيماناً بقدرة الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن جعل الأرض تدور حول الشمس، وليس هناك آية تثبت أن الأرض لا تدور قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً) [غافر:64] فإنها قد تكون قراراً، وهي مع ذلك تدور، ولا ندخل في هذه المتاهات، إنما إذا ثبت في العلم التجريبي أن الأرض تدور فما المانع من قدرة الواحد الأحد أن جعلها تدور وتتحرك، وأن الناس على ظهرها، فسبحان الباري تبارك وتعالى!
أما من قال: إن هذا شك في المعتقد، فلا.
فهذا كلام بعيد، بل لها أن تدور أو لا تدور.
بعض الناس تكلم وعنده خير، وإنما أراد أن يرد رداً منطقياً والردود هذه لا تكون إلا بدارسة، فتراه يقول: سبحان الله! كيف تدور وأنا في قريتي منذ خلقني الله، ولم تدر القرية من مكانها.
فهو يظن أن قريته تذهب مثلاً: من أبها إلى القصيم، أو تذهب إلى الطائف، لا.
هي ثابتة كالكرة تدور والنقاط التي على سطح الكرة باقية، المقصود أن هذه ليست بردود، وقد جاء العلم بهذا وهو لا يعارض سياق القرآن والحمد لله.
لكن على كل حال المسألة فيها سعة كما يقول الأستاذ علي الطنطاوي في كتاب المسلمون وعلم الفلك، والكتاب للصواف يقول في المقدمة: أثبت الصواف أنها تدور، ورد عليه العالم الفاضل الفلاني بأنها لا تدور، وأنا تدخلت للإصلاح بينهما فـ للصواف أجران لأنه اجتهد وأصاب، وللشيخ الثاني أجر لأنه اجتهد وأخطأ ولي أجر لأني تدخلت.
فالمقصود: أن هذه لا تضر والحمد لله، والأمر أسهل من ذلك، لكن يحدث الناس بقدر ما عندهم من استعداد، فلا يذهب إنسان إلى بادية فيحدثهم عن الدوران فيقولون: من أين أتى بهذا الكلام؟
فلا يحدث الشخص قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كانت عليهم فتنة.(225/28)
نفي التعارض بين جعل الأرض فراشاً ووجود الجبال
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22] لا تعارض بين وجود الجبال في الأرض أن تكون فراشاً ومهاداً، فإن الجبال أقل رقعة من كثير من السهول، بل الجبال جعلها الله عز وجل سهلة المرتقى في الغالب إلا في النادر منها، ولحكمة جعلها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أوتاداً في الأرض.
ولذلك ذكر بعض أهل العلم التجريبي: أن الأرض متوازنة فلها في كل مكان كتلة من الجبال تحفظ التوازن في الكرة الأرضية، فالدرع العربي مثلاً: في الجزيرة العربية يمر إلى العقبة وإلى الساحل، وجبال الهملايا في الهند وجبل طارق مثلاً في المغرب، قالوا: فوجد أنها موزعة بالتوازن وأنه لو نقصت كتلة من هذه الجبال لأخذت الأرض تتأرجح بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وذكر أهل العلم التجريبي أن هناك أدنى الأرض وأعلاها، والروم كانوا يسكنون في الأردن، فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) [الروم:1 - 3] ونحن لا نقر هذا ولكن نستأنس ونذكره للناس، وإلا فالأدنى عند المفسرين: الأقرب، فلان يدنو من فلان، أي: يقرب منه، وسميت الدنيا كذلك لقربها، فقوله: (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) [الروم:3] أي: قريباً من بحيرة طبرية، أو في نهر الأردن ووجد أن هذه المنطقة هي أدنى منطقة في الأرض، أي: أسفل منطقة، ولله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى القدرة التامة، فإن آيات القرآن ومعجزاته ما زالت تستنبط.
آياته كلما طال المدى جددٌ يزينهن جلال العتق والقدم(225/29)
بيان قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22] وقد سماها الله عز وجل سقفاً محفوظاً، وقد بناها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكن يقول: (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) [الرعد:2] فهل للسموات عمد أم لا؟ لأهل العلم في الآية هذه معنيان فينتبه له:
المعنى الأول: يقال بغير عمد ترونها: أي أنكم ترون السماء مرفوعة فليس لها عمد.
المعنى الثاني: وقالوا بغير عمد ترونها: لها أعمدة، لكن لا ترون هذه الأعمدة.
والصحيح: المعنى الأول فسبحان من رفع هذا الجرم الذي سمكه كما بين السماء والأرض بمسافة خمسمائة عام، وذكر في بعض الآثار: أنها سماء من نحاس وسماء من حديد إلى غير تلك الأنواع، فالله أعلم! لكن جرمها وسمكها خمسمائة عام، وقد اخترقها النبي صلى الله عليه وسلم مع جبريل في لحظات حتى وصل إلى (سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) [النجم:14 - 17] وقال: {سَقْفاً مَحْفُوظاً} [الأنبياء:32] قالوا: محفوظة بالملائكة من الشياطين لئلا يسترقوا السمع.
يقول ابن عباس: كان الشيطان يأتي على ظهر أخيه، ثم يأتي الثالث على ظهره، ثم الرابع والخامس، ثم السادس حتى يقربا من السماء، فكانوا يلتقطون الكلمات قبل أن يبعث صلى الله عليه وسلم فيبثونها للسحرة والكهنة والمشعوذين، فيأخذها الساحر فيزيد عليه مائة كذبة.
فلما بعث عليه الصلاة والسلام أصبحت الأجرام السماوية والأرض في حالة استنفار وتأهب وطوارئ، أخذت الشهب تلقى عليهم تلاحقهم وتحرقهم في كل مكان، فلما جاء زعيم نصيبين من اليمن يتفقد بعض أفراده، فقالوا: احترقوا، ونظر وإذا الشهب ترمى في كل مكان.
فقال: ابحثوا في الأرض والتمسوا فقد وقع في الأرض أمر منعنا من التماس خبر السماء، فذهبوا وتفرقوا في الدنيا، فذهبت فرقة تجاه الحجاز، وصادفت أن الرسول عليه الصلاة والسلام عند وادي نخلة في الطائف وسط الليل لما رده أهل الطائف وكذبوا به، فجلس يقرأ القرآن، فاستمعوا له، وتداعوا من كل أقطار الأرض، وكانوا يسرعون في لمح البصر، فأخذوا يزفونه حتى امتلأ الوادي بهم وأصبحوا صفاً على صف حتى يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) [الجن:19] ونقل الله المشهد بالصورة والصوت، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً) [الجن:1].
قال سيد قطب: عجيب! هذا القرآن حتى الجن يتذوقونه ويعرفون أنه عجب، قالوا: (فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً) [الجن:1 - 2] إلى أن قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً) [الجن:9] ثم قال الله لرسوله في آخر سورة الأحقاف (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأحقاف:30 - 32] فهذا من حفظ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للسماء.(225/30)
فوائد النجوم
قال قتادة بن دعامة السدوسي: [[خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به]].
إذاً فوائد النجوم هي:
الأولى: زينة للسماء قال الله تعالى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [فصلت:12] قالوا: السماء هذه هي السماء الدنيا التي تليكم، والدنيا: القريبة.
وقال بعض أهل العلم: ومفهوم المخالفة أن تلك السموات ليس فيها مصابيح.
الثانية: يهتدي بها المسافر، قال تعالى: (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) [النحل:16] فإن المسافر إذا أصبح في البحر ولجة الليل وضل به الركبان، ومل الحادي، وحار الدليل نظر إلى النجم، فاهتدى بإذن الله.
يقول الشهرزوري وهو قاضٍ من قضاة الشام:
لمعت نارهم وقد عسعس الليل ومال الحادي وحار الدليل
فتأملته وفكري من البين عليل وطرف عيني كليل
فاهتدى، ولذلك يعرف العرب هذا، فهم يعرفون أن سهيلاً في جهة اليمن، والثريا في وسط السماء، وغيرها من النجوم التي ذكرها أهل العلم، فهي هداية.
الثالثة: رجوماً للشياطين: فهي ترجمهم، فإذا رأيت في آخر الليل -وكلكم رأى- أنه في أول الليل، أو وسطه، أو ينهد النجم بسرعة، ثم ينطفئ، قالوا: ينطفئ بعد أن يحرق الفاسق الفاجر الذي يريد أن يتعلق ليسمع من السماء شيئاً؛ لأن للسماء حركة (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن:29] كتبة ومحصون وساجدون وعباد، وما يأتي من رزق وما يأتي من خلق وتصريف، فهم يأخذون أخبار السموات، ولكنهم يحترقون قبل أن يصلوا بها، وبعضهم يسمع كلمة قبل أن يحترق، وبعضهم يسمع كلمة ويفر بها فيعطيها الكاهن، فيزيد عليها مائة كذبة، ولذلك قد تذهب إلى بعض الكهنة، فيقول: اسمك محمد بن علي وسيارتك مواصفاتها كذا وكذا، وأنت تسكن في قرية كذا، فهذه المعلومات أخبره الجان به، وقيل: هذه في أخبار الدنيا، وأما أخبار السماء، فقالوا: إنك تموت في يوم كذا وكذا، أو يأتي لك ابن كذا وكذا، والله أعلم.(225/31)
معنى قوله تعالى: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:22] أما الماء فهو أرخص موجود وأغلى مفقود، إذا فقد الماء، دفعت حياتك وملكك وما معك من شيء في شربةٍ واحدةٍ، وأما إذا وجد فهو أرخص موجود.
دخل ابن السماك على هارون الرشيد، فقال هارون الرشيد: يـ ابن السماك -وهو واعظ عابد عالم- أما تريد أن تخالطنا في هذا الملك، فتصيب معنا ويرزقك الله منه؟
قال: والله ليس لي بملكك طرفة عين من عبادة ربي تبارك وتعالى.
ثم أتى هارون الرشيد في أثناء الجلسة، فقال: علي بشربة من ماء، فأتوا: بالماء، قال ابن السماك: أسألك بالله ألاَّ تشرب حتى أكلمك.
قال: ما هو؟
قال: أسألك بالله لو منعت هذه الشربة بنصف ملكك، أتدفع نصف الملك فيها؟
قال: إي والله.
فلما شربها، قال: أسألك بالله لو منعت إخراج هذه الشربة من جسمك بنصف الملك أتدفع؟
قال: نعم.
قال: ملك لا يساوي شربةً ليس بملك.
لذلك لما حضرت هارون الوفاة في طرطوس وهو هذا الذي تحدى السحاب وهو في قصره في بغداد، وقال للسحابة: أمطري حيث شئت فإن خراجكِ سوف يأتيني، قال: أخرجوا الجنود لي، فأخرجوهم فنظر إلى الجيش، وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) [مريم:93 - 95] بدون شيء إنما يأتي فرداً وعبداً.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] أما الثمرات فهي بين أيديكم، وكل ثمرة تحدثكم عن قدرة الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالى الوردة والنرجس والياسمين والرمان والرياحين، فيا سبحان الباري!
والآن اكتشف مع هذا العلم نباتات في كتب منشورة في الأسواق لم تكتشف من قبل!
فسبحان من عدد الأنواع من كل زوج بهيج! لون أصفر وأخضر وأحمر وأسود ومشكل وشيء عجيب تتيه فيه العقول وتدهش، فمن جعل ذلك التعدد؟
إنه الواحد الأحد، يسقى بماء واحد، ولكن الطعم مختلف، ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:22] ليشمل الحبوب المحصودة، وما لم تحصد، وليشمل الفواكه والخضروات.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] أنداداً أي: شركاء، وشبهاء، والمعنى: لا تشركوا بالله، ولأهل العلم فيها ستة أقوال:
القول الأول: تعلمون أنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى خالق السماء والأرض.
القول الثاني: تعلمون أنه لا إله إلا الله حتى في التوراة والإنجيل وهذا لليهود.
القول الثالث: تعلمون أنه لا ند له تبارك وتعالى.
القول الرابع: تعلمون بمعنى تعقلون إن كان عندكم عقول.
القول الخامس: لا يقدر على هذا الذي ذكر في الآية أحد سوى الله تبارك وتعالى.
القول السادس: تعلمون أن الأصنام حجارة وأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تخلق ولا ترزق، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً) [الفرقان:3].
في ختام هذا اللقاء أسأل الله أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، ونسأل الله لنا ولكم القبول والإخلاص والصدق معه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(225/32)
مواقف من حياته عليه الصلاة والسلام
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يحيي القلوب بنور الحكمة، وذكر معجزاته يزيد الإيمان رسوخاً، والكلام عن شمائله يزيد من حبه، وتذاكر سيرته يزيد المرء ثباتاً على الدين، وفي هذا الدرس شيء من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومواقفه العظيمة.(226/1)
من البراهين والمعجزات
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
سلام لا ينقطع إلا بالدموع، وسلام لا ينتهي إلا بالحب يخلفه، وسلام نلتقي عليه هذا اليوم ويوم يجمع الله الناس ليوم لا ريب فيه، فنسأله كما جمعنا على الحب فيه أن يجمعنا في رضوانه وفي دار كرامته في مقعد صدق عند مليك مقتدر، رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ.
لا تعاقبنا فقد عاقبنا قلقٌ أسهرنا طول المنام
أيها المسلمون: معنا هذه الليلة حبيبنا عليه الصلاة والسلام، معنا رسولنا، معنا قدوتنا، معنا صفوة الخلق صلى الله عليه وسلم بحديثه وبسيرته وبقصصه الطيب.
وداعٍ دعا إذ نحن بـ الخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أهاج بليلى طائراً كان في صدري
قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31](226/2)
انشقاق القمر
عنوان هذه المحاضرة" مواقف من حياته عليه الصلاة والسلام".
ومن مواقفه صلى الله عليه وسلم التي نعيش أنوارها وأسرارها وأخبارها: موقف البراهين التي أثبت الله بها نبوته عليه الصلاة والسلام، جاء إلى أهل مكة رجل عرفوه فقد تربى معهم، وسار في جبالهم، وتظلل بسمائهم، ومشى على أرضهم، فلما قال: أرسلني الله، قالوا له: كذبت -وهو الصادق- فكان عليه أن يأتي بآيات بينات، فأتى بها من عند حكيم خبير {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15]
خرج على أهل الحرم وقد أطل القمر ليلة أربعة عشر على الناس، وهم في الحرم كما قال الله: {سَامِراً تَهْجُرُونَ} [المؤمنون:67] أي تسمرون بقول فيه فحش وهجر وبذاء، وقلوب ما عرفت الله، قلوب عاقرت الخمر والفاحشة والزنا، وهم في الخمر يطل عليهم عليه الصلاة السلام كالبدر، وهم في ظلام الليل، كما قال الأول:
صبحته عند المساء فقال لي ماذا الصباحُ وظن ذاك مزاحا
فأجبته إشراق وجهك غرني حتى توهمت المساء صباحا
فقال لهم: {قولوا لا إله إلا الله تفلحوا} فقال أبو جهل: آذيتنا وسببت آلهتنا، وسفهت أحلامنا، ثم حلف باللات والعزى لا يقول: لا إله إلا الله حتى يشق له القمر إنها آية عظيمة، إنه امتحان صعب، إنه تحدٍ صارخ، إنها مجازفة سافرة، حلف بلاته وعزاه لا يؤمن ولا يذوق هذا الدين حتى يشق له رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن الله القمر، وكان تحدياً أمام الجماهير، فوقف عليه الصلاة والسلام موقف الشجاعة والبسالة، وموقف القيادة للعالم، كما يقول المتنبي في ممدوحه:
وقفت وما في الموت شكٌ لواقفٍ كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ووجهك وضاحٌ وثغرك باسم
فالتفت إلى القبلة ودعا الله، وقال لكفار قريش: إن شق الله لي القمر أتسلمون؟ قالوا: نعم - والحديث صحيح من حديث أنس وغيره- فأشار إلى القمر ودعا الله، فشق الله له القمر فلقتين، أما إحداهما فذهبت إلى جبل أبي قبيس، وذهبت الأخرى قيل: إلى عرفات وقيل: إلى مكان آخر، قال: انظروا فنظروا ورأوا القمر قد انشق، ورأوا آية الله وبرهان الله وحجة الله ودليل الله على إرسال رسول الله {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15]
ماذا فعلوا؟ قاموا من المجالس كالحمر ينفضون ثيابهم، ويقولون: سحرنا محمد، سحرنا محمد، ثم تسابقوا وخرجوا من أبواب الحرم.
أليس دليلاً على رسالته وعلى مواقفه الخالدة أن يثبت الله رسالته من السماء بآيات؟! فسبحان ربك! {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15].(226/3)
نزول المطر
ويأتي عليه الصلاة والسلام والحديث عند البخاري ومسلم من حديث أنس وغيره، فيقف على المنبر يوم الجمعة يخطب الناس، لكن بكلام يحيي به الله القلوب.
ما بنى جملةً من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمةً من عفاء
فهو أصدق الناس، وأخشى الناس وأعلمهم وأخلصهم، يتكلم في خطبة الجمعة، وكان ذاك الجو صائفاً شديد الحر؛ السماء ترسل أشعتها كالنار، ليس في السماء سحاب ولا غيم، والناس في قحط لا يعلمه إلا الله، وبينما هو في أثناء الخطبة- بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام -إذا بأعرابي يدخل من باب نحو دار القضاء-باب من أبواب المسجد- فيقطع هذا الأعرابي خطبة الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقول: {يا رسول الله! ضاع المال، وجاع العيال، وقحطنا، فادع الله أن يغيثنا، فقطع صلى الله عليه وسلم الخطبة مباشرة ورفع يديه، وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا قال أنس راوي الحديث: والله ما في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع شيء، فثارت من وراء سلع سحابة صغيرة كالترس- والترس مجن يحمله المقاتل يحميه من ضربات السيوف -فانتشرت كالجبال على سماء المسجد وسماء المدينة، ثم أبرقت وأرعدت وأمطرت بإذن الواحد الأحد، فوقع الغيث على المسجد، فخر الماء على الخطيب صلى الله عليه وسلم، وأخذ الماء يتحدر على لحيته، وهو يتبسم ويقول: أشهد أني رسول الله}.
ونقول له: نشهد أنك رسول الله، وأنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، وأنك أخرجت القلوب من ربقة التقليد والتبعية والخرافة والوثنية، وأحييت أمة، ورفعت للعدل منبراً، وأنك سللت للإسلام سيفاً، فصلى الله عليك وسلم تسليماً كثيراً.
ويستمر الغيث أسبوعاً كاملاً، وتسيل الأودية، ويأتي ذاك الأعرابي أو غيره في الجمعة الأخرى، والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب في الناس والغيث ينزل والمطر يواصل، فيقطع خطبته مرةً ثانيةً، ويقول: يا رسول الله! جاع العيال- أي: جاعوا من كثرة الأمطار، قبل أسبوع جاعوا من القحط والجدب والجوع، واليوم جاعوا من الحصار الذي أحدثه المطر بإذن الله فأصبحوا في البيوت -قال: وتقطعت السبل، وضاع المال، فادع الله أن يرفع عنا الغيث، فتبسم عليه الصلاة والسلام.
قال بعض أهل العلم: تبسم إما للموافقة لأن هذا الأعرابي يقطعه مرتين في موقفين، وقيل: تبسم من قلة صبر الناس، ما صبروا على الجوع والظمأ، وما صبروا على استمرار المطر والغيث، فيرفع عليه الصلاة والسلام كفيه الشريفتين، فهل يقول: يا رب! ارفع عنا الغيث؟ لا، هل النبي يدعو برفع الغيث؟ لا، الرحمة لا يطلب أن ترفع مهما نزلت، فهي بركة وخير ونور، فقال: {اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب والآكام، وبطون الأودية ومنابت الشجر} قال أنس: والله ما أشار صلى الله عليه وسلم إلى مكان إلا أخذ المطر والغيث ينحاز إلى ذاك المكان، وخرج الصحابة والمدينة في مثل الجوبة كأن عليها ثوباً مفصلاً، أما المدينة فشمس وهواء طلق ونسيم عليل، وأما حولها فأمطار غزيرة وسيول جارفة {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15].
إنه برهان على رسالته الخالدة، وهذا القصص يغرس الإيمان في القلوب حتى يصبح كالجبال، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] وأحسن القصص سيرته عليه الصلاة والسلام وما صح عنه.(226/4)
بركة الطعام القليل يوم الخندق
وإليكم أيها الأحباب الأخيار قصة ثالثة نُنهي بها هذا الموقف لنصل إلى موقف آخر من مواقفه عليه الصلاة والسلام: في صحيح مسلم أن جابر رضي الله عنه وأرضاه، قال: والذي أخذ بصري بعد أن أعطانيه
كان جابر بن عبد الله أعمى البصر، وأما قلبه فمبصر، قلبه يرى، قلبه على بصيرة من الله، وأما بصره فأخذ الله نوره ليعوضه جنة عرضها السماوات والأرض {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد:19] بعضهم عيونه كبيرة ولكن قلبه صغير، بعضهم يرى كل شيء ولكن لا يرى طريق الهداية، يبصر كل معالم الوثنية والفتنة والخرافة، يرى الشاشة والمجلة الخليعة، ويرى الفتاة الداعرة، ويرى الكأس، ويرى الساعات الحمراء، ويرى الإجرام، ولكن لا يرى طريق الهداية والاستقامة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] ولسان حال جابر يقول:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
قلبي ذكيٌ وعقلي غير ذي عوجٍ وفي فمي صارم كالسيف مشهور
الشاهد: يقسم جابر بمن أخذ بصره بعد أن أعطاه، وهو الله، ولا يقسم إلا بالله، لقد سافر مع الرسول عليه الصلاة والسلام -والحديث كما أسلفت في الصحيح- قال: لما خرجت معه في الغزوة أخذني عليه الصلاة والسلام بيدي، فخرجت معه إلى الصحراء، وانفرد الرسول صلى الله عليه وسلم بـ جابر، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: {يا جابر! أترى تلك الشجرة؟ قلت: نعم، يا رسول الله قال: اذهب إليها، وقل لها: أيتها الشجرة! إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لك: تعالي فذهب فقال: يا أيتها الشجرة! إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: تعالي قال جابر: فوالذي نفسي بيده لقد أقبلت تشق الأرض شقاً حتى وقفت بجانبه -وسند هذا الحديث في مسلم كنجوم السماء- قال: اذهب إلى الشجرة الأخرى، وقل لها: يقول لك الرسول صلى الله عليه وسلم تعالي، فيذهب فيقول لها، قال جابر: فوالذي نفسي بيده لقد أقبلت تشق الأرض شقاً حتى وقفت بجانبه.
وفي لفظ آخر لـ مسلم: تخد الأرض خداً، من باب الأخدود {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} [البروج:4] أي: الشقوق في الأرض، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من حاجته أخذ بغصنين غصن من شجرة وغصن من شجرة، وقال: يا جابر قل لهما تعودان إلى مكانيهما، فقال لهما، قال جابر: والذي نفسي يبده لقد عادتا تشقان الأرض شقاً حتى وقفتا مكانيهما} {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] بل هو الحق والبرهان الناصع على أنه رسول من الله.
وقد يقول قائل: سمعنا بهذا وأدركناه فما فائدة عرضه؟ فأقول: ثلاث فوائد نص عليها أهل العلم:
أولاً: تضويع المسجد بذكره عليه الصلاة والسلام.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
فذكره في المجالس من أحلى ساعات العمر، ومن أغلى حياة المؤمن في الدنيا.
الأمر الثاني: تعميق الإيمان وتأصيله.
الأمر الثالث: الاستغناء بالقصص الصحيح عن القصص الخرافي الباطل الذي لصقه الخرافيون المبتدعون الذين لا يعلمون شيئاً.
أتدري ماذا يقول الخرافيون؟
يقولون: سافر أعرابيٌ إلى المدينة، فوصل إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقف في القبر، وقال: يا رسول الله! إن الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64] وإني يا رسول الله أذنبت وجئت أستغفر الله فاستغفر لي عند الله، قالوا: فانشق القبر فسلم عليه الرسول عليه الصلاة والسلام!! وهذه خزعبلات {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] ويورد مثل هذه الخزعبلات الغزالي القديم والحديث، ولذلك يقولون: الأعرابي هذا لما صافح الرسول عليه الصلاة والسلام أنشد بيتين، وقال:
يا خير من دُفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ويأتي النبهاني، وما أدراك ما النبهاني؟! صاحب الصلاة على سيد الكونين، الخرافي الكبير، والقبوري المبتدع، الذي يقول عنه الألوسي -بيض الله وجه الألوسي - يقول: إن كتب النبهاني وابن حجر الهيتمي وكتب السبكي -ولو أن فيها مجازفة- لا تصلح إلا مخالي يوضع فيها الشعير للحمير، لأنهم يقولون: كتب ابن تيمية لا تصلح للنشر، فقال: سبحان الله! كُتُب ابن تيمية العسل المصفى، والإبريز الخالص، والنور الوهاج ما تصلح لأن تنشر، والله إنها حياة لأمة ونور لقلوب، وإن فيها الأصالة والعمق، والذي لا يفهم كتب ابن تيمية كأنه لا يفهم العمق والأصالة، قال: أما كتبكم فتصلح مخالي يوضع فيها الشعير للحمير، تعلق برءوس الحمير، وتصلح كراتين للعلاجات في الصيدليات، وتصلح كذلك تطييق لأحذية زنوبة وأمثالها.
وهذا من الرد على أهل البدع.
يقول النبهاني: أتى الشيخ/ أحمد الرفاعي - وهو من مشايخ الطرق- قال: فوصل إلى الحرم المدني، فتقدم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها تقبل الأرض عنكم وهي نائبتي
ما عندهم إلا قصائد؛ كأنهم في سوق عكاظ، أو كأنهم في أمسية شعرية
وهذه دولة الأشباح قد حضرت فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
قال: فمد الرسول عليه الصلاة والسلام يده، فقبلها الرفاعي ثم عادت إلى القبر.
يقولون في المثل العامي: إذا كذبت فكبر، أي: إذا تعبت في الكذبة فاجعلها كبيرة، لأنك تعبت في أصل الطريق، فلماذا تتعب نفسك ثم تأتي بشيء يسير؟ قالوا: تمخض الجمل فولد فأراً، فمن الحكمة أن إذا تعب - الكاذب في الكذبة أن يجعلها كبيرة ظلماء صلعاء شوهاء حتى تدخل أو لا تدخل أو تقبل أو لا تقبل، فهذه هي الكذبات، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم غنية عن هذا القصص الباطل.
وهذا البرعي شاعر يمني قبوري من الغلاة، أتى إلى قبر الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال:
يا رسول الله يا من ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاما
فأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاما
يقول: يا سيدي! أذنبت فاغفر ذنوبي.
هل سمعتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يغفر الذنوب؟ هل سمعتم أنه يشافي أو يعافي؟ متى كان طبيباً في قبره عنده صيدلية؟ {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] إنما هو مبلغ، ولو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير عليه الصلاة والسلام.
هذه مواقف ومعجزات، ونثني بموقف لـ جابر لنخلص إلى موقف آخر: كان الصحابة يحفرون الخندق، وكانوا يضعون الحجر على بطونهم من الجوع، وهذا دليل على أن من تفَّرخ في الدنيا، أو كبر بطنه في مآكل الدنيا، أو ثقل جنباه، أو كثرت سياراته أو أمواله، أن ذلك ليس بدليل على منزلته عند الله، يقول الشافعي:
تموت الأسد في الغابات جوعاً ولحم الضأن تأكله الكلاب
قال جابر: فحفرنا الخندق فعرضت لنا كدية (صخرة) فنزل عليه الصلاة والسلام بالمعول، فأخذه فضرب فشظ له شظية من نار، أو من نور، أو من بارق، فقال: لقد أريت قصور كسرى يفتحها الله علي، فتغامز المنافقون أحدهم دق صاحبه وغمزه، وقال: اسمع يفتح الله عليه قصور كسرى، ونحن أحدنا لا يستطيع أن يبول من الخوف، ثم يضرب صلى الله عليه وسلم الضربة الثانية فيلمع نور وهاج، فيقول: لقد أريت قصور الحيرة، وقيل: المناذرة، وقيل: القياصرة يفتحها الله علي، وأُريت الكنزين الأبيض والأحمر، وسوف يفتحها الله على أمتي، فيتغامزون، ويذكر الله هذا القصص عنهم وهم يقولون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، لكن بعد سنوات يفتح الله عليه قصور كسرى وقيصر، وتدخل جيوشه مهللة مكبرة، فاتحة منتصرة، وتعطى أمته الذهب والفضة.
فلما حفروا رأى جابر الجوع بالمصطفى عليه الصلاة والسلام، وعلى بطنه حجران، فعاد جابر فتذكر هل في بيته طعام، فتذكر عناقاً صغيرةً وشيئاً من شعير، فذهب إلى زوجته، فقال: هل من طعام؟ قالت: هذه العناق -والعناق: ولد الماعز- فرآه جابر فقال لامرأته: اصنعي هذا الشعير طعاماً، وذبح العناق ووضعها في القدر، وعاد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله! معي طعام يكفي اثنين أو ثلاثة.
يقول ذلك في أذني الرسول عليه الصلاة والسلام، تكلم معه بالسر؛ لأن المسألة لا تتحمل أكثر من أربعة، طعام قليل وأهل الخندق لو سمعوا وانتشر الخبر، لأنت الداهية، سبعمائة أو أكثر من أهل الخندق، وهم في جوع لا يعلمه إلا الله، الواحد منهم يمكنه أن يأكل العناق والشعير ويدعه قاعاً صفصفاً لا ترى فيه عوجاً ولا أمتاً.
قال: يا رسول الله! أريد معك اثنين أو ثلاثة، عندي طعام قليل، فقال عليه الصلاة والسلام: يا أهل الخندق - ورفع صوته- إن جابر بن عبد الله قد صنع لكم طعاماً فحيهلاً بكم، فوضعوا المساحي وقاموا يمشون إلى بيت جابر، وأما جابر فأسقط في يده، وذهب يفكر، مرةً يقول: يمكن أن الرسول عليه الصلاة والسلام ظن أني أريد الناس، ومرةً لا يدري، فوصل إلى امرأته يبشرها بهذا الجيش العرمرم، قالت: الله ورسوله أعلم، فتقدم عليه الصلاة والسلام أمام الناس - والحديث عند البخاري ومسلم - وهو يتبسم صلى الله عليه وسلم من الواقع والحدث الذي في البيت، ومما في نفس جابر ونفس امرأته، وقال: يا جابر لا تضع البرمة على النار ولا القدر -القدر فيه الطعام، والبرمة فيها اللحم- فتقدم صلى الله عليه وسلم إلى اللحم ونفث فيه من ريقه الطيب الطاهر
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشيةً تمشت وجرت في جوانبه بردا
نفث في الطعام عليه الصلاة والسلام، وأمر بإنزاله، ودعا الله بالبركة، وقال: أدخلهم عشرة عشرة، فدخلوا وأنتم تعرفون الحساب، وكل سبعين فيها سبع عشرات، والسبعمائة سبعون عشرة، فقال: أدخلهم عشرة عشرة، فدخلوا فأكلوا وقاموا، ثم أتى الآخرون فأكلوا وقاموا، حتى انتهى الجميع والطعام بحاله ما نقص لقمة، فأتى صلى الله عليه وسلم وقال لـ جابر: تعال، وأخذ يأكل، وهو يقول: أشهد أني رسول الله.
ونقول: نشهد أنك رسول الله {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15].(226/5)
ضوابط محبة النبي صلى الله عليه وسلم
الحب فيض من الله ينزله في القلوب، والحب شجرة، وعلى الحب تبنى البيوت، وعلى الحب تصلح الزوجات والأولاد، وبالحب يسمع الطالب من المعلم، وبالحب تنقاد الرعية للراعي، وبالحب تسير الحياة.
الرسول عليه الصلاة والسلام كان يغرس الحب في القلوب، ففي الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال: أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليفتح خيبر، فذهب أبو بكر وأخذ الراية يحملها رضي الله عنه وأرضاه، فحاول أن يفتح خيبر فما فتحت له، لسر أراده الله، وإلا فـ أبو بكر أفضل الصحابة بلا شك، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية في اليوم الثاني عمر بن الخطاب، وقال: اذهب لعل الله أن يفتح عليك خيبر، فذهب وحاصر وحاول أن يفتح حصون خيبر فما استطاع، فاغتم الصحابة، وحزنوا رضوان الله عليهم، الحصار امتد وطالت المشقة والجوع والكلفة، فباتوا في ليلة طويلة بطيئة النجوم.
وليلٍ أراح الليل عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانب
فقال عليه الصلاة والسلام وسط الليل: {لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله} من الجانبين؛ حب لله ولرسوله، وحبُّ من الله ومن رسول الله، وهنا وقفة -يا أبرار- عند الحب ما هي ضوابطه؟
كان هناك محاضرة ألقيت في المدينة وألقيت في الطائف، لكن أعيد عناصرها على عجالة.
ضوابط حبه صلى الله عليه وسلم:(226/6)
المتابعة
الضابط الأول: المتابعة فمن رأيته يتمدح بلسانه وليس عنده براهين وأدلة على حب الرسول صلى الله عليه وسلم فكذبه {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] دليل الحب المتابعة في الظاهر والباطن، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] إن كان لا يصلي في المسجد، فإذا سألته لماذا لا تصلي مع الجماعة؟
قال: أنا أحب الله ورسوله قل: كذاب يا لعين، أين حبك؟
الدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء
سنة اللحية، ونحن لا نجعلها مثل بعض الناس الذين يهاجمون شباب الصحوة، ويقولون: هؤلاء متطرفون لا يعرفون إلا اللحية وتقصير الثياب، نقول: اللحية سنة، وليست من أركان الإسلام ولا نضيعها، ولا نفوتها، ومن خالف رسوله صلى الله عليه وسلم في اللحية ففي إيمانه شيء وفي متابعته شيء، ولو أنه لا يهتم بالسنة لما حلق لحيته، وبالمناسبة تذكرت قصيدة أوردها ولا بأس بالنبطي، ويجوز الشعر النبطي في المساجد، ولم يخالف في ذلك أحد، وحيا الله وبيا الله من نصر الإسلام بالشعر النبطي وبالخطب وبالكلمات، ولا حيا الله ولا بيا الله من هاجم الإسلام بالشعر العربي الفصيح وبغيره.
هذا داعية من الدعاة، حربي من قبيلة (حرب) وقبيلة (حرب) حرب لأعداء الله، هو شاب، لكنه شاعر بالنبطي، كان في مجتمع من الناس فوجدهم يحلقون لحاهم، فقال بالنبطي أبياتاً جميلة استحسنها حتى العلماء، يقول:
يا ربعنا يا اللي حلقتم لحاكم وايش علمكم ترمونها في القمامه
ذي سنةٍ ما سنها مصطفاكم علامةٍ يا شينها من علامه
ترى اللحى زيناتكم هي حلاكم لها مع الخير وقار وشهامه
شابهتم الكفار شغلة عداكم من شابه الكافر عليه الملامه
ترى اللحى يوصي بها مصطفاكم صفوة قريش اللي رفيع مقامه
عفوا لعل الله يغفر خَطَاكم وتفوزوا يوم اللقا في القيامه
هذي نصيحة إن كان ربي هداكم أقولها يا الربع ومع السلامه
ونحن نقول لكم: السنة ومع السلامة، وسلم الله من اتبع سنة محمد عليه الصلاة والسلام، وضابط المتابعة قليل.(226/7)
نشر السنة
الضابط الثاني: بعضهم يعترض، فأحد الفجرة من أذناب الحداثة -عليهم لعنة الله- فقد استوجبوا السيف، وتقريب دمائهم إلى الله من أعظم القربات، ذكر لنا أحد الدعاة والمشايخ: أنه ثبت على أحد الأشخاص من أفراخ الحداثة وعملاء العلمانية والماسونية والشيوعية أنه يستهزئ بالرسالة والرسول عليه الصلاة والسلام أكل نعم الله، وترك الصلاة، واستهزأ بالقرآن، ثم جلس في مجلس معه شباب، ثم قال: تريدون من أحاديث أبي هريرة؟ يقول: تريدون أن أسمر معكم مع أبي هريرة؟ قالوا: أعطنا من حديثه.
قال: حدثتني عمتي، قالت: حدثتها خالتها، أن جدتها حدثتها عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة: أتدرون ما البيبسي؟ قال الصحابة: الله ورسوله أعلم، قال: قوموا عني ما تعرفون البيبسي.
إن كان صح عنه ما يقول فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً وله عذاب أليم، وقد أعلن كفره وأمثاله، وأباح دمه واستبيح عرضه، وعليه من الله ما يستحقه {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فهذه كلمة تخرجه من الملة، وتبيح دمه، تدخله النار خالداً مخلداً، لايقبل الله منه صرفاً ولا كلاماً ولا شفاعة، لأنه كَفَرَ وألحد وتزندق والعياذ بالله.
فمن أسرار الحب: نشر السنة في الناس، أن تنطلق بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، أن تكون داعية، لا تقل: أنا غير موظف في الهيئة، ولي وظيفة خاصة، فإن وظيفتك الدعوة، وفي عنقك بيعة أن تنشر دعوة الله في الأرض {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159].
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {نضَّر الله امرأً سمع مني مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع} وصح عنه صلى الله عليه وسلم عند ابن حبان أنه قال: {رحم الله امرأً سمع مني مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أفقه من سامع} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(226/8)
كثرة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم
ومن أسرار الحب: كثرة الصلاة والسلام عليه؛ فإنها من أشرف الأعمال، يقول عليه الصلاة والسلام كما في سنن أبي داود بسند صحيح من حديث أوس بن أوس: {أكثروا علي من الصلاة ليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ - أي: بليت- قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} وسجد عليه الصلاة والسلام في الأرض ورفع رأسه، وقال للصحابة: {إن جبريل بشرني أن الله قال: من صلىَّ عليك صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}
اللهم صلِّ وسلم عليه ما تضوع مسك وفاح، وما ترنم حمام وناح، وما شدا بلبل وصاح.
اللهم صلِّ وسلم عليه ما ذكره الذاكرون وغفل عنه الغافلون، عدد الأشجار والأحجار والأمطار وقطرات الأنهار وهديل الأطيار، يا واحد يا غفار.
ليس حبه عليه الصلاة والسلام خرافات تمسيح، وصرف للألوهية من الله إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وغلواً وشركاً ووثنية، ليس هذا بحب، بل هو معاداة صريحة له عليه الصلاة والسلام.(226/9)
دروس من حديث سهل بن سعد
نعود إلى حديث سهل في الصحيحين، قال عليه الصلاة والسلام: {لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فأمسى الناس يدوكون ليلتهم كلهم يرجو أن يعطى الراية -ليس حباً في الإمارة، لكن في البشرى- قال عمر: ما أحببت الإمرة مثل ليلة أمس -أي: ما أحب الإمرة إلا تلك الليلة وفي الصباح الباكر بعد أن صلى عليه الصلاة والسلام الفجر، قال: أين علي بن أبي طالب؟ -هذه مواصفات علي سيف الله المنتضى، الإمام المرتضى أبو الحسن، نتقرب إلى الله بحبه وننزله المنزلة الرابعة بين الخلفاء الراشدين، ونتولاه حباً في الله خالصاً إلى أن نلقى الله - قال: أين علي بن أبي طالب؟ قال الصحابة: يا رسول الله! هو في خيمته به رمد لا يرى شيئاً - في عينه مرض الرمد لا يرى شيئاً- قال صلى الله عليه وسلم: عليَّ به، فذهب الصحابة إليه وأتوا يقودونه لا يرى مد يده، فأخذوه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: اذهب وخذ الراية، قال: يا رسول الله! والله ما أرى مد يدي.
فنفث عليه الصلاة والسلام في عينيه، فأبصر بنور الله، ثم أعطاه الراية، وقال: اذهب فوالذي نفسي بيده لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
وفي هذا دروس:
أولها: أن أعظم مواصفات العبد حب الله وحب الرسول عليه الصلاة والسلام، ولذلك جاء في السيرة في معركة أحد قبل المعركة، قام صلى الله عليه وسلم، فقال للناس: أتريدون القتال داخل المدينة أو عند أحد؟
فقالوا: في المدينة.
فقام شاب، فقال: اخرج بنا يا رسول الله إلى جبل أحد، لا تمنعني دخول الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلن الجنة، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: بم تدخل الجنة؟
قال: بخصلتين: بأني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف.
أتدري ما علامة الحب؟ أتظن أن علامة الحب أن يجلس الإنسان في المجلس ويتمدح بحب الله وبحب رسوله، ثم يترك الصلوات في المسجد ويصلي في البيت؟! أتظن أن حب الرسول عليه الصلاة والسلام دعاوى فارغةٍ، وبالوناتٍ منتفخةٍ، وبيته يوسوس فيه الشيطان باللهو وبالغناء الماجن، وبالمسلسلات الخليعة وبالمسرحيات العابثة، وهو معرض عن الله؟! أتظن أن حب الله وحب الرسول كلمة تقال باللسان، وهذا العبد عبد لشهواته ومعاصيه ونزواته وإعراضه عن الله، فأين حب الله وحب رسوله؟!
اسمع إلى نماذج الحب، يقول سعد بن أبي وقاص: حضرنا في معركة أحد مع الصحابة قبل المعركة ومعنا عبد الله بن جحش أحد الشباب في الثلاثين من عمره، قال: فدعوت أنا وإياه قبل المعركة فأما أنا فدعوت بالنصر للمسلمين، وأما عبد الله بن جحش فقال: اللهم لاق بيني وبين عدوٍ لك -أي: من الكفار- شديد حرده، قوي بأسه، فيقتلني، فيبقر بطني -أي: يشق بطني- ويجدع أنفي، ويفقأ عيني، ويقطع أذني، فإذا لقيتك يا رب يوم القيامة في هذه الصورة، تقول: يا عبد الله! لم فعل بك هذا؟ فأقول: فيك يا رب.
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألم
وحضرت المعركة وانتهت، قال سعد: وبحثت في القتلى فوجدت عبد الله بن جحش مقتولاً، قد جدع أنفه، وبقر بطنه، وفقئت عيناه، وقطعت أذناه، فسألت الله أن يلبي له سؤله.
أليس هذا هو الحب؟ بل أصدق الحب وأعلى الحب.
يا ضعيف العزم! إن بخلت بركعتين في مسجد، أو بصدقة على مسكين، أو بذكر في الغدوات والعشيات، أو بقراءة القرآن لتنقد نفسك من النار، فإن جعفر الطيار قطعت يمينه، فأخذ الراية باليسرى فقطعت، فاحتضن الراية، فكسروا الرماح والسيوف في صدره، فوقع على الأرض وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم رومٌ قد دنا عذابها كافرةٌ بعيدةٌ أنسابها
عليَّ إن لاقيتها ضرابها
هذا موقف الحب معه عليه الصلاة والسلام، وعلي بن أبي طالب لا نغلو فيه غلو بعض الناس حتى وصلوا به إلى درجة الألوهية، ولا نجفو فيه جفاء بعض الناس حتى كفروه -والعياذ بالله- لكننا نشهد أنه إمام مرتضى، وأنه أمير المؤمنين، وأنه حبيبنا، وأنه من أصدق الناس، وأخشى الناس، وأتقى الناس لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
خلَّفه عليه الصلاة والسلام في المدينة لما خرج إلى تبوك أميراً على أهل بيته، لأنه كان قوياً أميناً فيه شبه من موسى عليه السلام، فخرج عليه الصلاة والسلام، فجاء المنافقون أهل الخرافات، وقالوا: يا علي! تثاقل منك الرسول صلى الله عليه وسلم فأخرك مع النساء والأطفال تثاقلاً منه، فخرج علي ولحق بالرسول عليه الصلاة والسلام على مشارف المدينة، وهو يبكي ويقول: يا رسول الله! يقول الناس: إنك تثاقلت مني فخلفتني مع النساء والأطفال، فقال عليه الصلاة والسلام: {يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي} كان من أحب الناس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست مواصفات علي تؤتى بالخزعبلات التي يوردها الناس الذين يغالون في حبه، يقولون: سبب حبه أنه أخذ رمحاً فضرب به صخرة فخرج الماء مع الصخرة، وأخذ حجراً فرمى به فوقع في جبال الألب، لذلك يقول ابن تيمية في هذه الطائفة: هم من أجهل الناس في المنقولات، ومن أضلهم في المعقولات.
قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب
فإنني جاهلٌ بسيطٌ وصاحبي جاهلٌ مركب
ومواقف علي مع الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هي مواقف الولاء والحب، ومواقف الاتباع له عليه الصلاة والسلام، وما نبل أحد من المسلمين إلا باتباعه عليه الصلاة والسلام.(226/10)
غنائم حنين وموقف الأنصار منها
بقي هناك موقف أختم به هذه الجلسة، ثم نستمع إلى الأسئلة.
عاش صلى الله عليه وسلم مربياً ومعلماً، كان في كل كلمة يربي جيلاً، وفي كل تصرف يحيي أمة عليه الصلاة والسلام، هاجر إلى الأنصار طريداً وحيداً فريداً فنصروه وآووه وحموه وقطعوا بين يديه، فجزاهم الله عن الإسلام خير الجزاء، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من حديث أنس: {آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار، الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق}.
هاجر إليهم صلى الله عليه وسلم فنصروه، وخرج في غزوة حنين، فغنم صلى الله عليه وسلم من الإبل ألوفاً مؤلفةً ومن الغنم والمال، فترك الأنصار وأعطى رؤساء العرب من صناديد بني تميم، لأنه يريد أن يتألفهم إلى الإسلام؛ لأنهم لا يريدون إلا مالاً، فهم مسلمون بالترغيب، مثل بعض الناس استقامته للعواطف، يرى المخيم والمركز الإسلامي شاب، فلا يأتي إلا عاطفة، لا يقصد الاستقامة، أو المحافظة على الصلاة، أو قراءة القرآن، لكن يأتي لأن المركز هذا فيه نشيد (لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلما) في الصباح نشيد قبل الصلاة، وبعد الصلاة، وفي الحافلة، وتحت الحافلة، وفوق الحافلة، ونحن لا نقول: حرام، ولكن حنانيك، قصد وقصد، وهو مباح، فبعضهم يهتدي للعواطف، فإذا انتهى المخيم والمركز عاد على عقبيه وانتكس وأعرض عن المسجد، لأنه أقبل ترغيباً فقط، أو رغبةً في هذه العواطف، ثم ترك هذا الدين، وبعضهم يقول: أنا لا أحب الشباب إلا لأنني وجدتهم يذهبون في الرحلات والنزهات، ووجدت عندهم تمارين رياضية ونشيداً، فأنا أحببتهم لذلك، ثم ينتكس.
وكثير من الناس دخل في عهده عليه الصلاة والسلام للمال، فأعطى هذا مائة ناقة وهذا خمسين وهذا مائة، وترك الأنصار أيعطي سعد بن عبادة وإيمانه كالجبال؟! أيعطي معاذ بن جبل وقد أسلم لجنة عرضها السماوات والأرض؟! أيعطي أبي بن كعب؟! لقد تركهم لإيمانهم، لكن الأنصار رضوان الله عليهم تأثروا لأنهم ما عرفوا السبب.
سبحان الله! قاتلوا العرب، وذبحوا المشركين، وأخذوا غنائمهم، فأخذ صلى الله عليه وسلم الغنائم وأعطاها بعض الناس الذين أسلموا! فقالوا في مجالسهم: غفر الله لرسول الله، أعطى الناس وتركنا، وسيوفنا تقطر من دماء الناس فذهبت المقولة وانتشرت الشائعة، فوصل الخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال لـ سعد بن عبادة: {اجمع لي جميع الأنصار، ولا يدخل معكم إلا أنصاري، ولا يدخل معكم غيركم، فإذا اجتمعوا فأخبرني، فجمعهم جميعاً كباراً وصغاراً وشيوخاً وعلماءً وأبطالاً، فجلسوا، وأتى عليه الصلاة والسلام بحوار مفتوح ساخن، فسلَّم عليهم صلى الله عليه وسلم، وقال: يا معشر الأنصار! جزاكم الله خير الجزاء، أما أتيتكم متفرقين فجمعكم الله بي؟، قالوا: المنة لله ولرسوله، قال: أما أتيتكم متحاربين فألف الله بين قلوبكم بي؟ أما أتيتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وهم ينكسون رءوسهم حياءً}.
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
إذا اشتبكت دموع في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى
فرفع صوته، وقال: {يا معشر الأنصار! والذي نفسي بيده لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، وأتيتنا فقيراً فأغنيناك، وأتيتنا مخذولاً فنصرناك، قالوا: المنة لله ولرسوله، ثم قال: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟ قالوا: هو ما سمعت يا رسول الله، قال: يا معشر الأنصار أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، فوالذي نفسي بيده أن ما تذهبون به أعظم مما يذهب به بالناس يا معشر الأنصار! والذي نفسي بيده لو سلك الناس شعباً ووادياً لسلكت شعب الأنصار ووادي الأنصار، الأنصار شعار والناس دثار، غفر الله للأنصار ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار، يا معشر الأنصار! إنكم ستجدون بعدي أثرةً فاصبروا حتى تلقوني على الحوض} فقابلوه بالدموع، بكوا حتى سالت دموعهم من على لحاهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا أصدق الحب -والله- وهذا أخلص الولاء، وهذه معاتبة الأصحاب وفي الحديث أمور أربعة:(226/11)
صدق النبي وصراحته
أولها: صراحته عليه الصلاة والسلام؛ فإنه أصدق الناس، وما في قلبه يخرج على لسانه، وما كان له خائنة أعين، ما خان، ولا غدر، ولا كذب، ولا خالف، ولا فجر، بل هو أصدق من خلق الله، وأحشى من خلق الله، فعليه سلام الله وصلاته.(226/12)
وفاء الأنصار
الأمر الثاني: وفاء الأنصار، فلم يكونوا منافقين رضي الله عنهم وأرضاهم، بل صدقوا في كلامهم، ثم إنهم جعلوا المنة لله - وقد صدقوا- ثم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صدقوا، ليس لك على الله منة، ولكن المنة من الله عليك.
أتى بعض الأعراب لا قاتلوا ولا حضروا بدراً ولا أحداً ولا حنيناً ولا اليرموك ولا القادسية ولا عين جالوت ولا حطين وقالوا: يا رسول الله! الناس أسلموا بالمقاتلة قاتلتهم وأسلموا، ونحن أسلمنا هكذا، وما حاربناك، فأنزل الله قوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] فالمنة لله عز وجل.
ولذلك تجد بعض الناس يتبجح باستقامته، ويقول: والله ما يحافظ على المسجد إلا أنا! ينام أهل الحارة ولا يؤذن إلا أنا! من الذي يدافع عن القضايا الإسلامية إلا أنا! ومن الذي يقف المواقف إلا أنا! ومن الذي فتح المشاريع وأجرى وصنع إلا أنا! نقول له: أتمنُ على الله أن قدمت لنفسك؟! بل المنة لله عز وجل أن هداك لهذا الفعل.(226/13)
ليس العطاء على قدر الإيمان
وفي الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعطي الناس لا لإيمانهم؛ بل لمقاصد كأن يتألفهم، فليس من أعطي في الدنيا حظاً أو منصباً أو جاهاًَ أن الله رضي عنه الله، بل قد يكون أعدى أعداء الله، ويكون مسخوطاً عليه من الله، أو مغضوباً عليه من الواحد الأحد، فليس له وقار ولا منزلة عند الله، وتجد بعض الناس لا يجد كسرة الخبز، فقيراً مشرداً ذي طمرين، أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره، وهو من أقرب الناس إلى الله.
وفي الحديث -أيضاً- أن على المسلم أن يدرأ التهمة عن نفسه، وأن يدافع عن عرضه، وأن يبين للناس ملابسات القضايا كما فعل عليه الصلاة والسلام.
هذه مواقف من حياته صلى الله عليه وسلم يعيشها الإنسان كلما تأمل السيرة والسنة، وكلما تبحر في الحديث النبوي، والذي أوصي به نفسي وإياكم يا معاشر الأحباب الأخيار، ويا حملة الرسالة الخالدة: أن يكون لكم وردٌ من القرآن الكريم، وحزب في سيرته وسنته صلى الله عليه وسلم، خاصةً في الصحيحين: صحيح البخاري وصحيح مسلم الأسانيد الطرية الغضة، الأحاديث الشائقة الرائعة الرائقة، طلب العلم منها والاستشفاء بها، طلب الهداية والنور منها، حينها نعرف حياته عليه الصلاة والسلام، حينها ندرك أسراره، حينها نعيش تلك الأيام الغالية، حينها نجعله إماماً لنا نعيش حياة قريبة من حياة أصحابه رضوان الله عليهم.
أسأل الله الذي جمعنا في هذا المكان أن يجمعنا في دار الكرامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر، يوم يتقبل الله منا أحسن ما عملنا ويتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
آخيتمونا على حب الإله وما كان الحطام شريكاً في تآخينا
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين وإن كان من شكر بعد شكري لله، فأشكر أهل الفضل وأشكركم، ثم أشكر القائمين على التوعية الإسلامية من المشايخ والدعاة وطلبة العلم، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(226/14)
الأسئلة(226/15)
سؤال عن درس البخاري
السؤال
لماذا انقطعت عن درسك في كتاب البخاري؟
الجواب
إن شاء الله يتصل ما انقطع ونعود إن شاء الله لنستفيد منكم ونتضوع برؤيتكم ونستأنس بأنوار وجوهكم.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم وما جفت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا(226/16)
الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم
السؤال
أورد ابن كثير قصة الذي استغاث بالرسول صلى الله عليه وسلم وطلب الاستغفار
الجواب
نعم، أوردها ابن كثير، لكن ما أورد المصافحة، وهي على ما أوردها ابن كثير في كتاب التفسير سندها لا يصح، وليس كل ما في تفسير ابن كثير صحيح، وابن كثير لم يورد المصافحة كما ذكرت أنا، إنما ذكرها علماء بعض الغلاة من المبتدعة بأسانيدهم كـ النبهاني وغيره، أما ابن كثير فأوردها بدون مصافحة، ومع إيرادها فهي لا تصح.(226/17)
هداية المبتدع (نصيحة)
السؤال
أرجو تقديم نصيحة لأناس تعلموا السنة في المدارس والجامعات، ومع ذلك لا يغيرون عقائدهم البدعية، ولا عباداتهم الخاطئة، وذلك مجاراة لآبائهم وأقوامهم؟
الجواب
اعلموا -يا أيها الإخوة- أن من أصعب الأمور تغيير المبتدع من بدعته إلى الطريق الصواب (السنة) ولذلك يقول بعض السلف كـ سفيان بن عيينة: المبتدع لا يتوب، ومعناه في الغالب، وإلا فقد تاب الله على كثير من المبتدعة وردهم إليه رداً جميلاً، واستقاموا واستفادوا، ولكن كما قال الله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] وإنني أطلب من نفسي وإخواني ممن علم الحق ألاَّ يختار على الحق شيئاً، وأن يقدم الكتاب والسنة، ولا يقدم أهواءه، ولا أغراضه، ولا تقاليد أهله، فإن فعل ذلك فقد خسر وضل ضلالاً مبيناً، وما معي إلا أن يأتي إلى البرهان {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64] وليطرح المقالات والخرافات، وليتبع الأسانيد الصحيحة الثابتة عنه عليه الصلاة والسلام.(226/18)
قصة أثر بول النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفة
السؤال
هل صحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام من معجزاته أنه ليس لبوله أثرٌ في الأرض عند قضاء حاجته؟
الجواب
هذه القصة أوردها البيهقي صاحب دلائل النبوة، وصاحب الشمائل، وسندها ليس بذاك، فعلى ذلك لا أعتمدها، ولا أذكر منها استنتاجاً، وأحذر من هذه القصص، وما صح من المعجزات فيه خير وبركة، بل ذكر ابن تيمية وغيره أن للرسول عليه الصلاة والسلام فيما قيل ما يقارب ألف معجزة، فنحن في غنية عن هذا وأمثاله، إنما أعرف في ساعتي هذه أن سندها لا يصح وفيه نظر.
على كل حال؛ من خصوصياته عليه الصلاة والسلام التي ذكرت: أنه لا يتثاءب كما نتثاءب، لأن التثاؤب من الشيطان، وقد سلمه الله من الشيطان، بل عند مسلم في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {ما منكم من أحد إلا معه قرين -يعني: الشيطان- قالوا: حتى أنت يا رسول الله، قال: حتى أنا، ولكن الله أعانني عليه فأسلم} أي أنه: أسلم، وبعضهم يقول: أي: أسلمُ منه، والأول الصحيح.
ومن خصوصياته عليه الصلاة والسلام أنه لا يحتلم في المنام، لأن الاحتلام من الشيطان إلى غير ذلك من الخصوصيات.(226/19)
قراءة الفاتحة بعد الدعاء للنبي أو الأموات
السؤال
هل يجوز أن نقول لإنسان بعد ذكر الأدعية: اقرأ الفاتحة لحضرة النبي عليه الصلاة والسلام، أو عند الأموات اقرءوا الفاتحة على ذكر موتاكم؟
الجواب
لا يصح ذلك، وهو بدعة، ولم تؤثر عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، ولا عن السلف الصالح، ومن فعل ذلك فقد ابتدع، قال عليه الصلاة والسلام: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} وفي لفظ: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} ولم تثبت هذه فهي بدعة.(226/20)
الصلاة على النبي تفريج للهموم
السؤال
هل الصلاة على الرسول عليه الصلاة والسلام هي باب لسعة الرزق وتفريج الهموم؟
الجواب
نعم، وقد ذكر ابن القيم في كتاب: جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خيرة الأنام -صلى الله عليه وسلم- أن فيها فوائد ومنافع، منها هذه الفوائد، فإن الله يوسع على الذاكر رزقه، لأنه عابد، ويزيل همومه وغمومه ويشرح صدره.(226/21)
دعاء الفاتح وحكمه
السؤال
هل هذه الصفة صحيحة" اللهم صل على محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق"؟
الجواب
هذا اللفظ لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين، والأولى للمؤمن أن يتقيد بالألفاظ الشرعية التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم، والحقيقة أن لفظ" الفاتح لما أغلق" موهم، وفيه ريبة ولا ندري بنية أصحابه، فإنه يحتمل وجوهاً، وقد يؤدي إلى أمور لا يفتحها إلا الله، فإن الذي يفتح لما أغلق هو الله عز وجل وليس الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعضهم إذا وقع، قال: يا محمد، أو يا علي، أو يا فاطمة.
وبعض العوام إذا وقع في عينه شيء من التراب يقول: يا فاطمة بنت النبي، إن كان دقٌ فاتفريه، وإن كان شديد فابسقيه، أو كما يقال باللغات الدارجة عندنا، وبعضهم يأخذ ضرسه إذا سقطت ويلقيها إلى الشمس، ويقول: يا فاطمة بنت النبي، هذا ضرس حمار أعطيني سن غزال! وهو ضرسه أكان حماراً هو؟! إلى غير ذلك من الخزعبلات، وأمور يشيب لها الولدان، فمن فعل ذلك فقد أساء وصرف كثيراً من العبودية لغير الله عز وجل، وهذا اللفظ لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم وليس بصحيح، والأولى اجتنابه.(226/22)
تعلم العقيدة فرض عين
السؤال
هل تعلم التوحيد فرض عين أم فرض كفاية، لأن هناك من أهل العلم من يقول: تعلمه فرض كفاية، وإذا قام به البعض سقط عن الآخرين؟
الجواب
تعلم التوحيد فرض عين، ولا بد لكل مسلم ومسلمة أن يعرف التوحيد الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يميز بين أنواع التوحيد الثلاثة:
الأول: توحيد الربوبية.
الثاني: توحيد الألوهية.
الثالث: توحيد الأسماء والصفات.
فإن قوماً عرفوا توحيد الربوبية، فقالوا: هذا هو مقصود الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد كذبوا، مثل: أحمد زكي المحرر لـ مجلة العربي، وقد توفي وقد ألف كتاباً سماه: آيات الله في السماء، وأثبت فيه توحيد الربوبية، وقال: هذا هو التوحيد الذي دعا إليه الأنبياء والرسل، فنقول: كذبت يا عدو الله، هذا التوحيد يعرفه أبو جهل، هذا التوحيد يعرفه أبو لهب، عجائز مكة الوثنيين يعرفون هذا التوحيد، فرعون يعرف هذا، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] فتوحيد الربوبية شيء وتوحيد الألوهية شيء آخر، توحيد الربوبية أقر به المشركون حتى فرعون، يقول موسى عليه السلام لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] فبكَّته وبيَّن أنه يعلم ذلك، أما توحيد الألوهية فهو توحيد العبادة والقصد، وإفراد الله عز وجل بالدعاء والخشية والإنابة والعبادة وأقسامها الكثيرة، وتوحيد الأسماء والصفات، فلا بد لك أن تعرف هذه الأقسام معرفة لا تعفيك من جهلها، أما المعرفة التفصيلية فهي لأهل العلم، المعرفة التفصيلية في الجزئيات التي هي من مباحث أهل العلم، فهي لأهل العلم، وأما تعلم التوحيد الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم فهو فرض عين لا يعفى أحد منه.(226/23)
الحداثة
السؤال
ما حكم الحداثة في الإسلام؟
الجواب
الحداثة: مذهب متزندق إلحادي كفري، نشأ في السنوات الأخيرة، ومفاده وفحواه: الثورة على كل قديم وإلغاؤه وتشطيبه بما فيها الرسالة والرسول والقرآن، ولهم مذهب أدبي رمزي يرمزون لمقصوداتهم برموز، يقولون: لا يفهمها إلا هم، وهي ظلمات بعضها فوق بعض، وهؤلاء كفروا بالله في مقاصدهم التي منها الاستهزاء بالله، أو برسوله، أو بالإسلام، أو بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء دماؤهم مهدرة، ويستحقون القتل، يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا، ولا يصلى عليهم، ولا يغسلون، ولا يكفنون، ولا يدفنون في مقابر المسلمين، وهم على كل حال ملاحدة بما قالوا وبما كتبوا وبما شهد الله به عليهم.(226/24)
السنة عند أهل الفقه والحديث
السؤال
ما معنى السنة، وهل يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها؟
الجواب
السنة عند الفقهاء هي: ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، لكن السنة في مفهوم السلف هي طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام، ويدخل فيها الفريضة والواجب والمندوب، وما عرف السلف الصالح إلا هذا، وهو التعريف الصحيح لمصطلح السنة، أما هذا فهو عند الفقهاء ليس إلا لأنهم يريدون به ما يقابل الواجب، فالواجب عندهم: ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، فأرادوا أن يميزوا بين السنة والواجب، فقالوا: والسنة ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، أما إطلاق السنة عند الصحابة والسلف، فهو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته.(226/25)
سؤال عن اللحية
السؤال
ما حكم اللحية؟
الجواب
أقول: إنها سنة بمعنى أنها من سنته عليه الصلاة والسلام، لا أن معناها يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، بل يعاقب، لأن تربيتها واجب، وحلقها حرام كما نص عليه أهل العلم.(226/26)
أسباب الانتكاس
السؤال
ما هو السبب الأساسي في رجوع الشباب بعد الالتزام، البعض منهم يعمل في الدعوة إلى الله، والبعض يجاهد في سبيل الله، والبعض يطلب العلم، ومع ذلك كله تركوا الالتزام، فما هو السبب؟
الجواب
إن كان قصد السائل أنهم رجعوا يجاهدون ويدعون ويطلبون العلم، فما رجعوا بل زادوا بصيرة والحمد لله، وإن كان قصده: كانوا يدعون وكانوا يجاهدون وكانوا ملتزمين، ثم رجعوا فالقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، وللرجوع أسباب أجملها في ثلاثة أسباب:
أولاً: ضعف التربية الروحية، ضعف الرصيد من النوافل والعبادة، يؤخذ الشاب لكن يربى على النشيد والرحلة، وعلى تمارين رياضية؛ على صعود الجبال وشد الحبل، وأكل البيضة، على لعبة التفاحة، الإسلام ينطلق من أطر وينبثق في بوتقة استراتيجية، والدعوة على الكلام المنفوش فأدنى موقف يمر به ينهار؛ لأنه ليس لديه علم شرعي، ولا نوافل، ولا عبادة، هذه مسألة.
ثانياً: أن في نفسه -والعياذ بالله- خبثاً من قبل، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] ولذلك يقولون: من أعلن إسلامه في مرحلة، ثم ارتد فإن ذلك دليل على خبث في نفسه.
ثالثاً: أنه أمهل نفسه في المعاصي، والمعاصي تبدأ بالنظرة، ثم تتطور إلى الفاحشة، ثم تتطور-والعياذ بالله- إلى التخلي عن الواجبات، ولذلك قال الله في بني إسرائيل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13].(226/27)
حجة واهية في عودة الشمس
السؤال
هل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله عز وجل أن يرجع الشمس من الغروب لكي يصلي بعض الصحابة العصر؟
الجواب
هذه القصة ذكرها الحاكم والطحاوي والبغوي وبعض أهل السير، قالوا: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه نام في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام حتى غربت الشمس وما صلى العصر، فما استيقظ إلا وقد غربت الشمس، فقال: يا رسول الله ما صليت العصر، وقد غربت الشمس، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم الله، فأعاد الشمس له حتى صلى العصر، وفي لفظ لهم: بل سأل علي رضي الله عنه وأرضاه ربه فأعاد له الشمس، وهذه القصة كذب، ولا يجوز إيرادها والاستدلال لها، وقد ردها ابن تيمية وابن كثير، وهذه القصة من الخرافات التي لام أهل العلم الحاكم صاحب المستدرك والطحاوي وأمثالهما على إيرادها.
وعلى كل حال؛ أبو تمام الشاعر ذكرها في قصائده ويثبتها ويقويها، لكن حججه كالزجاج إذا تكسر، لأنه شاعر، يقول:
فردت إلينا الشمس والليل راغمٌ بشمسٍ بدت من جانب الخدر تلمع
فوالله ما أدري علي بدا لنا فردت له أم كان في القوم يوشع
والصحيح: أن الله رد الشمس على يوشع، وهو كما قيل: غلام موسى الذي سافر معه، قال لغلامه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، فهذا الغلام كان نبياً رد الله له الشمس حتى قاتل والحديث صحيح، أما علي فلم يرد الله له الشمس، والقصة ليست بصحيحة ولا ثابتة عنه عليه الصلاة والسلام، ولذلك ذكرها ابن كثير في" البداية والنهاية " فقال: وقال شيخنا -يعني: ابن تيمية - إمام الأئمة هذه عادة الطحاوي أي: أن الطحاوي عادة لا يزيف القصص الزائفة، ثم نال ابن تيمية من الطحاوي قليلاً ولو أن الطحاوي حنفي محدث، وكذلك يفعل البغوي أحياناً، لكنهم تساهلوا، وقد لام الأئمة القاضي عياض رحمه الله على بعض القصص التي حشا بها كتاب" الشفا " حتى مرض" الشفا " وأصبح فيه حمى بسبب هذه القصص، ولو أنه من أحسن الكتب، حتى الذهبي لما ترجم للقاضي عياض، قال: وفي كتابه" الشفا " شيء، فعليك بـ دلائل النبوة للبيهقي؛ فإنه هدى ونور وشفاء لما في الصدور.(226/28)
شفاء القرآن
السؤال
ما معنى الآية: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء:82] فهل الشفاء للأبدان أم للأرواح أم يعم جميع الأمراض؟
الجواب
الصحيح أن القرآن صحة للأرواح وللأبدان، وأما ما ذكر في بعض السور فهو بحسب السياق، مرةً يذكر الله الكفر والشك والريبة، فيذكر القرآن فمعناه شفاء لما في الصدور-أي للأرواح- ومرةً يذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الأمراض، فيذكر الشفاء فيعلم أنه القرآن، والصحيح: أن القرآن يتداوى به من الأمراض العضوية، وأمراض الصرع والجن.
وبالمناسبة من أنكر تلبس الجان بالإنسي فقد أخطأ وضل ولا يكفر بهذا، لأن المسألة ظنية، لكن من أنكر الجن مثل ما فعل بعض المفسرين، وقد علم بآياتهم، فقد كفر بهذا، لأن القرآن ذكر الجن، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:1] أما تلبس الجان بالإنسي فلا ينكر، ومن أنكره فقد أخطأ وأسرف على نفسه، لكن لا نكفره بهذا، لأن المسألة ظنية، والدليل على تلبسهم قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] ودل على ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم دعا لمصروع فشافاه الله، وقال: {اخسأ عدو الله، اخرج أنا رسول الله} حتى أخرج الجني منه، والواقع يشهد لذلك، وما ينكر هذا إلا رجل مكابر، والأمراض العضوية كذلك يدعى، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان ينفث على جسمه عليه الصلاة والسلام، ويرقي جسمه بالقرآن؛ لأن فيه شفاء، فلا بأس بهذا بل هو سنة ثابتة، وأما أمراض الأرواح فدواؤها وبلسمها وشفاؤها القرآن.(226/29)
موقف الإسلام من أبوي النبي عليه الصلاة والسلام
السؤال
ما موقف الإسلام من أبوي رسول الله عليه الصلاة والسلام، هل أسلما أم لا؟
الجواب
أقول: ولو أن هذه مسألة فضولية: لم يسلم أبوه ولم تسلم أمه، وعند مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي} وعند مسلم في الصحيح: {أن رجلاً أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: أبوك في النار، فولى، ثم دعاه، قال: أبي وأبوك في النار} والسند صحيح، وهذا منهج أهل السنة والجماعة، وخالف أهل البدع، فقالوا: أحيا الله أبا الرسول وأمه حتى كلمهم بالدعوة فأسلموا، فنقول لهم: هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64].
والدعاوى ما لم يقيموا عليها بيناتٍ أصحابها أدعياء(226/30)
الاستهزاء باللحية
السؤال
ما حكم الاستهزاء باللحية، حيث أن بعض أصحاب والدي يقولون: إنها تخفف العقل، فما الرد على هؤلاء الجهلة؟
الجواب
أولاً: أنا لا أقول: إن من حلق لحيته كفر، أو خرج من الملة، قد يكون محباً لله ومحافظاً على الصلوات الخمس، وباراً بوالديه، ووفياً، ولكن نقول له: حنانيك أكمل أمرك ما دام أنك كملت أمورك فما بقي عليك إلا بعض التشطيبات السهلة التي تكمل بها في السنة وتكون من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام، وهذه الثلمة إذا بقيت فيك فقد بقي في قلبك ثلمة في حبه عليه الصلاة والسلام: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] أما من استهزأ باللحية، وقال: تخفف العقل، فعقله هو الخفيف، ولو أن عقله كثير لربى لحيته كما فعل محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه، وبعض الناس من المفكرين الإسلاميين الذين أدركهم زيغ - والعياذ بالله- أو خفة عقل دائماً يلاحق الشباب المستقيم فيقول: كنت في الإمارات فجاءني شاب كث اللحية، فسألني عن الكالونيا، ونقول: ما علاقة الكالونيا، والسؤال بكث اللحية؟ قال: وكنت في الجزائر فقام لي شاب وهو كث اللحية يسألني عن الحجاب، قلنا: ما علاقة الجزائر والحجاب وكث اللحية؟ قال: وكنت في بلد فقام شاب كث اللحية فسألني سؤالاً عن تقصير الثياب، قلنا: أخطأت نصيبك وأنت تريد أن تتهجم على شباب الإسلام، هذا المفكر نفسه أتى إلى
شنودة و p=1001693>> شنودة صنم في مصر قائد الأقباط الوثنيين، وهو رجل فاجر أتى إليه فقال: الأخ العزيز
شنودة، فقيل له: لماذا تقول: الأخ العزيز
شنوده؟ قال: إنسانية الإسلام وحب الإسلام وتآخي الإسلام، والله يقول في كتابه واسمع ما أحسن الاستدلال: - {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] قلنا له: لماذا لا تقول: لشباب الصحوة وللتائبين ولرواد الرسالة الخالدة ولـ أهل السنة: الإخوان الأعزاء، وإنما تتهجم عليهم بكل مناسبة وبلا مناسبة، بالمكشوف وبغير المكشوف فهذا خطأ منك، فمن يفعل هذا الفعل فقد أساء، وبعض الناس ما عنده إلا أن يستهزئ بالصالحين، يقول: ثيابهم هكذا، وإذا قاموا يصلون يقولون كذا، صحيح أنا معه أن بعض الصور حصلت من بعض الشباب؛ يجعل يديه هنا، وإذا جاء يسجد تفلطح وتبلطح، أي: ما يجافي مجافاة إنما يموت، وإذا جاء يراصك صاقعك مصاقعة، يعني: ضربك بأرجله حتى تتوب أن تصلي بجانبه، والسنة وسط، هذه تأتي صور، لكن في المليون يأتي واحد، فيعممونه على الشباب دائماً، ولكن نقول لهؤلاء: من المسئول عن المخدرات؟
هم المنحرفون، هم المسئولون عن المخدرات، دور الدعارة، المجلات الخليعة، الأغاني الماجنة، إرهاب الأمن في البلاد، زعزعة كيان الأمة، هم المسئولون عنها، أما شباب الصحوة فهم أهل المساجد، وأهل القرآن، وأهل الجهاد، وأهل حسن الخلق، وأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن شاء الله ببركتهم يحفظ الله علينا كياننا وقداستنا ورسالتنا.
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
يقول: ليت من يهاجمني بطل من بني هاشم خئولته بنو عبد المدان كنت استرحت، ولكن هذا القزم الحقير يهاجمني وأنا كيت وكيت، فهذا مثل أهل السنة مع المنحرفين، والله المستعان.(226/31)
طلب الدعاء من الحي وأسباب نسيان القرآن
السؤال
حفظت نصف القرآن ولكني نسيته لكثرة الهموم، ولذلك أطلب منك ومن الإخوان أن تدعو؟
الجواب
أولاً: طلب الدعاء من الرجل الصالح الحي الموجود مطلوب، وليس فيه إن شاء الله خلاف، يقول عليه الصلاة والسلام كما عند الترمذي وسنده حسن: {لا تنسني من دعائك يا أخي} وبعضهم يخالف في هذا، لكن بشرط أن يكون حياً موجوداً صالحاً، لا تأتي إلى ميت في قبر وتقول: (لا تنسني من دعائك يا أخي) فإنه لا يدري ولا يسمع ولا يعي ولا يعقل، إما في روضة من رياض الجنة، أو في حفرة من حفر النار، أو تأتي إلى فاجر من أفجر الفجرة، عربيد سكار خمار عدو لله، وتقول: لا تنسي من دعائك يا أخي، لو دعا لك هذا لنزلت عليك صاعقة من السماء، لو دعا لك لانهدم عليك البيت، أو صدمتك سيارة وكذلك أن يكون موجوداً، ولا تأت في المسجد وتصلي وتقول: يا أخي في القاهرة، أو في الفلبين، لا تنسانا من دعائك، لا هذه سفر الأرواح، وهي عند غلاة المبتدعة وليست عند أهل السنة والجماعة، أحدهم يجلس فيغمض عينيه، قالوا: ما لك؟ قال: سافرت روحي إلى الخرطوم -لا أعادها الله عليك- وحدثنا بعض العلماء، قال: سافرت إلى المغرب، فدخلت هناك في مسجد فيه قبر لأحد زعماء هؤلاء المبتدعة، فدخلت فأردت أن أدروش مثلما تدروشوا، قالوا: ألق رداءك، فألقى غترته، قال: فألقوا أرديتهم، قال: فسكتنا، فقلت: ماذا؟ قالوا: فلان قام من قبره يناجي الرسول عليه الصلاة والسلام تحت الرداء، قلت: أسألكم بالله أنا بشوق لا يعلمه إلا الله لأرى الرسول ولو مرة، أرجوكم أن تسمحوا لي لأكشف الرداء لعلي أرى الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا: قم يا وهابي يا متشدد يا غالي، حتى أخرجوه من المسجد على كل حال؛ ندعو لك بالخير والثبات، وأما نسيانك للقرآن فعارضان اثنان:
الأول: إما عارض كسبي من الذنوب والخطايا، فأنت تلام على ذلك، نحن كما يقول ابن تيمية: نلام على المعايب، ولا نلام على المصائب، نحتج بالقضاء والقدر في المصائب، ولا نحتج به في المعايب، إنسان يسرق، لماذا سرقت؟ قال: قدر الله وما شاء فعل، صحيح في نفس الأمر، لكن هذا احتجاج يؤدي -والعياذ بالله- إلى استحلال المعاصي، يأتي زاني يزني، قلنا: لماذا تزني؟ قال: قدَّر الله عليَّ أن أزني.
سرق سارق في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال: لم سرقت؟ قال: قدر الله علي أن أسرق، قال: علي بيدك، فأخذ السكين فقطع يده، فقال: لم قطعت يدي وقد قدر الله عليَّ أن أسرق؟! قال: وأنا قدر الله عليَّ أن أقطع يدك.
وأما في المصائب فنحتج بالقضاء والقدر، رجل رسب ابنه بعدما رسب، يقول: قدر الله وما شاء فعل، أتاه حادث سيارة قدر الله وما شاء فعل، فالكسبي الذي نسيت به القرآن هذا تلام عليه أنت، وهذا -حفظكم الله- مثل: أن تكون أكثرت من الذنوب والخطايا، أو وقعت في فواحش، أو غفلت عن مراجعة القرآن، فتلام عليه، ونسيان العلم من أسبابه المعاصي، قال الله عز وجل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] قال الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نورٌ ونور الله لا يهدى لعاصي
الثاني: وأما الجبلي، فقد يكون أتاك شيء كمرض، فنسيت فتعذر عليه، بعض الناس صالح من الصالحين، لكن لا يعرف شيئاً إلا نسي اسمه، بعض الناس يقولون: إنه أرسله أبوه بريال، قال: تأخذ بريال تميز وبريال فول، فذهب إلى الفران، فنسي أين هو ريال الفول من ريال التميز، هو لا يسجد له سجود السهو لا عند المالكية ولا الحنابلة ولا الشافعية ولا الأحناف، فعاد إلى والده وقال: يا والدي الشيطان لبس علي حتى ما أدري أين هو ريال التميز من ريال الفول، قال: يا ليتني ما رأيتك حتى أشتري التميز أنا وأشتري الفول.
على كل حال الحمق وارد، وليس هذا بحمق، ولكن قد يحدث مرض ينسى به العبد، فإذا نسي فيؤجر، وهذه من المصائب التي يؤجر عليها العبد، وقد يأتيه مرض فينسى جميع المعلومات فعليه أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأل الله أن يغفر لنا ولمن حضر هذا المجلس، وأن يتغمدنا وإياكم برضوانه.(226/32)
كشف الحجاب للمرأة
السؤال
كشف الرجل على أخت زوجته وعلى الأجنبيات وعلى بنات العم وبنات الخال، وقال: هذه عادة منتشرة في القبائل، ولا يفهمون السنة، وهم متكبرون إذا دعوا، ويعتقدون أن هذه العادات السيئة تقدم على الكتاب والسنة، فما الحكم؟
الجواب
هذا موجود في بعض القبائل من الجهل، كما قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] وهذه الأجنبيات الذي ذكر الأخ يحرم الكشف عليهن، والحجاب واجب شرعي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام، ومن أنكره فقد أخطأ وعارض شرع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد أنتج ترك الحجاب والاختلاط في بعض القرى وبعض الأماكن والمدن والخروج الجماعي بهذه الصور إلى وجود الكثير من الفواحش -والعياذ بالله- والوقوع في الزنا، وهذه جريمة نسأل الله أن يكف بأسها، وأن يغفر لنا ولكم، وأن يبصرنا وإياكم بعلم الكتاب والسنة، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(226/33)
المساجد ودورها في الإسلام
المسجد أول مشروع للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وبه بدأ بتكوين وبناء المجتمع المسلم والعلمانيون حصروا عمل المسجد في الصلاة والقرآن فقط.
ولكن الناظر إلى المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يجد أن المسجد في عهده كان شعلة وهاجة تنير الأرض من حولها، وفي هذا الدرس بيان لدور المسجد في حياة المجتمع المسلم.(227/1)
المشروع الأول للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً.
بنى المسجد، وعلَّم الناس في المسجد، وخرَّج الأجيال من المسجد.
صلى الله وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
يا رواد المساجد! ويا جيل المساجد! ويا ضيوف المساجد!!
إن كان لي من شكر في أول هذه المحاضرة، فإني أشكر الله تبارك وتعالى على أن أجلسني في هذا المكان، ثم أشكر أهل الفضل على فضلهم، وعلى رأسهم: رئيس النادي الأدبي بـ أبها: الأستاذ الأديب محمد بن عبد الله الحُمَيِّد، ثم الأديب البارع الشيخ محمد بن إبراهيم النعمي، وأشكر كذلك صاحب الفضل وسعادة مدير أوقاف ومساجد منطقة الجنوب.
ثم إنني سعيدٌ جِدُّ سعيد بأن أتكلم عن هذا الموضوع، موضوع المساجد، وما أدراك ما المساجد؟
المساجد التي كانت من أعظم اهتماماته صلى الله عليه وسلم.
المساجد التي أثنى الله على عامريها، وبُناتِها، وروَّادها.
المساجد المَعْلَم الحضاري الكبير الذي تركه صلى الله عليه وسلم للتاريخ، ولِقُرَّاء التاريخ.
نسمع هذه الليلة حديثاً عن المساجد.
وأنا أشارك إقبال، شاعر الـ باكستان، يوم يعاتب الأمة الإسلامية على أنها أهملت رسالة المسجد، وجعلته زاوية للصلاة فقط، فقد عاتب الأمة الإسلامية في مقطوعة شعرية يقول فيها:
أرى التفكير أدركه خمولٌ ولم تَبْقَ العزائم في اشتعالِ
وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقالِ
وعند الناس فلسفة وفكر ولكن أين تلقين الغزالي؟
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالِ
وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلالِ
يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18].
إنما يعمر مساجد الله: إما عمارة بالبناء والرفع والتعمير، أو عمارة بالذكر والصلاة والدعاء والإخبات، هكذا قال أهل العلم.
فالمنافقون والفجرة وأعداء الإسلام لا يعمرون المساجد؛ إنما يعمر المساجد الذي يريد الله ووجهه ولقاءه.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن الرجال وهو يعرِّفهم بسيماهم وصفاتهم، يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36].
مَنْ؟ {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37].
فسلام الله على رواد المساجد، وسلام الله على ضيوف المساجد.
والمساجد سوف أتحدث فيها عن أمور أربعة:
أولها: كيف كان المسجد منتدى، وكيف كان مجلس شورى، وكيف كان محكمة قضائية.
ثانيها: كيف جعل صلى الله عليه وسلم من المسجد ثكنة عسكرية، تنطلق منها الرايات، وتُعْقَدُ منها الألوية، وتصَنَّف منها الجيوش، وتُخَرَّج منها الكتائب.
ثالثها: المسجد روضة من رياض الجنة، عبادة وفكر واتصال بالواحد الأحد.
ورابعها: المسجد استقبال للوفود، وإرسال للاهتمامات في الأمة الإسلامية، وبناء للجيل.
ولكن أعود فأنثر ما بنيت؛ ليكون في مسائل منثورة، تُقَدَّم هكذا، بدون تنصيص أو تحديد؛ ليبقى الموضوع متكامل البنية، ولا يبقى سرداً؛ ليكون أخف على الأرواح وأطيب للنفوس.
قَدِم صلى الله عليه وسلم المدينة، فما هو مشروعه الأول؟
لقد قدم صلى الله عليه وسلم ولم يحمل دنانير ولا دراهم، ولكن حمل عقيدة ومبدأً وأصالة، فكان أول ما بدأ به صلى الله عليه وسلم أن وضع حجر الأساس لبناء المسجد الإسلامي الكبير: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108].
مسجد بناه على (لا إله إلا الله).
مسجد أسسه لتنطلق منه الكتائب مكبرة في سبيل الله.
مسجد عقده ليكون نادِياً أدبياً يُعْلَن وتُطرَح فيه القصائد الرنانة في خدمة الإسلام.
يوم يأتي صلى الله عليه وسلم إلى حسان، شاعر الإسلام، وسيف الأدب الإسلامي، ووزارة الإعلام المتنقلة لخدمة مبادئ الإسلام، فيقدم له المنبر، ويقول له: {اهجُهُم وروح القُدُس معك}.
ويستقبل صلى الله عليه وسلم الوفود العربية من بني تميم، والأَزْد، وغَطَفان، وأسد، وفَزارة، فيُهَنِّيْهِم ويُهَنُّوْنَه، ويعانقهم ويعانقونه في المسجد.
فبدأ صلى الله عليه وسلم هناك، فأتى إلى المسجد فوضع حجر الأساس، ثم تلاه أستاذ الخلافة، ورجل الساعة، والصدِّيق الأكبر أبو بكر الصديق، فنزع حجراً آخر ووضعه بجانب حجره، ثم قام عمر الفاروق.
قد كنتَ أعدى أعاديها فصرتَ لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
فأخذ حجراً ثالثاً ووضعه بجانب حجر الصدِّيق، وكأن الثلاثة يقولون للبشرية: هذه نهاية الوثنية، وهذه بداية معالم الإنسانية، وهنا تُخْنَق الوثنية، ويُذْبَح الشرك بإذن الله.
وسُقِّف المسجد؛ لكنه ما كان راقياً في بنائه، بل كان راقياً في مضمونه وعظَمته، وكان مشرقاً في روحانيته، وكان هادٍ في مسيرته.
طينٌ وسَعَفُ نخل وشيءٌ من خشب؛ لكن:
كفاك عن كل قصر شاهق عمد بيتٌ من الطين أو كهف من العلمِ
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيمِ
ودخله صلى الله عليه وسلم وقال: الله أكبر، ومن يوم قال فيه: الله أكبر؛ انتهت الوثنية، ودُمِّر الإلحاد والزندقة، ودُمِّر كل مبدأ ضال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ووقف عليه الصلاة والسلام خطيباً يوم الجمعة، يذرف بالكلمات الصادقة من على المنبر؛ ليقول للناس: مسجدنا هنا(227/2)
تعاليم الإسلام تعرض على المنبر
وَايْمُ الله لقد أعجبتني واستأسَرَتْني كلمة للأديب البارع الأستاذ علي الطنطاوي في كتابه قصص من التاريخ، وهو يتحدث عن المساجد في لمحة، تحت عنوان: (نحن المسلمون).
يقول في كلمته: سلوا كل سماء في السماء عنا، وسلوا كل أرض في الأرض عنا، سلوا الجزيرة وفيافيها، سلوا دجلة ورياضها وحقولها، سلوا الفرات وواديه، سلوا الشام وأنهارها، سلوا كل إنسان عنا.
ثم قال: مبادئنا تُعلَن كل يوم جمعة من على المنبر، نحن ليس عندنا أسرار ولا ألغاز، لسنا في حقائب فيها ألغام، أسرارنا وألغازنا ننثرها يوم الجمعة على الناس، ونعلن مبادئنا من على المنارة (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر) وهذه كلمة لا بد أن تُنْشَر للناس.
فمبادئنا وإعلاننا ورسمياتنا وسرائرنا تُعْلَن كل جمعة من على المنبر.
وفَعَلَ صلى الله عليه وسلم، فقد أُخِذ المسجدُ للخطابة؛ فكان يخطب يوم الجمعة، وكان من أبرع من خلق الله في الخطابة.
يقول شوقي:
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاءُ
إي والله، لا تسمع للمسجد إلا حنيناً ودَوِيَّاً من البكاء؛ لأنه صادق، وتعاليمه صادقة كالفجر، أرأيتَ الفجر؟
أليس الفجرُ واضحاً؟
فتعاليمه صلى الله عليه وسلم كالفجر، فهو يعلنها يوم الجمعة من على المنبر عليه الصلاة والسلام.
يقول جُوْلْد زيهر، هذا المجري الخبيث: أنا لا أعجب من محمد أن يبعثه الله بعد الأربعين نبياً، فقد بعث الله قبله أنبياء وأنبياء؛ لكن أعجب أنه ما تعلم ولا درس ولا كتب ولا قرأ، ثم يقول الله له: سر في الناس واخطب في الناس، فإذا هو أفصح فصيح وأخطب خطيب!
شهد الأنام بصدقه حتى العدا والحق ما شهدت به الأعداءُ
إيْ والله، الضاد على لسانه أجرى من الماء الزلال، يسبي القلوب بعباراته: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:4 - 6].(227/3)
مكانة الأدب في المسجد
والرسول صلى الله عليه وسلم جعل من المسجد منتدىً أدبياًَ:
بِ حَسَّان وجَدَ له صلى الله عليه وسلم في دعوته تخصصاً، فنحن أمة التخصص وأمة الشمول، وأمة الأصالة والعمق، لا نقول للأديب: ليس لك مجال عندنا، نحن مصلون صائمون معتكفون، أما الأدب فلا نحسنه!
لا، من يُحسن الأدب إلا نحن، نحن أمة الإيمان والحب والطموح، كما قال إقبال.
ويقول أبو الحسن الندوي: ونحن أمة الفن والحب والجمال.
لكن فننا وحبنا وجمالنا من المسجد، حيث يطلقه صلى الله عليه وسلم.
في المسجد يقول لـ حسان: {اهجُهم وروح القُدُس معك} ويقرب المنبر بيديه الشريفتين صلى الله عليه وسلم، فيضع المنبر لـ حسان، ويدلف حسان ويتكلم بقصائده الرنانة التي تقع كالسهام، أو كنضح السهام على وجوه المشركين.(227/4)
قصة وفد بني تميم
وفي السير لـ ابن إسحاق وابن هشام، بسَنَدَين جيِّدَين، قالا: أتى وفد بني تميم -بنو تميم قبيلة عملاقة من قبائل العرب الشهيرة- إلى المدينة لتُسْلِم، وقد أتى وفدها في العام العاشر أو التاسع ليُسْلِم، فقدم الوفد وكانوا ثمانية، اختيروا اختياراً في مجالات التخصص، فأخذوا معهم حليم العرب قيس بن عاصم، والأديب الخطيب عطاء بن حاجب بن زرارة وعمرو بن الأهتم المدره، والشاعر الزِّبرقان بن بدر، إلى مجموعة أخرى، وقدموا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقالوا -وهم الذين نادوا من وراء الحجرات -: يا محمد! نحن لا نسلم حتى تبارينا في مسجدك، ونفاخرك وتفاخرنا، ويسمى هذا -كما ذكره ابن قتيبة -: المناثرة، والمناثرة عند العرب: أن يأتي وفد لوفد، فيذكرون مآثرهم وتاريخهم في الجاهلية، فمن غلب أسند له القياد، وسُلِّمَت له الحكومة، فقالوا: نباريك، قال: بماذا؟ قالوا: معنا خطيب وشاعر، ونريد خطيبك وشاعرك.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يتأخر، فعنده الإمكانيات، وعنده القدرات، وفي المسجد عليه الصلاة والسلام دعا ابن رواحة، فقال ابن رواحة: أنا شاعر المُهْلَة، أي: لا أستطيع في البداهة أن أنْظِم قصيدة، فدعا حساناً وأتى وفد بني تميم، واجتمع الناس، وارتقى الزِّبرقان بن بدر على المنبر ليقول:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا منا الملوك وفينا تُنْصَبُ البِيَعُ
إلى قصيدة تقارب الخمسين.
والرسول عليه الصلاة والسلام يستمع إليه والصحابة، ويريدون أن تعتلي قصيدة حسان قصيدة ذاك المشرك الذي يريد الإسلام.
وقام حسان؛ ودعا له الرسول عليه الصلاة والسلام أن يؤيَّد بروح القُدُس الذي هو جبريل، فقام في الحال، وألقى قصيدته الفذة البارعة النادرة في تاريخ الأدب، حيث قال:
إن الذوائب مِن فِهْرٍ وإخوانهم قد بينوا سنناً للناس تُتَّبَعُ
يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
فلما انتهى قال بنو تميم: غلب شاعرُك شاعرَنا.
وقام خطيبهم وألقى خطبة، فقال عليه الصلاة والسلام: {أين ثابت بن قيس بن شماس؟} فهو يعطى القوس باريها، وأهل التخصصات تدفع إليهم التخصصات.
فقام ثابت، فألقى خطبة، فغلب خطيبهم، فأسلموا، وأعلنوا إسلامهم.
بهذا العمل يتبين أن المسجد أكبر مما يتصوره كثير من الناس، فهو يصلح أن يكون منتدىً أدبياً، تُلْقَى فيه الأمسيات، وتعقد فيه الندوات.(227/5)
حكم إنشاد الشعر في المسجد
وفي صحيح البخاري: باب إنشاد الشعر في المسجد.
هل يُنشَد أم لا؟
يتساءل الإمام الفذ العبقري البخاري: هل يُنشَد الشعر في المسجد؟
قال: [[مرَّ عمر رضي الله عنه وأرضاه وحسان ينشد في المسجد فانتهره، فقال حسان لـ عمر: قد كنتُ أنشد وفيه من هو خير منك -يعني بهذا: رسول الله صلى الله عليه وسلم- فالتفتَ عمر إلى أبي هريرة كالمستشْهِد، فقال أبو هريرة: نعم]].(227/6)
فضل بناء المساحد وبعض أحكامها
والرسول صلى الله عليه وسلم فضَّل بناء المساجد:
فقد أعلن أن من بنى مسجداً لله بنى له الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بيتاً في الجنة، ولو كان هذا المسجد في الدنيا، مثل مفحص قطاة، والقطاة: طائر معروف، ولذلك يقول الأول:
أسرب القطا هل من يعير جناحه لعلي إلى من قد هويت أطيرُ
فيقول عليه الصلاة والسلام: {من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قَطاة، بنى له الله بيتاً في الجنة} وفي رواية: {قصراً في الجنة} {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:18] والمشرك، والرِّعْدِيد، والفاجر، لا يعمرون المساجد: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة:17] ما لهم وللمساجد، فالمساجد لا يعمرها إلا كل مخلص بالذكر والعبادة والإيمان والحب والطموح.(227/7)
حكم اتخاذ القبور مساجد
والرسول عليه الصلاة والسلام نهى أن توضع المساجد على المقابر، أو المقابر في المساجد:
لماذا؟
لأن المساجد أُقيمت للتوحيد، وللتأصيل، والتوحيد نقي من الخرافة والتخلف والرجعية.
والخرافيون يجمعون بين القبر والمسجد، والمسجد والقبر.
وهو في سكرات الموت يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد}.
فالمسجد ليس بقبر، بل هو حياة وإشراق، والقبر موت ومحاسبة، إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
لذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور, والجلوس عليها.(227/8)
دور المسجد في المجتمع
وأنا أذكر هذا سرداً، وإلاَّ فأصول المحاضرة تنص على قضايا تَرِدُ إن شاء الله.
والرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالاعتناء بالمساجد:
ففي مسند الإمام أحمد -إمام أهل السنة والجماعة -: عن عائشة رضي الله عنها قالت: {أمر صلى الله عليه وسلم أن تُبْنَى المساجد في الدور، وأن تُنَظَّف، وأن تُطَيَّب} هذا الحديث حسن.
والدور: هي الحارات وملتقى الناس ومجامعهم.
فأمر صلى الله عليه وسلم بالمساجد أن تبنى هناك، وأن تنظف وتطيب.
وتنظيفها: إخراج ما يشوب أصالتها وعمقها وجمالها وجلالها.
وتنظيفها: إخراج كل ما يكدِّر على المصلين صلاتهم، من غيبة ونميمة وصوت وضجة، فهذه من المقاصد المعنوية للمساجد.
وتطييبها: إدخال الروائح؛ ليجتمع كل من الجلال، والجمال، والكمال، والعظمة، والحب، والإيمان، والطموح.(227/9)
المسجد منطلق الكتائب
الرسول عليه الصلاة والسلام جعل المسجد ثكنة عسكرية:
يقول أحد الرواة من الصحابة: {دخلتُ المسجد والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب يوم الجمعة، فلما انتهى من الصلاة قام بأبي هو وأمي على المنبر، فأخذ الراية بيده، وهي راية سوداء اسمها: (راية العُقاب) -أو (راية العِقاب) عند ابن إسحاق - فناولها بلالاً، وناولها بلالُ عمرو بن العاص؛ ليذهب إلى غزوة ذات السلاسل}.
من المسجد تنطلق الكتائب، ومن المسجد تَدْلُف الجيوش الإسلامية، ومن المسجد ينطلق الجندي مؤمناً مفادياً عن عقيدته ومبدئه وأصالته، وفي المسجد جعل صلى الله عليه وسلم إعلان الحروب على من أنشأها، ومن أراد تدمير الأمة.
وقف يوم الجمعة فندد بمشركين من مكة، وأعلن الحرب على أبي سفيان في الخطبة.
فالمسجد إذاً: تُدار فيه شئون المسلمين، وأمورهم الحربية والعسكرية؛ لأنه ثكنة عسكرية.
وقف صلى الله عليه وسلم في خطبة على المنبر يوم أحد، واستشارهم في الخروج أو المكوث في المدينة، فقام كبار الصحابة، وقالوا: نرى أن نبقى في مدينتنا، فنقاتل العدو داخل السكك، وفي زقاق المدينة.
ووقف نعيم بن مالك بن ثعلبة -شاب في الثلاثين من عمره- فقال: يا رسول الله! لا تحرمني دخول الجنة، فوالله الذي لا إله إلا هو، لأدخلن الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: بم؟
قال: بخصلتين -هذه المؤهَّلات، مؤهَّلات أهل الإيمان والحب والطموح- بأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: صدقت.
وبدأ صلى الله عليه وسلم بانطلاقه، لكن من المسجد، من المنبر، وذهب وعقد الراية، ووقعت المعركة.
يقول إقبال:
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أم مَن رَمَى نار المجوس فأُطْفِئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
إنهم ذلك الجيل، جيل المسجد، الذين رضَعُوا أَلْبان الفهم من المسجد وفي المسجد دون غيره.
فهذه قضية.
من المسجد أطْلَق صلى الله عليه وسلم صوت الجهاد:
جلس للناس بعد صلاة العصر، ودار الحديث في المسجد بينه وبين الصحابة في مسائل، وإذا برجل يأتي بناقة ومعه عصا، اسمه: عمرو بن سالم، والظاهر: أنه خزاعي -كما قال ابن هشام - فنزل من على راحلته، وأخذ يخترق الصفوف وهو يقول:
يا رب إني ناشدٌ محمدا حِلْف أبينا وأبيه الأتلدا
فانصر هداك الله نصراً أيدا وادعُ عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل البدر يسمو مصعدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا
فهذا رجل يستنصر بالله، ثم بالرسول عليه الصلاة والسلام، فقد دخل هذا الرجل في حِلْف مع الرسول عليه الصلاة والسلام، أنه إذا اعتُدِي عليه من قريش، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام بدولته الإسلامية يتكاتف معه، ويسحق الباطل، فاعتُدِي عليه، فأتى يناشده بالميثاق الأول، وبالحلف الذي نُصَّ عليه في مكة.
فقام عليه الصلاة والسلام وقال من على المنبر: {نصرت يا عمرو بن سالم}.(227/10)
دور المسجد في التعليم والفتيا
من المسجد تُدار الأحاديث العَقَدية، ويُعَلَّم التوحيد:
فقد ثبت ذلك في الأحاديث، وفي الصحيحين: من حديث أنس، قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس بين أظهرنا على التراب -بنفسي محمد عليه الصلاة والسلام- وهو يجلس على التراب؛ لكنه يقود الأرواح إلى الواحد الوهاب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ويجلس على التراب؛ لكنه يسافر بالأرواح ويخرجها من وثنيتها، ومن رجسها وكفرها.
وبينما هو جالس إذْ قَدِم رجل اسمه: ضِمام بن ثعلبة، أخو بني سعد بن بكر، فقال: أين محمد؟.
يسأل عن الرسول عليه الصلاة والسلام، قالوا: هو ذاك الرجل الأبيض الأمهق المرتفق، فقدم واخترق الصفوف إليه، وقال: يا بن عبد المطلب، لماذا لا يقول: يا رسول الله؟
لأنه أعرابي من بني سعد، وبنو سعد قبيلة أعرابية من أهل الطائف، والأعراب أهل الجفاء، في الجملة، والله يقول: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63].
فَقَدِمَ وقال: يا بن عبد المطلب، قال: {نعم، قال: إني سائلك، فمُشَدِّدٌ عليك في المسألة، قال: سَل ما بدا لك وكان الرسول صلى الله عليه وسلم متكئاً في المسجد، قال: من رفع السماء؟
قال: الله.
قال: من بسط الأرض؟ قال: الله.
قال: من نصب الجبال؟ قال: الله.
قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال، آللهُ أرسلك إلينا رسولاً؟
وكان متكئاً عليه الصلاة والسلام، فتربع واحمر وجهه من عِظَم السؤال، أعظم أطروحة في تاريخ الإنسان وقعت في الدنيا هذا السؤال.
شرحه ابن تيمية في مجلدات، كلما مرَّ به شرحه وأعلن وضوح هذا الحديث -قال: اللهم نعم ثم أخذ يسأله عن أركان الإسلام حتى انتهى، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، والله لا أزيد على ما سمعتُ ولا أنقص، أنا ضِمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر، ثم ولَّى، فقال عليه الصلاة والسلام: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا}.
والرسول عليه الصلاة والسلام جعل المسجد للفُتيا وللدروس العامة:-
فقد كان يعقد الحلقات في المسجد، صباح مساء، وهو - صلى الله عليه وسلم - يدري أن الدروس في المسجد بركة ونور، بل هي إيمان وحب وطموح.
وعلم المسجد يختلف عن أي مكان آخر، إنه أبرك وأنور وأوضح من الجامعة والكلية والمعهد، لا نقول ذلك من باب التفاضل بين المسجد وغيره، فهو أفضل بلا شك؛ ولا ننكر كذلك مسايرة العصر والتطور الحضاري الذي شهدته الدنيا، لتبقى الكليات كليات، والجامعات جامعات، ولكن لنقول للأمة المجاهدة، أمة الرسالة الخالدة، ليبقى المسجد مسجداً وجامعة وثكنة عسكرية ومجلس شورى ومحكمة قضائية ومنتدى، هذا الذي نريد أن نقوله هذه الليلة.(227/11)
تمريض المصابين في المسجد
والرسول عليه الصلاة والسلام جعل المسجد مستشفى:
ففي صحيح البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم نصب خيمة لـ سعد بن معاذ، ليعوده من قريب.
وسعد بن معاذ هذا: أنصاري، أَوْسِي، مكث وعاش في الإسلام سبع سنوات، هي خير من سبعة قرون.
فسعد بن معاذ هذا: تاريخه مشرق، رجل فذ، قدم عليه الصلاة والسلام المدينة فأسلم على يديه، وكان سيد قومه، أصِيب بسهم في معركة الخندق، فحُمِل إلى المسجد ليداويه عليه الصلاة والسلام في المسجد.
ولذلك يتساءل الإمام البخاري مرة ثانية: باب: هل يوضع الجريح في المسجد؟
ثم أتى بهذا الحديث.
وسعد بن معاذ: لا يحتاج إلى تعريف -إيْ والله- بعض الأعلام إذا عُرِّفوا نُكِّروا.
يقول عمرو بن ربيعة المخزومي:
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغرْ
قلن تعرفنَ الفتى قلنَ نعمْ قد عرفناه، وهل يخفى القمرْ؟
مرض رضي الله عنه وأرضاه، فلما أتته سكرات الموت، قال وهو في المسجد: [[اللهم إن كنتَ أبقيت حرباً لرسولك صلى الله عليه وسلم مع اليهود فأبقني لها، وإن كنت أنهيت الحرب مع اليهود، فخذني إليك]].
هذا هو الحب، وهذه أمة الحب، لا حب المجون والعشق والوَلَه.
فنحن أمة الحب، لكن حب الله -عز وجل- وحب رسوله.
فالحياة الحب، والحب الحياة؛ لكن لمن يستحق الحب، وهو الله تبارك وتعالى.
والحديث لا بد أن يستطرد ليكون أشهى وأقرب للنفوس.
وهذا عبد الله بن عمرو الأنصاري: في معركة أحد، حضر المعركة وقُتِل، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام لأهله: {ابك أو لا تبك، والله ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه} وقال: {وقد كلمه الله كفاحاً بلا ترجمان فقال: تَمَنَّ يا عبدي! قال: أن تعيدني إلى الدنيا فأُقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمنَّ، قال: أتمنى أن ترضى عني، فإني قد رضيتُ عنك، فأحل الله عليه الرضوان، وجعل روحه في حواصل طير تسرح في الجنة، تشرب من أنهارها، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، حتى يرث الله الأرض ومن عليها}.
ومات سعد في المسجد.
قالت عائشة {نظرتُ إلى الرسول عليه الصلاة والسلام من صائر الباب -أي: من شق الباب- هو وأبو بكر وعمر، وقد مات سعد والله إني لأعرف بكاء الرسول صلى الله عليه وسلم من بكاء أبي بكر من بكاء عمر}.
ولذلك يقول أبو بكر لما مات سعد -كما في سير أعلام النبلاء للذهبي -: [[واكسر ظهراه عليك يا سعد! واكسر ظهراه عليك يا سعد! واكسر ظهراه عليك يا سعد]].
وبعض الناس إذا توفي ماتت بموته أمم، وبعض الناس إذا مات نقص من العدد واحد:
لعمرك ما الرزية فقد مالٍ ولا شاة تموت ولا بعيرُ
ولكن الرزية فقد شهم يموت بموته بشر كثيرُ
قال عليه الصلاة والسلام وهو يشهد مراسيم موت سعد بالمسجد: {لقد نزل سبعون ألف ملك لحضور جنازته}.
شُيِّعَتْ جنازتُه، وبكى عليها صلى الله عليه وسلم طويلاً طويلاً؛ لأنه من أخلص الصحابة، ومن أقربهم لخدمة المبادئ الأصيلة، ومن أحبهم إلى الله، ومضى عليه الصلاة والسلام في جنازته وقال بسند جيد: {لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ} قال الذهبي: سنده حسن.
قد اهتز عرش الرحمن لموت سعد رضي الله عنه وأرضاه.
قال حسان يفتخر باهتزاز عرش الرحمن:
وما اهتز عرش الله من موت هالك سمعنا به إلا لـ سعد أبي عمرو
انظر إلى الإنسان كيف يشرف وينبل بالعقيدة والمبادئ الأصيلة، فيهتز له عرش الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(227/12)
بعض منهيات المساجد
والرسول عليه الصلاة والسلام أمر ألا يُرْفَع في المسجد الصوت:
ونحن أمة النظام، وإذا لم نكن نحن أمة النظام فمن تكن أمة النظام، لا غوغائية في الإسلام، ولا فوضى في الإسلام.(227/13)
حكم البيع والشراء في المسجد
إن بعض المساجد شهدت الخصام والنزاع على أمور الدنيا.
إن بعض المساجد حُوِّلت إلى مكاتب عقار للبيع والشراء وللمقاولات وللمؤسسات.
إن بعض المساجد أصبحت كأنها شقق يعرض فيها المشاكل والغيبة والنميمة.
وهذه مخالفة لمنهج الإسلام في المسجد.
فالمسجد وقار وسكينة، والمسجد قرب من الله عز وجل.
ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن رفع الصوت في المسجد.
ويظن أعداء الإسلام أن الإسلام لا يعرف النظام.
رستم قائد يزدجرد في معركة القادسية قال: أريد أن أرى المسلمين هذا اليوم، وذلك قبل المعركة بثلاثة أيام، وكان قائد المسلمين سعد بن أبي وقاص أحد العشرة، فأشرف رستم على المسلمين فوجدهم يصلون في مُصَلَّىً، وهم ثلاثون ألفاً، يكبر سعد فيكبرون، ويرفع فيرفعون، ويقرأ فينصتون، فأخذ رستم يعض أصابعه ويقول: علم محمد الكلابَ الأدب، بل علم محمد الأسود الأدب، وأما ذاك فهو الكلب الرِّعْدِيد، الذي أزالته سيوف التوحيد بعد ثلاثة أيام.
فنحن أمة النظام.
ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن التشويش في المسجد، ففي (الصحيح): أنه نهى صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء في المسجد، وقال: {من رأيتموه يبيع ويشتري في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا} أهذا سوق؟!
أهذا حراج؟!
أهذا مكتب عقار؟!
بل هذا مسجد، ومصلى، وهذا منبع للأرواح، وانطلاق للكلمة، ورفع للمسئولية.(227/14)
حكم إنشاد الضالة في المسجد
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا سمعتم الرجل ينشد الضالة في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك} فهل المسجد للإعلانات؟! كلما ضيع أحدٌ حماراً أو ناقة أو دجاجة قام بعد الصلاة يلقي محاضرة على المسلمين أنه ضيعها، فمن وجدها بأوصافها وألوانها فليردها؟!
هذا معناه الفوضى، وإدخال الفوضى في الإسلام، والإسلام بريء من الفوضى والتشويش على المصلين.
فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا، وقطع هذا.(227/15)
حكم إقامة الحدود في المسجد
وصح عنه صلى الله عليه وسلم عند الحاكم وغيره: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: {لا تقام الحدود في المسجد، ولا يُسْتَقادُ فيها}.
فالجلد، والرجم، وقطع يد السارق، لا تقام في المسجد؛ لأن المسجد له مهمات أخرى غير هذه المهمات.
وصحيحٌ أن الأحكام والحدود تُعْلَن من على المنبر، ففي الصحيحين: من حديث عائشة: أن المخزومية لما سرقت أتوا يشفعون فيها، فغضب عليه الصلاة والسلام فقام في المسجد على المنبر وقال: {يا أيها الناس! إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، واَيْمُ الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها}.
قال الزهري: حاشا أن تسرق، ونحن نقول: حاشا أن تسرق بنت الرسول عليه الصلاة والسلام.
فأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنه نفذه خارج المسجد.
والمسجد - كما قلتُ - روضة من رياض الجنة:
يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا}.(227/16)
أقسام الصحابة بالنسبة للمسجد
والصحابة كانوا في المسجد على أقسام:
منهم: مصلٍّ خارج أوقات الصلاة.
ومنهم: قارئٌ.
ومنهم مُتَبَتِّل.
ومنهم: عاكف.
ومنهم: مناجٍ لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراهُ
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون لقياهُ
في الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم مرَّ في الليل الدامس بمسجده، ومسجده كان قريباً من بيته - عليه الصلاة والسلام - فسمع قارئاً يقرأ في الليل، لكن صوته كان عجيباً.
فقد أوتي أبو موسى مزماراً من مزامير آل داوُد، فصوته يسرى للقلوب، والصوت الجميل من المسجد ومن بيت الله له أثر، ولذلك ينبغي على الأئمة أن يحسنوا من أصواتهم، ليبعثوا هذا القرآن غضاً طرياً يدخل إلى القلوب فسمع صلى الله عليه وسلم قراءة أبي موسى فأخذ يبكي معه ويلاحقه في الآيات، ويعيش معه عمق وأصالة القرآن وأثر القرآن.
وفي الصباح: قال: {يا أبا موسى! لو رأيْتَنِي وأنا أستمع إلى قراءتك البارحة، لقد أُوتِيْتَ مزماراً من مزامير آل داوُد، قال: يا رسول الله! أئنَّك كنتَ تستمع لي البارحة؟ قال: إيْ والذي نفسي بيده! قال: -والذي نفسي بيده- لو علمتُ أنك تستمع لي لَحَبَّرْتُه لك تحبيراً} أي: زينتُه وحسنتُه ليكون أبلغ وأوصل وأكثر تأثيراً وإبداعاً.
وهذا فيه دلالة على أن المسجد لا ينقطع دائماً، وأن من أراد أن يتنفل ويقرأ فليأت إلى المسجد.(227/17)
دور المسجد في تخريج الأجيال
والرسول عليه الصلاة والسلام جعل المسجد جامعة كبرى، يُخَرِّج منها الأجيال:
أسمعتم أعلم من ابن عباس في التفسير، ما هي شهادتُه التي نالها؟
لا شيء، فلا ورق، فالأوراق تنتهي ويبقى العلم النافع، وقد نال رضي الله عنه وأرضاه شهادة تبقى أبد الآبدين، وهي دعوته عليه الصلاة والسلام، يقول له: {اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل} وهذا حديثٌ في الصحيحين.
فـ ابن عباس تخرَّج من المسجد، تعلم علماً جماً، حتى إن ابن تيمية يقول: أما ابن عباس فعلمه علم جم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
كان يَدْلِفُ بالعلم كالبحر، أرأيتَ البحرَ إذا دَلَفَ؟
أرأيت الأمواج إذا تكسر بعضها على بعض؟
فهذا مثل علم ابن عباس.
يقول مجاهد وأبو وائل، تلميذاه: [[وقف ابن عباس يوم عرفة بعد صلاة الظهر، فأخذ يشرح ويفسر سورة البقرة، آية آية، حتى غربت الشمس، والله ما تلعثم، ولا توقف، ولا تنحنح، ولا سعل، والله لو سمعه اليهود والنصارى لأسلموا عن بكرة أبيهم]].
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
أمَّا المعاني اللواتي قد أتيت بها أرى بها الدر والياقوت متصلا
فهي جامعة المسجد التي أنشأها صلى الله عليه وسلم، وابن عباس يدخل إلى هذا المسجد ليتعلم علماًَ نافعاً.
يقول أحد تلاميذه: [[رأيتُ ابن عباس من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، يردد آية واحدة، ويبكي حتى الصباح، وهي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123]]].
دخل عثمان إلى المسجد ليجدد إيمانه في المسجد.
قال المَرْوَزي بسند جيد، وقال ابن حجر في الفتح، في كتاب الوتر: سنده صحيح: ثبت أن عثمان دخل المسجد، فقرأ القرآن في ركعة واحدة من أوله إلى آخره، من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر.
فهؤلاء جيل محمد عليه الصلاة والسلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
فمن المسجد تخرج ابن عباس، وتخرج عثمان.
من هو أقضى القضاة؟
هو علي بن أبي طالب.
ورَدَ في حديث يقبل التحسين عند الذهبي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {أقضاكم علي} علي بن أبي طالب، صاحب الكلمة الحية، والأدب الراقي.
يقول الأستاذ محمد أبو زهرة: لم يوجد بعد الرسول عليه الصلاة والسلام أبلغ من علي بن أبي طالب.
علي بن أبي طالب رجل الكلمة، حتى إن ابن كثير يقول: باب في كلماته الحاصلة، التي هي إلى القلوب واصلة.
سئل علي بن أبي طالب: [[كم بين العرش والأرض؟ قال: دعوة مستجابة]].
قالوا: [[كم بين الشرق والغرب؟ قال: مسيرة الشمس يوماً]].
كلامه يصل إلى القلوب، وأنا لستُ في معرض كلامه؛ لكن ربما كانت فوائد هذا الاستطراد أعظم من التأصيل العلمي في المحاضرة.
في صحيح البخاري يقول علي: [[يا أيها الناس! إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل]].
يقول علي وهو يمسك بلحيته ويبكي: [[يا دنيا يا دنية! طلقتك ثلاثاً، عمرك قصير، وزادك حقير، وسفرك طويل، آهٍ من وحشة الزاد وبعد السفر ولقاء الموت]].
تخرج علي بن أبي طالب من المسجد، وما درس في جامعة، ولا استقل بمدرسة، وليس له شيخ إلا محمد عليه الصلاة والسلام؛ ولكن سنده إلى محمد صلى الله عليه وسلم إلى جبريل، إلى رب العالمين.
يقول أبو تمام:
سندٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
أيْ والله، هذا هو العلم النافع.
ومن المسجد أتى زيد بن ثابت الفَرَضِي، الذي قال عليه الصلاة والسلام: {أفرضكم زيد} فهو أعلم الناس بالفرائض.
ومن عجب إهداء تمر لـ خيبر وتعليم زيد بعض علم الفرائضِ
فمن المسجد تعلم.
ومن المسجد تخرج حسان، الأديب الشاعر المُفَلق، الذي علمه صلى الله عليه وسلم كيف يهجو المشركين، ودعا له بالتأييد من الله رب العالمين، وقرب له المنبر، وقال له: {اهجهم وروح القُدُس معك}.
حسانُ ظَنَّ مَرَّةً أن الإسلام يعارض الشعر لَمَّا أنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224 - 226] فأتى هو وكعب بن مالك وابن رواحة وتباكوا عند الرسول عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227] فاستثنى المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ويذكرون الله كثيراً، وينتصرون من الظالمين.
لا بد للمسلمين من شاعر، تنطلق ثقافته من المسجد، ولا بد لهم من قصصي، وصحفي، ومن ناثر ومن أديب، من خطيب؛ لكن ثقافته من المسجد.
فنحن أمة أهل التخصصات، ولا نعلن عجزنا في الساحة، ونقول: نحن للفتيا فقط، ونحن لمسائل الحلال والحرام، لا، مع ذلك نعلن أن في ديننا التكامل، وأننا نستطيع أن نغطي كل واجهة، ونسد كل ثغرة.
فمن المسجد أخرج صلى الله عليه وسلم الخطباء والأدباء، كـ حسان وابن رواحة وكعب بن مالك، وثابت بن قيس بن شماس.(227/18)
ضرورة تنزيه المسجد عن الأدناس
والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالمسجد في الإسلام أن يُنَزَّه من الأدناس:
يقول كما في سنن أبي داوُد بسند جيد: {إني لا أحل المسجد لحائض، ولا جُنُب} فمساجدنا عظيمة ومقدسة، ومساجدنا قريبة من الله.
فلا يدخلها الجنب: إلا عابر سبيل، كما قال - سُبحَانَهُ وَتَعَالى - فللجنب أن يعبر من المسجد من الباب الأيمن إلى الأيسر، من أوله إلى آخره عابراً لحاجة، ومنتقلاً لغرض بدون أن يتوقف، فله ذلك: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] أما أن يجلس فلا؛ لأنه على جنابة, فهذه بيوت الله.
والحائض لا تدخل المسجد: {إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب} وفي الصحيح من حديث عائشة قالت: {كان صلى الله عليه وسلم يخرج لي رأسه من المسجد فأُرجله وأنا حائض} وهو معتكف عليه الصلاة والسلام، فلم تدخل إليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنها حائض، ولم يخرج إليها؛ لأنه معتكف، فأخرج إليها رأسه الشريف صلى الله عليه وسلم.(227/19)
دور المسجد في تقوية رابطة الأخوة
روح الإخاء يبثه المسجد:-
الدين هو الذي يجمع الإخاء! فنحن أمة لا يجمعنا الدم، كما قال القوميون!!
وأمة لا يجمعنا اللسان، ولو أن اللسان من ضمن الروابط الطيبة؛ لكن أعظم رابطة؛ الدين.
وأمة لا تجتمع على الجنس، فليس عندنا تمييز عنصري، لا أبيض ولا أسود ولا أحمر ولا بنفسجي.
فنحن أمة ندين بالولاء لـ (لا إله إلا الله).
بلالٌ العبد الحبشي أخونا وحبيبنا، وأبو لهب السيد الأَصْيَد القرشي عدونا وبغيضنا.
يقول أبو تمام، الشاعر المُفَلق في الإخاء بين المسلمين:
إن كِيْد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالدِ
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدَّر من غمام واحدِ
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالدِ
لا فُضَّ فُوك، إي والله:
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالدِِ
فمن المسجد نتآخى، ومن المسجد نتعارف، وفي المسجد نتعاون.
نعرف أن فلاناً تخلف؛ فنسأل عنه، إن غائباً حفظناه في أهله، وإن مريضاً عدناه، وإن كان عليه مصيبة واسيناه.
من المسجد نعرف أهل الريادة والأصالة الذين يُصَلُّون.
أصالتنا ديننا، وعمقنا أدبنا، وحسبنا تقوانا.
ولذلك يقول الحسن:
[[لا يُعدَمُ مرتادُ المسجد خمساً: آيةً يفهما، أو حديثاً يتدبره، أو أخاً يستفيده، أو ذنباً يغفر له، أو حسنةً تكتب له]].
إي والله، وإذا لم تكن المساجد هي مزرعة الصالحات، فأي مكان تكون؟(227/20)
فضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد وأهميتها
قال ابن حجر، وهو يشرح حديث: {تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة} قال: إنما تفضل بالدرجات لكثرة من مشى ومن سار بتعظيم الحسنات في المسجد.
مشيك إلى المسجد حسنة، ودخولك المسجد وذكرك حسنة، وتحية المسجد حسنة، ووقوفك في الصف لتعلن تضامن المسلمين حسنة، وسماعك الإمام حسنة، تسليمك على الملائكة في الميمنة والميسرة حسنة، ومصافحتك لأخيك حسنة، وسؤالك عن أخيك حسنة، وقهر الكفار، وترغيم أنوفهم برؤية اجتماع المسلمين حسنة إلى سبع وعشرين حسنة.
والذي يصلي في بيته بلا عذر، يعلن الانهزامية، والفشل.
ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] أي: في المسجد.
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:18].
وفي سنن الترمذي بسند فيه نظر: يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان}.
لكن هذا الحديث في سنده درَّاج أبو السمح، روايته عن أبي الهيثم ضعيفة، لكن معناه صحيح.
{إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان} فنحن شهداء الله في أرضه.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].
من رأيناه يعتاد المسجد، ويحب الصلاة، ويداوم على الخمس الصلوات في المسجد، قلنا: نشهد لك أمام الله يوم العرض الأكبر أنك من المؤمنين.
ومن رأيناه يتخلف، أو يقصر، أو يتأخر علمنا أن في قلبه شبهة وشك ونفاق.
في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: [[إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن لكم سنن الهدى، وإن الصلوات الخمس من سنن الهدى، والذي نفسي بيده! لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يُهادَى به بين الصفين حتى يقام في الصف]].
أتعرف ما هي الميتة الحسنة؟
الميتة الحسنة: أن يتوفاك الله وأنت ساجد.
قال ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير -كما ذكر ذلك الذهبي عنه بسند حسن-: [[اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، قال له أبناؤه: ما هي الميتة الحسنة؟، قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد]].
فأتته سكرات الموت، وأذان المغرب يرتفع حَيَّاً على الهواء، على هواء التوحيد إلى آذان الموحدين، فقال: [[احملوني إلى المسجد قالوا: وأنت في سكرات الموت، أنت معذور قال: أسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح وأموت في بيتي؟! لا والله]] إنها القلوب، إنه الشوق، إنها حرارة الإيمان.
فحملوه على الأكتفاف، فلما وضعوه، صلى وهو جالس، فلما أصبح في السجدة الأخيرة قبض الله روحه، هذه هي الميتة الحسنة.
أبو ريحانة، التابعي الكبير، مات وهو ساجد لله رب العالمين، إماماً بالناس.
علي بن الفضيل بن عياض، ابن العلامة الكبير والزاهد النحرير الفضيل بن عياض: قرأ أبوه في سورة الصافات: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:24 - 25] فركع علي وقام ثم سجد وقبض الله روحه وهو في السجود.
ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
إنها القلوب التي تأبى أن تتأخر يوم تسمع نداء حي على الصلاة، حي على الفلاح.
يقول محمد إقبال -واسمحوا لي إذا أكثرت من كلام محمد إقبال، فهو شاعر الإيمان والحب والطموح- في وصف المسلمين، يوم يسمعون (الله أكبر) في المعركة، فيتركون السيوف، ويستقبلون الحجاز -أي: الكعبة-:
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
يوم تأتي المعركة، ويدعو داعٍ: (الله أكبر، الله أكبر) توضع السيوف، وتبدأ الصفوف، وتأتي صلاة الفرض، فلا يعذر إلا من عذره الله عن التخلف.
أتى أعمى ذهب بصره، وقال للرسول عليه الصلاة والسلام: {الوادي بيني وبين المسجد مسيل، والليل مدلهم، والأرض مخيفة ذات سباع، فهل لي من عذر؟ فعذره، ثم عاد فقال: هل تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، قال: نعم.
قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة}.
وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنتَ حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به تَرْقَ أبواب الجنان الثمانيا
من المسجد نتعارف، وفي المسجد نتعارف، ومن المسجد يبدأ التعاون والتكاتف والتضامن.
لا نعرف المريض أنه مرض إلا من المسجد فنزوره.
ولا نعرف من فارقنا، ومن سافر من ديارنا إلا من المسجد.
ولا نعرف من أصابه أمر يحزن إلا من المسجد فنواسيه.
ولا نعرف من أتت له بشارة إلا من المسجد فنعيش البشارة معه؛ لأن المؤمن يفرح لفرح أخيه، ويحزن لحزن أخيه.
ثم قضايا لا تغيب عن البال في المسجد، منها:
الاعتكاف في المسجد:
الحنابلة يقولون: لا حد لأقل الاعتكاف، ومنهم من يقول: ولو ساعة، فالدقائق المعدودة التي تجلسها: اعتكاف، فاليوم: اعتكاف، واليومان: اعتكاف، واليوم والليلة عند المحدثين: هو أقل حد للاعتكاف.
والصحيح: أنه لا حد لأقل الاعتكاف؛ فأنت في جلوسك وأنت تنتظر الصلاة، في المسجد اعتكاف.
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تزال الملائكة تصلي على أحدكم، مادام في مصلاه الذي صلى فيه، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فهنيئاً لرواد المساجد، وهنيئاً لضيوف الله، يوم يأتون في المساجد فيذكرون الله، ويسبحون الله، ويقرءون القرآن.
قال عمر وهو يرسل أبا موسى الأشعري، إلى الكوفة: [[يا أبا موسى! إياك أن تأتي إلى قوم في المساجد يقرءون القرآن، لهم دوي كدوي النحل بالقرآن، فتشغلهم بمسائلك]].
إذاً: فالمسجد من مهماته الاعتكاف، أن تبقى فيه كلما وجدت ساعة أو فراغاً أن تتوضأ في أي وقت وتذهب إلى المسجد لتعتكف فيه.
يقول ابن الوزير، علامة اليمن في القرن الثامن:
فساعة في مجلس واحد أفضل من ملك ملوك الملوكِ
إيْ والله، تعفير الوجه لله، والبكاء من خشية الله، وذكر الله، وتلاوة كتاب الله، أفضل -والله- من ذهب الدنيا، وفضة الدنيا، وقصورها وجاهها.
ولذلك ذكر أهل التراجم عن شيخ الإسلام ابن تيمية الجهبذ العَلَم، ذاك الرجل الذي يُعتبر رجل ألف سنة، ليس مائة سنة، بل ألف سنة، يقول ذاك المجري الذي هاجم السنة: وضع ابن تيمية ألغاماً في الأرض، فجَّر بعضها محمد بن عبد الوهاب، وبقي بعضها لم يفَجَّر حتى الآن.
ابن تيمية يقول عنه الذهبي: كان جده قمراً، وأبوه نجماً، وابن تيمية شمساً، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة.
كان يذهب إلى المسجد، فيعفر وجهه في المسجد، ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني.(227/21)
من أحكام المسجد(227/22)
حكم النوم في المسجد
المسجد من أحكامه: أنه لا بأس من النوم فيه.
لأن هذه لا بد أن نعرفها؛ لكن لا يتخذ المسجد مقهىً ولا فندقاً ولا سكناً للنوم.
لكن يجوز للحاجة: كأن إذا أتى غريب، ولم يجد ما يمكنه من النوم خارج المسجد.
فنقول: إن من أعوزه المبيت فله أن ينام في المسجد بشرط ألا يجد مكاناً آخر.
ولذلك يتساءل البخاري في صحيحه: هل يُنام في المسجد؟
قال: نعم.
ثم أتى بالحديث: قال ابن عمر: {>كنتُ رجلاً أعزب أنام في المسجد}.
ولذلك يقول ابن عمر في صحيح البخاري: {تمنيت أن أرى رؤيا}.
لأن الصحابة كانوا يرون رؤيا فيلقونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يفتيهم في الصباح، قال: {تمنيت أن أرى رؤيا، وأنا كنت أعزب أنام في المسجد، فرأيتُ في المنام كأن رجلان أتياني فأخذا بيدي، أحدهما باليمنى، والآخر باليُسرى، فذهبا بي إلى بئر مطوية، فأشرفت عليها ولها قرنان -أي: رعلتان أو خشبتان- فوجدتُ أناساً فيها يتضاغَون -كأنها العذاب، وهي النار نعوذ بالله من النار- فقال لي الملكان: لَمْ تُرَعْ، لَمْ تُرَعْ، ثم ذهبا بي، فرأيت جزيرة خضراء فأعطياني قطعة من إستبرق، لا أشير بها إلى مكان، إلا طارت بي إلى ذاك المكان، فلما أصبحتُ في الصباح أخبرتُ أختي حفصة، فعَرَضَتْها على الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: نِعْم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل}.(227/23)
حكم الكلام في المسجد
كَثُر تداول هذه المسألة بين المسلمين، عن التحدث في المسجد، هل هو جائز أو ممنوع.
وهذه القضية فيها تفصيل.
أما الحديث الذي يقول: {الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب} فلا يصح عنه صلى الله عليه وسلم، وهو باطل.
والرسول عليه الصلاة والسلام ثبت أنه تكلم في المسجد في الأمور المباحة.
وفي حديث جابر بن سَمُرة، كما في الحديث الحسن، قال: {كنا نتحدث بعد صلاة الفجر في المسجد بأخبار الجاهلية، والرسول صلى الله عليه وسلم معنا، فنضحك ويتبسم}.
فلا بأس بالحديث العام في المسجد؛ لكن بشروط:
1 - ألا يكون فيه ذنب كأن يكون فيه غيبة، فيحرم في المسجد، والمجلس، والشارع، وفي كل مكان، فالغيبة تحرم في كل مكان، وبالخصوص في المسجد، أو يكون نميمة أو زوراً أو تجريحاً للناس في أعراضهم، وهذا يدخل في الغيبة.
2 - وكذلك يحرم الكلام إذا شوش على المصلي: فإنه يوجد من الظواهر عند بعض الناس أنه يجعل المسجد -كما أسلفتُ- بيعاً وشراءً، وخصومة، ومشاكل، وعرض معيشته، وما جرى لأطفاله وزوجته وأولاده وأخواله، وهذا غير ما بُنِيَت له المساجد، فلا بأس بالحديث المباح في المسجد للحاجة؛ كأن تسأل الرجل عن صحته، وعن ولده، وسفره، وقدومه وممتلكاته، فلا بأس بهذا، وقد فعله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولذلك أورد بعض أهل العلم أبواباً منها: الأكل والشرب في المسجد، وهو جائز كذلك؛ لكن بشرط ألا يدنس المسجد، أو لا يكون عرضاً لإهانة المسجد، أو لإدخال الأذى في المسجد.(227/24)
حكم تحية المسجد
من القضايا التي أريد التنبيه عليها: تحية المسجد:
السنة في الإسلام أن إذا دخلت المسجد أن تصلي ركعتين، ففي الحديث الذي اتفق عليه البخاري ومسلم عن أبي قتادة قال: قال عليه الصلاة والسلام: {من دخل منكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} وهذا على العموم، ولا يخصصه شيء، بل هذا إن شاء الله هو الحديث الخاص الذي يخصص عموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: {لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس} فمن دخل في أي وقت فله أن يصلي ركعتين، حتى بعد العصر، وحتى بعد الفجر؛ لأن هذه من ذوات الأسباب، وهي فتيا فقهاء المحدثين، حتى كبار علمائنا في هذه البلاد من أهل الحديث قد أفتوا بذلك.
فمن دخل ولو في وقت نهي، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، ولو كان الخطيب واقفاً على المنبر، ففي صحيح مسلم من حديث جابر قال: {قدم سُلَيك الغطفاني والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب الناس فجلس، فقال: أصليتَ ركعتين؟ قال: لا.
قال: فقم وصلِّ ركعتين وأوجز}.
إذاً: فتحية المسجد لا بد منها لمن دخل في المسجد.(227/25)
حكم زخرفة المساجد
مما يُنَبَّه عليه في قضايا المسجد: تجميل المساجد، وتجميلها الجمال الذي يخرج بها عن حد العادة، فلا بأس بتنظيفها، فهي معلم حضاري، ولا بأس بتشييدها، ولا بأس برفع بنائها، أما وضع الخطوط التي تشغل المصلين، وكثرة التزيين، والتشطيب، وغيرها من الأمور التي تشغل الناس، فإن هذا منهي عنها.
وقد صح عن أنس من حديثه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما أُمِِرْتُ بتشييد المساجد}.
وقال أهل العلم: التشييد: الزخرفة التي تفتن المصلين.
فأما بناؤها وإظهار عظمة المساجد وتوسيعها ورفعها، وكمالها في البناء، فهذا مطلوب في الإسلام، وأما إدخال كثير من الشخوص والشطوب والألوان التي تبهر العين وتأخذ النظر، فإنها تشغل المصلي، وهو أمر منهي عنه، فلْيُتَنَبَّه لذلك.(227/26)
واجبنا نحو المساجد
في هذا الأسبوع الذي عقد للمساجد حق علينا أن نعيش مع المساجد في غير هذا الأسبوع، وفيه بالذات.
وواجب المساجد علينا كمسلمين:(227/27)
المحافظة على الصلوات فيها
من حقوق المسجد علينا: المحافظة على الصلوات فيه، وهو أعظم واجب، فإنه هو الذي يطالبنا به الإسلام والرسول عليه الصلاة والسلام، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث صححه الإشبيلي وابن تيمية: {من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر} وأما حديث: {لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد} فهو حديث ضعيف، وموقوف على علي رضي الله عنه.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {والذي نفسي بيده! لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم بالنار}.
فهذا واجبنا، وهو المحافظة على الصلاة في المسجد، لنظهر قوة وعظمة وأصالة الإسلام.(227/28)
حفظ القرآن والسنة فيها
ومن حقوق المساجد علينا: ألا تقتصر على هذه المهمة فقط، وهي الصلاة، بل نجعله مكاناً للدروس ومدارس لتحفيظ وتعليم القرآن وتفقيه أبناءنا في القرآن، وكذلك عقد الدروس والحلقات.
ولقد أحسنت إدارة الأوقاف يوم شجعت على إقامة الدروس والمحاضرات واللقاءات في المساجد، وهي انطلاقاً من أهدافنا الأصيلة في ديننا الإسلامي الخالد، الذي ينبني على أن يكون المسجد جامعة كبرى، وتعليماً للناس وتفقيهاً لأمور دينها؛ لأنه إذا بقي المسجد لآداء الصلاة دخل الناس عواماً وخرجوا عواماً، فلا يوجد في المسجد مُفَقِّه، ولا معلم، ولا مُوَعٍّ، ولذلك تقع الأمة في الأخطاء؛ يوم لا ينتصب طلبة العلم والدعاة في المساجد لتوعية الناس بالإسلام وإدخال الفهم في قلوب وأذهان عباد الله.(227/29)
عمارتها بالذكر
ومن حقوق المساجد علينا: أن نجتهد في عمارتها بالذكر، وتلاوة القرآن، والمحافظة -كما قلتُ- على النوافل فيها، والاعتكاف الطويل.(227/30)
بذل الجهد في عمارتها بالمال
ومن حقوق المسجد علينا: أن نجتهد في عمارتها بالبناء وبذل الجهد ودفع المال؛ ولو أن القائمين وولاة الأمور لم يقصروا في هذا الجانب، نسأل الله أن يزيدهم بصيرة، وعوناً وتسديداً بزيادة المساجد ولتوسعتها وعمارتها؛ لتكون مَعْلَماً حضارياً لهذه الأمة الرائدة، أمة (لا إله إلا الله).(227/31)
تنظيف المساجد وترتيبها
من حقوق المسجد علينا: تنظيفه، وترتيبه، ولا يبقى في موقف يزري بنا؛ لأن المسجد هو اللوحة العريضة التي تظهر جمالنا وجلالنا، فيكون منظماً منسقاً مرتباً، فنخرج منه الأذى.
ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم عند البخاري أنه قال: {النخاعة -وفي لفظ: النخامة- في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها} فلا بصاق، ولا أمور أو مخلفات أو فضلات، ولا قصاصات أوراق؛ لأن هذا يعارض رسالة المسجد وواجب المسجد على المسلمين.
وتنظيف المسجد لا يتوقف على فئة، ولو أن المعنيين قائمون بهذا؛ لكن على كل مسلم أن يدفع مهر الحور العين؛ لأنه ورد في كثير من الآثار: أن مهر الحور العين هو إزالة القِمامة من المسجد وتنظيف المساجد.
وفي ختام هذه الكلمة: أسأل الله عز وجل أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأن يوفقنا وإياكم إلى سلوك الطريق المستقيم، وأن يهدينا وإياكم سبل السلام، وأن يوفقنا لبناء المساجد، وتعميرها، وإقامة رسالتها لنكون مخلصين قائمين بالمهمة.
ثم أعود فأشكر أهل الفضل على فضلهم، وأشكر النادي الأدبي مرة ثانية، الذي عرف أن من رسالته الدعوة إلى الله والقيام بحقوق المساجد.(227/32)
الأسئلة(227/33)
حكم المصافحة بعد الصلوات
السؤال
ورد في كلامك: أن مصافحة المسلم لأخيه صدقة، فهل تقصد بها المصافحة يميناً وشمالاً أم أنها بدعة، كما ورد في بعض الكتب؟ فإذا كان ذلك كذلك، فأرجو التنبيه، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
المصافحة التي ذكر السائل، ذكر ابن تيمية: أن المصافحة بدعة، وأظن أن السائل يريد هذا.
فأقول: إن المصافحة إذا أتى ليصلي ثم رأى أخاه قادماً من سفر، أو غريباً أو له فترة في غيابه؛ فله أن يصافحه، وفي الحديث: {} أمَّا بَعْد الصلاة كما يفعله كثير من الجاليات من غير هذه البلاد، فهذا بدعة، ولا ينبغي أن يكون بعد كل صلاة يتصافحون، وما فعل السلف ذلك.
أما قبل الصلاة لغريب أو قادم، أو بعد الصلاة للمسافر، فلا بأس به، بل هو من الخير، ويدخل في عموم الأحاديث التي سنت ذلك إن شاء الله.(227/34)
حكم البحث عن صاحب الضالة في المسجد
السؤال
فضيلة الشيخ عائض، إذا وُجِدَت ضالة، فهل يجوز السؤال عن صاحبها في المسجد؟
أي: تأخذ حكم السؤال عن هذه الضالة في المسجد؟
الجواب
البحث عن من ينشد الضالة يأخذ حكم من ينشد الضالة؛ لأن المقصود: هو النهي عن التشويش في المسجد، وقد حصل بإنشاد صاحب الضالة، وقد اتفقت في العلة، هذه وهذه، فيُنهى عنه؛ لكن استثنى بعض أهل العلم إذا كان الناس يتجمعون خارج المسجد فله إذا خرج الناس من المسجد أن ينبههم على هذه الضالة، أو يبحث عن صاحب الضالة إن استطاع، أما داخل المسجد، فلا يجوز البحث عن الضالة ولا صاحب الضالة.(227/35)
حكم تحية المسجد عند كثرة الدخول والخروج
السؤال
إذا تكرر الدخول في المسجد، فهل تلزم ركعتا تحية المسجد؟
الجواب
يفصل أهل العلم في هذا، فيقولون: إذا خرج الداخل وانفصل انفصالاًَ عرفياً وطال الفصل، فعليه أن يجدد ركعتي الدخول وتحية المسجد، كأن يدخل ثم يخرج لعمل، أو يذهب إلى أمر طويل المدة، فعليه بركعتين.
أما الخروج الذي ليس فيه فصل، وليس فيه في العرف فصل، فتكفيه تحية المسجد الأولى, كأن يدخل فيصلي ركعتين ثم يخرج، ثم يدخل مباشرة فتكفيه الركعتين الأُول.(227/36)
حكم المصلى الذي لا تصلى فيه الصلوات الخمس
السؤال
إذا كان المسجد لا تقام فيه الصلوات الخمس، كأن يكون مسجداً في دائرة حكومية أو مدرسة، فهل يأخذ حكم المسجد أو المصلى، وتلزم فيه ركعتا تحية المسجد؟
الجواب
المصلى الذي في الدائرة الحكومية -مثلاً - أو في المدرسة إذا تُعُورِف عليه أنه مصلىً لهؤلاء الشباب، ولهذه الدائرة، وأصبح هو مصلاهم في الصلاة دائماً وأبداً، فإن له حكم المسجد، لكن قال بعض أهل العلم: في الصلوات الخمس، والذي أعرفه من المصليات هنا أنها ليست للصلوات الخمس، بل للظهر أحياناً وللعصر، فإذا كان والحالة هذه فلا يأخذ حكم المسجد، مثل اجتناب الحائض والجنب، وتحية المسجد، فلا يأخذ حكم المسجد، وإنما يسمى مصلى.
فالمسجد أو المصلى الذي يأخذ حكم المسجد هو ما عرف صلاة فيه خمس مرات في اليوم والليلة، وأصبح علماً على الصلاة فيه.(227/37)
حكم التشويش على المصلين بالقرآن
السؤال
ما حكم من يقرأ القرآن في المسجد والناس يصلون بصوت مرتفع ويزعج المصلين؟
الجواب
رفع الصوت بقراءة القرآن، قد ورد فيه حديث ضعيف: {لا يُشَوِّش قارئكم على مصليكم، ولا مصليكم على قارئكم} لكن هذا الحديث فيه ضعف، ويغني عنه حديثٌ: {اقرءوا ولا تختلفوا في القرآن} قال بعض أهل العلم: لا تخلتفوا برفع أصواتكم، والمعهود والمقصود من مقاصد الدين هو الخشوع في المسجد، فمن أظهر عليهم التشويش برفع صوته، فإنه يُمْنَع من ذلك، قال الإمام مالك فيما روى عنه ابن القاسم: من رفع صوته وشوش على الناس، أرى أن يُضْرَب بالنعال، ويُخْرَج من المسجد.
فهذه فتوى الإمام مالك، فحق على المسلم ألا يشوش على إخوانه في الصلاة.
لكن استثنى أهل العلم مسألة، قالوا: إذا كان في المسجد رجل يصلي، ورجل يقرأ، وبجانبه أناس لا يقرءون ويريدون الاستماع -كالعوام- فله أن يرفع صوته ليسمعوا ويستفيدوا من كلام الله عز وجل.(227/38)
حكم صبغ اللحية
السؤال
صَبْغ اللحية بقصد تغيير الشيب، هل يجوز له أم هو حرام؟
الجواب
التغيير على أقسام، فمن حيث أصله: هو جائز، ففي صحيح البخاري من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال في والد أبي بكر لما أتى ورأسه كالثُّغامة البيضاء، والثغامة زهر ربيعي أبيض يأتي في الصحراء، قال: {غيروا هذا، وجنبوه السواد} فكلمة جنبوه السواد: بعض العلماء يقول: إجادة مدرجة، ولكنها صحيحة.
وهناك رسالة لـ ابن الجوزي اسمه الاقتضاب في حكم الخضاب أعلن فيه أن السواد فيه إدراج؛ ولكن صح في رسالة أخرى للشيخ العلامة مقبل الوادعي، ومقالة للعلامة الألباني ولغيرهم، أنهم صححوا هذه المقالة، وهي فُتيا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وكثير من المحدثين، أنه يجتنب السواد لصحة هذا الزيادة: {وجنبوه السواد}.
وإذا عُلِم هذا: فإنهم قالوا: السواد لذي سلطان لا بأس به، وذكروا عن الحسن والحسين بن علي في مسند أحمد أنهما كانا يسبغان بالسواد ليرهبوا الأعداء، أما غير ذي سلطان فلا يصبغ بالسواد، ولكن عليه بالوَرْس والحناء أو الكَتم، أو غيرها من الألوان، أما السواد فالذي أعرفه، وتحققت به الفتيا والمسائل والكتب أنه لا يجوز.(227/39)
مصارع العشاق (1)
في هذا الدرس المبارك:
جمع الشيخ حفظه الله من التاريخ والسير فوائد وعبراً، وصاغها بكلامه، فخرجت كالدرر.
تكلم فيه عن أحوال عشاق الحق والباطل.
فانظر أيها القارئ الكريم في أوضاعك، وتأمل في أحوالك؛ لتعرف في أي الطريقين أنت.(228/1)
مقدمة في دعاء الله والثناء عليه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
هذا اليوم التاسع عشر من شهر ذي الحجة عام (1412) من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهذه المحاضرة هي الحلقة الأولى من درس بعنوان: (مصارع العشاق) وهذه بنيات فكر ضمرت مرائرها، وسرحت ضفائرها، سموها ما شئتم، مقامات أدبية، أو صولات خطابية، إلياذة أو ملحمة، المهم أنني آمنت بأفكارها، وتبطنت أسرارها، فإن كنتم ممن يدخل في هذا العنوان: (مصارع العشاق) فحسن؛ وإلا فقد حصل الاتفاق، فالسماع يكفي، والحضور يشفي، ولعل من هو أورع مني يلومني ولم يدر عني، حيث أني أركبت الكلام مركب المجاز، والظاهر عندي الجواز، ولكن -أيها الإخوة الكرام- أستأذنكم في هذا الهتاف:
وقفنا ببابك يا ذا الملك وزرنا رحابك والملك لك
وجئناك نطوي قفار السهاد وما خاب يا رب من أملك
اللهم فأجزل العطيه، واغفر الخطيئة، وأصلح النية، وأحينا الحياة الرضية.
اللهم إن سلاطين الأرض أغلقوا الأبواب، ووضعوا الحجاب، وسدوا حاجات الطلاب، وبابك مفتوح، ونوالك ممنوح، وخيرك يغدو ويروح.
اللهم فأصلح القلوب، واغفر الذنوب، واستر العيوب.
يا رب أول شيء قاله خلدي أني دعوتك في الآصال والسحر
فوالذي قد هدى قلبي لطاعته لحب دينك في سمعي وفي بصري
يا كريماً! الكرماء بخلاء عند جودك.
يا قوياً! الأقوياء مهازيم في قيودك.
يا قاهراً! النواصي في قبضات جنودك.
اللهم فارحم الفجيعة، وصل القطيعة، واغفر الذنوب الفضيعة، واحمنا بالأستار المنيعة، وأدخلنا الرحمة الوسيعة.
اللهم خذ الكفار والمنافقين، واسحق الفجار والمارقين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والدعاة والعلماء والصالحين بسوء فأبطل بأسه، ونكس رأسه، واجعل النار لباسه، وشرد بالخوف نعاسه.
اللهم من دبر لأوليائك المكائد، ولعبادك الشدائد، فقطِّع مفاصله، وأصب مقاتله، واحبك سلاسله، وانسف معاقله.
اللهم يا من أنجى من النار الخليل، وأيد اليتيم بجبريل، ودمر أبرهة والفيل، ومزق الغزاة بطير أبابيل، نسألك أن تكف كف المعتدي، وأنت تلوي ساعد الردي، وأن تمنع الأخيار من كل يد.
وكنت إذا الطغيان أظهر بأسه وسل علينا سيفه وخناجره
دعوتك فاستنهضت بالفضل نصرتي فزلزل بالعزم الأكيد محاجره
اللهم إن ألسنتنا سبحت في علاك، ورءوسنا ما سجدت لسواك، يا من ترانا ولانراك، لا نعبد إلا إياك، نسألك أشرف المنازل في القصور، وسكن الجنة بالحبور، ومصاحبة النعيم والحور، والنظرة والسرور.
شجون في رضاك سرت حنينا وذاب القلب مما قد لقينا
وظل الدمع يخلف في المآقي شذا نفحاته من ياسمينا
ويهتف كل قلب فيك حباً كأن نداءه من طور سينا
اللهم إن الملاحدة ما صلوا وصلينا، وما قاموا وقمنا، هجروا السجود وسجدنا، وحاربوا بالباطل من عبدنا، اللهم كما وعدتهم الوعيد، وزلزلت قلوبهم بالتهديد، اللهم فأصلح بالنا، وحسّن حالنا، وقوِّ حبالنا، وأكرم مآلنا.
اللهم يا من على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، يا مرسل المعصوم فلا ينطق عن الهوى، وما ضل وما غوى، اللهم فاهدنا إذا دجت الظلمات، وأنقذنا إذا احلولكت الشبهات، وأكرمنا في أرفع الدرجات، وأجزل لنا الأعطيات.
لعمرك كم يجوب الهم صدري وطرف محاجري بالوجد يسري
أداوي أضلعي بالكي أرجو سلامتها فتصليني بجمري
اللهم يا من لا تعجزه الحاجات، ولا تضطرب لديه الأصوات، ولا تختلف عليه اللهجات، ولا تنقص جوده الهبات، اللهم فنفحة من نفحاتك، ورحمة من رحماتك، ونور من قبساتك، اللهم فاشف العلة، وسد الخلة، وانصر الملة، وارحم الذلة، اللهم أطلق المسلمين من المعتقلات، وسرح المأسورين من الزنزانات، واغفر للآباء والأمهات، وارحم الأحياء والأموات.
أنا عند الباب من أهل الحرم ودموعي كلها في الملتزم
أنا ذاك العبد من أخطاؤه في سجل خطه ذاك القلم
إن يكن يا رب عتبٌ ظاهرٌ فاعف عن أخطائنا يا ذا الكرم(228/2)
حال الأمة اليوم
نحن أمة تسأل عن دم البعوضة، وتهريق دم الحسين، لبست قميص المثنى بن حارثة، وفي يدها حربة بابك الخرمي.
حج محمد عليه الصلاة والسلام ليقول للحجاج: أنا كأفقركم، ففهمها الفطناء؛ لكن أبا جهل ما حضر الموقف، نحن عرب بلا عمر، وأكراد بلا صلاح الدين، وأتراك بلا فاتح، وهنود بلا إقبال، وأفارقة بلا بلال.
وزرنا البيت أيتاماً كباراً حملنا المزعجات بلا بكاء
جسم الأمة كله جراح يوم عرفة، جؤار البوسنة والهرسك أخجل أهل الموقف، وخلاف الأفغان أزعج المحرمين، وضياع بيت المقدس نكس رءوسنا عند الصخرات، من لم تنفعه عينه لم تنفعه أذنه، ونحن كذبنا ما سمعناه بآذاننا وقد رأيناه بعيوننا.
لقد نصحتك عينك في نهار من التبيان حتى سال ماها
حج عمر فأنفق عشرين درهماً، وقد ختم بالرق على عنق كسرى وقيصر، وقد حججنا ندوس الحرير، ونستخشن الديباج، ونحن نسبح للرق في أدبار الصلوات.
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى رجال الحي غير رجالهم
صحن طعامنا مكسور؛ لأنه ما صنع في المدينة، وخيمتنا ممزقة؛ لأن أطنابها مستوردة، ونسينا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65].
نحن ثلاثة حجاج ضاع رابعنا، حاج في عرفة وماله في البنك الربوي، وحاج في مزدلفة ولكنه بات مع نغمة ووتر، وحاج رمى الجمَرات وأشعل في قلوبنا الجمْرات، والرابع أشعث أغبر رُفعت دموعه إلى العرش.
لا تسل عن خلدي قد ضاع مني عدَّني في زحمة أو عَدِّ عني(228/3)
مقارنة بين عشاق الحق وعشاق الباطل
عشق بلال الجنة فأمهرها ركعتين مع كل وضوء، فسمع صاحب العقد دفَّ نعليه عند الباب المخطوبة، فعرف أن ليلة العرس قد حانت.
ألم تر أني كلما زرت زينباً وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
وقصر بلال تلوح عليه أحرف: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] وعشق أبو جهل النار فصعبت عليه لا إله إلا الله؛ لأن نافخ الكير تزكمه نفحة المسك.
قيل لـ أبي جهل: قد أقام بلال الصلاة فصل وراء الإمام؟ فقال: لست على وضوء، فمات قبل أن يصلي.
قيل لـ أبي جهل: لماذا تدخل النار؟ قال: لأني عاشق.
لا تلمني في هواها والجوى فأنا من لومكم في صمم
صاح في وجه أبي جهل لسان القدر: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت:19].(228/4)
عشق أبي مسلم للرياسة
أبو مسلم الخراساني عشق الإمارة حتى الثمالة، فعاش من أجلها وهاش، وسكر في حبها وطاش، بقر بطون المساكين بالخنجر فبقر بطنه أبو جعفر.
كل بطَّاح من الناس له يوم بطوح
تعلق بغير الله فعلقه أقرب الناس إليه بقدميه: {وكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129].
أبعين مفتقر إليك نظرت لي فأهنتني وقذفتني من حالقِ
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
جعل الرياسة تميمة في عنقه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من تعلق تميمة فلا أتم الله له}.
عشق أبو مسلم الخراساني المنصب فما تراجع عنه، والتراجع حرام عند العاشقين.(228/5)
مقارنة بين عشق أهل البدعة وعشق أهل السنة
أيها الناس! أيها البررة: مات الجعد بن درهم في حب البدعة فما أحس للذبح في هوى المحبوب ألماً، فلماذا يألم أهل السنة من الذبح لحب السنة والله يقول: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104].
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكننا كنا على الموت أصبرا
خرج خالد القسري على الجعد بن درهم بالسكين فما تاب المسكين؛ لأنه عاشق! والعاشق يقول:
والله لو قطعوا رأسي لأهجرها لسار حول حماها في الهوى رأسي
الجعد بن درهم ممن زُيِّن له سوء عمله فرآه حسناً، صاح النذير لأبطال السنة بلسان: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140] فما أحسوا للمس حساً.
تحدى أحمد بن حنبل الدنيا في حب مبدئه الحق؛ فتكسرت السياط على البساط، وأبو عبد الله يضحك في وجوه المنايا، والوحي يهتف: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ليعلم أحمد أن المتوكل سوف يتولى وأن المعتصم يموت.
في قاموس أحمد بن حنبل حديث قدسي: {وعزتي وجلالي ما اعتصم بي أحد فكادت له السماوات والأرض إلا جعلت له من بينها فرجاً ومخرجاً}.
أراد أهل البدعة أن يصرفوا عن الحق أحمد فما انصرف؛ لأنه أحمد ممنوع من الصرف.
عجباً كيف شربت الموت شربا وجعلت السيف للعلياء دربا
عجباً كيف تحديت الملا وسقيت الرمح حتى صب صبا
كنا أطفالاً نسمع بـ أحمد بن حنبل فحسبناه مفتياً في الزوايا، فلما كبرنا علمنا أنه معلم جيل وعالم أمة، وشيخ حياة.
الحجاج: من العاشقين.
عشق الدماء كما عشقت امرأة العزيز يوسف، فجرد السيف على عشاق الملة فشقي بـ سعيد، وكسر بـ ابن جبير منارة الدين، الرجل محنط، فما سمع من سكاره: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93].
أحد الفنانين رقص على نغمة:
أخبروها إذا أتيتم حماها أنني ذبت في الغرام فداها
وتراقصت أطراف جعفر الطيار على زمجرة
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
طارت روح جعفر إلى الجنة فأعطاه مولاه جناحين يطير بهما حيث يشاء، والذي يطير أعظم ممن يسير، يقول الشاعر:
نطير إليك من شوق الحشايا وبعض الناس نحوكم يسير
حمل أبو بكر الصديق الصدق فسار في قافلة: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] سمي بـ الصديق فلا يعرفه العالم إلا بـ الصديق، وصار خليفة الصادق المصدوق، وحمل مسيلمة الكذاب رداء الكذب، فهو في زنزانة ألا لعنة الله على الكاذبين، فلا يعرف مسيلمة إلا بالكذاب.
أراد خالد بن الوليد أن يداوي مسيلمة الكذاب من الكذب فما نجح العلاج فقطع رأسه ليزول الألم بالكلية.
عشاق الصدق يموتون من أجله، وعشاق الكذب أكثر يقتلون تحت نعله.(228/6)
مقارنة بين عشق الطغاة وعشق الأولياء
جمال وسيد:
سجن جمال سيداً ليقول له: يا سيدي! فقال له: لا.
السيد هو الله.
فذبحه؛ فأحيا الله بقتله فكره، ورفع بذبحه ذكره، ومات جمال بقتله ميتة البغال، فتعوذ الناس من ذكره في المحافل لأن سيداً من فصيلة: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} [المجادلة:22] وذاك من فصيلة: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} [المجادلة:19].
قضوا وألسنة الأجيال تلعنهم وأتبعوا في اللحود السود تبكيتا
أسماؤهم في رؤى التاريخ مظلمة كم مجرم كان في الإفساد خريتا
أصبع محمد عليه الصلاة والسلام:
جرحت أصبع رسولنا صلى الله عليه وسلم فسال الدم الطاهر فقال:
إن أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
لأن من قرب روحه للرحمن لا ييأس على أصبعه، ومن انتظر أن يسيل دم ظهره لا يبكي على دم ظفره.
حرام بن ملحان:
روى البخاري أن حرام بن ملحان طعن بالرمح من قفاه -وهو أحد الصحابة- فأخذ دم صدره ورش القاتل وهو يقول: فزت ورب الكعبة.
شهد له دمه أنه محب وأقام دليل المحبة، فسلوا رمح القاتل! فالبينة على المدعي واليمين على من أنكر.
يأتي حرام بن ملحان يوم القيامة وكلمه يُدمى، الريح ريح المسك واللون لون الدم.
تفوح أرواح نجد من ثيابهم عند القدوم لقرب العهد بالدار
الشيح والكاذي والريحان قد عبقت يا موقد النار أطفئ شعلة النار
المهدي: دخل المهدي خليفة بني العباس المسجد والعلماء جلوس، فلما رأوه قاموا وقعد ابن أبي ذئب المحدث؛ لأن الذئاب لا تقوم للثعالب، فقال له: لِمَ لَمْ تقم لي؟ فقال: كدت أفعل فذكرت يوم أن يقوم الناس لرب العالمين فتركت القيام لذلك اليوم.
قال الخليفة: اجلس فقد أقمت شعر رأسي، فقامت الدنيا لـ ابن أبي ذئب لأنه ما قام، والقيام مع القدرة، ولا قدرة لمن يدخر قيامه لمولاه.
سعيد الحلبي: مد سعيد الحلبي: رجله في المسجد فدخل السلطان عليه فما رد رجله، فأعطاه مالاً، فقال سعيد: إن الذي يمد رجله لا يمد يده، ولو مد سعيد يده لقطع السلطان رأسه.
أنا لا أرغب تقبيل يد قطعها أحسن من تلك القبل
إن جزتني عن صنيعي في رقها أولى فيكفيني الخجل
الكافر يولد مرة ويموت مرتين، والمؤمن يولد مرتين ويموت مرة.
الكافر جثماني بليد، والمؤمن روحاني مجيد.
الهدهد وفرعون:
الهدهد أذكى من فرعون؛ لأن الهدهد أنكر على بلقيس سجودها للشمس، وفرعون قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38].
رزق الهدهد يخبئه في الأرض، فلما عرّف الهدهد ربه، قال: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النمل:25].
أحب الهدهد رب العالمين فأتى سليمان من سبأ بنبأ يقين، وفرعون مهين دس أنفه في الطين، وكفر برب العالمين.
الهدهد آمن في الرخاء فنفعه إيمانه في الشدة، وفرعون كفر في الرخاء فما نفعه إيمانه في الشدة، بل قيل له: يا فتان آلآن؟ فات الأوان.
قد مضى الركب وخلفت لوحدك فابك ما شئت ولا تأنس برشدك
عبد الدينار يرد النار، كلما كثرت دراهمه دار همه.
إمامه قارون، خرج في زينته فدفن في طينته، صاح متكبراً! إنما أوتيته على علم عندي، قيل له: عندك أو عندنا؟
هيا إلى الدور الأرضي وخذ دارك معك: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ} [القصص:81].
دراهم أبي بكر الصديق ختمت بـ: {يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18] ودراهم أمية بن خلف عليها: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1].
أعطي أبو بكر حلة: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل:17] وألبس أمية قميص: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا يحسب التمتام أني هجوته ولكنني فضلت أهل المكارم(228/7)
من تضحية المؤمنين وتخاذل المنافقين
يا أحفاد حنظلة! يا أبناء حنظلة: اسمعوا قصة حنظلة:
سمع حنظلة مؤذن الجهاد في أحد وعليه جنابة، فطار إلى سيفه، وصب دمه مع دماء الأبرار، وقدم لحمه مع لحوم الأخيار، وهذه الكتائب: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37].
يا حنظلة! ثمر شجرك ما حنظل، وحب زرعك قد سنبل، قبل أن تدخل الجنة تغسل.
أملاك ربي بماء المزن قد غسلوا جثمان حنظلة والروح تختطف
وكلَّم الله من أوس شهيدهم من غير ترجمة زيحت له السجف
تلاميذ عبد الله بن أبي يحفظون: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [المنافقون:7] وينسون: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المنافقون:7] فيسرقون لقمة العيش من على الشفاة، ومداوي الداء بالداء عله وما شفاه.
عبد الله بن أبيَّ فاكهته لحوم الصحابه، ومصحفه الربابه وسهامه طائشه؛ لأن الصيد عائشة.
أتدري من رميت وكيف تدري فما أعماك عن شمس وبدر
رميت البدر بالبهتان كيداً ونور الحق محفوف بفجر
درسنا قصة طه والطبلة، فألهانا طه عن: طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2] والذي حفظ قصة الطبلة خرج أبله، وقيَّم المدرسة أرقم ألغى منهج دار الأرقم بن أبي الأرقم.(228/8)
أنس بن النضر وعشقه للجنة
صاح أنس بن النضر: [[إني لأجد ريح الجنة من دون أحد] فقتل على مبدأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].
بحثت عنه أخته فما عرفته قتيلاً إلا ببنانه؛ لأن عشاق الجنة يحتاجون إلى شهود، وقد كتبوا شهادتهم بخطوطهم على جسم أنس، فكل جرح يقول: {مَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف:81].
قالوا لأحد المنافقين: جاهد لتؤجر، قال: أخاف بنات بني الأصفر.
قيل له: تضحك على من؟ ونزلت: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49] فضحهم الوحي فلما انقطع الوحي فضحهم حملته، وقال أحدهم: أنا لا أخشى بنات بني الأصفر ولكن: {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81] فما أصبح الأمر سراً: {جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} [التوبة:81].
تفر من الهجير وتتقيه فهلا من جهنم قد فررتا
وتشفق للمصر على الخطايا وترحمه ونفسك ما رحمتا
عاشق الشهادة تأتيه على الفراش، قال صلى الله عليه وسلم: {من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه}؛ لأن الحب يفتت الأكباد: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
نسيت في حبك الدنيا وما حملت وبعت من أجلك الأنفاس والنفسا(228/9)
عبد الفتاح إسماعيل وعشقه للشيوعية
عبد الفتاح إسماعيل:
قيل لـ عبد الفتاح إسماعيل: في عدن: من ربك؟
قال: لينين.
قيل: من نبيك؟
قال: استالين.
قيل له: حشرك الله مع الملاعين.
قال: آمين.
يا ضعيف العزم! وأنت من أهل السنة بقي عبد الفتاح هذا يدعو إلى الشيوعية أربعين سنة في عدن الإسلامية، فهل دعوت أنت في أربعين ليلة إلى العقيدة الإسلامية في الجزيرة العربية.
يا كسلان! عبد الفتاح هذا قُتل على غير الجادة فردد مع آخر الأنفاس: لا إله والحياة مادة، يدرِّس الإلحاد مع الظمأ والمجاعة وأنت مع الترف ما تدرس منهج أهل السنة والجماعة.
يا شباب الصحوة: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة:38] وشباب عبد الفتاح انتشروا في الطول والعرض.
أتباع كارل ماركس يدرسون مذكرته في الكادحين، ونحن لم ندرس طلابنا رياض الصالحين.
وصاحب باطل جلد صبور تسيل دماؤه من طول صبره
وذو حق ضعيف الرأي فدم يسيل لعابه من رأس ظفره
الفاروق:
دعا الفاروق أبو حفص فقال: [[اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة]] لأن الفاجر أحال العراق إلى بعث، وحلب إلى نصيرية وأرض الكنانة إلى ناصرية إلا من رحم ربك، وأما الثقة فاعتذر بأشغاله عن تدريس الحموية والواسطية.
بقي ميشيل عفلق يستغوي الجيل ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً يحفظهم في الابتدائية:
آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ماله ثاني
ويحفظهم في المتوسط:
لا تسل عن عنصري أو نسبي أنا بعثي اشتراكي عربي
فلما سمع ذلك حكمتيار طار، وأنشد في الجيش الجرار:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
قيل لـ حكمتيار: ادخل كابل؟
قال: لا.
حتى يخرج منها أولاد الهرة بالمرة.
الحق أبلج والسيوف عوار فحذار من صولات حكمتيار
وحذار من جيش خميس بعده يصلي العدو بغيمة من قار
حكمتيار لا شرقي ولا غربي؛ لأن شيخ حكمت علمه الكتاب والحكمة، تاجه حنيفاً مسلماً، ومن كان منهجه أبيض نسي البيت الأبيض.
درس الطلاب التدمرية لـ ابن تيمية، فنجح (20%) لأنها: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25].
كان ابن تيمية يعلم الشباب، فسجنه الحجاب: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
هل سمعت نشيدة شيخ الإسلام؟
ولكنها من الشعر المنثور، لأن العبيد لا يفهمون إلا الشعر الحر.
يقول: أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى سرت فهي معي، قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة.
كتب القصيمي عن ابن تيمية: (في الصراع بين الإسلام والوثنية) لكن ابن تيمية أصيل والكاتب عميل؛ لأن الكاتب وارد بتروماكس، ومن فصيلة كارل ماركس: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175].
واحسرتاه على السبورة والطبشورة والملعب والكورة.
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
قال الحجاج لعجوز: والله لأقتلن ابنك؟
قالت العجوز: لو لم تقتله مات، وهذا من ذكاء العجوز، ولكن الطغاة لا يفهمون الرموز: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8].
أرسلنا شاعرنا إلى المربد ليغرد فعربد، ظننا أنه بالدين سوف يصول ويجول فذهب قليل الحياء يسب الرسول.
نبهناه فما أدرك؛ لأن الرجل مجمرك: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
شعراء مدحوا صداماً قبل الغزو وذموه بعده، قلنا: كشفناكم يا أوباش الولد للفراش.
هؤلاء لا ينفع معهم الوعظ؛ لأن المنافقين بعضهم من بعض.
موشي ديان:
قاتلوا موشي ديان في حزيران، فهربوا كالفئران؛ لأنه لم يحضر المعركة سيف الله أبو سليمان.
وأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارها الخطب
وقاتلت دوننا الأبواق صامتة أما الرجال فماتوا ثمّ أو هربوا
أشار شامير، قالوا: ماذا تريد؟
قال: مدريد.
فركبوا بالبريد فسحقاً للبليد.
قيل للرستمي: ألا تحج البيت العتيق؟ فأنشد بنغمة العاشق؛ لأنه عاشق:
حجي إلى الباب الجديد وكعبتي الباب العتيق وبالمصلى الموقف
والله لو عرف الحجيج مكاننا من زندروس وجسره ما عرفوا
أو شاهدوا زمن الربيع طوافنا بالخندقين عشية ما طوفوا
زار الحجيج منى وزار ذوو الهوى جسر الحسين وشعبه واستشرفوا
ورأوا ظباء الخيف في جنباته فرموا هنالك بالجمار وخيفوا
أرض حصاها جوهر وترابها مسك وماء المد فيها قرطفوا
قلت: أما سمع هذا بقوله سبحانه في تلك الدار: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] وعند ابن ماجة قال صلى الله عليه وسلم: {ألا مشمر للجنة؛ فإن الجنة -والذي نفسي بيده- نور يتلألأ، وقصر منيف، وشجرة تهتز}.
الخُطَّاب كثير؛ ولكن المهر غالي.
من صفات الخاطب: أن يترنم بالقرآن في السحر، وكثير من الخطاب ينام عن صلاة الفجر.
ومن صفاته: أنه يقدم مهجته حلية للمخطوبة وبعضهم يبخل بدرهمه:
ثمن المجد دم جدنا به فاسألوا كيف دفعنا الثمن
واسألوا ماذا فعلنا في الوغى يوم هال الهول فيها ودنا
الذبح للعاشق في سبيل معشوقه برد وسلام.
الرسول صلى الله عليه وسلم والإبل:
ذكر المجد في المنتقى أن رسولنا صلى الله عليه وسلم لما أراد أن ينحر الإبل في منى تسابقت إليه أيها ينحر أولاً، فمن أخبر البعير أن صاحب الحربة هو البشير النذير والسراج المنير، ما فرت الإبل وهو ينحر وما استقرت بل أقبلت ودنت؛ لأن التولي يوم الزحف حرام.
ويقبح من سواك الفعل عندي وتفعله فيحسن منك ذاكا
على عمد من التوفيق قدماً أحبك من أحبك واصطفاكا
خطب صاحب المنهج العظيم صلى الله عليه وسلم في جنوده يوم بدر فأخبرهم أن بينهم وبين الجنة القتل، من يقتل يدخل، ومن يُذبح يفلح، فقام عمير بن الحمام ورمى التمرات، ولسان حاله يقول: خذوا تمركم فالغداء هناك، وإجابة الدعوة واجبة، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، وكيف يجيب الأمر من ألهاه التمر؟
لله درك والردى متكالب والمشرفية تسحق الأبطالا
ووقفت تخطب والرءوس تطايرت أسقيت سيف العز حتى سالا
محمد بن حميد الطوسي:
حضر محمد بن حميد الطوسي المسلم القائد الشهير القتال مع الروم، فوقف يقطع رءوسهم من الفجر إلى الظهر، وما أحسن الذبح على الطريقة الإسلامية! فرَّ أصحابه فخجل أن يفر؛ لأن صاحب الشريعة لا يقر، فتكسر سيفه ومال رأسه فكفنه أبو تمام بقصيدته الخالدة:
لقد مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصر
تردَّى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضر
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر(228/10)
عشق النبي صلى الله عليه وسلم وأًصحابه للموت وزهدهم في الدنيا
وقف قائدنا عليه الصلاة والسلام أمام الكتيبة فسل السيف، وقال: {من يأخذ هذا السيف مني؟} فكلهم رفع يده وظنوا أن السيف جائزة فقال: {من يأخذه بحقه؟} فعلموا أن في المسألة سراً، فتوقفوا وألح أبو دجانة في الطلب وسأل القائد: ماحق السيف؟ فقال: {أن تضرب به في الأعداء حتى ينحني} فأخذه أبو دجانة يعدل به رءوس الضلال مرة في اليمين ومرة في الشمال، ينشب السيف في الجماجم فيهزه هزاً، لأن في الجماجم مسامير اللات والعزى، أخرج عصابته الحمراء من الجلباب، فقال الناس: خطر ممنوع الاقتراب.
ومن تكن الأسد الضواري جدوده يكن زاده رفداً ومطعمه غصبا
فحب الجبان النفس أورده البقا وحب الشجاع الحرب أورده الحربا(228/11)
مواقف وعبر من التاريخ
عندنا نحن أعظم ميراث عرفه التاريخ، وأكبر ثروة رأتها الدنيا، عندنا متون من الوحي، ما اختلطت بالطين؛ لأنها من رب العالمين، لكن الطلاب كسالى، المرعى أخضر لكن العنز مريضة، وثيقتنا نحن المسلمين كُتبت من أربعة عشر قرناً، خُطب بها على منابر المعمورة، وصُلي بها في محاريب القارات، وأُذِّن بها على منائر الكون.
والوحي مدرستي الكبرى وغار حرا ميلاد عمري وتوحيدي وإيماني
وثيقتي كتبت في اللوح وانهمرت آياتها فاقرءوا يا قوم قرآني
معجزتنا نحن أن معلمنا أميّ أعجز البلغاء، لا يكتب وقد أفحم الكتبة، ولا يقرأ ولكنه بذَّ القرّاء: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48].
وقف في عرفة صلى الله عليه وسلم محرماً أشعث أغبر ليخاطب الدنيا، فقال له مولاه في الموقف: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] فعلم أن النعمة ليست في ناقته القصواء ولا في حصيره الممزق الذي أثر في جنبه، ولا في درعه المرهون عند اليهود، ولا في الحجرين المربوطين على بطنه، إنما نعمته دعوته، وحبوره نوره، وسروره سيرته: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
صلى الله عليه وسلم، ما سكن قصراً والذين من بعده يغنون في القصور، وما بنى داراً والأدعياء يلمِّعون بالذهب الدورْ.
عقدة الوليد بن المغيرة في كفره بصاحب السيرة أنه ليس له صلى الله عليه وسلم كنز، وليس له جنة يأكل منها، وما علم أن صاحب الكنز والبنز والجنز لا يرشح للعز.
تركت الثرى خلفي لمن قل ماله وأوردت قلبي في عظيم الموارد
أعيناي كفا عن فؤادي فإنه من الظلم سعي اثنين في قتل واحد
فعل دستم مع حكمتيار كما فعل رستم مع عمار: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] دستم من رستم من طينة هليا مريام، الله كم دنستم، غرتكم الأماني حتى جاءكم الحق وتربصتم.
الله أكبر يا سني! تبخل بأضحية يوم النحر والنصيري ضحى بثلاثين ألفاً من أهل السنة في حماة.
النصيريون يجودون بالنفوس، وأهل الملة يبخلون بالتيوس.
أوما شهدت الخيل تعثر بالقنا حتى السبايا جردت بالمشهد
والمارد الجبار يخطر سيفه في رأس كل مكبر وموحد
تمزقت الأمة في هذا العصر، فالبعض ذبح والبعض في الأسر، ومن نجا نسي {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72].
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتمُ يا عباد الله إخوان(228/12)
المعتصم في عمورية
الآن مع المعتصم:
طار صوت المفجوعة من عمورية يعبر المحيطات، ينادي: وامعتصماه! فوصل الصوت قبل الصورة؛ فصاح المعتصم: قربوا أفراسي، وهاتوا أتراسي.
الجنسية مسلم، والنسل عباسي، أحرق المدن المعتصم؛ لأن ليلة النصر تحتاج إلى بخور، وهو ممن يرجون تجارة لن تبور، فغردت كتائبه وتراقصت ركائبه على إلياذة:
أجبت صوتاً زبطرياً هرقت له كأس الكرى ورضاب الخرَّد العرب
أبقيت جد بني الإسلام في صعد والمشركين ودار الشرك في صبب
المعتصم أبوه الرشيد، وجده ابن عباس فما أذعن لـ يوحنا ولا توماس: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11].
زياد بن أبيه أمه سمية يريد بني أمية، أنجب عبيد الله السمين ليقتل الحسين، جنود عبيد الله كالعجول يكبرون لمقتل ابن البتول:
ويكبرون بأن قتلت وإنما قتلوا بك التكبير والتهليلا(228/13)
علي بن أبي طالب في خيبر
خيبر:
خربت خيبر لماذا؟
لأنها بنيت على شفا جرف هار، حجر الزاوية كعب بن الأشرف، وسدة الباب بنجريون، والطباخة: جولدا مائير، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: يا علي! قال: مرحباً.
قال: اقتل مرحباً.
فخرج مرحباً يقول:
أنا الذي سمتني أمي مرحباً
قال لسان الحال: أمك سامرية عبدت العجل، وأم علي هاشمية لا تحب الدجل.
أنا الذي سمتني أمي حيدره
فتحدر سيف مرحب على سيف حيدر.
يا أبا السبطين أحسنت فزد فعلكم يا شيخنا فعل الأسد
رمد تفعل هذا بالعدى كيف لو عوفيت من ذاك الرمد
اسمع: بطاقة علي في الزحام مكتوب عليها: {يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله} وبطاقة مرحب: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [المائدة:13].
يا شباب الصحوة: من لا يدعو منكم ويؤثر فلا ينمنم ويثرثر: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده}.
إذا لم تصاحبنا فنرجوك لا تضاربنا، الذي بيته من زجاج لا يرمي بيوت الناس، والذي يضرب العود لا يحمل الفاس.
اللهم إنك نثرت على أهل الدنيا الدنانير فشروا الذمم بالدينار، اللهم فأعطنا تاج النجاة ننجو به من النار، أحرقونا فقلنا: أح، قال الصبر: هذا ما يصح.
لا تقل للنار أح إن قلت أحا فرح الباغي وسح الجرح سحا(228/14)
بنو إسرائيل والبقرة
بنو إسرائيل والبقرة: أمر الله بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، فأخذوا الأمر مستهترين، ورأى رسولنا صلى الله عليه وسلم بقراً تنحر في المنام في أحد فنُحر من أصحابه في المعركة سبعون، سوّد الله وجوه اليهود، قيل: اذبحوا بقرة، قالوا: ما بقرة؟
قيل: لا فارض ولا بكر، قالوا: لا بد من معرفة اللون، قيل: صفراء، قالوا: ما سنها؟
قيل: عوان بين ذلك، فتلكئوا وما كادوا يفعلون.
ومحمد عليه الصلاة والسلام طلب من الأنصار الحماية، قالوا: بالأرواح، والنصرة، قالوا: السلاح السلاح.
قال لهم بلال العزم: حي على الصلاة، قالوا: حي على الفلاح.
يقول خطيب الأنصار: {يا رسول الله! أعط من شئت، وامنع من شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، عسى الله أن يريك منا ما تقر به عينك} فقتل هذا الخطيب فاهتز له عرش الرحمن؛ لأن كلماته هزت القلوب، فكيف لا يهتز عرش علام الغيوب؟!
أحدهم ذهب يتعلم في جنيف كيف يصيد الشريعة؟
وصيد غير المعلم حرام؛ لأن الله يقول: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4].
عرفناك يوم الجزع تحدو ركابنا فلما ذهبنا عنك أشعلتها حربا
الحسن بن علي هاشمي ولكن ليس رفسنجاني، أعطاهم الملك بالمجان، أراد الخلافة فتذكر قول جده صلى الله عليه وسلم: {إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين}.
تنازل في مؤتمر القمة ليحقن دماء الأمة {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
أرسلناك تسابق على الخيل المضمرة من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق، فذهبت تتزلج على الثلوج وتصاحب العلوج، أما سمعت: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فهل أنت منا أم منهم؟
انتصر عبد الحميد بن باديس؛ لأنه لا يحب باريس.
وفضح الأمة أحمد بن بلا؛ لأن زنبيله صنع في مانيلا.
أنت تمازح الخواجات بالرطانة، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً} [آل عمران:118]
أشياخه صفر الجباه بـ دنفر هنري كسنجر خير مروياته
من رقعة المحجوب يروي متنه وسعاد ذات الخال من خالاته
زار أبو سفيان -وهو مشرك- ابنته رملة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل البيت رفعت فراش المعصوم خوفاً عليه من غبار الوثنية، لأن في الحديث: {لا يورد ممرض على مصح} والفراش الأَجَل لا يصلح لمن سجد لهبل.
وأدونيس شاعر الخبث والحداثة والإلحاد، أدونيس أبياته من الشيطان، وروح القدس يؤيد بالقوافي حسان، ولذلك استطاع شاعر الرسول أن يقول:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
وتقيأ أدونيس بعد أن بال الشيطان في أذنه، فقال:
خرافية تلك أسطورة هي الملة النحلة البائدة
حسان على وزن رضوان، وأدونيس على وزن إبليس: {ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب}.
حسان أزدي زكي من الأزد، وطاغور مزدكي: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].
تركيا نور نُسي بموت النورسي.
أتاتورك في النار في آخر درك، أتاتورك نجس البحيرة، وأوقع الأمة في حيرة، كسر ظهر الخلافة، ومزق عمامة المفتي، وهدم أعواد المنبر: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].
ألقيت أنت على الناس محاضرة فتبجحت بها في البادية والحاضرة، وعبد الله بن عمرو الأنصاري وجد مقتولاً به ثمانون طعنة فما أخبر أحداً؛ لأن صدقة السر تطفئ غضب الرب، والمحبون يستترون بالليل لزيارة المحبوب.
كم زورة لك في الأعراب داهية أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب
أزورهم وظلام الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي
تصدقت أنت على البوسنة والهرسك بخمسين ريالاً، وتمنيت بها على الله الأماني، وخالد بن الوليد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، ثم أتبعها خيله، ثم أتبعها نفسه.
جهز عثمان جيش العسرة من جيبه، فسمع الثمن نقداً على المنبر: {اللهم اغفر لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر}.
يقول المترفون: أنتم متطرفون! قلنا: أنتم تهرفون بما لا تعرفون، هذه فرية والدليل: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء:16].
حاول صبيغ بن عسل -هذا ملخبط في الشريعة- أن يلخبط بين الآيات ويشوش في المنهج، فضربه عمر بعصاً حتى أغمي عليه فاستفاق ولسان حاله يقول: أصبحنا وأصبح الملك لله، والحداثيون لخبطوا في الدين لخبطة ويحتاجون دواء كدواء صبيغ؛ لكن الطبيب مات.
تشفي بسيفك داء الناكثين له وتجعل الرمح تاج الفارس البطل
يقول فرعون لموسى: وفعلت فعلتك، قلنا: وأنت يا مجرم! ما فعلت شيئاً يا أبا الفعايل.
قلنا: أنت يا فرعون! يا أبا الفعايل! ما فعلت شيئاً، أبصرت القذى في إناء موسى ولم ترَ الجذع في إنائك.
إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر(228/15)
الحجاج في عرفات
وقفوا في عرفات ما يقارب الثلاثة ملايين يسألون رباً غنياً قديراً رحيماً حليماً، عطاؤه كلام وفعله كلام بقوله كن فيكون.
أتيناك بالفقر ياذا الغنى وأنت الذي لم تزل محسنا
وعودتنا كل فضل عسى يدوم الذي منك عودتنا
فما في الغنى أحد مثلكم وفي الفقر لا أحد مثلنا
وقصت ناقة محرماً بـ عرفة فقتلته، وصاحب المنهج عليه الصلاة والسلام موجود، فقال: {كفنوه في ثوبيه وجنبوه الطيب، ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً}.
هل تأملت الصورة؟ هل رأيت المشهد؟
إذا أهل هذا الميت من قبره ملبياً وميقاته قبره، ومن تجاوز الميقات يريد الحج بلا إحرام فعليه دم، وهذا يريد الجنة لأنه مطلوب هناك،
و
الجواب
لبيك اللهم لبيك.
أتيناكم نخب السير خبا ونحمل في حشايا القلب حبا
نهيم بينكم شوقاً ونسقي بدمع العين في العرصات صبا
فهيا سامحونا قد أسأنا وهيا فاغفروا يا رب ذنبا
تقرب غيرنا لسواك جهلاً ونحن لقربكم نزداد قربا
{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:194].
بجانب هيئة الإذاعة البريطانية شاعر عربي قام في الصباح ينشد:
أنت القوي فقد حملت عقيدة أما سواك فحاملو أسفار
يتعلقون بهذه الدنيا وقد طبعت على الإيراد والإصدار
دنيا وباعوا دونها العليا فيا بؤساً لبيع المشتري والشار
يا أيها الذين آمنوا! مالكم لا تنفقون من كنوز الرسالة دنانير الحكم، وصاحب الغلة يقول: {بلغوا عني ولو آية} كل منكم بحسبه، من لم يجد سيفاً فعصا، وافعلوا فعل علي بن عمار هجم عليه الأسد وسيفه معلق في بيته، ولو انتظر وصول السيف لوصل رأسه إلى الأرض على الكيف!! فأخذ هراوة غليظة وفلق بها هام الأسد حتى يأتي المدد، فحياه أبو الطيب المتنبي فقال:
أمعفر ليث الهزبر بصوته لمن ادخرت الصارم المسلولا
إذا لم تلق محاضرة فاحضرها، وإذا لم تدبج خطبة فكلمة: أنفق رجل من بره من تمره من درهمه من ديناره من علمه من شعره من فكره، الذي لا يركب في سفينة الصحوة رضي بأن يكون مع الخوالف، فليس لهم في الغنيمة قسم، ولا في الخيالة اسم، ولا في الديوانية رسم.
بعضهم يحفظ المتون ويجمع الفنون، كتب الحواشي وهو ماشي، قلنا: علِّم، قال: حتى أتعلم، قلنا: أجل درس، قال: حتى أؤسس، فقلنا: هل سمعت: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161]؟
قم خاطب الدنيا بنبرتك التي عزفت قلوب الأهل والأصحاب
فمنابر التوحيد من خُطَّابها ومحافل العلياء للخطاب
شبيب الخارجي من الخوارج، بطل لكنه مبتدع؛ شبيب الخارجي في ستين من أصحابه هزم ثلاثة آلاف، وكان في المعركة ينعس على البغلة من ثباتة الجأش وشجاعة القلب، قلنا: دعونا من نعاس الخوارج فأين نعاس أهل السنة: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11]؟ فنعاس طلحة بن عبيد الله في أحد خير من نعاس شبيب؛ لأن طلحة متبع وشبيب مبتدع، وطلحة من نكاح وشبيب من سفاح.
قوم أبوهم سنان حين تندبهم طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
لو كان يُقعد فوق الشمس من كرم قوم بآبائهم أو مجدهم قعدوا
غفار من المغفرة، وأسلم من المسالمة، وعصية من المعصية، ثلاث قبائل وافقت أسماؤها مسمياتها، فقال المعلم العظيم صلى الله عليه وسلم: {غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، وعصية عصت الله ورسوله} وأقول: وماركس أركسه الله.(228/16)
دروس وفوائد من الحاضر والماضي
العرب في حزيران:
حارب في حزيران نصراني ونصيري وناصري، فضاع منهم النصر لأن الأنصار غابوا عن المعركة فغاب شعار: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7] وشعار: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160].
ناصريون والجيوش سبايا وكبار الضباط فيهم إماء
وحدويون والبلاد شظايا كل جزء من لحمها أجزاء
ماركسيون والجماهير جوعى فلماذا لا يشبع الفقراء
صاحب المنهج يدرس الطلاب في الفصل وفي الفصل منافقون لم يعرفهم، فأنزل الله: {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101] فلاحظ التصرفات والتلونات: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] فلما انكشفوا سمع {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
الأعمش المحدث الكبير الزاهد: أراد السلطان أن يشتري الأعمش المحدث الكبير برسالة فيها فتوى لتكون حبة الطائر، فإذا وقع في الشباك قيل له: نصيبك ما أخطاك، عرف الأعمش العلة؛ لأنه عالم بعلل الأسانيد وتدريس الرجال، فأعطى الرسالة شاة عنده فأكلت الرسالة، وحملها الخطأ؛ لأنها تأكل الرسائل.
فلا كتْب إلا المشرفيات عنده ولا خط إلا بالقنا والقنابل
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب:39].
العقيدة الإسلامية لا شرقية ولا غربية، يكاد زيت أصالتها يضيء ولو لم تمسسه نار الشوق، فكيف إذا اجتمع نور الفطرة ونور الاتباع؟!: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
قال اليهود لموسى عليه السلام: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] وقال الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام: {لو استعرضت بنا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد} فتقطعوا أمامه، فكل بيت فيه قتيل.
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
في كفك الشهم من حبل الهدى طرف على الصراط وفي أرواحنا طرف
فكن شهيداً على ما في القلوب فما تحوي الضمائر منا فوق ما نصف
{فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:148].(228/17)
صورة من تحايل اليهود على الدين
يقول رسولنا عليه الصلاة والسلام: {لعن الله اليهود؛ إن الله لما حرم عليهم شحوم الميتة جملوه فباعوه فأكلوا ثمنه} وذلك يسمع الغناء ويقول: غناء إسلامي، والبعيد يتناول المسكر ويقول: شراب الروح.
وعلام الغيوب لا يُلعب عليه كما يلعب على الصبيان، ولا يخادع كما يخادع الولدان: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
الحسن البصري: قال الحسن البصري: يا بن آدم! خالف موسى الخضر ثلاث مرات، فقال: هذا فراق بيني وبينك، وأنت تخالف الله في اليوم مرات ألا تخشى أن يقول هذا فراق بيني وبينك؟!
اغفر اللهم رب ذنبنا ثم زدنا من عطاياك الجسام
لا تعاقبنا فقد عاقبنا قلق أسهرنا جنح الظلام
العالم ينتظر من يدعوه إلى الإسلام، والملة تحتاج إلى حملة التمر مقفزي لكن البخل مروزي: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].
رفع خبيب بن عدي الصحابي الشهيد، رفعوه على خشبة الموت فأنشد طرباً، وامتلأ عجباً، وقال قصيدة الحب كل الحب، فسمع المحبون لكن عبدة الأصنام في سكرة يعمهون:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
ما يحلو الشعر إلا في المعمعة: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6] قال خبيب للكفار: انظروني لحظة! قالوا: تكتب الوصية؟
قال لسان الحال: لا ميراث، لكن أصلي ركعتين، أراد أن يطيلهما فخاف أن يوصم بالجبن وهو أبو الشجاعة، رفعوه على المشنقة فدعا دعاء القنوت على الكفار، وقال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحداً، آمين.(228/18)
من مواقف السلف في الثبات على الدين
قبيلة خزاعة:
استحت خزاعة من ربها أن ترد الحوض بلا بطل، فأنجبت أحمد بن نصر الخزاعي حامل لواء السنة، محدث بغداد، رأى المداد يلطخ ثياب طلاب السنة، فعزم أن يلطخ بدمه ثياب المبتدعة، قال له الخليفة الواثق: وافق، قال: لا يا منافق، فنحره بالخنجر فوقع ميتاً لتحيا السنة:
دم أزكى من المسك المصفى وروح في ذكاء الأقحوان
وتاريخ من الإقدام فعم كأن بريقه نصل يماني
{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] الصدق حبيب الله، وصل الطعن في الأمة الرقبة، أمة دمها رخيص، ودماء الناس غالية، يتيمها في المحافل يبكي، وشيخها على القديم ينوح، تربية اللحى، وركعة الضحى ثابتة شرعاً، لكن نقض الميثاق وخلط الأوراق من أركان النفاق.
إذا لم تتهجد فاحضر الجماعة في المسجد، الذي يكشف صادقنا من كاذبنا صلاة الفجر والعشاء.
أتى ابن المبارك المحدث الكبير أمير المؤمنين في الحديث إلى زمزم ليشرب فذكر حديثاً من مروياته نصه: {ماء زمزم لما شرب له} فقال: اللهم إني أشربه لضمأ ذاك اليوم، فدمعت العيون.
ابن المبارك يعلم أن زمزم الوحي يشرب منه ليستشفى به من العلل، لكن من يقنع من يطلب العلاج في بروكسل بقناعة ابن المبارك:
من زمزم قد سقينا الناس قاطبة وجيلنا اليوم من أعدائنا شربا
وقال زميلي سلمان وأحسن أيما إحسان:
زمزم في بلدي لكن فمن يقنع الناس بجدوى زمزم
سمع ابن المبارك صياح المجاهدين، وهو يتقلب في الساجدين، ففك لجام البغلة وهتف:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمناً
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
ذهب إلى الشمال، يقطع رءوس الضلال، فلامه الفضيل على ترك الحرم، ولسان الحال يقول: ترك الجهاد حرام، فكتب ابن المبارك إلى الفضيل إلياذة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
فتمنى المصلون عند الركن اليماني أنهم يقاتلون الكفار بالسيف اليماني: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195].
شرب الخمر شارب في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فأدبه صلى الله عليه وسلم، وقام العذال فسبوا الشارب، فقال المعصوم عليه الصلاة والسلام: {ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله}.
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
الحديد والخشب:
الحديد يتمدد بالحرارة وينكمش بالبرودة -هذه الفائدة تكتب بماء الخشب- والخشب يتمدد بالبرودة وينكمش بالحرارة، وبعض الناس لا يتمدد ولا ينكمش: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي
أحد الرؤساء سجن العلماء، ثم خطب في الدهماء، وقال: أنا إمام عادل كـ عمر بن الخطاب، فقال أحد العلماء: نعم.
عمر إمام عادل، وأنت عادل إمام.
تقايس بين طلحة وابن ساوي رعاك الله ما هذا التساوي
فـ طلحة مشرق الطلعات بدر وذاك الجلف في الحانات عاوي
أظلمت الدنيا، صدام إمام، وطارق عزيز يؤذن، وعزت إبراهيم يخطب، ومن صلى وراءهم فليعد صلاته، لأن الكيماوي المزدوج في جيب صدام، والصليب على صدر يوحنا وعزت إبراهيم يطلق الأسكود، وطه ياسين رمضان يصفق لأبطال أم الهزائم.
كلما انخفضت الأسهم ارتفع ضغط الدم؛ لأن الشيك مكتوب عليه: {وإذا شيك فلا انتقش} كل شيك من ربا معه شوكة من لظى: {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور:16].
علمناك الفاتحة تصلي بها التراويح في الليالي، فتركتها وذهبت تغني البارحة: ما نمت مما جرى لي!
الكلاب تحب الجيف، والأسود تأكل مما تقتل، ومن رضي بأفكار البشر عن وحي رب البشر، فبشره بسقر، لا تبقي ولا تذر.
زياد بري:
براءة من الله ورسوله إلى زياد بري، شنق علماء المالكية والشنق عند مالك حرام.
مالك لا يرى الشنق، وهو حرام عنده:
جزى الله عنا المالكية ما جزى عن الدين أصحاب الإمام المبجل
هم وردوا حوض المنايا أعزة وقد أنفوا أن يصحبوا كل مبطل
روى البخاري في كتاب الرقاق أن علياً قال: [[إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن الدنيا عمل ولا حساب، والآخرة حساب ولا عمل]] وفي ترجمته رضي الله عنه يقول: [[يا دنيا يا دنية! غري غيري، زادك حقير، وعمرك قصير، وسفرك طويل، آه! من قلة الزاد وبعد السفر، ولقاء الموت.
يا دنيا! طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها]] وعلي لا يرى نكاح المحلل؛ لأنه راوي حديث أبي داود: {لعن الله المحلِّل والمحلَّل له}.
عمر:
لما شمر عمر ثوبة في اليقظة جره في المنام، والقميص في النوم هو الدين واليقين، وأبو حفص أحد الأساطين.
نام عمر بلا حراسة تحت الشجرة؛ لأنه خوف الفجرة، عدل في الرعية، فنام في البرية، كان في التاريخ دُرة، لأن له دِرة فلله دَرُّه.
الكعبة، وحبة القلب، وإنسان العين، كلها سود، فلا عاش الحسود:
يروق لي منظر البيت العتيق إذا بدا لطرفي في الإصباح والطفل
كأن حلته السوداء قد نسجت من حبة القلب أو من أسود المقل
أسامة بن زيد رضي الله عنه أسود، وأبو لهب أبيض، ويوم تبيض وجوه وتسود وجوه، يبيض الأول ويسود الثاني؛ لأن بياض أبي لهب بهرجاني: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] في الليل إشفاق وفي النهار إنفاق، النوم لذيذ ولكن الخوف أطاره، وبعض العباد كان يتمنى أن يطول الليل:
طاول بها الليل ضن الجفن أو سمحا وما طل النجم مال النجم أو جنحا
فإن تشكت فعللها المجرة من ذوي الصباح وعدها بالقدوم ضحى
أسرار القرآن تبوح في الليل، والخوف والرجاء يتسابقان في الدجى.
في صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها أنها سُئِلت: متى يقوم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قالت: {كان إذا سمع الصارخ وثب} تقول: وثب ولم تقل: قام، وأنت عربي تعرف معنى: وثب، والصارخ: هو الديك:
يُصوت ديك الحي من حر ما بنا ويرثي لنا القمري ويبكي لنا الحجل
إذا ما بكتك الطير فاعلم بأنه تقارب منك العمر بل زارك الأجل
يقول عليه الصلاة والسلام: {نعم عبد الله لو كان يصلي من الليل} فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً.
إذا لم تصبر للسهر فركعتان عند السحر {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:25] نحن نتحدث عن الربح وقد وقع النقص في رأس المال، لأن من لا يحضر الفجر جماعة لا يرشح لطاعة، طالب الأمة بالفرائض قبل النوافل، أما قيام الليل فلذلك الرعيل، والخيل المضمرة تسبق الخيل التي لم تضمَّر:
دعنا من التشبيه فـ السلف الأولى قاموا الدجى وتقطعوا في المعترك
هم درجات عند ربك في العلا فلا تقارن حب عمار بحبك
يقول شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي: عرضت على السيف خمس مرات لا يقال لي: اترك مذهبك، بل يقال: لا تتعرض للمذاهب، فقلت: لا.
قلنا: أما أنت فما سمعنا بمثلك وما عندنا إلا هروي واحد، وما سميت شيخ الإسلام إلا بعد تعب، قالوا لتلميذ الأنصاري هذا قبل أن يقتل: قل لا إله إلا الله؟
فقال: إن شيخي قال لي: إن الدابة لا تسمن في أسفل العقبة، وصدق الأنصاري.
تريد أن تتعامل بالربا فإذا حشرجت النفس تبت، تسمع الغناء فإذا حضر اليقين كسرت العود، تتهاون في الصلاة فإذا حانت الوفاة أذنت: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]
أترجو أن تكون وأنت شيخ كما قد كنت في عصر الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب جديد كالخليق من الثياب(228/19)
فتوى النابلسي في الفاطميين
أفتى النابلسي محدث مصر العظيم، فقال: من عنده عشرة أسهم فليرم النصارى بسهم، والفاطميين بتسعة أسهم، فغلط الجاسوس، فرفع الخبر للسلطان وفيه: فليرم النصارى بتسعة والفاطميين بسهم، فاستدعى السلطان النابلسي وقرأ عليه الخبر، فقال: هذا غلط، حرفتم الفتيا، قلت: يرميكم بتسعة والنصارى بسهم، فصاح السلطان: علي بالجزار والسكين، فصاح النابلسي: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:72 - 73] فأخذه يهودي يسلخ جلده سلخاً بالسكين كما تسلخ الشاة، علقوه بقدميه فأخذ يسبح بأصابعه؛ لأنه من رواة حديث: {من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر}.
ألم أقل لكم: لن تجدوا أشجع من أهل السنة وقت التضحيات!
السني وقت التضحية يزري بالبعثي والناصري والقومي، لأن السني من سلالة أبطال بدر وأحد، وأولئك من سلالة أبطال حزيران وأيلول الأسود:
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ولو كان سيفي في يمينك لانتحى عليك ولكن فات يوم التلاوم
مطعم العلماء، ومكرم الفقراء: أطعم ابن بقية الوزير المساكين والفقراء وأكرم العلماء، فغار منه السلطان، واحتال عليه حتى قتله وصلبه، فلما ارتفع على الخشبة مصلوباً وقفت الأمة كلها بوقوفه، فطافت به قلوب المحبين، ونامت بغداد على أصوات البكاء، فترجل أبو الحسن الأنباري عن فرسه إلى خشبة الصلب، وسلم على الجثمان ودشنه بتلك القصيدة التي من لم يحفظها ففي تذوقه للشعر نظر:
علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
كأنك قائم فيهم خطيباً وهم وقفوا قياماً للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاءً كمدهما إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن يواروا فيه تلك المكرمات
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا عن الأكفان ثوب السافيات
لعظمك في النفوس تبيت ترعى بحراس وحفاظ ثقات
وتوقد حولك النيران ليلاً كذلك كنت أيام الحياة
وما لك تربة فأقول تسقى لأنك نصب هطل الهاطلات
أصبحت خشبة ابن بقية مسرحاً تلقى عليه قصائد المادحين، وخطب المثنين، وأصبح من قتله في صغار كأنه طلي بالقار.
الذي يعشق الليالي الحمراء لا يستعيد قرطبة والزهراء، ومن يستورد أفكارهم من لندن ويسهر على دندن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
خرج سعد بن أبي وقاص -بطل القادسية - على الرسول عليه الصلاة والسلام ومعه الصحابة، فلما رأوا سعداً قال عليه الصلاة والسلام: {هذا خالي فليرني كل خاله} فلم يخرج أحد خالاً كخاله، المتحدي قوي والمتحدى به أبي.
فلما حضرت القادسية والجموع الفارسية، حضر الخال يقود الأبطال، فحصل النصر قبل العصر؛ لأن الناصر هو القهار، والقائد خال المختار:
وقفت لك الأبطال تصغي في الوغى ووقفت تخطب بالقنا الخطار
والخيل تسمع والكتائب صفقت وترى الجماجم أحرقت بالنار
أرسل القائد العظيم صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس ليقتل خالد بن سفيان الهذلي، عدو الدين فقتله واحتز رأسه ليعطي المعصوم البينة على قتله، فسلم الرأس وضمن له صلى الله عليه وسلم الجنة، وشهد العقد الحضور، وأعطاه صلى الله عليه وسلم عصا؛ ليتوكأ بها في الجنة زيادة في التبجيل:
يتوكئون على العصا من هيبة أهل الرزانة في حضور المحفل
قرع العصا عند الخطابة دأبهم لا يتركون الخطب حتى ينجلي
أدخل ابن أنيس رأسه في الجنة لما أدخل رأس خالد الهذلي النار، رأس برأس والجروح قصاص.
أم سليم أنصارية، لا تملك ذهباً ولا فضة، أرادت أن تهدي لمعلم البشرية هدية، فما وجدت أغلى من ابنها أنس، فدفعته خادماً للإمام، فقال لسان الحال: يا بشرى هذا غلام، فكان ثواب الهدية: {اللهم أطل عمره، وكثِّر ماله وولده، واغفر ذنبه} فسعد الخادم بخدمة المخدوم سعادة لا شقاء بعدها.
أم سليم مهرها من أبي طلحة؛ لا إله إلا الله، فأخجلت بمهرها كل فتاة تغالي في المهر، يقول عليه الصلاة والسلام: {دخلت الجنة البارحة، فرأيت الرميصاء في الجنة} والرميصاء أم سليم لأن مهرها أدخلها من الباب، فأذن لها الحجاب، عرفت المفتاح فسكنت الدار:
لك الله من مخطوبة عز مهرها تعالت بثوب المجد عن كل خاطب
أبوها من الأعياص زينب أمها وزينب بنت الفضل لا كالزيانب(228/20)
جابر والجمل
جابر الأنصاري والجمل.
جاء جابر بالجمل فاشتراه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما قبض جابر الثمن رد عليه الجمل، وقال له: خذ الثمن والجمل، بارك الله لك فيه، قال بعضهم: ليذكره بأن الله هدى أباه عبد الله بن عمرو ثم وفقه للشهادة ثم رد عليه روحه، ثم أدخله الجنة ثم كلمه:
تلك المكارم لا قصور قضاعة الذل في جنبات تلك يصفق
نار تضيء على الثنية في الدجى سرب الجموع على القرى يتدفق
جابر بن عبد الله يقرأ المدح في أبيه كل صباح: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] ما أجل الذبح! وما أحسن المدح!
ما كان لأهل الصحوة ومن حولهم من المحبين أن يتخلفوا عن قافلة محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك بأنه لا يصيبهم ضمأ المشقة والبذل، ولا يطئون موطأً يغيض كل كافر ونذل، إلا كتب لهم في الصحائف كما وعُد بذلك في المصاحف.
أراد المعتصم أن يغزو الروم، قال المنجمون: البرج في الذنب، فلا تخرج للغزو وقت الذنب والعقرب في البروج، قال: ما أعرف الذنب من العقرب، هذا الذنب ومد سيفه، وهذا العقرب ومد رمحه، وأفتاه أبو تمام بجواز الخروج، وقال له في الفتوى:
والعلم في شهب الأرماح لامعة بين الخميسين لا في السبعة الشهب
بهارج وأحاديث ملفقة ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
الأنصاري وقل هو الله أحد:
صلى إمام الأنصار بهم، فكان يقرأ في كل ركعة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] مع سورة، فقيل له: إما أن تكتفي بها وإما أن تقرأ غيرها، قال: إما أن أصلي بكم وأقرأها وإما أن أعتزل الإمامة، فسأله المعصوم عليه الصلاة والسلام: {لماذا تقرأها في كل ركعة؟
قال: لأن فيها صفة الرحمن فأنا أحبها -فتوجه بتاج- حبك إياها أدخلك الجنة}:
وداعٍ دعا إذ نحن بـ الخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري
دعى باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائراً كان في صدري
أولئك القوم يحبهم ويحبونه، فخلف من بعدهم خلف لا يحبهم ولا يحبونه، والعياذ بالله.
ابن رواحة الأنصاري بايع الرسول عليه الصلاة والسلام في العقبة، وبعد العقد قال: {ربح البيع والله لا نقيل ولا نستقيل} وتفرقا من المجلس، وفي الصحيحين: {البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تفرقا فقد وجب البيع} فجاء ابن رواحة بالثمن فدفعه في مؤتة:
فما مات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتلت عليه القنا السمر
موقف:
هل سألت الشمس عنا والقمر يوم حررنا من الرق البشر
ولوينا رأس كسرى في الوغى ونصبنا العدل في دار عمر(228/21)
حال الأمة في العصر الحاضر
أصبحت الأمة مثل قبيلة باهلة، كلما فاخرتها العرب قالت: منا قتيبة بن مسلم لكن مات يرحمه الله، كلما قالت لنا الأمم: انظروا لإبداعنا واختراعنا وإنتاجنا ونتاجنا، قلنا: منا عمر وصلاح الدين والمثنى، فإلى متى هذا الخداع؟ {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]
إذا فخرت بأقوام لهم شرف نعم صدقت ولكن بئسما ولدوا
أهل السنة ذهب أحمر لا تزيده النار إلا لمعاناً، وأهل البدعة خبث الحديد، يحترق الخبث ويذوب الحديد: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
أحمد بن حنبل شيعه مليون، وأحمدهم ابن أبي دؤاد شيعه ثلاثة لكن بالأجرة.
ذرفت إحدى عيني سعيد بن المسيب رحمه الله من البكاء في السحر، وبقي على عين واحدة، يحضر بها صلاة العتمة، والمرثية تقول:
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
فليست عشيات اللوى برواجع عليك ولكن خل عينيك تدمعا
{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83] سعيد بن المسيب سجل للمكرمات، وديوان للصالحات، خمسون سنة ما فاتته تكبيرة الإحرام، دائماً في الصف الأول، لأن الرباني يأنف من الصف الثاني.
الوليد بن عبد الملك وسعيد بن المسيب:
خطب الوليد ابنة سعيد، قال: لا أزوج البليد، فجلدوه مائة بالجريد، كان يجلد في حر المدينة وقتادة بن دعامة السدوسي يستمري الحديد في القرطاس والضرب على الرأس، لماذا لم يزوج سعيد الوليد وهو ولي العهد، لأن العقد لم يتم لمن ينقض العهد: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
ابن هبيرة الحنبلي:
عطس ابن هبيرة فشمته أهل بغداد كلهم؛ لأنه سني، وأهل السنة يرون مشروعية تشميت العاطس، فانظروا ما أعظم الحب والقبول.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96].
ابن هبيرة وزير، ولكن لا يعرف الطبلة ولا الزير، استسقى في منى للحجاج فنزل المطر كالأمواج، كنيته أبو المظفر، يقول فيه الخليفة المستنجد:
ولم نرَ من ينوي لك السوء يا أبا المظفر إلا كنت أنت المظفر
وزهدك والدنيا إليك فقيرة وجودك والمعروف في الناس ينكر
سهل بن عبد الله التستري:
دخل سهل بن عبد الله التستري على أبي داود صاحب السنن، فسألة بالله أن يلبي مسألته، قال: ما هي مسألتك؟ قال: أن تخرج لي لسانك لأقبلها لأنها روت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ففعل، اللسان السني وصاحبه إمام سنة: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]:
ألم تر أن الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا
محدثان سنيان:
حماد بن سلمة بن دينار وحماد بن زيد بن درهم والدينار عشرة دراهم، وفارق الصرف يخبر بأحسن الرجلين، فهل فهمت الحساب؟ والدراهم كلها سنية، أما درهم المبتدعة فلا يساوي فلساً.
كثرت مجالس اللغو، هذا يتحدث عن دنياه، وهذا عن ديناره، وذاك عن داره، وذاك عن قصره، عندها قال معاذ رضي الله عنه لأخيه: [[اجلس بنا نؤمن ساعة]] وهذه الساعة لله وفي الله عز وجل، حديث في أسمائه وصفاته وآياته وأفعاله:
يطيب حديثنا فيكم ويحلو ويغلو عند ذكركم الكلام
وأما غيركم فالقلب يأبى حرام مدح غيركم حرام
{أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فكيف يطمئن قلب من أصعب الأشياء عليه أن تحدثه عن الله عز وجل؟: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45].(228/22)
من مظاهر الإسلام في الخلافة الراشدة
أرسل عمر أميراً على بيسان ليقيم هناك السنة والقرآن، فسمر الأمير وغنى في الليل:
إذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم
فدعاه عمر، وقال: [[والله لقد ساءني]] فاستدعاه عمر بعد الخبر، وغضب وبسر؛ لأن الخلافة الراشدة لا تتحمل تبعات الأبيات، واستدعى الوالي فعزله؛ لأن الأمة كانت تعزل والقرآن ينزل، فمات عمر ليبقى صدام في الخلافة خمسين عاماً كلها ذبح للشيوخ والأيتام، وعليكم السلام.
ابن الراوندي يهودي لعله نزعه عرق، ألف كتاب الدامغ يدمغ به القرآن، دمغ الله رأسه في النار، ترجم له ابن خلكان فملس عليه وتسامح معه، كأن الكلب لم يأكل له عجيناً، فأين الغضب للدين والملة؟ ولماذا هذا الإنهزام والذلة؟!
والذهبي من ذهب السنة معدنه، لما ترجم لـ ابن الراوندي قال: هو الكلب المعثر، لأن الذهبي يكتب بقلم الولاء والبراء، وابن خلكان يسجل بقلم العجائز كان يا ماكان.
أهل السنة ينقدون الرجال، فليس عندهم للتدريس مجال:
أنت يا أستاذ موفور الأدب لا تزك كل من هب ودب
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء:135].
أيها الإخوة: تمت الحلقة الأولى من محاضرة: مصارع العشاق، والحلقة الثانية -إن شاء الله- في الأسبوع المقبل، وسوف تعاد هذه الحلقة -إن شاء الله- في مدينة عنيزة بـ القصيم مساء الإثنين، فأسأل الله العظيم لي ولكم التوفيق والهداية.
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
أشكركم على الحضور، ولي تحية لمن حضر من المصطافين، وأخص الشباب من الإمارات العربية المتحدة، وأرحب بإخوتي الطلاب الذين هم في أيام الامتحان ومع ذلك آثروا الحضور، وسامحوا بأوقاتهم، وطلبوا مرضاة الله عز وجل، واحتسبوا الأجر، وسعد بهم هذا الجامع، وارتفعت أنفاسهم إلى الذي يصعد إليه الكلم الطيب، وحفتهم الملائكة، وتنزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده، أسأل الله أن ينجحهم في الامتحان، وأن يثبتنا وإياهم في الدنيا والآخرة، وأن يتولانا في الدارين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وإلى مصارع العشاق في الأسبوع القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(228/23)
الأسد في براثنه
للإسلام رجال بذكرهم توقظ الهمم وتحيا القلوب، وفي قصصهم عبرة، وفي هذا الدرس قصة لأسد من أسود الإسلام، وزاهد من زهاده، ورجل من كبار رجاله، ألا وهو سعد بن أبي وقاص.(229/1)
من هو الأسد في براثنه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، في هذا الأسبوع الأخير من شهر محرم مساء يوم السبت لعام 1413هـ أحييكم بتحية الإسلام الخالدة، وعنوان هذا الدرس: "الأسد في براثنه".(229/2)
عرض عام لأهم مواقف الأسد (سعد بن أبي وقاص)
من هو الأسد في براثنه؟ ومن هو الذي استحق هذا اللقب حتى أصبح يعرف به، فإذا أطلق الأسد في براثنه انصب اللقب عليه، فأصبح تاجاً على رأسه؟
إنه الرجل الذي أثبت للتاريخ أن قوة الإيمان أعظم من صولة الطغيان، وأن تكبيرات المؤمنين أدهى من مدافع الملحدين.
إنه الرجل الذي افتتح خطبته في القادسية أمام الجيش بقوله: [[بسم الله الرحمن الرحيم {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]]] إنه الرجل الذي قال لجيشه: [[اعبروا النهر بإذن الله]] فلما أرادوا أن يعبروا النهر تلكئوا، ووقفوا قال: [[يا خيل الله اركبي]] فركب النهر فجمد النهر حتى أصبح يابساً كالتراب.
إنه الذي دخل إيوان كسرى يهتف منتصراً: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} [الدخان:25 - 28].
إنه الرجل الذي أطفأ نار المجوس التي كانت تعبد من دون الله، وحول العراق إلى أمة تعبد الله وحده، وتقول: لا إله إلا الله وتتجه إلى الله
فالنار خامدة الأنفاس من أسف والنور يهتف في الأسواق من طرب
يا هازم الفرس هذا يومك انبلجت أنواره بصليل الهول والقضب
من هو؟
إنه الرجل الذي رآه عليه الصلاة السلام بين الناس، فقال: {هذا خالي فليرني كلٌّ خاله} والمعنى: من كان عنده خال كهذا الخال فليخرجه لنا، وهو تحدٍ معناه: من كان عنده من الخئولة كهذا الرجل فليرنا خاله، هذا الرجل هو أول من رمى بسهم في سبيل الله على أعداء الله، فمن هو هذا الرجل؟
هذا الرجل هو الذي كان الرسول عليه الصلاة السلام يحمل له الأسهم في أحد ويقول حين يسلم له السهم ليرمي: {ارم سعد؛ فداك أبي وأمي}.(229/3)
الأسد هو سعد بن أبي وقاص
إذن هو أبو إسحاق سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة، أحد الذين رشحوا للخلافة، فترك الخلافة والملك وخرج بضأنه إلى الصحراء يرعاها، ويقول: إني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله يحب العبد الغني التقي الخفي}.
السلام على سعد بن أبي وقاص، سلام الله عليه يوم أسلم، وسلام الله عليه يوم يموت، وسلام الله عليه يوم يبعث حياً، اللهم اجمعنا بـ سعد بن أبي وقاص في جنات النعيم، واجعلنا ممن يتبع نهجه.(229/4)
آثاره وقصصه وما يستفاد منها
أيها الإخوة الفضلاء: أحاديثه عطرة، وسيرته مجيدة، وسوف تكون هذه المحاضرة على شقين:
الشق الأول: ما ورد فيه من آثار وقصص، وسوف أسردها سرداً مع بعض التعليق، وأعتني بتخريج أحاديثها إن شاء الله، وبعزوها إلى مصادرها في كتب الأحاديث والسير والتراجم.
الشق الثاني: ماذا نستفيد من القصص العجيبة لهذا الرجل، الذي هو من رجال الأمة الخالدة المجيدة، وتلميذ من تلاميذ محمد صلى الله عليه وسلم، وبطل من الأبطال، فتح العراق ودكدك فارس، وقاد المؤمنين في معركة من أعظم معارك الإسلام، قادهم في القادسية، إنها قادسية (لا إله إلا الله) وليست قادسية الرافضة والبعث؛ حاشا وكلا!!
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم(229/5)
مقتطفات من سيرة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
روى الإمام أحمد والحاكم وابن جرير والبزار وابن مردويه أن سعداً رضي الله عنه مر على عثمان بن عفان فسلم عليه، فلم يرد عليه عثمان السلام، وهذه في خلافة عمر، فذهب سعد إلى عمر وكانوا يعيشون على الصراحة وعدم المجاملة والنفاق، وعلى البعد عن المراءاة، والتزكية والتلميع والتطبيل والدجل.
ذهب إلى عمر وهو أمير المؤمنين فاشتكاه وقال: يا أمير المؤمنين! سلمت على عثمان فلم يرد السلام، فاستدعاه عمر، وقال: سلم عليك أخوك فما رددت عليه السلام؟ قال: والله ما رأيته ولا سمعته، قال: يا سعد! ما هذا؟ قال: والله لقد سلمت عليه ومررت به فما رد عليَّ السلام.
فقال: ما هذا يا عثمان؟ قال: يا أمير المؤمنين! أنا واله، غشي بصري وقلبي أمرٌ الله أعلم به، حتى إني أذهل كثيراً فلا أعلم من يسلم علي ومن يمر بي، قال: وماذا أذهلك؟ قال: كلمة سمعتها من الرسول صلى الله عليه وسلم ما حفظتها، من قالها أدخله الله الجنة وأنجاه من النار.
قال عمر: ما هذه الكلمة؟ قال سعد رضي الله عنه: أنا يا أمير المؤمنين! أعرف هذه الكلمة، قال: ما هي؟ قال: {بينما الرسول صلى الله عليه وسلم ذاهب إلى بيته وإذا أعرابي وراءه يسعى يقول: يا رسول الله! أخبرني بكلمة تدخلني الجنة وتباعدني عن النار، قال: هي دعوة أخي ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} فهذا موقف، وهو علم تلقاه عثمان من سعد رضي الله عنهم وعاد الصفاء.(229/6)
أول من رمى سهماً في سبيل الله
قال علي بن أبي طالب: [[ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي أحداً من الناس بأبويه إلا سعد بن أبي وقاص]] لم يقل عليه الصلاة والسلام لأحد من الناس (فداك أبي وأمي) لا لـ أبي بكر ولا لـ عمر ولا لـ عثمان ولا لـ علي إنما قالها لـ سعد، وتصوروا أن يأتي عليه الصلاة والسلام وهو أشرف البشرية ويقول: (فداك أبي وأمي) إنها هبة كبرى، إنها قضية جليلة، إنه عطاء لا يماثله عطاء، روى هذا الحديث البخاري والترمذي وأحمد ومسلم وابن ماجة.
وعند المسعودي في التاريخ قال: أول من رمى بسهم في سبيل الله سعد بن أبي وقاص، ولله دره كان رامياً حاذقاً، ترتيبه الأول في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في الرمي، كان صلى الله عليه وسلم يقول لـ سعد: {اللهم أجب دعوته وسدد رميته} فكان إذا دعا أتت الإجابة من السماء كفلق الصبح، وكان إذا رمى لا تخطئ رميته، حتى يقول بعض الناس: إني لأظن سعداً لو رمى في المشرق يريد المغرب لأوقعها الله في المغرب، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ولكم أن تعودوا إليه: من العجائب أن سعداً رمى بسهم ثلاث مرات يقتل بكل سهم ويعود السهم إليه ويرمي به.
أي: كان يأخذ سهماً فيرمي به في المشركين فيقتل رجلاً، فيأخذ المشركون السهم فيعيدونه لـ سعد فيرمي به فيقتل به مرة ثانية، فيعيدون له السهم فيقتل ثالثة.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم في معمعة المعركة والسيوف تندر بالرءوس، والرماح تعبث في الأكتاف، والرسول صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه، لماذا يضحك؟ كان رجل من المشركين يرمي المسلمين ويترس على وجهه لئلا يأتيه رمي، فأخذ سعد سهماً فكشف الرجل عن جبهته فرماه سعد فوقعت الرمية في جبهته فقتله، قال صلى الله عليه وسلم: {فداك أبي وأمي}.
هو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وسوف تأتي أبياته وهو يتمدح بهذا التوفيق من الله عز وجل على أن سدد سهامه في سبيله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، بل قال أهل التاريخ: ما أخطأ سعد بسهم.
أي سهم يطلقه لا يقع إلا بلحم لكافر بإذن الله.(229/7)
النبي يفتخر بخاله سعد
وعند الحاكم والترمذي وحسنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {هذا خالي فليرني كل خاله} وسعد زهري وآمنة أم الرسول صلى الله عليه وسلم زهرية، فهي بنت وهب، وهي بنت عم أبي وقاص أبو سعد رضي الله عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {هذا خالي} هذا الزهري هو من خئولتي ولكن ليس لكم أخوال كخالي، أما أنا فشرفت عليكم بأن خالي سعد، ولذلك يقول له عمر بن الخطاب وهو يذهب إلى القادسية بجيش قوامه ثلاثون ألفاً يعبدون الله يقول: [[يا سعد بن مالك! لا يغرنك أنك خال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب]] يقول: لا تغتر، فالله يوم القيامة لا يعفو عنك إذا أخطأت بغير اجتهاد، ولا يقال لك يوم العرض الأكبر: إنك خال الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه الخؤولة تصلح في الدنيا أما في الآخرة فما يصلح إلا العمل الصالح.
كان عليه الصلاة والسلام يؤكد على هذا الجانب، فيقول: {يابني هاشم! لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم يوم القيامة، من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه} أين الأسر والأنساب؟ أين القبيلة التي يدعيها بعض الناس؟ لا.
هي تصلح في الدنيا فلقرابة الرسول صلى الله عليه وسلم شرف ورفعة: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23].
وذكر مسلم في الصحيح والطبراني في المعجم قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ارم سعد، فداك أبي وأمي} قال فنزعت سهماً ليس فيه نصل، والسهم لا يصيب إلا بنصل، وإلا فهو كالرصاصة التي ليس فيها بارود، لكن أراد الله أن يسدد رميته كما قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] قال: فأصبته وانكشفت عورته فضحك عليه الصلاة والسلام.
يقول أهل العلم لا يدرى هل ضحك صلى الله عليه وسلم لأن السهم ليس فيه نصل فأصاب، أو لأن الرجل هذا وقع على ظهره فشفى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بقتله صدور المسلمين.
يقول سعد كما عند ابن هشام في السيرة والحاكم في الإصابة وعند ابن سعد في الطبقات:
ألا هل أتى رسول الله أني حميت صحابتي بصدور نبلي
فما يعتد رامِ من معدٍ برميٍ يا رسول الله قبلي
أي: معد، وهي من قبائل العرب ليس فيها أرمى مني يا رسول الله! إذا وجدت في العرب من هو أرمى مني فأخبرني به، قال هذه القصيدة حين أرسله صلى الله عليه وسلم إلى رابغ وأرسل معه جيشاً، فلما وصلوا إلى هناك تبددت بهم الشمس والجوع والظمأ، فعاد الجيش إلى المدينة، قال صلى الله عليه وسلم: من أذن لكم ومن أميركم؟ قالوا: سعد بن أبي وقاص، قال: أذن لكم بالرجوع؟ قالوا: لا.
قال: عودوا إليه، فعادوا إليه، فهجم عليهم جيش من جهينة فخرج سعد رضي الله عنه في الصحراء ومعه جعبة مليئة بالأسهم فأخذ يقتل جيش أولئك ثم قال:
ألا هل قد أتى رسول الله أني حميت صحابتي بصدور نبلي
فما يعتد رامٍ من معدٍ برميٍ يا رسول الله قبلي
وعاد رضي الله عنه.
وعند البخاري ومسلم والترمذي والحاكم، كان الرسول صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان قريباً من خيبر، وقال بعض أهل العلم: كان بـ المدينة قبل أن تنزل {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] وكان عليه الصلاة والسلام يريد حراسة؛ لأن الحاقدين عليه كثير، والذين يطمعون في دمه صلى الله عليه وسلم أكثر، قال: {ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني هذه الليلة، قالت عائشة: فما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه إلا وقرقرة السلاح عند الباب، قال صلى الله عليه وسلم: من؟ قال: سعد بن أبي وقاص، قال: بارك الله فيك، فحرسه حتى الفجر} فأنزل الله بعد الفجر {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] بلِّغ الرسالة وأدِّ الأمانة ولن تقتل، بلغ الرسالة وأوضح المنهج واشرح الكتاب ودرس الطلاب وأخرج التلاميذ ولك علينا عهد وميثاق ألا يصل إليك أحد، ولن تغتال ولا يقتلك أحد فلا تمش في حراسة
نصرت بالرعب شهراً قبل موقعةٍ كأن خصمك قبل القتل في حلمِ
إذا رأوا طَفَلاً في الجو أذهلهم ظنوك بين بنود الجيش والحشم
وإن أتوك ضيوفاً يطلبون قرى رأوك بحراً يعم البيد بالديم
أنسيتهم حاتم الطائي ومحتده وحدثوا كلهم بالبخل عن هرم
بلِّغ الرسالة ولا تخش أحداً، تعرض عليه الصلاة والسلام لإحدى عشرة محاولة اغتيال باءت بالفشل، والسبب: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] يصل إليه الحاقد بالسيف فيلمع بارق من السماء فيقع سيف الحاقد في الأرض، يأتي أبو جهل بصخرة، فإذا هو يخيل إليه أن بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم جملاً يريد أن يهيج عليه، فيلقي الصخرة ويفر.
يقول صلى الله عليه وسلم: {اللهم اكفني فلاناً بما شئت} فتنزل عليه صاعقة تحرقه وتحرق جمله، يأتي ابن أبي لهب فيقول: {اللهم سلط عليه كلباً من كلابك} فيأكله الأسد، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].(229/8)
سعد يعتزل الفتنة
اختصم بعض الصحابة على بعض الأمور التي لا يسلم منها المسلمون، فخرج سعد إلى الصحراء في مسألة علي ومعاوية رضي الله عنهما، فلحقه ابنه عمر بن سعد بن أبي وقاص، هذا ابنه عمر شارك في قتل الحسين بن علي، الله المستعان! لحق أباه فلما رآه سعد أقبل على جملٍ قال: [[اللهم إني أعوذ بك من شر هذا الراكب]] فأتاه في الصحراء، وسعد في الصحراء يرعى غنمه، هذا الرجل الذي فتح القادسية، ودمر إمبراطورية كسرى دولة فارس فحطمها في الأرض، هذا الرجل الذي هو مهيأ للخلافة صراحة، وقال: [[والذي نفسي بيده، إني أولى بالخلافة مني بهذه الجبة]] وصدق، فيأتي ابنه ويقف أمامه ويقول: [[يا أبتاه! ترعى الضأن والناس يختصمون على الملك؟ قال: اغرب عني، فإني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله يحب العبد الغني الخفي التقي}]] وهذا الحديث رواه مسلم وأحمد.
قام رجل في المسجد في الكوفة يسب علي بن أبي طالب وعلي قد مات، رجل من المهرجين الدجاجلة الذين يلغون في أعراض الصالحين
فقل للعيون الرمد للشمس أعين تراها بحق في مغيب ومطلعِ
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأبصارها لا تستفيق ولا تعي
قام رجل يسب علي بن أبي طالب - علي (والذي لا إله إلا هو) أننا نفتخر أن نذكره في المجالس، علي بن أبي طالب الذي هو تاج على رءوس الأمة- فقال سعد وهو في المسجد: لا تسب أخي.
قال: والله لأسبنه.
فقام سعد في طرف المسجد وصلى ركعتين وقال: اللهم اكفنيه بما شئت.
فأرسل الله جملاً من الكوفة -أمام الناس- فأتى الجمل فاعترض الرجل عند بلاط المسجد، فضرب الرجل برجله فأسقطه على الأرض، وإذا نخاعه على البلاط ميتاً]] أليست هذه إجابة للدعوة؟ رواه أحمد وابن ماجة وأبو داود وأبو نعيم في الحلية وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء.(229/9)
من البشارات لسعد(229/10)
البشارة بالشهادة
خرج عليه الصلاة والسلام إلى جبل أحد، الجبل الذي يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحبه الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يقول صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: {أحد جبل يحبنا ونحبه، وهو من جبال الجنة، وعير وثور من جبال النار} ففي الجبال جبال تحب المؤمنين ويحبها المؤمنون، ومن الجبال جبال تكره المؤمنين ويكرهها المؤمنون، وهذا في الشجر وفي الحيوانات والعجماوات فضلاً عن الناس.
صعد صلى الله عليه وسلم على جبل أحد، فاهتز الجبل بإذن الواحد الأحد، وروى هذا أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم والطبراني في المعجم الكبير، فاهتز الجبل من أوله إلى آخره، قال صلى الله عليه وسلم: {اثبت أحد، فإنما عليك نبي أو صديق أو شهيد} وكان سعد بن أبي وقاص معه مع بعض الصحابة، يقول: لماذا تهتز فإن فوقك نبي أو صديق أو شهيد؟ فكان النبي هو محمد صلى الله عليه وسلم، والصديق أبو بكر والشهيد عمر وعثمان وعلي وسعد، ولذلك غالب الصحابة مات شهيداً مذبوحاً في سبيل الله، وما مات منهم حتف أنفه إلا القليل؛ لأنهم يأنفون أن يموت الواحد منهم هكذا، حرمت عليهم الميتة.
يقول سعد عند أحمد والبخاري ومسلم: {رأيت رجلين عن يمين الرسول صلى الله عليه وسلم وعن يساره يوم أحد عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد قتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد} رجلان عليهما ثياب بيض وعمائم بيض من الملائكة نزلا يقاتلان عن يمين الرسول صلى الله عليه وسلم وعن يساره، قال أهل العلم: في هذا كرامة لـ سعد رضي الله عنه، فإن الذي يرى الملائكة أو تصافحه، أو تسلم عليه، أو يسمع كلام الملائكة يكون هذا دليل على صدق إيمانه، وقل لي بربك إذا لم يكن سعد بن أبي وقاص صادق الإيمان فمن من الناس يكون صادق الإيمان؟ من من البشر يرقى إلى هذه المنزلة العظيمة؟(229/11)
البشارة لسعد بالجنة
وعند الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي أن الرسول عليه الصلاة السلام كان مع الصحابة في المسجد وهم جلوس، قال: {يدخل عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة فدخل سعد بن أبي وقاص} وكثير من شراح الحديث يقولون: هو المقصود بالحديث المشهور أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يدخل عليكم رجل من هذا الباب} فدخل سعد في الثلاثة الأيام، فذهب بعض الصحابة إليه فرأى صلاته كصلاة الناس، وصيامه كصيام الناس، وذكره كذكر الناس، فسأله فقال: [[ما بت ليلة من الليالي وفي قلبي حسد على أحد أو حقد على أحد]] كان سليم الصدر لا يحقد على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يحمل غشاً لهذه الأمة، إنما هو ناصح محب يريد الله والدار الآخرة.(229/12)
ما نزل في سعد من الآيات
قال سعد رضي الله عنه: [[نزل فيَّ وفي ابن مسعود وفي ستة معنا قول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]]] روى هذا الحديث مسلم وابن ماجة وأحمد والنسائي وابن جرير وابن حبان والحاكم والبيهقي وابن المنذر وابن مردويه، وهؤلاء الثمانية أو السبعة كانوا فقراء مساكين منهم سعد {فأتى المشركون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا نجلس معك حتى تطرد هؤلاء الفقراء والضعفاء من مجلسك، وتهيئ لنا مجلساً آخر، فَهَمَّ عليه الصلاة والسلام أن يطردهم، فأنزل الله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]}.
وفي هذا درس: أن الفقراء وأهل المسكنة والحفاة العراة من البشر هم أهل النصر والتوفيق، والواجب على المسلم أن يزورهم، وأن يحبهم، وأن يأنس بهم، وأن يطلب الدعاء منهم، قال عليه الصلاة والسلام كما في السنن بسند صحيح: {ابغوني ضعفاءكم فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم} فعلى المسلم ألا يزدري كبار السن ولا الفقراء ولا المساكين ولا الذين ينامون في الصحاري، ولا الذين يلتحفون السماء، ولا الذين يجوعون ويبكون ويعرون ويضمئون، عليه أن يعتني بهم كثيراً فإن دعاءهم أرجى عند الله من دعاء الأغنياء والمترفين والمصدرين والوجهاء، فإنهم أهل الله وخاصته، وأقرب الناس إليه.
هذا درس عظيم من دروس أهل السنة قال الله عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] لا تطع هؤلاء الذين لا يحضرون الدروس ولا يعتنون بالكتاب والسنة، ولا يحبون رسالتك وأولياءك، ولا يستمعون لدعاتك وعلمائك، ولا تلتفت إليهم، ولا تعرهم سمعاً ولا تنصت لهم، هؤلاء أمرهم في تبار، وسعيهم في نكال، وأمرهم إلى بوار، وهؤلاء أمرهم مدبر، هؤلاء مهما فعلوا ومهما صنعوا ومهما دبجوا فهم منتهون تماماً، هذا درس من الدروس نعيشه مع الأسد في براثنه.
[[قال أبو إسحاق سعد رضي الله عنه -وهو الأسد في براثنه- نزلت فيَّ هذه الآية: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15]]] رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، ما هو السبب في الآية؟ كانت أم سعد مشركة، وأسلم ابنها كما يهتدي الابن وتضل أمه أو أبوه، فقالت: ما هذا الدين الذي اعتنقته؟ قال: دين الحق يأمرني بالصلاة والصدق والشكر والعفاف والطهر.
فأقسمت وحلفت لا تأكل الطعام حتى يعود عن دينه، فأضربت عن الطعام -والإضراب عن الطعام قديم بقدم أم سعد - فتركها فأمست ليلة لم تتعش ولا أفطرت ولا تغدت ومرت بها ليلة أخرى حتى أصبحت ترى الواحد اثنين والثلاثة أربعة، وظنت أنها بهذا الإضراب تضغط على إنسان أصبح يحمل هموم الدنيا، وأصبح منتظَراً منه أن يفتح دولة في شمال الجزيرة العربية، ويدهده رءوس المشركين في القادسية، أي: تهدده بالإضراب عن الطعام، أو بمنع النفقة كما قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] الضغط بالتشويه المتعمد الحقير، الضغط بمحاصرة الفكر والرأي، وقفت منه هذا الموقف، وجلس أمامها وهو شاب في التاسعة عشرة من عمره، وقال: [[يا أماه! والذي لا إله إلا هو لو أن لك مائة نفس -هكذا في صحيح مسلم - فخرجت واحدة بعد واحدة ما عدت عن ديني أو تموتين]] فالمسألة ليست جبر خواطر ومجاملة، أدخل في الإسلام وأعود في الشرك بعد أن طهرني الله ورفع رأسي وأكرمني، والله لو كان عندك مائة نفس، تتقافز الأنفس أمامي كالشرر أو كحباب الماء ما عدت؛ فكلي أو اتركي، فأكلت؛ لأن المسألة جد فأنزل الله {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] ولكن {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] جزى الله سعداً خير الجزاء، وهذا درس إلى الذين يعيشون العناء مع والديهم أو إخوانهم الكبار أو أسرهم أو قبائلهم، فيعيشون معاناة لأنهم اهتدوا، ويوصمون بالتزمت والتطرف والأصولية وعدم الوعي والمشاغبة، هذا درس لهم.
ليعش ديني ومعبودي لي فكلي إن شئت أو لا تأكلي(229/13)
مرضه في مكة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالشفاء وحديث الوصية
يقول سعد أبو إسحاق -الأسد في براثنه-: اشتكيت في مكة فزارني عليه الصلاة والسلام -وشرف له أن يتحدث بها في مذكراته وهو في آخر عمره، وهذه المذكرات يسجلها للناس، بعد أن فتح وبعد أن جاهد وضحى، وأصبح في آخر عمره، ومات الرسول صلى الله عليه وسلم وأصبح يقص على الناس قصصه- قال: {زارني صلى الله عليه وسلم حين مرضت في مكة، فلما أتاني وضع يده على صدري، فوالذي لا إله إلا هو إنه ليخيل إلي الآن أني أجد برد يده على كبدي} -وذلك بعد أربعين سنة- يقول: والذي لا إله إلا هو إنه ليخيل إلي الآن أنني أجد برد يده على كبدي.
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هند عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا
الحديث رواه البخاري وأحمد ومسلم والنسائي، قال له صلى الله عليه وسلم: {اللهم اشف سعداً} فشفاه الله.
وفي الزيارة تلك أو غيرها أسف سعد وقال: يا رسول الله! إني صاحب مال ولا يرثني إلا ابنة، فماذا أفعل بمالي؟ وكان في مكة بعد أن هاجر إلى المدينة، فعاد إلى مكة حاجاً أو فاتحاً فمرض، قال: {يا رسول الله! أتصدق بكل مالي؟ قال: لا.
قال: فالشطر؟ قال: لا.
قال: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير} قال ابن عباس: [[وددت أن الناس في الوصية خفضوا من الثلث إلى الربع؛ لأن الرسول عليه الصلاة السلام قال: الثلث كثير]] ثم قال عليه الصلاة والسلام: {إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس} لا تذهب المال، لا تنثره نثراً، لا تفرقه في الناس ويبقى أبناؤك وبناتك بعدك فقراء يقفون على بيوت الأغنياء، كن عزيزاً واجعلهم أغنياء، اجمع المال من الحلال، أما التصوف الهندوسي الذي أدخلوه علينا فلا نعترف به، هذا ليس من كيس محمد صلى الله عليه وسلم، بل جاء من مزدك، وجاء من طاغور وليس من محمد صلى الله عليه وسلم، عندنا في الإسلام اجمع المال حلالاً واترك ورثتك أغنياء شرفاء رفعاء لا يمدون أيديهم للأغنياء، هذه مسألة.
وفي الحديث: {قال سعد: يا رسول الله! أخلف بعد أصحابي؟ -أي: يقول: أموت في مكة وأنا هاجرت إلى المدينة؟ - قال: لا.
لعله أن يطول بك عمر فينتفع بك قوم ويضرُّ بك آخرون، اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم؛ لكن بئس سعد بن خولة} يرثى له صلى الله عليه وسلم إن مات في مكة، حديث متفق عليه.
والمعنى: لن تموت في مرضك هذا، بل سوف يطول بك عمر -إن شاء الله- وينتفع بك قوم، قال أهل العلم: والله لقد انتفع به الملايين، فنحن الآن منتفعون بـ سعد، فإنه فتح لنا جبهة في الشمال ودمر دولة عاتية كادت تأخذ الجزيرة العربية ضحى، وسحق جماجم الطغاة والبغاة، ونشر العلم هناك رضي الله عنه قال: {ويضرُّ بك آخرون} والله قد تضررت به فارس وتضرر به الدجاجلة عباد النار حين أوقعهم في النهر بالعشرات، ثم سحقهم سحقاً، فهذا من التضرر.(229/14)
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بإجابة دعوة سعد
روى الحاكم في المستدرك والترمذي وابن حبان والبزار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {اللهم استجب لـ سعد إذا دعاك} فكان إذا دعا استجاب دعاءه، حتى أعداؤه كانوا يخافون منه إذا رفع يديه، ويقولون: اتق الله فينا ولا تدع علينا، وسوف يأتي معنا سبب هذا الدعاء وإجابة الدعاء، وأن السبب العظيم فيه طيب المطعم، وفي بعض الآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: {يا سعد! أطب مطعمك تستجب دعوتك} فكان دخل سعد ومطعمه وملبسه ومشربه حلالاً، فاستجاب الله دعاءه.
روى ابن سعد في الطبقات والحاكم في المستدرك وصححه قال سعد رضي الله عنه: حضرت أنا وعبد الله بن جحش في أحد -وهو أول من أطلق عليه اسم أمير، حيث أرسله صلى الله عليه وسلم مع الصحابة ليقاتل تجاه ساحل البحر الأحمر وقال: {والذي نفسي بيده لأرسلن معكم رجلاً صبوراً على الجوع والعطش} فأرسل عبد الله بن جحش وسماه أميراً- قال: [[حضرت أنا وعبد الله بن جحش فقال لي عبد الله: تعال ندعو الله يا سعد قبل المعركة، قال: فأما أنا فقلت: اللهم إني أسألك هذا اليوم أن تلاقي بيني وبين عدو لك كافر شديد حرده، قويٌ بأسه فأقتله وآخذ سلبه، قال: فقام عبد الله بن جحش بعدي وقال: اللهم إني أسألك هذا اليوم أن تلاقي بيني وبين عدو لك شديد حرده، قوي بأسه، فيقتلني، فيبقر بطني، ويجدع أنفي، ويفقأ عيني، ويقطع أذني، فإذا أتيتك يوم القيامة قلت لي: يا عبد الله! لماذا صنع فيك هذا؟ فأقول: فيك يا رب، قال سعد: فوالله ما انتهينا من المعركة إلا وقد قتلت كافراً وأخذت سلبه، وأتيت وإذا عبد الله بن جحش قد قتل وبقر بطنه وجدع أنفه وفقئت عيناه ورأيت أذناه معلقة بخيط]] قال سعيد بن المسيب معلقاً: اللهم أتمم له ما سأل، أي: يوم القيامة.(229/15)
سعد والمواقف الخارجية(229/16)
سعد وأهل الكوفة
قال جابر بن سمرة: شكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر فقالوا: لا يحسن أن يصلي، ما وجدوا أن يقولوا: أخذ أموالنا، وهو يسكن في بيت من الطين في غرفة على خصف النخل، أم يقولون: ضربنا وهو ما ضرب إلا في سبيل الله، أم يقولون: أخذ كرامتنا أو سفه أحلامنا، ما يجدون من ذلك شيئاً، فقال عمر: يا أبا إسحاق! لقد شكوك حتى في الصلاة، فهل تحسن تصلي؟ ويتبسم عمر ويعرف أن الذي يعلم الأمة هو سعد وأمثاله: قال سعد: سبحان الله! أصبحت بنو أسد تعيرني بالصلاة، والله الذي لا إله إلا هو لقد أدخلتهم في الإسلام بسيفي هذا -يقول: أنا الذي أدخلتهم في الإسلام، أنا الذي علمهم الصلاة- قال: ماذا تفعل في الصلاة؟ قال: أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين، قال عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق]].
أنت عندنا العدل الثقة، والذي يتكلم فيك هو آثم دجال، وإنما يتكلم في الإسلام وفي الرسالة وفي المنهج الرباني، روى هذا البخاري ومسلم وأحمد والطيالسي وأبو داود والنسائي.
شكوه فأراد عمر أن يتبين وأرسل محمد بن مسلمة يمر في المساجد والجوامع يصلي بالمسجد وسعد بجانبه ويقول: يا أهل المسجد! إنكم شكوتم سعد بن أبي وقاص فماذا تنقمون عليه؟ فكلهم يثني عليه، فقام شيخ في المسجد من بني عبس فقال: أما إنك إن سألتنا فإن سعداً لا يمشي في السرية -يقول: يتخلف عن الجيش، ويرسل أبناءنا وهو في بيته- ولا يحكم بالسوية -أي: لا يعدل- ولا يعدل في القضية فقام سعد يدعو -تخصصه الدعاء- فقال: [[اللهم إن كان كذب وقام رياء وسمعة فأطل عمره وفقره وعرّضه للفتن]] فأطال الله عمره حتى زاد على المائة، وأطال الله فقره حتى ما وجد حفنة من شعير يأكلها، وسقط حاجباه على عينيه فكان يتعرض للبنات في سكك الكوفة ويغمزهن ويقول: شيخ مفتون أصابتني دعوة سعد.
والحديث في البخاري وهذه علامة الصدق، فالكاذب كاذب يلبسه الله رداء الكذب، ويجعله مدحوراً بكذبه حتى يلقى الله، ولعذاب الآخرة أبقى وهم لا ينصرون.(229/17)
سعد ومعركة القادسية
حضرت القادسية فاحتار عمر بن الخطاب فيمن يقود الجيش إلى القادسية، وهي معركة مشهورة ذكرت في التاريخ الفرنسي والتاريخ الألماني والإنجليزي، فارس أجمعوا أمرهم على أن يجتاحوا الجزيرة العربية ويدخلوا حتى المدينة، وسهر عمر ليالي كثيرة، يقول ابن حجر في الفتح: كان عمر يقول: [[وإني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة]] حديث صحيح، ومعنى ذلك أنه إذا لم يجهز الجيش ويهتم بالأمر فإن الأمة سوف تذهب سدى، وسوف تذهب هباء منثوراً، بل ذكر ابن أبي شيبة في المصنف: أن عمر صلى بهم المغرب فقرأ بهم سراً لم يجهر في الركعتين ثم سلم، قالوا: [[يا أمير المؤمنين! سررت بنا قال: ما جهرت؟ قالوا: لا.
قال: والذي نفسي بيده إني أجهز الجيش وأنا في الصلاة]] قال ابن حجر في الفتح: تعارض عند عمر واجبان، فأدخل واجباً في واجب فرفع الله درجته ومنزلته، أو كلام يشبه هذا.
ثم يأتي آخر له عمارة يعمرها أو خلطة أو سيارة أو بقالة ويقول: والذي نفسي بيده إني لأبني العمارة وأنا في الصلاة، قلنا: قبح الله عمارتك، ولا أتم الله خلطتك، ولا أصلح سيارتك، تجهزها في الصلاة وتحتج بحديث عمر عمر يجهز جيشاً في الصلاة ليحمل رسالة ومنهجاً ربانياً، وأنت تحتج بهذا الحديث.
عمر أصبح في حالة ذهول حتى صار مشدود الأعصاب؛ لأنه هو المسئول الأول عن هذه الأمة، فهو يخشى أن يدخل جيش فارس كم جيش فارس؟ مائة وثمانون ألفاً يريدون دخول الجزيرة العربية، ويواجههم ثلاثون ألفاً، فأتى يقول: أيها الناس! إن الفرس قد تهيئوا لدخول الجزيرة وإني أرى أن أكون قائد الجيش، يقول: أنا أخرج لهم هناك، فصوتوا بالأغلبية يريدون هذا الأمر، فخرج رضي الله عنه، ولبس لأمته وأخذ سيفه ورمحه، وخلف وراءه علي بن أبي طالب وهو الخليفة، يقول: أنا أقود الجيش بنفسي، فلحقه علي رضي الله عنه قد خرج بالضاحية، قال: يا أمير المؤمنين! لا تفعل، أنت درع المؤمنين، أنت فئة المؤمنين، أرى أن تبقى في المدينة، فإن نصر الله المسلمين كنت في مدينتك، وإن كانت الأخرى بقيت لنا، قال: صدقت، ثم قبل رأسه وقال: لا معضلة إلا أبو الحسن لها، يقول: أنت رجل المعضلات، أشيروا علي أيها الناس من هو القائد؟ فدخلوا في خيامهم يفكرون ويتأملون ويتدبرون، فأتى عبد الرحمن بن عوف يولول من خيمته -وهو زهري من قبيلة سعد - وقال: يا أمير المؤمنين! وجدته (الأسد في براثنه) قال: من؟ قال: سعد بن أبي وقاص، قال: صدقت، فأتى عمر فخلع درعه، وأعطى سعداً رمحه وسيفه ومال به عن الطريق ووقفا يتباكيان، هذا يبكي وذاك يبكي، كذا يقول أهل التاريخ، قال: [[لا يغرنك قول الناس: إنك خال الرسول صلى الله عليه وسلم]] ثم أوصاه بوصايا طويلة مجيدة تجدونها في البداية والنهاية وفي التاريخ.
ولما وصل سعد إلى القادسية أصابه مرض، بعد أن قاد المعركة أياماً؛ لكن في الأيام الأخيرة أصابته قروح وجروح في بطنه رضي الله عنه، فكانت توضع له الوسائد، وكان يشرف من على حصن ويدير المعركة، فقال أحد الشعراء:
ألم تر أن الله أنزل نصره وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ونسوة سعد ليس فيهن أيم
يقول: ألم تر أن الله أنزل علينا النصر ونحن نقاتل، وسعد في رأس الحصن ما قاتل معنا، وأن الله أيتم أطفالنا، أما أطفال سعد ما يتموا، فقام سعد وقال: [[اللهم كف عني لسانه ويده، فأرسل الله على هذا الشاعر سهماً فوقع في لسانه فقطعه، ثم ضرب برمح فقطعت يمينه]] رواه الطبراني وأهل التواريخ وهو في مجمع الزوائد في الجزء التاسع صفحة (154) لأن سعداً صادق مع الله، لكنه مريض معذور.
[[قام علي في الكوفة حين اختلف الحكمان فقال: كنت نهيتكم عن هذه الفتنة، فقام رجل آدم (أي أسمر) فقال: والله ما نهيتنا، ولكنك لما أدخلتنا في الفتنة برأت نفسك وألحقتنا ذنبك وأنت الذي أوصلنا إليها، قال: مه! ويحك قاتلك الله، مالك ولهذا الكلام؟! والله لقد كانت الجماعة فكنتَ خاملاً، وكانت الفتنة فنجمت فيها نجوم قرن الماعز ثم قال: إلى الله أشكو عجري وبجري -العجر والبجر هي سرائر النفس ودخائلها وأسرارها- إلى الله أشكو عجري وبجري، لله منزل نزله عبد الله بن عمر وسعد بن مالك يعني: سعد بن أبي وقاص إن كان إثم فإنه لقليل، وإن كان أجر فإنه لكبير]] روى هذا الطبراني كما في مجمع الزوائد.
والسبب أن سعداً اعتزل الفتنة رضي الله عنه؛ فلم يكن مع علي ولا مع معاوية، وذهب إلى الصحراء ولو أن الحق عند أهل السنة مع علي [[وكان ابن عمر يندم ويقول: يا ليتني قاتلت مع علي فهو أولى بالإمامة والحق كان معه]] رضي الله عنهما جميعاً.(229/18)
الرؤيا الصالحة تبشر سعداً حين اعتزل الفتنة
قال حسين بن خارجة الأشجعي: [[لما قتل عثمان رضي الله عنه رأيت في النوم الدنيا والآخرة بينهما حائط، فصعدت الحائط فإذا أنا بصعدات ودرجات، فصعدت فيها في المنام فرأيت الرسول صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام، فإذا الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: يا إبراهيم! استغفر لأمتي، قال إبراهيم عليه السلام: إنهم أحدثوا بعدك، ألا فعلوا مثل خليلي سعد بن أبي وقاص، قال الرجل: فأتيت سعد بن أبي وقاص في النهار فأخبرته بالرؤيا، قال: فلم يعرها اهتماماً -أي: ما اهتم بها اهتماماً كبيراً- ثم قال: خاب من لم يكن إبراهيم خليله، قلت: ماذا تشير علي؟ قال: أعندك غنم؟ قلت: نعم.
قال: الحق بها ودع هذه الفتنة، قال: فلحقت بغنمي]] هذا رأي سعد، وهي رؤيا ذكرها الحاكم في المستدرك وابن حجر في الإصابة، وهي في سير أعلام النبلاء الجزء الأول صفحة (120).
[[دخل سعد على معاوية يسلم عليه وقد تولى معاوية الخلافة، فلم يسلم عليه بالإمرة، فقال معاوية: والله لو شئت لقلت غيرها، قال: كأنك معجب بما حصلت عليه من إمرة، والله ما أريد أنني فيما أنت فيه، وأنني قدمت محجماً من دم]] يقول: هناك دماء وتبعات، روى هذا الذهبي في السير.
قال مصعب بن سعد: لما توفي أبي كان رأسه في حجري وهو يقضي، فبكيت فقال: [[يا بني! لا تبك علي، فوالذي نفسي بيده إني من أهل الجنة]] رواه ابن سعد في الطبقات، قال الذهبي: صدق والله! فهنيئاً له.
وفي رواية أخرى: [[لا تبك علي فوالله لا يعذبني الله أبداً]] وهو حديث صحيح إلى سعد رضي الله عنه، وفيه حسن الثقة بالله والرجاء وتصديق موعود الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام بشر أن سعداً في الجنة وهذا مما تلقته الأمة بالقبول.
قال الزهري رحمه الله: [[لما احتضر سعد دعا بجبة عنده فقال: كفنوني بها، فإني لقيت المشركين فيها في يوم بدر]] رواه الحاكم والطبراني في المعجم الكبير، وفيه أن العبد يدفن في ثياب الطاعة كالثياب التي يصلي فيها والتي جاهد فيها، أو الثياب التي طلب فيها العلم، أو حج واعتمر فيها، وسوف يأتي تفصيل ذلك وكلام أهل العلم بإذن الله.(229/19)
الدروس والعبر من سيرة سعد رضي الله عنه
هذه بعض قصص (الأسد في براثنه) رضي الله عنه، والآن أخرج معكم لبعض الدروس والعبر والفوائد من هذه السيرة:(229/20)
العبرة بالعمل لا بالنسب
أولاً: العبرة بالأعمال لا بالأنساب، وهو درس لمن يفتخر بنسبه ويتطاول على الناس بهذا السبب الضعيف، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي ولا يفخر أحد على أحد} رواه مسلم، فعلى العبد أن يعتني بعمله الصالح ولا يهمه أن يكون مولى أو عبداً، أو أن يكون رقيقاً أو أن يكون مهما يكون، إنما يكون مخلصاً صالحاً صادقاً مع الله، عسى الله أن يرزقنا وإياكم التقوى، وأن يجعلنا صالحين مقبولين.(229/21)
جواز ذكر المرء ما وقع له في سبيل الله
الثاني: ذكر ما وقع للمسلم من مشقة في ذات الله عز وجل جائز، فللإنسان أن يذكر بعض المواقف التي حصلت له، من باب الاقتداء به في الصبر والإقدام وفي التضحية كما يقول سعد: [[لقد رأيتني وأنا ثالث ثلاثة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أو سادس ستة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والله ما لأحدنا طعام إلا ورق الشجر، حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة]] فذكر هذا لأنه واثق بنفسه لا يريد المباهاة ولا المراءاة، فالعبد مثلاً: له أن يذكر بعض أيامه في التضحية وطلب العلم وفي الدعوة بشرط أن يكون قصده أن يقتدى به، وأن يصبر الناس وأن يعطيهم دروساً من القدوة، أما إذا كان قصده التطاول والتفاخر والمراءاة فهذا محرم.(229/22)
تميز سعد بإجابة دعوته لصدقه وتحريه المال
الثالث: تميز سعد بالصدق مع الله والمطعم الحلال، وأن من أراد أن يستجيب الله دعوته فليطب مطعمه وليأكل حلالاً، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام: {ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يقول: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له} والله طيب لا يقبل إلا طيباً، وهو درس لمن يأكل الربا أو يضل الناس ويأخذ أموالهم، أو يغش في بيعه وشرائه، أو يحلف يميناً غموساً، أو يحلف يميناً فاجرة فيأكل بها أموال الناس بالباطل؛ فإن الله لا يقبل دعوته، ولا يستجيب له مسألته، ولا تفتح له أبواب السماء.(229/23)
الله يحب الغني التقي الخفي
الرابع: محبة الله عز وجل للعبد الغني الخفي التقي، فأما الغني فهو الغني بغنى الإيمان وغنى النفس لا غنى المال، وأن يكون غنياً بما أعطاه الله عز وجل من يقينٍ ومن حب لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ومن ذكره لله تعالى فيكون صدره منشرحاً بهذا.
أما الخفي فهو الذي لا يحب الشهرة ولا الظهور ولا يطلبها مقصداً، وقد تكون عارضة أو تكون لازمة، لأن أشهر الناس محمد صلى الله عليه وسلم لكنه ما أراده وما طلبه، وكذلك أبو بكر عمر وعثمان وعلي، ولكنهم ما طلبوها ولا أرادوها فحصلت لهم، فلا يكون من مقصد العبد الشهرة والظهور، بل يكون خفياً، فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يحب الأخفياء من عباده الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعلم بهم، فيكونون في خفاء وفي سكينة وفي وقار، ومعاملتهم مع الله عز وجل.
أما التقي: فهو الذي يؤدي الواجبات ويجتنب المحرمات، والتقي هو الذي يجعل بينه وبين عذاب الله وقاية.(229/24)
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
المسألة الخامسة: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق جلت قدرته، يؤخذ هذا من عصيان سعد لأمه، وهو درس للشبيبة أن يتقوا الله في والديهم، وأن يطيعوهم في طاعة الله، وأن يحسنوا لهم، ولكن لا يطيعون الوالد ولا الوالدة في معصية، ولا في ترك السنة، ولا في ارتكاب المحرم مهما كان جبروت هذا الوالد والوالدة وغيرهم ممن كان لهم أمر، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، لكن ولو كان الوالد مشركاً والوالدة فإنهما يصاحبان بالمعروف والكلمة اللينة في الحياة الدنيا.(229/25)
الصحابة أعلم بالسنة وأفقه من غيرهم
السادس: أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم بالسنة من غيرهم، كما في شكوى أهل الكوفة لـ سعد أنه لا يحسن أن يصلي، فليس أحد من الأمة أحسن من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا أكثر علماً، ولا أفقه في دين الله، ولا أخلص في عبادة الله عز وجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أراد أن يتنطع عليهم أو أن يزيد في الدين أو أن ينقص منه فإنما هو آثم مفترٍ متهتك في دين الواحد الأحد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(229/26)
الأسلم البعد عن المناصب ما لم تتعين
السابع: الأسلم للعبد الابتعاد عن المنصب إلا إذا تعين عليه ذلك، ووجد من نفسه القدرة، وكان أصلح من غيره، فإن طلب المنصب ليس مقصداً شرعياً، والذي يتهافت على المنصب ويتنازل عن شيء من دينه لأجله، ويكون منافقاً دجالاً مجاملاً ليحصل على منصب إنما هو آثمٌ عند الله عز وجل، محاسب بفعل هذا
نصب المنصب أوهى جلدي وعنائي من مداراة السفل
أنا لا أرغب تقبيل يدٍ قطعها أحسن من تلك القبل
إن جزتني عن صنيعي كنت في رقها أو لا فيكفيني الخجل
أو كما يقول شيخ الإسلام: إلا إذا تعين عليه ذلك وأنه لا يكون أصلح منه.
بل نص شيخ الإسلام على: أن القاضي يجب عليه أن يطلب القضاء، إذا علم من نفسه القوة والثقة ولم يوجد في المسلمين من يقوم بالقضاء إلا هو، كما قال يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] والإنسان إذا تعين عليه منصب ورأى من نفسه القدرة فإن عليه وجوباً أن يطلب ذلك ويقصد بذلك ما عند الله، أما أن يطلبه للدنيا وللشهرة وللمنصب وليتأكل به فهذا محرم، يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: {يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها بمسألة وكلت إليها} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(229/27)
جواز الإشادة بأهل الفضل ما لم يكن رياء
الثامن: جواز الإشادة بأهل الفضل من الأقارب وغيرهم والتمدح بهم كما قال صلى الله عليه وسلم: {هذا خالي فليرني كل خاله} فلك أن تتمدح برجل من أسرتك صاحب دعوة وعلم وله أثر، كأن تقول: هذا فلان من قرابتي لتثني عليه لا قصدك الرياء والسمعة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {هذا خالي}.(229/28)
اعتزال الفتن إن كان ذلك أصلح
التاسع: اعتزال الفتن والفرار عند اشتباه الأمور، والخروج إلى منأى كما فعل سعد في زمن الاختلاف، فإذا وقعت فتنة ولم يستطع الإنسان أن يقوم بدينه على أكمل وجه، وما استطاع أن يؤدي دين الله عز وجل ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، فإن عليه أن يذهب في مكان ناءٍ عن الفتن لا يسمع أحداً ولا يرى أحداً، ويبتعد في قرية أو في بادية أو في جبل، وهذا مطلب شرعي.
لكن إذا كان العبد له تأثير ووثق من نفسه، وكان عنده علم ونفع، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في السنن: {الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم}.(229/29)
جواز الوصية
العاشر: استبقاء المال وجمعه للاستغناء عن الناس وإغناء الورثة عن تكفف الناس، وأن مسألة التجرد عن تحصيل المال ليس مطلباً شرعياً، وقد يكون مضراً بالإنسان، وقد يسيل ماء وجهه إذا لم يكن له مصدر من الرزق أو لم يبق منه لورثته، فإن هذا أمر خطير فليتدبر، والصحابة أعرف منا بالحياة وبشئونها، ونحن لا نأخذ ديننا ولا زهدنا ولا عبادتنا من المتأخرين، مهما كان زهد أحدهم، حتى أنه يمر بك في التراجم أحياناً زهد إبراهيم بن أدهم أو زهد أبي سليمان الداراني ونحوه، فإننا نقول للأمة والجيل: خذوا دينكم من الرسول عليه الصلاة والسلام ومن أصحابه؛ فإنهم أزهد الناس، وفيهم نزل الوحي وعرفوا تنزيله وتأويله رضوان الله عليهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يأمر سعداً أن يستبقي مالاً، وألا ينفق منه في الصدقة والوصية إلا الثلث والثلث كثير.(229/30)
خير الناس من طال عمره وحسن عمله
الحادي عشر: طول العمر في طاعة الله خير كثير، كما تحققت معجزته صلى الله عليه وسلم في طول عمر سعد، فطول العمر وحسن العمل من سعادة المؤمن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله} فإن طول عمر المؤمن لا يزيده إلا خيراً، فيتوب من الزلات والخطايا، ويتزود من الصالحات والحسنات، ويكون أكثر عقلاً وفقهاً وأكثر إدراكاً، ولا تزيد الأيام المؤمن الصالح إلا خيراً بإذن الله عز وجل، وهي مكسب كلما زاد يوم، ورأيت في مسند أحمد {أن أخوين أسلما على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فمات أحدهما وتخلف أخوه بعده أربعون ليلة، ثم مات، فرآهما طلحة في المنام بينهما أربعون درجة -الأخير منهم مرتفع على أخيه أربعين درجة- فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم قال: كم من صلاة في الأربعين يوماً؟} فإن في الأربعين يوماً صلوات كثيرة، في كل يوم خمس صلوات في أربعين؛ بمائتي صلاة.(229/31)
أَلْمعَيِة سعد في القيادة
الثاني عشر: موهبة سعد رضي الله عنه في القيادة وقدرته على الإمرة في قول عبد الرحمن بن عوف: [[هو الأسد في براثنه]] وهذه مواهب من الله يعطيها من يشاء، وقد ظهرت قدرته في قيادته للقادسية رضي الله عنه أعظم قيادة، وفي فتحه ذلك الفتح العظيم الذي عاد على الإسلام والمسلمين بالخير.(229/32)
يُسْر الصحابة في العلم والعبادة
الثالث عشر: يسر الصحابة في العلم والعبادة: فلم يكونوا متعمقين ولا متنطعين ولا متشددين، بل كانوا في زهد وتقلل من الدنيا، لكنهم لم يمزقوا ثيابهم الصوفية، ولم يلبسوا المرقعات التي يلبسها الصوفية، ولم يزروا بأنفسهم، بل كانوا متقللين متطيبين إن تيسر شيء من الدنيا وسعوا على أنفسهم، وإن شح شيء اقتصدوا وزهدوا فيها، فهم على كلمة سواء، وعلى طريقة مقبولة على منهج الكتاب والسنة.(229/33)
استحباب الدفن بثياب العمل الصالح
الرابع عشر: الدفن في ثياب الطاعة، كما فعل سعد، فإنه قال: ادفنوني في جبتي فإني لقيت فيها المشركين يوم بدر، وأثر عن ابن المبارك أنه أمر أصحابه أن يدفنوه في ثوبين له كان يصلي بهما، فمن كان عنده ثوب يتهجد فيه بالليل فلو دفن فيه كان حسناً عند أهل السنة، ومن كان عنده ثياب جاهد فيها في سبيل الله أو كان يصلي بها باستمرار فله أن يدفن فيها، لأن آثار الطاعة مطلوبة، ويذكر بعض العلماء فيقول: إن ثياب أهل الطاعة معروفة، وثياب أهل المعاصي معروفة، فنسأل الله أن يجعلنا من الطائعين له.
هذا هو صحابي من صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام عشنا معه في هذه الليلة، وإنما المقصد من مثل هذه المواعظ والدروس وهذا الطرح: أن نكون على قرب من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لنرى أي جيل كان ذاك الجيل، ولنرى كيف كانوا وكم رفعهم الله عز وجل، وكم أعطاهم الله عز وجل من الإيمان والعمل الصالح؛ علنا أن نقتدي بهم، وأن نحبهم فإن المرء يحشر مع من أحب.
أسأل الله عز وجل أن يجمعنا بهذا الرجل المبارك المرضي عنه في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.(229/34)
الأسئلة(229/35)
استغلال المصطاف عطلته في الدعوة
السؤال
نطلب كلمة للإخوة المصطافين.
الجواب
أطلب منهم ومن نفسي الدعوة إلى الله بما تيسر، في المساجد بعد صلاة الجماعات، وفي المنتزهات، وفي مجامع الناس، الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، كل يبلغ ولو آية، وألا يأتي أحد الإخوة من بعيد فيعد نفسه ضيفاً، وأنه لا يستطيع أن يتكلم، أو أنه غريب عن المنطقة، لا.
الرب واحد والمنهج واحد، وكل ينتظر كلمة الحق من أي أحد.(229/36)
أبناء سعد بن أبي وقاص
السؤال
قلت في الدرس أن سعداً ليس له إلا بنتاً واحدة، ثم ذكرت أن عمر بن سعد ابنه شارك في قتل الحسين فكيف هذا؟
الجواب
نعم.
أنا نسيت أن أنبه تنبيهاً وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتى سعداً بـ مكة لم يكن لـ سعد إلا ابنة واحدة، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: {لعله أن يطول بك عمر} فرزقه الله أبناء كثيرين وبنات كثيرات منهم: مصعب وعامر وعمر بن سعد بن أبي وقاص وإسحاق وعائشة بنت سعد وغيرهم؛ فليتنبه لهذا.(229/37)
أخو سعد بن أبي وقاص
السؤال
هل لـ سعد بن أبي وقاص أخ أو إخوة شرفوا بصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
نعم.
له عمير حضر بدراً وكان شاباًًً قصيراً صغيراً ألبسه سعد بن أبي وقاص سيفاً فكان السيف يخط في الأرض، وقيل: إنه استشهد في المعركة.(229/38)
العزيمة الصادقة تفتت التردد
السؤال
أنا مبتلى بشرب الشيشة فأرجو نصيحتي.
الجواب
ما سألت عنها إلا لأنك تعلم أنها محرمة، ولا ينقص الأمة مسألة الفتيا، فهي تعرف فتيا الأحكام، بل ينقص الناس الإيمان، فإنهم إذا آمنوا بالله سمعوا الفتيا.
والفتيا عند هؤلاء تلقٍ نظري، وكثير منهم يعلم أن الدخان حرام ويشربه، وأن الشيشة محرمة ويتناولها، وغيرها من المسائل، فنصيحتي لك: أن تتقي الله وأن تجتنب هذه؛ فإنها من الخبائث، والله سبحانه وتعالى أحل الطيبات وحرم الخبائث.(229/39)
عصمة الله لنبيه حتى يبلغ رسالته
السؤال
قوله {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] مع ذلك ذكر بعض المحدثين وعلماء الأمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم مات بأثر السم الذي دس له في لحم الشاة؟
الجواب
بعض أهل العلم جمع بينهما فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] حتى تبلغ رسالته، ففي الكلام تقديم وتأخير ومحذوف، والله يعصمك من الناس حتى تبلغ رسالته، فلما بلغ رسالته ووقف في عرفة وأنزل الله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] مات.
فبلغت الرسالة والحمد لله، هذا من الجمع.
وبعضهم يقول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] أي: من القتل، فلا تقتل ولا تغتال؛ أما السم فأمر آخر.
أسأل الله سبحانه لي ولكم التوفيق والهداية، والرشد والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(229/40)
وصف الجنة من الكتاب والسنة
الجنة هي الهدف الأسمى لكل مؤمن، فإليها اشتاقت نفوس الأوائل، وإليها يكون النظر، والشيخ -حفظه الله- ذكر في هذا الدرس أوصافاً لأهل الجنة، ولثمارها، وأنهارها، وحدائقها، ولنسائها، كما أنه ذكر قصة عبد الله بن عمرو الأنصاري، الذي كلم الله كفاحاً.(230/1)
النبي يدخل الجنة
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أما عنوان هذا اللقاء فهو: وصف الجنة من الكتاب والسنة، نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وإياكم من رواد الجنة؛ في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، هي دار الصالحين.
الجنة ذهبت المهج من أجلها، وهي سوق الله عز وجل وداره التي بناها تبارك وتعالى:
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهبٌ والمسك طينتها والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيها
في صحيح البخاري أن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: {دخلت البارحة الجنة فسمعتُ دف نعليك يا بلال! فماذا كنت تفعل؟ قال: يا رسول الله! ما توضأت في ساعةٍ من ليلٍ أو نهار، إلا صليتُ بعد هذا الوضوء ركعتين} فهنيئاً لـ بلال بن رباح العبد المولى، ولكنه سيدٌ من السادات بالإيمان، هو صاحب (أحدٌ أحد) وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {رأيتُ قصراً أبيض في الجنة، فقلتُ: لمن هذا القصر؟ قالوا: لفتىً من قريش -أي: لـ عمر بن الخطاب - قلتُ: من؟ قالوا: عمر، فأردت أن أدخله، فتذكرتُ غيرتك يا عمر، فدمعت عينا عمر.
وقال: أمنك أغار يا رسول الله؟!} هؤلاء رواد الجنة، وعشرة من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وغيرهم شهد لهم صلى الله عليه وسلم بالجنة.
قال ابن تيمية: لأهل العلم من أهل السنة قولان اثنان فيمن يشهد له بالجنة، القول الأول: من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة نشهد له.
والقول الثاني: من استفاضت عدالته وإمامته وصدقه وعبادته وإخلاصه نشهد له بالجنة، لما ورد حديث في الصحيحين: {إنه مُرَّ على الرسول عليه الصلاة والسلام بجنازتين، فأثني على الأولى بالخير، قال: وجبت، وأثني على الثانية بالشر، قال: وجبت، قالوا: ما وجبت في الأولى يا رسول الله وما وجبت في الثانية؟ قال: الأولى أثنيتم عليها خيراً، فقلت: وجبت لها الجنة، والثانية أثنيتم عليها شراً، فقلتُ: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه} وهذا القول يؤيده ابن تيمية، وبعض السلف: كـ أحمد بن حنبل ومالك، وأبي حنيفة والشافعي وأمثالهم، اشتهرت عدالتهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
أرسل عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة وجعفر الطيار وابن رواحة إلى مؤتة يقاتلون الروم، وحضرت المعركة فقتل الثلاثة، وقام عليه الصلاة والسلام خطيباً في الصحابة، وأخبرهم أن الثلاثة دخلوا الجنة، وفي سرير ابن رواحة ازورار رضي الله عنه وأرضاه.
أتت معركة أحد، فتقدم أنس بن النضر فقاتل، فقال له سعد بن معاذ: [[دونك يا أنس! قال: إليك يا سعد! والذي نفسي بيده، إني لأجد ريح الجنة من دون أحد]].
وللجنة ريح، وسوف أستعرضه هذه الليلة مع نعيم أهل الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، وألا يجعل أكبر مقصودنا وأكبر اهتمامنا هذه الدنيا، وألا يجعل حظنا من النعيم هذه القصور، وهذه الفلل، فوالله لقد مللناها لما سمعنا أخبار الجنة.
يقول جعفر الطيار وهو في مؤتة:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبةٌ وباردٌ شرابها
والروم رومٌ قد دنا عذابها كافرةٌ بعيدةٌ أنسابها
عليّ إن لاقيتها ضِرابها(230/2)
وصف حدائق الجنة وعيونها وأنهارها
أيها الإخوة الأفاضل: حديثي هذه الليلة عن مسائل الجنة:
أنهارها أهلها سلامة صدورهم مجالسهم لبسهم ريح الجنة أبوابها أول من يدخلها صفة دخول أهلها أدنى أهلها منزلة درجاتها خيامها شجرها طعام أهلها نساؤها سوقها نظرهم إلى ربهم تبارك وتعالى مناديل أهل الجنة آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وهنا بحثٌ طريف لـ ابن تيمية: هل يدخل الجن الجنة؟ وجود الجنة الآن وعدم فنائها
أيها الإخوة الأخيار: إنما نعرض لهذه المسائل علَّ القلوب أن تهاجر إلى الله، وتشتاق إلى رضوانه، وعلَّ النفوس أن تصحو، فوالله ما لبثنا في هذه الدنيا ولا قرارنا إلا قليلاً، وإن الخاسر من شرى الدنيا بالجنة، وباع حظه من الله عز وجل.(230/3)
حدائق وعيون في الجنة
قال ابن القيم في كلامٍ ما معناه: أنزل الله عهداً من السماء أملاه بنفسه، وأتى به جبريل، ونص المبايعة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].
قال: فتقدم أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، فقدموا أرواحهم ثمناً للجنة، والسلعة هي الجنة، فتبايعوا في مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم قاموا من مجلس العقد، فقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: {ماذا تريد منا؟ قال: أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأطفالكم وأموالكم، قالوا: فما لنا إن فعلنا ذلك؟ قال: لكم الجنة، قالوا: ربح البيع! والله لا نقيل ولا نستقيل}.
ثم قاموا من مجلس العقد، قال ابن القيم: والبيعان بالخيار مالم يتفرقا، فإذا تفرقا فقد وجب البيع.
أما الجنة فهي حدائق وعيون، وأنا أحرص أن تكون الدلائل من الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر:45] قال أهل العلم: جناتٌ: جمع جنة، وهي الحديقة، ويجوز أن تطلق على حدائق الدنيا، فتسمي حدائق الدنيا الجنة، ولله المثل الأعلى، ولجنته مثلٌ أعلى بالنسبة لخلق الدنيا.
قال ابن عباس فيما صح عنه: [[ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء]] أي: أن هناك رماناً وريحاناً وثمراً، وهنا رمان وريحان وثمر، لكن لا سواء، فليس إلا الاسم.
وأما العيون فقيل: عيونٌ ثابتة صافية الماء راكدة.
وقيل: -نسأل الله من فضله- أنهارٌ تجري، وهي تسيح، ولها أصوات، وفيها ما الله به عليم.
وحوضه عليه الصلاة والسلام: {طوله كما بين صنعاء وأيلة -طوله شهر، وعرضه شهر- أشدُّ بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وعدد آنيته عدد نجوم السماء
}.(230/4)
أنهار الجنة
قال سبحانه: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة:25] ولأهل العلم معانٍ في هذه الآية، قال بعضهم: تجري من تحت الغرف، (غرفٌ مبنية تجري من تحتها الأنهار) وقالوا: تجري من على وجه الأرض، لكن لارتفاعهم على وجه الأرض، كأنها من تحتهم، والله أعلم، وقد يكون المعنيان صحيحين، كأن يقال: هناك أنهار من تحت القصور والغرف، وأنهارٌ تسح على وجه الأرض، ويظن الذي يسكن الدنيا ويَرَى حدائقها وأنهارها أنه لا يوجد نعيم كهذا النعيم، وهؤلاء الذين رضوا بالحياة الدنيا: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35] وقال سبحانه: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة:25].
وهذا يؤيد المعنى الأول: أنها من تحت الغرف ومن تحت القصور، لكن بالإمكان الشرب منها، والجلوس حولها، وهي تسح على وجه الجنة على المعنى الآخر سحاً.
ما هي هذه الأنهار؟ لقد ذكرها الله عز وجل في سورة محمد عليه الصلاة والسلام، قال سبحانه: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15] وهذا لكل مؤمن، لأنه لم يعد الله بالجنة إلا المؤمنين، وهذه قاعدة ابن تيمية، لأن المسلم قد يكون مرتكباً للكبائر، وصاحب الكبائر لم يوعد بالجنة، ومعتقد أهل السنة أن صاحب الكبيرة يخاف عليه، وهو لا يخلد في النار، وقد يعذب، وقد تدركه رحمة الله، وهو فاسقٌ بكبيرته، ناقص الإيمان، لا يخرج من الإسلام -كما أخرجته الخوارج - إلا أن يستحل الكبيرة، هذا معتقد أهل السنة والجماعة.
قال سبحانه: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:15].
والآسن: المتغير؛ فماء الجنة لا يتغير -نسأل الله من فضله- مهما بقي في مكانه فهو عذبٌ صافٍ طيبٌ تشتهيه الأنفس!!
وقال {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15] أي: لم يدخله حموضة عند بعض المفسرين، ولا يدخله عفن، ولا رائحةٌ منتنة، بل هو عذبٌ طيبٌ سائغ الشراب.
وقال: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ}.
أي: لا تتعطل عقولهم، ولا تذهب كخمر الدنيا.
وهذا الفرق بين هذه الخمر وهذه، وخمر الدنيا؛ لأن فخمر الدنيا: {من شربها ولم يتب منها كان على الله عهداً أن يسقيه من ردغة الخبال، قالوا: وما ردغة الخبال يا رسول الله؟ قال: عصارة أهل النار} قيل: قيحهم وصديدهم ودماؤهم والعياذ بالله.(230/5)
تحية أهل الجنة وسلامة صدورهم ولباسهم
وهي التي شرفنا بها سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الدنيا:
بشرى لنا معشر الإسلام أن لنا من العناية ركناً غير منهدم
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأممِ(230/6)
التحية في الجنة هي السلام
فتحية أهل الجنة السلام: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم:23] {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24] وعند البخاري عن أبي هريرة: {أن الله لما خلق آدم، طوله ستون ذراعاً في السماء، قال: اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فسلم عليهم، فذهب فسلم، فقال: السلام عليكم، فقالوا: عليك السلام ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله، قال الله له: هذه تحيتك وتحية ذريتك من المؤمنين} أو كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فالتحية في الجنة سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته.
ألا تريد أن يجمعك الله بأطفالك وبناتك وأهلك في الجنة؟ ألا تريد أن تسلم عليهم ويسلمون عليك؟ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].
بعنا النفوس فلا خيار ببيعنا أعظم بقومٍ بايعوا المختارا
فأعاضنا ثمناً ألذ من المنى جنات عدنٍ تتحف الأبرارا
وطلب الجنة من مقاصد أهل السنة والجماعة خلافاً للصوفية وغلاتهم، الذين قالوا: نحن نعبد الله ولا نريد الجنة ولا نخاف من النار، إنما خدمة له، والله يقول في كتابه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] وقال عن الصحابة: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح:29] وقال عليه الصلاة والسلام كما عند ابن ماجة بسندٍ حسن: {هل من مشمرٍ إلى الجنة إلخ} فالجنة من المقاصد.
وقد ورد أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحم الله تلك العظام- دخل على أحد السلاطين، اسمه ابن قطلوبك سلجوقي، فقال له السلطان: يـ ابن تيمية! يقولُ الناس: إنك تريد ملكنا وملك آبائنا وأجدادنا، قال: ملكك؟! قال: نعم.
قال: والله ما ملكك وملك آبائك وأجدادك يساوي عندي فلساً، إني أريد جنةً عرضها السماوات والأرض.
فمن أراد رضوان الله لا يتلمح للدنيا أبداً.
قال سعد بن أبي وقاص: [[لما حضرنا معركة أحد، قام عبد الله بن جحش وهو من شباب الصحابة، فقال: يا رب! اللهم إنك تعلم أني أحبك، اللهم فإذا حضرنا المعركة فلاق بيني وبين عدوٍ لك شديد حرده، قوي بأسه، فيقتلني فيك، فيبقر بطني، ويجدع أنفي، ويقطع أذني، ويفقع عيني، فإذا لقيتك يا رب يوم القيامة في هذه الصورة، وقلت لي: يا عبد الله! لمَ فعل بك هذا؟ فأقول: فيك يا رب!! قال: فانتهت المعركة، قال سعد: فوالذي نفسي بيده، لقد رأيته قد قتل وبقر بطنه، وجدع أنفه، وفقئت عيناه، وقطعت أذناه]].(230/7)
من النعيم في الجنة سلامة الصدور
وقال سبحانه: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46] ولو لم يكن بسلام لكانوا خائفين، ولو لم يكونوا آمنين ما تهنوا بالعيش، ولذلك العيش لا يسعد إلا بثلاثة أمور: إيمانٌ وأمنٌ وصحة، فمن جمع الله له الإيمان والصحة في البدن، والأمان في الأوطان، فقد أعطاه الله غاية ما تمنى، فلذلك قال سبحانه: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46] ولذلك إنما سمي السلام سلاماً، لأنك تقول للمسلم: سوف تسلم مني، وفي الحديث الصحيح: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده} أما سلامة صدورهم فهي من أعظم خصال أهل الجنة، ولا نعيم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بسلامة الصدور، والقلب إذا اشتعل بالحقد والحسد والبغضاء، والضغينة، فلا عيش له ولا هدوء.
ويقولون: لله الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله.
وإن الحسد والضغينة تقتل صاحبها في الدنيا، ولذلك جعل الله من نعيم أهل الجنة إذا دخلوا الجنة أن ينزع الغل من قلوبهم، والحسد قد يكون بين المؤمنين والمسلمين قال سبحانه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] وفيها نعيم.
أولاً: قال: ونزعنا، ولم يقل: نُزع، للاحتفاء بهم.
وقال: ما في صدورهم من غلٍ ليذهب كل حقدٍ وغيظ.
وقال: إخواناً، لأنه قد ينزع، ولا يكون بينهم معرفة، فزادهم أن تعارفوا في الجنة.
وقال: على سُررٍ، وهذا من النعيم، ولم يقل: على بسط، أي: رفعهم سبحانه، وقال: متقابلين، أي: لا يولي بعضهم بعضاً ظهره؛ لأن من النعيم أن تقابل أصحابك في جلسةٍ ندية، قال أحد شعراء العرب في نعيم المجالس:
ولما جلسنا مجلساً طله الندى جميلاً وبستاناً من الروض ناديا
أثار لنا طيب المكان وحسنه منىً فتمنينا فكنت الأمانيا(230/8)
الصحابة من أسلم الناس صدوراً
فأسعد الجلسات التي تقابل الأصحاب: قيل لـ معاوية، وهو في السبعين -وقيل: في الثمانين-: [[كيف رأيت الحياة؟ قال: لبست كل لباسٍ، فما وجدت كلباس التقوى، وشربت كل شراب، فما رأيت أمر من غلبة الرجال، وأكلت كل أكل فما رأيت ألذ من الصبر على المصائب، وعاشرت الإخوان والخلان، فما رأيت كصاحبٍ يخاف الله، أجلس معه يقابلني وأقابله في مجلسٍ ليس معنا إلا الله]] أو كما قال، يذكر هذا ابن قتيبة وابن عبد البر، قال ابن المبارك في جلسة الأصحاب:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا عفافٍ وحياءٍ وكرم
قوله للشيء: لا إن قلت: لا وإذا قُلتَ: نعم قال: نعم
قال سبحانه في سلامة صدورهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
وقد ذكر أهل التاريخ أن علي بن أبي طالب وطلحة رضي الله عنهم وأرضاهم، في معركة الجمل، التي قامت بين عائشة وطلحة والزبير من جانب، وبين قومٍ من جنود علي، فقتل طلحة في المعركة -أحد العشرة- فنزل علي وترجل إلى طلحة، بعد أن رآه مقتولاً، فمسح التراب عن وجهه، ومسح الغبار عن لحيته وقبله، وبكى علي، وقال: [[يعز عليّ يا أبا محمد أن أراك مجندلاً على التراب، ولكن أسأل الله أن أكون أنا وإياك ممن قال فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]]].
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه جلس مع الصحابة في المسجد، فقال: {يدخل عليكم من هذا الباب رجلٌ من أهل الجنة} فدخل رجل متوضئ تتقاطر من لحيته آثار الوضوء، حذاؤه في يسراه، فصلى ركعتين وجلس، وفي اليوم الثاني، قال عليه الصلاة والسلام ذلك، وفي اليوم الثالث كذلك، فذهب ابن عمرو وراء هذا الرجل، وبات معه ليلتين، وقيل: ثلاثاً، فرآه عادياً في صلاته، ليس هناك ما يلفت النظر، لا يتميز عن الناس في صيامه، وفي أذكاره، فقال: {يا فلان! والله ما بي إلا أن سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام أخبرنا ثلاث مرات أنك من أهل الجنة فماذا تفعل؟ رأيت صلاتك ليست بكثيرة -أي من النوافل- وكذلك صيامك، وذكرك، قال: أما وقد سألتني فوالله الذي لا إله إلا هو، ما أنام ليلةً من الليالي وفي قلبي غلٌ أو غشٌ أو ضغينةٌ أو حقدٌ أو حسدٌ لأحدٍ من المسلمين، قال: فبذلك غلبتنا} أو كما قال.
إذاً من أعظم النعيم سلامة صدور المؤمنين، وهذه لا تكون إلا في الجنة، أما في الدنيا فتجد الأحقاد والحسد، أحد الناس كبير في السن يدعو على أحد الأموات من المسلمين، قلنا له: لماذا تدعو عليه؟ قال: سرق علي قتب البعير، أسأل الله أن يقذفه بهذا القتب في نار جهنم! مسلم يصلي ويصوم وأخوه في الله، ويمكن أن يكون أخطأ في سرقة قتب، لا يساوي خمسة عشر ريالاً، فيدعو عليه أن يقذف الله به في نار جهنم!!
ما هذا الشح؟! وما هذا البخل؟!
شبر من الأرض قد يتقاتل عليه الناس، يخرج أحدهم المسدس فيقتل صاحبه!! وقد مررنا بقرية فيها بيتان متجاوران لأخوين شقيقين، يقول لنا أحد الدعاة: والله! إن صاحب هذا البيت لا يسلم على صاحب هذا البيت من عشر سنوات أو أكثر بسبب قطعة هذه الأرض، فأين الإيمان؟! سبحان الله! وصف الله مُلْك الجنة، فقال: {وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:20] ووصف أهل الجنة، فقال: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
وكان لـ معاوية بن أبي سفيان مزرعة في المدينة في جانب مزرعة عبد الله بن الزبير ابن حواري الرسول صلى الله عليه وسلم، فدخل عمال معاوية في مزرعة عبد الله بن الزبير، فغضب ابن الزبير، وبينه وبين معاوية إحن، فكتب لـ معاوية: [[إلى معاوية بن هند آكلة الأكباد، أمَّا بَعْد:
فإن عمالك قد دخلوا مزرعتي، فأمرهم بالخروج، وإلا فوالله الذي لا إله إلا هو ليكوننَّ لي ولك شأن]] وذاك خليفة وهذا من الرعية، فالمكتوب إليه خليفة عنده السيف والجيش، فأتت الرسالة إلى معاوية، وكان من أحلم الناس، وذكر حلمه ابن كثير وابن تيمية وغيرهم من العلماء، فقرأ الرسالة، فعرضها على ابنه يزيد الذي لا نحبه ولا نسبه كما قال الإمام أحمد قال: ما رأيك في ابن الزبير كتب يتهددني؟ قال: أرسل إليه جيشاً، أوله في المدينة وآخره عندك يأتون برأسه! قال: بل خيرٌ من ذلك زكاةً وأقرب رحماً، فأرسل له رسالة:
[[من معاوية بن أبي سفيان إلى عبد الله بن الزبير ابن أسماء ذات النطاقين أمَّا بَعْد:
فوالله الذي لا إله إلا هو، لو كانت الدنيا بيني وبينك، لسلمتها إليك، ولو كانت مزرعتي من المدينة إلى دمشق لسلمتها إليك، فإذا أتتك رسالتي فخذ مزرعتي إلى مزرعتك وعمالي إلى عمالك، فإن جنة الله عرضها السماوات والأرض]] فلما وصلته الرسالة بكى حتى بلها بالدموع، ثم ذهب إلى معاوية في دمشق وسلم على رأسه، وقال: [[لا أعدمك الله حلماً أحلك في قريش هذا المحل]].
أما مجالس أهل الجنة، فقال سبحانه: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات:44] وتقدم هذا، وقال سبحانه: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن:54] قالوا: هو اللين من الحرير، وسوف يأتي تفسير ذلك، وبعضهم يقول: بطائنها من إستبرق، أي: ما غلظ من الحرير، وبعضهم يقول: ما رق من الحرير، والمقصود أن الله ذكر الحرير مرتين:
الغليظ منه والرقيق، فالرقيق أعلى الطنافس، والغليظ من تحت، ولا إله إلا الله! من نعيم ورغد ما أحسنه! لا هم ولا غم ولا حزن ولا فرقة ولا فوت ولا خوف! نسأل الله من فضله.
وقال سبحانه: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:34] يعني مرفوعة عن التراب، وكلما ارتفع الفراش كان أحسن وأحسن، وقد ورد في بعض الآثار أن الإنسان يغوص في فراشه، وقال سبحانه: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:23] والأرائك أقل من الفرش، فهناك أصناف من المجالس منابر من نور، وكثبان من مسك، وفرش ممهدة، وفرش عالية، وأرائك، يغير الإنسان ما استطاع في كل يومٍ جلسات متعددة، فأين نعيم الدنيا؟! وأين لذتها؟!
أحد سلاطين الدنيا كان يملك قصوراً هائلة، وهو معروف في التاريخ ومشهور، فلما ملك وأكل وشرب، أتاه مرض أقعده، فأخذ يعوي ويبكي الليل والنهار، حتى تمنى الموت.
والوليد بن عبد الملك هذا الخليفة الأموي، ذكر عنه الذهبي: أنه لما حضرته الوفاة انبطح على التراب يبكي ويضرب وجهه، ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29].
فأين النعيم؟! إنما النعيم في الإيمان وفي طاعة الواحد الديان، وفي أن تتعرف على الله، أما القصور مع الفسق، والسيارات مع ترك الصلاة والإعراض عن الله فهو والله خسارة وندامة.
وقال سبحانه: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76] والأخضر لونه جميل، والعجيب أني رأيتُ بحثاً لأحد الأطباء يقول: اللون الأخضر من أحسن ما يكون! ولذلك وصف الله الجنة بالخضرة ووصف كذلك لباسهم في الأحاديث الصحيحة بالخضرة، والطيور التي تأوي إليها أرواح الشهداء وصفت بالخضرة، وقال سبحانه: {عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} [الرحمن:76] حتى ورد أمر في بعض المقاطعات في بريطانيا أن على الأطباء أن يرتدوا اللباس الأخضر عند إجراء العمليات، ولا يلبس الأحمر، وهذا ليس خزعبلات، بل هو علم، وما ذكر الله الأخضر هنا إلا لسر يعلمه الله، وربما تنشرح له النفس قال: فألزم الأطباء أن يلبسوا الأخضر حتى يستبشر المريض، والفأل الحسن يحبه الله والرسول عليه الصلاة والسلام، وذكروا من البحوث أن اللون الأسود يطوي النفس ويقبضها، ولذلك لم يحببه الله ولا رسوله، قال سبحانه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106].
وليس المعنى أن من كان أسود البشرة، فهو ليس محبوباً، بل قد يكون محبوباً عند الله وأرفع وأحسن إذا آمن واستقام، فإنه يكون عند ذلك من الأولياء، وأبو جهل كان أبيض، وبلال أسود، فـ بلالٌ في الجنة، وأبو جهلٍ في النار، فما أغنى ذاك أسرته ولا ماله، وما بعد هذا أسرته ولا فقره.
ولا أريد أن أستطرد، لأن ذلك يأخذ علينا من الوقت ولعل بعضكم سمع هذا البحث، فمن أتانا بعلمٍ يصدقه الكتاب والسنة قبلناه، والحكمة ضالة المؤمن، وما خالف كتابنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم رمينا به عرض الحائط.
ثم قال سبحانه: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:15 - 16].
وهذه الآيات يصدق بعضها بعضاً، وهي من باب العطف، أو من باب البيان، أو من باب الترادف، أو من باب التعجب.(230/9)
لباس أهل الجنة
ما هو لباس أهل الجنة؟
أولاً: يا أيها الإخوة! تذكروا يوم العرض الأكبر أننا سوف نأتي عراة حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وأول من يكسى إبراهيم عليه السلام، والناس يحشرون حفاةً عراةً غرلاً بهماً، كما ولدتهم أمهاتهم، حتى تقول عائشة وهي تتعجب: {يا رسول الله! عراة!! ألا ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: الأمر أعظم من ذلك يا عائشة} {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
هل يتفكر الإنسان أو ينظر؟!! لا والله.
الأمر أدهى وأعظم وأكبر من أن يتفكر الإنسان أو يوسوس في مثل هذه الأمور، فيكسى إبراهيم وليس بأفضلهم، بل أفضلهم محمد ثم إبراهيم، ثم يكسوهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الجنة، أما أهل النار فتقطع لهم ثيابٌ من نار، يصبُ من فوق رءوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود، وفي بعض الروايات، يلبسون القطران ويلبسون الحديد المصفح الحامي، أما أهل الجنة فاسمع إلى لباسهم! قال سبحانه: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} [الدخان:53] قالوا: والسندس: ما غلظ من الديباج أو الحرير، وصح عند مسلم من حديث أنس {أن الرسول عليه الصلاة والسلام، أُهدي له جلبابٌ من سندس، فأخذ الصحابة يمسحون وينظرون، فيقول صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من ذلك؟! والذي نفسي بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا}.
من هو سعد بن معاذ؟
شهيد أصيب في الخندق بسهم، ومات بعدها بقليل، اهتز عرش الله -كما صح بذلك الحديث- لموته!! فقد مات شهيداً فاهتز له عرش الله، وشيعه سبعون ألف ملك.
قال حسان بن ثابت:
وما اهتز عرش الله من موت هالكٍ سمعنا به إلا لـ سعدٍ أبي عمرو
ويخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مناديله- والمناديل إنما تعد للعرق ونحوه- أحسن من هذه الجبب التي هي من الحرير في الدنيا، فكيف بغيرها؟!!
وقال سبحانه في لباسهم: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان:21].
قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: {من يدخل الجنة، ينعم ولا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه} وصح في أحاديث أن ثياب أهل الجنة تخرج من ثمرات الأشجار، أي: أن كم الشجرة -وهو غصنها- يثمر فيأتي بأكمام، فتتفتق بثيابٍ مفصلة عليهم بكل لونٍ أرادوه، فينزعون الثياب ويلبسون!! إنه نعيم لا يتصوره الإنسان، والذي لا يكتسي بلباس التقوى، فوالله لو لبس ثياب الدنيا كلها ما ستره الله.(230/10)
ريح الجنة
أما ريح الجنة ففيها قال عليه الصلاة والسلام -وهذا عند البخاري في الصحيح-: {من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً} أي: من عاهد معاهداً من أهل الكتاب وأعطاه ذمة الله وعهده، ثم قتله، فحرامٌ عليه أن يرح رائحة الجنة، ورائحتها توجد من مسافة أربعين عاماً.
قال ابن القيم: ورد في النصوص ألفاظ، منها أربعين عاماً، وخمسمائة عام، وغيرها من الأعوام فإما أن يكون ذلك على قدر العمل، أي: أن من أتى بعملٍ عظيمٍ شنيع أبعده الله أبعد من أربعين عاماً، ومن أتى بعملٍ أخف فأربعين عاماً، وقيل: على طرف الجنة وعلى وسطها، فمن طرفها يمكن أن يكون أربعين، ومن وسطها خمسمائة أو مائة عام أو مائتان في الأحاديث، وهذا جمع جيد لا شلت يده وصحت، وجزاه الله عن الإسلام خير الجزاء.
{من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً} كان أنس بن النضر يستنشق يوم أحد، قالوا: مالك؟ قال: أجد ريح الجنة من دون أحد وقتل، ضرب ثمانين ضربة فلم تعرفه إلا أخته ببنانه، لكن ما أحسن هذا الضرب! وما أحسن هذا القتل! والذي لا يموت صادقاً مع الله يموت كما تموت الدواب والبهائم.
وصح أن عبد الله بن عمرو الأنصاري سأل الله رضوانه، ولبس أكفانه قبل المعركة واغتسل وتحنط وتطيب، ثم أتى المعركة فأخذ غمد السيف وكسره على ركبته فقتل، فأتى ابنه جابر يبكي فيقول صلى الله عليه وسلم: {ابك أو لا تبكِ، والذي نفسي بيده ما زالت الملائكة تظل أباك بأجنحتها حتى رفعتموه، والذي نفسي بيده لقد كلَّم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان، فقال: تمن، قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبتُ على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمن، قال: أتمنى أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك، قال: فإني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً} فجعل الله روحه وروح إخوانه في حواصل طير خضر ترد الجنة، فتأكل من أثمارها، وتشرب من أنهارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169 - 170].(230/11)
أبواب الجنة
قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه عند البخاري ومسلم، عن عبادة: {من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنة حقٌ، والنار حقٌ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل} وفي اللفظ الآخر: {من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء} متفق عليه، وعند البخاري في كتاب الجهاد، قال عليه الصلاة والسلام: {إن للجنة أبواباً ثمانية، فمن كان من أهل الصلاة، دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الصيام، دعي من باب الريان ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، قال أبو بكر: هل يدعى أحدٌ من تلك الأبواب الثمانية يا رسول الله؟ فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: نعم، وأرجو أن تكون منهم ما سألت إلا وفي قلبك شيء} (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] ضعيف نحيف لكن كما قال عنه ابن القيم:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
يقول: أنت دائماً في الأول، أنت أول الذاكرين وأول المجاهدين، وأول الصادقين، وأول الدعاة، أعطيت الإسلام دمك ودموعك وعرقك ومالك ووقتك، فلماذا لا تأتي الأول؟(230/12)
المسافة بين مصراعين من مصاريع الجنة
لكن -يا إخوتي في الله- كم بين المصراعين؟ كيلو أو ميل أو ثلاثة ميل، أو عشرة أميال؟ لا.
صح عنه صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم، من حديث عتبة بن غزوان، أنه قال: {ما بين المصراعين من مصاريع الجنة، مسيرة أربعين سنة -لا إله إلا الله! أي: أن بين طرف الباب والباب مسيرة أربعين سنة- ثم يتبسم عتبة بن غزوان، ويقول: وإنه ليأتي عليه يومٌ وهو كظيظ من الزحام}.
فنسأل الله أن نكون ممن يزاحم في ذاك الباب! {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] ما بين المصراع والمصراع أربعون سنة، والأبواب أربعون سنة، والأبواب ثمانية ويأتي على كل باب منها يوم وهو كظيظ من الزحام، والله إنا نطمع في فضل الله، ورجاؤنا في الله أن يجعلنا من الداخلين المزاحمين، وإلا فليس عندنا عمل، ما سفكنا دماؤنا ولا بذلنا أموالنا، ولا أذهبنا أعمارنا في طاعة الله، إنما نحن مقصرون، وكما قال الأول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجربِ
ونحن من ذاك [[قال رجلٌ لـ الحسن البصري: سبقنا القوم على خيل دهم ونحن على حمر معقرة.
فقال: إن كنت على طريقهم فما أسرع اللحاق بهم]]
يا تقياً والتقى جلبابه
وذكياً حسنت آدابه
قم وصاحب من هم أصحابه
لا تقل قد ذهبت أربابه كل من سار على الدرب وصل(230/13)
الوضوء سبب في افتتاح الأبواب الثمانية
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله فتحت له أبواب الجنة الثمانية}.
فقل لـ بلال العزم إن كنتَ صادقاً أرحنا بها إن كنت حقاً مصلياً
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا
قال عقبة بن عامر: {روحتُ إبلي -كان يرعى إبلاً، وهكذا كان الصحابة يرعون الإبل، لكن قلوبهم تهفو إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض- قال: فروحتُ إبلي، فتأخرت فيها وأتيتُ والرسول عليه الصلاة والسلام يحدث الناس، وقد مضى في الحديث، قال: فسمعته يقول: من قال: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ نبياً، كان حقاً على الله أن يرضيه.
قلتُ -وعمر بجانبي-: ما أحسن هذا! قال عمر وقد التفت إليَّ: التي قبلها أحسن منها!! قال: فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من الحديث التفت إلي عمر وقال: أما كنت معنا منذُ اليوم؟ قلتُ: لا.
أدركتكم في آخر الكلام، قال: فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية} وهذا اللفظ عند البخاري، وجاء عند الترمذي بسندٍ حسن بزيادة قوله: {اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين}.(230/14)
أول من يدخل الجنة
من هو أول من يدخل الجنة؟ آدم، أو إبراهيم أو نوح، أو أبو بكر، أو عمر، أو طارق، أو صلاح الدين؟
إنه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أبو القاسم، في المركز الأول، درجته في الجنة الوسيلة ولذلك اختلف أهل العلم ما هي الوسيلة؟
قال صلى الله عليه وسلم: {درجةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ وأرجو أن أكون أنا هو} أي أن أعلى منزلة في الجنة مقعد واحد، لا اثنين، وليس هو إلا للرسول عليه الصلاة والسلام، ودخوله إلى الجنة طريفٌ وعجيب، ولنا أن نفرح بهذا؛ لأنه رسولنا عليه الصلاة والسلام، تغلق أبواب الجنة، والناس في الحشر في عرصات القيامة وهي مغلقة، فيأتي عليه الصلاة والسلام، فيطرق باب الجنة، فيقول خازن الجنة رضوان: من؟ قال: أنا محمد بن عبد الله رسول الله، فيقول الملك: بكَ أُمرت ألا أفتح لأحدٍ قبلك، فيفتح الباب!!
قال عليه الصلاة والسلام والحديث عند مسلم في الصحيح: {أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة} وعند مسلم في الصحيح: {آتي باب الجنة يوم القيامة، فأستفتح فيقال لي: من؟ فأقول: محمد فيقول: بك أمرتُ ألا أفتح لأحدٍ قبلك} وعند ابن ماجة، أن أول من يدخل من الأمة: أبو بكر لكن في الحديث كلام، ذكره ابن القيم وتكلم في الحديث.
على كل حال أول من يدخل الجنة من الناس محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الأصناف الفقراء يدخلون قبل الأغنياء بخمسمائة عام!!(230/15)
صفة دخول أهل الجنة الجنة وأدناهم منزلة
كيف يدخلون؟ أيدخلون طوابير أم صفوفاً؟! أم يدعون واحداً واحداً أم ماذا؟!
اسمع إلى الحديث المتفق عليه، عن سهل بن سعد، في صحيح البخاري وصحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: {ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً -أو سبعمائة ألف كما في رواية في الصحيحين - متماسكون آخذٌ بعضهم ببعض، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر} متفقٌ عليه.
إذاً فالدخول جماعي، في صفوف كأنهم زحف مقدس {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] يدخلون على منازل أولهم على صورة القمر ليلة أربع عشر، ثم على صورة الكواكب الدرية، ثم بعدها في البياض، هكذا تدريجياًَ.(230/16)
أدنى أهل الجنة منزلة
من هو أدنى أهل الجنة منزلة؟ أي أقلهم منزلة، أو أقلهم حظاً في الجنة.
في صحيح مسلم أن موسى سأل ربه عن أدنى أهل الجنة منزلة، والأسئلة العقدية دائماً مع موسى، ولذلك يقول ابن تيمية: هو من أجرأ الأنبياء، لما كلمه الله، قال: ربِّ أرني أنظر إليك، ولذلك صلح لبني إسرائيل، ولما غاب عنهم استضعفوا هارون عليه السلام فعبدوا العجل، فلما أتى أراهم النجوم في رابعة النهار، ولذلك يخافون منه لأنه قويٌ شجاع من أشجع الناس، أزال بيده الصخرة التي لا يزيلها المجموعة: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] فهو قوي أمين يخاف الله وقوي ولذلك يقولون: لما أرسله الله عز وجل -عند بعض أهل السير وأهل التواريخ- إلى فرعون أتى بعصا -فقد كان يرعى الغنم بعصاه- فأتى إلى باب فرعون وعلى باب فرعون ستة وثلاثون ألف حارس، فأخذ يضرب الباب.
بعض الناس يمر بأبواب فرعون ويكظم أنفاسه، ولا يعطس، ولا يتثاءب حتى يمر، وهذا يضرب الباب، قالوا: من؟ قال: موسى، قالوا: من موسى؟ قال: ابن عمران، قالوا: ماذا تريد؟ قال: أدعو فرعون إلى الله، ولذلك قالوا: مجنون، ثم دعاه في قصةٍ طويلة.
فعلى كل حال ورد عنه أسئلة طويلة منها في الصحيحين، أنه التقى بآدم عليه السلام، لا ندري أين التقيا لكن الظاهر والصحيح الذي يؤيده ابن الجوزي وبعض المحدثين أنهما التقيا في السماء، وبعض العلماء قال: يلتقون يوم القيامة، بينما يقول صلى الله عليه وسلم: {تحاج آدم وموسى} أي: التقيا ووقعت المحاجة والمناظرة: {احتج موسى وآدم، قال موسى عليه السلام لآدم: أنت آدم الذي خلقك الله بيده؟ ونفخ فيك من روحه؟ وأسجد لك ملائكته؟ خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة -هذا نصٌ في الصحيحين يقول: دخلنا الجنة ولو بقيت في الجنة ما كنا خرجنا إلى الدنيا نعصي الله، ويسفك بعضنا دماء بعض، وتأتي منا المخالفات، لماذا لم تجلس مكانك؟ خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة! - فقال آدم: أنت موسى الذي كتب الله لك التوراة بيده، وكلمك تكليماً؟ قال: نعم.
قال: فكم وجدت أن الله كتب عليَّ ذلك قبل أن يخلقني؟ قال موسى: بأربعين عاماًً، قال: أفتلومني على شيءٍ قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين عاماً، فقال محمد صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى} أي: غلبه.
وهذه لها شرحٌ عندي لـ ابن تيمية من أحسن ما يكون، كالعسل المصفى في المحاجة، أما أهل البدعة: فقد جعلوا آدم جبرياً وموسى كأنه قدري عليهم غضب الله، يحتجون بكلامهم، وهذا ليس مقام بسط، وهناك محاضرة في شريط بعنوان (أهل السنة بين الجبرية والقدرية) من بحث عليه وجد فيه شرح هذا الحديث.
يقول صلى الله عليه وسلم: {قال موسى عليه السلام: يا رب! ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: يا موسى! أدنى أهل الجنة منزلة -والحديث عند مسلم في الصحيح من حديث المغيرة بن شعبة - قال: يا موسى! أدنى أهل الجنة منزلة، رجلٌ يدخل الجنة بعد ما يدخل الناس ويأخذون أعطياتهم ويأخذون مقاعدهم، فيسأل الله أن يعطيه، فيقول له الله: أما ترضى أن يكون لك مثل مُلك ملك من ملوك الدنيا؟ قال: يا رب! أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟! -فيضحك عليه الصلاة والسلام، وهذه رواية مسلم - قال: لا أستهزئ بك، فيقول الله: إن لك مثل ذلك ومثله؛ قال: رضيت يا رب، قال: فإن لك ذلك وعشرة أمثاله} هذا أدناه فكيف بأعلاه!! ولذلك في الحديث: {أولئك الذين أردت، غرستُ كرامتهم بيدي، فلم ترعين ولم تسمع أذن وما خطر على قلب بشر} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(230/17)
درجات الجنة
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه، عند البخاري ومسلم: {إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب، لتفاضل ما بينهم} متفقٌ عليه، والغرف: عند بعض أهل العلم، أنها تجري في السماء، الآن يقول: اكتشف -وهي معروفة لديكم من عشر سنوات- فنادق تدور في الأربع والعشرين ساعة على الساحل، وفنادق تسير على البحر؛ أما القصور في الجنة فهي تمر مر السحاب، قصور كالقرى الكاملة أو كالمدن تمر في سماء الجنة لأن للإنسان كملك أقلهم كعشرة أمثال الدنيا، فقصوره تمر في السماء وهو ساكنٌ فيها، فأهل الغرف ينظر إليهم الذين في ربض الجنة كما يتراءون الكوكب الدري الغابر -البعيد في السماء- لتفاضل ما بينهم، في الجنة مائة منزلة -مائة درجة- كما في حديث أبي سعيد في البخاري {بين الدرجة والأخرى كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله} ولذلك أهل الجنة ثلاثة: سابقٌ بالخيرات، ومقتصد، وقد يدخل المسلم الظالم لنفسه برحمة الله لحديث: {أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان} فيبقى في ربض الجنة.
لكن هل ترضى همتك أن تكون في ربض الجنة؟ أتعد من يصلي الخمس فقط بمن يصلي الخمس ويقوم الليل ويتنفل، ويتدبر القرآن، ويجاهد نفسه على طاعة الله ويبذل ماله ويصدق مع الله؟ لا سواء؛ كما قال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران:163].(230/18)
خيام أهل الجنة
في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي موسى قال: قال عليه الصلاة والسلام: {إن للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة واحدةٍ مجوفة، طولها في السماء ستون ميلاً، له في كل ناحيةٍ أهلون وأبناء لا يرى بعضهم بعضاً} هذا الحديث متفقٌ عليه، ولم يروه البخاري فحسب، بل رواه مسلم معه عن أبي موسى، وهذه الخيام غير القصور والغرف والمنازل، ففي الجنة جوائز لا يعلم كنهها ولا سرها إلا الواحد الأحد، فنسأل الله الذي اجتمعنا في محبته أن يدخلنا هذه الخيام.(230/19)
شجر الجنة
قال عليه الصلاة والسلام -والحديث في البخاري -: {إن في الجنة شجرةً يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها} شجرة واحدة يقطعها في مائة سنة! وفي لفظٍ صحيح: {الراكب المجد على فرس يسعى بالفرس مائة عام لا يقطع ظلها} فلا إله إلا الله من عيش ما أرغده وما أحسنه! نسأل الله أن يجلسنا تلك المجالس.(230/20)
طعام أهل الجنة
ذكر عليه الصلاة والسلام، في حديثٍ رواه مسلم: {أن أهل الجنة لا يبولون، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، ولا يهتمون ولا يحزنون، قال الصحابة: يا رسول الله! فما بال الطعام؟ قال عليه الصلاة والسلام: جشاءٌ ورشحٌ كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس} ما أحسن الكلام! رشحٌ كالمسك، فتخرج فضلات الطعام كالمسك؛ فإذا هو أذفر وأحسن وأشذى وأذكى وأزكى من المسك.(230/21)
نساء أهل الجنة
صح عنه صلى الله عليه وسلم: {أن لكل مؤمن في الجنة زوجة جميلة حسناء، يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة من حسنها وصفائها} وهذا نعيمٍ آخر لا يعلمه إلا الله، والمسلمة في الدينا تتزوج بزوجها، وهذا من أقوال أهل السنة، ومن لم ترضَ زوجها أو لم يرضها، أبدلها الله بزوجٍ خيرٍ منه في الجنة وأبدله زوجةً خيراً منها في الجنة، ومن كان له عدة زوجات إذا رضينه تزوجنه جميعاًَ، وهذا من النعيم الخالد: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].(230/22)
سوق أهل الجنة
فعند مسلم عن أنس: {إن في الجنة سوقاً يدخله المؤمنون فتهب عليهم ريح الشمال، فتنثر في وجوههم المسك، فيزدادون حسناً وجمالاً إلى حسنهم وجمالهم، فيعودون إلى أهلهم ونسائهم، فيقلنَ: والله لقد ازددتم حسناً وجمالاً إلى جمالكم وحسنكم، فيقولون لهم: وأنتم أيضاً، والله لقد أزددتم حسناً وجمالاً إلى حسنكم وجمالكم} رواه مسلم عن أنس وقد ذكره ابن القيم في أبياتٍ لطيفة يذكر فيها غناء أهل الجنة، يقول:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدانِ
يقول: يا آذاناً تريد رحمة الله لا تتعوضي بالموسيقى والغناء المحرم الذي يفسد القلب ويضيعه ويبعده عن الله.
ومن أعظم الكرامات: نظر أهل الجنة إلى ربهم، وهذا من عقيدة أهل السنة قال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] ويقول سبحانه: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] قال الشافعي رحمه الله: لما حجب أهل المعصية دل على أن أهل الطاعة يرونه، واتفق الشيخان من حديث أبي هريرة أنه قال: {قال الصحابة: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضامون -أو تضارون- في رؤية القمر ليلة البدر؟! قالوا: لا.
قال: هل تضامون -أو تضارون- في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا.
قال: فإنكم سترون ربكم يوم القيامة!!} وفي حديث آخر: {كما ترون القمر ليلة البدر} فنسأل الله أن يرينا وجهه!
وهي الزيادة، قال ابن تيمية: إذا ذكر الله الزيادة في القرآن فهي النظر إلى وجهه الكريم.
وفي حديث صهيب عند مسلم: {أن الله يقول لأهل الجنة: أتريدون نعيماً؟ قالوا: يا رب! وماذا نريد وقد بيضت وجوهنا وأرضيتنا؟! قال: فإن لكم عندي موعداً لا تخلفونه، قال: فيكشف الحجاب عن وجهه فينظرون إليه فما يرون لذةً أعظم من ذلك}.
وفي الصحيحين في قصة الجبة التي أهديت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ولمسها الصحابة، قال: {أتعجبون من هذه؟! لمناديل سعد في الجنة خيرٌ من هذا}.(230/23)
آخر أهل الجنة دخولاً إليها
أما آخر أهل الجنة دخولاً في الجنة، ففي الصحيحين {رجلٌ يمكث في النار من الموحدين فيخرجه الله، يقول: يا رب! أخرجني من النار؛ قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها، فيقول الله: أتسأل شيئاً يا بن آدم بعدها؟ قال: لا والله يا رب، فيعطي ربه المواثيق فيخرجه، فينظر إلى أبواب الجنة، قال: يا رب! قربني من أبواب الجنة، قال: أتسأل غيرها؟ قال: لا.
والله يا رب، فيعطيه ربه المواثيق فيقربه، فينظر إلى نعيم الجنة، قال: يا رب! أدخلني الجنة!! فيتبسم عليه الصلاة والسلام، فيقول الله: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك أما أعطيتني العهود والمواثيق بأن لا تسألني شيئاً، فيقول: يا رب! لا تجعلني أشقى خلقك فيدخله الله الجنة، فيقول الله له: تمن، فما يزال يتمنى والله يذكره حتى تنقطع به الأماني، فيعطيه الله عز وجل خمسة أمثال ما تمنى} وفي حديث أبي هريرة: {عشرة أمثاله} لأن الحديث رواه أبو هريرة وأبو سعيد وهو في الصحيحين.(230/24)
مسألة دخول الجن الجنة
وهناك بحثٌ طريفٌ مستطرد: سئل ابن تيمية: هل يدخل الجنُّ الجنة؟ بحثٌ طريف، يقال له: هل يدخل الجن الجنة؟ ماذا يجيب ابن تيمية؟ ليس هناك نصٌ صريحٌ بالمنع أو بالإيجاب، فقال: لم يرد هناك نص، ولكن الذي يظهر من النصوص أنهم يدخلون الجنة، لأن الله عز وجل قال في سورة الرحمن: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:74] ولا يكون النفي إلا على أمر متحصل أو كما قال.
وجود الجنة الآن من معتقد أهل السنة والجماعة.
أيها الأبرار: إن الجنة موجودةٌ الآن، والشهداء في عهده صلى الله عليه وسلم دخلوا الجنة، ونعموا فيها، وأن الإنسان قد يرى الجنة إذا مات، ويفتح له بابٌ أو نافذةٌ إلى الجنة، فمن معتقدنا أنها موجودةٌ الآن، ومن معتقد أهل السنة وهو الصحيح أن الجنة لا تفنى، فهم خالدون مخلدون لا تفنى، قال الشيخ حافظ بن أحمد حكمي:
والنار والجنة حق وهما موجودتان لا فناء لهما
والفلاسفة والمنطقيون، قالوا: يخلقها الله فيما بعد، وقد كذبوا على الله، قال: وهما موجودتان لا فناء لهما؛ لأن بعض الفلاسفة قالوا: إن الجنة والنار تفنيان، فإن صح عنهم ما قالوا، فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وقال أبو الهذيل العلاف المعتزلي: يفني الله حركات أهل الجنة وأهل النار، هذا قول مبتدع يضرب به وجه صاحبه فالجنة حقٌ والنار حق، وهما موجودتان الآن لا فناء لهما، بل خلودٌ أبدي سرمدي.
أيها الإخوة: قبل أن أنتهي، الدرس المقبل -إن شاء الله- بجامع الملك فهد بـ أبها، عنوانه (ما ورد في وصف النار من الآثار) فأعاذنا الله وإياكم من النار، وباعد بيننا وبين النار كما باعد بين المشرق والمغرب، نسأله أن يحرم النار علينا وعليكم وعلى جميع المسلمين، ونسأله الجنة وما قرب إليها من قولٌ وعمل، ونعوذ به من النار وما قرب إليها من قولٍ وعملٍ.(230/25)
الأسئلة(230/26)
التخلص من الرياء
السؤال
كيف أتخلص من الرياء؟
الجواب
الرياء مرضٌ خطير، وهو شركٌ أصغر، وتتخلص منه بالإخلاص، وأن تقصد الله بالعمل، وأن تعرف أنه النافع الضار، وعليك بالدعاء الذي في الحديث الحسن: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم} وقال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف:29] وقال صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات} والرياء شرك.(230/27)
ما هو الزهد؟
السؤال
هل الزهد ترك الكسب وجمع المال؟
الجواب
يقول ابن القيم: من أحسن من عرف الزهد ابن تيمية، قال في تعريف الزهد: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، أما ما ينفعك في الدنيا من تجارة وكسبٍ وطلب مال فمطلوب، أما زهد المتصوفة فليس من الإسلام.
يقول الخطابي في كتاب العزلة: أخذ أحد المتصوفة لعينه لاصقاً فألصقه على إحدى عينيه، قالوا: مالك؟ قال: إسرافٌ أن أنظر إلى الدنيا بعينين، والله يمتن على العبد: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] أفأنت أبصر من الله الذي خلق لك عينين؟! وهل من الإسراف أن تنظر بعينين؟! يقولون: هذا من عدم طلبه للعلم.
فهذا التصوف الهندوكي ليس في الإسلام.
كما يذكر ابن الجوزي في كتاب صفة الصفوة الذي فيه طلاسم ينبغي أن يبحث عنها، قال أحد العباد: أين أنتم عني؟! ما أكلت الرطب من أربعين سنة!
وهل يحمد على ذلك ويشكر؟! والرسول صلى الله عليه وسلم أكل اللحم والعسل والرطب؟! والله أمر الصالحين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51] فلم يقل: كلوا من الحصى والتراب، بل لا يأكل إلا رطباً ولحماً وعسلاً، خلقها الله، لكن بشرط أن تعمل بها صالحاً في الحياة الدنيا، فالانزواء والانقباض عن الحياة وعدم استعمارها ليس من الإسلام وكذلك التهالك وعبادة الدرهم والدينار وعبادة التراب ليس من الإسلام، أنت تجعل المال بيدك وتستعين به على طاعة الله ويكون أكبر اهتمامك رضا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(230/28)
أمور مخالفة للسنة
السؤال
اذكر بعض المخالفات للسنة؟
الجواب
أولاً: يا أيها الإخوة! أحذركم ونفسي من البدع، فالبدع خطيرة، صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} وصح عنه أنه قال: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.
فمن المخالفات قول القارئ بعد الانتهاء من قراءته: صدق الله العظيم، والله يقول في سورة آل عمران: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95] وهذا صحيح، وهو معقولٌ عقلاً ونقلاً، لكن وضع هذه الكلمة بعد القراءة بدعة لم تثبت عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته.
وقول القائل في الصلاة: ربنا ولك الحمد والشكر، فزيادة الشكر بعد سمع الله لمن حمده ليست واردة فتحذف، فليس في الصلاة زيادات فلا يأت الإنسان بزيادات، والشكر لله مطلوب، لكن في هذا الموطن لا تقال؛ لأنها لم تثبت عن المعصوم عليه الصلاة والسلام.
قول المصلي بعد الإمام إذا قال الإمام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] استعنا بالله، ليست بصحيحة، ومن تعمد قولها بطلت صلاته، والجاهل والناسي يعلم، وبعض الناس يتابع الإمام حتى إذا قال الإمام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال: لك الحمد يا رب!! {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال: اللهم ارحمنا برحمتك!! {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال: استعنا بالله!! {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] قال: اللهم اهدنا الصراط!! فهذا ليس من سنته عليه الصلاة والسلام.
الإشارة بالإصبعين في التشهد؛ صار تحريك الإصبع في التشهد باليمنى واليسرى، حتى إن بعضهم كأنه يعمل على مكينة أو على آلة، يحرك أصابعه كلها، وإنما المقصود إصبع واحدة علامة التوحيد، ففي سنن الترمذي عن سعد بن أبي وقاص، قال: {رآني صلى الله عليه وسلم وأنا أشير بإصبعين، أي بالسبابة اليمنى واليسرى، قال: يا سعد! أحد أحد} يعني: وحد الواحد، وهو الله عز وجل.
المسألة الخامسة: قول بعض الناس وبعض الطوائف: نويت أن أصلي الظهر أربعاً أو العصر أربعاً، فهذه بدعة، فما كان يقول ذلك صلى الله عليه وسلم ولا السلف الصالح، ويكفي أن الله يعلم أنك توضأت وأتيت من البيت لتصلي {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} [الحجرات:16] حتى تحدد له العصر، ما بقي إلا أن تقول: نويت أن أصلي العصر أربع ركعات في مسجد الخميس.
ومما وضعه بعض الناس يقولون: حج حاج به خبل، فأخذ يطوف وقال: اللهم إني فلان بن فلان، يا رب! كنت أعمل عند بامحفوظ، واليوم أعمل عند الراجحي في السجائر، اللهم إني حجيت، فلا تقل يا رب يوم القيامة: لم َلمْ تحج يا فلان؟ نسأل الله العافية، إن كان ثبت عنه فهو معتوه، وإن كان وضعوها عليه فهي من الإسرائيليات، فهذا مثله مثل الذي يأتي إلى المسجد ويقول -وهم عشرات كل يوم- اللهم إني نويت أن أصلي العصر أربع ركعات، فهذا من الهذ: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} [الحجرات:16].(230/29)
القنوت في صلاة الفجر
السؤال
رجلٌ غير سعودي -ما هي مصلحة هذا: سعودي أو غير سعودي؟!! الأصل أنه ليس هناك اختصاص في الكتاب ولا في السنة للسعودي ولا غير السعودي، ولم يذكر الله في القرآن مصرياً ولا سودانياً ولا عراقياً ولا سعودياً، وإنما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]-قال: عندما يصلي الفجر وبعد الركوع في الركعة الثانية من صلاة الفجر يرفع يديه، ويدعو كما يدعو في قنوت الوتر، فماذا ترون؟
الجواب
أولاً: هذا الدعاء ثابتٌ في النوازل، فإذا نزل بالمسلمين نازلة، أو داهمهم عدو، أو أتاهم أمرٌ مجحف، فلهم أن يقنتوا كما قنت عليه الصلاة والسلام، في حديث أنس وحديث أبي هريرة في الصحيحين على رعلٍ وذكوان وعُصية التي عصت الله ورسوله، فدعا عليهم؛ لأنهم أخذوا الراعي وحاربوا الله ورسوله، لكن أن تبقى دائماً في النوازل وغير النوازل فليس ذلك بصحيح، وهو أقرب إلى البدع، وينهى عنه هذا الشخص، ولو أن للشافعية رواية في ذلك، ولذلك تجد أن مساجد الشافعية يداومون على هذا، وقد خالفوا الدليل، والناس بين اثنين: رجلٌ سمع الدليل فخالف فقد ابتدع، ورجلٌ ضل والدليل معه، لكن لم يبيَّن له الحق، فهو متأول مخطئ قد يؤجر، لكن على كل حال الصحيح ألا تفعل إلا في النوازل، أما في الوتر فإنها تفعل دائماً، ومن تركها فلا بأس.
إحدى النساء قال لها زوجها: سوف أتزوج زوجةً ثانية، قالت: حرام لا يجوز ذلك قال: بل هو جائز لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] قالت: هذه الآية لم تنزل نزلت فينا، إنما هم أهل بلد لا أذكره، قد تكون بريدة.(230/30)
تفسير أول آيات في سورة الغاشية
السؤال
ما تفسير قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:1 - 3].
الجواب
أولاً: عند ابن أبي حاتم في التفسير بسندٍ جيد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر في الليل، فسمع عجوزاً من الأنصار تقرأ وتبكي وتقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فوضع رأسه على صائر الباب يبكي ويقول: نعم أتاني، نعم أتاني، كانت تقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] لا تدري أن المخاطب وراء الباب، فكلما قالت: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] قال: نعم أتاني، عليه الصلاة والسلام الغاشية: هي يوم القيامة، تغشى بهولها الأبصار كما قال المفسرون؛ والقارعة، والزلزلة، والواقعة، والحاقة، والطامة، والصاخة، فنسأل الله أن ييسر ذلك اليوم علينا.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] الاستفهام هنا للتقرير، أي: سوف يأتيك، وبعض المفسرين قالوا: للإنكار، أي ما أتاك وسوف يأتيك، واسمع خبراً مدلهماً، قالوا: إذا بدأ الله بالسؤال فسوف تأتي عجائب، وإذا قال الله للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة:10].
إذا قال: ما أدراك، فسوف يخبره!! وإذا قال: {وَمَا يُدْرِيكَ} [الأحزاب:63] فلن يخبره، قالوا: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:10 - 11] وقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب:63] فما أخبره!! هذه قاعدة للمفسرين، ما أدراه يخبره، وما لا يدريه لا يخبره، و {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية:2] الخاشعة: التي علاها الخوف والرهق والمذلة والإرهاق.
خاشعة أي: خاشعة من الخوف، {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:3] أي: عملت في الدنيا وتعبت ولكنها في غير طاعة، قال بعضهم: هم أهل البدعة عملوا على غير طاعة، عبدوا الله عز وجل، لكن خالفوا فدخلوا النار، وقال بعضهم: هم النصارى، عبدوا الله على ضلالة، كما قال سبحانه: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد:27] والصحيح أنهم قومٌ تعبوا في غير طاعة الله، وما أخلصوا العمل لله، فضيع الله سعيهم في الدنيا والآخرة، فكانوا أهل خزي في دنياهم وأخراهم.(230/31)
أطلب نصيحة لوالدي
السؤال
والدي مريضٌ منذ أربعين سنة تقريباً، وقد تعالج في بداية مرضه بالأدوية الشعبية والكي، وهو الآن صابرٌ، فما نصيحتكم له؟
الجواب
نسأل الله أن يأجره، وأن يرفع منزلته، وأن يلهمه السلوان، وأن يجعل جزاءه على ذلك جنةً عرضها السماوات والأرض، فإن مرضه أربعين سنة، يكفر السيئات والخطايا عنه، وقد ذكر ابن حجر في الإصابة أن عمران بن حصين أحد الصحابة مرض أربعين سنة، حتى كانت الملائكة تصافحه بأيمانها في السحر؛ لأنه صبر واحتسب، وقطعت رجل عروة فصبر واحتسب، ومرض الصالحون قديماً فصبروا واحتسبوا، فوصيتي لأبيك أن يصبر وأن يحتسب، وأن يعلم أن له بصبره على مرضه أجراً عظيماً.
والأمر الثاني: أن يحمد الله أن لم تكن المصيبة في دينه، لأن بعض الناس سمينٌ بطين يأكل ويشرب ومصيبته في دينه، ولذلك يقولون دائماً: يحمدون الله ويوجهون إلى النِعمة لا إلى النَعمة، فإن أعظم النعم نعمة الدين، فليست النعمة هي هذه الأشياء الظاهرة فقط، وليحمد الله أنها لم تكن في دينه، وإنما كانت في جسده وأن يعلم أن ثوابه عند الله عظيم.
وأوصيه بكثرة قول لا حول ولا قوة إلا بالله وأن يحمد الله، ففي حديثٍ يروى عن أبي الدرداء: {أول ما يحاسب الله الناس، يقول: أين الحامدون الذين يحمدون الله في السراء والضراء؟ وهم قومٌ ابتلاهم الله في الدنيا حتى تحاتت سيئاتهم، فيقول الله: ادخلوا الجنة بلا حساب، فيقولون: يا رب حاسبت الناس وتركتنا، قال: قد حاسبتكم في الدنيا! فيود قومٌ أنهم قرضوا بالمقاريض في الدنيا} أي: يودوا أنهم مرضوا واصابهم البؤس، وصح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أنس أنه قال: {يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس غمسة في النار ثم يخرج، فيقول الله له: هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا يا رب! ويؤتى بأبأس أهل الدنيا وهو من أهل الجنة، فيغمس غمسة في الجنة، فيقول الله: هل رأيت بؤساً قط، فيقول: لا يا رب!}.
وفي الختام إلى لقاءٍ -إن شاء الله- في الدرس المقبل الذي سيكون بعنوان: ما ورد في وصف النار من الآثار في جامع الملك بـ أبها.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.(230/32)
الحب إكسير الحياة
صحيح البخاري من أعظم دواوين السنة، ولأنه أصحها فقد أقبل عليه العلماء بالشرح والاعتناء، والشيخ هنا يدلي بشرح بعض الأحاديث التي تذكر أهمية التمسك بالسنة، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، والتسليم لأمره، وأهمية محبته.(231/1)
الإيمان حياة الروح
إن الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، والصلاة والسلام على رسول الهدى وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أجلس في هذا المكان معتذراً من جلوسي مكان الشيخ الأستاذ الداعية سعيد بن مسفر، وأنا أدري أن هذا المكان والفراغ لا يحل فيه إلا هو، ولسان حالي يقول:
لعمر أبيك ما نسب المعلى إلى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت وصوح نبتها رُعيَ الهشيم
وليس في ذلك لشيء؛ فطلبة العلم بعضهم ينوب عن بعض، وكذلك الدعاة، ولكن هذا الشيخ سبقنا في الدعوة بسنوات، والهذلي يقول:
ولو قبل مبكاها بكيت صبابةً لكنت شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا بكاها فقلت الفضل للمتقدم
فلا بد أن نعرف كل صاحب فضل بتقدمه وسابقيته في الإسلام وفي الهجرة وفي الدعوة وفي الجهاد، وهذا لنعرف للأشخاص وزناً وقيمة.(231/2)
ميزة صحيح البخاري
ثم إن هذا الدرس على غرار شرح صحيح البخاري، وهذا الكتاب -كما قلت في مناسبات- كما يقول العلامة الكبير أبو الحسن الندوي، يكسب القارئ إيماناً وحباً وطموحاً، وأمة بلا إيمان قطيع من البهائم، وبيت بلا إيمان ثكنة متهدمة، وقلب بلا إيمان قطعة لحم ميتة، وكتاب بلا إيمان أوراق مصففة، وقصيدة بلا إيمان أبيات مقفاة، وروضة بلا إيمان غابة تعشش فيها الطيور لا ينتفع منها إلى آخر ذلك.
والطموح هو الهمة التي كتبها محمد صلى الله عليه وسلم بميراثه، وما فعل أحد في الأرض كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يأتي بالإنسان كتلة من لحم ومن دم ميت، فيغرس في قلبه لا إله إلا الله، فينتفض حياً بلا إله إلا الله، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] لا والله.
والطموح يوم فقدناه متنا، ماتت دروسنا ومحاضراتنا، وكلماتنا، وشبابنا إلا عند من رحم الله، الطموح همة عالية، يقول الحسن البصري في الهمة: [[هي ألا ترضى لنفسك ثمناً إلا الجنة]] لأن بعض الناس رخيص يعرض بضاعته بأي سوق، ويبيع نفسه بأي ثمن، ولكن الغالي لا يبيع نفسه إلا بشيء غالٍ، إنها سلعة الله الغالية، وهي الجنة التي أعدها الله عز وجل للمتقين ولا يدخلونها إلا بأحد أمور ثلاثة:
إما بشهادة تسفك الروح والدم، وإما بعلم ينهض بالناس من الجهل والخرافة والتقليد والتبعية، إلى النور والبصيرة والأصالة والعمق، وإما بعبادة وزهد يجردك عن الدنيا وتجعلك كماء الغمام أو كحمام الحرم، والحب سوف يكون درسنا هذه الليلة عن الحب والإيمان والطموح.
الحب هو الشيء الذي سكبه محمد صلى الله عليه وسلم في القلوب، وجعله إكسيراً لهذه الحياة، ومعنى أمة بغير ذلك هي الخراب والدمار والعار والشنار، والتعامل بلا حب هو الجفاء، والزيارة بلا حب قطعية، والصلة بلا حب جفاء.(231/3)
الانضباط بالشرع أثناء الكلام
البخاري رحمه الله تعالى يتحدث في الكلمات التي كان عليه الصلاة والسلام يستخدمها، نحن أمة لا تتكلم إلا بأمر من الله أو من رسوله صلى الله عليه وسلم، ونعلم ما ورد في صفته وحكمه وكيف كان يضحك.
وربما يتسائل متسائل: أنتحرج ونقف حتى تأتينا فتيا في الضحك أو البكاء؟
يقول ابن عباس كما علقه البخاري: [[هو أضحك وأبكى]] مادام الله هو المضحك المبكي، كيف نضحك ونبكي؟
لأننا أمة كل حركة وكل سكنة فيها مسيرة بأمر الله الواحد الأحد.
قال البخاري رحمه الله: (باب ما جاء في قول الرجل: ويلك) لأنه يتحفظ من كلمات وعرة موحشة تجرح المشاعر وتخدش القلوب، ولكن يلتزم من ذلك بكلمات استخدمها ألطف الناس وأرحمهم وأجلهم، الذي يقول الله فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فما دام أنه قالها من باب أولى أن نقولها نحن، والذي يتورع عن شيء فعله صلى الله عليه وسلم يقول ابن تيمية: فورعه بارد، هذا إن كان يتورع عن شيء فعله صلى الله عليه وسلم وهو أتقى الناس لله، وأعلم الناس بالله، وأخشى الناس لله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها ويلك} في هذا الحديث قضايا.(231/4)
ترجمة رجال السند
أولها: من هو قتادة وأنس، وما مقصودنا أن نترجم ترجمة كما هو المعهود في الوفيات، وماذا أكل العالم وشرب؟ وماذا أفطر وتغدى؟ كم عنده من الأولاد والبنات؟ يقول محمد إقبال كما في روائع إقبال للندوي:-
إن هذه التراجم تميت القلوب، وفيها فوائد لكن إذا بقيت المسارات على هذه المسارات أن تسجل بهذه الأمور المحددة، فليس في الأمة انبعاث ولا روح.
قتادة بن دعامة السدوسي مولى من الموالي من حفاظ الكوفة الكبار، جلس عند سعيد بن المسيب شهراً كاملاً، فقال لـ ابن المسيب: أسمعني ماذا تحفظ من القرآن؟
قال: خذ مصحفك، قال ابن المسيب: فوالله لقد تلا علي سورة البقرة ما أسقط حرفاً واحداً وما رددته في كلمة، فقال ابن المسيب: حفظك يا قتادة كالسحر.
ولكن من طرفة الذهبي في سير أعلام النبلاء يقول: أقام قتادة عند سعيد بن المسيب ثلاثة أيام، وكان سعيد رجلاً فقيراً، قال: يا أعمى! اخرج أفقرتني.
وهذا وارد لأن دخل سعيد بن المسيب كان سهلاً بسيطاً، عشرين درهماً في الشهر من زيت يتمول به، وهو سيد التابعين، وكلمته تهتز لها الخلافة في دمشق، ولكنه ما رضي أن يتمندل به وأن يباع في سوق المزاد، فرضي بالزيت وكسر الخبر كما قال الزبيري:
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
يقول الذهبي في ترجمة قتادة: كان فيه شيء من البدع، أي: التشيع اليسير، قال: ولكنها منغمرة في بحار حسناته، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.
بعض الناس له سيئات بسيطة لكنها منغمرة في بحار حسناته، فلا ننسى هذه البحار ونأتي إلى السيئات فنبينها للناس.
أين الحسنات أين قدم الصدق، أين البذل والعطاء، إن الناس يقومون بميزان الله قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
فالمقصود أن هذا الرجل كان قدرياً، لكن لا يضره بحمد لله، روى عنه البخاري ومسلم، وكان حافظاً جهبذاً متقياً لله عز وجل من أكابر المفسرين.
مولى لكن ما اعترف محمد عليه الصلاة والسلام بالتفرقة العنصرية في دستوره كما قالها نابليون وهتلر أعداء الإنسان وقتلة الإنسان.
الموالي علماء وقادات الأمة، وبلال قصره في الجنة كالربابة البيضاء، وأما أبو لهب ففي نار ذات لهب، لأن هذا تلعق بالنسب فانقطع من حبل الله، وذاك أتى من الحبشة بمفتاح (لا إله إلا الله) ففتحت له الجنة، قال عمر: [[أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا]] ولو طلب من عمر أن يقول هذه الكلمة في الجاهلية ما قالها ولو قطع رأسه، ما كان ينظر إلى بلال، لكن لما دخل القرآن قلبه قال هذه الكلمة.
عن أنس خادم الرسول صلى الله عليه وسلم، وله هذا الشرف العظيم، وأيامه ثلاثة، يقول: يوم لا أنساه في حياتي، وهو يوم: قدم المصطفى صلى الله عليه وسلم المدينة، فو الله الذي لا إله إلا هو ما كنت أظن أن أحداً يبكي من شدة الفرح، حتى رأيت الأنصار يبكون من شدة الفرح بقدوم الرسول عليه الصلاة والسلام.
طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
واليوم الثاني: يوم أتت به أمه هدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أم سليم لها قصر في الجنة كالربابة البيضاء، يقول صلى الله عليه وسلم: {دخلت الجنة البارحة فرأيت الرميصاء} والرميصاء هي أم سليم، زوجة أبي طلحة، تزوجها على الإسلام، فإنها اشترطت عليه أن يُسلم فأسلم، فكان مهرها أعظم مهر في تاريخ البشرية، ولما أتى صلى الله عليه وسلم أتت بـ أنس فغسلته وألبسته ثيابه وعطَّرته، وقدَّمته إلى سيد البشر صلى الله عليه وسلم، قالت: يخدمك يا رسول الله ادع الله له، قال: اللهم أطل عمره، وكثَّر ماله وولده، واغفر ذنبه، فأما عمره فطال حتى نيف على المائة، لكنه عمر مبارك، لا كأعمار بعض الناس يقضيها مائة لكنها في لهو وهذر ومذر لا تجدي في ميزان الحق، إن لم ترفع به في ميزان الباطل.
وأما ماله فكثر، وكانت مزرعته في البصرة تنبت في السنة مرتين، والنخلة لا تطلع إلا مرة واحدة، كان شذى ريح المسك يهب على البصرة، فقحطت هذه المزرعة فجلس بجانبها يستغفر، قالوا: مالك؟ قال: يقول الله عز وجل على لسان نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح:10 - 11] فنزل الغيث مدراراً على مزرعته، وما أصابت قطرة خارج المزرعة.
وأما غفران الذنب؛ فهي دعوته صلى الله عليه وسلم عند الله، خدم المصطفى صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، قال: والله ما قال لي في شيء فعلته: لم فعلته؟ ولا في شيء لم أفعله: لمَ لم تفعله؟ وأي خلق هذا الخلق؟!
وأما يومه الثالث: فيوم فارق المصطفى صلى الله عليه وسلم وودعه، وقال: {صلينا الظهر يوم الخميس، فرفع رسول صلى الله عليه وسلم ستار غرفته، فرأينا وجهه كأنه ورقة مصحف، فما رأيت وجهه بعد تلك المرة إلى الآن} ولكن سوف يراه يوم القيامة إن شاء الله:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا(231/5)
حكم استخدام كلمة الويل ونحوها
رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يسوق بدنة -وهي الناقة- وتطلق تَّجوزاً على الجمل، والرسول عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح رآه في طريق الحج يسوق البدنة، فقال: اركبها، وهل عند الناس أو عند العرب أن يركب الرجل ناقته أو جمله، ليس بحرام وهم مجمعون على ذلك في جاهليتهم وإسلامهم، لكن هنا كلام مقدر معناه: بدنه أهداها للحج، والناس أول الإسلام تحرجوا من أن يهدي أحدهم للحج أو لله عز وجل ثم يستخدم هذا الشيء، كالناقة والجمل، كيف يركبها وقد أهداها؟! فقال عليه الصلاة والسلام: (اركبها) فتحرج الرجل، أي ورع هذا يتورع والرسول صلى الله عليه وسلم أفتاه؟!
في السيرة أن أعرابياً أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: سعيت قبل أن أطوف، لأن الأصل الطواف قبل السعي، وعند أبي داود بسند جيد عن أسامة بن شريك: قال رجل: يا رسول الله! سعيت قبل أن أطوف، قال: افعل ولا حرج.
فذهب يتأكد من عمر رضي الله عنه، فسأله، قال: افعل ولا حرج، قال: صدقت، قال: ولم؟ قال سألت الرسول عليه الصلاة والسلام فأخبرني كما أخبرتني.
قال: خررت من يديك، تسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تسألني؟!
إن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال وأفتى وإذا سن فمن يتأمل وراء السنة فقد جاوز السنة، ولذلك ما أتى إنسان يتأمل عند السنة ويتعمق إلا خرج من السنة، فبعض الناس يخرجون في الطول، وبعضهم يخرجون في العرض، إما رجل كسلان متبذل، مل من لباس السنة فخلع التاج فلا يستطيع، وأخذ يستهزئ، وإما إنسان تَّربى بها وظن أنه لا سني في الأرض إلا هو، فزاد وعمقه الشيطان فخرج منها، وأحسنهم من اعتدل واقتصد وسار على منهجه صلى الله عليه وسلم.(231/6)
أصل كلمة (ويلك)
قال: اركبها قال: إنها بدنة، قال: اركبها قال: إنها بدنة، قال: اركبها ويلك! قالها صلى الله عليه وسلم تذمراً.
(وويلك) أصلها: وي، أي تعجباً من هذا الفعل، قال سيبويه: فلما نطق بالكلمة أراد العرب أن يقفوا على ساكن، فقالوا: ويلك، فزادوا اللام والكاف.
ونحن لا نختلف الليلة مع البصريين ولا مع الكوفين وإنما قالها صلى الله عليه وسلم، فيجوز لنا أن نقولها عند التذمر والتحسر، وعند عدم الارتياح للشيء، لأن ألفاظنا لا بد أن تقيد، هل قالها صلى الله عليه وسلم؟ هل وردت فنقولها أم لا نقولها؟ نحن أمة توقيفية تشريعية، تأتي بنص وتتكلم بنص، وتقوم بنص وتجلس بنص، فإذا تجاوزت عن ذلك فهو البدعة.
فمعنى ذلك: أنه لا بأس أن نقولها، لأن بعض الألفاظ نهى عنها صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً ثم ساق الحديث وهو كالحديث الأول.
خذا جنب هرشى أوقفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق
لماذا يكرر البخاري الحديث؟
قال الندوي: ربما تفتح له جبهات، أو إلهامات وإشراقات وإبداعات؛ فيكرر الأبواب تكريراً، وهذا عجب من العجاب، فهو له سر يعرفه المتخصصون في هذا الباب.(231/7)
كلمة (ويحك)
عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان معه غلام أسود يقال له: أنجشة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ويحك يا أنجشة، رويدك بالقوارير}.
الحداء: هو التجلية بالصوت الجميل لتتنشط الإبل عليه، قال ابن عباس: أول من حدا من العرب غلام لـ عبد المطلب جد الرسول عليه الصلاة والسلام، ضربه عبد المطلب فأخذ يبكي، فأخذت الإبل تسرع في مشيها، فاكتشفوا أن الحداء ينشط الإبل على المشي.
وفي مناقب ابن الجوزي بسند جيد إلى عمر قال: [[عليكم بالشعر في السفر، فإنه زاد الراكب]].
وكان عمر رضي الله عنه إذا أظلم به الليل، جعل يقرأ القرآن ويبكي حتى السحر، وذلك عند ابن الجوزي وهذا يدلنا على أن الحديث الذي روي عند الطبراني: {من أنشد بيتاً بعد صلاة العشاء لم تقبل له صلاة تلك الليلة} حديث باطل لا يصح كما نبه عليه أهل العلم، وهو يناقض أصول الإسلام وقواعد هذا الدين، قبل أن يكون ضعيفاً في السند.
الرسول عليه الصلاة والسلام كان في غزوة خيبر، فقال: ألا ينزل عامر بن الأكوع يحدو بنا، يريد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يروح على أصحابه، شريعة متكاملة، فيها كل ما يريده الإنسان، لكن في حدود المباح والحلال لا تتعدى إلى الحرام.(231/8)
التخصص في الإسلام
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقبل أهل التخصصات في تخصصاتهم، الشاعر له مكانه، والفقيه له مكانه، والأصولي له مكانه، والمجاهد كذلك، ولكنه صلى الله عليه وسلم وظف هذه المواهب والعقليات بأمكنتها، فما أعطى هذا حق هذا.
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60].
أتى خالد بن الوليد، فما هو تخصصه؟
هل تخصص خالد صاحب البنية والشجاعة والبسالة والإرادة والقوة العسكرية أن يجلس يقسم الفرائض بين الجدة والعمة؟
لا.
أنت يا خالد! سيف من سيوف الله، سلك الله على المشركين، مهمتك أن تفصل الرءوس من أكتافها.
زيد بن ثابت: عقلية عينية منظمة {أفرضكم زيد}.
علي بن أبي طالب: صاحب قضاء وبراعة أصولية في عقله، قال: {أقضاكم علي بن أبي طالب.
} أبي بن كعب: سيد القراء، الذي قرأ عليه صلى الله عليه وسلم بأمر الله من فوق سبع سموات كما في صحيح مسلم، نزل جبريل فقال: {يا رسول الله إن الله! أمرني أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1] فذهب صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه، فذهب صلى الله عليه وسلم كما يذهب الفاضل إلى المفضول فقرأ عليه، فقال: يا رسول الله! أمرك ربك بهذا؟ قال: نعم، قال: وسماني بالملأ الأعلى، قال: والذي نفسي بيده لقد سماك} ثم أخذ يبكي، أي: عظمة أن هؤلاء البدو يسمون عند الله مع الملائكة في الملأ الأعلى، يطلع الله على جنود السموات ويقول الله: أبي بن كعب، يقرأ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم هذا اليوم.
أيَّ أمة هذه الأمة التي خرجت من بين التراب ومن الصحراء لا تعرف شيئاً ولا تفهم ولا تعي، إلى أن يصبح يتحدث بها فوق النجوم، سبحان الله!
فلذلك كان عليه الصلاة والسلام يعطي أهل التخصصات تخصصاتهم.
يأتي حسان رجل قافية، شاعر نجيب، وزارة أعلام متنقلة!
فخصصه صلى الله عليه وسلم في الشعر، وقرَّب له المنبر، وقال: {اهجهم وروح القدس معك}.
وأبو بكر ما هو تخصصه؟
أما أبو بكر فهو شيخ مجاهد، أبو بكر هذا متكامل عظيم، ترجم له ابن القيم، ثم وقف، وقال:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
أما جسمه فنحيل، وأما بنيته فضئيلة؛ لكنه أول الذاكرين، وأول الزاهدين، وأول الصائمين، وأول المتصدقين، نزلت عليه أبواب الخير، ويدعى يوم القيامة من أبواب الجنة الثمانية جميعاً.(231/9)
حديث أنجشة
كان له عليه الصلاة والسلام غلام أسود يحدو يقال له: أنجشة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويحك!) هذا شاهد البخاري، استخدم كلمة (ويحك) إذا غضبت على ابنك أو من تمن عليه، فتقول: ويحك! لكن لها نسبيات، ولها ظروف واحتياطات.
لا تقول لكل أحد من الناس: ويحك! ولا تُستخدم لنقول: إنها سنة، وتطبيق السنة في بعض هذه المواضع تأتي من الجهل بالأحاديث، أن تأتي إلى عالم شهير أو كبير في السن أو سلطان، وتقول وأنت تخاطبه: ويحك! فإذا قال: مالك؟ قال روى البخاري بسند صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ أنجشة: ويحك!
لا تقبل الأسانيد الصحيحة في هذا المكان، يصبح هذا من الاستنباط المهجور الذي لا ينبغي أن يحكم في هذه القضايا، قال: (ويحك يا أنجشة).
أنجشة صوته جميل، ترنم وأرسل نغمته على هيئتها، فأخذت الإبل تهرول.
شأن هذه الإبل عجيب! وقد تكلم عنها الجاحظ في كتاب الحيوان وأتي بخصوصيات الإبل، ولذلك رد الله أفكارهم وأنظارهم للإبل، فقال لهم: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] أما هناك فيلة؟ أما هناك طواويس ووز وبط؟
نعم.
لكن الجمل شأنه غريب؛ فإنه أخذ خمسين صفة من خمسين مخلوقاً، من الجرادة، ومن الإنسان، والظبي، والذئب، والفرس، ومن كل مخلوقات الله؛ فهو عجيب الخلقة.
ومن خصوصياته: أنه حقود، تقول العرب: أحقد من الجمل.
فإذا حقد عليك الجمل لا ينسى حقده سنوات، وبعض الناس يبقى بحقده، فيظلم حقده بالحسنات، تحسن إليه كل الدهر ثم تسيء إليه في ساعة، فيخلع هذه الحسنات ويغمرها في بحر السيئات، ويحقد عليك كما يحقد الجمل.
ومن ميزته: الصبر، وهذا شيء شريف ينبغي للإنسان أن يأخذه من الجمل، فإنه يسير الأيام والليالي الطوال ويصبر على الجوع والعطش، والمؤمن أولى بذلك، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يمدح بالصبر على الجوع والعطش، أرسل شببة كلهم مترفون، فذهبوا إلى ساحل البحر في جهينة، فلما مستهم الشمس تركوا القتال، وأتوا بحفظ الله ورعايته إلى المدينة، فقال عليه الصلاة والسلام: هل قاتلتم؟ -وأصل الحديث في مسلم - قالوا: لا يا رسول الله، قال: مالكم؟ قالوا: جعنا وظمئنا، قال عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده لأرسلن معكم رجل أصبر على الجوع والظمأ} فمن أرسل؟
أرسل عبد الله بن جحش القرشي الشاب الذي قتل في أحد، وهو أول من قاد سرية في الإسلام.
قال سعد بن أبي وقاص -وهذا الحديث أورده الغزالي في الإحياء بسند منقطع، لكن وصله الأئمة في كتبهم -لما حضرنا أحداً قام عبد الله بن جحش فرفع يديه، وقال: اللهم إنك تعلم أني أحبك-.
وهذا من التوسل بأفضل العمل؛ يقول عمر [[يا سعد، سعد بن أبي وقاص، إياك لا يغرنك قول الناس: إنك خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، وأقربهم إليه أطوعهم له]].
قال: [[اللهم إنك تعلم أني أحبك، اللهم لاق بيني وبين عدوٍ هذا اليوم شديد حرده، فيقلتني فيك، فيبقر بطني، ويجدع أنفي، ويفقأ عيني، ويقطع أذني، فإذا لقيتك يا رب قلت: مالك؟ لماذا فعل بك هذا؟
فأقول: فيك يا رب، يقول سعد: فوالله الذي لا إله إلا هو ما انتهت المعركة إلا وقد رأيته مبقور البطن، مجدوع الأنف، مفقوء العينين، مقطوع الأذنين، فسألت الله أن يُلِّبي له ما سأله]].(231/10)
التعريض والكناية
فلما أخذ أنجشة يحدو أخذت الإبل تسرع بالنساء (والقوارير) كنى بها عن النساء صلى الله عليه وسلم تلطفاً، وهذا من حكمة الرجل الأريب، ألا يظهر الأسماء دائماً في المجالس، أنت يا فلان كيف حال ابنتك فاطمة؟ وحال ابنتك زينب؟ وأختك أروى؟! لأن هذه إظهارها، هي وجدت في السيرة والسنة لاننكر هذا وقد اشتهرت عالمات صحابيات لكن للظروف والاحتياطات وضع الحكمة في مكانها.
أحد العقلاء وأظنه ابن هرثمة القائد دخل على الخليفة المهدي، وكانت امرأته اسمها الخيزران وهي جارية، وكان بيد هذا القائد العظيم خيزران، والخيزران هذا شجر يؤخذ منه الرماح كما يقول زهير:
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ويغرس إلا في مغارسه النخل
فدخل وبيده خيزران، فقال له الخليفة: ماذا؟ قال: هذا شجر يؤخذ منه الرماح، هو يعرف أنها خيزران، لكن كنى، فأعطاه جائزة وشكره على هذا، ومن الأدب أن يقال: كريمة فلان، قريبة فلان، وإلا إذا ورد للحاجة فلا بأس بإظهار الاسم.(231/11)
فوائد من حديث أنجشة
قال عليه الصلاة والسلام: {رويدك بالقوارير} أي: رفقاً بها لا تنشد كثيراً، فتهرول الجمال، فتسقط القوارير من على الجمال، قال أهل العلم في هذا الحديث، مناح ثلاث:(231/12)
الغناء فتنة وفجور
أما معنى الحديث هو ألا تفتن قلوب النساء بالغناء، فإنهن من أفتن خلق الله إذا سمعن الغناء، ولذلك فإن فسق وفجور فاحشة المرأة إذا سمعت الأغنية، ومعناها: أنها تخلت من الحدود والستر إلا إذا عصمها الله وتابت.
والأغنية تبني في قلب المرأة صروحاً وقصوراً من الفسق والظلم والفجور والعياذ بالله.
والأغنية تترك المرأة متبرجة سافرة سافلة رخيصة حقيرة.
فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: رويدك! أي: احذر، أما تعلم أن أمامك نساء يفتتن بالنغمة، المرأة قد تفتتن بصوت الخطيب والمتكلم، فما بالك إذا كان هناك وتر وناي، ودف، وطبل، ونغمة ساحرة؟! معناها: الفتنة العظيمة.
وهل أفسد مجتمعاتنا إلا الغناء؟!
وهل حبب الزنا إلا الغناء؟!
وهل شيب البيوت وهدمها إلا الغناء؟!
وهل أرسل النظرات وفتك بالقلوب إلا الغناء؟!
وهل أخرج القرآن من البيوت وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا الغناء؟!
هذا أمر وارد لذلك لا نلوم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الاستقامة إذا سال قلمه في مسألة الغناء.(231/13)
معنى: رويدك بالقوارير
والمنحى الثاني: معنى {رويدك بالقوارير} أي: لا تسقطهن من على الجمال كما ذكرت، وقيل: رويدك بالقوارير، أي: احذر أن تقترب منهن فإنهن فتنة.
السباعي الداعية السوري، ذهب إلى مكان من الأمكنة في البلاد الإسلامية، فقام يتكلم، فقامت امرأة من آخر الحفل -وبينه وبينهن حجاب، وأظنه عرف أنها سمينة بدينة- فقالت: مالك يا أيها المحاضر أنت لا ترفق بنا والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {رفقاً بالقوارير}.
فقال وكان لماعاً ذكياً: نعم الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لـ أنجشة رويداً بالقوارير، لكن لو رآكن قال: رويداً بالبراميل، وهذا معروف!
فقامت مرة ثانية وقالت: كيف يقول صلى الله عليه وسلم: إنهن ناقصات عقل ودين، ومنا المسئولات والوزيرات والمرشدات.
فقال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: في عهده وفي فترته: إنهن ناقصات عقل ودين، وأما أنتم فلا عقل ولا دين، لكن ما زال للخير بقية إن شاء الله، وفي المجتمعات من يحمل هذا العبء، ذكوراً وإناثاً بحوله وقوته.(231/14)
الثناء والتشجيع
وعن أبي بكرة رضي الله عنه، قال: أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم: فقال {ويلك! قطعت عنق أخيك ثلاثاً، من كان منكم مادحاً لا محالة، فليقل: أحسب فلاناً والله حسيبه} هذا فيه قضية المدح، ما حدها وصفتها؟ وما المطلوب منها والمذموم؟
أما المدح: فهو الإطراء بخصال الخير في الرجل أو في الأجناس والأشخاص، ومدح الله عباده في القرآن لأنه أمر تربوي لا بد منه.
والرجل الذي يعيش في بيته دون أن يرسل بعض الكلمات التشجيعية والمدح والإطراء لأبنائه، معناه: أنه يثبط الفضيلة ويطفئ النور في قلوبهم، لا يسمع الطفل والابن دائماً إلا التبكيت والتعنيف، لا يسمع كلمة: يا ذكي، يا أيها المصلي، يا أيها الخيِّر، يا أيها البارع، يا أيها المطيع البار حفظك الله ورعاك! كم فيك من خصال الخير! إن هذه الكلمات كفيلة بأن تؤثر أكثر من الدراسة والتأنيب والصوت، وهذا أمر جعله الله في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول: الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ويقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
وقد مدح الله الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.(231/15)
شروط المدح
أما شروط المدح فثلاثة:-
الشرط الأول ألا يكون فيه كذب: وأكذب الناس من مدح الناس بالكذب من أجل الدنيا، وأكثر ما يضطر الإنسان للمدح من أجل الدنيا، أما الدين فلا يحتاج الناس أن يمدحوا.
هل تمدح رجلاً وتكذب عليه ليصلي الليل أو ليقرأ القران؟! إنما يكذب في المدح من أجل الدنيا، فالكذب إذا وجد في المدح فهو محرم.
الشرط الثاني: عدم الغلو فيه أن ترفع الممدوح أكبر من منزلته، قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3] فتطري الرجل بما فيه من الخير؛ ولكن احذر أن تسكب عليه إطراءات لا تليق به، تأتي وتقول: يا فاتح الدنيا، يا عين الزمان، يا قبة الفلك، يا من جعله الله من العشرة المبشرين بالجنة، يا من بايع رسوله تحت الشجرة، فيغرق وينسى نفسه، والمدح هذا سُكار مثل الخمر، إذا أصاب العقل أسكره.
الشرط الثالث: ألا يكون في الوجه: فإن المدح في الوجه هو الذم، لكن استثنى أهل العلم من ذلك أمور: منها أنه إذا عرف من زهد الرجل وإيمانه ويقينه أنه لا يتضرر، وأنه أصبح فيه رسوخ وثقل فلا بأس أن تذكر فيه فضائل، لأننا إذا غمطنا فضائل الناس، وجحدنا فضائل المرموقين والعلماء والأخيار والدعاة والشهداء والمجاهدين، فمعناه: أننا ساوينا بين الناس جميعاً! لا والله.
كان الرسول عليه الصلاة والسلام ينزل الناس منازلهم، ونحن أمة نقول للمحسن: أحسنت، وللمسيء أسأت: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] خطأ لا يجعل هذا كهذا، لكن ننزلهم منزلتهم.(231/16)
مدح النبي لبعض أصحابه
الرسول عليهم الصلاة والسلام مدح أناساً في وجوههم؛ أتاه أشج بن عبد القيس مع وفد الأحساء الذين قدموا من البحرين، قال صلى الله عليه وسلم وقد رآه حليماً وقوراً: {إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة، قال: أشيء جبلني الله عليه أم تخلقت به؟ قال: بل جبلك الله عليه، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلق يحبه الله ورسوله} والحديث في صحيح مسلم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم مدحه بما فيه، والرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على كثير من الصحابة، وهذا أمر تربوي.
يبقى أبو بكر في حياته يكدح ويكدح لوجه الله، لكن لا يلقى ولو بسمة، لا يلقى ولو ثناء، لا يلقى ولو وساماً من الإطراء أمام الناس، يقول عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر: {لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرحمن} ويقول: {ما واساني أحد بنفسه وماله كما فعل أبو بكر} يقول: {سدوا كل خوخة -وهي الباب المشرف أو النافذة- إلا خوخة أبي بكر} وأثنى عليه، يقول: {أما أنتم بتاركي لي صاحبي} تكلم في عرض أبي بكر في مجلس، فرفع الأمر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فأنكره.
وقال في عمر: كما في صحيح البخاري {عرض عليَّ الناس وعليهم قمص منها ما يبلغ الثديين ومنها ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب، وعليه قميص يجره، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال الدين} وقال في البخاري: {أريت في المنام كأني أشرب من لبن حتى رأيت الري يدخل في أظفاري، فأعطيت فضلتي عمر بن الخطاب فشربها، قالوا: ما أولت ذلك يارسول الله؟ قال: العلم} فهو يثني عليه لأنه لا بد من هذه الأمور في المجتمع، ولا بد أن يعرف للمحق حقه، ولا بد أن يبكت الفاجر بفجوره لينتهي.
أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {ويلك! قطعت عنق صاحبك} ومعنى قطع عنقه: أي أنه فتنه فلا يفلح بعدها، واغتر وأعجب بنفسه، وقيل معناها: قطع عنقه، أنه قطعه من مواصلة هذا الشيء، لأن بعض الناس يحبط بالمدح إذا أكثر عليه، وبعض الناس إذا قبَّل رأسه ظن أنه بلغ منزلة الولاية ووصل المطلوب.
ألا بلغ الله الحمى من يريده وبلغ أكناف الحمى من يريدها
فالناس لهم مطالب ومقاصد، وأعظمهم مطلوباً هو من يرضي الله عز وجل.
ابن تيمية الجهبذ، العلامة مجدد ألف سنة، دخل على ابن قطلوبغا السلطان، فقال له: يـ ابن تيمية! يزعم الناس أنك تريد ملكنا، فضحك ابن تيمية، وقال: ملكك؟! قال: يقولون ذلك، قال: والله ما ملكك وملك آبائك وأجدادك يساوي عندي فلساً.
ابن تيمية يريد جنة عرضها السموات والأرض، يريد رضا الله، ولما وضع في القلعة وأغلق الباب عليه، تبسم وتلا: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].(231/17)
تقسيم الغنائم واعتراض الخارجي
عن أبي سلمة والضحاك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه، قال: {بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم ذات يوم قسماً، قال: فقال: ذو الخويصرة -أي: التميمي - يا رسول الله! اعدل}.
سبحان الله! يقول لمعلم الخير وأعدل الناس وأتقى الناس: (اعدل) إنها كلمة تنهد منها الجبال، وتتقصم بها الظهور، ويندى منها كل جبين يؤمن بالله واليوم الآخر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {ويلك! من يعدل إذا لم أعدل} صدق عليه الصلاة والسلام، أين توجد العدالة إذا لم توجد عنده؟!
وأين توجد التقوى والخشية والوضوح والإنصاف إذا لم يكن عنده صلى الله عليه وسلم؟!
ما بعد شريعته إلا الظلم والفشل والانهزامية والتقهقر.
قال خالد: ائذن لي فأضرب عنقه، قال: {إنا لا نقتل من يصلي، ثم قال: يخرج من ضئضئ هذا رجال يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر قذذه فلا يوجد فيه شيء، سبق الفرث والدم، يخرجون على حين فرقة من الناس، آيتهم رجل إحدى يديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، قال: أبو سعيد أشهد إني لسمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهد أني كنت مع علي حين قاتلهم فالتمس في القتلى، فأتي به على النعت الذي نعت النبي صلى الله عليه وسلم}.
خلاصة القصة أو بسطها في غير هذا النص من الحديث بجمع الزيادات.
كان الرسول عليه الصلاة والسلام بعد غزوة حنين يقسم الغنائم بين الناس، وكان يعطي وجوه القبائل لأمور يعلمها الله عز وجل، منها التألف ليدخلوا في الدين، فدخولهم في الدين مصلحة عظيمة للإسلام؛ لأن بعض الناس إذا دخل في الدين دخل معه ألوف، ويترك الرسول عليه الصلاة والسلام بعض الناس لما جعل الله في قلبه من الإيمان واليقين والسكينة.
قام عليه الصلاة والسلام خطيباً في الناس فقال: {يا أيها الناس! والذي نفسي بيده إني لأعطي بعض الناس لما جعل الله في قلبه من الهلع والجزع، وأدع بعض الناس لما جعل الله في قلبه من الخير منهم عمرو بن تغلب، قال عمرو: كلمة والله ما أريد لي بها الدنيا وما فيها}.
فأتي صلى الله عليه وسلم يفعل بالغنائم على هذا المنوال فيترك الصحابة ووجوه أهل الهجرتين، والبيعتين، والعقبتين، وأعطى أناساً ما تمكن الإسلام في قلوبهم، أعطى هذا مائة ناقة وهذا مائة، وفي الأخير تذمر الناس من هذا، فهم بشر يصيبهم الضعف، فاجتمع الأنصار، لكن اجتماعهم كان عقلاً وتؤدة وسكينة وحكمة، لا كالخارجي المقطوع من حبل الله، فاجتمعوا في مكان بعد أن أمرهم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك، بعد أن سمع أنهم يقولون: غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي أولئك وسيوفنا تقطر من الدماء ويدعنا، وقال عليه الصلاة والسلام لسيدهم سعد بن عبادة: يا سعد! أين أنت من هذا الكلام؟ قال: أنا من قومي -أي: أنا أقول مثل ما قالوا- قال اجمع لي قومك، فاجتمع الأنصار جميعاً، ثم أتى أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم، وأشرف عليهم بوجهه الطاهر المنور، فخطبهم خطبة ما سمع الدهر بمثلها، فقال: يا معشر الأنصار ما مقالة سمعتها منكم؟
قالوا: هو كما سمعت يا رسول الله حق -هذا مجلس مناصفة ومحاقة وحوار صريح- قال: يا معشر الأنصار! أما أتيتكم ضلالاً فهداكم الله بي، قالوا: المنة لله ولرسوله.
قال: أما أتيتكم متفرقين فجمعكم الله بي؟ ثم لما انتهى قال: يا معشر الأنصار! والذي نفسي بيده، ولو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، وفقيراً فأغيناك، وشريداً فناصرناك، أو كما قال، قالوا: المنة لله ولرسوله، فرفع صوته صلى الله عليه وسلم وقال: {يامعشر الأنصار، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، والله لما تعودون به خير مما يعود به الناس، والله لو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعب الأنصار، الأنصار شعار والناس دثار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار} فبكى الأنصار.
وخرج عليه الصلاة والسلام ورجع إلى الغنائم؛ لأنه قد حل هذه المشكلة، لأنه يتكلم مع فقهاء، وعلماء، وعقلاء.(231/18)
الكلام في عرض النبي وأتباعه من الدعاة
ولما قسم صلى الله عليه وسلم وهو جالس أتى ابن مسعود فناجاه في أذنه عليه الصلاة والسلام، فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم حتى أصبح كالصفر، قيل كالنحاس إذا تغير، ثم قال عليه الصلاة والسلام: {رحم الله موسى أوذي بأكثر من هذا فصبر} تكلم في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، قالوا: لا يعدل في الغنائم.
وقضية أن يعيش الإنسان المسلم الموجه للخير، العابد الزاهد المستقيم بدون خدش لعرضه مستحيل، فقد طلب موسى عليه السلام -كما في الآثار الإسرائيلية بأسانيد لا بأس بها- من الله عز وجل يوم كلمه ألا يتكلم الناس في عرضه، فقال الله عز وجل: يا موسى! ما اتخذت ذلك لنفسي، إني أرزقهم وأعافيهم، وإنهم يسبونني ويشتمونني.
وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة: {يقول الله عز وجل: يشتمني ابن آدم ولا يحق له ذلك، ويسبني ابن آدم ولا يحق له ذلك، أما شتمه إياي فيقول: إني اتخذت صاحبة وولداً، وأنا الله لا إله إلا أنا ما اتخذت صاحبةً ولا ولداً، وأما سبه إياي فيسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار كيف أشاء}.
فما دام أن الله ما سلم من ألسنة البشر، فكيف يسلم الإنسان من ألسنتهم؟! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69] كلما تكلم في عرضك رفعك الله، وهذا ابتلاء يحصل لكثير من الناس، فالرسول صلى الله عليه وسلم تكلم في عرضه، فسكت وقال: {رحم الله موسى أوذي بأكثر من هذا فصبر، قال ابن مسعود: لا جرم، والله لا أرفع كلمة بعدها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم}.
وفي حديث سنده حسن يقول صلى الله عليه وسلم: {لا تحدثوني عما يقول أصحابي، فإني أريد أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر} إن إسكات الكلمات، وإنهاء المشاكل، وعدم النميمة هي حل وصفاء للقلوب بإذن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فقام عليه الصلاة والسلام يقسم وهو أعدل الناس بحكم الله عز وجل وتوفيق الله من فوق سبع سموات، فأتى هذا الخارجي الذي ما فقه في الدين شيئاً ليقول له: اعدل.(231/19)
علامات الخوارج
يمتاز الخوارج كما يقول ابن تيمية وغيره من أهل العلم بأمور خمسة:
العلامة الأولى التكفير بالذنوب: يكفرون عباد الله بالكبيرة، فيخرجون الزاني عن الإسلام، وكذا شارب الخمر، ومنهج أهل السنة والجماعة ألا نشهد لأحد بجنة ولا بنار إلا لمن شهد له الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا من المسلمين أما الكفار ففي النار، ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، فمن شهد أن لا إله إلا الله، وأتى بالذنوب فنخاف عليه العقاب لكنه لا يكفر، فمنهجهم التكفير، وهذا أول ما تخصصوا به من بين الفرق والطوائف، وهو ضلال عجيب.
العلامة الثانية: لا يأخذون من السنة إلا ما وافق ظاهر القرآن: إذا وافق ظاهر القرآن أخذوا به كما يقول ابن تيمية وإذا خالف فلا يأخذون به، فهم أبطلوا كثيراً من نصوص السنة، ولذلك الرجم ما وجدوه في كتاب الله فتركوا الرجم، فلا رجم عند الخوارج.
والخوارج لما رأوا هذه المسألة ليست في القرآن تركوها، والآية التي تدل على هذه المسألة هي مما نسخ المسألة مما نسخت تلاوة وبقي حكماً، وقس على أمثالها.
حاكمهم عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد، المجدد في القرن الأول، فقال: مالكم لا تأخذون بنصوص السنة؟ قالوا: القرآن متواتر، وأما السنة فأحاديث آحاد ويدخلها الكذب والوضع، قال: ائتوني بعدد ركعات الظهر من القرآن، فسكتوا، قال: ائتوني بأنصبة الزكاة من القرآن فسكتوا، قال ائتوني بالمفطرات للصائم من القرآن؟ فسكتوا، ورجع منهم فئام كثير.
العلامة الثالثة: التشديد في العبادة على حساب الفهم: هذا الدين هو دين عبادة، ودين اتصال بالله ونوافل، لكن لا يكون ذلك على حساب الفهم، وفي سنن ابن ماجة بسند جيد موقوفاً عن ابن عباس رضي الله عنهما: [[فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد]].
الإسلام هو العلم، قال الله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] وإذا سمعت أحداً من الناس يهون من شأن العلم فإنما يثلم الإسلام، ويهدم بمعوله الإسلام، ويهون من شأن رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام.
والمذموم في النصارى: أنهم عبدوا الله بالجهل، وهذا ما وقعت فيه بعض طوائف الأمة كغلاة الصوفية، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27].
والمذموم في اليهود: أنهم علموا ولكن ما عملوا بعلمهم، قال الله عنهم: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13].
العلامة الرابعة: أنهم يقاتلون أهل الإسلام، ويتركون أهل الأوثان، قتلوا عبد الله بن خباب على نهر دجلة، وتركوا نصرانياً، ذلك أنه مر من الطريق فأخذ أحد الخوارج من بضاعته تمرة ثم سأل علماء الخوارج الذين هم جهلة، قال: أنا أخذت تمرة نصراني فهل يحق لي ذلك؟
قال: استغفر الله، ويلك من الله، تب إلى الله، وعد واستسمح منه لأنه من أهل الذمة، ثم أتوا عبد الله بن خباب أحد الصحابة، فقالوا: أتوافق علي بن أبي طالب؟ قال: نعم، فذبحوه على نهر دجلة، وهذا من سوء الفهم.
العلامة الخامسة: الخروج بالسيف على الأئمة بلا مكفر، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما في صحيح مسلم: {إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان}.(231/20)
الخوارج ومقتل علي رضي الله عنه
ونعود إلى ذلك الخارجي مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: اعدل، قال: {ويلك!! ومن يعدل إذا لم أعدل} قال خالد: ائذن لي فلأ ضرب عنقه.
خالد رضي الله عنه جاهز لضرب الأعناق، وهو لا يتوقف أبداً ولو أمره صلى الله عليه وسلم أن يضرب العشرات لضربهم بأسهل ما يمكن وهو يقول ويفعل رضي الله عنه وأرضاه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بعيد النظر، وإن هذا الرجل لو قتل لارتد أناس من البشر ومن القبائل وما اهتدوا إلى الله عز وجل، وقال: لا إن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم.
عبد الرحمن بن ملجم وكان خارجياً، وهو الذي قتل علياً، صلى في الليل حتى أصبحت جبهته كركبة العنز، ولا يفهم من هذا أننا نهون من شأن الصلاة، إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة لكن على الكتاب وعلى السنة، عبادة على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم، أصبحت جبهته كركبة العنز من كثرة العبادة، وختم حياته بالمأساة الكبرى قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وأتي به إلى علي، قال علي: ويلك أقتلتني؟ -وعلي ما زال في سكرات الموت- قال: نعم! أردت أن أتقدم بأفضل عمل، وقد نذرت ذلك لله عز وجل، وقد سممت هذا السيف شهراً كاملاً حتى أصبح أزرق، وحلفت لأقتلن به شر الناس، قال علي بن أبي طالب: فوالله إنك شر الناس، ولا تقتل إلا بسيفك هذا، فأول ما فعل أن قتل به، وقصته طويلة، ولكن المقصود أنهم كانوا مع كثرة عبادتهم لا يفهمون الإسلام، ولا يتفقهون في دين الله عز وجل، قتلهم علي رضي الله عنه، وهذا من حسناته ومواقفه الكبرى، وهو مؤيد منصور بإجماع أهل العلم سلفاً وخلفاً.(231/21)
حديث الأعرابي في السؤال عن الساعة ومكانة الحب
ثم قال البخاري رحمه الله تعالى: عن قتادة، عن أنس أن رجلاً من أهل البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: ويلك! وما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله، قال: المرء مع من أحب} فقال أنس: ففرحنا يومئذٍ فرحاً شديداً.
هذا الحديث يدور حول الحب، والحب حياة وطموح وجمال وقوة واستبسال، والحب تفَّوق وإقدام وبسالة، والحب عظمة وشموخ وعبقرية.
الحب يقع على الماء فيصبح زلالاً، وفي الهواء فيصبح عبيراً، وفي الروض فيصبح ناطقاً، وعبادة بلا حب طقوس لا تنفع، وتلاوة بلا حب تمتمة، ودعوة بلا حب كلام وهدر، حب لمن؟ لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
كان صلى الله عليه وسلم يتكلم للناس على المنبر، وكان أمامه علماء الإسلام ونجومه وأخياره، فأتى هذا الأعرابي الذي لا يعرف من الأجر شيئاً و {من بدا جفا} -كما في الحديث الذي تُكِّلم فيه؛ لكنه يقبل التحسين- فقال: يارسول الله! متى الساعة؟
والرسول لا يعطي حقوق الكثرة للقلة، أمامك جمع من الناس، وفئام تحدثهم، ألف رجل من الأخيار الأبرار تعبوا وحضروا، وتقطعهم من أجل طارئ، أتى يأخذ مسألته ويطير! فاستمر عليه الصلاة والسلام في كلامه، فقال بعض الناس: سمع ما قال فكرهه؟
وقال بعض الناس: بل لم يسمع؟
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من حديثه قال: أين السائل عن الساعة؟
قال: أنا يا رسول الله، فالرسول عليه الصلاة والسلام أنكر عليه السؤال، ولكنه أراد أن يسأل عما أعد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وما أعددت لها؟
أما سؤالك فليس بوارد، لا يعلم قيام الساعة إلا الله، لكن ماذا أعددت لها؟
فقال الرجل وكان فصيحاً: والله ما أعددت لها من كثير صيام ولا صلاة ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: {المرء يحشر مع من أحب} قال أنس في البخاري، فنحن نحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، ولم نعمل بعملهم، ونسأل الله أن يحشرنا في زمرتهم، ونحن كذلك ما جاهدنا، ولا سفكت دماؤنا، ولا داومنا على قيام الليل، ولا بذلنا أموالنا، ولكن معنا بعد الإيمان أننا نحب الله ورسوله وأصحابه الأخيار، عليه الصلاة والسلام.
كتب الإمام الشافعي للإمام أحمد رسالة توَّجها بأبيات، يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
تربية دعوية يقول:
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تُعطَّ طاعة
فوصلت الإمام أحمد فردها وقال:
تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم قد تناولنا الشفاعة
الشافعي قرشي من أسرة الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: أنا من ميزتي ومن حسناتي أني أحب الصالحين، وبعض الناس فيه تقصير، لكنه يحب الصالحين، وبعض الناس فيه خير، لكنه يبغض الصالحين، ويحب الفسقة فهو مع الفسقة، لأن المبادئ والولاء والبراء عقائد، والعقائد أكبر من الأمور التعبدية، العقائد كالجبال إذا رست في القلب أصبحت الحركات على هذه العقائد من زيارات ومن صلات وحب، يقول أبو عبيدة كما في كتاب الزهد للإمام أحمد: [[والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت متقياً لله حراً أو عبداً أبيض أو أسود إلا وددت أني في مسلاخه]] هل أجمل في الدنيا من التقى؟
وأنت جرب نفسك وإيمانك، إذا رأيت التقي بهيئته، بلبسه، بحركاته، بمنصبه، وهو تقي لله وأحببته، فهذا لارتفاع حب الله عز وجل في قلبك، أما إذا أحببت الناس على موازين أرضية وأشياء دنيوية، فهو من النفاق والخور الذي في القلب، نسأل الله العافية.
يقول الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه: [[تزودوا من الإخوان، فإنهم ذخر في الدنيا وفي الآخرة، قيل: يا أمير المؤمنين! أما في الدنيا فصدقت.
لكن في الآخرة بماذا؟ قال: أما يقول الله عز وجل: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] أما يقول الله عز وجل في الكفار لما عُتِبوا قالوا: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]]]
لو كان هناك صديق لكان نفع في هذا الموقف الحرج، قال ابن عمر رضي الله عنه في أثر صح عنه: [[والله لوقمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت أموالي غلقاً غلقاً في سبيل الله، ثم وجدت الله لا أحب أهل الطاعة، ولا أبغض أهل المعصية، لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار]].
وبعض الناس يحب الفسقة والفجرة، ويرضى بصنيعهم، ويزورهم ويزرونه على الرحب والسعة، وكأنه ما فعل شيئاً، وهذا لب درسنا هذه الليلة.
أما كان صلى الله عليه وسلم يقيم مبادئ الولاء والبراء على هذه الأسس (الحب في الله عز وجل).(231/22)
حب النبي صلى الله عليه وسلم
ذكر ابن كثير في ترجمة أحد السلاطين أنه كان يحب الله ورسوله، يقول: كان مسرفاً في الخطايا على نفسه، لكن إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم دمعت عيناه.
بعض الناس يبلغ بهم درجة الحب أنه إذا ذكر الله في مجالسهم دمعت عيونهم، وهذا هو الحب الصادق.
ابن تيمية يترجم لبعض العلماء يذكرهم في الفتاوى، يقول: الإمام مالك كان إذا ذكر صلى الله عليه وسلم في مجلسه تغير وجه، وكان زين العابدين علي بن الحسين يصفر وجه إذا ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم، لماذا؟
لأنه يتذكر أمامه رجل قاد العالم، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأنقذ نفسك عليه الصلاة والسلام، فقال: لما مات هذا السلطان، رئي في المنام، قيل: فما فعل الله بك يا فلان؟ قال: غفر لي مغفرة أخذت ما قرب وما قدم من ذنبي، وأدخلني الجنة، فأنا أطير من شجرة إلى شجرة، قالوا: أما كنت تفعل كذا وكذا؟ -يذكرون أموراً وذنوباً لا يسلم منها الناس- قال: أليس في الحديث الصحيح: {المرء يحشر مع من أحب} قالوا: بلى.
وذكر ابن كثير في ترجمة نور الدين محمود زنكي، هذا السلطان العالم العابد، ورحم الله تلك العظام، سادس رجل في العدل، فهو من أعدل الناس بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز، كان إذا انتصف الليل ضربت له الأسوار حتى يقوم هو وحاشيته وأهله يصلون إلى الفجر، هو الذي قتل المغاربة الذين أرادوا أخذ جثمان الرسول صلى الله عليه وسلم وأتوا من عكا.
نور الدين محمود كان يحب الله ورسوله حباً جماً، يقول لأحد الناس وقد حضر مجلس أحد المحدثين: أيذكر عندك الرسول صلى الله عليه وسلم وأنت تتكلم؟! وسمع ضوضاء فغضب وصاح، قال: إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يتكلم أحد، وكان يسل سيفه ويقول: أنا خادم للرسول عليه الصلاة والسلام.
نور الدين هذا عمل مهرجاناً في دمشق حضره ألوف من الناس، فلما اكتمل الحفل والمهرجان، قام أحد العباد العلماء اسمه الواسطي، فدخل عليه بجبة قديمة زهيدة، وبعصاه، ووقف أمامه، وقال: يا سلطان محمود! يا نور الدين! اسمع! قال: ماذا تقول؟ قال:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل نور الدين جاء مُسلماً فاحذر بأن تأتي ومالك نور
حرمت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور
قال: فبكى حتى سقط من على الكرسي إلى الأرض، حتى رش بالماء.
ولذلك ليس حب الله ورسوله حجر على أحد من الناس، لا يظن أهل الحديث الذين يقرءون الحديث أنهم فقط هم مظنة الحب، لكن المحبة منثورة في رياض أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال: {المرء يحشر مع من أحب}.(231/23)
الهجرة
أورد البخاري حديثاً فيه كلمة (ويحك) قال أبو سعيد رضي الله عنه وأرضاه: {أتى أعرابياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أخبرني عن الهجرة، قال: ويحك! إن شأن الهجرة شديد، فهل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فهل تؤدي صدقتها؟ قال: نعم، قال: فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئاً}.
فالقضية الكبرى في هذا الحديث ليست كلمة (ويحك) فهي مرت وتكررت، لكنها قضية الهجرة والهجرة على ثلاثة أضرب:(231/24)
أنواع الهجرة
هجرة الكفر، وهجرة المعاصي، وهجرة الواردات والشواغل.
فأما هجرة الكفر: فهي إذا ضيق عليك في مكان لا تستطيع ممارسة إسلامك فيه فاخرج من هذا البلد، وهذه واجبه.
وأما هجرة المعاصي: فهي هجرة واجبة على كل مخلوق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومن لم يهاجر بهذه الهجرة، فسوف يبقى في الخطايا والذنوب من أخمص قدميه إلى مشاش رأسه، وهذه الذي نحن بحاجة إليها، ونشكو حالنا إلى الله فيها.
وأما هجرة الواردات والشواغل والقواطع: فهذه للأولياء الصديقين السابقين بالخيرات، وهم الذين يقطعون كل قاطع يقطعهم عن الله عز وجل، وهؤلاء قاربوا درجة أبي بكر الصديق، وما بلغوا درجة أبي بكر؛ لكن أصبحوا من الولاية بمنزلة عظيمة.
والواردات والشواغل هي كل ما يشغلك عن الله عز وجل، فهم تركوها لوجه الله، وهؤلاء من مثل حنظلة الغسيل، سمع داعي الله عز وجل والهجرة إلى الله من الواردات والشواغل إلى جنة عرضها السموات والأرض وهو في ليلة عرسه، مع زوجته في اليوم الأول، فثار من على فراشه، واخترط سيفه وعليه الجنابة، وهب ليلقى الله عز وجل وقاتل حتى قتل، فأتى صلى الله عليه وسلم بعد قتله بلحظات، يشيح بوجهه صلى الله عليه وسلم، قالوا: مالك يا رسول الله؟ قال: والذي نفسي بيده! لقد رأيت الملائكة تغسل حنظلة بين السماء والأرض بصحاف من ذهب بماء المزن.
فهل أرفع من هذه هجرة يوم ترك الدواعي والشواغل؟!
إن بعض الناس باستطاعته أن يضحي بصلاة العشاء والفجر أو أي فريضة من فرائض الله، ليدهده ابنته الصغيرة لئلا تبكي على أمها، لأن القلب إذا مات حبسه كل شيء حتى خيط العنكبوت يربطه بسارية من السواري في البيت، أما أولئك فكان لا يحبسهم شيء؛ حتى الحديد يكسرونه، وينفذون إلى جنة عرضها السموات والأرض.(231/25)
أمثلة على الهجرة
من الهجرة: هجرة عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، سمع داعي الله فاخترط سيفه في أحد، وكسر غمده على ركبته، وقال: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى، فقتل وكلَّمه الله كفاحاً، وقال: تمنَّ يا عبدي، قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمنَّ، قال: ترضى عني، قال: فإني قد أحللت عليك رضواني فلا أسخط عليك أبداً -لأنه هاجر- قال: ثم جعل الله روحه وأرواح إخوانه في حواصل طير ترد الجنة فتشرب من مائها، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش.
كذلك هجرة عبد الله بن حذافة، دخل على ملك الروم، فقال له ملك الروم: ارجع عن دينك وأعطيك نصف ملكي؟
فضحك ضحكة المعتز الشجاع، المتمكن من دينه، المتيقن بحفظ الله، قال: والله لو أعطيتني ملكك وملك آبائك وأجدادك على أن أعود عن الإسلام طرفة عين ما فعلت.
قال: اذهبوا به إلى النار، فأخذوه فوجد إخوانه من الشهداء الأسرى قد ألقوا في قدور تغلي بالماء وقد تفصلت لحومهم عن عظامهم، فبكى عبد الله بن حذافة، فعادوا به إلى الملك.
فقال: أتبت من جريمتك؟ جريمة أن يقول: ربي الله، وديني الإسلام.
قال: لا والله ولكن أبكي أنه ليس لي إلا نفس واحدة، وأريد أن لي بعدد شعر رأسي أنفساً تعذب في سبيل الله.
فقال: والله لا أطلقك حتى تقبل رأسي، فَقَّبل رأسه، وتفل على رأسه، فأطلق له الأسارى فقال عمر: [[حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة]] هذه هجرة الشواغل والدواعي التي تقطع العبد عن الله عز وجل.
وأعظم ما يهاجر فيه العبد اليوم إذا سمع داعي الله في الصلوات الخمس، الآن عبادتنا الكبرى الصلوات الخمس؛ لأن هناك جبهات موجودة لكن من لا ينفع هنا لا ينفع هناك، بعض الناس لا يداوم على الصلوات الخمس، ويتحسر في مجلس وقد ملأ بطنه بما لذ وطاب من الطعام، ويقول: يا ليتني في أفغانستان أجاهد في سبيل الله.
وأنت لا تصلي في المسجد؟! والله لو كنت في أفغانستان، لكنت أول من يفر وآخر من يأتي من المجاهدين، لأن من لم ينتصر في عالم قلبه لا ينتصر في عالم الأرض، والذي لا يعلي لا إله إلا الله في المجلس، لا يعليها في الميدان ولا في المعركة.
أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا رواداً لذا كانوا في الصف الأول، أما أصحاب الصفوف المتأخرة، فلا يأتون إلا متأخرين دائماً: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37].(231/26)
الأسئلة(231/27)
رواية البخاري عن الخوارج
السؤال
كيف يكون حال رجال الخوارج هكذا ويروي لهم البخاري في صحيحه؟
الجواب
نعم البخاري روى عن بعض الخوارج، روى عن عمران بن حطان الشاعر الذي مدح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي وقال:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه من خير خلق عباد الله ميزانا
أو كما قال، وقال عالم أهل السنة يرد عليه:
يا ضربة من شقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا
إني لأذكره يوماً فألعنه وألعن عمران بن حطانا
أما عمران بن حطان وأمثاله الذين روى عنهم البخاري، فيجاب للبخاري بثلاثة أعذار، ذكر بعضها الذهبي وأبو داود علق على ذلك، الأول: أنه روى عنهم بعد التوبة، ولكن ما أقاموا على هذا القول دليلاً.
الأمر الثاني: روى عنهم في أمور لا تتعلق ببدعتهم.
والأمر الثالث: وهو الصحيح أن الخوارج من أصدق الناس فهم لا يكذبون أبداً، قرر ابن تيمية في الصفحة الخامسة في مقدمة منهاج السنة: إن من أصدق الناس الخوارج، ومن أكذب الناس الروافض.
حتى يقول الشعبي: قاتل الله الروافض، لو كانوا من الطيور كانوا رخماً، ولو كانوا من الحيوانات كانوا حمراً، ثم ذكر صدق الخوارج فهم صادقون لا يكذبون، فيروى عنهم.(231/28)
تقبيل يد الوالد ونحوه
السؤال
ما حكم تقبيل يد الأقارب كالوالدين والأعمام والإخوان؟
الجواب
هذا إذا كان للاحترام فلا بأس به، ففي الصحيح أن ابن عمر قبَّل يد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن هناك أمور تذكر تحفظاً وهي: أن بعض الناس يفتح هذا الباب على نفسه، وتصبح هناك قداسات، وتصبح أخلاق عبيد وموالي، كأن يأخذ المشايخ والأساتذة يده، ويقول: يا سيدي، يا مولانا، يا بركة الوقت، يا فتح الزمان، هذا لا يقبله الإسلام، هذه جاهلية وخرافة وتقليد لا يقبل.
فالمقصود أن الوالد لاحترامه لا بأس أن يقبل يده، والعالم كذلك؛ لكن أجدى أن يبقى التعظيم لله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يحمي جناب هذا الباب، ويقول: {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم} لأنه إذا فتح باب التقبيل والتبعية والإطراء، عظم الأشخاص حتى صاروا أعظم من الله عز وجل، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد ذكر بعض الناس بالتبجيل والإطراء والتعظيم في الأمة أكثر مما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام، وابن السبكي يترجم لأبيه في كما في طبقات الشافعية، فيقول: الإمام الأصولي المحقق، هدية الزمان، بركة الوقت، قبة الفلك، ما بقي عليه إلا أن يقول روح القدس.
أما إلى الوالد فلا بأس، أما العالم فلا يفتح هذا الباب ولا لغيره، ويكتفى بالاقتصاد فيه، لتبقى العقيدة سليمة من الثلم.(231/29)
ما يكتب للإنسان من صلاته
السؤال
هل صحيح أنه ليس للإنسان من صلاته إلا ما وعاها؟
الجواب
نعم.
عند الترمذي والنسائي عن عمار رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن من أحدكم من يخرج من صلاته ما له منها إلا عشرها، إلا تسعها، إلا ثمنها} هذه رواية العدد التنازلي.
وورد في روايات أخرى: {إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها} هكذا، والأول أصح؛ فالإنسان ليس له من صلاته إلا ما وعى، وحد الوعي هو أن يدري ما يقول في الصلاة، إذا سألته وقلت له: ماذا قرأت بعد الفاتحة؟ قال: إذا جاء نصر الله والفتح، فقد وعى، أما من لا يدري ماذا قرأ الإمام، وما قرأ هو، فهذا ما وعى صلاته وقد ذهب عليه إلا ما وعى منها، فليعلم هذا.(231/30)
ابن سيناء
السؤال
ورد عن بعض العلماء في هذه المنطقة أن ابن سيناء كافر ضال، وهناك شيوخ يترحمون عليه؟
الجواب
ابن تيمية يقول: ابن سيناء وأمثاله من أفراخ الصابئة، ومن أذناب المجوس، ويقول: إن كان صح عنه ما يقول فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وذكر عنه في كتاب المنطق في المجلد التاسع أنه كان يقول: بعبادة الكواكب وهذا أمر خطير، والذين يترحمون عليه أناس عندهم علم لكنه علم دنيوي، وأهل تكولنوجيا مثل بعض أساتذة الجامعات والمؤسسات، عندهم خير لكن لا يعرفون منهجهم في الدين، فهم يكتبون الأقسام بـ ابن سيناء، والسكن والجامعات، افتخاراً بهذه العقلية، وهو محسوب على الإسلام، ونبرأ إلى الله من كل ضال، وما ندري هل تاب أم لا؟!(231/31)
كتاب رجال حول الرسول
السؤال
كتاب رجال حول الرسول لـ خالد محمد خالد؟
الجواب
هذا يقوم بالحسنات والسيئات، هذا الكتاب من أحسن الكتب لأمور:
أولاً: جودة الأسلوب، فالنصوص والتراجم قدمت في قوالب طيبة، يشكر صاحبها عليها.
الأمر الثاني: أنه اختار المواقف الرائعة من حياة الصحابة ولأنها بشيء من الأدب فكانت مؤثرة.
الأمر الثالث: أن الرجل يظهر فيه حب لله ولرسوله، لأنك تعرف من قلم الرجل ومن كلام الرجل أنه يحب الله ورسوله، ليس كرجل حاقد على الإسلام يتكلم على الإسلام، حاشا وكلا، أما المآخذ عليه فتؤخذ عليه ثلاثة مآخذ:
أولها: أنه تكلم في ترجمة أبي ذر بكلمة ينبغي أن يستغفر الله منها، وثقافته كانت اشتراكية قبل أن يتوب وقد أعلن توبته كما أعلنت ذلك مجلة المجتمع قبل سنوات، فأتى بالكادحين ومسألة العمال، وهذه ما أتت من الشرق، وإنما أتت من ماركس، وموسكو لا من المدينة المنورة، فيحسب عليه ذلك.
المسألة الثانية: أنه لم يوثق بعض القصص والأحاديث بل تركها بلا زمام ولا خطام.
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل
فعليه أن يقيدها إن أراد أن يكون محققاً.
المسألة الثالثة: أنه أضفى بعض التهويل على بعض الأمور، وينبغي أن يكون الإنسان متعقلاً مع الأصالة، فلا يجنح به الخيال إلى أن تكون نصوصه فلسفية.
محمد إقبال أخذوا عليه أنه جعل نصوص الدين فلسفة يعرضها في قوالب فلسفية، ونحن عباد ندين الله بأننا مذنبون، والصحابة أخيار وأبرار وفضلاء ونبلاء لكن عندهم ذنوب، وليسوا بدرجة العصمة كالرسول عليه الصلاة والسلام، فقضية أن يأتي بمثل بلال، وأن يجعله كأسطورة لا يذنب ولا يخطئ، ولا يسهو ولا ينسى؛ فهذه درجة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأما الكمال المطلق فهو لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
تكلم الأخ أن بعض العلماء في هذه المنطقة صححوا حديث: {من قرض بيتاً بعد صلاة العشاء فلا تقبل له صلاة ذلك اليوم} نقول هذا العالم يحترم رأيه في هذا، ووصل اجتهاده إلى هذا، وأمر التصحيح والتحسين والتضعيف أمر اجتهادي ومسائل تختلف، وحديث صلاة التسابيح كتب فيه ناصر الدين الدمشقي رسالة التنقيح في صلاة التسابيح، قال: صححه بعض العلماء وحسنه بعضهم، وضعفه بعضهم، ووضعه بعضهم، فليس بغريب أن يختلف في حديث؛ فهو أمر اجتهادي، وأنا كطويلب علم توصلت من دراسة الأسانيد وكلام أهل العلم بأن هذا الحديث لا يصح؛ لأنه ثلم في قواعد الدين وأصول الإسلام.
سبحان الله! رجل صائم مصل عابد يقوم الليل، قال بيتاً من الشعر بعد صلاة العشاء فحبط صلاته وصيامه وعبادته، ولا تقبل له صلاة ذاك اليوم.
عمر رضي الله عنه كان ينظم الشعر ويقوله بعد صلاة العشاء في السفر.
الصحابة كانوا يحدون به بعد صلاة العشاء، والأمر الغريب إذا أتى إلى قواعد مشهورة ليثلمها رددنا هذا الأمر الغريب، فهذا حديث شاذ يقدح في أصول أصبحت كالجبال فلا يقبل.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(231/32)
كتب في الساحة الإسلامية
الكتاب هو مثل الصحاب، يحتاج إلى اختيار.
والشيخ قد ذكر في كل فن من فنون العلم أشهر الكتب، وذكر مميزاتها والمآخذ عليها، وحذر من بعض الكتب فاقرأ هذه المادة حتى لا تفوتك هذه الفوائد الجمة.(232/1)
فوائد مصاحبة الكتاب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل لله، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته
أيها الإخوة الأبرار! طلبة العلم الأخيار! إنه مما يسعدني في هذه الجلسة أن أدخل معكم في المكتبة الإسلامية، وإنَّ أشرف ما يمكن أن نعيش به في الحياة بعد الإيمان والعمل الصالح هو تحصيل العلم وقراءة كتب العلم:
يا تقياً والتقى جلبابه
وذكياً حسنت آدابه
قم وصاحب من هم أصحابه
لا تقل قد ذهبت أربابه كل من سار على الدرب وصل
والمكتبة الإسلامية سوف ندخلها هذه الليلة -إن شاء الله- لنقف مع الكتب المشهورة في المكتبة الإسلامية، ونتحدث عن الفنون: الحديث بعد القرآن، والتفسير، والفقه، والمصطلح، وأصول الفقه، والأدب، والتاريخ، والرجال، والسير.
ونتحدث -إن شاء الله- عن الشروح والمختصرات؛ كل ذلك على نطاق الاستقراء، وعرض بعض الأمثلة وبعض النقود التي لا تسلم منها كتب البشر.
الكتاب الإسلامي النافع المفيد هو أنيسك في الوحدة كما قال الجاحظ، والكتاب يا طالب العلم هو رفيقك في درب الحياة، والكتاب صاحبك الذي لا يخونك ولا ينم عليك ولا يملّك ولا يسئمك ولا يغدرك، والكتاب خير جليس، قال: أبو الطيب المتنبي:
أعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب
فإذا كان جليسك في الحياة الكتاب فأبشر ثم أبشر خاصة إذا كان الكتاب الإسلامي النافع المفيد، وأعظم كتاب طَرَقَ المعمورة، ووجد في الأرض هو كتاب الله عز وجل، وفضائله ومآثره تحتاج إلى دروس ودروس ليست جلسة واحدة، وكفى هذا الكتاب أنه معجز وأنه مؤثر وأنه {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وقوله تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] وقوله عز من قائل: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] وقوله جلت قدرته: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1 - 4].
إنني أستسمحكم عذراً معلناً عجزي عن عرض فضائل هذا القرآن في مثل هذه الجلسة؛ لأنها لكتب ولمؤلفات البشر، ثم أحيلكم على كتاب الإمام النووي المسمى التبيان في آداب حملة القرآن ذاك الكتاب الضخم، وإلى غيره من كتب أهل العلم، لكن لندخل الآن إلى فوائد الكتاب الإسلامي الذي يرزقك علماً وإيماناً، وحباً وطموحاً.
من فوائد الكتاب:(232/2)
التأثير على الناس
إن من استصحب الكتاب كان له تأثير في الناس.
قال السلف الصالح كما في السير: من خدم المحابر خدمته المنابر، أي: أعلن دعوته وعلمه وأفاد الناس.(232/3)
الأنس
قال بعض الفضلاء: صحبت الناس فملوني ومللتهم، وصحبت الكتاب فما مللته ولا ملني.(232/4)
السلامة من قرين السوء
فإنك إن لم تصاحب الكتاب جلست مستوحشاً إن لم تكن في ذكر لله أو جلست مع جليس سوء يغتاب وينم ويفحش في الكلام، ويعرضك لمجريات الحياة، ويضيع عليك الأوقات النافعة والمفيدة، قالوا لـ ابن المبارك رضي الله عنه وأرضاه: أين تذهب يوم تدخل بيتك؟
قال: أجلس مع الصحابة، قالوا: أين الصحابة وقد ماتوا؟
قال: أجلس مع كتبهم، أما أنتم فتغتابون الناس.(232/5)
شحذ الهمم
وخاصة لمن قرأ سير العظماء والعلماء والرواد من الأخيار والشهداء فإنها تزيدك بصيرة وطموحاً وهمة، وجرب نفسك يوم تستعرض سيرة الإمام أحمد أو مالك أو الثوري أو ابن تيمية أو ابن القيم أو غيرهم كيف تزداد عزيمة وصرامة؟!
لأن الذي لا يتذكر التراجم يعيش على هامش الأحداث، لا يرى في المجتمع قدوةً، ولا أسوةً، لا يرى مبرزاً في العلم والعمل؛ فيبقى هكذا.(232/6)
حفظ الوقت
فإن من فاته الذكر والعبادة لا يحفظ وقته إلا مع الكتاب الإسلامي النافع المفيد.(232/7)
كتب التفسير
والآن لندخل إلى التفسير وقد أعلنَّا العجز على أن نتحدث عن فضائل القرآن الكريم، وقلنا: إن هذه العجالة لا يمكن أن تأتي على حصر فوائد القرآن، ويوم تكون طالب علم تطالب أول ما تطالب أن يكون القرآن في مكتبك، وتحفظ منه ما تيسر وتتدبره، ويكون هو وردك دائماً ومعلمك وأنيسك وربيع قلبك، جعله الله لنا وإياكم قائداً إلى الجنة.
أما فن التفسير فهو فن أغدق فيه المسلمون، وأغزروا الفوائد، وخدموه خدمة بارعة، وهو على قسمين: التفسير بالرواية، والتفسير بالدراية.
فالرواية: هي النقل.
والدارية: هو الرأي.
وأنا أذكر الكتب التي لا يمكن أن تستغني عنها في مكتبتك أو أن تعود إليها وكيف تكون عارفاً بها أو محيطاً ببعض جمل فوائدها.(232/8)
تفسير الطبري
أعظم تفسير عند المسلمين جمع فأوعى تفسير ابن جرير الطبري، ومن فوائده ومناقبه وميزاته وخصائصه ثلاث خصائص:
1/ أنه اعتنى بالتفسير المأثور المنقول عن الرسول عليه الصلاة والسلام وعن أصحابه.
2/ أنه أثبت ما نقل بالسند، فأحالك على سند ولم يأتِ بالكلام بلا خطام ولا زمام، ومن يرد الكلام بلا خطام ولا زمام يثرب عليه:
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل
3/ أنه أتى بلب اللغة العربية، واستشهد بالأبيات التي هي شواهد من شعر الجاهليين وغيرهم، وأقرها أهل اللغة.
لكن مما يلاحظه الإنسان لأن كل كتاب إلا ما أسلفت يلاحظ عليه شيء {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
في تفسير ابن جرير طول مطيل، فقد أطال فيه ومد الكلام، وبسط الحديث بشيء يمل، والذي أطاله الأسانيد؛ فإنه يأتي بالسند الطويل الطويل، ثم يأتي في رأسه بكلمة، وهذا قد يأخذ وقتاً كبيراً على طالب العلم.
ومنها: أنه قد يورد روايتين أو ثلاثاً ثم لا يرجح، ولا بد لطالب العلم أن يحقق المسألة ويرجحها، ويعتمد قولاً واحداً ليكون عليه مدار العلم.
الأمر الثالث: أنه مر على كثير من الأحاديث الضعيفة، ولم ينبه على ضعفها ولا على درجتها ولا على صحتها، وحق على طالب العلم على ألا يمر بحديث إلا وينبه عليه لتبرأ ذمته وعهدته، خاصة من مثل الإمام ابن جرير الطبري ذاك العالم الفذ.(232/9)
تفسير ابن كثير
والتفسير الثاني تفسير ابن كثير ذكر عن الشوكاني كما في البدر الطالع أنه قال: ما أعلم تفسيراً أحسن منه فكيف مثله؟!
وذكر عن السيوطي أنه قال: ما على وجه الأرض أحسن من تفسير ابن كثير وفيه ثلاث ميز:
1/ أنه يفسر القرآن بالقرآن، فيورد الآية ثم الآيات التي تدور حول المعنى وتفسر المعنى في الجملة، وهذه منقبة عظيمة وهو تفسير القرآن بالقرآن.
2/ أنه يأتي بالأحاديث النبوية من النقل ويسندها إلى الكتب المعتمدة واعتمد على مسند الإمام أحمد كثيراً حتى كان تفسيره كله فيه قال أحمد: حدثنا فلان، ثم ينسب الحديث للستة وإلى غيرهم.
3/ أورد كلام التابعين ومن بعدهم بأسمائهم ونبه على ذلك.
ولكن نقاط الضعف فيه في أمور، منها: أنه حذَّر من الإسرائيليات في أول الكتاب ثم نسي وأتى بالإسرائيليات وهو أنقى الكتب من الإسرائيليات، لكن وجد مع ذلك إسرائيليات.
ومنها: أنه في بعض الأحاديث لا يستوعب ما نقل في الآية من كلام أهل اللغة ليبسطها بسطاً واضحاً، فإنَّ بعض الآيات إذا راجعتها لا تجد إلا كلاماً قليلاً فيها تحتاج إلى غزارة وتبسيط وإلى إيراد وشرح حتى تقرب من فهم السامع ومن فهم القارئ ومن فهم طالب العلم، لكن شكر الله له جهده وأثابه، ولو أن بعض الأحاديث تحتاج إلى تخريج، وقد بدأ بذلك بعض طلبة العلم، وقد رأيت مجلداً لتحقيق هذا الكتاب الفذ، واختصره العلماء منهم نسيب الرفاعي في مختصر جيد وليته أبقى على روح الكتاب وعلى ضميمة كلام السلف ونقولاتهم لكان أفضل.
ومنهم أيضاً الصابوني، وقد أحسن في كثير من اختصاره لو أنه ترك التدخل في بعض المسائل، ولو أنه أبقى الكلام على اعتقاد السلف في هذا الكتاب أفضل.(232/10)
تفسير القرطبي
التفسير الثالث: تفسير القرطبي وهو يحتل المكانة الثالثة، ولا بد من مكتبتك أن تحفل بـ تفسير القرطبي قال الذهبي: ألف القرطبي تفسيراً فأتى فيه بكل عجيب، فميزته أنه يجمع آيات الأحكام، وأحاديث الأحكام، وأقوال أهل العلم في مسائل الأحكام، ثم يستخلص الراجح عنده، فهو كتاب أحكام وفقه قبل أن يكون تفسيراً، ومن ميزته: أنه حشد حشدًا هائلاً من الأدلة والإيرادات، فأتى كما قال الذهبي: بكل عجيب.
ومن ميزته أيضاً: أنه لم ينس جانب اللغة والأدب والشعر، وأتى بشواهد اللغة كما فعل ابن جرير.
لكن عليه ملاحظتان.
1/ أتى بأحاديث موضوعة يعرفها كل من يبدأ يقرأ في سورة الفاتحة، فعند (بسم الله) أتى بأحاديث موضوعة ومكذوبة، والواجب أن ينبه عليها خاصة وهو محدث ولا تبرأ ذمته بإيراد الحديث إلا بالتنبيه.
2/ أنه قد يؤول في بعض الصفات، وهذا خلاف منهج أهل السنة، كما فعل في بعض المواطن في سورة الأعراف أو الأنعام فليتنبه لذلك؛ لأن منهج أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات إمرارها كما جاءت مع الإيمان بمعناها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل.(232/11)
تفسير الزمخشري
أما التفسير الرابع فهو تفسير الزمخشري المسمى بـ الكشاف والزمخشري عالم لغوي فذ من أكبر العلماء، وهو حجة في اللغة لكنه معتزلي الرأي، معتزلي الفكر، معتزلي المعتقد، وقد شنع على أهل السنة والجماعة وكتب قصيدة في أهل السنة والجماعة يقول:
لجماعة سموا هواهم سنة لجماعة حمر لعمري موكفة
فنزلوا عليه وردوا عليه مقابل ست قصائد سحقت قصيدته، ومن لطائف الحديث عن الزمخشري أنه كان في طفولته يربط طائراً في بيته - وهذا استطراد ولطائف حتى تدبج الجلسة- فأتى هذا الطائر فاقتطع الحبل فنشبت رجله فانقطعت مع الحبل وذهب الطائر برجل واحدة.
قالت أم الزمخشري له: قطع الله رجلك كما قطعت رجل هذا الطائر، فذهب فوقع في ثلج في طريقه إلى مكة فتجمدت رجله فبترت من فخذه، فأصبح على رجل واحدة وجاور بيت الله في مكة ولذلك قال الراثي له:
وأرض مكة تذري الدمع مقلتها حزناً لمرحل جار الله محمود
أو كما قال، والرجل هذا فيه خبايا ودسائس وقد ناصر عقائد الاعتزال وأظهرها في كتابه، وشحن بها الكشاف، وميزة الكشاف: أنه كتاب لغة وأنه حجة في اللغة، وأن له إيرادات ونكت عجيبة ومسامير إذا دخلت في التاج أحكمت الصنعة، لكن في اللغة واللطائف، وهو صاحب إشراقات في باب البديع والبيان.
ومثالبه:
1/ الرجل ليس بحجة في الحديث النبوي، فبضاعته في الحديث مزجاة {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88].
2/ الرجل على عقيدة الاعتزال.
3/ لم يُوفِ بعض الآيات حقها من البسط والبيان كما فعل غيره كـ القرطبي، ولكن حسنته في البديع والبيان والنحو.(232/12)
كتاب الرازي
وهذا كتاب الرازي قالوا عنه: فيه كل شيء إلا التفسير، وهذه الكلمة لا تقبل، بل فيه تفسير كثير.
لكن منها: أنه جمع علم: الكيمياء، والفيزياء، والأحياء، والجغرافيا، والتاريخ، وأتى بكلام المنطق وعلم الكلام، حتى جعل الفاتحة في مجلد كامل.
الأمر الثاني: أن الرجل ليس بحجة كصاحبه في الحديث النبوي، يأتي يقول: القمر والشمس يكوران كالثورين، ويوضعان في جهنم؛ وهذا حديث لا يساوي فلساً واحداً وليس بصحيح.
ومنها: أن الرجل معجب بعلم الكلام، ويعقد معاني ودلالات القرآن تعقيداً وهو عالم كلام، رد عليه ابن تيمية في كتاب درء تعارض العقل والنقل، وفيه فوائد لا يخلو منها أي كتاب، ولكنه ابتعد عن روح القرآن، ولم يأتِ بنقل، ولم يشحن الآيات في المعنى الواحد كما فعل ابن كثير، ضعف في النقل وترك كلام التابعين والصحابة ولم يورده إلا نادراً وقد مات قبل أن يكمل كتابه فأكمله أحد تلاميذه مثل ما فعل هو.(232/13)
فتح القدير للشوكاني
الشوكاني من علماء أهل السنة والجماعة، ومعتقده في الجملة معتقد السلف، وهو عالم ضخم متبحر في العلوم، ومن أراد أن يعلم تبحره، فليقرأ رساله له بعنوان: أدب الطلب ومنتهى الأرب.
حتى يقول: إنني في بداية شباببي أو كما قال: قرأت بيتين للشريف الرضي - الشريف الرضي شاعر من سلالة الحسين بن علي وهو في القرن الثالث، له بيتان في علو الهمة، فزاد الشوكاني في طلب العلم يقول الشريف الرضي:
أقسمت أن أوردها حرة وقاحة تحت غلام وقاح
إما فتى نال المنى فاشتفى أو فارس زار الردى فاستراح
وهو يطلب ملك الدنيا وإمارة الدنيا، الشوكاني قال: العلم أفضل:
إذا سألت الله في كل ما أملته نلت المنى والنجاح
بهمة تخرج ماء الصفا وعزمة ما شابها قول آح
فبدأ يطلب العلم، وأجل كتابين له: نيل الأوطار وفتح القدير.
كتابنا هنا فتح القدير ميزته الآتي:
1/ أنه فسَّر بالدراية والرواية.
2/ أنه استوعب كلام النحاة حتى كأنك تقرأ في كتاب لـ سيبويه أو للزجاج أو لـ ابن خروف أو ابن عصفور.
3/ أنه لم ينسَ الصرف واللغة، لكنه شحن الكتاب حتى أصبح فيه ملل، حتى الآية كأنها نحو وكأنها تصريف وحال وتمييز ومبتدأ وخبر، وهذا يؤخذ بقدر الحاجة.
4/ أنه أتى بعلم مأثور بعد ما ينتهي من الآيات قال: وأخرج فلان، وأخرج فلان.
وهناك أمور تنقصه:
1/ أنه كذلك لم يسند الآيات بعضها لبعض كما فعل ابن كثير لتفسر بعضها بعضاً.
2/ أنه لم يعتمد على الصحاح ويذكر الحديث الصحيح من الحديث الضعيف.
3/ أنه أورد الأحاديث بلا خطام ولا زمام من ابن مردوية ومن الطبراني ومن ابن أبي الشيخ وهؤلاء مظنة الضعف في الكتب، ثم جعلها في كتابه ولم ينبه، والواجب أنه ينبه رحمه الله، وله بعض المواطن له كلمة يقول: ربما الأمثلة في القرآن ما وقعت لكن من باب المثل، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً} [النحل:112] أو قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [الزمر:13] يقول: يمكن أنه ما هناك قرية، نقل عنه في سورة الرعد وأظنها -إن شاء الله- لا تثبت عنه لكنها زلة قلم.(232/14)
أضواء البيان
أضواء البيان للعالم الأريب الكبير -رحمه الله رحمة واسعة- محمد الأمين الشنقيطي وقد توفي قبل عشرات السنوات قريباً.
هذا الكتاب فذ من كتب التفسير، ومن المتوقدة والاستنباط اللطيف، وتحقيق المسائل خاصة في سورة الحج في مجلد الحج فقد أبدع وأروى، والرجل نظار من الدرجة الأولى، وعالم بحر فهامة، وحافظ للغة، والكتاب ينقصه أمور منها:
1/ أن فيه أجزاء أو آيات أو عشرات الآيات والمقاطع لم يفسرها.
2/ أنه أكثر من أصول الفقه والتعقيدات الأصولية كأنك في كتاب أصول فقه.
3/ أن بعض المسائل في اللغة تحتاج إلى بسط لا يعرفها من أمثالنا مثل: مسائل النحو والتصريف، فهي شائكة تحتاج إلى بسط لطلبة العلم، لكن حسناته أكثر بكثير من مثالبه، رحمه الله وجزاه الله خيراً.(232/15)
في ظلال القرآن
لـ سيد قطب: هذا ليس تفسيراً كما قال صاحبه، هو كتاب أنداء وأطلال ونسمات وإشراقات وإبداعات وميزته:
1/ أنه يربط علم الواقع بالقرآن.
2/ أنه يتحدث عن الوقائع العصرية التي وجدت في هذا العصر.
3/ أنه كتب بيد رجل أديب يسيل قلمه أدباً وروعة ورشاقة، فهو يبدع مثل في سورة الغاشية، قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:17 - 18] يقول في كلام ما معناه: أفلا ينظر أهل الصحراء إلى السماء، والسماء في الصحراء لها طعم ومذاق، فكأنه لا سماء إلا في الصحراء، السماء بأصيلها الفاتن بحديثها الساحر إلى آخر ما قال.
4/ ومن ميزته: أنه كتبه رجل عرف الكفر عن كثب، ودخل أمريكا ورأى أوروبا، ورأى المجتمعات الجاهلية، وقرأ كتبهم ثم أتى يكتب من مركز قوة.
أما الأمور التي تنقصه:
1/ فمنها: أنه تلعثم في بعض الصفات، وهو لا تؤخذ من مثله العقيدة، ولو أنه من أهل السنة ومن السلف الصالح الذي ندعو لهم بكل خير ورحمة ونجاة عند الله.
2/ أنه قد اقتضب في بعض الآيات التي تحتاج إلى بسط، ويسهب في بعض الآيات التي تحتاج إلى اقتضاب، وهذا وجهة نظر لا أحكم نفسي في هذه المسألة؛ لأنها تقبل وجهات النظر، وحبذا أنه خرج الأحاديث التي يوردها، ولكنه يعتمد كثيراً على زاد المعاد لـ ابن القيم، وعلى تفسير ابن كثير فجزاه الله خيراً.(232/16)
كتب الحديث
أما الحديث النبوي فهو الفن العظيم الذي أبدع فيه المسلمون وجعلوه رائعاً جداً، وجعلوا فيه فوائد وأسساً وقيماً لم توجد في أي علم غيره، وهو العلم الذي نتشرف فيه ونفتخر به عند أعداء الإسلام بعد القرآن ندخل إلى مكتبة الحديث لا بد في مكتبة الحديث أن تكون في مكتبتك يا طالب العلم! أول الكتب التي تطالعنا وهي كالتالي:(232/17)
صحيح البخاري
صحيح البخاري تجرد لكتابة الصحيح فحسب بمشورة الإمام شيخ البخاري الشيخ إسحاق بن راهويه وميزة صحيح البخاري ثلاث ميز وهي كالتالي:
1/ الصحة المتناهية، والشرط القوي في إيراد الحديث: إذا كان الحديث في البخاري فهو حجة.
2/ كثرة الفوائد: ففيه من التعليقات وكلام الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وبعض الاستنباطات.
3/ جودة التبويب والترتيب، فإنه دبجة ووسحه بتبويب وترتيب عجيب عجيب!!
أما الملاحظات فلا يعفى منها إلا كتاب الله عز وجل، وأما الكتب غيره فإنه قد تدخلها الملاحظات، ومن نحن أن نلاحظ، لكن قد يأتي المفضول ويلاحظ على الفاضل.
هناك بعض التعليقات تحتاج إلى خدمة وخدمها ابن حجر، وهناك كثير من التكرار حتى أنه كرر حديثاً واحداً ما يقارب سبعة وثلاثين مرة وهو يريد التكرار للفائدة، لكن طالب العلم يوم يأتي يتكرر معه الحديث دائماً قد لا يرتضي هذه الطريقة ويحبذ طريقة مسلم: أن يورد الحديث في مكان واحد.
ومنها أن الكتاب ينقصه جودة التبويب، فإنك تبحث عن الحديث في النكاح فلا تجده إلا في الغزوات، وتبحث عن حديث في الغزوات فتجده في التفسير، وعن حديث في التفسير فتجده في التوحيد، فالبحث عن الحديث في كتاب البخاري متعب وشاق.
أما اختصارات البخاري فاختصره الزبيدي في كتاب التجريد الصريح وهو مجلد لطيف، حبذا أن يكون معك، وأن تكرره ثلاث مرات أو خمس مرات، فإذا كررت هذا الكتاب يقع فيما يقارب ثلاثمائة صفحة فكأنك قرأت البخاري كله، وسوف تعرف هل الحديث في البخاري أم لا في قراءة هذا الكتاب الذي لا يأخذ منك أسبوعاً كاملاً.
واختصره الألباني في مختصر، لكن ما أتمه، وقد أجاد الاختصار، أما طريقة الزبيدي في التجريد الصريح فإنه حذف الأسانيد والمكررات والأبواب، وأبقى اسم الصحابي، وأتى بمتن الحديث، وإذا كان فيه زيادة أشار إليها، فقد أحسن إحساناً كثيراً، والألباني يشير إلى الأبواب والمواطن وأتى بالحديث فكبر حجم المختصر.
أما شروح البخاري، فشرح بما يقارب ثمانين شرحاً، وعند المسلمين الآن أعظم الشروح البارزة ثلاثة:
1/ فتح الباري للإمام ابن حجر العسقلاني.
2/ وإرشاد الساري للعلامة القسطلاني.
3/ وعمدة القارئ للشيخ العيني.
فأما فتح الباري فقد قال الناس للشوكاني: ألا تشرح لنا صحيح البخاري؟ قال: لا هجرة بعد الفتح، أي بعد فتح الباري، وحديث: {لا هجرة بعد الفتح- أي: فتح مكة - ولكن جهاد ونية} حديث متفق عليه عنه صلى الله عليه وسلم.
وفتح الباري من أحسن الكتب! فقد أجاد كل الإجادة ولو كان عند المسلمين معجزة من التأليف لكان فتح الباري وفتح الباري بديع جد بديع في إيراداته، وفي قوته العلمية، وفي فنونه، وفي رشاقته، وفي قوته العلمية، وثقة مصادره، ولكن الرجل في العقيدة تقلب على ثلاثة أحوال:
1/ مرة سكت على معتقد السلف.
2/ ومرة أوَّل.
3/ ومرة أقر مذهب السلف.
ولكنه من أهل الخير والصلاح والعلم والنبل الذي نفع الله بهم الإسلام والمسلمين كثيراً.
أما العيني فـ فتح الباري أحسن من عمدة القارئ لكن يمتاز باللغويات والأدبيات وكثرة الشواهد النحوية، لكن لا يرقى في الحديث لدرجة ابن حجر العسقلاني.
وأما القسطلاني فهو أشبه بالرموز لكن فيه هبة صوفية قليلاً، وروحانية من ذاك النفس، فيتنبه من هذا الباب، لكنه لا يستحق البسط كثيراً، هذه كتب الحديث وصحيح البخاري.
وهناك شرح لو خرج لكان هو الشرح الصحيح، وهو الشرح الراجح شرح ابن رجب، وقد رأيت منها ما يقارب ثلاثمائة صفحة مصورة من مخطوطة وهو من أجود ما كتب، جاء فيه بكل عجيب، وإذا أردت أن ترى سمو ابن رجب في شرح الأحاديث فانظر إلى جامع العلوم والحكم، كيف أبدع فيه إبداعاً عجيباً؟!
أما مكانة صحيح البخاري فهو في المرتبة الأولى بعد كتاب الله عز وجل كما قاله ابن تيمية في المجلد الأول، أما تبويبه فبديع على ثلاثة أصناف: مرة يأتي بالباب من الحديث، ومرة يأتي بالباب استنباطاً من عنده، ومرة يأتي بالباب استنباطاً مظنوناً ليس أصلاً في الحديث، ولكن لا تدري أنت حتى يتوقف كثير من الشراح ما مناسبة الباب؟ وما مناسبة الترجمة للحديث والباب للمتن؟
أما فوائده فهي كالتالي:
1/ أنه يكرر الحديث فيكثر مخرجوه من المشايخ والأسانيد.
2/ أنه يأتي بالمعلقات كثيراً فيشحن الحديث بعلم.
3/ أنه يبوب ويستنبط لك، فهو فقيه التبويب، وفقهه في أبوابه رحمه الله.(232/18)
صحيح مسلم
صحيح مسلم: الراجح عند الجمهور أن صحيح البخاري يقدم على صحيح مسلم إلا عند المغاربة وعند أبي علي النيسابوري، فقدموا صحيح مسلم على البخاري، والصحيح أن البخاري يقدم، وليس في صحيح البخاري حديثاً ضعيفاً، ولو أن ابن حزم يقول: حديث الغناء عند البخاري حديث ضعيف؛ لأنه منقطع بين البخاري وهشام بن عمار فرد عليه محدثون، وقالوا: بل موصول وقد روى البخاري عن هشام بن عمار حديث الغناء: {ليكونن أقوام من أمتي يستلحون الحديث} وقد انتقد صحيح البخاري الإمام الدارقطني وقد رد عليه العلماء، والدارقطني يريد الخير، ويريد البيان لبعض العلل، وليس فيه ضغينة بحمد الله، بل هو من علماء الإسلام، وقد انتقد صحيح البخاري من مثل أبي رية العميل للمستشرقين، وبعض المستشرقين، كـ جولد زيهر، ورد عليه العلماء مثل كتاب الأنوار الكاشفة لظلمات أبي رية >1002755
ودفاع عن أبي هريرة لـ عبد المنعم صالح العلي العزي العراقي الذي هو صاحب المنطلق والعوائق والرقائق، وكتاب عبد الرزاق حمزة ذاك الكتاب الفذ.
اختصر صحيح مسلم العلامة المنذري في مختصر صحيح مسلم وهو مطبوع وهو أحسن ما اختصر لكنه حذف بعض الأحاديث وبعض الزوائد المهمة.
شروحه: شرح صحيح مسلم وأحسن من شرحه النووي ولو أنه اقتضب العبادة لكنه لا يرتقي إلى درجة فتح الباري، وفيه تأويل في بعض الصفات على منهج الأشاعرة أهل التنزيه من أهل النقل فينتبه له، والأبي له شرح على صحيح مسلم، وهو مطبوع، لكنه ليس مشهوراً عند طلبة العلم.
مميزات صحيح مسلم وما قيل فيه: صحيح مسلم له مميزات ثلاث وهي كالتالي:
1/ أنه يجمع الأحاديث في الباب الواحد، فيغنيك من مغبة التكرار، ويسهل عليك الرجوع إلى الحديث والبحث عنه.
2/ أنه يجمع الزوائد بألفاظها.
3/ أنه يأتي بأحاديث شواهد واعتبارات مساندة للحديث، وهذه من مميزاته، وليس شرطه في الزوائد ولا في المتابعات كشرطة في الأصول والمتون.
ما انتقد به صحيح مسلم: انتقد بعض العلماء من النقاد صحيح مسلم ومنهم: أبو الحسن الدارقطني، وضعف فيه ما يقارب ثمانين حديثاً، وهو بحمد الله ليس في هذا الثمانين فهي مصححة إلا ثلاثة أحاديث ذكرها ابن تيمية في المجلد الثامن عشر من فتاويه، منها: حديث ساعة الجمعة حين يجلس الإمام من حديث أبي موسى من يوم يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة، وهذا منقطع كما ذكره الدارقطني وابن حجر وشيخ الإسلام، والصحيح الآن أن ساعة الاستجابة هي آخر ساعة من يوم الجمعة كما في الصحيح.
والحديث الثاني: خلق الله التربة يوم السبت، فعدت الأيام فصارت سبعة أيام، والله ذكر أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فقالوا: هذا وهم أخذه أبو هريرة من كعب الأحبار.
والحديث الثالث: في الدباغ لـ ابن عباس ذكره ابن تيمية في المجلد الثامن عشر، وابن حزم الظاهري ادعى أن في صحيح مسلم حديثاً موضوعاً وهو حديث أبي سفيان أنه قال لرسول عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله! أريد منك ثلاثاً: وأن تعطيني إمرة، وأن تجعل معاوية كاتباً لك، وأن أزوجك رملة، والإشكال في هذا أن رملة تزوجها صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر أبو سفيان، فحمل هذا إلا أنه ليس موضوعاً وإنما فيه وهم من الرواة، أو يحمل على دلالة اللفظ وعلى التخريج، وأن يقال: الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم جدد له هذا، تجديد العقد وهو لا بأس فيه وهو وارد، وجعل معاوية كاتباً، أو إعطاء معاوية إمرة، لكن الثلاثة الأولى هي التي عليها الكلام.(232/19)
سنن الترمذي
الترمذي يقع في المرتبة الرابعة، وبعضهم يجعله في المرتبة الخامسة لكني بدأت به لكثرة فوائده؛ لأنه قالوا فيه فوائد، ألفه صاحبه وقدمه، حتى قال أبو إسماعيل الأنصاري محمد بن عبد الله شيخ الإسلام الهروي صاحب منازل السائرين: الترمذي أفيد من البخاري ومسلم؛ لأن طالب العلم يقع على الفائدة عند الترمذي قبل أن يقع عليها عند البخاري أو مسلم والذهبي قال في ترجمة الترمذي كما في سير أعلام النبلاء: أنه ضعيف النفس في التضعيف.
ميز الترمذي:
1/ يعقب على الحديث بالتصحيح والتضعيف، فيقول: حديث حسن صحيح، حديث حسن غريب، حديث غريب.
2/ يذكر للصحابة الذين رووا الحديث، يقول: وفي الباب عن أُبيّ بن كعب، وأبي أيوب وحذيفة وأسماء وابن عباس وعمر مثلاً، وهذه فائدة تخبرنا من خرج الحديث ورواه من الصحابة.
3/ قد يسمي من لا يسمى في السند أو من يكنى، فيقول: أبو فلان اسمه كذا وكذا، واسم هذا أبو فلان، وقد ينسبه فيقول: هو البجلي أو الغطفاني أو الفزاري.
4/ أنه يذكر أقوال أهل العلم فيقول: وهو قول مالك، وأحمد وابن المبارك وإسحاق.
5/ ومنها أنه يقول: وقال أهل العلم، ورأى أهل العلم، فيذكر أقوال أهل العلم في المسألة إن كان إجماعاً أو غير ذلك.
6/ ومن ميزه أنه ربما ذكر الضعف فيقول: لا نعرفه إلا من حديث فلان، فإذا قال: من حديث فلان فانتبه للحديث سمه وعيبه ومرضه من هذا الرجل الذي ذكره الترمذي.
المآخذ على سنن الترمذي:
1/ قالوا: إنه تساهل كثيراً في بعض الأحاديث، حتى ذكر له ابن الجوزي أحاديث موضوعة في الموضوعات مثل حديث: {من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل مما أعطي السائلين} قالوا: حديث موضوع.
يقول ابن الجوزي: ولو أنه لا يوافق عليه، لكنه حديث ضعيف، وتساهل كثيراً في بعض الأحاديث، مثل: صلاة التسابيح بعضهم جعلها موضوعة وضعيفة، ولو أن كثيراً من أهل العلم صححها، وهي عند الترمذي إلى غير ذلك من الأحاديث، فأخذ عليه تساهله رحمه الله في هذا الجانب.
2/ أنهم قالوا: إنه يقول: حسن صحيح، ويكتشف الحديث وإذا هو ضعيف، حتى قال النووي: لا بد أن يتابع الترمذي على تصحيحه وتحسينه.
3/ أنه ربما يأخذ من الحديث جملة ويترك الحديث، والأولى أن يورد الحديث كله؛ ليكون أبرك وأنفع وأحسن، ولكن حسناته أكثر وأكثر -رحمه الله رحمة واسعة- وهو من العباد الكبار الذين بكوا حتى عموا من خشية الله.(232/20)
سنن أبي داود
أما مختصر أبو داود فاختصره المنذري وهو موجود ومتداول، وللألباني صحيح أبي داود وهناك ضعيف أبي داود.
أما مكانته: فربما يحتل المكانة الرابعة بعد النسائي.
ميزته:
قال أهل العلم: أصبح كتاب أبي داود حكماً بين أهل الإسلام، وفيصلاً لمواطن الخصام، إليه يتحاكم المتحاكمون، وبحكمه يرضى المنصفون، ميزته أنه جمع أحاديث الأحكام.
قال عبد المؤمن بن علي الحاكم المغربي يقول: أصولنا ثلاثة:
1/ القرآن.
2/ وسنن أبي داود.
3/ والسيف.
هذا عبد المؤمن الذي يقول فيه الشاعر:
ما هز عطفيه بين البيض والأسل مثل المؤيد عبد المؤمن بن علي
ما هز عطفيه بين البيض، أي: السيوف، والأسل؛ أي: الرماح، مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي.
ومن ميز أبي داود: أنه جمع أحاديث الأحكام، وهو جمع عجيب، وهو كتاب الأحكام حتى قال الغزالي: هو كتاب المجتهد، فمن أراد أن يجتهد فعليه أن يستعرض سنن أبي داود.
وقالوا: ألين الحديث لـ أبي داود، كما أُلين الحديد لداود عليه السلام.
قال سهل بن عبد الله التستري: يا أبا داود! أخرج لي لسانك؟ فأخرجها فقبلها، قال: لسان روت الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم حقٌ أن تقبل، وكان أبو داود من العباد الكبار والزهاد، وهو أشبه الناس بالإمام أحمد وهو من تلاميذه، وقد روى عنه الإمام أحمد حديث العقيقة حديثاً واحداً فتشرف بذلك وجهه.
ربما يؤخذ على سنن أبي داود بعض الأحاديث الضعيفة التي أوردها -رحمه الله- وهذا لا يسلم منه بشر، ولكن بالجملة هو من أحسن الكتب خاصة في الأحكام.
ومن المآخذ كذلك: أنه لم يورد أحاديث كتاب الرقاق والجهاد، ولو أوردها كان حسناً -رحمه الله رحمة واسعة- لكنه اقتصر على الأحكام وعلى بعض الأبواب الأخرى فقط.(232/21)
سنن النسائي
سنن النسائي قسمان:
السنن الكبرى.
السنن الصغرى.
المجتبى هي الصغرى، والكبرى تحقق في جامعة الإمام من قبل طلبة العلم.
والصغرى هي التي بين أيدينا، وهي أصح من سنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن ابن ماجة، وهي تقع بعد صحيح البخاري وصحيح مسلم مباشرة، وشرطه قوي، حتى قال بعضهم وبالغ: هو أصح شرطاً من شرط البخاري.(232/22)
سنن ابن ماجة
شروحه هو من أفقر الكتب شروحاً، وله تعليق من السيوطي لكنه يحتاج إلى شرح.
سنن ابن ماجة أضعف الكتب الستة ولكن له مكانة لا تجهل، وتبين سننه مكانته عند أهل السنة رحمهم الله، لكن أتى بأحاديث بلغت حد الوضع مثل حديث: {فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد} وهذا لـ ابن عباس لا يرفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل حديث: {إن من الناس من هو مفاتيح للخير مغاليق للشر} لا يرفع وإنما هو من كلام أنس، مثل حديث قزوين وفضل قزوين إلى غير ذلك من الأحاديث، حتى إن بعض أهل العلم لم يجعله من الكتب الستة، وأخذ الموطأ وجعله السادس كـ ابن الأثير، وبعضهم ترك ابن ماجة وأخذ الدارمي وجعله السادس.(232/23)
مسند الإمام أحمد
مسند الإمام أحمد: حدث عن البحر ولا حرج:
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
غالباً لا يفوته شيء من الكتب الستة إلا نادراً، وهذا الكتاب يقول أحمد شاكر: لا يعلم أحد حفظه إلا ما يكون من ابن تيمية، أو ابن القيم، أو ابن كثير، وأنا أرشدكم إلى جعل هذا الكتاب في بيوتكم، وإلى قراءته والصبر على قراءته من أوله إلى آخره لتتصور عظمة الإسلام وعظة الإسلام ومكانته وسيرة نبي الإسلام، عليه الصلاة والسلام.
ومسند الإمام أحمد فيه الصحيح وهو أكثره، وفيه الحسن، وفيه الضعيف لكن بحمد الله كما قال ابن تيمية في المجلد الثامن عشر: ليس فيه موضوع، نعم.
فيه روايات ابن لهيعة وقيس بن الربيع ورشدين بن سعد، لكن ليس فيه بحمد الله حديث موضوع، لكن ربما يكون فيه حديث وهم صاحبه فيه، وقد ذب ابن حجر بـ القول المسدد في الذب عن مسند أحمد عما اتهم به المسند وهي اثنان وثلاثون أو ثلاثا وثلاثون حديثاً.(232/24)
موطأ مالك
الموطأ للإمام مالك:
1/ أول ما ألف في الصحيح، وقد قال الإمام الشافعي: ما تحت أديم السماء أحسن من موطأ مالك، وهو بديع خاصة في قوته وفي شرطه القوي، وفي إيراده آثار الصحابة، وفيه كلام الإمام مالك لكن الحديث فيه قليل، يقارب الحديث الذي يرفع عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة حديث.
وكذلك يحتاج إلى تخريج إلى الآثار التي فيه، وقد خدمه ابن عبد البر في التمهيد فأتى بالعجب العجاب -رحمه الله- فوصل المقطوعات، وذكر الموقوفات والمرفوعات فجزاه الله خيراً، وجزى الله مالكاً خير الجزاء.(232/25)
سنن البيهقي
من أعظم ما ألف في الأحكام سنن البيهقي، قال الذهبي في ترجمة ابن حزم: من كان عنده في بيته أربعة كتب ثم أمعن وأدمن النظر فيها فهو العالم حقاً، وقد سلف هذا: المحلى لـ ابن حزم، المغني لابن قدامة، التمهيد لـ ابن عبد البر، سنن البيهقي.
وسنن البيهقي فيها الحديث الضعيف الكثير، فتتبع في التصحيح والتضعيف، وقد حاول الذهبي أن يستخرجها فكتب فيها مجلدين ثم لم يكمل ذلك.(232/26)
جامع الأصول
جامع الأصول أرشدكم إليه بعد المصحف، وهو كتابك يا طالب العلم، وهو من أحسن وألطف ما ألف، قال ياقوت الحموي: أقطع قطعاً أنه لم يؤلف مثله، أتى ابن الأثير من علماء القرن السادس إلى البخاري ومسلم وإلى أبي داود والترمذي والنسائي وموطأ مالك، واستثنى ابن ماجة، فلم يأتِ به فحذف الأسانيد والمكررات وأخذ الأحاديث ومن خرجها، وأتى بالغريب وشرحه وخدم الكتاب وخرج كما فعل الأرنؤوط جزاه الله خيراً، وهو الكتاب في أحد عشر مجلداً وهو على الحروف.
المآخذ عليه، منها: أنه رحمه الله ألفه على الحروف وهذا أمر شاق، لأن التأليف على الأبواب والمسانيد أقرب لكن الأبواب أحسن، على الطهارة ثم الصلاة، فهذا كان أحسن، لكن بدأ بالألف فالباء فالتاء وهذا فيه صعوبة.
ومنها: أنه ذكر الروايات ولكن أهمل بعضها.
أما كتاب ابن خزيمة فإنه لم يخرج منه إلا الربع، وخدمه حبيب الأعظمي وفيه أحاديث ضعيفة لم يوفِ بشرطه -رحمه الله- هذا في كتب الحديث التي هي المتون والشروح حتى يكون الإنسان على بصيرة حين يقرأ فيها.(232/27)
كتب الرجال
أما كتب الرجال: فإن أعظم كتاب عند المسلمين في كتب الرجال، هو:(232/28)
الكمال في أسماء الرجال
الكمال في أسماء الرجال لـ عبد الغني بن سعيد المقدسي، وهو البحر بجواهره ودرره، لكن أتاه فيه إغفال وإخلال، فأتى المزي من علماء القرن السابع من زملاء ابن تيمية، فأتى بـ تهذيب الكمال فزاد على الكمال الأصلي، ونقَّحه وهذَّبه وسواه وبسطه ودبَّجه فأحسن إيما إحسان، فبيَّض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، ثم أتى ابن حجر فهذب التهذيب في تهذيب التهذيب فأبدع أيما إبداع -رحمه الله- ثم أتى ابن حجر إلى تهذيب التهذيب فأتى بـ تقريب التهذيب.(232/29)
تذكرة الحفاظ
من كتب الرجال: تذكرة الحفاظ وهي للذهبي تعنى بمن حفظ، وكان حجة، وله القول في التضعيف والتصحيح والجرح والتعديل، فلا يأتي إلا بالجهابذة.(232/30)
سير أعلام النبلاء
أما سير أعلام النبلاء فخرج في ثلاثٍ وعشرين مجلداً، وهو من أحسن الكتب وهو الآن محقق، وهو لا يتقيد بأي صنف من الناس أو طائفة، يورد العلماء والزهاد والعباد والملوك والوزراء والشعراء والأدباء والأطباء والفلاسفة وأهل علم الكلام وأهل التفسير والحديث والفقهاء والحمقى والمغفلين والزنادقة والملاحدة، مسح ما يقارب ستمائة سنة في الزمان، ومسح في المكان من حدود الهند إلى أسبانيا، ودخل المغرب وخراسان وما وراء النهر فهو كتاب بديع.
وميزته: أنه يُفصِّل الترجمة على المترجم تفصيلاً لا يعطيه أكثر من حقه، ولا ينقصه أقل من حقه، يقول في الإمام أحمد: شيخ الإسلام وإمام السنة.
ويأتي إلى الفيلسوف: الزنديق الكلب المعفر الزنديق فلان بن فلان.
ويأتي إلى الشاعر: شاعر زمانه، وأديب عصره، ثم يذكر حياته.
ميزته: أنه يعلق على الأحاديث، فلا يمر حديث في الغالب إلا ويذكر هل هو صحيح أو ضعيف.
وميزته أيضاً: أنه يذكر الرواة والعصور والتاريخ، فهو جم الفوائد، وله تعليق ما أحسن من تعليقه إذا علق! من ضمن تعليقاته أورد لكم هذا التعليق، أتى برواية زائدة، أتى بها رجل اسمه عفان من الرواة، والزيادة ليست بصحيحة في الحديث، قال الذهبي: قلت: هذه من زيادة عفان والسلام.
أتى إلى رجل كذب في الحديث قال: هكذا فليكن الكذب.
أتى إلى رجل اسمه إسماعيل قالوا: ما دخل بغداد بعد الإمام أحمد أحفظ من إسماعيل، قال: هذا قول من لا يعلم، إلى غير ذلك من التعليقات.
نُسب إليه أنه علق على جد ابن تيمية وأبي ابن تيمية وابن تيمية نفسه، قال: كان جده قمراً، وكان أبوه في العلم نجماً، وكان ابن تيمية شمسًا: فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة، وذكر عن ابن تيمية: أنه سئل عن حديث: صلاة التسابيح، قال: سنده: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40].
وذكر بعض الصوفية الغلاة يقولون: إنه ترك هذا الصوفي، ترك الطعام ثلاثة أيام، قال: فرأيت أشباحاً أمامي لما تركت الطعام، يظن هذا الصوفي أنها ملائكة نزلت عليه، قال الذهبي: والله ما نزل عليك شيء ولا رأيت شيئاً، لكن عقلك طاش من الجوع.
والكتاب متعة، ويربي ملكة الذكاء والفهم والاستنباط ومعرفة الرجال ومعرفة موقعك من العالم.
أما كتب الضعفاء والثقات فألف فيها كثيراً، وأنا لا أقول: إني أحصي كتب الرجال في هذه الجلسة إنما أذكر المشهورات.(232/31)
الثقات والضعفاء
منها الثقات والضعفاء لـ ابن حبان، وهي من أحسن ما كتب.(232/32)
كتب غريب الحديث
إذا صعبت عليك كلمة في الحديث أين تبحث عنها؟ أتتك كلمة وعرة لا تهتدي إلى معناها وهي في وسط الحديث كالآجرة في وسط الجدار ماذا تفعل؟!
تذهب إلى كتب الغريب، فمن كتب الغريب: غريب الحديث لـ ابن قتيبة وقد أخذ ثلث الغريب أو ما يقارب ذلك، وأبو عبيدة معمر بن المثنى له كتاب، وابن قتيبة بعده، وأبو عبيد القاسم بن سلام له غريب الحديث وهو أحسن ما كتب، كتبه في أربعين سنة وهو مطبوع.
وكتاب غريب الحديث لـ إبراهيم الحربي موجود وعجيب وغريب، وكتاب الخطابي غريب الحديث موجود وعجيب وغريب، وحاول أن يجمع الكل، النهاية لـ ابن الأثير فكأنه يغنيك إن شاء الله.
والزمخشري أيضاً له كتاب الفائق في الغريب، فإذا صعبت عليك الكلمة فابحث عنها في هذه الكتب، وأحسنها عندي النهاية لـ ابن الأثير.(232/33)
كتب المصطلح
علم المصطلح وسيلة وليس هو مقصد ولا غاية، طريق إلى معرفة الحديث؛ فما هي الكتب التي ترشح في هذا الفن؟ كيف تقرؤها؟ ما هي ميزتها؟(232/34)
مقدمة ابن الصلاح
ومن أحسن ما كتب في فن المصطلح وهي الأصل في هذا الباب للشراح والمختصرين والمعلقين والنقلة في هذا الفن مقدمة ابن الصلاح، ورزق قبولاً تاماً.
ولـ ابن حجر كتاب اسمه النكت على ابن الصلاح وتعليقات طيبة، وله شرح كذلك.(232/35)
الباعث الحثيث
ومنها الباعث الحثيث لـ ابن كثير وهو كتاب من أحسن الكتب، ويرشح للقراءة، ومن أراد من غير أهل التخصص أن يقرأ في مصطلح الحديث فعليه بـ الباعث الحثيث لـ ابن كثير.(232/36)
نخبة الفكر ونزهة النظر
نزهة النظر كتاب لكنه مقتضب، وهو أول ما تقرؤه في الفن إذا أردت الفن.(232/37)
ألفية العراقي
ألفية العراقي للمنتهي في العلم والمتبحر في هذا الفن، وعليها فتح المغيث للسخاوي، وهو من أحسن ما كتب في ثلاثة مجلدات، فهذا منتهى المصطلح، وللسيوطي ألفية لكن ألفية العراقي أحسن وأجود.(232/38)
كتب الأحاديث المشهورة والموضوعة
الأحاديث المشتهرة والموضوعات، مررت بحديث ظننته موضوعاً أين تبحث عنه؟!(232/39)
الموضوعات لابن الجوزي
هناك كتاب الموضوعات لـ ابن الجوزي في مجلدين أربعة أجزاء، واستوعب كثيراً من الأحاديث الموضوعة، ولكن أخذ عليه أنه جازف، فأخذ بعض الأحاديث الحسنة جعلها موضوعة، وبعض الأحاديث الضعيفة التي لا تبلغ درجة الوضع جعلها موضوعة، أما كثير من الأحاديث التي وضعها فيشهد القلب أنها موضوعة باطلة، وحبذا لو مررت عليه فإنك تجد الأحاديث الموضوعة بحق، ويكون لك دربة في هذا الفن وهو الأصل في هذا الباب، وهو عمدة الكثير حتى كان يعتمد عليه ابن تيمية ويوم تكلم ابن تيمية عن ابن الجوزي قال: هو صاحب فنون والحديث كائن من أحسن فنونه، فبراعة ابن الجوزي أكثر وأكثر في الحديث النبوي.(232/40)
اللآلئ المصنوعة
اللآلئ المصنوعة: للسيوطي، أورد فيها فوائد جمة، إذا أعجزك الحديث أن تجده في الموضوعات عد إلى هذا الكتاب اللآلئ المصنوعة.(232/41)
الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة
الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني وقد استوعب وأجاد كل الإجادة رحمه الله.(232/42)
كشف الخفاء
كشف الخفاء للعلجوني فيما اشتهر على ألسنة الناس، سمعت حديثاً مختاراً ولو كان صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً فعد إلى كشف الخفاء تجده -إن شاء الله- في الغالب.
هناك تمييز الطيب من الخبيث، وهناك كتاب للسخاوي، فهذه لابد أن تكون في مكتبتك حتى تعود إليها في وقت الحاجة.(232/43)
كتب الفقه
الفقه وما أدراك ما الفقه: وهو عصارة الأحاديث النبوية والآيات القرآنية، أنا أتكلم عن واقعنا وعن مجتمعنا، والكتب المشهورة عندنا من أحسن المختصرات التي رأيتها.(232/44)
زاد المستقنع
اهتم أهل العلم في هذه الفترة بـ زاد المستقنع وهو كتاب فذ، وفيه قضايا ومسائل نادرة الوقوع، وهذا من نقصه، ومسائل مرجوحة ليست راجحة، ويمكن أن يكون (20%) من مسائل زاد المستقنع ضعيفة عند أهل العلم من المحدثين.
أما ميزه:
1 - أنه اقتضب العبارة ولم يبسطها بسطاً.
2 - ومن ميزته: أنه أكثر من إيراد المسائل حتى أتت ألوفاً من المسائل، فأحسن كل الإحسان، علق عليه البليهي شيخي وما زال حياً -جزاه الله خيراً- شيخ كبير: فأتى بكل شيء عجيب، ولو لم يكن له بعد الإسلام حسنة إلا هذا الكتاب لكفاه فخراً، وعليه حاشية ابن قاسم وهي حاشية عجيبة، وخاصة في أخذ كلام ابن تيمية وابن القيم.(232/45)
الروض المربع
الروض المربع كتاب جيد، ولكن فاته تصحيح الحديث وتضعيفه حتى أتى بأحاديث موضوعة وباطلة مثل حديث {أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم} في أوله فلا يعتمد في الحديث، ولا بد أن يبين الحديث الصحيح من الضعيف وهذه مثلبة عند كثير من الفقهاء رحمهم الله.(232/46)
العدة في شرح العمدة
العدة في شرح العمدة: وهو أحسن ما كتب، وميزته: أنه بين التطويل وبين الإيجاز، ولكنه كذلك يحتاج إلى ذكر الأحاديث في المسألة، وإلى تخريج الأحاديث وتصحيح الحديث.(232/47)
المغني لابن قدامة
المغني وهو الكتاب المنتهى لمن أراد أن يتفقه خاصة في فقه الحنابلة بل في الفقه مطلقاً، وقال بعضهم: لا نعلم في كتب الفقه مثل المغني، وصدق! المغني هو المغني، إذا كان في بيتك فاعتمد عليه بعد الله في الفتيا وفي المسائل، وفيه ثلاث ميز:
1/ نقل كلام العلماء في المسألة قديماً وحديثاً إلى عصره -رحمه الله- وخاصة المشهورين من الأئمة الأربعة والتابعين لهم بإحسان والصحابة.
2/ يذكر الأحاديث المشهورة في المسألة.
3/ يستخدم أصول الفقه استخدام من يعرف الفن ويدري الفن ويجيده، فيمزج هذا بهذا فيصبح عسلاً مصفى.
أما المآخذ على المغني، فأعظم مأخذ هو عدم المرور بتصحيح الحديث أو تضعيفه كما يفعل أهل العلم من النقاد، وهذا من شيمة المحدثين، لكن حبذا لو زادت حسناته حسنات.
ومنها: أنه قد يرجح المرجوح، فيقول: ولنا -أي: للحنابلة- فلا تتبعه في هذا واتبع الحق وعليك بالمعصوم -عليه الصلاة والسلام- كل واحد يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب ذاك القبر عليه الصلاة والسلام.(232/48)
المجموع للنووي
المجموع للنووي من أعظم كتب الفقه، وقال ابن كثير في ترجمة النووي: لا أعلم كتاباً أعظم منه لكن يحتاج إلى أشياء.
وميزه:
1/ أنه يتكلم عن الحديث كلام المحدثين والجهابذة.
2/ أنه يستوعب القول في المسألة.
3/ أنه يأتي باللغويات وأقوال الشعراء في اللفظة إذا كانت في الفقه.
المآخذ عليه:
1/ أنه لم يتمه وإنما وصل إلى باب الربا ثم توفي رحمه الله.
وهذا ليس مأخذاً.
2/ أنه أورد أقوال بعض العلماء من صغار الشافعية، وهي أقوال في مسائل نظرية تحتمل فرعيات جزئية مدققة كرأي البغداديين والخراسانيين، وهذه تثقل طالب العلم، يكفيه الآن مثل الأربعة وكبار العلماء.
3/ إن بعض المسائل اقتضبها وهي تحتاج إلى كثير من الاستطراد، وما أحسن شرحه لحديث القلتين في المجلد الأول! لمن أراد أن يقرأه يجد العجب العجاب، فليت قوة النووي في الحديث جعلها لصاحب المغني، وليت بسط المغني وأصوله وتنظيره جعلها لصاحب المجموع لكن أبى الله إلا أن يكون الكمال لكتابه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].(232/49)
المحلى لابن حزم
المحلى: مر معنا المحلى وقد تكلمنا عليه، لكن نعود للفائدة، المحلى من ميزه الآتي:
1 - كتاب رجل محدث من الدرجة الأولى (100%) وهو رجل ممتاز متفوق في علم الحديث، وهو مجرح ومعدل، وهو من الجهابذة.
2 - أنه يورد أقوال التابعين ويعتمد على مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة.
3 - أنه يورد كلام الأئمة.
المآخذ عليه: الرجل مؤول في الصفات فلا تأخذ منه العقيدة في المجلد الأول، قال ابن تيمية: أبو الحسن الأشعري أحسن حالاً من ابن حزم الظاهري.
1 - أنه تساهل في الغناء وأباحه، والقول الصحيح على غير ما ذهب إليه، والحديث في البخاري صحيح والحمد لله.
2 - نفى القياس وتمسكه بالظاهر فضاق عطنه.
3 - أنه طعن في بعض العلماء، رحم الله ابن حزم ورحمهم الله وأسكنه الله فسيح جناته، فليته تأدب معهم حتى قال بعض العلماء: سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقان، لكن لا بد أن يكون في مكتبتك.(232/50)
الفتاوى لابن تيمية
فتاوى ابن تيمية: حدث عن هذا الجهبذ بما استطعت، العبقرية الفياضة، العلم الجهبذ -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- ماذا أقول في ابن تيمية وفي فتاويه؟
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا
ابن تيمية هو ابن تيمية القمر هو القمر:
يينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قال تعرفن الفتى قلن نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر
مدحي لـ ابن تيمية ينقص من قيمته أو من فتاويه، لكن الفقه والتحقيق العلمي والإبداع على مر العصور تجده في فتاوى ابن تيمية، القوة العلمية المتناهية، الصدق والإخلاص، اليقظة الفكرية، الحماس للإسلام، الفهم الصادق، المناعة التي لا يخترقها الصوت في كتب ابن تيمية، كل الصيد في جوف الفرا:
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزالِ
يكفي أن ابن تيمية هو ابن تيمية وفتاوى ابن تيمية هي فتاوى ابن تيمية ولا بد لك أن تمر على فتاوى ابن تيمية، وأن يضع الإنسان الكسل والخمول، وألا يقول: تجهضني، إن لنفسك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولزوجتك عليك حقاً، هذا حديث الرخص نذكره لكن في أوقاته، والآن نحن لم نبلغ من الإرهاق والإجهاد إلى هذا المستوى الذي نستشهد به، وأنا أعرف على أن هناك من يحرص على ذلك.(232/51)
زاد المعاد
زاد المعاد: يصح أن نلحقه بالفقه في الاستنباط أو نلحقه بالسيرة فهو بين بين، تلحقه هنا فهو من أحسن ما كتب! يقول أبو الحسن الندوي فيما نقل عنه: لا أعلم كتاباً بعد كتاب الله دبج مثل زاد المعاد، فعليك به خاصة بتحقيق الأرنؤوط، في خمس مجلدات واجعله في بيتك أو عند وسادتك، ومر به لترى الإشراق والإبداع:
من تلظي لموعه كاد يعمى كاد من صورة اسمه لا يسمى(232/52)
سبل السلام
سبل السلام في شرح بلوغ المرام: ينقصه تحقيق المسائل تحقيقاً أكثر وأكثر، وبسطاً في الحديث؛ لأنه بعض الأوقات يأتي بسطرين أو ثلاثة في الحديث الواحد وقوة نسبة الأقوال لأنها ربما تختلف الأقوال، ينسب أقوالاً ليست لأصحابها.(232/53)
نيل الأوطار
نيل الأوطار: أحسن ما كتب في فقه الحديث إلى الآن، وحبذا أن يجعله طالب العلم مرجعاً له، وقد أجاد كل الإجادة، ومن ميزه:
1/ التكلم على الحديث تصحيحاً وتضعيفاً وشرحاً وتعديلاً.
2/ إيراد أصول الفقه، وقواعد أصول الفقه، وقواعد الاستنباط، ودلالات الألفاظ.
3/ الترجيح وأخذ الراجح.
4/ إيراد كلام العلماء في المسألة -رحمه الله رحمة واسعة- فهو كتاب هذا الذي هو يعلق باسمه شرفاً له وإلحاقاً به.(232/54)
أصول الفقه
فن أصول الفقه من أعظم الفنون عند المسلم، وهو ميزان العلم كميزان الذهب.
فن أصول الفقه، له أصل عند الصحابة الأخيار لكنه ما بُدِأَ التأليف به إلا متأخراً، وأول من ألف فيما نعلم الإمام الشافعي -رحمه الله- ألف الرسالة، وطالب العلم لا يستغني في فن أصول الفقه عن ثلاثة كتب في مكتبته: الرسالة للإمام الشافعي، والموافقات للشاطبي، وأعلام الموقعين لـ ابن القيم وهي من أحسن ما كتب.
أما للمتخصصين فهناك لكن ليس الآن مجال بسطها؛ لأن الوقت لا يسمح بذلك، إنما أشير إلى هذه الكتب الثلاثة: الرسالة والموافقات وأعلام الموقعين فهي أحسن ما كتب، وهنا كتاب عصري في أصول الفقه جيد، وهو أصول الفقه لـ عبد الوهاب خلاف، وهو مبسط ومقرب لطالب العلم لو ركز عليه وتمكن فيه لكان -إن شاء الله- جيداً ومفيداً في باب أصول الفقه، ولا يذهب المسلم وقته في أصول الفقه، وهو وسيلة مثل: علم المصطلح ومثل: علم علوم القرآن فلا يذهب جهده وطاقته وذكاءه في الوسائل، لكن المقاصد هي المتون الكتاب والسنة.(232/55)
كتب في العقيدة
أما جانب العقيدة وكتب العقيدة فثلاثة كتب لا بد أن تكون في مكتبة طالب العلم وهي كالتالي:(232/56)
كتاب التوحيد لابن عبد الوهاب
كتاب التوحيد للشيخ/ محمد بن عبد الوهاب وشروحه ومن أحسن شروحه: فتح المجيد، وكتب أئمة الدعوة.(232/57)
معارج القبول للحكمي
معارج القبول للشيخ/ حافظ بن أحمد الحكمي، فقد أورد مذهب السلف، والأحاديث بإفاضة تامة وبسعة وبغزارة.(232/58)
الطحاوية
الطحاوية ومعتقد السلف في الجملة موجود فيها، ولو أن بعض المسائل ينبه عليها، حبذا وقد نقصه تخريج الأحاديث، وقد خرجت -والحمد الله- وليته ترك علم الكلام في أول الطحاوية لكان أحسن وأحسن لكن أورده فرحمه الله رحمة واسعة.
من كتب العقيدة التي تعتمد: كتابات ابن تيمية وابن القيم في الجملة وابن كثير، وإذا أردت أن تأخذ التنظير العقدي للعقيدة الإسلامية، فاطلبه عند ابن تيمية في كتبه؛ تجد البسط والسعة والشرح في العقيدة الإسلامية.(232/59)
كتب في التاريخ
التاريخ فن لا يستغني عنه طالب العلم فهو مادة الراحة قبل النوم في القيلولة، وقت الإرهاق الفكري والجسمي، تتمتع مع كتب التاريخ، حين تمل وتكل، تجلس مع كتب التاريخ لأنه متعة ثم لا يكلفك شططاً وهو يمنحك تجربةً واستقراءً وواقعية ومعرفة بما مر واستفادة من التجارب:
مصائب قوم عند قوم فوائد
وكتب التاريخ المشهورة عند الناس الآن كثيرة منها: تاريخ ابن جرير وتاريخ ابن الأثير وتاريخ ابن كثير وتاريخ المسعودي وتاريخ اليعقوبي وتاريخ ابن خلدون، وأحسن الكتب هذه ثلاثة تواريخ:
1/ تاريخ ابن جرير.
2/ والبداية والنهاية لـ ابن كثير.
3/ الكامل في التاريخ لـ ابن الأثير.
وأحسن الثلاثة البداية والنهاية لـ ابن كثير، فليكن في مكتبتك يا طالب العلم، فهو أحسن ما كتب إلى الفترة التي توقف عندها في التاريخ، لكن تضيف أنت بعد كتب ابن كثير في التاريخ التي أتت بعده، وهو علم شائق لكن لا يؤخذ الوقت في البداية دائماً وفي التاريخ دائماً، فإنك إن شئت أن تجعلها حديث عجائز جعلته، عجائز نيسابور، وعجائز مدغشقر، وإن شئت أن تجعله تعليقاً فكرياً وأصالة ورسالة جعلته بحسب المقاصد، وإن شئت أن تجعله مسليات جعلته، وإن شئت أن تجعله استنباطاً وتجربة جعلته.(232/60)
كتب السير
أما كتب السيرة؛ سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام فأحسن السير وأوسع السير إلى الآن سيرة ابن هشام، وبعدها الروض الأنف للسهيلي وهي من أوسع السير، وسيرة ابن كثير وهي جيدة حبذا لو أخلاها من الأسانيد ولو أنها ميزة لكنها ثقيلة وطويلة لا تناسب بعض الناس إلا المتخصصين.
ومن أبدع ما كتب: دلائل النبوة للبيهقي وقد طبع في سبعة مجلدات، وحقق تحقيقاً عجيباً، فعليك به كما قال الذهبي: فإن فيه نور وشفاء لما في الصدور.
أما السيرة الحلبية فهي موجودة في ثلاثة مجلدات، لكن فات صاحبها الآتي:
1/ أنه أوغل في الصوفية، وأتى بكلام البوصيري ونظمه وسكت عنه، وأتى بكلام بعض الصوفية الأغيار والأنوار وهذه المقامات والأقطاب والأغواث.
2/ أنه ترك تصحيح الأحاديث والتعقيب عليها.
3/ أنه أورد بعض القصص التي ليست بصحيحة في السيرة النبوية.
ويصح أن يكون زاد المعاد كتاب سيرة فلينتبه له.
من السيرة العصرية فقه السيرة للبوطي، كتاب لكن يلاحظ عليه بعض المواطن، البوطي: محمد سعيد رمضان البوطي، والسباعي دروس وعبر لكنه كتاب فكري أقرب من أن يكون نقلي أثري.
ومن كتب السيرة أيضاً: الرحيق المختوم في سيرة النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام للمباركفوري وهو جيد.(232/61)
كتب في الوعظ وفي الرقائق
أما علم الرقائق وعلم الوعظ، وعلم التحذير والإنذار، وعلم التخويف ففيه كتب في الساحة، أما كتاب بستان العارفين: فملأه وكدسه من يمينه إلى شماله أحاديث موضوعة، فانتبه إلى الرجل، اغسل يديك من الكتاب، نعم! يوجد فيه فوائد لكن انتبه إلى الأحاديث.(232/62)
إحياء علوم الدين
وأما إحياء علوم الدين للغزالي: ففيه ثلاث مناقب وثلاث مثالب فاستمع إلى مناقبه:
1/ أن الرجل تربوي، وظهر عليه الزهد والصدق -إن شاء الله- كما ذكر ابن تيمية ذلك لما سُئِلَ عن الكتاب، ففيه خير كثير.
2/ ومنها: أن الرجل نقل كثيراً من أقوال السلف في علم التربية والسلوك.
3/ أنه أوجد قدماً للثائرين والكتبة في هذا الفن من المسلمين.
أما مثالبه فيه كالتالي:
1/ الرجل أشعري نظار فيلسوف في التمشعر، فأشعريته من باب تقديم العقل على النقل لا من باب أشعرية أهل الحديث، قصدهم التنزيه، فالعقيدة لا تؤخذ منه.
2/ أتى بالأحاديث بلا خطام ولا زمام وأوردها وحشرها حشراً حتى كدسها بالضعاف والموضوعات فلينتبه له، وتعقبه العراقي.
3/ الرجل معجب بـ الصوفية ويدين لهم بالولاء خاصة الغلاة منهم، ويسكت على قصص معهم لا تصدقها عجائز البربر فلينتبه له، اختصره ابن الجوزي في مختصر طيب لطيف اسمه منهاج القاصدين، واختصره ابن قدامة في كتابه مختصر منهاج القاصدين.
ولكن أحسن منه:(232/63)
رياض الصالحين
رياض الصالحين حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ذاك الكتاب الفذ الذي أعلن قوته ومناعته وصموده أمام الإعصارات والنقودات من كثير من الناس، والكتاب هو كتاب إمام المسجد والخطيب والداعية والمفلح والمربي، والكتاب رزق قبولاً بثروته ونية صاحبه، وصدقه مع الله عز وجل.(232/64)
الترغيب والترهيب
الترغيب والترهيب وهو أوسع وأوسع، وفيه أحاديث واهية وأحاديث ضعيفة، ولكنه أكثر فوائد وأكثر ترغيباً وترهيباً من رياض الصالحين.(232/65)
طريق الهجرتين
كتاب طريق الهجرتين من أحسن ما كتب لـ ابن القيم، وهو الشهد المصفى، والماء الزلال، والنسيم الطيب، لكن كذلك الرجل أعجب ببعض الكلمات للصوفية مثل ما فعل في مدارج السالكين.
والرجل تؤخذ منه العقيدة، سلفي المعتقد من أئمة أهل السنة والجماعة لكن في مدارج السالكين، سكت عن بعض قصص الصوفية، وجمح بالنفس في الخيال، وسافر بها في البعد عن الواقع، والإنسان بشر يخطئ ويذنب ويقصر وما مثل منهج القرآن والسنة، حتى يقول محمد حامد الفقي، قال: ليته ما ألف ابن القيم هذا الكتاب، لكن نقول: رحمه الله، فيه من الفوائد والمنافع، وفيه من الاشراقات، وفيه من الخير الكثير ما يضفي الكثير الكثير على النقص والمثالب التي فيه.(232/66)
كتب ابن تيمية
كتب ابن تيمية في الرقائق وفي السلوك تؤخذ جملة وتفصيلاً، ولا يسأل عليه، فمثل ابن تيمية يسأل عن غيره، وغيره لا يسأل عن ابن تيمية، ولو أنه بشر يخطئ ويصيب لكنه أجاد خاصة المجلد العاشر والحادي عشر في الفتاوى.(232/67)
كتب في الأدب
الأدب: ما أحسن طالب العلم أن يقدم علمه ودعوته في قوالب من الأدب، وطالب العلم والعالم يوم يكون ناقص الأداة في الأدب يكون كالرجل الذي يتوكأ على عصا مكسورة، إن تكلم لا يجيد أن يتكلم، إن باحث لا يجيد أن يباحث، إن ناقش لا يجيد المناقشة، أسلوبك وطريقتك ولباسك وعصاك هي الأدب، والأدب معناه: نثراً وشعراً أن تكون أداتك في تبليغ هذا العلم، فمن كتب الأدب المرشحة في الساحة الآتي:
روضة العقلاء لـ ابن حبان أبي حاتم البستي.
وأدب الدنيا والدين للماوردي.
وأنس المجالس لـ ابن عبد البر.
هذه أدب أهل السنة والجماعة، فيها حياء وعفاف وستر.(232/68)
كتب يحذر عند قراءتها
أما كتب أخرى فينبه عليها وكأنه يقال لك: خطر ممنوع الاقتراب منها:(232/69)
المستطرف في كل فن مستظرف
المستطرف في كل فن مستظرف، وهذا -نسأل الله العافية- أتى فيه بحيات وعقارب وبذاء وفحش حتى نزل بنفسه في الحضيض، يأتي بآية وحديث ثم ينسى نفسه ويهرول فكأنه لا يحبسه شيء.
رحمه الله ونسأل الله أن يتجاوز عنا وعنه.(232/70)
كتاب العقد الفريد
كتاب العقد الفريد لـ ابن عبد ربه من أحسن الكتب فوائد، لكن عليه ثلاث ملاحظات:
1/ أنه يأتي بأحاديث موضوعة وباطلة وكأنه يأخذها بدون مقابل وهو يأخذها مجاناً يوردها ويحشرها حشراً ثم لا يعلق.
2/ الرجل شيعي يتكلم في بني أمية ويزري بهم، خاصة في الصدر منهم كـ معاوية وابنه ويتشفى فيهما.
3/ يفحش في باب النساء وفي الحمقاء والمتماجنين، وهذا لا يليق بالمسلم الأديب الذي يريد الله والدار الآخرة.(232/71)
كتاب عيون الأخبار
كتاب عيون الأخبار من أحسن ما كتب فهو قد أجاد كل الإجادة في النقولات، وهو أوثق من العقد الفريد لكنه أفحش كذلك في بعض المواضع.(232/72)
الأغاني لأبي فرج الأصبهاني
الأغاني لـ أبي الفرج الأصبهاني: هذا أكبر كتاب في الأدب وهو يبلغ اثنين وثلاثين مجلداً ومن ميزه:
1/ كثرت اللغويات والأشعار الجميلة والمقطوعات الأدبية الرائقة الرائعة لكثير من الشعراء ما يقارب من ثلاثين شاعراً.
2/ أنه يصدق كلام المتكلم والأديب والخطيب والعالم.
3/ أنه حوى كثيراً من الدرر الأدبية التي لا تنكر.
لكن الرجل أخفق إخفاقات عجيبة منها:
1/ أنه أتى بالكذب، نعوذ بالله من الكذب.
2/ أنه نزل على الخلفاء خاصة هارون الرشيد، وعلى خلفاء بني أمية؛ لأن الرجل شيعي عجيب، يقولون: إنه من سلالة بني أمية لكنه تشيع.
يوم يمانٍ إذا لا قيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدناني
ثم الرجل في باب الديانة أمره إلى الله عز وجل، ولا تؤخذ منه قصص، وإنما تؤخذ للاعتبار فهذا يلاحظ عليه؛ لأنه كذلك تماجن كثيراً في كتابه ولا يقرؤه الإنسان إلا بعقيدة، وبعد أن يستغفر الله كثيراً ويكون متحصناً من نفسه.(232/73)
كتب في الشعر
أما الشعر فمن أحسن كتب الشعر التي وردت عند المسلمين وهي: مختارات البارودي وهو في أربعة مجلدات، جمع شعراً من أروع الشعر، ثلاثون شاعراً في الإسلام من صدر الإسلام إلى عصر المولودين بعد: بشار بن برد، وأبو الطيب المتنبي، وأبو تمام، والبحتري، وأبو العلاء المعري، وعمارة اليمني، والأبيوردي، وابن الخياط، وأبو العتاهية، وابن الرومي جمع لهم أحسن ما قالوا، فحبذا أن يكون في مكتبتك مختارات البارودي.
ديوان المتنبي لا تغفل عنه، فهو شاعر العربية بلا منازع، وما أحسن شعره! ويستشهد به ابن تيمية وابن القيم كثيرا، وما أحسن لطائفه وإيراداته، وإشراقاته، وليته استخدم شعره في الإسلام وفي خدمة لا إله إلا الله ونصرة لا إله إلا الله، لكنه ذهب وشرَّق وغرَّب، يريد الإمارة وما حصل عليها، يذهب إلى هذا أنت بدر الزمان، وأنت مجدد هذا القرن، وأنت درة هذا العصر، ثم إذا تغاضب معه سفك ما بينه وبينه من حياء، وذهب إلى كافور وقال:
قطعت المرورى والشناخيب دونه وجبت هديراً يترك الماء صاديا
ويقول فيه:
ومن مثل كافور إذا الخيل أحجمت وكان قليلاً من يقول لها اقدمي
ويقول له، حيث كان كافور اسمه أبو المسك:
أبا كل طيب لا أبا المسك وحده وكل غمامٍ لا أخص الغواديا
الرجل شاعر من الدرجة الأولى لكن انظر لما غضب عليه:
عيد بأية حال عدت يا عيد لما مضى أم لأمر فيك تجديدُ
إني نزلت بكذابين ضيفهم عن القرى وعن الترحال محدودُ
جود الرجال من الأيدي وجودهم من اللسان فلا كانوا ولا الجودُ
لا يأخذ الموت نفساً من نفوسهم إلا وفي يده من نتنها عودُ
لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيدُ
إلى أن يقول:
من علم الأسود المخصي مكرمة أقومه البيض أم آباؤه الصيدُ
أم أذنه في يد النخاس دامية أم قدره وهو بالفلسين مردودُ
حتى يقول: أنا ما أتيت أطلب منك إمارة يوم ذهب من عنده، أنا أتيت أنظر إليك، حتى يقول:
ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة ليضحك ربات الخدور البواكيا
ثم ذهب إلى عضد الدولة، وقال لـ عضد الدولة أعظم مديحة:
فداً لك من يقصر عن فداكا فما ملك إذاً إلا فداكا
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
إلى أن يقول:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
لكن الرجل شعره في القمة، وأنا أوصي طلبة العلم أن يستشهدوا من شعره وأن يقفوا معه.
ومن الشعراء أبو تمام: وديوانه من أحسن ما قيل، وهو أحسن حالاً من المتنبي ولكن ذاك أشعر وله شعر لطيف في الإخاء وهو يناسب جلستكم:
إن كيد مطرف الإخاء فإننا نعدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
وله أم المراثي، رثى بها محمد بن حميد الطوسي يقول:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السفر السفر
إلى أن يقول وهذا الذي رثاه شجاع مقدام مجاهد من قواد المسلمين:
تردى ثياب الموت حمراً فما دجا لها الليل إلا وهي من سندس خضر
وما مات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتلت عليه القنا السمر
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر
من الشعراء المعاصرين:
أحمد شوقي فلا بأس من استصحاب شعره؛ فهو شاعر في القمة، ويسمى أمير الشعراء -سموه هكذا- وهذه الكلمة ليست فتوى.
ومنهم محمد إقبال: وهو شاعر إسلامي مجيد، وله قصائد مترجمة، مثل قصيدة: شكوى وجواب شكوى، ترجمة عبد الوهاب عزام.
أما مؤلفات العصر فأدلكم على مؤلفات عبد الرحمن بن ناصر السعدي علامة القصيم -رحمه الله- فهو من أحسن ما كتب في هذا العصر، وكتب سيد قطب، وكتب محمد قطب، وكتب أبي الأعلى المودودي الأستاذ الكبير، وكتب أبي الحسن الندوي والمنطلق والرقائق والعوائق لـ محمد أحمد الراشد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(232/74)
حاجة الصحوة إلى العلم الشرعي
إن الدين الإسلامي دين حضارة وعلم، وقد امتدح الله العلم والعلماء، ورفع شأنهم في كتابه الكريم؛ وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وما أحوج الأمة في هذا الزمان وهي تعيش زمن الصحوة المباركة الإسلامية إلى العلم الشرعي، ما أحوجها أن ترجع إلى سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين والعلماء الكبار لتعرف أهمية العلم وفضله، وأسباب زيادته، وبركته، وفوائده، ومسائله العويصة، لكي تبلغه للناس وتقيم به الأسر والمجتمعات.(233/1)
فضل العلم والعلماء في القرآن
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده رسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصبحه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ياأهل الصحوة، وسلام الله عليكم يا أهل الإقبال على الله، وسلام الله عليكم يا من في أرضهم نبتت بذرة تجديد التوحيد.
يا رياض الخير قد جئت وفي جعبتي أبها بلقياك تسامى
حلفت لا تشرب الماء ولا تأكل الزاد ولا تلقى مناما
أو ترى الأحباب في نجد فإن لم تجدهم صار ممساها حراماً
فسلام الله أهديه لكم يا رجال الفضل في نجد الخزامى
أنا قد أحببتكم في الله ما كان قلبي في سواه مستهاما(233/2)
موضوع الدرس وعناصره
أما موضوع هذه المحاضرة وهو: (الصحوة الإسلامية وحاجتها إلى العلم الشرعي) وحاجتنا نحن إلى سماع الموضوع، وحاجتنا إلى القبول من الله عز وجل، فإنه الذي يقبل، والأجر منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو يثيب وما سوى إثابته سبحانه من عروض أو ثناء أو تسهيلات فإنما هي عرض زائل قد توفر للبر والفاجر.
هذا الموضوع: (الصحوة الإسلامية وحاجتها إلى العلم الشرعي) يدور على أربعة عناصر:-
العنصر الأول: كيف أثنى الله على العلم وعلى أهله في كتابه العظيم، أو كيف تحدث القرآن عن العلم، وما هي المساحة التي أخذها العلم في القرآن.
العنصر الثاني: كيف تحدث رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عن العلم، وكيف بين فضله، وكيف تعامل السلف معه، خشية لله وطلباً فيما عنده، وخوفاً من عذابه، ورجاء في ثوابه، كيف أصبحوا نسخاً من القرآن الكريم تمشي على الأرض، وتدرج في الوهاد، وتسير على الجبال.
العنصر الثالث: ما هو موقفنا نحن أهل الصحوة إن كنا صادقين.
العنصر الرابع: أن أهل صحوة هم أهل هذا الميراث الذي ورثه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فما هو نصيبنا من هذا الميراث، وما هو موقفنا من هذا العلم المسلسل المروي عن الثقات حتى يوصلونه إلى رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، ومن رسول الهدى إلى جبريل، ومن جبريل إلى رب العالمين.(233/3)
استشهاد أهل العلم على الوحدانية
فأما القرآن فاسمعوا إليه وهو يتحدث عن أهل العلم، وما أعظم قيمة أهل العلم في القرآن، وما أجلها وما أنبلها، يريد الله أن يستشهد على وحدانيته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وعلى ألوهيته، فبمن يستشهد؟ يقول جل ذكره: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] فانظر كيف استشهدهم على أعظم شهادة، وترك غيرهم فلم يستشهدهم مع من شهد له بالوحدانية، فهل هناك أعظم من أن يستشهد الله نفسه على وحدانيته، ويشهد الملائكة أن لا إله إلا هو، ويشهد العلماء أن لا إله إلا هو، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى شهدت له الكائنات بالوحدانية، السماء تشهد أن لا إله إلا الله، والأرض تشهد أن لا إله إلا الله، اللمعة من الضوء، القطعة من السناء، اللفحة من الهواء، ورقة الشجر، خرير الماء، هديل الحمام، كل شيء يشهد أن لا إله إلا الله.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فياعجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
إلا هذا الإنسان يوم يتكبر ويتنبر على كرسي الطغيان، فإنه يجحد الله ظاهراً لا باطناً، فرعون ملك نفراً من الناس، وقطعة من الأرض، ذرة من ذرة، وبقعة من بقعة، فقال لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] وقال: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] فأجراها الله من فوق رأسه؛ عندها علم من هو الذي يجري الأنهار، ويملك الديار، ومن هو الواحد الجبار، ومن له عقبى الدار، ومن بيده نواصي كل المخلوقين حتى يرث الأرض ومن عليها {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] يقول له موسى، أستاذ التوحيد وشيخ العقيدة: يا فاجر يا خبيث: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] قرارتك ونفسك وخلدك يقول لا إله إلا الله، ولكن لسانك يكذب.(233/4)
تفضيل أهل العلم على غيرهم والأمر بالتزود منه
اسمعوا إلى أهل العلم يوم يريد الله عز وجل أن يفاضل بينهم وبين غيرهم، فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] ثم ترك الجواب عند أهل البيان للعلم به، فإنه ليس هناك مفاضلة بين أهل العلم وبين غيرهم من الناس، ولذلك لا تفاضل بين العظيم الشريف النبيل وبين الحقير الخسيس.
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
فلم يقل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أهل العلم أفضل، وإنما سكت للعلم به: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] ويوم يرفع الله أهل العلم درجات، أخبر بتلك الدرجات، وكل درجة الله أعلم بها، وإنها لدرجة عظيمة: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
الذين آمنوا وأوتوا العلم، ولم يقل أوتوا العلم واكتفى؛ لأن العلم قد يكون إلحاداً، وقد يكون زندقة، وقد يكون فسوقاً وفجوراً.
أما أتت العلمانية اليوم تقول: لا إله إلا العلمانية؟
أما أتى أتاتورك فدوخ الدنيا وتركيا أولاً ليقول لها لا إله والعلمانية هي الدين؟
فالله يقول: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] ويقول الله لرسوله وهو يأمره أن يتزود من الزاد، فأي زاد يتزود منه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم؟ هل يتزود من الذهب والفضة؟ أو من القصور، أو من الدور؟ وهو عاش في بيت واحد لا يساوي طوله ثلاثة أمتار؟! لأنه يربي الأرواح، والذي يربي القلوب مشغول عن بناء الدور، وعن توسيع الجيوب، والذي يربي القلوب لا يشغله توسيع الجيوب أو ملئ الجيوب.
كفاك عن كل قصر شاهق عمدٍ بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيم
يقول الله له: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] يا محمد -عليك أفضل الصلاة والسلام- تابع هذا الدعاء صباح مساء مع كل صلاة: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] فإن الطرق تتفتح أمامك، والشهوات تنجلي أمام عينيك، والشبهات تكون أنت على بصيرة منها، والظلمات تتجلى لك: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114].(233/5)
الأنبياء يتحدثون عن أنفسهم بالعلم
ويتحدث الأنبياء عن أنفسهم عليهم الصلاة والسلام، فاسمعوا إلى إبراهيم يقول لأبيه الشيخ الضال العفريت الملحد: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم:43] يقول: استحي على وجهك أيها الشيخ الضال، يا من يريد أن يؤسس الإلحاد والزندقة في الدنيا، خف من الله، فإنه قد أتاني من العلم مالم يأتك، عندي سند ليس لقوة جسمي، ولا لمنصبي، ولا لأسرتي، ولا لجاهي، ولكن يا أبت إني قد جاءني من العلم الشرعي الذي أتى من فوق سبع سماوات إلى الدنيا.
ويقول سليمان هو يتحدث إلى الجيوش والجماهير في عرض عسكري باهر، يوم جمع له إلانس والجن والطيور والزواحف والحشرات قال للجماهير: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل:16] قال بعض المفسرين: لو حق للإنسان أن يفتخر بشيء يفتخر به لكفى بالعلم، يا أيها الناس حمداً لله علمنا منطق الطير، حتى الهدهد وهو طائر صغير يقول ابن القيم في بدائع الفوائد: "عجباً للهدهد يفتخر بالعلم بين يدي الرسول الكريم سليمان عليه السلام - وسليمان هو الذي أتي بالتوحيد وشق طريق الدعوة وبنى مدرسة العقيدة في الدنيا في فترته - أتى الهدهد من اليمن يوم تخلف فأراد أن يعاقبه سيده على تخلفه، قال: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} [النمل:22] ثم أخذ يتحدث له عن التوحيد، وعن الشرك في أرض اليمن، وما ينبغي للمرأة أن تقوم به من دور في الحياة، وقد أفاض في الحديث حتى قال بعض العصريين: لقد ألقى الهدهد محاضرة على سليمان، يقول: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل:23] عجيب المرأة تملكهم في دين من؟ إلا في دين الأوروبيين الذين لا يعرفون إلا ظاهر الحياة الدنيا، أما في علم الناس ومفهوم العقلاء، فلا يصح للمرأة أن تملك الرجال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23] مما يقبل التملك: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23].
كأنه يقول له: إياك أعني واسمعي يا جاره، عرشك ينبغي أن يثبت، فلا تثبت هذه الملحدة هنا، والواجب أن يكون عرشك أعظم من عرشها لتبقى راية التوحيد أعظم من راية الشرك: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23].
لكن الداهية الدهياء، والفاحشة الفحشاء، والمصيبة الشنعاء أنهم يعبدون الشمس: {يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:24] عجباً لك أيها الهدهد يوم تفتخر بالعلم، صح عن علي بن أبي طالب أنه قال: [[قيمة كل إنسان ما يحسنه]] وهذه الكلمة لو كتبت بماء الذهب ما أنصفاها ماء الذهب، حتى يقول ابن عبد البر: "ما عرف بعد كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم أحسن من هذه الكلمة، قيمة كل إنسان ما يحسن " وورد عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: [[كفى بالعلم فخراً أن يدعيه من ليس من أهله]] تجد الجاهل الرعديد البليد يقول: عندي من العلم ما يكفيني، فكفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله.(233/6)
العلم قرين الإيمان والفهم والتعقل
والله عز وجل ذكر أهل العلم في القرآن، فقرنهم بالإيمان، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ} [الروم:56] فقرن الله الإيمان بالعلم، وأتى الله عز وجل بالعلم في مقام الشهوات لما ذكر قارون عندما خرج على قومه في زينته، قال أهل الدنيا، أهل الجهل، أهل المادة: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] فماذا قال أهل العلم، قال: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ} [القصص:80] خافوا من الله، استحيوا من عذاب الله، {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80] فانظر كيف وقفوا هناك في موقف الشبهات، ووقفوا هنا في موقف الشهوات.
والله عز وجل ذكر أهل العلم في القرآن بالفهم والتعقل والتثبت والتؤدة فقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] ما يفهم العبر ولا يفهم النصائح إلا أهل العلم، وذكرهم الله بالحفظ في كتابه فمدحهم فقال: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49].
في صدروهم كأنها مسطَّرة ومكتوبة، لأنهم وعوها، فانظر إلى هذا الشرف العظيم، والله عز وجل دائماً يذكر العلم في معرض إرسال الرسل، حتى لما ذكر الله الكلاب، ميز الكلب المعلم عن الكلب الجاهل، قال: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4] فجعل الكلب المعلم إذا صاد فصيده حلال بشروط، وأما الكلب الجاهل فصيده لا يجوز، لأنه ما درس، وما تخرج في مدرسة، وما عنده شهادة.
وميز الله حتى في البهائم ما منـ ها يعلم عن باغ ومغتشم
ولذلك احتاج الإنسان إلى أن يورد هذه النصوص بما تردد في الساحة وسوف نأتي إليه في العنصر الرابع من تقليل شأن العلم، ومن تهوين شأن العلماء في بعض الأوساط، ومن الدعوة إلى الانطلاق، وترك البيوت والمكتبات والحلق، وأن الأمة غارقة في حمأة آسنة، وأن الإنقاذ لا يتأتى لها من الركود وإنما يتأتى لها من الانطلاق، فكان لزاماً علينا أن نورد هذه الآيات، والله يقول لرسول الدعوة عليه الصلاة والسلام: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
قال الإمام البخاري في الصحيح في كتاب العلم: فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، حياك الله أيها الإمام البخاري، ولا فض فوك، وما أحسن ما دبجت ووشحت ونسقت!
وصدق حين بدأ بالعلم قبل القول والعمل، فرسالة بلا علم جهل، وتعليم للناس بلا فهم ضلال، ودعوة بلا قال الله قال رسوله عليه الصلاة والسلام خسارة وتباب، فوجب على الدعاة، وأهل الصحوة، والمقبلين على الله أن يتعلموا، ثم ينطلقوا، وأن ينطلقوا يتعلموا حتى يلقوا الله عز وجل، واسمع إلى رسول الهدى عليه الصلاة والسلام الذي فجر الكلمة الصادقة في الأمة، والذي جاء إلى أمة الصحراء، الأمة المسكينة، التي ما تعرف حتى بناء البيوت، ولا تسقيف المنازل، ولا الخياطة والنساجة، الأمة الجاهلة، الأمة الأمية التي أحياها الله برسالة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
وأمدها مدداً وأعلى شانها وأزال شانئها وأصلح بالها
والله يمتن على الأمة الأمية الجاهلة التي ما سجدت في عمرها لله، وما عرفت الوضوء بالماء، وما عرفت أن تقول لا إله إلا الله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]
إي والله، ضلال لا يعلمه إلا الله، ضلال الخرافات، ضلال الشركيات، ضلال الجهل والتخلف، ضلال التبعية والتقليد، ضلال الذلة والصغار لأمم الأرض، فلما أتى صلى الله عليه وسلم ماذا فعل: هل قال للناس إنكم بحاجة إلى مصانع أو صوامع للغلال أو الحبوب، أومنتجات، أو مشروبات، أو مأكولات؟
نعم.
كلهم بحاجة إلى هذه الأمور، لكنها ذرة في مسألة، وفي رسالته التي جاء من أجلها صلى الله عليه وسلم، أعرض عن هذه تماماً وتركهم في بيوت الطين، يركبون الحمير والجمال، ويأخذون الماء على ظهورهم في القرب، ويأكلون خبز الشعير، لكنه عقد الندوات والحلقات، وأرسل العلم في الدنيا، ليحرر الإنسان من جهل الخرافة، لأنه إذا تعلم فسوف يفجر الدنيا، وسوف يوجه البشرية إلى بر الأمان والسلام.(233/7)
رسول الله يتحدث عن فضل العلم
يقول عليه الصلاة والسلام وهو يتحدث عن رسالته -وهذا العنصر الثاني- كما روى البخاري ومسلم عن أبي موسى قال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث - انظر إلى اختيار الغيث ودون المطر_ أصاب أرضاً فكان منها طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب حبست الماء -وفي رواية أمسكت الماء- فسقوا وزرعوا، وكان منها أرض إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك كمثل من نفعه الله بما أرسلني به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به} يقول عليه الصلاة والسلام يا أهل الصحوة! يا أيتها الأمة الخالدة! يا أمة لا إله إلا الله! يا من حمل مشاعر الخير للبشرية! مثل ما بعثني الله به إليكم كمثل الغيث ولم يقل المطر.
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
فلماذا لم يقل المطر؟
قال بعض أهل العلم: لأن المطر غالباً استخدم في القرآن في مواطن العذاب، قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [الشعراء:173] {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] فعدل عن المطر وأتي بالغيث.
ثم هناك خاصية أخرى: لأن الغيث فيه غوث للأرض، وكذلك العلم فيه غوث للقلوب.
وهناك خاصية ثالثة ذكرها القرطبي وغيره: "أن العلم صاف من السماء ما شابته الفلسفة والمنطق، كالغيث الذي نزل رحباً من السماء ما داخله الكدر ولا الطين" وهذا معنى بديع، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: رسالتي والعلم الذي جئت به قال الله وقال رسوله، هذا العلم أتى كالغيث أصاب أرضاً.(233/8)
أقسام الناس في العلم
توزع العلم في الناس إلى ثلاثة أقسام، ونحن نقسم كل الأمة إلى ثلاثة أقسام:-
قسم ارتفع رأسه بهذا العلم، فجد في طلبه وظمأ له وجاع لتناوله واحتاج إليه، فحصَّل وجد واجتهد وأتعب نفسه، فتعلم وعلم الناس، فهو كالأرض الطيبة الخصبة، قبلت الماء فأنبتت من كل زهر الأرض ومن كل نبت الأرض: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5].
وقسم آخر لم يكن فيه من التقبل ما في القسم الأول لكنه حبس وأمسك الماء، فهؤلاء الذين تلقوا النصوص فحفظوها للأمة، فأتى أهل الفقه فأخذوا هذه النصوص والمتون والأدلة ففجروها للناس، ولذلك ضرب ابن القيم في الوابل الصيب أمثلة لهذين الصنفين من الصحابة والتابعين إلى قريب من عصره فيقول: من أمثلة الطائفة الأولى ابن عباس، فإنه فجر أرضه، أخرج كنوزها وأنهارها وأشجارها وأثمارها، فهو فقيه مستنبط علامة، ومثل الأرض الثانية كـ أبي هريرة والحفاظ، فأين حفظ أبي هريرة من حفظ ابن عباس؟ فحفظ أبي هريرة أعظم وأجل، وأين فهم ابن عباس من فهم أبي هريرة؟ ففهم ابن عباس أجل وأعظم، ثم أتت الأمة على هذه المستويات، وكلا الطائفتين مأجورتان مشكورتان، مرفوعة رءوسهما يوم القيامة.
أما الطائفة الثالثة فلا حياها ولا بياها، طائفة أحبت الحياة للبطون والفروج والدور والقصور، فما تعلمت ولا علمت وما استفادت من العلم، وأظنها غير المسلمين إن شاء الله، لأن أقل درجة المسلم أنه قبل ولو آية أو حديثاً.(233/9)
الحث على التعلم
الرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما في الصحيحين من حديث معاوية خال المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} إي والله، فمن يريد الله أن يرفع رأسه وأن ينير بصيرته وأن يعظم شأنه يفقهه في الدين.
ومفهوم المخالفة في الحديث: أن من لا يريد الله به خيراً لا يفقهه في الدين، وهل يحسد على شيء في الدنيا؟
إن كان يحسد على شيء في الدنيا فليحسد على العلم، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين برواتين مختلفتين عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم: {لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار} وفي رواية أخرى {رجل آتاه الله الحكمة فهو يتعلمها ويعلمها الناس}.
والرسول عليه الصلاة والسلام يقف للأمة ويقول: {من سلك طريقاً يتلمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة} فقم يا طالب العلم، وقم يا أيها الشاب، وقم أيها المتجه في ركب الصحوة واجلس في حلق الذكر، وزاحم العلماء بالركب، فإن الملائكة تظلك بأجنحتها، وتضع لك الأجنحة رضاً بما تصنع، وطريقك ميسور مسهل إلى الجنة.
وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصلياً
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا
ويقول عليه الصلاة والسلام: {بلغو عني ولو آية} رواه مسلم وغيره، يقول: (بلغوا عني) والبلاغ لا يأتي إلا بالعلم، فالله الله ولو آية، الله الله ولو حديث، ليكون لك موقف يوم القيامة، لتشرب من الحوض المورود الذي طوله شهر وعرضه شهر، وعدد آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، وأول ما يشرب منه من بلغ الرسالة إلى الناس.
والرسول عليه الصلاة والسلام يتحدث عن العلم فيثني عليه كثيراً فيقول: {الدنيا معلونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه أو عالم أو متعلم} رواه الترمذي وابن ماجة بسندين حسنين، ويقول عليه الصلاة والسلام: {إن معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، وحتى النملة في جحرها} هذا الحديث رواه الترمذي وغيره وسنده حسن.
إلى أحاديث أخرى يستفيض فيها صلى الله عليه وسلم في ذكر العلماء وطلبة العلم، وهو يقول في حديث أبي الدرداء عند الترمذي: {من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة} ثم يقول عليه الصلاة والسلام: {وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يخلفوا درهماً ولا ديناراً، وإنما خلفوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر} رواه الترمذي وغيره بأسانيد حسنة.
ويدعو صلى الله عليه وسلم إلى التعليم، فيقول: في حديث علي رضى الله عنه المتفق عليه: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} فهداية الرجل الواحد إنما هو بالعلم.
ولذلك ذكر ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين أن الجود منزلة الكرم، ثم قال: وأعظم الجود الجود بالعلم، فالجود بالعلم هو أعظم من الجود بالوقت وبالجاه وبالمال، وإنما يجود من تعلم وعلم الناس، والرسول عليه الصلاة والسلام إنما بعث معلماً، وهذا الحديث في سنده نظر، ولكن رسالته تشهد بذلك عليه الصلاة والسلام، وأنه إنما بعث ليعلم الناس، وأن مهمته التعليم عليه أفضل الصلاة والسلام: {فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} ومن يرد الله به خيراً يوجهه إلى الكتاب والسنة، ومن يرد الله به خيراً يقوده إلى العلم الشرعي، ليعيش هذه الصحوة المباركة.(233/10)
صور من حياة السلف مع العلم
أما العنصر الثالث: كيف عاش علماء السلف العلم الشرعي، وكيف تفانوا في طلبه، وكيف أفنوا الأعمار في تحصيله، معاذ سيد العلماء الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم بأسانيد حسنة أنه قال: {قائد العلماء إلى الجنة معاذ بن جبل، يأتي أمام العلماء يوم القيامة برتوة} والرتوة: رمية بحجر، هذا العالم الكبير، والمجتهد المطلق أبو عبد الرحمن يقول وقد حضرته سكرات الموت، واقترب الوعد وأتاه اليقين، يقول وهو يلتفت إلى سقف منزله وهو يناجي رب العزة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: [[اللهم إنك تعلم أني لم أحب الحياة لغرس الأشجار ولا لجري الأنهار، ولا لرفع القصور، ولا لعمارة الدور، إنما كنت أحب الحياة لثلاث]] حياك الله يا أبا عبد الرحمن فما هذه الثلاث؟ ما هذه الهمم العالية؟ ما هذه الروح المتوقدة؟
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
قال: [[لمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر، وتعفير وجهي في التراب -ساجداً لله- وصيام الهواجر]] رفع الله منزلتك في الجنة، فما أعظم رسالتك للناس يوم تركت هذه الكلمات! يقول: يارب إنك تعلم أني لم أكن أحب الحياة، لغرس الأشجار ولا لجري الأنهار ولا رفع القصور ولا عمارة الدور.
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
وهل الثروة إلا التحصيل؟! وهل الثروة إلا العلم النافع؟! وهل الثروة إلا النور والمعرفة التي تقودك إلى الله عز وجل، لا شيء من الدنيا ولذائذها، يقول بعض أهل العلم: ذقنا اللذائذ وتمرسنا في الشهوات فما رأينا ألذ ولا أشهى من العلم، حتى يقول الألبيري الأندلسي:
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
جعلت المال فوق العلم جهلاً لعمرك في القضية ما عدلتا
وبينهما بنص الوحي بون ستعلمه إذا طه قرأتا
يأتي سعيد بن المسيب رضي الله عنه وأرضاه وهو يتوجه لطلب العلم فيقول: [[الحمد لله، سافرت ثلاثة أيام لطلب حديث واحد من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام]] سافر ثلاثة أيام بلياليهن حتى وصل إلى ذاك الحديث، ونحن في حارتنا وفي منازلنا، تطرح علينا آلاف الأحاديث من طلبة العلم ومن العلماء، ونقول: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، نريد أن نعيش الصحوة، ولا يمكننا أن نتعلم الحديث، بل يوجد في بيوت الكثير منا آلاف الأحاديث في المجلدات، حتى يقول الشوكاني في أدب الطلب ومنتهى الإرب: إن الاجتهاد تسهل في هذا العصر ما لم يتسهل في عصر سبق.
وهذا صحيح عقلاً وحساً وحالاً وشهوداً وحضوراً، فإن الاجتهاد تسهل لوجود هذه الكتب ووجود العلماء وطلبة العلم، وتلاقح الأفكار، وتسهيل المواصلات، وطبع الكتب، واستخراجها من المخطوطات وغيرها، فكيف يتوانى الشاب في طلب العلم بعد هذا الجهد، وروى البخاري تعليقاً عن جابر رضي الله عنه وأرضاه: أنه سافر شهراً كاملاً في حديث واحد، رحم الله تلك العظام، شهراً كاملاً في طلب حديث واحد إلى عبد الله بن أنيس في العريش في مصر، ركب من المدينة، وجدَّ في السير، وأجاع بطنه، وأظمأ كبده، وأخذ كلال السفر ومشقة الغربة عن أهله، ووحشة الفراق، حتى وصل إلى عبد الله بن أنيس أحد الصحابة، فطرق عليه الباب في الظهيرة، فخرج الصحابي، فرأى الصحابي الكبير فعانقه وحياه، فقال: ادخل قال: ما أنا بداخل، قال: من أين أتيت؟ قال من مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: تريد ماذا؟ قال: أريد حديثاً سمعته من فلان حدثني أنك حدثته، قال: ادخل الآن أنت جئت من سفر، قال: ما أريد أن يكون خروجي وهجرتي إلا لله، فأعطاه الحديث ثم عاد إلى المدينة في شهر كامل.
حتى يقول الشعبي لأحد رواته، وهو رجل من خراسان: خذ هذه الثلاث، وأخبره بثلاث خصال في حديث أبي موسى في البخاري، قال: خذ هذه الثلاث فوالله الذي لا إله إلا هو! لقد كان يرحل في أقل منها إلى نواحي الأقطار أو الأمصار.
الإمام أحمد رحل آلالف الفراسخ، حتى قال بعض العلماء: لو حسبت المدة التي رحلها الإمام أحمد وكانت بالمساحة لطوقت الدنيا، رحل إلى اليمن إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني، الراوية الكبير الشهير من رجال البخاري ومسلم، فلما أراد أن يرحل إلى اليمن قال لـ إسحاق بن راهوية، فقال إسحاق بن راهوية: نعم أنا صاحبك، فلما وصل إلى الحرم وطاف بالبيت، وأراد العمرة، وإذا هم بالعلم النجم عبد الرزاق وهو يطوف، فقال إسحاق: يا أبا عبد الله، هذا عبد الرزاق مكننا الله منه، وأراحنا من السفر إليه، قال الإمام أحمد: لا آخذ منه هاهنا حديثاً واحداً، لأنني خرجت لوجه الله، وهجرتي لله، فأريد أن آخذ منه الحديث في صنعاء اليمن، لا بد من صنعاء ولو طال السفر.
وعاد عبد الرزاق وما تلقى منه الإمام أحمد حديثاً واحداً، فلما وصل عبد الرزاق بحفظ الله ورعايته إلى مستقره في صنعاء، خرج الإمام أحمد إمام أهل السنة، صاحب الأسمال البالية، والجسم النحيل، بالزهد والإقبال على الله، شيخ كبير لكنه يقود الدنيا لـ أهل السنة، ويوجه مسار التاريخ ليكون التاريخ لله، وتكون الأرض لله، وتكون السماء والتراب لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فذهب بمحبرته حتى قال له بعض المتنطعين الذين إذا تعلموا سنة أو سنتين: كفانا من العلم فقد شبعنا وروينا، يقول له: يا أبا عبد الله، أنت في الستين والمحبرة معك، فقال: نعم.
من المحبرة إلى المقبرة، وما أحسنها من كلمة لو كتبت على الجباه وسطرت، وهل العلم إلا حمل المحابر والدفاتر والأقلام، وهل التحصيل إلا ليل ونهار كما فعل الإمام أحمد.
فوصل إلى صنعاء اليمن والتقى بـ عبد الرزاق، وأخذ منه علماً كثيراً طيباً، وعاد فسجله في المسند، فجزى الله الإمام أحمد خير الجزاء، وجزى الله عبد الرزاق خير الجزاء، وجزى كل من اتجه إلى الرزاق خير الجزاء.
ولذلك أتى غلاة الصوفية -كما يقول ابن القيم - فقالوا: نحن نطلب علمنا من الرزاق لا من عبد الرزاق.
غلاة الصوفية يقولون: نطلب علمنا من الرزاق مباشرة، نطلبها من الرزاق لا من عبد الرزاق.
فنزل عليهم ابن القيم فأباد حججهم، حتى تركها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، يقول من ضمن كلامه: والله والذي لا إله إلا هو! لولا عبد الرزاق وأمثال عبد الرزاق ما عرفتم الرزاق، من أين يعرف الله عز وجل إلا عن طريق الرسل المبلغين، وطرق الرسل عليه الصلاة والسلام، من طريق ابن المديني ويحي بن معين وعبد الرزاق وأبي حاتم وأبي زرعة والبخاري وأبي داود وأولئك الملأ العظام.
دخل سهل بن عبد الله التستري -كما ذكر ذلك الذهبي - على أبي داود صاحب السنن، وحيا الله أبا داود، ولقد أحسن كل الإحسان بسننه حين قربها للناس، فهل من قارئ لـ سنن أبي داود، وهل من متدبر لها، التي يقول عنها ابن القيم: أصبحت سنن أبي داود حكماً بين أهل الإسلام، وموطناً من الحجج في مواطن الخصام، إليها يتحاكم المتحاكمون، وبحكمه يرضى المنصفون.
دخل سهل أحد القلوب الحية على أبي داود فقال: يا أبا داود! إني أريدك في طلب تلبيه لي، قال ماهو طلبك؟ قال: أن تخرج لي لسانك، قال لماذا؟ قال أقبلها، لأنها طالما قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فامتنع أبو داود ولكن سامح ولبى الإصرار من سهل، فقبل لسانه لأنها ترددت بالأحاديث.(233/11)
الاعتزاز بالعلم
ذكر الذهبي في التذكرة عن أبي زرعة، أنه لما توفي رؤي في المنام، ونحن لا نعلق بالمنامات أحكاماً ولا شعائر، ولا ننساها ونتركها، لكننا نقف منها موقف الأثر، نقول: هي مبشرات، يقول: رؤي في المنام فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: رفعني في عليين، قالوا بماذا؟ قال: لأنني كتبت ألف ألف مرة صلى الله عليه وسلم، مليون حديث وهو يكتب عند كل حديث "صلى الله عليه وسلم" فالعلماء والسلف الصالح دأبوا في طلب العلم.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[والله الذي لا إله إلا هو! لقد كنت أخرج في طلب العلم في القائلة فألتمس العلم عند الأنصار فأجدهم قائلين، فأطرح نفسي عند باب أحدهم في الشمس والريح تسفي عليّ من التراب، حتى يخرج عليّ الأنصاري فأسأله الحديث، فينفعني الله عز وجل، فيقول الأنصاري: يابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم! ألا أيقظتني لآتيك، قلت: لا.
إني أتيت في ساعة لايوقظ فيها الناس]] ولذلك لما جلس ابن عباس للتعليم، قال: [[ذللت طالباً فعززت مطلوباً]] يقول: لما أذللت نفسي لطلب العلم، عززت فيما بعد يوم أتى الناس يطلبون العلم مني.
وأتى زيد بن ثابت ذلك الرجل الفرضي الكبير، الذي جعله صلى الله وعليه وسلم في تخصص الفرائض وفي قسم الفرائض ليجيد التخصص، لأن الصحابة كانوا واجهات، كل أقام نفسه في منفذ من المنافذ، أو في باب من الأبواب، فـ خالد: مهمته ضرب أعناق الملاحدة والزاندقة وأعداء الله، مهمته أن يفصل الرءوس عن الأكتاف، كل من لا يؤمن بالله يقطع رأسه، وزيد بن ثابت: مهمته إذا قطعت الرءوس أن يقسم الأنصبة على الورثة، وأما ابن عباس: فمهمته أن يستنبط من الآيات، فيسكب من رحيقها ما يقدمه للأمة، أما أبو بكر فهو رجل الإدارة، ورجل موقف الساعة، وعمر رضي الله عنه: يترك حصناً حصيناً لكل ضائقة تضيق بالإسلام.
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
وأما عثمان فيبقى للبذل والسخاء ولإعطاء الأموال في سبيل الله، وأما علي فهو أستاذ الكلمة الحارة الصادقة التي يربي بها الأجيال، ولذلك يقول ابن كثير عنه: "باب في كلماته الحاصلة، التي هي إلى القلوب واصلة".
وأما حسان: فإن شئت فسمِّه وزارة الإعلام المتنقلة، يدخل الجنة بالقافية والأدب، لأنه نصر الإسلام من هنا، فمن كان منكم كاتباً فليتق الله في كتاباته، وليدخل بها الجنة ولا يدخل بها النار، ومن كان منكم أديباً فليتق الله في أدبه، فلا يكبه الله بأدبه في نار جهنم، ومن كان منكم شاعراً فليحاول أن يدخل الجنة بشعره، فإن للجنة أبواباً ثمانية، وحسان يقود موكباً من الشعراء يوم القيامة، ومن كان خطيباً فليأخذ باب الخطابة وليتق الله ليدخل به الجنة: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً} [الرعد:17].
إذا علم ذلك فقد كان الصحابة يجهدون أنفسهم في طلب العلم، والشاهد زيد بن ثابت: أتى ليركب راحلته، فاقترب ابن عباس ليمسك بدابته، فقال زيد بن ثابت: دع هذا يابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام! فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فقال زيد: أعطني يدك، فأخذها فقبلها، فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بقرابة رسولنا عليه الصلاة والسلام.
هؤلاء الجيل أنفقوا ذخائر أنفسهم في طلب العلم، يذهب أحدهم الليالي الطويلة ليحصل العلم، فماذا كان تحصيلهم؟
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: لما دخل أبو زرعة بغداد وقف أبي معه يسائله، فترك أبي النوافل ليأخذ ما عند أبي زرعة من أحاديث، لأن الأحاديث التي عند أبي زرعة تفوت، وأما النوافل فإنها لا تفوت فلها وقت آخر.
وتواقف ابن المبارك وعالم آخر من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر يطلبون العلم ويتسائلون حتى أًذن للفجر، وقال عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه وأرضاه: [[العلم والذكر: هي كيف تصلي، كيف تصوم، كيف تزكي، كيف تحج، كيف تطلق]] أو شبيهاً بهذا الكلام، هذه مجالس الذكر.
يقول ابن تيمية في المجلد العاشر من فتاويه: "واعلم أن طلب العلم وتحصيل العلم من أفضل الذكر، بل هو الذكر" وطلب العلم هو الذكر، وهو النفع وهو الحياة، فكان علم الصحابة وعلم السلف علماً موصولاً بالله عز وجل، تعرف أنه طالب حديث وطالب علم بالسمات التي عليه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {نضَّر الله امرأً سمع مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع}.
وفي رواية ابن حبان: {رحم الله امرأ سمع مني مقالتي} الحديث، والنضرة موجودة على وجوه طلبة العلم كلما زادوا من التحصيل، وكلما أكثروا من حفظ الأحاديث، وكلما زاولوا هذا الفن رزقهم الله بهاءً ونوراً على وجوههم، لأنهم أخذوا ميراث الرسول عليه الصلاة والسلام.(233/12)
علم السلف وعلاقته بالخشية والعمل
إذا علم ذلك فقد كانت حياة الصحابة علماً موصولاً بتقوى الله عز وجل؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فالذي لا يخشى الله ليس بعالم، ولو تعلم مهما تعلم، والله تعالى أنَّبَ كثيراً من العلماء الذين ما نفعهم علمهم في القرآن، فقال لـ بلعام بن باعوراء اليهودي الإسرائيلي أخو القرد والخنزير، لما أخذ الآيات فما نفعته في الحياة: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176].
وقال لبني إسرائيل وهو يصفهم بأردى الأوصاف يوم حملوا الكتب في صدورهم وحفظوها: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] وقل لي بالله ماذا يستفيد الحمار إذا حملت على ظهره فتح الباري ورياض الصالحين وبلوغ المرام والمغني؟!
هذا كبني إسرائيل وأمثالهم من هذه الأمة، نعوذ بالله أن نكون من ذاك الصنف، لأن ابن تيمية يقول في اقتضاء الصراط المستقيم لما ذكر قول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {لتتبعن سُنَنَ من كان قبلكم حذو القذة بالقذة} الحديث، قال: وسوف يقع في هذه الأمة ما وقع في الأمم قبلها؛ فإنه وُجد في هذه الأمة عباد -أو كما قال- يعبدون الله بالجهل، ففيهم مثل من النصارى الذين قال الله فيهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] ووجد في طلبة العلم اليوم من فعل مثل ما فعل اليهود، تعلموا العلم فلم يعملوا به فقال الله فيهم: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13] قال سفيان بن عيينة: [[من فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه بالنصارى]] ونعوذ بالله من كلا الصنفين، نعوذ بالله من عالم فاسق، ونعوذ بالله من عابد جاهل، لأن العابد الجاهل سريع الدخول في البدع والخرافات، والعالم الفاسق سريع الدخول في الشهوات والنزوات، فالخوف على هذا من الشهوات، والخوف على ذاك من الشبهات.
إذا علم هذا فكان واجبنا التعلم كما فعل سلفننا الصالح، والعلم إنما هو من الله عز وجل، يقول جل ذكره: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] فالذي يعلم هو الله، والذي يفهم هو الله، وكلما اتقاه العبد كلما علمه وفهمه، انظر لـ ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة وهو يمرغ وجهه بالتراب -كما في ترجمته- ويقول وهو شاب في العاشرة من عمره يا أبناء العشرين ويا أبناء الثلاثين والأربعين، يمرغ وجهه في التراب ويقول: " يا معلم إبراهيم علمني ويا مفهم سليمان فهمني " {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] وإبراهيم يقول: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ} [مريم:43] فيقول ابن تيمية: " يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني" فعلمه معلم إبراهيم، وفهمه مفهم سليمان، علماً وفهماً صادقين خالصين استخدمهما في نصرة لا إله إلا الله، ولذلك فجر طاقة في المعمورة، حتى نكس التاريخ وقاده وراءه حتى أصبح التاريخ لـ ابن تيمية، يقول أحد المستشرقين فيما اطلعت عليه: وضع ابن تيمية ألغاماً في الأرض -يعني: دنميت- فجر بعضها ابن عبد الوهاب، وبقي بعضها لم يفجر إلى الآن، حتى يقول المزي: "ما وجد قبله بخمسمائة سنة مثله" وكأنه يقال: وحتى الآن ما وجد مثله، ولا نغلو فيه فنقول: ليس بمعصوم، ولكنه رجل صالح، وعلامة جهبذ، وإنسان أراد أن يقود الأمة، وصحوة في عصره على قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
أيوب بن أبي تميمة السختياني أحد رجال الكتب الستة، يخرج من بيته -وهو من العلماء العاملين- إلى أهل السوق، فيرون في وجهه لمعان النضرة والنور والبهاء والإقبال على وجهه، فيذكرون الله: لا إله إلا الله، ذكرَّهم المنظر بذكر الله عز وجل، وهو ممن إذا رؤوا ذكر الله عز وجل.
أيوب هذا كانت تصيبه الرقة والبكاء من خشية الله، فإذا بكى مثَّ أنفه كأن به زكام، ومابه من زكام ولكنه البكاء، يقول عنه ابن الجوزي وهو يتحدث عنه في صيد الخاطر:
أفدي ظباء فلاة ما عرفن به مضغ الكلام ولا نسج الحواجيب
يقول: تعيش أيها المصلح يومَ ماعرفت النقاق والرياء إذا بكيت من خشية الله مثت أنفك كأنك مزكوماً، وأنت لست مزكوماً، وإنما زكامك خشية، ورقة وإقبال على الله عز وجل.
أيوب بن أبي تميمة السختياني ورد عن مالك، أنه قال: "ما كنت أظن أن في أهل العراق خيراً حتى رأيت أيوب بن أبي تميمة السختياني سلم على الرسول عليه الصلاة والسلام في قبره، ثم بكى حتى كادت أضلاعه تختلف".
لأن الإمام مالك يقول في الرواية عن أهل العراق أنزلوهم منزل أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وورد عنه أنه قال: يخرج الحديث عندنا من المدينة شبراً، ويعود من عندهم ذراعاً، لكن لما رأى هذا الصنف والطراز الممتاز رجع عن كلامه، حتى الإمام الذهبي في السير يقول للإمام مالك: "رحمك الله! بل في أهل العراق العلماء والجهابذة والصادقون" أو كما قال، كـ سفيان الثوري وقتادة بن دعامة السدوسي وعلقمة وإبراهيم النخعي وإبراهيم التيمي.
الشاهد أن هؤلاء العلماء كانوا نوراً يسري على الأرض، فتعلموا العلم ووجهوه للناس، عبد الغني المقدسي رحمه الله كان يدرس الحديث فإذا بدأ في الحديث لا يسمع كلامه من كثرة بكائه، وكان يقول: "وهل العلم إلا الخشية من الله".
ويذكر الخطيب البغدادي صاحب كتاب اقتضاء العلم العمل: أن أحد العلماء توفي، فرؤي في المنام فقالوا ما فعل الله بك، قال: " ذهبت تلك الشطحات وذهبت تلك العلوم - علوم عرضية ليست علوم شريعة - وبقيت لنا سورة الفاتحة كنا نعلمها العجائز في قريتنا".
ولذلك يقول ابن تيمية وهو يتحدث عن المأمون: "إن الله لا يغفل عنه، فسوف يسأله الله عز وجل عن العلم المنطقي والفلسفي الذي أدخله على المسلمين".
هل نحن بحاجة إلى علم المنطق والكلام والفلسفة؟
لا.
بل نحن بحاجة إلى علم أتى كالغيث من السماء، أتى من فوق سبع سماوات إلى قلوبنا، نروي به الظمأ، ونحيي به القلوب، ولذلك كان من هدي السلف الصالح العمل.
ابن المبارك رحمه الله يقول وهو يقرأ في كتاب الزهد الذي ألفه -المطبوع المحقق- وما أصبحنا ننظر إلا من رحم الله إلا إلى الغلاف، وجودة الطبع والتحقيق، ومن خرج الحاشية والفهرسة، كان يفتحه أمام الناس، فيخور كما يخور الثور من البكاء، هذا عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وأرضاه الذي يقول لطلبة العلم.
لا ينفع العلم قبل الموت صاحبه قوم به سألوا الرجعى فما رجعوا
يقول: اليوم ينفعك العلم، ولا ينفعك غداً، متى تعمل بعلمك إذا ما عملت به اليوم.
تلميذ أبو إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين قدموه إلى السلطان، وكان السلطان فيه شبه في العقيدة، فقالوا هذا قام بحرب السلطان الخراساني، فأتوا بهذا التلميذ فقال له السلطان: قل لا إله إلا الله.
قال: يا أيها السلطان أتعلمني أنت لا إله إلا الله، أما أنا فقد تعلمتها من الفطرة، وقد رضعتها من الصغر، ولا إله إلا الله أموت من أجلها الآن.
قال: لماذا لا تتجهز بعمل صالح قبل أن أقتلك الآن.
قال: إن سيدي - يقصد شيخه أبا إسماعيل الهروي - قال لي:" إن الدابة لا تعلف الشعير إذا أردت أن تصعد بها العقبة" تريد أن تصعد بالدابة العقبة من الصباح فتعلفها لتسمن، ومتى يمكنها أن تسمن؟ يقول: إذا لم أدخر من العمل الصالح قبل هذا الموقف فلا ينفعني، يوم يكون السيف على رأسي والموت أمامي، وقد نمت في جفن الردى، فأنا كالدابة تترك حتى إذا أراد صاحبها أن يصعد بها في العقبة أعطيت الشعير لتسمن، ولن تسمن في ساعة ونصف.
ولذلك إذا لم نأخذ هذا العلم تطبيقاً من الآن فإننا لن نسمن به، ونخاف -نعوذ بالله- أن نعذب به عذاباً أليماً، حتى ورد عن أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه كما في كتاب الزهد للإمام أحمد أنه قال: [[ويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات، وويل لمن عمل ولم يعلم مرة واحدة]] أو كما قال.(233/13)
البركة في العلم وثماره
فإذا عرف ذلك، فإن من تعلم العلم فإن عليه مسئولية عظيمة الله أعلم بها، وإنما شاهدنا كيف عاش السلف، يوم يأتي الإمام أحمد رحمه الله فيكفي أن يمر بالسوق ليلقي دروساً فيها من الاقتداء والخشية والانصياع لأمر الله عز وجل، ومن توجيه الناس إلى الله تعالى الشيء الكثير.
يأتي ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة فيؤسس مدرسة التقوى ويبث العقيدة بسلوكه وتطبيقه، ويقول ويكرر: إن من عمل بعلمه أورثه الله علم مالم يعلم، وهذا بعض أهل العلم يرفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فسبحان الله! ما أجلَّ فائدة من عمل بعلمه، وسبحان الله! ما أعظم خسارة من لم يعمل بعلمه، إذا علم ذلك فإن واجبنا نحو هذا العلم أن نعمل به، فالعلم لا يبارك فيه إلا بثلاثة أمور:-
الأول: الإخلاص.
الثاني: العمل.
الثالث: التبليغ.
فالأمر الأول: أن نخلص في طلبه وفي تحصيله، والأمر الثاني: أن نعمل به، والأمر الثالث: أن نعلمه الناس، فإذا حصل هذا فهي الأمور الثلاثة التي تمكن العلم.(233/14)
فوائد العلم
للعم فوائد ولو أن ابن القيم يوصلها إلى ما يقارب مائتي فائدة، لكن مجمل الخمس المسارات، أو الخطوط العريضة للعلم تكمن في خمسة أمور، ولو أنها بالتفريع والتقسيم والتجزئة تصل إلى مائتي فائدة.(233/15)
كشف الشبهات
الفائدة الأولى: كشف الشبهات: فلا يكشف الشبه إلا العلم، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد:19] من هو الأعمى؟ الجاهل الذي لم ينصاع لرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، والعالم تنكشف له.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد:19] وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [[فقيه واحد أشدُّ على الشيطان من ألف عابد]] وابن ماجة يرفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، والصحيح أنه موقوف على ابن عباس، فأول فائدة للعلم كشف الشبهات، فلا تأتيك شبهة زندقة ولا إلحاد ولا شك ولا ظلمة بسبب العلم، قال ابن دقيق العيد: "أصبت في مبدأ حياتي بالوسواس" وسواس في المعتقد والإلهيات، والأصول، والإيمان، قال: "فشكوت على العلماء حالي قالوا: عليك بطلب العلم، فطلبت العلم، فأزال الله الوسواس" فداء الوسواس والشبهات والزندقة والخرافة والتقليد والإلحاد هو العلم.(233/16)
كبت الشهوات
الفائدة الثانية: كبت الشهوات: فلا تكبت الشهوات إلا بالعلم، يقول الله عز وجل هو يتحدث عن أهل العلم: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} [القصص:80] فانظر كيف كبتوا شهواتهم بطلب العلم.
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] النور هو العلم، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] قال بعض أهل العلم: البصيرة العلم.(233/17)
تجلية الظلمات
الفائدة الثالثة: أنه تجلية للظلمات، فالفتن لا يجليها إلا العلم، فالحوادث والكوارث التي تقع بين الناس لا يجليها إلا العلم، ولذلك لما وقعت فتنة صاحب النفس الزكية في عهد الخلافة العباسية وقع فيها كثير من غوغاء الناس، ونجا منها كثير من العلماء، حتى إن سفيان الثوري توقف فيها، فقالوا لماذا تتوقف وهي مقبلة ما تدري؟ قال: [[العالم يعرف بالفتنة وقت إقبالها، وإذا أدبرت يعرفها الجاهل والعالم]] فـ سفيان عرف بعلمه وذكائه الفتنة يوم أقبلت، فالظلمات والحجب لا يعلمها إلا الله عز وجل، حتى يقول أبو بكر الأندلسي حين يوصي ابنه ويمدح العلم فيقول له:-
هو العضب المهند ليس ينبو تصيب به مضارب من أردتا
وكنز لا تخاف عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث كنتا
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا
إلى أن يقول:-
ويجلو ما بعينك من عماها ويهديك السبيل إذا ضللتا
فجلاء الظلمات إنما هو العلم، والفهم في الكتاب والسنة.(233/18)
إحياء الأموات
الفائدة الرابعة: إحياء الأموات: ومن هم الأموات؟ هل من قرأ صحيح البخاري يحي الله له المقابر؟ لا.
رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إحياء للأرواح، ولذلك يقول شوقي أمير الشعراء يمدح الرسول عليه الصلاة والسلام:-
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
أي: إن كان عيسى عليه السلام أحيا الميت بإذن الله، فأنت أحييت القلوب بالعلم، فالعلم إحياء للأموات، والأمة إذا لم تكن عالمة فهي ميتة، والإنسان إذا لم يتعلم العلم الشرعي الذي يقيم به عبادته، صلاته، صيامه، حجه، زكاته، أمور دينه فهو ميت، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] فالعلم حياة للأموات.(233/19)
رحمة بالكائنات
الفائدة الخامسة: العلم رحمة بالكائنات: فإن أرحم الناس بالناس العلماء، وسيدهم ورسولهم صلى الله عليه وسلم هو الذي أتى بالعلم ولذلك قال الله له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ولم يقل رحمة للمؤمنين ليخرج الكفار، وإنما قال للعالمين، فهو رحمة للكافر وللمسلم وللحيوانات والعجماوات والطيور والزواحف.
أما رحمته للكافر: فإن الكافر لم يعذب والرسول صلى الله عليه وسلم حي، قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] فكنت رحمة لهم وهم كفار.
وأما رحمته للمؤمنين: فإن الله رحم به المؤمنين، وكان أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم.
وأما رحمته بالحيوانات: فمما علم من أحاديث كثيرة، منها حديث الجمل الذي شكى إليه صلى الله عليه وسلم أن سيده يجيعه ويريد أن يذبحه، فأنقذه بإذن الله رسول الله من الذبح، ورحمة الطائر في حديث ابن مسعود عند أبي داود، يوم أخذ الأنصاري فراخها من العش، فجاءت ترفرف على رأسه كأنها تشكو إليه، حتى يقول بعض الشعراء:-
جاءت إليك حمامة مشتاقة تشكو إليك بقلب صب واجف
من أخبر الورقاء أن مكانكم حرمٌ وأنك ملجأ للخائف
فلما رفرفرت على رأسه فهم صلى الله وعليه وسلم فحوى الخطاب فقال: {من فجع هذه بأفراخها؟ قال رجل: أنا يا رسول الله! فقال: رد عليها أفراخها} فكان رحمة لها، ورحمة للنمل فإنه أبى صلى الله عليه وسلم أن تحرق بالنار، وقال: {لا يعذب بالنار إلا رب النار} فهو رحمة للعالمين.
إذاً: فالعلم كشف للشبهات، وكبت للشهوات، وإحياء للأموات، وتجلية للظلمات، ورحمة للكائنات، وهذا مجمع عليه بين علماء الإسلام، إلا من شذ ممن لا يفهم.(233/20)
واجبنا نحو العلم
أما العنصر الرابع: من عناصر هذه الجلسة وعناصر هذه الكلمة، فهو واجبنا كشباب نعيش الصحوة، وكجيل نتجه ونقبل إلى الله، وقبل أن أتحدث في هذا العنصر أيها الأبرار الأخيار، أحب أن أفهم وأن يفهم معي من أراد أربع مسائل.
المسألة الأولى: العلم قبل القول والعمل قال الله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] ومن أراد أن يعمل أو يقول قبل أن يتعلم قد أخطأ سبيل الخير فعليه أن يتعلم ويعمل.
المسألة الثانية: الدعوة لا تنفع إلا بعلم، فمن أراد أن يتصدر للناس بالدعوة وليس عنده علم فسوف يخطئ ويضل، وسوف يغوي الناس.
المسألة الثالثة: الحماس نبتة ضئيلة، زهرة ربيع تذبل، والعلم بالدليل شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، الحماس، الهيجان، الخطب النارية، المقالات الفكرية إذا بولغ فيها فهي نبتة ضئيلة، كزهرة الربيع تذبل في ثلاثة أشهر، أما العلم بالدليل فإنه: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:24 - 25].
المسألة الرابعة: العلم هو الدليل، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].(233/21)
العلم والدعوة والعمل
إذاً: فما واجبنا نحو هذه المسائل؟
واجبنا يا شباب الإسلام أن نتعلم وندعو الناس، لا نقول نتأخر حتى نحفظ الصحيحين والمتون ثم ننزل إلى الساحة، لا.
أقول: نتعلم علماً أو حداً ثم ننزل إلى الساحة، فنتلقى العلم ونحن نعلم الناس، فلا ننقطع عن الدعوة فنصبح مركونين في بيوتنا، وفي ظلمات الزوايا، ولا ننزل إلى الناس ونترك العلم، فينتهي علمنا في سبعة أيام أو في ستة أيام، ثم يلتف الناس حولنا فلا يجدون علماً، فنسقيهم بدل قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام كلاماً حماسياً، يطيش ويفيش كالهواء، فهذا ليس بعلم، الكلام كلام والعلم علم، ولذلك قال حماد بن زيد زميل الإمام مالك، العلامة الجهبذ النحرير الكبير من رجال الصحيحين، قال لـ أيوب السختياني: يا أيوب كثر العلم إن شاء الله، قال:" بل والله قل العلم وكثر الكلام "، كلام القرن الثاني أكثر من كلام القرن الأول، وكلام القرن الثالث أكثر من القرن الثاني، فما بالك بالقرن الخامس عشر، إن من يستفتي الآن في مسألة يلقى عليه محاضرة كاملة، وبينما القرن الأول كان إذا استفتي في مسألة قال: نعم أو لا، أو قال الرسول أو قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فكان كلامهم قليل ولكن علمهم مبارك.
فالعلم -أيها الإخوة الأبرار- ليس بكثرة الكلام، العلم هو الدليل، وهو التأصيل العلمي، وهو تحقيق المسائل، وليس معنى ذلك أن من أكثروا الكلام في نصرة دين الله عز وجل -كالمفكرين- فقد أخطأوا بل جزاهم الله خيراً فيما سدوا من ثغرة، فإنهم قابلوا السلاح بمثله، لكن لا يعني ذلك أن يظن كثير من الشباب أو بعض الشباب أن هذا الفكر علم يحصل ويؤصل وأنه هو المطلوب، الفكر شيء غير العلم، وهو يدخل في مسمى العلم، لكنه ليس العلم كل العلم، فالعلم هو الدليل وهو الكتاب والسنة وما دار حول الكتاب والسنة.(233/22)
التهوين من شأن العلم
وجد في بعض الأوساط من هون من شأن العلم، فتردد بين شباب العلم أو طلاب العلم مما سمعنا أو سمع غيرنا أنهم إذا سمعوا بشاب حفظ متناً من المتون كـ صحيح البخاري أو رياض الصالحين، أو بلوغ المرام، قالوا زاد نسخة في البلد، ومعنى ذلك أن ما هناك فائدة، وإنما زاد نسخة لـ رياض الصالحين، مع رياض الصالحين وللبخاري مع البخاري، وهذا جهل بالفائدة، لا والله ما زاد نسخة في البلد، بل زاد عالم جهبذ علامة، يوجه الأجيال بإذن الله، والله امتدح الحفاظ فقال عن الملائكة: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار:10 - 11] فمدحهم بالحفظ، وقال عن الحفظ: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فإن من حفظ كتاباً، فإن هذا الكتاب إن شاء الله سوف يهديه إلى الدعوة، وليس معنى ذلك أن نقول له: زدت نسخة في البلد، لا، فنحن لا ننطلق إلا من علم، ولا ندعو إلا إلى علم، ولا نصلح الدعوة إلا بعلم.(233/23)
من كان شيخه كتابه
ما موقعنا من كلمة: "من شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه" وهي موجودة بين طلبة العلم وهذه الكلمة تحتاج إلى تفصيل، فإن بعض الناس يقبلونها على مطلقها، فعنده فتح الباري مطبوع محقق منقح مصفح مسطر، فلا يقرأ فيه، فإذا قلت له: لماذا لا تقرأ فيه؟ قال أخاف أن أقرأه وحدي فأضل سواء السبيل، حتى يأتيني شيخ فيجلس معي بعمامته، فأتربع بين يديه، فأجعل ركبتي إلى ركبتيه وأضع يدي على فخذيه، ثم أتعلم منه، لسبب "من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه".
وشاب آخر كفر بهذه الكلمة، يقول: هذه الكلمة لا مصداقية لها، فأخذ من بداية الطريق يأخذ الأحاديث مباشرة، ويفتي الناس بها، ويضرب رأس هذا الحديث برأس هذا الحديث، ويوجه مسار الفتيا وتوجيه التشريع والتأصيل والتحقيق، ويقول: لا حاجة لعلوم النحو، واللغة وأصول الفقه.
والواجب أن يفصل في هذه الكلمة، وقد سمعت من بعض أهل العلم تفصيلاً لها، فلا يوسوس فيها ولا تترك: فأما من كان عنده مبادئ علمية يستطيع أن يفهم بها الكتب، أو درس في مدارس فيستطيع أن يعرف العبارة فلا يقرأ في عبارة لا يجوز أنها يجوز فيضل، لكن عنده فهم وعنده حسن تلقٍ وتدبر، فإنا نقول له: باسم الله ابدأ واقرأ فتح الباري من أوله إلى آخره ودعها فإن معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وترعى الشجر.
أما أن نقول لك: اصبر حتى يأتيك شيخ، فلا يأتيك شيخٌ وقد لا ترى شيخاً في حياتك، فهل تحرم نفسك وعندك المبادئ والأسس والأساليب من هذه الكتب المقابلة على النسخ، المحققة المطبوعة المنقحة، من الذي عنده مبادئ ولا يفهم تفسير ابن كثير أو رياض الصالحين أو بلوغ المرام أو غيرها من الكتب؟
فنقول لمن عنده فهم وتيقظ وقدر لا بأس به أو حد أدنى من العلم: ابدأ واقرأ بنفسك.
أما آخر ليس عنده مبادئ ويخلط الغث بالسمين، والحابل بالنابل، ويركب الصعب والذلول، فنقول: رويدك، لا بد من أساس علمي ومنهجي، ولا بد من التلقي قبل أن تبدأ، فليعلم ذلك، وأظن أن هذا التفصيل علم، "من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه".
والذي نلاحظه في الأوساط -وهي أصبحت كالظاهرة ونسأل الله أن يعافينا منها- ظاهرة الدعوة بلا علم، وظاهرة دعوة الناس إلى الصحوة بلا علم، والتقليل من شأن الحلقات العلمية والتلقي عن العلماء والتأصيل العلمي، وتخريج الأحاديث وتحقيق المسائل، وهذه ظاهرة خطيرة، والجهل سوف يودي بهذه الصحوة إلى ما لا يحمد عقباه، لأن صحوة لا ترتسم على قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام ليست بصحوة، ولذلك قد يوجد في أهل الصحوة من ترى عليه ملامح الاستقامة ولكنه ليس فيه توقد، وليس فيه روح، وليس فيه مدد وغذاء للصحوة الذي هو العلم النافع والعمل الصالح، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33] الهدى: العلم النافع، ودين الحق: العمل الصالح، فهذا هو الذي أرسل به صلى الله عليه وسلم.(233/24)
الإفتاء بغير علم
ظاهرة الفتيا بلا علم ظاهرة خطيرة، فإن الدعوة شيء والفتوى شيء آخر، يحق لك أن تكون واعظاً، متحدثاً، خطيباً، داعية، لكن لا يحق لك أن تكون مفتياً إلا إذا انطبقت عليك شروط الإفتاء، فالإفتاء شيء والوعظ شيء آخر، والوعظ لا يحجره أحد عليك، وسوف ترحب بك القلوب وتدعوا لك الألسنة، ويتقبل الله منك إذا أخلصت، وأما الفتيا فكأنك أوقفت نفسك تحت ضرب السيف، أو كأن السيف مسلول على رأسك، تخاف لأنك توقع عن رب العالمين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116] فمن يفتي فهو كمن يوقع عن رب العالمين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فهذه الفتيا شأنها صعب وعويص، وطالب العلم في الفتيا بين خطرين، بين خطر أن يكتم شيئاً علمه الله إياه، وبين أن يتحدث بشيء لا يعرفه، والوسط هو المطلوب: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] فكتمان العلم أن تفهم المسألة وتعرفها كما ترى الشمس لا تعلمها، يقول لك أحد العوام: كيف كان يتوضأ عليه الصلاة والسلام؟ فيحملك الورع أن تقول: الله ورسوله أعلم، أو لا أدري، هذا ورع مظلم، لأن جملة طلبة العلم يعرفون الوضوء.
يسألك أحد الناس: كم أركان الإسلام؟ فتقول: الله أعلم، الفتيا صعبة كالسيف، وهل في هذا فتيا، هذا كتمان للعلم: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187].
ويقابله فريق آخر يقول: لوقلت لا أدري في المجلس انكسر جاهي، وقال الناس: هذا لا يعرف، وتناقلوا عني في المجالس أني لا أعرف، وسقطت قيمتي في الناس، وما يعلم أن رفع قيمته قوله لا أدري في هذا الموقف، حتى يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: [[ما أبردها على قلبي إذا سئلت عن ما لا أدري فقلت: لا أدري]].
ولذلك قال الله لرسوله في مواطن: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف:187] قل علمها عند ربي أما أنا فلا أعلم، ولذلك ورد عنه صلى الله عليه وسلم في حديث حسن أنه قال: {تُبَّع ما أدري هل هو رسول أو ملك} حتى قال بعض الحفاظ، حفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا أدري في ثلاثة أحاديث أو أربعة في علم الله.
فلا أدري ترفعك إذا كنت لا تدري؛ فهي نصف العلم، ونصف الجهل، فبعض الناس -ونعوذ بالله أن نكون منهم- إذا سئل في مسألة والناس مزدحمون خاف أن يقول: لا أدري حتى ولو كانت من المسائل العويصة، ومن المسائل التي تساقطت فيها عمائم الأبطال، وتكسرت فيها النصال على النصال، وركضت فيها الخيول، وكبت فيها السيول يقول: حكمها كذا وكذا، لأن لا أدري صعبة، وبعضهم يقول: فيها أقوال لأهل العلم، لأنه يجيب بمجموعة أجوبة ويقول: نسأل الله من فضله أن يصيب بعض الأجوبة، يعني تخميناً والله ذم الظن في القرآن فقال: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32] {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس:36]
وقال حذيفة: [[ابدءوا بالعلم، فإنه اليقين قبل أن يأتي الظانون]] إذا علم هذا فإن الفتيا صعبة، ولكن الدعوة شيء آخر غير الفتيا.(233/25)
الدعوة إلى الله وطلب العلم
مسألة التثبيط عن الدعوة أو التثبيط عن الجلوس لطلبة العلم، أو عن التدريس موجودة في الأوساط، وهذه سطرها وأملى صحفها الشيطان، يأتي إلى طالب العلم وقد أخذ حداً لا بأس به من العلم وفهم، وفتح الله عليه، فيريد أن يجلس لإخوانه وزملائه، وطلبة العلم في حيه، ليعلمهم الكتاب والسنة، فيأتيه الشيطان ويقول له: استح من الله، كيف تجلس؟ أأنت ابن باز أو ابن عثيمين تتصدر للناس، أما تستحي، من أنت حتى تجلس وتعلم الناس؟! فيقوم طالب العلم ويقول: أستغفر الله وأتوب إليه، اللهم إنك تعلم أني كنت أريد أن أحدث الناس، فقد تبت إلى الله من تحديث الناس، فيبقى الناس جهلة، وهذه خطط الماسونية، لأن الشيطان ماسوني، وهو مؤسس الماسونية، بل كل مبدأ هو الذي ألف الكتب له , وعنده -كما يقول بعض الدعاة- رسالة دكتوراه في علم النفس، فإذا رآك متجهاً في جانب أرصد لك منه، إن رآك تريد العبادة وأنت مجد في طلبها، قال: حياك الله وأهلاً وسهلاً بهذا العابد، الذي ما وجد في الجزيرة أعبد منه، وقال: لا تكتفي أنت بالنوافل، وما دام أن الله نصبك للعبادة فأكثر
يقول ابن القيم: يحمل الشيطان بعض الناس على أن يتوضأ ويغترف أربع غرف -للعضو أربع مرات- فلايكفيه ثلاث مرات لأنه من طراز وصنف آخر.
ويأتي إلى الداعية الذي يريد الدعوة، ويريد التكلم لينفع الله به في مستواه ويقول: حياك الله، أنت المفتي الأعظم، ومن يؤخرك عن الفتيا وهي سهلة وميسورة، ومن صعب عليك أمر الإفتاء، افت وتوكل على الله، والذي عقد رأس الحبال يحله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فيقحمه في الفتيا.
ويأتي إلى الخامل المنكسر في بيته الذي حمله علمه فجلس به في بيته لا يبلغه للناس، قال: ما أورعك وما أزهدك! ما أشد تواضعك ما أحسنك! عليك أن تزيد خمولاً، وأن تنتقل من هذه القرية إلى البادية، لأنها تورث لك شهرة، وإن كان في المدينة أمره أن يخرج إلى القرية؛ لأن العلماء وطلبة العلم والدعاة خناجر مسمومة في نحر إبليس، وما ضرب إبليس بسيوف أشد من ضرب العلماء له، وعالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، لأن العابد يصلي الضحى، فإذا انتهى تنفل للظهر، فإذا انتهى من الصيام أتى في قيام الليل، أما العالم فإنه يحي الأرواح، ويدمر الإلحاد والوثنية في الدنيا، ويقيم منائر الحق، فأنا أدعو نفسي وإياكم أن نجلس لإخواننا جلسات، وهذا أمر ميسور، حتى يقول أحد الأساتذة: نحن المسلمون ليس عندنا أسرار، مبادؤنا تعلن من على المنبر، نعلم الناس لا إله إلا الله والمسح على الخفين والتيمم والوضوء والحيض، وهل في هذا شيء، فهذه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي سنن أبي داود أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه جمع أهل الكوفة، فلما اجتمعوا عليه قال لهم: يا أيها الناس! انظروا إليَّ، فنظروا فقام وتوضأ، فلما انتهى قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ.
أبو الحسن علي بن أبي طالب يتوضأ ويقول للناس: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فهل عز علينا -يا طلبة العلم- أن ندعو الناس في القرى والضواحي، وأن نجلس بين أيديهم، ونتوضأ كما توضأ الرسول عليه الصلاة والسلام، ونقول: هكذا توضأ الرسول عليه الصلاة والسلام، أليس بعلم , والله ربما يكون وضوءك مرة واحدة أمام هجرة من الهجر، أو قرية من القرى، خير من رسائل الدكتوراه التي أخذت أعمارنا في مقابلة نسخة دار الشروق بنسخة بولاق وتحقيق الحاشية، ثم خرجت الأمة إلى أحشى الحواشي، وبعد سنوات ينقل الإنسان برسالته الماجستير والدكتوراه إلى القبر، والأمة تعيش في الظلام الدامس، وأنا أعرف وأنتم تعرفون أن من هؤلاء العلماء، ومن أهل هذه رسائل من نفع الله به الإسلام، ورفع به قيمة الدين في كثير من الأماكن.
ولا يعني هذا التهوين من شأنها لكن لا تكون مقصداً ولا تكون هي المبدأ ولا الحل، ولكن الظاهرة التي سمعنا ورأينا من بعض الناس، وعلمنا من هو أعلم منا التخاذل عن التعليم وتبليغ الدعوة، وعن الدعوة إلى الله عز وجل حتى تكدست المدن بطلبة العلم أهل التخصص، في الحديث ثلة من الثلل، وفي التفسير ثلة، وفي الفقه ثلة، في كل المستويات والتخصصات، ثم لا تدريس ولا تعليم، فكيف تحيا الأمة.
هل الأمة تحيا بفكر؟
يأتي شاب عمره ست عشرة سنة أو سبع عشرة سنة، فينظِّر للأمة والشباب تنظِّيراً فكرياً تعبيرياً ويقول: هذه الصحوة وهذا العلم، وليس هذا بالعلم ولا بالصحوة، ولذلك استغل الساحة اليوم أهل الحداثة ممن أخذوا الأقلام وسخروها في هذا المنحنى، غروا الشباب بهذا الموكب، انظر كيف يبذلون لمبادئهم ولأغراضهم ولرموزهم ما لا يبذله الواحد من طلبة العلم، أو عشر معشار مايبذله، يسهر الليل يفكر ما هي الوسيلة التي يكتب بها في أدب الحداثة ويبلغه للناس، وعنده مركب وفي صدره شيء، والله أعلم بنواياه، أما ظاهره من قبله الرحمة، يريد تثقيف الناس وتعليم الناس، وباطنه من قبله العذاب.
المقصود أن نعرف كيف يبذل هؤلاء مهجهم وأقلامهم، ويسيلون مداد أقلامهم في خدمة مبادئهم، ونحن إن لم نفعل لذلك نقول ذلك: يا أهل الحديث، ويا أهل التفسير، ويا أهل الفقه، ألا يكون لنا مجال في الساحة؟ ألا يكون لنا قلم يكتب؟ ألا يكون لنا متحدث يتحدث والأبواب والحمد لله ميسرة، والأمور مسهلة؟ بقي أن نجلس وأن نقول لطلبة العلم: قد جلسنا فتعالوا، ما عندنا أعطيناه لكم، وما ليس عندنا فلا نتكلفه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]
إن علمنا بشيء قلنا: نعلم هذا، وإن جهلناه قلنا: الله أعلم.
هذا ما في هذه العجالة وهذا ما أريد أن أقوله لكم، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته سلاماً كثيراً مباركاً.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إن نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(233/26)
الأسئلة(233/27)
مفهوم الجاهلية وكتابات محمد قطب وسيد قطب
السؤال
ما مفهوم الجاهلية؟ وهل من قال: إن بعض المجتمعات جاهلية، هل معنى ذلك أنه يكفر بعض أفراد المجتمع، وما رأيكم فضيلة الشيخ في كتب سيد قطب ومحمد قطب؟
الجواب
الحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
فالجاهلية مفهوم أطلق في القرآن ثلاث مرات، وأطلقه رسوله صلى الله عليه وسلم ويقصد به المجتمع الكافر، فلنا أن نقول مثلاً: المجتمع الإمريكي مجتمع جاهلي، المجتمع الأوروبي مجتمع جاهلي، فتطلق الجاهلية على المجتمع الكافر، وتطلق على المجتمع الذي ماتعلم العلم أو ما فهم الرسالة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، أو قل فهمه فنقول: مجتمع فيه جاهلية ولا نقول مجتمع جاهلي، ويطلق على الشخص الواحد الذي فيه شعبة من شعب الجاهلية نقول: فيك جاهلية، كما أطلقه صلى الله عليه وسلم في الصحيح على أبي ذر لما سب أحد الصحابة، فقال: {يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية}.
فالجاهلية تطلق على هذه الأمور: على المجتمع الكافر إطلاقاً عاماً لا تقيد فيه، فكل مجتمع جاهلي بلا شك ولو بلغ في العلم المادي النجوم، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] ويطلق على المجتمع الذي مارسخ في العلم وما تفقه كثيراً، ونقول: فيه جاهلية، وفيه جهل، ويطلق كذلك على الفرد الذي ما تنورت بصيرته بالعلم، أو فيه شعبة من شعب الجاهلية.
وهذه المصطلحات استخدمها كثير من الكتاب الفضلاء، من ذلك الأستاذ محمد قطب في جاهلية القرن العشرين، وله فيها كلام.
أما كتب سيد قطب، وكتب محمد قطب فنسأل الله أن يثيبهما بما كتبا، ويظهر الصدق فيهما، فإنهما أرادا الخير إن شاء الله، وأرادا ما عند الله، وقد سدا جانب الفكر، أو ثغرة من ثغور الفكر التي ما تسد إلا بهذا السلاح، لأن الله يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] لأن هناك قوة الأدب، وقوة الفكر، وقوة العلم بالدليل، فهؤلاء ردوا على أهل التربية، أهل علم النفس، أهل الفكر الغربي.
وأما أن بعض المسائل تكلم عنها بعض طلبة العلم فينبه إليها، وليس هذا مجال تفصيلها ولا بسطها، كبعض المسائل في الظلال فالقارئ للظلال لا يأخذ منه دليل ولا تأصيل علمي وإنما يأخذ مقصد صاحبه، لأن صاحبه يقصد أن يقرب القرآن من الواقع أو ظلال أو نسمات أو خطرات خطرت له وعنّت أثناء قراءته للقرآن، فهو يتحدث عن ربط الواقع بالقرآن، وأما من أراد معاني القرآن أو تفسير القرآن، فمجالها كـ تفسير ابن كثير وغيره من أهل العلم ولا يطول في هذا لأن لها مجيبون وهي مفهومة إن شاء الله.(233/28)
حكم إعطاء المرأة الزكاة لزوجها
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تعطي كل زكاتها لزوجها إن كان مستحقاً لذلك ومديوناً، أم تعطيه جزءاً منها؟
الجواب
الذي أريد أن أؤكده في هذه الجلسة أني ما جلست مفتياً، ويعلم الله أن ليس في قلبي أن أفتي في المسائل، وقد أخبرت الأخ أن للفتيا رجالها وعلماءها المتخصوصون فيها؛ لأن هناك من هو أعلم وأفهم وأفقه في الدين فهم أهل فتيا، ولكن جلست أعظ وأتكلم فالوعظ شيء، والدعوة شيء، والفتيا شيء آخر، لكن هذا السؤال كأني أعرفه والله أعلم، هذا قال عنه أهل العلم: يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها لزوجها إن كان محتاجاً وهذا الرأي الصحيح، ولو أن في المسألة خلافاً؛ لكن الرأي الصحيح وهو الذي عليه كثير من العلماء ومنهم الأحناف واستدلوا على ذلك بحديث ابن مسعود الصحيح: أن زوجته زينب أرادت أن تزكي شيئاً من حليها، فقال ابن مسعود لها: أنا وولدك خير من تصدقتي عليه، فقالت: لا أفعل حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهبي فاسأليه، فذهبت بنفسها فطرقت عليه الباب وكان يحجبه بلال فقالت استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى الرسول فاستأذن، قال: زينب تسألك يا رسول الله قال: {أي الزيانب؟} -لأن الزيانب سبع أوثمان- قال: امرأة ابن مسعود، فأدخلها -وفي رواية أنه أفتى بلالاً وبلال أخبرها- فعرضت عليه
السؤال
فقال: نعم صدق ابن مسعود، صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليه، وقال بعض أهل العلم أو بعض طلبة العلم: يخرج من هذا الحديث خمسين فائدة، منها أن الفتيا تنقل بالتنواب في هذه المسألة، وأن هذا يشمل الصدقة والزكاة فتدفع إلى الزوج المحتاج.(233/29)
واجب المرأة الداعية
السؤال
ما الواجب على المرأة إذا كانت تريد أن تدعو الناس إلى الإسلام؟
الجواب
يجب على المرأة إذا كانت تريد أن تدعو إلى الإسلام أمور.
أولاً: أن تخلص قصدها لوجه الله.
ثانياً: أن تتعلم العلم الشرعي.
ثالثاً: أن تعرف مجال تخصصها الذي تدعو إليه، لا تخطب الجمعة، لا تحاضر بالمساجد، ولا تتصل بالرجال بالتلفون وتخبرهم بالدعوة وضرورة الصلاة جماعة، بل تخبر بني جنسها: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [الأعراف:160] فمشربها بني جنسها، وبنات عمها وخالها وقريباتها من الذين يفهمون كلامها، فعليها أن تجيد هذا التخصص ولا تتعداه إلى غيره، ولا تقول في ذهنها: أنا سوف أدعو الرجال، لا.
إنما تدعو النساء وأحسن الله مثوبتها إذا أحسنت بدعوة النساء.(233/30)
حكم تطبيق النظريات العلمية على القرآن الكريم
السؤال
ما حكم تطبيق النظريات العلمية على القرآن الكريم، أي بمعنى: كلما اكتشفت نظرية بحث عنها في القرآن من أجل التأكد من ذلك؟
الجواب
مسألة البحث في القرآن عن النظريات العلمية جيد من حيث هو، وهو من ضمن ما طلب الله من التفقه في كتابه والاستنباط، لكن قضية أن يخضع القرآن لكل نظرية جدت في الساحة، هذا طريق موصل إلى تخطئة القرآن الكريم، فإنها قد تستنبط نظرية، فيقال انظروا كيف قال القرآن لقد وافق النظرية على هذه، وبعد خمسين سنة أو مائة سنة يظهر للباحثين أن هذه النظرية خطأ، فيعود باللوم إلى القرآن.
القرآن أصل ثابت، وصدق وحق لا ريبة فيه، وقبل أن أستطرد في ذكر هذا الحديث، أريد أن أذكر لكم أصلاً وهو: أن القرآن كتاب نزل للهداية، يقول: سيد قطب: القرآن كتاب هداية.
لأن بعض المفسرين ظن أن القرآن كتاب تاريخ، يقول أبو الأعلى المودودي: قبل أن تقرأ القرآن ينبغي عليك أن تنزع من ذهنك كل تصور سابق عن القرآن، فالقرآن ليس بكتاب تاريخ ما حدثك متى ولد فرعون ومتى توفي، ومتى وقعت المبارزة بينه وبين موسى والعصا، ومتى أغرقه الله في البحر، لأنها أمور تاريخية، والقرآن ليس كتاب جغرافيا يتحدث عن الجبال والتضاريس والمدن وأهم المنتجات والصادرات والواردات، وليس بكتاب هندسة، والعجيب أن بعض الكاتبين له تفسير في هذا -وليس كل من أراد الخير وفق له- إلى أن أخذ نظريات هندسة من القرآن، قال: ويستفاد من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أن أقرب خط بين نقطتين الخط المستقيم، ما شاء الله تبارك الله، وقال في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} [المرسلات:30] فيه دليل على أن المثلث زواياه منفرجة، حتى يُظهر للناس أن القرآن حوى العلوم، وأنه أتى بالطب والهندسة والفلك، والقرآن ما أتى إلا كتاب هداية يقود الناس إلى الله رب العالمين، فإذا علم هذا فالخطورة أن يخضع القرآن دائماً لكل نظرية، وأنه إذا سمع بشيء قالوا في القرآن.
حتى يقولون: محمد عبده الأستاذ المصري -صاحب التفسير- حين ركب في سفينة إلى باريس يريد فرنسا، فلما ركب في السفينة معه خواجة مستشرق يقرأ القرآن، قال المستشرق يا محمد عبده يقول الله في كتابكم: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] فأين ذكر هذه السفينة في كتابكم؟ واسم السفينة كوك، قال: يقول سبحانه: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11] فهذا تكليف للنص، ولا يريد محمد عبده أنه يضحك عليه، لأنه ليس المقصود من: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] أن يؤتى بالحشرات والحيوانات والبهائم في القرآن ولذلك بعض الناس إذا ما أردت أن تخبره بحكم الدخان، قال ائتني بحكم الدخان من القرآن، ما ذكر الله في القرآن الدخان أو الشيشة أو القات أو هذه الأمور، فهو يريد أن يأتي القرآن بكل اسم، بالميراندا والبيبسي والشاي والقهوة والموز والتفاح، وغير هذه الأمور، لكن القرآن قواعد كلية، كل آية قاعدة كلية تندرج تحتها ملايين القضايا، يقول الله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] فدخل في الطيبات مليون طيبة، ودخل في الخبائث مليون خبيثة، فهذه وجهة نظري في هذا السؤال.(233/31)
قراءة كتب المتأخرين وترك كتب السلف
السؤال
نرى كثيراً من الشباب في هذا الزمان ينشغلون بقراءة كتب المتأخرين، ويتركون قراءة كتب السلف، فهل هم في فعلهم هذا مصيبون أم لا؟
الجواب
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] والأحسن الجمع بين القديم والحديث، بين السلف والخلف، هم يقولون في كتب التوحيد: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، فقال: الأول من العلماء بل طريقة السلف أعلم وأسلم وأحكم، وطريقة الخلف أظلم وأجهل وأغشم، أوردت هذا للفائدة، لكن السؤال يقول: إنهم يتخصصون في الكتب الفكرية.
أقول: ليس هذا بعلم، الذي يبقى على الكتب الفكرية هي كتب واقع تتحدث عن مجريات الحياة، أو ما تلابسه في المجتمع، أو ماتراه في الشارع، الكتاب الكامل يتحدث عن المرأة، وكيف فعلت وكيف صنعت، وأنت تراها صباح مساء، وهذا ليس بعلم، والعلم قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، وما يدور حولها، وبعض الناس قد يأتي به الحال إلى أن يغلق على نفسه معرفة الواقع، فلا يقرأ كتاباً، ولا جريدة ولا صحيفة، ولا مجلة، ولا يدري أين يعيش الناس، وهو يعيش في القرن الثاني، وللقرن الثاني أحداث ووقائع غير الأحداث التي هنا، وأبو بكر عندما تولى الخلافة، عاش أحداثاً غير التي عاشها الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن خطب يوم الجمعة ما كانت نفس الخطب التي تكلم بها صلى الله عليه وسلم، فأعلن الحرب على أهل الردة وندد بهم وشجب فعلهم، وأتى بالأمور التي أحوجتهم إلى الارتداد عن الإسلام، وحل القضية، وعمر بن الخطاب لما خطب تكلم عن الفتوح يوم الجمعة وعن القضايا التي في عصره، وعثمان وعلي كذلك، فالمسألة أن نأخذ علم السلف ونكثر منه، وأن نعرف الواقع الذي نعيش فيه.
ونقلت لي كلمة ما رأيتها وما قرأتها لكن نقلها لي ثقة عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أنه قال في بعض كتبه: "أما الخير فلا بد أن تحويه، وأما الشر فيكفيك أن تعرف منه شيئاًَ بسيطاً"، وهذا هو الصحيح، فالله يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] فيقول: نخبرك بالواقع حتى تكون على تثبت، لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام عاش في الأربعين سنة في غير الجاهلية لأتى إلى مجتمع لا يعرفه، ولا يعيشه ولا يلابسه، ولكن أحياه الله في هذا المجتمع فعرف الواقع، فأنا أدعو إلى علم السلف بكثافة، وإلى معرفة الواقع بالكتب والوسائل العلمية.(233/32)
حكم تعدد الزوجات
السؤال
سمعت أن الأصل في الزواج هو تعدد الزوجات، إن كان هذا صحيحاً فهل لي من أجر إذا سعيت إلى تزويج زوجي، وما قدر هذا الأجر هل هو عظيم؟
الجواب
أنا أخاف أن تدعو عليّ هذه المرأة الصالحة إذا قلت: أن الأصل التعدد، وربما يكون حيلة منها حتى تستدرجني، وأنا لست بمستدرج إن شاء الله، سمعت بعض أهل العلم يقول: الأصل التعدد، ولكن الذي يميل إليه قلبي من أجل هذا السؤال أن الأصل الواحدة، لأن الله بدأ بها، وأظن أن (80%) من الأمة المحمدية على واحدة، والتعدد يأتي لضرورات، ويأتي لنسبيات.
فالذي يظهر لاينبغي علينا أن نقف للناس واعظين نقول: عددوا وتزوجوا وأكثروا، لأن لكل إنسان ظروف وملابسات واحتياطات، تقول لإنسان يصدقك وعنده علم بسيط، عليك بالتعدد، فيتزوج أربعاً لا ماله ولا جسمه ولا بيته يكفيه، ثم يضيع ويضيع الأربع، لكن أترك هذه المسألة كما تركها الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه عدد، وما أتى يوم الجمعة فقال: يا أيها الناس عليكم بالتعداد، هذا متروك لأن ظروف الإنسان تحكمه.
أما السائلة: فإن علمتي في زوجك الحاجة ,وأنه يريد ذلك فأسأل الله أن يأجرك بنيتك في إراحته بهذا الأمر وتسهيل السبيل، لأن بعض النساء إذا عدد زوجها عليها قامت حربها العالمية الثالثة، ولا تبقى في بيت زوجها وتدعو عليه في السجود وفي الركوع وفي التراويح، ولو قدرت لقتلته، وهذا خطأ فاحش وجهل، بل الله عز وجل ذكر ذلك، وهذا من السنة التي أوردها في الدنيا، وهي لفوائد عظيمة قد يكون من الحسن لك أن يتعدد عليك، هذا ما عندي والله أعلم.(233/33)
دليل المسح على الوجه في الدعاء في غير الصلاة
السؤال
قد ذكرتم في أحد دروسكم أو محاضراتكم أن أحد أسباب الاستجابة للدعاء المسح على الوجه في غير الصلاة، فما دليلكم؟
الجواب
الله يحيك وأهلا وسهلاً، هذا السؤال بارك الله فيك تكلم فيه بعض أهل العلم، ومسح الوجه في غير الصلاة أتت به أحاديث ضعيفة، خلاصة القول قبل أن أدلل أذكر كلمة لـ ابن تيمية فيقول: أما داخل الصلاة فلا يمسح، وأما خارج الصلاة فيسمح تارة ويترك تارة، وابن حجر يرى الحديث بمجموع طرقه حسن، ولحديث عمر رضي الله عنه في الترمذي {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما دعا إلا مسح على وجهه بيديه} هذا ضعيف من هذه الطرق، لكن اجتمعت له طرق وظهر بها أن مسح الوجه في خارج الصلاة كأن له أصلاً.
والذي يظهر والله أعلم بعد أن رأيت طرق الحديث أن الحديث حسن، وأن للمسلم أن يمسح تارة خارج الصلاة لوجود هذا الحديث، وتارة يترك لأنه ما ثبت الحديث ثبوتاً عاماً، وإلا فالحديث له أصل وأتى من طرق، وبعض أهل العلم استنبط من مسح الوجه التفاؤل بأن الله أنزل الرحمة في كف العبد فمسح بها وجهه.
وعند الترمذي من حديث سلمان بسند حسن: {إن الله يستحي من أحدكم إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً} فالمسح خارج الصلاة إذا دعوت لا بأس به تارة وأن تتركه تارة أحسن، لأنك إذا داومت عليه لكان سنة، وإن فعلته مرة فهذا دليل الجواز لذاك الحديث.(233/34)
حكم الأشاعرة
السؤال
هل يعد الأشاعرة من أهل السنة والجماعة مع أن من بينهم علماء مشهورين كـ ابن حجر والنووي رحمهم الله؟
الجواب
هذا الحديث مستفيض ويحتاج إلى تدليل وتجزئة وبسط كثير، وهناك رسالة للشيخ سفر الحوالي جيدة من أحسن ما كتب، والذي يظهر والله أعلم أن الأشاعرة قسمان: أشاعرة علم الكلام والمنطق، وهؤلاء قدموا العقل على النقل، وأتى ابن تيمية بيوتهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم في كتاب درء تعارض العقل والنقل، فهو قنبلة ذرية حتى يقول: ابن القيم ماطرق العالم مثل هذا الكتاب، فأساس هذا الكتاب الرد على الرازي لما قال: "إذا تعارض الدليل العقلي والنقلي: فإما أن نقدم النقلي، وإما أن نقدم العقلي، وإما أن نجمع بينهما، وإما أن نسقطهما" فأخذه ابن تيمية بتلابيب ثوبه، وأقره في عشرة مجلدات، فهؤلاء الأشاعرة من أهل المنطق قدموا العقل على النقل وأخطأوا خطأ بيناً، وضلوا ضلالاً معروفاً.
وأشاعرة المحدثين أو الذين على الأثر مقصودهم التنزيه وهم أحسن حالاً، وتجد لمحات في بعض كتبهم، كـ فتح الباري وكـ شرح النووي على صحيح مسلم، وهؤلاء لا يخرجون من أهل السنة، لكن يكون موقف أهل السنة والجماعة من الصفات غير موقف هؤلاء، لأن فيهم بدعة.
أما عموم أهل السنة فإنهم يدخلون في أنهم يريدون الخير، ولأن لهم أصولاً يجتمعون مع أهل السنة فيها، فالذي يظهر أنه إذا سمي منهج السنة في الصفات لا يدخل فيها الأشاعرة، وإذا سمي مطلق أهل السنة فإنهم يدخلون فيها، هذا ما توصلت إليه، وما أراه في هذه المسألة وأشده خطراً هم أهل المنطق من الأشاعرة، مثل الرازي وقريب منه صاحب الإحياء حجة الإسلام الغزالي وغيره، حتى ولو أن في بعضهم خيراً.
لكن أخف الطوائف على الإسلام الأشاعرة، وأثقلهم الجهمية والرافضة، وكان ابن تيمية يخالف الأشاعرة تماماً، والسبب في سجن ابن تيمية في مصر والإسكندرية الأشاعرة، هم الذين سجنوه لأنه خالفهم في هذه المسائل، ولكنه أثنى عليهم في بعض المواطن في المجلد الرابع، ذكر أن بعضهم خير من ابن حزم الظاهري في المحلى صاحب الصفات، هذا الذي عندي، وأنا أحيلكم إلى هذا الكتاب، وإلى غيره مثل المجلد الرابع لـ ابن تيمية، وكل كتب ابن تيمية التي تتحدث عن هذه المسألة.(233/35)
إطلاق مسمى الصحوة على الوقت الحاضر
السؤال
مارأيك في إطلاق مسمى الصحوة الآن في وقتنا الحاضر مع العلم أن مسمى الصحوة أو مفهومها بأن يكون الإسلام مطبقاً في جميع المجالات؟
الجواب
الصحوة سميت مصطلح بين الناس، ولا مشاحة في المصطلحات فإن لكل عصر مصطلحاً، وله أن يؤخذ إذا كان فيه خير ولم يتعارض مع مصطلحات الكتاب والسنة، فمثلاً: لفظ "العقيدة" ما ورد عند السلف الصالح ولا في الكتاب ولا السنة أن العقيدة بمعنى التوحيد، وإنما ورد: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة:89] لكن العقيدة اصطلح عليها فأخذ، مثل اطلاق الحال على حال الإنسان، والمقام على مقامه في علم القلوب، فلا مشاحة في المصطلح، فتسمية الصحوة لا بأس بها.
أما ما يعني الأخ أن لا نسميها صحوة حتى يستيقظ الناس جميعاً ويكون الناس متجهين إلى الله مطلقاً، ولا يكون فيهم متخلف فهذا ليس بحاصل حتى في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] فالقليل دائماً هو الخير، ولذلك ذكر عن عمر أنه نزل إلى السوق فسمع أعرابياً يقول: اللهم اجعلني من عبادك القليل، قال ثكلتك أمك ما هذا الدعاء، قال: دعاء دعوت به، يقول الله عز وجل: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] فقلت: اجعلني من عبادك القليل، قال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر، فعلم أن القلة دائماً هي الموجهة، فأما أن نتحرى حتى ينطبق جميع الناس على الهداية فلا يتحصل، المنافقون وجدوا في عصره صلى الله عليه وسلم، واليهودية والنصرانية والمشركون حتى تجد سورة البقرة كلها نسف وإبادة لبني إسرائيل، إذا سمعت سورة البقرة في التراويح: يا بني إسرائيل! يا بني إسرائيل! لأنها تصفيهم لأنهم وجدوا في عصره صلى الله عليه وسلم، ثم تجد المنافقين، ثم المشركين، ثم اليهود، ثم النصارى أهل الكتاب، فلا بأس أن يطلق صحوة لأنه وجد أناس يقومون بالصحوة.(233/36)
الخوف من الناس في نشر الدعوة
السؤال
شاب هداه الله ولكن يخاف الناس ولا يدعو إلى الله إلا في نطاق محدود، ما رأيكم؟
الجواب
لا يطلب من الناس أن يكونوا كلهم خطباء ولا كلهم متكلمون لأنها واجهات، والإنسان يعرف تخصصه، الصحابة رضوان الله عليهم نصروا الإسلام بتخصصاتهم أبي بن كعب، أبو المنذر الذي قال له عليه الصلاة والسلام: {أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال الله ورسوله أعلم، قال: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله لا إله إلا الله الحي القيوم، فضرب في صدره صلى الله عليه وسلم وقال ليهنك العلم أبا المنذر} ما هي الواجهة التي شغلها هذا وسدها ونفع فيها؟ القراءة، ولذلك قال النبي: {أقرأكم أبي} فـ أبي من هذا الجانب، ومن جانب الجهاد خالد بن الوليد، ومن جانب الأدب والشعر حسان، ومن جانب الفرائض زيد بن ثابت، ومن الفتيا معاذ بن جبل، والإدارة أبو بكر وعمر، والزهد أبو ذر وأبو الدرداء، فأنت تعرف تخصصك، قد لا يكون خلقك الله خطيباً، وإنما خلقك كاتباً، صحفياً، فاكتب في الصحافة بما ينفع الإسلام، خلقك الله سبحانه شاعراً مجيداً فأرسل القوافي الحارة على رءوس المشركين وكسر رءوسهم والأجر على الله، خلقك مفتياً فعليك أن تتعلم الفتوى وتفتي الناس، خلقك الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى زاهداً عابداً، فكن زاهداً عابداً {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} [البقرة:60].(233/37)
رفض الكتب العصرية
السؤال
ما رأيك يا شيخ في كتابات العصريين والكتب العصرية عموماً إذ البعض ينبذها تماماً ويبرر رفضه بأنها عالة على كتب السلف؟
الجواب
الكتب العصرية فيها الثوم والبصل والقثاء، وفيها الميتة والدم ولحم الخنزير، والمتردية النطيحة، فلا يوجد حكم عام فيها، ففيها من أراد بعلمه وجه الله عز وجل فهذه تقرأ، ومن أحسن ما يقرأ من كتب هذا العصر الكتب التي نهجت المنهج السليم في العلم وأظن حصرها شاق وفيه صعوبة، لكن من أحسن ما كتب أبو الأعلى المودودي، أبو الحسن الندوي، سيد قطب، محمد قطب، مع كتب علمائنا في هذا العصر مثل الشيخ حمود التويجري، الشيخ الفوزان، الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ ابن عثيمين، لأن هؤلاء ينهجون منهج الدليل، وهؤلاء يؤصلون مسائل الفكر أو الواقع، هذا من أحسن ما كتب، أما بعض الكتب لا حياها الله ولا بياها، لا تسوى الحبر الذي كتبت به، وإنما كتبت أظن للدنيا، ولا نفع الله بها، مكتوب عليها حقوق الطبع محفوظة، فلا حفظت ولا استفيد منها، فهي مشغلة ومضيعة للوقت، ولو تركتها ما عليك منها شيء لا تزيد ولا تنقص.
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستشهدون وهم شهود(233/38)
الأولى بالوقت الدعوة أو العلم
السؤال
ما رأي فضيلتكم: هل الأولى أن يقدم الإنسان طلب العلم أو الدعوة إلى الله، وإن كان لا بد من الاثنين معاً فأيهما الأولى في إعطاء الوقت الأكثر من حياة الشاب العامة؟
الجواب
أولاً: يبدأ بالعلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] قال البخاري فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، فإذا أصبح عنده حد أدنى يستطيع أن يتفاهم مع الناس فيه، لا نقول يكون كـ ابن حجر في الحديث، ولا كـ السبكي في أصول الفقه ولا ابن قدامة في الفقه، لكن يكون عنده حد أدنى يتفاهم به مع الناس، ثم يتزود وليكن كثير الوقت لطلب العلم فإنه جهاد، وليكن له وقت في تبليغ هذا العلم للناس، فقضية أن يدعو الناس بلا علم فلا يصح هذا، لأنهم سيثقون به وبعد فترة سينقطع، يبحثون عنه فيجدون أنه ليس عنده علم فيتفرقون، وإن جلس للعلم وترك الدعوة فسوف يحاسبه الله على هذا الكنز الذي تحمله.(233/39)
أرجوزة أمريكا التي رأيت
السؤال
هناك سؤال شخصي لفضيلة الشيخ: نريد من الشيخ الكريم أرجوزته التي قالها في أمريكا؟
الجواب
ما أدري هل يناسب المسجد أم لا، إن كان يناسب المسجد ألقينا أرجوزة وهي هزلية فيها شيء من المزح! والسكوت علامة الرضا.
هذه أرجوزة في أمريكا في مؤتمر للشباب العربي المسلم العاشر في أكلاهوما في الشمال هناك، نسأل الله أن ينفع من دعا لوجه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يثبتنا وإياكم وأن يوصل الإسلام إلى تلك البلاد.
وهناك قصيدة: (أمريكا التي رأيت) جدية، وقضيدة هزلية اسمها: نشرة الأخبار، أما أمريكا التي رأيت، فلا بأس أن آخذ بعض الأبيات، لأنها أقصد بالدال وهي الأولى أن يُسأل عنها، لأن فيها بعض الأمور التي ينبغي للمسلم أن يتفطن إليها، وهي تخاطب الأمة الإسلامية.
يا أمة ضرب الزمان بها جموح المستحيل
وتوقف التاريخ في خطواتها قبل الرحيل
سكبت لحون المجد في أذن المجرة والأصيل
وسقت شفاه الوالهين سلافة من سلسبيل
يا أمة ضرب الزمان بها جموح الكبرياء
رأس الدعي على التراب ورأس عزمك في السماء
لو كان مهرك يا مليحة من براكين الدماء
لهفا إليك اللامعون وفر منك الأدعياء
يا أمة كم علقوا بكيانها خيط الخيال
وهي البريئة خدرها فيض عميم من جلال
شاهت وجوه الحاقدين بكف خسف من رمال
موتاً أتاتورك الدعي كموت تيتو أو جمال
يا أمة في عمرها لم تحي إلا بالجهاد
كفرت بمجلس أمن من نصب المنايا للعباد
القاتلي الإنسان خابوا ما لهم إلا الرماد
جثث البرايا منهم في كل رابية وواد
ما زرت أمريكا فليست في الورى أهل المزار
بل جئت أنظر كيف ند خل بالكتائب والشعار
لنحرر الإنسان من رق المذلة والصغار
وقرارنا فتح مجيد نحن أصحاب القرار
ورأيت أمريكا التي نسجوا لها أغلى وسام
قد زادني مرأى الضلال هوىً إلى البيت الحرام
وتطاولت تلك السنون فصار يومي مثل عام
ما أرضهم أرض رأيت ولا غمامهم غمام
وهي قصيدة فيها بعض الأبيات نسيتها، أما أرجوزة "نشرة الأخبار" فهي فيها دعابة، ولا بأس أن تذكر تمليحاً في المجلس، لأنه ذكر العراقي في منظومته، قال:
واستحسنوا الإنشاد في الأواخر
يعني أنه في أواخر المجلس استحسن أهل العلم أنه تنشد الأشعار، وقال ابن عباس كما ثبت عنه: حمضوا لنا، أي: أعطونا في آخر المجلس فكاهات ودعابات، أما نشرة الأخبار فهي
يقول عائض هو القرني أحمد ربي وهو لي ولي
مصليا على رسول الله مذكراً بالله كل لاهي
قد جئت من أبها صباحاً باكر امشاركاً لحفلكم وشاكراً
وحملتنا في السما طيارة تطفح تارة وتهوي تارة
قائدها أظنه أمريكي تراه في هيئته كالديك
يا سائل الأخبار عن أمريكا اسمع رعاك الله من يفتيكا
وهذه أخبار هذى النشرة مسافة السير ثلاثة عشرة
من الرياض عفشنا ربطنا وفي نيويورك ضحى هبطنا
أنزلنا في سرعة وحطنا وقد قصدنا بعدها واشنطنا
ثم ركبنا بعدها سيارة مستقبلين جهة السفارة
منزلنا في القصر أعني ريديسون يا كم لقينا من قبيح وحسن
ومعنا في صحبنا العجلان أكرم به مع العلا جذلان
وصالح المنصور من بريدة يشبه سعداً وأبا عبيدة
وقد صحبت شيخنا السدحانا أصبحت في صحبته فرحانا
وقد صحبت فالح الصغير في الدين والأخلاق ما تغير
ومعنا عبد العزيز الغامدي ابن عزيز صاحب المحامد
إلى أن أقول:
وصالح الخزيم والوقور وسعيه في بذله مشكور
والشهم عبد القادر بن طاشي ذو القلم السيال في انتعاش
فهو أبونا في مقام الترجمة لأننا صرنا صخوراً معجمة
في بلد أفكاره منكوسة تثقله بصائر مطموسة
يقدسون الكلب والخنزيرا ويبصرون غيرهم حقيرا
ما عرفوا الله بطرف ساعة وما أعدوا لقيام الساعة
فهم هناك كشويهات الغنم جد وهزل وضياع ونغم
فواحش قد أظلمت منها السما والأرض منها أوشكت أن تقصما
من دمر العمال في بولندا ومن أتى بالرق من يوغندا
من دمر البيوت في نزاكي من ضرب اليونان بالأتراك
من الذي ناصر إسرائيلا حتى تصب عنفها الوبيلا
استيقظوا بالجد يوم نمنا وبلغوا الفضاء يوم قمنا
منهم أخذنا العود والسجارة وما عرفنا ننتج السيارة
إلى أن أقول:
وهل أتاك إذ حضرنا الرابطة كم ضم من ساقطة ولاقطة
من عالم وفاهم وشاعر وأحمق ونابه وقاصر
به كرام ومفكرونا والباذلون الخير مشكورونا
وكل من يعمل للإسلام أخٌ ولا عبرة بالأسامي
جيل إذا لم يعبد الله الصمد ولم يردد قل هو الله أحد
لا عرف النصر ولا لن يعرفه اضحك له وغطه بالمنشفة(233/40)
الحداثة وضررها على الإسلام والمسلمين
السؤال
كثر الكلام حول شعر الحداثة، وخاصة في الأسبوعين الماضين بخاصة في المهرجان الشعبي الذي عقد في الرياض، وكثير من الإخوة يسأل عن مفهوم الحداثة؟ وما ضررها على المسلمين وعلى الإسلام؟
الجواب
أنا ما أدري ماهو المفهوم الذي يريد أن يصل إليه أهل الحداثة، يقولون: يريد الشعر الحديث الذي لا يتقيد بالوزن ولا بالقافية، ولا بالروي، لكن هذا ظاهر كلامهم والباطن كأنهم يريدون أن يهدموا كل ما سبق من الرسالة الخالدة والإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام، أو بعضهم يريد ذلك، ولذلك يقول بعض الأدباء: أهل الحداثة ثلاثة أقسام -ولكن ما أسكر كثيره فقليله حرام- منهم قسم ما درى ما الحداثة وإنما ركب الموجة، رأى الناس يسيرون هكذا فأخذ حقيبته وتوجه، وذهب به السيل أيما مذهب فهو لا يدري وهو على نيته.
وقسم آخر يرى أنها أدب لا تتعلق بها مضرة للدين، فهو مقتنع بهذا، فهو يكتب باقتناع ويريد أن يأتي بهذا المبدأ وهو عدم التقيد بالبحر والروي والقافية فهو يكتب من هذا الجانب.
وقسم آخر ضال له نوايا نسأل الله أن يكشف نواياه وأن يجازيه بما فعل، فإن ماركس ولينين واستالين ركبوا موجة الاقتصاد قبل فترة ليورثوا الناس الإلحاد، فلما خبت هذه النار ركبوا الحداثة، فتجد أساتذتهم وكبارهم في العالم -وهذه موجودة بوثائق، ولعلّ بعضكم رأى أو سمع هذه الوثائق وهو ليس كلاماً هراء- ركبوا هذه الموجة ليضروا الإسلام، وأهل الإسلام وأهل الدعوة وأهل العلم، فهذا قسم ثالث:
وما شر الثلاثة أمَّ عمروٍ بصاحبك الذي لا تصحبينا
هذا ما شئت فأنزل مفهوم الحداثة على الأقسام الثلاثة، وأنت ستعرف إذا أنزلت هذا المفهوم.(233/41)
حكم الدعوة بالأناشيد والتمثيليات
السؤال
ما حكم الدعوة بالأناشيد والتمثيليات الإسلامية، حيث نحن في هذا الموضوع تائهون ولا نعرف موقع المسلم منها من حيث جوازها أو عدم جوازها؟
الجواب
الأمر الأول: النشيد الإسلامي أصبح وسيلة من وسائل الدعوة، لكن لا بأس به بثلاثة شروط إن شاء الله:-
الأول: أن لا يكون الشعر المنشود به غزلاً ولا مجوناً أو فحشاً، بل يكون شعراً مستقيماً، شعر دعوة، يدعو الناس إلى طاعة الله، وإلى التقوى والزهد.
الثاني: أن لا يصاحبه آلة لهو: لا طبل، ولا دف، ولا مزمار، ولا موسيقى، فإنه لا يجوز أن يصاحبه آلة من آلة الموسيقى فإنها محرمة.
الثالث: أن لا يبالغ فيه حتى يصبح هو المقصود، فإن بعض الناس إذا ذهب إلى العمرة أنشد قبل أن يذهب وبعد أن يذهب، وإذا جلس وإذا وقف، وينشدون في الحافلة، وهذا ليس بمفهوم أن يأخذ أوقات الأدب والعلم والحوار العلمي.
فلا بأس به بهذه الشروط الثلاثة، أما التمثيليات، فلا تجوز لأن فيها الكذب، وأكثر ما رؤي من التمثيليات ومن وسائلها الكذب، وهذا حرام حتى في التمثيليات، والأمر المحرم تمثيل شخصيات الصحابة رضوان الله عليهم، أو تمثيل أشياء من الدين فإن هذا حرام، بعض الناس يقوم يمثل في المسرح فيصلي بغير وضوء إلى غير القبلة، ويستهزيء بركوعه وسجوده، فهذا حرام: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]
فلا يجوز أن يستهزأ كذلك بالمقرئين، فبعضهم يأخذ المصحف وهو ليس متوضئاً ويقرأ في المسرح، ويرفع صوته، ثم يكسر القرآن، ويغلط ليضحك الناس، فهذا حرام.
الأمر الثاني: الشعائر التعبدية يحرم، أما غيرها إذا خلى من الكذب فله ذلك، مثل أن يجتمع شباب ويقولون: تفرق الشباب، وذهبوا وضيعوا أوقاتهم وأهملوا في واجباتهم، فيمثلون هذا الذي يفيد المجتمع بدون استهزاء لا بالشعائر ولا بـ السلف الصالح، وبدون الكذب، هذا ما يحضرني فيه.(233/42)
حكم نظر المرأة إلى الرجل في التلفاز
السؤال
ما حكم رؤية المرأة للرجل ومشاهدته في التلفاز؟
الجواب
رؤية المرأة للرجل مباح من الأصل، لكنها تحرم لأمور: كأن يكون هناك شهوة أوشبهة، أو تهمة أو ريبة فإنه يحرم نظر المرأة إلى الرجل، أما في الأصل فهو مباح لأدلة حسية ولدليلين نقليين: -
الدليل الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال لـ فاطمة بنت قيس: {اذهبي إلى ابن أم مكتوم -وهو حديث صحيح- وهو رجل أعمى تضعين عنده ثيابك لأنه لا يراك وأنت ترينه} فالمرأة في الأصل تنظر إليه، هذا دليل.
الدليل الثاني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام ترك عائشة تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون بالحراب في مسجده صلى الله عليه وسلم، فلو كان نظرها لا يجوز لما تركها تنظر إليهم، وهي تقول في الرواية: {وأنا أنظر إليهم}.
أما حديث: {أعمياوان أنتما} فهو حديث ضعيف كما حقق ذلك أهل العلم.
والدليل الحسي: لو كان لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل لأمر الرجل أن يغطي وجهه ولاحتجبنا جميعاً عن النساء، فالأصل جواز نظر المرأة إلى الرجل، لكن إذا وجد تهمة فلا، قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] للتهمة والريبة، ولأنهم أجانب، لكن لو نظرت فلا بأس من غير ريبة وتهمة.
أما في التلفاز فأمر آخر إن كان ليس هناك ريبة، وكان الذي ينظر إليه فاضلاً كأن يكون عالماً أو خيراً، فإن نظرها على التلفاز كنظرها في غير التلفاز، وإن كان نظر ريبة فهو أمنع، وهنا أشد منعاً وأشد تحريماً، هذا ما يحضرني في هذا.(233/43)
نصيحة لمن يذهبون إلى الخارج للدارسة
السؤال
ما توجيهك للشباب الذين يذهبون للدراسة إلى الخارج وليس لديهم القاعدة العلمية الشرعية المواجهة للشبهات، خصوصاً وأن أعداء الإسلام حريصون على إبعادهم عن هذا الدين؟
الجواب
الأمر الأول: حورب الإسلام بحربين، حرب المعسكر الشرقي بالشبهات، وحرب المعسكر الغربي بالشهوات، فحرب أولئك أن نرد عليهم بالعلم النافع، أولئك باليقين وهؤلاء بالصبر، وأما من يسافر للخارج فكأنه والله أعلم لا يسافر إلا لضرورة إما لعلاج ما وجده في بلاد المسلمين، فعليه أن يتعالج هناك لأنها ضرورة.
الأمر الثاني: كأن يذهب لدراسة ضرورية ليست من التخصصات في بلاد المسلمين ويريد النفع إن شاء الله على أن يضمن دينه، فله أن يذهب.
الأمر الثالث: للدعوة إذا رأى من نفسه قدرة وأن ينفع الله به المسلمين، أو أن أهل البلاد سوف يتأثرون به فليذهب، لكن يذهب بشروط، وهذه الشروط اصطلاحية اجتهادية ليست موجودة في كتب الفقه ولا الحديث:
الأول: أن يكون صاحب عقيدة ومبدأ، صاحب دين يخاف الله.
الثاني: أن يكون متزوجاً ولو بأربع من الزوجات، فمن خطورة الموقف له أن يتزوج بأربع يذهب بهن إلى هناك، فإنه سوف يقع في كارثة إن لم يعصمه الله عز وجل، لأن أول مرة سوف يغض البصر، والمرة الثانية يفتح نصف العين، واليوم الثالث يطلق النظر، واليوم الرابع يقع في حيص بيص إن لم يعصمه الله عز وجل، فلا بد أن يذهب بزواج، بعض الناس ذهب هناك فكان يغض بصره، وبعد أسبوع ما غض فالمقصود: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] فالله الله في هذه الأمور.(233/44)
حكم طلب العلم لغير الله
السؤال
ما رأي فضيلتكم من طلب العلم لا لوجه الله، ويأمل أن يكون لوجه الله في المستقبل؟
الجواب
هذا فيه كلام {من طلب علماً ليماري به السفهاء أو ليجاري به العلماء، لم يرح رائحة الجنة، أو لم يجد عرف الجنة} هذا حديث حسنه بعض أهل العلم وهو في السنن.
لكن طلب العلم لغير الله لأهل العلم كلام في هذه المسألة: الذهبي ذكر عن بعض العلماء أنهم قالوا: "طلبنا العلم لغير الله، فأبى إلا أن يكون لله" ذكر ذلك عن الشافعي وعن الثوري، المقصود أننا لا نقول: لا تطلب العلم، مادام أنك تخاف أن يكون رياءً فكفى بك رياء أن تترك العلم، لأن ترك العمل من أجل الناس شرك وعمله من أجل الناس رياء، والسلامة أن يعافيك الله من هذين، فالمقصود اطلب العلم، وصحح النية، فإن كثيراً من الناس ما صحت نياتهم إلا بعد أن مضوا في طلب العلم، والعلم هو الذي يدلك على الإخلاص بعد فترة إن شاء الله، فأنا أقول: لا تتوقف ولا تترك العلم، ولو وجدت رياءً أو تطلبه للشهادة أو للمنصب أو للوظيفة، بل استمر واطلب فسوف يحسن الله من حالك، وسوف يهديك الله بثلاثة أمور:-
أولاً: تجاهد نفسك بالدعاء.
ثانياً: بصدق اللجوء إلى الله تعالى.
ثالثاً: بالاطلاع المكثف على سير السلف الصالح فإن في سيرهم الصدق والإخلاص، والله الموفق.(233/45)
القصيدة البازية
السؤال
الأسئلة كثيرة من الإخوة يطلبون من الشيخ أن يذكر قصيدته التي قالها في الشيخ عبد العزيز بن باز؟
الجواب
بعض الإخوة قد سمعها ست أو سبع مرات، حتى خجلت أنا من كثرة ما أوردتها.
الشيخ عبد العزيز بن باز عالم، نتقرب إلى الله بحبه، وبحب الصالحين، ونسأل الله أن يثبتنا وإياه، وأن يجعل عملنا وعمله خالصاً لوجهه الكريم، وهذا الرجل موهوب، ونشر الله له القبول في الأرض، ولست بأول مادح له، سبقني بعض الشعراء فمدحوا فضيلته وأثنوا عليه والثناء في أهل العلم بر ومثوبة، يقول تقي الدين الهلالي المحدث المغربي:
خليلي عوجا بي لنغتم الأجر على آل باز إنهم بالثناء أحرى
وزهدك بالدنيا لو أن ابن أدهم رآه رأى فيه المشقة والعسرى
وهي قصيدة ماتقارب ستين بيتاً، ومحمد المجذوب صاحب همسات قلب يقول:-
روى عنك أهل الفضل كل فضيلة فقلنا حديث الحب ضرب من الوهم
فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سمعنا به في العلم والأدب الجم
فلا غرو أن تشري المكارم كابراً فتأسرها بالمكرمات وبالحلم
فلم أر بازاً قط من قبل شيخنا يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي
أما قصيدتي فهي البازية:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي
يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل السافي
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافي
مجالس اللغو ذكراهم وروضتهم أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي
وأنت جالست أهل العلم فانتظمت لك المعالي ولم تولع بإرجاف
بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الطل في إشراقه الضافي
تشفي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم دراً غير أصداف
يكفي محياك أن القلب يعمره من حبكم والدي أضعاف أضعاف
أقبلت في ثوب زهد تاركاً حُللاً منسوجة لطفيلي وملحاف
تعيش عيشة أهل الزهد من سلف لا ترتضي عيش أوغاد وأجلاف
فأنت فينا غريب الدار مرتحل من بعد ما جئت للدنيا بتطواف
أراك كالضوء تجري في محاجرنا فلا تراك عيون الأغلف الجافي
كالشدو تملك أشواقي وتأسرها بنغمة الوحي من طه ومن قاف
إلى أن أقول:
يفديك من جعل الدنيا رسالته من كل أشكاله تفدى بآلاف
ما أنصفتك القوافي وهي عاجزة وعذرها أنها في عصر أنصاف
وبالمناسبة لما ذكر الأخ سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أنا أتقرب إلى الله بالثناء للعلماء وأرى من واجب الأدباء الثناء على العلماء ليرى الشباب وأهل الصحوة وأهل الجيل أننا نحب العلماء، قبل عشرة أيام كان لي الشرف في زيارة فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين في عنيزة، وقد زارنا أمس وقبل أمس في أبها، فألقيت بين يديه أبيات على وزن قصيدة تنسب إلى علي رضي الله عنه، على هذا البحر الذي سوف أورده، أبو الحسن أمير المؤمنين يقول:-
دنياك تزهو ولا تدري بما فيها إياك إياك لا تأمن عواديها
تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم ويدرك الموت أجيالاً فيفنيها
المال عارية ردت لصاحبها وأكنف البيت قد عادت لبانيها
والأينق العشر قد هضت أجنتها وثلة الورق قد ضجت بواكيها
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها
قصيدته لا دار للمرء، قلت على هذه القصيدة، وفي آخرها ثناء على الشيخ ابن عثيمين:-
دنياك تزهو ولا تدري بما فيها إياك إياك لا تأمن عواديها
تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم ويدرك الموت أجيالاً فيفنيها
المال عارية ردت لصاحبها وأكنف البيت قد عادت لبانيها
والأينق العشر قد هضت أجنتها وثلة الورق قد ضجت بواكيها
يا رب نفسي كبت مما ألم بها فزكها يا كريم أنت هاديها
هامت إليك فلما أجهدت تعباً رنت إليك فحنت قبل حاديها
إذا تشكت كلال السير أسعفها شوق القدوم فتدنو في تدانيها
حتى إذا ما بكت خوفاً لخالقها ترقرق الدمع حزناً من مآقيها
لا العذر يجدي ولا التأجيل ينفعها وكيف تبدي اعتذاراً عند واليها
فإن عفوت فظني فيك يا أملي وإن سطوت فقد حلت بجانيها
إن لم تجرني برشد منك في سفري فسوف أبقى ضليلاً في الفلا تيها
إلى أن قلت:
قل للرياح إذا هبت غواديها حي القصيم وعانق كل من فيها
واكتب على أرضهم بالدمع ملحمة من المحبة لا تنسى لياليها
أرض بها علم أو حاذق فطن يروي بكأس من العلياء أهليها
عقيدة رضعوها في فتوتهم صحت أسانيدها والحق يرويها
ما شابها رأي سقراط وشيعته وما استقل ابن سينا بواديها
ولـ ابن تيمية في أرضهم علم من الهداية يجري في روابيها
إذا بريدة بالأخيار قد فخرت يكفي عنيزة فخراً شيخ ناديها
محمد الصالح المحمود طائره البارع الفهم والدنيا يجافيها
له التحية في شعري أرتلها بمثل ما يرفع الأشواق مهديها(233/46)
الحث على مساعدة المجاهدين
السؤال
فضيلة الشيخ: كما تعلم ويعلم الإخوة ما يعانيه المجاهدون الأفغان في الوقت الحاضر خاصة بعد اتفاق أعداء الإسلام على إغلاق القضية الأفغانية، فأرجو أن تحث الإخوة على التبرع للإخوة الأفغان؟
الجواب
هذا كلام سليم، وهو من أحسن ما قيل، وأنا أحث نفسي وإياكم بكثرة الدعاء لهؤلاء المجاهدين، وبذل الأموال، لأنهم في حاجة ماسة، والرسول صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه قال: {جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم} فالذي لا يستطيع أن يجاهد بنفسه، فليجاهد بماله، ليقتل بديناره ودرهمه ملحداً وعدواً من أعداء المسلمين، فأنتم مدعوون للتبرع، تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.(233/47)
الحياء في الدعوة
السؤال
أنا شاب كثير الحياء، وإذا جلست في مجلس وأردت أن أذكرهم بالله تحول شدة الحياء بيني وبين ذلك، ما الحل يا فضيلة الشيخ؟
الجواب
الحياء فيه خير بل كله خير إذا كان في الخير، لكن إذا كان يصدك عن الخير فليس من الخير، يقول صلى الله عليه وسلم: {الحياء خير كله} يعني ما كان في الخير، لكن إذا صدك عن طلب العلم وعن الدعوة فليس فيه خير، يقول مجاهد كما في صحيح البخاري: [[لا يطلب العلم مستكبر ولا مستحي]] فأنا أرى أن تنهي عقدة الحياء من الإخوان أو من الذي يمنعك من الخير وأن تمارس حل هذه العقدة بالتدرج، فتجلس مع أخوين وثلاثة وتتحدث وتطلق لسانك، وتغشى الأندية، وتحاول أن يصلح الله من حالك لإنهاء هذا الأمر والله معك، وإذا علم الله عز وجل أن الحياء أصله الخير تستحي من المعاصي، فأنت مأجور، لكن لا يوصلك كثرة هذا الحياء إلى أن يوقفك عن كثير من الخير، أو من الدعوة إلى الله عز وجل، فهذا ليس بمحمود فأكثر الناس حياء، وأشد الناس حياء، هو كما قال عنه أبو سعيد في الصحيحين: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها} ومع ذلك كان من أشجع الناس في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوعظ وصعود المنابر، والتحدث إلى الأمم والشعوب وتفهيم الأجيال، فلا يمنعك الحياء من الخير.
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم وكل مسلم إلى ما يحب ويرضى.(233/48)
من أخبار السلف
هذا الدرس يمثل رحلة شيقة إلى تلك الأيام الرائعة وإلى القرون الأولى الفاضلة، وإلى ذلك المجتمع المثالي، مجتمع الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح.
على أن هذه المواقف التي تجلت فيها عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تنقص من قدر أصحابه الذين وقع النقد عليهم كأسامة وأبي ذر وأبي محذورة بل جلت هذه المواقف فيهم شخصية الفرد المسلم المطيع البناء.(234/1)
فوائد الحديث عن سيرة السلف الصالح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد: -
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
كان عنوان الدرس الماضي: (أخطاء شائعة يقع فيها كثير من الناس) وعنوان هذا الدرس: (من أخبار السلف) وأخبار السلف الصالح شائقة رائقة، هي منجم بكر، وبستان يدخله العابدون، وحديقة يرتادها الموحدون، وسوف أعرض من أخبارهم لمسائل مع حبيبنا وقدوتنا ورائدنا وقائدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
وعناصر هذا الموضوع كما يلي:-
- الرسول صلى الله عليه وسلم، يرسل عمر لجمع الصدقات.
- الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ أسامة: {كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة} وقصة ذلك.
- الصحابة يبحثون عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد فقدوه من المسجد.
- استقبال حافل لوفد عبد القيس، وحوار مع الرسول عليه الصلاة والسلام.
- أبو هريرة يكلم الشيطان مباشرة.
- حوار بين أبي بكر وعمر في قتال المتمردين.
- الرسول صلى الله عليه وسلم يعاتب أبا ذر، وقضايا في ذلك.
- أبي بن كعب في موقفين عظيمين يشهدان له عند الله تبارك وتعالى.
- أبو محذورة المؤذن في يوم ميلاده.
أيها المسلمون: ننتقل بكم إلى محمد عليه الصلاة والسلام، إلى طيبة الطيبة، إلى المدينة، سلفنا الصالح، والقدوة المثلى، والجيل الذي لا يتكرر في التاريخ أبداً، إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لماذا؟
الأمر الأول: لنعيش القدوة التي طمس عليها لما كثرت الفتن والمغريات والشهوات، والحرب الشعواء التي سلطها الغرب على أجيالنا، وفصلوا بين كثير من أجيالنا وبين السلف الصالح.
ولذلك لا يذكر في المجالس أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا أُبي ولا حسان ولا خالد إلا قليلاً، لماذا؟
لأن الوقت -إلا عند من رحم ربك- صرف إلى المسلسلات والأغنيات، والمجلات والندوات، والشهوات، فكان لزاماً على من تكلم أن يعيد الجيل إلى أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثاني: أننا بذكرهم في هذا المجلس نعيش معهم، وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
ملكنا بأقطاب السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع
الأمر الثالث: نفهم من سيرتهم كيف عاش هذا الإسلام الخالد؟ وكيف تعاملوا معه؟ وكيف كانت مجالسهم؟ ولذلك أسأل الله أن تتصل هذه السلسلة وأن تتعمق، وأن تترسخ، وأن تتكرر كثيراً مع دروس مقبلة بحول الباري.(234/2)
الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل عمر لجمع الصدقات
أما الموقف الأول من (من أخبار السلف) فمع الرسول عليه الصلاة والسلام.
أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم -والحديث عند البخاري - عمر يجمع الصدقات، وهو في تلك الفترة وبعد تلك الفترة تلميذ لمحمد عليه الصلاة والسلام.
قال عباس محمود العقاد في كلمة استحسنها، ولو أنا نلومه كثيراً على بعض التقريرات، لما قيل له ما الفرق بين أبي بكر وبين عمر؟ قال: الفرق بين أبي بكر وعمر أن أبا بكر عرف محمداً النبي، أما عمر فعرف النبي محمداً، وهذا صحيح، ومعنى ذلك: أن أبا بكر عرف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو محمد بلا نبوة قبل الإسلام، وقبل الرسالة في الجاهلية، صاحبه كالعينين، وأما عمر فعرف النبي محمداً بعد النبوة هذا الفرق.
أرسل عليه الصلاة والسلام عمر وقال له: اذهب اجمع الصدقات -والصدقات هي الزكاة، يجمعها من المسلمين- فأخذ عمر رضي الله عنه وأرضاه جهازه، وامتثل الأمر، وطاف على المسلمين ليجمع الصدقات من أصحاب القصور والدور ليوزعها للفقراء وللمساكين وللمحتاجين.(234/3)
وضع الرجل المناسب في المكان المناسب
وعمر صارم، يصلح لمثل هذه المهمات، والرسول عليه الصلاة والسلام يصنف الناس، يعرف أين يضع الرجال، أبي بن كعب سيد القراء، وشيخ المسلمين في القراءة -وسوف يأتي معنا- ومعاذ قاضٍ إمام، وأبو بكر أستاذ في الإدارة، وحسان للقوافي وللمجالس الأدبية التي ينافح بها عن الإسلام، وزيد بن ثابت للفرائض، وخالد بن الوليد يفصل الرءوس عن الأكتاف في سبيل الله، وعلي بن أبي طالب قاضٍ وذكي وللمهمات، والزبير الحواري، وعثمان للإنفاق، وابن عوف للبذل.
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الدِّيم
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم(234/4)
استجابة الناس لرسول الرسول دليل على محبتهم له
ذهب عمر يطرق على الأبواب ادفعوا الزكاة من أرسلك؟ محمد عليه الصلاة والسلام.
فإذا سمعوا محمداً صلى الله عليه وسلم دفعوا الصدقة؛ لأن عمر مهما أوتي من قوة، لا يملك القلوب كما يملكها صلى الله عليه وسلم، حتى يقول فيه أحد الشعراء:
محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال
حتى العذارى في الخدر أحببنه صلى الله عليه وسلم، أرسل جليبيب إلى بيت من بيوت الأنصار، وجليبيب فقير مسكين هزيل ضعيف محتاج لا نسب له، ولا جاه ولا مال، نسبه التقوى، وجاهه اليقين، وماله التوكل على الله، قال: اذهب إلى آل فلان يزوجونك ابنتهم، فطرق عليهم الباب، قال الأنصاري: من؟ قال: جليبيب، قال: ما تريد؟ قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجونني بنتكم.
قال الرجل: جليبيب لا نسب ولا أهل ولا مال ولا جاه، فأخبر زوجته -التي تملك حق الفيتو- فقالت: لا أهل ولا نسب، ولا مال، ولا جاه فسمعت الحوار العذراء المؤمنة المصلية، فقالت: أرسل محمد صلى الله عليه وسلم وتردون خبره، بل أتزوجه طاعة لله ولرسوله، وفي ليلة الزفاف نادى منادي الجهاد: يا خيل الله اركبي! فتركها وخرج استجابة لأمر الله ورسوله، فقتل في تلك المعركة، فكانت الأموال تأتيها من حيث لا تدري.(234/5)
دفاع الرسول عن عمه العباس لما منع الصدقة
طرق عمر رضي الله عنه الأبواب ومر بالناس جميعاً حتى وصل إلى العباس عم الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: ادفع الصدقة.
قال: من أرسلك؟ قال: الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال: لن أدفع.
ثم ذهب إلى خالد سيف الله المسلول أبي سليمان، صاحب المائة غارة، وقال له: ادفع الصدقة.
قال: من أرسلك؟ قال: الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: لا أدفع.
ثم ذهب إلى ابن جميل وقال له: ادفع الصدقة.
قال: من أرسلك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم قال: لا أدفع.
رجع عمر بالأموال، وقال: {يارسول! دفع الناس جميعاً إلا ثلاثة، قال: من هم؟ قال: عمك العباس وخالد بن الوليد وابن جميل -فأتى صلى الله عليه وسلم يفصل- قال: يا عمر! أما تعلم أن العباس عمي، وأن عم الرجل صنو أبيه؟ -أي: هو كأبي- هي علي ومثلها لعامين} يقول: صدقته علي ومثلها، أنا اقترضت منه صدقة عامين في غزوة من الغزوات، لكن العباس استحيا أن يقول لـ عمر: إن الرسول صلى الله عليه وسلم اقترض مني زكاة عامين، وعلم أنه إذا رد عمر سوف يتذكر الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: يا عمر! كيف تتكلم وتشكو عمي أما تدري أن عمَّ الرجل مثل أبيه.
وفي الموقف هذا لطافة من العباس فإنه لم يقل: دفعت صدقتي لكم أو أقرضتكم، فإن المنة لله ولرسوله، وفيه موقف حازم لـ عمر؛ فإنه لم يقل: مادام أنه عم الإمام الأعظم صلى الله عليه وسلم فلا نذكره في القائمة، لا، بل قال: عمك ما دفع الصدقة، انظر إلى الصرامة، حتى في تلك المواقف، لأن بعض الناس إذا رأى قريباً لصاحب الجاه، قال: لا نسقطه، قرابة ومحاباة ومجاملة، لكنّهُ موقف حازم.
وفيه موقف ثالث: اعتذار الرسول عليه الصلاة والسلام حيث قال: أتشكو عليّ عمي؟ ثم بيان الحق: هي عليّ ومثلها.(234/6)
دفاع الرسول عن خالد بن الوليد
قال صلى الله عليه وسلم: {وأما خالد فإنكم تظلمون خالداًً} يقول: يا عمر! أنتم تظلمون خالداً، دائماً خالد سيف الله مظلوم: {إنه قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله} عنده مائة سيف، ومائة رمح، ومائة فرس، قال: هي رهن محبوسة في سبيل الله، وهل في الوقف صدقة؟ وهل فيه زكاة؟ لا، لماذا يا عمر! تطلب من خالد أن يزكي وهي وقف؟
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتقِ الله سائله
خالد إذا حضر المعركة، دعا مائة فارس وأعطاهم مائة سيف، ومائة رمح، ومائة فرس، فهي لله، ولذلك لا يرثها أبناء خالد.
خالد مات ولم يملك إلا ثوبه، خاض مائة معركة، ومات وما في جسمه موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، فماذا فعلنا أنا وأنت للإسلام مع خالد؟ خالد قدم دموعه ودمه ووقته.
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
وما أتى بلدة إلا سمعت بها الله أكبر تدوي في نواحيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
خالد يوم اعتزل الجيش وهو كبير السن، أخذ مصحفاً يقرأ من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، ويبكي، ويقول: [[شغلني الجهاد عن القرآن]] ونحن نقول: يا أبا سليمان! إن كنت أنت شغلك الجهاد فنحن عندنا شباب شغلهم البلوت عن القرآن، والمجلة الخليعة والأغنية الماجنة عن القرآن، يا أبا سليمان! لقد شغلك الجهاد عن القرآن، إن جهادك أعظم من قراءة القرآن؛ لأنك رفعت لا إله إلا الله بجهادك.
أتته سكرات الموت فقال: [[لقد خضت مائة معركة وهأنا أموت على الفراش كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء]] يقول: اليوم يفرح الجبناء أني مت.
يقول ابن كثير: قاتل خالد يوم مؤتة فكسَّر تسعة أسياف في يده وما ثبتت إلا صفيحة يمانية، تكسرت السيوف، يأخذ السيف فيضرب به، فيتكسر، وتشع شظاياه على رءوس الناس، وكان جسيماً بديناً كالحصن.
ولما تولى أبو بكر الخلافة أراد عمر أن يصدر أول مرسوماً بعزل خالد، فقام أبو بكر غاضباً على المنبر، وقال: [[والله لا أغمد سيفاً سله الله على المشركين، لقد سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {خالد سيف الله المسلول، سله الله على المشركين}.
]] فلما تولى عمر كان أول ما أصدر: عزل خالد، فقال خالد: [[والله ما قاتلت بالأمس لـ p=1000018> أبي بكر، وما قاتلت اليوم لـ عمر وإنما قاتلت لله، وأنا أقاتل لله قائداً أو مقوداً، فأيما شئتم فسيروني]] {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود:41] سلام عليك وعلى أمثالك.
عذره الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: {إنكم تظلمون خالداً} ولذلك ظلم في التاريخ، ظلمه العقاد يوم جعله مع نابليون.
يا عقاد! يا أستاذ محمود! أتجعله في صف نابليون؟! نابليون مجرم فرنسي سحق العالم، نابليون قتل الأطفال، نابليون قتل النساء، وخالد أتى لرفع لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ونقول لـ عباس محمود العقاد وأمثاله: ظلمتم خالداً؛ لأن الرسول قال: {إنكم تظلمون خالداً}.(234/7)
تعليق النبي صلى الله عليه وسلم على منع ابن جميل للصدقة
قال عليه الصلاة السلام: {وأما ابن جميل فما ينقم إلا أن كان فقيراً فأغناه الله} كأنه يعلق عليه، فإن ابن جميل لا عذر له، فقد كان فقيراً مسكيناً، فدعا الله فأغناه، ثم منع الصدقة، لماذا؟
قال الله في ابن جميل وأمثاله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة:75 - 77].
لا عذر لـ ابن جميل، أما العباس وخالد فهما معذوران هذه وقفات.(234/8)
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع أسامة بن زيد
الموقف الثاني: يقول صلى الله عليه وسلم لـ أسامة: {كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا أتت يوم القيامة؟} والقصة في صحيح مسلم.
أرسل صلى الله عليه وسلم جيشاً وقائده أسامة بن زيد، وعُمره آنذاك قيل: من الثالثة عشرة إلى الخامسة عشرة، أرسله إلى الحرقات من جهينة على البحر الأحمر.
انظر إلى القائد! أتدرون من في قيادة أسامة؟ ومن هم الجيش؟
عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعليّ بن أبي طالب، والزبير بن العوام وأمثالهم، والقائد أسامة، عبد مولى، وكلنا عبيد لله، ثلاث عشرة سنة، وبعضهم اليوم عمره ثلاثة عشرة ولا يعرف شيئاً، سبهلل
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل
مثل أحد الحمقى عمره أربع عشرة سنة، أرسله أبوه، وقال: خذ بهذا الريال فولاً، وخذ بهذا الريال خبزاً، فذهب في الطريق فأصابه حيص بيص، فعاد إلى أبيه وقال: يا أبتاه! شككت في أمري وأردت أن أتيقن منك، هذا الريال للفول أم هذا؟ فتح الله عليه! {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] لأن من يتربَّى على جمع الطوابع والمراسلة، يأتي بعقلية مثل هذه العقلية.
أما أسامة فتربى على كلمة (لا إله إلا الله) وعلى الصلوات الخمس، وقيام الليل، وتدبر القرآن، ذهب أسامة وقاد الجيوش، فوصل إلى هناك، فخرجت جهينة تقاتل الصحابة، وكان فيهم رجل لا يقصد إلى مسلم إلا قتله، يذبح في المسلمين ذبحاً، فانطلق عليه أسامة فهرب الرجل واختفى وراء الشجرة، فلما أدركه ورفع السيف ليقتله، قال الرجل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فكان لسان حال أسامة: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:91 - 92] فضربه فقتله.
لمن ترفع هذه القضية؟ قضية شائكة، إنسان يقاتلك ثم تذهب إليه وتطارده، فيقول: لا إله إلا الله، فتقتله رفعت إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام أتى الصحابة فأخبروا الرسول عليه الصلاة والسلام، فتغير وجهه، واحمر، ورعد أمره عليه الصلاة والسلام، فأشرف أسامة، فقال صلى الله عليه وسلم قبل أن يُسَلِّم أسامة: {يا أسامة! أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! إنما قالها مستجيراً بعد أن قتل في المسلمين.
قال: يا أسامة! ماذا تصنع بلا إله إلا الله إذا أتت يوم القيامة؟ قال: يارسول الله! إنما قالها مستجيراً، قال: يا أسامة! ماذا تصنع بلا إله إلا الله إذا أتت يوم القيامة؟ قال: يا رسول الله! قاتلنا وقتلنا.
قال: يا أسامة! ماذا تصنع بلا إله إلا الله إذا أتت يوم القيامة؟} موقف تشيب له الولدان، فألقى أسامة الرمح من يده، وقال: {ياليتني ما أسلمت إلا هذه الساعة} أجاهد وأقتل مسلماً ياليتني ما أسلمت إلا الآن، ياليتني ما ذهبت إلى المعركة، ماذا تصنع بلا إله إلا الله؟ تأتي لا إله إلا الله في بطاقة، فتنزل فتدافع عن صاحبها!!
(لا إله إلا الله) من أجلها أقيمت الأرض، وهي مفتاح الجنة، حنانيك يا أسامة! غفر الله ذنبك يا أسامة! عطف الله عليك القلوب، وقد فعل.
أما الرسول فتوقف وما أفتاه، إنما قال: ماذا تصنع بلا إله إلا الله؟ يعني: احتكم أنت وإياها يوم العرض الأكبر.
وفيه دليل على أن (لا إله إلا الله محمد رسول الله) مفتاح الجنة، وعلى أنها تنقذ العبد من القتل في الدنيا، إذا لم يترك الصلاة، وعلى أنها من أحسن الكلمات، وعلى أنها عظيمة، دُمِّرت الأرض من أجل لا إله إلا الله خمس مرات.(234/9)
بحث الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم
الموقف الثالث: يقول أبو هريرة في صحيح مسلم: جلس الصحابة في مجلس، وكانوا دائماً يمرون حلقات مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ولذلك من أدبهم أنهم يقولون: تسحرنا مع الرسول عليه الصلاة والسلام أفطرنا مع الرسول عليه الصلاة والسلام كنا مع الرسول عليه الصلاة والسلام خرجنا مع الرسول جئنا مع الرسول قمنا مع الرسول من الأدب، لا يقولون: قام معنا أو خرج معنا أو جلس معنا الرسول! لا.
التلاميذ مع الشيخ، كالنجوم مع البدر، الجند مع العلم.
حتى بلغت مكاناً لا يطار له على جناح ولا يسعى على قدم
لما خطرت به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
قال أبو هريرة: {بحثنا عن الرسول عليه الصلاة والسلام فلم نجده} كان الصحابة الكرام يجلسون معه، فبحثوا عنه فلم يجدوه، فانطلقوا يبحثون، قالوا: يا أباهريرة! أنت عليك بمزرعة فلان، وعمر هنا، وأبو بكر هناك، وكلٌ في مكان.
أبو هريرة وفق في البحث، وهو الذي وجد المصطفى عليه الصلاة والسلام في مزرعة رجل من الأنصار، أتى إلى الباب، فسأل! قالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم داخل المزرعة.
تخيل أنت في نفسك أنك تذهب إلى مزرعة، وتفاجأ بمحمد عليه الصلاة والسلام، ليس زعيماً بل سيد الزعماء، وليس عالماً بل سيد العلماء، فدخل فقال أبو هريرة وهو رجل دعوب خفيف الدم، دوسي زهراني، من أهل الجبال، وكانت هناك ساقية للماء وتسمى قائداً وتسمى قيداً، وسمه ما شئت أنت، لكن هي مدخل الماء، قال: {فتحفزت وجمعت ثيابي ثم دخلت]] وفي بعض الروايات: {كما يتحفز الثعلب} فدخل فإذا الرسول صلى الله عليه وسلم أمامه يقول: {من أين أتيت يا أبا هر؟!} مداعبة لطيفة.
راوية الإسلام يقول له صلى الله عليه وسلم أبا هر! كان له هرة يلعب بها، فسماه أهله أبا هريرة، فدخل فقال: {يا رسول الله! فقدناك فأتينا نلتمسك، قال: يا أبا هريرة عد إلى الناس وأخبرهم أن من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة، وهذا حذائي تصدق ما تقول} أي: هذا علامة الصدق، خرج أبو هريرة فرحاً مسروراً بهذا الخبر العجيب، سوف يكون مبشراً للناس أجمعين.
{ثم تحفز والحذاء معه فخرج، وفي الطريق لقيه عمر الله أكبر! عمر واقف أمامه، قال له: من أين أتيت يا أبا هريرة؟ قال: وجدت الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المزرعة، وقد قال لي: أخبر من لقيته من الناس أن من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مخلصاً من قلبه فقد دخل الجنة، وهذه حذاؤه علامة ذلك.
قال أبو هريرة: فأخذ عمر يديه فضربني في صدري فخررت على قفاي، أي: على مؤخرته، وفي لفظ عند مسلم قال: فضربني على صدري فخررت على قفاي أبكي، وقال: عد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، إني أخشى أن يتكل الناس، فتحفَّز أبو هريرة بالحذاء ودخل على الرسول عليه الصلاة والسلام}.
ومن ورائه حصن الإسلام عمر، ولو كان غير عمر لما عاد، لكن عمر الذي أخرج عفاريت الجن والشياطين من رءوس بعض الناس، في الصحيح: {ما سلكت فجاً يا عمر! إلا سلك الشيطان فجاً غير فجك} هكذا.
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
فعاد أبو هريرة يبكي عند الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: {مالك؟ قال: ضربني عمر يا رسول الله!} ضربة على الكيف، أي: ليست حي الله بالاثنتين، قال: {ماله؟ قال: أمرني ألَّا أخبر الناس} وما هي إلا لحظات وقد وقف عمر عند الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: {مالك؟ قال: يا رسول الله! أخشى أن يخبر الناس فيتكلوا، دعهم يعملون يا رسول الله! فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: دعهم يعملون} أقره على ذلك؛ لأنه ذكي، وإن لم تكن العبقرية هكذا فلا كانت.
ولذلك يأخذ المركز الثالث والخمسين في عظماء العالم على رأي الأمريكان، لكننا نقول: يا خسيسوس، بل هو من الأوئل على مستوى العالم، وفي الموقف أمور:
أولاً: مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوب الصحابة.
ثانياً: حرص أبي هريرة على الحديث.
ثالثاً: موقف عمر القوي.
رابعاً: أن للصادق ما ليس لغيره، وقد تعرض لها ابن تيمية، لكن يسمح للصادق ما لا يسمح لغيره.
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
ولذلك يقول ابن تيمية: موسى لما أخذ الألواح فيها كلام الله، والله كتبها بيده، وأتى إلى بني إسرائيل غضب على أخيه، وألقى الألواح كما في سورة الأعراف، وجرجر أخاه وهو نبي مثله، ومع ذلك سامحه الله، بينما المنافق لا يسمح له ولو بنقطة، لأنه مسيء.
ولذلك إذا علمت الطالب مجداً مثابراً متوقد الذكاء وأخطأ مرة، فقل: عفا الله عنك، أما طالب إن حضر الفصل فهو نائم مثل كيس الفحم، وإن غاب فشارد، لا واجب معه، ولا مذاكرة، ولا التزام، هذا إذا أمكنت لك الفرصة فاقصم ظهره، والحساب على الله.(234/10)
استقبال حافل لوفد عبد القيس
الموقف الرابع: استقبال حافل لوفد عبد القيس.
وفد عبد القيس هؤلاء من الأحساء من البحرين، أتوا إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام، وكانت الوفود إذا أتت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تشعر في أذهانها أنها سوف تتكلم مع رسول الله ونبي الله، وصفوة الله من خلقه، فتهيئ ثمانية، والعجيب أنهم اختلفوا في عددهم، قالوا: أربعة عشر، أو ثمانية، أو أربعون، أورد ذلك ابن حجر.
لبسوا وتهيئوا ومشوا من الأحساء حتى وصلوا إلى المدينة، نزلوا حول المدينة، فقال لهم أشج عبد القيس: انتظروا والبسوا وتطيبوا واغتسلوا ثم ادخلوا على الرسول عليه الصلاة والسلام.
قالوا: لا، ندخل عليه الآن، فأتى بقية الوفد، ومكث أشج عبد القيس وحده، أما الوفد فدخلوا بغبار وشعثاء السفر، وأما أشج عبد القيس فخرج إلى نخل هناك فاغتسل، ثم لبس ثيابه، وتعمم، وتطيب، ثم أخذ عصاه بيده -ذكي متأنٍ متأمل- ثم أتى ودخل المسجد والرسول عليه الصلاة والسلام جالس مع الناس، والوفد قد سبقوه، فأخذ يلمحه صلى الله عليه وسلم خطوة خطوة، فتقدم الأشج فجلس، فالتفت إليهم صلى الله عليه وسلم وقال: {من الوفد؟} الوفود كثيرة، والمدينة أصبحت في حالة استنفار للوفود، فهو عام الوفود، وفد يستقبل ووفد يودع ووفد يأتي، ووفد يذهب، قال: {من الوفد؟ قالوا: نحن من قبائل ربيعة} وفي ذلك دروس:-
أولاً: أن يسأل الضيف من هو، يأتيك ضيف يمكث عندك ثلاثة أيام لاتعرف اسمه، تقول له فقط: يا أخي! يا فلان! لا.
بل تسأله.
ثانياً: محادثة الضيف، فإنه أُنس له، وتطييب لقلبه، ولذلك إذا انقبض الإنسان عند ضيفه مات الضيف، وانكسرت عواطفه.
ثالثا: أن يُخبر الإنسان عن نسبه، فإذا قيل له: من فلان؟ قال: مؤمن من المؤمنين، نحن ندري، لكن من أي قبيلة؟ قالوا: من ربيعة، قال: {مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامَى}.
ثم التفت إلى الأشج وقال: {إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة} وتبين فيه صلى الله عليه وسلم أنه أتى بهدوء لابساً متجملاً، ثم جلس، ثم سأل سؤال العاقل قال: {إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة، قال: يارسول الله! هل جبلني الله عليهما أم خُلق تخلقت بهما؟ قال: بل جبلك الله عليهما، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلق يحبه الله ورسوله}.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: {آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن تقيموا الصلاة، وتؤدوا خمس ما غنمتم، وأنهاكم عن الدُباء والنقير} وفي لفظ: {النقير والمزفت} ثم قال: {احفظوها وأخبروا بها من وراءكم} قال: أحدهم من كبارهم: ما أدراك ما النُقَيِر؟ وفي لفظ النَقِير الذي يُنقر من جذع الشجرة ويوضع فيه التمر والشعير فيصبح خمراً، والمزفت: الجرار الخضر، تطلى بالقطران، ويوضع فيها الشعير والتمر ثم تصبح خمراً، قالوا: {وما أدراك بها يا رسول الله؟! قال: بل تنقرون جذوع النخل أو جذوع الشجر، وتضعون فيه التمر والماء، ثم يشرب أحدكم، فربما عدا على ابن أخيه بالسيف فضربه، قال: وفينا رجل عدا عليه ابن أخيه بالسيف فضربه في رأسه، فأخذ هذا الرجل يخفي الضربة في رأسه بالعمامة} هذا وفد عبد القيس واستقبالهم في المدينة وكانوا من أحسن الوفود.
وعلى موجز الوفود أذكر بعض الوفود:
وفد بني حنيفة، وهم جماعة مسيلمة، وقد انقسموا إلى قسمين: قسم جلس مع مسيلمة ولم يأت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: {أما إن شركم الذي جلس} يعني مسيلمة، فأتى إليه صلى الله عليه وسلم، فقال: {والذي نفسي بيده لو سألتني بهذا السوط لما أعطيتك، ولئن خرجت ليفضحنك الله، أو لينتقمن الله منك} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ووفد الجنوب، ورد في رواية ضعيفة، لكن نقويه، لأنه جنوبيٌ، هم وفدوا سبعة أو ثمانية بخمسة عشر خصلة، فكانوا من أحسن الوفود، والقصة طويلة.
ووفد غامد، أتوا بعياب، أهل تجارة، فأنزلوا عيبتهم فسرقها رجل، فسألهم صلى الله عليه وسلم لما أتوا: {من تركتم عند عيبتكم؟ قالوا: تركنا فلاناً، قال: أما إنها سرقت عليكم} أخبره الذي يعلم السر وأخفى، فعادوا فوجدوها سرقت، فرجعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فشهدوا أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بحثوا فوجدوها حيث دلهم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، والوفود كثيرة، لكن على كل حال هذا وفد عبد القيس من أحسن الوفود.(234/11)
أبو هريرة يتحاور مع الشيطان مباشرة
الحديث مشهور لكن فيه أخطاء، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجمع الحب والتمر والرطب الذي يأتي من الصدقة، في حوش -جرين- ويجعل عليه حارساً، فجعل أبا هريرة يحرس هذا المال، قال أبو هريرة: {فأتيت أول ليلة، أحرس في ضوء القمر، فأتى شيخ كبير} والشيطان عليه لعنة الله يتقلد ويتمثل بصورة شيخ كبير وهزيل، أقبل على عصا ومعه كيس، فتكلم مع أبي هريرة وقال: {أريد من مال الله، أنا ذو عيال، وأنا شيخ} وفي لفظ للبخاري: {أنه حثا هو} أتى أبو هريرة وهو يحثو من التمر ويضعه في الكيس، فقبضه أبو هريرة وقال: {والله لأرفعنك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: اتركني، وشكا العيال والحاجة} -لا أغناه الله- فأطلقه، وفي الليلة الثانية أتى -كذاب- فأخذ يحثو من التمر، فقبضه ثم تركه، وفي الليلة الثالثة: قال أبو هريرة: {والله لأرفعنك إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: يا أبا هريرة! أخبرك بشيء إذا قلته في ليلة لا يقربك شيطان، قال: ما هي؟ قال: آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]} سبحان الله! فأخذها أبو هريرة وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: {يا رسول الله! أتاني رجل كيت وكيت، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: أتدري من تكلم منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال: ذاك الشيطان} وفي الليلة الأولى قال: {أما إنه كذبك وسوف يعود} وفي الليلة الثالثة قال: {أما إنه صدقك وهو كذوب} صدقك مرة ولكن كل مرة كذوب إلا هذه المرة.(234/12)
من فوائد القصة
وفي الحديث قضايا: -
أولها: أن المسلم لا يأنف من الفائدة، والحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنَّى وجدها، يأخذها من كافر أو روسي، أو شيوعي، إذا كانت مفيدة، لأن الشيطان علَّم أبا هريرة آية الكرسي، فما قال: لا آخذها لأنها من الشيطان.
ثانيها: أن الشيطان يتمثل بما يمثله الله فيه.
ثالثها: في القصة فضل آية الكرسي، وأنها تقال عند النوم، وأن من قالها لا يقربه شيطان بإذن الله، هذا في قصة أبي هريرة وهو يكلم الشيطان، وقد سبق في درس ماض: (حوار ساخن بين الشيطان وأبي هريرة).
رابعها: كان أبو هريرة رضي الله عنه يتولى كثيراً من المهمات، وكان فيه دعابة، كان يأتي إلى أطفال المدينة، كما ذكر صاحب: (دفاع عن أبي هريرة) وهم يلعبون في الليل، فينطرح بينهم، فإذا اقتربوا منه تحرك فخافوا، تولى الإمرة فأخذ حزمة من حطب فنزل السوق ليتواضع، وقال: [[افتحوا للأمير طريقاً]].
كان يقدم لضيفه مرقة من مرق البر، وليس مرق لحم، ثم يقول: اترك اللحم لي، وليس هناك لحم، ولذلك دعابته حببته إلى القلوب، وما نفرت عنه الأنفس، رضي الله عنه وأرضاه، ومع ذلك فهو من أحفظ الناس على مر التاريخ.(234/13)
حوار بين أبي بكر وعمر في قتال المرتدين
مات عليه الصلاة والسلام فانقسم الناس إلى مؤمنين صادقين، وإلى منكرين للزكاة، وإلى مرتدين عن الإسلام.
المرتدون بالإجماع يقتلون، أما مانع الزكاة فاختلف الصحابة، وقف أبو بكر على المنبر، فحلف وأقسم ليقاتلن مانع الزكاة، فقام عمر في المسجد، وقال: يا أبا بكر! كيف تقاتل الناس وقد سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم} كيف يكون؟
الآن حوار في صلاة الجمعة، وقيل: بعد الصلاة بين الشيخين العظيمين الجليلين، الصديق والفاروق في مناظرة والناس ساكتون، وفي الناس علماء، وشهداء، وصادقون وبررة، ولكن سكتوا لأن هذه المسألة مدلهمة ومعضلة، أبو بكر يقول: نقاتلهم، وعمر يحتج عليه بالحديث ويقول: لا تقاتلهم، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وقد منعوا الزكاة، والرسول صلى الله عليه وسلم ما ذكر الزكاة، لكن سوف يأتي الخبر، فرفع أبو بكر صوته وقال: [[والله الذي لا إله إلا هو لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والذي نفسي بيده، لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه بالسيف]] فأجمع الصحابة مع أبي بكر، قال عمر: [[فلما رأيت الله شرح صدر أبي بكر لقتالهم سكتُّ]] أبو بكر مسدد، أبو بكر رجل يلهمه الله، أبو بكر أفضل من جميع الجالسين في المسجد، هو في كفة وهم في كفة، قال ابن حجر: لماذا لم يستدل أبو بكر على عمر بحديث في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله} أليس هذا صريحاً في إثبات كلامه؟ وهو دليل في الصحيحين، لكن أبو بكر ترك هذا وذهب إلى القياس.
ولماذا عمر لم يتذكر هذا الحديث، لا أبو بكر تذكره ولا عمر تذكره، وإنما أتى هذا الحديث في الصحيحين؟
و
الجواب
نسي أبو بكر الحديث ونسي عمر، ولا يلزم من المجتهد أن يحفظ كل دليل في المسألة.
والجواب الثاني: قالوا: ما نسيا، لكن ما سمعا بالحديث أصلاً وهو من رواية ابن عمر، فلم يسمع به أبو بكر ولا عمر، وإنما سمع به ابن عمر، فالسؤال الثاني: لماذا لم يتكلم ابن عمر وهو حاضر في المسجد؟ لماذا ما فض هذا النزاع والجدال؟
الجواب
قيل: ربما كان يتذكر لكنه استحى، تلاطم بحران في المسجد وابن عمر شاب، أبو بكر صدِّيق الإسلام، وعمر فاروق الإسلام، وهل يتدخل بينهم ومشايخ الصحابة سكوت؟ هذا جواب.
وقيل: ربما نسي، ثم رواه فيما بعد الله أعلم، إنما وقعت هذه المسألة، وكان الحق مع أبي بكر، وهو مصداق لهذا الحديث، فقاتل المتمردين وفي الحديث مسائل:
أولها: جلالة أبي بكر الصديق.
الأمر الثاني: المجتهد قد يخفى عليه بعض الأمور ولا يلزم العالم أن يحفظ كل جزئية.
الأمر الثالث: الحكم شورى، ومن كان بين الناس وعنده كلمة فليتحدث بها، يقول عمر على المنبر: [[يا أيها الناس! أرأيتم لو رأيتموني -وهو خليفة- ملت عن الطريق هكذا، فما أنتم صانعون]] فاستحيا الصحابة، ماذا يقولون؟
عمر يقول: أرأيتم لو ملت عن الطريق هكذا، اعوججت، أو أخربت في السياسة، أو في الطريق ماذا تصنعون؟
فقام أعرابي عند السارية، فسل سيفة أمام الناس، وقال: [[يا أمير المؤمنين! والذي لا إله إلا هو لو رأيناك ملت عن الطريق هكذا لقلنا بالسيوف هكذا، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في رعيتي من لو ملت عن الطريق هكذا لقال بالسيف هكذا]].
وصح في السير أن سلمان كان جالساً مع المسلمين وعمر يخطب، فقال: عمر بعد أن حمد الله وأثنى عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى: [[يا أيها الناس: اسمعوا وعوا.
قال سلمان، وقد قام: والله لا نسمع ولا نعي]] مع من يتكلم؟ يتكلم مع عمر، كان عمر يقول في أول الخطبة وهو يبكي: اللهم إني بخيل فسخني لأوليائك، اللهم إني قوي فاعطف بي على أوليائك، ولو كان من أهل الدنيا أو من أهل الباطل لقصم عمر ظهره، لكن في حق [[قال سلمان: والله لا نسمع ولا نعي، قال عمر: لِمَ يا سلمان؟]] سلمان الفارسي {سلمان منا آل البيت} الذي إذا افتخر بنسبه قال:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
[[لِمَ يا سلمان؟ لِمَ لاتسمع لي؟ ألست خليفة؟ قال: تكتسي ثوبين وتكسونا من ثوب ثوب وقف عمر على المنبر وعليه ثوبان، أتت الثياب من اليمن فأعطى كل مسلم ثوباً، قال عمر: لا يجيبك إلا ابني عبد الله، فقام عبد الله بن عمر وقال: إن أبي رجل طويل -طويل الجسم- وإنه أعطاني ثوباً مع المسلمين وأخذ ثوباً فأعطيته ثوبي إلى ثوبه، قال سلمان: الآن قل نسمع وَأْمُر نطع]] فاندفع عمر يتحدث هذا أمر المسائلة والمناقشة التي على رءوس الأشهاد.
1/ وفيه: أن القياس يؤخذ به إذا خفي النص، وقد أخذ به أبو بكر.
2/ وفيه: أن الله شرح صدر أبي بكر لقتال المرتدين.
3/ وفيه: أن من ترك الزكاة أو منعها قوتل.
4/ وفيه: أن من ترك بعض الفرائض وجحدها كفر، فليعلم هذا.(234/14)
الرسول يعاتب أبا ذر الغفاري
اجتمع الصحابة في غزوة من الغزوات، ولم يكن معهم الرسول عليه الصلاة والسلام، فجلس خالد بن الوليد، وجلس ابن عوف وبلال وأبو ذر، وكان أبو ذر فيه حدة، لا يصبر ويندفع بسرعة، فتكلم أبو ذر بكلمة اقتراح، يقول: أنا أقترح في الجيش أن يفعل به كذا وكذا، فقال بلال: لا.
خطأ هذا الاقتراح؟ فقال: حتى أنت يا ابن السوداء تخطئني -لا إله إلا الله- أين أنت في مجتمع غفار؟ أليس مجتمع القرآن والسنة هذا؟ قام بلال مدهوشاً مرعوباً غضباناً أسفاً وقال: والله لأرفعنك إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أكبر هيئة، ومن هو بلال؟ روح الإسلام، ومنادي السماء.
فاستفاقت على أذان جديد ملء آذانها أذان بلال
بلال الصوت الحبيب إلى القلوب بلال الذي سُحب على الرمل، وهو يقول: أحد أحد.
وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أما سمعت أبا ذر ما يقول فيّ؟ يقول فيّ: كيت وكيت! فتغيظ عليه الصلاة والسلام، وأتى أبو ذر فسمع بالخبر، فاندفع مسرعاً إلى المسجد، فقال: يا رسول الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فغضب عليه الصلاة والسلام حتى قيل: ما ندري هل رد أم لا؟ وقال: {يا أبا ذر! أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية} هذه كأنها صاعقة على أبي ذر، فبكى أبو ذر وأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم جلس، وقال: يارسول الله! استغفر لي، سل الله لي المغفرة، وفي الأخير أتى عليه الصلاة والسلام فجلس واستدعى بلالاً وطلب منه أن يسامح أبا ذر، أما أبو ذر فخرج من المسجد باكياً.
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
ذهب فطرح رأسه في طريق بلال، وأقبل بلال العبد، ماكانت تقيم الجاهليةُ له قيمةً، التمييز العنصري الذي سحقه الإسلام، بلال سيدنا، يقول عمر: [[أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا]] أتى أبو ذر فطرح خده على التراب مباشرة، وقال: [[والله يا بلال! لا أرفعه حتى تطأه برجلك، وأنت الكريم وأنا المهان]].
رفع الله منزلتك يا أبا ذر! إلى هذا الحد تأديب الإسلام.
وحياة القرآن! {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
أتى بلال فأخذ يبكي من هذا الموقف! من الذي يستطيع أن يقف هذا الموقف ولا ينصدع قلبه؟! إن بعضنا يسيئ إلى البعض عشرات المرات، ولا يقول: عفواً يا أخي أو سامحني.
إن بعضنا يجرح بعضاً جرحاً عظيماً في عقيدته ومبادئه وأغلى شيء في حياته، ولا يقول: سامحني إن البعض قد يتعدى بيده على زميله وأخيه ولا يقول: عفواً يا أخي.
لكنه قال: والله لا أرفع خدي حتى تطأه بقدمك، فبكى بلال واقترب فقبل خده ذاك الخد ما يصلح للقدم يصلح للقُبلة، ذاك الخد أكرم عند الله من أن يوضع عليه القدم، ثم قاما وتعانقا وتباكيا.
إذا اقتتلت يوماً وفاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
هذه حياتهم يوم تعاملوا مع الإسلام: {أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية} ليس عندنا معامل ألوان، ولا أبيض ولا أحمر ولا أسود، أو من آل فلان، أو من آل فلان، عندنا تقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
ولذلك إذا رأيت الإنسان يتمدح بآبائه وأجداده وهو صفر، فاعرف أنه لا قيمة له عند الله.
إذا فخرت بآباء لهم شرف نعم صدقت ولكن بئس ما ولدوا
طرق طارق على عمر، فقال: [[من الطارق؟ قال: أنا الكريم بن الكريم بن الكريم أتدرون من هو هذا الرجل؟ إنه عيينة بن حصن بن بدر]] وقد صدق، فإن بني بدر أسرة من أكبر الأسر في العرب، حتى حاتم الطائي على كرمه يمدحهم، ويقول: هم أكرم مني، تخاصم حاتم وامرأته فقال:
إن كنت كارهة معيشتنا هاتي فحلي في بني بدر
الضاربون بكل معترك والطاعنون وخيلهم تجري
فأسرة بني بدر من أعظم الأسر، فأتى هذا لكنه ارتد وعاد إلى الإسلام فحسن إسلامه.
قال عمر: [[بل أنت الأخس بن الأخس بن الأخس، الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -ودخل الرجل وليته سكت- فلما جلس قال: هيه يا عمر! ماتحكم فينا بالعدل، ولا تعطينا الجزل، فقفز عمر إلى الدرة، يريد أن يؤدبه، وأن يضربه ضرباً مبرحاً، حتى ما يدري أين القبلة، فقام الحر بن قيس وهو فتى من جماعة عيينة يحفظ القرآن، وقال: يا أمير المؤمنين! إن الله يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وهذا جاهل فاتركه، وكان عمر وقافاً عند حدود الله، فقال: والله ما تعداها ولا تجاوزها، فأسقط العصا وجلس]] وهكذا كان تعاملهم مع القرآن.
وفيها دروس:-
الاعتذار من الأخ إذا أسأت إليه الهدية، والبسمة الحانية، والمعانقة، وألا تحمل ضغينة على أخيك، نحن وإياكم نشجب كل هذا العداء والمريرة بين الأحبة، والتفلت على أوامر الله، والضغينة من أجل أمور نسبية يختلف فيها الناس، وقد تختلف فيها وجهات النظر ألا إن من يفعل ذلك أو يحمل على أخيه المسلم فقد أساء وظلم.(234/15)
موقفين عظيمين لأبي بن كعب
أبي بن كعب في موقفين عظيمين كان أُبي أبيض الجسم، واللحية، والنبراس، والقلب، والمصحف: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] أصابته الحمى ثلاثين سنة، فقال: يا رسول الله! أيخفف عنا بما نصاب به؟
قال عليه الصلاة والسلام: {إي والذي نفسي بيده، يا أبا المنذر! لا تصاب بمرض أو همٍّ أو غمٍّ إلا كانت كفارة، أو حط الله بها من سيئاتك} فراح إلى بيته وسأل الله حمى لا تعطله عن صلاة ولا جهاد ولا عمرة، ولا غزوة، فأصابته الحمى حتى يقولون: لا يقترب منه إنسان إلا وجد منه حرارة، رضي الله عنك يا سيد القراء.
قال الذهبي في السير: أكسبته الحمى شرارة، لذلك ما كان يوقف عمر إذا تكلم إلا أبي، كل الصحابة يحجمون إلا أبي.(234/16)
سماع أُبي لسورة البينة بأمر الله
الموقف الأول: سورة البينة، أتى بها جبريل من عند الله عز وجل: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة:1] فتلاها فأنهاها، فقال جبريل: يا رسول الله! إن الله يأمرك أن تقرأ هذه السورة على أبي بن كعب، فقام عليه الصلاة والسلام وطرق على أبي بابه وحلَّ عليه ضيفاً، وهو أعظم ضيف في التاريخ، وقال: {إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة.
فقال: وسماني في الملأ الأعلى -أي: سماني عند الملائكة باسمي أبي بن كعب - قال: نعم سماك، فبكى أبي} فجلس عليه الصلاة والسلام عند أبي.
يقرأ عليه البينة حتى ختمها.
ولذلك يسأل أهل الحديث بطرافة يقولون: من هو شيخ الرسول عليه الصلاة والسلام في القراءة في بعض السور؟!
قالوا: أبي بن كعب.
حياك الله يا أبي! ورفع الله منزلتك، وأكرمك الله يا سيد القراء.
الرسول صلى الله عليه وسلم تجاوز آية في الصلاة، فما رد عليه الناس، فلما سلم قال أحد الصحابة: يا رسول الله! إنك تجاوزت آية في الصلاة، أنسيتها أم نسخت؟ فترك صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً، وقال: {يا أبا المنذر! أكما يقول الناس؟ قال: نعم} أعطى القوس باريها {أقرؤكم أبي}.(234/17)
معرفة أبي لأعظم آية في كتاب الله
والموقف الثاني: يأتي عليه الصلاة والسلام، فيقول: {يا أبا المنذر! أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فأخذ صلى الله عليه وسلم كفه وضرب في صدر أبي وقال: ليهنك العلم أبا المنذر}.
علم خالص، ليهنك الذكاء والفطنة في كتاب الله، هو سيد القراء، ونحبه كثيراً، يقول أحد أهل العراق: وفدت المدينة، فإذا عمر جالس في مجمع من الناس من الصحابة وحوله شيخ أبيض اللحية والرأس والثياب والجسم، وكان عمر إذا تكلم نظر إليه وهابه، فقلت يا أمير المؤمنين! من هذا الرجل؟
قال: ثكلتك أمك أما عرفته؟! هذا سيد المسلمين أبي بن كعب.
رفع الله منزلته، وجمعنا به في مقعد صدق عند مليك مقتدر.(234/18)
أبو محذورة المؤذن في يوم ميلاده
يقول مجنون ليلى:
أما ورب الكعبة المعمورة والنغمات من أبي محذورة
وما تلا محمد من سورة لأفعلن فعلة مشكورة
ما أحسن الأبيات! كان أبو محذورة من أحسن الناس صوتاً، خرج من مكة والرسول صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة يريد الغزو، وأبو محذورة عنده غنم وهو شاب مشرك، ومعه صبية من المشركين، وأطفال من كفار قريش، فنزل صلى الله عليه وسلم في واد ونزل أبو محذورة وزملاؤه، في واد ثان، فأتت صلاة الظهر فقام بلال يؤذن لصلاة الظهر، فقام أبو محذورة يستهزئ بأذان بلال وراء الجبل، يؤذن بلال ويقول: الله أكبر، فيقول أبو محذورة: الله أكبر، وهو مشرك يؤذن في الغنم، بلال يؤذن في المسلمين وذاك يؤذن في غنمه، ما اهتدى للإسلام.
والرسول صلى الله عليه وسلم عنده اثنان للطوارئ دائماً، وللأمور المستعجلة، علي والزبير، دائماً على فرسين، السيف يقطر دماً في خدمة لا إله إلا الله قال: {يا علي! يا زبير! علي بهما، فانطلقا من وراء الجبل وطوقوهم، وقالا: إلى الرسول عليه الصلاة والسلام}.
ولذلك أكثر من ست قضايا وعلي والزبير ينتدبان لها، فذهبوا فوقفوا أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: {من أذَّن منكم آنفاً؟ فخجلوا، فأذنوا بالدور، فأذن الأول وإذا صوته ليس الصوت الجميل ذاك، وأذن الثاني والثالث فإذا هو أبو محذورة، فقال له: أنت من أذَّن آنفاً؟ قال: نعم، فأتى صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة فخلع عمامة أبي محذورة ثم قال: اللهم بارك فيه واهده إلى الإسلام، فقال أبو محذورة أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: اذهب مؤذناً في أهل مكة} فذهب يؤذن، قال أبو محذورة من حب الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه مرر يده على رأسه: [[والله لا أحلق هذا الشعر حتى أموت]] شعر مسه ذاك الكف، والله لا أحلقه حتى أموت، فوصل شعره إلى نصف جسمه، ولذلك كان يرده جذائل.
وأصل قصة أبي محذورة عند أحمد وغيره من أهل العلم.
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا
عليك السلام يا رسول الله! ورضي الله عنك يا أبا محذورة! عاد مؤذناً، وهي وظيفة شرعية بقيت في ذريته إلى ما يقارب ثلاثمائة سنة.
ولذلك من أبنائه رجل أظنه حفيده، وقد ذكرها أهل العلم كـ التونسي لما ترجم للإمام مالك؛ أذن في مكة فسمع رجلاً ينشد في البيت حوله -وهو على المأذنة- بيتاً لـ مجنون ليلى يوم يقول:
صغيران نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
فأراد أن يقول: حي على الفلاح، فقال: حي على البهم.
أبو محذورة في حياته دروس:
أولاً: الهداية من الله.
الأمر الثاني: جمال الصوت.
الأمر الثالث: بركة الرسول عليه الصلاة والسلام وبركة تلك الكف.
الأمر الرابع: يُتبرك بآثاره عليه الصلاة والسلام، وليس ذلك لأحد غيره.
هذه حفظكم الله محاضرة بعنوان: (من أخبار السلف) عشناها مع ذاكم الجيل، ونسأل الله أن يعيننا على المواصلة في مثل هذه الأخبار، لنواصل الاستنباط من تلكم الأخبار.(234/19)
الأسئلة(234/20)
حكم الجمعيات بين الموظفين
السؤال
ما حكم أن يتفق عدد من الموظفين ويعملون في الغالب في جهة واحدة، مدرسة أو دائرة أو غير ذلك، على أن يدفع كل واحد منهم مبلغاً من المال مساوياً في العدد لما يدفعه الآخرون، وذلك عند نهاية كل شهر، ثم يُدفع المبلغ كله لواحد منهم، وفي الشهر الثاني يدفع لآخر، وهكذا حتى يتسلم كل واحد منهم مثلما تسلمه من قبله سواء بسواء دون زيادة أو نقص، قال: ولم يظهر المجلس بالأكثرية ما يمنع هذا النوع من التعديل، ولأن المنفعة التي تحصل للمقرض لا تنقص المقترض شيئاً من ماله وإنما يحصل المقترض على منفعة مساوية لها، ولأن فيه مصلحة لهم جميعاً من غير ضرر على أي أحد منهم، أو زيادة نفع الآخرين، والشرع المطهر لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها على أحد بل ورد بمشروعيتها وبالله التوفيق.
الجواب
يجوز ذلك، هذا آخر ما يقال، إن شاء الله ما تسمعوا مرة ثانية غيره، جواز الجمعيات التعاونية التي سمعتم نصها في هذا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(234/21)
نصف ساعة مع رسول الله
إن القلم ليتعثر، وإن الصوت لينقطع، إذا أراد الإنسان أن يتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الدرس استعراض لجانب واحد من حياته صلى الله عليه وسلم، وهو تواضعه صلى الله عليه وسلم، والأنحية الفياضة التي كان يعيشها مع الطفل والشاب والمرأة والشيخ والعجوز، ومع الجواري والغلمان، وكراهيته صلى الله عليه وسلم للغلو في المدح والإطراء، ولقد جسد بذلك العظمة الحقيقية التي يصغر أمامها جميع العظماء، وقد شهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء.(235/1)
تواضعه صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير.
الحمد لله الذي رفع السماء بلا عمد، وبسط الأرض في أحسن مدد، وخلق الإنسان في كبد، والصلاة والسلام على خير الأولياء، وسيد الأصفياء، وإمام الصالحين والشهداء.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس: إنني أريد أن أتحدث عن جانب من عظمته صلى الله عليه وسلم، ووالله إن القلم ليتعثر، وإن الصوت لينقطع، وإن الكلام لينتهي في عظمته صلى الله عليه وسلم.
إنني لا أتحدث عن عظيم، بل أعظم عظيم، ولا عن مصلح فحسب، بل عن أعظم مصلح في الأرض، ولا عن مُرَبٍّ فقط، بل عن أجَلِّ مُرَبٍّ في المعمورة الذي قال الله فيه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:1 - 6].
يا أيها الجيل! يا طلبة العلم! يا أيها المسلمون! إن عظيمنا وقائدنا هو ذاك الرسول المدفون في طيبة، وكأني بـ محمد إقبال يوم قال في مقطوعته المترجمة إلى العربية التي ترجمها أبو الحسن الندوي، يقول:
يا رسول الله!!
ملأتُ أنفي بتراب مدينتكَ
فأخرجتُ من قلبي حبَّ الحضارة الغربية
فخرجت من نارها
كما خرج الخليل إبراهيم من نار النمرود
تعال يا من حاله في وبال ونفسه محبوسة في عقال
يا راقداً لم يستفق عندما أذن في صبح المعالي بلال
يا مشتري الحصباء من جهله بالدر هذا في المعالي محال
روض النبي المصطفى وارفٌ أزهاره فاحت بريا الجمال
ميراثه فينا جميل الحلى وأنتم أبناؤه يا رجال(235/2)
جانب التواضع في حياته صلى الله عليه وسلم
من أين نبدأ؟ وإلى أين ننتهي في ذكر سيرته؟ يعجز الأدباء، ويسكت الشعراء، ويتحير المؤرخون، ويتلعثم المصنفون في عظمته صلى الله عليه وسلم؛ لكن في جانب واحد، وفي زهرة من روضته، نتحدث في هذا اليوم في جانب التواضع من حياته صلى الله عليه وسلم.
أليس هو قرآن يمشي على الأرض؟ أما قال الله له: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]؟
أما امتدحه الله من فوق سبع سماوات، فقال له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]؟
أما أثنى عليه، وقال له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
سهر العيون لغير دينك باطل ورضا النفوس بغير شرعك ضائع
والرسول - عليه الصلاة والسلام - أكبر من تواضع لله؛ لأنه عرف عظمة الله.
جاءه ملِك من ملوك العرب - وقد صح هذا الحديث - فأتى الملك، ودلف إلى مكة؛ ليرى هذا الإنسان الذي غيّر العالم، فلما رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم أخذ هذا الملك ترتعد فرائصه، ويهتز، ويتزلزل في مكانه؛ لأنه رأى هالة العظمة، رأى سيماء التوفيق، وشارة المجد تلوح على محياه صلى الله عليه وسلم فيهدئ من روعه صلى الله عليه وسلم، ويهدئ من خوفه، ويقول له: {هون عليك، إني ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة} والقديد: هو اللحم المشوي إذا مُلِحَ وعُلِّقَ.
نعم، إنك ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة؛ لكنك حولت العالم.
إنك ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة؛ لكنك أعظم من طرق باب الإنسانية.
إنك ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة؛ لكنك قدت العالم إلى بر النجاة، وإلى شاطئ السلامة.
إنك ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة؛ ولكنك أخرجت الإنسان وشرفته وطهرته وعظمته.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها(235/3)
الأريحية الفياضة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويقول عليه الصلاة والسلام: {لو دُعيت إلى كراع لأجبتُ، ولو أهدي إلي ذراع لقبلتُ}.
صلى الله عليك وسلم ما أعظمك! وما أجلك! كلما تواضعت شرُفت ونبُلت وعظُمت في العيون.
نعم، لا يستنكف عليه الصلاة والسلام أن يجيب الدعوة، يذهب مع أصحابه، يسمع بالأعرابي يمرض فيزوره، وبالعجوز تصيبها الحمى فيزورها، وبالطفل يدهدهه فيمازحه، وبالأعرابي يوقفه فيقف معه، وبالمرأة تسأله فيحيي ويسهل ويَحْلَم عليه الصلاة والسلام.
تأخذه الجارية بيدها من منزله، وكأنه ليس مشغولاً بالعالم، وأحداث الأرض ومشاغل الدنيا تدار على كفه، فيخرج مع الجارية، ويذهب معها، وتريه صلى الله عليه وسلم حدثاً بسيطاً.
يزور طفلاً في المدينة، مات طائر له فيريد عليه الصلاة والسلام من هذه الزيارة أن يربي للعالم معالم الحضارة التربوية بجانب الطفل.
ويذهب إلى الطفل، ويقول: {يا أبا عمير، ما فعل النغير؟}.
أي عظمة هذه؟
مرت به عجوز، وظنت أنها سوف ترى إنساناً في هالة، يحوطه الحرس، ويحميه الجنود، وتصفُّ المواكب بين يديه وخلفه، فرأت الإنسان الوقور الهادئ الحليم الكريم يجلس على التراب.
تجلس على التراب وأنت من قدت القلوب إلى الواحد الوهاب؟!
تجلس على التراب وأنت من سافرت بالأرواح إلى الفتاح العلام؟!
تجلس على التراب وأنت دكدكت دولة البغي، دولة كسرى وقيصر، وأعلنت حقوق الإنسان, ورفعت علم (لا إله إلا الله) في سمرقند وطشقند، وفي أسبانيا، وعلى مشارف نهر اللوار؟!
تجلس على التراب وأنت قدمت للعالم ألف عظيم وعظيم، وألف شاعر وشاعر، وألف عالم وعالم، وألف مؤرخ ومؤرخ؟!
تجلس على التراب وأنت بنيت صروح العدالة، وبنيت مساجد الإسلام في كل البقاع، وذُبِح أصحابُك على مشارف دجلة والفرات والنيل؛ لتبقى (لا إله إلا الله)؟!
فلما رأته هذه العجوز، قالت: {انظروا إليه يجلس كما يجلس العبد، ويأكل كما يأكل العبد، فيقول: نعم! وهل هناك أعبد مني؟}.
انظر إلى الرد الجميل، وإلى الأريحية الفياضة، وإلى الخلق الفذ، إنها عظمة والله، كلما بحثت عن جوانبها دهشت إن كنت مسلماً، دخل حبه في قلبك وأثارت في نفسك معانٍ جياشة، وخواطر حارة، لا تحدثها أي ملحمة وملحمة.
عجيب!!
إنه عظيم في كل النواحي، وإن الذي لا يطرق قلبه حب هذا الرجل العظيم عليه الصلاة والسلام سوف يبقى ميتاً.
يقول: {وهل هناك أعبد مني؟} عبدٌ؟! {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19].
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيَّرت أحمد لي نبيا(235/4)
النهي عن الغلو في المدح والإطراء
يأتيه وفد بني عامر بن صعصعة من العراق، فكلهم يهيئ في نفسه مقالة مدح وإطراء، فيقفون أمامه، ويقول قائلهم يخاطب المصطفى صلى الله عليه وسلم: {أنت سيدنا وابن سيدنا، وعظمينا وابن عظيمنا، أفضلنا فضلاً، وأطولنا طولاً} وظنوا أن هذه البضاعة تباع في سوقه صلى الله عليه وسلم، هذه البضاعة لا تذهب عنده، هذه دراهم بُهْرُجٍ مزيفة، لا تنفع إلا عند الدجالين والأقزام، أما من أسَّس مجده على (لا إله إلا الله) وبنى حضارته على (الله أكبر) وأرسل ثقافته على (الحمد لله) فهذه البضاعة لا تذهب عنده، فقال: {مَهْ؟! -أي: ما هذا الكلام؟ ما هذا الدجل؟ ما هذا السَّفَه- مَهْ؟! يا أيها الناس قولوا بقولكم، أو ببعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله}.
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرمُ
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكمُ
حضرته سكرات الموت، فيتواضع حتى في سكرات الموت، يقول: {لا إله إلا الله، اللهم هون عليّ سكرات الموت، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعْبَد، اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعْبَد، اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعْبَد}.
وسيماء التواضع ظهرت عليه، إنسانٌ يغير العالم، ويحدث حدثاً باهراً في المعمورة، لا يشبع ثلاثة أيام متوالية من خبز الشعير، يلبس المرقع، وأمته تجبي كنوز كسرى وقيصر، يجلس على التراب، وقواده يسكنون في القصور، ووُرَّاثه يفتحون المدائن والدور، والحبور والسرور.
يجلس مع الجارية، ويحمل البنت على كتفه في الصلاة، ويأخذ الطفل من أمه ويضعه في حجره، ويمسح على رءوس الأيتام وهو يبكي، وصح في أحاديث أنه يحلب الشاة، ويخسف النعل، ويرقع الثوب، ويكنس البيت، ويقطع اللحم مع أهله.(235/5)
العظمة الحقيقية
هذه هي العظمة، العظمة من قوة، من مركزية هائلة، ليست العظمة التي يبحث عنها وهو على التراب، إنسانٌ فقير معدم مسكين ويتواضع، هذا شيء طيب؛ ولكن إنسانٌ من أعظم الناس، ومن أشجع الناس، ومن أجل الناس ويتواضع، هذا عظيم وأيُّ عظيم نعم، سيّر الحب في القلوب فأحيا به الأرواح.
ووالله الذي لا إله إلا هو إن من أعظم الظلم أن يوضع في بيوتنا وفصولنا وجامعاتنا ومدارسنا عظماء وهم حقراء.
هل هتلر عظيم؟ وهو قاتل الإنسان، شارب دم الإنسان!
هل نابليون عظيم؟ وهو متهتك الحرمات، الفاجر في المحرمات، ماركس الكلب اللعين!
يُدَرَّسون، وتُوَرَّد حضارتهم للأنسان، وأين أعظم عظيم؟
يقول محمد إقبال في مقطوعته (فاتح مكة):
يا رسول الله، انصب خيامك في الصحراء
وخذ أطنابك من قلوبنا
وابْنِ مجدَك على جماجمنا
ويقول:
يا رسول الله، معذرةً! أنا هندي
تعاطفتُ مع دعوتكَ
لأن العرب خانوا دعوتكَ
{فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89].
كَفَر بها أبو جهل، وألفُ ألفٍ من أمثال أبي جهل، فأتى سلمانُ يقول: آمنتُ بالله.
وكفر بها أبو لهب، فأتى بلالٌ يقول: آمنتُ بالله.
وكفر أمية بن خلف، فأتى صهيبٌ من بلاد الروم يقول: آمنتُ بالله.
نعم.
وخذ أطنابك من قلوبنا
وابْنِ مجدَك على جماجمنا
أي عظمة؟ وأي تواضع؟ وأي سيما؟
إن من يتحدث عنه صلى الله عليه وسلم ليَعْجَز؛ ولكن أُطالب نفسي وإياكم أن تقرءوا ترجمته وسيرته، خالصة ممزوجة بالحب، ليست ترجمة الوفيات، ولا التنقل والغزوات، ولكن ترجمة الحياة، والرَّوح، والياسمين، واليقظة، والإملاء العقلي والروحي الذي يصل إلى القلوب في القرآن، والسنة، والسيرة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(235/6)
شهادة الأعداء بعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراًَ، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراًَ، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
إن بعض الناس ولو شعروا بالعظمة فيهم مركب نقص، يحتاجون إلى مدح وإطراء وتصفيق يكمل به الناقص، أما الرسول - عليه الصلاة والسلام - فقد اكتملت عظمته، والمادح فيه والساكت سيان.
ومدحنا وإطراؤنا اليوم وذكرنا لا يرفع من قدره، لأنه قد بلغ منزلة أقرّ بها المؤمن والكافر، والمسلم والمعاند، والعارف والمنكر، أقر بعظمته الأعدء قبل الأصدقاء.
أُلِّف كتاب في أمريكا، واجتمع له مفكرو الدنيا من يابانيين وصينيين وفرنسيين وإنجليز، فأخذوا مائة عظيم على تاريخ البشرية، من يوم خُلِقَ آدم إلى الآن، فكان العظيم الأول محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يتدخل في هذا الاجتماع مسلم واحد؛ لكنها العظمةٌ التي بهرت الدنيا، وتكلمت على لسان التاريخ، وكُتِبَت على جبين الزمن، وأقر بذلك كل واحد إلا رجل واهن، أو رجل مفتر على الله، أو جاهل، عقله ودماغه كعقل ودماغ الحمار.(235/7)
صور من تواضعه صلى الله عليه وسلم
والرسول عليه الصلاة والسلام في جانب العظمة له أسرار عجيبة، وفي جانب التواضع له أساليب غريبة.
أرأيتم البسمة ما أرخصها! كيف تشرى بها القلوب؟ استخدمها في دعوته صلى الله عليه وسلم، ولقد وجدنا في زمن كانت البسمة من أغلى ما يباع في الأسواق، أصبحت غالية.
أما هو صلى الله عليه وسلم فالبسمة عملة له، فسبى بها الأرواح، وقاد بها النفوس إلى الحي القيوم.
يأتيه أعدى الأعداء، فيتبسم صلى الله عليه وسلم في وجهه، فيهتدي بإذن الله.
يقول جرير بن عبد الله: {والله الذي لا إله إلا هو ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي}.
ويأتيه أرطبون العرب عمرو بن العاص مسلماً لأول وهلة، فيتبسم في وجهه، فيظن أنه أحب الناس إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيحين من حديث أنس: أنّ أعرابياً جاء من البادية أعرابي وبدوي: جهل مركب فلما أتى نسي هذا الأعرابي في ذهنه أنه سوف يتكلم مع معلم الإنسانية وهادي البشرية، ومزعزع كيان الوثنية، أتى يطلب هذا الأعرابي شيئاً من الزبيب والتمر والحب، مطالب أهل التراب، ومقاصد أهل الأرض، ولا يدري أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - يُطْلَب من خزانته مفاتيح جنة عرضها السماوات والأرض، ومفاتيح روضة غناء في جوار الواحد الأحد يوم القيامة.
ألا بَلَّغ اللهُ الحمى مَن يريدهُ وبَلَّغ أكناف الحمى مَن يريدها
فأتى، فليته تأدب، لكن لم يترك الصلافة والجفا وقلة الأدب، هرع مهرولاًَ إلى معلم الخير، فجذبه ببردته، وهو بُرْدٌ غليظ نجراني، وحاشيته غليظة، فجذبه أمام الصحابة وأمام الناس، موقف محرج ومخجل ومثير للعواطف وجارح للشعور، ولو كان غيره صلى الله عليه وسلم لَمزَّق هذا الأعرابي تمزيقاً، وقطعه إرباً إرباً، وما تملحت عيناه برؤية الحياة مرة ثانية.
سحبه أمام الناس حتى أثَّر البُرْد في عنقه واحمر عنقه الشريف، عنق المكرمات، عنق المجد، والصلاح والنجاة والتجديد، فالتفت صلى الله عليه وسلم إليه وهو يضحك، لم تغادره البسمة حتى في الساعات الحرجة.
يضحك، فيقول أنس: [[ليته يوم أساء الفعل أحسن القول]] لكن (حَشَفاً وسوء كيلة) قال: يا محمد، والله يقول: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63] يا محمد هكذا؟ كلمة رخيصة؟ ليس عادياً، أمامك رسول، أمامك نبي، أمامك أعظم مصلح في الأرض.
يا محمد، أعطني من مال الله الذي عندك، لا من مال أبيك، ولا من مال أمك، فيقوم الصحابة -انتهى الصبر- وفي أولهم: عمر - رضي الله عنه وأرضاه - ليخرج وساوس الشيطان من رأس هذا الأعرابي، والرسول - عليه الصلاة والسلام - يهدئ من روعهم ويجلسهم، ويقول: {اجلسوا رحمكم الله} أو كما قال، فيأخذ الأعرابي بهدوء وسكينة ولطافة ويشبك أصابعه بأصابعه، ويدخل معه في غرفة من غرفه، فيعطيه زبيباً وحباً وثياباً ومالاً، قال: {هل أحسنتُ إليك؟} قال: نعم، أحسنت - جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً - فيقول له صلى الله عليه وسلم: {اخرج إلى أصحابي، وقل لهم هذا القول، ليذهب ما في نفوسهم عليك} فيخرج إليهم، فيقول صلى الله عليه وسلم: {هل أحسنتُ إليك؟} قال: نعم، - جزاك الله من أهل وعشيرة خير الجزاء - ويذهب الأعرابي داعياً إلى قبيلته للإسلام فيدخلوا عن بكرة أبيهم في الإسلام.
فيقول - عليه الصلاة والسلام - وهو يترجم هذه الحركات لأصحابه: {أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الأعرابي؟ قالوا: لا.
قال: مثلنا كمثل رجل كانت له دابة فرت منه، فأخذ الناس يلاحقونها، فما زادت إلا فراراً، فقال: يا أيها الناس! اتركوا لي دابتي، أنا أبْصُر بها، فأخذ شيئاً من خضار الأرض وخشاش الأرض فأشار به إلى الدابة فأتت، فربطها واستسلمت وقيدها فلو تركتكم مع هذا الأعرابي لضربتموه أو قتلتموه ودخل النار، وما أسلم قومه، ولكن لاطفت به حتى أنقذه الله بي من النار، وأسلم قومه}.
أي عظمة هذه العظمة؟ وأي تربية هذه التربية؟ وأي إدراك هذا الإدراك؟ معذور من أسكن قلبه حبك أيها العظيم، ومعذور من يتمنى أن يفديك بأهله وماله وولده ونفسه.
نسأل الله - عز وجل - أن يعرفنا على ذاك الوجه الأجَل، وأن يجاور بيننا وبينه في الجنة، وأن يسقينا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
عباد الله! وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد.
اللهم أرنا وجهه العظيم في دار الكرامة والنعيم.
اللهم املأ قلوبنا بحبه، وسلوكنا بسيرته، وأنفسنا بالاقتداء به، اللهم اجعله لنا معلماً وقائداً ومربياً وهادياً إلى الجنة يا رب العالمين.
وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور.
اللهم اهدهم سبل السلام، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك، في برك وبحرك يا رب العالمين.
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار،
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(235/8)
مصارع العشاق (2)
ينتقل الشيخ عائض حفظه الله في هذه الدرس المبارك في حديقة غناء، ليقتطف لنا أزهاراً من علامات وعقائد أهل السنة والجماعة، ذاكراً قصصاً رائعة لسلف هذه الأمة، فيها المواعظ والعبر والفوائد، وقد تناول هذا الدرس بأسلوب أخاذ، استرق به قلوب السامعين.(236/1)
من علامات وعقائد أهل السنة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة الكرام: هذه الحلقة الثانية من محاضرة: مصارع العشاق.
وهذا مساء السبت السادس والعشرين من شهر ذي الحجة لعام ألف وأربعمائة واثني عشرة هجرية.
اللهم يا أرحم الراحمين، ويا أكرم المعطين، ويا كنف المستضعفين، ويا مؤمَّن الخائفين، نسألك رحمة منك لا تبقي بؤساً، وغنىً منك لا يبقي فقراً، ونصرة منك لا تبقي ذلة، وقوة منك لا تبقي ضعفاً.
اللهم تب علينا توبة نصوحاً، وافتح علينا من فتوحاتك فتوحاً، اللهم جنبنا الزلل فلا نسقط، وألزمنا السداد فلا نغلط، اللهم سلمنا من النكبات، واحفظنا من العثرات.
اللهم ثبت أقدامنا، وارفع أعلامنا، وسدد سهامنا.
اللهم إنَّا نسألك الروح والريحان، والأمن والإيمان، والرضا والرضوان.
اللهم من كادنا وكاد المسلمين فأرنا فيه العجائب، وزلزله بالمصائب، وامحقه بالنوائب.
اللهم إنا نسألك لين الكلمة، وحسن الفعال، وصدق المقال.
اللهم أذهب عنا الأهواء والأدواء، واللأواء والبأساء والضراء.
اللهم ألبسنا حلالاً، وأطعمنا طيباً، واجعل عملنا صالحاً متقبلاً.
اللهم ألف بين قلوبنا، ووحد بين شعوبنا، وأزل أسباب الفتن ووقود المحن.
اللهم اجعل راية الحق عالية، وراية الباطل واهية، يا أرحم الراحمين.
مواصلة لمصارع العشاق:
انتماء أهل السنة إلى حزب الله، والعبد وما ملك لسيده، إذا قلت ما اسم أهل السنة، فقل: هم الذين ليس لهم اسم إلا أهل السنة، شيخ أهل السنة محمد عليه الصلاة والسلام، وبيوتهم المساجد، وكتبهم القرآن ودواوين السنة ماذا يريدون؟
يريدون وجهه سُبحَانَهُ وَتَعَالى مواعيد الدروس عند أهل السنة بالغدو والآصال.
لهم علامات منها: حب الصحابة، فلا يلعنون الصحابة، ويلعنون من يلعن الصحابة، ولا يبغضون الصحابة، ويبغضون من يبغض الصحابة، ويترضون عنهم جميعاً، رضي الله عن الصحابة، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
ومن عقائدهم: عدم تكفير أهل الكبائر ما لم يستحلوها، وزيادة الإيمان ونقصانه، فالإيمان يزيد عندهم بالطاعة وينقص بالمعصية، والقدر عندهم خيره وشره من الله، والأعمال عندهم من الإيمان، والعبد له مشيئة تحت مشيئة الواحد الأحد: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30].
أهل السنة هم رواد الجنة:
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
ولا يستطيع الفاعلون فعالهم ولو حاولوا في النازلات وأجملوا(236/2)
مقتل عمر
طعن عمر فما قال: آه! خنجر أبي لؤلؤة مصنوع في الخارج، والمؤامرة محبوكة سقط في المحراب، وكفن بالثياب، وكسر الباب عمر عظيم لا يموت حتف أنفه، لا يموت إلا مذكى، حرمت عليكم الميتة: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:12].
يقول مالك بن الحداد المالكي: دفنت سعادة الإسلام في أكفان عمر.
وصدق! فإن الإسلام لا زال جريحاً بعد جرح عمر، فالله المستعان!(236/3)
حصانة حاطب في حضور بدر
حاطب بن أبي بلتعة عنده حصانة في حضور بدر، أراد عمر أن يؤدبه بقطع الرأس، فقال لسان الحال: على أي أساس؟ قال أبو حفص: لقد خان الله ورسوله.
فقال صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام: {وما يدريك يا عمر! لعل الله نظر إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} فسالت دموع عمر، واكتشف الخبر، فمهما حدث، إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
وفي دفتر الوحي: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].(236/4)
الحداثة والعلمانية
قيل: أيهما أقرب إلى الإسلام الحداثة أم العلمانية؟ قيل: كان للعبادي حماران، فقيل: أيهما أقبح وأخس؟ قال: هذا ثم هذا.
{تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة:80] لما تولى ستالين لعن لينين، فلما تولى خرتشوف لعن ستالين، فلما جاء جرباتشوف قطع الرباط وانتهى، كلما دخلت أمة لعنت أختها.(236/5)
الاستغناء عن البشر برب البشر
جوائز الملوك مكتوب عليها: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ} [النحل:96].
وجوائز الله مكتوب عليها: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] قل لعباد الدنيا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
وفي الأثر: دخل سالم بن عبد الله بن عمر المسجد الحرام وطاف مع الطائفين، حذاؤه بيده، لحيته تقطر ماء، عليه لباس وعمامة لا تساوي ثلاثة عشر درهماً، لكنه من أكبر أولياء الله، والولاية ليست باللباس أو الحذاء ولا بضخامة القصر أو بكثرة الكنبات والسيارات، طاف بين الحجاج كأي مسكين، فرآه الخليفة هشام بن عبد الملك، ومع الخليفة حرسه وضباطه وقواده وجيوشه، فالتفت إلى سالم، فلما رآه دنا وقبل رأسه وقال: ألك إلي حاجة؟ فاحمر وجه سالم غضباً، وقال: أفي بيت الله الواحد الأحد تقول هذا الكلام؟! أما تستحي؟! فتركه هشام، فلما انتهى تصدى له الخليفة خارج الحرم وقال: ألك حاجة؟ قال: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: لا.
من حوائج الدنيا.
قال: والله ما سألت حوائج الدنيا ممن يملكها فكيف أسألها منك!! فاختلع يده من يده.
فقدَّم سالم الجواب، وفحوى الخطاب، لأن جده عمر بن الخطاب.
يا بن الذين سما كسرى لجمعهم فجللوا وجهه قاراً بذي قار
يا دوحة الصدق والفاروق رائدها تلك السلالة لا أوباش ديار(236/6)
الربح في بيعة الرضوان
جلسوا تحت الشجرة، وتظللوا بالسمرة، وبايعوا على قتال الفجرة، فما قاموا حتى سمعوا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] فقل لي بربك: أي فرح فرحوه وأي ربح ربحوه؟ أسألك بالله تصور وتأمل وتدبر، لو كنت أنت من الجمع الذين جلسوا تحت الشجرة، وبايعت وقبل أن تقوم تسمع: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18].
رضاك رضاك يا مولاي عني فهل يرضيك أن قدمت نفسي
ذبحت الروح فيك وكل ذبح لغير هداك مقرون بنحس
أهل بيعة الرضوان ضيوف الرحمن، لكن الكافر ما علم بسر: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} [التوبة:111] {ومن صلى الفجر فهو في حماية الله وذمته، فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه أدركه، ومن أدركه كبه على وجهه في النار}.(236/7)
من علامات المنافقين وصفاتهم(236/8)
تأخير صلاة الفجر من علامات النفاق
من علامات المنافق: حذف صلاة الفجر من جدوله، قرأت مقابلة في صحيفة لأحد الناس، قالوا: متى تصلي الفجر؟ قال: أصليها الساعة الثامنة، وهو يزكي نفسه في المقابلة، ويظهر أنه متحمس ويحب الدين والصلاة، ويريد أن يقرأ الناس الصحيفة ليعلموا أنه يصلي الفجر لكن الساعة الثامنة، فهل يقبل الله صلاته في الثامنة؟! وهل يستحق هذا أن ينظر إليه؟! وهل يعلق عليه أمل؟!
أردنا منك صلاة الليل فتركت الصبح، حرصك على النوم الطويل أوقعك في الخطأ الوبيل!
فما أطال النوم عمراً وما قصر في الأعمار طول السهر
وما أحب الله من قلبه رهن بأيام الهوى والوتر
من لم ينر بالذكر ليل الدجى تجيش بالظلمة تلك الحفر
{بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة} وهذا من كلامه صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه.
[[قيل للحسن البصري: لماذا صفت وجوه المتهجدين بالنور؟
قال: خلوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره سبحانه]].
صلى أسيد بن حضير أحد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فدنا الحرس، وتحرك الفرس دنا الحرس من السماء -الملائكة- وتحرك فرسه، فأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: {تلك الملائكة تنزلت للقرآن، ولو بقيت تقرأ لأصبح يراها الناس لا تتوارى منهم} وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7].
نحن ندعي أننا أمة الخلافة، ولا يحضر لصلاة الفجر إلا صف واحد، إذن فلو بدأ قتال الكفار، لما وجدنا ولا صفاً.
من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح
هاتوا من المليار مليوناً صحاحاً من صحاح
وزع عليه الصلاة والسلام الغنائم، فأعطى مسلمة الفتح وترك أبطال الفتح، فجرى همس العتاب بالأصحاب، فخلى الأنصار بالمختار عليه الصلاة والسلام، فبين لهم سر المسألة وقال: {أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتعودون بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ فوالذي نفسي بيده لما تعودون به خير مما يعود به الناس} وصدق المعصوم عليه الصلاة والسلام، فإنه نصيب الأنصار من الغنائم، ونصيب أولئك البهائم:
خذوا الشياه والجمال والبقر فقد أخذنا عنكم خير البشر
يا قسمة ترفع رأس مجدنا حزنا اليواقيت وقد حازوا البعر
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:18 - 21] الأبرار يأتون إلى مسجده عليه الصلاة والسلام من بني سلمة، ويتخلف الظَلَمة عن صلاة العتمة، فقام منذراً وصاح محذراً: {والذي نفسي بيده! لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم بالنار}
أشعل بيوت الناكثين بأهلها واقلب وجوه السود صوب النار
يتخلفون عن الصلاة دناءة ألهاك يا سهران ضرب الطار
بلال يناديك من أعلى المنارة، وأنت نائم في العمارة، لو أطعت بلالاً لدخلت في مسمى الرجال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37] كان المنافقون يتخلفون عن صلاة العشاء والفجر، لأنه لم يكن في المدينة كهرباء في ذاك العصر، فلما أضاءت الكهرباء ظهر الوباء.
أشعل النمرود الفتيل، وسُعر النار في الأصيل ورمى فيها بالخليل، فأطفأها حسبنا الله ونعم الوكيل.
الأعداء سطروا لكم، فخذوا حذركم، إن الناس قد جمعوا لكم، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
أبرمت خيوط الفتنة، ونسجت حبال المحنة، ونقض عهد الهدنة، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
اتفق المنافقون، واجتمع المارقون، وقلَّ الصادقون، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
سألتك لا تكلني للأعادي فقد أسكنت حبك في فؤادي
فزودني من التوفيق زاداً عطاؤك يا إلهي خير زاد
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:36].(236/9)
الاستهزاء بالدين من صفات المنافقين
هاك بعض صفات المنافقين في الجملة، فاحذر أن تكون في الحملة:
كسل عن الصلوات، واستهزاء بالدين في الخلوات.
انقضاض على الأعراض، وسماع الآيات في إعراض.
الدين عندهم ثانوي، لأن الجد معنوي.
الله! كم من صرح للإسلام هدموه، وكم من طريق للهدي ردموه.
يظنون كل إشارة إليهم، ويحسبون كل صيحة عليهم.
كم زلزلهم الوحي وأنذرهم، هم العدو فاحذرهم، إن يقولوا تسمع لقولهم، لكن العلامات عليهم ومن حولهم.
سهامهم في نحور العلماء مسددة، كأنهم خشب مسندة.
رفعت مع الباطل أعلامهم وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم.
عثرت بـ عبد الله بن أبي بغلة التوفيق، فسقط في الطريق، ما طهرته صلاة الإمام، لأنه غارق في الإجرام، أراد المعصوم له مدداً فنزلت: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} [التوبة:84].
خاف عمر على نفسه من النفاق، قيل له: سبحان الله يا شيخ! أنت الفاروق باتفاق.
أصبحت منهم الدنيا كالجيفة، فتستروا لأنه مات حذيفة.
أنت مني وتدعي حمل حبي كل يوم تعطي اليمين الغموسا
وَلِّ عني عرفت فيك أموراً حربة في القفا ووجهاً عبوساً(236/10)
سقوط وتَفوُّق(236/11)
أسباب السقوط
سقطت الأندلس لما تولى السَّقط، ضعفت الملة وتداعى المنبر، وعزل القرآن عن الميدان، وطمست معالم الرسالة، وصار اللهو أمنية، ودوت الأغنية، وتنحى العلماء عن الدهماء، فلا آمر ولا مُنْكِر، ولا واعظ ولا مذكر، الخطيب مرتج، والسامعون يلعبون الشطرنج {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} [الكهف:59].
ابك مثل النساء مجداً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال
المرأة درة مصونة، وياقوتة مكنونة أرادوا أن تنزع الجلباب وتخلع الحجاب أرادوا لها حياة فوضوية، والله يقول: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الأحزاب:33].
يريد المصلحون لها منهجاً قويماً، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً.
يا فتاة الدين قومي للدعي ردي عليه
حين نادى يا بنة الإسلام خدرك مزقيه
يا خسيس الطبع نص كل نذل يدعيه
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59].(236/12)
لماذا تَفوَّق الصحابة
تفوق الصحابة على من بعدهم بأمور، منها أنهم يطالعون الغيب المستور، كما يرون الشاهد المنظور يروى عن علي رضي الله عنه قال: [[والذي نفسي بيده لو كشف الله لي الغطاء، فرأيت الجنة والنار، ما زاد على ما عندي من إيمان مثقال ذرة]] كان أحدهم يكلمه صلى الله عليه وسلم فكأن الواحد يمد يده ليقتطف أعناب الجنة بيده الكريمة.
ومنها: أنهم بدمائهم أجود منا بدراهمنا، ويكفي أن يصب الواحد منهم دمه في المعركة إذا سمع كلمة من المعلم عليه الصلاة والسلام.
ومنها: أن من عصى من أولئك يأتي إلى الموت نشيطاً ليطهر نفسه، ولو كان في ذلك ذهاب رأسه، فقل لي بربك: أي إقدام هو إقدام ماعز والمرأة التي زنت، في طلب التطهير من سيد البشرية عليه الصلاة والسلام؟
ومنها: أن علم الصحابة للعمل، وثقافتهم لما يحتاجون إليه، بينما أصبح العلم عندنا سرفاً، والفكر خيالاً، والثقافة موضة.
ومنها: أن الصحابة يعيشون على الكفاية، ومن زاد منهم ماله قدمه لمآله، والمتأخرون أصبح جمع المال عندهم مهنة، والسعي وراء الحطام حرفة، فاشتغلوا بفضول العيش عن أصول العمل.
ومنها: أن الصحابة قاموا بأعمال القلوب خير قيام من الخوف والرجاء والرغبة والرهبة والخشية والمحبة ونحوها، مع قيامهم بأعمال الجوارح، بينما الخلف يهتمون بالظاهر أكثر من الباطن، فلذلك وقع الخلل في الأعمال والأقوال؛ لأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.
اشكر لمن شرفك بصعود المنبر سبحانه، وعرف الناس به في كلماتك ولا تعرف الناس بنفسك؛ لأنه سبحانه أعرف المعارف وأنت نكرة من النكرات، ولولا أنك تعظمه ما عظمك الناس، وما دام أنه ستر معايبك عن الحضور، فانشر مدائحه سبحانه في الجمهور الله يستحق المدح ويحبه، ولذلك مدح نفسه بأشرف المدائح، ونزه نفسه عن القبائح سبحانه!
كلما بالغت في مدح المخلوق؛ قال الناس: هذا غير صدوق، وكلما أكثرت في مدح الخالق؛ قالت القلوب: حياك الله يا صادق.
إذا لم تصاحب الصحابة الأخيار فاقرأ الأخبار:
فاتني أن أرى الديار بطرفي فلعلي أرى الديار بسمعي
قراءة سير الصحابة حسنة من الحسنات، يظهر للقارئ في أخبارهم سمو حياتهم، وجلال قدرهم، يخلو ابن المبارك الزاهد العابد بنفسه، يُغلق عليه الباب، فقال له التابعون: اجلس معنا.
قال: أنتم تغتابون الناس، وأنا أجلس مع أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام.
ما في الخيام أخو وجد نطارحه حديث نجد ولا خل نجاريه
حضرت أبا بكر الصديق الوفاة، ليلقى بعدها ربَّاً طالما أحبه، ووحده، وتقرب إليه، وجاهد من أجله، ليلقى رباً طالما أحب فيه البعيد وأخر فيه القريب هاجر من أجله، وحارب من أجله ورضي برضاه وغضب لغضبه، رباً أعطى لوجهه النفس والنفيس والغالي والرخيص، سكب لمرضاته الدمع والدم، وأتعب لدينه الروح والبدن، رباً ملك حبه على أبي بكر كل لحظه ولفظه.
كأن رقيباً منك يرعى جوارحي وآخر يرعى مسمعي وجناني
رباً كان حبه في عروق أبي بكر وعرقه، من أخمصه إلى مفرقة.
رباً صلى له أبو بكر، وصام، وزكى، وحج.
رباً سهر له في الليالي وجاهد له في النهار.
رباً كان أبو بكر يرعى حقوقه دائماً وأبداً.
رباً وقف أبو بكر في الخلافة ليرضي ربه إلى آخر قطرة من دمه.
فسبحان الله! والله إنه صاحب كل خير، فاضت روح أبي بكر الصديق وكانت أمنيته أن يلقى الله.
ومن لقاء الله قد أحبا كان له الله أشد حبا
وعكسه الكاره فالله اسأل رحمته فضلاً ولا تتكل
فكانت الثروة بغلة، والتركة كفناً، والبقية ثوبين كفن بهما، وهو خليفة المسلمين ثنتان وعشرون دولة.
فماذا قدمنا نحن؟ وماذا فعلنا؟ ماذا بذلنا؟ ماذا حصلنا؟ أي جهد فعلناه؟ أي دمع سكبناه؟ أي دم أسلناه؟ أي مال قدمناه؟
لا شيء!!
ننام عن الفجر وقد قام الصديق الدجى، ولا نبكي في الخوف والصديق يبكي في الرجاء نحن نجر المطارف يوم مطارف أبي بكر تجر بسيوف الغزاة في بدر وأحد.(236/13)
الاتباع والامتثال
أيها المسلمون:
قليل في اتباع خير من كثير في ابتداع الفرائض الخمس مع ركعتي الضحى، والوتر قبل النوم، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ومداومة الذكر والكف عن الذنوب، هذا منهج الراشدين مع ما تيسر من كتاب رب العالمين.
السلف كلامهم قليل لكنه كله درر، والخلف كثر كلامهم وأسهب منطقهم، ولكن سقط وخزف ولا ثواب.(236/14)
الامتثال والطاعة
قال المعصوم عليه الصلاة والسلام للناس اجلسوا، فسمعه ابن رواحة وهو على الرصيف فجلس على الرصيف، وهذا من الأدب اللطيف والاتباع الشريف
عطاياه صلى الله عليه وسلم يتألف بها الأرواح وليست دليلاً -لمن أخذها- على الصلاح.
يقول صلى الله عليه وسلم: {إني لأعطي أقواماً وغيرهم أحب إلي منهم، خشية أن يكبهم الله على وجوههم في النار، وأدع آخرين لما جعل الله في قلوبهم من الخير والإيمان منهم عمرو بن تغلب، قال عمرو بن تغلب: كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها}.
[[قال ملك الروم لـ عبد الله بن حذافة، وقد رآه يبكي لما رأى قدور الكفرة تغلي بأسرى المسلمين، قال: أتبكي خوفاً من الموت؟ قال: لا والذي لا إله إلا هو، ولكن وددت أن لي بكل شعرة في جسمي نفساً تذوق العذاب في سبيل الله عز وجل]].
{سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]
هو الإقدام في سبل المعالي وطعن بالرماح وبالعوالي
فصبراً في مجال الموت حتى يكون الدين دين الله عالي
ختاماً: انتهت مصارع العشاق، وكان المقصود منها طرحاً جديداً في قالب أدبي أخاذ، فنحن أمة الإبداع وقرآننا سر البلاغة والإعجاز، وقصدت من هذا الفن إراحة النفوس من الرتابة، وإقالتها من النمط الواحد، فالنفس ملولة، والأذن مجاجة، وتنويع الطرح وتصريف الكلام أدعى للقبول، وكلما تعددت أساليب الحق فُهم، وكلما تنوعت قوالب الصدق عُلم، وتبارك القائل في كتابه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54] شكراً لمشاعركم النبيلة، وأخلاقكم الجميلة، ومبادئكم الأصيلة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(236/15)
الأسئلة(236/16)
أقرب الصحف اليومية للقراءة
السؤال
وردت أسئلة كثيرة من الإخوة طلبة العلم والشباب عن أقرب الصحف اليومية التي يمكن قراءتها؟
الجواب
إذا كان ولا بد من قراءة الجرائد فأرى أن جريدة الحياة هي الأقرب.(236/17)
الإذاعات التي يمكن الاستماع إليها
السؤال
أسئلة وردت عن الإذاعات التي يستمع إليها.
الجواب
إذا كان ولا بد فليسمع إلى إذاعة لندن، فهي أقل الإذاعات كذباً.(236/18)
المجلات التي يمكن قراءتها
السؤال
أسئلة وردت عن المجلات التي تقرأ.
الجواب
مجلة المجتمع، مجلة الدعوة، مجلة الإصلاح، مجلة الفرقان، مجلة البيان، مجلة الجهاد، مجلة البنيان المرصوص.(236/19)
ماذا نقدم للمصطافين
السؤال
ماذا نقدم للمصطافين؟
الجواب
على كل حال لعله -إن شاء الله- إذا كثر المصطافون يكون هناك محاضرة أو دورس مخصصة لهم فلا نتعجل.
لكن أحسن السائل إذ وضع هذا السؤال ونستطيع أن نقدم لهم الكثير، منها:
حسن الخلق، وكرم الاستقبال لهم، حتى نقدم صورة طيبة عنا وعن بلدنا، ومنها: الدعوة بالتي هي أحسن، ونحن -والحمد لله- لا نضايق الناس ولا نضربهم، والذي زعم أننا ضربنا أحداً، فليستغفر وليتب إلى ربه، فإنا سمعنا أن بعض الناس يقول: هؤلاء يضربون الناس، ونحن ما سمعنا بأحد فعل ذلك إلا إنسان رفع عنه القلم، فممنوع أن تضربوا أحداً، إنما البسمة والبشاشة، وسلوا من عاد من المصطافين إنما ينقلون التحيات والثناء العجيب والدعاء.
ومنها: الشريط الإسلامي، فكلما رأيتم محتاجاً لشريط تعطوه إياه أو كتيباً إسلامياً.
ومنها: الدعوة، أن تذهب بنفسك إلى أماكن الاصطياف وتدعو إلى سبيل الله، وتنفق من بضاعتك، كما فعل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تقل هذا بدعة، فإن هذا من السنة.(236/20)
نصيحة لمن يتركون السنة الراتبة
السؤال
لوحظ أن بعض الإخوة يتركون السنة الراتبة -عافاهم الله- فتراهم يصلون الفرض ويخرجون من المسجد.
الجواب
رجائي ألا تتركوا السنة الراتبة، لأنها خط الدفاع الثاني، بل قال بعضهم: خط الدفاع الأول هو الآداب، والثاني هو الثغرات، والثالث الفرائض، قال ابن المبارك فيما يروى عنه: من ترك الآداب عاقبه الله بترك السنن، ومن ترك السنن عاقبه الله بترك الفرائض، ومن ترك الفرائض ابتلاه الله بالكفر.
فرجائي من إخوتي أن يصلوا السنن الرواتب، وهي عشر عند أهل السنة والجماعة، لا تترك أبداً إلا في السفر، ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، عشر ركعات مع الوتر هذه طريق الجنة.
وإذا رأيت الرجل يترك السنن الرواتب ويتهاون بها؛ فاعلم أنه قد تمر عليه فترة، يترك بعض الصلوات، نعوذ بالله من الخذلان.
وبعض الأئمة من حرصه على اتباع السنة، لا يسنن في المسجد بل يذهب في بيته، فيراه العامة، أو الذين ليس عندهم فقه، فيظنون أن الله قد أنزل عليه وحياً بترك السنة الراتبة، فلا يصلون السنة الراتبة، وقد وجد أن بعضهم يترك السنة فيقال لهم: لماذا؟ قالوا: الإمام ما يسنن.
فرجائي من هؤلاء أن يسننوا في المسجد للمصلحة، ولو أن السنة صلاتها في البيت، ولكن المصلحة هنا أعظم، وكان الشافعي يتنفل في المسجد، فقيل له: لماذا؟ قال: ليراني العامة.
هم إذا رأونا خرجنا من المساجد ظنوا أنها ليست سنة.(236/21)
كلمة حول البث المباشر
السؤال
ماذا عن البث المباشر؟
الجواب
سيكون له حديث مستقل إن شاء الله قريباً، وذلك في محاضرة مستقلة بإذن الله تعالى وهي قريبة قريبة، وقد بدأ هذا اللاقط ينتشر، وأنا أحذركم منه، والرجاء التوقف عن شراء هذا لما يجلبه من آثار على البيت المسلم، وعلى الدين والناشئة ويكفينا ما عندنا، لكن هناك -إن شاء الله- بعض الأطروحات، وستكون هناك أشرطة في هذا كشريط البث المباشر، وكتاب البث المباشر، للدكتور ناصر العمر، ومحاضرة للدكتور محمد عبده يماني، في البث المباشر طيبة وفيها فائدة.
لكن أيها الإخوة: أنقذوا أنفسكم، وبيوتكم، وجيلكم، وأطفالكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].(236/22)
آخر أخبار الجهاد الأفغاني
السؤال
ما آخر أخبار الجهاد الأفغاني؟
الجواب
أنتم تسمعون الآن ماذا يقع، وما أصبح الأمر خفية، وأسأل الله أن ينصر الحق، والمد السني الآن هو مع برهان الدين رباني وحكمتيار، والشيخ سياف ويونس خالص.
أما ما يسمى صبغة الله مجددي، فحقيقة أنا أعرفه عن كثب، وقد جلست معه ساعتين، وقرأته وعرفته، وقرأت له بعض المقابلات، فجلست معه في واشنطن ساعتين كاملتين بعد العشاء، وطرحنا عليه بعض القضايا، وتبين لي أن الرجل على طريقة غلاة الصوفية، يعني الباطنية، وهو ليس على منهج أهل السنة، وهذه أقولها حقيقة حتى يعرف الجيل من هو، ونحن أمام فئات من الناس وألوف من المثقفين يريدون أن يعرفوا قضاياهم، والأشخاص، والأعلام، والأطروحات.
وهو يلمز في الخفاء عن الوهابية، ويسمينا نحن الوهابية، وينتقدنا ويلمزنا، وله ميل إلى الرافضة، والرجل لا يرجى منه خير.
وأسأل الله عز وجل أن يبدل المسلمين خيراً منه.(236/23)
كلمة مع إطلالة العام الجديد
السؤال
هل من كلمة لأمة الإسلام مع إطلالة هذا العام الهجري الجديد؟
الجواب
نعم بقي ثلاثة أيام أو أربعة وينصرم هذا العام، فنسأل الله أن ينهيه بذنب مغفور، وبعيب مستور، وبتجارة لن تبور، وأن يقبلنا فيمن قبل وفيه مسائل:
أولاً: لم تقدم الأمة للعالم الإسلامي شيئاً، لا دعوة ولا علماً فيما نرى، ولا اكتشافاً، ولا صناعة أو اختراعاً ولم تقدم لهم جديداً، فهي تستورد ولا تورد.
الأمر الثاني: قدمت دماءها، في البوسنة والهرسك والجزائر وتونس وأفغانستان، وفي بورما والفلبين، فأسأل الله أن يحسب لنا وللمسلمين أجر هذه الدماء، فقد أصبحت دماء المسلمين رخيصة ودماء الكفار غالية.
الثالث: علينا أن نراجع حسابنا من أخطائنا التي مرت بنا في العام المنصرم، أن نرجع إلى صحفنا في كلماتنا وأعمالنا وتصرفاتنا العامة والخاصة، في لقاءاتنا وإجراءاتنا، هل أصبنا أم أخطأنا؛ لأن الحياة تجارب، فالواجب أن نستقبل هذا العام بنشاط وتوبة نصوح عسى أن الله عز وجل أن يتوب علينا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
وأقول للطلبة الذين يمتحنون الآن: تذكروا الامتحان الأكبر بين يدي علام الغيوب، فإن هذا الامتحان بعده دور ثانٍ، ومن رسب فما قامت الدنيا وما قعدت، الأمر سهل، وله مخرج ومنفذ وله عمل وطريق، لكن من رسب هناك فنار تلظى، نعوذ بالله من النار، فليتذكر العبد وليعد للسؤال جواباً.(236/24)
حكم كشف الفخذ
السؤال
في محاضرة ألقيت أمام جمع من الشباب تحدث المحاضر عن حرمة كشف الفخذ عند ممارسة الألعاب الرياضية، فما كان من أحد طلبة العلم إلا أن عقب بعد المحاضرة أن كشف الفخذ لا شيء فيه، وأن الفخذ ليست بعورة، وأنكر حديث: {عورة الرجل من السرة إلى الركبة} وقال: إنه ليس بحديث فماذا تقولون؟
الجواب
أولاً: أشكر للمحاضر الذي قدم المحاضرة، وأسأل الله أن ينفع بجهوده، وأشكر الأخ المعقب فإنه دليل على أنه طالب علم، وأنه يستطيع أن يأخذ ويعطي في المسائل، ويقدم ويتكلم، والذي يتكلم بخير مهما كان؛ أفضل ممن يتكلم بالباطل، أو ممن يسكت عن الحق.
الأمر الثاني: الصحيح أن الفخذ عورة، والدليل حديث جرهد: {يا جرهد! غطِّ فخذك فإن الفخذ عورة} رواه أبو داود وأحمد بسند صحيح، وصحح هذا الحديث أئمة كـ الألباني وغيره من المتقدمين.
بل ذكر البخاري في الصحيح قال: حديث أنس، أسند، وحديث جرهد أحوط.
والمقصود أن حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكشفت فخذه، وهو سائر إلى خيبر، قال عنه البخاري هذا أصح، لكن حديث جرهد أحوط، وعلى المسلم على الأقل أن يحتاط، والصحيح أن حديث جرهد أحوط.
الأمر الثاني: أن قول الأخ أن حديث: {عورة الرجل من السرة إلى الركبة} ليست بحديث خطأ بل هو حديث، رواه أنس، وهو في مستدرك الحاكم بسند صحيح وصححه الألباني وغيره من العلماء، ولحديث جرهد شواهد كثيرة أوصلها بعضهم إلى خمسة شواهد.
الأمر الثالث: أنه إذا أتانا القول والفعل قدمنا القول، وهي قاعدة أصولية ذكرها بعض أهل العلم عند هذا الحديث وغيره، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {يا جرهد! غطِّ فخذك فإن الفخذ عورة} وانكشفت فخذه هو يوم دخل عليه عثمان فغطى فخذه، ويوم ذهب إلى خيبر، وقال الشوكاني: إذا أتى قول وفعل قدمنا القول على الفعل؛ لأن القول عام للأمة والفعل خاص به صلى الله عليه وسلم.
وهذا جواب سديد.
الأمر الرابع: أنه أفتى كثير من أهل العلم كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وغيره بأن الفخذ عورة، فرجائي من الأخ أن يراجع هذا، وبإمكانه أن يجلس معي أو مع أي طالب علم، فعلى الرحب والسعة.(236/25)
برنامج مقترح في الأعراس
السؤال
كثرت الأعراس الإسلامية -والحمد لله- في العطل الصيفية، لكن ما هو البرنامج المقترح الذي سمعنا أنه عندكم، ليكون بديلاً عن الأغاني الماجنة والغيبة والنميمة والتهتك في الأعراض؟
الجواب
سبق أن قدمت أنا وفضيلة الشيخ سعيد بن مسفر برنامجاً من عشر فقرات، يصلح أن يقدمه طلبة المتوسط أو الثانوي في أي زواج.
وهو: آيات من القرآن، وأحاديث نبوية مختارة، وقصيدة شعرية، (واخترت لك) ومقطع فكاهي، وقصيدة نبطية هادفة، ولعبة رياضية، ثم مجلة النادي، وترجمة لصحابي أو لعلم، ونحو هذه الفقرات، فمن أراد هذه وجدها أو يستلمها مني الآن، والرجاء أن تكون الزواجات إسلامية، لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يبارك فيها، وإذا بُني الأساس على خير بارك فيه: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].(236/26)
ضرورة التوكل
السؤال
أنا أحس بقلق على مستقبل تجارتي ورزقي، فما نصائحكم؟
الجواب
كثير من الناس يخاف على رزقه وعلى مستقبل تجارته، فأقول له مسائل:
المسألة الأولى: أنت كنت في بطن أمك لا ترى ولا تبصر، أعمى أصم أبكم أخرس ورزقك الواحد الأحد، هيأ لك لبناً وتكفل برزقك وأنت لا تبصر، فبعد أن أبصرت وسمعت ومشيت تخاف!
المسألة الثانية: ضمان من الواحد الأحد، يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] فاعلم أن الذي رزق الحوت في البحر، والذي رزق الدودة في الطين، والذي رزق العصفور في وكره، قادر على أن يرزقك يقول ابن الجوزي رأى أحدهم عصفوراً يذهب إلى رأس نخلة، فتلفت إليه فوجد حية عمياء هناك، فكان العصفور يأتيها بخبز ولحم، فإذا اقترب منها وصوص وصفر لها ففتحت فمها وأخذت رزقها.
فمن الذي سخر لها العصفور؟ ذلكم هو الله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم:40].
المسألة الثالثة: الإنسان لا يموت إلا بأجل، وبعض الناس يظن أنه سيموت جوعاً، وقد يكتب الله عليه أن يموت جوعاً، لكنه لا يأخذ إلا ما قدر الله له ما قضاه سبحانه، فلا يتنكد على القضاء والقدر.(236/27)
دعوة لمساعدة مكتب الجاليات
السؤال
مركز دعوة الجاليات بحاجة إلى مد يد العون، من أشرطة إسلامية وكتيبات مسجلة بلغاتهم واهتمام من الدعاة، أرجو أن تنبه على ذلك؟
الجواب
على كل حال من كان منكم له قدرة من الإخوة الذين يجيدون اللغة الإنجليزية فليتفضل إلى مكتب الجاليات، أو يدعو بنفسه هذه الجاليات الذين قدموا من البلاد، ويهدي لهم الأشرطة، ويحاول أن يتمثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.(236/28)
أسئلة عبد الله بن سلام للرسول عليه الصلاة والسلام
السؤال
ما هي الأسئلة التي سألها عبد الله بن سلام الرسول عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
سأله أسئلة منها:
ما أول ما يأكل أهل الجنة؟ -أول ما يأكل أهل الجنة إذا دخلوا الجنة- وأول علامات الساعة، ولماذا يشبه المولود أباه أو أمه؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم وقال: {أول ما يأكل أهل الجنة زيادة كبد الحوت، وأول علامات الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما لماذا يشبه المولود أباه أو أمه؟ فلأن ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فإذا علا ماء الرجل أشبه المولود أباه، وإذا علا ماء المرأة أشبه المولود أمه} فهذا كلامه صلى الله عليه وسلم، فشهد له بالصدق.(236/29)
التوبة إلى الله
السؤال
أنا تائب إلى الله من هذه الليلة وحضرت لأول مرة فماذا تقولون؟
الجواب
نقول لك: حياك الله وبياك وأهلاً وسهلاً، وهنيئاً لك هذه التوبة، وهذا أحسن يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، فهنئ نفسك بذلك، وأسأل الله أن يثبت قلبك، وقلوب الحاضرين والسامعين والمسلمين أجمعين، وأن ينزل عليك السكينة، وأن يهديك سواء السبيل.(236/30)
عدم الخشوع في الصلاة
السؤال
أعاني من عدم الخشوع في الصلاة.
الجواب
مر هذا كثيراً، وهناك بعض الأشرطة تعالج هذا الموضوع، وأنا أحيلك إلى رسالة ابن رجب اسمها: الخشوع في الصلاة.(236/31)
حكم العادة السرية
السؤال
ماذا عن العادة السرية؟
الجواب
العادة السرية محرمة عند أهل العلم، وهي مسألة سيئة وقع فيها كثير من الناس، وقد أفتى شيخ الإسلام أنها محرمة والواجب اجتنابها، وفيها من الأضرار العلمية والدينية والبدنية وإخلال بالذاكرة ما الله به عليم، فالواجب اجتنابها والتوبة منها.(236/32)
ضعف حديث: (أكثروا من ذكر عمر بن الخطاب)
السؤال
أكثروا من ذكر عمر بن الخطاب، فإنكم إذا ذكرتموه ذكرتم العدل.
هل هذا حديث؟
الجواب
هذا ليس بحديث صحيح، ولا أعلم أنه أثر لأحد الصحابة، ولكن ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: [[إذا ذكر الصالحون فحي هلاً بـ عمر رضي الله عنه وأرضاه]].(236/33)
نصيحة للطلاب المتقدمين للامتحان
السؤال
هناك شباب تركوا الامتحان وحضروا الدرس، فهل لك أن تدعو لهم بالتوفيق؟
الجواب
نعم وزيادة، عسى الله أن يفتح عليهم، وأن يمنحهم النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، وأن يثبت كلامهم، وأن يسدد أقلامهم، وأن يعصمهم من الغش، وأن يرزقهم الثبات، وأن يوفقنا وإياهم إلى كل خير؛ لأنه -أحياناً- بعض الناس رادارات تلقط يميناً ويساراً، وأهل السنة يرون تحريم لقط رادار المسلم من أخيه يوم الامتحان، وعدم الالتفات إليه، فإن هذا من أسباب بخس العلم وقلة البركة، والتقوى في ذلك أن يحاسب الإنسان نفسه، وأن يتقي الله تعالى، ولو كتب قليلاً، ورسب لكان أحسن له من أن يغش وينجح، لأن شيئاً أسس على فساد لا خير فيه.
وأنا أخبر الإخوة الشباب بأمور:
الأمر الأول: رجائي من الإخوة الطلاب ألا يسهروا الليل، لأني رأيت بعض الشباب يسهرون إلى الفجر ويواصلون إلى فترة الامتحان، وهذا مرهق للذهن وللبدن، ولعله يعود عليهم بالكسل في الامتحان، فالأحسن أن يناموا مبكراً ويستغلوا أوقات الجد، فإنهم لو استغلوا الأوقات الحية لنجحوا بإذن الله، مثل صلاة العصر أرى بعضهم يتمشى مع زميله، فإذا جاء بعد صلاة العشاء سهر معه.
الأمر الثاني: أن بعضهم يجتمع مع بعض في المسجد، ويأخذون ثلاجة شاي وثلاجة قهوة ويتحدثون، ثلاث كلمات من خارج الدروس وكلمة من المنهج، حتى يأتي الفجر.
الأمر الثالث: بعضهم -سبحان الله- عنده فطنة وذكاء، يجلس حتى وقت الأذان في المسجد ليذاكر، فإذا قرب الأذان أخذ كتبه وخرج، وكأن وراءه شيء، يا أخي! هذه هي نتيجة الدراسة، وهذه هي الثمرة والمكسب.
الأمر الرابع: أن بعضهم يلح على الله عز وجل في أيام الامتحان، ويقرب منه، ويقول: أعاهدك يارب وأعطيك عهداً في الذمة، أني إذا نجحت أن أصلي الصلوات الخمس في جماعة، ولا أسمع الغناء، ولا أنظر إلى الفيديوهات، لكن أرجوك أن تنجحني هذه المرة، فإذا نجح ترك المسجد، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65].
الأمر الخامس: لا تتسخط، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان} فمثلاً: لو رسب الطالب بعد ما جد واجتهد فليقل: قدر الله وما شاء فعل، ولا يتسخط، وبعضهم يقرأ النتيجة ثم يسخط على الله، أعوذ بالله! يقول: ينجح فلان وأنا لا، وأنا صليت! ويتمنن على الله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} [الحجرات:17] فلا تمنوا بصلاتكم، ولا بصيامكم، ولا قيامكم، فالمنة لله وحده.
الأمر السادس: كثرة الاستغفار قبل الامتحان، فإذا جلست قبل الامتحان فعليك بكثرة الاستغفار، ورجائي من الأساتذة، وأن يقربوا أسلوب الأسئلة، ولا أقول: يسهلونها فهم أبصر، لكن يقربونها بأسلوب جميل، ويستفتحوا باسم الله، فإن رسول الله يقول: {إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته} فما دام أنها مسألة فليحد الشفرة، أي: حد السؤال، واطرح الطالب على جنبه الأيمن مستقبلاً القبلة وليس على جنبه الأيسر.(236/34)
حكم تربية الطيور الصغيرة للزينة
السؤال
ما حكم تربية الطيور الصغيرة والجميلة، مثل الببغاوات والعصافير، وتقديم الطعام لها من أجل الزينة ومن أجل صوتها؟
الجواب
لا أرى في ذلك بأساً، لكن إذا أشغلت الإنسان عن الذكر والصلاة والقرآن حرمت، أما إذا كانت في غير ذلك فله ذلك، فإن في صحيح البخاري أن الرسول عليه الصلاة والسلام دخل على أبي عمير وهو أخو أنس، ومعه طائر يلعب به فمات، فقال له صلى الله عليه وسلم: {يا أبا عمير ما فعل النغير} وكان يلعب فيه كما في الحديث، فدل على أن اتخاذها بغير انشغال بها عن الصلوات والذكر لا بأس به، أما إذا اشغلت فلا.
لأن بعض الناس أدنى شيء يعطله عن الصلاة، بل أحياناً يتعطل بأمر ليس فيه حاجة، وبعضهم تجده وأنت ذاهب إلى المسجد يتحدث مع زميله وتخرج من المسجد وهو لم يصل، فتقول: يا أخي! فيقول: كنت مشغولاً مع فلان، وكنت أتحدث معه، وهذا لأن القلب بارد ولأنه لم يأخذ الكتاب بقوة.(236/35)
حكم لبس ثياب النوم والثياب الشفافة للصلاة
السؤال
هناك من يصلي بثياب النوم وهناك من يصلي بثياب شفافة فما الحكم؟
الجواب
نعم.
نجد في صلاة الفجر من يأتينا بثياب النوم، وهو لو قابل أناساً من البشر، لقابلهم بثياب جميلة، فالبعض يتجمل للبشر أكثر مما يتجمل لرب البشر، والله يقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] فرجائي من الإخوة أن يلبسوا ثيابهم وأن يتطيبوا ويستاكوا عندما يأتون لصلاة الفجر.
أما أن يأتي أحدهم مكشوف الرأس ليس على رأسه عمامة ولا طاقية، ويصلي في طرف الصف، نصف الصلاة وهو نعسان ونصفها يتمطط، وهذا نقص في الصلاة -صراحة- وهذه لا تقبل من العباد.
فلو دعاك أحد الناس من الوجهاء، فقابلته في ثوب نوم مكشوف الرأس، لقالوا: هذا لا يستحي.
فالله أولى بالتجمل، وهو سبحانه جميل يحب الجمال، فأرجو الانتباه لذلك، فالثياب الشفافة إذا كشفت العورة يحرم الصلاة فيها، فالواجب الاستتار بما ستر الله عز وجل.
وبعض الثياب -حتى ثياب الرجال- شفافة وتبدي السراويل القصيرة، فمن الأحسن أن يرتدي ثوباً ساتراً سميكاً أو يلبس سروالاً طويلاً، والسراويل الطويلة أجمل وأحسن.(236/36)
حكم سب الدهر في الشعر
السؤال
الكثير من الشعر وحتى شعر السلف فيه ذكر الدهر بشيء من اللوم، فما حكم ذلك؟
الجواب
الدهر لا ينفع ولا يضر، ولا يشفي ولا يميت، ولا يسب الدهر، فإن الدهر هو الله، يقلب الليل والنهار كيف يشاء، وهناك فرقة الدهرية، وهي فرقة منحرفة، تنسب كل شيء إلى الدهر، وقد لام الناس القائل الذي يقول:
لحا الله هذا الدهر إني رأيته بصيراً بما ساء ابن آدم مولعا
وهذا كذب، ويقول المتنبي في أبيات له:
قبحاً لوجهك يا زمان
.
فالزمان لا يضر ولا ينفع ولا يقدم شيئاً، وهناك أبيات كثيرة يشتكون فيها من الليالي والأيام، فالمفرِّق والمغيِّر والمبدل هو الله، فسبحان الذي يبدل ولا يتبدل ويغير ولا يتغير!(236/37)
نصيحة حول الخروج مع جماعة التبليغ
السؤال
هل ترى أن أخرج مع جماعة التبليغ للدعوة في سبيل الله؟
الجواب
على كل حال قد تحدثت في محاضرات عن جماعة التبليغ، وقلت: فيهم خير كثير، فتحدثت عن تحملهم ولينهم وقد بلغوا أماكن ما بلغها غيرهم من الدعاة، وهدى الله على أيديهم أناساً لولا الله ثم هؤلاء ما هُدي أولئك، لكن الملاحظ أمور منها:
أن بعض البدع موجودة، لكنها في بعض الناس الذين هم في المناطق النائية، وهي قلة العلم الشرعي، وقد قلت هذا جهاراً وسراً مع بعضهم، ورأيي أن طالب العلم الواثق من نفسه وعقيدته وعلمه أن يخرج معهم، ويستفيد من حلمهم ورقتهم وتواضعهم عسى الله أن ينفع بهم، ورأيي أن عليهم أن يهتموا بالعلوم الشرعية، وأن يكون لهم كتاب في الأحكام، فعندهم كتاب رياض الصالحين، وكتاب حياة الصحابة للكاندهلوي فرأيي أن يدخلوا معهم بلوغ المرام والمنتقى للمجد ابن تيمية وكتب الأحكام، إلى غير ذلك، ورأيي أن يدرسوا كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتاب معارج القبول للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي رحمهم الله جميعاً.(236/38)
نصيحة لشاب قانط من التوبة
السؤال
أنا شاب ارتكبت من المعاصي الكبيرة ما لا يعلمها إلا الله، فهل لي من توبة، وأنا أظن أن ليس لي توبة؟
الجواب
أعوذ بالله وأستغفره.
أولاً: أسأل الله أن يمن عليك بالتوبة، وأبشر بالتوبة ولا تقل هذا الكلام ولا تعتقده، فإنه سوء ظن بالله، وأنا أقدم لك كلام المصطفى وليس بكلامي، يقول صلى الله عليه وسلم فيما يروي عنه أحمد والترمذي: {قال الله عز وجل: يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة}.
أتيناك بالفقر يا ذا الغنى وأنت الذي لم تزل محسناً
لقد عاد بالخير من خيركم وفي الخير بالخير عودتنا
فما أحد في الغنى مثلكم وفي الفقر لا أحد مثلنا
فأسأل الله أن يتوب علينا وعليك، وأن يتولانا وإياك فيمن تولى.(236/39)
كلمة حول خصال الفطرة
السؤال
أرجو أن تهتم بخصال الفطرة وتخبر الناس بها من تقليم الأظافر وغير ذلك؟
الجواب
الأخ يقصد أن تقام دروس لنعرف الناس بها، ولعله أن يكون في ذلك دروس بإذن الله، وهي عشر خصال: كقص الشارب، وإعفاء اللحية، وتقليم الأظافر، والسواك، والاستنجاء، وحلق العانة والإبطين وغيرها، وسوف يكون لها كلام إن شاء الله.
وعلى كل حال أشكر هذا الأخ الكريم، وخصال الفطرة تدل على قرب العبد من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهي علامة كمال الظاهر، قال ابن عباس: [[هي الخصال التي ابتلى الله بها إبراهيم عليه السلام]] ووالله إن العبد يفرح إذا رأى رجلاً عليه خصال الفطرة، فقد كان الإمام أحمد لا يقوم للخلفاء، ولا للملوك، ولا للوزراء، ولا للأغنياء، لكن عندما رأى شيخاً كبيراً مسنا ًعجوزاً صبغ لحيته، وخضبها بالحناء -لأن الصبغ بالسواد منهي عنه- فقام الإمام أحمد يعانقه، وأحبه وأكرمه وقال: إني أرى الرجل يقيم شيئاً من السنة فيحبه قلبي.
ولذلك انظر الآن لبعض الشباب الذين هداهم الله عز وجل، تجد بعضهم في العشرين أو الخامسة والعشرين هداهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فتجد خصال الفطرة عليهم إعفاء اللحية قص الشارب الطيب السواك لماذا؟ بسبب اتباع المعلم صاحب المنهج والشرع، النبي الجليل المعصوم عليه الصلاة والسلام، وأبشره -إن شاء الله- أن ينجو بنجاة ذاك، ولله الحمد.
وأزف لكم بشرى طالما اعتملت في صدري، وصدري منبلج وصدور إخواني المسلمين، وهي: إقبال هؤلاء الشباب على الله عز وجل ولله الحمد، قبل سبع أو ثمان سنوات كانوا يذكرون في المجالس أن في الحي الفلاني أو الحارة الفلانيه شاباً مهتدياً أطلق لحيته، والآن أجلس يوم الجمعة هنا قبل أن أقوم إلى الخطبة والمؤذن يؤذن، فأنظر إلى الصفوف وإذا كل الناس قد أطلقوا لحاهم وقصوا شواربهم، وأصبحوا من أهل السنة، فلله الحمد والمنة.
وبعض الناس يقولون: إن هؤلاء يتسترون بالدين! كيف يتسترون بالدين ونحن نعلم أن أكثر ما يعذب في العالم هم المتدينون، وأكثر من ينال من أعراضهم هم المتدينون، وأكثر من يسب هم المتدينون، وأكثر من يسجن هم المتدينون، وأكثر من يقتل هم المتدينون؟! فهل أتى هؤلاء إلى مكمن الخوف ليستتروا؟! لا
ومن كان ضعيف البصيرة والبصر والإيمان فهو يبتعد عن الدين حتى يحلق لحيته ويطول ثوبه، حتى قلنا لبعضهم فقال: والله إني أخاف من علامات الاستفهام.
سبحان الله! علامات الاستفهام أن يقولوا إنك تتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، أو إنك متطرف هل تعلمون إنساناً أكمل، وأجل، وأفضل، وأبجل، وأعظم، وأرحم من محمد صلى الله عليه وسلم؟
ليس هناك خير إلا باتباعه، وإن لم تتبعه فهو الخزي والعار والدمار في الدنيا والآخرة، وأنت إما أن تتبعه وإما أن تتبع الشرق والغرب فلا يا أخي! هذا شرف لك، واحمد الله على ذلك، وإذا أوذيت في سبيل الله فمحمد صلى الله عليه وسلم أوذي وعودي، إبراهيم، وموسى، وعيسى، والعلماء، والصالحون، وما زادهم إلا إيمانا ًوتسليماً وصبرا ًوجلداً، فاصبر على ذلك ولو استهزأ بك المستهزئون، فإن الله تعالى يعوضك أن تضحك في الجنة وتسخر من أولئك وهم في النار والعياذ بالله.
على كل حال هذه خواطر، والدرس المقبل -إن شاء الله- سوف يكون عن موضوعات عصرية وأطروحات جديدة، عسى الله أن ينفع بها، وأسأل الله لي ولكم السداد والهداية والرشد والتوفيق.(236/40)
كتاب الأسبوع
السؤال
ما هو كتاب هذا الأسبوع؟
الجواب
أنا صراحة ما أعددت كتاباً في ذهني في هذا الأسبوع، لكن بالإمكان أن نشير إلى كتاب ينفع، هناك كتاب صغير أهدي لكم عنوانه، وهو كتاب: فضل علم السلف على علم الخلف، لـ ابن رجب الحنبلي.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(236/41)
الشباب وأدب الاختلاف
الاختلاف سنة من سنن الله في هذا الكون، وهذا الخلاف يختلف باختلاف الأشخاص، ولكن أي خلاف له آداب، وله أسباب، فيا ترى ما هي هذه الأسباب؟! وما هي هذه الآداب التي تفتقر إليها الجماعات والأفراد اليوم؟
وهل الأئمة الأربعة كانوا يتعصبون لأقوالهم ولآرائهم؟
للإجابة عن هذه الأسئلة ستجدها في هذا الدرس.(237/1)
أسباب الاختلاف
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عنوان هذا الدرس: الشباب وأدب الاختلاف:-
الشباب وأدب الاختلاف هو مجال هذا البحث في هذه الليلة، وسوف يكون بإذن المولى سُبحَانَهُ وَتَعَالى دروس تخص الشباب؛ كدرس الشباب والهمة العالية، الشباب والتأثير، الشباب والعزلة، الشباب والعلماء، نتكلم عن حديث من أحاديثه عليه الصلاة والسلام، فمنها: سنة الله في الاختلاف سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ومنها أسباب الاختلاف: البغي، الحسد، الكبر، التعصب للأشخاص والمناهج، ضيق الأفق، فساد التصور وضعفه، إلزام مالا يلزم، غلبة العاطفة على العقل، حب الخلاف لذاته، عدم التثبت من الأقوال والأفعال.
أما أدب الاختلاف فمنها:
1/ سماع الحجة والرأي الآخر.
2/ إيراد الدليل.
3/ الهدوء في الرد.
4/ ذكر جوانب الاتفاق قبل الاختلاف.
5/ التواضع في الرد.
6/ تحديد الخلاف.
7/ التحاكم إلى أصحاب الأهلية في الحكم.
8/ الرد إلى الله ورسوله في المسائل الشرعية.
9/ تجنب النيل من الأشخاص والتشفي بهم.
10/ ترك الإزعاج ورفع الصوت والتهويل.
11/ معرفة أنواع الاختلاف أهو تضاد أم تنوع؟
12/ عذر المخالفين في أمور الشريعة.
13/ قصد الحق وطلبه.
14/ الإنصاف مع العدو ومع القريب.
15/ ثم بعض القضايا حول هذا المنهج والله الموقف إلى سواء السبيل.
اعلموا -حفظكم الله- أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يقول: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119] قال بعض العلماء: وللاختلاف خلقهم، وبعضهم ألف في ذلك كتاباً يرى أن من سر خلق الخليقة الخلاف والذي يظهر أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى خلق الخلق للعبادة -وهو الصحيح- فإن الله يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فخلقهم للعبادة لا للاختلاف، لكن من سننه سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الكون، أنه ميَّز بين الأطعمة والأمزجة والألوان والمطعومات والمشروبات والأفكار، فجعل الحلو والحامض، والظلمة والنور، والليل والنهار، وجعل الحار والبارد {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد:4] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الأيام: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] وجعل سُبحَانَهُ وَتَعَالى من آياته التي تثبت تدبيره للكون سُبحَانَهُ وَتَعَالى وبديع صنعه، اختلاف الألسنة والألوان، فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى خالف بين ألسنة الناس ونطقهم وألوانهم، فتبارك الله أحسن الخالقين، فسبحان الذي يغير ولا يتغير.
إذاً فلابد أن يقع الاختلاف في الكون، ولا بد أن يقع في المجتمع الصغير، بدأ من الأسرة ثم القرية ثم المدينة ثم الشعب ثم الأمة ثم المعمورة، فلا بد أن يقف الإنسان أمام سنة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الاختلاف.
ما هو موقف الشاب المسلم المقبل على الله عز وجل لأننا في مرحلة كثر فيها المتجهون إلى الله، وكثر الجيل الذي عرف طريقه إلى القبلة، وعرف اتجاهه والحمد لله.
كل البرايا على أصنامها عكفت وقومنا عند باب الله قد عكفوا
في كفك الشهم من حبل الهدى طرف على الصراط وفي أرواحنا طرف
فقائدنا هو محمد عليه الصلاة والسلام، وبيتنا المسجد، ومطلبنا الجنة، وطريقنا الصراط المستقيم، ودستورنا وحي من السماء، وشيوخنا: أبو بكر وعمر وشاعرنا حسان، ومفتينا معاذ.
ماذا تريدون؟!
يريدون وجهه: {دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء، وترعى الشجر حتى يلقاها ربها} وهذه هي أمانة الجيل وهم في مرحلة يريدون فيها تنظير بعض المسائل؛ ليتجهوا إلى الله عز وجل وإلا فالعودة إلى الله فرضت نفسها على مستوى العالم، فكان لهذه القضية أهمية أوجبت على الدعاة أن يتكلموا عنها عن مسألة الاختلاف؛ لأنه يكثر التشاجر والردود والغضب والانفعالات التي إذا أعدتها إلى أصولها لا تجد لها مبرراً.(237/2)
البغي سبب للخلاف
ما هي أسباب الاختلاف بين الناس؟ البغي والعدوان، البغي بغير علم ولا هدى، تجد بعض الناس يُحب أن يبغي على الآخر وفي طبيعته العدوان، فهو مركب في نفسه كالسم في العقرب إذا لم تنفثه ماتت، وبعض الحيات فيها سم إن لم تلدغ في السنة مرة ماتت، فتجد بعض الناس كهذه الفصيلة يريد أن يظلم على حد قول زهير بن أبي سلمى:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
وأوله صحيح وآخره خطأ.
وقال المتنبي:
ومن عرف الأيام معرفتي بها وبالناس روى رمحه غير ظالم
يقول من يعرف الناس مثلي روى رمحه من دمائهم، وهذا ظلم وخطأ.
ويقول الشاعر الجاهلي -أيضاً- في الظلم والطغيان بحق أو بغير حق:
وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا
يقول نهاجم الأعداء فإذا انتهى الأعداء هاجمنا جيراننا فلا بد أن نهاجم؛ فإنك تجد بعض الناس إذا لم يجد حرباً مع العدو رجع على جيرانه.
وتجد بعض الناس لا يرتاح إلا أن يجلس معك في المجلس؛ فإذا سمع رأيك خالفك وإن كان يوافقك في سره لكن يحب الخلاف، يرى الأمر يجوز لكن إذا سمعك تقول: يجوز، يقول: لا يجوز، ولذلك جعلوا من آداب الصحبة ألا تخالف، وبعض الناس (مرفوس) في رأسه الخلاف، تسافر معه، فتقول له: ما رأيك، نجلس تحت هذه الشجرة؟ قال: لا؛ تحت هذه الشجرة، ما رأيك نجمع العصر مع الظهر؟ قال: لا نجمع الظهر مع العصر، ما رأيكم حفظكم الله نظل يوم الثلاثاء بالعمرة ويوم الأربعاء؟ قال: ما رأيك أنت، فتقول: يوم الثلاثاء، يقول: لا يوم الأربعاء، فيقول: ابن المبارك:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا حياء وعفاف وكرم
قوله للشيء لا إن قلت لا وإذا قلت نعم قال نعم
وهذا من أبيات التربية الرائعة البديعة اسمع إليه:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا حياء وعفاف وكرم
قوله للشيء: لا إن قلت: لا وإذاً قلت نعم قال نعم
وفي بيتين آخرين:
إذا صاحبت قوماً أهل ود فكن لهم كذي الرحم الشفيق
ولا تأخذ بزلة كل قوم فتبقى في الزمان بلا رفيق
فالمخالف دائماً يكون مبغوضاً، الذي يحب الخلاف مغضوب عليه، والذي يحب أن يخالف بحق له مكانته ورأيه، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] اليهود يشهدون أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول فلما جاءهم بالعمل كفروا والنصارى كذلك بغياً وعدواناً.(237/3)
الحسد سبب للخلاف
ومنها: الحسد؛ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ} [البقرة:109] ما خلى جسد من حسد، والحسد يسري في أهل المهن والمتقاربون في السن والزملاء، والأقران فتجد أحدهم يخالف زميله لا لشيء إلا لأنه زميله فقط؛ يقول: الشيخ تجده يخالف الشيخ، والطالب يخالف الطالب، والمهندس يخالف المهندس، والطبيب يخالف الطبيب، والشاعر يخالف الشاعر، يقول الشاعر:
ولكل شيء آفة من ضده حتى الحديد سطا عليه المبرد
جعل الله لكل شيء آفة من ضده، فتجد الحديد هذا ما أقوى منه لكن عليه مبرد يقصمه.
يقول أحد الحكماء: ما أقوى شيء خلقه الله؟ قال: خلق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الجبال، قالوا: ما أقوى من الجبال، قالوا: الحديد، قالوا: فما أقوى من الحديد، قال: الريح.
ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] وأثبت العلم الحديث أن الريح أقوى قوة، قالوا: ما أقوى من الريح، قال: الصمت، الصمت أقوى من الريح ولذلك يقول البردوني يحيي الرسول صلى الله عليه وسلم ويحيي دعوته:
بشرى من الغيث ألقت في فم الغارِ وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرار
بشرى النبوة طافت كالشذا سحراً وأعلنت في الدنا ميلاد أنوار
وشقت الصمت والأنسام تحملها تحت السكينة من دار إلى دار
المقصود: أن الحسد هو الذي يحمل بعض الناس على أن يخالف بغير حق، وهذا مذهب بني إسرائيل -والعياذ بالله- لأنهم أحسد الناس فقد ذكر الله تعالى ذلك: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} [النساء:54] وهذا سارٍ في الشباب ولو استقاموا.
قيل للحسن البصري أيحسد المؤمن، قال: ويلك أنسيت قصة أبناء يعقوب لما حسدوا يوسف عليه السلام، قال: إذا حسدت فلا تبغ، إذا حسدت أحداً فأخفهِ تسيء في قلبك، ولا تسيء بكلمة، لا تجرح عرضه، لا تسيء إليه بحركة غير مسئولة.(237/4)
الكبر سبب للخلاف
ومن أسباب الاختلاف الكبر، قيل للرسول صلى الله عليه وسلم عن الكبر، قال: {الكبر بطر الحق وغمط الناس} بطر الحق: رده، تجد بعض الناس متكبراً تسلم عليه فلا يرد؛ لأنه من فصيلة أخرى دمه دم آخر، إذا نصحته قال: تقول لي هذا الكلام، مثلي ينصح؟! مثلي يوجه له مثل هذا الخطاب؟! ابدأ بنفسك فانصحها، هذا هو بطر الحق.
وغمط الناس؛ لأن بعض الناس يتوهم أن الكبر في المظهر الجميل والرسول صلى الله عليه وسلم منع ذلك، يقول أحد الناس يا رسول الله! إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، أفمن الكبر يا رسول الله؟ قال: {لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} رده وجحده وعدم قبوله، وما حمل أبا جهل على رد الرسول عليه الصلاة والسلام إلا الكبر، وكذلك الوليد، وكذلك الطغاة كفرعون، وهامان وقارون، وإلا فـ أبو جهل يقول: إنا نعلم أن محمداً صادق، لكن إذا قال بنو هاشم عندنا النبوة فماذا نقول نحن؛ لأنهم أسرة بنى مخزوم، تعارض بني هاشم دائماً في كل مكان، فقال: إذا قالوا النبوة عندنا فماذا نقول؟ فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] وقال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ} [الأعراف:146].
فالمتكبر يرد الحق ويخالفك؛ لأنه يرى أنه ليس بإمكانه أن يتنازل لك ويسمع منك الحوار والمناظرة، والعالم يعيش الآن مبدأ الحوار وسماع الرأي الآخر، أن يستمع لك بغض النظر عن مستواك، فلاح أو مهندس أو راعي غنم أو بدوي؛ لكن يريد أن يسمع منك، وقف عمر رضي الله عنه وأرضاه على المنبر يشجع الحوار فقال: [[يا أيها الناس! ما رأيكم إذا رأيتموني عدلت عن الطريق هكذا؟ -يعني طريق الاستقامة- فقام أعرابي في آخر المسجد يرعى غنماً عنده سيف طوله متران فسل سيفه وقال: والله يا أمير المؤمنين! لو رأيناك ملت عن الطريق هكذا، لقلنا بالسيوف هكذا، قال: الحمد لله الذي جعل في رعيتي من لو قلت عن الطريق هكذا لقال بالسيف هكذا]] فهذا مبدأ أن يسمع كل من الآخر، وأن يرى هل الحق معك أم معه.(237/5)
التعصب لشخص أو لمنهج سبب للخلاف
السبب الرابع من أسباب الاختلاف: التعصب للأشخاص والمناهج، بعض الناس إذا أحب شخصاً تولع به، مثلاً: بعض الناس يسمونه مجنون أبي حنيفة، عالم توفي قبل فترة يسمونه مجنون أبي حنيفة، كلما جئته قال أبو حنيفة وخالف أبو حنيفة فلان قال: من خالفه فقد أخطأ (قاعدة على طول الخط) وأبو حنيفة ليس معصوماً، نعم إنه عالم جليل فاضل نحبه ونتقرب إلى الله بحبه، لكن ليس معصوماً، فتجد بعض الناس يتعصب مثلاً لشيخ، فيقول: شيخي إذا قال مسألة فهو الصحيح لا يمكن أن يخطئ، وتجده يدافع عنه ويرد على من رد عليه بالحق وبالباطل، وهذا لا يصح وليس أحد معصوماً إلا محمد صلى الله عليه وسلم، والكتب كلها فيها اختلاف إلا القرآن، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
التعصب للمنهج: يرى بعض الناس أن منهجه ووسيلته وطريقته ما أسعد منها وما أصح منها وغيرها خطأ، وأنه يجب على الناس والشباب أن يمضوا مع منهجه، وأن يسلموا بطريقته، وأن يستسلموا لما يقول، ويرى أن الحق فيما يسير عليه وأن غيره مخطئ وهذا ليس بصحيح، ولذلك يقول هؤلاء أهل المبدأ: {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء:51].
فمثلاً يقول: أبو جهل كيف يكون الحق مع بلال ومع صهيب وابن مسعود حتى يقول أحد الكفار: لو كان ما جاء به محمد هو الحق ما كان معه بلال وهؤلاء الضعفة.
يقول رجل لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: يا علي! أتظن أن الحق معك والباطل مع طلحة والزبير وعائشة -يعني في الجمل- قال: [[ويلك اعرف الحق تعرف أهله، ولا تعرف الحق بالرجال]] وجوابات علي دائماً تكون مسددة، وقد ذكرت لكم أنه فاجأه رجل فقال: سبحان الله! ما للأمة اتفقت على أبي بكر وعمر واختلفت عليك، قال: [[لأن رعية أبي بكر وعمر أنا وأمثالي ورعيتي أنت وأمثالك]] نعم؛ فالتعصب للأشخاص والمنهاج مصيبة بلغ الإسفاف عند بعض الناس في الأمة أنه يحب مطرباً مغنياً فيتوله به وبحبه ويدافع عنه ويغضب، أو يحب نادياً رياضياً فيعلق إشارة النادي في سيارته وفي غرفة النوم، وفي الطريق وفي كل مكان، ويكتب على سريره هلاليون حتى الموت:
ناصريون نصرهم أين ولى حين داست على الجباه اليهود
وحدويون والبلاد شظايا كل قطر عن البلاد شريد
ويقول نزار قباني:
وحدويون والبلاد شظايا كل جزء من لحمها أجزاء
ماركسيون والجماهير جوعى فلماذا لا يشبع الفقراء
لو قرأنا التاريخ ما ضاعت القدس وضاعت من قبلها الحمراء
فتجد تعصب بعض الناس حتى للمطرب أو للرياضي، وتجد شركات تقوم بالدعاية على هذا ويتضارب أناس، وتتكسر أيدي، وتدق أنوف، وتطلق زوجات من أجل هذا، وهذه سفاسف تمتلئ بها عقول بعض الناس.(237/6)
ضيق الأفق سبب للخلاف
ومن أسباب الاختلاف ضيق الأفق: بعض الناس ضيق الأفق، لا يريد أن يحاورك ولا يتسع صدره لتأخذ وتعطي معه وتورد له رأيك فهو مغلق من أول الطريق يقول لك: خطأ، لا يصح، لا يعرف إلا هذه الكلمات، فهو مستعد بهذه الطلقات يرد بها عليك، حسناً: اسمع الحجة، واسمع ماذا أقول، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] اتركه حتى يسمع كلام الله، حتى يسمع النور، ويسمع الوحي، اجعل له فرصة حتى يظهر لك ما في صدره، أما أن تلقي عليه محاضرة في التعليق ثم لا تعطيه فرصة للتكلم فهذا ظلم! ولابد أن تسمع كلام الآخر وأجمع العقلاء أن صاحب الحجة لا بد أن يسمع لحجة غيره، اسمع للشافعي صاحب العقل المتنور وهو يقول: قولنا صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب، يقول: ويقول: والله ما ناظرت أحداً إلا وددت أن يظهر الله الحق على لسانه وكان إذا ناظر أحداً قال: اللهم سدده، اللهم ثبته، ولذلك رفع الله الشافعي وأمثاله.
يقول المتعصبون: قولنا حق، وقول غيرنا خطأ، وتجد أحدهم إذا أراد أن ينتصر لنفسه شتم المقابل -في المسائل الفرعية أقصد- واستهزأ به ونال عرضه وأسرته وكل شيء فيه.(237/7)
فساد التصور وضعفه سبب للخلاف
ومن أسباب الاختلاف: فساد التصور وضعفه، فإن بعض الناس عندهم فساد في تصور الأمور وإدراكها مثل: أن يأتي بصغائر المعاصي فيجعلها كبائر، مثل إسبال الثياب يعدها الآن بعض العلماء من الكبائر لكنها ليست من الموبقات السبع التي عدها صلى الله عليه وسلم، ثم إن صاحبها لا يكفر بها، قد تجد بعض الناس يكبر هذه ويحجمها ويضخمها لفساد تصوره عن الإسلام وإلا فهي من المعاصي والذنوب، لكن هو لا يدرك حجم القضايا في الإسلام، وما هي الكبائر وما هي الصغائر وما هي أركان الإسلام وأركان الإيمان؟ فتجده يقول إذا مر برجل مسبل: أسأل الله أن يحاسبه بعدله، ثم يقيم الدنيا ولا يقعدها، فمسألة الإسبال عنده قضية الساعة مهما حدثته عن فساد المناهج، عن الخواء العقدي، عن التلوث الفكري، ما عنده إلا هذه المسألة وهو مأجور لكن قد جعل الله لكل شيء قدراً.
ضعف التصور: فإن بعض الناس يتصور بعض الأمور على غير ما هي عليه، كما فعل الخوارج يحملون آيات الكفار على المؤمنين فكلما سمعوا آية قالوا: المقصود بها أولئك وإلا فـ أهل السنة يحملون آيات الكفار للكفار وآيات المؤمنين للمؤمنين.(237/8)
إلزام مالا يلزم سبب للخلاف
السبب السابع من أسباب الاختلاف: إلزام مالا يلزم، تجد بعض المخالفين يقول: قال العالم الفلاني كذا وكذا، ويقصد به كذا وكذا، إذاً هو كذا وكذا مثل ماذا؟ مثل: رجل قال: من استمع للغناء ورضي به فهو فاسد، ومن كان فاسداً ورضي بالفساد في بيته فهو ديوث، ومن كان ديوثاً لا يدخل الجنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا يدخل الجنة ديوث} إذاً فمن استمع الغناء فهو ديوث هذه قواعد مثل قواعد الهندسة، وهذا المطلوب إثباته أي: يركب الفتيا تركيباً، وهذا خطأ عند أهل العلم لأنه يلزم ما لا تلزم، أضرب مثلاً: تقول له: رحمة الله واسعة، والله غفور لذنوب العباد، فيقول: المرجئة يقولون: إن الله غفور لذنوب العباد، والمرجئة يستسهلون المعاصي إذاً أنت مرجئ، إذاً أنت مبتدع من المرجئة، فينزل عليك الحكم أول ما تأتيه، وهذا إلزام ما لا يلزم وليس بصحيح.
رد بعض الناس على بعض الدعاة فقال: يقولون: إن الإسلام ليس مسائل نقض وضوء، ولا نواقض وضوء ولا حيضاً، والخميني يقول: ليس الإسلام نواقض وضوء ولا حيضاً، إذاً هم مثل: الخميني إذاً فهم رافضة إذاً هم يشتركون مع الخميني، وهذا ليس بصحيح؛ لأن أهل السنة قد يشتركون في قدر نسبي مع أهل البدعة فمعنى العالم في الإسلام إذا قال: ليس الإسلام من الحيض ولا للنفاس ولا لنواقض الوضوء يعني معنى كلامه أنه دين شامل للحياة، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ومعنى كلام الخميني أن هذا الدين بفرعيات ليس الذي هو شغل به بالناس، إنما المقصود: الحكم، فيلزم بعض الناس البعض بما لا يلزم وليس بصحيح، فإن الخوارج يوافقوننا أحياناً في بعض الجزئيات، واليهود يوافقوننا في بعض الجزئيات، والنصارى يوافقوننا في بعض الجزئيات، فاليهود والنصارى يوافقوننا أن الله موجود، ويخالفوننا في الرسالة والألوهية، بل ما أظن أنه ليس في العالم جنس إلا يتفق مع الجنس الآخر في شيء.
حتى الشيوعيون يوافقوننا أن هناك مؤثراً في الكون ونحن نقول: المؤثر هو الله، وهم يقولون: إنها الطبيعة المؤثرة.(237/9)
تغلب العاطفة على العقل سبب للخلاف
السبب الثامن: غلبة العاطفة على العقل: تجد الشباب في السن هذا المحدد بين العشرين والثلاثين، أو بين الخامسة عشرة والثلاثين، أو أقل بقليل تجده يندفع وعاطفته جياشة، ودائماً كلامه غليظ، ويستخدم من العبارات الثقيلة التي قد تضل أحياناً عن العقل، فإذا أتى يرد رد بقوة وجرأة، وبالحق والباطل، وأجلب بخيله ورجله؛ لأن العاطفة غلبت عنده، ولذلك نريد عاطفة شباب وعقول شيوخ؛ لأنها إذا أتت عاطفة شيوخ وعقول شيوخ ماتت الأمة فلا يغير أحد المنكر، وإذا أتت عاطفة شباب وعقول شباب تدمرت الأمة، لكن عقول الشيوخ وعاطفة الشباب هو المطلوب في الإسلام والمقصود.
فأحياناً إذا حاورت شاباً تجده إنما يميل إلى هذا الرأي ميلاً وينتصف أكثر مما ينبغي، يخطئ بعض الناس في المحاضرات، تجد بعض الناس يقول: حسبنا الله عليه، لماذا يقول هذا الحديث صحيح وهو ضعيف وقد أخطأ، وهذا يدل على عدم معرفته بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهجره للسنة وعدم اهتمامه بهذا الأثر الشريف، وهذا حماس لا داعي له، البيان أن تبين أنه أخطأ في الحديث، وأن تبين وجهة نظرك.(237/10)
حب الخلاف لذاته سبب للخلاف
السبب التاسع: حب الخلاف لذاته، يقول أحد الشعراء أظنه الشريف الرضي:
مشغوفة بخلافي لو أقول لها يوم الغدير لقالت ليلة الغاري
فبعض الناس مشغول بالخلاف، يحب الخلاف لذاته إذا قمت قعد، وإذا قعدت قام، وإذا تبسمت غضب، وإذا غضبت تبسم، فهو يريد أن يكون دائماً مخالفاً لك في كل شيء، لا لشيء إلا لأنه يحب المعارضة وهذه تنشأ مع الأطفال، أحياناً: تجد بعض الأطفال ينفرد عن أطفال الحارة في لعبهم وجلوسهم وسيرهم فينشأ معه الخلاف حتى يكبر، يقولون: إن الأشتر النخعي كان يحب الخلاف منذ أن كان صغيراً، الناس في كفة وهو في كفة.
وهذا استطراد وهو الذي قتل محمد بن طلحة في معركة الجمل.
خرج إليه ومحمد بن طلحة لا يريد القتال وكان الأشتر شجاعاً مهاباً نظر إليه عمر وقال: ويل لك وويل للعرب منك- اقترب هذا الأشتر من محمد بن طلحة فقتله، فيقول: محمد بن طلحة أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، فقال:
وأشعث قواماً بآيات ربه قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
شققت له بالرمح جيب قميصه فخر صريعاً لليدين وللفم
على غير شيء غير أن ليس تابعاً علياً ومن لا يتبع الحق يندم
يذكرني (حم) والرمح شاجر فهلا تلا (حم) قبل التقدم
فالخلاف طبيعة في بعض الناس.(237/11)
عدم التثبت سبب للخلاف
السبب العاشر: عدم التثبت من الأقوال والأفعال: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] كثير من الناس الآن يبني أحكامه على غير معرفة الرأي الآخر، سمع أن داعية قال كذا وكذا فقام على المنبر بخطبة يرد عليه، فيظهر له بعد الخطبة أنه ما قالها، قال: أخبرني فلان عن فلان، سند إسرائيلي معضل.
وبعضهم يسمع طرف الخبر، ويقوم يبني عليه ويرد ويكتب ويدرب ويعلم وليس كذلك، أهل السنة إذا بلغهم الخبر تثبتوا من صاحبه وراسلوه، ماذا تريد؟ وما مقصدك؟ أما أن تسمع الخبر وتلقيه على عواهنه.
والخطورة التي يعيشها شبابنا اليوم خطورة الشائعات، تجد الآن الشائعة تخرج شبراً وتعود إليك ذراعاً أو متراً أو باعاً، تخرج كلمة ثم تنتشر وتنتشر فلا تعود إليك إلا وهي حبل كبير من المصائب فالناس يحبون الشائعات، تعطيها جارك فيزيد عليها كلمتين، والجار يسلمها جاره بثلاث كلمات وهكذا تدور في الحارة فلا تخرج من الحارة إلا وهي محاضرة.
من الأحاديث يقول الإمام مالك يخرج الحديث من عندنا من المدينة شبراً ويعود من العراق ذراعاً، وهذا مثل كثير من المبتدعة، فإنهم يأخذون الحديث من صحيح البخاري ثم يزيدون عليه ثلاثة أضعاف الحديث، فالمسلم دائماً يتثبت، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36] فوصيتي لإخواني إذا سمعوا خبراً من رجل أو من داعية أو من طالب علم أو من مسئول، أن يتثبتوا منه شخصياً، وأن يتأكدوا حتى لا يكونوا عرضة للتهم وبالمجازفة، ولا للنبز بالعجلة والطيش.(237/12)
آداب الخلاف
آداب الخلاف: إذا اختلفت مع رجل فهناك آداب لا بد أن تراعيها معه:(237/13)
من آداب الخلاف سماع الحجة
الأدب الأول: أدب أن تسمع الحجة والرأي قبل أن تباهته، وقبل أن تخاصمه، واستمع منه ولا تقاطعه، لك أن تورد ما شئت ويسكت هو، فإذا سكت تبدأ أنت، وهذا هو أدب الحديث، والعجيب أنا لما تركنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ أصبح الآن بعض الناس يقول الكافر عنده احترام في الحديث، عنده فن الحديث دايل كارنيجي له كتاب اسمه فن الحديث أو أدب الحديث وهو صاحب غزة الهالك، B=4000085> دع القلق وابدأ الحياة، B=4000370>> كيف تكسب الأصدقاء؟ فن الحديث، يعلمك كيف تكون متحدثاً وهذا في الإسلام والقرآن والحديث فتسمع منه حتى ينتهي، فتقول: أستأذنك، فإذا جاء يقاطعك قل له: أنا سمعت منك حتى انتهيت والآن اسمع مني حتى أنتهي، وهذا أدب الإسلام.(237/14)
من آداب الخلاف إيراد الدليل
الأدب الثاني: إيراد الدليل، التهويل لا يصلح، ورفع الصوت لا يصلح، الذي يصلح هو: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64].
وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل: {على مثلها فاشهد} فالمسلم يتهيأ بدليل كامل؛ وثائق أو براهين تدمغ بها خصمك تظهره له، تقول: قلت كذا وكذا يوم كذا وكذا.(237/15)
من آداب الخلاف الهدوء في الرد
الأدب الثالث: الهدوء في الرد واعلم أن رفع الصوت لا يكون إلا في الخطب إذا كان فيها حق، فإن الخطب من آدابها رفع الصوت، لكن الهدوء في الحوار مطلوب، ورفع الصوت لا يجلب لك نصراً، قال تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] وصاحب الباطل يرفع صوته حتى يظهر للناس أن الحق له، وصاحب الحق متزن وهادئ يوصل كلمته في تمكن واطمئنان لأنه واثق من نفسه، هذه مسألة؛ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46].(237/16)
من آداب الخلاف ذكر جوانب الاتفاق
المسألة الرابعة من آداب الاختلاف: ذكر جوانب الاتفاق قبل الاختلاف، إذا أتيت إلى كافر وثني تريد أن تجادله في ألوهية الله عز وجل، ابدأ معه فيما تتفقان معاً عليه، قال الله عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] تقول من خلق السماوات والأرض، قال: الله، تقول: أنا وأنت متفقان أن الله خلق السماوات والأرض، حسناً: فمن رزقنا ورزقك، يقول: الله، {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [يونس:31] فسوف يقول: الله، فتتدرج معه، ثم تقول: فمن يستحق العبادة بعد ذلك: ربما يجيبك بأحد جوابين إن استحقها الله -الحمد لله- وإن استحقها الوثن فقل: وثن لا يسمع ولا يرى ولا يرزق ولم يخلق فكيف يستحق العبادة؟! حينها سوف يجيبك، ثم تركز عليه بما تبدأ معه، رب قدير رحيم خبير بصير أيترك خلقه بلا رسل؟ فإن قال: لا، أصاب، وإن قال: نعم يتركهم هملاً فقد أخطأ فتبدأ معه في الحوار، فأول ما نبدأ نبدأ أولاً بما اتفقنا عليه كالنصارى الآن، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64].
أحد الناس في جنيف وهو أبو عمار تلا الآية وأمامه وفد اليهود وبعض وفود النصرانية من الدول الغربية وهو عند المكرفون وهو يتلوها وسمعتها بأذني قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] ثم وقف، وقف حمار الشيخ في العقبة؛ لأن المسألة الكبرى هي التي بعد هذا الكلام وماذا بعد هذا الكلام؟ يحملها أبو عمار على أننا نصطلح، والله يقول: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64] فهذا ليس من هذا فبعض الناس يأخذ نصف الحجة وهي عليه لا له، ثم يترك الحجة وهذا مثل ما يقول يحيى بن سعيد القطان وقيل عبد الرحمن بن مهدي -وأظنه الصحيح- أهل السنة يكتبون مالهم وما عليهم، وأهل البدعة لا يكتبون إلا ما لهم.
تجد بعض أهل الهوى لا يكتب إلا ما هو له وأما ما هو عليه من الحجج يتركها، إذا نقل شيئاً من كتاب ورأى شيئاً ضده تركه وأهمله، أما أهل السنة فيكتبون ما لهم وما عليهم وهذا منهجهم.(237/17)
من آداب الخلاف التواضع في الرد
الخامس من آداب الخلاف: التواضع في الرد، قال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] تأتي أولاً تظهر أنك لست جازماً في الحق، هذا تواضع تقول: أنا رأيي وقد يكون رأيي خطأ، ومن وجهة نظري وأظن أن وجهة نظري يمكن أن تكون خطأ، والله أعلم، وما أدري، ولكن لو سمحت حفظك الله، ولو رأيت أن أعرض عليك المسألة وما أدري هل رأيي صواب أم خطأ، لكن أريد أن أسمع رأيك، فإذا أتيت في تواضع تواضع هو معك، واعلم أن كل إنسان مهما كان فإنه يرى لنفسه مكانة، فإذا أتيت للإنسان تنزل من قدره، وتقول: رأيك خطأ ورأيي هو الصواب وأنت اسأت وأخطأت وما ينبغي لك؛ فإنه سيغضب عليك، لكن عليك أن تبدأ بالحوار كما فعل صلى الله عليه وسلم، ولذلك منهج القرآن يرشد المؤمنين إلى ذلك قال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] مع العلم أنه معروف أن أهل الإيمان على هدى وأهل الكفر في ضلال مبين، فالمقصود: أن تتواضع لقرينك وأن تذكر فضائله في أول الرد تقول: عرف عنك الخير، وأنت صالح وصادق، وعرف عنك الفضل والدعوة والبذل، ولا نسمع عنك إلا الخير؛ لكن ما رأيكم في هذه المسألة، ثم تبدي له بعض الأخطاء بتواضع كامل.(237/18)
من آداب الخلاف تحديد الخلاف
ومن آداب الاختلاف تحديد الخلاف: بعض الناس يموج في النقاش من غير تحديد نقطة، لا يعرف نقطة الخلاف، تجده مرة يبدأ بالألف ومرة بالياء ومرة في الجيم فيضرب ضربات خاطئة، يقول أهل الأصول: لابد من تحديد نقطة الخلاف؛ حتى تناقش بوضوح للوصول إلى نتيجة مفيدة، واعلم أنك قد تجد بعض الناس يخالف ولكن لا يدري ما سبب الخلاف، ولا يدري ما هو منشأ الخلاف ولا نتيجة الخلاف، فتحديده أولى وأحسن وأحرى، وهذا منهج القرآن فإنه يحدد الخلاف (كاليوم الآخر) ثم يبدأ يحاور الكفار، أو يحدده في الألوهية أو في الشرك والأوثان ثم يبدأ من هذا المنطلق.(237/19)
من آداب الخلاف التحاكم إلى أهل العلم والكتاب والسنة
الأدب السابع: التحاكم إلى صاحب أهلية في الحكم، أن إذا اجتمعت واختلفت أنت وزملاء لك أن تقول: نحكم فلاناً، العالم الداعية المفكر ليكون حكماً بيننا، وهذا هو الأحسن، وقد حدث هذا في السيرة كثيراً فاختلف ابن عباس رضي الله عنه وبعض الناس: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل وهو محرم، فقالوا: نحتكم إلى أبي أيوب الأنصاري صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم فاحتكموا إليه، فقال لهم: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يغتسل وهو محرم، فرضوا بحكمه، فقال المسور بن مخرمة لـ ابن عباس: والله لا أخالفك بعدها أبداً.
اختلف ابن عمر كما في مسند أحمد وسعد بن أبي وقاص: ابن عمر يرى المسح على الخفين، وسعد يقول: لا المسح على الخفين سنة، فلما وصلوا إلى عمر شكا ابن عمر سعداً إليه، فقال عمر: لا، وقال: إذا قال لك أبو إسحاق قولاً فلا تعدل بقوله، فلك أن تختار شخصاً من الأساتذة أومن العلماء تحكمه في المسألة، ثم تسمع أنت وإياه حتى تنهون هذه المسألة.
وكم من المسائل الخلافية الآن بين الشباب لا تنتهي، سنة كاملة وهم يدورون حول أنفسهم، ولو عرضواها على أعلم منهم لأنهوها في لحظة.
ومن آداب الاختلاف: الرد إلى الله ورسوله في مسائل الشريعة، قال تعالى: {فإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] الرد إلى الله أي إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي إلى سنته عليه الصلاة والسلام، فإذا اختلفت أنت ورجل في قضية فقل: نحتكم إلى الكتاب والسنة وإلى أهل العلم الذين يبينون الكتاب والسنة وحينها تسمعون الحكم الصريح من الكتاب والسنة، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] فالمقصود: لو ردوه إلى أهل العلم لعرفوا القضية، وهذه المحاكمة في العقائد، في العبادات، في الأخلاق، في السلوك، في الآداب العامة، على الاثنين إذا اختلفا ولم يرضخ أحدهما للآخر أن يعيداه إلى أهل العلم بالكتاب والسنة.(237/20)
من آداب الخلاف عدم التشفي بالأشخاص
السبب التاسع: تجنب نيل الشخص والتشفي به، بدل أن تحاورني في مسألة وما كان أن تعارضني في قضية تبدأ تجرحني وأجرحك؛ هذا ليس مبدأ الحوار، الشخص شيء والقضية التي تعرض شيء آخر، كان ابن قدامة صاحب المغني إذا أراد أن يناظر أحداً تبسم في وجهه فيقول أحد العلماء: هذا والله يقتل الناس بتبسمه، يقول المتنبي:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
والمعنى: أن التبسم والأريحية والهدوء تقتل الخصم؛ لأن الخصم يريد منك أن تتفاعل وأن تحترق بداخلك، فإذا أظهرت له أنك لا تتأثر وأنك هادئ احترقت أعصابه، وهذا ما يفعله كثير من أهل العلم، فليس من نيل الأشخاص فائدة في باب النقاش فهذا يقع فيه كثير من الناس، فتجدهم ينالون الأشخاص في قضية خالفوهم فيها، مثلاً: يخالفك في قضية فيها ضم اليد اليمنى على اليسرى تحت السرة، وأنت ترى أنه على الصدر فإذا خالفك تقول: وخالفني، وسمعت أنه بخيل، وسمعت أنه جبان، وسمعت وسمعت! ما دخل الجبن والبخل وغير ذلك في ضم اليد اليمنى على اليسرى على الصدر، قضية تُداخلها في قضية أخرى هذا لا يصح وهذا هو عنوان الانهزام.(237/21)
من آداب الخلاف ترك الإزعاج ورفع الصوت
السبب العاشر: ترك الإزعاج ورفع الصوت والتهويل، وهذا يوجد في الشباب كثيراً، تجده إذا غلب في قضية بدأ يغرد بصوته في المجلس ويصيح، والصياح ليس من أدلة أهل السنة والجماعة، الأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع، وليس الكتاب والسنة والصياح، فالصياح يأتي عند الفشل، عندما يرى الإنسان نفسه أنه فاشل، يبدأ يرفع صوته ويقسم أيماناً مغلظة والله وبالله وأيم الله، إن الحق معي والله، إنك مخالف والله، إنك تريد الباطل بدون أيمان أعطنا حجة وبدون صياح أعطينا بياناً وبدون تغريد أعطنا برهاناً قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64].(237/22)
من آداب الخلاف تحديد التخالف تضادي أو تنوعي
السبب الحادي عشر: أن تحدد نوع الاختلاف هل هو خلاف تضاد أو تنوع؛ لأن التضاد لا يعذر صاحبه، لأن أهل السنة: إذا خالفهم غيرهم في ذلك لما يعذرونه مثل: من أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، رجل يقول: أركان الإسلام أربعة، تقول: خمسة، يقول: لا أربعة، يذكرون أن رجلاً أحمق دخل عند قاضٍ يشهد، أخذه رجل وأعطاه دراهم، قال: اشهدلي، فلما جلس عند القاضي، قال صاحب شهادة الزور: أنا أجلس وراء القاضي فإذا سألك القاضي عن أسئلة فالتفت إلي وأنا أشير لك وأنت تجيب على قدر الإشارة، فجلس هذا الأحمق أمام القاضي، قال القاضي كم أركان الإسلام: فالتفت إلى صاحبه، ثم قال: خمسين، قال: القاضي خمسين؟ قال: خمسمائة، يعني يا خمسين يا خمسمائة، والمقصود أن التضاد هو الذي لا يعذر صاحبه، وليس في الإسلام إلا خمسة أركان، ولا نقول كل مأجور، من قال أربعة أجر، ومن قال خمسة أجر، ومن قال ستة أجر، لا، خمسة فقط لا يوجد كلام آخر، خمسة فقط وأركان الإيمان ستة فقط.
صلاة الظهر أربع ركعات في الحضر فقط لا تأتي تقول: الحمد لله المجتهد له أجران، والمفتي أجر واحد، هذا يأتي في اختلاف التنوع في الفرعيات، فهذا لا يعتبر مخالفاً فيه مثل العقائد وأصول الإسلام.
وأما مسائل التنوع فهي مثل المسائل التي فيها سعة مثل: الجهر ببسم الله في الجهرية أو الإخفات بها، لا تقل: فيها قول واحد ومن خالفنا فقد ابتدع وخرج من الملة، لا.
خالفك قوم ومعهم دليل ويمكن أن الصواب معك، لكنهم اجتهدوا فأخطئوا فلهم أجر واحد، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد} حديث صحيح، فلذلك تدعو للناس بالأجر وتلتمس لهم العذر.
فلا يجوز للمخالف في مسائل الفرعيات أن يعنف على من خالفه، مثل: الآن من المسائل الخلافية: دخولك بعد صلاة العصر في المسجد؛ بعض أهل العلم يرى ألا تجلس إلا بعد أن تصلي ركعتين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} وآخر يقول: لا يجوز لك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس} هذا مأجور وهذا مأجور، ولو أن الصواب في الظاهر مع من قال يصلي ركعتين؛ لأنها تحية المسجد، لكن كيف تخطئه؟ كيف تعلق عليه؟! قل: قيل بهذا وهذا ولك دليل والذي يظهر لي أن الدليل هذا أرجح وأنا أعمل به، ولا تعمم، أما أن تستهلك قضايا الأمة وقضايا الإسلام ووقتك وعمرك في هذه الجزئيات فهذا غلط، ولذا ترى كثيراً من الشباب لا يعرف إلا أبواب العبادات، يعرف تحريك الإصبع، وصلاة الضحى والبسملة ووضع اليد اليمنى على اليسرى، ولا يعرف من المعاملات شيئاً، وهذا موجود في (90%) من الشباب، أقولها بجدارة وجرأة حتى الآن اسألوا عن بيع العينة، اسألوا عن كتاب الإجارة والمزارعة، كتاب الربا، الرضاعة، الحضانة، النفقات، العدد إلى آخر هذه المسائل، إنما هو في مسائل فقط يركز عليها ويقضي معظم وقته فيها دائماً، وبعضهم إذا حفظ رجلاً من الرجال جلس في كل مجلس: أرأيت في فلان، قرأتم عنه، يقولون: بعض الشباب لا يعرف إلا شهر بن حوشب هذا هو أحد الرواة، قال أهل العلم: صدوق يخطئ واختلف أهل العلم، فكان كلما جلس يقول: يا إخوتي ما أدري بحثت لـ شهر بن حوشب ما رأيكم فيه، فكلما جلس سأل عنه فإن قلت ثقة، قال: خطأ، وإن قلت: ضعيف، قال: خطأ، فمع ذلك عنده قضايا محددة في رأسه ما يتكلم إلا عنها.
تجد بعض الوعاظ عنده قضية خاصة لنفسه في الحياة لا يزيد عليها ولا ينقص عنها، مثل: قضية الدخان هي محرمة بلا شك حرمها أهل العلم، لكنه لا يتكلم إلا عنها، هي القضية السامية عنده فلا يزال يقول: وسافرت ورأيت أناساً يشربون الدخان، وذهبت أمريكا فوجدتهم يشربون الدخان، وسمعت أناساً هنا يشربون الدخان، والناس أصبح بعضهم يشرب الخمر وبعضهم خرج من الملة، ومع ذلك قضية في كل مكان وزمان الدخان الدخان، ويجمع رسائل ويوزع أشرطة -جزاه الله خيراً- لكن يأخذ المسألة بقدرها في الإسلام.
أما المخالفون في فروع الشريعة فلهم أعذار ذكر ذلك ابن تيمية في كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لماذا يقول أبو حنيفة قولاً يخالفه فيه أحمد ويخالفه الشافعي، بعضهم لم يبلغه الحديث فأنت بلغك الحديث وأنا ما بلغني فتقول به وأنا أقول: لا، فأنا معذور أمام الله لأني ما بلغني الحديث في الفرعيات.
الأمر الثاني: قد يصح عندك الحديث وأنا لا يصح عندي، والتصحيح أمر اجتهادي، وبعض الشباب الآن إذا قلت: رواه ابن حبان وصححه، وصححه الحاكم وابن حجر، وصححه ابن تيمية نزل إليك، وقال: لا، ضعفه الألباني، حسناً وهل أنا مخطئ، أنت قلت: الألباني، وأنا أقول: ابن تيمية، وأنا أقول: ابن حجر، وأنت تقول: الألباني، وقلت: ابن حبان، تقول: الألباني، فلماذا ترضى بحكمك وتغضب علي؟ لأني قلت: هو ضعيف أو صحيح والتصحيح أمر اجتهادي.
أيها الإخوة: حذار من التعصب في مبدأ التصحيح، حتى تجد بعض الطلبة لا بد أن تصحح أنت مثل ما صحح فلان وإلا خطأ الدرس ولا يفهم لك، وإذا ضعفت صحيحاً عنده خطأك وليس بصحيح، قد يصح عندي؛ لأني متساهل في الشروط مثل ابن حبان والحاكم، أو يضعف عندي؛ لأني متشدد مثل النسائي وأبي حاتم وغيره.
ومن أسباب أن نعذر المخالفين في الفروع: أن يظن أن الحديث منسوخ وأنت تظن أنه ثابت محكماً، أنا أقول: منسوخ وتقول: لا هو ثابت، يعذر هذا بهذا وهذه أعذارهم وما أرادوا إلا الخير.(237/23)
من آداب الخلاف قصد الحق
السبب الرابع عشر: قصد الحق، أن يكون مقصدك الحق، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن شعيب: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] فلا يكون قصدك التشفي، ولا يكون قصدك مهاجمة الآخرين، ولا يكون قصدك أن تظهر الغلبة، ولا يكون قصدك أن يسمع الناس أنك غالب هؤلاء، لكن قصدك أن يكون الدين كله لله، وأن يثبت الحق، وأن يتضح البرهان.(237/24)
من آداب الخلاف الإنصاف
الخامس عشر: الإنصاف مع العدو ومع القريب، بعض الناس إذا خاصم فجر، وإذا خالف لا يرعى ذمة ولا عهداً، فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى جعل ميزاناً للمناظرة والمجادلة والاختلاف مع القريب والبعيد مع العدو، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8] فمن العدل أن تذكر كل ما فيه من شيء طيب حتى الكافر، تجد بعض الناس يغضب إذا قلت الدول الكافرة الغربية غلبتنا في مسألة تنظيم الحياة، وهذا أمر معلوم، يقول: لا تقل هكذا، استغفر، تب إلى الله، كيف يغلبنا وهو كافر يعني تعصب، تقول: غلبونا في العمران، يقول: لا الحضارات من عندنا، تقول: صنعوا الميكرفون، يقول: لا أجدادنا بدءوا في الصناعة قبلهم، الساعة، الطائرة يقول: لا، لا، لا: {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف:65] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8].
الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن أحد ملوك فارس كان عادلاً ويقال فيه أثر وفيه ضعف: {ولدت في حكم الملك العادل} العادل هذا هو: من ملوك فارس، كان عادلاً وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أربع خصال منها: {أكثر الناس أحلاماً} تجد عندهم سعة صدر للحوار، ولو أن بعض الدول الإسلامية أفضل عند الله منهم، لكن ليس علامة المسلم أن يكون متفوقاً في كل مسألة، تجد الكافر أحياناً أحلم من المسلم، لا يعني أنه أحسن، لكن: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] تجد الكافر أحياناً أكثر تبسماً من بعض المسلمين {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
تجد بعض الناس إذا خاصم تعدى وظلم، قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] ويتكلم بجهل ويدمر حسنات الآخر، ومع القريب تجد بعض الناس يذب عنه ولو كان خطؤه كالشمس:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
تذكر له رجلاً لكن لا يرتاح إليه، قال: ليس بصحيح وفي عقله شيء، وما أرتاح له أنا، تقول: علمه، يقول: فيه نظر أعرف أموراً ما تعرفها أنت، تذكر له قريبة أو صديقه، يقول: سبحان الله! إمام من الأئمة فريد العصر وهو ما يساوي شيئاً، لا إله إلا الله، فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء:135] فلا القريب تحملك قرابتك له أن تحمل له منزلة فوق منزلته، ولا البعيد العدو تحملك عداوتك له أن تضعه عن منزلته، بل الحق: العدل (كونوا شهداء).
ومنها: بعض الناس يطمس حسنات الناس فإذا خالف إنساناً في قضية نسي حسناته، نسي الحسنات كل الحسنات، يقول الشاعر:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
فتجد بعض الناس إذا أخطأ رجل خطأ، خطؤه خطأ كبير لا يغتفر، وبعضهم إذا أتى بخطأ كالجبل كان صغيراً، وبعض الناس ترى له حسنات تنغمر سيئاته بحسناته، يقول صلى الله عليه وسلم: {إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث} بعض الناس عنده من الفضل والمكانة الشيء الكثير، فهذا تنغمر فيه السيئات ولا يضر لكن بعض الناس السيئة تظهر عليه؛ لأنه سيئ، يقول الذهبي في ترجمة الحجاج بن يوسف الثقفي الأمير السفاح، يقول: له حسنات منغمرة في بحار سيئاته، وذكر قتادة بن دعامة السدوسي الراوي قال: كان فيه تشيع يسير وكان رأساً في القراءة، رأساً في العبادة، رأساً في الزهد، رأساً في الحديث، رأساً في التفسير {وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث} ويقول بشار بن برد:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
وقال أبو تمام:
تريد مبرأ لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان
هل هناك عود ولو كان من العود الممتاز يفوح بدون دخان على الجمر، لا، لا بد من دخان، ويقول النابغة الذبياني أمام النعمان بن المنذر:
ولست بمستبق أخاً لا تلومه على شعثٍ أي الرجال المهذب
المعنى: هل تستطيع أن توجد رجلاً ليس فيه عيب ولا تصبر على عيبه؟ أي الرجال المهذب؟
من لك بالمهذب الصافي الذي لا يجد العيب إليه مرتقى
هذا ما يمكن.
يا أيها الإخوة! اذكروا الناس بحسناتهم وإذا ذكر لك رجل فاذكر ما به من مكارم.
كان ابن المبارك رحمه الله إذا ذكر له بعض أحبابه وأصدقائه، قال: هل يوجد مثل فلان؟ كان كريماً، ويأتي بمناقبه وينسى سلبياته، وهذا من أحسن ما يكون! لكن بعض الناس كما يقول ابن تيمية وقد نقلها الشيخ: عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتاب المأمول، قال: بعض الناس مثل الذباب لا يقع إلا على الجرح.
فهو يحب العيوب وينصب على السيئات، وبعض الناس مثل الخنزير -والعياذ بالله- يقول ابن القيم في مدارج السالكين تصف له أهل الفضل أهل الخير فيأبى، فإذا جئت في مذمة فيهم انطلق مثل السهم، فيقول ابن القيم: الآن الخنزير ما يأكل أفضل الفضلات، يأكل أقبح الفضلات؛ فضالات الناس، والعياذ بالله.(237/25)
الخلاف في الفروع يقبل فيه العذر
وتجد من إساءة الأدب في الخلاف: التعميم في الأحكام، يقول: القبيلة الفلانية كلهم حمقى، والقبيلة الفلانية كلهم بخلاء، والقرية الفلانية كلهم جبناء، سبحان الله! لماذا هذا التعميم؟ التعميم عرضة للخطأ، ولا يجوز للمسلم أن يعمم إلا ما عمم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأجد في بعض الشباب يقول: الجامعة الفلانية ما تخرج إلا كسالى سبحان الله! عقليتك الجبارة حكمت على جامعة بأسرها ونحن نعرف فيها فطناء، يقال له: لماذا لم تدخل القسم الفلاني؟ يقول لك: دخلت فوجدتهم أبلد من البلداء، يا درة الزمان ويا قبة الفلك.
ومنها: التعالي في الخطاب تجد الإنسان إذا جادل أو كتب أو رد ولو كان طويلباً، يقول: قلنا وكتبنا ونبهنا، ولنا رد عظيم، وهو الذي نختاره، وهذا الذي يعجبنا؛ سبحان الله! وعمره خمس عشرة سنة، تجده يستطرد أحياناً في الحلقة الصغيرة مع الشباب، ويقول: والذي تطمئن إليه نفسي -ويضرب فخذه- بعد طول بحث وتأمل أن هذه المسألة كذا، وكذا وكنت أرى قبل سنوات هذه المسألة ثم بدا لي! كم عمرك حتى ترى قبل سنوات؟! فالتعالي في الخطاب من العجب وهو مذهب علماء الكلام والمناطقة، أما أهل السنة فهم متواضعون، أتى رجل يمدح ابن تيمية، قال ابن تيمية:
أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي
يقول ابن تيمية: هكذا كان أبي وجدي فقراء مساكين، وكان يقول ابن تيمية في قصيدة فقرية له:
أنا الفقير إلى رب السماوات أنا المسيكين في مجموع حالاتي
وإذا مدح قال بيده هكذا: لسنا بشيء، ولولا الله ما عندنا شيء، وما لنا شيء، الفضل لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، لكن تجد بعض الناس دائماً يحب تفخيم نفسه، يختم بنفسه حيث يقول: فضيلة الشيخ ويوقع، وإذا اتصل بالهاتف يقول: معكم الشيخ فلان، والناس العقلاء يستصغرونها، وتجده أحياناً يتفاخر بالمشيخة فتجد عليه عمامة وسط الناس، لكن يريد أن يبرز العمامة والنظارات وعكاز ومسبحة وبالسواك باليسرى ويتنحنح ويقول: السلام عليكم ورحمة الله، ويظهر لك كأنه العز بن عبد السلام.
أخي المسلم: كُنْ غبراء الناس، البس مثلما يلبس الناس، لا بأس أن تنزل منزلتك، إذا كنت عالماً جليلاً أو سلطاناً مقسطاً عادلاً، أو شيخاً موجهاً، أن تنزل منزلتك؛ لأن النزول عن المنزلة فيه شيء من الإسفاف، والتعالي على المنزلة كبر حتى تجد بعض الناس يتواضع تواضعاً بهيتاً ما هو صحيح، تجده في القرن الخامس عشر يحمل الحطب في السوق، تقول له: ما هذا، يقول لك: دعني أتواضع لله، لكن المسلم يكون وقوراً هادئاً، والحركات ليس مسئولاً عنها الإسلام.(237/26)
ابن تيمية من أكثر الناس احتراماً لخصومه
الآن تجد احترام أهل العلم في الردود مثل شيخ الإسلام ابن تيمية ما رأيت أكثر احتراماً منه في الردود والمناقشة، تجده يذكر بعض المعتزلة في بعض كتبه يقول: أحسن المعتزلة، لما أدخلوا الملاحدة في الإسلام، وأساءوا لما أوقفوهم في الاعتزال، فما أدخلوهم في مذهب أهل السنة حتى المعتزلة يذكر لهم حسناتهم لأن هذا هو العدل.
تجده مثلاً إذا رد على الصوفية قال: وفلان فيه خير وهو من أقربهم إلى الكتاب والسنة، وكان يدعو الناس إلى خير ولكن فيه كذا وكذا وكذا.
لكن بعض الناس بالعكس إذا قلت: في فلان خير يقول لك: بالعكس فيه كذا وكذا وكذا فذكر مثالبه.(237/27)
الأئمة الأربعة والصحابة لا يتعصبون
وذكر عن أبي حنيفة أنه قال: إذا خالف قولي السنة فاضربوا بقولي عرض الحائط، وكان الشافعي يقول: إذا رأيتموني عرفت الدليل وقلت بخلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب، ويؤثر أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وكان الإمام أحمد يقول: دع عنك رأي سفيان ورأي الأوزاعي وهؤلاء الأئمة ورأي مالك وخذا من حيث أخذ القوم، يعني من الكتاب والسنة.
كان الإمام مالك يقول: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام؛ لأنه معصوم، فكانوا يتواضعون ولا يريدون أن يصروا على أخطائهم لو تجلت لهم وإلا فقد ظهر لبعضهم الخطأ فعاد.
وهكذا الصحابة، كان عمر ينبه على كثير من المسائل رضي الله عنه وأرضاه فيعود وسوف أذكر لكم أمثلة من ذلك.
طرق أبو موسى على عمر رضي الله عنه وأرضاه الباب واستأذن ثلاثاً فلم يأذن له عمر، فانقلب أبو موسى راجعاً ففتح عمر الباب فرأى أبا موسى مولياً فدعاه فأجاب، قال: مالك؟ قال: يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع} فظن عمر أنه استحضر هذا الحديث -وعمر لم يسمع بهذا الحديث من قبل- قال: [[والله لتأتيني بمن يشهد لك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث أو ليكونن لي ولك شأن، فذهب أبو موسى خائفاً وجلاً إلى مجلس الأنصار وقال: أنقذوني من عمر تلوت له هذا الحديث فقال: ائتني بشاهد، قال له الأنصار: والله لا يأتي معك إلا أصغرنا قم يا أبا سعيد! إلى عمر، فقال: أشهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، فعاد عمر رضي الله عنه إلى القول بهذا الحديث]] وغيرها كثير من القضايا، ولا يلزم من المجتهد أن يكون عالماً بكل الشريعة ولا يزال طالب العلم مستفيداً والمسلم عارفاً ما أراد الحق، ويلتمس الحق ويستفيد من كل قوم، والمتكبر أجهل الناس، ولذلك تحرم منه الفائدة ويحرم منه الحق؛ لأن الله يقول: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146] فالمتكبر مصروف عن الهداية.
من صور التكبر: أن كثيراً من الناس لا يحضر مجالس الذكر ولا المحاضرات؛ لأن المتكلم أصغر منه سناً، وأقل علماً، وقد ولد قبله بأربعين سنة، ولد في الحرب العالمية الأولى، وهو ولد بعد الحرب العالمية الثانية، فتجده ممنوعاً من الفائدة، والذين يحضرون يستفيدون وهو لا يستفيد، وإذا سمع كلمة صد عنها وقال: ليست صحيحة، همه المعارضة؛ لأنه تكبر فهو من أجهل الناس، والعرب تسمي المتكبر احمق، وهو الخطر الداهم الذي يهدد كثيراً من الناس إن لم يتداركوا أنفسهم.(237/28)
مسائل مهمة
أيها الإخوة الفضلاء: سوف يكون قريباً وقد وعدتكم أن يكون هذا الدرس محاضرة بعنوان تسهيل العقيدة.
هناك أمور أريد أن أنبه عليها، أيها الإخوة الفضلاء وهي كالتالي:
1/ مسائل خروج الرجال والنساء، أبواب مخصصة للنساء، لا يجوز للرجال أن يخرجوا منها فهي خاصة بالنساء وهذا من تقوى الله عز وجل.
2/ مسائل الأحذية؛ لأن ديننا دين نظافة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدث عن هذا القضايا لأصحابه، هناك أماكن مخصصة للأحذية توضع فيها لكنا فوجئنا بالناس في كل درس يأتون فيضعون أحذيتهم في هذا البهو الذي يصلى فيه كل جمعة ثم يخرجون ويعلمون أنهم قد أساءوا إلى المسجد، والمسجد إنما هو لذكر الله والطاعات.
3/ منها أن كثيراًَ من الإخوة يأتي في غضون الدرس ويتخطى الصفوف حتى يقترب ويتخطى أعناق الرجال فيزاحمهم وهم أقدم منه وأفضل في المكان وأتوا من قبله هذا كذلك ليس وارد.
4/ منها أنه إذا أقمنا للصلاة تزاحم الناس على الصف الأول حتى شق بعضهم على بعض وهذا ليس بوارد لكن تفسحوا ولا يضر المسلم أخاه.
5/ منها أن كثيراً من الناس لا يعني كثيراً بهذه الدروس، وهذا للغائب وليس لكم، ويقول: ليس فيها جديد ولا أدري ماذا يريد هو من الجديد وعلى كل حال سوف يكون حقها أكثر من باطلها، وخيرها أكثر من شرها، لكن من المكاسب له أن يحضر وأن يأتي بمن يستطيع من زملائه وإخوانه حتى يستفيدوا لو لم تكن هناك فائدة إلا أن الله تعالى يقول في آخر المجلس انصرفوا مغفوراً لكم، وهذا من أعظم الفوائد وأجل المنافع.(237/29)
تنبيهات حول الدروس والمسجد والآداب
أيها الإخوة الفضلاء! سوف يكون قريباً وقد وعدتكم أن يكون محاضرة بعنوان تسهيل العقيدة.
هناك أمور أريد أن أنبه عليها، أيها الإخوة الفضلاء وهي كالتالي:
1/ مسائل خروج الرجال والنساء، أبواب مخصصة للنساء، هناك لا يجوز للرجال أن يخرجوا منها فهي خاصة بالنساء وهذه من تقوى الله عز وجل.
2/ مسائل الأحذية؛ لأن ديننا دين نظافة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدث عن هذه القضايا لأصحابه، هناك أماكن مخصصة للأحذية توضع فيها؛ لكنا فوجئنا بالناس في كل درس يأتون فيضعون أحذيتهم في هذا البهو الذي يصلى فيه كل جمعة ثم يخرجون وقد أساءوا إلى المسجد، والمسجد إنما هو لذكر الله والطاعات.
3/ منها أن كثيراًَ من الإخوة يأتي في غضون الدرس ويتخطى الصفوف حتى يقترب، ويتخطى أعناق الرجال فيزاحمهم وهم أقدم منه وأتوا من قبله، هذا كذلك لا ينبغي.
4/ منها أنه إذا أقمنا الصلاة تزاحم الناس على الصف الأول حتى شق بعضهم على بعض، وهذا ليس بوارد، لكن تفسحوا ولا يضر المسلم أخاه.
5/ منها أن كثيراً من الناس لا يعتني كثيراً بهذه الدروس -وهذا للغائب وليس لكم- ويقول: ليس فيها جديد ولا أدري ماذا يريد هو من الجديد، وعلى كل حال سوف يكون حقها أكثر من باطلها، وخيرها أكثر من شرها، لكن من المكاسب له أن يحضر، وأن يأتي بمن يستطيع من زملائه وإخوانه حتى يستفيدوا، لو لم تكن هناك فائدة إلا أن الله تعالى يقول في آخر المجلس: انصرفوا مغفوراً لكم، وهذا من أعظم الفوائد وأجل المنافع.(237/30)
الدعوة إلى الله أمانة في أعناقكم
ومن المسائل التي أريد أن أنبهكم عليها، وأمامي فضلاء وطلبة علم ودعاة، والمناطق محتاجة والقرى والبوادي وتهامة محتاجة إلى الدعاة، وداعية وحده لا يفعل شيئاً، ويد واحدة لا تصفق، ولكن يحتاج إلى إخوة، وغالب الإخوة أساتذة وطلبة في الجامعات، فعليهم أن ينطلقوا بهذا الدين، قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122] ولو أن يحتسب المرء مرة في الخميس والجمعة في سبيل دعوة إخوانه إلى القرى فينفعهم ويفيدهم، ويتكلم في المسائل التي تصلحهم، ويعظهم دون استثارات وإثارات، أو مسائل لا داعي لها، أو مسائل ليست من خصوصياتنا، إنما نحدث الناس عن الإيمان والعمل الصالح، وعن البدع والخرافات، ولو أن يأتي مثلاً: رسالة الصلاة أو رسالة الحجاب، أو رسالة التوحيد، أو رسالة ذم الغناء، أو رسالة في اغتنام الوقت، أو رسالة في القبر.
فيا أيها الإخوة: الله الله فقد تكلم من قبل سنة؛ بل من قبل سنتين في هذا الموضوع، لكن نرى أن المنطقة لا زالت بحاجة ماسة إلى الدعوة وفي عشرات القرى يسألون الداعية بالله العظيم حتى بالهاتف يسألونه بالله ويعرضونه وجه الله أن ائتي إلينا في محاضرة، ويقول كثير منهم: والله إنها تمر بنا من السنة إلى السنة ما قام داعية في المسجد إلا يوم الجمعة، وإن الخطيب يوم الجمعة يقرأ علينا من كتاب قديم ولا نستفيد منه معلومة، ولا يصحح لنا خطأ ولا ينهانا عن معصية ولا بدعة، فنسألكم بالله
فأنا أطرح الأمر بين أيديكم والمهمة مشتركة عندنا جميعاً ولا تخص واحداً عن آخر، أذكر على سبيل المثال في العطلة الصيفية يأتينا أناس من الرياض، من الشرقية، من الغربية من القصيم فيلوموننا على التقصير في الدعوة، ونحن نقول لهم: ونحن زملاء ودعاة والبلاد واحدة فنطالبكم بمثل ما تطلبوننا ادعوا واذهبوا أنتم إلى القرى بأنفسكم وتكلموا، فلا بد من التأثير، غالب القرى منها أناس هنا وأريد أن أحملهم مسئولية قراهم قدر المستطاع، ويقول عليه الصلاة والسلام: {بلغوا عني ولو آية} ويقول صلى الله عليه وسلم: {نضر الله امرأ سمع مني مقالة فوعاها فأداها كما سمعها فربَّ مبلغ أوعى من سامع}.
لا يصلح البلاد، ولا يستتب الأمن، ولا يرتاح الناس، ولا يجتمع شمل الأمة، إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة والعلم يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا}.
يوجد في القرى كبار السن يكسرون في الفاتحة ولا يجيدون قراءتها، وتجدهم يمسكون الإمامة ويحرمون طلبة العلم الجامعيين، بل بعضهم خريج الشريعة وأصول الدين، وبعضهم داعية متفوق أو طالب علم جدير يمنعه أن يقف على المنبر، ويبقى على الناس في خطبة مكتوبة من مائة سنة لا تعالج الوضع، ولا تتكلم في قضايا الساعة، ولا تصلح شيئاً، فيميت المنبر والمصلين ويميت قلبه، ويتحمل من الله أمانة لا يحملها يوم القيامة، وقد شكا كثير من الطلبة هذا الأمر بل بعض القرى يمنعون الداعية أن يتلكم، ما نريد القديم هذا فقط، يتحدث لهم في قضايا السلطان عبد الحميد فقط ويتلكم لهم عن أشياء مر بها الدهر وأكل عليها وشرب، وإلا فمسائل الشريعة كلها جديدة؛ لكن نحن نريد من يصلح ومن يتلكم بشيء يدخل إلى القلوب، ومن يتلكم عن الحالة الراهنة ثم قضايا الساعة، هذا هو المطلوب.
على الإخوة أن يتقوا الله في ذلك وعلى الأئمة من لا يحسن الإمامة أن يتركها لطلبة العلم شريطة أن يتركوا له الراتب؛ لأن مسألة الراتب (خطر ممنوع الاقتراب) ولا يمنع كثير من الشباب إلا من أجله فيكتبون له عهداً وميثاقاً ويشهدون عليه اثنين من كبار الحي بالله العظيم أن الراتب لك ولا نأخذ ريالاً، حينها تستتب الأمور.
لا يجوز للمسلم أن يكون سلبياً في حيه ولا في قريته، يذهب ويأتي للتعلم ثم يسأله الله تعالى عن حيه يوم القيامة، لابد أن تكون إيجابياً مؤثراً إذا ما استطعت أن تتكلم اشتر لك مائة شريط وزعها في البيوت، شريط عن العقيدة؛ شريط عن القرآن؛ شريط عن القبر؛ شريط عن الكبائر، يهدي الله بك مائة بيت ويأتون يوم القيامة في ميزان حسناتك، وهذا الإنفاق في أبواب الخير؛ لأن أهل الباطل ينفقون أموالهم وقد قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36].
يخبرني أحد الشباب المغنين بعد أن هداه الله قال: صاحب استريو لما نزلت لي أغنية بعت لهذه الأغنية فقط بخمسين ألفاً في أسبوع واحد، وهذا يعني أنها أمة بحاجة إلى مغنين ومطبلين، أمة هوى وعشق وهيام، فكيف ينظر إلى من دفع أمواله بل بعضهم يتهادون هذه الأشرطة من حي إلى حي ومن بلد إلى بلد.
الله الله يا أيها الإخوة! في نشر الخير، ونصرة الله عز وجل، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وعد من ينصره بأنه سوف ينصره حيث قال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51].
فأسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، وأن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، وبإذن الله تكون المحاضرة التي عن تسهيل ملبية للحاجة إن وجدت القرى والأماكن النائية حاجة ماسة إلى تبسيط العقيدة، وإيصال العقيدة سهلة ميسرة بدون اختلاف علها أن تكون في الأسبوع القادم.
أسأل الله لي ولكم في الأخير التوفيق والمغفرة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(237/31)
دفاع عن المرأة
المرأة اليوم مهضومة من المسلمين لا من الإسلام؟
نعم، لأن المسلمين لم يطبقوا أحكام الإسلام، فلم يراعوا حقوقها، بل ربما عاملوها بعكس ما هو لها، كما هو الحال في مسألة الميراث، والناظر في حال سلف الأمة يرى أن الإسلام هو الذي أعطاها حقها، ورفع مكانتها، والمرأة هي التي أنجبت خالداً وعلياً وعمر وغيرهم من الرجال الأبطال.
والواجب على كل مسلم أن يعي ويعرف حقوق المرأة، سواء كانت بنتاً أوأماً أو أختاً.(238/1)
أسباب الحديث عن المرأة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أمَّا بَعْد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عنوان هذا الدرس: (دفاع عن المرأة) وعندي ثلاث قضايا قبل أن أبدأ في الموضوع:
الأولى: أعلن لكم هذه الليلة كالليالي التي خلت حبي لكم في الله، فأشهد الله وحملة عرشه وملائكته ثم المؤمنين أني أحبكم في الله حباً صادقاً، أسأل الله أن ينفعني وإياكم بهذا الحب، وأن يجمعنا وإياكم في دار الكرامة، وفي مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.
الثانية: أرحب بأصحاب الفضيلة المشايخ الذين شرفونا بالحضور في هذه الليلة، وكنا ننتظرهم وننتظر غيرهم كثيراً، وإني أرى أن من المسائل التي تنقص المنطقة: عدم مشاركة العلماء والمشايخ والقضاة الندوات والدروس والمحاضرات، وقد رأيت عالم البلاد بل عالم الأمة الإسلامية سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وهو يحضر الندوات مع علماء الرياض، ويشيد بطلبة العلم ولو كانوا مبتدئين ويشد من أزرهم؛ لأن هذا جهاد، ومرابطة المجاهدين على الصبر مطلبٌ شرعي، ورأيت كذلك علماء القصيم، فإذا هم يحضرون الندوات والمحاضرات لا يغادرون منها شيئاً، فما حقنا إلا أن نحضر وأن نبارك جهد المقل والمقصر، وفي هذا إغاظة للمرتدين والمنافقين، وفي هذا إظهار لعظمة الإسلام والمسلمين، وإظهار للتكاتف والتعاون على البر والتقوى.
أما عنوان هذا الدرس (دفاع عن المرأة) فله سبب.
الثالثة: وقبل أن أبدأ اسمحوا لي أن أقرأ رسالة عاجلة، وإن شئتم سموها برقية مستعجلة.
إلى أخواتي وبناتي في المدرسة التاسعة عشرة الابتدائية (بـ أبها) السلام عليكن ورحمة الله وبركاته، وحماكن الله وستركن، وحفظكن في الدنيا والآخرة.
وبعد:
ربما أسيء فهم ما قلته في درس (بريد المستمعين) عن المدرسة التاسعة عشرة، وربما كان من تدبير المولى جلت قدرته، أن ينشر فضائل الفضلاء والفاضلات عن طريق النقد، قال أبو تمام:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسودِ
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العودِ
وإني أعلم أن هذه المدرسة بالذات فيها ما يقارب عشرين مدرسة كافلات أيتام، وداعيات متحجبات، وكريمات حشيمات:
حور حرائر ما هممن بريبة كظباء مكة صيدهن حرام
وإني أعد تكلم النساء عن قضاياهن من الواجب الشرعي، وإني أدافع أنا وأمثالي عنهن بدمائنا وجماجمنا وأرواحنا، وقد حملني ما وقع في درس (بريد المستمعين) إلى أن ألقي هذا الدرس بعنوان (دفاع عن المرأة) وإنني أهدي من هذا الدرس خمسمائة شريط للابتدائية التاسعة عشرة مع السلام والتحية، فليست مشكلة المسجد عندهن فحسب، بل عند كثير من المدارس، ومن نعمة الله عز وجل أن رزقني بأربع بنات وأنا بهن سعيد، أسأل الله لهن ولجميع بنات المسلمين الصلاح والسداد والحفظ والرعاية.
أما الجمعية الخيرية النسائية بـ أبها فلا أزال على تخوفي وتحفظي أنا وطلبة العلم والدعاة والمشايخ، وأخذاً بالحديث: {فر من المجذوم فرارك من الأسد}.
وأشارك الشاعر -في إصراره لا في أفكاره- فأصر على ما قلت في السبت الماضي نحو الجمعية النسائية الخيرية كإصرار الشاعر لا كفكره يوم يقول:
أتوب إليك يا رحمان مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوب
وأما عن هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوبُ
أما أسباب هذا الدرس فثلاثة أسباب:
الأول: لأن المرأة أصبحت طريقاً للغزو ونافذة للتأثير الحضاري، وأصبحت لعبة بيد المهرجين والمروجين ينفذون منها إلى قعر دار الإسلام.
الثاني: اتهام الإسلام من قبل أعدائه بأنه حجر على المرأة حقوق المشاركة، وحجمها، وقلص دورها في الحياة الدنيا، وأنه سبب تعاستها! أتعسهم الله!
الثالث: تقصير كثير من الناس في حقوق المرأة، والتهاون بشأنها الخطير، ومكانتها السامقة التي أنزلها بها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.(238/2)
المرأة في الكتاب والسنة
يقول المولى جلت قدرته وهو يذكر الناس بتقواه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
وقال جلت قدرته: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
وقال جل وعلا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189].
قال بعض أهل التفسير: وخلق منها زوجها: حواء خُلقت من ضلع آدم، وقال غيره: بل كل زوجٍ من أصل الزوج الآخر ليسكن بعضهم إلى بعض، وسمى الله الأزواج سكناً ولباساً؛ لأنهن سترٌ في الدنيا والآخرة.(238/3)
معاملة الرسول للنساء
حثَّ عليه الصلاة السلام على الرحمة بالمرأة ودافع عنها، وهو الذي أعلن حقوقها حتى يوم عرفة، يوم وقف أمامه مائة وأربعة عشر ألفاً، فأوصى بهن عليه الصلاة والسلام، وقد رزقه الله أربع بنات، وأحيا الله بناته حتى رآهن، وزوجهن ودفن بعضهن، وكان يبدأ بهن قبل أن يسافر، ويبدأ بهن إذا وصل من السفر، من حبه لهن عليه الصلاة والسلام.
وكان يقول كما في الحديث الصحيح: {إن المرأة خلقت من ضلع} وقال ابن عباس: [[من ضلع آدم]] وقد روى أحمد والترمذي عن عائشة رضي الله عنها، ورواه البزار وأبو عوانة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنما النساء شقائق الرجال} حديث حسن، والمعنى: أن المرأة شقيقة الرجل، وأنها نصف المجتمع، وأنها المؤدية للرسالة في بنات جنسها، والمرأة عندنا أم، وزوجة، وبنتٌ، وأختٌ، ومعلمةٌ، ومربيةٌ، وداعيةٌ، قال سبحانه وهو يتفضل على عباده بالعمل الصالح: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35].
فذكر الله أفعال الخير حتى ختم الآية، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة آل عمران حين ذكر الدعاة والمجاهدين والعاملين والمهاجرين: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71].
فهناك حزب المؤمنين والمؤمنات، وهناك حزب المنافقين والمنافقات، وهناك لواء المسلمين والمسلمات، وهناك لواء المشركين والمشركات، وقال عليه الصلاة والسلام وهو يوصي الأمة بالرحمة بهذه المرأة الضعيفة: {إنهن عوان عندكم} وفي لفظ: {الله الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم} قال أهل غريب اللغة: عوان: أسيرات، فالمرأة أسيرة ووجب على المسلم أن يرحمها ويقدرها ويحترمها، وصح عنه عليه الصلاة والسلام عند أبي داود وغيره أنه قال: {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي} فخير الناس لأهله محمد عليه الصلاة والسلام، قالوا لـ عائشة: {كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليكن؟ قالت: كان يدخل ضحاكاً بساماً} فكان يضحك صلى الله عليه وسلم مع أن المشاكل التي تطوف بأمته والحوادث التي تستقر على رأسه لو وضعت على كثيرٍ من البشرية لما استطاعوا حملها.
في صحيح البخاري في كتاب الأدب قال زيد بن ثابت: [[من السنة المزاح مع الأهل، والوقار خارج البيت]] فبعض الناس عكس الآية، مزاحاً ضحاكاً مع زملائه وأصدقائه، وقطوباً عبوساً مع أهله في بيته.(238/4)
المرأة عند أهل الشعر والحكمة
قال بعض الشعراء المسلمين عن المرأة:
سلامٌ أيها الأم الحنون ويا أم الرجال لك الشجون
فأنت ولودة الأبطال يُحمى عفافك بالجماجم لا يهون
معنى البيت: أننا نقدم الجماجم عن أعراضنا وعن بناتنا، وما أظن أحداً سوف يتأخر إذا رأى أن بناته وأخواته سواء في المدارس أو الجامعات، أو المستشفيات يُمس أعراضهن، ولا حيَّا الله الحياة، ولا أسعد الله الدنيا إذا لم تجر في عروقنا حمية المحافظة على البنات والأخوات، كما يقول شاعرنا:
نحن وجه الشمس إسلامٌ وقوه نسبٌ حرٌ ومجدٌ وفتوه
كربٌ عمي وقحطان أبي وهبوا لي المجد من تلك الأبوه
نحن أسد الله في وجه الردى قد وضعنا الكفر في سبعين هوه
والسيوف البيض في وجه الردى يوم ضرب الهام من دون النبوه
وقال أديبٌ عصري يدافع عن المرأة أمام الحضارة الزائفة المزعومة:
أخرجوها من العفاف إلى السو ق وشقوا جلبابها بالمحاجر
جعلوها على المجلات رمزاً للهراء المفضوح في كف فاجر
وادعوا أنهم بها حرروا الجيل وقد مزقوا الحيا بالخناجر
وقد سلف أن كاتباً يسمى الغريافي قبل عشر سنوات كتب قصيدة (مزقيه): ورددت عليه بقصيدة منها:
حين نادى يا بنة الإسلام خدرك مزقيه
دخل أحد الحكماء على ملكٍ من الملوك، فوجد طفلة الملك جالسة عند الملك، فقال الملك: سمعت أن الناس يقولون: إن البنات يقربن البعيد ويبعدن القريب ويقطعن الأرحام، فقال الحكيم: كلا أيها الملك! والله إنهن رياحين القلوب، أتين بالرجال.
أي: إن الرجال من النساء، من أين أتى خالد بن الوليد وعمر وصلاح الدين ونور الدين وعمر بن عبد العزيز؟ من النساء، فهن قد أتين بالرجال، وحملن بالأبطال، دررٌ مكنونة، ومطارف مصونة، يقمن على المريض، ويذكرن الميت، رحيمات بالأولاد، خدومات للأجداد، حجابٌ عن النار وكنزٌ في الدار.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من عال جاريتين فرباهن وأحسن إليهن وزوجهن كن له حجاباً من النار}.
فالحجاب من النار تربية البنات في البيت على تعاليم الكتاب والسنة، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9].
وكان أبو بكر الصديق يقرأ في قراءته {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9].
وأول من رفع وأد البنات: محمد عليه الصلاة والسلام، وسوف يسأل الله عز وجل من وأدهن في الجاهلية.
وعندنا وأدٌ من نوعٍ آخر، فإن الجاهلين كانوا يذبحون الفتاة الطفلة ذبحاً، وينكسونها على وجهها، ونحن في مجتمعات العالم الآن الذي لا يتحاكم إلى الكتاب والسنة، يذبحون عفافها ودينها وحجابها ومكانتها وطهرها، يريدونها عارضة أزياء، ومروجة أحذية، وورقة دعاية في المؤسسات والشركات والمحلات، فحسبنا الله ونعم الوكيل! {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
قال أبو الطيب المتنبي وهو يرثي أم سيف الدولة:
فلو كان النساء كمن عرفنا لفضلت النساء على الرجالِ
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخرٌ للهلالِ
يقول: لو كانت النساء مثل أمك يا سيف الدولة! لفضلت النساء على الرجال، فليس بعيبٍ أن تسمى فاطمة أو عائشة أو زينب أو أسماء أو خديجة فإن الشمس مؤنث وهي أحسن من الهلال، والهلال مذكر، وفي الرجال من لا يساوي قلامة ظفرٍ من امرأة، وفي النساء من تساوي ألف رجل، والواقع والتاريخ يشهد لذلك، {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3].(238/5)
وضع المرأة في المجتمعات المعاصرة
لماذا نهتم بالمرأة؟
لماذا ندافع عن المرأة؟
لأنها مظلومة، ظلمت من المجتمع الجاهلي الوثني الشركي في الجزيرة العربية، فحرموها الميراث والرأي، وجعلوها عقيماً عن حمل المبادئ، واستخفوا بها حتى عاملوها كما عاملتها الحضارة الغربية والثقافة المادية تماماً -ذكر ذلك أبو الحسن الندوي في كتابه ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين - فأي مصيبة دهماء لا يعلمها إلا الله حلّت بالمرأة في جاهليتها المعاصرة؟!
وهي مظلومة من الوضع الكافر الذي نعيشه الآن، يوم أخرج المرأة بعد الحرب العالمية الثانية لتقود الدبابة، وتكون طيارة، وتأخذ السلاح، وتحمل الكلاشنكوف تصارع الأبطال والكتائب، وتقاتل في ساحة المعركة، وتكون جندية مرور، إنها والله أمور تدل على أنهم ما قدَّروا المرأة حق قدرها، وأنهم خذلوها في أعظم شيء تملكه، وهو العفاف والطهر والحياء.
والمرأة مظلومة من بعض الآباء، فإن كثيراً من الآباء لا يعرفون قدر المرأة فلا يستشيرونها، ولا يعتبرون رأيها، ومنهم من كان حجر عثرة في زواج ابنته، فإذا تقدم الكفء رفضه برأيه هو لا برأيها، حتى تعيش العنوسة والأسى.
وهي مظلومة أيضاً من بعض الأزواج فهو يتعامل معها كأنها دابة في البيت، لا احترام لها، ولا رحمة، ولا سماع رأي، ولا مناقشة بالتي هي أحسن، ولا إعطاء حقوق، وإنما يراها أنها من صنفٍ آخر، ويتعامل معها بفظاظة وغلظة، وسوف يأتي شيء من ذلك.
الله عز وجل يدافع عن المرأة، لأن المرأة من المسلمين المؤمنين، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].
فالذي يدافع عن المرأة أولاً؛ هو رب العزة والجلال الله رب العالمين!
والرسول عليه الصلاة والسلام يدافع عن المرأة، فقد أعطاها حقوقها، وسن لها صلى الله عليه وسلم ما لها من حق في كثيرٍ من المناسبات.(238/6)
جواز التكني بأسماء البنات
عندما جهل المجتمع الفقه في الدين -اسمع ماذا حدث حتى في مجتمعاتنا المبسطةوالتي هي قريبة من الفطرة ومن الكتاب والسنة- يقولون في المجالس إذا ذكروا المرأة: المرأة أكرمكم الله!
المرأة كرامة بذاتها وهبة من الله وعطية منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للإنسانية، لكن هذا الجاهل وهذا الأحمق يظن أنه إذا ذكر المرأة فإنه قد دنس الأسماع أو المجلس، فيقول: المرأة أكرمكم الله!! وهذه كلمة خاطئة حرامٌ أن تنطق وأن تقال، وعلى من حضر المجلس وسمع هذا أن ينكر بأشد الإنكار ويقول: لا تذكروا المرأة بهذا التعريض المشين فإنها كريمة محترمة، ولا بأس أن يذكر اسمها (كما سوف يأتي).
ومنها: أن بعض الناس يجد غضاضة واحتقاراً ونقصاً أن يتكنى باسم البنت أو المرأة، فيأنف أن يقال له: يا أبا فاطمة! ويا أبا خديجة! ويا أبا أسماء، وهذا خطأ! فقد تكنى الصالحون والأبطال في المعارك ببناتهم، وسمي الخلفاء والزعماء ونسبوا إلى أمهاتهم لشرف أمهاتهم، وكان كثيرٌ من السلف يكني الرسول عليه الصلاة والسلام بأبي الزهراء أي فاطمة البتول بنت الرسول عليه الصلاة والسلام التي يقول فيها محمد إقبال شاعر الباكستان:
هي أم من؟ هي بنت من؟ هي زوج من؟ من ذا يساوي في الأنام علاها
أما أبوها فهو أشرف مرسلٍ جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي زوج لا تسل عنه سوى سيفٍ غدا بيمينه تياها
قال شوقي:
أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك غير أن لي انتسابا
يخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام.(238/7)
أمثلة لمن افتخر بنسبه إلى أمه
وكان صناديد العرب ينسب الواحد منهم لأمه ليزداد شرفاً وفخراً، فصفتها أنها عفيفة وشريفة وأنها محترمة وهو جرير:
فما كعب بن مامة وابن سعدى بأجود منك يا عمر الجوادا
تعود صالح الأخلاق إني رأيت المرء يلزم ما استعادا
عليكم ذا الندى عمر بن ليلى جواداً سابقاً ورث النجادا
فـ عمر بن ليلى هو عمر بن عبد العزيز، وكان يرتاح إذا قالوا له: ابن ليلى، وكان عثمان رضي الله عنه يرتاح بمجالسه إذا قالوا: يا بن أروى، ودخل النابغة الذبياني على النعمان بن المنذر فمدحه في القصر أمام الناس، وأثنى عليه وعلى حكومته في المناذرة وهم ملوك العرب وقال:-
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلولٌ من قراع الكتائبِ
تخيرن من أزمان يوم حليمة إلى اليوم قد جربن كل التجاربِ
يقول: من عهد جدتكم حليمة، وسيوفكم تقطر دماً من أعدائكم، فارتاح الملك واستعاد البيت وأعطاه جائزة.
فلا حرج من عليك أن تتكنى بابنتك، وأن تتشرف بهذا.
وكان قطري بن الفجاءة اسمه أبو نعامة باسم بنته، وقيل: باسم فرسه، والصحيح أن ابنته اسمها نعامة، فكان إذا حمي الوطيس خلع خوذته من رأسه، وقال: أنا أبو نعامة، وهو الذي يقول قصيدته الرائعة الشائقة ولو أنه كان خارجياً جلداً صلباً لكني أذكره لقصيدته يقول:
أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لن تراعي
فإنك لو سألت بقاء يومٍ على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاع(238/8)
شهرة أسماء الصحابيات في مجتمعهن
وكان صلى الله عليه وسلم يُسمي النساء بأسمائهن، وكان الصحابة يتداولون أسماء نساء الصحابة وبناتهم وأخواتهم، لأنها مادامت أنها شريفة وعفيفة وطاهرة وجزءاً من المجتمع، فلماذا تكني وترمز لنا رموزاً وتلفف لنا الأسماء؟ وبعضهم يقول: مَكْلَفْ صانكم الله، مَكْلَفْ أكرمكم الله، وهذا لا يقوله إلا السفهاء الحقراء الذين لا يفقهون شيئاًَ.
في الصحيحين: {أن زينب امرأة ابن مسعود استأذنت على الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان بلال بالباب، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: من بالباب؟ قال بلال: زينب يا رسول الله! قال: أي الزيانب؟ -لأن الزيانب في المدينة كن كثيرات - قال: امرأة ابن مسعود، قال: فأذن لها}.
وفي الصحيحين: {أن أم هانئ أخت علي بن أبي طالب استأذنت، فقال صلى الله عليه وسلم: من؟ قالت: أم هانئ، قال: مرحباً بـ أم هانئ} فأجارت ابن هبيرة فأجاره صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعرف قائمة من نساء الصحابة، نعرف اسم امرأة أبي بكر، وامرأة عمر وامرأة عثمان، وامرأة علي، والعشرة، وأهل بدر وشعراء الصحابة، لكن لما طال الأمد أنف بعض الناس أن يذكر الأسماء، ورأوا أنها من الحرج، وأنه إذا ذكر اسماً إنما يذكر أموراً أخرى، وهذا خطأ لا يصح، بل نذكرها شرفاً، والله قد ذكر في القرآن أسماء نساء، ولله الحمد والشكر!
يقولون: كانت امرأة أبي جعفر المنصور أو المهدي اسمها الخيزران، فدخل أحدهم وبيده عصا من خيزران -التي تصنع منها الرماح- فقال الخليفة وحوله الأمراء والوزراء والعلماء: من أي الشجر صنعت هذه العصا؟
فخشي أن يقول: من الخيزران، فيعرض بامرأته قال: من عروق الرماح، قال له: الخليفة بيض الله وجهك! وهذا جميلٌ ورأي طيب في مثل هذا، وأنا أؤيد مثل هذا الجواب الصحيح لأمرٍ ما؛ لأنه لو قال صنعت العصا من الخيزران لتبسم بعض الناس وأحرج الخليفة؛ لأن الخيزران في البيت!!!(238/9)
هضم حق المرأة في الاستشارة
ومن الأمور التي تعيشها المرأة في بعض المجتمعات: أنه لا يُسمع لها رأي ولا يحترم لها فكر، ويرون أن المرأة لا تأتي برأي صائب، ويقولون: إذا أشارت عليك المرأة برأي فخالفها فالصواب معك، فإذا طلبت منك أن تتجه شرقاً فاتجه غرباً، وإذا طلبت منك أن تقوم فاقعد، وإذا قالت اقعد فقم، وهؤلاء مخطئون؛ بل كثيرٌ منهن في رأيهن البركة والخير الكثير.
وبعضهم يوصي بعدم استشارتها أصلاً، وبألا تطرح عليها الأفكار.
والرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين استشار الجارية عن عائشة، وفي عفافها، فأشارت على رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، فكيف بالعاقلات الكبيرات المؤمنات الداعيات المحترمات؟!(238/10)
حرمانهن من الميراث
ومن الأمور التي تعاني منها المرأة: حرمانها من الميراث، وهذه مأساة اجتماعية تعيشها المجتمعات القروية والبدوية والقبلية، فيرون من العيب أن تذهب المرأة لتطلب ميراثها من أهلها، وينددون بمن يفعل ذلك، وهم المخطئون، وعلى هؤلاء أن يؤدبوا تأديباً رادعاً يزجرهم وأمثالهم، وأن ترفع قضاياهم إلى القضاة الشرعيين حتى يؤخذ بصددهم الإجراء اللازم، لأنهم خالفوا منهج الله، وحكموا بغير حكم الشريعة، ورفضوا الكتاب والسنة.
الميراث حق للمرأة لم يتوله نبيٌ مرسل، ولا ملك مقرب، ولا عالم من العلماء، وإنما تولاه الله بنفسه، فأعطى كل ذي حقٍ حقه، فله الحمد وله الشكر.
وبعض الناس الآن حرم قريبته وخالته وبنته وأخته من الميراث، وإذا ذهبت تأخذ الميراث شنَّع عليها أهل الحي والقبيلة والقرية، وهؤلاء مخطئون، والواجب أن نصحح هذا الخطأ القبيح الذي أصبح وصمة عار في وجوه أهل الإسلام، لا بد أن تعطى مباشرة ولو رفضت تجبر، ويذهب المعصب أو القريب بنفسه ليعرض عليها حقها الذي أحقه الله سبحانه لها.(238/11)
تحجيم دورها في الأعمال المضنية
يفهم بعض الجهلاء أن دور المرأة فقط أن تنجب وأن تضع وأن ترضع، أما غير ذلك من الحياة فليس لها مجالٌ فيه، وهذا خطأ، لها التربية ولها أن تعلم بنات جنسها، ولها أن تدعو ولها أن تشارك برأيها وبدعائها، وأن تقوم على أطفالها، وأن تخرج العلماء والزعماء والأدباء والقادة والشهداء والصالحين، إلى غير ذلك مما سوف أذكره.
أما إتعابها بالعمل وتكليفها فوق الطاقة فلا يجوز، وهذا يوجد في المجتمع القروي والبدوي والقبلي، فيجعلونها تكد كداً لا يعلمه إلا الله، حتى كأنهم لا يتصورون أن لها طاقة محدودة، وأنها ضعيفة، وأنها تحمل وتضع، وأنها تعاني الأمرين، فتشارك في الحراثة والزراعة والاحتطاب ورعي الأغنام وحمل الأثقال وصنع الطعام وكنس البيت، وتعمل الساعات الطويلة من العمل المضني الذي لا يعمله إلا عمال المناجم في مناجم الفحم أو مناجم استخراج الذهب والفضة، وهذا لم يقره الإسلام.
فنقول: النساء لهن طاقة محدودة، والمرأة ضعيفة، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: {الله الله في النساء} والمعنى: في ضعفهن فإنهن ضعيفات لا يستطعن حمل كثيرٍ من الأمور، لكن المجتمع الجاهلي قد يكلف المرأة عملاً من الأعمال، ويجدها مقصرة إذا لم تقم بهذا العمل، فتجد الرجل يفرض على امرأته أن تحرث وتزرع وتحمل الحبوب وترعى الأغنام وتحتطب وتذهب وتأتي وتستقي، وتعمل أعمالاً كثيرة لا يعملها أربعة عمال أو خمسة، والإسلام لم يأت بهذا أبداً، وهذا ظلم لها لا يقره دين الله.(238/12)
حرمانها من التعلم
ومما تعاني المرأة: حرمانها من التعليم في بعض الجهات، والتعليم عندنا بمواصفات إسلامية، تحت مظلة (إياك نعبد وإياك نستعين) أن تتعلم المرأة ما يقوم بشئون دينها، ويقربها من الله، ويجعلها خائفة متقية متحجبة محتشمة، في هذا الحدود، وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابيات.
{أتت امرأة أظنها أسماء بنت يزيد فقالت: يا رسول الله! ذهب الرجال بك يجاهدون معك، ويحجون معك، ويغزون معك فاجعل لنا يوماً من نفسك} فجعل لهن صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين يعلمهن في ذاك اليوم ويفتيهن عليه الصلاة والسلام، والبخاري في صحيحه يقول في كتاب العلم: باب: هل يجعل الإمام يوماً من نفسه للنساء؟ أو كما قال، فكان صلى الله عليه وسلم كلما أتى يوم الإثنين كان فيه لقاء مع النساء يتحدث لهن، ومع عصمته كان صلى الله عليه وسلم لا يمس امرأة لا تحل له، ولا يصافح امرأة أجنبية.
وفي الصحيحين: أنه خطب الرجال يوم العيد ثم قال لـ بلال: {هيا بنا إلى النساء فخطبهن ووعظهن، وقال: تصدقن ولو من حليكن} أو كما ورد في الحديث.
أما أن تبقى المرأة جاهلة؛ لا تجود القرآن، ولا تحفظ كتاب الله عز وجل، ولا تعرف السنة ولا الفقه فذلك أمر مرفوض.
كما أن التعليم الفاضح الذي يدعو المرأة إلى أن تشارك الرجل في البرلمان، وأن تشاركه في حقول الحياة، وأن تخرج متبذلة متكشفة سافرة نرفضه، ونعتبر أنه تعليم جاهلي لا يزيدها إلا سقوطاً ويقودها إلى النار، إنما نريد تعليماً إسلامياً موقراً مقدساً طاهراً يقودها إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
كانت عائشة رضي الله عنها عالمة وتحفظ من الشعر، قال الزهري: [[كانت عائشة تحفظ من الشعر ثمانية عشر ألف بيتٍ]] وكانت تفتي الصحابة حتى في معضلات المسائل، وهناك كتاب ألفه بعض المحدثين فيما استدركته عائشة على كبار الصحابة، وفتاويها جمعت في مجلد كبير، وهي مجتهدة مطلقاً وممن يحق لهن حق الاجتهاد في الإسلام.
وكانت عمرة بنت عبد الرحمن عالمة من عالمات التابعين، ومعاذة، وكذلك بنت سعيد بن المسيب، وكريمة بنت أحمد شيخة ابن حجر روت لأكثر من ستين ألفاً من الأمة صحيح البخاري، وعالمات كثيرات؛ حملتهن كتبٌ وسيرٌ وتواريخ.
أيضاً وضعها في عمل لا يليق بمكانتها كما أسلفت كرعي الأغنام والخروج للاحتطاب، وكذلك تدريبها على السلاح ودخولها في الجيش، وفي المرور، وفي مواجهة الناس كالعمل في الجوازات، وعلى المنافذ العامة، وفي المستشفيات لمباشرة الرجال، وفي النوادي الطبية، وأماكن التمريض، كل هذا لا يجوز في الإسلام، فلا بد أن يكون عملها في حقلها مع بنات جنسها، لا ترى الرجال ولا يرونها.
وقد سألت صحابية رسول الله عليه الصلاة والسلام في حديثٍ حسن: {ما أحسن شيء للمرأة؟ قال: ألا ترى الرجال ولا يرونها} وهي وصيته عليه الصلاة والسلام التي تبقى أبد الدهر حلاً للمرأة في دنياها وأخراها.(238/13)
نسبة المشاكل إليها
ومما تعانيه المرأة أيضاً: نسبة المشاكل كلها إليها، وأنها مصدر الإزعاج، وعند بعض الناس أن كل عقدة وكل مشكلة في البيت من جانب المرأة، وتجد حتى في القضايا الشرعية عند القضاة إذا أتى الرجل يتحدث بسط لسانه في زوجته، وتكلم عن ظلمها وعن إساءتها، وهي خجولة لا تستطيع أن تبدي حجتها، فيظلمها، وقد قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18].
قالوا: هي المرأة لا تبين في الخصام، ولا تدافع عن نفسها ولا تستطيع أن تعرض حجتها، فيستغل ذلك كثيرٌ من الناس حتى في القضايا الأسرية، فإذا أتوا إلى الحكم من أهلها والحكم من أهله، أتى الرجل يتكلم بالمحاضرات؛ لأنه جريء، ويفتعل الأقاويل، وأتت هي تبكي لا تستطيع أن تدافع عن نفسها، فليتق الله الناس في هذا، ولا ينسبوا المشاكل للنساء، فإنه لا يحدث في البيت أمر إلا وكان للرجل ضلع في ذلك، وربما كانت في الحالات النادرة سبباً رئيسياً، لكن ليس دائماً.
ونريد أن نزيل عقدة نسبة الخطأ دائماً إلى المرأة.
ومنها: عدم فتح مجالات الدعوة للمرأة، وكثيراً ما ينادي الدعاة إلى مراكز الدعوة المحترمة، وأن هناك دروساً للنساء، وتقوم امرأة تدرس بنات جنسها، أو حلقات تعليمية في القرآن وعلم الحديث والتفسير والفقه، وأن تقوم المرأة كذلك في حيها بجمع جاراتها على درسٍ أسبوعي.
وقد وصلني أخٌ فاضلٌ أكرمه الله من آل يزيد باقتراح جيد عجيب رائع للمرأة، وهو ينص على أن يكون هناك مجموعات من الفتيات يتولين في كل قرية إرشاد النساء؛ لأن المرأة تعيش اكتساحاً رهيباً لا يعلمه إلا الله، فهي محاربة ومهددة في عرضها دينها من كل جهة، الجمعيات النسائية، الفيديوهات، الأطروحات، الأشرطة، المجلات، الدوريات، التلفاز، الدعايات المغرضة، ومع ذلك لا بد أن نتواصى وأن نتعاون، ونحن ذهبنا مذهباً جميلاً في مسألة المحاضرات والدروس واللقاءات والندوات للرجال، أما النساء فلا!! فأنا أضع هذا ولكلٍ منكم أن يقترح اقتراحاً يرضاه ويراه، ويشاور زوجته إن كانت من الداعيات، أو طالبات العلم، أو الصالحات.(238/14)
الغزو الفكري للمرأة
توجيه الغزو الفكري والخلقي للمرأة بواسطة المجلات والأفلام، والنشرات والأغاني، رأيت في بعض الأسواق هنا في أبها أكثر من ثماني عشرة مجلةً تحمل صورة المرأة الفاتنة على الغلاف، وهم يعرضون المرأة من باب الجمال فقط، لا يعرضونها من باب الدين، أو أنهم يشيدون بعقلها أو بمكانتها، أو بمستواها العلمي أو الثقافي، أو بذكائها وبمصداقيتها وبطهرها، إنما بجانب الجمال المتهتك، وأنا أعتقد اعتقاداً جازماً أن اللواتي صوِّرن في المجلات، قد بعن أنفسهن من قبل هذه الصور في سوق النخاسة العالمي، والتي تضيع فيها المرأة، نعوذ بالله من الفتن!(238/15)
المرأة في محلات الأزياء
محلات الأزياء تحمل دفاتر كبرى في تفصيلات الموضات الجديدة، والأشكال والطرازات الحديثة في لباس المرأة وزيها، وهي تهدد المرأة، أيضاً محلات الخياطة والتفصيل، هناك مقاسات كاشفة فاضحة عارية تعرض في البيوت، وبعض الفتيات يرسلن السائق، أو ترسل أخاها إذا كان أحمقاً، فيذهب فيأتي بالمجلات ويعرض عليهن المجلة في البيت، وغير ذلك من هذه الأمور.
أيضاً تعرض في بعض المحلات ما يسمى (السوبر ماركت) صور متهتكة ودعايات، وهذه منتشرة على العلب والكراتين، وأصبحت عند العالم الكافر المتخلف علامة للدعاية والجذب ليس إلا، كذلك بعض الأفلام والدوريات حمانا الله وإياكم!
أيضاً الأغاني التي أمطرت بها الأسواق، وأحرج بها الناس، وكما تعرفون الخبر الذي ورد أن أغنية لمغنٍ واحد وصلت إلى الأسواق وبيع منها في أسبوع واحد بخمسين ألف ريال.
فقل لي بالله، كيف يكون البيت إذا دخل الشريط التسعون دقيقة فيه وهو يحمل خمس أغاني أو أربع أغاني؟! كيف يهتك ذاك البيت ويضيعه، ويصنع هذا أناسٍ لا يخافون الله في الجيل ولا في الأمة.(238/16)
تفضيل الأولاد على البنات
ومن الأخطاء الشائعة: تفضيل الأولاد -عند البعض- على البنات في الحب والتقدير والإكرام، فتجد بعض الجهلة يقدم أبناءه بالاحترام ولو كانت البنت أكبر، فيعطي الفنجان الابن وهو أصغر منها، ويسلم على الابن قبل البنت، ويقدم الابن في الركوب، ويقدمه في أشياء من خلالها تشعر البنت إزاءه بالنقص وبالتقصير وبالاحتقار، وهذا لا يقره الإسلام.
وقد أوجب علينا الله سبحانه أن نعدل بين أولادنا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فإذا قبَّلت واحداً منهم فقبِّل بقيتهم، وإذا قلت لهذا كلمة طيبة، فقل للجميع مثلها، وما تدري من البركة فيه.
أعرف بعض كبار السن الذين ما احتضنتهم في الأخير بعد عناية الله إلا بناتهم! تمريضاً ورعاية وخدمة، أما الأبناء فلم يستفيدوا منهم شيئاً، وبعض الناس قامت ابنته بما قام به أولاده جميعاً، فتجد البنت أعطف وأرحم، وأحسن وأكثر دعاءً وطاعةً لأبيها، فما تدري مَن الخير فيه، فعليك ألا تحقر هذه البنت، وألا تقدم أولادك عليها بحجة أنهم ذكور، فإنهم كلهم عطايا من الله عز وجل، ولهم الأحقية المشتركة في حبك وبرك وعطفك وحنانك.(238/17)
استخدام المرأة للدعاية
ومن الأمور التي تعاني منها المرأة: أنها في كثير من الأماكن وسيلة للدعاية -وقد مر شيء من ذلك- ومن المآسي التي تعيشها الأمة، أن تكون المضيفات في الطائرات نساء ولو حجبن شعورهن، فإنها مأساة، ولا يستطيع أن يقول أحد إلا أنها مأساة، أن يركب مائة وخمسون أو مائتان من الركاب المسلمين المصلين الناسكين، فيفاجئون بأربع مضيفات مختارات جميلات.
رأيت في جريدة الأهرام -قطعة أوصلها إلىَّ بعض الإخوان- إعلاناً أن شركة الخطوط تريد مضيفات من بلاد أجنبية، واشترطوا شروطاً أن يكون عمرها من أربعة عشر إلى تسعة عشر لا تزيد ولا تنقص، وأن تكون جميلة إلى غير ذلك، فعرفنا أن المقصد مقصدان:
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ وإن لقيت معدياً فعدناني
وكذلك سكرتيرات في بعض المكاتب والسفارات، والمنتديات والنوادي، والفنادق والمستشفيات والعيادات وأماكن التمريض، وأماكن تجمع الناس، وهذا من احتقار المرأة، ومن عرضها وتشهيرها للفجرة.(238/18)
عدم العدل بين الزوجات
الكثير من الناس يدعون إلى التعدد، ولا يذكرون العدل بين الزوجات الذي هو الأهم، فإن كثيراً من المحاضرين والدعاة يدعون الناس إلى أن يعددوا وأن يكثروا من الزوجات، بينما لم يذكر في محاضرة واحدة العدل بين الزوجات، فإن هذا أهم، وإذا خلت مسألة العدل ارتاح الناس.
وكانت مسألة التعدد سهلة، لكن أن يتحدث عنها بعض الناس، ويقوم بدعوة الناس للتعدد، ثم يترك المشكلة الكبرى وهي عدم العدل فهذا خطأ، ولذلك وجد من تزوج مثلاً بثانية فأهمل الأولى تماماً، وجعلها ليست مطلقة ولا متزوجة وإنما هي معلقة، وجعلها كأنها خلقت هكذا صفراً على الشمال ليس لها اعتبار في الحياة، وهذا من الخطأ، ومنهم من ظلم حتى إنه يعطي هذه ثلاث ليال، وهذه ليلة، ومنهم: من لا يعدل في النفقة، ولا السكنى ولا الإطعام، ولا غير ذلك مما يجب العدل فيه.(238/19)
هضم حقوقها الزوجية والقوة عليها
من النقص الذي نعيشه: مطالبة المرأة بحقوق الرجل دون ذكر حقوق المرأة عند الرجل، تجد كثيراً من الناس يطلبون من المرأة أن تؤدي حقوق الرجل، وقد كثرت الأشرطة والمحاضرات في حق الرجل على المرأة، لكننا نحتاج إلى إيضاح حق المرأة على الرجل.
ونحن مثلنا في هذا مثل الشعوب المستضعفة، فإن الشعوب الآن دائماً يقولون: عليكم بالطاعة للقادة والقائمين، وعليكم أن تتقوا الله، وعليكم بالمحافظة، لكن حقوق هؤلاء الشعوب لا تذكر، تجد الشعوب إما مهضومة أو مظلومة، أو محتقرة أو جائعة، أو ترمى على الأرصفة، أو لا مكان لها، فهي بلا رأي ولا احترام، ولا مشاركة ولا تقدير، ومع ذلك وسائل الإعلام صباح مساء تنادي: اتقوا الله وأدوا حقوق الولاة والزعماء؛ فإنكم إن لم تفعلوا خرجتم من الملة وخرجتم من الدين، فهذا مثل ذاك، والمرأة الآن مثل الدول النامية "النائمة".
ومن الخطأ كذلك التعامل معها بعنفٍ وغضاضة إلى درجة الضرب لغير سبب شرعي، حتى إن بعضهم يعلق سوطاً في البيت مهمته زوجته، ويسمي السوط ستر الله، وهذا السوط ليس بستر الله لكنه يغضب الله أحياناً، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {لقد طاف بأبيات آل محمد نساء يشتكين من أزواجهن، وإن أولئك ليسوا بخياركم} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فمن يفعل ذلك ليس من خيرة الناس وصفوتهم {وأتت فاطمة بنت قيس إلى الرسول عليه الصلاة والسلام تريد أن تتزوج -وهي تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أبر وأنصح وأكرم الأمة، وتعلم أنه يعرف أصحابه- فقال: من تقدم لك؟ قالت: أبو جهم ومعاوية بن أبي سفيان وأسامة بن زيد قال: أما معاوية فرجلٌ صعلوك، لا مال له -وأصبح معاوية فيما بعد خليفة المسلمين - وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه -ضراب للنساء- أنكحي أسامة بن زيد، فتزوجت أسامة فاغتبطت به} وهذه مشورته عليه الصلاة والسلام.
وقالت امرأة: [[طرقت على باب عمر بن الخطاب أمير المؤمنين فقال: مه؟ قالت: أريد أن أستشيرك في رجل تقدم لي، قال: من هو؟ قالت: الزبير بن العوام]] لا إله إلا الله! الزبير أحد العشرة نحبه ونتولاه، نسأل الله أن يجمعنا به في الجنة، والعالم الإسلامي ليس فيه أحدٌ الآن مثل الزبير بن العوام من صفاقس إلى الدار البيضاء فقال عمر: [[أنعم به في دينه ولكن يدٌ بعصا ويدٌ بقرط]]
فالضرب ليس بحلٍ شرعي إلا في مواطن ذكرها الله عز وجل في كتابه، قال: {وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34]
والضرب غير المبرح: ألا يكون كثيراً مؤذياً، ولا يكون في الوجه ولا على البطن، وإنما العاقل يعرف والحر ميزان.
قالوا لـ شريح القاضي وكان يحب زينب امرأته، وجلست معه أربعين سنة: أضربتها في حياتك؟ قال: والله ما مددت يدي عليها، ثم يقول:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم فشلت يميني يوم أضرب زينبا
ولو أني أعلم أن بعض النساء لا ينفعهن لا الكلام ولا الضرب ولا أي شيء، لكن نسأل الله حوالينا ولا علينا، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، اللهم على بطون الأودية ومنابت الشجر.(238/20)
الاشتغال عن المرأة بأمور الحياة
ومنها أيضاً: اشتغال كثيرٍ من الناس بأمور الحياة وترك المرأة بلا حقوق، تجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن لأهلك عليك حقاً} ـ كان صلى الله عليه وسلم يشتغل بأعظم أمور الأمة وأدقها ومن ذلك: أمور الجهاد والاقتصاد والإدارة والتوجيه، ومع ذلك يعطي كل امرأة من نسائه -وكن تسعاً- حقها وكلامها ومزحها ووقتها، ولكن تجد البعض عنده زوجة واحدة وقد قصر في وقتها وفي حقها، فتجد التاجر: يخرج الصباح السابعة أو الثامنة، ولا يعود إلا في الثانية عشرة، وقد أصبح ثوباً ملقىً من كثرة ما اتصل وتكلم وغش وخان إلا من رحم ربك، فإذا أتت زوجته تحدثه قال: معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي، دعوني أنام، فينام إلى الساعة السابعة ثم يقوم وهكذا، وكأن زوجته ليس لها حق.
وتجد بعض الدعاة يشتغل في المحاضرات والندوات والمشاركات والسفريات، حتى يترك امرأته، فإذا سمعت امرأته الشريط وهو يتكلم عن حقوق المرأة، تقول: لا إله إلا الله! أعطنا بعض هذا الشيء.
وتجد كذلك كثيراً من الشبيبة يسمرون في المقاهي -من الموظفين وأمثالهم- ينطلق الواحد منهم بعد صلاة العشاء، ويغلق على امرأته في بيته، لا هو أطعمها ولا هو تركها تأكل من خشاش الأرض، فيذهب يسمر إلى الثانية عشرة ليلاً أو الواحدة، ثم يدخل عليها في آخر الليل وهو منهك ويلقي نفسه على الفراش.
من يتحدث معها ويمزح معها ويلاطفها؟ وقد أتت شكايات ورسائل كثيرة من هذا الصنف، وبعضهن تطلب الفراق، تقول: أنا مع أمي في بيتي أحسن من مصاحبة هذا، ما أراه إلا نائماً أو غريباً وغير ذلك، وبعضهم مضياف تجد بيته دائماً يستقبل الناس في كل وقت، ويترك امرأته فقط مأمورةً منهية، تصنع الشاي والقهوة والطعام وتجهز البخور وغير ذلك، أما وقته فللأضياف الذين أخذوا عمره عليه، ولا أدعو إلى البخل، لكن دين الله وسط، للضيف وقت، وللأهل وقت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن لأهلك عليك حقاً ولضيفك عليك حقاً}.(238/21)
تجريح المرأة
التجريح عند البعض يكون بكلمات محرقة كاللعن والعياذ بالله آخرها امرأة في عصر هذا اليوم اتصلت تبكي، تقول: لعنها زوجها -نعوذ بالله- وهذا يدل على قلة دينه وخوفه من الله تعالى، أسأل الله أن يصلحه.
وكثير منهن تتوهم أن اللعن طلاق، وأنها تنفذ وتخرج من عصمته، والصحيح: أن اللعن كبيرة من الكبائر، وعليه أن يتوب وأن يستغفر، وأنا أحذر الأزواج من استخدام اللعن والشتم، بل بعضهم والعياذ بالله إذا غضب عليها قذفها في عرضها، لو وصلت إلى المحكمة لأقيم عليه حد القاذف، وبعضهم يسبها ويسب أهلها، ويلعن والديها أو قبيلتها أو أسرتها والعياذ بالله، وهذا من الجهل ومن قلة مراقبة الله، فاتقوا الله في ذلك، قال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229].
عليك أحد الأمرين: إن أحببتها فأمسكها محترمة، وإن لم تحبها وليس لها في قلبك منزلة فخذها بكل احترام وأوصلها إلى أهلها، عارية مضمونة.(238/22)
إفشاء سر المرأة أو خصوصياتها مع زوجها
إذا أفضى الرجل إلى زوجته وأفضت إليه بحديثٍ خاص فلا يجوز أن ينشر، تجد بعض الناس لبرودته ولقلة شهامته ولانخلاعه ولقلة غيرته يخبر زملاءه وإخوانه بما قالت له امرأته من حديث خاص، وقد حذر عليه الصلاة والسلام من هذا، ووصف أولئك بأنهم من أقل الناس مروءة، أو كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء قومٌ ماتت الغيرة عندهم تماماً، وليس عندهم يقظة من إيمان، وإلا فالمرأة سر عندك مكنون، ودرة محفوظة، عليك أن تحفظ سرها، وعليها هي كذلك أن تحفظ سرك، فإنه يوجد بالمقابل من النساء من تذهب إلى زميلاتها وصديقاتها في المجالس فتخبرها بما فعل بها فتخبرهن وبما فعلت هي معه، وبما قالت وبما قال لها من أمورٍ لا يجوز أن تخرج عن البيت، فلينتبه لهذا.(238/23)
غيرتنا على محارمنا
أيها الإخوة الكرام: هذا دفاع عن المرأة وأنا أسأل الله عز وجل أن يجعلنا أكثر دفاعاً عن المرأة، ليس بالمحاضرات ولا بالكلام لكن بالدماء وبالجماجم، فإنه لم يبق معنا إلا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأعراضنا، وأعظم أعراضٍ لنا أخواتنا وبناتنا، فلا تتوهم أختٌ أو بنتٌ في مدرسة أو في كلية أو في جامعة أن الدعاة يريدون التشهير أو التجريح، لا والله.
إننا لا نعتبر أولئك إلا كأخواتنا وبناتنا، ويعلم الله أني لو سمعت أن امرأة مست في كرامتها أو عفافها فإني أنزعج انزعاجاً لا يعلمه إلا الله، ولا خير في الحياة إذا لم يقاتل ويدافع عن هؤلاء الصنف الكريم من النساء.
والحقيقة أن من الغيرة لله عز وجل ولرسوله الواجبة علينا جميعاً أن نلاحظ الجانب النسائي في قضية الندوات والجمعيات، وأن نقول كلمة الحق، وأن ننقذ الموقف قبل أن يصبح في مرحلة لا نستطيع إنقاذه فيها، ولا أن نقول شيئاً، فلذلك نقول للناس: اتقوا الله في بناتنا، وأخواتنا، وزوجاتنا.
والله ما أحسب أي امرأة مسلمة إلا كأختي أو كابنتي، وإن الإنسان والله يغضب ويصل به درجة البكاء والانهيار إذا سمع أن امرأة وقعت في فاحشة أو نيل من كرامتها، أو أخذت بالتدريج ليوقع بها في مكانٍ لا يحمد عقباه، أو في مصيرٍ يهدد مستقبل الإسلام، كان سعد بن عبادة جالساً عند الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: {يا رسول الله! لو وجد أحدنا مع امرأته رجلاً -أجنبياً - ماذا يعمل؟ قال صلى الله عليه وسلم: يستشهد أربعة من الناس، قال: يا رسول الله! أأتركها معه وأذهب أجمع أربعة؟! والذي لا إله إلا هو لأضربنها هي وإياه بالسيف غير مصفح -أي: بحده- فقال عليه الصلاة والسلام وهو يتبسم: أتعجبون من غيرة سعد! والذي نفسي بيده! إني لأغير منه، وإن الله أغير مني}.
هذا سعد بن عبادة بن دليم البطل، كان يضيف في اليوم الواحد المائة والثمانين والمائتين في صحفة واحدة، كانت صحفته يحملها أربعة، وكان هذا البطل تزوج امرأة من الأنصار أركبها على الفرس، فلما وصلت نحر الفرس، قالوا: لماذا؟ قال: [[حتى لا يركب الفرس رجلٌ مكان امرأتي]] لله درك!
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يغار} وفي لفظ: {إن الله غيور} ومن غيرته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ومن غيرته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يغار على عبده المؤمن أن يزني، وعلى أمته المؤمنة أن تزني، فلا نريد ذلك.
أماتت الغيرة فينا بحجة الهدوء ومصلحة الدعوة وعدم تجريح الجهات؟!! ثم تضيع أعراضنا وبناتنا وأخواتنا! لا! {قل الحق ولو كان مراً} رواه ابن حبان، والحق قد يذهب بالرءوس، لكن إلى جنة عرضها السماوات والأرض: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140].
فالواجب على المسلم أن يحيي هذه الغيرة وأن ينبتها، وأن يذكرها في المجالس، وأن يربي الأمة عليها، فإذا نشأ الجيل على الغيرة وجدت جيلاً مسلماً صامداً، فيه من الحمية ما لا يعلمه الله.
أعرابيٌ في القرن الأول رأى امرأته تنظر إلى رجل من النافذة، قال: يا عدوة الله! تنظرين إليه؟ قالت: والله ما أحببته ولا فعلت معه الفاحشة؛ بل نظرت هكذا، قال: هكذا، ثم طلقها، فقالوا له: لماذا؟ قال:
إذا وقع الذباب على طعامٍ رفعت يدي ونفسي تشتهيهِ
وتجتنب الأسود ورود ماءٍ إذا كن الكلاب ولغن فيهِ
ومن الغيرة عند الجاهليين، وهي غيرة محبوبة أصّلها الإسلام، ولكنها غيرة أنبتتها المروءة والشهامة ما عند عنترة بن شداد، قال:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
يقول: إذا بدت الجارة غضضت طرفي حتى تدخل بيتها، وقد قال حاتم الطائي ما هو أحسن من ذلك في أبيات جميلة له! وغيره كـ المقنع الكندي، ذكرها صاحب العقد الفريد، وصاحب عيون الأخبار ابن قتيبة وغيرهم.
أيها الناس! أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، وأن يحفظنا وإياكم وأن يرعانا.(238/24)
الأسئلة(238/25)
كتاب الأسبوع
السؤال
تعودنا على الكتاب الأسبوعي فما كتاب هذا الأسبوع؟
الجواب
كما تعرفون تعودت في كل أسبوع أن أنوه عن كتاب، ومن شروط الكتاب أن يكون تحت مظلة أهل السنة والجماعة، وأن يعايش أحوال الناس، وألا يكون فيه طولٌ مملٌ ولا قصرٌ مخل، والكتاب الذي أقترحه هذه الليلة: " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لـ ابن القيم، وسبق أن أشرت إلى كتابين؛ الكتاب الأول صيد الخاطر لـ ابن الجوزي، والكتاب الثاني جامع العلوم والحكم لـ ابن رجب، والكتاب الثالث الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية والرشد والسداد، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(238/26)
جنسية المسلم
ربما ظن الإنسان أن العزة والرفعة بالأنساب والأحساب، لكن هذا في ديننا غير وارد، فالعزة فيه لا تكون إلا بالتقوى والطاعة.
فالإسلام رفع بلالاً الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيباً الرومي، ولم ينظر إلى أنسباهم؛ وأذل ونكس أبا جهل وعقبة بن أبي معيط وأبو لهب، ولم يعتبر بأنسابهم؛ لأنهم كفروا وتجبروا على الله.
والله أعز المسلمين بالإسلام مع أنهم كانوا في ضيق العيش وفقر شديد ونحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.(239/1)
قيمة العرب بالإسلام
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول.
لك الحمد بالإيمان, ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت.
في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك.
أنت رب الطيبين، وأنت عضد الملتجئين، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
والصلاة والسلام على من أرسلته معلماً وهادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الخير بإذنه وسراجاً منيراً.
بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، هدى الله به الإنسانية، وأنار به أفكار البشرية، وزعزع به كيان الوثنية.
فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وإنها لسانحة طيبة، وفرصة عظيمة، أن أرى هذه الوجوه الغالية، وإن كان من شكر، فإني أتوجه بالشكر الجزيل إلى الله الحي القيوم، الذي رفع رءوسنا وأنار قلوبنا بالإسلام، ثم أشكر أهل الفضل: {الذي لا يشكر الناس لا يشكر الله}.
فأشكر قائد هذه القاعدة ومساعده، وأشكركم شكراً جماً على حرصكم على الخير، وعلى دعوة الإسلام، والرسالة الخالدة، ومجالس الذكر, وما أشبهكم بقول الأول يوم قال:
هَيْنُون لَيْنُون أيسارٌ بني يَسَرٍِ صِيْدٌ بَهاليل حَفَّاظون للجارِِ
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
وأنتم نجوم من نجوم الإسلام، إذا كانت مظلتكم (لا إله إلا الله)، وعقيدتكم تستضيء بـ (لا إله إلا الله)، ومسيرتكم ترفرف عليها (لا إله إلا الله)؛ فهنيئاً لكم.
معشر المسلمين: نحن الأمة العربية قبل الإسلام لم يكن لنا تاريخ، ولو زعم القوميون وأهل التراب والوطنيون أن لنا تاريخاً فأين تاريخنا؟ بل تاريخنا مبدؤه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نظر الله إلى الأمة العربية فوجدها أمة ضائعة حقيرة، مسكينة متقاتلة، فرحمها من فوق سبع سماوات، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
وقد صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار أنه قال: {إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم جميعاً عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، ثم بعث محمداً عليه الصلاة والسلام}.
إن البرية يوم مبعث أحمدا نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
فأمدها مدداً وأعلى شأنها وأزال شانئها وأصلح بالها
مَن الذي أصلح بال هذه الأمة، ورفع قيمتها وأتى بمجدها إلا الحي القيوم.
إننا أمة نتعامل بالوحي، وأمة فيها قداسة، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
إذا فاقنا الآخَرون بالطائرات والصواريخ والصناعات والذرة، فقد فُقْناهم -والله- بـ (لا إله إلا الله).
ديننا مستمد من الحي القيوم، ورسالتنا خالدة، عبرنا بها المحيطات، وسرنا بها على البحور.
ولذلك أقف معكم، مع شاعر الباكستان محمد إقبال، وهو يأتي قبل أربعين سنة ليحج في مكة، وليطوف بالبيت العتيق، كان يسمع بـ الجزيرة العربية، ويظن أنه إذا دخل مكة سوف يرى أبناء الصحابة، وأحفاد التابعين، أحفاد خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وطارق بن زياد، الذين فتحوا المعمورة بـ (لا إله إلا الله)، الذين نشروا السلام في بقاع الأرض.
فأتى، ففوجئ بمجتمع غير ذاك المجتمع، مجتمع همه لقمة العيش، والقصر والسيارة والوظيفة والشهرة والمنصب، فبكى طويلاً وسجل مقطوعة شعرية رائعة اسمها: (تاجِكْ مكة) أي: أنا في مكة، يقول وهو يتحدث ويناجي الله وهو يطوف ويبكي:
نحن الذين استيقظت بأذانهم دنيا الخليقة من تهاويل الكرى
ثم يقول:
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
ثم يعود فيقول:
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا
يقول: أين تاريخنا المشرق؟ أين أسلافنا الذين أقبلوا على الله عز وجل وجاهدوا لتكون كلمة الله هي العليا؟!
ويتذكر محمد إقبال تاريخنا القديم، تاريخ محمود بن سبكتكين، السلطان العادل الكبير، الذي فتح ألف ولاية في المشرق، ودخل بستمائة ألف من الجيش، ولما أتى إلى الهند، رأى الأصنام من ذهب، فقال له ملك الهند: خذ هذه الأصنام واتركنا في ديارنا، قال: يا سبحان الله! يدعوني الله يوم القيامة: يا بائع الأصنام! لا.
بل أريد أن أدعى يوم القيامة: يا مكسر الأصنام! والله لا أشتري بـ (لا إله إلا الله) ثمناً، ولو جمعت لي الدنيا وما فيها ذهباً وفضة.
ثم أمر جيشه أن يهرعوا إلى الأصنام ليكسروها.(239/2)
معالم الإقبال على الآخرة والإعراض عن الدنيا(239/3)
صحة الانتماء لدين الإسلام
إن المسلم في بعض اللحظات والأيام قد ينسى انتماءه إلى الحي القيوم، وينسى انتماءه إلى الإسلام، وينسى جنسيته المسلمة، ويغتر ببعض المظاهر الخلابة التي تعرضها أمم الأرض الكافرة، ويا سبحان الله!
أسألكم بالله، هل لنا شرف غير الإسلام؟ وهل لنا انتماء غير الرسالة الخالدة؟ من نحن لولا الإسلام؟
والله، ما كانت الأمم تنظر إلينا بعين الرضا ولا بعين الإعظام، وإنما تنظر إلينا كما تنظر إلى البدو رعاة الأغنام والإبل.(239/4)
عزة ربعي بن عامر بالإسلام
يدخل قائد من قوادنا، بل جندي من جنودنا في قادسية (لا إله إلا الله) القادسية التي خاضها سعد بن أبي وقاص ضد رستم وكسرى أنو شروان.
فيكتب رستم لـ سعد بن أبي وقاص قبل المعركة بثلاثة أيام ويقول له: أرسل لي جندياً من جنودك أتحدث معه.
ومقصود رستم أن يرى هذا الجندي ويرى انتماءه وجنسيته ويرى كلامه؛ لتكون مصداقية المعركة على هذه المفاوضات.
فاختار سعد رضي الله عنه وأرضاه شاباً زاهداً عابداً ولياً من أولياء الله؛ لأن القلب إذا عمرته (لا إله إلا الله) تحركت الجوارح بمبدأ (لا إله إلا الله) والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: {ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع بها، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها}.
فاختار سعد رضي الله عنه ربعي بن عامر، وقال: اذهب، وفاوض رستم.
فماذا فعل ربعي بن عامر؟ هل غير من لباسه هيئته؟ لا.
إن الفخر لك أن تكون مسلماً، وأن تكون في هيئتك ولباسك وسنتك، وفي المعالم التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض الناس قد يصيبه خجل وحيرة إذا سافر إلى بلاد أخرى أن ينتسب للإسلام، أو أن تظهر عليه معالم السنة، وقد يجد غضاضة، أما ربعي بن عامر فلم يغير من هيئته أبداً.
أتى برمح في يده ملفوف في لفائف من قماش لأنه ما وجد غمداً له، وأتى بفرس معقور عنده، ودخل على رستم، فصف رستم قواده؛ ليرهب هذا الجندي لعله أن يختلط في الكلام، أو أن يحتار في الحديث، أو أن يضحك عليه القواد والوزراء.
فجلس رستم وعليه التاج من الذهب، وحوله قواده ووزراؤه ومستشاروه، ودخل ربعي بن عامر يقود فرسه على بساط رستم، فيقول له الحارس: اربط الفرس خارج الخيمة، وكان في الصحراء، قال: والله! لأدخلن بفرسي، فإن شاء أن أدخل وإلا عدتُ، فإنه هو الذي دعاني وما طلبت مقابلته، فقال رستم: دعوه يدخل، فدخل وبيده الرمح، فلما رآه رستم ضحك وقهقه، وقال لـ ربعي بن عامر ومعهما الترجمان: جئتم تفتحون الدنيا بهذا الرمح المُثلَّم، وبهذا الفرس المعقور، وبهذه الثياب الممزقة؟
فماذا يقول له ربعي؟ اسمع للذي تربى على القرآن ودرس في مدرسة محمد رسول القرآن صلى الله عليه وسلم يقول: نعم.
إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
فاحتار رستم في هذا الجواب الذي كأنه صواعق.
فقال لـ ربعي بعد أن حلف بإلهه: لا تغادر خيمتي حتى تحمل من تراب الخيمة على رأسك -إهانة له- فضحك ربعي بن عامر، وقال: هذا أول النصر إن شاء الله.
وهذا يشير إلى أننا سوف نملك أرضكم وقصوركم ودياركم وأرضاً لم نطأها، فحمله شيئاً من التراب على صحفة وخرج به، فالتفت إليه الوزراء، وقالوا له: أسأت، إن هذا معناه أنهم سوف يملكون أرضنا، قالوا: ردوه إلينا، فذهبوا وراءه فلم يجدوه؛ لأنه قد وصل إلى جيش الإسلام.
فلما رآه سعد أقبل، قال: ماذا على رأسك؟
قال ربعي: تراب سلمنيه من أرضه.
قال سعد: الله أكبر! إنا إذا دخلنا قرية قوم فساء صباح المنذرين، فكبر المسلمون.
فقال رستم في رسالة إلى سعد: أنظرني يومين قبل المعركة، فأنظره سعد يومين، فلما حضرت صلاة الظهر، قال رستم: أخرجوني لأرى هؤلاء البدو كيف يصلون وكيف ينتظمون، فأخرجوه في صلاة الظهر، وكان عدد جيش رستم مائتي ألف، وجيش الإسلام اثنان وثلاثون ألفاً.
انظر إلى البَون الشاسع بينهما؛ ولكن الله ذو القدرة الغالبة، ومن اعتمد على الله انتصر، فإنه الركن.
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركانُ
فيأتي سعد يصلي بهم صلاة الظهر وهو القائد، فيكبر فيكبر بعده اثنان وثلاثون ألف مقاتل، ويركع فيركعون بعده، ويرفع فيرفعون بعده.
فيأتي رستم يعض على أصابعه ويقول: علم محمد الكلاب الأدب.
بل علم الأسود الأدب عليه الصلاة والسلام.
ويأتي صباح نهار المعركة، فما يثبتون أمام (لا إله إلا الله) يزحف عليهم جيش الإسلام، فيتكسرون أمام الزحوف والكتائب.
وبعد ثلاثة أيام يأخذ سعد رضي الله عنه الأرض بما فيها، كنوزاً وذهباً وفضة وجنوداً ومقاتلين وقصوراً ودوراً، ويدخل إيوان كسرى، إيوان العمالة والضلالة، فيبكي سعد ويقول: صدق الله حيث يقول: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:25 - 29].
نعم.
كنا ننتصر على الناس، وكانت ترتفع رءوسنا يوم كان انتسابنا حقاً إلى الله، وإلى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقول الأول:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
هل هناك شرف أعظم من أن تنتسب إلى رسالة الإسلام؟ وهل هناك جنسية يمكن أن تفرض نفسك على العالم بها غير الإسلام؟
فالإسلام الرسالة الخالدة.(239/5)
دخول علماء الكفار إلى الإسلام
ووالله ثم والله! إن العبد يندهش حينما يجد أبناء الإسلام الذين ولدوا في أرض الإسلام، وتربوا على مبادئ الإسلام، يتخلون عن الإسلام، ويجد أهل الكفر لما بلغوا درجة تفجير الطاقة الذرية يعودون إلى الإسلام ويدخلون في دين الله زرافات ووحداناً.
يقول كريسي موريسون العالم الأمريكي كما ينقل عنه سيد قطب: إنني احترت كيف أعيش؟! فعرفت الله فعشت، ويقول عنه في كتابه أمريكا التي رأيت: "إلى أين تسير البشرية إذا لم تعرف ربها؟ ".
ويقول أليكسس في كتاب الإنسان ذلك المجهول الذي تُرجم إلى عشر لغات، يقول في هذا الكتاب: إن البشرية سوف تبقى حائرة حتى تتعرف على الله.
وهذه هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه جاء يعرفنا على الواحد الأحد تبارك وتعالى، وليصل نسبنا بهذا الدين الخالد الذي إذا تركناه ضعنا والله، فإننا لا نباري الأمم بطاقة، ولا بسلاح، ولا بصناعة، ولا بمنتجات، سبقونا في الصناعة، والمنتجات، والمادة، يقول عز من قائل فيهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
أما الحياة فأجادوا فيها كل الإجادة، ولكن: {بل ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].
فهم قد انسلخوا من المبادئ والقيم وانتهوا ثم عادوا يراجعون حسابهم، وأما عقلاؤهم فهم يريدون دخول الإسلام الآن.
وفي القناة الثامنة التي يبثها التلفزيون الأمريكي مع أحمد ديدات، العالم الهندي، يقول عالم من علمائهم دايل كارنيجي: الآن عرفت أني مخطئ من خمسين سنة، والآن أهتدي وأعرف طريقي، ويقول في المقابلة الثانية: الآن أولد طفلاً مع الإسلام وأتربى في حجر الإسلام.
علماؤهم وأهل طاقتهم، ومفكروهم عادوا الآن ينتسبون إلى الإسلام، وأبناؤنا وشبابنا إلا من رحم الله إذا سافروا عادوا كأنهم ولدوا هناك وتربوا ورضعوا هناك إلا من رحم الله.(239/6)
عزة عمر بدينه
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يدخل بيت المقدس، فيستعرض أمامه جيشاً قوامه أربعون ألفاً، وعلى رأسه عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان وأبو عبيدة، وهم يصفون الكتائب أمامه، فيدخل وهم ينتظرونه، ويخرج النصارى على أسطحة المنازل ينتظرون هذا الخليفة الذي دوَّخ الدنيا وهز المعمورة، وأصبح للأرض منه رجة، ينتظرونه، ينظرون ما الذي سوف يقدم عليه من موكب وكيف حرسه ولباسه وقوته وجيشه وجنوده ووزراؤه ومستشاروه، فينتظرون مذهولين؛ لأن عمر دوَّخ العالم، حتى يقول محمود غنيم:
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواهُ
البردة: فيها أربع عشرة رقعة.
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاهُ
يا من يرى عمر: يقول: تبصروا في عمر أين كان يسكن؟ في بيت من الطين مساحته ثلاثة أمتار في مترين، وغداؤه زيت في شعير.
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواهُ
يهتز كسرى على كرسيه فَرَقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
لماذا؟ لأن الله عز وجل أخذ على نفسه أن من خاف منه تبارك وتعالى خوَّف منه كل شيء، والذي يخاف من غيره؛ خوفه الله من كل شيء؛ ولذلك بعض الناس يخافون من هذه القوى، والكتل والهيئات، فيخوفه الله منها، ولو خافوا منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لخوَّف أولئك منهم، فهذا لزام منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
يقدم عمر فيأتي إلى بيت المقدس ليفتحه على ناقة، ومعه خادمه ميسرة، يركب عمر مسافة ما يقارب الثلث ساعة، فإذا تعب خادمه نزل وأركب الخادم وقاد هو الجمل، فلما أشرف على الناس والكتائب حول المسجد الأقصى، والأمراء قد وقفوا، والنصارى أطفالاً وشيوخاً وشباباً بأعلامهم على سطوح المنازل، قد عبئوها لقدوم الخليفة الذي دوَّخ الدنيا، فيقدم هذا الرجل الذي يقود الجمل؛ لأن نوبته أتت في قيادة الجمل وقت دخول بيت المقدس، فيقول الخادم: يا أمير المؤمنين! سوف أنزل لأننا وصلنا، قال عمر: أنوبتك أم نوبتي؟ قال: لا.
نوبتي، قال: لا.
نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
فانتسابنا إلى الحي القيوم منه العزة، فإنه الذي يعز ويهدي، ويوفق ويسدد.
فقال النصارى: أهذا خادم أتى يبشر بقدوم أمير المؤمنين؟ فاحتار القائد عمرو بن العاص وأتى إلى عمر، وقال: فضحتنا يا أمير المؤمنين!
قال عمر: ماذا؟ قال عمرو: أتيت على جمل وقد قامت الدنيا وقعدت لاستقبالك.
قال عمر: يا عمرو! ثكلتك أمك، من كنا قبل الإسلام؟ أما كنا رعاة أغنام؟ قال عمرو: بلى.
قال عمر: فإنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
وبالفعل يحدث هذا، كلما حاول شخص أن يعتز بغير هذا الدين؛ مقته الله وأذله، وأخسأه وهزمه وفضحه أمام العالمين.
فقدم عمر رضي الله عنه فلما قدم كبر القواد فاهتز المسجد بتكبيرهم، ثم قال عمر لـ بلال يا بـ بلال، أسألك بالله أن تسمعنا الأذان، لقد حانت صلاة الظهر.
وبلال بعد أن أذن للرسول عليه الصلاة والسلام، وتوفي الرسول عليه الصلاة والسلام قام تلك الليلة ليؤذن، في أول ليلة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فلما قال: أشهد أن محمداً رسول الله، تذكر الرسالة والرسول فبكى، وقطع الأذان، وحلف بالله لا يؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما جاء عمر وحانت صلاة الظهر قال: يا بلال! أسألك بالله أن تؤذن لنا هذا اليوم يريد أن يذكره بالصوت الحبيب الشجي، الذي تألفه الأرواح والذي يسري عذباً في الآذان.
فقام بلال يردد الصوت الخالد الذي فتحنا به المعمورة، يردد صوت السماء، الذي دوخنا به الدنيا، وسرنا به على المحيطات والأبحر، يقول: الله أكبر، الله أكبر فبكى عمر، وبكى المسلمون، وبكى النصارى.
وكان الفتح: فتحها عمر بجمل واحد، لكن (لا إله إلا الله) تمكنت في قلب عمر.(239/7)
الإسلام هو مصدر الفخر والاعتزاز
يقول الله وهو يذكر الصحابة والرسول عليه الصلاة والسلام: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44].
يقول: هذا القرآن شرف لك، وشرف لقومك ولكل جيل يأتي بعدك إلى قيام الساعة.
وسوف تسألون عن الرسالة الخالدة.
ولذلك لا ينبغي أن ندس رءوسنا، ولا أن نخجل أمام العالم، بل نقول: (لا إله إلا الله) بشجاعة، ونقول: (لا إله إلا الله) بقوة ونعلن انتماءنا وانتسابنا وجنسيتنا أننا عباد لله.
والذي يذهب لينتسب لغير نسبة الإسلام، سوف ينقطع نسبه يوم يجمع الله الأولين والآخرين.(239/8)
النسب لا ينفع يوم القيامة
صحَّ في حديث قدسي من حديث أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، دعاهم بصوت يَسْمَعُه مَن بَعُدَ كما يَسْمَعُه مَن قَرُبَ، فيقول جل ذكره: يا أيها الناس! إني رفعت لكم أنساباً في الدنيا؛ فوضعتموها ورفعتم أنسابكم، فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم}.
فالله عز وجل وضع لنا نسباً نتناسب به في الحياة وهو: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فرفضنا - إلا من رحم الله - هذا النسب، وقلنا: فلان بن فلان من أسرة آل فلان، وفلان بن فلان من أسرة آل فلان، فيوم القيامة يسقط الله هذه الأوسمة: صاحب السماحة، صاحب السعادة، صاحب الفضيلة ويَرْفَعُ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
فهذه النسبة حق على المسلم أن ينتسب بها، فإن بلالاً كان قبل الإسلام لا يُنْظَر إليه، وكان مِنْ سَقَطِ المتاع، لا يساوي عند الجاهليين الوثنيين فلساً واحداً، لا ينظرون إليه إلا كما ينظرون إلى الدابة التي تأكل وتشرب، فلما أتى الإسلام جعله صلى الله عليه وسلم مؤذن الإسلام.
وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترقى أبواب الجنان الثمانيا
كان عمر! إذا سمع بلالاً يؤذن بكى، وقال: {أبو بكر سيدُنا وأعتق سيدَنا}.
رحمك الله يا عمر - والله - لو كنت في الجاهلية ما قلت هذه الكلمة، كنت وأنت في الجاهلية وبلال في الجاهلية، لا تنظر له ولا تعادله بفلس واحد، فلما أسلمتَ وعرفتَ الله قلتَ: بلالاً سيدُك، فرفعك الله بهذا التواضع، فإن الله يرفع المتواضعين.(239/9)
مطلب كل مسلم رضا الله عنه
ومن معالم الإقبال على الله عز وجل: أن يكون مطلبك العظيم ومطلبي ومطلب كل مسلم رضا الله تبارك وتعالى، وهذا هو مطلب الصحابة يوم التقوا مع كل كافر في كل معركة، في بدر، وأحد، والأحزاب، ويوم حنين، وتبوك، وفي اليرموك، والقادسية، وفي عين جالوت، وحطين.
كان مطلبهم رضا الله تبارك وتعالى عنهم؛ فرفع الله درجاتهم، وعظم أجورهم عنده تبارك وتعالى.
يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، كما في السيرة لـ ابن هشام، وغيره: [[لما التقينا في أحد مع المشركين ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن تبدأ المعركة قال لي أحد الصحابة]] وهذا الشباب اسمه: عبد الله بن جحش القرشي، شاب باسل، وبطل من أبطال الإسلام، لا يعرف إلا صيام النهار وقيام الليل، تربى على القرآن: [[قال لي: يا سعد بن أبي وقاص، أتريد أن ندعو قبل المعركة؟ قلت: نعم.
فداك أبي وأمي، قال: تعال ندعو الله قبل المعركة، قال: فذهبنا وراء الصخرات، فرفع يديه هو قبلي، قال: اللهم إنك تعلم أني أحبك، اللهم إنك تعلم أني ما خرجت إلا ابتغاء مرضاتك، اللهم إني أسألك مسألة واحدة: أن تنصر رسولك صلى الله عليه وسلم، وأن تلاقي بيني وبين كافر شديد حرجُه، قويٌّ بأسُه، فيقتلني فيك -ما قال: أقتله، قال: يقتلني أنا فيك- ثم يبقر بطني، ويجدع أنفي، ويفقأ عينَيَّ، ويقطع أذنَيَّ، فإذا أتيتك يوم القيامة، تقول: يا عبد الله، لم صُنِعَ بك هذا؟ فأقول: فيك يا رب، قال سعد بن أبي وقاص: فوالله الذي لا إله إلا هو ما انتهت المعركة إلا وقد رأيتُه قد قُتل، وقد بُقِرت بطنُه، وجُدِع أنفُه، وفُقئت عيناه، وقُطعت أذناه، فقلت: أسأل الله أن يلبي له ما سأل]] ولذلك يقول محمد إقبال في قصيدته (شكوى وجواب) شكوى وفيها يتحدث عن الشهداء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم:
من غيرنا هدم التماثيل التي كانت تقدسها خرافات الورى
حتى هوت صور المعابد سجداً لجلال من خلق الوجود وصورا
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] لا والله، لا أوفى ولا أصدق من الله، ولا أقوى للحق من الله تبارك وتعالى.(239/10)
صور من اعتزاز الصحابة بالإسلام
ولذلك يأتي بطل آخر اسمه: أنس بن النضر قبل معركة أحد، وقد انهزم المسلمون في أول المعركة، فيقول: [[اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء -أي المشركين- وأعتذر إليك مِن فرار هؤلاء -أي المسلمين-]] ثم أخذ درعه فخلعه من على جنبيه، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يضحك للعبد إذا لقي العدو حاسراً، أي ضحكاً يليق بجلاله تبارك وتعالى، إذا لقي العبدُ العدوَّ وليس عليه درع.
فيقول أحد إخوانه: يا أنس بن النضر! لا تخاطر بنفسك.
قال: [[إليك عني يا سعد بن معاذ! - والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة من دون أحد]] قال أنس بن مالك: [[فوالله لقد قُتِل، فوجدنا فيه أكثر من ثمانين ضربة، ووالله ما عرفَتْه إلا أخته ببنان أصابعه]].
فيا سبحان الله! أي أمة تلك الأمة؟!
وأي جيل ذاك الجيل؟!
وأي شباب أولئك الشباب؟!
وأي جيش ذاك الجيش؟!
إنهم تربية الله الخالدة وفطرته النيرة، والقداسة التي أنزلها الله على الناس.
إنها الأمة الخالدة الموحدة التي فتحت الدنيا بـ (لا إله إلا الله) وأنقذت الإنسانية بـ (لا إله إلا الله) وعبرت على متون الماء بـ (لا إله إلا الله).
ويأتي عبد الله بن عمرو الأنصاري فيصلي في الليل قبل معركة أحد، فيرى في المنام أنه قتل شهيداً، فيقول: الحمد لله، ويصلي مرة أخرى، فيرى أنه قتل شهيداً فيحمد الله، ثم يُوقِظُ ابنَه وبناتِه، ويقول: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
قالوا: وماذا حدث؟
قال: رأيت مرتين في منامي أن المعركة قد قامت وأني أول من قُتِل في المعركة.
فقالوا: لا عليك.
قال: هكذا أقول.
فأتى في الصباح، فماذا فعل بعد صلاة الفجر؟ انظر إلى الأمنية، والهمة العالية، أتى إلى الماء فاغتسل، وتحنط، ولبس أكفانه، وخرج صادقاً مريداً لوجه الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] خرج صادقاً، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما في صحيح مسلم، عن أبي هريرة: {من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه}.
فيخرج هذا المجاهد، وتبدأ المعركة فيكون أول مقتول.
ويقول عليه الصلاة والسلام لـ جابر: {يا جابر، أتدري ماذا فعل الله بأبيك؟
قال: قلتُ: لا والله يا رسول الله!
قال: والذي نفسي بيده لقد جمعه هو وشهداء أحد، فكلمهم كفاحاً بلا ترجمان - أي: مباشرة - فقال: يا عبادي! تَمَنَّوا علَيَّ، قالوا: نتمنى أن تعيدنا في الدنيا لنُقْتَل فيك ثانيةً -لما رأوا من أجر الشهادة- قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يُرْجَعون، فتَمَنَّوا، قالوا: نتمنى أن ترضى عنا، فإنا قد رضينا عنك، قال: فإني قد أحللتُ عليكم رضواني، لا أسخط عليكم أبداً} ثم قال عليه الصلاة والسلام: {فأخذ الله أرواحهم فجعلها في حواصل طير خُضْر، تَرِدُ الجنة فتأكل من أشجارها، وتشرب من مياهها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، حتى يرث الله الأرض ومن عليها} قال ابن كثير: سند هذا الحديث حسن، وهو كلام حسن.
فيا سبحان الله! أي هِمَمٍ كانت؟! وأي نفوس عاشت؟! عاشت لله، وقامت له، وانتصرت له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وليس على الله بعزيز أن يعيد من أمثال هؤلاء، فإن أمة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم كالمطر، لا يُدرَى الخير في أوله أو في آخره.
وأنتم يا أبناء الإسلام! ويا أحفاد خالد، وسعد! يا أحفاد من رفعوا (لا إله إلا الله) في كل صِقْع! يا أحفاد من دخلوا أسبانيا بـ (لا إله إلا الله) فدخلت الأمم لما رأت العدل والسلام، ويا أحفاد من سار إلى نهر السند والجانج وغيرها من أنهار العالم بـ (لا إله إلا الله)! فدخل الناس في دين الله زرافات ووحداناً، تمسكوا بدينكم يعزكم وينصركم على عدوكم.(239/11)
ليس بعزيز على الله أن تعاد أمجادنا
ليس على الله بعزيز أن يعيد من أمثال أسلافنا أمة تعبد الله، وتوحده، وتعيش وتموت له، فوالله الذي لا إله إلا هو، إن الذي يعيش لغير الله لا يوجد أحقر منه في الناس، فهو لا يساوي فلساً واحداً، وأن حقارته قد أجمع عليها العقلاء، ففرق بين أن تعيش وأن تحيا لله، وأن تحيا لشهواتك ولهواك.
يقول ابن تيمية رحمه الله: "المؤمن يولد مرتين، والكافر يموت مرتين "، فأما ميلادك الأول: فيوم ولدتك أمك، يوم سقط رأسك على هذه الأرض: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:1 - 3].
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
يوم ولدتك أمك ولدتك وأنت تبكي؛ كأنك أتيت من السعة إلى الضيق، وكأنك تبكي من هذه الحياة الدنيا، فيقول القائل: فاعمل لنفسك، أنك إذا أتيت عند سكرات الموت، أن يقلب الله الحال فتضحك وأنت في السكرات ويبكي أهلك من حولك.
ولذلك يقول ابن تيمية: "المؤمن يولد مرتين، والكافر يموت مرتين: فميلادك الأول: يوم أتت بك أمُّك، وميلادك الثاني: يوم ولدت في الإسلام، ويوم اهتديت بهدى القرآن "؛ لأن الشقاء كل الشقاء أن ينصرف القلب عن القرآن، أو أن ينصرف عن ذكر الله، أو أن ينصرف عن بيوت الله تبارك وتعالى، " والكافر يموت مرتين: مرةًَ يوم أمات الله قلبه، وطبع على قلبه "، فلا يهتدي، ولا يرى النور، ولا يرى طريق الهداية، " ومرةً يوم يموت؛ فيعذبه الله عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين ".
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: " من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدى غير هدى الله، الذي أرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.(239/12)
العالم بحاجة إلى الهداية
يا أيها الإخوة الأبرار! يا أيها الأمجاد الأخيار! إن العالم يحتاج منا أن نُهدي له (لا إله إلا الله).
يقول كريسي موريسون في مؤتمر العلماء، وقد حضر مؤتمراً لعلماء المسلمين، وكريسي موريسون هذا عالم جيولوجي أمريكي، من جامعة إنديانا يقول: أهدينا لكم الطائرة، والثلاجة، والصاروخ، وكل متع الحياة، وما أهديتم لنا الإيمان.
إن البشرية التي تنتظر الإيمان، وتتطلب (لا إله إلا الله)؛ وقفت حائرة، فكيف نأتي الآن إليها وهي قد وقفت حائرة؟ ثم ننسلخ -إلا من رحم الله- عن ديننا ومبادئنا، وننسى سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهم يعترفون أنفسهم أنه ما سكن العالم أعظم ولا أشرف ولا أنبل ولا أكرم منه، واللجنة العالمية التي عقدت في فرنسا، وقررت مائة عظيم في العالم، أتدرون من هو أول عظيم في هذه اللجنة؟ لقد جعلوا العظيم الأول: محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول مفكرهم الذي كان يرأس هذه الجلسة: إنني نظرت في سير العظماء، فلم أجد إنساناً يشرب فنجان القهوة ويحل مشاكل العالم إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، ونسي أن القهوة لم توجد في عهده صلى الله عليه وسلم.
والحق ما شهدت به الأعداء.
ووالله لو كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في غير هذه الأمة لمجدوه، ولكتبوا كلماته في الشوارع، وفي مفاتح الطرق، وعلى محافل الناس، وفي الميادين، كما فعلوا بـ نابليون الذي قتل الأرواح البريئة، والذي حطم المنازل الهادئة الآمنة، والذي خَرَّب العالم، وسعى بالفساد في المعمورة، لكن محمداً عليه الصلاة والسلام أتى بالإسلام، والهدى والنور والإشراق.
إذاً: إقبال الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الآخرة كان رضاً بما عند الله عز وجل، والذي لا ترضيه جنة عرضها السماوات والأرض فماذا ترضيه؟!(239/13)
حقيقة الدنيا
إن الله عز وجل جعل نعيم المسلم في الآخرة؛ لأن الستين سنة لا تُمَكِّنه من التمتع بالنعيم، ولا تُمَكِّنه من التمتع بالهدوء، والدنيا ما نظر الله إليها منذ خلقها؛ احتقاراً لها، فكيف تجعلها أنت مصيرك وهدفك ومستقبلك؟ يقول جل ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8].
إن الذي يعيش لهذه الستين سنة ويجعل هدفه في الحياة منزلاً، أو زوجة أو سيارة أو شهرة أو منصباً أو أي متعة من متع الحياة؛ إنسان لا همة له ولا مستقبل ولا عزيمة ولا نور ولا إشراق في صدره؛ لأنه باع حياته بأخراه، ونعوذ بالله من الخسارة.
والله أرادك للآخرة، فلماذا تريد نفسك الدنيا؟
يقول بعض الصالحين: "دنيا إذا صحَّ بدنُك فيها خفتَ من السقم، وإذا اغتنيتَ فيها خفتَ من العدم، وإذا اجتمع أبناؤك عندك خفتَ عليهم من التلف، وإذا ارتحتَ خفتَ من الهم، فأين الراحة فيها؟! ".
طُبِعَتْ على كَدَرٍ وأنتَ تريدها سِلْماً من الأوباش والأكدار؟
ويقول أبو الفتح البستي في منظومته الشهيرة، وهو يعظ العالم الإسلامي:
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبتَ نفسك فيما فيه خسرانُ
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ
يا ساعياً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عُمرانُ(239/14)
أين من سكنوا الدنيا وعمروها
أين الذين ملكوا العالم؟ أين الخلفاء؟
إنك إذا قرأت مثلاً البداية والنهاية لـ ابن كثير، أو تاريخ ابن جرير الطبري أو الكامل في التاريخ لـ ابن الأثير، أو المنتظم لـ ابن الجوزي، ستقرأ في ساعة واحدة ثلاثة قرون.
أي ثلاثمائة سنة.
تقرأ ستة وثلاثين خليفة تولوا في العالم وماتوا.
فما كأنهم جمعوا وتهنئوا، وما كأنهم قاموا بمهرجانات، وما كأنهم رفعوا الدور وبنوا القصور!! أين ذهبوا؟ إنهم مُرْتَهَنون بأعمالهم في قبورهم.
ولذلك يقول ابن الجوزي: "يصيب المسلم ذهول يوم يرى بعض الفجرة نسي الله وموعوده فقتل الألوف المؤلفة من البشرية، وسعى في الأرض خراباً، ونسي لقاء الله".
يقول الذهبي: إن أبا مسلم الخرساني قَتَل مليوناً.
يقول ابن الجوزي: "الله أكبر! أما عَلِم هذا أنه سوف يُوضَع على عينيه القطن في القبر".
بل نور الدين محمود زنكي، الشهيد الكبير، السلطان الذي جمع ووحد المسلمين على (لا إله إلا الله) وهو كُرْدِيٌّ وليس عربياً، فلا يظن إنسانٌ أن الإسلام لا يُنْصَر إلا على أيدي العرب، ولا يظن أننا لا نعترف بالأجناس، وأن هناك جنساً غير جنس، فنحن نكفر بالعنصرية العالمية، فإنها صنيعة للصهيونية، وما أتى بها إلا الصهاينة واليهود، فنحن نكفر بالتمايز العنصري الذي أتى به أنذال وقبحاء العالم، الذين انتهكوا حرمة الشعوب وقتلوا الإنسان، وهم يقولون: إنهم هم أهل حقوق الإنسان.
بل هم القتلة والمجرمون حتى يلقون الله تبارك وتعالى.
فـ نور الدين محمود زنكي رأى تفتت العالم الإسلامي، فهاجر بالأكراد، ودخل دمشق، وجمع الأمة على (لا إله إلا الله).
في أحد الأيام عمل مهرجاناً كبيراً، حضره جيشه الذي قوامه ما يقارب: مائتي ألف، وصفَّ جنوده وحرسه وقواده وأمراءه حوله، فلما اكتمل المهرجان دخل عليه أحد علماء الإسلام اسمه: ابن الواسطي، فوقف أمام السلطان وبيده عصا، وقال: "يا أيها السلطان! اسمع مني كلمات".
قال: "تفضل، قل ما شئتَ"، قال:
مَثِّل لنفسك أيها المغرورُ يوم القيامة والسماء تمورُ
إن قيل: نور الدين جاء مُسَلِّماً فاحذر بأن تأتي وما لك نورُ
حَرَّمْتَ كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدورُ
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف الذي مرت عليه دهورُ
يقول: يوم القيامة يشيب رأس الطفل من الهول، فكيف الذي عاش ستين سنة في الجرائم.
فبكى السلطان حتى سقط مغشياً عليه.
قال ابن كثير: "رحمة الله على تلك العظام، فإنه هو الذي فتح قلاع الإسلام، وجمع كلمة المسلمين على (لا إله إلا الله) ".
فالشاهد أننا نطلب من أنفسنا ألا نرضى بالحياة ثمناً لأنفسنا، والله خلقك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لتكون عبداً له، فلا تكن عبداً لغيره.
ولا يظن أحد من الناس أن الشرك معناه عبادة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى؛ فإن هناك صوراً أخرى للأصنام:
هناك من يعبد الدرهم والدينار.
وهناك من يعبد المنصب؛ تسترضيه الكلمة، وتغضبه الكلمة، ولاؤه وعداؤه لمنصبه.
وهناك مَن يعبد الكافر، نعوذ بالله من ذلك.
ذكر بعض المفكرين المسلمين أن من المسلمين من يعبد الكفار ولا يشعر.
فهو يتولاهم من دون الله ورسوله والمسلمين؟ والله يقول: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55].
ويقول عليه الصلاة والسلام: {تَعِسَ عبدُ الدرهم، تَعِسَ عبدُ الخَمِيْصَة، تَعِسَ عبدُ الخَمِيْلَة، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيْكَ فلا انْتَقَشَ}.
فالإقبال عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وعلى الدار الآخرة، معناه: أن نتجرد، وأن يكون عملنا لوجهه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، خالصاً له، وصدقاً في سبيله، نرجو الثواب منه تبارك وتعالى.(239/15)
حال الصحابة مع الدنيا
يقول أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وأنتم تعرفون أبا الحسن، فهو صاحب الرايات البيضاء في الإسلام، وصاحب المواقف المشهورة، والأيام الخالدة التي لا تُنْسى أبد الدهر، الزاهد الذي أعرض عن الدنيا، والذي يقول وهو يترنم في بيت مال المسلمين، وقد أنفق بيت مال المسلمين وما أبقى درهماً ولا ديناراً ولا حبة ولا ثوباً ولا زبيبة، يقول:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الموت نبنيها
فاعمل لدار غداً رضوانُ خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها
يقول وهو يتكلم عن يقينه وعن الإيمان الذي في صدره: [[والله الذي لا إله إلا هو، لو كشف الله لي الغطاء فرأيت الجنة والنار؛ ما زاد على ما في قلبي من الإيمان مثقال ذرة]].
فهذا يقينٌ وإيمانٌ واعتقادٌ في الحي القيوم.
والشاهد من قصته: أنه يقول في صحيح البخاري في كتاب الرقاق: [[ارتحلت الآخرة مقبلة، وارتحلت الدنيا مدبرة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل]].
ثم يأتي الإمام البخاري بجمال أسلوبه وبقلمه السيال بحديث عجيب في تقشف الصحابة، الذين عاشوا في بيوت الطين؛ ولكن كانوا منائر للهدى.
ربَّى صلى الله عليه وسلم قواد وعلماء العالم، ومفكري وشعراء العالم، وأدباء وعباد العالم، في مسجد من طين، طوله مائة ذراع.
ربَّى فيه ابن عباس وخالد بن الوليد وأبيَّ بن كعب وسعد بن أبي وقاص وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وحسان بن ثابت وابن رواحة، وغيرَهم وغيرهم.
خرجوا من هذا المسجد إشعاعاً في العالم، ورسل خير للبشرية.
هذا المسجد تربى فيه أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ حتى يقول أحد المفكرين والأدباء في الإسلام في مدحه صلى الله عليه وسلم:
كفاك عن كل قصر شاهق عمِدٍ بيت من الطين أو كهف من العلمِ
تبني الفضائل أبراجاً مشيدةً نصب الخيام التي من أروع الخيمِ
إذا كرام الورى صفوا موائدهم على شهي من الأكْلات والأدم
صففتَ مائدة للروح مطعمها عذْبٌ من الوحي أو عذْبٌ من الكلمِ
فالرسول عليه الصلاة والسلام انطلق بالإنسان من هذا.
فلذلك يأتي البخاري بقصة عن أبي هريرة.
يقول البخاري - والله أكبر! كم لهذا الكتاب من أثر في قلب كل مسلم، سأل سائل ابن تيمية في المجلد العاشر من فتاويه: "أي كتاب بعد كتاب الله تدلني عليه؟ " قال شيخ الإسلام المجدد المجاهد الكبير العبقري الجهبذ: "لا أعلم بعد كتاب الله كتاباً أحسن ولا أنفع من صحيح البخاري ".
يقول البخاري: " باب تقشف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا عمر بن ذر قال: حدثنا مجاهد أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: {آللهِ الذي لا إله إلا هو لقد كانت تمر بي الأيام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجد ما أملأ به بطني، وقد كنت أُصْرَع بين المنبر وبيتي، فيأتي عليَّ الناس وما بي صرع وما بي جنون ولكن الجوع، آللهِ الذي لا إله إلا هو إني كنتُ آتي بالحجر فأجعله على بطني، فأربط عليه رباطاً من شدة الجوع، ومرت بي ليلة من الليالي فاشتد بي الجوع وقد صليت المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى الناس في المسجد خرجت عند باب المسجد} يتعرض للضيافة، علَّ أحد الناس يفتح الله عليه فيدعوه للعشاء، قال: {فمرَّ بي أبو بكر، فسألته عن آية من القرآن، والله ما سألته من أجل الآية؛ ولكن من أجل الطعام، فأخبرني عن الآية، ثم مضى وتركني، ثم مر بي عمر بن الخطاب فسألته عن آية، والله ما سألته عن الآية من أجل الآية؛ لكن ليطعمني، فمر وتركني، ثم رأيتُ أبا القاسم بأبي هو وأمي، صلى الله عليه وسلم فلما رآني قبل أن أكلمه تبسم، وأخذ بيده الطاهرة فشبك بها في يدي، ثم أخذني إلى بيته} عرف عليه الصلاة والسلام أنه يريد الطعام.
محاسنه هُيُولا كل حُسْن ومغناطيسُ أفئدة القلوب
فذهب به إلى البيت، وقال: {فأجلسني، فقال لأهله: أعندكم شيء من طعام؟} وأهله وراء الستار، رسول البشرية، أكرم الخلق على الله، الذي جعله الله شفيعاً للناس يوم يجمع الله الأولين والآخِرين، ما يجد إلا شيئاً من لبن، فقال لزوجته: {أعندكم شيء من طعام؟ قالت: لا -والله- إلا شيء من لبن، أهداه لنا بنو فلان، قال: يا أبا هريرة! اذهب إلى أهل الصُّفَّة}.
وأهل الصُّفَّة: قوم فقراء في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام قراء، مجاهدون متعبدون، أما ليلهم فصلاة ودعاء وبكاء حتى الصباح، وأما نهارهم فنصف منه يحتطبون ويبيعون للمعيشة، والنصف الآخر لتعلم القرآن والحديث في المسجد.
قال: {فذهبت إليهم وبي من الجوع ما لا يعلمه إلا الله، وقلت في الطريق: يا سبحان الله! ذهبتُ معه إلى البيت لأتناول هذه المِذْقة من اللبن، فأرسلني إلى أهل الصُّفَّة! وأين يأتي هذا القليل من اللبن على أهل الصُّفَّة جميعاً!} ثم يقول: {ولكن ما مِن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدّ، فدعوتُهم، فأتوا ورائي، فاستأذنتُ فأذن لي صلى الله عليه وسلم فدخلوا، فأخذوا أماكنهم في المجلس حتى جلسوا عن بكرة أبيهم، فقال عليه الصلاة والسلام وهو يتبسَّم:}.
فهو يعرف جوع أبي هريرة.
قال: {يا أبا هريرة! قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! قال: خذ هذا اللبن ودُر على الناس، قال: فأخذته وأعطيه الأول فيشرب، ثم أناول الثاني فيشرب، والثالث حتى انتهيت إليه صلى الله عليه وسلم، فالتفت إليَّ قبل أن يشرب وقال: بقيتُ أنا وأنتَ يا أبا هريرة! قلتُ: صدقت يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، قال: اشرب، فشربتُ، قال: اشرب، فشربتُ، قال: اشرب، قلتُ: والله يا رسول الله! بأبي أنت وأمي ما أجد له مسلكاً}: أي: شربتُ حتى امتلأتُ.
ولذلك أبو دلامة، أحد المتفكهين في تاريخ الإسلام، دخل على هارون الرشيد وهارون الرشيد كان يجمع الأدباء والسُّمَّار والشعراء في مجلسه بعد صلاة العشاء، فالفكاهي المزَّاح أبو دلامة دخل عليه، فقال له هارون الرشيد: "يا أبا دلامة! سمعنا أنك تطلب الحديث النبوي، وأنك تحفظ بعض الأحاديث.
هل حفظت شيئاً؟ قال: نسيتُ كل الأحاديث، وما حفظت إلا ثلاثة أحاديث، قال: وما هي؟ قال: قولهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلوى والعسل، والحديث الآخر: قوله صلى الله عليه وسلم: {إذا حضر العَشاء والعِشاء فابدأوا بالعَشاء قبل العِشاء} وقول أبي هريرة في حديثه: {شربتُ اللبن حتى ما وجدتُ له مسلكاً} قال: أما تحفظ إلا أحاديث الطعام؟! أتحفظ من أحاديث الآخرة شيئاً؟ قال: أحفظ حديثاً، قال: وما هو؟ قال: حدثنا فلان بن فلان عن فلان بن فلان عن فلان بن فلان عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن حفظ خصلتين دخل الجنة، قال: وما هما الخصلتان؟ قال: نسيتُ واحدة، ونسي عكرمة الثانية! "
فـ أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: {يا رسول الله! والله ما أجد للبن مسلكاً، فأخذ صلى الله عليه وسلم الكوب، فسمَّى، قال أبو هريرة: فنظرتُ إلى اللبن، فوالله ما كأنه نقص منه شيءٌ،} وذلك لبركته صلى الله عليه وسلم.
والشاهد من القصة: أنه لا عبرة بالتراث، بل هو ابتلاء، وأن الذي يأكل حتى يموت حبطاً، فليس ذلك لدرجته عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
تموت الأُسْد في الغابات جوعاً ولحم الضأن تأكله الكلابُ
ولذلك تجد بعض أعداء الله عز وجل مرفه في الدنيا لا يجوع ولا يهتم، لا يظمأ ولا يتعب، كل أموره ميسرة؛ لكن على حساب أجره عند الله، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
فمن كان يريد الله فأكبر معالم إقباله: أن يخلص عمله لله، والذي ينبغي أن يكون من أعظم الأهداف تحقيقاً في الأربع والعشرين الساعة: الصلوات الخمس.
يقول ابن تيمية وقد شكا له رجل النفاق والشبهات والشهوات في صدره: "أوصيك بعد تقوى الله بإصلاح الصلوات الخمس ظاهراً وباطناً، وأن تخشع فيها، وأن تكثر من الالتجاء والدعاء إلى الله عز وجل، فسوف يرزقك الله الصدق والقبول".
وأوصي نفسي وإياكم بالصلوات الخمس: أن نصْدُق فيها؛ فإنها المدرسة الروحية العالية، والقداسة والطهر، وهي العهد والميثاق الذي أخذه الله علينا، والذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، ويوم نصْدُق مع الله في الصلوات الخمس ونجدد بيعتنا مع الله في كل صلاة يرزقنا الله القبول، ويرزقنا الله الصدق والاطمئنان، ويأخذنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بأيدينا إليه صراطاً مستقيماً.(239/16)
المسلمون بين الشبهات
يا معاشر المسلمين! إننا ابتلينا بمعسكرين:
المعسكر الشرقي الشيوعي: صاحب الشبهات.
والمعسكر الغربي الرأسمالي: صاحب الشهوات.
لينين وماركس، ومن اصطفَّ في مسارهم، واعتقد اعتقادهم من أهل الإلحاد حاربوا العالم الإسلامي بالشبهات، أوبالشك والإلحاد والريبة، حتى أغْوَوا كثيراً من شباب الإسلام وصدوهم عن منهج الله.
فالنعرات التي تسمعونها بين الفَيْنة والفَيْنة على مركب الحداثة، أو الأدب الحداثي، أو تحرير المرأة أتت من لينين وماركس، وبثوها في العالم؛ فابتلينا بهذا المرض الخطير، فما هو علاجه؟
وابتلينا من المعسكر الرأسمالي الغربي الأمريكي والأوروبي بالشهوات: بالمرأة الفتانة، وبالمجلة الخليعة، وبالأغنية الماجنة، وبكأس الخمر، وبالضياع.
فأولئك يحاربوننا بالشك والريبة.
وهؤلاء يحاربوننا بالشهوات والأطماع.
فما هو مخرجنا؟
الحل أمام الشبهات: أن نصْدُق مع الله عز وجل، وأن نكثر من الأعمال الصالحة، وأن نأتي إلى القرآن الكريم فنتدبره تماماً، ونقرأه كما يريده الله عز وجل، ونقف مع آياته طويلاً.
وأيضاً: بالدعاء والتبتل، وصدق الالتجاء إلى الحي القيوم، فهو الذي ينقذنا أمام الإلحاد والزندقة، والشك والريبة والنفاق.
وأما الشهوات: فحلنا وموقفنا أمامها: الزهد وتقوى الله والمراقبة والمحاسبة والصبر.
ولذلك كان الأستاذ سيد قطب عندما سافر إلى أمريكا إنساناً عادياً، عنده الناس سواسية، فلما سافر إلى ولاية كلورادو في أمريكا، وعاش في مدينة دينفر وهو يطلب رسالة في العلوم، قال: "فرأيتُ المجتمع مجتمع الغابة، رأيتُ الضياع، رأيتُ الإنسان وهو يعيش كالحيوان، أجاد في طعامه وشرابه، وأجاد في مسكنه، وأجاد في تنقله؛ ولكنه أخفق في عالم الروح".
فقطع بعثته الدراسية، وعاد إلى القاهرة، وأول ما تناول القرآن، فبكى طويلاً، وعاش مع القرآن خمساً وعشرين سنة.
يقول في أول كتابه الظلال: "عشتُ مع القرآن، والعيش مع القرآن حياة ترفع العمر وتباركه وتزكيه".
فهل لنا أن نعود إلى القرآن، وهل لنا أن نعود إلى المساجد، وقد عدنا -والحمد لله- وعاد الكثير، وهل لنا أن نصدق اللجوء مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
فيا أيتها الأمة التي صاغها الله على سمعٍ وبصرٍ! وأراد لها أن تكون منقذة للعالم، وجعل عنوان موكبها النور والسجود, وجعلها خيِّرة أينما حلًّتْ وارتحلَتْ.
أدعوكم ونفسي إلى الله الحي القيوم، إلى التوبة الصادقة، والمعاملة الحسنة؛ فإنه -والله- لا يمكن أن نصدق مع مرءوسينا، ولا مع مسئولينا ورعاتنا إذا لم نصدق مع الله، ومن خان الله وضيعه فهو لما سوى الله أضيع.
قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[مَن حفِظ الصلاة فهو لما سواها أحفظ، وقد حفظه الله، ومَن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وقد ضيعه الله]].
أسأل الله أن يحفظني وإياكم بحفظه، وأن يتولانا بولايته، وأن يرعانا ويهدينا ويسددنا، ويأخذ بأيدينا.
وإنها لفرصة من فرص العمر أن نعيش مع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لَدَينا
نُلامُ على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام وما علَينا
ولم نلقاكمُ لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقَينا
تسلى الناس بالدنيا وإنَّا لعَمْرُ الله بعدَك ما سلَينا
فأسأله لي ولكم التوفيق والهداية والسداد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(239/17)
الأسئلة(239/18)
حكم من ذهب ليجاهد بدون إذن والديه
السؤال
ما رأيك في من يذهب للجهاد في بلاد أفغانستان تاركاً وراءه أهله وأولاده ووالدَيه، وهم غير راضين عنه، وهم أحق بالجهاد عليه؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
صاحبُ السؤال -مِمَّا عرض في سؤاله- كأنه يجيب نفسه بنفسه.
والحقيقة: الجهاد الأفغاني جهاد إسلامي يفخر به كل مسلم، ونسأل الله عز وجل أن يمكنهم تحت راية لا إله إلا الله وأن ينصرهم على أعدائهم.
ومسألة الذهاب إلى أرض أفغانستان مسألة طالما تُكُلِّمَ فيها في مناسبات، وتَكَلَّمَ عنها أهل العلم والمفكرون والدعاة كلاماً طويلاً لا يخفى على كثير من الناس.
أما بالنسبة لمن يذهب هناك: فإن مما ظهر من كلام أهل العلم وفتاويهم: أن الجهاد في أفغانستان فرض عين، ولا بد من إذن الوالدين إذا أراد الذهاب إلى هناك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث قال لمن سأله: {أحيٌّ والداك، أو أحدهما؟} فإن أجابه بنعم، قال: {ففيهما فجاهد} وقال لليمني لما سأله: {أحيٌّ والداك؟ قال: أمي حية، قال: فالزم رجلها، فإن الجنة عند رجلها} رواه: النسائي.
فإذا عُلِمَ هذا، فإنه لا بد من إذن الوالدين، وهذا الذي دلت عليه النصوص.
والعجيب: أن بعض المفسرين قالوا: أهل الأعراف الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلّاً بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف:46] قالوا: هم قوم أسكنهم الله في جبل بين الجنة والنار كجبال الدنيا؛ وهم قوم قُتِلوا في سبيل الله، وما استأذنوا آباءهم وأمهاتهم.
فهم تحت رحمة الله عز وجل.
فلا بد من إذن الوالدين، ومما ظهر من فتاوى أهل العلم، أن الجهاد هناك فرض عين، ومَن عنده عائلة وأطفال وليس لهم عائل إلا هو، فلا بد من البقاء معهم؛ إلا أن يداهم البلد عدو، أو يكون هناك أمر أخطر من الحادث الذي لا يَجِدْ معه إلا هذا المجاهد، أو لا يجد نفسه إلا في مقام المضطر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {كفى بالمرء إثماً أن يضيع مَن يقوت} وفي رواية: {مَن يعول} وهو حديث صحيح.
فالذي عنده أطفال وزوجة وبنات، وليس لهم عائل بعد الله إلا هو، إذا ذهب إلى الجهاد، ورزقه الله الشهادة، مَن يُرَبِّ هؤلاء الأطفال؟ ومَن يقِف مع هؤلاء البنات؟ ومَن يَحْمِ أعراضهن وأعراض بيته، ويقف معهن ويقوتهن؟ وهذا من الإسلام.
قال تعالى: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14].
وهذا ما يحضرني في هذه العُجالة عن هذا الجهاد.
وأدعوكم إلى كثرة الدعاء للمجاهدين، وبذل المال فهم بحاجة إليه، وهم وقفوا في ثغرة طالما كانت مفتوحة حتى وقفوا فيها، فهم يستجدون من الله النصر صباح مساء.
نسأل الله أن ينصرنا وإياهم إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.(239/19)
حكم صلاة الجماعة وحكم المتخلف عن صلاة الصبح
السؤال
ما رأي فضيلتكم في من يتخلفون عن صلاة الجماعة وهم يسمعون الأذان وبيوتهم قريبة من المساجد؟ وهل المتخلف دائماً عن صلاة الصبح من المنافقين؟ أفيدونا أثابكم الله.
الجواب
صلاة الجماعة على الصحيح من أقوال أهل العلم؛ واجبة، وابن تيمية يشترطها شرطاً في صحة الصلاة؛ لأدلة دلت من الكتاب والسنة، كقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] وقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء:102] وقول الرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح من حديث أبي هريرة: {لقد هممت بالصلاة أن تقام، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرِّق عليهم بيوتهم بالنار} , ولما سأله الأعمى: {هل تجد لي رخصة؟ قال: أتسمع حيَّ على الصلاة، حي على الفلاح؟ قال: نعم.
قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث عند الدارقطني: {من سمع النداء فلم يجب، فلا صلاة له إلا من عذر}.
ومن تخلف عن الصلاة بلا عذر فهو منافق، لا شك في نفاقه، يقول جل ذكره عن المنافقين وهم يأتون المسجد ويصلون: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: [[لقد رأيتُنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل، يُهادَى به بين الرجلين حتى يُقام في الصف]] أي: مِن المرض، ثم ذكر الحديث.
فما كان الصحابة يعرفون المتخلف إلا منافقاً.
ويقول ابن عمر: [[كان الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا رأوه تخلف شَكُّوا في إيمانه]].
فصلاة الجماعة واجبة.
ومن تخلف عن صلاة الفجر وأخذها عادة بلا عذر من غَلَبَة نومٍ أو من مرض، فهذا دليل على نفاقه، نسأل الله العافية.
وعند الترمذي، بسند فيه نظر، يقول عليه الصلاة والسلام: {من رأيتموه يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان}
فنحن شهداء الله في أرضه، والله عز وجل يقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] والرسول عليه الصلاة والسلام مُر عليه بجنازتين، فأثنَوا على جنازةٍِ خيراً، فقال: {وجَبَتْ لها الجنة، وأثنَوا على الأخرى شراً، فقال: وجَبَتْ لها النار، ثم قال: أنتم شهداء الله في أرضه}.(239/20)
مشاهد في أمريكا
السؤال
فضيلة الشيخ! سمعنا أنك ذهبت إلى أمريكا من أجل الدعوة، فهل لك أن تعطيَنا بعض المشاهد التي رأيتها، لعله يكون لنا فيها عظة وعبرة، وشكراً لك؟
الجواب
هذا مؤتمر للدعاة المسلمين وللشباب المسلم، حضره ما يقارب أربعة آلاف شاب مسلم، فمن السعوديين ما يقارب الألف أو زيادة، وكان في أوكلاهوما في شمال أمريكا، وحضره الكثير من علماء الإسلام، ما يقارب خمسين عالماً، ووجدنا هناك نماذج تبشر بالخير من شباب الإسلام، خرجوا من هنا وهم عاديون، يظنون أن الإسلام صلاة وذهاب إلى البيت وعودة، ولكن ذهبوا إلى هناك، فرأوا المجتمع -مجتمع جهنم، مجتمع النار، مجتمع الضياع- فعادوا إلى الحي القيوم، والتجئوا إلى الله لما رأوا علماء ومفكري الأمريكان يدخلون في دين الله، فعاد الواحد منهم داعية.
وأذكر أن كثيراً من الشباب الأمريكان الذين حضروا الحفل، وتكلموا فيه، وتُرْجِمَ كلامُهم يشعرون بسعادة ما بعدها سعادة، وكأنهم دخلوا الجنة، وقالوا: إننا نشعر كأننا خرجنا من النار ودخلنا إلى الجنة.
والمرئيات التي يجدها المسلم عجباً من العجاب:
أولها: يشعر المسلم بالمفاصلة مع الكافر: فإنني شعرت - والله الذي لا إله إلا هو - أن التراب الذي نمشي عليه ونحن نعبر ولاياتهم، ما كأنه كالتراب الذي في بلادنا، والشجر الذي نراه ما كأنه بالشجر الذي هنا، والماء الذي نشربه ما كأنه بالماء الذي هنا؛ لأن الله عز وجل يؤانس بين المسلم وبين ما يخلقه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأرض الكافر يجعل بينها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وبين المسلم نفرة، حتى يقول عليه الصلاة والسلام لما رأى جبل أحد: {أحد جبل يحبنا ونحبه} قال: سيد قطب عن هذا الحديث: يا سبحان الله! حتى المؤمن يحب الجبال وتحبه الجبال.
والشجر يحب المؤمن والمؤمن يحب الشجر.
فلما رأينا المجتمع الضائع، وذاك التعرِّي، وذاك السُّخْف، وجدنا أُناساً يهرعون دائماً مشغولين في أفكارهم، كالآلة ذهاباً وإياباً، لا يطَّلِعون إلى عالم الغيب، ولا يعملون للآخرة، فهم مجتمع ضائع، ولذلك كانت لي منظومة قصيدة اسمها: أمريكا التي رأيتُ منها:
يا أمة كتب الإله لها صحائف من خلودْ
واختارها فجراً جديداً بعد ليل لا يعودْ
وحمى عفاف حيائها من كل كفار عنودْ
هو صاغها من فطرة عنوان موكبها السجودْ
...
ما زرت أمريكا فليـ ست في الورى أهل المزار
بل جئت أنظر كيف ند خل بالكتائب والشعار
لنحرر الإنسان من رق المذلة والصغارْ
وقرارنا فتح مجيد نحن أصحاب القرارْ
...
ورأيت أمريكا التي صاغوا لها أعلى وسامْ
ما أرضهم أرض رأيتُ ولا غمامهمُ غمامْ
ورأيتُ وقتي في ديا رهمُ كألفي ألف عامْ
إلى آخر هذه المنظومة.
إنما هي أحاديث طويلة طويلة، فبشرى للمؤمن يوم يجد شباب الإسلام، وشباب هذه البلاد التي هي مهبط الوحي من السماء، وأرض القبلة، والتي تنزل فيها القرآن، يوم يرفعون لا إله إلا الله هناك، في الجامعات، والبعثات العسكرية، من أهل التخصصات الخاصة، والدعاة والمفكرين، يوم يجدهم يرفعون الرأس، ويوم يسمع الأذان وهو يتردد في الولايات، وفي الأماكن والمدن، يرتفع رأسه؛ ولكنه يستاء يوم يجد هؤلاء الذين ما عرفوا الله، فقد عرفوا كل شيء إلا الله، فقد أُعْمِيَتْ قلوبُهم، وطُبِعَ عليها، وللحديث مجالات ومجالات.(239/21)
حكم حلق اللحى وإسبال الثياب وسماع الغناء
السؤال
أشهد الله أنني أحبك في الله، وأسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يثبتك ويزيدك علماً أولاً: بين لنا حكم حلق اللحية.
ثانياً: حكم إسبال الثياب.
ثالثاً: حكم سماع الغناء؟
الجواب
أحبكم الله الذي أحببتمونا فيه.
أما هذه المسائل التي عرضتَ لها: وهي اللحية، والغناء، وإسبال الثياب، فما أظنك تجهل، ولا الإخوة الذين حضروا يجهلون هذه الأحكام.
ونحن لا ينقصنا الإفتاء، فالفتوى موجودة، ونور على الدرب نسمعه صباح مساء، بل بعض الناس يسمع في الكلمة الواحدة أو في المسألة الواحدة عشرين عالماً، لكن القناعة القلبية والإيمان واليقين ينبغي أن يتمكن في القلب لنسمع، فـ {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:22] {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].
فسماع القلب غير سماع الأذُن.
ولا ينقصنا علم ولا فهم، لسنا نعبد العلم، فإن العلم عُبِد من دون الله.
فـ العلمانية أتى بها أتاتورك في تركيا فعُبِدت من دون الله.
اللحية: حلقها حرام.
وفي عشرة أحاديث أو أكثر للنبي صلى الله عليه وسلم فيها نَهْيٌ وتحريمٌ لحلقها.
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {خالفوا المجوس، وفِّروا اللحى، وجزُّوا الشوارب} {أرخوا اللحى} {أعفوا اللحى، وقصوا الشوارب} وفي غيرها من الألفاظ الكثيرة.
والغناء: محرم، كتاباً وسنةً.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} [لقمان:6] قال ابن مسعود: [[أقسم بالله قسماً إنه الغناء]].
وقال ابن مسعود، وقد رفع هذا الكلام بعضُ المحدِّثين إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال: [[الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت البقل من المطر]].
وفي صحيح البخاري عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف} واستحلال المعازف إنما هو بعد التحريم.
قال أهل العلم: يدخل في المعازف: الناي والطبل والدف والمزمار والموسيقى بأنواعها، فهي محرمة، ومن استمع إليها في الدنيا حرمه الله سماع غناء الجنة، ففي مسند أحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة جوارٍ ينشدن للمؤمنين ويقلن: نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنا له وكان لنا} قال ابن القيم وهو يتحدث عن هذا، وغناء أهل الجنة في منظومته:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصانِ
فتثير أصواتاً تَلَذُّ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزانِ
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدانِ
ومن استمع إلى الغناء صُبَّ في أذنيه الآنُك، وهو الرصاص المذاب يوم القيامة، نعوذ بالله من ذلك.
قال ابن القيم: "الغناء بريد الزنا ".
وهذا كلام من عالم بالنفس محقَّق؛ فإن أهل التجربة وأهل علم النفس قالوا: للصوت تأثير في حركات العبد ومزاولاته.
وما ارتُكِبَتِ الجريمة والفاحشة إلا بعد سماع أصوات العشقِ والوَلَهِ، والمحبةِ والغرامِ، وحبيبي وحبيبتي فترددت، ثم وقع الناس في الزنا والعياذ بالله.
وأتينا إلى الناس بعد ذلك لنخرجهم من السجون بعد أن فُتح لهم مجال الغناء والعُهْر وسماع هذا الفُحْش؟ لا.
إن العلاج يبدأ أولاً بالحمية، ثم بعد ذلك نقول للناس: هذا طريق الهداية.
لا أن نستخرج الناس بعد أن يُحْبَسوا في المخدرات، والفاحشة، والمخالفات، والمعاصي، وهذا الذي نشكو حالنا فيه إلى الله.(239/22)
حكم قصر الصلاة في الرحلات
السؤال
يخرج بعض الناس للرحلات أيام الخميس والجمعة، فهل يجوز لهم الجمع والقصر، علماً أن المسافة أكثر من ثمانين كيلو متر، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا سافر العبد المسلم سواءً في رحلة أو نزهة أو في سفرِ طاعةٍ حَجَّاً كان أو عمرة أو زيارة المسجد الحرام والمسجد النبوي أو جهاداً فله أن يقصر.
إذا كان هناك مسافة للقصر وهي ما تعارف عليه بأنها مسافة قصر.
أما الكيلومترات والأميال فلا عبرة بها؛ لكن ما سمي في اللغة سفراً فيَقْصُر، سواءً في رحلة أو في غيرها، فإذا خرجت إلى مكانٍ نُزْهةً بأهلك فلك أن تجمع وتَقْصُر إذا كانت مسافة قصر.(239/23)
حكم إضاعة الوقت في غير ذكر الله
السؤال
نرجو من فضيلتكم بيان حكم السمر على اللهو ولعب الورق، وترك صلاة الفجر مع الجماعة، وما حكم إضاعة الوقت في غير ذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟ والسلام عليكم.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله، هذه -كما تعرفون - منكرات عظيمة، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى استخلف هذا العبد ليكون عبداً له، وقتُه محسوب عليه، يسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن عمره وسمعه وبصره وعن كل قوة زوده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بها، ففي صحيح مسلم قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع منها: وعن عمره فيما أبلاه}.
ويقول جل ذكره: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
فلعب الورق إن لم يكن على قمار، ومال، ولا على مخاطرة؛ فمكروه إذا لم يكن في وقت صلاة، أو شَغَل عن ذكر، أو قراءة قرآن.
وإن شغل عن ذكر، أو قراءة قرآن، أو صلاة فهو محرم، وإن صاحبه مخاطرة، أو مال، أو شيء من الرهان فهو محرم أشد التحريم.
ومن فاتته صلاة الفجر من أجل هذه الأمور فقد ارتكب أمراً محرماً، وقد فعل فعلاً شنيعاً، وأظن أن صلاته -والله أعلم- لا تقع له قضاءً؛ لأنه أخرجها عن وقتها بلا سبب، وسهر دائماً وأخذها عادة، فأخرجها عن وقتها، فالله أعلم بحاله، ونسأل الله أن يتوب علينا وعلى مَن هذه حالُه؛ فإن من يستخدم ليله في اللهو واللعب، ونهاره في الضياع فلا ندري ما مصيره؛ ولكن الله طالبنا بأن نحسن العمل ليحسن لنا الخاتمة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
فما أطالَ الليلُ عمراً وما قصَّرَ في الأعمار طولُ السهر(239/24)
حكم كشف الخادمة على من تعمل عنده
السؤال
ما هو الرأي الشرعي فيما يتعلق بالخادمات؟ وهل يحق لمن هي عنده الكشف عليها، كأحد محارمها؟ وهل يجوز لها العمرة أو الحج برفقة مستخدمها؟ وهل يجوز له أن يسمح لها أن تخرج إلى الشوارع متكشفة لفتنة الشباب؟
الجواب
إذا استُقْدِمَتْ خادمة لأجل ضرورة أو لخدمة في البيت بشروط فلا بأس بذلك، وقال بعض أهل العلم: لا بد أن تكون مسلمة، والتعامل يكون مع المسلمين، فتكون متحجبة في مكان خاص، لا تتكشف على الرجل في البيت، فلا يراها ولا تراه، فإنها أجنبية وهو أجنبي عنها، ولا يصح له بحال أن ينظر إليها، وليست الخدمة سبباً شرعياً يوجب أن يكشف عليها أو أن تكشف عليه، بل تخدم في بيته مع زوجته وبناته، ولا تكشف على أولاده ولا يكشفون عليها، وإن أخل بهذا الشرط فالخادمات محرمات.
وكذلك الخُدَّام من الرجال، حرام أن يكشفوا على نسائه وبناته، فإن أخل بهذا الشرط فقد ارتكب منكراً عظيماً وفاحشةً وجرماً.
وأما الذهاب بها إلى الحج بلا مَحْرَم: فلا يجوز؛ لأنه ليس مَحْرَماً لها، بل عليها أن تحضر لها مَحْرَماً يستصحبها، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام - قال: {لا يحق لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسافة ثلاثة أيام إلا مع ذي مَحْرَم}.
وفي رواية في الصحيح: {يوماً وليلة}.
وهذا يشمل كل مسلمة، فلا يحق لها إلا مع ذي مَحْرَم من أهلها، أو من قَرابتها.(239/25)
حكم ذهاب الخادمة للحج والعمرة مع العائلة التي تخدمها
السؤال
ما رأيكم إذا كانت زوجته معه وأطفاله، وأراد أن يحج بها؟
الجواب
بعض أهل العلم استثنى في هذه المسألة وقال: إن كانت للضرورة فمع أهله وأمه -مثلاً- وأخته وزوجته، بشرط ألا تكشف عليه؛ لكني لا أرى فتح هذا الباب؛ لأنه سوف يكون في السفر أمور، وسوف يُفْتَح الباب للناس على هذا الأمر، وفيه ضرورة، بل تحضر هي ولياً لها أو قريباً لها مَحْرَماً.(239/26)
حكم خروج الخادمة إلى الشارع متكشفة
السؤال
وخروجها - أطال الله عمرك - إلى الشارع متكشفة لفتنة الشباب؟
الجواب
هذا بإجماع العلماء لا يجوز، فإنه أفتى نفسه؛ لأنها تفتن الشباب؛ فمُحَرَّمٌ أن تتشكف في بيته عند أبنائه، فكيف إذا خرجت في الشارع!
والخادمة ليس لها حكم خاص، فإنها تأخذ حكم المرأة، فعليها أن تستتر بستر الله، ولا تتكشف، وإن فعلت ذلك فقد ارتكبت إثماً، وارتكب مَن أتى بها إثماً، وكان داعياً إلى الإثمين: إثمها في نفسها يوم أركبها الإثم، وإثمه هو يوم فعل هذا الأمر العظيم.(239/27)
حكم من عمل عملاً لغير الله
السؤال
ما رأي شيخنا الكريم في من تعلم العلم لغير الله، ولم يقصد بعلمه ولا بأكله ولا بشربه ولا بنومه إلا غير الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟
الجواب
نسأل الله العافية والسلامة، العلم شيءٌ، وما ذكر من الأكل، والشرب، والنوم شيءٌ آخر، فيه تفصيل:
أما مَن تعلَّم لغير وجه الله فنسأل الله أن يتداركنا وإياه برحمته، وأن يتوب علينا وعليه؛ فإن بعض الناس أول ما يبدأ في طريق العلم يبدأ لغير وجه الله، ثم يحوِّل الله نيته إلى الخير، يقول سفيان الثوري: " تعلمنا العلم لغير الله، فأبى الله إلا أن يكون له".
وذُكِر عن الشافعي أنه يقول: " تعلمنا العلم للدنيا، فأبى الله إلا أن يكون له".
فبعض الناس يبدأ أولاً بطلب العلم للرياء والسمعة والظهور، والمنصب والشهادة، ثم يفيض الله عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بمنه وكرمه مع الدعاء والتعوذ من الشيطان، ومع كثرة النوافل، فيفتح الله عليه، ويتوب عليه، فيعود، ويخلص نيته لوجه الله.
والتعلم لغير وجه الله عز وجل حرام: ومن تعلم لغير الله لا يجد عَرْفَ الجنة، وإن عرفها ليوجد من مسافة أربعين عاماً أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وأما الأكل والشرب والمنام فهذه من الأمور المباحة، وأنت مأجور إذا صرفتها لطاعة الله، فإذا نوَيْت بنومك أن تستعين به على طاعة الله تحولت العادة عبادة، قال معاذ رضي الله وأرضاه: [[والله إني لأحتسب نَوْمَتي كما أحتسب قومتي]].
فمن احتسب أكله كان مأجوراً؛ أما من أكل على غير نية، فليس بمأجور وليس بمأزور؛ إنما هي مباحات، إذا أكل بدون نية ما أظنه يحصل على أجر، ولكنه لا يحصل له إثم ولا ذنب ولا خطيئة إن شاء الله.(239/28)
حكم التكشف على بنات العمات والأخوال والخالات
السؤال
هل لبنات الأعمام والعمات والأخوال والخالات أن تكشف على صاحب الدار؟
الجواب
بنات الأعمام أو بنات العمّات أو بنات الأخوال كلهن أجنبيات، فهن لسن كأخته أو أمه أو بنته.(239/29)
حكم تطويل الخطبة
السؤال
خطيب الجمعة طوَّل في الخطبة، فقام المسلمون وشتموا الخطيب، وانصرفت هذه المجموعة محتجين بطول الخطبة، فما حكم هذا؟
الجواب
كان الأحسن لهم أن تكون المظاهرة على الخطيب بعد الصلاة؛ لأنه قد يكون خطب بهم ثلاث ساعات أو ما يقاربها، كما يفعل بعض الحمقى من الخطباء؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتصاد في الموعظة والمراعاة، وقال كما في صحيح مسلم عن عمار بن ياسر: {إن قِصَر خطبة الرجل وطول صلاته مئنة من فقهه} أي: علامة لفقهه؛ ولكن لا إفراط ولا تفريط.
بعض الناس قد يرتقي المنبر، فيتكلم خمس دقائق، ثم ينهي الخطبة، وماذا سمع المسلمون في الخمس الدقائق؟ والمجتمع يمر بالمشاكل: بالمخدرات، وبالزنا والعُهْر، وتكشف المرأة، والربا وتسيب الشباب، فهذه المشكلات لا بد أن يعرضها فيحررها، ويؤصِّلها، فيأتي بالأدواء والأعراض وبالعلاج، حتى يستفيد الناس، في نصف ساعة - مثلاً - وفيما يقارب، هذه الحدود ولا يطيل.
أما أن يأتي على المنبر فيأتي بسيرة الأولين والآخِرين، ويتحدث عن الأسعار والأمطار والأخبار، وعن كل ما هب ودب، فهذا ليس من حقوقه؛ لأن في الناس من هو مريض وشيخ كبير وطفل صغير، وفي الناس من هو مضطر، وفي الناس من عنده ضيوف بعد الصلاة، ومن عنده مواعيد وأسفار، فلا يحق له في الإسلام أن يفعل ذلك.
ولكن الأحسن للمصلين والواجب ألا يقوموا بهذا؛ لكن يقوم أحدهم فيتكلم معه ويقول: طوَّلْتَ بارك الله فيك اختصر، وانزل؛ ليذكره فهذا، هذا من حقوق المصلي أن يتكلم مع الإمام، ولا يتكلم المصلون مع بعضهم، فإن للإمام أن يكلم الناس، ولهم أن يكلموه على المنبر؛ لكن ليس للمصلين أن يتكلموا بعضهم مع بعض.(239/30)
قل أعوذ برب الناس
أورد الشيخ مقطوعة من الشعر العربي لـ (كثير عزة) في مستهل كلامه، ثم انتقل إلى موضوعه الأساس: تفسير سورة الناس، وشرح كلمات هذه السورة باستفاضة، مستدلاً على مدلولات هذه الألفاظ بكلام العرب وأشعارهم، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر بعض الأمور التي نستطيع بها أن نتغلب على الشيطان، وتكلم عن أنواع شياطين الإنس، مبيناً ستة أسباب للوقاية منهم.
ثم ذكر ثمانية مقاصد من قراءة القرآن الكريم.(240/1)
من روائع الشعر العربي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الفضلاء:
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
عنوان هذا الدرس: (قل أعوذ برب الناس) وهو الدرس الأول في التفسير، والخطة المتبعة في تفسير القرآن الكريم: أن يُبْدأ بقصار السور، وفي هذا الدرس نبدأ بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ثم السور التي تليها صعوداً، في زحف مقدس مع كتاب الله عز وجل.
والمقصود من هذا التفسير: أن يقرب كلام الله عز وجل للناس.
وأسلك في ذلك مستعيناً بالله الأسلوب السهل اليسير المبسط، محتفظاً بكلام أهل السنة والجماعة، حريصاً على معتقد السلف الصالح، رابطاً القرآن بالواقع، والواقع بالقرآن، سائلاً الله أن يعينني وإياكم على أن نهتدي بنور القرآن.
وقبل أن أبدأ في الدرس بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] أحب أن أتحفكم، وأتحف من يسمع هذا الدرس بقصيدة بديعة قالها كثير عزة أمام أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه.
وأنتم تعرفون عمر بن عبد العزيز، ولا يجهله مسلم، والكل يعرف من هو الخليفة الراشد الزاهد العابد، الذي كان مجدداً في القرن الأول.
والحقيقة: أن الشاعر أبدع، وأنه قال الحق، وأنه أصاب سواء السبيل، لما تلفظ بكلمات يشيد بهذا الإمام - رحمه الله رحمة واسعة -.
يقول كثير عزة يمدح عمر بن عبد العزيز ويثني عليه:
تكلمتَ بالحق المبين وإنما تُبَيَّنُ آياتُ الهدى بالتكلُّمِ
وأظهرت نور الحق فاشتد نوره على كل لبس فارق الحق مظلمِ
وعاقبت فيما قد تقدمتَ قبله وأعرضتَ عما كان قبل التقدمِ
ويخاطب الخليفة ويقول:
وليت فلم تَشْتُم علياً ولم تُخِفْ برياً ولم تقبل إشارة مجرمِ
لأن النواصب من بني أمية كانوا يشتمون علياً على المنابر ويسبونه، فلما تولى عمر أبطل ذلك، وأعاض مكان ذلك: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90].
وصَدَّقتَ بالفعل المقال مع الذي أتيتَ فأمسى راضياً كل مسلمِ
ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه من الأَوَد الباقي ثِقاف المقوِّمِ
وقد لَبِسَتْ لبس الهَلوك ثيابها تراءى لك الدنيا بكف ومعصمِ
وتومض أحياناً بعين مريضة وتَبْسُم عن مثل الجُمَان المُنَظَّمِ
وتومض، أي: الدنيا.
فأعرضتَ عنها مشمئزاً كأنها سَقَتْكَ مَدُوفاً من سَمَام وعلقمِ
وقد كنتَ من أجبالها في مُمَنَّعٍ ومن بحرها في مزبد الموج مفعمِ
وما زلتَ تواقاً إلى كل غايةٍ بلغتَ بها أعلى البناء المقدَّمِ
فلما أتاك المُلْكُ عفواً ولم يكن لطالب دنيا بعده من تَكَلُّمِ
تركتَ الذي يفنى وإن كان مُونقاً وآثرتَ ما يبقى برأيٍ مصَمِّمِ
وأضررت بالفاني وشمرت للذي أمامك في يوم من الشر مظلمِ
سما لك همٌّ في الفؤاد مؤرِّقٌ بلغت به أعلى المعالي بسُلَّمِ
فما بين شرق الأرض والغرب كلها منادٍ ينادي من فصيح وأعجمِ
يقول أمير المؤمنين ظلمتَني بأخذٍ لدينار ولا أخذِ درهمِِ
ولا بسطِ كفٍ لامرئ غير مجرمٍ ولا السفك منه ظالماً ملء مِحْجَمِ
ولو يستطيع المسلمون لقسموا لك الشطر من أعمارهم غير نُدَّمِ
فأَرْبِحْ بها من صفقةِ لمبايِعٍ! وأَعْظِمْ بها أَعْظِمْ بها ثم أَعْظِمِ!
ولعله إن شاء الله يكون في مقدمة كل درس رائعة من الشعر العربي الفصيح، أو بديعة ينفع الله بها؛ ولكن نأتي إلى أحسن الكلام، وأروع الألفاظ، وجوهر المقول، وهو كلام رب العالمين، الذي يقول فيه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
والذي يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88].(240/2)
شرح مفردات سورة الناس
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:1 - 6]
هذا درس هذه الليلة، هذا كلام الله عز وجل، هذا الكلام المبين الذي أنزله على رسوله عليه الصلاة والسلام.
فمن يستطيع أن ينظم مثل هذا الكلام، أو أن يقول كهذه العبارات، أو أن يصوغ كهذه الجمل؟!
روى الإمام مسلم في الصحيح عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لقد أنزل الله عليَّ آيات لَمْ يُرَ مثلهن: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]} وقرأ السورتين عليه الصلاة والسلام.
وكان عليه الصلاة والسلام يعيذ الحسن بتعاويذ، فلما أنزل الله المُعَوَّذَتَين: (الناس) و (الفلق) قرأهما عليه الصلاة والسلام واكتفى بهما.
ويكفي من أراد أن يستعيذ بالله أن يستعيذ بسورة (الناس) وبـ (الفلق).
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه سورة هي آخر سورة في المصحف، فمن أولها إلى آخرها سينات مشتبكة، كأنها حركة الشيطان وهو يوسوس في صدر ابن آدم، أو كأنها حركة الموسوسين الذين يوسوسون من الإنس في آذان الناس.
وسوف تسمعون كلام أهل العلم من العصريين، وسوف تسمعون إن شاء الله بعض الأفكار المطروحة، وبعض كلام أهل الأدب في هذه السورة.(240/3)
شرح قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]: الأمر للرسول عليه الصلاة والسلام ولكل مسلم يريد الله والدار الآخرة، فالله يأمر هذا العبد الضعيف أن يلتجئ إليه.
{قُلْ} [الناس:1]: قل أيها الضعيف: أعوذ.
{أَعُوْذُ} [الناس:1]: ومعنى أعوذ: ألتجئ وأعتصم وأستجير؛ لكن بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
قال ابن كثير: ومن كلام المتنبي:
يا من ألوذ به فيما أؤمله وأستعيذ به مما أحاذرهُ
لا يجبر الناسُ عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابرهُ
يمدح مخلوقاً والله هو المستحق لذلك.
قال ابن كثير: وربما دعا ابن تيمية بمضمون هذين البيتين في سجوده.
وذكر ذلك ابن القيم.
فالذي يُستعاذ به هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو الذي يُلتجأ إليه في الضائقات.
ومن خصائص وحدانيته وألوهيته: أنه يجيب المضطر إذا دعاه، فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].(240/4)
توضيح معنى: الرب الملك الإله
{بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1 - 3]: ذكر الله في أول هذه السورة ثلاث صفات لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:
الأولى: رب.
الثانية: ملِك.
الثالثة: إله.
{بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]: فأما (رب): فهو توحيد الربوبية الذي أقر به الناس جميعاً، وإن أنكره بعضهم في الظاهر؛ فإن فرعون أنكر الربوبية في الظاهر، فهو يقول لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] بينما بَكَّتَه موسى عليه الصلاة والسلام وكذَّبه وعنَّفه، وقال: يا عدو الله: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: لم ينكر أحد من الناس الصانع -أي: الخالق الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- إلا فرعون، فقد أنكره في الظاهر وأقر به في الباطن.
وإلاَّ فالخليقة كلها كافرها ومؤمنها، ضالها ومهتديها؛ يشهدون ويقرون أن هناك رباً، ولكن ما خالف بعض أهل الكفر وأهل الزيغ والإلحاد إلا في مسألة الإله، فخالفوا في توحيد الألوهية، فأتى الرسل عليهم الصلاة والسلام يدعون إلى توحيد الألوهية، الذي ذكره الله في هذه السورة: (رب - ملِك - إله).
والعبد في كل يوم لا بد أن يلتجئ إلى هذا الرب والملِك والإله.
فالرب: الذي يربي عباده بالنعم، وهو المربوب، وهو المصرف المدبر الخالق الرازق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65].
والملك: هو الذي يستحق الملك.
قال القرطبي: وإنما ذكر الله عز وجل الربوبية لجميع الخلق لأمرين:
الأول: لأن الناس معَظمون، فأعْلَمَ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه لا معَظَّم إلا هو تبارك وتعالى.
الثاني: لأنه أمر بالاستعاذة من شرهم، فأعْلَمَ بذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه هو وحده الذي يُعِيذ، ولا يعيذ غيره.
وهذا في مسألة (رب).
{مَلِكِ النَّاسِ} [الناس:2]: وأما (ملِك): فإنه انفرد بالملك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولو أن في الناس ملوكاً، ولكن المُلك حقيقة له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولذلك أثنى على نفسه فقال: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].
والله عز وجل سمى نفسه يوم القيامة: ملكاً؛ لأنه: {يقبض السماوات بيمينه، والأرضين بشماله} هكذا في لفظ مسلم.
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا اللفظ، هل يطلق عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالشمال؟ فأقره سماحة الشيخ، وقال: يقره أهل السنة، وأما حديث: {كلتا يدي الله يمين} فهو من باب التكريم والتبريك، وإلاَّ فـ أهل السنة يقرون لفظ الشمال، كما في صحيح مسلم.
فإذا قبض الله السماوات والأرض نادى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]؟ {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]؟ {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]؟ فلا يجيبه ملَك مقرب، ولا نبي مرسل، فيجيب نفسه بنفسه ويقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].
فهو ملِك الناس.
{إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:3] وأما (إله): فهو المستحق للألوهية والعبودية سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وقد أُرسل الرسل بذلك، وخاتمهم رسولنا عليه الصلاة والسلام فقد أتى بهذا التوحيد، وهو الذي أنكره المشركون، وكان عليه الصلاة والسلام يقول لهم: {قولوا: (لا إله إلا الله) تفلحوا} وكل نبي قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
فالمشركون عبدوا مع الله غيره، وسألوا ودعوا مع الله غيره, فضلوا ضلالاً مبيناً.
وعند أبي داود في السنن: أن حصين بن عبيد الخزاعي وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام فقال له عليه الصلاة والسلام: {يا حصين! كم تعبد؟ قال: سبعة، قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض، وواحد في السماء، قال: فَمَنْ لِرَغَبِكَ وَلِرَهَبِكَ؟ قال: الذي في السماء، قال: فاترك التي في الأرض، واعبد الذي في السماء}.
وعند أحمد في المسند وأبي داود أيضاً: عن أبي جري الهجيمي، قال: {وفدتُ على الرسول عليه الصلاة والسلام فقلت: يا رسول الله! إِلامَ تدعو؟ قال: أدعو إلى أن يُعبَد اللهُ لا إله إلا هو، ثم قال: الذي إذا أصابتك سنة فدعوتَه كشفها عنك -أي: قحط وجدب- والذي إذا ضلت ناقتك في الصحراء فدعوتَه ردَّها عليك} فانظر كيف خاطب هذا الأعرابي بمنطوقه ومفهومه، فإنه يفهم القطر في الصحراء، ويفهم الضالة إذا ضلت، فخاطبه بشيئين عليه الصلاة والسلام.
فالله عز وجل هو الذي يستحق الألوهية، وإنما يَضِلُّ العبدُ يوم يدعو إلهاًَ غير الله عز وجل.
وقد وقع الناس في كثير من الشركيات، كشرك المحبة، والرجاء، والخوف، وهذه ليست بظاهرة، بل أجزِمُ جزماً أكيداً أنه حتى من يحمل الشهادات العالية، وربما الشهادات الشرعية منها، يقع في شيء من هذا الشركيات.
وقلتُ أكثر من مرة، وقال غيري ممن هو أفضل: إن كثيراً من الناس لا يعبدون النجم أو الحجر أو الشجر.
لكن منهم من يشرك شرك الخوف.
وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن من نواقض (لا إله إلا الله): شرك الخوف، وهو الذي يقع فيه الناس، ومعناه: أنك تخاف من البشر أكثر من خوفك من رب البشر.
وتعتقد أنت في نفسك، ولو أنك تصلي وتصوم وتعبد أن من الناس من يمكن أن يقدم أجلك ساعة، أو ينهي حياتك، أو يقطع رزقك أو يضايقك، دون أن يقدِّر الله ذلك، أو يستطيع أن يضرك دون أن يكتب الله ذلك.
وهذا شرك منك في لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36].
وصح عنه عليه الصلاة والسلام عند الترمذي وأحمد أنه قال: {واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشي لم ينفعوك إلا بشي قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجفت الصحف}.
فهل اعتقدنا هذا؟ وهل عشناه؟ وهل خلَّصنا أنفسنا من هذه الشركيات؛ شرك الخوف، والرجاء، والمحبة؛ أن ترجو غير الله أكثر مما ترجو الله، أو تحب غير الله أكثر من حبك الله؟(240/5)
شرح قوله تعالى: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ)
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} [الناس:4]: قال أهل العلم: من شر الشيطان، وإنما حذف المضاف وأتى بالمضاف إليه، للدلالة على ذلك.
فمن هو الوسواس؟
من هو الذي يوسوس؟
ومن هو الذي أغوى أجيال الأمة؟
ومن هو الذي أضل الألوف المؤلفة؟
ومن هو الذي جعل الشاب يتنكر لمبدئه، ويتنكر لمسجده ومصحفه؟
ومن هو الذي جعل طواغيت الأرض يحكمون بغير ما أنزل الله؟
ومن هو الذي جعل الظَّلَمة يستبدون بدماء الناس وأموالهم وأعراضهم؟
ومن هو الذي جعل المرأة تخرج سافرة كاشفة تكفر بالحجاب؟
من هو الذي جعل الأقلام المأجورة تكتب كفراً، وزندقة وحداثة، ورجساً؟
من هو الذي جعل الأديب يرتقي المنبر؛ ليكفر بالدين ويسب الرسول عليه الصلاة والسلام؟
من هو الذي جعل التاجر يخون في تجارته، ويتعامل بالربا، ويكذب، ويغش، ويخادع؟
من هو الذي جعل الشيخ في السبعين من عمره يختم عمره بشهادة الزور؟
من هو الذي جعل المغني يحمل العود، والطبلة، والكمنجة، والناي، ويُعرض عن القرآن، والدرس، والهداية، والمحاضرة؟
إنه الشيطان!!
فالذي أتى بـ اليهودية العالمية: الشيطان.
الذي أتى بـ النصرانية المحرفة: الشيطان.
الذي أتى بـ الشيوعية الكاذبة: الشيطان.
الذي أتى بـ العلمانية الخاسرة: الشيطان.
إذاً: فالشيطان وراء هذه الأحزاب، والأحلاف، والأنظمة، والاتجاهات، والكفريات في الأرض كلها.
إنها مدرسة الشيطان، والله هو الذي خلقه، فسأل ربه أن يُنْظِرَه، فأنظره الله، ليعيش الصراع العالمي: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251] ليكون هناك اتجاه وموكب فيه: نوح، وإبراهيم، وعيسى، وموسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام ويكون هناك اتجاه وموكب آخر فيه: الشيطان، وفرعون، وقارون وهامان وأبو جهل وأبو لهب، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أولئك إلى الجنة, وأولئك إلى النار: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] فهذا هو الشيطان.
ولم يذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للعلم به، قال أهل العلم: والمعنى: من قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] أي: من شر ذي الوسواس.
فحذف المضاف.
قال هذا الفراء: و {الْوَسْوَاسِ} [الناس:4] بفتح الواو، بمعنى: الاسم، أي فاسمه: الوَسْواس، أي: الموسوس.
و {الوَسْوَاسِ} [الناس:4] تُقرأ: {الْوِسْوَاسِ} [الناس:4] بكسر الواو على المصدر، فقرئت كذلك من الوَسْوَسة، وتنطق: من الوِسْوَسَة.
وكذلك الزَّلزال بفتح الزاي الأولى، والزِّلزال بكسر الزاي نفسها.
والوسوسة: حديث النفس، وهو ما يحدث به الإنسان نفسه.
فالشيطان يأتي للإنسان ويحدثه في نفسه بأحاديث تصل به إلى الكفر، أو البدعة، أو المعصية كبرى كانت أم صغرى، كما سوف يأتي.
يقال: وسوست إليه نفسُه وَسْوَسةً ووِسْوَسهً، ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلي: وِسْواس.
قال ذو الرمة:
فبات يُشْزِئهُ تَأْدٌ ويُسْهِرُهُ تَذَوُّبُ الريحِ والوسواسُ والهضبُ
وقال الأعشى: وهي في قصيدته الطويلة التي مطلعها:
ودِّعْ هريرةَ إن الركب مرتحلُ وهل تطيق وداعاً أيها الرَّجُلُ
قال:
تسمع للحلي وِسواساً إذا انصرفَتْ كما استعان بريحٍ عشْرقٌ زَجِلُ
الحُلي، أي: حلي المرأة.
وِسواساً، أي: وِسواس الحُلي.
هذه هي الوَسوسة التي يحدثها الشيطان في قلوب كثير من الناس، وسماه الله عز وجل: وسواساً لهذا السبب.
وسوف يأتي معنا الأثر والأحاديث في هذا الباب، ولكنه يوسوس في حديث النفس.
قال قتادة: أول ما يبدأ به الشيطان: يوسوس للناس في الوضوء.
وصدق فيما قال، فهو أول الأمراض التي تصيب الناس، وهذا ملحوظ في كثير ممن يسأل في مسألة الوضوء، فيتلاعب به الشيطان في مسألة الوضوء إلى أن يعيد وضوءه، فيلعب ويسرف بالماء، ثم يدخله في الشك في العقيدة حتى يخرجه من الملة، والله المستعان.(240/6)
بيان معنى (الْخَنَّاسِ)
{الْخَنَّاسِ} [الناس:4]: ووُصِِفَ الشيطان بالخناس؛ لأنه كثير الاختفاء.
ومنه قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير:15] والخُنَّس: النجوم؛ لاختفائها بعد ظهورها، وهي تختفي في أبراجها.
وسميت الظباء خوانس؛ لأنها تخنس في الأرض وتختفي.
وسميت الشاعرة الخنساء بـ الخنساء؛ لأنها جميلة كالظبي.
فكل شيء يختفي يقال فيه: خَنَسَ، أي: اختفى، والشيطان اختفى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27].
قال أحد التابعين لما قرأ هذه الآية: [[الله المستعان، كيف بعدُوٍ يراك ولا تراه؟!]] بمعنى أنه: ينتصر عليك، تصوَّر أن عدواً يريد أن يصيدك، ومعه سلاحه وعياراته، وهو يريد أن يقتلك، وأنت تريد أن تهرب منه، وهو يراك وأنت لا تره، سوف يصيدك ولو مرة.
والمشكلة التي أوقعت كثيراً من الناس في حبائل الشيطان هو أنه يراهم وهم لا يرونه، وهذه فتنة من الله عز وجل يقول الشاعر:
تسترتُ من دهري بظل جناحه فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام عني ما درتْ وأين مكاني؟ ما عرفن مكاني!
وهذا مثل الشيطان الرجيم، فهو خناس، والعجيب: أنه يسكن في القلب، وأنه جاثم على قلب الإنسان، وهو - عند بعض أهل العلم- كـ (الضفدع) ووصفه بعضهم وقال: كـ (السلحفاة) ووصفه بعضهم بقوله: كـ (الحية الرقطاء) وما شئت من الأوصاف، إنما يجري في الإنسان مجرى الدم، كما قال عليه الصلاة والسلام.
وكلٌ معه قرين -شيطان- خلق معه مصاحباً له يغالبه، فالشيطان يدعوه للفاحشة، ويَعِدُه الفقر، والمسلم بنفسه وواعظ الله في قلبه يدعوه إلى الإيمان والغنى والتصديق بوعود الله، فأيهما غلبَ فهو الغالب، والحرب سجال: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في: صحيح مسلم: {ما منكم من أحد إلا وُكِلَ به قرينُه من الجن فهو معه، قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: حتى أنا، لكن الله أعانني عليه فَأَسْلَمَ} وضُبِطَتْ كلمةُ: (فأسلم) عند بعض العلماء بمعنى: {فَأَسْلَمُ} أي: فَأَسْلَمُ منه، أي: أعانني الله عليه فغلبتُه، فأنا سالِمٌ منه، وهذا رأي ضعيف، والضبط الأول: {فَأَسْلَمَ} من الإسلام، أي: اعتنق الإسلام هو الصحيح، فلا يأمره إلا بخير.
وفي الحديث: {إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا غفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس} أي: تأخر وأقْصَرَ.
وقال قتادة بن دعامة السدوسي، وهذا فيه ملعقتان من القدر، وهو من رواة البخاري ومسلم؛ لكن فيه ملعقتان قدر، قال عنه الذهبي: رأس في القراءات رأس في الزهد رأس في الحديث، هذا وفيه بدعة القدر، ولا نبطله، ولا نرد علمه؛ لكن نقبله وننبه على خطئه في القدر، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
وهذا الكلام هو الإنصاف، وهو العدل.
يقول قتادة، وهو من سادات المفسرين: [[الخناس: الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب، في صدر الإنسان]].
فإذا غفل الإنسان وسوس له، وإذا ذكر العبدُ ربه خنس، يقال: خَنَسْتُه، فَخَنَسَ، أي: أخَّرْتُه فتَأخَّرَ، وأخْنَسْتُه أيضاً، ومنه قول العلاء الحضرمي، وقد أنشد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:
وإن دحسوا بالشر فاعفُ تكرماً وإن خنسوا عند الحديث فلا تسلْ
وعن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا نسي التقم قلبه فوسوس} والحديث ضعيف، وإنما ذكرتُه؛ لأن كثيراً من المفسرين ذكروه، كـ القرطبي وغيره من أهل العلم، فذكرتُه لأبين أنه ضعيف.
وقال ابن عباس: [[إذا ذكر الله العبد خنس الشيطان من قلبه فذهب، وإذا غفل التقم قلبه فحدثه ومنَّاه]].
وقال إبراهيم التيمي: [[أول ما يبدأ الوسواس من قِبَل الوضوء]].
وقيل: سمي خناساً؛ لأنه يرجع إذا غفل العبد عن ذكر الله، والخَنَس: الرجوع.
هذا عرض موجز لكلام السلف، ثم أعود إلى كلام أهل العلم مفصلاً في قضايا السورة.(240/7)
شرح قوله تعالى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ
{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس:5] قال المفسرون: الشيطان في الصدر يوسوس، ومكان الوسوسة: الصدر، فمنه تنبعث الخواطر والهموم والإرادات والنيات، فذكر الله الصدر لأنه معترك العبد، بين نيته وبين وسوسة الشيطان.
وأراد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن تكون المعركة في الصدر؛ ليعلم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من ينشرح صدره للهداية، ومن يضيق صدره فهو ضيق حرج بالغواية.
قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125].
وقال حاكياً عن موسى دعاءه ربه: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25] فسأل أعظم مطلوب في أول السؤال.
وقال لرسولنا عليه الصلاة والسلام ممتناً عليه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
فإذا شرح الله للعبد صدره سَلَّمه من الشيطان، وأخرج هواجس ووسوسة الشيطان.
قال مقاتل في: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس5]: إن الشيطان في صورة خنزير، يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، سلطه الله على ذلك، قال تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس:5].
وعن شهر بن حوشب عن أبي ثعلبة الخشني وأبو ثعلبة الخشني أحد الصالحين الكبار، وهو من الصحابة عند كثير من أهل العلم، وقد سأل الرسولَ عليه الصلاة والسلام عن الأمر والنهي عن المنكر، فقال: {مُرْ بالمعروف، وانْهَ عن المنكر، فإذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرَة، وإعجابَ كلِّ ذي رأي برأيه، فعليك خاصة نفسك}.
فيقول أبو ثعلبة هذا: [[سألتُ الله أن يريني الشيطان، ومكانه في ابن آدم، فرأيتُه يداه في يديه، ورجلاه في رجليه، ومشاعبه في جسده، غير أن له خطماً كخطم الكلب، فإذا ذكر اللهَ العبدُ خَنَسَ الشيطان ونَكَسَ، وإذا سكتَ عن ذكر الله أخذ بقلبه]].
معنى ذلك: أنه رأى يدَي الشيطان في يدَي الإنسان، ورجلَي الشيطان في رجلَي الإنسان، ومشاعبه أي: أظافره في جسد الإنسان.
فهو -على ما وصف أبو ثعلبة - متشعب في جسم الإنسان، ويصحح ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: {إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم}.(240/8)
شرح قوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ
{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:6]: الجِنَّة: الجن، فأصل الشيطان ونسبه من الجن: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50].
فقبيلتُه وأسرتُه ودمُه ونسبُه ودارُه في الجن؛ ولكن له في الإنس إخوان، وأعوان، وأحزاب، وألوية، وجمعيات، ومؤسسات، وزَّعها في العالم.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:175] قال أهل العلم: معناها: يخوف بأوليائه، ويرسل بعوثه، حتى إنه نصب عرشه على البحر، فيرسل تلاميذه في أطراف الأرض، فيأتي أحدهم، فيقول له: ماذا فعلتَ؟ فيقول له: أغويتُ العبدَ، قال: ما فعلتَ شيئاً، فيقول للثاني: ماذا فعلتَ؟ فيقول: تركتُه يؤخر الصلاة، قال: ما فعلتَ - أي: لم تفعل شيئاً - فيقول للثالث: ماذا فعلتَ؟ فيقول: ما تركته حتى فرَّقتُ بينه وبين زوجته، قال: أنتَ حبيبي.
هكذا في التفسير.
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] فذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن للناس شياطين.
وقال عليه الصلاة والسلام لـ أبي ذر: {تعوذ يا أبا ذر! من شياطين الإنس والجن، قال: قلت: يا رسول الله! هل للإنس شياطين؟ قال: نعم.
لهم شياطين}.
أما شياطين الإنس: فمنهم أناسٌ لا نراهم، وهم الذين يصدون عن منهج الله، ويوسوسون بالخواطر السقيمة، والهواجس الأثيمة، والأفكار المُرْدِية.(240/9)
أنواع وساوس الشيطان
والشيطان -أيها الإخوة- يوسوس بأمور:
الأمر الأول: الكفر:
قال أهل العلم: أول ما يوسوس الشيطان بالكفر، لا يترك العبد حتى يكفر، ويشرك بالله - عز وجل - ويلحد، ويحاول دائماً أن يدخل عليه الكفر بأي سبب من الأسباب.
الأمر الثاني: البِدْعة:-
فإذا لم يستطع في الكفر انتقل إلى البدعة، فلا يزال يزين له البدعة حتى يبتدع في دين الله، والله يقول: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] فلا يزال يُحَسِّن له البدعة، ويريه أنه مأجور في فعلها، حتى يبتدع في دين الله، فيحق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} -وفي رواية-: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد}.
الأمر الثالث: الكبيرة:
فإن لم يستطع في البدعة -وهي أدهى من المعاصي- أتى به من طريق الكبائر: من الزنا، وشرب الخمر، والسرقة، ونحو ذلك، فلا يزال يحسن له الذنب، حتى يرتكب الكبيرة من الكبائر، ثم يقبح له التوبة حتى يعصي الله، ويموت على كبيرته.
الأمر الرابع: الصغيرة:
فإن لم يستطع على الكبيرة، ابتلاه بالصغائر من الذنوب، وأصابه بالترخُّص، وأفتاه بأنها صغيرة، وأنها لا تضره، حتى يجمع عليه من السيئات الصغار أمثال الجبال، حتى تعادل الكبائر.
الأمر الخامس: المباح:
فإن لم يستطع على الصغائر، أتاه من طريق المباحات، حتى يسرف في مباح من المباحات، مثل: الأكل، والشرب، واللباس، والسكنى، والخلْطَة حتى يُضَيِّعَ كثيراً من أوقاته.
الأمر السادس: المرجوح:
فإن لم يستطع بذلك أتاه من طريق المرجوح على الراجح، فيأتي بالعمل المرجوح، حتى يفوت الراجح.
فمثلاً: الراجح في مثل هذه الجلسة من المغرب إلى العشاء: أن تحضر مجلس العلم، والدرس والفائدة، فيأتيك الشيطان، ويقول: أفضل لك أن تجلس في زاوية في بيتك تسبح الله، والتسبيح ليس معصية، بل هو أجر ومثوبة؛ لكن يأخذك من الراجح إلى المرجوح، حتى تترك الراجح الذي ينفعك عند الله.
وقد ذكر الراجح والمرجوح ابن القيم في: مدارج السالكين.
الأمر السابع: اللازم:
فإن لم يستطع أتاك بالنفع اللازم عن النفع المتعدي، فيحبب إليك -مثلاً- نفعك اللازم، فإن كنتَ تاجراً غنياً، وعندك أموال قبح إليك الإنفاق، وقال: عليك بالنوافل، بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، ولذلك ما أحسن على التجار من صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ لكن الإنفاق عليهم صعب، فيأتيه بهذا.
ويأتي إلى العالم ويقول له: نخاف عليك من الشهرة، ومن حب الظهور، وأخشى عليك أن إذا تكلمتَ أن تفتتن بالناس، فعليك أن تبقى في بيتك، وتقرأ صحيح البخاري وتتنفل، وتسبح الله عز وجل فيتركه من النفع المتعدي الذي هو الجهاد في سبيل الله، وهو أعظم التضحيات، وهو طريق الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام إلى طريق أهل التصوف المنقمعين في بيوتهم، المتسترين بلباسهم، وبأستار حجبهم، الماكثين في زواياهم، والإسلام يُذْبح مساءً وصباحاً، ونهاراً وليلاً، ودعاةُ الكفر على المنابر، والدجال اقترب خروجه، والمتكلمون بالإثم ألوف مؤلفة، والأقلام التي تحارب ربها سُبحَانَهُ وَتَعَالى ملء الأرض، والخونة والعملاء ملء الديار، ومع ذلك يأتي إلى الدعاة والأساتذة والفضلاء والعلماء، ويقول: اتقوا الله! اجلسوا في بيوتكم، نخاف عليكم الشهرة، لا تشاركوا، ولا تحاضروا، فيسمعون لداعيه، فيوقعهم في أعظم الورطات.
هذه من صنوف حيله ومكره.(240/10)
أساليب التغلب على وساوس الشيطان
قال أهل العلم: تستطيع أن تتغلب على الشيطان بأمور:
الأمر الأول: الاستعاذة:
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98].
وقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36].
فإذا أحسست بالشيطان في غضب، أو شهوة، أو كِبْر، أو غفلة، فالتجئ إلى الواحد الأحد.
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:98].
قالوا في تفسير هذه الآية: أي: مَرَدَة الجن.
وقيل: الجن عموماً.
وقيل: الفَسَقَة منهم.
فعليك أن تلتجئ إلى الله.
وعند البخاري في الصحيح عن سليمان بن صرد قال: {تسابَّ رجلان -وليس تسابَّا؛ لأن هذه الأخيرة على لغة (أكلوني البراغيث) وإنما هي تسابَّ؛ لأنها بمعنى: تعدد الفاعل- قال: تسابَّ رجلان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فسبَّ أحدُهما الآخر حتى احمر وجه الآخر، فقال صلى الله عليه وسلم: إني أعلم كلمةًَ لو قالها لأذهب الله عنه ما يجد، لو قال: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
فأُخبر الرجلُ، فقال: أمجنون أنا؟!}.
أي: تكبَّر ولم يقُلْها.
فأول شيء تبدأ به أن تستعيذ.
الأمر الثاني: الوضوء:
أن تتوضأ، وهو سلاح المؤمن، ولا يطرد الشيطانَ شيءٌ كالوضوء.
الأمر الثالث: الإكثار من ذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى:
فإن الذكر من أعظم الأسلحة، ويسمى: الحصن الحصين، وهو السلاح الفتاك الذي يُقْتَل به أعداء الله عز وجل فتكون مسبحاً مستغفراً مهللاً مكبراً.
الله أكبر! كل هم ينجلي عن قلب كل مكبر ومهللِ
وهو من أحسن ما يكون.
قال تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41].
وقال جلَّ شأنه: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191].
وفي الصحيح: {مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحي والميت}.
الأمر الرابع: الإيمان:
فالإيمان وترسيخه في القلب من أعظم ما يطرد الشيطان.
ويكون ذلك بالتفكر في الآتي:
التفكر في آيات الله الكونية: في السماء في الأرض في الذوات في المخلوقات في الكائنات في العجماوات في الجمادات في الزواحف في الحشرات كلها تدلك على رب الأرض والسماوات.
التفكر في آيات الله الشرعية: وهو القرآن العظيم، بتدبر وتمهل وتأنٍ؛ ليكتب الله في قلبك الإيمان، ويؤيدك بروح منه.
الأمر الخامس: صدق اللجأ:
وهو الاستجارة بالله، والدعاء، وتفويض الأمر إليه.
الأمر السادس: العلم الشرعي:
وهو أعظم ما يُطْرَد به الشيطان، والشيطان يغضب من العلماء وطلبة العلم، ومن مجالس العلم، ولا يُرى أدحر ولا أصغر منه عند مجالس العلم، أو اجتماع أهل الخير، كاجتماعهم في عرفات، أو يوم الجمعة، أو في الدروس العلمية، أو المحاضرات النافعة، فإنه يَصْغُر ويَذِل ويُدْحَر ويَخْنَس ويَخْسأ.
الأمر السابع: الجلوس مع الصالحين:
ومنها أيضاً -أيها الإخوة الفضلاء- ومما يعمق ذلك: الجلوس مع الصالحين، ومحبتهم، وطلب دعواتهم وزياراتهم.
هذه مما يطرد بها الشيطان الرجيم، وكذلك أمثالها من الوسائل المفيدة النافعة، التي بُيِّنت في كثير من المناسبات.(240/11)
أنواع شياطين الإنس
أما شياطين الإنس الموسوسون فهم على ضروب:(240/12)
دعاة الكفر
أعظم الموسوسين من الناس الآن: دعاة الكفر عليهم لعنة الله وهم محاربو الأنبياء والرسل، وهم أعداء الله عز وجل وهم خصومه يوم العرض الأكبر، فهم يورثون مللهم ونحلهم في الأرض، ويحامون عنها، ويذبون، وينظرونها في دنيا الناس.(240/13)
رفقاء السوء
فرفيق السوء من شياطين الإنس ولذا قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فهو الرفيق الذي يأتيك وأنت مهتدٍ ومتجه إلى الله عز وجل تريد الاستقامة والاهتداء، فلا يتركك حتى تترك الصلاة، وتلحد في دين الله، أو حتى ترتكب الكبائر.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل}.
ولذلك يُنْصَح هذا الجيل الطاهر الطيب العامر من أمثالكم أن يتقي الله عز وجل في من يجالس، أو يصاحب، أو من يسافر معه، أو يلعب معه، أو يرحل معه، أو من يزوره، أو يستزيره، أن يحذر كل الحذر من هؤلاء؛ فإن في الساحة أناساً يتجلببون بجلباب شياطين الإنس، وهم يشكلون خطراً على هذا الجيل الذي يتجه إلى الله، وإلى جنة عرضها السماوات والأرض.
فنحذر هذا الجيل من هؤلاء أن يحرفوه عن منهج الله.
يكمن في ذلك رفقاء السوء الآتي ذكرهم:
فمن رفقاء السوء: من يقدم لك السيجارة.
ومن رفقاء السوء: من يقدم لك المجلة الخليعة بديلاً عن القرآن.
ومن رفقاء السوء: من يقدم لك المقهى بديلاً عن المسجد.
ومن رفقاء السوء: من يقدم لك شريط الغناء بديلاً عن الشريط الإسلامي.
وعجبتُ وأنا أرى بشرى تُبَثُّ في البلد، بشرى افتتاح تسجيلات غنائية، مُدَّتْ بآلاف الريالات، لتهدم الجيل والبيوت، فتذكرت قول الله في من ينفق أمواله في هذه: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] فهذا من رفقاء السوء.
ومن رفقاء السوء: من يأتيك وأنت تريد أن تحفظ وقتك، فيضيع عليك وقتك بالغيبة، والنميمة، والوقيعة في أعراض الناس، وتحبيب الفواحش لك.
ومن رفقاء السوء: من يدغدغ مشاعرك الغريزية، ويذكرك بالجنس المحرم، ويقدم لك وسائل الإغراء حتى تقع في الفاحشة.
ومن رفقاء السوء: من يحبب لك السفر إلى الخارج؛ لتنسى الله عز وجل وتنسى موعوده، وتترك أهلك ودعاة الإسلام وأهل العلم؛ لتبتعد هناك، ولكن لا تبتعد عن عين الله عز وجل.
ومن رفقاء السوء: من يصدك عن مجالسة أهل العلم والدعوة والخير، ويحذرك من العلماء والدعاة، ويصفهم بالتزمُّت، والتطرف، والتشدد، وأنهم مصدر خطر على الأمة، وأن على الأمة أن تحذرهم، وأنهم يفهمون الدين بالمقلوب، كما قال بعض المرتزقة فيما كتب، قال: هؤلاء يفهمون الدين بالمقلوب! فكيف بفهمه هو؟! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5].
ومن رفقاء السوء: من يحذرك من مصاحبة أهل الخير في المراكز الإسلامية، والمخيمات النافعة، والجلسات المفيدة، بحجة أنهم سوف يشددون عليك، أو يحرجونك، أو يوصلونك إلى طرق مغلقة, أو نحو ذلك.(240/14)
النمامون
الثالث: النمامون:
والنمام: هو الذي يفسد بين الجيران والأُسَر، وبين القبائل والعشائر، وهذا موجود في كل مجتمع، وفي كل قرية.
وشياطين الإنس النمامون هؤلاء من الرجال ومن النساء، وهم كتل بشرية تمشي على الأرض، وتحرق قلوب العالمين، وتقطع الأواصر: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
قال عليه الصلاة والسلام: {لا يدخل الجنة نمام} وذلك لما يفسد، قال بعض العلماء: يفسد النمام في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة.
وقد وجدنا أثر شياطين الإنس من النمامين في المُقَاتَلَة التي تقع بين القبائل بالسلاح، وإزهاق الأرواح، وسفك الدماء، بسبب نميمة النمام.
ورأينا النمام في تقطيع أواصر الجيران، وذهابهم إلى المحاكم الشرعية، والشكايات فيما بينهم بسبب كلام النمام.
ورأينا النمام يفعل بين الزملاء والقرناء، والأحبة، فيفسد بين الصاحبين، والحبيبين، والزميلين، والصديقين، فيجعل بينهم ناراً تلظى، وجَبَلاً من رماد في القطيعة والمسبة والغضب.
ورأينا النمام يدخل بين الرجل وزوجته، وبين الرجل وأبنائه، وبين الأخ وأخيه، فيهدم البيت فيبقى البيت قاعاً صفصفاً لا ترى فيه عوجاً ولا أمتاً.(240/15)
أصحاب الأقلام المغرضة
الرابع: أصحاب الأقلام المغرضة:
ومن شياطين الإنس -يا معشر الأحبة- أصحاب الأقلام المغرضة الذين يطالعوننا في كل صباح على صفحات الجرائد والصحف، وكأن ذنب الأمة الوحيد أنها أتبعت محمداً عليه الصلاة والسلام وكأن على هذه الأقلام حقاً أن تحارب الرسول عليه الصلاة والسلام في دعوته، فإذا الاستهزاء بالدين، وإذا التعريض بالقرآن، وإذا السخرية بمعالم وسنن محمد سيد الخلق عليه الصلاة والسلام وإذا بالنزول المغرض والطرح العشوائي في قضايا الأمة واللعب بمقدراتها، ومصادر عزتها.
إن أصحاب هذه الأقلام من شياطين الإنس، الذين تركوا حرب الكافر، وتوضيح المبادئ للأمة، ونشر الفضيلة بين الناس، وأتوا بالذبذبة الفكرية، والطرح الغثائي، والهامشية في العرض، بل بعضهم وصل به الحال إلى أن تزندق وألحد، وكتب كفراً.(240/16)
الشعراء الأفَّاكون
ومن شياطين الإنس أيضاً: الشعراء الأفاكون الآثمون، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30].
فهم في خلواتهم وجلواتهم ونواديهم، يكفرون بالله ويتبجحون، ويُسَمُّون (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر): شركة صَلُّوا، وأحدهم كتب مقالة يقول في أعلاها: (جاءك الموت يا تارك الصلاة) يشنع بها على الذين يدعون إلى إغلاق المحلات، وإلى ترك التجارات في أوقات الصلاة, والله يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36 - 37].
والله يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
والله يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
والله يقول: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
وقد ذكرتُ لكم من هؤلاء الشياطين، من القديم: الدَّشَرَة؛ لأن الدَّشَرَة قديمة، الدَّشَرَة مع إبليس من يوم وضع في الأرض، فأتى الكفر معه، وأتى الخزي معه، وأتى العار معه، وأتت قوى الشر معه، وأتت محاربة المبادئ معه، وأتى الظلم والظلام معه.
وأذكر نماذج، لَعَلِّي كررتُها؛ لكن اسمع إلى الكفر القديم الذي أتى به شياطين الإنس:
يقول أحدهم، وهو يعترض على الله، ويخاطب ربه؛ لأنه من شياطين الإنس في الأدب:
أيا رب تخلق أغصان رَنْدٍ وألحاظ حورٍ وكثبانَ رملِ!
وتنهى عبادك أن يعشقوا أيا حكم العدل ذا حكم عدلِ؟!
ويقول أبو العلاء المعري، معترضاً على الله عز وجل:
أنَهَيْتَ عن قطع الرءوس تعمداً حتى بعثت لقتلها مَلَكَيْنِ
وزعمت أن لها معاداً ثانياً ما كان أغناها عن الحالَينِ!
المعنى: يقول: يا رب! أأنت حرمت أن يُقتل الإنسان بالسكين، وأنت ترسل ملَكَين يذبحون الإنسان، فلماذا تعيد الإنسان وتخلقه؟! كان الأفضل ألاَّ تخلقه من أول الطريق، فعليه غضب الله إن لم يكن تاب.
ويقول الثالث:
أتوب إليك يا رحمن مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوبُ
وأما من هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوبُ
وهذا من شياطين الإنس.(240/17)
بائعو الشهوات
ومن شياطين الإنس أيضاً: بائعو الشهوات، الذين يروجون المرأة كأنها سلعة، فيجعلونها عارضة أزياء أمام الأمم والشعوب، ويخرجونها من قفصها الذهبي النوراني الرباني إلى أن تكون معروضة على الرصيف لكل من يشتهيها.
إذا وقع الذباب على طعامٍِ رفعتُ يدي ونفسي تشتهيهِ
وتجتنب الأسودُ ورودَ ماءٍ إذا كنَّ الكلابُ ولغن فيهِ
فهؤلاء الشياطين -أهل الشهوات من شياطين الإنس- يريدون أن تخرج المرأة عارية، وأن تكون جندية، وأن تكون المرأة شرطي مرور، وأن تكون بائعة، وأن تكون مباشرة في الفنادق، وعلى أبواب السكك، وفي مجتمعات الناس، وأن تكون في البرلمان.
فهؤلاء من شياطين الإنس.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23].(240/18)
مروجو الأفلام الخليعة
ومن شياطين الإنس أيضاً: مروجو الأفلام التي يهدم الفيلم منها شعباً كاملاً، ووجد في بعض النواحي مئات الأفلام في بيت واحد.(240/19)
مروجو المجلات الخليعة والدعايات الساقطة
ومنهم أيضاً: من يروج المجلة الخليعة، والدعاية الساقطة؛ للخروج عن دين الله عز وجل، فهؤلاء من شياطين الإنس.(240/20)
رءوس القبائل المتحاكمون إلى غير الله
ومن شياطين الإنس: رءوس القبائل الذين يتحاكمون لغير منهج الله وشريعته، فيأتي أحدهم إلى قبيلته، فيرفض الشريعة جملة وتفصيلاً، ويُجْمع معهم على الكفر بالقرآن والسنة، ولو لم يتلفظ بذلك، لكن ربما يقول: سلوكياتنا، وعاداتنا، وأخلاقنا، وتراثنا، وتقاليدنا، وجعلها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله والشيخ محمد بن إبراهيم من رءوس الطواغيت: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
فتجد في بعض القبائل رجلاً متصدراً، وهو شيطان من شياطين الإنس، إذا دعوتَه للشريعة، قال: لا.
أنا وقبيلتي على هذا إلى آخر قطرة من دمائنا، فتدعوه إلى الحجاب الشرعي، يقول: لا.
قلوبنا نظيفة نشَأْنا على هذا آباؤنا وأجدادنا، ويعترض على الشرع، تدعوه إلى أن يسلم الميراث للمرأة الضعيفة المسكينة الذي ذكره الله في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يقول: لا.
عيب عندنا على المرأة أن تطلبت الميراث، وهذه شريعة غير شريعة الله عز وجل.
وتجده يجعل مراسيم لأخذ الأموال ظلماً من الناس، والرشوة، وغير ذلك، وتجده أحياناً قد يحارب الدعاة في قبيلته، فيضطهدهم، ولا يقبل كلامهم، ويعارضهم، ولا يسمح بالندوات والمحاضرات والدروس، فهو شيطان من شياطين الإنس، وتجده أحياناً قد يعترض على فتاوى أهل العلم، كأن تقول له: الاجتماع في وقت العزاء من أمور الجاهلية، وقد حرمه أهل العلم، فيقول: ومن هم أهل العلم؟ وما يدريهم؟ لا بد من هذا! لا تصلح الأمور إلا بهذا، لنا عادات وتقاليد لا بد أن نستمر عليها فهذا طاغوت، وشيطان من شياطين الإنس.(240/21)
أهل رءوس الأموال العصاة
ومن شياطين الإنس أيضاً: أهل رءوس الأموال العصاة، الذين يصرفون أموالهم فيما يغضب الله عز وجل ويجعلون أموالهم رصيداً لمحاربة الله ورسوله، ودعاة وعلماء الإسلام، وقلتُ لكم: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] وهم الذين يروجون الربا في البلاد، وهم الذين يسببون أزمة مالية، ويضطرون الناس إلى أن يتعاملوا معهم بالربا، وإلاَّ فسوف تقع الأمة في خسارة مالية.(240/22)
الأساتذة الضالون المضلون
ومن شياطين الإنس أيضاً: الأساتذة الضالون المضلون في كثير من المدارس، الذين لا يحملون مبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام ولا دعوته، بل يكونون سبباً في غواية هذا الجيل وهذا النشء، فيحببون إليه الفاحشة، والصد عن منهج الله، والجريمة، والمعصية، والمنكر.(240/23)
القائمون على الأندية
ومن شياطين الإنس: من يقومون على الأندية، فيعرضوا بها إعراضاً عظيماً عن منهج الله: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] فيجعل ما سخره الله له من الطاقة محاربة لشريعة الله عز وجل.
فيجعل الوقت في المعصية، واللهو، واللغو، والضياع، والمسلسلات، والتمثيليات، والأغنيات، والسخافات، والملهيات، والمشغلات، والساقطات، ثم لا يسمح للصوت الحي النوراني أن يُتَكَلَّم به، أو يقال، أو يُفْرَض، أو يُسْمَع، وهذا من شياطين الإنس.(240/24)
أسباب الوقاية من شياطين الإنس
أما أسباب الوقاية من شياطين الإنس فأمور:(240/25)
الأمر الأول: اتخاذ الصحبة الصالحة
وهو أن تتخذ لك أولياء يخافون الله عز وجل فيكونون أصحابك، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي بسند لا بأس به: {لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي} فتحبهم، وتزورهم، وتسأل دعاءهم، وتدعو لهم بظهر الغيب، وتستشيرهم، وتطلب الفائدة منهم، وتتفقد أحوالهم، حتى يحشرك الله في زمرتهم: و {المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالِل} وهذا حديث صحيح، علَّقه مسلم.(240/26)
الأمر الثاني: اختيار الجليس الصالح
الجليس الصالح يجب أن يكون فيه خصلتان:
الأولى: أن يحب الله ورسوله:
وذلك بأن يعمل بطاعة الله ورسوله، وينتهي عمَّا نهى الله ورسوله عنه.
الثانية: أن يكون ذا مروءة:
بأن تكون مروءته ظاهرة في معاملاته بعقل وحكمة.
وإن شئتَ قلتَ: يجب أن يكون:
1 - تام الدين.
2 - كامل المروءة.
لأن بعض الناس عنده دين؛ لكن تنقصه المروءة، بقلة عقله، فلا بد من العقل، ولا بد من الدين، حتى تصاحبه على بصيرة.(240/27)
الأمر الثالث: التفقه في دين الله - عز وجل -
وهذا أعظم ما يحصنك من شياطين الإنس -أن تكون بصيراً بالدين- وأنا أدعو الإخوة، خاصةً شباب الصحوة، أن يتفقهوا في أمور دينهم، وأنا أعتقد أن درساً من دروس الفقه في دين الله أعظم من عشرات المواعظ والخطب، ولا بد من هذا ولا بد من ذاك، ولكن حاجتنا الآن إلى الفقه حاجةٌ مُلِحَّة إلى أن نأمر على بصيرة، وننهى على بصيرة.
قال بعض الفضلاء: ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر بلا منكر.
وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من يُرِدِ اللهُ به خيراً يفقهه في الدين} ومفهوم المخالفة: أن من لا يريد الله به خيراً لا يفقهه في الدين.
فرجائي من الإخوة: أن يجتمع كل مجموعة من الإخوة في كل بلدة، أو قرية، أو مدينة، يجتمعوا في يوم من الأسبوع بدرس في مادة الفقه، فيتدارسوه حتى يكونون على بصيرة من دينهم.(240/28)
الأمر الرابع: السماع لأهل العلم
ومن وسائل الوقاية من شياطين الإنس: السماع لأهل العلم، والتعرف على الدعاة، والقرب منهم، واستشارتهم، والتعرف عليهم، وزيارتهم، والاتصال بهم، والدعاء لهم بظهر الغيب، فإن صمام الأمان في هذه الأمة: العلماء والدعاة.
وإن سفينة النجاة: العلماء والدعاة، وإن نجوم الأمان: العلماء والدعاة، وإن أسباب الخير للأمة وللمسيرة: العلماء والدعاة، الذين يرثون منهج محمد عليه الصلاة والسلام ويبلغونه للناس.
ولكن من النقص العجيب أن تفاجأ في الحي الذي تسكنُه، وأنت داعية أو طالب علم أن كثيراً من الشباب لا تعرفهم بأسمائهم، وأنت لا تستطيع أن تتعرف على كل شاب، ولكنه هو لم يأتِ يوماً من الأيام، ولم يعرفْكَ على نفسه، أو يسألك سؤالاً، أو يستشيرك في مشورة، أو يعرض عليك اقتراحاً، أو يقدم لك رسالة، وهذا من النقص العجيب، وهو انفصام خطير لابد أن يُتَلافَى.(240/29)
الأمر الخامس: إيجاد البدائل الإيمانية
ومن وسائل الوقاية من شياطين الإنس: أن نوجد البدائل الإيمانية، فنجعل المسجد منتدىً ونادياً ومحلاً لإلقاء المحاضرات، ومحلاً لإلقاء الندوات، ولعقد المشورات، ولإبداء الآراء والاقتراحات، ولمدارسة شئون المسلمين، حتى يكون بديلاً عن الأماكن اللاغية، التي يُنْتَهَك فيها الدين، ويُذَلُّ فيها شرع رب العالمين.(240/30)
الأمر السادس: التأثير في الغير بالخير
من الوسائل أيضاً -أيها الإخوة- أن نكون مؤثرين، بأن لا نكون سلبيين.
عجباً للمهتدي كيف اهتدى! وعجيب كيف ضل المستضل!
فالعجيب كل العجيب: أن تجد الضال ينحت في أفكار الناس، ويقدم دعوته لهم.
والعجيب: أن تجد الضال يسهر إلى الثانية ليلاً يكتب مقالاً يحارب به الله ورسوله، ثم يُنشَر في الصحف والمجلات.
والعجيب: أن تجد الألوف تصرف على دبلجة ومونتاج أغنية لتخرج للناس في آخر مونتاجها ودبلجتها وعرضها.
والعجيب: أن تجد الألوف وهي تُصْرَف في مسلسل يهدم الأخلاق، ويحرك غرائز الأمة، ويفسد الجيل.
والعجيب: أن تجد أماكن يُحارَب فيها المعروفُ، ويُقام فيها المنكرُ، وتُصْرَف فيها الأموال.
ثم مع ذلك، تجد أهل الخير سلبيين إلى أبعد الحدود، أحدهم يتوجس خيفة، لا يقول الكلمة، ولا يكتب المقالة، ولا يوزع الشريط الإسلامي، ولا يؤثر بكلمة، ولا يدعو إلى الله، ولا يقدم ضريبة محمد عليه الصلاة والسلام التي عليه، هو على الحق وغيره على الباطل، وأهل الباطل أقوى منه، وأشجع منه، وأكثر تأثيراً منه، ومع ذلك تجده خائفاً متأخراً متخلفاً سلبياً لا يقدم شيئاً للإسلام.
لا بد لكل واحد منا أن يسأل نفسه في المساء: ماذا قدمتُ لهذا الدين؟ عندما تَنَمْ سَلْ نفسك: ماذا قدَّمت؟ أنا أعرف أنك صليت الصلوات الخمس اليوم، وأنا أدري أنك قرأت شيئاً من القرآن, وأنا أعرف أنك سبَّحت؛ لكن أسألُك بالله! هل سألتَ نفسك هذه الأسئلة:
هل كنتُ سبباً في هداية شخص؟
هل أمرتُ اليوم بمعروف؟
هل نهيتُ عن منكر؟
هل أهديتُ لصديق كتيباً نافعاً؟
هل أهديتُ شريطاً إسلامياً؟
هل وقفتُ مع من يرتكب منكراً فنبهته على منكره؟
هل تحدثتُ إلى من خالف سنة بيني وبينه بأدب ولين، ونبهتُه على مخالفته للسنة؟
هل وعظتُ أحداً؟!
لا بد أن تسأل نفسك، وإن لَمْ تفعلْ فاعلم أن فيك نقصاً كبيراً، وأنك لا بد أن تركب في مركب محمد صلى الله عليه وسلم وهو مركب الدعوة، حتى تكون مؤثراً وداعية إلى سبيل الله.
يقال: لماذا ينتشر الباطل أكثر من الحق، والضلال أكثر من الرشد؟ قلنا: سبحان الله! ألفُ هادمٍ وبانٍ واحد، فخطبة جمعة تلقى يوم الجمعة فقط، ودرس أحياناً في الأسبوع في مواجهة آلاف الأغنيات، والمسلسلات، والتمثيليات، والأفلام، والأشرطة، والمجلات، ألا تفْسُد بها الأمةُ، ألا تضيع بها الأمةُ، ألا تضل بها الأمةُ.
أرى ألف بانٍ لم يقوموا لهادمٍ فكيف ببانٍ خلفه ألف هادمِ
فهذه هي قضايا: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1].(240/31)
المقصود من قراءة القرآن
ما المقصود من قراءة هذا القرآن؟
المقصود -أيها الإخوة- من قراءة هذا القرآن أمور:
أولاً: التبرك بالقرآن:
فمن أعظم الأجور: تلاوة القرآن، والتبرك به.
ثانياً: التدبر في القرآن:
بأن تُجْعل قراءةُ القرآن طريقاً إلى التدبر والتفهم والتفقه، ليُعْرَف ماذا يريد الله عز وجل منا بهذا القرآن.
ثالثاً: العمل بالقرآن:
بأن يُجْعَل التدبر والفقه طريقاً إلى العمل بهذا القرآن، وتطبيقه في الحياة.
رابعاً: الصلاح في القرآن:
بأن يُعْلَم أن القرآن والسنة فيهما صلاح العباد ظاهراً وباطناً، في كل قضية من قضايا الحياة.
خامساً: شمول القرآن:
أن لا يُزَوَّى القرآنُ عن حياة الناس، وأدبهم ومشاركتهم، وعن اقتصادهم، وألاَّ يُجعَل في زاوية، أو فقط لافتتاح الحفل، وإذا مات الميت قرئ عليه، أو لصلاة الاستسقاء فقط، وللمآتم، ثم يُنَحَّى عن الحياة.
فهذا ظلم ظلمنا به كتاب الله عز وجل الذي قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى في دينه وشرعه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
سادساً: تفهيم القرآن:
وأحبذ من الإخوة أن يقربوا أبناءهم إلى القرآن, وإلى التفسير المعروض بالأشرطة أو الكتيبات؛ لأن هناك في المكتبة الإسلامية تقصيراً في جانب الطفل، في كتيبات الطفل وأشرطته، وأن يقربوا له مثل هذا الشرح، أو غيره مما يرون، فإذا حفظ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] سمع ماذا يريد الله من هذا الكلام، حتى يحفظ على بصيرة وعلم ونور.
سابعاً: مرونة القرآن:
وأحبذ من الإخوة أيضاً أن يربطوا واقع الناس بكتاب الله عز وجل وأن يعلموا أن هذا القرآن باقٍ لهذه الأمة حتى يُنْهِي الله هذه الأرض ويرثها سُبحَانَهُ وَتَعَالى وأنه ليس خاصاً بفترة من فترات التاريخ قد انتهت ومرت، أو كما يقول العلمانيون: أنه لا يواكب التطور، أو كما يقولون: بأنه لا يواكب الأمور العصرية، أو أنه لا يستطيع أن يواكب هذا الزخَم الهائل القادم من الغزو الفكري وأمثاله، وهم لا يُسَمُّونه غزواً فكرياً، بل رافداً فكرياً، وحواراً عالمياً، ونحن نسمية غزواً.
ثامناً: تحفيظ القرآن:
وعلينا أيضاً أن نحصن أبناءنا بالقرآن، وأن نحفظهم من الصغر، ولا نستجيب لدعوات بعض الناس، وقد قرأتُ مقالة في مقابلة في مجلة الدعوة قبل ثلاثة أسابيع لأحد الفضلاء، هو فاضل ولكن لكل جواد كبوة.
يقترح في هذه المقابلة: ألاَّ يَحْفَظ الطلاب الصغار؛ لأنهم لو حفظوا القرآن صدَّهم حفظُه عن فهمه.
قلنا: سبحان الله! تريده أن يكون مثل الفقير اليهودي، حيث لا دين ولا دنيا.
الطفل أصلاً لا يعرف أن يفقه أو يفهم، فلو أتيتَ بالطفل الصغير في السابعة أو في السادسة، وحفَّظته السور، وقلتَ له: استنبط، فإنه لا يفهم؛ لكنه يحفظ، ففي سن الحفظ نحفظه، حتى يصل إلى سن الفهم لنفهمَه، ثم إنه إذا حفظ القرآن استدرج النبوة، غير أنه لا يوحى إليه، ثم إنه إذا حفظ القرآن صار رصيده عند الله عز وجل عظيماً، أن يُغرَس القرآن أو يُمْشَق في لحمه ودمه، أو يسري القرآن في عروقه وشرايينه.(240/32)
اقتراح وسائل للاستفادة من الدرس
ربما أقترح أنا اقتراحاً بسيطاً: أن من كان عنده من الإخوة نشاطٌ أو قدرة على تفريغ مثل هذا الشريط وتصحيحه وعرضه عليَّ فليفعل، وأنا بدروي أدعو له بظهر الغيب، وفي حضوره، وفي غيابه، بأن يحفظه الله ويأجره ويثيبه، حتى يُقَدَّم هذا في كتيب بعد تصحيحه وعرضه على أهل العلم، يُقَدَّم كتبسيط وتفسير ميسر إلى الناس، وإلاَّ فإن السلف قد كتبوا تفاسير؛ لكنهم أقسام:
- فمنهم من اعتنى بالجوانب اللغوية والنحوية.
والقرآن مقصده أعظم.
- ومنهم من أتى بِخُزَعْبَلات بني إسرائيل وكَذَباتهم وافتراءاتهم.
والقرآن أجلُّ.
- ومنهم من نحا نحو الواقع، وترك مناهج السلف الصالح، ومنهج أهل السنة والجماعة.
ولا بد من عرض ذلك.
- ومنهم من تساهل في الأحاديث الضعيفة.
ومن أمثل ما يوجد: تفسير ابن كثير؛ لكن ينقصه ربطه بواقع الأمة، فيحتاج من يقرؤه إلى أن يربط تفسير ابن كثير بواقع الناس وحياتهم ومعايشاتهم، حتى إذا قرأ الإنسان السورة في الصلاة تذكَّر واقعَه الذي يعايشه أربعاً وعشرين ساعة، وتذكرَ ماذا يمكن أن يغير إذا خرج من المسجد، وما هي صور الجاهلية التي نعيشها صباح مساء، الجاهلية التي تجدها في السوق، والدكان، والمدرسة، والجامعة، والنادي، والطريق، والبيت.
الجاهلية التي تعرض لك في كتيب، أو دعاية، أو برواز، أو لافتة، أو ورقة، أو صحيفة، أو مجلة، أو شريط، أو فيلم.
الجاهلية التي تُعْرَض لك في أشخاص، تجدهم من داخلهم مُبَرْمَجِين، أي: بُرْمِجُوا وانتهتْ بَرْمَجَتُهُم (هناك) ثم قُدِّمُوا للأمة لِيُبَرْمِجُوا الأمةَ كما بُرْمِجُوا هُم ليُؤَثِّروا على الأمة كما أُثِّرَ عليهم، فمن داخلهم مُنْتَهون، مُسْتَهَلَكَةٌ في ذواتهم المبادئُ الأصيلة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يريدون كذلك إغواء الأمة في التالي.
تجد الجاهلية في أشخاص يتصورون أن الدين صلاة فقط، وإذا ما خرجتَ فلا تشارك في الحياة ولا تدخل الدين في كل شيء، وينادون بذلك في الصحف والمجلات، ويقولون: تريدون إدخال الدين في كل شيء؟ وما دخل الدين في هذا؟ ما لكم وللدين، الدين لكم، تركنا لكم المسجد اعملوا ما شئتم، أما خارج المسجد فالحذر الحذر، ليس للدين دخل!
وبهذا فقد ازدادوا ديناً ما أتى به عليه الصلاة والسلام، هذا دين ما أراده أبو بكر، وعمر وعثمان، وعلي.
هذا دين يخالف دين المسلمين، هذا دين أهل التصوف الهندوكي والهندوسي.
وهذا دين الذين وَلَغُوا في شرع الله عز وجل بالإثم، أو أنكروا معالم الدين.
فهذا الدين لا نريده.
نحن نريد الدين الذي بُعِث به محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون في المسجد، والمقهى، والمنتدى، والمكان، والجامعة، والدكان، والبيت، وعلى الرصيف، حتى نعيش الإسلام قضية واحدة.
هذا ما يُراد.
والدرس المقبل إن شاء الله سوف يكون بعنوان: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] وبعده: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ونستمر مع هذه السور - كما قلتُ لكم - في زحف مبارك مقدس، سائلين المولى أن يعيد علينا وعليكم بركات القرآن، وأن ينفعنا وهذا الجيل به، وبأسراره وكنوزه.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.(240/33)
الأسئلة
بين يدي رسالة خطيرة ومهمة وصعبة، سوف أعرضها بخط صاحبها، وهي من أحد المواطنين من أهل أبها، ولئلا أكون كتوماً للعلم، أو جحوداً للأدلة والبراهين سوف أجيب عليها هذه الليلة بشجاعة، وسوف أعرضها عليكم وأنتم رسل للدعوة في كل مكان، وأنتم حملة للمبادئ في كل زمان، وأنتم مشرفون بخدمة دعوة محمد عليه الصلاة والسلام يقول:(240/34)
حكم تزويج القبلي لغير القبلي
بسم الله الرحمن الرحيم.
ثم بدأ بمقدمة يخاطبني، وبَجَّلَ -جزاه الله خيراً- وذكَر وأثنى، ثم قال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله العلي العظيم، القائل في محكم التنزيل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وقال عليه الصلاة والسلام: {لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى} وقال الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام: {إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}.
أيها الحبيب الفاضل: أنا أتقدم بسؤالي أريد أن أفهم بعض الأمور الدنيوية من خلال الإجابة، وأرجو أن تجيب ولا تكتم الحق، وأن توضح لنا البرهان، وأن تتقي الله فيما تقول، فقد وثقنا فيما تقول.
السؤال
هل الإسلام حرم الزواج من المرأة أو الرجل الغير قبلي للقبلي؟ ومقصوده: هل يحرُم أن يتزوج القبلي من غير القبلي؟ -أو العكس، أي: بمعنى أصح: الطرف من الأصل أو العكس وربما سماه بعض الناس خط مائتين وعشرين, وخط مائة وعشرة.
وسمعتُ حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما معناه: {تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس} وحديثاً آخر، يقول صلى الله عليه وسلم: {تنكح المرأة لأربع: لجمالها، ولمالها، ولنسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك} فهل يعني اختيار النسب هنا: أن نمنع زواج القبليين من غير القبليين من أهل الحرف الموجودين في مجتمعنا المسلم الذين يصلون ويصومون ويتبعون الرسول عليه الصلاة والسلام؟ وما معنى ذلك إذاً؟
أرجو أن توضح، وأن تتقي الله في التوضيح.
الجواب
في هذا السؤال صراحة وشجاعة وتهديد.
أولاً: قبل أن أبدأ أفصل لكم الحكم على الأحاديث التي وردت في الرسالة:
حديث: {لا فضل لعربي على أعجمي} حديث حسن.
حديث: {إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه} حديث صحيح، رواه: الترمذي.
حديث: {تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس} لا يصح عنه عليه الصلاة والسلام وليس من كلامه.
حديث: {تنكح المرأة لأربع} متفق عليه وهو في الصحيحين.
ثانياً: أقول لهذا الأخ: حيَّاك الله وبيَّاك، وأبشر ثم أبشر أني سأقول الحق، الذي أعتقد أنه الصواب، وأقول باختصار، ثم أفصل: من زعم أنه لا يجوز للقبلي أن يتزوج من غير القبلي فقد أخطأ، وقد خالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والنسب هو الدين، وإن من اتقى الله، وعمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان أقرب إلى الله فهو أقربنا إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو أكرمنا وأحبنا إليه، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] وقد هدد عليه الصلاة والسلام وندد، وشجب التمييز العنصري، وحارب صلى الله عليه وسلم من أراد ذلك في الأمة، ونادى يوم عرفة: أن: {لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى} وقرب صلى الله عليه وسلم أجناس الناس بـ (لا إله إلا الله) قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] ودخل بلال وهو عبد حبشي الجنة بـ (لا إله إلا الله) وأما أبو لهب وهو سيد قرشي، وأبو جهل، وهو أصيل قرشي، فقد دخلا النار لأنهما كفرا بهذا الدين.
وقد زوج صلى الله عليه وسلم بعض الموالي من أسر قريش، وتزوج بعض أسر قريش من الموالي زواجاً شرعياً صحيحاً، على ملة الله عز وجل وعلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما الذين يدعون أن هذا مخالفة شرعية، ويستدلون ببعض الأحاديث الضعيفة، فما صدقوا في هذا، وقد أخطئوا خطأً بيناً، وهذه حرب شعواء يستغلها أعداء الله عز وجل من الكفرة والملاحدة، فيهجمون على هذا الدين، ويقولوا: انظروا لدين المساواة والعدل والفضيلة، يأتي فيميز بين القبلي وغير القبلي، ومن قال لنا: أن هناك قبلياً وغير قبلي؟! إلى من ينتهي السند؟! من هو الأب الأكبر؟! من أين أتانا القبلي وغير القبلي؟! من آدم وحواء.
إذا فخرت بآباء لهم شرف نعم صدقتَ ولكن بئسما ولدوا
أتى سلمان وهو فارسي، وتزوج من قريش، ويروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: {سلمان مِنَّا آل البيت}.
ولما بُعِثَ محمد عليه الصلاة والسلام كانت الأسر تفخر بأسرها، والقبائل تفخر بقبائلها، وأهل المجد يفخرون بأمجادهم، الآثم منهم والجاهلي، فلما أتى صلى الله عليه وسلم أتى بشمس: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
فالفضل فضل التقوى، والحسب حسب الدين.
فيا أيتها القبائل: اتقي الله في هذه الأسطورة الجاهلية، والطاغوت الذي فعلتموه، ورضيتم به، وهو عدم التزاوج بين القبلي وغير القبلي.
أنا أعرف أن الناس يستصعبون ذلك، لكنه لو قام أهل العلم والدعوة والتوجيه والرأي، وأهل الحل والعقد، فإنهم سوف ينهون هذه المسألة التي تخالف الدين الإسلامي الحنيف الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا نُضْحِكَ العالَمَ علينا.
العالم الغربي الآن، خاصة الرأسمالي يدعو إلى إنقاذ الإنسان، وإلى محاربة التمييز العنصري، ويحاصرون جنوب أفريقيا، ويسبونها عبر وسائل الإعلام؛ لأنها تمايز بين الجنسين الأسود والأبيض، ونحن نكرر هذه في قبائل اتبعت الرسول عليه الصلاة والسلام واعتنق أجدادها الإسلام، بل كانوا في فترة من فترات التاريخ، هم الذين نصروا دين الرسول عليه الصلاة والسلام.
أنا ابن أنصارك الغر الأُلَى سحقوا جيشَ الطغاة بجيش منك جرار
فما جزاؤها الآن إلا أن تعود إلى سنته عليه الصلاة والسلام.
قال الإمام مالك رحمه الله: "الكفاءة في النكاح: الدين".
قال أهل العلم: "وصدق الإمام مالك "، ورجح ذلك الشوكاني، وغيره من العلماء الجهابذة الأجلاء، وارتضوه، واعتبروه الصحيح.
فيا أيها الإخوة: الكفاءة: الدين، ليس القبلي وغير القبلي، فأرجو أن تزال هذه، وأرجو من الدعاة أو المتكلمين أو الناطقين أو المؤثرين، ألا يجرحوا شعور الناس في المجالس بذكر هذه الجاهليات التي أتى صلى الله عليه وسلم بسحقها، وقد سحقها يوم عرفة، وأزالها، واعتبرها لاغية من سجله صلى الله عليه وسلم.
فهذه المسألة أردتُ أن أعرضها، وقد عرضتُها بما أعتقد أنه الصواب، وأرجو صراحةً أن تُدْرَس دراسة وافية، فلا يكفي فيها مثل هذه الكلمة؛ لكني أطالب العلماء، والدعاة، والمشايخ، والكتبة، ومن يُسْمَع لهم، أن يبحثوها بحثاً إسلامياً شرعياً، ثم ينشرونها بين الناس؛ لئلا نوجِد هذه الطبقية الممقوتة البغيضة، التي أوجدت الحزازيات والحساسات والجراحات بين الناس بشيء لا يرضاه الله ولا رسوله عليه الصلاة والسلام.(240/35)
التعاون على البر والتقوى
السؤال
ما هي الطريقة المثلى في التعاون على البر والتقوى في الدعوة؟
الجواب
أقول لهؤلاء: عليهم أن يفعلوا كما فعل كثير من الفضلاء في بعض المدن، كمدن القصيم، وهي أن يوجد مجموعة من الدعاة الفُطَناء النابهين، المحبين لله ورسوله، العقلاء، أهل الحكمة، وأهل الرشد والصواب، فيجتمعوا في تنسيق ندوات في أماكنهم هذه، كأن يكون هناك ندوة في كل أسبوع، في مثل: تنومة والنماص، وسراة عبيدة، ومحايل، وغيرها من المناطق الآهِلَة، كـ الواديين والدرب وبيش، وغيرها الكثير، فيوجدوا محاضرة في كل أسبوع، ثم يكون همهم أن يأتوا بالدعاة من الرياض والقصيم وجدة والشرقية وأبها ومكة المكرمة، ومن كل مكان، وهذا الدرس يكون أسبوعياً في هذا البلد، فهذا من مهمة هذه المجموعة.
ومن مهمة هذه المجموعة أيضاً: جمع التبرعات من الناس، أو اشتراك شهري في صندوق يسمى: (صندوق الشريط الإسلامي) سيصرفون في كل شهر، أو في كل أسبوع شريطاً ويوزعونه على أهل هذه البلدة.
ومن مهمتهم أيضاً: أن يجتمعوا بالقاضي والأمير في البلدة والمسئولين، فيفهمونهم بعض الأخطاء التي يقع فيها المجتمع، ويناصحونهم، ويكتبون لهم المنكرات.
ومن مهمتهم أيضاً: أن يوزعوا الكتاب الإسلامي.
ومن مهمتهم أيضاً: أن يُلْقوا دروساً خفيفة، من ربع ساعة إلى ثلث ساعة في المساجد في بلدتهم، يشتغلوا بها، فيعظون الناس ويرشدونهم.
ومن مهمتهم أيضاً: أن يكاتبوا العلماء عما يحصل من مشاكل في بلدتهم، ليأتوا بفتاوى ينشرونها بين الناس في المسائل التي تقع فيها الأخطاء.
ومن مهمتهم أيضاً: أن يقوم منهم مجموعة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، بالحكمة، واللين، والمعروف، فتنبه الناس على أخطائهم.
هذه المجموعة، أنا أرى أن لو تُشَكَّل في كل منطقة فسوف يُرَى بعد سنة الخير وقد عَمَّ هذه المنطقة، والفضل، والنور، والفقه، والفهم، أما قضية أن تقف سلبياً وحدك في منطقتك أو قريتك، ثم تجد الناس يتفاعلون في قراهم ومدنهم، وأنت لا تقدم شيئاً لبني قريتك أو مدينتك فإنك تكون سلبياً مخطئاً غير موفٍٍ في أداء رسالتك التي أوكلها الله إليك.
هذا اقتراح أكرره وأعيده، عسى أن يكون هناك من يلبي، لأني رأيتُ بعضَ الناس، حتى من سنتين ومن ثلاث سنوات يأتي أحدهم من المناطق المذكورة فيطلب الداعية، فإذا اعتذر الداعية، قال: ماذا نفعل إذاً؟ أتعتذر؟ الذنب ذنبكم والتقصير تقصيركم؛ لأنكم ما جئتمونا.
هكذا يقول.
وأنتَ والأساتذة الذين معك بالعشرات في المدينة التي أنت فيها، وفي الضاحية، وفي القرية، أنت والقضاة الذين عندك، والمدرسون، والدعاة، والفضلاء، لماذا لا تجمع؟ ولماذا لا تنظر؟ ولماذا لا تؤثر؟ ولماذا لا تتفاعل؟ هذه هي المسئولية.
أردتُ أن أعرض هذا الرأي؛ لأنه صراحةً لا يستطيع الإنسان مهما أوتي من قوة أن يصل كل ضاحية وقرية، وكل مكان ليلقي محاضرة، ثم إن المحاضرات العامة إذا أتت في السنة مرة فخير كثير؛ لأنها مثل أسبوع الشجرة، هذه المحاضرات العامة مثل أسبوع الشجرة، تُزْرَع الشجرة في السنة مرة؛ لكن مَن الذي يَسْقِي الشجرة؟ مَن الذي يقلمها؟ مَن الذي يهذبها؟ مَن الذي يمنع الآفات عنها؟ هم أهل المنطقة، وأهل القرية، والضاحية.
فهذه أمانة أقدمها بين أيديكم، وليتأمل كل منكم إذا أتى من بلدة، أو من قرية، أو من ضاحية، ليتأمل: ماذا يقدم لقريته وضاحيته، وماذا سوف يجيب الله يوم القيامة، إذا سأله: ماذا فعلتَ بقريتك؟ وليحفظ قوله تبارك وتعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214].
أسأل الله لي ولكم السداد، والهداية، والرشد، والتوفيق.
والإخوة الذين قدموا أسئلتهم -كما يرون- ليس عندنا وقت للإجابة الآن؛ ولكن أعدهم لا كمواعيد عرقوب أن أجيب عنها في المستقبل إن شاء الله.
ومواعيد عرقوب: كان لأحد الناس عليه دين، فأتى صاحب الدين، فقال: أعطني مالي.
فقال: ما عندي لك مال؛ لكن هذه النخلة تثمر إن شاء الله فإذا أطلعت خذ طلعها.
فأطلعت النخلة، قال: اتركها حتى تصبح بُسراً، فتركها، فلما أصبحت بُسراً، قال: أعطني.
قال: حتى تصبح بلَحاً، فلما أصبحت بلَحاً (رُطَباً) قال: اتركها حتى تصبح تمراً.
فلما أصبحت تمراً اخْتَرَطَها عرقوب في الليل، وترك الدَّيَّان.
أعوذ بالله أن أكون مثل عرقوب.
كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً وما مواعيده إلا الأباطيلُ
لكنَّ مواعيدنا مواعيد محمد صلى الله عليه وسلم: {يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119].
فإن قُصِّرَ في شيء فالإنسان مصدر نقص؛ لكن الوقت لا يمكن أن يُزاد فيه.
قد يضيق العمر إلا ساعةً وتضيق الأرض إلا موضعا
فنسأل الله إذا قَصُرَ هنا اللقاء أو ضاق بنا الوقت أن يجمعنا في وقت طويل: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] يوم يتقبل الله منا ما عملنا، ويتجاوز عن سيئاتنا: {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليماً كثيراً.(240/36)
سفينة النجاة
النبي صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة لنا، ومن رحمته بنا أنه ترك لنا كنزاً من الوصايا، ومن أهم الوصايا التقوى، وهي رأس كل حسنة وقربة، وفي هذا الدرس تحدث الشيخ حول عدد من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم وأولها التقوى، وفيها من القصص والعبر ما يشفي الفؤاد.(241/1)
مع قائد السفينة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الفضلاء: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(241/2)
حال الناس قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم
عنوان هذا الدرس: سفينة النجاة، في الرابع من شهر ذي القعدة لعام (1412هـ) هذه السفينة -سفينة النجاة- سارت منذ أربعة عشر قرناً في بحر الحياة، وربانها معصوم لا ينطق عن الهوى ولا يضل عليه الصلاة والسلام، وقد قاربت على وصول الشاطئ {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود:41] سفينة ركب فيها الصالحون فنجوا، وتخلف عنها الهالكون فهلكوا {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44].
فيا أرض الشهوات! ابلعي ماءك، ويا سماء الظلمات أقلعي، فقد قطع دابر الكفر والخراب في العالم بوصول هذه السفينة، وقد انطلق الهوى مع الإنسان: {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف:71] فأخبره أن السفينة لمساكين يعملون في بحر الشهوات، حتى جاء رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فأخرجهم من الظلمات إلى النور؛ لأن مهمته أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومهمة الهوى والشيطان إخراج الناس من النور إلى الظلمات {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:39].(241/3)
مدح قائد سفينة النجاة
قبل أن أبدأ في شرح سفينة النجاة، نظمت قصيدة، وهي من آخر القصائد لحبيب قلبي عليه الصلاة والسلام، ولأعظم إنسان أتشرف به وتتشرفون به، ولأعظم رجل جمعنا من أجل مبادئه في هذا المكان، وللمعصوم عليه الصلاة والسلام الذي أرسل بالضياء وبالنور، والذي أسجدنا لله وعبدنا لربنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، عنوان القصيدة: تاريخنا أنت، قلت فيها:
من أجل عينيك يروى الشعر والزجل ناديت فيك رجال الصيد يا رجل
عساك ترضى وكل الناس غاضبة فدتك هامات من شيكت له الحلل
عيب لغيرك أبياتي أرصعها وخيبة إن سرت في غيرك السبل
وبسمة منك تكفيني وواطربي فما أبالي أجاد الناس أم بخلوا
نشيدة أنا في كف الهوى نسجت من لحن داود في الأحشاء تشتعل
دم ودمع وأحلام مسهدة وأنهر من هيام في الهوى عسل
ذقت الصبابة في كأس الهوى عجلاً للعاشقين فصاحت مقلتي بجل
طرحت في عتبات الغار ملحمتي والغار يعرف من حلوه وارتحلوا
غار الهدى وعيون الدهر رانية تغازل الفجر طاب الحب والغزل
غار وفي مقلتيه كل أمنية أملودة تتهادى عندها الأسل
فالليل فجر وآيات الهدى حلل والمشرفية عند الغار ترتجل
واللوح يروي أحاديثاً مرتلة والبيد تسجع في أسماعها الحجل
نعم أنا الغار في أرجائه ولدت عقيدتي وشبابي فيه مكتمل
فيه اليتيم أبو الأيتام مرتجف والوحي يهتف والأملاك ترتجل
اقرأ ولو كنت أمياً فمحبرة في راحتيك مداد النور ينهمل
اقرأ ودفترك الدنيا وما حملت واكتب على هامة الصحرا: أنا الأمل
اقرأ وأوراقك الأجيال قاطبة أوراق غيرك يمحوها إذا غسلوا
اقرأ وأصحابك الأقلام خط بهم وثيقة النصر يروي متنها الأزل
هرقت في الغار كأس النوم فاغتسلت بك الدياجي وقام الليل يرتجل
وصغت صوت الهدى يسري فراعده يزلزل البغي والأصنام تقتتل
والمشرفيات في غار المنى صقلت بكف خالد لم يفلل لها نفل
أسقيتها من سلاف النور وانتضيت باسم الهدى وعليها الموت منسدل
جردتها في هوى بدر يلاعبها عشاقها من كرام فيه قد قتلوا
تراقصت أنفس الكفار من جزع يوم الكريهة والطغيان مبتذل
أعداؤك الفدم شادوا الأرض من ذهب وفي صحاف من الإبريز قد أكلوا
متّ ودرعك مرهون على شظف من الشعير وأبقى رهنك الأجل
لأن فيك حديث اليتم أعذبه حتى دعيت أبا الأيتام يا بطل
تاريخنا أنت لا نرضى به بدلاً لو أن تاريخ أمجاد الورى بدل
ومنك صحوتنا الكبرى متوجة بصوتك العذب يحدى السادة النبل
صلت عليك دموع الحب في لهف وعانقتك شفاه الروح والقبل
وباكرتك تحيات معطرة في نفحة من عليل المسك تحتفل
كأن زاكيها أنفاسك ائتلفت في الطيب من طيبك المأهول يتصل
تغدو إلى طيبة الآمال سافرة يغني عن الكحل في أجفانها الكحل
إلى رياضك في قبر ثويت به فيه الهداية والتاريخ والدول
بكر القوافي أساحت دمعها خجلاً تشكو إلى الله هذا الجيل ما فعلوا
جيل أماتوا أمانيهم فما نظرت إلى رحاب العلا الأجفان والمقل
عدوهم سير الأضواء في فلك له عطارد والمريخ أو زحل
بساطه الريح والأمواج تحمله فسل أبوللّو حصان تلك أم جمل
ونحن من نحن إلا أنت ما فعلت يا أحمدي أمة أودى بها الخلل(241/4)
التقوى سفينة النجاة
انتهت القصيدة، وأبدأ في الدرس، سفينة النجاة، إنها شرح لحديثه عليه الصلاة والسلام وهو يوصي صاحبين من أصحابه، يوصي أبا ذر ويوصي معاذ بن جبل فيما رواه الترمذي وأحمد والدارمي والحاكم والطبراني في الكبير والصغير وأبو نعيم في الحلية، والحديث حسن، ومن أهل العلم من صححه.
عن أبي ذر وعن معاذ بن جبل رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} مرة روي الحديث عن أبي ذر ومرة عن معاذ، وهذا الحديث أصل من أصول الدين وقاعدة كبرى من قواعد الملة، وفيه ثلاث ركائز: تقوى الله، والدواء هو: أتبع السيئة الحسنة تمحها، ولما انتهى من حق الله على الإنسان ثلث بحق الناس على الإنسان فقال: وخالق الناس بخلق حسن.(241/5)
من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم
أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بوصايا متنوعة، فأوصى واحداً منهم -كما في الصحيح- فقال: {لا تغضب} لأن الغضب داءٌ، فأوصاه صلى الله عليه وسلم بما يناسب شخصه.
قال بعض أهل العلم من المحدثين: إنما اختلفت وصاياه عليه الصلاة والسلام لاختلاف الناس وأحوالهم.
وأوصى صلى الله عليه وسلم رجلاً في حديث رواه عبد الله بن بسر عند الترمذي - قال: {لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله}.
وفي حديث صحيح آخر: {أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام} وراويه ابن سلام، وأوصى صلى الله عليه وسلم أبا أمامة فقال: {عليك بالصيام فإنه لا عدل له} رواه أحمد.
وأوصى معاذاً لما سأله عن شيء يقربه من الجنة ويباعده عن النار فقال: {تعبد الله لا تشرك به شيئاً} رواه الترمذي.
ووصاياه عليه الصلاة والسلام كثيرة، مرة في المعتقد فقال لـ أبي ذر: {لا تشرك بالله ولو سحقت وحرقت} وتارة في العبادة فقال لـ معاذ كما في أبي داود: {} ومرة في الدعاء كما قال لـ أبي بكر {أبا بكر! قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم}.
ومرة في الخلق كما مر معنا في حديث أبي هريرة في نهيه صلى الله عليه وسلم عن الغضب، ومرة في التفكير في آيات الله عز وجل يوم قال لـ أبي جري الهجيمي: {أنا رسول لمن إذا أصابتك سنة فدعوته كشف الله عنك هذا القحط} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(241/6)
وصية القرآن بالتقوى
الوصاية بتقوى الله وهي وصية الله للأولين والآخرين، ولما سأل أبو القاسم المغربي ابن تيمية أتى بهذه الوصية، وهي في المجلد العاشر كما شرحت من قبل في وصية ابن تيمية، قال سبحانه: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
فهي وصيته سبحانه: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] ولا يأنف أحد من أن يقال له: اتق الله.
قال بعض الفطناء: إذا رأيت الرجل يأنف من قول الناس له: اتق الله، فاعلم أنه قد باع نصيبه من الله.
وقال رجل لـ عمر: [[اتق الله يا أمير المؤمنين! فقال: لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فيَّ إذا لم أسمعها]].
وتقوى الله عز وجل نص عليها في الكتاب والسنة بأحاديث وبآيات سوف أشرح بعضها وأستعفيكم من كثير منها؛ لأن المجال لا يتسع والوقت أضيق من ذلك.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإثْمِ} [البقرة:206] قالوا: من يكابر إذا نصح فهو من جنس من تأخذه العزة بالإثم أعاذنا الله وإياكم من ذلك!(241/7)
تعريف التقوى
اختلف أهل العلم في تعريف التقوى على أقوال كثيرة:
فمنهم من نظر إلى أصلها في الكتاب والسنة، ومنهم من نظر إلى مردودها، ومنهم من عرفها بمنطق أهل السلوك وأعمال القلوب، ومن التعريفات ما قاله ابن تيمية إذ يقول: هي فعل المأمور واجتناب المحذور.
وهذا كلام جيد جميل، وهو كلام علمي شرعي سني، هي فعل المأمور واجتناب المحذور، ولو قال شيخ الإسلام: وتصديق الخبر لتم التعريف.
ولكن هذا يدخل -إن شاء الله- في تعريفه.
وقال أهل السنة وهو تعريف مشهور لهم: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، وهي أن تعمل بما أمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام وأن تنتهي عما نهى الله ونهى رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن مسعود وقد رفع هذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يصح مرفوعاً بل هو من كلام ابن مسعود قال: [[تقوى الله: أن يذكر فلا ينسى، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر]].
سبحان الله! وأي درر هذه؟! أي جواهر؟! من علم هؤلاء الأعراب الذين كانوا قبل الوحي يرعون الغنم في غدير الخضمات وفي حرقات جهينة؟
وقال علي فيما نسب إليه: [[التقوى العمل بالتنزيل -وهو الوحي من الكتاب والسنة- والرضا بالقليل، والخوف من الجليل، والاستعداد ليوم الرحيل]] وهذا الكلام يحتاج إلى محاضرة مستقلة، هذه التقوى فهي ببساطة وهي أن تعمل بالكتاب والسنة أمراً وتنتهي عنها نهياً وأن تصدق خبرها، فإذا فعلت ذلك فقد نجوت من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة، ونجوت من الخزي والشقاء.
أما كلام السلف في التقوى فقد امتثل معاذ رضي الله عنه ذلك، وقد شرحه هو كما قال ابن رجب فقال: [[التقوى: هي أن تتجنب الشرك، وأن تطيع الله، وأن تخلص العبادة]].
وقال الحسن البصري في التقوى: [[هي أن تؤدي ما لله عليك وما للناس عليك من حقوق، وأن تجتنب ما نهى الله عنه]] أو كما قال.
وذكرها عمر بن عبد العزيز قال: [[أما إنها ليست بقيام آخر الليل ولا بصيام الهواجر والتخليط بين ذلك -أي بالسيئات- ولكنها الانكفاف عن المعاصي]].
وقال طلق بن حبيب -وهذا اعترف بتعريفه شيخ الإسلام - قال: [[هي العمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله]].
وقد ذكر أبو الدرداء لها تعريفاً آخر وهي: [[أن تكون مراعياً ما لله عليك من حقوق]].
وكل هذه التعريفات تتداخل.
وسئل أبو هريرة عن التقوى فقال للسائل: [[أمررت بواد فيه شوك؟ قال: نعم.
قال: ماذا فعلت؟ قال: تحفزت وانتبهت.
قال: فهذه التقوى]].
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى(241/8)
وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالتقوى
أما وصيته عليه الصلاة والسلام بالتقوى فإنه أوصى بها في أكثر من ثلاثين حديثاً، فقال لـ أبي ذر: {أوصيك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله} رواه ابن حبان في صحيحه، وقال عند أحمد في المسند بسند صحيح عن أبي سعيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: {أوصيك بتقوى الله فإنها رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام}.
وقد امتثل معاذ هذه الوصية منه عليه الصلاة والسلام، فقد ذهب إلى اليمن فلم يأخذ من مال المسلمين لا قليلاً ولا كثيراً، فلما عاد إلى المدينة قالت له زوجته: أما أخذت مالاً نفعتنا به.
قال: إن عليَّ ضاغطاً.
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم، يقصد المراقبة والمحاسبة.
كأن رقيباً منك يرعى مسامعي وآخر يرعى مسمعي وجناني
ورأيت في ترجمة رجل من بني إسرائيل أنه اختفى في غابة، فأراد أن يفعل معصية، فقال: لا يراني أحد ولا يعلم بي أحد، فسمع هاتفاً يقول: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
وأوصى بعض الصالحين ابنه قال: أريد سفراً.
فقال له: اتق الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين، فهو لا تخفى عليه خافية، سبحان الله العلي العظيم!
هذا محمد صلى الله عليه وسلم في بيته الطيني في المدينة تدخل عليه خولة بنت ثعلبة، فتشكو إليه زوجها والله فوق سبع سماوات يخبره بشكواها، ولم تسمع عائشة مع أنها كانت قريبة منهم؛ فيقول الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1] فهذا هو اللطيف الخبير القريب الذي يرى ويسمع ويبصر.
أحد العباد اسمه حبيب أبو محمد: كان يبيع ويشتري فكان يبيع الدرهم بالدرهمين -وهذا ربا لكنه ناسك جاهل- فمر بالصبيان فقالوا: أنت حبيب المرابي؟! قال: سبحانك يا رب! فضحتنا أمام الناس! قال: فتاب إلى الله عز وجل من الربا، وسأل أهل العلم ثم تصدق بأمواله، فعاد إلى الصبيان فقالوا: مرحباً بك يا عابد يا أبا محمد.
قال: سبحانك! أنت الذي تمدح وأنت الذي تذم! وهذا كلام جيد ويوصف به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن مدحه زين وذمه شين.
أتى بنو تميم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الظهر، وطرقوا بابه قالوا: اخرج إلينا يا أبا القاسم؛ فإن مدحنا زين وذمنا شين.
يقولون: نحن إذا مدحنا مدحنا واحذر ذمنا، وحاول أن تكسب مدحنا، قال عليه الصلاة والسلام: {ذلكم هو الله} الذي مدحه زين هو الله، والذي ذمه شين هو الله، فقال الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] وإلا فالمادح حقيقة هو الله، فإذا أثنى الله على العبد بواسطة قلوب العباد فالعبد ممدوح وإذا ذم العبد بواسطة قلوب العباد فالعبد مذموم مسبوب؛ ولذلك يقال في بعضهم آلاف القصائد وهو مذموم عند الله، ويهجى بعضهم بآلاف القصائد وهو ممدوح عند الله، فالحب من عنده والبغض من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يأتي الحب والبغض من السماء، ولا يأتيان من الأرض.(241/9)
مكفرات الذنوب
وقوله صلى الله عليه وسلم: {وأتبع السيئة الحسنة تمحها} معنى ذلك: أنك إذا قدحت في مسمى التقوى الذي أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن عليك بالعلاج.
قال علي فيما ذكره الغزالي في الإحياء: عجباً لكم! عندكم الداء والدواء.
قالوا: ما هو الدواء والداء؟ قال: الداء الذنوب والدواء الاستغفار، ونحن عندنا دواء لكننا ما استخدمناه، صرف من صيدلية محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يتعالج به إلا الربانيون الذين كلما عثروا ومرضوا عرضوا أنفسهم على محمد صلى الله عليه وسلم فعالجهم.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس(241/10)
الاستغفار والتوبة
فعلاجه صلى الله عليه وسلم، قوله: {وأتبع السيئة الحسنة تمحها} دل على ذلك القرآن الكريم؛ قال المولى سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] انظر إلى الخطاب، لم يقل: تعالوا أو هلموا بل قال: سارعوا!
يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه سئل: كيف تكون الجنة عرضها السماوات والأرض؟ أين السماوات والأرض والجنة عرضها السماوات والأرض؟ فقال: أين الليل إذا أتى النهار؟ وهذا قياس صحيح أصلي مطرد، أين الليل إذا أتى النهار؟ قال: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133 - 134] فمن يكظم ويعفو ويحسن يدخل الجنة، لكن انظر ما قال بعد ذلك: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136] سبحان الله! يدخلون جنة عرضها السماوات والأرض وهم يرتكبون الفواحش، هذا يجعل الإنسان بلحمه ودمه يفرح ويضحك؛ لأنه يفعل الفاحشة ولكنه يدخل الجنة!!
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أذنب عبد ذنباً فقال: يا رب! أذنبت ذنباً فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فغفر الله له، ثم أذنب ذنباً فقال: يا رب اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فغفر له، فأذنب ذنباً فقال: يا رب! اغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنب إلا أنت، قال الله: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا، فليفعل عبدي ما شاء}.
هذا في الصحيحين بهذا اللفظ، والمعنى عند أهل العلم حتى لا يفهم فهماً خاطئاً معناه كما قال النووي: إن عبدي ما دام أنه كلما أذنب تاب واستغفر فإنه سوف ينجو، أو أنها حادثة عين لسر رآه الله عز وجل في ذلك العبد، وليس المعنى: أن العبد مهما كان يذنب الذنوب فإن الله سوف يغفر له هذا لا يكون، ومن فعل ذلك أو ظن ذلك أو اعتقد ذلك فقد تمنى على الله الأماني، والله يقول: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123].
سهر ابن عباس ليلة كاملة يقرأ من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر في الحرم ويردد قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123].
قال عطاء: والله لقد رأيت إلى جفنيه كشراك النعلين الباليين من البكاء، لأنه يفهم القرآن.
ورأيت في سيرة أبي بكر {أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ عليه الآية والصحابة جلوس، فتلا قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123] فتماط أبو بكر حتى سمع لظهره أطيط، قال: ما لك يا أبا بكر غفر الله لك؟ قال: يا رسول الله! كيف العمل بعد هذه الآية؟ أي كيف النجاة؟ قال: غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تمرض؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: فوالذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن من هم ولا وصب ولا غم ولا حزن ولا مرض حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله له بها من سيئاته}.(241/11)
فضل الاستغفار
وفي الترمذي -والسند ليس بقوي-: {ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة} ومعناه صحيح لكن سنده ليس بقوي؛ فإن العبد لو ارتكب ذنباً في يوم ثم استغفر وتاب على ألا يعود غفر الله له، ثم إن عاد فكتب عليه الذنب، ثم استغفر وتاب يغفر الله له، ثم إن عاد ثم استغفر وتاب وجزم غفر الله له وهكذا.
وليس المعنى أن يضحك على الله كما يضحك على الصبيان، ويلعب على الله كما يلعب على الولدان، فإن بعضهم يقول: أذنب ثم أتوب، فإذا غفر لي أذنبت ثم تبت ثم يغفر لي وهكذا، وهذا من ذكاء بعض الجهلة.
يروى في بعض المناطق أن بعض الجهلة في رمضان، كانوا صياماً، ومن جهلهم على الله عز وجل، وقلة فقههم في الدين أن نزل منهم اثنان في غدير، واشتد عليهم الحر في الظهيرة وهم صيام في رمضان، فنزل أحدهم وأدخل رأسه ثم أدخل جسمه، ثم لما نزل في أسفل الغدير شرب، وخرج وقال لزميله: الله لا يعرف حيل الرجال!
وروى الطبراني وفي سنده ضعف، عن عائشة قالت: قال حبيب بن الحارث يا رسول الله! إني رجل مقراف للذنوب -أي: من طبيعتي أن أقترف الذنوب- وهذا تجده في الإنسان، والله هو الذي خلق الأنفس سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لأنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [النجم:32] فهو أعلم بنا سبحانه.
قال: {يا رسول الله! إني رجل مقراف للذنوب.
قال: تب إلى الله.
قال: فأعود.
قال: تب إلى الله.
قال: فأعود.
قال: تب إلى الله.
قال: إلى متى يا رسول الله؟ قال: حتى يكون الشيطان هو المحسور}.
وأما حديث: {التائب من الذنب كمن لا ذنب له} فقد رواه ابن ماجة وحسنه حافظ الدنيا ابن حجر بشواهده، وشرح هذا الحديث ابن تيمية في مختصر الفتاوى وأيده وقبل الكلام، وكأنه -والله أعلم- يتحمس لمعناه، ومعناه صحيح، فإنه من تاب من الذنب فهو كمن لا ذنب له.(241/12)
لا يعير المسلم بذنب تاب منه
قال بعض العلماء: من العار أن تعير من كان في العار ثم تاب إلى الواحد القهار، ولذلك من الخزي والعار على الإنسان أن يعير أناساً بذنوب كانت في الجاهلية، كرجل كان يشرب الخمر وكان مشهوراً بذلك، ثم تاب وأناب وأصبح في الصف الأول في الروضة، وأصبح تالياً لكتاب الله وداعياً إلى الله، فإذا أمر أحداً قال: اسكت أنت كنت تشرب الخمر.
سبحان الله! عمر بن الخطاب كان يعبد الصنم وهو أفضل من مسلمي الكرة الأرضية في هذا الوقت كلهم
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
ومنهم من قتل مائة نفس وتاب الله عليه، ومنهم من غش وخان وغدر وتاب الله عليه، وسوف يأتي كلام في ذلك.
ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {المؤمن واه راقع، فسعيد من هلك على رقعة} رواه الطبراني في الكبير وفيه ضعف لأن في سنده سعيد بن خالد الخزاعي وهو ضعيف.
معنى: واه أي: يخرق دينه كالقربة، فتجد فيه ثلوماً مما لا يخلو منها أحد، يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: لا يخلو المرء من الجروح، لكن الله الله لا تكن الجروح في الوجه.
وإلا فإن هناك معركة بين صف الشيطان، وصف الإيمان، فدائماً هناك مقاتلة حتى يأتي الموت وقد قاتلت، فاحذر أن يأتي الجرح في الوجه، أما في الجسم فلا يخلو الجرح منه، وبعض الجروح تعالج بالمرهم، وبعض الجروح لا تعالج إلا بالبتر، فاللبيب إذا شكا من جسمه مرضين داوى الأخطر، وقال: راقع: أي أنه يرقع بالاستغفار، وبالعمل الصالح والمكفرات، قال: من مات على رقعة أي: من مات وهو راقع والحمد لله فهذا السعيد، أما من مات على وهيه وعلى خرقه فهذا في خطر.
وقال عليه الصلاة والسلام فيما ذكره أهل العلم عنه: {ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون} رواه أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد والخطيب في تاريخ بغداد، وسنده يقارب الحسن.
أما قول: {واغفروا يغفر لكم} وهو الشاهد أنه سامحوا الناس يسامح الله لكم والجزاء من جنس العمل.
وأما أقماع القول: فهم الذين يستمعون القول فكانوا كالأقماع، أو أنهم لا يستمعون ولا يدخل الكلام قلوبهم ولا يتعظون به؛ لأن المؤمنين إذا استمعوا القول اتبعوا أحسنه.
وقال ابن عباس ولا يصح مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: [[لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار]] والمعنى: أن صاحب الكبيرة كلما استغفر وأناب وتاب غفر الله له، وأن صاحب الصغيرة إذا أصر عليها وداوم عليها واستمر أصبحت كالكبائر تهلك صاحبها.
وورد في السنن أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف صاحب الصغائر: بقوم ذهبوا في الخلاء فجمعوا حطباً صغيراً؛ جمع هذا عوداً وهذا عوداً ثم أججوا ناراً عظيمة.
فالصغار تجتمع على العبد حتى تهلكه والعياذ بالله!(241/13)
الفرق بين الاستغفار والتوبة
فرق شيخ الإسلام ابن تيمية بين الاستغفار والتوبة فجعل المكفرات عشراً: الأولى: الاستغفار والثانية: التوبة، وبعض الناس يجعل الاستغفار هو التوبة، وأنا أقول كلمة: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فإذا جمعت الاستغفار مع التوبة افترقا، يعني: أن الاستغفار شيء والتوبة شيء آخر، وإذا ذكر الاستغفار وحده في القرآن فيدخل فيه التوبة، وإذا ذكرت التوبة وحدها في القرآن فيدخل فيها الاستغفار، فلينتبه لذلك، واعلموا -رحمكم الله- أن ابن تيمية أفاد بفائدة وددت لو تحفظونها: أنه قد ينفع العبد الاستغفار بلا توبة، وهذا سر بيني وبينكم لا تخبروا به أحداً! لأنه لو أخبرتم به أحد لتهالك الناس في الذنوب بحجة أنه يغفر لهم بالاستغفار، لكن ابن تيمية أفاد أنه قد ينفع الاستغفار بلا توبة، أي أن الذي يستمر في المعصية ويقول: أستغفر الله، أستغفر الله قد ينفعه ذلك.
وفي عيون الأخبار لـ ابن قتيبة: أن رجلاً حل مع بدو أعراب في الكوفة فقالوا له: لا تسكن معنا إلا بالاستغفار فإنه لا ينزل القُطار إلا بالاستغفار (والقُطار: الماء) وهذا صحيح ومصداقه قوله تعالى في سورة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح:10 - 11].
قحطت مزرعة أنس في البصرة واشتد ظمؤها، وذبل ورقها، فجلس بجانب المزرعة وهو يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله قالوا: تستغفر وقد ماتت المزرعة؟! قم صل، قال: الاستغفار معه القطار (المطر) قالوا: فما انتهى إلا وغمامة روت مزرعته حتى أمرعت، وهذا صحيح فالاستغفار ينفع.(241/14)
فوائد الاستغفار
والاستغفار فيه فوائد منها: أن المستغفر لا يهلك، قال جعفر الصادق وهو إمام وقد وأخطأ الذي قال: إنه رأس الماسونية في العالم، بل هو إمام معتبر مزكى سماه أهل العلم الصادق، وقد قال هذا كاتب إسلامي غفر الله له ولا أذكر اسمه؛ يقول جعفر الصادق: لو نزلت صاعقة من السماء لأصابت الناس جميعاً إلا المستغفر: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
قال أهل العلم: ومن أراد المتاع الحسن فعليه بالاستغفار؛ قال تعالى: {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3] هذا من الاستغفار، والاستغفار ليس كما يراه بعض الناس أن يستغفر الله باللسان ويفعل باليد الفواحش؛ كمن يسرق من السوق، ويسحب الغرض وهو يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، وكمن يشرب الخمر والكأس بيده ويقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله.
فهذا كذاب، واستغفاره يحتاج إلى استغفار.
رأى علي بن أبي طالب رجلاً يستغفر الله وقلبه في واد آخر فقال: [[استغفارك هذا يحتاج إلى استغفار]] وقال أحد الصالحين: أستغفر الله من قولي أستغفر الله، وعلى كل حال لابد من التقوى.
ومن الاستغفار أن تستحضر في قلبك أنك تقول: أستغفر الله، قال بعض أهل العلم: وقد تكون أستغفر الله غيبة، فقد دخل أحد الناس الواشين النمامين على أحد السلاطين فقال السلطان لهذا الواشي: ما رأيك بفلان؟ قال: أستغفر الله؛ قصده النكاية بذاك، فهي غيبة، وعليه وزرها، وما قصده أستغفر الله من الذنوب بل قصده أن يقول: انتبه له.
وقد يكون الدعاء غيبة، فيكون سيئة، كقولهم إذا ذكر أحد الناس: هدانا الله وإياه؛ فإنك اغتبته، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام في فتاويه، ولكم أن تراجعوا ذلك.
ثم التوبة وأمرها آخر وسوف يأتي في ذلك تفصيل قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء:17] قال أبو العالية وهو من أئمة أهل السنة: من عصى الله فهو جاهل.
ولذلك يغفر لمن عصى الله ثم تاب وأناب.(241/15)
مسائل في التوبة(241/16)
شروط التوبة
أولاً: شروطها، وهي ثلاثة شروط:
الأول: العزم؛ أن تعزم من هذا المكان وهذا الوقت على ألا تعود إلى ما أخطأت.
الثاني: الندم على ما فات؛ دائماً تتقلب وتتأوه؛ فإن وله النادمين وتأويه الباكين أحب إلى الله عز وجل من عمل العابدين العاملين، وقال عمر: [[اقتربوا من أفواه التائبين فإنهم يلقنون الحكمة]].
وقد مر في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: {قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: من الذي يتألى عليَّ؟ أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهذا وأحبطت عمل هذا فليستأنف العمل} فذاك اغتر بعمله وفخر، وذاك انكسر فغفر الله له.
وروي عن عيسى عليه السلام: أنه ذهب إلى بيت المقدس، ومعه رجل من العصاة وهو من أهل الخمر والسرقة، فأراد عيسى عليه السلام أن يدخل بيت المقدس فقال السارق وشارب الخمر: مثلي لا يدخل بيت المقدس لأني أدنسه؛ فأوحى الله إلى عيسى: يا عيسى! أخبره وبشره أني قد غفرت له ما تقدم من ذنبه.
ما دام انكسر وأقر واعترف.
وقفنا على الباب يا ذا الفلك وجئنا ببابك والملك لك
ذرفنا الدموع فسارت شموعاً وقلبي من الحب سبح لك
لا يفتح لك باب إلا بابه، وليس لك حبل أقوى إلا حبله، وما معك طريق إلا طريقه.
يقول زين العابدين علي بن الحسين بن علي: قمت في آخر الليل أطوف بالبيت؛ فإذا بشاب متعلق بستار الكعبة يقول: يا رب! من يقبلني إذا رددتني؟ قال: فجلس يبكي عند المقام حتى خر مغشياً، فأتيت إليه فإذا هو قد مات.
هذا موجود في التاريخ والتراجم، وقالوا لـ علي بن الحسين وهو مثال لشباب الإسلام- قالوا له: قل لبيك اللهم لبيك.
وهو حاج على الناقة قال: أخشى أن ألبي وفي نفقتي شيء، فيقال: لا لبيك ولا سعديك.
قالوا: لبِّ؛ فلبى فغشي عليه وسقط كما قال ابن كثير، وكما يقول فيه الفرزدق:
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا
يغضي حياءً ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم
في كفه خيزران ريحها عبق من كف أروع في عرنينه شمم
يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
ومنها -أي من شروط التوبة- رد المظالم إلى العباد: فترد مظالم العباد التي أخذتها: الأموال، الأراضي، السيارات، الممتلكات، أما أن تأخذ أموال الناس وتسرقها، وتحلف على ديون الناس وتقول: تبت إليك يا رب! فليست بتوبة؟! حقوق الناس مبنية على المشاحة وحقوقه تعالى مبنية على المسامحة، أنت إذا أذنبت على الله من الأرض إلى السماء، ثم تبت إليه غفر لك، وإذا أذنبت مع العبد، فأخذت من حقه، بقي معك حتى يلحقك يوم القيامة.
قال: {رحمة الله واسعة.
قالوا: إذاً نكثر.
قال: الله أكثر}.
هذا الشافعي حضرته سكرات الموت، فلما ضاقت به الضوائق -وكان شاعراً لبيباً- رفع الوسادة وتلفت إلى السماء وقال:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا منى لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي صار عفوك أعظما
فلا أعظم من عفوه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(241/17)
فضل التائبين
قال ابن تيمية: أعظم المنازل منزلة التائبين.
وتعجبت لهذه لأن ابن القيم نقلها في مدارج السالكين حتى عدت إلى تفسير قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار} [التوبة:117] الله أكبر! أفنوا أجسامهم ودماءهم وأوقاتهم ونفوسهم ودموعهم في المعركة، وهم في غزوة العسرة، وفي الشمس والجوع والظمأ، ثم ينزل الله عليهم من السماء ويقول: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ} [التوبة:117] كأنه يقول: أبشروا تبت عليكم.
أنت الآن إذا جاهدت وسارت مهجتك وقتلت ثم نزل من السماء تاب الله عليك تقول: بعد هذا الجهد يتوب الله علي؟! نعم تاب الله عليك.
قال ابن تيمية: وختم الله حياة الرسول عليه الصلاة والسلام بـ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} [النصر:1 - 2].
فهل قال له: استبشر بالمنزلة العالية هل قال له: ادخل الجنة؟
هل قال له: قصرك في الجنة كالربابة؟
بل قال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] أي نعلم أن جهدك كبير لكن استغفر، أنت بذلت وأعطيت لكن استغفر، أنت منحت وقدمت وضحيت وفديت وتعبت وسهرت لكن استغفر؛ لأن هناك تقصيراً.
قال ابن تيمية: وختم الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة بالاستغفار.
نصلي ونتعب وبعد أن نسلم نقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله.
وختم الله الحج بالاستغفار؛ قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] إذا أفضتم فاستغفروا.
هذه أسرار في دين محمد صلى الله عليه وسلم يفهمها أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.(241/18)
فرح الله تعالى بالتائب
أما فرح الله بالتائب فيكفي فيه الحديث الذي في الصحيحين {لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم كان في فلاة، ضاعت منه ناقته وعليها طعامه وشرابه} انظر الوصف الدقيق! والرسول صلى الله عليه وسلم تربوي يعلم الناس بأمثال، ولذلك يقول أهل التربية ممن ألف في فن الخطابة: إذا أردت أن تلقن الناس معاني فشخصها بالصور.
الآن لا ينسى الناس وهم يسمعون الرسول صلى الله عليه وسلم: {لله أفرح بتوبة عبده} لو قال صلى الله عليه وسلم: لله أفرح بتوبة عبده وسكت، لكن قال: كرجل (تصور الرجل أمامهم) في صحراء (الصحراء في الصورة) معه ناقته (الناقة في الصورة والشكل) عليها طعامه وشرابه (ضاعت) ثم وجدها بعد الإعياء؛ لكن في الرواية الأخرى: {ضاعت منه فبحث عنها والتمسها، فلم يجدها، فنام جائعاً ظامئاً، فلما قام وجدها عند رأسه قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح} والذي يظهر أنها حادثة عين وقعت، ومع شدة فرح هذا، فالله أشد فرحاً منه بتوبة العبد إذا عاد إليه، الله لا يريد أن يعذب العباد، ومن ظن أن الله يريد أن يعذب العباد فقد أساء الظن بربه، بل إن الله رحيم يفرح بتوبة العبد، فإذا أردت أن تفرح الله -وله فرح يليق بجلاله- فتب إليه وعد، حتى قالوا: الله أفرح بتوبة العبد من شفاء الولد عند الوالد، ومن وجدان الضائعة عند الواجد، ومن حصول الماء عند الوارد.(241/19)
التوبة من الصغائر والكبائر وفضول المباحات
تجب التوبة من الصغائر والكبائر من الذنوب والخطايا، بل قال بعض أهل العلم: يتاب من الكبائر والصغائر وفضول المباحات.
ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة} كما روي في صحيح مسلم؟ قال بعضهم: الغين: غشاء يقع على القلب؛ ليس من الذنوب، ولكن من كثرة مخالطة الناس، فلصفائه صلى الله عليه وسلم وتقواه ظهر الغين عليه، أما نحن فغانت ورانت، وطبعت وأصبحت كالجبال؛ لأن الثوب الأبيض تظهر فيه النقاط، أما الثوب الأسود فلو طليته بالقار لما ظهر عليه شيء.
يا بن الذين سما كسرى لجمعهم فجللوا وجهه قاراً بذي قار
والمستجير بـ عمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
قيل لـ ابن الجوزي: الأحسن عندنا الاستغفار أم التسبيح؟ قال: الثوب الوسخ لابد له من الغسل قبل الطيب.
فالتسبيح مثل الطيب وأما الغسل فهو الاستغفار، فنحن نحتاج إلى غسل واستغفار ولا بأس أن نسبح.
ويتاب من التقصير؛ فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يرفع رسوله صلى الله عليه وسلم دائماً منزلة بعد منزلة، فكانوا يقولون: إنه كان دائماً يستغفر من المنزلة السابقة التي كان فيها عليه الصلاة والسلام.
وهناك نكتة ذكرها صاحب الوابل الصيب: في مسألة من دخل الخلاء ثم خرج وقال: غفرانك! وفي الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {غفرانك!}.
فما هو السر؟
الجواب
لأهل العلم رأيان:
الرأي الأول: غفرانك بسبب التقصير في تركنا التسبيح في أثناء قضاء الحاجة، انظر إلى أولياء الله حتى في أثناء قضاء الحاجة لما سكتوا استغفروا لأنهم قصروا!
والرأي الثاني: قيل: غفرانك لأننا ما أدينا شكر النعمة، أطعمتنا وأخرجت الطعام ولو بقي الطعام لقتلنا.
قصص التائبين كثيرة ولا أعيدها فقد تكررت في دروس ومحاضرات، ومنها: من قتل مائة نفس فغفر الله له، وكثير من الشباب يعرضون رسائلهم حول موضوع التوبة، ومنهم من يقول: أنا ليس لي توبة، أنا ما تركت خطأً إلا ارتكبته، وتأتي رسائل محترقة ملتهبة، فنقول: أأنت أكثر جرماً ممن قتل مائة نفس معصومة وتاب الله عليه؟ ولو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم تبت إلى الله غفر الله لك، ومن أحرق نفسه غفر الله له لأنه خاف لقاء الله عز وجل.
وهنا كثير من الناس يسأل عن الذي يتوب ثم يعود، وقد تعرضت لها فيما سبق قبل كلمات، فأنا أرى أنه يتوب دائماً فسوف يكفر عنه الذنب إذا صدق، فإذا عاد من جديد فقد طويت الصفحة الماضية، وافتتح سجل جديد، فكأن الذي انصرم قد فات، وأمامه ذنب جديد، فيتوب منه.(241/20)
مخاطر في طريق التائبين
من الخطورات التي تواجه التائبين والعابدين والعائدين إلى الله:
الأولى: تعاظم الذنب؛ فإن بعضهم يحبط نفسه ويصاب بإحباط، ويظن أن الله لا يغفر له أبداً، فيترك التوبة، حتى إن بعضهم ترك العودة إلى الله والعودة والإنابة والتوبة بسبب أنه قال: لا يمكن أن يغفر الله لي، وقد ظن بالله ظن السوء؛ فالله يغفر سبحانه، وهذا إحباط من الشيطان.
الثاني: التسويف؛ فإن بعضهم يسوف فإذا قلت له: تب، قال: سوف أتوب وسوف أفعل إذا تخرجت، إذا كمل شبابي، إذا حصنت نفسي بزواج وإذا وإذا فتأتيه سكرات الموت، ويقبضه ملك الموت، فيعود إلى الله خاسراً نادماً.
الثالث: تزيين الشيطان والرفقة؛ فإن الشيطان يزين لصاحب المعصية معصيته قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8].
ورفقة السوء يزينون؛ وعلى سبيل المثال فإن كثيراً ممن وقع في شرب الدخان إنما هو بالتزيين من الرفقة السيئة، يقول: يا أخي! لا يضرك تدخن الليلة وما هي إلا سيجارة، وتب إلى لله، وهي من المؤانسة، وأنت جرب فإذا لم تعجبك فتب إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وحتى في القرآن ما سمعنا بآية تنص على تحريم الدخان، ورأينا كثيراً من الناس يشربون الدخان، والدخان يزيل الهموم، والغموم، فيأتونه من هذه المداخل حتى يتورط في شرب الدخان، ثم يجرونه إلى المعاصي واحدة تلو الأخرى، فجلساء السوء أعدى من الجرب.(241/21)
إن الحسنات يذهبن السيئات
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في محكم التنزيل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] سبب نزول هذه الآية: أن رجلاً من الأنصار لمس امرأة وقبلها، وهذه المرأة أجنبية، والنفس البشرية تضعف أحياناً، لكنه فر إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم يخبره بالداء يقول: {هلكتُ! فقال صلى الله عليه وسلم: ماذا فعلت؟ فأخبره.
قال: ما أعلم في ذلك شيئاً حتى ينزل علي -أي: لا أفتيك حتى ينزل عليَّ الوحي -فأنزل الله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] قال: ألي يا رسول الله خاصة؟ قال: بل لك ولمن عمل من أمتي بعملك إلى يوم القيامة}.
والصحيح أن هذه الآية في الفرائض، والحمد لله أنها في الفرائض، وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود:114] أي: صلاة الفجر وصلاة العصر {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114] أي صلاة المغرب والعشاء {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ومن أدخل فيها النوافل فقد أصاب.
وعند أحمد في المسند بسند صحيح أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه قال: كان الرجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث استحلفته فإن حلف صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضأ ثم يصلي ركعتين ويستغفر الله من ذاك الذنب إلا غفر الله له ثم تلا: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]}
وتسمى هذه ركعتي التوبة وهي ثابتة وصحيحة وأرشد بها إخواني، فمن فعل سيئة أو خطيئة صغرت أو كبرت أن يذهب إلى الماء فيتوضأ ويصلي ركعتين، ثم يستغفر الله ويستقيله من ذلك الذنب.
وفي الصحيحين أن رجلاً قال: {يا رسول الله! أصبت حداً، فسكت عليه الصلاة والسلام، فلما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: أين فلان؟ قال: هأنذا يا رسول الله! قال: أصليت معنا؟ قال: نعم.
قال: اذهب فقد غفر الله لك ذنبك بصلاتك} لكن ما هو شرح الحديث؟ وهذا الحديث في الصحيحين وهو ثابت وشرحه الإمام النووي، ومن المعاني:
قيل: إن الرجل كان يظن أن على هذا الذنب حداً وليس عليه حد أصلاً، ولو كان عليه حد لأقامه صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الذنب ليس عليه حد؛ وكفارته الصلاة وقد حصل.
وقيل: بل كان هذا الذنب قبل أن تنزل الحدود؛ فجعل صلى الله عليه وسلم كفارته الصلاة والله أعلم، إنما هذا هو الحديث، والحديث لـ علي رضي الله عنه، ورواه أحمد في المسند وأبو داود والترمذي والنسائي.
وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات أيبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الذنوب والخطايا} أو كما قال، فالصلاة كما قال بعض السلف: تحترقون وتحترقون ثم تصلون فيكشف ما بكم، وهنا قال: قوموا إلى ناركم التي أوقدتموها؛ فأطفئوها بالصلاة.
وعند مسلم في الصحيح: {من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره} نسأل الله من فضله، وهذا في وضوء الفريضة، والحديث في الصحيح عن أهل الصغائر، أما أهل الكبائر فلابد لهم من التوبة.
وعند مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: {ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره} إسباغ الوضوء معناه: تعميم مواطن الوضوء بالماء، وإدخال الماء إلى البشرة، والوضوء على منهج السنة كما في الحديث الآخر: {أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً} ما معنى على المكاره؟ قيل: أن تسبغ في شدة البرودة، فإنك إن أسبغت الوضوء حتى في شدة الثلج وشدة الشتاء يكفر الله عنك به الخطايا في المكاره.
ولا يصح من قال: على الجروح؛ لأن هناك رخصة: أن من به جرح لا يغسل عليه.
{وكثرة الخطا إلى المساجد} كلما بعد البيت عن المسجد كان أحسن، وفي الترمذي أن رجلاً من الأنصار كان بعيد الدار عن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له أصحابه: لو اشتريت حماراً تركبه إلى المسجد في ذهابك وإيابك قال: لا.
إني أرجو الله أن يكتب لي ممشاي ورجوعي إلى بيتي، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {بشروه! إن الله قد كتب له ذهابه ورجوعه إلى بيته}.
وفي السنن: {بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة} قال: {وكثرة الخطا إلى المساجد} قالوا: كان ابن عمر يقارب خطاه إذا ذهب إلى المسجد حتى كأنه نملة -هذا في الحديث- لأن كل خطوة ترفع بها درجة وتحط بها سيئة وتكتب به حسنة، وهذا فقه عجيب لـ ابن عمر.
{وانتظار الصلاة بعد الصلاة} أي أنك إذا صليت تنتظر الصلاة الثانية، قالوا: انتظارها في المسجد، وهذا قول، ولكن الظاهر والله أعلم أنه انتظارها بالقلب ومراعاة الوقت؛ وذكر الإمام أحمد عن عدي بن حاتم في كتاب الزهد قال: [[ولا دخلت علي صلاة إلا كنت لها بالأشواق]].
فالصالحون دائماً ينظرون إلى الوقت ويراعون الزوال وينظرون إلى ساعاتهم هل أذن، كم بقي من الأذان، متى يؤذن عندكم، قلوبهم معلقة بالمساجد، وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل قلبه معلق بالمساجد
وداعٍ دعا إذ نحن بـ الخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائراً كان في صدري(241/22)
تعلق قلوب أولياء الله بالمسجد
لقيت أخاً وصاحبته كثيراً وكان يدرس معنا وهو من نيجيريا من أولياء الله عز وجل، ولو كان هنا ما قلت هذا الكلام؛ لكنه ذهب هناك داعية إلى الله، أسلم على يديه آلاف من الناس، كان يقرأ القرآن كثيراً، وإذا رأيته تذكرت بلال بن رباح، وكان فيه من الولاية ما الله به عليم، كان ينام فإذا قرب ثلث الليل -ويخبرني بهذا سراً من باب الأفعال الصالحة- قال: والله كأن هناك من يوقظني بيده، يقول: قم.
ومرة من المرات سهر ليلة لأنه كان في سفر فسهر سهراً حتى قرب الفجر، فلما قرب الأذان كأنه سمع هاتفاً يقول: قم حانت الصلاة قال الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
سمها ما شئت؛ لكن خذها كالوردة شمها ولا تعكها فتفسد عليك.
وكثير من أولياء الله كذلك، فهؤلاء قلوبهم معلقة بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وسمعت رجلاً آخر يقول: أنا إذا سمعت الأذان يصبح جسمي كأنه على الجمر حتى أقوم إلى المسجد؛ لا يستطيع أن يقف.
نجار من الصالحين كان يشتغل في النجارة، فكان يطرق بمطرقته فإذا سمع الله أكبر وهو رافع للمطرقة، ألقاها خلفه ولم يردها ثانية!
وورد في السنن أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقطع اللحم مع عائشة -وهو هذا المعصوم قائد البشرية يقطع اللحم، إما أن يمسك لها وهي تقطع أو أنه يقطع وهي تمسك له قالت: {فإذا سمع النداء قام كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه}.
وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا(241/23)
بشرى للمشائين إلى المساجد
هذه هي الصلاة، فأين الروضة؟!
تولى المدينة أحد الناس، وكان من أسرة علمية وأسرة عبادة وزهد، فلما تولى هذا الأمير الإمرة كأنه ترفه قليلاً، وكان بيته في العوالي، فكان يأتي في الظلمات إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فوضع سرجاً (وضع لمبات فيها زيت وأشعلها) حتى يرى الطريق، فكتب له عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد الراشد رسالة قال فيها: سبحان الله! أنسيت العشيات؟ أنسيت: {بشر المشائين بالظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة} قال: ذكرني أثابه الله فأطفأ السرج.
لأن هناك نوراً يغنيه عن ذاك النور: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] فالذي نور قصره وبيته بأنوار الكهرباء، ثم ترك أنوار رب الأرض والسماء فلا نور له.
ومد بالنور فالأيدي قد اختلفت على الصراط وهذا الجمع محتفل
لاينفع العلم قبل الموت صاحبه قد سال قوم بها الرجعى فما رجعوا
وهذه الأبيات من قصيدة طويلة لـ ابن المبارك رحمه الله.
وهناك على الصراط قال: يقف فينطفئ نور المنافقين، والشيخ حافظ في منظومته في العقيدة يقول:
ثم انطفا نور المنافقينا فوقفوا إذ ذاك حائرينا
لأنهم بالوحي ما استضاءوا فكذبوا فذا لهم جزاء
فما استضاءوا بالوحي والنور الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم: {نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] تركوا النور.
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه
قد مشينا في ضياء الوحي حباً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحدوه خطاه
فرسول الله يحمل النور من يركب معه ير النور، ومن يتخلف عنه لا يغنيه نور الدنيا، فالآن الذين لا ينزلون إلى النور في المساجد أين يجدون النور؟ الذين لا يحضرون الدروس ولا المحاضرات ولا صلاة الفجر ولا القرآن، أين يجدون النور؟ لأن النور ليس إلا رسالته صلى الله عليه وسلم
والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]؛ فمحمد صلى الله عليه وسل نور، والقرآن نور، والسنة نور، والإسلام نور، فهو نور على نور وقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
وقف أبو تمام يحيي المعتصم في انتصاراته، والعلماء والوزراء أمامه، قال أبو تمام:
ما في وقوفك ساعة من باس تقضي ذمام الأربع الأدراس
واستمر يصف الخليفة حتى قال:
إقدام عمروٍ في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس
قال الفيلسوف أبو يوسف الكندي: ما زدت يا أبا تمام! على أن شبهت الخليفة بأجلاف العرب.
يقول: تصف الخليفة بالبدو؟! عمرو بن معد يكرب من العرب أي: أنه بدوي أعرابي، وإياس وفلان وفلان؛ فتوقف أبو تمام قليلاً ليعتذر وأتى ببيتين قال فيهما:
لا تنكروا ضربي له من دونه مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلاً من المشكاة والنبراس(241/24)
أعمال تكفر الذنوب
أيها الإخوة: وردت أحاديث كثيرة في الأعمال المكفرة للسيئات كما في الصحيحين: {من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقد من ذنبه} {من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} وفي الصحيحين: {من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه} وفي مسلم: {إن الإسلام يهدم ما قبله، وإن التوبة تجب ما قبلها} وفي الصحيحين: {من قال: سبحان الله وبحمده في يومه مائة مرة؛ حطت ذنوبه ولو كانت كزبد البحر}.(241/25)
حقوق العباد
ثم قال عليه الصلاة والسلام في الركن الثالث من هذه الوصية: {وخالق الناس بخلق حسن} فلما انتهى من حقوق الله عز وجل على عباده ذكر حقوق الناس عليه قال: {وخالق الناس بخلق حسن}.(241/26)
الخلق الحسن في القرآن وغيره
والله ذكر الخلق الحسن وأصوله في القرآن في مواضع كثيرة، كقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في رسوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] وقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وقوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83].(241/27)
أبيات في حسن الخلق
وقد نظمت أبياتاً كثيرة في هذه المعاني لكني لا أريد أن أطيل عليكم منها في مدح أحد الفضلاء:
يغضي عن الفحشاء من خوف الردى ويلين للإخوان والأصحاب
وبيت آخر:
عليه وقار الحلم يهتز للندى أمر من الدفلى وأحلى من العسل
والدفلى: نبت شديد المرارة ذكره بعض أهل الأدب، ولـ جعفر بن الزبير قصيدة على هذا، ذكر منها:
وقالوا سحيرات اليمام وأرسلوا أوائلهم من آخر الليل في الثقل
وردن على ماء العشيرة والهوى على ملل يلتف منهم على ملل
ثم يقول فيها:
له الجلالة من حسن الفعال ولا تراه إلا بشوشاً ضاحكاً فاه
ومن قصيدة نظمتها قبل أربع سنوات في مدح المتواضعين وذم المتكبرين:
وجوههم من سواد الكبر عابسة كأنما أوردوا غصباً إلى النار
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً أعطوك من نورهم ما يتحف الساري
تروى وتشبع من سيماء طلعتهم بوصفهم ذكروك الواحد الباري
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري(241/28)
أحاديث في حسن الخلق
وعند الترمذي وغيره قوله صلى الله عليه وسلم: {ألا أنبئكم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلس يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون} والأكناف هي أطراف الشيء والأجنحة، أي: يوطئونها للناس، ويألفهم الناس ويألفونهم في الزيارة والقرب والمساءلة.
وما رواه أحمد وأبو داود وابن حبان: {إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم} وهذا حديث حسن، وهو صحيح المعنى، فإن بعض الناس بحسن تعامله وخلقه يدرك أكثر مما يدركه كثيرُ النوافل وكثير الصيام، ولكنه شديد الغضب وسيئ الخلق، فبعضهم يصوم النهار ويقوم الليل لكن إذا سلمت عليه غضب، وعنده حدة واستفزاز، وربما يكون عنده تيه وشدة غضب وضجر، فربما أفسد بذلك عمله الصالح.
وروى أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان: {ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق يبلغ درجة الصائم القائم}.
وعند أبي داود بسند صحيح والطبراني في الكبير قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: {أنا زعيم -والزعيم: الوكيل- ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه} وكأن في الجنة أعلى وأوسط وربض (أدنى)؛ وأعلى الجنة: الفردوس سقفها عرش الرحمن، ومنها تتفجر أنهار الجنان، فمن حسن خلقه أسكنه الله أعلى الجنة في الفردوس، نسأل الله أن نكون منهم.(241/29)
ما يستنبط من قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تغضب
أوصى صلى الله عليه وسلم رجلاً ألا يغضب فقال: {لا تغضب}.
قال بعض المطالعين من المربين: أبلغ نظرية في الأخلاق نظريته صلى الله عليه وسلم وهو يقول للرجل: {لا تغضب} ولو اختصر الخلق في شيء لاختصر في كلمة لا تغضب، وإذا أردت أن توصي أحداً في حسن الخلق فقل له: لا تغضب.
وحسن الخلق عرَّفه الأئمة بأنه: بسط الوجه وألا تغضب.
فبسط الوجه بأن تتبسم وألا تكفهر.
قال أهل الطب: العضلات إذا عبس الوجه انعقدت تسع عشرة عضلة منها، وإذا ابتسم في الوجه وانطلق لا تنعقد إلا عضلة فأنت توفر بهذا ثماني عشرة عضلة، حتى أنك تجد الدم فائراً والقلب يحترق بسبب الغضب، والعبوس ليس في الإسلام والعبوس ليس ديناً، وبعض الناس يريد أن يظهر العبادة والدين والزهد في وجهه، فتجده يظهره في وجهه وفي ثوبه، ولكن قلبه ليس بذاك، ودينه ليس بذاك.
حتى أن ابن الجوزي يقول في صيد الخاطر: رأيت أناساً يتزمتون ويظهر عليهم العبوس، ويظهرون التعبد للناس، وإن القلوب لتنفر منهم، ورأيت أناساً يتبسمون ويمزحون، وإن القلوب تطوف بهم؛ لأن الحب من الواحد الأحد وليس من الناس؛ فأنت لا تتصنع للناس.
أفدي ظباء فلاة ما عرفن به مضغ الكلام ولا زجَّ الحواجيب
كن عفوياً، أي: أن تعامل الله عز وجل وما عليك من أحد لكن بحسن الخلق.(241/30)
أفضل الفضائل
وروى أحمد في المسند والطبراني في الكبير {أفضل الفضائل أن تصل من قطعك وأن تعطي من حرمك وأن تصفح عمن شتمك} وفيه ضعف.
وهذا أفضل الفضائل، فليس من يصل رحمه التي وصلته، فهذا الكل يفعله، حتى عالم الحيوانات، وحتى عالم الكفر.
{وتعطي من حرمك} كثير من الناس يعطون من أعطاهم، لكن من حرمك من شيء وأعطيته، فهذا من أخلاق النبوة، وتصفح عمن شتمك.
وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان {سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما أفضل ما أعطي المسلم؟ قال صلى الله عليه وسلم: حسن الخلق} وحسن الخلق -أيها الإخوة-: بذل الندى وكف الأذى وبسط الوجه، وعلى المسلم كذلك ألا يحوج الناس لسوء الخلق، فإن بعض الناس من يضطرك إلى أن يسوء خلقك؛ إما بالإلحاح في الطلب أو بعدم معرفة الوقت المناسب، أو يكثر عليك في المسألة، أو أن يدخل عليك بجلافة وبكلام فظ، وعلى كل حال قد غضب عليه الصلاة والسلام وهو المعصوم لكن أحوج إلى ذلك صلى الله عليه وسلم.
هذا ما هو في سفينة النجاة، وإنما سميتها سفينة النجاة؛ لأن من أخذ هذا الحديث وعرفه وعمل به وجعله نصب عينيه نجا في الدنيا والآخرة، فأسأل الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد أن ينجينا وإياكم من مزلات الفتن، وأن يحمينا وإياكم، وألا يجعلنا وإياكم ندامى أو خزايا.
نسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم الحفظ والرعاية والتوفيق والهداية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(241/31)
الأسئلة(241/32)
كتاب في خطب الجمعة
السؤال
أريد كتاباً يصلح لخطب الجمعة والوعظ تكون أحاديثه صحيحة مخرجة؟
الجواب
أنا أرشدك إلى جامع العلوم والحكم لـ ابن رجب بتحقيق شعيب الأرنؤوط.(241/33)
الصدقة للمسلمين في يوغسلافيا
السؤال
هل تدفع الصدقات والزكوات إلى المسلمين في يوغسلافيا وفي البوسنة والهرسك؟
الجواب
إذا كان الواقع كما ذكر في السؤال فلا حرج؛ لما في دفع الزكاة إليهم من المواساة وتثبيت القلوب على الإسلام وفق الله الجميع!(241/34)
معنى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)
السؤال
ما معنى قوله تعالى: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] وهل هناك فرح محمود وفرح مذموم؟
الجواب
نعم.
قال بعض المفسرين: (لا تَفْرَحْ) أي: لا تتبطر ولا تتكبر، وقالوا: هو فرح التجاوز والطغيان، وقال بعضهم: الفرح والفساد، وأما الفرح المحمود فهو فرح العبد بالطاعة كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
وأنت ينبغي أن تفرح بالعمل الصالح، أما من يفرح بالمعاصي أو يفرح بالكبر أو يفرح بالعلو، فهذا فرح فاسد.(241/35)
توبة من مرض مرضاً لا يرجى برؤه
السؤال
هل لمن مرض مرضاً لا يرجى برؤه مثل السرطان توبة؟
الجواب
نعم.
إذا كان مريضاً بهذا المرض وأراد أن يتوب إلى الله عز وجل فليتب؛ فهذا وقت التوبة وما زال بابها مفتوحاً فليعد إلى الله عز وجل؛ فإنه لم ينته من الحياة وما زال حياً فليتب، والله يتوب عليه.(241/36)
وقت ركعتي التوبة
السؤال
هل يشترط في ركعتي التوبة أن تكون بعد وقوع الذنب مباشرة؟
الجواب
لا أظن أنه يشترط ذلك، ولو كانتا بعد أن يمر على الذنب فترة.(241/37)
من مات وهو كاتم لحب
السؤال
هل من أحب وأخفى في نفسه فمات كان من الشهداء؟
الجواب
مقصود الأخ: أن من أحب حب الهيام، وحب الوله والغرام والجوى والعشق، هل يكون من الشهداء، أما الحديث الذي ذكره ابن خلكان قال: {من عشق فعف فكتم فمات مات شهيداً} لا يصح.
قال ابن القيم: ليس عليه علامات النبوة، وليس من كلامه صلى الله عليه وسلم، قالوا: إن الحديث أتى من طريق سويد بن سعيد؛ قال يحيى بن معين: لو أن عندي فرساً وسيفاً لغزوت سويد بن سعيد من أجل هذا الحديث -أي: حاربته- لأن هذا ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم.
ولكن على أي حال من أحب فكتم فأجره على الله، لكن يكتم ولا يصل إلى فاحشة، ولا يصل إلى جريمة، وإنما هي مصيبة ابتلي بها، وبعض الصالحين أصيبوا بهذا الداء وماتوا فأسأل الله أن يأجرهم، وهي من المصائب التي يصاب بها العبد، لكن أنه من الشهداء ليس من الشهداء، وذكر ذلك جرير بقوله:
إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا
وقال المتنبي:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
مثل هؤلاء عليهم أن يستغفروا الله وأن يتوبوا، وأن يلجئوا إلى الله عز وجل، وألا يصروا على ما فعلوا، وألا يزاولوا آثار هذا الحب بشيء من الحرام، بل يفروا إلى الله؛ قال الله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] وابن الجوزي يقول هذا حتى يقول أحدهم:
بين عينيك علالات الكرى فدع النوم لربات الحجل
قد كتمت الحب حتى شفني وإذا ما كتم الداء قتل
لكن العبد عنده من الإيمان ومن الذكر والعمل الصالح ما يكفيه عن هذا.(241/38)
التائب من الغيبة
السؤال
ما موقفنا من الغيبة -وهي حقوق للناس- هل نذهب إلى من اغتابه ونطلب منه السماح؟
الجواب
هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم، والصحيح عدم وجوب الذهاب ويكفي أن تستغفر لمن اغتبته وتندم على ما فعلت، وتذكره بمحاسنه، أما إذا ذهبت إليه فقد تكون الطامة الكبرى؛ فإنك قد تخبره فيقول: والله لا أغفر لك وأطالبك بحقي، خاصة إذا كان من المشاكسين؛ فإن بعضهم يتمنى الخصام في أي مكان، فإذا أظفرته بنفسك أخذك.
وأيضاً بعض الناس يتسرع ويؤذي قلوب العباد، فتجد بعضهم يقول: نلت منك في مجلس فادع لي، أي: بدل أن تطلب عفوه يطلب أن تدعو له وتجازيه على أنه نال من عرضك في المجالس، بدل أن يدافع عن عرضك في المجالس وبدل أن يثني على ما أنت فيه، وبدل أن يدعو لك يغتابك ويجرح عرضك ثم يقول: لا تنسني من دعائك!!
وصل رجل إلى محمد بن سيرين فقال: قد اغتبتك فحللني.
قال: والله لا أحل لك ما حرم الله.
أي: لأن الله يقول: حرام، وأنا أقول: حلال! لا.
وأتى رجل إلى الحسن البصري قال: فلان اغتابك.
قال: تعال؛ فأتى فقال له: خذ هذا الطبق من الرطب وقل له: أهديت لنا حسناتك ونحن أهدينا لك رطبنا.
وهذا درس عملي، حتى قال بعض الصالحين: من أراد أن يغتاب فليغتب والديه حتى إذا أخذ من حسناته، فإنها لن تكون إلا لوالديه؛ لأنهم أقرب الناس إليه، ومسكين بعض الناس يوزع حسناته طيلة الليل والنهار، وبعضهم مثل الشيطان الرجيم لا يشتغل إلا بالصالحين في المجالس: أسمعتم؟ أرأيتم؟ ثم يبدأ بسكاكينه في أعراضهم، فالله حسيبه، والله الذي يكفي عباده الصالحين؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38] فهو المدافع وحده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
مر عامر الشعبي برجل جالس وراء حائط وهو يغتاب عامراً الشعبي فأشرف عليه عامر فقال:
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لـ عزة من أعراضنا ما استحلت
عسى الله أن يغفر، وعسى الله أن يرحم، وعسى الله أن يهدي، وعسى الله أن يسدد، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(241/39)
الرحلة في طلب العلم
إن الله سبحانه وتعالى شرف العلم وأهله، وامتدحهم في كتابه، وذكر لنا من قصصهم ومن الآيات التي تحث على طلب العلم الكثير والكثير، ومن هذه القصص قصة موسى عليه السلام مع الخضر وسفره الطويل إليه، وفي هذا الدرس تفاصيل هذه القصة العجيبة والرحلة العظيمة، وما يستفاد منها من الدروس والعبر.(242/1)
رحلة موسى عليه السلام في طلب العلم
الحمد لله، الحمد لله الذي شرح صدور أهل الإسلام للسنة فانقادت لاتباعها، وارتاحت لسماعها، وأمات نفوس أهل الباطل بالجهل بعد أن تمادت في ابتداعها، وتغالت في نزاعها، والصلاة والسلام على من أوصل الله به أنوار الهداية بعد انقطاعها، ورفع به قصور الإسلام فاتسقت في اتساعها، ودك به دولة الجاهلية وهدّم به حصون قلاعها، والصلاة والسلام على أشرف من بعثه الله، حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد: عباد الله! فيقص الله تبارك وتعالى علينا قصة موسى عليه السلام، وهو يرتحل في البحر ليلقى الخضر عليه السلام فيتعلم منه علماً، وكأن لسان حال القصة يقول: هكذا فاطلبوا العلم، فإذا كان موسى عليه السلام؛ على سمو قدره، وجلالة مكانته، يحرص على طلب العلم، فما بالنا نحن الضعفاء المحاويج، الجهلة، لا نطلب العلم؟!
إنه حرص من موسى عليه السلام على طلب العلم، ولذلك يقول الإمام البخاري في صحيحه في كتاب العلم، (باب: السفر في البحر لطلب العلم) ثم يتوج هذا الباب بقصة موسى عليه السلام؛ الرحالة المغامر، الذي ركب البحر ليلقى الخضر، ويستفيد منه علماً جماً.
عرف ذلك السلف الصالح في طلب العلم؛ فسهروا الليالي، لأن العلم بعد الهداية أشرف مطلوبٍ في الحياة:
هو العضب المهند ليس ينبو تصيب به مضارب من أردت
وكنزٌ لا تخاف عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث كنت
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددت
رحل الإمام أحمد شهرين كاملين ليلاً ونهاراً من بغداد دار السلام إلى صنعاء اليمن ليأخذ عشرة أحاديث.
ورحل جابر بن عبد الله الصحابي الشهير الخطير إلى مصر إلى مدينة العريش ليكتسب حديثاً واحداً من عبد الله بن أنيس.
قال سعيد بن المسيب: [[والله الذي لا إله إلا هو إني كنت أرحل الأيام الطوال لحديث واحد]].
فيا أيتها الأمة المتفقهة الرائدة! هكذا ليطلب العلم، فلنستمع إلى القصة التي ساقها الله تبارك وتعالى في كتابه، تلميذٌ مع شيخه، وطالبٌ مع معلمه.(242/2)
مغادرة موسى عليه السلام بني إسرائيل
وموسى الآن يغادر أرض بني إسرائيل من فلسطين ليركب البحر، بعد أن ألقى فيهم خطبة عظيمة، وبعد أن انتهى منها، قال له أحد بني إسرائيل: يا موسى! هل تعلم في الناس أعلم منك؟ قال: لا والله، لا أعلم في الناس أعلم مني؛ وصدق عليه السلام، فهو نبي الله ورسوله، ولكن الله عاتبه من فوق سبع سموات، وقال له: يا موسى! الخضر في مجمع البحرين أعلم منك، فارحل إليه وازدد إلى علمك علماً.
قال: يا رب! وأيُّ علامة أعرف بها إذا لقيت الخضر؟
قال: يا موسى! خذ حوتاً، واجعله مملوحاً في مكتل، فإذا فقدت الحوت فقد لقيت الخضر، فأخذ حوتاً ميتاً، سمكاً مملوحاً في مكتل، وأخذ غلامه يوشع بن نون يحمل معه الغداء في السفر، فمضيا كثيراً طويلاً وشق عليهم السير، قال الله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف:60 - 61] أحيا الله الحوت الميت فتحرك في المكتل، ثم أخذ يقتحم من المكتل إلى الماء، فقال موسى لما كلََّ سيره، وتعب عليه السلام، وملَّ من طول السفر، عاد إلى فتاه يقول: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [الكهف:62] وكأن لسان حاله يقول:
لمعت نارهم وقد عسعس الليل ومال الحادي وحار الدليل
فتأملتها وفكري من البين عليلٌ وطرف عيني كليلُ
وفؤادي ذاك الفؤاد المعنَّى وغرامي ذاك الغرام الدخيل
قال لغلامه: آتنا غداءنا نتغدى، {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [الكهف:62] تعب الرحالة، فأتى غلامه إلى المكتل ففقد الحوت، فقال: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} [الكهف:63].
عجباً! كيف يعيش الحوت، وقد مات كيف ينزل ثم يسبح في الماء؟ فكان عجباً لموسى، لكن الذي يحيى الميت هو الله، والذي يرشد الجهلة هو الله، فكأن الله يقول: كما أحيينا هذا السمك في الماء نحيي القلوب كذلك بالحكمة والعلم، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:1] ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بعدها: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:17].(242/3)
لقيا موسى عليه السلام الخضر
نعم! فلما فقد الحوت، عاد فرأى الخضر عليه السلام فسلم عليه، يقول الله في تعريف الخضر: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف:65] علمٌ بلا رحمة قسوة وجبروت، ورحمةٌ بلا علم جهلٌ وتردي، فجمع الله للخضر الاثنين، رحمةٌ وعلم، فالذي ليس عنده علم وعنده رحمة ضعيف، والذي عنده علمٌ بلا رحمة جبار، والذي ليس عنده علمٌ ولا رحمةٌ ضائعٌ ضالٌ في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
فسلم عليه موسى، فقال الخضر: من أنت؟ قال: أنا موسى.
قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم.
قال: ماذا أتى بك؟ قال: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66] ما أحسن العرض! وما أحسن الأدب! ما قال: أرافقك، ولا أصاحبك، ولكن عرض نفسه هل ترى ذلك مجدياً؟ أتبعك فأكون تلميذاً وخادماً أتعلم منك، فيقول الخضر عليه السلام لموسى، وهو يعرف قوة موسى، وصراحة موسى: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف:67 - 68].
يقول: أنت سوف يظهر لك أمور لن تصبر أمامها؟ ولن تقف أمامها صابراً؟ قال موسى عليه السلام: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} [الكهف:69] ولا يصبر الصابر إلا بعون الله، ولا يوفق الموفق إلا بهداية الله، فلذلك استلهم رشد الله:
يا حافظ الآمال أنتت حميتني ورعيتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
والله يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127].
قال: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} [الكهف:69] ولكنه لم يصبر عليه السلام.
وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم يتابع القصة بلهفٍ وبإصغاءٍ وبشوقٍ وفي الأخير لما قال الخضر: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78] تبسم رسولنا صلى الله عليه وسلم، وقال: {رحم الله موسى، وددنا أنه صبر حتى يقص علينا من نبأهما}.
قال الخضر: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف:70].
فمشيا وركبا في السفينة، ومر عصفور فشرب من الماء، فقال الخضر لموسى متواضعاً لجلال الله ولعظمة الله ولعلم الله: يا موسى! ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما نقص هذا العصفور لما شرب من هذا البحر؛ فأي نقصان أصاب البحر لما أدخل هذا العصفور منقاره فشرب من الماء.(242/4)
بداية سفر موسى عليه السلام مع الخضر
ومشيا في السفينة، ولما رأى ربان السفينة هذا الرجل الصالح والرسول النبي ورأى الجلالة والنور والوقار رفض أن يأخذ أجراً، وأن يأخذ أعطية على الركوب، فركبا وموسى ينظر في الخضر، فأول شيء قدمه أن أخذ ينزع خشب السفينة، ويكسره، ويلعب فيها، فيقول موسى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف:71].
يقول: ما لك تتصرف في مال الناس! أناس أركبونا بلا أجرة، ورعونا، وأحسنوا فينا، ثم تقدم على هذا العمل، أما قال في أول القصة: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:67] إن موسى رجلٌ جرئ، شجاع، يتقدم المواقف العظيمة، لقي الله في طور سيناء، فكلم رب العزة من فوق سبع سموات، فما كفاه هذا التشريف حتى قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] فهو دائماً رجل مجادلة في الحق، وشجاعة وإقدام.
فقال الخضر لما اعترض عليه: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:72] يقول: أما ذكرتك أن تستمع للدرس ولا تقاطع المحاضرة حتى تنتهي، فإذا انتهيت فأورد ما عندك من إشكالات، فيقول موسى مستحياً معتذراً: {لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف:73].
يتبسم ابن عباس المفسر العظيم، الصحابي الجليل، ويقول: [[كانت الأولى من موسى نسياناً]] نسي في الأولى، فانطلقا؛ فلما نزلا من البحر مرَّا بقرية من القرى فإذا شباب يلعبون، وفتية يلهون، فتقدم الخضر إلى غلامٍ منهم فصرعه في الأرض، ثم ذبحه بالسكين، وقيل: فصل رأسه عن أكتافه، فثار دم موسى ووقف أمامه، وقال: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:74] سامحناك في الأولى، وتغاضينا عنك، وصبرنا، ثم أتيت إلى نفسٍ معصومة فأزهقتها، {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:74] لا تطيقه القلوب أبداً، فقال الخضر له: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} [الكهف:75] وزاد (لَكَ) الجار والمجرور؛ ليذكره مرة ثانية بالعمل، {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:75] فيستحي موسى عليه السلام، ويراجع حسابه، ويقول معتذراً: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [الكهف:76] وتقف الأمور على الضربة الثالثة.
فانطلقا ودخلا قرية مع الظلام، وكانت القرية بخيلة، لا تطعم ضيفها، ولا تسقي الظمآن إذا ورد فيها، ولا ترحب بوافدها، والقرى تختلف اختلافاً عظيماً، والله هو الذي يكسب الجود لأهل الجود، ويعطي الكرم لأهل الكرم، ويكتب البخل لأهل البخل.
دخل النبي موسى عليه السلام، الذي ذكره الله في كتابه، معه الخضر {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف:77] زيادة في بخل هذه القرية طلب الإطعام، يقولان: أطعمونا فإننا مسافرون، جهدنا، جعنا، لكن قرية لا يظفر نازلها:
إني نزلت بكذابين ضيفهمُ عن القرى وعن الترحال محدودُ
جود الرجال من الأيدي وجودهمُ من اللسان فما كانوا ولا الجودُ
فامتنعت البيوت أن تضيف النبيين الكريمين الصالحين، فنزلا في مكان في طريق، ورأى الخضر جداراً يريد أن يميل، فقال لموسى عاوني لأبني هذا الجدار، فيقول موسى: يا سبحان الله! قرية لم تطعمنا، تبني جدارها، وسفينة أركبونا بلا عطية خربتها، فقام الخضر فبنى الجدار، وقال لموسى: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:78] وقبل أن نستمع إلى شرح الخضر لموسى قبل أن يفارقه، نعيش لحظات مع موسى وهو يترك بني إسرائيل ليتعلم العلم النافع، العلم الموروث من رب العزة تبارك وتعالى.
والدرس الثاني: شرف العلم قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
والدرس الثالث: ما موقفنا نحن كأمة؛ أمة رائدة، تقود معالم التوحيد، وتريد إعطاء البشرية نورها، وتريد حياتها، وتريد مجدها، الكتب طبعت لدينا، وحققت ونشرت.(242/5)
اجتهاد السلف في طلب العلم وتحصيله(242/6)
أحمد بن حنبل وكتابه المسند
مسند الإمام أحمد بقي في جمعه أربعين سنة لا يهدأ له بال، ولا يرتاح له حال، دخل مصر والعراق والشام وخراسان والحجاز وصنعاء اليمن وجمع مسنده حديثاً حديثاً، وصححه وعلله، وجمع طرقه بالأسانيد، ثم جمعه لدينا، وهو في أدراجنا وفي رفوفنا، فهل عنت لنا الهمم أن نقرأ ولو قراءة؟! نقرأ تحت الظل الوارف، ومع الماء البارد، لا سافرنا، ولا تعبنا، ولا أظنينا رحالنا.(242/7)
رحلة إسحاق الكوسج لطلب العلم
أحد علماء السلف؛ إسحاق الكوسج: سافر إلى خراسان، وأتاه وهو في خراسان مطرٌ عظيم وهو في الصحراء، وكتبه معه التي جمعها في عشر سنوات، فقال: يا ربِ! هذه كتبي تعبت عليها، والمطر الآن ينزل عليها فيمحو كتابتها، يا ربِ! أتضيع جهودي في عشر سنوات؟!! فلما صحا الجو، وكف القطر أخذ يبحث عن كتبه فما وجد حرفاً منها أصابه بلل، ووجد الدنيا من حوله تسيل بالسيول، ولما توفي رآه الصالحون في المنام، قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي.
قالوا: بماذا؟ قال: بتلك الليلة التي أصابني فيها المطر.(242/8)
الجدية في طلب العلم عند ابن المبارك
وعبد الله بن المبارك وقف مع شيخه من صلاة العشاء يسائله إلى صلاة الفجر حتى فصل بينهما المؤذن، فقال له تلاميذه: لو أنك أرحت نفسك؟ قال: لو وقفت شهراً كاملاً في مسألة ما أنصفتها، أولئك الذين قال الله فيهم: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة:8] يوم طلبوا العلم لوجه الله؛ فأثمروا وتركوا تراثاً خالداً، فكان لهم قدوة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، يوم قال الله له: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] فأخذ يتعلم صلى الله عليه وسلم، وأخذ يحث أصحابه على طلب العلم، وعلى الفائدة.
فيا عباد الله يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} من يرد الله به خيراً وهدايةً وتوفيقاً يعلمه المسائل في الدين؛ فيعرف كيف يبصر، لأن الغشاوة تزول عنه بطلب العلم:
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
يا جامعاً لغرور المال تجمعه أقصر فإن غرور المال أحزان
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وعلمنا الله وإياكم علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وجعلنا من ورثة الأنبياء والمرسلين الذين يريدون الله والدار الآخرة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(242/9)
أجوبة الخضر لما حصل منه
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس إلى ربهم أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد: فقبل أن يفارق موسى عليه السلام الخضر، يتوقف معه الخضر؛ ليخبره بأجوبة الاستشكالات التي مرت في الرحلة، ويجيب على الأسئلة المضنية التي حيرت موسى عليه السلام، وجعلته يحتج دائماً وينكر ويتردد في هذا العمل الذي يقوم به الخضر.
قال الخضر عليه السلام: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:7] واسمع إليها مسألة مسألة: أما السفينة يوم خرقت السفينة وأعدمتها: {فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:79] هذا سرُّ المسألة يا موسى، لما ركبنا في السفينة كانت لمساكين، وكان هؤلاء المساكين يعملون عليها، وعند الشاطئ وعلى الساحل ملكٌ ظالمٌ جبار، يقف بالمرصاد للسفن، فكل سفينة أعجبته أخذها، وسلبها، واغتصبها، فأردتُ أن أعيبها بعض العيب، حتى لا يأخذها ذاك الظالم، عيبٌ لا يعطلها، ولا ينقص قيمتها، ولا يعطل رحلتها، فهل سمعت يا موسى أن هذه حكمة؟ فقنع موسى.
قال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:80 - 81].
أما الغلام الذي اعتديت عليه في الظاهر، والذي قتلته وأعدمته؛ فهذا غلامٌ ينشأ كافراً فاجراً، ينشأ عنيداً لله، كافراً بلا إله إلا الله، عاقاً لوالديه، فخشيت إذا نشأ على هذه النشأة أن يقحم أبويه في الكفر، وأن يخرج أبويه من الإسلام إلى الجاهلية، وأن يكون سبباً في إدخال أبويه النار {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل:14 - 15] فأردت أن أقتله لعلَّ الله أن يُبدل الأبوين شاباً تقياً، وفتىً ورعاً؛ يكون مؤمناً بالله، ساجداً لله، معترفاً بلا إله إلا الله، فاقتنع موسى.
قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:82].
هذا الجدار يريد أن ينقض، وإذا انهدم الجدار؛ خرج الكنز الذي تحت الجدار فأخذه الناس، والجدار هذا ليتيمين، والكنز ليتيمين، والسر أن أباهما كان صالحاً، فانظر إلى رب العزة سُبحَانَهُ وَتَعَالى كيف حفظ هؤلاء الأبناء لصلاح والدهم.
ألا لتعلم أن الأب إذا كان صالحاً أصلح الله ذريته، وأصلح الله كل من يمون عليه.
ألا تعرف أن الصالح تجري بركته في الذرية، قال تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:34].
ألم تعلم أن الفاجر يجري فجوره في ذريته، ويكون شؤماً على أولاده، وأولاد أولاده إلا أن يعصمهم الله ويتولاهم، فبنى الجدار، وهذا إرادةٌ من الله.
لكن قبل أن ننتهي، انظر إلى الخضر يوم قال في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:79].
وقال في الغلام: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:81].
وقال في الجدار: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف:82].
فكيف تغيرت الإرادة؛ في السفينة أردت، وفي الغلام أردنا، وفي اليتامى فأراد ربك؟
إنه أدب مع الله:
أما السفينة فظاهرها الخراب، واستحيا أن يقول لموسى: فأراد الله، أو أردنا، فقال: فأردت أنا لأنني أنا الذي خربت وليس الله، وهذا أدبٌ مع الله.
وأما في الغلام ففيه مصلحة ومفسدة في الظاهر، فنسب المصلحة إلى الله والفساد إلى نفسه، فقال: فأردنا.
وأما الجدار فصلاحٌ كله، فنسب الصلاح إلى الله، فقال: فأراد ربك.
وهذا أدب مع الله، عرفه حتى الجن، فإنهم قالوا في سورة الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10] والذي يريد الشر هو الله يكتبه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ويكتب الخير لكن تأدبوا مع الله، فقالوا: أريد بهم، وقالوا في الخير: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10].
وانظر إلى إبراهيم عليه السلام يوم ذكر الحياة والإطعام، والشفاء إلى الله، ولما أتى إلى المرض فاستحيا من الله، فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80].
فما أحسن الأدب! وفارق التلميذ شيخه، وتوادعا، وعاد موسى متعلماً رائداً في رحلة المغامرة، وفي رحلة طلب الحق والعلم والذكر، وكان محقاً البخاري رحمه الله يوم قال: (باب: السفر في البحر لطلب العلم) فإن كان هذا في البحر ففي البر أولى.
فيا أيها المسلمون! أدعوكم ونفسي لطلب العلم، وحضور مجالس الذكر، والتفقه في الدين، والسؤال، فإن الله عزوجل لا يهلك أحداً حتى يعلمه ويبصره، فمن أراد الحياة أحياه، ومن أراد الهلاك أهلكه: {ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
وارض اللهم عن أصحابه الأطهار؛ من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بكرمك ومنِّك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه يا رب العالمين.
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم كفِّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، واهدهم سبل السلام، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان؛ الذين يجاهدون لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك، ولتأييد سنة نبيك عليه الصلاة والسلام.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(242/10)
اللهم اهدنا في من هديت
أعظم عطاء يعطيه الله للإنسان هو الهداية إلى الطريق المستقيم، وفي هذا الدرس فوائد عظيمة مستنبطة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهدنا فيمن هديت).
وتعرض الشيخ إلى ذكر أقسام الهداية وطرقها، وبيان الحكمة من طلب النبي صلى الله عليه وسلم الهداية من ربه مع أنه سيد المهتدين، إلى غير ذلك من المسائل.(243/1)
وقفات مع الحسن بن علي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أحييكم بعد طول انتظار وشوقٍ إلى أنفاسكم الغالية، وإلى مجالسكم المرفوعة بذكر الله عز وجل:
يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدمُ
إذا ترحلت عن قومٍ وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون همُ
عنوان هذه المحاضرة "اللهم اهدنا فيمن هديت" وهي من كلام القائد محمد عليه الصلاة والسلام، كلماتٌ غالية نستمع إليها بشوقٍ ولهفة، وننتظرها وكلنا -يعلم الله- قطرات من الدم على مسيرته الغالية صلى الله عليه وسلم.
أما الحديث فرواه أحمد وأهل السنن: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي والحاكم، قال: {علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءً أدعو به فقال: قل: اللهم اهدني في من هديت، وعافني في من عافيت، وتولني في من توليت، واصرف عني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يعز من عاديت، ولا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت} وزاد الحاكم: {اللهم صلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم}.
وفي الحديث أربعٌ وعشرون مسألة:
أولها: من هو الحسن؟
ثانيها: "اللهم" ومعناها عند أهل العلم.
ثالثها: "اهدني" وكيف يطلب الهداية عليه الصلاة والسلام.
وأقسام الهداية، والهداية العامة والخاصة.
رابعها: كيف يطلب صلى الله عليه وسلم الهداية وقد اهتدى بهداية الله؟
خامسها: الهداية المجملة والهداية المفصلة.
سادسها: طرق الهداية وكيف يصل العبد إلى الله.
سابعها: لا يهتدي العبد إلا على يد الرسل عليهم الصلاة والسلام.
ثامنها: قوله سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13].
تاسعها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].
عاشرها: ما معنى "وعافنا في من عافيت" وما هو العفو؟
الحادية عشرة: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] من هم؟
الثانية عشرة: معنى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43].
الثالثة عشرة: معنى: {اللهم إني أسألك العفو والعافية}.
الرابعة عشرة: "وتولني في من توليت" من هم أولياء الله؟ وما هي صفاتهم؟ وما هي سماتهم؟
الخامسة عشرة: بم تنال الولاية؟
السادسة عشرة: صفات الأولياء.
السابعة عشرة: قوله عليه الصلاة والسلام "وبارك لي فيما أعطيت".
الثامنة عشرة: "وقني شر ما قضيت" هل ينسب الشر إلى الله عند أهل السنة؟ ومن الذي كتب الشر على الناس؟ وهل يقدر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الشر؟
التاسعة عشرة: معنى "إنك تقضي ولا يقضى عليك" لا معقب لحكمه سبحانه.
العشرون: "إنه لا يذل من واليت" ما هي الذلة؟ وما الفرق بين قوله ولا يذل وبين قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]؟
الحادية والعشرون: رواية النسائي والبيهقي زادت "ولا يعز من عاديت".
الثانية والعشرون: "تباركت ربنا وتعاليت" ما هي البركة؟ وهل يقال للعبد: تباركت؟ وهل فيها اشتقاق أم لا؟
الثالثة والعشرون: زاد النسائي "وصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم".
الرابعة والعشرون: زاد الحاكم وابن حبان: {علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود أن أقول هذا الدعاء}.
أما راوي الحديث فهو الحسن بن علي بن أبي طالب، جده رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأبوه علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة الزهراء البتول، والحسن بن علي سيد الجماعة، وهو الذي دفع الفرقة عن المسلمين، والذي كف سيف القتل قبل أن يودي بحياة الألوف المؤلفة فيما بعد صفين.
حسن الذي صان الجماعة بعدما كادت سيوف المؤمنين تثلمُ
من جده حمل الشريعة وابتنى صرح العدالة لا يضرجه دمُ
يقول أحد الناظمين:
وقسموا الحديث عن جد الحسن إلى صحيحٍ وضعيفٍ وحسن
فـ الحسن هذا هو الحسن بن علي، أدرك الرسول عليه الصلاة والسلام ومات عليه الصلاة والسلام وعمر الحسن خمس سنوات، منظر الرسول صلى الله عليه وسلم في دمه وعينيه وقلبه:
من زار بابك لم تبرح جوانحه تروي أحاديث ما أوليت من مِننِ
فالعلم عن قرة والكف عن صلةٍ والقلب عن جابرٍ والسمع عن حسنِ(243/2)
النبي يمنع الحسن بن علي من أكل الصدقة
رباه صلى الله عليه وسلم على الطهر وفطرة الله، أتى يأكل تمرة -والحديث في الصحيحين - من تمر الصدقة، وتمر الصدقة لا يحل لأهل البيت؛ لأن أهل البيت أطهار أبرار لا يأكلون أوساخ الناس، فأتى يأكل التمر فقال صلى الله عليه وسلم: {كخْ كخْ} ولفظها المحدثون: كخٍ كخٍ ولفظها أهل اللغة كخٍ كخْ، يعني: اترك اترك، فالتفت الطفل إلى جده سيد البشرية، قال: {أما تعلم أن الصدقة لا تحل لنا، إنما هي أوساخ الناس}.(243/3)
الحسن يصلح بين فئتين من المسلمين
كان يخطب عليه الصلاة والسلام -والحديث في صحيح البخاري من حديث أبي بكرة رضي الله عنه- كان يخطب صلى الله عليه وسلم الجمعة واندفع يتحدث في الخطبة فأتى الحسن -هذا السيد سيد الجماعة- وعمره خمس سنوات وثوبه طويل يعثر بين الصف تارة ويقوم تارة، ولا يلتفت له المصلون؛ لأنهم كلهم آذانهم للمصطفى صلى الله عليه وسلم، فنزل صلى الله عليه وسلم من على المنبر، وتخطى الصفوف، واحتضن الحسن وقبَّله ووضعه بجانبه، وقال وهو يتبسم ويلتفت إلى الجماهير: {إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين}.
فصحت نبوته عليه الصلاة والسلام فنشأ سيداً مطاعاً، فلما التقى جيش العراق مائة ألف وجيش الشام ثمانون ألفاً، والسيوف مصلتة والرماح، يريد الحسن ومعاوية الخلافة، قام الحسن فتنازل بالخلافة إلى معاوية فبيض الله وجهه.
هذا هو الحسن الذي صان الجماعة، وجمع الكلمة، وابتنى داراً عند الله عز وجل بتنازله، عن ملك الدنيا: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5].
كان صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- والحسن على ميمنته والحسين على ميسرته فيقبِّل هذا تارة ويقبِّل هذا تارة، ويقول: {اللهم إنهما ريحانتاي من الدنيا}.
هذا الحسن بن علي رضي الله عنه وأرضاه يروي هذا الحديث وله أحاديث ملاح حسان؛ لأنه ما استمر به الحال فيروي كثيراً، وله حديث: {دع ما يريبك إلى ما لا يريبك} ويروي أيضاً هذا الحديث البديع الذي معنا هذه الليلة.(243/4)
معنى قوله: (اللهم)
أما قوله (اللهم) فأصلها ياألله، حذفت ياء النداء، وأضيفت الميم اختصاراً واستدراجاً في الدعاء، حتى تكون لذيذة:
إني إذا ما حادث ألما أقول يا اللهم يا اللهما
ولفظ الجلالة (الله) هو أعظم اسم لله، قالوا: هو الاسم الأعظم، والصفات تضاف إليه، فيقال: الله القدير، الله الرحمن، الله الرحيم، وابتدأ به سُبحَانَهُ وَتَعَالى في كتابه فقال: باسم الله، ولا تعرف العرب هذا الاسم في لغتها، وقيل مشتق وقيل جامد، ولا يهمنا إلا أنه اسم وعى المحاسن والفواضل، والصفات العظيمة.
أتى إليه سيبويه في الكتاب العظيم: الكتاب فقال: الله: لفظ الجلالة علم لا يحتاج إلى تعريف، قالوا: فغفر الله له بهذا التعريف، فالله مجمع المحاسن.
ومما اشتق، قيل: من ولَهَ، إذا تحير، لأن العقول تحتار في الله، فيصل العقل إلى درجة أن يحتار، فالعقول مشدوهة أمام قدرة الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وقيل: من أله إذا سكن واطمأن: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فلا تطمئن القلوب إلا إلى الواحد الأحد، ولا تطمئن إلى غيره، لا إلى مال أو منصب أو عشيرة، ولكن تطمئن إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وقيل: إنه غير مشتق وإنه ركب هكذا وسمي به سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فهذا الاسم.
(وقل: اللهم): يعني ياألله، يا ذا الجلال والإكرام، ويا ذا المحاسن.
وقيل: يا من تألهه القلوب، وقيل: يا من يستحق العبادة، وكان ابن عباس يقرأ في القرآن: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] وهذه هي القراءة المشهورة: وقرأ ابن عباس: {وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَكَ} [الأعراف:127] وإله وآلهة مما يعبد، فالله عز وجل هو المستحق للعبادة ليس إلا هو، وبعث الأنبياء لإثبات العبادة لله، فتوحيد الأنبياء الذي اجتمعوا عليه، هو توحيد الألوهية؛ لأن الأمم أخفقت في توحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، والربوبية بعضهم أو جملتهم يقرون به.(243/5)
أمور تتعلق بالهداية
قوله صلى الله عليه وسلم: (اهدني).(243/6)
الهداية عامة وخاصة
أولاً: الهداية عامة وخاصة.
فأما الهداية العامة فهي هداية الخلق للخليقة: أن يهدي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كل مخلوق لما يريده ويحتاجه، فهدى الطفل لثدي أمه، والنملة إلى جحرها، والنحلة إلى خليتها، والطائر أن يأخذ رزقه، والثعبان أن يعيش، والسمك ألا يخرج من الماء، وهدى كل شيء، ولذلك احتج موسى ودمغ فرعون بهذه الكلمة: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49 - 50] قال الزمخشري: لله دره من جواب.
إذ لم يأت له بكلام مشترك، إذ لو قال: ربي عليم، لقال فرعون: وأنا عليم؛ لأن صفة العلم صفة مشتركة بين الخالق والمخلوق، والله أعظم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
لكن قال: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] فهذه هداية عامة للخليقة، حتى تجد الكافر، يهتدي للأكل والنوم، ويهتدي لرفع الثدي لطفله، وهذا أمر مشترك.
والهداية الخاصة: هداية المؤمنين، وهي الهداية إلى الصراط المستقيم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] الذي من معالمه: أنه موصل وقريب ومتعين ومسلوك، وله إمام وهو الذي نطالب الله بلهفة وحرارة في كل ركعة أن يهدينا الصراط المستقيم.(243/7)
لماذا يطلب الرسول الهداية؟
والهداية يطلبها عليه الصلاة والسلام وهذا فيه إشكال عند أهل العلم، قال بعضهم: لماذا يقول عليه الصلاة والسلام: اللهم اهدني، وقد هداه الله بل هدى به:
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
بل هو مهدي عليه الصلاة والسلام وهو الذي هدى الله به القلوب، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] فلماذا يقول: اللهم اهدني؟ أما اهتديت أما وصلت المنزلة العلية؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وإنما يطلب عليه الصلاة والسلام الهداية؛ لأن الهداية منازل ودرجات وأعلاها وآخرها: منزلة الوسيلة، التي يطمع صلى الله عليه وسلم أن يبلغها وسوف يبلغها بإذن الله، ولذلك نقول نحن بعد الأذان: {اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه اللهم المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد}.
فآخر ما يصل إليه هو هذه الدرجة، فهو يتمناها في كل لحظة.
وجواب ثان: أن العبد يزداد هداية كل يوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام يطلب من الله أن يزيده هداية، فالهداية تتجزأ وهي درجات.
وجواب ثالث: أن طرق الهداية كثيرة كعدد الأنفاس، وإذا لم يهدك الله عز وجل في كل لحظة وحركة وسكنة؛ لا تهتدي، فيطلب عليه الصلاة والسلام من ربه أن يهديه وأن يزيده هداية.(243/8)
الهداية المجملة والهداية المفصلة
وهناك هدايتان، الهداية المجملة: أن يهتدي الإنسان للإسلام وأركان الإسلام والإيمان، فهذا مهتد في الجملة، مثل الأعراب والمقصرين من المؤمنين والأميين الذين لا يعلمون إلا مجمل الإسلام.
والهداية المفصلة: هداية أولياء الله؛ الفقهاء في دينه، الذين يعلمون الحكم بدليله، ويعلمون جزئيات الدين، ويكتشفون أسرار الدين، فهذه هداية مفصلة.
ومثلها كرجل رأى بيتاً فعرف البيت من خارجه، أبواب البيت ونوافذه ومخارجه ومداخله، فيقولون في هذا: هذا عرف البيت معرفة مجملة، أما المعرفة المفصلة فكأن تعرف طول البيت وعرضه وسمكه وارتفاعه، ومادته ومداخله الخارجية، وأبوابه الداخلية ودواليبه، فهذه هي الهداية المفصلة، فالدين مثل ذلك.(243/9)
الكتاب والسنة طريق الهداية
وأما قوله: ما هي طرق الهداية؟
فليس للعبد في طرق الهداية إلا الآيات الشرعية التي أتت على يد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والهداية بالآيات الكونية؛ والآيات الكونية وحدها لا تكفي وقد عرف الكفار أن هناك رباً مدبراً خالقاً: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه} [لقمان:25] وهذا لا يكفيهم حتى أتت الرسل فأخبرتهم أن هناك إلهاً محاسباً قديراً حكيماً رحيماً فهدوهم.
ولذلك تساءل أبو المعالي الجويني صاحب علم الكلام وهو شافعي: ما هو أول واجب على المكلف؟ قال -وهذا في فتح الباري ينقله ابن حجر الجهبذ الحافظ- قال: أول واجب على المكلف النظر والاستدلال، أن ينظر في الكون وأن يقرأ معالم الوحدانية
وكتابي الفضاء أقرأ فيه صوراً ما قرأتها في كتابي
وهي قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز معلقاً على كلام هذا الرجل: لا.
بل أول واجب على المكلف أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهو الصحيح عند أهل السنة، لا النظر أو الاستدلال، لقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم} فأول واجب: أن تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
السابع: لا يهتدي العبد إلا على يد الرسل عليهم الصلاة والسلام، فلا يهتدي على يد المناطقة أو علماء الكلام أو الفلاسفة أو الأطباء أو مشايخ الصوفية ولكن: يهتدي عن طريق الرسل، وخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام، وهداية لا يأتي عليها خاتم المدنية وشارة محمد صلى الله عليه وسلم وعلم أبي القاسم؛ فلا حياها الله ولا بياها، ونسبوا للأستاذ الشهرستاني، صاحب كتاب الفرق أنه تحير في آخر حياته، وقيل: هذا للبغدادي، وقيل لـ ابن الخطيب، الذي يهمنا أن أحد الثلاثة قال هذه الأبيات، لما حضرته الوفاة تحير؛ لأن علمه منطق وفلسفة، ليس فيه (قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم) فقال وهو نادم حائر:
لعمري لقد طفت المعالم كلها وقلبت نفسي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم
وقد رددت عليه ببيتين، والشهرستاني يسمى عند علماء الكلام الأستاذ، وكان مشهوراً، فكان إذا دخل خراسان يستقبلونه على مرحلتين، قلت:
لعلك يا أستاذ زرت أحمدا رسول الهدى المبعوث من خير هاشم
فوالله لو زرته الدهر مرة لما كنت نهباً للقصور القشاعم
واجتمع البطائحية بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقالوا: تعال نعلمك من علومنا، قال: لا.
علم لا يخرج من كيس محمد صلى الله عليه وسلم لا أريده.
فالمناهج كلها ضالة إلا منهجه عليه الصلاة والسلام، والشرائع كلها منسوخة إلا شريعته عليه الصلاة والسلام:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
فهو الحاشر وهو العاقب وهو الذي نسخ الله به الشرائع، وهو المهتدي والهادي وهو الحجة:
في كفك الشهم من حبل الهدى طرف على الصراط وفي أرواحنا طرف
فكن شهيداً على بيع النفوس فما تحوي الضمائر منا فوق ما نصف
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
وأما قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13] فليس فيه حجة للجبرية الذين قالوا: العبد مجبور، يقولون لأحدهم: لماذا لا تهتدي؟ قال: لو شاء الله أن يهديني لاهتديت، وقال المشركون: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] قال: فاحتجوا بحجة هي عليهم فقال الله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149] وقال أحد الزنادقة -عليه غضب الله- لما قالوا: إبليس لم يسجد، قال: من إبليس؟! من الذي أغوى إبليس؟! من هو شيطان إبليس؟!
يقول: إذا كان غوى إبليس فمن هو شيطانه.
وقال زنديق آخر:
وكنت امرأً من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
يقول: كنت تلميذاً عنده فأغواني، حتى صرت أكثر منه فأصبح من جندي، وقال زنديق ثالث:
نصب اللحم للبزاة على ذروتي عدن
ثم لاموا صبابتي في فتون من افتتن
لو أرادوا صيانتي حجبوا وجهك الحسن
يقول: كيف يخلق الله وجهاً حسناً ويأمرنا ألا ننظر إليه؟! فإذا نظرنا وافتتنا؛ لامنا.
فهو يعترض على الله، وقال ابن الراوندي وعنده كسرة خبز يأكلها وكان فقيراً فيلسوفاً ملحداً، ألف كتاب الدامغ على القرآن وقد وقف على النهر فمر مولى عنده خيول وجمال وبقر، قال: لمن هذه الخيول والجمال والبقر؟ قالوا: لفلان العبد، فالتفت إلى السماء، وقال: أنا فيلسوف الدنيا تعطيني كسرة خبز، والعبد هذا تعطيه هذه الخيل والبقر والغنم ثم رمى بالكسرة في النهر، فكان أهل السنة يترجمون له فيقولون: الكلب المعفر، الذي اعترض على قدرة الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وقال زنديق رابع:
أيا رب تخلق أغصان رند وألحاظ حور وكثبان رمل
وتنهى عبادك أن يعشقوا أيا حكم العدل ذا حكم عدل
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149] أما الرد على هؤلاء، فيقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13] فلو شاء الله أن يهتدي من في الأرض؛ لهداهم جميعاً بكلمة كن، ولكن بيَّن طريق الخير، وبيَّن طريق الشر، ولم يجبر أحداً على الضلالة وقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] وبين طريق الجنة وطريق النار، وأنزل الكتب وأرسل الرسل، ونصب الصراط على النار، وخلق جنة وناراً، وخلق حواساً للعبد، ثم تركه لينظر ماذا يرى، وإلا ففي علمه سبحانه أنه يعلم من يضل ومن يهتدي.
الثاني: نرد عليهم بمنطوق الواقع، فنقول: أنت لا تقبل من زوجتك أو غلامك إذا احتجوا عليك بالقضاء والقدر، فلو قام ابنك وضربك على وجهك كفاً، فقلت له: لمَ ضربتني؟
قال: قدر الله أن أضربك، لما قبلت قوله، ولذلك رد عمر على السارق لما سرق، قال: [[لمَ سرقت؟ قال: قدر الله علي أن أسرق، فقطع يده عمر فقال: لمَ قطعت يدي؟ قال: قدر الله علي أن أقطع يدك]].
وهذه هي الحجة البالغة: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149].(243/10)
حقيقة الهداية في الجنة
وأما قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن المؤمنين لما سكنوا مساكن الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] فقال عامة المفسرين: الحمد الذي هدانا لطريق الجنة بالعمل الصالح فاهتدينا، وقال غيرهم: الحمد لله الذي هدانا منازلنا فعرفناها في الجنة، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {للمؤمن في الجنة أدل بمنزله منه في الدنيا} فيدخل المؤمن في الجنة فيعرف منزله، تلك المنازل:
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
أما والذي شق القلوب وأوجد الـ ـمحبة فيها حيث لا تتصرم
وحملها جهد المحب وإنه ليضعف عن حمل القميص ويألم
لأنتم على بعد الديار وقربها أحبتنا إن غبتم أو حضرتم
قال: فالمؤمن يهتدي إلى منزله، كيف يهتدي؟ لأن الجنة واسعة عرضها السماوات والأرض، ومنزلك قد يكون في أقصاها، وأقل من يسكن الجنة له عشرة أمثال الدنيا، فيهتدي إلى منزله دون أن يعرف أو يدل، وذلك بهداية الله سبحانه، والصحيح أن: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف:43] أي: للعمل الذي أدخلنا الجنة، فإن الجنة تدخل برحمة الله وتنزل بالأعمال، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] فظاهر الآية أنه يدخل الجنة بالعمل، بينما قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام لما قال: {لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: حتى أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته} قال ابن القيم: والجواب بين الآية والحديث أن الدخول في الجنة لا يكون إلا برحمة الله، ولا يدخل أحد بعمله، وأما النزول في المنازل والدرجات فبالأعمال، وهذا هو الصحيح المعتبر.(243/11)
وقفة مع معاني: العفو والعافية
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (وعافني في من عافيت) فإن هناك نعيماً في الدنيا ونعيماً في الآخرة، فنعيم الدنيا عافية، ونعيم الآخرة عفو، فلا يتم نعيم الآخرة إلا أن يعفو الله عن ذنوبك، ولا يتم نعيم الدنيا إلا بأن يعافيك الله في جسدك.
قالوا لأحد الأطباء: ما هي السعادة؟ قال: أن تعافى، وقالوا لأحد الحكماء: ما هي السعادة؟ قال: عافية في الدنيا وعفو في الآخرة، وعند أحمد في المسند أن العباس قال: {يا رسول الله! علمني دعاءً أدعو الله به، قال: قل: اللهم إني أسألك العفو والعافية} وقال له مرة: {يا عم! سل الله العفو والعافية} فما أوتي العبد بعد العفو خيراً من العافية في الأبدان، فالمريض لا قرار له، ولا صحة ولا عافية له، ملكوا الدنانير والقصور فمرضوا فما وجدوا لها حلاوة، فالمريض لا نعيم له.
كان الجاحظ الكاتب الشهير، والبلاغي النحرير، المعتزلي مريضاً وعنده الدنانير التي أعطاه الخلفاء، فيدخل عليه الزوار بأكياس الذهب والفضة، ويقولون: خذ من الخليفة، فيتقلب ويبكي ويقول:
أترجو أن تكون وأنت شيخ كما قد كنت في عصر الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب جديد كالبلي من الثياب
يقول: ماذا أريد بها وأنا في هذا المستوى وفي هذا المرض، وكان أحد أدباء خراسان، يطلب المال في العشرين والثلاثين والأربعين من عمره، فما وجد درهماً واحداً، وكان فقيراً، فلما بلغ الثمانين استدعاه الخليفة وولاه الكتابة وأعطاه راتباً، وجارية له، فبقي يبكي في الليل فقال له أبناؤه: مالك تبكي؟ فنظم قصيدة قال:
ما كنت أرجوه إذ كنت ابن عشرينا ملكته بعد أن جاوزت سبعينا
تطوف بي من بنات الترك أغزلة مثل الضباء على كثبان يبرينا
يحيين بالحب ميتاً لا حراك به وهن يقتلن بالتسعين تسعينا
قالوا أنينك طول الليل يزعجنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا(243/12)
الفرق بين المغفرة والعفو
قال صلى الله عليه وسلم: {العفو والعافية} العافية في البدن، والعفو في الآخرة.
أيها الإخوة: الفرق بين المغفرة والعفو أن المغفرة أخص والعفو أعم، وذلك كقول الإنسان للطالب: غفرت لك، فمعناها: أنك سامحته من العقاب، ولكنك قد تكون عاتباً عليه، وإذا قلت: عفوت عنك، فمعناه: أنك غفرت له العقاب ولم تعتب عليه، وهذا هو الصحيح، قالوا: عفا الملك، يعني: لم يعاتب ولم يعاقب، وقالوا: غفر أي: لم يعاقب وربما عاتب.(243/13)
منزلة العفو
وأما قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] فهي ثلاث منازل للأولياء.
المنزلة الأولى: منزلة الكظم: أن تكظم غيظك عن الناس لكنك قد تحمل في قلبك عليهم غلاً وحسداً وحقداً، وهذه منزلة لا بأس بها.
المنزلة الثانية: منزلة أن تعفو عنهم، فلا تعاتبهم ولا تؤذيهم، وهذه منزلة ثانية أحسن.
والمنزلة الثالثة: والله يحب المحسنين، أن تعفو عنهم ولا تؤذيهم ولا تحمل عليهم، وتنفعهم وتهدي لهم.
وقف خادم على رأس هارون الرشيد ومعه إبريق يصب منه ماءً حاراً، فسقط الإبريق من الخادم على رأس هارون الرشيد، وهو ماء حار كاد أن يذهب صفحة وجهه، فالتفت مغضباً وحوله الأمراء والوزراء والجيش، فقال الخادم وكان ذكياً: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:134] قال: قد كظمت، قال: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] قال: عفوت عنك، قال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] قال: أعتقتك لوجه الله، ذكر ذلك صاحب البداية وصاحب العقد الفريد.(243/14)
تفسير قوله تعالى: (عفا الله عنك)
وأما قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43] فهو رفع العتب، فالرسول صلى الله عليه وسلم اعتذر المنافقون عنده فصدقهم عليه الصلاة والسلام وقَبِل ظاهرهم، فقال الله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة:43] قالوا: رفع للعتب، يعني: لا نعتب عليك:
إن جرى بيننا وبينك عتبٌ وتولتْ بنا عليك قصار
فالدموع التي عرفت كثار والدموع التي صحبت غزار
فالمعنى: عفا الله عنك لا نعاتبك، أما العقاب، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعيد منه؛ لأن الله يقول: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح:2] إنما لا نعاتبك، لأنه ورد: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] وهذا عتاب، وأما في المنافقين فقال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة:43] قال أهل التفسير: والملحة في الجملة -يعني: الطريف في الجملة- أنه قدم العفو قبل أن يتكلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان أحد القراء يقرأ ويبكي فيقول: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة:43] ثم يقف، ثم يقول: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43] ولو نزل جبريل فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43] لخاف الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة:43] فما يأتي بعدها سهل، فقال: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43] هذا هو الوجه البلاغي والملحة في الجملة.
وأما قوله: {اللهم إني أسألك العفو والعافية} فإنه من أفضل الدعاء، وهو من جوامع الدعاء، وهناك دعاءان اثنان أوصي نفسي وإياكم بهما، الأول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] والثاني: {اللهم إني أسألك العفو والعافية} فهما يجمعان المحاسن.(243/15)
أقسام الولاية
وأما قوله: {وتولني في من توليت} فإن الولاية ولايتان: ولاية عامة، وولاية خاصة، فولايته العامة هي لعامة المؤمنين، بما فيهم الظالمين لأنفسهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32].
وأما الولاية الخاصة فهي: ولاية لأحبابه وأوليائه أهل الليل والتهجد والدعوة والبذل والعطاء، وأهل الغيرة على محارم الله، ونصرة طلبة العلم ونصرة العلماء، والكتاب والسنة، فهؤلاء لهم ولاية خاصة.(243/16)
الولي عند الصوفية
والولاية ما هي؟ صفة الولي عند الصوفية: هي من صافى فصوفي، وكافى فكوفي.
وقال غيرهم: الولي من يلبس العباء ويجلس في الخفاء.
وقال غيرهم: الولي من تراه بين الناس كأنه دعي، وتراه بين الأدعياء وكأنه ولي.
وهذه خزعبلات لا تجدي، والتعريف الصحيح هو قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56].(243/17)
كيف تعرف ولي الله
وكيف يعرف الولي؟
قالوا: بإقامته للفرائض وتزوده من النوافل، وباجتنابه الكبائر والصغائر، والصحيح أن هذا فيه نظر، وأن الأولياء على قسمين -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -: مقتصد، وسابق بالخيرات.
فالسابق بالخيرات من يأتي بالفرائض والنوافل ويجتنب الكبائر والصغائر، وهذا في حديث البخاري الذي رواه أبو هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بأحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه} فانظر كيف قسمهم إلى قسمين؟!
وأما المقتصد: فمن يأتي بالفرائض وربما ترك المستحبات، ومن يترك الكبائر وربما وقع في الصغائر، فهذان قسمان في الأولياء.(243/18)
ولاية الله تنال بالعبودية لله
وولاية الله لا تنال إلا بالعبودية، قال ابن القيم في مدارج السالكين: من أراد السعادة الأبدية فليلازم عتبة العبودية، ولا تنال الولاية إلا بطاعة الله.
والأولياء ليس لهم أنساب، بل نسبهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وسببهم: آية: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وبيوتهم: المساجد، وعصيهم التي يتوكئون بها ويهشون بها على أغنامهم: لا حول ولا قوة إلا بالله، وترسهم الذي يحاربون به في المعارك: حسبنا الله ونعم الوكيل، وأحذيتهم: الصبر، وزادهم: الفقر، وإمامهم: محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا قال: الله أكبر، قالوا: الله أكبر، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، قالوا: ربنا لك الحمد، وأصحابهم وأصدقاؤهم سلمان وأبو عبيدة وعمار ومصعب، قال: {دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها}.
فهؤلاء أولياء الله عز وجل، اسمهم: أهل السنة، قيل لأحد السلف: من هم أهل السنة؟ قال: الذين ليس لهم اسم إلا أهل السنة، قال مالك: السنة سفينة نوح، من ركب فيها سلم، ومن تخلف عنها غرق أو هلك.(243/19)
مسائل تتعلق بقوله: وبارك لي فيما أعطيت
أما قوله صلى الله عليه وسلم: {وبارك لنا فيما أعطيت} فبارك من مادة برك، يعني: كثر، تقول: تبارك الماء يعني: كثر.(243/20)
معنى تبارك الله
ويقال لله عز وجل بدون تعدية للفعل: تبارك الله، تبارك الله رب العالمين، يعني: تنزه عن النقائص والعيوب، وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] تنزه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
والبركة تدخل في الشيء فتجعل القليل كثيراً، والبركة تدخل الجسم فتجعل الضعيف قوياً، وتجعل الذليل عزيزاً، وتجعل البعيد قريباً، والبركة مادة إكسير الحياة، وهي مثل الحب، إذا وضعت في شيء نما وزاد بإذن الله وهي بركة من الله، والبركة إذا نزعت من الشيء لا ينفع كثيره فيصبح خبيثاً، ولا ينفع قويه فيصبح ضعيفاً، ولا ينفع قريبه فيصبح بعيداً، وتتقطع به الحبال.
فالبركة من الواحد الأحد، ينزل الغيث بلا بركة فيسيل ماءً لا ينتفع به، وتنزل البركة في الماء القليل فيصبح مدراراً غزيراً وينتفع به.(243/21)
الهداية أعظم عطاء من الله
فيقول: {وبارك لي فيما أعطيت} والعطاء من الله: عطاء معنوي، وعطاء حسي، وأعظمها عطاءً: الهداية، وعطاء الابن والزوجة، وعطاء المسكن واللباس.
قال: {وبارك لي فيما أعطيت} فإذا لم يبارك الله عز وجل؛ لا ينفع مال ولا ولد ولا زوجة ولا مسكن، وإذا نزعت البركة أصبح العبد مطروداً عن باب الواحد الأحد، فعلى العبد أن يطلب من الله البركة، ولا يطلب الكثرة بلا بركة، فإنها لا تنفع ولا تجدي، فقد كان كثير من الفجرة والطغاة والخونة على مر التاريخ ولا زالوا؛ يملكون القصور، والدور والملايين والسيارات، ويلعبون بالشيكات، ومع ذلك نزع الله البركة من أموالهم، فما استفادوا منها لا في دنيا ولا آخرة، ولا رفعوا بها معلماً، ولا حاربوا بها أعداء الله، ولا نصروا بها الدين، ولا أنفقوها في سبل الخير، إنما أنفقوها في أغنية ماجنة، أو مطاردة صيد، أو لهو ولعب، أو خمر وسهر، فهذا من نزع البركة -والعياذ بالله- وربما تحمل أنت درهماً واحداً أو ريالاً واحداً، أجدى عند الله ممن يحمل الليلة مليوناً؛ لأنها نزعت منها البركة.(243/22)
تقدير الله للخير والشر
وأما قوله: {وقني شر ما قضيت} فالله عز وجل هو الذي كتب الخير والشر، والمانوية قالت: إله الخير النهار، وإله الشر الليل، والمانوية فرقة شمالية شرقية، كانت تسكن فيما يقارب وراء نهر سيحون وجيحون من حدود الصين إلى قرب الاتحاد السوفيتي.
وهذه الفرقة ضالة كافرة، تعبد الليل والنهار، فالنهار والنور عندهم إله الخير، والظلمة إله الشر، فرد الله عليهم في أول سورة الأنعام فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] تقول المانوية: من قاتل في الليل لا ينتصر، وتوصي ملوكها: ألا تقاتل في الليل، وسيف الدولة الحمداني كان والياً في الشمال، قاتل في الليل فغلب الروم أربع عشرة مرة في الليل، فحياه المتنبي -شاعره- وقال:
فكم لظلام الليل عندك من يد يحدث أن المانوية تكذب
يقول: كم أهدى لك الليل من نصر، وهذا يكذب ما تقول المانوية، فهي تقول: لا تنتصر، وأنت انتصرت أربع عشرة مرة.
فرد الله عليهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى بأنه خلق الليل والنهار والظلمة والنور، والسماوات والأرض.(243/23)
حكم نسبة الشر إلى الله
فهل ننسب الشر إلى الله! في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: {والخير بيديك، والشرك ليس إليك} وما أحسن هذا الكلام! الخير بيديك وكلتا يديه يمين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهي ملأى سحاء في الليل والنهار لا يغيضها منذ خلق السماوات والأرض، قال صلى الله عليه وسلم: {أرأيتم ما أنفق الله منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض} وفي بعض الروايات: {إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر}.
قال: {والشر ليس إليك} فالذي قدر الشر والخير هو الله، لكن لا ينسب الشر إلى الله؛ لأنه من تقديره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالنسبة إليه خير محض، فهو لا يكتب الشر، لكن قد يكون شراً بالنسبة للعبد، ولذلك انظر إلى تأدب الجن، لما أرادوا أن ينسبوا الشر قالوا: (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10] فما أحسن المبني للمجهول! قال أحد البلاغيين: لله دركم! حتى أنتم تدركون اللغة العربية.
وقال سيد قطب في الظلال عند قوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن:1]: عجباً! حتى الجن يتذوقون القرآن، حتى أنتم تعيشون مع هذه الأسرار البلاغية، ولذلك قال: قالت الجن لما جلسوا في المناصب والمقاعد يستمعون وينظرون إلى الشهب وهي تحرق المردة، قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10] تغير الكون، كنا نستمع الكلام فاحترقنا الآن، ولا ندري ما حدث في الكون، قال ابن عباس: اجتمع الجن في نصيبين، فقال شيخهم: انتشروا في الأرض فقد وقع الليلة شيء في الأرض، ما هو الذي وقع؟ هل هو اكتشاف القنبلة الذرية؟ أو بركان أو نزول أبولو على سطح القمر؟ أو انشقاق البحر؟ لا: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1 - 2] إنه رجل أمي خرج من الصفا في مكة يقود البشرية إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
فقالوا: أُريد، وهي من أجمل ما أتى! قال: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10] فهنا أتى بالفاعل وهناك جعل الفعل مبنياً للمجهول وحذف الفاعل.
وقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:78 - 79] فقال: خلقني الله، ورزقني الله، ويطعمني الله، ويهديني الله، ويسقيني الله، قال: (وإذا مرضت) فالذي يمرض هو الله، ولكن ما قال: والذي أمرضني، فاستحيا من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] قالوا: عليك السلام أيها الخليل كيف تأدبت بأدب الخلة!
كذلك يقول أيوب عليه والسلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] ولم يقل مسستني بضر، ولم يقل: أنا مريض أو أمرضتني، بل قال: مسني الضر، ويقول: لا أدري من أين جاء هذا الضر -في ظاهر الخطاب- مع العلم أنه يدري أنه لا يمسه إلا الله عز وجل، وهذا من باب التأدب.(243/24)
الحكمة من تقدير الشر
فقال: {وقني شر ما قضيت} قال أهل العلم من أهل السنة: قد يكون القضاء في حق العبد شر بالنسبة إليه، وأما بالنسبة لقضاء الله المطلق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولقضائه الشرعي الأمري فهو خير كله، فتبارك الله رب العالمين.
حتى يتساءل بعض الزنادقة، يقول: ما الفائدة من خلق الذباب والبعوض؟ وما الفائدة من خلق الشوك والطلح الذي لا ثمر فيه؟ وما الفائدة من خلق البحار المالحة، التي مثل بحيرة طبرية؟
وأبو جعفر قال له طبيب وكان زنديقاً: إذا دخل عليك أحد العلماء، فحاول أن تبكته، وقل له: لماذا خلق الله الذباب؟
فدخل ابن السماك الواعظ -واعظ المسلمين- على الخليفة، فجلس وجلس العلماء حول أبي جعفر، فساق الله ذباباً من الكبار، فوقع على أنف أبي جعفر المنصور، فوقع على أنف الخليفة وأحرجه أمام الناس، فقال بالذباب هكذا فطار، ثم رجع إلى قواعده سالماً على أنف أبي جعفر.
وأبو جعفر هذا يذبح الملوك كذبح الشياه، قد ذبح أعمامه الأربعة، وذبح أبا مسلم الخراساني، وذبح هرثمة بن أعين، وكان يتصيدهم كصيد الغزلان، داهية من دهاة الدنيا، ومن النادر أن تجد في التاريخ مثله، فهو صنديد من أبناء ابن عباس، حكم الدنيا، وهو الذي بنى مدينة السلام وكان عالماً جهبذاً، يرتجل الخطبة، ولا يفكر في الموضوع إلا إذا جلس على المنبر.
فأتى الذباب وأحرجه أمام الناس، فأخذ يضرب بيده اليسرى مرة وباليمنى مرة، فقال: يا بن السماك! لماذا خلق الله الذباب؟ قال ابن السماك: ليذل به أنوف الطغاة.
وهذا من أحسن ما قيل! فلله الحكمة البالغة، وقد يكون من أسرار خلق الذباب أن يذل الله به أنوف الطغاة، فإن بعضهم تجده لا يستطيع أن ينظر إلى البشر، وكأنه من طينة أخرى، لا يلتفت إلى الناس ولا يتكلم معهم، وإذا جلس في المهرجان أو العرض العسكري، أتى الذباب وجلس على أنفه، يعني ضاقت الدنيا إلا على هذه القواعد والمطارات الجاهزة.(243/25)
بيان معنى قوله: (إنك تقضي ولا يقضى عليك)
قوله: {إنك تقضي ولا يقضى عليك} يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] اسمع اللطافه، يقول: إذا حكم سُبحَانَهُ وَتَعَالى لا معقب لحكمه، لأن أهل الدول والنظم، يبقى التوقيع الأخير لأكبر مركز في الدولة، فإذا وقع عليه لا يجوز لأحد أن يوقع بعده، فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] يقول: فإذا وقع على قضية وأنهاها، فلا يأتي أحد من البشر سواء من الملوك أو الجبابرة، ولا من الأكاسرة والقياصرة، يوقع عليه بعده، وإن وقع عليه فالنار مثواه: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41].
ولذلك سمى ابن القيم كتابه: إعلام الموقعين، ومعناها: الموقعين عن رب العالمين، فلا يوقع عن الله في الأرض إلا العلماء: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] فهم يوقعون عن الله الفتاوى، ولذلك فتيا أهل العلم توقيع عن الله.
وقوله: {إنك تقضي ولا يقضى عليك} فلا يقضي على الله أحد: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] والناس لا يدرون! تجد الإنسان يسرح ويمرح وقضى الله عليه أن يموت بعد لحظة! تجده في سلطان وقضى الله عليه أن يُخلع بعد وقت، فلا يدري.
قال ابن القيم عند قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] يُغني فقيراً ويجبر كسيراً، ويعافي مبتلى، ويشافي مريضاً، ويرد غائباً، ويميت حياً، ويخلع ويعزل هذا، ويولي ويملك هذا، ويغني هذا ويفقر هذا: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29].
فالصحف تصعد وتنزل، والملائكة تعمل، وسفراء الوحي واقفة، والسماء في أمر عجيب، والأرض في نبأ غريب، ومع ذلك لا يلهيه شأن عن شأن.
أنا أمام الله فرد واحد، يدري بحياتي ومستقبلي ومعاشي من دقيقة وجليلة، وأنت وكل رجل منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة، ثم يخلقهم ويرزقهم ويعافيهم ويبتليهم ويحاسبهم، بل أعظم من ذلك:
{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].(243/26)
حقيقة العزة
وأما قوله: {إنه لا يذل من واليت} فيقول بعض العلماء: من انتسب إلى الله أعزه بلا عشيرة، ونصره بلا قوة، وأيده بلا تأييد أرضي، وهؤلاء يسمون: المنتسبون إلىالله، ويسمون: الربانيون، ويسمون: المحمديون، أو الأحمديون، أو المؤمنون أو أولياء الله.(243/27)
السلف والعزة
وقال: {إنه لا يذل من واليت} فمن والى الله لا يذل أبداً، وقد تأتيه ضربات ومصائب لكن قالوا: لا يذل، وتأتيه كوارث قالوا: لا يذل وتأتيه حوادث، قالوا: لا يذل.
قال أبو إسماعيل الهروي مؤلف منازل السائرين الذي يسمى شيخ الإسلام وشيخ خراسان قال: عرض عليه من الكرب ما لا يعلمه إلا الله، وأتت عليه من المشكلات ما تدلهم به الليالي السود، يقول: كنت إذا ضاقت الضوائق أضع خدي على التراب وأقول: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:6] فيكشف عني الله الغمة، قال وهو يتحدث عن نفسه: والله! لقد عرضت على ملك خراسان خمس مرات، يعرض علي السيف ويضع السيف بين أذني فأقول: يا كافي! فيكفيني الله.
وخرج ابن تيمية من سجن الإسكندرية، فقالوا: الناس يريدون قتلك وتمزيقك، فنفخ في كفه وقال: والله كأنهم الذبان عندي:
رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يصب
تدبير معتصم بالله منتقم لله مرتقب في الله مرتغب
فهذا يقول: إنه لا يذل من واليت.(243/28)
أعداء الله لا يجدون العزة أبداً
وقوله: {ولا يعز من عاديت}:
أما من عادى الله فلا يعز أبداً، تقول لي: أناس يعادون الله مع أننا نراهم في عزة، ونراهم في صولة وصولجان وأبهة، ونراهم في مظهر عظيم، دندنة وهمهمة ومع ذلك هم أعداء لله، قال الحسن البصري مجيباً على هذا السؤال، وقد مر به ابن هبيرة أحد الأمراء وقد لبس حريراً وعنده بغال وموكب، قال: [[والله! إن ذل المعصية في قلوبهم ولو هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال، أبى الله إلا أن يذل من عصاه]].
ف
الجواب
قال أهل السنة: هؤلاء الذين يظهرون بالعزة وهم أعداء لله أو عصاة لله في قلوبهم انكسار وخوف لا يعلمه إلا الله، فقلوبهم مكسورة من داخل، فيها حقارة وشناعة مستترة:
من تداجي يا بن الحسين أداجي أوجهاً تستحق ركلاً ولطما(243/29)
قصة عطاء مع سليمان بن عبد الملك
فمعنى: {لا يعز من عاديت} أنه لا يجد العزة أبداً، فالعزة محصورة لله ولرسوله وللمؤمنين، وهذه العزة يجدها العبيد والموالي في أبسط صور الحياة.
عطاء بن أبي رباح مفتي مكة، كان مولى مفلفلاً مهلهلاً أعتق من امرأة، فأتى سليمان بن عبد الملك يريد أن يستفتيه قال لـ سليمان: انتظر مع الناس حتى يأتي دورك، فقال سليمان لأبنائه: تعلموا العلم واتقوا الله، فوالله! ما أذلني أحد من الناس إلا هذا العبد هذا اليوم.
لماذا؟ {إنه لا يعز من عاديت} ولماذا؟ {إنه لا يذل من واليت} وهذا أمر معلوم بالفطر والأخبار والواقع والتاريخ: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62].
قال وزاد: {وصلى الله على النبي عليه الصلاة والسلام} ونحن نصلي عليه دائماً، فالدعاء لا بد أن تطعمه بالصلاة عليه، وهذه رواية يضعفها بعض العلماء ولكن: المعنى صحيح، فالصلاة تقدم في أول الدعاء وفي أوسطه وآخره، صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحاكم وابن حبان: في رواية الحسن: {علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود} والمعنى: في آخر ركعة إذا رفعت من السجود وقلت: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، حمداً طيباً مباركاً فيه، أن ترفع يديك ثم تبدأ بهذا الدعاء العطر، وإذا كان معك أناس وأنت تدعو بهم، فقل: اللهم اهدنا في من هديت، وعافنا في من عافيت، وهو من أجمل الدعاء! ولا يصوغه إلا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يستطيع لهذه الجوامع من الكلم إلا هو، فإنه غذي بهدي النبوة صلى الله عليه وسلم وشرب رحيقها، وعاش في حديقتها، وابتنى دارها، فهو يقول: {أوتيت جوامع الكلم وفواتحه وخواتمه، واختصر لي الكلام اختصاراً} أما حديث: {أنا أفصح من نطق بالضاد} فلا يصح: {بيد أني من قريش} لا يصلح، بل هو أفصح من تكلم بالضاد عليه الصلاة والسلام وأفصح الناس جميعاً.
وفي هذا تتجلى أسرار البلاغة والعمق في كلامه عليه الصلاة والسلام، فإنك إذا قارنت كلامه بكلام غيره، بان لك الخلل والبون الشاسع، فانظر كيف حوى سعادة الدنيا والآخرة في هذه الكلمات! فبدأ بالهداية، ثم الولاية، ثم الرعاية، ثم الكفاية، ثم أتى صلى الله عليه وسلم بالعافية، ثم ذكر الأبدان، ثم الأموال، ثم ذكر المستقبل في الآخرة، ثم أمر الدنيا، ثم ختم عليه الصلاة والسلام بالصلاة عليه ليرتفع الدعاء.(243/30)
أصناف المهتدين
أما قوله: {اللهم اهدني في من هديت} فإن الله هدى أربعة أصناف من الناس لا خامس لهم، والذي لا يسلك مسلكهم فليس من الهداية في شيء: الأنبياء، والشهداء، والصديقون والصالحون.
أما الأنبياء والرسل فهم قادة العالم، وهم الذين يسيرون سفينة الحياة، ويوصلون الخلق بالخالق، وهم الذين يعلِّمون أسرار الوحي للبشرية، وهؤلاء انتهى أمرهم وخاتمهم وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لك أن تقول: اللهم اجعلني من الأنبياء أو الرسل، فإن هذا من التعدي في الدعاء.
وأما الصديقون: فهم أناس كدرجة أبي بكر الصديق، أصبحت أنفاسهم لله، ودموعهم ودماؤهم وأموالهم لله، فليلهم ونهارهم لله، فهم لله، فبه يسمعون، وبه يبصرون، وبه يبطشون فهم كلهم: حركاتهم وسكناتهم لله:
يطالب بالأوراد من كان غافلاً فكيف بشهم كل أيامه ورد
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وقال آخر:
متيم بالندى لو قال قائله هب لي فديت كرى عينيك لم ينم
وقال آخر في معالي الدنيا فكيف بمعالي الآخرة:
أتاني المعالي وهو ضيف أحبه فأطعمته لحمي وأسقيته دمي
وهذا من الأولياء كما فعل أبو بكر الصديق، فإنه أطعم الإسلام لحمه، وسقى الإسلام دمه، وكان في كل لحظة مع الإسلام فالإسلام أبو بكر وأبو بكر هو الإسلام، فأصبح صديقاً، رجف جبل أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فقال: {اثبت أحد فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد} فكان النبي هو صلى الله عليه وسلم، والصديق أبو بكر، والشهيد عمر وعثمان.
وأما الشهداء فأناس أتوا إلى الله عز وجل بأرواحهم في أكفهم، فباعوها في سوق الربح، بأغلى الأثمان، فعوضهم الله الجنة، وجازاهم أنه يكلمهم كل جمعة في الجنة، وهم يجلسون إما على منابر من نور أو على كثبان المسك، فيخاطبهم مباشرة ويتعرض لأيامهم في الدنيا، فيذكرهم بأيامهم وأزواجهم وأبنائهم في الدنيا كل يوم جمعة، وهو يوم المزيد.
وأما الصالحون فهم: المصلون، الصائمون، العاكفون على طاعة الواحد الأحد، أولياء الله الذين يحبون دينه وأولياءه وينصرونه ويغضبون له، ويغتاظون على محارمه، ويحبون أن ينتشر الإسلام، وأن ترتفع كلمة الله، أما غيرهم فخاسرون.
وانقسم الناس أمام الهداية في قوله: {اهدنا فيمن هديت} إلى أربعة أقسام:
الأول: قوم فعلوا المأمور وتركوا المحذور وهم أولياء الله.
الثاني: قوم فعلوا المأمور والمحذور وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
الثالث: قوم تركوا المأمور والمحذور وهم الصابئة والمجوس.
الرابع: قوم تركوا المأمور وفعلوا المحذور وهم الزنادقة والملاحدة.
هذا في مسألة: {اهدنا في من هديت}.(243/31)
كيفية زيادة الهداية
وأما مسيرة اهدنا في من هديت، فهي تبدأ من نوح عليه الصلاة والسلام، بل قال أهل العلم: من آدم عليه السلام.
والله عز وجل وصف نفسه أنه على صراط مستقيم، فقال: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] فهو الذي يهدي ومنه الهداية: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] ولتعلم أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم في أمور التشريع: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ثم قال له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] قال أهل العلم: أي: تدل وترشد وتنصح، تقول الجنة من هنا والنار من هنا، الصلاة والمسجد هنا، والمصحف هنا، مع العلم أنك لا تهدي، أي: لا توجه القلوب، فالذي يوجه القلوب هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهو الذي يرشدها ويدلها.
ومن اللطائف أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً يصعد في درجات الكمال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات.
فأنت لا تفكر باليوم، فربما تكون الليلة ناقص الإيمان، وربما يكون إيمانك مزعزعاً، ربما تكون عندك شهوات وشبهات، ولكن انتظر يوم تسقي شجرة قلبك بماء الطاعة، كيف تأتي أكلها كل حين بإذن ربها، وانتظر مستقبلك بعد عشر سنوات أو مثلها، فـ أبو بكر لما أسلم لم يكن مثله لما مات، يوم أسلم كان يعرف مجمل الدين، فلما مات كان صديقاً من الصديقين الكبار، وهكذا يبدأ الإيمان يزرع، ويسقى بماء التوبة، وسماع الدروس وحضور المحاضرات وحب الصالحين، ويسقى بماء الغضب لله عز وجل والوقوف مع (لا إله إلا الله) بماء الانتصار لـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] بماء الغضب على العصاة والفجرة والمردة والفسقة الذين يعادون لا إله إلا الله والعلماء والصالحين والدعاة، فهذه إذا سقيتها آتت أكلها كل حين.
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح:29] قالوا: زرعوا لا إله إلا الله؛ فأتت بالصلاة والزكاة والصيام والحج، فلما أخرجت شطأها واستوت: آزرت بالنوافل وحب الصالحين، وبالدعوة، وبالفقة في الدين، فلما آزرتها بالثمار، آتت بحلاوة لا إله إلا الله محمد رسول الله وهو الموت في سبيل الله، فلما أتت الحلاوة ذاقوها، قال صلى الله عليه وسلم: {ذاق طعم الإيمان: من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً}.
واختلفوا بين الذوق والحلاوة، قالوا: الحلاوة تأتي بثلاث وهي في أصل الثمرة، يقول صلى الله عليه وسلم: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان} وقال عند مسلم من حديث العباس: {ذاق طعم الإيمان} فاختلف أهل السنة من الشراح هل يذوق الحلى قبل أن يذوق الوجد أم لا، والصحيح أن الحلى آخر شيء، وأن من بلغ منزلة: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان} وعسى أن يكون هناك محاضرة لشرح هذا الحديث الضخم العجيب: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواها، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار} متفق عليه من حديث أنس.
فالمقصود هنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ غاية الولاية لله عز وجل، وغاية المنزلة، وفي قوله طلب الهداية وأنه سيد المهتدين، رداً على طوائف: كطائفة الصوفية الغلاة، الذين قالوا: إن الولي أعظم من النبي، وكذبوا -لعنهم الله-.
وبعض الناس قالوا: الأئمة معصومون وهم أفضل من الأنبياء -عليهم غضب الله- بل الأنبياء أفضل عباد الله، فقد اصطفاهم الله واختارهم واجتباهم وجعلهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى قدوة وصفوة للناس.
هذه من منازل الهداية ومن منازل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وتحتاج: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] إلى كلمة ومحاضرة وشرح عن هذه الكلمة المباركة وعن الصراط وعن المستقيم ومن هم سالكوه ومن هو إمامه، وهل هناك سبل أخرى؟ وما صفات هذه السبل؟ وكيف يتجنب العبد هذه السبل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
{اللهم اهدنا في من هديت، وعافنا في من عافيت، وتولنا في من توليت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت} وزاد بعض العلماء: {اللهم لك الحمد على ما قضيت، ولك الشكر على ما أعطيت} إلى غيره من الدعاء، ولكن وقف الحديث الحسن إلى هذا المعنى الحسن، وهي جمل باهرة في معالم التوحيد، وعلى العبد إذا أراد أن يوتر في الليل أن يستفتح وتره بهذه الكلمات بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يزيد ما شاء الله له من الكلام الطيب العجيب، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا للحسن أن يحبوه، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يملك دنيا ولا ديناراً ولا درهماً، وليس عنده توزيع المناصب، ولكن عنده توزيع الهدايا:
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
أتته فاطمة ابنته، أمُّ هذا الرجل الصحابي الذي معنا - أم الحسن - أتته في ظلام الليل فقالت: {يا رسول الله! عندك سبي -والسبي الخدم والجواري من بعض المعارك- فأعطني خادماً يخدمني، فردها إلى البيت ثم زارها وزار علياً -والحديث في الترمذي - قال: ألا أدلكما على خير لكما من خادم؟ قالا: بلى.
قال: إذا أتيتما مضجعكما -يعني في النوم- فسبحا ثلاثاً وثلاثين، وتحمدان الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبران أربعاً وثلاثين فذلكما خير لكما من خادم} فانظر كيف وجههم إلى الذكر.
وجاءه العباس يسأله مالاً وعمه العباس هو جد الدولة العباسية، جد ستة وثلاثين خليفة، ملكوا ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، يريد مالاً، قال: {يا عم! ألا تريد أن أحبوك؟ قال: بلى، قال: قل: اللهم إني أسألك العفو والعافية}.
وعند الترمذي أن أعرابياً أتى عنده جمل وعليه عيبة، يريد أن يملأه تمراً وزبيباً ودقيقاً، فقال: {يا رسول الله! أريد سفراً؟ فزودني} ولم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فالنبي عليه الصلاة والسلام الذي فتح الدنيا لأتباعه، وفتح القصور والذهب والفضة، مات وهو لم يشبع من كسرة خبز، وما شبع من طعام بر ثلاث ليالٍ متتابعات، تقول عائشة: {والذي أخذ رسوله عليه الصلاة والسلام، ما شبع صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متتابعة من خبز بر، وإنه كان يمر بنا الهلال والهلالان لا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار -يعني ما يجدون شيئاً يطبخونه- قالوا: فما طعامكم؟ قالت: الأسوادن: التمر والماء} ومع ذلك مات في هذه الحالة.
فأتى هذا الأعرابي فقال: {أريد سفراً؟ فزودني، قال: زودك الله التقوى -فترك طلب الزاد لما سمع هذا الكلام- وقال: زدني، قال: وغفر ذنبك، قال: زدني، قال: ويسر لك الخير حيثما كنت} وهذه من أجمل ما قيل! ومن يستطيع أن يصوغ هذه العبارات، فلم يحضر لها صلى الله عليه وسلم ولا أعد، ولكن: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4 - 5].
أيها الإخوة: هذه محاضرة (اللهم اهدنا فيمن هديت) ونسأل الله عز وجل لنا ولكم الهداية والتوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(243/32)
الأسئلة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(243/33)
هل تتكرر هذه المخيمات؟
السؤال
في العام الماضي حجزنا مع مخيمات السبعان، ووجدنا راحة عجيبة في هذه المخيمات، لما فيها من توجيه، وما فيها من ثقافة ووعي، وما فيها من علم نافع وفقه وصحبة للصالحين، فهل تتكرر هذه المخيمات في هذه السنة، والحج فيها للمنطقة الجنوبية؟
الجواب
الذي أعلمه أنها سوف تتكرر هذه المخيمات، وقد وجهت دعوة لبعض الدعاء: ووافقوا على مصاحبة هذه الرحلة، ووافق الشيخ سعيد بن مسفر، وأكون كذلك معه، وكذلك -إن شاء الله- الشيخ أحمد القطان، في هذه القافلة ولا أدري هل بدءوا الآن بالالتقاء بالناس الذين يريدون الحج، أم لا؟ وسوف تكون قافلة -إن شاء الله- تتوجه من أبها إلى مكة، وسوف يكون هناك برنامج ثقافي ودروس ووعظ، وعسى الله عز وجل أن ينفع بها، فهي مخيمات للسبعان، موجود مقرها في أبها، بجانب مسجد النمصاء، مسجد الشيخ سعيد بن مسفر.(243/34)
كتاب في التربية النبوية
السؤال
تفتقر المكتبة الإسلامية العربية اليوم إلى الاهتمام بالجانب التربوي المستمد من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما هو تعليقكم على هذا؟ وهل هناك كتب في الساحة توصي بها طلاب العلم وشباب الإيمان؟
الجواب
نعم أيها الإخوة: إن جانب التربية النبوية لم يكن عندنا فيه ما يغطي ذلك النقص الكبير الذي عاشه المسلمون، وعاشه طلاب العلم في الجامعات والمدارس، ولكن -الحمد لله- الآن ورد خير كثير، وفضل عميم، ومن أحسن ما رأيت وطالعت، بحكم أنه طلب مني أن أنظر في هذا الكتاب وأقدمه، وكذلك قدمه فضيلة الشيخ عبد الرحيم الطحان، وبعض الدعاة.
كتاب: دروس تربوية نبوية، وهذا لأحد الأساتذة الدعاة من مدينة أبها، وهو الأستاذ صالح أبو عراد الشهري مدرس في الكلية المتوسطة، كلية المعلمين، وكتابه قد نزل الآن في المكتبات، وسوف تجدون فيه تربية الرسول وهديه صلى الله عليه وسلم التربية النبوية ودروس تربوية نبوية، هديه صلى الله عليه وسلم في كل دقيقة وجليلة، وأظن في الكتاب ما يقارب عشرين درساً، وهي ممتعة كل المتعة، وتغني عن كتب هؤلاء التي ليس فيها تربية، بل فيها هدم للتربية وهدم للسلوك وللعقل؛ لأنها تخالف الوحي.
فالحمد لله الذي جعل منا من يكتب في هذه الموضوعات، ويستلهم رشده من الكتاب والسنة، ويسد هذا الجانب.(243/35)