ضرورة حفظ الأوقات
السؤال
ما هي نصيحتكم للشباب لقضاء وقت نافع في حياته؟
الجواب
أوصي نفسي والشباب بحفظ الوقت، ومن أعظم المصائب التي أصيب بها شباب الإسلام إلا من رحم الله رخص الوقت عندهم، حتى أصبح الوقت عند الكافر أغلى منه عند بعض المؤمنين، ومن يقرأ كتاب دع القلق وابدأ الحياة لهذا الأمريكي، يلاحظ كيف يحرصون على أوقاتهم، وهم لا يرجون من الله ثواباً ولا أجراً ولا جنة ولا يخافون ناراً.
أكافر يحفظ الوقت، ومؤمن يضيع الوقت؟! {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116]
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجات من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
أشاب الصغير وأفنى الكبير كرُّ الغداة ومر العشي
إذا ليلة أهرمت يومها أتى بعد ذلك يوم فتي
فأعظم ما أصبنا به أننا أرخصنا الوقت، الساعة الواحدة تمر بنا ونحن على إبريق الشاي نتحدث في كلام لا ينفع، من الأسعار والأمطار والأخبار والأنهار والأشجار، فأين حفظ الوقت؟! في ساعة واحدة يؤلف ابن تيمية كتاب التدمرية، وقرر علينا سنة في الكلية فقرأناه وما فهمناه، لأن التدمرية تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، في ساعة واحدة يؤلف كتاباً يقرر في الكلية في سنة ولا يفهمه الطلاب.
ابن تيمية يثني رجله في دقائق فيؤلف قصيدة قوامها مائتي بيت، ثم يرسلها للناس، ويبقى العلماء يشرحونها في مجلدات، وكذلك ابن عقيل الحنبلي، ذكروا عنه -كما ذكر عنه ابن الجوزي في سيرته- أنه ألف كتابه الفنون سبعمائة مجلد، قال: كتاب الفنون ما جعله إلا لفضول الأوقات، يعني فضول الوقت، جعل رزمة من الأوراق عند رأسه فإذا أراد أن ينام كتب قبل أن ينام عشر صفحات، وإذا استيقظ وقال: أصبحنا وأصبح الملك لله كتب عشر صفحات، وإذا مرت به خاطرة سجلها، وإذا أتته فائدة قيدها، كل هذا خارج أوقات الدروس والمحاضرات واللقاءات، فترك للأمة سبعمائة مجلد، حتى يقول: أنا آكل الكعك ولا آكل الخبز؟ قالوا: لماذا؟ قال: وجدت أن بين الوقتين مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية.
ونحن الآن الأيام الطوال والفسح الطويلة والعريضة تذهب سدى ولا تستثمر.
إن مصيبة الوقت عندنا مصيبة لا يعلمها إلا الله، فإني أدعو نفسي وإياكم إلى استثمار الوقت، وأحسن ما يستثمر بعد الفرائض في المطالعة الجادة، وفي الجلوس في حلق العلماء، وطلب العلم وحضور المحاضرات، والكلمات النافعة، ومجالس الخير، وزيارات الأحباب، وتكون الزيارات مرتبة مخطط لها، لاأن تزوره فما يكون في ذهنك أسئلة، فتبدأ تسأله عن نسبه وعن ميلاده وعن سيارته وأخباره ودياره، فهذه ليست بزيارة نافعة، لكن يكون بينك وبينه اتفاق على دروس وعلى شرح آية أو حديث لتكون متهيئاً.
إنها أمور تربوية تركها صلى الله عليه وسلم للناس، يوم كانت أنفاسه حفظاً للوقت، وكلماته حفظاً للوقت، وتحركاته حفظاً للوقت، فكان كله حفظاً للحياة عليه الصلاة والسلام.(204/30)
محبة الخير للمسلمين
السؤال
كيف يعود الإنسان نفسه أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟
الجواب
هذه المنزلة -منزلة أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك- منزلة عالية وعظيمة، نسأل الله أن يبلغنا وإياكم إياها، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث أنس: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} أتى بها البخاري في كتاب الإيمان.
ويعود المرء نفسه بأمور:
منها: أن ترى فناء الدنيا، وأنها تزول، وأنه لا يبقى إلا وجه الله عز وجل، وأنه مهما غلب عليك بعض الأشخاص، أو تقدم عليك في بعض الدنيا، أو معطياتها فما عليك، فإن العطاء الجزيل هو أن يرزقك الله الاستقامة.
ومنها: أن تعلم أن هذا الأمر يرضي الله عز وجل، يوم تحب لأخيك ما تحب لنفسك، هذا يرضي الله، فلماذا لا تسعى في مرضات الله؟!
ومنها: أن تعلم أن هذا المسلم أخ لك، وأنه قريب منك، وأنه حبيبك في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فتود له ما تود لنفسك، لتلقى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وأنت مرضي عنك إن شاء الله.(204/31)
هل الشعر مذموم أم لا؟
السؤال
عن قول الله عز وجل {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] فهل كل الشعر مذموم؟ وما تفسير الآية؟
الجواب
الشعراء الذين هم من أتباع السنة كلهم في الجنة إن شاء الله، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ذم الشعراء عامة، ثم استثنى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى منهم {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:227] والشعر كما يقول ابن عباس: كالكلام حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام، وفي صحيح مسلم عن عمرو بن الشريد، قال: ركبت وراء الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: أتحفظ من شعر أمية شيئاً؟ -يعني ابن أبي الصلت الجاهلي- قال: قلت نعم، قال: هيه؟ فأنشدته بيتاً، فقال هيه، فأنشدته ثانياً، فقال: هيه، فما زال يستنشدني حتى أنشدته مائة قافية.
وفي صحيح البخاري في كتاب الأدب: باب من صده الشعر عن القرآن وعن الذكر وعن العلم، ثم ساق الحديث عن أبي هريرة، وقد اتفق معه مسلم على ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: {لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه، خير له من أن يمتلئ شعراً} قال بعض العلماء مما هجي به الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأنا أقول الشعر مطلوب، لكن بثلاثة أمور:
أولها؛ ألا يكثر، حتى يطغى على حياة العبد وعلى نشاطه وعلمه، وجده.
والأمر الثاني: ألا يكون شعر سخف ومجون.
والأمر الثالث: ألا يكون مما أهين به بعض المسلمين، أو مما يُهْجَى به بعض المسلمين، فإذا سلم فهو الشعر المطلوب الذي ينصر به الإسلام إن شاء الله.(204/32)
العلم بين الأستاذ والتلميذ
فضل العلم عظيم، وخيره كثير، ونفعه كبير، ولابد للعلم من معلم يرعى الطالب ويربيه، ويهذبه ويزكيه، ويعلمه كيف ينتفع بعلمه، ولابد لهذا المعلم من أخلاق ومواصفات لا يخلو منها، وفي المقابل يجب على الطالب الالتزام بآداب تجاه معلمه، وفي هذا الدرس يذكر الشيخ كثيراً من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المعلم والمتعلم.(205/1)
تاريخنا مبدؤه من البعثة
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
والصلاة والسلام على من بعثه الله فهدى الإنسانية، وزعزع به كيان الوثنية، وأنار به معالم البشرية صلى الله وسلم على أذن الخير التي تلقت الوحي من الله، فبلغته للبشرية، ووعته وحفظته صلى الله وسلم على لسان الصدق الذي دفع الكلمة الصادقة المخلصة إلى الأجيال صلى الله وسلم على المعلم النبيل، والهادي الجليل، والأستاذ النبيل صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلاماً دائمين مادام الليل والنهار.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وإن كان لي من شكر فإني أشكر الله تبارك وتعالى على أن أجلسني في هذا المكان، ثم أشكر أساتذة الجيل ورواد الحضارة، وأهل البناء العميق في تاريخ الإنسان، ثم أشكر سعادة عميد هذه الكلية ووكيله وهيئة التدريس، ثم أشكركم أيها الأبطال الأخيار النبلاء.
أتيت من أبها بلاد الجمال أقول أهلاً مرحباً بالرجال
روض النبي المصطفى وارفٌ أزهاره فاحت بريا الجمال
ميراثه فينا جميل الحلى وأنتم أصحابه يا رجال
المحاضرة في هذه الليلة: (العلم بين الأستاذ والطالب) ويوم أن يكون العلم عندنا نحن المسلمين يكون نوعاً آخر، ويكون له طعم آخر ومزاج آخر ورسالة أخرى وهل العلم إلا منا، وهل نحن إلا شادة العلم الذي ينفع في الدنيا والآخرة.
وأما عناصر هذه الجلسة والمحاضرة فهي:
فضل العلم، وما ذكره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عن العلم ثم لا علم بلا إيمان لنرد على العلمانيين، أهل التراب عبدة العلم من دون الله ثم العلم النافع يورث الخشية ثم عدم العمل بالعلم شؤم وزندقة وإلحاد، وهذا ليس مقصوداً.
ثم مهمة الأستاذ في التعليم، وما هي هذه المهمة والرسالة التي تركها الإسلام على عاتق الأستاذ ثم ما هو واجب الطالب بيد الأستاذ؟ وقبل ذلك أمام رقابة الله تبارك وتعالى وفي الأخير المعاصي تذل العلم، وتطفئ الذكاء وتطمس المعرفة.
أيها الإخوة: كنا قبل الإسلام أمة عربية أمية لا نعرف شيئاً رعاة غنم وإبل وبقر، والقوميون يقولون: لا.
تاريخنا من أول الدنيا، ونحن أهل الحضارة حتى قبل الإسلام وكذبوا لعمر الله! ودجلوا على الحقيقة والتاريخ! كنا أمةً بلا معرفة ولا ثقافة، وأمةً بلا حضارة حتى أتى محمد عليه الصلاة والسلام
تاريخنا من رسول الله مبدؤه وما عداه فلا ذكر ولا شان
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
كان للرومان حضارة، ولفارس ثقافة، وللهنود معرفة، أما نحن في الجزيرة فلا ثقافة ولا حضارة ولا معرفة حتى جاء عليه الصلاة والسلام فسكب فينا روح لا إله إلا الله، فاستيقظنا من نومنا وسباتنا العميق.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
وبعد خمس وعشرين سنة يخطب خطيبنا في نواحي نهر السند واللوار، وعلى ضفاف دجلة والفرات، وبعد خمس وعشرين سنة يكون لنا منتدى في العالم شعراء وأدباء؛ لأننا أمة الإيمان والحب والطموح.(205/2)
فضل العلم وعلاقته بالإيمان بالله
أراد الله سبحانه وتعالى أن يستشهد على جلالته وعظمته ووحدانيته فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
فانظر كيف استشهد العلماء وطلبة العلم على أعظم شهادة في الدنيا.
والله عز وجل يرفع بين طبقات الناس بنسب إضافية، فما هي الرفعة في الإسلام بعد التقوى؟ إنه العلم، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
وهل يستوي عالم متعلم وجاهل بليد رعديد؟! لا والله لا في العقل ولا في الحس ولا في النقل، يقول سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] أرأيت الكلب؟ هو كلب ويكفي في تعريفه أنه كلب، والمعارف لا تعرف، ولكن جعل الله الكلب في القرآن على قسمين:
كلب معلم، تعلم وحمل شهادةً فصيده حلال، وكلب جاهل فصيده حرام يقول سبحانه: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4] أرأيت إلى الهدهد؟ إنه طائر ويفتخر بالعلم! وهل سمعتم بهدهد يفتخر بالعلم؟! إن سمعتم بذلك فهو في سورة النمل، أتى إلى سليمان عليه السلام فقال له: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} [النمل:22] ثم ألقى عليه محاضرة في التوحيد والعقيدة فقال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:23 - 24] ولم يطلب الله من نبيه أن يتزود من الحطام، ولا من المال، ولا من العمار، ولا من العقار، ولكن قال له: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114].
هذا الرجل العظيم عليه الصلاة والسلام، الذي يسكن في بيت من الطين، ويجلس على التراب، ويأكل خبز الشعير، ولكنه نشر العلم في العالم، ونشر المعرفة في المعمورة، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وهذا الفضل إنما هو بالقرآن؛ بل أفضل من ذلك كله أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى جعل العلماء وطلبة العلم ورثة للأنبياء والرسل فيا ورثة الأنبياء والرسل! ويا أحفاد محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي! ويا من أراد أن يشع الخير في البشرية مرة ثانية! لنقول للناس من هنا خاصةً من مهبط الوحي، من حيث انتشر الإسلام، وانطلقت لا إله إلا الله: هذه رسالتكم، وهذا الحديث معكم عن العلم وفضله، فلا أفضل من العلم، ولا أجلَّ منه يقول الأندلسي المربي أبو إسحاق الالبيري، وهو يوصي ابنه بطلب العلم وفضل العلم:
هو العضب المهند ليس ينبو تصيب به مضارب من أردتا
وكنز لا تخاف عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث كنتا
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا
فبادره وخذ بالجد فيه فإن أعطاكه الله انتفعتا(205/3)
طلب العلم لوجه الله
والعلم هو الذي يطلب لوجه الله تبارك وتعالى السلف الصالح يوم أن طلبوا العلم طلبوه لوجه الله؛ فآتى هذا العلم ثماره ونوره وأزهاره للبشرية.
فهذا الإمام أحمد يطوف بالدنيا، فيذهب إلى خراسان، وإلى بغداد، وإلى مصر، وإلى الشام، وإلى اليمن، وإلى الجزيرة؛ حتى يجمع أربعين ألف حديث يقول: والله لقد كانت تمر علي الليالي لا أجد كسرة الخبز من العيش! اشتغل -رحمه الله- حصَّاداً ولقَّاطاً يطلب العلم لوجه الله عز وجل.
وسمع عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني وهو في صنعاء اليمن، فسافر له من بغداد، وأخذ عمرة، وفوجئ وهو يطوف بالبيت بـ عبد الرزاق يطوف، فقال له أحد زملائه: هذا عبد الرزاق أتى الله به من اليمن، فخذ الحديث منه.
قال: لا والله لا تكون هجرتي إلا لله عز وجل، وقد قصدت صنعاء، فلن آخذ منه شيئاً حتى يعود إلى اليمن فآخذ منه علماً إن شاء الله.
وعاد ذاك، وسافر الإمام أحمد فطلب العلم الذي أوصله إلى رضوان الله، فأصبح إمام أهل السنة والجماعة يقول ابنه عبد الله فيما صح عنه عند الذهبي: كان أبي يصلي من غير الفرائض ثلاثمائة ركعة.
وكان الإمام أحمد إذا دخل السوق ورآه الناس هللوا وكبروا وسبحوا لما يرون من الجلالة والمهابة والإيمان والتقوى.
ويتحدث الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن موسى وعن طلبه للعلم عندما سافر إلى الخضر وقد بوب البخاري لذلك وقال: باب ركوب البحر في طلب العلم.
ولذلك كان علم السلف الصالح علم خشية، وعلم تقوى وعمل.
يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: {مثل مابعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً} انظر الإشراق في العبارة! لم يمثل بالمطر، وإنما مثل بالغيث لأسباب:
منها: أن المطر أكثر ما يستخدم في القرآن للعذاب، قال الله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [الشعراء:173].
ومنها: أن الغيث فيه غوث للقلوب، وفيه صفاء: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها أرض طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أرض أمسكت الماء فنفع الله به الناس، فسقوا وزرعوا، وكان منها أرض إنما هي أجادب لا تنبت كلأً ولا تمسك ماءً، فذلك مثل من نفعه الله بما بعثني به فعلم وعلم} وهذه الأمة على هذه المستويات:
رجل نفعه الله بالرسالة الخالدة، فتعلم القرآن والسنة، ونشر الخير والدعوة والفضل وأصبح مؤمناً، فهذا هو الفاضل ورجل أخذ العلم لنفسه وانقبع في بيته وأغلق عليه بابه فنفع نفسه فحسب ورجل عاش التمرد، وعاش شهوة الفرج والبطن، وعاش في الحياة بلا رسالة، والذي يعيش في الحياة بلا رسالة أشبه بالبهيمة، لا علم ولا أصالة ولا عمق، إنما هو يركب كل شيء ولذلك إن المسئول عما وقع في واقعنا من الكلمة الملحدة الآثمة، والقصيدة التي تحمل الزندقة والكفر، والأغنية الماجنة التي تهدم الجيل والشباب والقلوب، والمجلة الخليعة التي تحبب الكأس والمرأة لأجيال الأمة وشباب الأمة؛ المسئول هو الذي لم يرفع رأساً بهذه الرسالة الخالدة، وهو الذي لم يرضع لبن دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام.(205/4)
لا علم بلا إيمان
إننا بحاجة إلى أن نتكلم للناس في الإيمان قبل العلم، لأن الله تعالى يقول: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ} [الروم:56] فلا علم بلا إيمان أتى أتاتورك إلى الأتراك، ففصل الإيمان تماماً، وسحق الإسلام مطلقاً، ودمر المساجد، وأتى بـ العلمانية الكافرة، فعبد العلم من دون الله تبارك وتعالى.
ولذلك يقول الله عز وجل في الكفر وأهله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] ويقول الله عز وجل عنهم: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].
يقول كريسي موريسون في كتاب الإنسان لا يقوم وحده: يا أهل المشرق! قدمنا لكم خدمة الإنسان للإنسان -يقصد الطائرة والصاروخ والثلاجة والبرادة- فقدموا لنا خدمة الروح للروح.
يقصد لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وعندما يأتي الإنسان ليعيش العلم بلا إيمان فإنه سوف يضل الأمة، وسوف يذهب بالبلاد إلى الهاوية، وسوف يخرب كل الدنيا، والصحفي إذا لم يؤمن بالله فسوف يكتب بقلمه كلمات غير مسئولة، وكلمات الإلحاد والزندقة والفاحشة يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
والشاعر إذا لم يؤمن بالله يكن سائباً على الأحداث، هامشياً لا يحمل رسالة، ولذلك إنما تميز محمد إقبال عن شعراء كثير من الناس ولو في بلاد الإسلام؛ لأنه شاعر الإيمان والحب والطموح آمن بالله فكانت كلماته وقصائده تنبعث إلى القلب كأنها شعل، أو كأنها قطرات من دمه على الأمة الإسلامية جاء إلى مكة ورأى الجيل، وقبل أن يأتي من باكستان ظن أنه سوف يجد شباباً يحملون رسالة، وجيلاً يحملون مبدأً خالداً، وسوف يرى أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؛ ففوجئ بشباب لا رسالة لهم في الحياة -وأنا لا أعني هذا الجيل؛ فإن هذا الجيل جيل رسالة، طلعاتهم تبشر بالخير، وهم الذين يحيون بالإسلام، والسنوات سوف تظهر ذلك بإذن الله- فبكى طويلاً وسجل قصيدته التي يقول فيها:
أرى التفكير أدركه خمول ولم تبق العزائم في اشتعال
وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقال
وعند الناس فلسفة وفكر ولكن أين تلقين الغزالي
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالي
وجلجلة الأذان بكل حيٍ ولكن أين صوت من بلال
أين الإسلام؟ أين لا إله إلا الله؟ أين الأمة التي امتطت موج البحر ومتن المحيطات لتبلغ لا إله إلا الله؟
يقف عقبة بن نافع بفرسه على شاطئ المحيط الأطلنطي ويقول: والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أن وراءك أرضاً لخضت بفرسي هذا البحر لأنشر (لا إله إلا الله) في تلك الأرض ويقدم سعد بن أبي وقاص دمه يوم القادسية ويقول: اللهم خذ من دمائنا هذا اليوم حتى ترضى يقول أحد الشهداء في العراق من المسلمين:
فيا رب لا تجعل وفاتي إن أتت على شرجع يعلى بخضر المطارف
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة يموتون في فج من الأرض خائف
هذا هو الإيمان، وحين يوجد في القلب يصبح قلباً حياً، يقول أبو الحسن الندوي: قلب بلا إيمان كتلة لحم ميتة ولكنها ترمى في الزبالة، وعين بلا إيمان مقلة عمياء، ويد بلا إيمان إشارة خاطئة آثمة، وجيل بلا إيمان قطيع من الغنم أو هوشة من البقر، وقصيدة بلا إيمان كلام ملفف، وكتاب بلا إيمان كلام مصفف فنحن أمة الإيمان وأمة الرسالة.
فأقول: لماذا يكتب الصحفي ويعادي الإسلام؟! ولد في بلاد الإسلام، وسقط رأسه في مهبط الوحي، وشرب من ماء زمزم، وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، لكنه إذا كتب في الصحافة ترك الإسلام في بيته ونسي أنه مسلم لماذا؟ لأنه ما دخل الإيمان وما تعمق في قلبه يقول بشارة الخولي يوم أن ترك الإيمان في بيته وأتى يكتب شعراً:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمةً وسيروا بجثماني على دين برهم
يقول: اعطوني أي دين، زندقة أو إلحاد أو ماركس أو لينين أو هتلر أو نابليون
وسيروا بجثماني على دين برهم
>>
قاتله الله عدو الله! يريد دين برهم المجرم الهندوكي السفاك، ولا يريد محمد عليه الصلاة والسلام الذي ما طرق العالم أفضل ولا أنبل ولا أجل منه.
يقول ابن تيمية: من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدىً غير هدى الله الذي أرسل به محمداً عليه الصلاة والسلام فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
إي والله! من ظن أنه سيسلك سبيلاً أو يرتقي في مستقبل أو يصل إلى نتيجة بدون هذا الدين فعليه لعنة الله تحيط به في قبره وصدره ليشهره الله على رءوس الخلائق.
ويأتي شاعر آخر اسمه ابن هانئ الأندلسي يتملق عند السلطان ويمدحه وضع الإيمان في بيته وأتى يقول للسلطان:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
سبحان الله! يقول: يا أيها السلطان! يا أيها الملك!
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
ولكن علمه الله أنه هو الواحد القهار، فابتلاه بمرض عضال في جسمه، فأصبح يتقلب على الفراش بمرض مستعص عضال، وينبح كما ينبح الكلب؛ لأن الذي لا يعرف الله في الرخاء لا يعرفه الله بنفسه في الشدة.
وقف فرعون يخطب في مصر -العميل الضال الدجال- يقول وهو على المنبر: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] فأجراها الله من فوق رأسه، وعندما أصبح في الطين ينقنق كما تنقنق الضفدع: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ} [يونس:90 - 91] أتؤمن في الوقت الضائع؟! ولذلك تجد كثيراً من الدعاة في الساحة من القصصيين والمسرحيين والشعراء والكتاب يضيعون الإيمان ويتركونه؛ لأنهم جعلوا المعرفة شيئاً والإيمان شيئاً آخر.
وعندما مرض ابن هانئ أسف على ذلك البيت الآثم وقال:
أبعين مفتقر إليك نظرتني فأهنتني وقذفتني من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
سبحان الله! كيف يضل القلب وتعمى العين ويصم السمع إذا لم يؤمن الإنسان بالله رب العالمين.
فعلم بلا إيمان لا نطلبه ولا نريده، فإن الكفار قد بلغوا أكثر مما بلغنا.
منهم أخذنا العود والسيجارة وما عرفنا ننتج السيارة
استيقظوا بالجد يوم نمنا وبلغوا الفضاء يوم قمنا
فأما علم المادة فقد بلغوا أكثر مما بلغنا فيه، لكننا نأتي ونقول للإنسان: من هنا -أيها الإنسان- تهتدي، يقول دايل كارنيجي الأمريكي في كتاب دع القلق وابدأ الحياة: لا بد لك من جلسة ولو نصف ساعة مع الله تبارك وتعالى.
هو مسيحي لكنه ما يعرف أين الطريق وأين الأسباب والوسائل، يقول: نصف ساعة مع الله، أما نحن -يا دايل - فنجلس اليوم والليلة والشهر والسنة والصيف والشتاء مع الواحد القهار.
أيها الإخوة! هذا هو المبدأ الكبير، وقد وجد في المؤسسات العلمية، وفي المدارس والمعاهد من يأتي بلا رسالة.(205/5)
العلم النافع يورث الخشية
قال الله َتَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] والخشية: هي الخوف من الله تبارك وتعالى، وأن تراقبه سبحانه في علمك ومن ذهب إلى مدرسته وعاد إلى بيته ولم يزدد خشية من الله، وبقي مستواه في اقتراف المعاصي وتعدي الحدود وانتهاك الحرمات؛ فليعلم أنه أوتي علماً سقيماً ومريضاً لاخير فيه.
وجاء في كتاب الزهد: قرأ ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه سورة المطففين حتى بلغ قوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فبكى حتى أغمي عليه ورش بالماء.
وقال الذهبي في ترجمة ابن وهب في السير (ج/8): ألف كتاباً في أهوال يوم القيامة، فقرئ عليه فأغمي عليه ثلاثة أيام ومات في اليوم الرابع.
فالعلم بلا خشية لا فائدة فيه، وأصل الخشية أن نكف عن المعاصي، قال ابن تيمية: الخوف المطلوب في الإسلام أن يحجبك عن المعصية وما زاد فلا يحتاج إليه.
أي: أن ترتدع عن المعصية، وأما مازاد على ذلك فلا يحتاج إليه.
إخواني في الله! يا طلبة العلم! هل آن لنا أن نخاف من الله الواحد الأحد وأن نخشاه في السر والعلن.
وأن نراقبه في علمنا؟ وإلا فلنعتقد اعتقاداً جازماً أنه علم غير نافع، ونعوذ بالله من العلم الذي لا ينفع.
وإن ألقاك فهمك في مغاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
فأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
ونادِ إذا سجدت له اعترافاً بما ناده ذو النون بن متى
{لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].(205/6)
العلم بلا عمل شؤم
إذا رأيت المتكثر من الثقافة العامة والخاصة قد أصبح ذهنه سلة للمهملات، يحفظ الأرقام والمعلومات والألفاظ، ثم لا يظهر عليه نور من العلم، ولا أصالة ولا تأثير في معتقده وعبادته وسلوكه؛ فاعلم أن علمه شؤم عليه، وغضب ولعنة إلا أن يتوب الله عليه.
يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في بني إسرائيل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13] ويقول في عالمهم بلعام بن باعوراء -العميل المتخلف الذي طلب العلم ثم تركه وألحد في دين الله- قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176].
فإن الكلب إذا وضعته في الشمس يمد لسانه ويضيق نفسه ويلهث، وإذا أدخلته في الظل يمد لسانه ويتردد نفسه ويلهث، والخبيث في أصالته وفي قلبه يتعلم ولا ينتفع، فنعوذ بالله من هذا المثل الشؤم على كل من فعل هذا أو زاوله أو فكر فيه أو أراده.
ويقول الله عز وجل في بني إسرائيل: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] والحمار حمار.
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع
ومهما تعلم أو حمل من الكتب فعقله هو عقله لم يتغير، فنعوذ بالله من هذا المثل.
إخوة الإسلام! هذه مسألة لا تغيب عن البال، وقد اتفق العقلاء من المؤمنين أن من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم، والله عز وجل يجعل من عمل الإنسان ولو بجهده الميسور زيادة في الخير والفضل والنبل.(205/7)
مهمة الأستاذ في التعليم
الأستاذ حين يكون نائباً للرسول عليه الصلاة والسلام، ويكون حاملاً للرسالة، ومخلصاً متوقد القلب، وحين يكون كما كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس الأستاذ حين يكون خليفةً لـ أحمد ومالك والشافعي وابن تيمية وابن القيم فهو الذي نريد أن نتكلم معه اليوم، أما الآخر -وليس معنا إن شاء الله- فهو أستاذ يحمل أهدافاً دنيوية، إما تحصيل راتب أو تزجية وقت، أو ظهوراً وشهرة، أو مستوى علمياً لا ينفعه في الدار الآخرة، فهذا ليس معنا وليس بيننا إن شاء الله.
ومهمة الأستاذ تدور على أربع مسائل:
-الإخلاص.
-القدوة.
-القوة العلمية.
-اللين واطراح الفضاضة.(205/8)
الإخلاص
أما الإخلاص فنطالب به جميعاً أساتذةً وطلاباً مفتين وعلماءً ملوكاً وأمراء، كل مسلم يطالب بالإخلاص، يقول سبحانه: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] ويقول عليه الصلاة والسلام: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى}.
ويقول عليه الصلاة والسلام: {من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة وإن عرفها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} ويقول صلى الله عليه وسلم: {من تعلم العلم ليجاري به العلماء ويماري به السفهاء؛ فليتبوأ مقعده من النار}.
وأول من تسعر النار بهم يوم القيامة ثلاثة: منهم: رجل تعلم العلم ليقال عالم، وقد قيل، فيسحب على وجه حتى يلقى في النار فنعوذ بالله من الشهرة لغير وجه الله، ونعوذ بالله من الرياء والسمعة قال عليه الصلاة والسلام: {من راءى راءى الله به، ومن سمَّع سمَّع الله به}.(205/9)
القدوة
يا أيها الأستاذ! نحن مع شوقي أمير الشعراء إذ يقول للطالب:
قم للمعلم وفه التبجيلاً كاد المعلم أن يكون رسولاً
نعم.
بقي عليه درجة وهو أن الوحي ما أتاه، لكنه خليفة الرسول عليه الصلاة والسلام فيا خليفة المصطفى صلى الله عليه وسلم في جانب التعليم {إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر} فأنت الآن تأخذ الميراث، فالله الله في شباب الإسلام، والله الله في جيل الإسلام، والله الله في بلادنا وأمتنا وبيوتنا!
إنك -أيها الأستاذ- مسئول عن هذا الجيل، فقد فتحوا لك أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم وجلسوا أمامك ليسمعوا ما تقول، وضع المسلمون على الكراسي أفلاذ أكبادهم يستمعون منك؛ فهم يتوجهون بأمرك، فهل آن لك أن تكون قدوة تتكلم بما تفعل وتفعل بما تتكلم به؟! قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
أيها الأستاذ! إن العقلاء من التربويين -حتى من غير المسلمين- يقولون: إنك لن تعلم أحداً حتى تعمل بما تعلم، والرسول عليه الصلاة والسلام ما تكلم فحسب، بل كان يقول للناس: كونوا صادقين؛ فيكون أصدق الناس كونوا بارين؛ فيكون أبر الناس كونوا أوفياء؛ فيكون أوفى الناس كونوا متقين؛ فيكون أتقى الناس لربه تبارك وتعالى.
إن من يعلم بكلامه ثم يخالف بفعاله فإنه يكذب نفسه أمام الناس، قال سيد قطب في كتابه في ظلال القرآن في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] ما معناه: إن الناس يسمعون كلاماً جميلاً وينظرون فيرون فعلاً قبيحاً، فلا يقبلون بعدها ويكذبون هذا المتكلم.
فيا أيها الإخوة الفضلاء! ويا أيها الأساتذة النبلاء! إن من يتكلم ثم يهدم ما تكلم به بأفعاله فإنه لايحقق نتيجة لأبناء المسلمين، وإن جلوسه في بيته أفضل وأولى؛ لأن معنى ذلك أنه يضحك على العلم وعلى طلبة العلم كيف يأمرهم بالصلاة وهو لا يصلي؟! كيف يأمرهم بهجر الغناء والمجلة الخليعة والأغنية الماجنة والسفه، وهو سفيه مطبل مغن ماجن نعوذ بالله من ذلك؟!
من المسئول إذن عن الحركة الشبابية والاتجاه العلمي يوم ضل فريق منه إلا الأستاذ؟ ومن هو أكبر موجه في هذه البلاد وفي غيرها إلا الأستاذ؟ إن أعظم ما ترتقي إليه الأمم هي درجة التعليم، والمرء إذا بلغ مستوى من العلم عند كثير من الأمم وضع أستاذاً للناس.(205/10)
القوة العلمية
وأما القوة العلمية: فإنني أنصح نفسي وإخواني من الأساتذة أن يكونوا في موقف القوة، والقوة عند التلاميذ والطلاب ليست بكبر العضلات ولا بالحدقتين ولا بالعينين، ولا بضرب الكف على السبورة، ولا بهز الماسات ولا برفع الصوت وبالإزعاج لا.
هذه فقط تغطي مُركَّب النقص، فإن بعض الأساتذة إذا شعر أنه لا يحمل مادة ولا رسالة أتى يستخدم الحرب المعنوية ليغطي نقصه في الفصل؛ إما بالضرب على ماسته، وإما بالإزعاج، وإما بالتهديد والتخويف، وإما بذكر سجلات حياته؛ فيترجم لنفسه نصف المحاضرة، ولد عام كذا، وكان من أذكى الناس، وكان فريد العصر، وأستاذ دهره، ولكن لا أستاذ ولا فريد إنما هو أمامنا بشحمه وعصبه ودمه.
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان عليّ ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
وقوة الأستاذ -عند جميع الأمم بما فيهم المسلمون- القوة العلمية، هو أن يظهر بمادته بتحضير وأصالةٍ، فيعرض المادة عرضاً متيناً جيداً، وحينها يسكت الطلاب، ويحترمونه ويجلونه؛ لأنهم يجلسون أمام علم ورجل يتكلم بجدارة، وأمام أستاذٍ له أصالة وعمق، يتكلم وهو أدرى بمادته من مركز القوة، وهذه هي قوة العلم.
ومن يستقرئ الساحة التربوية يجد أن الأساتذة الذين يمتلكون قدرات للتحضير هم أهيب الناس عند الطلبة، يحترمونهم ويقدرونهم، ويجد أن الأستاذ الذي لا يحمل مادةً ولا رسالة ولا تحضيراً من أخفق الناس في اجتلاب القلوب، وفي الهيمنة والتسلط المقبول على الطلبة فلا تفوتنا القوة العلمية.
أيها الإخوة الأبرار! كلٌ في تخصصه، لا أقول للمربي أن يكون مفتياً في الحيض والطلاق والرضاع، ولا للمفتي أن يكون تربوياً يعرف ما كتب في التربية وعلم النفس، ولا لصاحب الجغرافية أن يكون مفسراً بارعاً، كـ ابن كثير أو الطبري، قد علم كل أناس مشربهم، ونحن نؤمن بالتخصص بشرط أن يكون مع الجميع حد أدنى من العلم الشرعي.(205/11)
اللين واطراح الفظاظة
الحب أمر عجيب، ونحن أمة الحب، أتدرون ما هو الحب؟ ليس هو الذي يريده أمير الشعراء أحمد شوقي الذي يقول: الحياة الحب والحب الحياة.
هذا كذب، هذا حب كوكب الشرق، وهو الذي رد الأمة عشرين سنة إلى الوراء كوكب الشرق تغني شبابنا بالحب هو الحياة والحياة هي الحب، وطائرات الميراج الإسرائيلية تغطي شمسنا
فأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارها الخطب
شجباً ونكراً وتنديداً بغارتها لله كم نددوا يوماً وكم شجبوا
هذا الحب ليس هو المقصود، وهو حب المغنين والمغنيات، والمجرمين والمجرمات، الأحياء منهم والأموات، وهو ليس مقصوداً في الإسلام، فإن الحب أعظم من ذلك، نحن رسل الحب، ونحن الذين زرعوا الحب في قلوب الناس فآتى أكله كل حين بإذن ربه، والحب عندنا حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما الحديث الذي يقول: {من أحب فعف فكتم فمات مات شهيداً} فهو حديث كذب، سنده ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، هذا الحديث كذب على الإسلام، وإن الذي يموت على المسرح وعلى الأغنية والمجلة الخليعة وفلانة فلن يكون شهيداً أبداً كيف يكون شهيداً؟! شهيد عمالة ودجل وتخلف ورجعية.
إن الشهيد هو الذي يحب الله ورسوله كما يقول إقبال في قصيدة تاج مكة:
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
إذاً هذا هو الحب، وقد استطردت في الحب لأن مفهوم الحب عند كثير من الناس، ممن يكتب في الصحافة، ويتكلم في المنتديات، مفهوم خاطئ، ما عرفوا الحب ويموتون وهم لا يعرفون الحب، ويصلى عليهم صلاة الجنازة وما طعموا الحب، ويحشرون عند الله يوم القيامة وما عرفوا الحب الحب هو أن يأتي مثل عبد الله بن عمرو الأنصاري حين قال في معركة أحد: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى.
فيقتل في سبيل الله، ويكلمه الله كفاحاً بلا ترجمان.
الحب أن يأتي مثل البراء في معركة تستر ويقول: أقسمت عليك يا رب أن تنصرنا هذا اليوم؛ فينتصر ويكون أول شهيد الحب هو أن تسفك دمك لمرضاة الله الحب هو أن إذا سمعت أذان الفجر يدوي في الأرجاء قامت نفسك طليقة شجاعة إلى المسجد الحب أن يكون أعظم كتاب عندك في الحياة كتاب الله الحب أن تكون أناملك ولسانك يتمتم بذكر الله تبارك وتعالى.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
هذا هو الحب فأقول للأستاذ: إن خيطاً ليس فيه حب مع الطالب خيط مبتور ومقطوع، وإن رسالة ليس فيها لين رسالة عصا وسوط ونار وحديد، وهي من كيس استالين وماركس ولينين، وليست من كيس محمد عليه الصلاة والسلام الذي يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
كأنه يقول: عجيب هذا المنهج العظيم العملاق الذي وضعته للناس كيف كسب قلوب العرب؟! والعرب كقرون الثوم، إذا قشرت قرناً خرج لك ستة قرون، فإذا قشرت الآخر خرج لك ستة، فالعرب مثل ذلك، لا يسيطر عليهم ملك، ولا سوط، ولا سجن، ولا سيف، أمة متمردة ومشاغبة، لكنه صلى الله عليه وسلم أتى يتبع قول الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
ويقول الله له: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] لو دفعت الذهب والفضة ما كسبت القلوب، ولذلك أقول لدعاة الإسلام وأساتذته، والعمداء في الكليات: إن رسالتنا لا بد أن تحمل الإيمان والحب والطموح واللين للناس، ونحن لسنا مجرحين وإنما نحن دعاة، ولسنا قضاة وإنما نحكم على الناس بما ظهر، وإن الكلمة اللينة الطيبة تعشقها القلوب وتحبها النفوس.
أرأيتم أكبر من فرعون؟ أسمعتم بشيخ الضلالة؟؟ أرسل الله له موسى فقال له وهو في الطريق: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] احذرا أن تجرحا شعوره، احذرا أن تسفكا كرامته في مجلسه، قال سفيان الثوري: القول اللين هو أن يكنيانه بكنيته، وكنية فرعون أبو مرة، مرغ الله وجهه في النار.
فأخذ موسى يقول: يا أبا مرة! أتيت بمبدأ وبشريعة وبمنهج أعرضه عليك اليوم فهل فاتتنا الكلمة اللينة ولا تفوت موسى عند فرعون؟!
دخل أعرابيٌ على هارون الرشيد فقال: أريد أن أتكلم معك بكلام شديد فاصبر عليَّ.
قال هارون: والله لا أصبر قال: ولم؟ قال: أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، فقال له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للرسول عليه الصلاة والسلام: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
كيف استطعت أن تقود القلوب؟ كيف سبيت الأرواح؟ كيف جعلت الأعداء أصدقاء؟ لأنك داعية عملاق.
حتى إن ابن سيناء الذي هو من أفراخ الصابئة وأذناب المجوس، ولو أنه قد أجاد في الطب، يقول: ما طرق العالم مصلح كمحمد عليه الصلاة والسلام.
وهذا صحيح وفي كتاب الأمريكان المسمى: عظماء العالم وضعوا في المرتبة الأولى محمداً عليه الصلاة والسلام، وقالوا: أعظم عظيم في الدنيا محمد، لأنه أصلح وبيته من طين -عليه الصلاة والسلام- ما لم تصلحه جامعات الدنيا في ثلاثمائة سنة، بل فشلت جامعات الدنيا، وشرب الخمر، وسفكت القيم، وانتهكت الأعراض، وذبح الناس، ودمرت البيوت.
من دمر البيوت في نجزاكي من ضرب اليونان بالأتراك
من قتل العمال في بولندا ومن أتى بالرق في يوغندا
من الذي ناصر إسرائيلا حتى تصب عنفها الوبيلا
أما محمد عليه الصلاة والسلام فأسلوبه لين مع طلبته.
فيا أيها الأساتذة! حبل اللين حبل عجيب، وهو السحر الحلال، وإن كان في الإسلام سحر حلال فهي البسمة، قيل لأحد العلماء: ما هو السحر الحلال؟ قال: تبسمك في وجوه الرجال.
يأتي أعرابي فيسب ويشتم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويسحب ببردته الشريفة من على جسمه الشريف ويقول: أعطني من مال الله الذي عندك لا من مال أبيك ولا من مال أمك.
فيلتفت إليه ويتبسم ويعطيه مالاً، ويريد الصحابة قتل هذا الأعرابي، فيقول: لا.
فلما أكرمه قال: هل أحسنت إليك؟ قال: نعم جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً.
فيعود هذا الأعرابي داعية إلى قبيلته فتسلم عن بكرة أبيها، فيقول صلى الله عليه وسلم: {أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الأعرابي؟ قالوا: لا ندري.
قال: كمثل رجل كانت له دابة فرت منه، فأتى الناس لمسكها وحبسها فما تزداد إلا فراراً، فقال: يا أيها الناس! دعوني ودابتي أنا أبصر بها، فأخذ شيئاً من خشاش الأرض -خضار الأرض- وأخذ يلوح للدابة فأتت فحبسها، قال: فلو تركتكم وهذا الأعرابي لقتلتموه ودخل النار}.
فأي مستوى دعويّ طرقه صلى الله عليه وسلم للناس؟! وهذا هو اللين واطراح الفضاضة وإن الذي يستخدم الفضاضة ويفرض سيطرته وقوته؛ يخسر من القلوب والأرواح ومن الأسماع والأبصار أكثر مما يكسب فلينتبه لهذا.(205/12)
واجب الطالب
أما واجب الطالب -مع وجود الإخلاص- فهو أمور كثيرة، سنذكر بعضاً منها:(205/13)
الهمة العالية في الطلب
الواجب الأول: الهمة العالية في الطلب، وألا يرضى بالمقرارات الدراسية فقط.
همة تنطح الثريا وعزم له دوي يدكدك الأجْبَالَ
اجعل في مخيلتك أن تكون كـ ابن تيمية، أو أبرع بارع، ومن يحجبك؟ هل أتاك القضاء والقدر بأنك لن تصل إلى مستوى من المستويات فتخفف على نفسك؟
إن الانهزامية ومركب النقص ما أتى إلينا إلا بعد الاستعمار، ننظر إلى الخواجة على أنه رجل مقدس، وأنه ذكي لامع، وأنه عبقري فاره لأنه خواجة.
أما نحن فعرب في الشرق الأوسط من الدول النامية ما نفهم وما نعرف وما نفقه سبحان الله!! ومن أمة الحضارة إلا نحن! ومن أهل الذكاء والأصالة إلا نحن!! لكن عسى الله أن يعيد لنا مجدنا وسؤددنا لنكون للأمم سادة.
والهمة العالية في الطلب هي أن تحصل العلم والتخصص ليل نهار، مع أن تقصد به نفع المسلمين، وتغطية الساحة في هذا التخصص لينفعك الله في الدنيا والآخرة.(205/14)
احترام المعلم
المسألة الثانية: احترام المعلم فإن المعلم هو الأب وهو الأخ الكبير، والمعلم هو الجذوة المتوقدة التي أحرقت نفسها لتضيء لك، والمعلم هو النبع الصافي الذي طالما شربت منه ورويت، فالله الله في احترام المعلم! احترامه في الكلام وباللين، وفي الأسلوب وفي التساؤل والحوار، كما أمر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم معه صلى الله عيله وسلم.
احترام المعلم بأن تدعوه بأحب الألقاب إليه، وأن تشاركه الرأي وتترك رأيه يأخذ مجاله في الشرح والوقت، وإذا أردت أن تطرح سؤالاً فاحذر أن تخدش كرامة الأستاذ وعلمه ومقامه.
احترام المعلم معناه أن تقدم السؤال في قالبٍ طيبٍ لينٍ؛ ولا يعني ذلك أن نكون كالنصارى حين يقولون: الواحد ثلاثة.
والداخل في الكنيسة لا يفهم ذلك، ويقولون: لا تسأل عن معنى الواحد ثلاثة، فإذا قال: كيف يكون الواحد ثلاثة؟ قالوا: اخرج قاتلك الله أنت في النار لماذا؟ لأنه ما فهم أن الواحد ثلاثة، يقول الذهبي معلقاً على قول بعض غلاة الصوفية حين قال: لا يفلح طالب قال لمعلمه: كيف هذا؟ قال: الذهبي: يفلح والله، ثم يفلح إذا سأله.
والخطأ لا يقر من أي أحد، فالكمال لله والعصمة لرسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا سمعت مسألة فلك أن تناقش، لكن بأدب ووقار وسكينة.
أما الخطأ فمرفوض قبوله، والمعصية كذلك، وما يخالف المنهج الإسلامي كذلك.(205/15)
ترك المعاصي
ومما ينبغي على طالب العلم ألا يكدر علمه وألا يشوشه بالمعاصي أتدري ما الذي يهدم القلوب ويشتت الشعوب وينكس المستقبل؟ إنها المعاصي يقول أحد السلف: نظرت نظرة لا تحل لي فقال لي أحد الصالحين: أتنظر إلى حرام؟! والذي نفسي بيده لتجدن غبها ولو بعد حين -أي: نتيجتها- قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
هذا العلم نور لطيف شفاف، أدنى شيء يؤثر فيه، وأدنى شيء يدنسه ويرديه، فنعوذ بالله من علم لا ينفع والمعاصي تكدر المستقبل، وتطفئ المعرفة والذكاء -وهذا عنصر مستقل لكن أذكره للفائدة- نعم لقد وجد أن المعاصي تدمر المستقبل تدميراً عجيباً، ولذلك وجد من العصاة من ذهبت به معصيته إلى أن بلغ مستوى الكفر والإلحاد والزندقة.
وخطوط الدفاع في الإسلام تجاه المعاصي ثلاثة:
أولها: الآداب.
ثانيها: السنن.
ثالثها: الفرائض.
فمن ترك الآداب ابتلاه الله بترك السنن، ومن ترك السنن ابتلاه الله بترك الفرائض، ومن ترك الفرائض ابتلاه الله بالكفر، فنعوذ بالله من الكفر.
أيها الإخوة الأبرار! إذا علم هذا فاعلموا أن المعاصي تذل العلم وتطفئ الذكاء، وتطمس المعرفة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
أيها الإخوة الأبطال! أيها الأبرار! عميداً ووكيلاً وأستاذاً وطالباً؛ إني أضعها من عنقي إلى عنقكم وأقول: إن رسالتنا واحدة، وديننا واحد، ومنهجنا واحد، فلنتق الله في ديننا وأصالتنا ورسالتنا ومبدئنا، ولنكن دعاة خير، ولنشهد الله على ما في قلوبنا من إيمان وصدق، يقول تعالى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
اللهم وجه هذا الجيل لمرضاتك، اللهم حببهم إلى دينك، واجعلهم متشرفين بحمل رسالتك، اللهم اهدهم سبل السلام، وكفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(205/16)
الأسئلة(205/17)
الأرجوزة التي قالها الشيخ في أمريكا
السؤال
فضيلة الشيخ! نرجو من سعادتكم ذكر الأرجوزة التي قلتها في رحلتك إلى أمريكا ولك الشكر؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله صحبه وسلم تسليماً كثيراً هذه الأرجوزة هزلية من بحر الرجز، وبحر الرجز حمار الشعراء، يجوز لكل إنسان أن يركب هذا الحمار، لأنه خفيف لطيف، وهذه الأرجوزة قلتها في مؤتمر أكلاهوما شمال الولايات المتحدة، الذي عقد للطلبة العرب المسلمين هناك، وهي قصيدتان: جدية وهزلية، أما الجدية فعنوانها: أمريكا التي رأيت: وأبياتها تخاطب الأمة الإسلامية، قلت فيها:
يا أمة ضرب الزمان بها جموح المستحيل
وتوقف التاريخ في خطواتها قبل الرحيل
سكبت لحون المجد في أذن المجرة والأصيل
وسقت شفاه الوالهين سلافة من سلسبيل
يا أمة كم علقوا بكيانها خيط الخيال
وهي البريئة خدرها فيض عميم من جلال
شاهت وجوه الحاقدين بكف خسف من رمال
موت أتاتورك الدعي كموت تيتو أو جمال
يا أمة في عمرها لم تحي إلا بالجهاد
كفرت بمجلس أمن من نصب المنايا للعباد
القاتلي الإنسان خابوا ما لهم إلا الرماد
جثث البرايا منهم في كل رابية وواد
ما زرت أمريكا فليـ ست في الورى أهل المزار
بل جئت أنظر كيف ند خل بالكتائب والشعار
لنحرر الإنسان من رق المذلة والصغار
وقرارنا فتح مجيد نحن أصحاب القرار
ورأيت أمريكا التي نسجوا لها أغلى وسام
قد زادني مرأى الضلا ل هوىً إلى البيت الحرام
وتطاولت تلك السنون فصار يومي مثل عام
ما أرضهم أرض رأيت ولا غمامهم غمام
أما الأرجوزة الهزلية فاسمها نشرة الأخبار، قلت فيها:
يقول عائض هو القرني أحمد ربي وهو لي ولي
مصلياً على رسول الله مذكراً بالله كل لاهي
قد جئت من أبها صباحاً باكراً مشاركاً لحفلكم وشاكراً
وحملتنا في السما طيارة تطفح تارة وتهوي تارة
قائدها أظنه أمريكي تراه في هيئته كالديك
يا سائل الأخبار عن أمريكا اسمع رعاك الله من يفتيكا
وهذه أخبار هذي النشرة مسافة السير ثلاث عشرة
من الرياض عفشنا ربطنا وفي نيويورك ضحىً هبطنا
أنزلنا في سرعة وحطنا وقد قصدنا بعدها واشنطنا
ثم ركبنا بعدها سيارة مستقبلين جهة السفارة
منزلنا في القصر أعني ريديسون يا كم لقينا من قبيح وحسن
وبعدها زرنا مباني الكونجرس ولم نجد مستقبلاً ولا حرس
بها ملايينٌ حوت من الكتب في كل فن إنه هو العجب
في بلد أفكاره منكوسة تثقله بصائر مطموسة
يقدسون الكلب والخنزيرا ويبصرون غيرهم حقيراً
ما عرفوا الله بطرف ساعة وما أعدوا لقيام الساعة
فهم قطيع كشويهات الغنم هزل وجد وضياع ونغم
فواحش قد أظلمت منها السما والأرض منها أوشكت أن تقصما
من دمر العمال في بولندا ومن أتى بالرق في يوغندا
من دمر البيوت في نجزاكي من ضرب اليونان بالأتراك
ومن الذي ناصر إسرائيلا حتى تصب عنفها الوبيلا
استيقظوا بالجد يوم نمنا وبلغوا الفضاء يوم قمنا
منهم أخذنا العود والسيجارة وما عرفنا نصنع السيارة
ومعنا في صحبنا العجلان أكرم به مع العلا جذلان
وصالح المنصور من بريدة يشبه سعداً وأبا عبيدة
والشهم عبد القادر بن طاشي ذو القلم السيال في انتعاش
فهو أبونا في مقام الترجمة لأننا صرنا صخوراً معجمة
ملاحظة: صفق الحضور بعد إكمال الشيخ الأبيات، فعلق الشيخ على التصفيق بما يلي:
أيها الإخوة الكرام! كما قلنا في المحاضرة نحن نتحاكم إلى مظلة الإسلام والإيمان والحب والطموح، وإسلامنا ينهانا عن التصفيق، والتصفيق ليس من الإسلام، وليس فيه تصفيق في مثل هذه المبشرات، لأن الله ذكر التصفيق فقال: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35].
لكن نحن أمة التكبير، كان الفارس منا إذا غلب قرينه في المعركة كبر، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا بشرهم بخير كبروا، فنحن أمة التكبير لأن ديننا كبير وأصالتنا كبيرة، ورسالتنا كبيرة، أما التصفيق فهو للمسارح ولغيرنا، ونحن لغيره.(205/18)
آثار التقدم العلمي بدون إيمان
السؤال
ربطتم بين العلم والإيمان وهذا شيء حسن وجميل؛ لكن بماذا نفسر التقدم العلمي المذهل للشيوعيين في روسيا والصليبيين في كل من أوروبا وأمريكا؟
الجواب
أنا قلت في كلامي: إنه لا بد من العلم مع الإيمان والإيمان مع العلم لقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} [القصص:80] الآية، وما قلت: أن العلم بلا إيمان لا يتقدم، والله قد أثبت هذه النظرية في القرآن؛ أنه قد يتقدم العلم بلا إيمان، فقد يأتي العلم فيتطور في الماديات بلا إيمان، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] ومن المعلوم أن العلم بلا إيمان ينتج الطائرة والسيارة والذرة، ويفجر الطاقات ويمد الجسور، ويفعل مثل ما فعل الآن في روسيا وأمريكا واليابان والصين وفي أي مكان.
أيها الإخوة: إن العلم بلا إيمان لا ينفع الشعوب والأرواح في حياتها، إنهم يشكون أساطينهم، وقد قرأتم كتب أذكيائهم وعلمائهم وهم ينذرون أممهم أنها تمشي إلى الدمار أما تفشت فيهم الخيانة والعمالة والضلالة؟ أما سفك الدم؟ أما أصبحت الأعراض منتهبة؟ أما انتشرت الأمراض الخطيرة من الاتصال الجنسي؟ أما أتت الأمراض ففتكت بهم في الأعصاب والعقول والأدمغة؟ أما يعيشون الحسرة والقلق؟ والعجيب أن صاحب كتاب دع القلق وابدأ الحياة دايل كارنيجي الأمريكي، ألف الكتاب هذا وترجم إلى تسعة وخمسين لغة، وفي الأخير لم يجد هو السعادة فانتحر، انتحر الذي أراد أن يعالج الناس من الأمراض فأنا أقول: إن الإيمان الذي نحن مكلفون به لا بد له من علم، والعلم الذي نخاطب الأمم به لا بد له من إيمان، ثم لا يمنعنا ذلك أن ننتج كما أنتجوا، وندخل المصانع كما دخلوا، ونقدم للبشرية كما قدموا، فالسؤال في واد وكلامي في واد آخر.(205/19)
غرس الخوف من الله في النفس
السؤال
كيف يخلق الإنسان في نفسه الخوف من الله، مع أن الإنسان يترك بعض الأعمال السيئة خوفاً من الناس وليس من الله، فكيف يكون العكس؟
الجواب
أولاً: السؤال لا بد أن يلاحظ عليه أنه يقول: يخلق، والإنسان لا يخلق بل هو مخلوق: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] فعبارة (يخلق) خطأ ولا تستخدم، واستعمالها استعمال بئيس لا يصح عقلاً ولا لغةً ولا نقلاً من الكتاب والسنة، والذي يخلق الأفعال في القلب وفي الروح وفي الجسم هو الله الواحد الأحد، واعتقاد أهل السنة أن الناس مخلوقون بأفعالهم، وقد ألف الإمام البخاري كتاب خلق أفعال العباد، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] إذاً فالصحيح أن تقول: كيف يشعر الإنسان بالخوف من الله؟ عليه بأمور ثلاثة:
أولها: أن يتذكر الموت كثيراً.
ثانيها: أن تكون ثقافته الكتاب والسنة.
ثالثها: أن يحصن نفسه من المعاصي ويكثر من التوبة والاستغفار، وعسى الله أن يهديه سواء السبيل.(205/20)
حكم تعلم الرياضيات
السؤال
عندنا إمام في مسجدنا يقول: إن الرياضيات ليس فيها خير، فما رأيكم؟
الجواب
الذي يقول: إن الرياضيات ليس فيها خير هو اجتهاده، واجتهاده لا يجعله مبدأ للناس ومنهجاً يسيرهم عليه، ونحن نقول للناس في الأمور التي لم يأت بها الكتاب والسنة: قناعتكم لكم، والأمور الاجتهادية يختلف فيها، أما أن تأتي وتشرع للناس وتخطب في الناس وتقول: هذه لا خير فيها، وهي مما يخالف فيها، فهذا غير صحيح، أمرك لك، وقناعتك لك وابق في مجالك، وأما الذي يعلم أن المسلمين لا بد لهم من هذه العلوم كالرياضيات وبعض التخصصات -لأن الأمة لا بد أن تتطور في عالم الحضارة والإنتاج، ومقابلة الأمم في الساحة- فرأيه أشبه شيء بالخطأ وهو بعيد، فلا بد مع الكتاب والسنة من رياضيات ومع الرياضيات من كتاب وسنة إذاً فالإيمان لا بد أن يقترن بأي علم، وهو ما تطرقنا له في الكلام.(205/21)
عدم تعارض العلم الشرعي مع أي حقيقة علمية
السؤال
إذا تعارض العلم الشرعي بحقيقة علمية مثبتة فما العمل، وهل يمكن ذلك؟
الجواب
لا يمكن هذا ولا يحدث، وقد ألف ابن تيمية كتاب درء تعارض العقل والنقل، فالعقل لا يخالف النقل، والحقائق العلمية لا تخالف الكتاب أو السنة، ولو حدث هذا فعلى أحد محملين: إما أن الحديث ضعيف ليس بثابت عنه صلى الله عليه وسلم، فيأتون بالحديث الباطل الضعيف أو الموضوع الكذب فيعارضون به نظرية ويقولون للمسلمين: يقول رسولكم صلى الله عليه وسلم هذا والعلم يقول هذا، فنقول لهم: الحديث لم يثبت.
أو أن النظرية لم تنضج ولم تصبح حقيقة لأنها تتدرج إلى أن تصبح حقيقة، ولذلك معارضة القرآن أو عرض القرآن للنظريات فيه خطورة لأنها تتغير، فقد يكتشفون اليوم شيئاً وغداً يعودون عنه، وبعد عدٍ يثبتون ما لم يثبتوا بالأمس، فعرض القرآن وجلوه للنظريات فيه خطورة كبيرة.
فأقول حقيقةً لا يوجد معارضة بين ما يكتشف وبين الكتاب والسنة إلا من ناحيتين: إما أن يكون الحديث باطل أو أن تكون النظرية هذه ما أصبحت حقيقة واقعة بعد.(205/22)
ترجمة بعض المؤرخين للحجاج
السؤال
فضيلة الشيخ! أرجو أن تذكر بعض المؤرخين الذين ترجموا للحجاج بن يوسف الثقفي، لأنه اشتهر عنه بين بعض الناس الظلم وسفك دماء المسلمين الأبرياء؟
الجواب
أولاً: الحجاج بن يوسف الثقفي الحاكم الوالي على العراق في عهد بني أمية، في عهد عبد الملك وولده الوليد بن عبد الملك، نقول فيه معتقد أهل السنة والجماعة: أنه من عصاة الموحدين، ومذنب صاحب كبائر وسفاك، لكنه من عصاة الموحدين، لا نشهد عليه بالنار ولا يخرج من الإسلام، لكننا نخاف عليه العذاب، فإن أهل السنة والجماعة لا يخرجون أهل الكبائر بكبائرهم من الإسلام، لكن يخافون على المسيء ويرجون للمحسن، والخوارج يكفرون أهل الكبائر، وهذا مذهب باطل بدعي لا صحة له.
ممن ذكر الحجاج ابن كثير وقد أنصف في ترجمته، لكنه قال في كلمات (قبحه الله) أي: الحجاج، ومؤرخ الإسلام بجدارة وأصالة وعمق هو الذهبي، وقد ترجم له في سير أعلام النبلاء، فقال: الحجاج بن يوسف الثقفي له حسنات منغمرة في بحار سيئاته، نبغضه ونعتقد أن بغضه من أوثق عرى الدين، وأما ما ورد عنه من السفك للدم فهذا أمر متواتر ومشهور بين الأدباء والمؤرخين والعلماء، فقد قتل مائة ألف، كثير منهم أبرياء، وأهان كثيراً من الصحابة الأخيار، وقتل سعيد بن جبير، حتى قال الحجاج: رأيت في المنام كأن القيامة قامت، وكأن الناس أحضروا للحساب، وكأن الله قتلني بكل رجل قتلته قتلةً، إلا سعيد بن جبير فقتلني به على الصراط سبعين قتلة.
فـ الحجاج بلا شك قتل وسفك وأمره إلى الله عز وجل، وقد حضرته الوفاة بعدما قتل سعيد بن جبير، فقد كان سعيد يقول وهو في سكرات الموت: اللهم لا تسلطه على أحد بعدي، اللهم لا تسلطه على أحد بعدي، يا قاصم الجبابرة! اقصم الحجاج، يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج، فمرض شهراً كاملاً وأخذ يخور كما يخور الثور، وكان يقول: أرى في كل ليلة أني أسبح في دم.
ومن النكت والطرائف أنهم مروا بقبره بعد موته فسمعوا صوت تعذيب في قبره، فقال أخوه يعتذر له وهو حينئذٍ يمشي مع الأحياء على القبر: رحمك الله يا حجاج تقرأ القرآن حتى في القبر! هذا هو الحجاج بن يوسف.(205/23)
معنى: (تعالى جدك)
السؤال
في دعاء الاستفتاح جملة لا نعرف معناها وهي: (وتعالى جدك) مع أني أقرأها في كل صلاة؟
الجواب
( تعالى جَدكَ) لاتنطق إلا هكذا، ولا تقل: جِدك، فالجِد هو بذل الجهد في الشيء، وجَدك يطلق في الأنساب على أب الأب وما علا، والجدَ يطلق على الحظ، فمعناها: تعالى مقامك وحظك وقداستك، أي: تعاليت يا رب، وهو يعني المقام أي: مقامك وكبرياؤك وعظمتك، فمعناها يدور حول هذه المعاني.(205/24)
القصيدة المدوية
السؤال
أرجو أن تذكر القصيدة التي قلتها في الأستاذ سياف؟
الجواب
هذه القصيدة اسمها المدوية، أو الإسعاف في إتحاف سياف، وقد أرسلت بها له وللمجاهدين، ومنها:
سياف في ناظريك النصر يبتسم وفي محياك نور الحق يرتسم
وفيك ثورة إسلام مقدسة بها جراح بني الإسلام تلتئم
حطمت بالدم أصناماً محجلة وصافحت كفك العلياء وهي دم
ثأرت لله وللدين الحنيف فلم يقم لثأرك طاغوت ولا صنم
على جبينك من سعد توقده وخالد في رؤى عينيك يقتحم
حلق إذا شئت فالأرواح طائرة فعن يمينك من عاهدت كلهم
وصغ من المهج البيضاء ملحمة يظل يقرؤها التاريخ والأمم
موتا على صهوات البيد يعشقه أهل البسالة في عليائهم شمم
لا موت من تسكر اللذات فطنته حياته في الورى سيان والعدم
سياف خذ من فؤادي كل قافية تجري إليك على شوق وتستلم
قد صغتها أنت إسلاماً ومكرمة وفي سواك القوافي أشهر حرم
كادت معاليك أن ترويك معجزة لكن تواضعك الأسمى لها كتم
كأنما أنت كررت الألى ذهبوا هذا صلاح ومحمود ومعتصم
السائرون وعين الله ترقبهم السابحون وبحر الهول مضطرم
أكفانهم نسجوها من دمائهم على مطارفها النصر الذي رسموا
ماتوا ولكنهم أحياء في غرف من الجنان وذابوا لا فقد سلموا
إلى آخر ما قلت.(205/25)
الغيبة والنميمة بين الطلاب
السؤال
ما هو رأيكم في النميمة التي تحصل أيام القبول والتسجيل، كما يقول بعض الطلاب: هذا الدكتور فيه كذا، وذاك فيه كذا وكذا إلى آخره؟
الجواب
هذه معصية مركبة، غيبة ونميمة، ليست معصية بسيطة لكنها مركبة من غيبة ونميمة، وبعض الطلبة يظن أنه يجوز غيبة الأساتذة، وأكثر ما يتشاغلون -بالاستقراء- في مجالسهم بغيبة الأساتذة، وخاصة إذا كان هناك عداء شخصي، فهذا يحرم ولا يظن الإنسان أنه ما تحرم الغيبة إلا في القرى أو في المسجد، لا.
بل الغيبة هنا أشد وأشد، لكنها بين طلبة العلم، وبين الدعاة، وبين الأساتذة، وبين المتعلمين، فأنا أنصح هذا الأخ أن يتقي الله في نفسه، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وليعرف أن هذه الأعراض وهذه المقامات مقامات المسلمين أساتذة ومعلمين ولا ينبغي أن تبتذل أعراضهم وتنتهك، وأن تشرح أخلاقهم، فهذا من الأسف الشديد، وهو إثم كبير والله المستعان.(205/26)
من هو القدوة
السؤال
هل يصح لي أن أكون معلماً قدوة ومعلماً صالحاً إذا كان ثوبي طويلاً، وأحلق لحيتي وأشرب الدخان وأزيد أنا يا شيخ وأقول: نحن نرتب هذه المحاضرات ليحضر الطلبة، وهي محاضرات محسوبة عليه، فيهرب البعض من فوق السور وهم قدوة لنا، فما تعليقكم؟
الجواب
أنت تريد أن ترد على السائل، تهاجمه مثل ما هاجم الأساتذة، هذه المعاصي التي ذكرها الأخ في السؤال كقول القائل:
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
ونحن أمرنا أن نقوم الناس بحسناتهم وسيئاتهم، ولا نأتي إلى صاحب السيئة الصغيرة فنكبرها حتى تصبح مثل الجبل، ولا إلى الحسنة الكبيرة فنصغرها حتى تصبح كالنمل، لا يقول سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
فالذي يشرب الخمر لانقول له: أنت بمنزلة المسبل للثوب، والذي يسرق لا نقول له: أنت بمنزلة من يحلق لحيته، لكن من هو المعلم الذي نقيس أحوالنا وأفعالنا وأقوالنا عليه؟ أليس هو الرسول عليه الصلاة والسلام؟ بلا شك هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنا أشكر فيكم وفي عميدكم هذه الروح الشجاعية والشورى ومبدأ حرية الرأي، كعرض هذه الأسئلة؛ لأن بعض المستويات ما يسمح بطرح هذه الأسئلة، ولا بد من هذا ليعرف الناس بعضهم بعضاً، ونحن أمة الشورى وأمة الحرية وأمة العقل المدرك، لا الإرهاب العقلي.
والأستاذ الذي يفعل ذلك نقص من قدوته وأخطأ كثيراً، وطمس جانباً من معالم رسالته، وهو لا زال مسلماً -والحمد لله- وفيه خير كثير ويستفاد منه، لكن موقفنا منه أن ننصحه وأن نوجهه حتى يكون كاملاً، يقول أبو الطيب المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام
وآنف من أخي لأبي وأمي إذا ما لم أجده من الكرام
فأنت كن كريماً متبعاً للرسول عليه الصلاة والسلام، واعرف أنك لم تكون كاملاً حتى تقتدي به في الثوب واللحية، وفي ترك الدخان، وفي ترك الأكل والشرب بالشمال لتكون كاملاً، أما أن نجزئ الإسلام ونقول: هذه قشور وهذه لباب، فمن قال إنها قشور ولباب؟! الذي أتى لنا بلا إله إلا الله وبالقرآن هو الذي أتى لنا باللحية وبتقصير الثوب، والذي أتى لنا بحقوق الإنسان وحب الإنسان وفقه الإنسان هو الذي أتى لنا بهذه السنن.
وأما ما ذكره الدكتور من أن بعض الطلبة يقفزون على السور، فهذا من عدم تطبيقهم للعلم، وعدم انتفاعهم به، وهو مخالفة للعقل والنقل، فأما النقل فإن النصوص من العمادة تنص على أن هذا أمر باطل مجمع عليه من كافة المذاهب، فهو عصى الأمر الأمور، والعاصي جزاؤه معروف.
وأما عقلاً فإنه لا يليق -حتى عند غير المسلمين- أن تصبح هذه المؤسسات العلمية كحديقة الحيوان، أو كمتسلق، أو كالجبال، فعلى الإخوة الطلاب، أن يتقوا الله، وأن يجعلوا مع العلم الأدب والإيمان والحب والطموح.(205/27)
حقيقة أهل الحداثة
السؤال
ما هي الحداثة وهل هي مذهب أدبي أم أنها نظرة شاملة للحياة من غير منظور الإسلام؟
الجواب
أهل الحداثة يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وهم على أقسام: مقتصد وظالم وسابق بالخيرات، ومعنى الحداثة: الثورة على كل قديم، وهي مذهب قالباً ومضموناً، وسوف أقسم الحداثيين في الساحة، وسوف أتكلم عن أهم مقاصدهم الرمزية والغموض الأدبي، فهم يقولون: إننا نضع قالباً لا حجر علينا فيه، ونحن نصدقهم على هذا، وهذا سور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، نوافقهم على القالب ونقول: ليس بحرام أن نخرج على الستة عشر بحراً أو السبعة عشر بحراً الموجودة في الساحة، لكن نقول: ما هو المضمون الذي تضعونه؟ فيقولون: نحن متصرفون ولنا مطلق الحرية.
قلنا: لا.
هناك كتاب وسنة، وكثير منهم نادى بالثورة على اللغة وعلى الدين وعلى الرسالة، فيقول: كل قديم نثور عليه، بما فيه القرآن والكعبة والرسول عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء ملاحدة بلا شك، وهو مركب أدونيس والسيَّاب، وقد أتى هذا بكثير من الساحة لا أذكر أسماءهم، وقد عرضت أسماؤهم عندكم في كثير من المنشورات والمقالات والكتب، فهذا القسم حظه معروف، وعليه أن يتوب إلى الله فقد ارتد عن الإسلام.
والقسم الآخر: قسم يقول: لا مشاحة في المضمون، نحن مسلمون، لكن نكتب في قالب أدبي، ومن يحجر علينا؟ فبدلاً من أن القصيدة عمودية نجعلها منثورة، كهذا الشعر الموجود الذي ترجم، قلنا لهم: لكم ذلك لكن احذروا في المضمون وهؤلاء لا غبار عليهم، وقد نادى بهذه الفكرة أناس كثير منهم، ونقول لهم: أنتم لا زلتم في الإسلام، لكن اتقوا الله في المضمون.
فهم على قسمين اثنين: أهل قالب لا شر فيه، وأهل مضمون كله شر وزندقة، وقد عرض لكم عنهم شيء كثير من التوجيه والملاحظة في كتب وأشرطة.(205/28)
الذهاب إلى الجهاد بدون إذن الوالدين
السؤال
أرجو من فضيلتكم بيان حكم من يذهب إلى أفغانستان لقصد الجهاد دون علم من أهله، أو أن يخبرهم بذلك؟
الجواب
لا بد من استئذان الوالدين في الذهاب إلى أفغانستان، وقد كثر الكلام في مسألة الاستئذان والذهاب، أما مسألة الجهاد فلا بد من الكلام فيها طويلاً.(205/29)
أخذ النظريات وتجارب الغربيين
السؤال
قدوتنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم بلا شك، ولكن عند تطبيقنا في المدارس نأتي على طريقة فلان وعلان في التربية، ووظيفة فلان في الثواب والعقاب، وفلان في الحروف ودرجة الذكاء، فما رأي شيخنا هل نواصل مسيرتنا ونحن نأخذ من الغربيين ونحن نملك أعظم طريقة للتربية؟
الجواب
أولاً: يفرق بين العلم الذي أتى به صلى الله عليه وسلم والإيمان، فنأخذه من الرسول صلى الله عليه وسلم، والتجارب لا بأس أن نأخذها من الأمم، وقد رد في أثر بعضهم يرفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه من كلام علي: [[الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها أنى وجدها]].
والشيطان علم أبا هريرة آية الكرسي، وقال له كما في الصحيحين: إذا قرأتها لا يقربك شيطان.
فأخذها أبو هريرة.
فالتجارب والنظريات التي وصل إليها الغربيون لا بأس أن نأخذ مايستفاد منها، كهؤلاء الذين كتبوا في علم النفس؛ بشرط ألا تعارض ديننا، فإذا عارضت إسلامنا وديننا وإيماننا رمينا بها وبهم وراء السور، وحرام أن ترد علينا، أما إذا لم تعارض فما هو الذي يحرم علينا أن نستفيد منهم؟ كما استفدنا منهم في هذه الوسائل، في المكرفون والمال والماسة التي أمامي والكرسي الذي أجلس عليه، وكل شيء علينا هي منهم، حتى الطباشير -والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه- لا نعرف صنعها.
منهم أخذنا العود والسيجارة وما عرفنا ننتج السيارة
وأما الأمور المذمومة والمحتقرة فقد نقلت إلى الشرق، لكن الكماليات والفوائد والنوافع لم تنقل، فقد سمعنا من يغني ويطبل لأن الفرنسيين غنوا وطبلوا؛ لكن ما سمعنا من يصنع السيارة ويقدم الثلاجة لأن الفرنسيين صنعوا السيارة وقدموا الثلاجة!
مر أحد الناس بشيخ يقرأ على طلابه في الروض المربع، وهو كتاب معروف للحنابلة في الفقه، فقال أحد هؤلاء الشباب المتطورين الذين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لا خارج العالم ولا داخله، قال: يا شيخ! أنت تشرح في الروض المربع والناس صعدوا على سطح القمر! فقال له الشيخ: يا أخي! أما أنت فلا صعدت على القمر ولا جلست معنا في الأرض تقرأ الروض المربع.
وهذا صحيح، هؤلاء الذين يهزءون بنا لأننا نتكلم في هذه القضايا هم ما ذهبوا ولا قدموا لنا شيئاً، وقد يعذر الخواجة لأنه قدم للبشرية شيئاً، ولكن لا يعذر لتركه الإيمان، فلينتبه لهذا.(205/30)
حكم التصوير وتعليق الصور والغناء
السؤال
ما حكم التصوير التلفزيوني، وتعليق الصور، وما حكم الغناء؟
الجواب
هذه ثلاثة أشياء: التصوير التلفزيوني أو الفيديو أو نقل الصورة، الذي أعرفه أنه إذا كان يترتب على هذا التصوير مصلحة أعظم من مفسدته فلا بأس به، كأن ينقل صورة هذا اللقاء إلى مكان أو إلى صالة أو إلى أمكنة يستفيد منها المسلمون، وأما التصوير في التلفزيون فأمر آخر، وأنا أتكلم عن التصوير لنقل اللقاءات والمحاضرات والكلمات، فلا بأس به وهو من وسائل الدعوة، لينقل إلى أمكنة، ويستفيد منه جموع من المسلمين؛ لأن هذه الوسائل إذا لم تستغل في خدمة الدعوة فسوف يبقى مجالنا ضيق وقليل، وسيأتي الكافر ويسبقنا على هذه الأمور، ونحن نقف مكتوفي الأيدي.
وأما الغناء فهو حرام، وقد اشتهرت في حكمه الأدلة وتظافرت، وأما الذين يفتون بعدم تحريمه، فليس لهم دليل، والأدلة على ذلك كثيرة من القرآن والسنة، منها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مالك الأشعري في البخاري: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} واستحلالها يكون بعد التحريم، وفي سنن أبي داود: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع أصبعيه في أذنيه لما سمع زمارة راعي} إلى غيرها من الأدلة، وقد تعرض ابن تيمية في كتاب الاستقامة للغناء، وذكر أنه مسكر، ويوجد من الشهوات والشبهات ما الله به عليم، بل هو بريد الزنا، وما وجدت الجريمة والتفسخ وعدم احترام الأعراض إلا بهذه الوسائل من العشق والوله والجريمة، ومن أعظم مصائب الغناء إخراج حب الله عز وجل من القلب.
وتعليق الصور لا يجوز، وليس فيها مصلحة ولا فائدة، وليست بضرورية، والصور إنما هي للضرورة، مثل الحفيظة والاستمارة وما يدخل في حكمها، وأما تعليقها للتعظيم فهذا حرام، وما ينبغي أن يكون لا في الصالات ولا في المكاتب، وهو يخالف نصوص الوعيد التي أتى بها المصطفى عليه الصلاة والسلام وقالها.(205/31)
حب المدح والثناء
السؤال
فضيلة الشيخ! لي قلب يحب المدح والثناء، فما نصيحتكم لي؟ وأرجو ألا تنسوني من صالح دعائكم؟
الجواب
وفقنا الله وإياك وكل مسلم أما ما ذكرت أنك تحب المدح والثناء فهذا على قسمين:
شكا بعض الصحابة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الأمر، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: {قلت: يا رسول الله! الرجل يعمل العمل يريد به وجه الله فيمدح فيستبشر، قال: تلك عاجل بشرى المؤمن} فلا بأس إذا عملت العمل لوجه الله عز وجل ثم أثنى عليك الناس، كأن دعوا لك بظهر الغيب، أو قالوا: فلان طيب، فإنها من موجبات الرحمة، فقد قال عليه الصلاة والسلام لجنازة مرت به وأثنى عليها الناس: {وجبت وجبت، وقال للأخرى لما أثنوا عليها شراً: وجبت وجبت.
قالوا: ما وجبت في الأولى والثانية؟ قال: تلك أثنوا عليها خيراً فقلت: وجبت لها الجنة، وتلك أثنوا عليها شراً فقلت: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه}.
وأما أن تعمل العمل من أوله لقصد الثناء والمدح فهذا رياء وسمعة، نعوذ بالله من ذلك، وهو محبط للأعمال، ودواؤه أن تعلم أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، ولا يجزل الثواب إلا الله، ولا يعطي إلا الله، ولا يرفع من مقامك إلا الله، ولا يحببك ولا يبغضك إلا الله، فخذ الحب والثواب والأجر منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وما عليك من الناس إن مدحوك أو ذموك.
وجزى الله خيراً كل من ساهم في هذا اللقاء، وأشكركم شكراً لا حد له، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(205/32)
عقبات في طريق الدعوة
طريق الدعوة طريق مليء بالعقبات، مفروش بالمخاطر والتضحيات؛ لأن الجزاء الجنة.
وفي هذا الدرس بيان بعض عقبات الطريق الذي يسير عليه الداعية، وكيف تجتاز هذه العقبات، فالنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من السلف كانت أمامهم عقبات في طريقهم في الدعوة لكنهم استعانوا بالله فأعانهم عليها.(206/1)
أخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم في دعوته
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله، حتى أتاه اليقين، فصلِّ اللهم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
تمنيت الحجاز أعيش فيه فأعطى الله قلبي ما تمنى
سقى الله الحجاز وساكنيه وروى كل رابية ومغنى
عنوان هذه المحاضرة عقبات في طريق الدعوة، ولها عناصر:
- ما هي العقبات التي تعرض للدعاة؟
- ما هي الحجب التي تغشى أبصار المدعوين؟
- ما هي الأزمات التي يتعرض لها من ينصح ومن يدعو ومن يوجه ومن يوعي الناس؟
هذا ما سوف نجيب عنه إن شاء الله، والموفق الله، والهادي الله.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
أول العقبات: اتباع الهوى الذي يصد عن منهج الله.
العقبة الثانية: الكبر من المدعو فلا يقبل الحق.
العقبة الثالثة: كثرة أهل الباطل وقلة أهل الحق.
العقبة الرابعة: جلساء السوء الذين يصدون عن منهج الله وهم أعداء الأنبياء والرسل.
العقبة الخامسة: فتور الدعاة وضعف الدافع.
العقبة السادسة: انصراف الناس إلى الدنيا على حساب الدين.
وقبل أن أبدأ وقبل أن أتكلم، أقف مع أكبر داعية في العالم، فهو المصلح العظيم، أقف مع الذي هدى الله به البشرية، وأنار به أفكار الإنسانية، وزلزل به كيان الوثنية، أقف مع الرحمة المهداة، الذي قال الله له من فوق سبع سموات: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67].
فبلغ أتم البلاغ والله، وهدى أتم الهداية، إي والله، وجاهد أتم الجهاد، وايم الله، والله ما تركنا إلا على مثل البيضاء ليلها كنهارها، ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه، نصح ووجه ودعا، وجاهد وخاطب وأفتى، وقدم دمه، ودموعه، وقدم وقته وماله وجهده.
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه
نشأ يتيماً، الناس عندهم أبوان، يدلل كل أب طفله وتدلل كل أم طفلها، أما محمد عليه الصلاة والسلام فيتيم.
أنت اليتيم ولكن فيك معجزة يذوب في ساحها مليون جبار
الشمس والبدر في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار
نشأ يتيماً يصارع الحياة، فما عرف حنان الأب، ولا رقة الوالدة، ونشأ عليه الصلاة والسلام مرة مع عمه، ومرة مع جده، ومرة مع قريبة، ما خان في جاهليته، فكيف يخون في الإسلام؟! وما كذب في حياته كذبة، فكيف يكذب بعد أن نزل عليه الوحي؟! قال عنه ربه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [لنجم:1 - 4].
يا من ألقى محاضرة، محمد عليه الصلاة والسلام ألقى آلاف المحاضرات، يا من دمعت عينه في مجلس دعوة، محمد عليه الصلاة والسلام سالت دماؤه في كل معركة في سبيل الله، إصبعه تسيل في حنين، وهو يقول:
هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
بيته من طين وقد سكن الدعاة القصور، يسير في شدة الحر وقد تكيفوا بالمكيفات، ويركب على الحمار وقد استقلوا السيارات الفاخرة، فهو عليه الصلاة والسلام كما قال الأول:
كفاك عن كل قصر شاهق عمد بيت من الطين أو كهف من العلم
وصل إلى الأربعين فدعا إلى الله، فأخرجه قومه، القريب قبل البعيد، ذهب إلى أهل الطائف، فطردوه أين يذهب؟!
قتل أصحابه بين يديه، فبكى حزناً عليهم، لكنه عاد أقوى مما كان.
ضربت بنانه عليه الصلاة والسلام فما انهار، أصبح أقوى من ذي قبل، أتاه الخبر أن سبعين من القراء ذبحوا مرة واحدة، فسالت دموعه على لحيته الشريفة، وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، جاءه الخبر وهو في المدينة، قالوا: أبو سفيان أقبل هو والمشركون مع اليهود، والمنافقين، فقام وأخذ اللامة والسيف، وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
تأتيه الأخبار المدلهمة، فيتقوى، قالوا: شاعر، وثبت، قالوا: ساحر، وثبت، قالوا: كاهن، وثبت، قالوا: مجنون، وثبت، وانتصر في آخر المطاف.
وصفه الله بأوصاف عجيبة، وصفه باللين، فقال له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وصفه بالصدق فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] وصفه سُبحَانَهُ وَتَعَالى أنه على خلق عظيم، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
فيا دعاة الإسلام! ويا طلبة العلم! قدوتكم محمد عليه الصلاة والسلام، الذي ما مات حتى بلغ الدعوة مشرق الأرض ومغربها، وقال وهو يلفظ أنفاسه: {والذي نفسي بيده، لا يسمع بي يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار}.
قامت العرب بالسيوف في وجهه، فقام بالسيف، قاتلوه فقاتلهم، حاربوه فحاربهم، قاطعوه فقاطعهم، حتى نصر الله دينه، ورفع كلمته، ودخل يوم الفتح وراية لا إله إلا الله محمد رسول الله ترفرف في السماء.
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم(206/2)
اتباع الهوى
أول العقبات في طريق الدعوة: اتباع الهوى.
إن الهوى إله يعبد من دون الله، وما ترك الطريق المستقيم من تركه إلا لأنه اتبع هواه، وهواه إما أن يبقى ضالاً، أو شقياً أو تعيساً، أو يبقى مصاحباً لفاجر، أو عبداً لأغنية، أو متعلقاً بصورة، أو متلذذاً بفجور، أو منتكساً على عقبه، لا يعرف المسجد، ولا القرآن ولا الهداية، ولا طريق الجنة، قال سبحانه: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] والهوى يغلب العقل، نعوذ بالله من اتباع الهوى.
وآفة العقل الهوى فمن علا على هواه عقله فقد علا
وبعضهم يقول:
وآفة العقل الهوى ومن علا هواهُ عقلَهُ هواه فقد هوى
أي: إذا علا هواك على عقلك؛ فقد هويت على رأسك في نار جهنم -والعياذ بالله- وقال سبحانه: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
وسبب نزول الآية عند المفسرين: أن الرسول عليه الصلاة والسلام جاءه قوم من الكفار من عبدة الأوثان وشربة الخمر والزناة، أهل الدعارة والكبر، لابسي الذهب والحرير، قالوا: يا محمد، إن كنت تريد أن تدعونا، فأخرج هؤلاء المساكين والعبيد والفقراء من عندك، فإنا من علية القوم ولن نجلس مع هؤلاء، فهمَّ عليه الصلاة والسلام أن يخرجهم وكان منهم بلال وابن مسعود، وأمثالهم وأضرابهم.
هَمّ أن يخرجهم من المجلس؛ فأنزل الله قوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28] يقول أحد العلماء معلقاً: اصبر مع المساكين، اجلس مع الفقراء، فالخير معهم، والنصر معهم؛ لأنهم صادقون، قبلوا الإسلام بلا طلاء، وقبلوا الإسلام بلا رشوة، وقبلوا الإسلام بلا تأليف، وهم الذين سوف تقوم عليهم الدعوة غداً.
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] فقال عليه الصلاة والسلام: بل أجلس معكم، فجلس معهم عليه الصلاة والسلام.
وصح أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يكسب ود كبار وسادات قريش المترفين، وكان ابن أم مكتوم يريد أن يسأله مسألة، وكان مسلماً قد نور الله قلبه، ومع أنه أعمى البصر فقد كان منور البصيرة، وسماه الله في القرآن أعمى، ولكن في سورة الرعد قال سبحانه: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19].
الأعمى هو من عميت بصيرته، وعمي قلبه، ولم يعرف طريق الاستقامة، ولا طريق المسجد، ولم يحمل القرآن، ولم يعش الدعوة والذكر.
جاء ابن أم مكتوم فأجلسه عليه الصلاة والسلام، فجاء كبراء مكة فصد عنه عليه الصلاة والسلام واستقبلهم واحتفى بهم؛ لأنه يريد أن يكسبهم، وأتى العتاب من الواحد الأحد: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] عبس محمد وتولى عليه الصلاة والسلام لماذا تعبس وتتولى؟ {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:2] لأنه فقير مسكين تعرض عنه؟! ألا تدري أنه يحمل قلباً سليماً يقول سيد رحمه الله في الظلال: أما تعرف أن هذا الرجل الأعمى سوف يكون منارة من منارات الأرض تستقبل نور السماء، وبالفعل أصبح هذا الأعمى منارة من منارات الأرض تستقبل نور السماء، حياً على الهواء مباشرة، وحضر معركة القادسية وقال: احملوني أقاتل، وقالوا: أنت معذور لأنك أعمى، قال: والله الذي لا إله إلا هو لا أسمع قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] وأتخلف! فحملوه وحمل الراية، وقتل في سبيل الله.
هذا هو الأعمى.
أما الكبراء، فقتلوا في بدر إلى نار جهنم، إلى نار تلظى، وقدمهم عليه الصلاة والسلام هدية وقرباناً إلى الواحد الأحد، قتلهم وقطع رءوسهم؛ لأنهم ما عرفوا الهداية والنور.
قال سبحانه: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16] هذا الخطاب لموسى حتى عرفه الله على نفسه أكبر تعريف، والداعية عليه أن يعرف الله عز وجل، إذا سئل عنه أن يقول: هو الله الذي لا إله إلا هو، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
قال الله سبحانه لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] وهذا تعريف لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
ذُكر أن سيبويه صاحب الكتاب في النحو رئي في المنام بعد موته، قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ذنبي قالوا: بماذا؟ قال: كتبت في كتابي الكتاب لما وصلت إلى لفظ الجلالة: الله أعرف المعارف غني عن التعريف.
فلقد استحيا سيبويه أن يعرف الله عز وجل، وآياته شاهدة بألوهيته.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
فهنا يقول: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [طه:16] والهوى قد يكون في زوجة تصدك عن منهج الله، وقد يكون في أغنية، وقد يكون في مسرحية، وقد يكون في سيجارة، وقد يكون في لعبة، وقد يكون في معصية هائلة تصدك عن منهج الله.
وقال سبحانه: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] ولذلك دعي كثير من الناس، فأبطأ بهم الهوى وصدهم عن منهج الله، وقال سبحانه مبرأً رسوله عليه الصلاة والسلام من الهوى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3 - 5].
لا يعرف الهوى، ولا يمر به الهوى، بل هو مقيد بالكتاب والسنة عليه الصلاة والسلام، قال سبحانه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] أي: جعل معبوده هواه، يطيع الهوى: يقول له الهوى: تعال إلى الفراش ولا تصلِ فيجيب، ويقول له: اترك القرآن وتعال إلى الأغنية، أو لا تصاحب أولئك الصالحين، واصحب هؤلاء المعرضين الفاجرين، فيقول له الهوى: لا تسبِّح فيجيب.
متى يهديك قلبك وهو غافٍ إذا الحسنات قد أضحت خطايا
متى يهديك عقلك؟ متى تهتدي إذا لم تعلم أن داءك في هذا الإعراض -والعياذ بالله- وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {ثلاث مهلكات: اتباع الهوى، وإعجاب المرء برأيه، وشح مطاع}.
فأما اتباع الهوى وأن يقودك عقلك إلى كل مكان، فتسقط فيه، أي أن هواك يغلب عقلك، فتقع في شرك الهوى -والعياذ بالله من الهوى- والهوى يردي، وهو منتشر عند الناس، فأعظم عقبة في وجه الدعاة تصادفهم هي: اتباع المدعوين لهواهم، تقول للرجل: تب، فيريد ولكن يقول له هواه: لا تفعل.
تريد الناس أن يتوجهوا إلى المسجد، فيقول هواهم: لا تفعلوا.(206/3)
أبو جهل اتبع هواه
اسمع إلى اتّباع الهوى في قصص بعض الناس:
أتظن أن أبا جهل لا يعرف أن محمداً عليه الصلاة والسلام صادق، بل يعرف أبو جهل ذلك، يقول أبو جهل: إني لأدري أن محمداً صادق، ولكن قال بنو هاشم: فينا السقاية، فقلنا: فينا كذا، فإذا قالوا: فينا النبوة فماذا نقول؟ قال سبحانه: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] يعرف نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وأنه صادق، لكنه ركب رأسه واتبع هواه.(206/4)
العاص بن وائل صده عن الله هواه
وصح أن العاص بن وائل السهمي من سادات قريش، وقد انتهت السيادة والله، فلا سيادة إلا بالتقوى، يقول عمر بن عبد العزيز: [[لما أتى الإسلام أسكت كل منافق وأبطل كل نافق، وأنطق كل ناطق، فتحدثت الكائنات بلا إله إلا الله، وأرغم الكفار بأنوفهم في التراب]].
فأتى بلال يؤذن من الحبشة، وأتى سلمان من أرض فارس يقول: لبيك اللهم لبيك، وأحرم صهيب من أرض الروم، وتولى أبو جهل وأمية والعاص بن وائل فكبكبوا على وجوههم في النار.
جاء العاص بن وائل بعظم يحته -لأن مشكلة الجاهليين عدم الإيمان باليوم الآخر، أدمغتهم كأدمغة الحمير! لم تهضم هذه القضية، كل قضية يهضمونها إلا قضية البعث بعد الموت- أتى بعظم فحته، ثم نفخه أمام الرسول عليه الصلاة والسلام ثم قال: يا محمد، أتزعم أن ربك يحيي هذا بعد أن يميته؟ قال: {نعم ويدخلك النار} وأنزل الله جواباً له ولأمثاله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79].
ذكر أهل الترجمة كـ الحكيم الترمذي وغيره، أن مجنون ليلى ركبه هوى ليلى -وبعض الناس يضيع ستين سنة مع أغنية أو امرأة أو كأس- فغنى بحبها حتى صار مجنوناً، يقول في بيتين له:
أتوب إليك يا رحمان مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوب
وأما عن هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوب
نعوذ بالله من الخذلان، لماذا لا يتوب؟ هكذا ركبه الهوى!
اللهم لا تمكر بنا، بل نتوب إليك من جميع الذنوب والخطايا، وكان عليه الصلاة والسلام يبكي في قيام الليل وهو يقول: {اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، أوله وآخره، وعلانيته وسره} ما أحسن الدعاء! ليس كمن يقول:
وأما عن هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوب
أغواك شيطانك وأعرضت عن منهج الله، ولو عرفت طريق الهداية لما قلت هذا الكلام.
وحكوا قصة رجل ركبه هواه آخر يوم في حياته وقد حضرته سكرات الموت، والوعد الحق يوم ينسى الإنسان زوجته وولده وأهله أتدرون ماذا يقول في سكرات الموت؟ يقول وهو يوصي أحد أبنائه:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد دفني عروقها
الكرمة العنب، وهي التي يتخذ منها الخمر، فيقول: إذا مت فابحثوا لي عن عنبة؛ لأني لا أعيش إلا على العنب والخمر في الدنيا، عسى قبري أن يكون بجانب عروقها تروي عظامي.
قال أهل العلم: اللهم لا تمكر بنا وثبتنا على الخاتمة الحسنة.
إذا علم هذا فأمثال ذلك كثير، أن صاحب المغني الفقيه الحنبلي، يشاركنا في الهوى المضل وهو يتكلم عن الفقه، ثم يضرب مثالاً على آمين يقول أحدهم:
يا رب لا تسلبني حبها أبداً ويرحم الله عبداً قال آمينا
وممن اتبع هواه وركبه شيطانه: القروي وهو شاعر مجرم، استقبل في دمشق على الأكتاف، سبحوا بحمده وأنزلوه من الطائرة، فوقف يحيي الجماهير، وركبه هواه، ونسي الواحد الأحد فقال في قصيدة له:
ألا مرحباً كفراً يؤلف بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
وتولاه الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله بسبعمائة بيت، فأخسأه وحقره، وقال: ركبك شيطانك وغلبك هواك.(206/5)
الكبر من المدعو
العنصر الثاني: الكبر من المدعو أعظم العقبات التي تواجه الدعاة وطلبة العلم، وكبر المدعو إما بمنصبه أو بماله أو بولده، وبعضهم يتكبر وهو على الحديدة والرصيف، لا يوجد لديه شيء وهو مع ذلك متكبر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح {ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: عائل مستكبر، وأشمط زان، وملك كذاب} قال ابن تيمية: إنما وصفهم رسول الهدى عليه الصلاة والسلام بذلك؛ لأن الداعي عندهم ضعيف، ومع ذلك كذب هذا، وزنا هذا، وتكبر هذا.
الفقير لا يعذر، والغني قد يعذر؛ لأن عنده مالاً وملايين، وبنوكاً وقصوراً وبساتين، لكن قل لي بالله في رجل لا يجد كسرة الخبز، وينام على الرصيف، ويتكبر عليك (أعمى ويناقر).
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني(206/6)
الكبر يمنع اليهود من الاسلام
إن الكبر هو الذي منع اليهود أن يدخلوا في الدين وكانوا يقولون: الأنبياء منا؛ مع أنهم يقرءون في التوراة أنه سوف يبعث نبي من العرب اسمه أحمد، عليه الصلاة والسلام: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
قال الترمذي بسند صحيح وأصله في الصحيحين عن عبد الله بن سلام، قال: {دخل عليه الصلاة والسلام المدينة فانجفل الناس} الجفلى عند العرب الدعوة العامة، إذا دعوت في زواج دعوة عامة فهذه تسمى عند العرب الجفلى، قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر
نحن ندعو الناس جميعاً، قال: عبد الله بن سلام: {انجفل الناس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكنت فيمن انجفل، فزاحمت حتى رأيت وجهه؛ فعلمت أنه ليس بوجه كذاب}.
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
قال: {فتكلم فإذا هو يقول} كلاماً ما سمع الناس بمثله، كلاماً مرتباً، كلاماً عميقاً أصيلاً يقول: {يا أيها الناس، أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام}.
قال راوي الحديث عبد الله بن سلام: {فأتيت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقلت: يا رسول الله، إني أسألك عن ثلاث لا يعلمها إلا نبي} هذه محاورة ساخنة حارة؛ لأن عبد الله بن سلام كان يقرأ التوراة، {قال: سل، قال: يا رسول الله، ما أول ما يأكل أهل الجنة؟ وما هي أول علامات الساعة؟ وكيف يشبه الولد أباه أو يشبه أمه؟} ما تفكر عليه الصلاة والسلام ولا تأمل، وإنما اندفع {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4 - 5].
قال: {أول ما يأكل أهل الجنة زيادة كبد الحوت، قال: صدقت، قال: وأما أول علامات الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، قال: صدقت، قال: وإذا سبق ماءُ الرجل نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماءُ المرأة نزع الولد إلى أمه، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، ثم قال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت -أي: يبهتون أهل زور- وإن علموا بإسلامي بهتوني، لكن أدخلني في هذه المشربة وراءك، وأغلق عليّ، واسألهم عني}.
فأدخله عليه الصلاة والسلام وأتى المتكبرون الجبابرة فأجلسهم أمامه.
ثم قال: {كيف ابن سلام فيكم؟ - مادروا أنه في المشربة- قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وابن حبرنا، وفقيهنا وابن فقيهنا، قال: أرأيتم إن أسلم؟! قالوا: أعاذه الله من ذلك، ففتح عليه الصلاة والسلام الباب فخرج ابن سلام يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فقاموا ينفضون ثيابهم يقولون: شرنا وابن شرنا، وخبيثنا وابن خبيثنا} ثم فروا.(206/7)
جزاء المتكبرين
في صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام: {أنه كان جالساً ورجل من الناس يأكل بشماله} وبعض الناس يتكبر حتى في الأكل، فتجد مسلماً يصلي ويحج ويعتمر، لكنه لا يأكل باليمين، ويظن التقدم والديمقراطية أن يأكل باليسار، حتى يقول: الأكل باليمين، أو تربية لحى، أو تقصير الثياب كل هذه قشور، يجب أن يكون الإسلام سمحاً، وأنتم ما فهمتم الإسلام، فهو يريد إسلاماً أمريكياً، فأتى الرجل يأكل باليسار، فقال صلى الله عليه وسلم: {كُلْ بيمينك، قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت -هذا دعاء- ما منعه إلا الكبر، قالوا: فما رفعها إلى فمه} يبست وجفت، وأصبحت كالعود صلبة، فما رفعها إلى فمه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام دعا عليه.
وخرج عليه الصلاة والسلام يعرض دعوته على أهل الطائف فما منعهم إلا الكبر، قال أحدهم: ما وجد الله إلا أنت يرسلك، وقال الثاني: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال الثالث: إن كنت نبياً فأنت أعلا من أن نكلمك، وإن كنت لست بنبي أو كذاب فإنا لا نكلم الكذابين، فما أجابوه، هذا الكبر من المدعوين.
وقال سبحانه عن المتكبرين من المدعوين: {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} [القمر:24] ولذلك بعض الناس أحرمهم الكبر دخول الجنة والسعادة والاستقامة في الدنيا والآخرة، يتكبر لماذا؟
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
مر أحد الأمراء بـ الحسن البصري وعليه ديباج وحرير، ومعه موكب، فقام الناس لهذا الأمير إلا عالم التابعين الحسن البصري ما قام، قال الوزير: ما عرفتني؟ قال: بل عرفتك، قال: من أنا؟ قال: أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذيتك تحمل العذرة، فسكت وخجل ثم أدبر.
هذه هي الحياة، العز عز التقوى وعز الاستقامة، لا كبير على الله عز وجل يقول سبحانه: {الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري؛ من نازعني فيهما قصمته} وفي رواية: {عذبته} حديث صحيح ولذلك يقول أحدهم في المتكبرين:
وجوههم من سواد الكبر عابسة كأنما أوردوا غصباً إلى النار
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً أهدوك من نورهم ما يتحف الساري
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
إن الذي منع قوم شعيب أن يتبعوه أنه ضعيف، لما قرأ ابن عباس قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود:91] قال ابن عباس: ضعيفاً: أعمى، فقالوا: أنت ضعيف وفقير فلا نتبعك، لماذا لم يبعث الله غيرك؟ وقد قال سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53] وقال سبحانه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] فالله أعلم من يصلح للخير ممن لا يصلح.
ولذلك بعض الأسر لا تستجيب لبعض الدعاة، يقول أحدهم: يأتي فلان يدعوني وهو أقل مني طبقة في المجتمع، يدعوني وهو فقير، يدعوني ولا منصب له، وما علم أن الدعوة ملك للجميع، ولذلك ما صد عن منهج الله شيء كالكبر.(206/8)
عامر بن الطفيل والتكبر
عامر بن الطفيل سيد من سادات العرب، كان عنده من قبيلته ألف مقاتل، إذا صاح صيحة حضر الألف بالسيوف، حتى إنه يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: إما أن تجيبني وتعطيني نصف الأرض، وإلا ملأت عليك المدينة خيلاً جرداً وشباباً مرداً، قال عليه الصلاة والسلام: {بل يكفيني الله إياكم بما شاء}.
أتى عامر بن الطفيل فأعرض عن منهج الله وكفر بالدعوة، وزيادة على ذلك صمم على اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن:
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطم
أخذ رجلاً اسمه أربد بن قيس، وقال: يا أربد بن قيس، تريد شرف الدهر؟! قال: ما هو شرف الدهر؟ قال: نقتل محمداً فنرتاح وترتاح العرب منه، قال: كيف نقتله؟ قال: أنا سوف أشغله بالحديث وأخرج به من المدينة، فإذا خرجت به وأشغلته فاضرب الرجل، وما علموا أن الحافظ هو الله وأن الله قد قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] بعدها {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] لن يقتلك أحد، أنت في حفظ الله، فلما وصل إلى المدينة، قال: يا محمد، نريدك أنا وصاحبي في كلمة، فخرج بلا سيف ولا سلاح، ولا رمح ولا حربةٍ، خرج بثيابه عليه الصلاة والسلام فلما خرج إلى الصحراء، أتى عامر بن الطفيل يتحدث له ويغمز للرجل بعينه، أن اضرب، فإذا رفع السيف رأى بارقاً أمام عينيه، وإذا بـ عامر بن الطفيل صاحبه بينه وبين الرسول يريد أن يضربه، ثم حاول وحاول، فلما طال النهار ودعه عامر بن الطفيل وذهب، فقال لـ أربد: لا تتبعني ولا تكلمني فأنت أجبن العرب قال: ولم؟ قال: ما قتلت الرجل منذ اليوم قال: والله ما رفعت سيفي إلا رأيت بارقة ورأيتك بيني وبينه، أفأقتلك؟ فلما ولوا عرف صلى الله عليه وسلم فيهم الغدر، فالتفت وقال: {اللهم اكفنيهم بما شئت}.
فأما عامر فأصابته غدة كغدة البعير، حتى وصلت إلى بطنه، فأخذ يقول: أموت في بيت سلولية؟ أركبوني على الفرس، فأركبوه قال: غدة كغدة البعير في بيت سلولية، ثم مات.
وأما أربد بن قيس فأتته صاعقة من السماء على جمله وهو في السوق فأحرقته وأحرقت الجمل.
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
فهؤلاء متكبرون أعرضوا عن الدعوة فما اهتدوا.(206/9)
قصة عمير بن وهب
جلس عمير بن وهب في مكة تحت ميزاب الكعبة مع صفوان بن أمية بن خلف، يتحدثون فيما بينهم، ولكن الواحد الأحد نقل الحديث إلى المدينة مباشرة، إلى محمد عليه الصلاة والسلام، قال: في ليلة كذا وكذا في مجلس كذا وكذا، قال عمير وصفوان كذا وكذا.
يقول صفوان: يا عمير، أما ترى ماذا فعل بنا محمد؟ قتل أبناءنا في بدر، وقتل أرحامنا وأقاربنا، أتكفيني إياه؟ قال: أريد قتله لكن من يقوم بأهلي وأطفالي ومالي؟ قال: الهدم هدمي والدم دمي، أذهب وأنا أكفيك أهلك، فأخذ سيفه فسمه شهراً حتى أصبح السيف أزرق، ثم ذهب إلى المدينة، وقد سبقه الخبر إلى المدينة.
وأتى وهو متوشح سيفه، فرآه عمر وهو في الطريق -وتعرفون عمر - فعرف الشر في وجه عمير، فتقدم عمر إلى عمير، فأخذه بتلابيب ثوبه وبمحامل سيفه، ثم اقتاده بيده وكان عملاقاً رضي الله عنه.
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
رمى بك الله ركنيها فهدمها ولو رمى بك غير الله لم يُصِبِ
فالله رمى بـ عمر أهل الشرك فهدمهم، وأخذ عمير بن وهب يصيح: يا محمد، انظر ماذا فعل بي عمر؟ قال: يا رسول الله، هذا الشيطان ماذا أتى به؟ فأجلسه عند الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: ما الذي أتى بك يا عمير؟ قال: أتيت في الأسارى أفاديهم، أي: الأسارى المحابيس من بدر، قال عليه الصلاة والسلام: بل جلست أنت وصفوان تحت ميزاب الكعبة، قبل أيام وقال لك صفوان كذا وكذا، وقلت له كذا وكذا، فقال 1000992>عمير: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
هؤلاء منهم من اهتدى بمعجزة، ومنهم من أعرض، وأكبر ما يعرض المعرض لكبره وعتوه، ولذلك تجد الدعوة تسري في المتواضعين أكثر مما تسري في المتكبرين.(206/10)
كثرة أهل الباطل وقلة أهل الحق
المعوق الثالث: كثرة أهل الباطل وقلة أهل الحق.
يعيرنا أنا قليل وجارنا كثير وجار الأكثرين ذليل
الطيب دائماً قليل قال تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيث}) [المائدة:100].
يقول ابن تيمية: أهل الإسلام قليل في أهل العالم، وأهل السنة قليل في أهل الإسلام، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].
نزل عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى السوق، فسمع أعرابياً مسلماً يقول: اللهم اجعلني من عبادك القليل، فأخذ عمر بمنكبه وقال: ما هذا الدعاء؟ قال: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] فدعوت الله أن أكون من هذا القليل، قال عمر: [[كل الناس أفقه منك يا عمر]]
فالقليل دائماً هو الخير، ولذلك ليفهم الدعاة وطلبة العلم قضيتين اثنتين، ومن أكبر القضايا:(206/11)
أهل الباطل دائماً أكثر من أهل الحق
القضية الأولى: لا يمكن أن يكون أهل الحق أكثر من أهل الباطل ولن تجد هذا أبداً، فتجد في المسرحية وحفل الأغنية جماهير مجمهرة، نعم قد يحضر بعض المحاضرات -إذا كثروا- خمسة آلاف وستة آلاف، ولكن يحضر حفل الأغنية ستون ألفاً، فأهل الباطل أكثر؛ وهذه قاعدة وكأن من سنن الله في الكون أنهم أكثر من أهل الحق.(206/12)
إياك والفتور عن الدعوة
القضية الثانية: لا تحمل الدعاة رؤيتهم كثرة أهل الباطل لأن يتكاسلوا، ويقولوا: مادام الناس قد فسدوا، فلا فائدة في دعوتنا، لا، ادع، وإن لم يستجب أحد، وأجرك على الله قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] وقال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل:125] وقال سبحانه: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:107].(206/13)
لا تغتر بكثرة الهالكين
دعا نوح وما استجاب له إلا قليل، وبعض الأنبياء ما استجاب له أحد، ولكن أجرهم عند الواحد الأحد، فادع وما عليك، وأجرك على الله.
أهل الباطل عندهم السلاح والوسائل والمغريات ووسائل أهل الحق منبر وكلمة ودرس ومحاضرة، مع أن الوسائل التي في ساحة العالم عظيمة جد عظيمة.
قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[اللهم إني أعوذ بك من عجز المؤمن وجلد الفاجر]] ترى الفاجر قوياً ذكياً داهية، وترى المؤمن عاجزاً كسلان.
ولذلك انظر إلى أهل الباطل كيف يتفانون مثل شعراء الحداثة، أما ترى عناوينهم البراقة؟! أما ترى بعض الأساليب التي يعرضونها لاستغواء الناس، أما ترى جمال العبارة؟! إنهم يسحرون به الناس، وبعض الدعاة إذا أتى عقّد كلمته وعقّد قصيدته، وأغلظ في خطابه، مع العلم أن الناس لا يأتي بهم إلا البسمة الحانية، والكلمة الرائعة، والأدب الفياض، والسحر الحلال الذي ليس بحرام.
قال سبحانه: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة:100] فكثرة أهل الباطل من عقبات هذه الدعوة، وقد سبق قول بعض العلماء: أهل الإسلام قليل في العالم، وأهل السنة قليل في أهل الإسلام، فلا عليك من قلة أصحابك، فإن الخير في القليل.
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
ويقول الأول:
وقد كنا نعدهم قليلاً فقد صاروا أقلَّ من القليل
قال بعض التابعين: [[لا تستوحش طرق الهدى لقلة أهلها، ولا تغتر بكثرة الهالكين]].
وأهل السنة قد يكون واحداً أو جماعة قليلة، فعليك بالجودة ولا تتبع الكثرة.
يحتج بعض الناس لتركه الهداية، فيقول: كل الناس يفعلون هذا، وانظر إليهم، إذاً فأنا مع الناس.
وعند الترمذي بسند فيه كلام: {لا يكن أحدكم إمعة، إن أحسن الناس أحسن، وإن أساءوا أساء، ولكن وطنوا أنفسكم إذا أحسنوا فأحسنوا، وإذا أساءوا فتجنبوا إساءتهم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(206/14)
جلساء السوء
جلساء السوء هم الأجارب الذين أجربوا على أهل الدعوة دعوتهم، والذين أفسدوا القلوب، وصرفوا الأرواح، ووقفوا حجر عثرة في الطريق.(206/15)
أبو طالب وجلساؤه
قال ابن القيم: وهل أشأم على أبي طالب في دعوة رسول الله عليه الصلاة والسلام من جليس السوء؟ وفي الصحيحين: {لما حضرت أبا طالب الوفاة، دخل صلى الله عليه وسلم وهو في سكرات الموت} ولو لم يكن معه جليس سيئ، لنفذ عليه الصلاة والسلام إلى قلبه، فهل تدرون من كان عنده؟ كان عند رأسه عبد الله بن أبي أمية وعند أرجله أبو جهل، فهم يلاحقونه في سكرات الموت، ليموت على الكفر، فجلس عليه الصلاة والسلام في مكان بعيد، وود أن يقوم عبد الله بن أبي أمية ليجلس عند رأس عمه، فقام عبد الله بن أبي أمية، فأسرع أبو جهل حتى جلس عند رأسه، فما أشد حرصه على الشر! فلما جلس قام عليه الصلاة والسلام من مكانه وهو بعيد، وقال: {يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله} فأراد أن يقولها، وأراد أن يحرك لسانه ولو فعل لنجاه الله في الدنيا والآخرة، {فقال أبو جهل: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال أبو طالب: هو على ملة عبد المطلب} فمات إلى نار جهنم!
إن الجليس السيئ شؤم!(206/16)
الجلساء ثلاثة
صنف ابن القيم الجلساء ثلاثة، وفي بعض التقسيمات أربعة:
جليس كالهواء دائماً معك، لا تمله وهو طالب العلم وهو الذي تحبه في الله، وهو الذي تأنس بحديثه، وهو الذي يدعوك إلى الذكر، ويحبب إليك الرسالة، ويدعوك إلى الجنة، وإلى التوبة والاستغفار، وجليسٌ كالغذاء تحتاجه أحياناً ولا تحتاجه أحياناً.
وجليسٌ كالدواء تحتاج إليه نادراً، وهؤلاء مثل صاحب المغسلة، تذهب بثوبك إليه، وكاوي الثوب، وصاحب المكتبة، وأمثالهم كثير.
وقسم داء عضال وسم زعاف، وموت، وهم أهل البدع والكفر، والعياذ بالله.(206/17)
من هم الثقلاء؟
قيل للإمام أحمد من هم الثقلاء؟ قال: الثقلاء هم أهل البدع؛ لأن للناس تصانيف في الثقلاء من الجلساء، فيقولون: كان الأعمش إذا رأى رجلاً من الثقلاء أعرض -وهو عالم محدث- وقال: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12].
ويقول من ضمن مزحه: إذا صليت بجانب ثقيل على ميسرتك فسلم تسليمة تجزئك، وقال الشافعي: ما وفد إلي ثقيل فجلس في مجلسي إلا ظننت أن الأرض تميل في جهته، وقال ابن القيم في مدارج السالكين وهو يتحدث عن الثقلاء: ورأيت رجلاً جلس بجانب ابن تيمية من الثقلاء -أي أهل المعاصي- فرأيت ابن تيمية يتحامل ويتصبر ولكن انتهى الصبر، فالتفت ابن تيمية إلى ابن القيم وقال: الجلوس مع هؤلاء حمى الرِبْع، حمى الرِبع: حمى تهامة، تقتل الإنسان وتفرفره وتجعله عظاماً تستطر، والثقلاء هم المعرضون عن منهج الله، ومن أعظم عقبات الدعوة التي تحول بين الداعية وبين الناس جلساء السوء.
أرى ألف بانٍ لم يقوموا لهادمٍ فكيف ببانٍ خلفه ألف هادمِ
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
حتى يقول بعض الأساتذة والعلماء قبل أن تأخذ الطوبة يأخذها الهدامون من يدك، فلا يدعونك تبني شيئاً؛ لأن ما يبنى في شهر يهدم في ساعة، فكيف تقدم موعظة أو درساً أو نصيحة، ووراءك آلاف الأغنيات والمسرحيات والمسلسلات والمعاصي والفواحش والمغريات والنزوات والجهالات؟! فكيف يُبْنَى الإيمان في القلب؟! قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي}.
يقول أحد العرب: نزل فلان عند فلان، أي أضاف فلان فلاناً، قال: تعارفوا فتشابهوا فسكت بعضهم عن بعض، ثم قال:
وفي السماء طيور إسمها البجعُ إن الطيور على أشباهها تقع
لا يقع الفاجر إلا على فاجر، ولا يحب الفاسق إلا فاسقاً، ولا يحب المجرمين إلا مجرمٌ، بينما الأتقياء يحبهم الأتقياء، يقول ابن المبارك بسند صحيح وبكلمة نثرية: أحب الصالحين ولست منهم؛ وأكره الفساق وأنا شر منهم.
كما أوردها أهل الترجمة، نظمها مثل الشافعي فقال:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة
وفي القرآن في موضعين من القرآن أخبر الله أن لأهل الجاهلية جلساء، وأنهم هم السبب في إعراض هؤلاء الجلساء عن منهج الله، قال سبحانه: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:114 - 116] فأخبر الله في الآية أن لهم جلساء يجلسون معهم إذا خرجوا من عند المؤمنين، ولذلك إذا دعوت رجلاً ولم يتأثر بقولك منك ورأيته دائماً في المعاصي؛ فاعرف أن له قريناً وشيطاناً من شياطين الإنس يجلس معه ويخلو به، وهذا الذي يدمر عليك دعوتك؛ لأنك تبني في الصباح وهم يهدمون في المساء.
وقال سبحانه في الجليس في موضع آخر: {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76] فأخبر سبحانه أن لهم بعضاً وأن لهم جزءاً.
ولذلك قال سبحانه: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] فهم أجزاء مترابطة، يجلس الواحد منهم معك ولكن وراءه عشرات يصدونه ويأخذونه، ويسحبونه.
ابن المبارك المحدث الكبير أحبه وأنتم تحبونه، قال الذهبي في سيرته لما ترجم له في تذكرة الحفاظ: والله الذي لا إله إلا هو إني أحبه وأسأل الله الخير بحبه، ولم لا وهو مجاهد وزاهد، وعابد، وعالم ومنفق وقائم ليل، وخاشع لله عز وجل، وهو شاعر جميل الشعر، نحب شعره؛ لأنه يصدر من القلب، يقول في بيتين يخبرك بالجليس يقول:
من كان ملتمساً جليساً صالحاً فليأت حلقة مسعر بن كدام
فيها السكينة والوقار وأهلها أهل الصلاح وعليهُ الأقوام
يقول: إذا أردت جليساً صالحاً فتعال إلى المسجد في البصرة وابحث عن مسعر بن كدام، مسعر بن كدام راوية الصحيحين بكى حتى ذهبت عينه اليمنى من خشية الله، يقولون: ما نظر أربعين سنة إلى السماء ممايطأطئ رأسه من الخوف، قالوا: ما نراك تضحك؟ قال: أضحك وأنا ما مررت على الصراط وما أدري هل يؤمر بي إلى سقر أم إلى الجنة، كيف أضحك؟!!
كان يجلس في اليوم ويتوضأ ويستقبل القبلة عليه ثياب بيض ويفوح الطيب من فمه ومن ثيابه، فإذا استقبل القبلة، رؤى كأن الملائكة حوله، ثم يبدأ يحدث ودموعه تتسابق مع الحديث، فيقول ابن المبارك لتلاميذه، يدعوهم إلى جلسة روحية تصلهم بالجنة، يقول:
من كان ملتمساً جليساً صالحاً فليأت حلقة مسعر بن كدام
يقول اسألوا عنه وادخلوا المسجد واجلسوا معه؛ ليقول لكم الله في آخر الجلسة: قوموا مغفوراً لكم، قد رضيت عنكم وأرضيتموني.
وعمرو بن عبيد كان زاهداً مقطع الثياب لكن مبتدع، ونحن لانقبل الزاهد حتى يكون على السنة، ولا نقبل الباكي وقائم الليل، حتى يكون على السنة، ولا نقبل صائم النهار، حتى يكون على السنة، ولا نقبل المجاهد حتى يكون على السنة، ولا نقبل الداعية حتى يكون على السنة، كان عمرو بن عبيد شيء عجيب في الزهد والخشية من الله، لكنه مبتدع، يقول بالقدر، دخل على الخليفة أبي جعفر المنصور فرآه الخليفة فقال للعلماء:
كلكم يطلب صيد
كلكم يمشي رويد
غير عمرو بن عبيد
يقول كلكم فيكم شيء إلا عمرو بن عبيد فهو يطلب وجه الله.
قال الذهبي: أثنى على ظاهره وما عرف بدعته، واكتشفها الذهبي والعلماء، يقول فيه ابن المبارك:
أيها الطالب علماً إيت حماد بن زيد
فاستفد فهماً وعلماً ثم قيده بقيد
ودع البدعة من آثار عمرو بن عبيد
وحماد بن زيد من أقران مالك، ومن رجال البخاري فجلساء السوء هم الجرب، وهم أعداء الأنبياء والرسل، وهم الذين أخذوا شبابنا وصدوا بفتياننا عن منهج الله.
وهم قسمين:
قسم منهم كفر بالله العظيم أو فجر وترك الصلاة وأعرض تماماً.
وقسم يصلي ولكنه منغمس في المباحات وفي الترهات والسفاهات ولا يحرص على الوقت، ولا يطلب العلم، ولا يحضر مجالس الخير، ولا يستفيد من عمره، فهو لاهٍ لاغٍ مشغول سقط من أعين الصالحين، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[إني لأرى الرجل ليس في شيء من أمور الدنيا ولا في شيء من أمور الدين فيسقط من عيني]].
يسقط من عينيه إذا رآه ساهياً لاهياً، تجد بعض الشباب يقيسون مساحات الأرض ذاهبين آيبين في السكك والشوارع، لا في كسب ولا في عبادة، ولا في دعوة، ولا في خدمة إسلامية، ولا سعي على أهل، وهؤلاء ممن ينصحون قبل أن يُجْتنبوا.(206/18)
فتور الدعاة
العقبة الخامسة: من عقبات طريق الدعوة فتور الداعية، ولو أن كل طالب علم دعا إلى الله، لصلح الحال، ولكن طلبة العلم كثير، وأهل المعرفة كثير، وأهل الثقافة كثير، والدعاة قليل، والدعاة القليل مقصرون، فكيف بهذه النسبة؟! يقول محمد إقبال لدعاة الإسلام:
أنت كنز الدر والياقوت في لجة الدنيا وإن لم يعرفوك
محفل الأجيال محتاج إلى صوتك العالي وإن لم يسمعوك
ففتور الدعاة خطر جسيم.(206/19)
الدعوة في القرآن على قسمين
ذكر الله عز وجل الدعوة في القرآن سلباً وإيجاباً، فالإيجاب مدح الدعاة وحثهم على الدعوة، قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] هذا إيجاب، قل فادعُ إلى الله وتكلم وتحدث وانزع الوسوسة عنك.
وقال عن السلب وهو الإنكار على من كتم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160] وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من كتم علماً، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة}.
ما فائدة العلم إلا أن تنصح وتعظ وتتحدث، ولا تقل أكثرت، أهل الباطل صباح مساء يطبلون ويرقصون ويغنون، مع أن أهل الحق قليل، وفي بخل عظيم بدعوتهم، وفي انهيار عجيب وفي فتور، ونشكو حالنا إلى الله.
ويقول عليه الصلاة والسلام: {نضر الله امرأً سمع مني مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع} نَضَّر أي: جعل على وجهه بهاءً ونضرة وجمالاً، يقول أحد المحدثين:
أهل الحديث طويلة أعمارهم ووجوههم بدعا النبي منضرة
وللغماري رسالة اسمها المسك التبتي في شرح حديث نَضَّرَ الله امرأً سمع مني مقالتي.
والتِبْتْ: هضبة في الهند تنبت الطيب، فيريد أن يصف المحدثين بالطيب، فجعل عنوان رسالته: المسك التبتي في شرح حديث نضر الله امرأً سمع مني مقالتي، إذا علم هذا فعند ابن حبان بسند صحيح: {نضر الله امرأً سمع مني مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} يقول الحارث بن مسلم أحد الصحابة الأخفياء الأتقياء، لا يُعرف كثيراً، لكنه تقي خفي حفي عند الواحد الأحد يقول: {خرجنا في غزوة مع الصحابة، فأراد الصحابة أن يبيتوا أهل قرية -أي يمسوهم في الليل- فيأخذوا غنائمهم قال: فوفدت إلى أهل القرية وحدي في الليل، فجمعت أهل القرية وهم مشركون، وقلت: إن أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام سوف يأتونكم، فإذا أتوكم فقولوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلما أتى الصباح أتاهم الصحابة فطوقوهم، فقال أهل القرية: نشهد أن لا إله إلا اله وأن محمداً رسول الله، قالوا: من علمكم هذه الكلمة؟ قالوا: الحارث، فقال: الصحابة ما تركتنا ننال غنيمة -لأنهم في الأصل مشركون- فعادوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فشكوا إليه الحارث بن مسلم فدعاه عليه الصلاة والسلام قال: فرأيت وجهه يتهلل كالقمر، قال: فدعاني وبرّك عليّ وأخذني بيده، وقال لي قولاً جميلاً، وقال: ألا أدلك على شيء تقوله بعد الفجر وبعد المغرب، إن قلته لا تمسك النار إن شاء الله -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- قلت: بلى يا رسول الله، قال: إذا صليت المغرب، وإذا صليت الفجر؛ فقل بعد كل صلاة سبعاً: ربِّ أجرني من النار} وفي لفظ: {اللهم أجرني من النار} هذه جائزة له؛ لأنه فعل الخير، والحديث صحيح.(206/20)
الدعوة في سن الشباب
فتور الدعاة أمر عجيب؛ ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] الهجوم على الدعاة الذين يريدون أن يدعو من ثلاث جهات، الجهة الأولى: مقالة تقول للداعية: لا تدعُ وأنت شاب، ما زلت صغيراً! يريدونه أن يبلغ السبعين ثم يموت من غير أن يكون له تأثير، والذي لا يستغل عمره من أوله لا يصلح في آخره، قال أبو مسلم الخراساني: من أراد شيئاً فعليه بالشباب، وهل كان دعاة الإسلام إلا شباباً؟! وهل كان علماء الصحابة إلا شباباً؟! وهل الدعوة إلا شابة؟! وإلى متى يبقى الإنسان؟ حتى تعمى عيناه، وتصم أذناه، ويشحرج العصا، ثم يبدأ يدعو!! وعليه أن يروض نفسه من الآن، وليس غداً، وهذه الشبهة تجدها كثيراً في المجالس يقولون: نرى أن يبقى الإنسان ولا يتصدر حتى يكبر، وأقول: في هذا تفصيل، أما التصدر للفتيا فأقول: أنا معكم، فلا تفتوا، أما الدعوة، فكما قال صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية} وما الذي يمنع الطالب في الابتدائية أن يلقي كلمة مما يعرف فقد قال صلى الله عليه وسلم: {بغلوا عني ولو آية} هذا هو البلاغ العظيم منه عليه الصلاة والسلام.(206/21)
الدعوة لا تؤثر على التحصيل العلمي
يقول بعض الناس: إن كثرة الدعوة تؤثر على التحصيل العلمي، فالذي يدعو الناس يقل تحصيله، وأقول: لا، بل يكثر تحصيله.
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا
ولذلك أنقص الناس علماً من لا يدعو ولا يتحرك بالدعوة لأنه ينسى، بل تَكَلَّمْ وعِظْ ووَجِه وانصح، وستجد نفسك تحفظ النصوص والآيات، وتحفظ الأحاديث، ويزيدك الله بصيرة وتوفيقاً وفقهاً في الدين؛ لأن العلم كالماء، أنا أقول:
العلم كالماء إن تحبس سواقيه يأسن وإن يجر يعذب منه سلسال
تحيا على العلم أرباب القلوب كما تحيا على الماء أرواح وآمال
الله أعطاك فابذل من عطيته فالعلم عارية والعمر رحال
فإذا نصحت ووجهت زادتك الدعوة تحصيلاً وعلماً إن شاء الله.(206/22)
التكرار من أساليب الدعوة
يقولون للداعية إذا كرر الكلام: كررت، وإذا أكثر من الكلام: أكثرت، فأقول: وهل المكرر إلا الجميل، وهل الجميل إلا مكرر، وهل القرآن إلا قضايا مكررة، من الفاتحة إلى سورة الناس كلما ختمناه عدنا إلى أوله، وهل العقيدة إلا مكررة، قصة موسى مكررة، وقد ذكرت أكثر من ست وثلاثين، لكن في قوالب.
كرر العلم يا جميل المحيا وتدبره فالمكرر أحلى
قالوا تكرر قلت أحلى علم من الأرواح أغلى
فإذا ذكرت محمداً قال الملا أهلاً وسهلا
فكرر ولا عليك، كلمة واحدة، ولو تلقيها ثلاثين وأربعين مرة في أمكنة مختلفة، تزيد عمقاً وينفع الله بها، وكان العلماء يحدثون الحديث الواحد مئات الجلسات.
هذه قضية فتور الدعاة، قال الحسن البصري لرجل: عظنا -أي: تحدث فينا- قال: لست هناك، قال الحسن: أوَّه! ود الشيطان أن يظفر بها.
ولذلك يأتيك الشيطان، يقول: لا تخطب، ولا تتحدث، لا تؤم الناس، الرياء سوف يسعى إليك، كفى بك رياء أنك أعرضت عن الدعوة، وأشهر الناس محمد عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، بل تقدم والله معك.(206/23)
انصراف الناس إلى الدنيا
ومن العقبات في طريق الدعوة: انصراف الناس إلى الدنيا على حساب الدين، فأكثر الناس إنما يهتم بالدنيا، أما الدين فإنه في آخر المطاف، فتجد الواحد منهم ينهي أعماله وأشغاله ومتطلباته وحاجياته، ثم يلتفت إلى الصلاة والتفقه في الدين، وفي آخر برنامجه وجدوله القراءة في المصحف إن بقي وقت، لكن الخروج إلى السوق أو المستشفى أو زيارة الأقارب أو النزهة أو النوم كلها أولويات عنده.
ولذلك ترى هذا الصنف يعيش على هامش الأحداث، أما الاشتغال بالدنيا فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] وفي حديث: {إن الدنيا يعطيها الله من يحب ومن لا يحب، وإن الدين لا يعطيه الله إلا من يحب} إذا أعطاك الله الدين فقد أحبك {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37].
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريباً
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليباً(206/24)
ابن تيمية والملك
ذكر الشيباني كلمة وأنا وجدت كلمة أخرى في غير كتابه في ترجمة ابن تيمية، أن ابن تيمية كان يدخل على ابن قطلوبك، وهو سلطان سلجوقي مسلم، فدخل عليه ابن تيمية يعظه، فقام هذا السلطان واحتفى بـ ابن تيمية وقال: يـ ابن تيمية وددنا أننا أتيناك في بيتك، فأنت عالم زاهد مجاهد قال ابن تيمية: دعنا من كدوراتك يـ ابن قطلوبك، كان موسى يأتي فرعون في اليوم مرات، قال: سمعنا يـ ابن تيمية أنك تريد ملكنا، قال: أنا أريد ملككم؟! قال: نعم، قال ابن تيمية: والله الذي لا إله إلا هو ما ملككم عندي يساوي فلساً، إني أريد جنةً عرضها السماوات والأرض.
فلذلك يقدم بعض الناس الدنيا في حياته ومهماته، قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش} وأقول: تعس عبد السيارة، تجد بعض الناس يسلخ في هذه السيارة ويغسل، ويطيب فيها، ويغير، دائماً هو في البنشر، وعند صاحب الديزل، يحميها ويعطرها ويزينها وهي سيارة، لن تلد بغالاً ولا حميراً.
يا متعب الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
وبعض الناس في العمارات، كل يوم يبني داراً، يوسع في الحدائق والمجالس، وقد تهدم قلبه، فهو خراب لا قرآن ولا حديث ولا نور ولا هداية، لكن تعال إلى البيت وانظر إلى الكنبات والنور، وانظر إلى المداخل والمخارج، وانظر إلى الحدائق الغناء تجد عجباً؛ ولكن القلب خواء.
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر جسم البغال وأحلام العصافير
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4]
دخل أبو العتاهية على هارون الرشيد، وكان قد زين هارون الرشيد قصره، وأبو العتاهية شاعر زاهد، قال: كيف القصر يا أبا العتاهية؟ قال: جميل لكن فيه عيب، قال: ما هو عيبه؟ قال: يموت صاحبه ويخرب القصر، قال: أما قلت شعراً في قصري؟ قال: قلت شعراً، قال: ماذا قلت؟ قال:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
قال: هيه، أي: زد.
قال:
يجري عليك بما أردت مع الرواح وفي البكور
قال: هيه.
قال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
استعرض المأمون جيشه، وهو في سكرات الموت، في طرسوس، وقيل في طوس، والمدينتان موجودتان، لكن اختلفوا هل مات في طوس أو في طرسوس؟
فلما أتته الوفاة قال: أخرجوني وقد كان المأمون فصيحاً؛ إذا تكلم كأن السحر ينطق على لسانه، قال: أخرجوني، فأخرجوه فرأى القادة والوزراء والأمراء، فالتفت إلى السماء، وبكى وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه.
باتوا على قمم الأجْبال تحرسهم غُلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز من قصورهم إلى قبورهم يا بئسما نزلوا
أمر الدنيا سهل، بل إن حاجيات الإنسان الكمالية أمرها سهل، ولذلك تجد كثيراً من المعرضين والمفرطين في تقوى الله، والمفرطين في طلب العلم، والمفرطين في حفظ الوقت، تجد أحدهم يستغرق الساعات الطويلة في لباسه ساعة وهو يمشط رأسه، وساعة وهو أمام المرآة، وساعة وهو يلبس اللباس، وساعة وهو يكوي الغترة، وساعة يتطيب، نهاره كذلك!!
ماذا فعلت؟ ماذا قدمت؟ عمر رضي الله عنه يخرج ببردة مقطعة، لكن من مثل عمر؟! يهتز منه كسرى وقيصر وهم في الملك، أبو بكر يخصف نعله، بل محمد عليه الصلاة والسلام يخرج في شملة، وهو رسول رب العالمين، عمروا أرواحهم، ولم يلتفتوا كثيراً إلى ملابسهم، ونحن عمرنا دورنا، وهدمنا قلوبنا، وزينا ملابسنا، وشوهنا أرواحنا، فنشكو حالنا إلى الله:
متى يهديك قلبك وهو غافٍ إذا الحسنات قد أضحت خطايا(206/25)
المال لأهل الهلع والطمع
إذا كنت لا ترى أنه من الضروريات أن تكون مستقيماً، متى تهتدي؟ ومتى تعود إلى الله عز وجل؟ وقف عليه الصلاة والسلام والحديث في صحيح البخاري فقال: {يا أيها الناس! إني أعطي بعض الناس لما أرى في قلوبهم من الهلع والطمع، وأدع آخرين؛ لما جعل الله في قلوبهم من الخير والإيمان، منهم عمرو بن تغلب، قال عمرو بن تغلب: والله ما أريد أن لي بكلمة رسول الله حمر النعم} بها الدنيا وما فيها قال الأنصار: غفر الله لرسول الله! أعطى قريشاً وتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال عليه الصلاة والسلام: {يا معشر الأنصار! ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، والله لما تعودون به إلى رحالكم، أفضل مما يعود به الناس، رحم الله الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار، الأنصار شعار والناس دثار} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وأكثر ما جعل الناس يعرضون عن المحاضرات والدروس والدعوة والتفقه في القرآن والسنة اشتغالهم بالدنيا، تجد بعضهم يحسن قيادة السيارة، لكن لا يحفظ الفاتحة جيداً، ولا يعرف سجود السهو، بعضهم يبني القصور ويشق الأنفاق، ويمد الجسور، وهو متخصص في علم الآلات، ولكنه لا يعرف من الدعوة ولا من الرسالة ولا من السنة شيئاً، فهو مغبون قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه، فرأى إبل الصدقة في مسارحها، فقال له أحد الناس: صدق الله! هذا فضله ورحمته، قال عمر: [[كذبت، فضله ورحمته: العمل بتقوى الله على نور من الله، وترك معصية الله على نور من الله، قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]]] اسمع إلى أربعة أحاديث صحيحة في الدنيا وفي الآخرة، يقول عليه الصلاة والسلام: {لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء} ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: {لأن أقول: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) أحب إلي مما طلعت عليه الشمس} يقول عليه الصلاة والسلام: {من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة} حديث صحيح، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث رواه عبد الله بن بسر قال: جاء رجل فقال: {يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله}.
فأسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية والسداد، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(206/26)
الأسئلة(206/27)
رثاء عبد الله عزام
السؤال
هل لك قصيدة في الداعية المجاهد عبد الله عزام رحمه الله رحمة واسعة؟
الجواب
ما نظمت فيه قصيدة، بل قلت فيه خطبة، ودعوت الله له، وتلك خير من القصيدة، وأسأل الله أن يجمعنا به في دار الكرامة.
وفي بعض المناسبات استشهدت بقصيدة رائعة رائقة رنانة لـ أبي تمام قالها في أحد الشهداء المسلمين وهو محمد بن حميد الطوسي، البطل المجاهد أحد قادات المعتصم الأفذاذ، قاتل الكفار في جبهة من جبهات خراسان من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، وكان كلما ناولوه سيفاً قاتل به حتى يتكسر، ويلتفت إلى أصحابه فأعطوه سيفاً آخر، وبعد صلاة الظهر طوق عليه الكفار فقتلوه مع الأذان: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
فقال أبو تمام فيه قصيدة يوم سمعها الخليفة قال: والله الذي لا إله إلا هو، لوددت أني المقتول وأنها قيلت فيّ، يقول أبو تمام:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر
فتى كلما فاضت عيون قبيلة دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر
تردى ثيابَ الموت حمراً فما دجا لها الليل إلا وهي من سندس خضر
عليكَ سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر
ثوى طاهر الأردان لم تبقَ بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
وما مات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتلت عليه القنا السمر
وهي قصيدة طويلة جميلة، من أجمل ما قيل في الرثاء.
وقتل أحد الوزراء وصلب على خشبة فقال فيه أبو الحسن الأنباري وأقولها كذلك لـ عزام:
علوٌ في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلات
كأنك واقفٌ فيهم خطيباً وهم وقفوا قياماً للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاءً كمدهما إليهم بالهبات
هذه هي العظمة، ومن لم يمت هذه الميتة فسوف يموت ميتة أخرى حبطاً أو إغماءً إن لم يكن مؤمناً مستقيماً.
ومن الشهداء من يموت على فراشه {ومن سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه} نسأل الله لنا ولكم الشهادة في سبيله.(206/28)
ابن مكتوم لا يوصى إليه
السؤال
قلت: إن ابن عباس منارة للإسلام تستقبل النور من السماء مباشرة، فهل يعني هذا أنه يوحى إليه؟
الجواب
السائل وهم في مسألتين:
الأولى: أنا قلت: ابن أم مكتوم ولم أقل: ابن عباس.
والثانية: ما كنت أحسب أنك تظن هذا الظن، فما قصدته وما نويته وما أردته، وليس في كلامي ما يدل على ذلك، فـ ابن أم مكتوم، وأنت وأنا وكل مسلم نتلقى من محمد عليه الصلاة والسلام، ولن يوحى إلى أحد بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما أوحي إليه لأنه رسول؛ لكن يوحي شياطين الجن إلى شياطين الإنس، كما قال تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] واعلم يا أخي أن بعض المبتدعة قالوا: نحن لا نطلب العلم من عبد الرزاق لكن نطلب العلم من الرزاق، وعبد الرزاق محدث صاحب المصنف يقول: " نحن لا نقرأ الحديث في الكتب" وإنما يجلس أحدهم في زاوية، ويأتيه العلم، قال ابن القيم: لولا عبد الرزاق وأمثال عبد الرزاق ما عرفتم الرزاق سبحانه، فإنما العلم يتلقى قال صلى الله عليه وسلم: {العلم بالتعلم} العلم بالسند.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم ألو العرفان
وإنما معنى كلام هذا المفكر أنه منارة من منارات الأرض استقبلت نور السماء الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام، وهو تعبير عجيب.
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس(206/29)
الواجب نحو الأقارب الفاسقين
السؤال
أنا شاب ملتزم، ولكن لي أقارب فاسقون، فماذا أفعل معهم؟
الجواب
انصحهم وعظهم واصبر على أذاهم، وكن ليناً في خطابهم، وحاول أن يهتدوا وادعُ الله لهم، واصدق معهم، وحاول أن تأخذهم إلى أهل الخير، وأن تأتي بهم إلى المحاضرات، وأن تهدي لهم كتاباً أو شريطاً إسلامياً، ولا تيئس من روح الله، فإن استمروا على فسقهم وأعرضوا، فاهجرهم علّ الهجر أن يردعهم.(206/30)
الجلوس مع المذنبين
السؤال
هل الجلوس مع المدخنين من الجلوس مع أهل السوء؟
الجواب
الجلوس مع المدخنين من الجلوس مع أهل السوء، إلا بقصد أن تدعوهم، فإن قصدت الدعوة فيجوز لك هذا بل يجب عليك إذا رأيت قبولاً من الناس، حتى مع الكافر أن تجلس معه لتدعوه، وقد جلس صلى الله عليه وسلم مع شارب الخمر وجلس مع الزاني، وجلس مع المنافق، وجلس مع المشرك ليدعوه إلى سبيل الله، والجلوس مع المدخن في غير وقت التدخين ومزاولة التدخين، لا أرى فيه بأساً، لكن أرى أنك لابد أن تحمل في ذهنك دعوته إلى هذه الجزئية التي قصر فيها.(206/31)
كتب للقراءة
السؤال
دلنا على كتب إسلامية؟
الجواب
هذا السؤال يتكرر كثيراً لكن أدله على بعض الكتب والكتيبات، كتاب الله عز وجل أولاً، وأحسن تفسير تفسير ابن كثير وزاد المعاد لـ ابن القيم ورياض الصالحين وبلوغ المرام وفتح المجيد، هذه خمسة كتب أرى أن الإنسان لو أدمن القراءة فيها وفهمها وضبطها كان عنده علم كثير، لكن مشكلتنا التجميع بلا قراءة، أو التجميع بلا ضبط، ترى معه مكتبة مليئة بالكتب ثم لا يقرأ؛ فما الفائدة؟ -حمْلٌ للأسفار بلا معنى، ليس بصحيح، وفي مسند أحمد بسند صحيح قال عليه الصلاة والسلام وقد التفت إلى السماء، وكان جالساً مع الصحابة، وهذا في أول مسند أحمد على ترتيب الساعاتي، وقد ذكر ابن تيمية في الفتاوى في المجلد العاشر، هذا الحديث، وعلق عليه تعليقاً عجيباً قال عليه الصلاة والسلام: {هذا أوان ارتفاع العلم، فقال: زياد بن لبيد: يا رسول الله! كيف يرتفع العلم والقرآن معنا، والله لنقرئن القرآن أبناءنا وبناتنا وليقرئنه أبناءهم أو كما قال، فقال عليه الصلاة والسلام: ثكلتك أمك يا زياد! إن كنت لأظنك من فقهاء المدينة، هؤلاء اليهود والنصارى عندهم التوراة والإنجيل ماذا نفعهم؟} يعني الكتب وحدها، بل قال بعض العلماء كثرة الكتب مع كثرة الانحراف لا تزيد صاحبها إلا ضلالاً وحيرة، والقرآن -وهو القرآن أنزله الله للهداية، من قرأه بقصد الاستغواء وبقصد الاستهزاء زاده ظلمات، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت:44] أي: يغويهم ويضلهم، لأنهم احتاروا فيه، فلينتبه لهذا.(206/32)
شروط ذهاب النساء إلى المستشفى
السؤال
بحكم عملي في إحدى المستشفيات أخالط كثيراً من النساء الممرضات والمراجعات، ويصادفني أحياناً نساء غير محتشمات، فماذا يجب عليّ لأنه يلزمني مخاطبتهن؟
الجواب
أقول لك: أولاً قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وأقول لك ثانياً: غض بصرك، وطالب هؤلاء النسوة بالحجاب الشرعي وعلمهن السنة، ولا يقتضي هذا منك أن تنظر ولكن {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ولا تخلُ بامرأة أبداً، فالخلوة بالمرأة في غير ضرورة حرام، وليس هناك فيما أعلم ضرورة في ذهني، لكن قلت هذا احترازاً من بعض النصوص، فهو محرم قال عليه الصلاة والسلام: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} لا تخلُ بامرأة، ولا تنظر إلى وجهها، ولا تصافح ولا تلمس امرأة.
والمرأة تذهب إلى المستشفى للعلاج بثلاثة قيود:-
أن يكون معها محرم، وأن تعالجها امرأة، وأن تتحجب الحجاب الشرعي، وإذا اضطر إلى علاجها رجل، فبشروط ثلاثة:-
الأول: ألا توجد امرأة معالجة، تقوم بهذا العلاج.
الشرط الثاني: ألا يخلو بها، بل يكون محرمها معها.
الشرط الثالث: أن يكون المرض ضرورياً خطيراً فلا تذهب للزكام أو للصداع.(206/33)
التحاكم إلى العادات القبلية
السؤال
هل العادات والتقاليد والتحاكم إلى عادات القبائل ونحوها عقبة في طريق الدعوة؟
الجواب
نعم هو من العقبات، وأنا ما أتيت إلا بأهم العقبات، وإلا فإن بعضهم يوصلها إلى عشرين عقبة، وثلاثين عقبة، لكن أتيت بما يقارب الست لتدل على غيرها، وما ذكرت كل العقبات.(206/34)
لمز الدعاة والاستهزاء بهم
السؤال
ماذا أفعل في كل من يناديني بالمطوع، سواء استهزاءً أو مدحاً؟
الجواب
أولاً، احمد الله أن شرفك بأنك عبد له، الناس صنفان: مطوع أو عاص، هذا الذي يدعوك إن كان مستهزئاً، ويقول لك: مطوع فهو عاصٍ، لأنه يستهزئ بالمطوع، ومعناك أنك أطعت الله، فصرت مطوعاً، وقد يطلق عليه هو لكنه للشيطان، فإما أن يتطوع العبد للرحمن أو للشيطان، ولذلك يقول ابن تيمية: لا يسكن القلب إلا بإله، إما الله وإما آخر.
فاعلم ذلك وعليك وأنت أمامهم أن تتذكر ثلاث قضايا:
أولها: اعرف أن الله شرفك لأنك تؤذى في سبيله عز وجل، فسلفك في ذلك الأنبياء والرسل وقد قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].
ثانيها: اعلم أنك مأجور، وأن أجرك على الله، وما يصيب المسلم من كلمة أو استهزاء أو نكد إلا كانت كفارة للسيئات ورفعاً للدرجات.
ثالثها: إذا قالوا لك هذا الكلام؛ فتبسم لهم وقل لهم قولاً حسناً فقد ذكر الله المتقين -عباد الرحمن- فقال في وصفهم: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] قال عيسى بن مريم عليه السلام لحوارييه: كونوا كالنخلة ترمى بالحجارة فترد بالرطب.
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت
فإن جاوبته فرجت عنه وإن خليته كمداً يموت
وقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] هذه القضايا التي أريد أن تفهمها مني.(206/35)
أنا مصاب بالفتور
السؤال
أجد فتوراً وعدم رغبة في الطاعة مع العلم أني أعرف كثيراً من الآيات والأحاديث؟
الجواب
عليك بالدعاء، عليك بالجلسات مع الصالحين، واعلم أن الفتور هذا لا بد منه، وفي حديث صحيح: {لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غيرها فقد هلك} والشرة: الحدة والقوة والنشاط في العمل، ولذلك تجد الشباب إذا اهتدوا تجد الواحد منهم قوياً على العبادة، ويزيد من النوافل فبدلاً من أن يتنفل بعد الظهر اثنتين يتنفل بثمان، تقول: يكفيك ثلاثة أيام في الشهر قال: لا يكفيني إلا الإثنين والخميس وثلاثة أيام، والمحرم وبعدها يقتصر على رمضان، فلذلك (لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة) والفترة هي النكوص، لكنه قال: {فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى} أي أن الحد الأدنى السنة، ألا تنزل عن السنة، حد أدنى لك، فعليك بذلك، واعلم أن الفترة لا بد منها، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[إن للقلوب إقبالاً وإدباراً، فاغتنموها عند إقبالها، وذروها عند إدبارها]] وقال في لفظ آخر: [[إذا أقبلت القلوب فأكثروا من النوافل، وإذا أدبرت فألزموها الفرائض]].
تقبلنا الله وإياكم في من تقبل، وغفر لنا ولكم ورحمنا الله وإياكم، وشكر الله لكم اجتماعكم، ونريد ألا تنسونا من دعوة طيبة؛ لندعو لكم بظهر الغيب.(206/36)
لقد سألت عن عظيم
إن الله تعالى أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فأنار به أفئدة الإنسانية، وهدى به البشرية، وزعزع به كيان الوثنية، فنصح الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة الإسلامية ودلها على كل خير وكل عمل يقربها من الجنة ومن رضوان الله.
وفي هذا الدرس حديث عظيم، هو قاعدة من قواعد الإسلام، فيا من يبحث عن طريق الجنة! فإن طريقها ومفاتيحها في هذا الحديث العظيم.(207/1)
وقفات مع حديث: (لقد سألت عن عظيم)
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، نظر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى إلى الناس، فمقتهم جميعاً، عربهم وعجمهم، أحمرهم وأبيضهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، فلما بعثه صلى الله عليه وسلم أنار الله به أفئدة الإنسانية، وهدى به البشرية، وزعزع به كيان الوثنية، فكان عليه الصلاة والسلام يوصي دائماً وأبداً، ومن أجل وصاياه، ومن أعظم ما أهداه صلى الله عليه وسلم لأصحابه: هذا الحديث الذي معنا هذه الليلة، وهو حديث عظيم من قواعد الإسلام، ومن أسس هذا الدين، وهو من الأربعين النووية.
فاسمعوا إلى هذا الحديث القيم، الحديث الذي هو أقرب الطرق إلى الجنة لمن أراد الجنة، وهو أحسن الوصايا لمن أراد الله والدار الآخرة.
عن معاذ بن جبل سيد العلماء، وقائد العلماء إلى الجنة رضي الله عنه قال: {كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقلت: يا رسول الله دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه} هذا السؤال من أعظم الأسئلة التي طرحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: {لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه -ثم أجاب عليه الصلاة والسلام- قال: تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا أدلك على رأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا أدلك على أبواب الخير؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: الصيام جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل.
ثم تلا عليه الصلاة والسلام قول تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] إلى قوله: {يَعْمَلُونَ} ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: كف عليك هذا، وأخذ صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه، فقال معاذ: أئنا لمؤاخذون يا رسول الله بما نقول؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ -أي فقدتك، وهو دعاء لا يراد به ظاهره- وهل يكب الناس في النار على مناخرهم أو على أنوفهم إلا حصائد ألسنتهم} هذا الحديث رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.(207/2)
ترجمة معاذ بن جبل
وكما أسلفت هو من أعظم أحاديث الإسلام التي ذكرها صلى الله عليه وسلم، وراوي هذا الحديث هو معاذ رضي الله عنه وأرضاه، داعية أهل اليمن إلى الإسلام، والذي استنقذهم من الضلالة بلا إله إلا الله، والذي هداهم إلى النور بلا إله إلا الله، كان عليه الصلاة والسلام يقول له دائماً وأبداً: {يا معاذ والله إني لا أحبك، لا تدع أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك}.
ولا بأس أن نقف لحظات مع هذا الصحابي الجليل معاذ رضي الله عنه وأرضاه، جاهد في ذات الله، وذهب إلى اليمن، ولما ودعه صلى الله عليه وسلم، وهو مسافر إلى أرض اليمن، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني يا رسول الله! قال: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} وقال له: {يا معاذ! اذكر الله عز وجل عند كل شجر وحجر ومدر} فذهب رضي الله عنه وأرضاه، ومات صلى الله عليه وسلم ومعاذ في اليمن.
ولما قدم راجعاً، جاهد مع أبي بكر الصديق، ومع عمر، حتى كان مع أهل الفتوح الذين ينشرون لا إله إلا الله في المعمورة، وهو من الذين حضروا معركة اليرموك ضد الروم، وتوفي وعمره سبعٌ وثلاثون سنة، لكنها خيرٌ عند الله من سبعة وثلاثين قرناً، كان به دمل رضي الله عنه وأرضاه في يده اليمنى من الطاعون، فقال له الناس: لا بأس عليك تتشافى بإذن الله، فرفع يديه، وقال: [[اللهم إني قد مللت الحياة، اللهم فاقبضني إليك غير مفرط ولا مفتون ثم قال: [[اللهم إنك تكبر الصغير، وتبارك في القليل، اللهم اجعل وفاتي في هذه القرحة]] وهذا لا يتعارض مع عدم تمني الموت، فإنه رضي الله عنه وأرضاه خاف من الفتن، فانتشرت هذه القرحة، ومات شهيداً رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه مات بالطاعون.(207/3)
طريقة شرح الإسلام للناس
يقول: {قلت: يا رسول الله -في الحديث السابق- دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار} هل تعلمون سؤالاً أعظم من هذا؟ من الذي يستطيع أن يسأل سؤالاً أحسن من هذا السؤال؟ عمل يقربه من الجنة ويباعده من النار، واسمعوا إلى معلم الخير وأنصح الناس للناس، وأصدق الناس مع الناس، وأفضل الناس قاطبة فيما يسمعون من كلام الناس، محمدٌ صلى الله عليه وسلم، طبيب القلوب، والناصح للأمة، والصادق فيما بلغه من الله تبارك وتعالى.
فقال صلى الله عليه وسلم وهو يستعرض أمور الإسلام، لأن هذا الدين ليس ألغازاً، وليس أحاجي ولا مشكلات، إننا لن ندخل الجنة بالمؤهلات العلمية ولا بالدور ولا بالقصور ولا بالأشجار، ولا بجري الأنهار، إنما ندخلها بالصدق مع الله وبالعمل الصالح، وبالتقوى، وكما وصفها صلى الله عليه وسلم لـ معاذ، وقضية شرح الإسلام للناس، أو طرح مسألة الإسلام للناس لا يحتاج إلى تكلفات في التعبير، أو فلسفة، أو منطق، إنه أسهل من الماء البارد الذي نشربه، وأسهل من الهواء الذي نستنشقه.
أتى أعرابي من الصحراء يريد طريق الجنة، يريد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعرابي من البادية، لم يسجد لله سجدة، ولا ركع لله ركعة، فجاء الأعرابي بجمله وعقله في طرف المسجد -وانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يعرض الإسلام على الناس، لا كما يعرض الإسلام الآن صعباً شائكاً، إنما هو سهل ميسور لمن أراد الله والدار الآخرة- فعقل هذا الأعرابي الجمل، ثم تخطى الصفوف، يسأل عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقول للصحابة: أين ابن عبد المطلب؟ يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم -يسميه بجده؛ لأنه أشهر في العرب من أبيه، حتى يقول عليه الصلاة والسلام:
أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب
في حنين - فيقول الصحابة: ذاك هو الرجل الأبيض، الأمهق المرتفق، أي: المتكئ، فيتقدم الأعرابي.
واسمعوا إلى أسئلة عن الإسلام، واسمعوا لحسن العرض منه عليه الصلاة والسلام، ولحسن السؤال، ثم لحسن الجواب منه صلى الله عليه وسلم، فيقول: يا محمد! قال عليه الصلاة والسلام: لبيك! قال: إني سائلك فمشددٌ عليك في المسألة قال: سل ما بدا لك.
فقال الأعرابي: يا محمد من رفع السماء؟ قال: الله! قال: من بسط الأرض؟ قال: الله! قال: من نصب الجبال؟ قال: الله! قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال، آلله أرسلك إلينا رسولاً؟ وكان عليه الصلاة والسلام متكئاً، فجلس وتربع -لأن هذا أعظم سؤال عرفته البشرية، وهذا أكبر سؤال وقع على البسيطة منذ خلق الله الخليقة إلى اليوم- فقال عليه الصلاة والسلام، وقد احمر وجهه من عظم
السؤال
اللهم نعم.
قال: أسألك بمن رفع السماء، وبسط الأرض، ونصب الجبال، آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم، ثم أخذ يسأله حتى انتهى من أركان الإسلام؛ فرفع يده، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص، ثم ولى، وفك عقال جمله وذهب، فتلفت صلى الله عليه وسلم إلى الناس وهو يتبسم، ويقول: {من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا} وفي رواية: {أفلح الرجل ودخل الجنة إن صدق} أي: صدق مع الله، هذه هو دين الإسلام في سهولته ويسره الذي عرضه صلى الله عليه وسلم على الناس.(207/4)
الغاية من الحياة
يقول معاذ: {يا رسول الله دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار} فهل علم أهل القصور أن المصير ليس بقصور في الدنيا، وأن الشرف والسمو، والغاية المنشودة ليست بالقصور؟ وهل علم أهل الأموال أن الغاية المحمودة والمطلوبة عند المسلم ليست المال؟ وهل علم أهل الأولاد أن الذي يطلبه المؤمن أعظم من الأولاد؟ وهل علم أهل المناصب أن هناك أجل من المناصب؟ إنه رضا الله والجنة.
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها
صح في صحيح مسلم، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن الشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {للمؤمن في الجنة خيمة مجوفة طولها في الجو -وقيل: عرضها- ستون ميلاً، في كل طرف من أطرافها أهلون وبنون للمؤمن، لا يرى بعضهم بعضاً} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن في الجنة سوقاً يأتيه المؤمنون؛ فتهب عليهم رياح الشمال، فتحثو في وجوههم المسك، فيعودون إلى أهلهم وقد ازدادوا جمالاً إلى جمالهم وحسناً إلى حسنهم}.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الفرات والنيل وسيحون وجيحون أربعة أنهار من أنهار الجنة} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يوم الجمعة يزور المؤمنون فيه ربهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فيجلس الأنبياء على منابر من نور، ويجلس الشهداء على كثبان من مسك، ثم يجلس الناس على مجالسهم، فينظر إليهم ربهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وينظرون إليه، فما أُوتوا نعيماً أعظم من ذاك النعيم} وهو يوم الزيادة، يدخل أهل الجنة الجنة، فيتلذذون ويتنعمون، لا يبولون، ولا يجوعون، ولا يمتخطون، ولا يتفلون، ولا يبصقون
بنو ثلاث وثلاثين سنه جرد مكحلون مرد حسنه
وجوههم من النعيم مسفرة لا ظلمة ترهقهم أو قترة
أهل الجنة إذا دخلوا الجنة انتهى عنهم الهم والحزن والغم والنصب قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74].
فيقول معاذ رضي الله عنه وأرضاه: يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة، هل قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك أن تأتي بمؤهلات، أو أن تتوظف وتخدم كذا سنة، وتأتي بعدد من المال، أو تذبح نفسك كما يفعل بنو إسرائيل، أو تجوع نفسك الأيام والليالي كما تفعل النصرانية، أو تطول أظفارك وشعورك كما تفعل البوذية، لا.
أتى بأمر بسيط يستطيع جمهور الناس أن يفعلوه، كله سهل وميسر على من يسره الله عليه.
لكن يقول صلى الله عليه وسلم لما سئل: {إنه ليسير على من يسره الله عليه} أما من عسره الله عليه فليس بيسير، وبعض أهل الصلاح وأهل الاستقامة يتعجب من كثير من الناس، لا يصلون في المساجد، ولا يقرءون القرآن، ويقولون: ماذا يكلفهم لو صلوا خمس صلوات في اليوم والليلة؟ ماذا يكلفهم لو قرءوا شيئاً من القرآن؟ ماذا يكلفهم لو صاموا شهراً في السنة؟ ماذا يكلفهم لو حجوا مرة في العمر؟ لكن القلوب بيد فاطر السماوات والأرض، والنفوس بيد الحي القيوم، يقول عز من قائل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
هذا الرجل مهتد مصل صائم منيب زاهد متورع إلى الله عز وجل، ويرزق ولداً فاجراً من الفجار، وفاسقاً من الفسقة، وفاسداً من المفسدين، ومارداً من المتمردين، فلماذا؟ حكمةٌ بالغة، وقدرةٌ نافذة من الحي القيوم.
يقول عز من قائل: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] هذا يسكن في أحسن مسكن، ويأكل أحسن طعام، ويتمتع بالمطاعم الشهية والمراكب الهنيئة والمشارب الرضية، ولكن قلبه مغلق عن الهداية، لا يريد لا إله إلا الله، ولا يتلذذ بلا إله إلا الله، ولا يمضي إلى مسجد الله، ولا يعفر وجهه ساجداً لله.
وهذا رجلٌ آخر يعيش البرد كله، ويأخذ الجوع بحده، والظمأ والتعب والإعياء، وينام على الرصيف، وأحب كلام إليه كلام الله، وأحسن صوت إليه صوت المؤذن، وأحسن جملة تمر بأذنيه لا إله إلا الله، وجهه يلمع نوراً، وقلبه يتفتح للهداية، فما هو السبب؟ حكمة بالغة.
فالله عز وجل نظر إلى قلوب العباد، فرأى أن هذا القلب يستحق الهداية فمنحه الهداية، ونظر إلى ذاك القلب، فإذا هو مطموس عليه لا يستحق النور ولا الهداية، فأغلق الله عليه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:23 - 24].
ماذا قال أهل العلم في قوله عز من قائل: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] قالوا: يحول بين الإنسان والإيمان، يريد أن يؤمن، يريد أن يصلي، لكن الله علم فيه الخبث، فلا هداه ولا كفاه ولا وقاه ولا شفاه.
فالله الله يا أيتها الأمة المحمدية، يا أيتها الأمة المرضية! التي يريد الله أن تدخل الجنة أول الأمم، والتي بنى الله لها قصوراً في الجنة؛ فإن طريق الجنة هو هذا الحديث.
ثم قال له صلى الله عليه وسلم: {تعبد الله لا تشرك به شيئاً} هل هناك عسراً وصعوبة في عبادة الله، وعدم الإشراك به، أتعلمون إلهاً غير الله؟ هل تعلمون أكبر من الله؟ أو أعظم من الله أو أحق بالعبادة من الله؟!(207/5)
كيفية الاستدلال على توحيد الله
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: عجباً لك يا بن آدم! خلقتك وتعبد غيري، ورزقتك وتشكر سواي، أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقيرٌ إلي، في كل يوم خيري إليك نازل، وفي كل يوم شرك إلي صاعد} فقال عليه الصلاة والسلام: {تعبد الله لا تشرك به شيئاً} لأنه لا عبادة لمن أشرك مع الله من أهل أو ولد أو منصب أو وظيفة أو حجر أو شجر، وبعض الناس يظنون أن الأصنام قد انتهت، بل بعض الناس يعبد هواه من دون الله عز وجل، أما قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]؟
وكل شيء يشير إلى وحدانية الله، وكل مخلوق يثبت بالبرهان أنه لا إله إلا الله، وكل كائنة تشير بيدها أنه لا إله إلا الله، الومضة من النور، اللمعة من الضياء، والقطرة من الماء، والورق من الشجر، الصوت من الطائر، الإنسان بما آتاه الله يشير أنه لا إله إلا الله.
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
قيل للإمام الشافعي رحمه الله: دلل لنا على القدرة، أي: اذكر لنا دليلاً على قدرة الحي القيوم، قال: هذه الورقة ورقة شجر، وتأكلها دودة القز فتخرج حريراً، وتأكلها النحلة فتخرج عسلاً، وتأكلها الغزال فتخرج مسكاً، وتأكلها الشاة فتخرج روثاً، أليست دليلاً على الحكيم الخبير؟
وقيل للإمام أحمد: دلل لنا على وجود القدرة، قال: هذه البيضة كالحصن الحصين، أما الباطن فذهب إبريز أصفر، وأما الظاهر ففضة بيضاء يخرج منها حيوانٌ سميع بصير، هو الفرخ، ألا يدل على وجود السميع البصير؟
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
كل شيء يشير إلى الله، يقول عز من قائل: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ} [يونس:101] يقول عز من قائل لأهل مكة يوم نزَّل عليهم القرآن، وهم لا يرون إلا الجبال السود، ولا يرون إلا السماء، ولا يرون إلا الأرض، ولا يرون إلا الإبل، خاطبهم بلغة عصرهم؛ لأن العلم الطبيعي ما بلغ هذه الدرجة التي بلغها اليوم، فقال عز من قائل: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [الغاشية:17 - 20].
مالهم لا ينظرون؟ مالهم لا يتفكرون؟ ما للذي يترك الصلاة إذا سمع الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أربع مرات، ماله يلوي عنقه ويتولى عن المسجد؟ أنسي الله؟ أنسي البعث والنشور؟ أنسي الذي سواه في أحسن صوره؟ {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:8 - 11] يقول: ما هو الأمر الذي أتى به هذا حتى يتكبر علينا؟ ويقول عز من قائل: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35].(207/6)
أهمية الصلاة
فيا أيها الإنسان الضعيف، والله لا فلاح لك ولا نجاح ولا رقي ولا نور، ولا هداية حتى تتعرف على باب المسجد، والله لا طهر لك ولا قداسة ولا قيمة ولا وزن لك، حتى تتوضأ كل يوم كما أراد الله عز وجل.
يقول عليه الصلاة والسلام، وهو يتحدث عن الأعمال الموجبة لدخول الجنة: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فالله الله، لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه من ذمته بشيء أدركه، ومن أدركه كبه على وجهه في النار} رواه مسلم.
وما معنى الحديث؟ يقول عليه الصلاة والسلام: من توضأ وصلى الفجر في جماعة، أحاطه الله ورعاه وكفاه ووقاه، فلا يحدث عليه بإذن الله أي حادث من حوادث الذنوب الكبيرة، لا يشرب الخمر، ولا يسرق، ولا يزني بإذن الله؛ لأنه عصم نفسه بصلاة الفجر في جماعة، فيقول صلى الله عليه وسلم: {فالله الله، لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء} معناه يقول: أن من صلى الفجر في جماعة فهو في حفظ الله، فلا يُتعدى على دمه أو عرضه أو ماله؛ لأنه أصبح في حفظ من الله، وفي رعاية من الواحد القيوم قال: {تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة} الصلاة التي لما ضيعناها وأخرناها، وأخللنا بأوقاتها وخشوعها وركوعها، ضعنا والله، وديست كرامتنا، واحتلت مقدساتنا، وفسد أبناؤنا، وقلت البركة في أرزاقنا، وقست قلوبنا.
الصلاة التي لما ضيعناها قل القطر علينا، الصلاة التي لما تركناها أصبنا والله -إلا من رحم الله- بالبغضاء وبالشحناء والفتن ما ظهر منها وما بطن، الصلاة التي لما تركناها أو تهاونا فيها دخلت علينا المعاصي بلا حساب، الربا والزنا، والفحش والدعارة والمخدرات؛ التي فتكت بشباب الأمة، بسبب تركنا وتهاوننا بالصلاة.
فيا أيتها الأمة المصلية يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام: من أراد الجنة، فهذه بيوت الجنة، ورياض الجنة، ومفاتيح الجنة عند مفاتيح هذه الأبواب، ومن أراد الهداية فليس له هداية إلا أن يعفر وجهه كل يوم خمس مرات، فو الله ثم والله ثم والله، إن لم تكن عبداً لله، فإنك عبد للشيطان، وعبد للشهوات، وعبد للنزوات، فافتخر بعبودية الله.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
عباد الله: هذا درس وجيز، نريد أن نجتمع بهذه الوجوه الطيبة الطاهرة التي جاءت لتصلي، وجاءت لتعلن الوحدانية لله، وجاءت لتغسل ذنوبها، وأدرانها، وسيئاتها، وتكفر ما فعلت من المعاصي.
هذا مختصر في كل أسبوع من مساء الجمعة، أسأل الله أن يجعله خالصاً لوجه، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يتجاوز عنا وعنكم سيئ الأعمال، وأن يجعلنا ممن إذا استمع القول اتبع أحسنه، وأن يحشرنا في زمرة الصالحين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(207/7)
لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم
في هذه المادة ذكر الشيخ صوراُ من حياة الصالحين في تعظيم الله، سيما تعظيمه باليمين، وتطرق إلى مسائل وأحكام في اليمين كحم الحلف بغير الله، والسؤال بوجه الله، واللغو في اليمين.(208/1)
صور من حياة الصالحين في تعظيم الله
الحمد لله، الحمد لله القائل: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:10 - 16] والصلاة والسلام على رسول الله، سيف النصر الذي قصَّر الله به آمال القياصرة، وكسر به ظهور الأكاسرة، وأرداهم ظلمهم في الحافرة، ولسان الصدق الذي بلغ نغمة التوحيد لعباد الله الموحدين، وأذن الخير التي استقبلت آخر رسالات السماء؛ فبلغتها البشرية، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما اتصلت أذن بخبر، وما تعلقت عين بنظر، وما غرد حمام على شجر.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:(208/2)
قصة عدي بن حاتم
فلما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتائبه مشرقة ومغربة؛ تنشر (لا إله إلا الله) في المعمورة، كان من ضمن من أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سليمان خالد بن الوليد سيف الله المسلول، أرسله إلى جبل أجا وسلمى، حيث قبائل طيء، فلما سمعت بمقدم خالد؛ فرت القبائل لا تلوي على شيء، وذهبت بنصرانيتها إلى الشام.
وكان من ضمن من فر عدي بن حاتم الطائي ابن كريم العرب، وترك أخته في بيته، فنزل خالد وتمركز بجيشه هناك، وسبى سبايا، وأخذ أسارى، وعاد بهم إلى عاصمة الإسلام، إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من ضمن الأسارى: سفانة بنت حاتم الطائي الكريم المشهور، والجواد العظيم، وأنزلهم خالد حول المسجد، وقامت سفانة إلى علي رضي الله عنه وأرضاه، وقالت: اشفع لي إلى ابن عمك، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال علي: إنا لا نشفع إليه، ولكن إذا خرج إلى الصلاة، فسوف ينظر إليكم، فتشفعي عنده واذكري أباك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلم الناس وأبرهم وأوصلهم.
وخرج صلى الله عليه وسلم لصلاة العصر ومعه بعض الصحابة، وفي طريقه استعرض الأسارى، فقامت سفانة، وقالت: يا رسول الله! إن أبي كان يحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الدهر، أنا بنت حاتم الطائي كريم العرب، فاعف عني عفا الله عنك.
فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وقال: {خلوا عنها؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، ثم قال: يا هنتاه، لو أن أباك مات مسلماً لترحمنا عليه} ثم أكرمها صلى الله عليه وسلم، وأعادها صيّنة محتشمة إلى ديار أهلها؛ فلقيت أخاها عدي، فقالت: يا قطوع، يا عقوق! تركتني وفررت، جئتك من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، من عند أبر الناس، وأوصلهم، وأرحمهم.
فتهيأ عدي ولبس لباسه، وركّب صليب النصرانية على صدره، وأتى إلى المدينة، وتسامع الناس أن ابن حاتم الطائي قادم، أو أظل المدينة ضيفاً؛ فخرجوا في استقباله، واستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجلسه في بيته، وقدم له مخدةً ليجلس عليها، فأبى وجلس على التراب، فقال له صلى الله عليه وسلم: {أشهد أنك من الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً}.
وبينما هو جالس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بروح القدس، وإذا بجبريل عليه السلام ينزل بآيات الله البينات، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمناسبة مقدم عدي بن حاتم، وهي قوله تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:30 - 31] فقال عدي، وعرف أن الخطاب له، وأنه المقصود بلفظ الفحوى "إياك أعني واسمعي يا جارة" فقال: {ما عبدناهم يا رسول الله.
فقال صلى الله عليه وسلم ونظر إليه: بل عبدتموهم، أما أحلوا لكم الحرام فأحللتموه، وحرموا عليكم الحلال فحرمتموه؟ قال: بلى.
قال: فتلك عبادتهم}.
ثم تنمر له صلى الله عليه وسلم، وقرب منه، وأخذ بتلابيب ثيابه وقال: {يا عدي! أتفر أن يقال: الله أكبر في الأرض؟ هل تعلم أكبر من الله؟ أتفر يا عدي أن يقال: لا إله إلا الله في الأرض؟ هل تعلم إلهاً مع الله؟ فانتفض عدي وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله} وانطلق لسانه يلهج بنغمة التوحيد، وقلبه يرتعد بنغمة لا إله إلا الله.
والمقصود من هذا كله: أنه لا عظيم إلا الله، ولا يحلف إلا بالله، ولا يتوكل إلا على الله، ومن توكل عليه كفاه، ومن عظَّم الله عظمه الله، ومن امتهن أسماء الله أمتهنه الله وحقره وأذله.(208/3)
قصة صاحب بني إسرائيل
وفي صحيح البخاري في كتاب الوكالة: {أن رجلاً من بني إسرائيل أتى إلى رجل آخر يقترض منه مائة دينار، فأقرضه وسلفه، فقال: هل لك من شاهد؟ قال: ما لي شاهد إلا الله.
قال: كفى بالله شاهداً.
قال: فهل لك من كفيل يكفلك؟ قال: ما لي من كفيل إلا الله.
قال: كفى بالله كفيلاً.
فأخذ هذا المال، وسافر به وركب البحر، فلما أتت المدة أتى بمائة دينار، يريد أن يعيدها إلى صاحبها، فوقف على ساحل البحر، وانتظر السفينة فلم تأتِ سفينة، وانتظر ثلاثة أيام، فلما يئس رفع طرفه إلى السماء، ثم قال: اللهم إني اقترضت منه، فقال: هل لك من شاهد؟ فرضيت بك شاهداً، وقال: هل لك من كفيل؟ فرضيت بك كفيلاً، اللهم فبلَّغ هذه الدنانير إليه.
ثم أخذ خشبة، فنقرها، ووضع فيها الدنانير، ووضعها على ظهر ماء البحر، فسلط الله الريح؛ فأخذت هذه الخشبة، وساقتها إلى الساحل الآخر، وخرج ذاك الرجل صاحب الدين في ذلك اليوم، يقول لأهله: علني أتعرض للسفن، أركب إلى صاحب المال الذي جعل بيني وبينه الله شهيداً وكفيلاً.
فانتظر سفناً فلم تأتِ سفينة، فقال: لقد يئست، وحسبي الله ونعم الوكيل.
ثم نظر إلى الخشبة، فقال: آخذ هذه إلى أهلي لتكون حطباً لهم.
فلما أتى بها إلى البيت كسرها؛ فإذا الدنانير فيها، وإذا الرسالة، والمبايعة، فقال: من استكفى بالله كفاه، ومن توقى بالله وقاه}.(208/4)
الحلف بغير الله
أيها المسلمون: إن الأيمان من أكثر ما تحدث في الناس الشرك، فإن كثيراً من الناس لجهلهم يعظمون غير الله، فلا يصدقون الحالف، ولا يأتمنون يمينه، ولا يركنون إلى حلفه، حتى يحلف بالطلاق أو بالحرام، وهؤلاء جهلوا عظمة الله، وما قدَّروا الله حق قدره، وما وقروه حق توقيره.(208/5)
وقفة مع حديث (ثلاثة لا ينظر الله إليهم)
وفي الطبراني بسند صحيح، عن سلمان الفارسي، الباحث عن الحقيقة، سفير الإسلام إلى أهل فارس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليم.
قالوا: من هم يا رسول الله خابوا وخسروا؟ فقال: أشيمطٌ زانٍ، وعائل مستكبر، ورجلٌ جعل الله بضاعته، لا يبيع إلا ويكذب، ولا يشتري إلا ويكذب}.
فأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أشيمط زانٍ) فهذا شيخ شائب، شابت لحيته، وشاب رأسه في الإسلام، ثم وقع في الكبائر، ومنها: الزنا، بعد أن وعظه الله بالشيب، قال ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما، لما قرأ قوله تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] قال: [[النذير والله الشيب]] وكفى بالشيب نذيراً.
ومر عمر رضي الله عنه وأرضاه برجل وهو يترنم بقصيدة، ويقول:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فدمعت عينا عمر وقال: [[إي والله، كفى بالإسلام والشيب للمرء الذي يخاف الله ناهياً]] وأثر عن إبراهيم عليه السلام: [[أن الشيب لما ظهر في لحيته نظر إلى المرآة، فقال: يا رب ما هذا الشيء الأبيض في لحيتي؟ قال: يا إبراهيم! هذا وقار.
فقال: اللهم زدني وقاراً]].
فمن وقرَّه الله بالشيب، ثم وقع في الفواحش؛ فلن ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يزكيه يوم يزكي الصالحين، وله عذابٌ أليم، فهذا أشيمط أسرف في الخطايا، شيخٌ ومذنبٌ ومسيء، وقد دنى من حفرته ولبس أكفانه!
كان سفيان الثوري يقول: [[يا من بلغ الستين سنة! خذ لك كفناً على أكتافك، واحفر قبرك فإنك بلغت من الموت قاب قوسين أو أدنى]].
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (عائل مستكبر) فهو فقير يتكبر على عباد الله -حشفاً وسوء كيلة- ليس عنده ما يدعوه إلى التكبر، أو يجذبه إلى الزهو والعجب، ثم ينفخ صدره، ويزور بزوره، فهذا ممقوت مبخوس الحظ، فاقد عند الله عز وجل، وإلا فإن الله عز وجل إذا أراد أن يصحح نية العبد جعله من المتواضعين، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63].
وأثر عن موسى عليه السلام: [[أن الله أوحى إليه، فقال: يا موسى! أتدري لماذا اصطفيتك من الناس، واخترتك من بني إسرائيل؟ قال: لا يا رب.
قال: نظرت في قلوب بني إسرائيل، فوجدت قلبك يحبني أكثر من كل قلب، ورأيتك ما جلست مع أحد إلا شعرت في نفسك أنك أوضع منه، وأنك أحقر منه]] ومصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {من تواضع لله رفعه، وحق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه}.(208/6)
تعظيم الله عز وجل بالحلف به
وشاهدنا: أن أعظم عظيم هو الله، ولا يعلم أعظم من الله تبارك وتعالى؛ فلا يحلف إلا بالله، وويلٌ لعبد عظَّم غير الله أكثر منه، أو حلف بغير الله، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود وأبي هريرة أنه قال: {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك}.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم، كما عند أبي داود من حديث ابن عباس: {أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسو الله! ما شاء الله وشئت.
فغضب عليه وقال: ويحك! أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده}.
وصح أن أعرابياً قدم عليه صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! قحطنا، أجدبنا، فادع الله أن يغيثنا، فإنا نستشفع بك إلى الله، ونستشفع بالله إليك.
فجلس صلى الله عليه وسلم، وقال: ويحك! ويلك! سبحان الله! سبحان الله! سبحان الله! أجعلتني لله نداً! أتدري ما شأن الله، إن شأن الله أعظم من أن يستشفع به أو يتشفع به إلى أحد من خلقه تبارك وتعالى}.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، كما صح عنه: [[لأن أحلف بالله كاذباً خيرٌ من أن أحلف بغير الله صادقاً]] لأن من حلف بغير الله صادقاً فقد أشرك، ومن حلف به كاذباً فقد أذنب، والشرك أكبر الذنوب فيا عباد الله وقروا الله في أيمانكم.(208/7)
الواجب علينا في الأيمان
وواجبنا في الأيمان أمور:
أولها: ألا نحلف إذا اضطررنا إلى اليمين إلا بالله تبارك وتعالى.
قال الشافعي رحمه الله تعالى كما ذكر ذلك عنه الذهبي: ما حلفت بالله صادقاً ولا كاذباً في حياتي؛ توقيراً لله تبارك وتعالى وتعظيماً له.
وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: عظِّموا الله تعالى، لا يقل أحدكم لمولاه: أخزاك الله، أو قبحك الله، فتقرنون الله بهذا الكلام.
وذكر ابن تيمية رحمه الله أن محمد بن جعفر الصادق كان إذا قال له الرجل: لا والله؛ احمر وجهه إجلالاً لله تبارك وتعالى.
فالذي لا يستكفي بالله عز وجل فلا كفاه الله، والذي لا تشفيه اليمين به تبارك وتعالى، بأسمائه وصفاته فلا شفاه الله؛ لأنه قد عظّم غير الله أكثر منه.
ثانياً: على المسلم إذا حلف على يمين، ورأى غيرها خيراً منها أن يُكفِّر عن يمينه، وأن يأتي الذي هو خير.
فعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه وأرضاه -كما في الصحيحين - قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فكفِّر عن يمينك وأتِ الذي هو خير} والذي يحنث في يمينه، أو الذي يلج في يمينه؛ هو الرجل الذي يحلف ألا يفعل الخير، ثم يمنعه يمينه عن فعل الخير، وهذا هو المقصود بقوله تبارك وتعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224] أي: مانعاً عن فعل الخير، فبعض الناس يحلف ألا يزور أقاربه، وألا يصل أرحامه، وألا يبر أباه، فواجب هذا أن يكفر وأن يعود إلى ما هو خير.
ثالثاً: ومن واجبنا في الأيمان كذلك ألا نحلف بغير الله تبارك وتعالى -كما أسلفت- فإنه شرك، ويدخل في ذلك الحلف بالطلاق والحرام؛ فإن هذا تعظيم لغير الله، والطلاق في الإسلام إنما وضع لفظاً لمفارقة الزوجة، لا لليمين، ولا لعقد الحلف، فمن فعل ذلك؛ فقد عظَّم غير الله أكثر منه تبارك وتعالى، وكثيرٌ من الناس لا يستجيبون إلا بالطلاق وبالحرام، وما هذا إلا لبدعتهم وجهلهم، وقلة فقههم، ولقلة عظمة الله عز وجل في قلوبهم، فأولى لهم ثم أولى أن يرضوا بالله تبارك وتعالى.
ذكر الغزالي في إحياء علوم الدين [[: أن عيسى عليه السلام رأى سارقاً يسرق، فقال عيسى للسارق: أتسرق؟ قال: والله ما سرقت.
-وقد سرق- فقال عيسى عليه السلام: صدقت بالله عز وجل وكذبت عيني]].
وذلك احتراماً لليمين؛ لأنه حلف بالله.
وفي سنن أبي داود عن سهل بن سعد {أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فعل فعلاً، فقال صلى الله عليه وسلم: أفعلت ذلك؟ قال: لا والله الذي لا إله إلا هو.
فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لقد فعلته، ولكن غفر الله لك بالتوحيد} لأنه قال: والله الذي لا إله إلا هو.
رابعاً: ومن واجبنا في الأيمان: ألا نلغو بكثرة امتهان اسم الله عز وجل على الألسن، وفي المجالس والمنتديات؛ فهذا من قلة توقير الله تبارك وتعالى، فإن كثيراً من الناس يحلف في مجلسه عشرات المرات يقوم فيحلف، ويجلس فيحلف وهذا من قلة تعظيمه لربه تبارك وتعالى، فإن الله عظيم ولا شيء أعظم منه تبارك وتعالى، ولا يحلف الرجل إلا عندما يستحلف، فله أن يحلف.
وتقدم رجلٌ إلى محمد بن أبي داود الظاهري، فاستحلفه فحلف، فقال: كيف تحلف وأنت التقي الورع؟ فقال: إن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحلف في كتابه، فقال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي} [يونس:53] فواجب على المسلم أن إذا استحلف في أمر وهو صادق أن يحلف.
خامساً: من واجبنا في الأيمان -وخاصة أهل التجارة والبيع والشراء- ألا يتعرض للفظ الجلالة دائماً؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: {ثلاثة لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، ورجل عرض سلعته بعد العصر، فحلف بالله عز وجل أنه أعطي بها كذا وكذا وقد كذب} فبعض الناس لا يبيع سلعته إلا باليمين الفاجرة.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في الصحيحين أنه قال: {اليمين منفقة للسلعة مذهبةٌ للبركة} فلا يبارك الله في مال الفاجر، ولا في سلعته، ولا في تجارته، فانتبهوا بارك الله فيكم لهذه الأمور.
سادساً: ومما يجب علينا كذلك: أن ننهى عما ابتدعه الناس من شركيات في ألفاظهم، كقول بعضهم: وحياتي، وشرفي، ونجاحي، وكرامتي، ولو كان له شرف وكرامة، لما كرم إلا الله، ولما عظَّم إلا الله، وهذا منتشر في الناس، إلا من رحم الله تبارك وتعالى.
فيا أبناء من نشروا لا إله إلا الله! ويا أحفاد من بينوا للناس التوحيد الخالص! هذه دعوته صلى الله عليه وسلم، وهذه رسالته، فاحفظوا أيمانكم، واحفظوا لهجاتكم، واحفظوا ألسنتكم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
ذكر الذهبي وابن كثير أن الحسن بن هانئ الشاعر وفد على ملك من ملوك الدنيا، فقال له:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
يخاطب بشراً مثله، لا يملك ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؛ فابتلى الله هذا الرجل بمرض عضال؛ أسهره في الليل، وأحرمه الطعام، حتى يعرِّفه من هو الواحد القهار، فتداول عليه الأطباء، وأتاه الممرضون، فما أجدى فيه علاج، وأخذ يتقلب على فراشه يبكي ويقول:
أبعين مفتقر إليك نظرتني فأهنتني وقذفتني من حالقِ
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
فمن علق أمله بغير الله؛ خذله الله عز وجل ومقته وأذله.
وبعض الشركيين يتلفظون بألفاظ شركية بدعية، سوف يحاسبهم الله بها يوم العرض الأكبر، ومنهم البرعي، حيث يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول:
يا رسول الله يا من ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاما
فأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاما
والرسول عليه الصلاة والسلام بشر لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فلا يعبد إلا الله، ولا يعظم إلا الله، ولا يحلف إلا بالله.
فاتقوا الله عباد الله، وأصلحوا من قلوبكم وألسنتكم، أصلح الله لنا ولكم ما ظهر من أمرنا وما بطن.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(208/8)
اللغو في الأيمان
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
عباد الله: يقول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:89] وفي هذه الآية حلٌ لمن حلف بالله ثم حنث، ليس حلٌ لمن حلف بغير الله، فإن من حلف بغير الله فقد أشرك، ولا تنعقد يمينه على الصحيح من أقوال أهل العلم.(208/9)
كفارة اليمين
من حلف بالله ثم رأى أن غير هذه اليمين خير منها، فواجبه أن يكفر، إما قبل الحنث أو بعده.
والكفارة كما ذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هي إطعام عشرة مساكين، قال علي رضي الله عنه وأرضاه: [[يطعمهم وجبة غداء وعشاء]] والجمهور على أنه يطعمهم وجبة واحدة ولا وجبتين ولا ثلاثاً، ولكل مسكين على الصحيح نصف صاع، وهو مدان، فيطعمهم ليبري الله ذمته، وليزكي يمينه، وليرفع الإثم عنه، ثم يأتي الذي هو خير.
وهو على التخيير، فله أن ينتقل إلى الكسوة، فيكسو كل مسكين ما يصلح له أن يصلي فيه، ثم عتق الرقبة، فإن عجز عن هذه الثلاث فعليه بصيام ثلاثة أيام، وله أن يصومها متتابعات، وله أن ينثرها في أي وقت شاء، ولكن عليه أن يوقر الله في اليمين، وإذا تتابع عليه أيمانٌ موجبها وسببها واحد، ولم يكفر؛ كفاه كفارة واحدة، وإن حلف على أيمان متعددة أسبابها مختلفة؛ فلكل يمين كفارة.
وقد مدح الله الذين يوفون بالنذر، فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7] وصح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عقبة بن عامر في صحيح مسلم أنه قال: {كفارة النذر كفارة يمين}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من نذر نذراً لم يستطعه؛ فعليه أن يكفر كفارة يمين.
والنذر الذي لا يستطيعه العبد هو ما كلف به نفسه، كأن ينذر أن يصوم الدهر إن نجَّح الله ولده، أو ينذر أن يصلي في يوم من الأيام ألف ركعة، إن أتى الله بحبيبه، فلم يستطيع؛ فعليه أن يكفر كفارة يمين، فهي تكفيه عن النذر الذي لا يستطاع.
المهم أن يعظم الله تبارك وتعالى، وألا يحلف به العبد إلا مضطراً صادقاً، وأن يقدر أسماءه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وصفاته، فإن هذا من تقوى القلوب، وهو من تعظيم شعائر الله.(208/10)
السؤال بوجه الله
والمسألة التي أحب التنبيه عليها: السؤال بوجه الله، الذي امتهنه كثير من الناس، فوجه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عظيم كريم مقدرٌ معظم مكرم، لا يسأل به إلا الجنة.
فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يسأل بوجه الله إلا الجنة}.
وكثيرٌ من الناس يسأل بوجه الله في أغراض رخيصة، وفي أسباب حقيرة تافهة، وهذا من قلة تعظيمه لربه، ومن قلة دينه، فوجه الله تبارك وتعالى عظيم، لا يسأل به إلا ما عظم من الأمور.
ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أعوذ بنور وجهك، الذي صلح به أمر الدنيا والآخرة، وأشرقت به السماوات والأرض، من أن يدركني غضبك، أو يحل بي سخطك} فإنما استعاذ من الغضب والسخط، وهما أكبر ما يستعيذ منهما العبد.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين المهديين، وسائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، من اليهود والنصارى ومن أعانهم يا رب العالمين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمركم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(208/11)
الحقوق الزوجية
الدين الإسلامي دين متكامل، وفيه حقوق وواجبات، جاء الدين ليبني الأمة والمجتمع والأسرة، فجعل للأسرة حقوقاً وواجبات لكل من أفراد الأسرة، وخص المرأة بالفضل والتوصية بها وبحسن معاملتها وإرشادها، ولنا في رسول الله أسوة حسنة في معاملتهن وإرشادهن والرأفة بهن.(209/1)
بشرى بانتصار الجهاد الأفغاني
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المعلم الجليل، والمؤيد بجبريل، صلى الله وسلم عليه كلما تضوع مسكٌ وفاح، وكلما غرد حمامٌ وناح، وكلما شدا بلبلٌ وصاح، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته
قبل أن أبدأ في الدرس هنا حدثٌ عالميٌ مهمٌ وخطيرٌ في حياة المسلمين، ولا بد للمسلم أن يعيش واقعه، وأن يعرف أخبار أمته، وأن يعيش الأحداث على الساحة، والحدث المهم في هذه الأيام هو انتصار المجاهدين الأفغان على عدوهم من أهل الكفر والطغيان، وهو انتصار ساحق، يوم قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174] موسى عليه السلام رأى البحر أمامه والبحر مغرق، وفرعون خلفه فقال الناس: الهلاك الهلاك، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل؛ فنجاه الله.
إبراهيم عليه السلام رأى النار وهي تلتهب أمامه وهم يريدون دهدهته في النار، فأتاه ملك يقول: ما هي حاجتك؟ قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلب بنعمة من الله وفضل لم يمسسه سوء.
محمد عليه الصلاة والسلام في بدر وأحد والأحزاب، وفي كل معركة تجتمع عليه الجاهلية وقوى الأرض فيها، فيقول: حسبي الله ونعم الوكيل {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
قالوا للمجاهدين الأفغان: تعالوا إلى هيئة الأمم المتحدة، قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بـ هيئة الأمم المتحدة، قالوا: تعالوا إلى مجلس الأمن، قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بـ مجلس الأمن إلى جنيف، قالوا: آمنوا بالله وحده وكفرنا بـ جنيف، وخرجوا يهللون ويكبرون وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، واقترب فتح كابل {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:97].
خرجوا بالكلاشنكوف وروسيا بالصواريخ، والطائرات، والدبابات، والسيارات، والمصفحات، والمدرعات، ولكن:
يا غارة الله جدي السير مسرعة في سحق أعدائنا يا غارة الله
أخذ المجاهدون المتوضئون الصائمون المصلون يَذْبَحونهم على الطريقة الإسلامية
في فتية من بني الأفغان ما تركت كراتهم للعدى صوتاً ولا صيتا
قومٌ إذا قابلوا كانوا ملائكة حسناً وإن قاتلوا كانوا عفاريتا
هذه من أعظم الأحداث في الساحة، وأنتم تشاهدون وتسمعون، فانظر ماذا تفعل لا إله إلا الله محمد رسول الله مع لا إله والحياة مادة، وانظر ماذا تفعل كلمة: حسبنا الله ونعم الوكيل مع قوى الأرض وجاهليتها وكفرها.
وأما الحديث الخطير المهم، فهو حديث أبي القاسم صلى الله عليه وسلم
بالله لفظك هذا سال من عسلٍ أم قد صببت على أفواهنا العسلا(209/2)
شرح حديث: (أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء)
يقول البخاري رحمه الله رحمة واسعة في الحديث السابع والعشرين: باب كفران العشير وكفرٌ دون كفر، وفيه عن أبي سعيد الخدري، ثم قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أُريت النار فإذا أكثرُ أهلها النساء يكفرن، قيل: يا رسول الله! يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك معروفاً قط} هذا هو حديث ابن عباس عند البخاري.
وفي الحديث ثمان مسائل:
المسألة الأولى: الصدقة وفضلها؛ فإنه أتى في حديث أبي سعيد: {تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار}.
المسألة الثانية: كفران العشير، وكيف يكون، وما هو العشير؟
المسألة الثالثة: مخاطبة النساء، والتكلم والحديث معهن.
المسألة الرابعة: الرسول صلى الله عليه وسلم مع النساء.
المسألة الخامسة: أسئلة النساء.
المسألة السادسة: كفران الإحسان.
المسألة السابعة: حضور المرأة مجالس الخير.
والمسألة الثامنة: أجر المرأة المؤمنة.(209/3)
قصة الحديث
أما حديث ابن عباس فقد ورد من حديث أبي سعيد وقصته عند أبي سعيد أن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج يصلي بالناس العيد، وقد كان يخرج صلى الله عليه وسلم إلى الجبانة -إلى الصحراء- فيصلي بالناس هناك صلاة العيد، وكان إذا خرج الناس انتظر قليلاً حتى ترتفع الشمس ما يقارب قيد رمح، ثم لبس لباسه صلى الله عليه وسلم، لباس الجمال، والعظمة، والتواضع.
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بؤسها
فكان يمضي فينتظره الناس، فإذا أطل عليهم أطل بمقدمه المبارك الباهي الذي يملأ العين جلالة، والقلب مهابة، فيتكلم مع الناس بما آتاه الله، وحيٌ من السماء يفيض عليهم بالنور والخير والبركة، فلما انتهى من كلامه للناس إذا بالنساء في طرف المصلى، هن لم يصلين مع الرجال بل كُنَّ في جهة واحدة من المصلى، وهذا فيه درس على أن الاختلاط ليس بوارد، لا في الأماكن التعبدية، ولا في الفصول الدراسية أو الاجتماعات العامة؛ لأن المرأة لها مكانٌ والرجل له مكان.
وفيه درسٌ أيضاً أن على المرأة المسلمة أن تحضر مجالس الخير، واجتماعات البر، وأن تستمع إلى الكلمة النافعة، وأن تستمع إلى الدروس الإسلامية والمحاضرات القيمة، فإن هذا من أعظم الأمور، لكن شريطة أن تغض بصرها، وتتقي ربها، وتحفظ زوجها في غيابه، وفي حديث أم عطية عند البخاري: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الحيض والعواتق وذوات الخدور أن يخرجن يوم العيد} فأما الحائض تعتزل المصلى، وتحضر دعاء المسلمين، وتستمع إلى الموعظة والخطبة، ففيه فائدة تدل على أن الحائض لا تدخل المسجد، ولا المصلى الذي يصلي فيه الناس، لكن بإمكانها أن تحضر في مكان محجوز من وراء حجاب فتسمع الكلمة الطيبة التي تصل إلى قلبها.
ثم اعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا تمنعوا إماء الله مساجد الله} والحديث صحيح، إي للصلاة، وهذا الحديث من رواية ابن عمر، وعند مسلم: {فقال له ابنه بلال: والله لنمنعهن يتخذنه دغلاً يقول: والله لنمنعهن؛ لأنهن يتخذن المسجد تحريشاً وفساداً -فقال ابن عمر: {أكلمك عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وتكلمني عن رأيك وتعارضه، والله لا أكلمك أبداً حتى الموت} انظر إلى عظمة السنة في قلب ابن عمر يقول لابنه: والله لا أكلمك أبداً حتى الموت، كيف تعارض أمر الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قالوا: فما كلمه أبداً، فلما حضرته سكرات الموت اقترب ابنه يبكي ويقول: سامحني، كلمني ولو كلمة واحدة، فمات ولم يكلمه، وهذا في اعتراضٍ بسيط، فكيف بمن يرضى بأفعال المحاربين للسنة والشريعة، والمحاربين لِقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم!!
ونعود للحديث ولكن جاء عند أبي داود: {أن صلاة المرأة في دارها خيرٌ من صلاتها في مسجدها} وتقول عائشة كما في صحيح البخاري من حديث عطاء: [[لو رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ما فعلت النساء بعده لمنعهن كما مُنعت نساء بني إسرائيل، قال عطاء: أمنعت نساء بني إسرائيل؟ قالت: نعم]] وعائشة تنظر في الحرم في وقتها، تنظر إلى الهيئة، وبعض الاختلاط، وبعض الأمور، فتقول: لو رأى صلى الله عليه وسلم هذا المشهد لمنع النساء، فكيف لو رأت عائشة المنظر اليوم! وكيف لو رأت التبرج والاختلاط! وكيف لو رأت ضعف الإيمان وقلته، وقلة العلم بالسنة والشريعة! نسأل الله العافية والسلامة.
فخرج صلى الله عليه وسلم وتكلم للناس، فلما انتهى التفت إلى بلال بن رباح مؤذنه داعي السماء لأهل الأرض، الذي يقول فيه الشاعر وهو يتكلم عن المدينة:
فاستفاقت على صباحٍ جديدٍ ملء آذانها أذان بلال
بلال المتوضئ، الذي ما توضأ إلا صلى ركعتين، قصره كالربابة البيضاء في الجنة، لا نسب إلا التقوى، ولا سبب إلا لا إله إلا الله، ولا أسرة إلا لا حول ولا قوة إلا بالله وزاده في الآخرة، فأخذه صلى الله عليه وسلم ليذهب به إلى النساء، فأتى إليهن متكئاً على بلال، وهذا فيه دلالة على يسره صلى الله عليه وسلم وتواضعه.
فلما دلف بطلعته البهية على النساء وكلهن متحجبات، فتكلم معهن وقال: {تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، ثم توقف فقامت امرأة داهية من الدواهي ذكية وقالت: ما بالنا نحن أكثر أهل النار؟}.
أي: ما هو السبب والعلة؟
وهنا فائدة وهي: أن الطالب له أن يناقش، وعلى المرأة المسلمة إذا لم تفهم قضية فيجب عليها أن تبعث للعالم فتسأله وتستفتيه.
تقول: ما بالنا أكثر أهل النار؟ وما هو السر؟ قال عليه الصلاة والسلام وهذا في حديث أبي سعيد: {لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقلٍ ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، لو أحسن إلى إحداكن الدهر ثم رأت منه شيئاً؛ قالت: ما رأيت منك خيراً قط}.
فسكتن وأتين يتصدقن، فكن يلقين بما معهن من سخاب، وذهب، وحلي، وأخذ بلال يعرض ثوبه لأنها لبيت مال المسلمين، ويقول: [[فداكن أبي وأمي! فداكن أبي وأمي!]] فأخذ التبرعات.
وهنا فائدة وهي: أن المرأة المسلمة لابد أن تشارك بكلمتها ومالها وحليها، وأنها لا يبقى لها إلا ما قدمت عند الله، وأن الحلي والكنز هو الأدب والزهد والعفاف
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمرانُ
ويا حريصاً على الأموال يجمعها أقصر فإن سرور المال أحزانُ
من يتق الله يحمد في عواقبه ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركانُ
وفي هذا الحديث قضايا سوف أتعرض لها.
وهنا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري {ما رأيت ناقصات عقلٍ ودين} وللمرأة المسلمة أن تتساءل: ما بالنا ننقص في عقولنا وفي ديننا؟
فنقول: قد فسر ذلك صلى الله عليه وسلم: بأن المرأة تحيض فتمكث أياماً لا تصوم ولا تصلي، وأما عقلها فشهادة الاثنتين من النساء بشهادة رجلٍ واحد، وليس عليهن ذنوبٌ في نقص العقل، لكن ينتبه لهذا، وإلا فإن فيهن رشيدات، وشديدات، وعالمات، ومتقيات، لهن مكانة في الجنة، وموقف عند الله محمود {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195].
منا الفواطم ربات العلا ولنا كل الزيانب هم أهل وعمات
والله لو أنصف التاريخ أمتنا لسجل المدح عذباً وهو سهران
ثم الرسول عليه الصلاة والسلام عاش مع المرأة أباً، فقد كان له بنات، وعاش مع المرأة أخاً فله أخوات، وعاش مع المرأة زوجاً فله زوجات، ثم عاش قريباً فله عمات وخالات.
وسوف نعرف في هذا الدرس كيف كان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الجميع، لأنه هو القدوة، وما أتاك من سواه ومن غير بضاعته فاعلم أن فيها غشاً إذا لم توافق سنته وشريعته عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].(209/4)
فضل الصدقة
أما القضية الأولى: فقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (تصدقن) فيا معاشر المسلمات! الخطاب لكن أولاً، ثم أنتم يا رجال الإسلام! ويا أبناء لا إله إلا الله! ويا أحفاد محمد صلى الله عليه وسلم! تصدقوا.
ما هي الصدقة؟
الصدقة لا حد لأدناها أو لأعلاها، أما أدناها فالبسمة، والكلمة الطيبة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وأما أعلاها فاسمع إلى الله وهو يقول: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {والصدقة تطفئ الخطيئة} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا تصدق المرء المسلم من كسبٍ طيبٍ ولا يقبل الله إلا طيباً، فإن الله يتقبله بيمينه ثم يربيه لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون كـ جبل أحد}.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل منكم في ظل صدقته يوم القيامة حتى يُقضى بين الناس} إلى غير ذلك من الأحاديث، ومنها ما في الصحيحين كقوله صلى الله عليه وسلم: {ما أصبح الصباح إلا وملكان يناديان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً}.
وهي أنواع: أعظمها وأجلها الصدقة بالعلم، كما قال ابن القيم، ثم الصدقة بالنفس، بأن تسكب دمك في سبيل الله، وتبيع روحك من الله.
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ
ومن الجود: الجود والصدقة بالوقت، تجد بعض المحسنين الصالحين صرف وقته للمسلمين، ليله ونهاره، لا راحة ولا نوم، كله للمسلمين حتى يقول ابن القيم مستشهداً: بعض العرب من كرمه يكرم ضيفه، فإذا تعشى الضيف قال له: أتريد أن تسمر سمرنا معك، أو تريد أن تنام نمنا، فإن قال الضيف: نسمر سمر معه وبذل وقته له، ثم قال:
متيمٌ بالندى لو قال صاحبه هب لي فُديت كَرَى عينيك لم ينمِ
يقول: لو طلب نومه من عينيه ما نام من كرمه أبداً، ويقول الأول:
أحادث ضيفي وهو يقظان ساهر وعلمي به أن سوف يهجع بعدها
يقول: أحادثه وهو سهران وأنا متعب، لكنني لا أريد أن أنام حتى ينام هو، وهذه صفة أهل الشيم والمروءة: الجود بالأوقات.
ومنها: الجود بالأموال، فلا ترى حاجة إلا تفعل ذلك فيه، وإنما خص عليه الصلاة والسلام المرأة بالملاحظة عليها في كثرة الصدقة؛ لأن من النساء بذيئات، يكثرن اللعن والسب والشتم، وهي خطايا ولا يطفئ الخطايا إلا الصدقات، فنبه عليه الصلاة والسلام المرأة على أن تتصدق من جلبابها أو ثيابها، أو ذهبها، أو مالها، أو معروفها، وسوف تلقى ذلك كله عند الله تبارك وتعالى.
دخلت امرأة معها ابنتان -والحديث في صحيح مسلم - على عائشة رضي الله عنها وأرضاها فسألتها حاجة، فبحثت عائشة فلم تجد في البيت شيئاً غير ثلاث تمرات، -في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو معلم البشر، وهادي الإنسانية، وماذا تفعل ثلاث تمرات مع امرأة وابنتين؟ لكن: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] فقامت فسلمتها التمرات، فأعطت كل واحدة من ابنتيها تمرة، وأرادت أن تأكل الثالثة ثم قسمتها بين ابنتيها، فتعجبت عائشة من رحمتها! ثم خرجت المرأة، فأتى صلى الله عليه وسلم فأخبرته عائشة بالقصة، فقال عليه الصلاة والسلام: {من ابتلي بابنتين من هذه البنات فأحسن تربيتهن وأدبهن وزوجهن فهو رفيقي في الجنة} رفيق محمد عليه الصلاة والسلام في الجنة، فمن شاء أن يفعل فليفعل، ومن شاء طريق الجنة فعليه أن يربي بناته في الإسلام تربية إسلامية، هذا شأن الصدقة الذي نص عليها الرسول صلى الله عليه وسلم.(209/5)
حكم صرف الزكاة إلى الزوج
ولما أمر صلى الله عليه وسلم بالصدقة في المصلى -والحديث في الصحيحين - كان من ضمن الجلوس زينب امرأة عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه وأرضاه، فقامت فدخلت بيتها بعد سماع الموعظة، فأخذت حليها وذهبها وفضتها وخرجت من البيت فلقيها ابن مسعود وقال: إلى أين؟ قالت: أتصدق به، قال: أنا وولدك أحق من تصدقت عليه، فقالت: لا.
حتى أسأل الرسول صلى الله عليه وسلم.
تقول أنا لن أصرف مالي فيك، وفي أولادك، يمكن أنك أردت إغرائي بهذا حتى تأخذ مالي، فلابد من فتوى، فقال: اذهبي أنت واسأليه، فذهبت رضي الله عنها وأرضاها، والرسول صلى الله عليه وسلم في البيت جالس وعند الباب حارسٌ هو بلال، فأتت متحجبة وقالت لـ بلال: أريد الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: من أنت؟ قالت: أنا زينب امرأة ابن مسعود وفيه دليلٌ على أنه لا بأس بمعرفة الأسماء في الإسلام، إذا كانت المرأة عاقلة، ومحتشمة، ورشيدة؛ فذهب بلال فقال: يا رسول الله! زينب تستأذن عليك -وفي المدينة ما يقارب سبع أو ثمان زيانب- قال صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم: أي الزيانب؟ -فسر لنا من هي زينب هذه-:
تضوع مسكاً بطن نعمان إن مشت به زينبٌ في نسوة عطرات
تهادين ما بين المحصب من منى وأقبلن لا شعثاً ولا غبراتِ
قال: زينب امرأة ابن مسعود، قال: ماذا تريد؟ أدخلها.
وفي لفظٍ أنها سألت مباشرة، وفي لفظٍ عند مسلم أن بلالاً قام بنقل الفتيا من الرسول صلى الله عليه وسلم إليها ومنها إلى الرسول، فدخلت فقالت: يا رسول الله! زعم ابن مسعود} وزعم هنا لمن لم يُتأكد من لفظه، وزعم للصدق، قال سيبويه: وزعم الخليل، يعني: وقال الخليل، يعني بصدق، ولكن استخدمت في القرآن بمعنى القول المموه الذي لا حقيقة له، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7].
وقال جرير للفرزدق يستهزئ به:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً
ومربع هذا رجلٌ آخر.
والفرزدق كان عدواً لـ جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطولِ سلامة يا مربع
يقول له: أنا أعرف الرجل فلا تخف منه، فإنه لن يذبحك أبداً، زعم الفرزدق أي: من قول مموه كذباً ودجلاً.
فتقول: {يا رسول الله! زعم ابن مسعود أنه هو وأولاده أحق من تصدقت بمالي عليهم، قال: صدق ابن مسعود} فعادت فسلمت حليها ومالها لزوجها الفقير، وفيه دليل على أن المرأة تدفع زكاتها لزوجها، وهو ما أفتى به أهل العلم حتى الزكاة المفروضة يجوز دفعها للزوج إذا كان فقيراً، وفيه دليلٌ على أنها تتصدق على زوجها قبل الآخرين، وتدفع مالها لزوجها فهو أحق الناس ببرها ومالها، وكرمها وجودها، هذه هي فتواه صلى الله عليه وسلم في مسألة الصدقة ومصارفها.(209/6)
معنى: كفران العشير وكيف يكون
المسألة الثانية: كفران العشير.
ما هو الكفران؟
الكفران: مصدر كفر، وكفر: غطى، يقال: كفرت البذرة في الأرض إذا غطيتها، وكفر المعروف إذا غطاه، وإنما سمي الكافر كافراً لأنه جحد معروف الله وآياته، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
قال بعض المفسرين: الكفار: الزراع؛ لأنهم يكفرون البذرة في الأرض، وقال غيرهم: بل الكفار هنا هم الكفار المعروفون الذين كفروا بالله ورسوله واليوم الآخر.
قوله: العشير هو الزوج، وإنما سمي عشيراً من المعاشرة وهي المصاحبة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19].
فكفران العشير من أسباب دخول المرأة في النار، فهي تجحد المعروف، وتنسى الكرم، لو يبدأ معها حياته في شغف ويبذل كل ما يملك ثم تسمع كلمة نابية منه فإنها تنسى المعروف كله، وتنزل عليه بكلام مثل القذائف، وتكفر بمعروفه وجوده وكرمه، فهذا هو معنى كفران العشير.
فيقول صلى الله عليه وسلم: {تكفرن العشير} والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم ما يتكلم به لسانه، فقد عاش في البيت زوجاً، ولو لم يتزوج لقال الناس: إنه عليه الصلاة والسلام ما عاشر المرأة، ولا صاحبها ولا عرف أخلاقها، لكن من نعمة الله عز وجل أن أرسله بشراً، ولم يرسله ملكاً، فلو كان رسولنا ملكاً وقلنا للناس: انظروا إلى صبر الرسول وكرمه وزهده، لقالوا: إنه ملك، لكن جعله بشراً ليكون لنا قدوة، ولذلك عاش مع المرأة صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38].
وذلك ليعيشوا الحياة آلامها وآمالاها، وطموحاتها ومشاقها، والإنسان المعزول في رأس جبل كيف يصلح أمة، وهو لا يعرف ذنوب الناس وحسدهم وأمراضهم؟!
الطبيب الذي يبدأ في غرفة مغلقة مع عقاقيره، ومعمله، وصيدليته، كيف سيداوي المرضى؟
ولذلك الرسل عليهم الصلاة والسلام تزوجوا، حتى إن الإمام أحمد جلس في مجلسٍ مصغر ومعه تلاميذه وحثهم على الزواج، فقال أحدهم: أما أنا فلا أتزوج، قال: ولم؟ قال: ترك الزواج أفضل، قال: من قال لك ذلك؟ قال: حُدثنا عن إبراهيم بن أدهم أنه لم يتزوج، وإبراهيم هذا أحد الزهاد العباد، فقال الإمام أحمد: أوه! وقعنا في بنيات الطريق، يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] فهل إبراهيم بن أدهم قدوتنا أو محمد صلى الله عليه وسلم؟ فلذلك استدل الإمام أحمد بسيرته عليه الصلاة والسلام.(209/7)
كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع مشاكل زوجاته
حتى النبي صلى الله عليه وسلم عايش مشاكل نسائه، تصوروا أن الرسول عليه الصلاة والسلام معه تسع نساء، وفي الصحيح: {أن إحدى نسائه أرسلت صحفة فيها طعام إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في بيت عائشة، وعائشة جارة لتلك وضرة لها، ومن إدخال الغيرة عليها أن ترى صحفة لامرأة أخرى من ضرائرها مملوءة طعاماً تقدم في بيتها للرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم جالس فدخل الخادم بالصحفة مليئة بالطعام، فرأت عائشة الصحفة فما تمالكت نفسها، فقامت فضربت الخادم بالصحفة والطعام، فانكسرت الصحفة ووقع الطعام في الأرض، فغضب صلى الله عليه وسلم، فلما غضب سكت، وكان إذا غضب سكت، ونكس رأسه في الأرض، فلما رأت ذلك عائشة عاد إليها شعورها وعقلها ووعيها فقالت: يا رسول الله! ما هي كفارة ذلك؟ قال: صحفة كصحفتها، وطعامٌ كطعامها} والحديث صحيح، أي: ردي إليها مثلما أتلفتيها، وهذا من الغيرة التي لا تخلو منها امرأة، لكن الواجب ألا تتعدى المرأة، فإذا وصلت إلى الغيرة أن تتقي الله ولا تتعدى في الأشياء، ولا تبخس الناس أشياءهم، ولا تظلم الآخرين، فانظر كيف عاش عليه الصلاة والسلام هذا الأمر.
أتى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو لا يملك كسرة الخبز، ولا يملك حفنة التمر، ولا يملك إلا كوزاً من ماء، فأخذ نساؤه يطالبن بالنفقة والحلي، أن يشتري لهن ذهباً وفضة وحلياً، فسكت وتأخر عن صلاة العشاء، وسبب تأخره عن صلاة العشاء وهو في الحديث الصحيح عند البخاري: {أن حفصة وعائشة كانتا ترفعان أصواتهما عليه صلى الله عليه وسلم يطالبان بالنفقة، فانتظر ومر أبو بكر فسمع الصوت، ففتح الباب على الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله! اخرج إلى الصلاة واحث في وجوههن التراب} لكنه أعظم الخلق خلقاً، يقول الله عز وجل عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ويقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].(209/8)
مواقف السلف في التعامل مع أهليهم
والصحابة مع أنهم عاشوا معه لم يساووه في الحلم، وسعة الصدر والخلق، ولكن {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].
الزبير بن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة، أتت امرأة تستفتي عمر، وتقول: [[يا أمير المؤمنين! خطبني الزبير، فهل أتزوجه؟ قال: لا -وهو من العشرة- قالت: ولم؟ قال الزبير: من أخشانا لله وأتقانا لكن يدٌ بالعصا ويدٌ بالقرط]] أي اليد اليمنى العصا أو الهراوة أو بالمشعاب وفي لفظ: بالكرباج، واليسرى بجدائل المرأة، أي: أنه ضراب، فـ عمر أرشدها لأنه لا يستطاع أن يعايش رضي الله عنه، ولذلك تزوج كثيراً، فأنى نبلغ مستواه صلى الله عليه وسلم! لكن التسديد والمقاربة.
وكفران العشير ورد في صور: أتى رجلٌ -كما في المسند للإمام أحمد - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله!
أشكو إليك ذربة من الذرب وهن شر غالب لمن غلب
قصيدة طويلة، يقول: أشكو إليك مصيبة من المصائب، قال: ما هي؟ قال: زوجتي! أرته النجوم في النهار، وبعض الناس يفتح الله عليه بزوجة صالحة خاشعة منيبة عابدة تريه النجوم في النهار، فأتى هذا الرجل فقال: {يا رسول الله! أشكو إليك زوجتي -أطلقني أطلقك الله، وأعتقني أعتقك الله- قال عليه الصلاة والسلام وهو يتبسم: وهن شرُ غالبٍ لمن غلب، وهن شرُ غالبٍ لمن غلب} يقول: مهما كان الرجل قوياً صارماً فإن المرأة تغلبه في كثير من الأمور.
دخل أبو أيوب الأنصاري على ابن عمر فوجد الستور -وجد الجدران مسترة بالقماش- فقال أبو أيوب: [[حتى أنت تستر الجدران وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك! قال: غلبنا عليهن النساء]] أي: غلبنا النساء على هذا الأمر ففعلنا، فرجع أبو أيوب ولم يحضر الوليمة رضي الله عنهم جميعاً.
فالرسول عليه الصلاة والسلام عاش مصلحاً بين الناس، ويعرف أن المرأة لا تزال تكفر الإحسان حتى ولو كانت عابدة تصلي الضحى، وتصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وتقوم الليل، فلا يزال في طبيعتها أنها تكفر الإحسان.
جاء رجل من الصحابة إلى عمر رضي الله عنه فطرق عليه الباب، وأراد أن يشكو إلى عمر زوجته أنها آذته -وعمر أمير المؤمنين- فسمع صوت عمر يرتفع على صوت زوجته وصوتها يرتفع على صوته، فولى الرجل، ففتح عمر الباب فإذا بالرجل قد ولى، فناداه وسأله: أين تذهب؟ قال: يا أمير المؤمنين! أتيت في أمرٍ فسمعت صوت زوجتك وصوتك فذهبت، قال: ولم؟ قال: امرأتي آذتني وسبتني وشتمتني، فأتيت أشكوها إليك، فلما سمعت امرأتك تسبك وتشتمك ذهبت، فتبسم عمر رضي الله عنه وأرضاه، وقال: [[إنما العيش بالمعروف، إنها امرأتي تصنع لي خبزي وتغسل ثوبي وتخدمني، فإذا لم نتلطف بهن ما عشنا معهن]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.
ولذلك لا بد في البيوت أن يحصل هذا الأمر لكنه على مستويات، وهذا الأمر من المصائب التي يسأل الله العبدُ أن يكفر بها من الخطايا والذنوب، ففي صحيح البخاري وعند مسلم بلفظ آخر عن حذيفة قال: {كنا جلوساً مع عمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: أيكم سمع ما قال صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال حذيفة: أنا، قال: إنك عليها لجريء قل، قال: فتنة الرجل في أهله تكفرها الصلاة والصوم والصدقة.
قال: دعني من هذه لست أسألك عن هذه -لأن يعرف عمر هذه- أسألك عن التي تموج موج البحر -أي: فتنة الدم والسيف- قال: إن بينك وبينها باباً، قال: أيفتح أم يكسر؟ قال: بل يكسر، قال عمر: ذلك أولى ألا يغلق أبداً} وعمر هو الباب ولذلك قتل وبدأ السيف والدم في الأمة إلى قيام الساعة، فكان عمر سداً دون الفتن رضي الله عنه وأرضاه.
ولا يخلو بيت من المشاكل الزوجية، وقد جاء في صحيح البخاري أن الرسول عليه الصلاة والسلام أتى إلى ابنته فاطمة فقال: {أين ابن عمك؟ -يقصد علي بن أبي طالب - قالت: غاضبته فخرج إلى المسجد} أي: تغضابت هي وعلي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، البتول الطاهرة المطهرة، أم الحسن والحسين
هي بنت من هي أم من هي زوج من من ذا يباري في الأنام علاها
أما أبوها فهو أشرف مرسل جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي زوجٌ لا تسل عنه سوى سيفاً غدا بيمينه تياها
{فخرج، فلحقه صلى الله عليه وسلم فوجده نائماً على البطحاء -أمير المؤمنين! أبو الحسن الأسد في براثنه، الذي قطع الله به رءوس الملاحدة وأهل البدعة، والزنادقة، والخوارج - فأخذ يضربه صلى الله عليه وسلم برجله، ويقول: قم أبا تراب! قم أبا تراب! قم أبا تراب!}.
فأخذ بنو أمية هذه الكنية ليسبوا علياً بها، يقولون: أبو تراب أبو تراب! يقول سعد بن أبي وقاص: والله إنها أحب الكنى إلى علي، أي: لا يرتاح علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلا إذا قيل له: أبو تراب، وأعداؤه يقولون أبو تراب تصغيراً لشأنه رضي الله عنه، فسمع علي رضي الله عنه وأرضاه قولهم أبو تراب فتبسم وقال: [[هي أحب الكنى إلي]].
وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهرٌ عنك عارها
يقول: لا علي من هذا العار.
والبيت لـ أبي ذؤيب الهذلي في قصيدته الرنانة الطويلة التي يقول فيها:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها فأول راضٍ سيرة من يسيرها
وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهرٌ عنك عارها
واستدل بهذا البيت كذلك عبد الله بن الزبير، فإن بني أميه لا يعرفون معنى لقب ذات النطاقين، فكانوا يعيرون ابن الزبير به، يقولون: يـ ابن ذات النطاقين، وذات النطاقين هي أسماء بنت أبي بكر أخذت نطاقها رضي الله عنها وأرضاها فقسمته قسمين: قسمٌ تمنطقت به، وقسمٌ ربطت به الطعام للرسول عليه الصلاة والسلام ولـ أبي بكر في الغار، فقال صلى الله عليه وسلم: {ذات النطاقين في الجنة}.
والوصية للمرأة أن تتقي الله في زوجها، فقد صح من حديث أبي أمامة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها؛ دخلت جنة ربها} أو كما قال عليه الصلاة والسلام ولا تجحد المعروف، فإن ألأم الناس وأشأمهم من جحد المعروف، ولذلك يسميه العرب لئيماً
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فأبغض الناس إلى قلوب الناس هو الذي يجحد معروفهم، وينسى إحسانهم، ويتغافل عما قدموه من مكرمات، فكيف بالزوج الذي قدم لزوجته من المكرمات ما الله به عليم!(209/9)
مخاطبة النساء وضوابط في الحديث معهن
المسألة الثالثة: مخاطبة النساء وفيه أنه صلى الله عليه وسلم خاطب النساء، وكان يتكلم إليهن في مجالس خاصة وعامة، وقد أتت أسماء بنت يزيد فقالت: {يا رسول الله! -وهي متحجبة- غلبنا عليك الرجال، يحجون معك، ويعتمرون معك، ويجاهدون معك، فاجعل لنا يوماً من نفسك.
فالتفت عليه الصلاة والسلام وقال للصحابة: هل سمعتم بأجمل منها خطاباً} فوعدهن صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين، قال البخاري: باب من جعل للنساء يوماً من نفسه فهل يجوز هذا؟ وهل من حدد يوماً في الأسبوع هو مبتدع أم لا؟ فبعض الناس قد يقول: لماذا تحددون في مساء الثلاثاء في هذا المسجد درساً ويمكن أن يكون بدعة؟ نقول: يقول البخاري: باب من جعل للنساء يوماً من نفسه، فلا بأس بجعل بعض الأيام موعداً لطلبة العلم والاجتماع بهم أو لغيرهم؛ لتكون مواعيد المسلمين منظمة، ومضبوطة مسيرة، وهذا ليس من البدعة، بل من السنة والحمد لله.
فأتى صلى الله عليه وسلم إليهن وليس معه ولا معهن غيره من الرجال، فأخذ يتكلم معهن بطلاقة في شئونهن، قال صلى الله عليه وسلم: {ما منكن امرأة تقدم ثلاثة أولاد إلا كانوا حجاباً لها من النار، قالت امرأة: واثنين، قال: واثنين فقالت المرأة: فنسيت أن أسأله عن الواحد: وفي بعض الألفاظ: وواحد} من قدمت واحداً فهو حجاب لها من النار، {وكان صلى الله عليه وسلم في مجلس مع النساء فأخذن يتمازحن وهو جالسٌ ساكت، فترافعت أصواتهن بالمزح والضحك وهو ساكت، فدخل عمر فلما سمعن جلبة عمر اندفعن إلى الحجاب وفررن من مجلسه صلى الله عليه وسلم، فدخل عمر ثم أشرف وهن متحجبات وراء الحجاب، فقال: يا عدوات أنفسكن! الرسول صلى الله عليه وسلم معكن وهو أولى أن تهبنه وفررتن مني.
فقامت امرأة عاقلة -انظر إلى الجواب المسدد- وقالت: الرسول صلى الله عليه وسلم رحيم رؤوف سهل لين وأنت فظٌ غليظ القلب} {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
فلما قالت: الرسول رحيم رؤوف سهلٌ لين وأنت فظٌ غليظ القلب، تبسم عليه السلام ونظر إلى عمر وقال: {مهلاً يـ ابن الخطاب! والله ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك} أي: ما تسلك من طريقاً إلا ويسلك الشيطان من الطريق الآخر؛ لأنه صادق مخلص، وهو قوي الشخصية إلى درجة من الهيبة ما يستطاع أن يُتكلم معه، ملوك العرب إذا أتوا إلى عمر وأراد الواحد منهم أن يتكلم خلط بين الكلام، ولا يستطيع أن يتكلم.
عيينة بن حصن قال للحر بن قيس: [[استأذن لي إلى هذا الأمير يعني: إلى عمر، وعيينة عنده كلام يريد أن يتكلم به مع عمر، استأذن لي عليه، فأذن له وعيينة من سادات العرب، فدخل عيينة وقال: أما عرفتني يا عمر! قال: من أنت؟ قال: أنا الكريم ابن الكريم ابن الكريم؛ لأنه عيينة بن حصن بن حمل بن بدر، وبنو بدر أسرة من الأربع الأسر الكبرى في العرب، التي يقول فيها حاتم الطائي:
إن كنت كارهة معيشتنا هاتي فحلي في بني بدرِ
الضاربون بكل معتركٍ والطاعنون وخيلهم تجري
قال: أنا الكريم ابن الكريم ابن الكريم، قال عمر: بل أنت الخسيس ابن الخسيس ابن الخسيس، الكريم ابن الكريم ابن الكريم هو: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم]] هذا نسبٌ مؤمن وذلك نسب مظلم، وهذا نسبٌ يتصل إلى الجنة، وذلك نسب وثني، فقال عيينة: مهلاً يا عمر! إنك لا تعدل في القضية، ولا تقسم بالسوية.
فقام عمر يريد الدرة ليداوي بها رأسه، هذا علاج يجيده عمر يخرج به الوساوس من الرءوس، فعنده درة لا يضرب بها أحداً إلا ويخرج الوسواس من رأسه، يضربه حتى يغمى عليه ثم يرش بالماء ثم يقول: أصبحنا وأصبح الملك لله، فقام عمر فوقف الحر بن قيس وهو من حفظه القرآن فقال: يا أمير المؤمنين! يقول الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وهذا من الجاهلين، وكان عمر وقافاً عند القرآن فجلس، وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
فـ عمر وأمثاله قصم الله بهم الشياطين الإنسية والجنية، فلا تستطيع النساء أن يتكلمن مع عمر، بل قد صح في روايات عند كثير من أهل المصنفات: [[أن عمر أرسل إلى امرأة وهي حامل في قضية، يريد أن يتثبت منها، فخافت فألقت حملها، وهذه يصححها أهل العلم، فأتي بالمرأة، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه للصحابة: ماذا ترون في جنينها، هل عليَّ من ديته أم لا؟ فقالوا كلهم: ما نرى عليك شيئاً، أنت أمير المؤمنين وقد أرسلت لها، ولست مضنة التخويف فألقت حملها وكان عمر يقول: معضلة ولا أبو الحسن لها، وكان إذا أنقذه بعد إنقاذ الله قام وقبل رأسه وقال: فديتك يا أبا الحسن! فتكلم الناس فقال: وأنت يا أبا الحسن! ماذا عندك؟ قال: تكلم الناس وقد سمعت منهم، قال: أريدك أنت، ماذا تقول؟ قال: يا أمير المؤمنين! لا تجعل يقينك شكاً.
وهذا الحديث في المصنف لـ ابن أبي شيبة - قال: فسِّر.
قال: يا أمير المؤمنين! أنت الذي خوفتها حتى أسقطت جنينها فعليك ديته -من تسبب في إسقاط جنينها إلا أنت- فوداه عمر رضي الله عنه وأرضاه]].
الشاهد: أن كثيراً من الناس يبلغون من قوة الشخصية حتى لا يستطاع المعايشة معهم، أو القرب والاستفادة منهم، لكن الله عز وجل هو الذي خلقه، وله مصالح في العباد تبارك وتعالى، فمقصودي هنا هو: مخاطبة النساء.(209/10)
كيفية مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء
كان صلى الله عليه وسلم يتكلم مباشرة مع النساء، وفي البيعة لما قام يبايع النساء نصب حجاباً بينه وبينهن، فطلب البيعة من النساء كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ} [الممتحنة:12].
فظنت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان أنه صلى الله عليه وسلم يريد مبايعة باليد كالرجال، فأخرجت يدها من وراء الستار، ويدها غير مخضوبة ليس فيها حناء وغير مقلمة الأظافر، وهذا منظرٌ لا يرضاه الإسلام، وقد حسَّن ابن الأثير في جامع الأصول حديثاً وهو في السنن، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: {إني أكره المرأة أن تكون سلتاء مرهاء} والسلتاء هي: التي لا تختضب، والمرهاء: هي التي لا تكتحل، فهذه قد أصبحت رجلاً، والرجل لا يريد المرأة أن تكون مثله، بل جاء عند النسائي {أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن الرَّجلَة من النساء} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال}.
الرجل رجل والمرأة امرأة، ولذلك هنا لابد من وقفة وهي: أنه قد تجد بعض الناس يترك رجولته بعد أن يترك دينه، فهو لا يترك الرجولة إلا بعد ترك الدين، فيأتي يقلد المرأة في كل شيء، فيلبس ثوباً شفافاً رهيفاً، طويلاً مائعاً مائساً، ويحمل كعباً، ويطيل جمته ويحلق لحيته، ويطيل أظفاره، ويلبس من دبل الذهب، ويركب باروكة على رأسه، فهذا يشمله اللعن.
وتجد امرأة بالعكس، تأتي فتتشبه بالرجال، صوتها خشن، ولا تختضب، وتبارز الرجال في المنتديات، وتظهر نفسها في أماكن لا يرضاها الله عز وجل، وتريد أن تظهر للجماهير على الشاشات والمسارح والمنتديات، فهذه ملعونة لأنها ظهرت، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لم يرض ظهورها.
وللفائدة: لعن صلى الله عليه وسلم أصنافاً وقد جمعها السيوطي في فصل: الذين لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
فقد لعن النامصات والمتنمصات، والواشمات والمستوشمات، والواصلات والمستوصلات، والواشرات والمغيرات خلق الله وغيرهن.
والنامصة هي التي تنتف شعر حاجبها، فالتي تنتفه ملعونة إلا إذا زاد عن الحاجة أو وصل إلى الجبهة، أو دخل إلى العين، فهذا أمرٌ آخر، والمتنمصة هي التي تطلب ذلك.
والوشم: كالحبر والمداد بأنواعه، فتجعله في خد المرأة أو في يدها كالحبر ثم تغرزه، ثم تركبه فيبقى في الجسم كالخط مكتوباً، والمستوشمة: التي تطلب ذلك.
والواصلة هي التي تصل شعرها بشعر آخر، فلا يجوز أن تصل المرأة شعرها بل لا بد أن يكون شعرها أصلي ولا تزيد فيه، والمستوصلة هي التي تطلب ذلك.
والواشرة هي التي تحد أسنانها، أو تفرق بين أسنانها بشيء بين ثناياها، فهذه ملعونة هذا للفائدة.
فأخرجت هند يدها لتبايع الرسول عليه الصلاة والسلام، فالتفت فرأى اليد، لأن العرب في الجاهلية لم يكونوا أهل رفاهية، بل كانوا أهل تعبٍ وكد وشغل، فقال عليه الصلاة والسلام: {ما هذه اليد التي كأنها يد سبع؟! -أي: كأنها يد الذئب أو الأسد- إني أكره المرأة أن تكون سلتاء مرهاء} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فأعادت هند يدها، فقال لها صلى الله عليه وسلم: {بايعي.
قالت: ماذا أقول؟ قال: ألا تشركي بالله شيئاً، قالت: لا أشرك بالله شيئاً، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: ولا تزني، قالت: وهل تزني الحرة؟!} -انظر إليها وهي جاهلية لم تعرف القرآن والسنة، وتقول: وهل تزني الحرة؟! لذلك كان من العار عند العرب أن تزني الحرائر، مع أنه لم يكن عندهم شريعة
حورٌ حرائر ما هممن بريبة كظياء مكة صيدهن حرام
يحسبن من لين الكلام روانياً ويصدهن عن الخنا الإسلامُ
قال: {ولا تزنين، قالت: وهل تزني الحرة؟! قال: ولا تقتلين ولدك، قالت: ربيتهم صغاراً وقتلتهم أنت في بدر كباراً.
فضحك عمر حتى استلقى} وهذا صحيح، فالرسول صلى الله عليه وسلم تقرب بدمائهم إلى الله عز وجل؛ لأنهم كفرة مشركون منافقون، ملاحدة زنادقة، عارضوا لا إله إلا الله فذبحهم صلى الله عليه وسلم.
إذاً: يجوز للعالم وطالب العلم للحاجة بلا ريبة أن يخاطب المرأة، ولكن هناك أمر وجد الآن كالاتصال بالهاتف، وما في حكمه، وطرق الأبواب، فللمسلم أن يسأل سؤالاً ولها أن ترد رداً ولا تزيد على الرد، له أن يقول: السلام عليكم، ولها أن تقول: عليكم السلام في الهاتف، ولكن يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32].(209/11)
آداب الخطاب مع المرأة
ما معنى يخضعن بالقول؟ أي تطيل الجواب.
مثلاً: يسألها: أين زوجك؟ فتقول: خرج بعد صلاة الظهر، وسوف يصلي في المسجد، ويأتي إن شاء الله بعد الصلاة، لماذا تريده؟ هل تريد أن أكلمه في شيء؟ وتلقي محاضرة، والذي في قلبه فساد سوف يطمع، وهذا لا يجوز؛ بل تجيب جواباً سديداً معروفاً ليس فيه اعوجاج.
كذلك لا ترخي صوتها، وتتغنج فيه، فيطمع لأن قلبه مريض، وفيه شهوة وزيغ والعياذ بالله، وكذلك لا تذهب المرأة فتغلظ صوتها للمسلمين، فيحملها قوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32] أن تشدد صوتها فتنبزه نبزاً.
فإذا قال لها: أين زوجك؟ قالت: لا حياك الله ولا بياك خرج إلى المسجد، متى يعود؟ قالت: لا حياك الله ولا بياك يعود في الغروب، أو ترفع صوتها وتقول: من أنت؟ ولماذا تريده؟ فهذا خطأ، فقد قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32].
وبعض الناس يقول في بعض الأمكنة: على المرأة أن تضع إصبعها في فمها ليتغير صوتها، وهذا ليس صحيحاً، ولم تأت به شريعته صلى الله عليه وسلم، وهذه تكلفات وتنطعات، وبعضهم يقول: عليها أن تضم فمها، وبعضهم يقول: عليها أن تقوي صوتها وتصلبه كصوت الرجل، لا.
يقول تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32].
أي: قولٌ فيه خير، فهذا هو المقصد من الخطاب، وعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل، وألا يكون اتصاله إلا لغرضٍ محمود، وإذا علم أنه سوف يكون ريبة والشيطان يؤز فيه فليتق الله عز وجل، فإن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً.(209/12)
كيفية معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ومعايشته للنساء
ومن معايشته صلى الله عليه وسلم للنساء: ما ذكرت سالفاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاش أباً كان له بنات، بل رزق من البنات أكثر من البنين، فرباهن عليه الصلاة والسلام، وأحسن تربيتهن، وكان من عطفه أنه لا يسافر إلا ويمر ببناته، ولا يأتي من السفر إلا ويمر ببناته عليه الصلاة والسلام، وكان من حنانه ورقته أنه لا يمر يوم وهو في المدينة إلا ويصل فاطمة، وكانت مجاورة لبيته، حتى في قيام الليل، فكان إذا قام صلى الله عليه وسلم للصلاة يتوضأ، ثم يطرق على باب علي وفاطمة، وهو بيتٌ صغيرٌ من طينٍ لكنه مملوء بالنور والعظمة، أخرج زعماء العالم وقادته، وعند البخاري: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام قام من الليل، وأتى إلى علي وفاطمة فقال: ألا تصليان؟ فاستيقظ علي وهو يعرك النوم من عينيه، وقال: يا رسول الله! إنما أنفسنا بيد الله، إن شاء أرسلها وإن شاء أمسكها.
فذهب صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين، ثم استمع هل سيسمع دفيف الباب، هل يسمع علياً أو فاطمة يتوضأ أحد منهما، فلم يسمع شيئاً، فعاد فطرق الباب ودخل وقال: ألا تصليان؟ قال علي: يا رسول الله! أنفسنا بيد الله إن شاء أمسكها.
وإن شاء أرسلها، فولى عليه الصلاة والسلام يضرب فخذه ويقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً}.
وعند الترمذي أن فاطمة أرسلت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام تريد خادمة (جارية تخدمها، تكنس البيت وتقمه، وتنظف الثياب) والرسول عليه الصلاة والسلام قد وزع الجواري -السبي- في الجيش وترك فاطمة ابنته، فأتى في المساء إليها، فوجد علياً في البيت، فقال صلى الله عليه وسلم: {ألا أدلكما على خير لكما من خادم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إذا أخذتما مضجعكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين، فهذا خيرٌ لكما من خادم}.
يقول ابن تيمية: هذا الحديث فيه دليل على أنه من قاله رزق قوة بإذن الله، واستطاع أن يقوم بأعماله، فإن الذكر فيه قوة، فمن قال هذه الثلاث والثلاثين تسبيحة، والثلاث والثلاثين تحميدة، والأربع والثلاثين تكبيرة، كن له عوناً وقوة بإذن الله، وتسديداً وهداية على أعماله وأشغاله في الحياة، ومنها: صلاة الفجر، وقيام الليل، فأوصاهم صلى الله عليه وسلم بذلك، فهذا من تربيته صلى الله عليه وسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام لا يريد أن يجرح شعور أحد من بناته، بل كان يقف بجانبهن ويتفاعل معهن، ففي الصحيح من حديث أنس قال: {توفي ابنٌ لـ زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت زينب: اذهب يا فلان فقل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يحضرنا -ابنها في سكرات الموت- فذهب الرجل وقال: يا رسول الله! ابنتك زينب تقول: احضر، ابنها في سكرات الموت- وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مشغولاً بوفود العرب، ومعه في المجلس وفود العرب يتحدث معهم في مسائل مهمة؛ عقيدة وتوحيد، إيمان وكفر ونفاق، هداية وضلال، يريد أن يدلهم على الله -فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب وقل لها: تصبر وتحتسب، إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجلٍ مسمى فذهب إليها الرجل وقال: يقول صلى الله عليه وسلم: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، قالت: والله الذي لا إله إلا هو ليأتين الآن -لأنها تقول على أبيها صلى الله عليه وسلم- فذهب فقال: حلفت يا رسول الله أن تأتي، فقام عليه الصلاة والسلام وقام معه ابن عوف ومعاذ وأبي وجماعة} كوكبة مشرقة من صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
فقال صلى الله عليه وسلم: {علي بالطفل، فقدموا الطفل، فإذا نفسه تقعقع بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام، فأخذ يبكي عليه الصلاة والسلام، فقال ابن عوف: ما هذا يا رسول الله؟! قال: رحمة يضعها الله في قلب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء} ثم أتى عليه الصلاة والسلام وقبَّل الطفل وأخذت دموعه تنحدر على خد الطفل، ثم سلم زينب طفلها ودعا لها، وبعد أيام وإذا الناعي بـ زينب: حضر الموت زينباً، فحضر صلى الله عليه وسلم بنفسه، ودخل البيت مع النساء وقال: {اغسلنها ثلاثاً -قام بنفسه على مراسيم الغسل، وهذا من رحمته بابنته - أو خمساً أو سبعاً إذا رأيتن ذلك، واجعلن في الماء شيئاً من كافور وسدر، وقال: إذا انتهيتن من الغسل فآذنني}.
ثم جلس في البيت وحده، والصحابة ينتظرون عند الباب، فمن شفقته ورحمته وعطفه لم يستطع أن يبقى مع الناس، ولكن دخل بين النساء عليه الصلاة والسلام، فلما انتهى الغسل أتت أم عطية، وقالت: يا رسول الله! انتهينا، فخلع الثوب الذي يلي بدنه الطاهر، وهذا من الحب والعطف والحنان
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم وما جفت مآقينا
فأخذ الشعار الذي يلي جسمه -كالفنيلة- فخلعه وقال: {أشعرنها في هذا} وأعطاهن حِقْوه صلى الله عليه وسلم، فلفوا ابنته في ذلك، ثم قام في أول الجنازة ودموعه تنحدر على لحيته صلى الله عليه وسلم، قال علي وأنس: {جلسنا حوله في جنازة زينب فأخذ مخصرة -عوداً صغيراً- وأخذ ينكت به على شفير القبر، ثم رفع طرفه، وقال: والذي نفسي بيده، لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً}.
ثم دعا صلى الله عليه وسلم، فهذا من شفقته ومعايشته لبناته صلى الله عليه وسلم، ولا تنزع الرحمة إلا من شقي.
فصلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، وجمعنا به في دار الكرامة، وأرانا وجهه، ودلنا على خُلُقه وشريعته في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
هذا شيء من معايشتة صلى الله عليه وسلم للنساء، وقد عاش صلى الله عليه وسلم كذلك أخاً، فإن أخته من الرضاعة، وقد قيل أن اسمها الشيماء بنت الحارث، أرضعته وإياها حليمة السعدية من بني سعد من الطائف، رضي الله عنهم، وسلام عليهم في أماكنهم في الطائف، فإنا نحبهم لأنهم أخوال الرسول عليه الصلاة والسلام من الرضاعة، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم الطائف، أتت فشقت الصفوف وهي كبيرة في السن، ولا يعرفها صلى الله عليه وسلم لأن بينها وبينه مدة.
فقال الصحابة: من تريدين؟ قالت: أريد الرسول عليه الصلاة والسلام قالوا: من أنت؟ قالت: أنا أخته من الرضاعة، فأخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم فقام إليها وعانقها وبكى وحياها وأجلسها مكانه، وقام يظللها من الشمس، فلما انتهى قال: {تريدين الحياة معي أو تريدين أهلك.
قالت: أريد أهلي وأطفالي، فأعطاها مائة ناقة، ثم ودعها عليه الصلاة والسلام} {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
وقد سلف أنه عاش صلى الله عليه وسلم مع النساء كذلك، وهن عمات وخالات، فقد دخل يوم الفتح عليه الصلاة والسلام عندما فتح الله عليه مكة، فلما انتهى من الفتح دخل بيت أم هانئ وأم هانئ هذه هي ابنة أبي طالب، أخت علي بن أبي طالب، وقد كانت كبيرة في السن كانت في الحرم، والرسول صلى الله عليه وسلم دخل بيتها لأنها ابنة عمه، وقد ارتاح لبيتها، فدخل يغتسل بعد الفتح الذي فتحه الله عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1].
فأخذت فاطمة تستره وهو يغتسل عليه الصلاة والسلام، لم تكن أم هانئ في البيت بل كانت في الحرم، تشهد الفتح العظيم، وارتفاع لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأخوها علي بن أبي طالب أتى إلى الحرم يتلفت بسيفه على ابن هبيرة أحد المشركين الكفرة، يريد أن يسقي سيفه من دمه، فأخذ ابن هبيرة هذا يختبئ وراء الناس، وأخذ علي يتلفت عليه بالسيف، والسيف مسلول في يد علي، ويحلف بمن رفع البيت بالحجب ليقتلنه ذلك اليوم، وكلما مسكوا علياً ظهر له ذلك فيعمد إليه بالسيف، فأتت أم هانئ تولول وتدخل على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل، فلما علمت أنه يغتسل تركته، فخرج من اغتساله عليه الصلاة والسلام ومعه ملحفة، فصلى ثمان ركعات خفيفة، حتى تقول: لا أدري أقرأ الفاتحة أم لا، فلما سلم، قال: مرحباً بـ أم هانئ.
ثم قالت: {يا رسول الله! ابن عمك يريد أن يقتل ابن هبيرة وقد أجرته.
فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ - مادام أنك أجرتيه فقد أجرناه- اذهب يا فلان! إلى ابن أبي طالب فكلمه}.
فأتى الرجل إلى علي بن أبي طالب وقال: أجاره الرسول عليه الصلاة والسلام، فتركه فهذه من قريباته.
وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أنا ابن العواتك من سليم} وسُليم هي القبيلة التي منها عباس بن مرداس السلمي، وخالاته وعماته أكثر ما رضعن في سليم، فلما أتت المعركة وأتى مالك بن عوف من هوازن من عتيبة، فأتى بجيش جرار كالجبال، فلما رآه صلى الله عليه وسلم وقد فر كثيرٌ من الصحابة بعد المفاجأة من قبل جيش هوازن، نزع صلى الله عليه وسلم نفسه ووثب كالأسد من على البغلة، وأخذ السيف مسلولاً وأخذ حفنة من التراب ثم رمى بها الرءوس وقال: {شاهت الوجوه} فما بقيت عينٌ إلا دخل فيها تراب، وأخذ يقول:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
ويضرب بسيفه ويقول: {أنا ابن العواتك من سليم}.
يقول: من عنده عواتك فليخرج لنا هذا اليوم.(209/13)
أسئلة من النساء
المسألة الخامسة في هذا الدرس: أسئلة من النساء، وفتيا النساء نعرض لبعضها ولنماذج منها لتكون المرأة المسلمة على بصيرة، ولتعرف أن شئونها الخاصة لا يمنعها الحياء ولا يعفيها الإسلام أن تسكت على شيء من الجهل، بل ترسل للعلماء وللدعاة ولطلبة العلم أسئلتها واستفساراتها لتكون على بينة.(209/14)
سؤال أم سليم
جلس عليه الصلاة والسلام مع نسائه في البيت، فطرقت أم سليم وأم سليم لها سجلٌ حافلٌ بالبطولات، وهي أم أنس، وتسمى أم سليم قال عليه الصلاة والسلام: {دخلت الجنة البارحة فرأيت الرميصاء في الجنة} وقد أهدت أنساً للنبي صلى الله عليه وسلم.
فدخلت أم سليم ونساؤه صلى الله عليه وسلم جالسات، فقالت: {يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق -وهذه مقدمة ما أحسنها! وراءها كلام لكنها عاقلة- فقال صلى الله عليه وسلم: نعم.
إن الله لا يستحيي من الحق -تريد أن تمهد للموضوع، من عقلها فمهدت له- قالت: هل على المرأة غسلٌ إذا رأت الماء، وفي لفظٍ إذا احتلمت؟ فغطت عائشة وأم سلمة وجهيهما وقالت أم سلمة: تربت يمينك يا أم سليم! فضحتي النساء، فقال عليه الصلاة السلام: بل تربت يمينك أنت يا أم سلمة! نعم يا أم سليم! على المرأة غسلٌ إذا هي رأت الماء} أو كما قال عليه الصلاة والسلام قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: [[نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين]].
فمن يفتي المرأة ويخبرها بأمور دينها إلا أهل العلم والعلماء، لتكون على بصيرة من دينها، وأنا أوصي الإخوة المسلمين أن يدخلوا الكتيب والشريط الإسلامي، خاصة ما يتعلق بالنساء، والإيمانيات والغيبيات، ولقاء الله عز وجل، أن يدخلوها البيت، وليعلموا أن شريط الغِناء يزيد نساءهم من الله بعداً ومن النار قرباً، وأن شريط الغِناء يملأ البيت حسرة وندامة، وخيبة ونفاقاً، وأن بيتاً يتربى على الغِناء بيتٌ فاسد مهدوم: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
أفمن أسس بيته على القرآن والسنة، وعلى قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم خيرٌ أم من أسس بيته على الأغنية، والمجلة الخليعة، والفحش والبعد عن الله، لا يستوون، والله لا يهدي القوم الظالمين، فهذه لفتة
والرسول عليه الصلاة والسلام قد تعرض لأسئلة كثيرة، منها: أن حمنة بنت جحش سألته في الحيض فأفتاها، وسألته فاطمة أختها فأفتاها، وغيرهن، كلهن يسألن في الحيض، فلا حياء في الدين، فعلى المرأة أن تسأل وتتفقه في دينها.
بقي من قضايا الحديث أجر المرأة المؤمنة التي تحتسب أجرها على الله وتطيع زوجها في المعروف، والخلاصة أن للزوج حقاً على زوجته، ومن هذه الحقوق:(209/15)
حقوق الزوج
أولاً: طاعة الله تبارك وتعالى فهو أعظم الحقوق.
ثانياً: طاعة الزوج في طاعة الله.
ثالثاً: أن تحسن العشرة بالخلق والطاعة في المعروف، وأن تحفظ نفسها وما له، فلا تجلس أحداً لا يرضاه ولا يرضى دخوله على فراشه أبداً، ولا تتبرج ولا تتكشف، ولا تخنه بالغيب، فإذا فعلت ذلك فقد أساءت له كل الإساءة، وقد قطعت ما بينها وبينه من الرحم والصلة والحقوق الزوجية، ونعوذ بالله من امرأة تفعل ذلك، وتخون زوجها بالغيب فإن الله يقول: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34].
والمرأة التي تحفظ الله بالغيب هي التي تحفظ زوجها في نفسها وماله.(209/16)
حقوق الزوجة
أما الزوجة فمن حقوقها:
الرحمة بها واللطف، والكسوة والنفقة، وإعانتها على طاعة الله عز وجل، وإعطاؤها حقوقها في الوقت وفي غيره، والصبر على ما يأتي ويبدر منهن؛ لأن المرأة كالضلع الأعوج، يصبر على أذاها، وكما في الحديث: {لا يفرك مؤمن مؤمنة -أي لا يطلق مؤمنٌ مؤمنة- إن كره منها خلقاً رضي آخر} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وأعيد الحديث وعنوانه، وهو السابع والعشرون من مختصر الزبيدي للبخاري: كفران العشير وكفرٌ دون كفر وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أريت النار، فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن، قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت لإحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت منك خيراً قط أو معروفاً قط}.(209/17)
الأسئلة(209/18)
حكم اعتقاد الكرامة والنفع في تيس
السؤال
وجد في مدينة بحرة تيسٌ له ثديٌ ويُحلب كالماعز، وبإرادة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن المريض الذي يشرب من حليب هذا التيس يشفى.
ولي ثلاثة أسئلة في هذا الموضوع:
أولاً: هل تكون هذه كرامة للناس _ كرامة التيوس - وماذا نسميها؟
ثانياً: ما حكم الإسلام فيه؟
ثالثاً: ما حكم من اعتقد بأنه لا يشفى إلا بإذن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وإنما هو وسيلة أو سبب، علماً بأنه قد شرب رجل أعمى من هذا الحليب ووضع منه على عينيه فشفي، وكذلك امرأة مريضة بداء السكر وعندما شربت منه شافاها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من هذا الداء، وهذا الرجل كذلك، أرجو الإفادة والتوضيح، والله أعلم؟
الجواب
أولاً: حديث التيس طويل، وقد أُخبرت قبل أن أدخل هذا الدرس أن من قضايا الساعة المطروحة الآن أن تيساً يقابل المحكمة للمحاكمة، والحمد لله تُوصل إلى الحكم بالإعدام على هذا التيس.
وهذا التيس شبهة على كثير من الناس الذين ضعف إيمانهم واتصالهم بالله، وفتنة يمتحن الله بها من يشاء، ويرى سبحانه وتعالى عقول وإيمان من يشاء: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125].
والفتن والأحداث التي تقع في الأرض والنزاعات والأطروحات والمسائل كلها ليمتحن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى خلقه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]
فهذا التيس استخدمه بعض الناس المنحرفون، ثم نصبه للناس، والحليب الذي فيه فتنة، وأظنه خنثى مشكلاً وليس معزاً تيساً، ثم أخذ الناس من الجهلة وممن قل إيمانهم ومعتقدهم، أو عندهم ثقافة لكن ليست ثقافة نيرة، ليست ثقافة شرعية، ليست ثقافة قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فانخدعوا بهذا، وسمعت أنهم أخذوا طوابير يحبسون ويأخذون لهم أسماء ويعرضون على هذا التيس هل يجد لهم شفاءً أو علاجاً أم لا؟
وهذا فيه قضايا:
الأولى: كيف تبلغ العقيدة الإيمانية بهذا المجتمع وهذا الشعب المسلم إلى هذا الحضيض، تيسٌ يضحك على ألوف مؤلفة من الناس! تيسٌ يعرض علاجه على العقول التي ما عرفت الله عز وجل! وإنا نشكو حالنا إلى الله عز وجل، سبع جامعات ومؤسسات، ومحاضرات، ودروس، ومكاتب دعوة، وتوعية ثم تأتي القلوب تنتكس إلى هذه الدرجة وإلى هذا الحضيض!
الثانية: لا يسمع الخواجات بما وصلنا إليه من هذا الأمر، أننا أخذنا طوابير على تيس وأننا نطلب منه الشفاء والعافية ونعرض عليه أمراضنا، فإنهم سوف يضحكون علينا، وهم قد ضحكوا علينا مرات كثيرة، لكن هذه المرة لا نريد أن يضحكوا علينا مرة ثانية.
الثالثة: ليته في غير مكة مهبط الوحي، التي سطع منها إشعاع لا إله إلا الله والفتوحات الإسلامية، والتوحيد الخالد، فمحمد من مكة صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وسعد من مكة، ثم تأتي الخرافة ووراءها أناس من البشر، لا يعرفون دينهم ولا معتقدهم فيلبسون على عقول الناس، هذه مسألة -والله- مخزية.
وأما قول السائل: كرامة الحمير والتيوس، فالأمة يكرمها الله بأن تكون على منهجه، يقول ابن تيمية: الكرامة لا بد فيها من شرطين اثنين، فإذا فقد شرط فليست بكرامة:
الشرط الأول: أن تكون هذه الكرامة على يد رجلٍ صالح يعمل بالكتاب والسنة، قال الشافعي: لا تغتروا بالرجل ولو طار في الهواء، وسار على الماء حتى ترى هل يعمل بالكتاب والسنة.
فهذا شرط، فإنسان مخرف يأتي لنا بخزعبلات؛ يحول الفناجين إلى بيض والبيض إلى فناجين؛ ننظر إليه فنجده يصلي بلا طهارة، ويحلق لحيته، ويلبس الذهب، ويتعامل بالربا، ويزني، فنقول: لعن الله البعيد، هذه شعوذة وليست بكرامة، فالكرامة أن تكون أنت في نفسك تعمل بالكتاب والسنة، كما أجرى الله الكرامات للبراء بن مالك، ولـ العلاء بن الحضرمي يدعو الله فتأتي السحابة للتو وتمطر، وأجراها لـ خالد بن الوليد عندما أخذ قارورة السم، سم زعاف وقال: بسم الله توكلت على الله، وشربها ولم يصبه شيء، وسعد يقول للجيش: بسم الله اركبوا النهر، فيجمد الله النهر لـ سعد، ويمر الخيل، فهذه كرامة لأن سعداً يعمل بالكتاب والسنة.
والشرط الثاني: أن تكون هذه الكرامة لرفع لا إله إلا الله، ولنصرة الدين، فإذا لم يتم هذان الشرطان فليست بكرامة، وإنما هي خزعبلات وخرافات، وتخلف والعياذ بالله.
ابن عربي هذا الملحد الزنديق، الذي يقول عنه ابن تيمية: إن كان صح عنه ما يقول فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، كان يأتي بجبته ويخرج منها دجاجاً وخرفاناً أهذه كرامة؟! بعض الملاحدة يأتي إلى السيخ من الحديد فيقسمه أقساماً ثم يركب منه إنساناً ثم يرده على هيئته الأولى، فهذا ابتلاء وسحر: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66].
إذاً فليست هذه بكرامة، بل لا بد من الشرطين الذين ذكرهما ابن تيمية، ومن شك فليعد إلى كتابه المجلد الحادي عشر، فقد تكلم عن الكرامة وغيرها في المجلد الحادي عشر من فتاويه، وقد تعرض لها في المجلد العاشر، فهذا هو العلم المؤصل، أما أن تظل تدخل الأمة وهي ساذجة ضائعة، إن أتاهم ساحر أو بهلواني أو كروي أو مغنٍ أو رقاص صدقوه، فهذا ليس بصحيح، ولذلك هذه الثقافات -ثقافات الصحف والجرائد- لم تنفع أصحابها في الساحة، ولم ينفعهم إلا قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنا لا أقول أن طالب العلم يحرم عليه أن يقرأ في الصحف والمجلات، بل لا بد أن يقرأ لكن بعد أن يتزود من ثقافة قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعرف الواقع من الصحف والمجلات
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفانِ
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فلانِ
فيا أهل مكة! الخرافة تجول فيكم وأنتم دعاة التوحيد من أول العهد! ويا أهل مكة! أنتم أبناء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ويا أهل مكة! نزل جبريل في غاركم في حراء بالتوحيد ويا أهل مكة! من يعرف وينشر التوحيد إذا أصبحت هذه الخزعبلات والخرافات والمضحكات في مكة، وليتها في غير مكة! فالعودة العودة إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسأل الله لي ولكم الثبات والقبول.(209/19)
حكم الهجر بسبب الاختلافات في المسائل الاجتهادية
السؤال
ذكرت في معرض الدرس أن ابن عمر لما غاضبه ابنه لأنه عارض الرسول عليه الصلاة والسلام قال: [[والله لا أكلمك أبداً]] فهل كلما اختلف رجل وآخر في مسألة علمية فيها دليل وعارضه الآخر هل يهجره ويقاطعه؟
الجواب
أنا لا أقصد هذا؛ لأن ابن عمر توهم من ابنه رضي الله عنه أنه يعارض الحديث بلا دليل، وبلا تأويل، أما الاختلاف بالتأويل فلا يوجب الضغينة بين المسلمين في الفرعيات والجزئيات، ولـ ابن تيمية كلام في رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ذكر فيه أن العالم يعذر، وطالب العلم إذا كان متأولاً في الدليل الفرعي، فإذا قلت لطالب علم: ضم اليد يكون على الصدر، فقال لك: بل تحت السرة، فتقول أنت: فيه حديث، ويقول هو: فيه حديث، فهل تقول: والله لا أكلمك حتى أموت؟! هذا خطأ، لأن له دليلاً وهو متأول في الدليل، بل ترضى عنه وتعذره، ولو كان دليله ضعيفاً، فـ ابن تيمية يعذر العلماء، ويقول: إما أن يكون الحديث بلغ أحدهما ضعيفاً والآخر صحيحاً، أو أن الحديث وصل إلى هذا العالم ولم يصل هذا، أو أن الحديث منسوخٌ عند هذا العالم وثابتٌ عند هذا، أو أن الحديث فهم منه هذا شيئاً وذاك فهم منه شيئاً آخر.
إذاً أنا لا أقصد هذا، إنما أقصد الذي يعارض السنة جهاراً نهاراً، تقول: تربية اللحى سنة فيقول: لا.
ليست بسنة، فهذا يستحق الهجر، فتقول له: الرسول عليه الصلاة والسلام كان يأكل بثلاثة أصابع، ويقول: بسم الله، فيقول: دعنا، نحن في القرن الخامس عشر، أتريد أن تردنا إلى المدينة والعصر الأول؟! فهذا منافق، وتقول: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقصر ثوبه، فيقول: وما لنا حتى بالثوب تأتي لنا بالرسول دائماً! فهذا تهجره وتقاطعه {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
نسأل الله أن يجمع بيننا وبينكم في مستقر رحمته، وأن يوفقنا وإياكم للاجتماع فيه، والعمل لما يرضيه، والحب فيه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(209/20)
دستور الصحوة الإسلامية
تحت هذا العنوان سرد الشيخ أكثر من عشرين موضوعاً تنبثق كلها من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، فذكر من أبواب الجنة، وعرَّج على آداب الاستئذان، وعلى أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم.
مروراً بمواضيع: الحياء، وعلامات الساعة، والربا، والعبودية، والفقر، والشريعة البيضاء.
وهي تمثل واحة رائعة غناء من الأخلاق، والمواعظ، والفقه، والفكر، والعقائد.
وقد ختم كلامه بالحديث عن البيعة (البيعة علىالولاء والبراء، ثم البيعة على الإسلام).(210/1)
أبواب الجنة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الفضلاء!
كنتُ قد أردتُ أن أترجم لبعض علماء الأمة؛ ولكن رأيتُ أن العيش مع متون الحديث ومع كلامه - عليه الصلاة والسلام - أفيد.
وسوف يكون هناك - إن شاء الله - دروس عن تراجم العلماء وسير الصالحين.
وهذا الكتاب الذي بين يديَّ سوف يكون سلسلة - إن شاء الله - مستمرة في رمضان وغير رمضان، لطلبة العلم والأخيار والدعاة من أمثالكم.
وهذا الكتاب يحمل عنوان: (دستور الصحوة الإسلامية)؛ لأنك تحتاج إلى علم شرعي صحيح، على منهج أهل السنة الجماعة في العقائد والأصول والأخلاق والسير والسلوك.
فأول درس نبدأ فيه: هو من كلام محمد عليه الصلاة والسلام وهذا هو مجموع الأحاديث الصحيحة التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم.
وسوف ترون في هذه الأحاديث أموراً، منها:
الأمر الأول: صحتها: فلا يكون فيها حديث ضعيف أبداً.
الأمر الثاني: أني أذكر الصحابي والمخرج، ودرجة الحديث.
الأمر الثالث: المسائل المهمة في الحديث.
الأمر الرابع: أنه لا يتقيد بباب ولا بكتاب؛ إذ سوف يأتي الحديث مرة في العقيدة، ومرة في السلوك، ومرة في العبادة، ومرة في الأخلاق؛ ليكون أسعد وأروح، والله الموفق.(210/2)
الكلام عن أبواب الجنة
يقول عليه الصلاة والسلام: {آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أُمِرْتُ ألا أفتح لأحد قبلك} حديث صحيح، رواه الإمام أحمد ومسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.
في الحديث مسائل:
أولاًَ: قوله صلى الله عليه وسلم: {آتي باب الجنة} معناه: في يوم القيامة، يوم يجمع الله الأولين والآخرين، فيفصل بينهم في القضاء، يأتي صلى الله عليه وسلم في ذاك اليوم، وذلك من عقيدة أهل السنة.
ثانياً: وفيه: أن أول من يدخل الجنة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: وفي الحديث: أن للجنة أبواباً، وقد صح عند البخاري وغيره: أن للجنة أبواباً ثمانية، وأبواب النار سبعة، نسأل الله أن يدخلنا من أبواب الجنة.
وكما في الحديث الصحيح: {بين المصراعين -من مصاريع الجنة- كما بين صنعاء وأَيْلَة -وصنعاء عاصمة اليمن , وأَيْلَة هي بيت المقدس - وإنه ليأتي عليه يوم وهو كَضِيْضٌ من الزحام}.
وتساءل العلماء: هل هناك أبواب داخلية في الجنة غير الأبواب العامة الكبرى.
والصحيح: أن هناك أبواباً داخل ملك العبد في الجنة.
قوله صلى الله عليه وسلم: {آتي باب الجنة} قلتُ: أول داخل الجنة هو الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو أنه متأخر في البعثة؛ ولكن الله شرفه، فجعله أول من يدخل، ثم يدخل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام على مراتبهم.
وتساءل الإمام ابن القيم في الجمع بين قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] وبين قوله صلى الله عليه وسلم: {لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله؛ إلا برحمة الله}.
فالجواب الصحيح باختصار: أن دخول الجنة أولياً لا يحصل بالعمل، وإنما هو برحمة أرحم الراحمين، ومن لا تدركه رحمة الله لا يدخل الجنة، وأما النزول في منازل الدرجات في الجنة فبالأعمال، وهذا على قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن أبواب الجنة: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73] ويقول في أبواب النار: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:71] زاد الواو في أبواب الجنة؛ لأنها هيئت فتحاً قبل أن يصلوا إليها، وهذا من تكريم الله لأهل الجنة، ففتحت الأبواب قبل أن يصلوا إلى الجنة، وأهان أهل النار، فتركهم ينتظرون عند الباب، فلا تفتح حتى يصلوان، وهذا من الإهانة.
ولله المثل الأعلى، يقولون: الكريم يفتح أبوابه للضيافة من قبل أن يأتي الضيف، واللئيم لا يفتح الباب حتى يُطْرَق عليه طرقاً مخيفاً مزعجاً.
ولله المثل الأعلى.
فأبواب الجنة من ذي قبل مفتوحة، وهذه يسمونها: الواو التي تزيد المعنى، فإنهم يقولون: الزيادة في المبنى تدل على زيادة في المعنى، مثل قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} [فاطر:37] الأصل في العربية: وهم يصرخون فيها، فزاد {يَصْطَرِخُونَ} من باب زيادة المبنى لزيادة المعنى.
وكقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف:23] والعربية تقول في التخفيف: وأغلقت الأبواب؛ لكن زيادة في المعنى.
وأنا لا أقصد من هذه الدروس الأحكام؛ لكن أن تكون مساراً إن شاء الله للصحوة الإسلامية المباركة في المعتقد، وفي العبادة، والسلوك، والأخلاق، والعمل، والدعوة؛ حتى يكون الإنسان على بينة وعلى ضوابط من الكتاب والسنة.
والله الموفق.(210/3)
هل الجنة والنار مخلوقتان الآن؟
قال عليه الصلاة والسلام: {آتي باب الجنة فأستفتح} هنا مسألتان لـ أهل السنة:
المسألة الأولى: هل الجنة موجودة الآن أم لا؟:-
والصحيح عندهم: أنها موجودة ومخلوقة، وخالف في ذلك المعتزلة، فقالوا: تُخْلَقُ فيما بعد، وقد كذبوا على الله، بل هي موجودة الآن.
قال الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي:
والنار والجنة حقٌ وهما موجودتان، لا فناءَ لهما
المسألة الثانية: هل تفنى الجنة والنار؟:
والصحيح: أن الجنة والنار لا تفنيان.
والنار والجنة حقٌ وهما موجودتان لا فناءََ لهما
وقال بفنائها بعض المعتزلة، كـ العَلاَّف وأبي إسحاق النَظَّام وغيرهما، ورد عليهم أهل السنة.
والصحيح: أن أهل الجنة خالدون في الجنة، فلا موت، وأهل النار خالدون في النار، فلا موت، والله المستعان!(210/4)
آداب الاستئذان
ثم يقول عليه الصلاة والسلام: {فأستفتح، فيقول الخازن: مَنْ أنتَ؟}
قال أهل العلم: فيه إشارة إلى أدب الاستئذان في الإسلام، وهو أنك إذا طرقت الباب، أن يسأل صاحب البيت: مَنْ؟ وهذا من الحكمة، فإن على الناس أن يتقيدوا بهذه الآداب النبوية التربوية التي هي من أحسن ما يكون.
وقد أُشِيرَ لكم في بعض الدروس والمحاضرات: أن هناك سلسلة من الآداب النبوية التربوية، وقد وصلت هذه المجموعة إلى أبها هذه الليلة لمن أراد أن يستفيد من آدابه عليه الصلاة والسلام.
كان عليه الصلاة والسلام إذا استأذن فسُئِل يقول: {أنا فلان} وطلب من الصحابة أن يخبر الإنسانُ باسمه.
واستأذن عليه أبو ذر، قال: (مَنْ؟) قال: أبو ذر.
وطرق جبريل السماء -في الحديث الصحيح- {قال أهل السماء: مَنْ؟ قال: جبريل، قالوا: مَن معك؟ قال: محمد، قالوا: مرحباً بك وبمن معك}.
واستأذن جابر - كما في صحيح البخاري - {: فطرق باب المصطفى عليه الصلاة والسلام قال: مَن؟ قال: أنا، ففتح صلى الله عليه وسلم الباب، وقال: أنا أنا!! كأنه كرهها}؛ لأن فيها إيهام، لا بد أن تخبر باسمك، هذا من أدب الاستئذان.
{فيقول الخازن: مَنْ أنتَ؟ فأقول: محمد} وهذا هو الأصل: أن يخبر باسمه، قال أهل العلم: ولو أخبر بكنيته لصح، ولو أخبر باسمه لصح، ولو أخبر بلقبه لصح، الشرط أن يكن مشهوراً عند الناس فيُعْرف به.(210/5)
أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم
قال: {فأقول: محمد} أسماؤه عليه الصلاة والسلام في السنة خمسة، صح بها الحديث، اسمه: (محمد، وأحمد، والعاقب، والحاشر، والماحي) العاقبٌ: أي الذي يحشر الله الناس على عقبه، والماحي: أي الذي محى الله به ما قبله، والحاشر: أي الذي يحشر الله الناس على قدمه عليه الصلاة والسلام.
قال حسان:
وشق له من اسمه ليُجِلَّه فذي العرش محمودٌ وهذا محمدُ
يقول: الله شق لمحمد من اسمه؛ لأن الله محمود سبحانه.
وقال صلى الله عليه وسلم: {أما ترون كيف يصرف الله عني سب المشركين، إنهم يسبون مُذَمَّمَاً، وأنا محمد} -يسمونه: (مُذَمَّم) ويسبونه- محمد، وأحمد، وهو أبو القاسم عليه الصلاة والسلام، والذي سماه محمداً عند أهل السيرة أنه عبد المطلب جده عليه الصلاة والسلام.
فيقول: {بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك} وفيه مسألة:
الله يقول: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73] دليلٌ على أنها مفتوحة قبل أن يأتي الناس.
وهنا يقول: {آتي أبواب الجنة فأستفتح} وأستفتح: فعل للتدرج، يعني: أطلب أن يُفْتَح لي؛ ولكن لم يفتح له عليه الصلاة والسلام في هذا، فكيف نجمع بين القولين؟ بين هذا وبين ذاك؟
الجواب
أن يقال: يأتي عليه الصلاة والسلام قبل أن تُفْتَح، فيستفْتِح، فتُفْتَح، فيأتي الناس وقد فُتِح لهم.(210/6)
الحياء
وَرَدَ عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: {آخِر ما أدرك الناسُ من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت} حديث صحيح، رواه ابن عساكر في تاريخه عن أبي مسعود البدري.
وفي هذا الحديث مسائل:
أولاًَ: ما هو الحياء؟
الحياء الصحيح: ما صدك عن المحارم، وهذا حياء واجب.
وما صَدَّكَ عن المكروهات فهو حياء مستحب، وبعضهم يوجبه.
أما الذي يصدك عن طلب العلم وعن الأمور النافعة، والتحصيل، والسؤال الذي فيه النفع، فليس بحياء، لكنه خجل، وهو حياء مذموم.
ولذلك يقول مجاهد في صحيح البخاري، موقوفاً عليه: [[لا يطلب العلم مستحٍ ولا مستكبر]].
ومَرَّ عليه الصلاة والسلام على رجل من الأنصار - كما في صحيح البخاري - وهو يَعِظُ أخاه في الحياء، قال: {دَعْهُ، فإن الحياء لا يأتي إلا بخير}.
ثانياً: الحياء خير كله:
وخاصة إذا كان في شرف الأمور، يَصُدُّ عن خوارم المروءة والمعاصي.
وصح عنه - عليه الصلاة والسلام - عند الترمذي أنه قال: {البَذاء، والبيان شُعْبَتان من النفاق، والعَيُّ والحياء شعبتان من الإيمان} وقد شرح هذا الحديث ابن رجب في كتاب مستقل.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: {آخِر ما أدرك الناسُ من كلام النبوة الأولى} أي: آخر ما حُفِظ من كلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وميراثهم هذه الجملة: {إذا لم تستحِ فاصنع ما شئتَ} وفي هذه العبارة معنيان لـ أهل السنة:
المعنى الأول: يقول: {إذا لم تستحِ فاصنع ما شئتَ}: أي: إذا خلعت جلباب الحياء؛ فلك أن تفعل ما شئت من المعاصي وخوارم المروءة، بمعنى: إذا لم تستحِ من الناس ولا من الله قبل الناس؛ فاصنع ما بدا لك فقد ذهب الحياء عنك.
والمعنى الثاني: يقول: {إذا لم تستحِ فاصنع ما شئتَ} أي: إذا كان هذا الأمر لا يدعو إلى الحياء منه فاصنعه؛ فإنه مباح لك.
أي: إذا كان هذا الأمر ما عليك حرجٌ منه، ولا تستحي أن تصنعه، وليس عليك لائم ولا حرج من الناس ولا عَتَب فافعله.
والمعنى الأول هو الصحيح.
قال الشافعي:
فلا والله ما في العيش خيرٌ ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ
إذا لم تخشَ عاقبة الليالي ولم تستحي فاصنع ما تشاءُ
وقيل لـ سهل: ما هو الحياء؟ قال: أن تستحي من الرقيب.
وقال بعضهم: أن تجعل بينك وبين الله رقيباً، وهي درجة الإحسان التي وصفها - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح، قال: {أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك}.
وقد بلغ ببعض الصالحين أنه ما كان يتعرى وحده حياءً من الله.
وعند أحمد في (المسند) بسند صحيح: أن معاوية بن حَيْدَة قال: {يا رسول الله! إذا كان أحدنا وحده، هل يكشف عن عورته؟ قال: الله أحق أن يُسْتَحْيَا منه}.
وصح عند الترمذي عن ابن مسعود: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: {يا أيها الناس! استحيوا من الله حق الحياء؛ فإن حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ومن تذكر البِلى ترك زينة الحياة الدنيا}.
والحياء خير كله، وقد رد عمران بن حصين على عبد الله بن سلام، أو كعب الأحبار لما عارضه في ذلك، وقال: [[إني قرأت في التوراة أنَّ مِنْه جُبْناً وأنَّ مِنْه خيراً]] قال: [[أحدثك عن الرسول عليه الصلاة والسلام وتحدثني عن صحفك؟]] {الحياء خيرٌ كله}.
والمعنى: الحياء المطلوب النافع، أما الخَجَل والخَوَر والجُبْن، فهذا ليس من الحياء، بل هو يصد عن طلب العلم وعن المسألة لأهل العلم، والاستفادة.
قوله -عليه الصلاة والسلام-: {آخِر ما أدرك الناسُ من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئتَ}: ما معنى النبوة الأولى؟ النبوة الأولى: هي ما قبل نبوته عليه الصلاة والسلام فإن قبله أنبياء، وكان يُوْرِد صلى الله عليه وسلم بعض الكلمات منهم، وكان يأخذ بعض الآداب من شرائعهم.(210/7)
علامات الساعة
قال عليه الصلاة والسلام: {آخِر مَن يُحْشَرُ: راعيانِ مِن مُزَيْنَة، يريدان المدينة ينعقان بغنمهما؛ فيجدانها وحوشاً، حتى إذا بلغا ثنية الوداع خَرَّا على وجوههما} حديث صحيح، رواه الحاكم عن أبي هريرة.
ولعلكم تلحظون أن الحديث الأول: في أبواب الجنة، والثاني: في الحياء، والثالث: في علامات الساعة.
وأنا أقول: سوف تكون الحلقات من كتاب دستور الصحوة الإسلامية على هذا المنوال، مرة في الفرائض، ومرة في النكاح، ومرة في الصلاة، ومرة في الرضاع، ومرة في التوحيد؛ ليكون كالروضة.
مرة زهرةً، ومرة وردةً، لئلا يَمَلَّ السامع.(210/8)
آخر من يحشر
أما قوله صلى الله عليه وسلم: {آخِر مَن يُحْشَرْ: راعيان مِن مُزَيْنة} فمعنى الحشر هنا: إلى الله، قيل: لقيام الساعة، وقيل: الحشر هو من المشرق إلى المغرب؛ فإن من علامات الساعة الكبرى: نار تحشر الناس من المشرق، تَهُبُّ مِن عَدَن، فتحشر الناس وتجمعهم.
والحشر: هو الاجتماع، حشرتُ الناسَ: أي جمعتهم، محشورون: مجموعون، يوم الحشر: يوم الجمع.
قال عليه الصلاة والسلام: {آخِر مَن يُحْشَرْ -أي: آخِر مَن يُدْفَعْ من الناس- راعيانِِ مِن مُزَيْنَة} وهي قبيلة من قبائل العرب، ومنها: زهير بن أبي سُلْمَى، وغيره من الشعراء، وهي قبيلة ذكرها صلى الله عليه وسلم بالخير، وهي ما بين المدينة ونجد.
{يريدان المدينة ينعقان بغنمهما؛ فيجدانها وحوشاً}: يجدان المدينة وحوشاً، وقد انتهى الناس، وماتوا في المدن والقرى قبل قيام الساعة، وهبَّت عليهم ريح باردة، فأفناهم الله، {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].(210/9)
أهمية الإيمان بيوم القيامة
إن يوم القيامة هو المدرسة الكبرى التي تهذب أخلاق الناس، والتي تردهم إلى الله عز وجل، والتي تجعلهم عباداً صالحين.
هذه القضية الكبرى هي الفارق بيننا وبين العلمانية والشيوعية والماسونية واليهودية، وهي الخيط الرفيع، وهي الفيصل بيننا وبين المذاهب الترابية الأرضية والقومية التي ينادونها بشعارات، هذه هي الفارق بيننا وبين كل من يدعي الأرض والتراب والوطن.
نحن نعمل للآخرة، غيباً وشهادة، حياة وموتاً، نتصل مع الله، وإلاَّ فحياتنا هذه قليلة قليلة، والله يجمع بين الحبيب وأحبابه في جنة عرضها السماوات والأرض، وهذه مقررة في الكتاب والسنة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].
والقرآن والسنة فيها الكثير من الحديث عن يوم القيامة والنشور، والجنة، والنار؛ وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مُتَوَقِّعٌ أنه سوف يُطْغَى على الجيل ويُظَلَّل بوسائل وبأُطْرُوحات وبدعوات وبغزوٍ فكري.
العلمانية الآن هي السائدة في الساحة، وهي تبث أدواتها بزخرفة من الإعلام، وبكلام يعجب الناظرين، ومقصوده الإلحاد، لا الدين.
ولذلك لا يكتبون في كتبهم عن اليوم الآخر، ولا في خطبهم، وكلماتهم، يقولون: الحياة، ويقولون: تطور وازدهار؛ لكن إذا أعَدْتَهم إلى اليوم الآخر، فلا.
وكذلك لا يذكرون الولاء والبراء؛ ولذلك يقولون: إن من العنصرية أن تقول: أنا مسلم، وهذا نصراني، وتحاربون النصرانية واليهودية.
العالم كله الآن -يقولون عنه-: مدينة واحدة، ولم تعد هناك حروب، وانتهى عصر التخلف، وأصبحنا في عصر ننهي التمييز العنصري حتى في الأديان.
نقول: نحن نحارب التمييز العنصري؛ لكن الدين يبقى ولاء وبراء وحباً وبغضاً، ولذلك يأتون بشعارات الوحدوية بين العالم، وهذه كلمة ماسونية، ويقولون: ما ينبغي أن تدعوا للتفرقة بين البشر: هذا يهودي، وهذا نصراني، لا، لا يصلُح لا دين، ولا لغة، ولا جِنْس؛ إنما إنسانية.
وفي الساحة توجد كتب الوحدة الإنسانية، والوحدة التراثية، ووحدة بني آدم، والفوارق الطبيعية، ويؤسسون اجتماعاتهم على هذا، فيُلْغون قضية الدين، فيقولون: إن قضية الدين قضية فردية؛ حتى يقول أكرم البستاني في مذكراته: "الدين للأفراد فقط، فاللبناني إذا كان مسيحياً يجوز له، واليهودي إذا سكن في اليمن له ذلك، والشيوعي إذا كان في الجزيرة له ذلك، ومن أراد أن يصلي فليصلِّ، وصُمْ رمضانَ لنفسك، أما أن تأتي وتدخل الحياة والدين في شعور الناس ومعتقداتهم وأخلاقهم فهذا خطأ"، وهذا هو الإلحاد بعينه.
لكن تربية الصحوة على اليوم الآخر والإيمان والقيامة هو المطلوب، ولذلك كان لزاماً علينا - وأنا أمامي عشرات الدعاة - أن نعيد الشباب للكتاب والسنة، العلم الصحيح، بلا مذكرات وبلا أطروحات تخالف الكتاب والسنة.
قال عليه الصلاة والسلام: {ينعقان بغنمهما فيجدانها وحوشاً} تصبح المدينة خاوية، وانتهى كل من عليها: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
الأطروحات، الهيئات، الكيانات، الزخارف، القصور، الدنيا، كل ذلك يذهب، ويبقى الواحد الأحد، وهذا الذي تفرد به الله، لا إله إلا الله.
سمعتُ شريطاً قبل أسبوع للشيخ عبد المجيد الزنداني وفيه كلمة جيدة، يقابله شيوعي من شيوعي العرب، فيقول له: يا فلان، نحن إذا متنا حاسبنا الله الذي لا يموت {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] وأنت فإنك تخاف من إلهك، وقد مات إلهك استالين ولينين وماركس، أصبحوا تراباً ورماداً، أما ربنا فهو الله الباقي، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].
ثم يقول: {حتى إذا بلغا ثنية الوداع خَرَّا على وجوههما} انظر إلى هذا المشهد، لا إله إلا الله، لا يستطيعون دخول المدينة فتأتي الساعة فجأة، فيجمع الله الأولين والآخرين، ويقوم الفجرة من قبورهم، ويقولون -كما في القرآن الكريم-: {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام:31] يا حسرتنا على الساعات الغالية! يا حسرتنا على الأيام والليالي! يا حسرتنا على الدقائق التي صرفناها! يا حسرتنا على القصور والبساتين والمتاع والمناصب! {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام:31].
فيقول: {فيجدانها وحوشاً؛ حتى إذا بلغا ثنية الوداع} وثنية الوداع في المدينة، يقولون: يقابل مكة، وقيل: يقابل تبوك.
أشرفَ من ثنية الوداع المصطفى عليه الصلاة والسلام، قيل: يوم الهجرة، وقيل: يوم عاد من تبوك، فخرج له أطفال المدينة فقد كان أباً، وأخاً، وحميماً، وكان قريباً من القلوب، وكان يحبه الناس كل الناس، عطف الله عليه القلوب، ولم يخلق الله أروع ولا أنبل منه، كان يربي ببسمته الأجيال والأطفال.
فلما أقبل عليه الصلاة والسلام خرج أطفال وجواري، وبنات المدينة، في طرف السِّكَّة يستقبلون البدر، ويقولون:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداعِ
وجب الشكر علينا ما دعا لله داعِ
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاعِ
جئتَ شرَّفتَ المدينة مرحباً يا خير داعِ
هذه أبيات رائعة، جميلة جداً، يُحَيَّا بها محرر العالم، فقد كانت الأمة عبيداً قبل أن يُبْعَث، وكانت ضائعة ضالة، فلما بُعِث أتى بهذا الوحي فحرر الأمة حتى جعلها أمة إسلامية تملك الدنيا -عليه الصلاة والسلام-.(210/10)
قيام الساعة كلمح البصر
قال: {خَرَّا على وجوههما} في هذا الحديث دروس، منها:
الأول: أن الساعة تأتي فجأة: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:63] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب:63]
فائدة: إذا قال الله في القرآن: {وَمَا أَدْرَاكَ} فسوف يُخْبِرُه بعدُ، وإذا قال: {وَمَا يُدْرِيْكَ} فلن يخبره.
فإذا قال: {وَمَا أَدْرَاكَ}: فسوف يخبره، مثل: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 3] فأخبره بقوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ} [القارعة:4].
وإذا قال: {وَمَا يُدْرِيْكَ}: فلن يخبره، مثل: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب:63].
قال جبريل: {يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل} يقول: أنا وأنت سواء، أنا لا أدري، وأنت لا تدري، تسألني وأنا لا أدري؟! لا يدري بها إلا الله، فقد استأثر بعلمها، ولم يخبر مَلَكَاً ولا نبياً ولا رسولاً ولا إنساناًَ ولم يُؤْتَ أحدٌ علمها حتى يُبْعَث الناسُ مباشرة.
فنحن ننتظرها، ونسأل الله ألا يجعل أجورنا ذاهبة في الدنيا، ولا يجعل متاعنا ما قَدَّم لنا هنا، بل يجعل راحتنا وأنسنا هنا وهناك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:101 - 102].
أيها الإخوة، هذه الحلقة الأولى من سلسلة: دستور الصحوة الإسلامية، أسير معكم في رحلة ممتعة مع محمد عليه الصلاة والسلام يتكلم لنا في شئون الحياة، والإيمان، والمعتقد، والتوحيد، ويتكلم لنا في الطهارة، والصلاة، والحج، ويتكلم لنا في البيت الإسلامي، مع الطفل، والزوجة، والأخت، ويتكلم لنا في الاقتصاد والسياسة، ويتكلم معنا في كل باب، علَّنا أن نفهم وأن نعي.
اللهم انفعنا بما نسمع، اللهم انفعنا بما نقرأ، اللهم انفعنا بما نتعلم، اللهم اجعلنا من هذا الموكب الكريم، الذي يقوده محمد عليه الصلاة والسلام.(210/11)
آخر من يدخل الجنة
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
المقصود من هذا الكتاب: تربيةُ الجيل على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ورَدُّ الناس إلى المصدَرَين العظيمين، مصدَرَي التلقي، وهو العلم الصحيح الموروث عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم.
فإن العلم صراحة: هو علم الكتاب والسنة، وما سوى هذين العِلْمَين: إما أن يكون شرحاً لهما، أو أن يكون تذييلاً عليهما، وإن كان معارضاً لهما، فهو علم باطل فاسد لا ينفع في الدنيا ولا في الآخرة.
قال عليه الصلاة والسلام: {آخر من يدخل الجنة: رجل يمشي على الصراط، فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتصفعه النار مرة، فإذا جاوزها التَفَتَ إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منكِ، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين، فتُرفَع له شجرة، فيقول: أيْ ربِّ! أُدْنُنِي من هذه الشجرة؛ لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، فيقول الله: يا بن آدم، لعلِّي إن أعطَيْتُكَها سألتَني غيرَها، فيقول: لا، يا رب! ويعاهده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة أخرى، هي أحسن من الأولى، فيقول: أيْ ربِّ! أُدْنُنِي من هذه؛ لأشرب من مائها، وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا بن آدم! ألم تعاهدني ألا تسألَني غيرَها؟! ويقول: لعلِّي إن أدنيتُك منها تسألني غيرها، فيعاهده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة، هي أحسن من الأَوْلَيَيْن، فيقول: أيْ ربِّ! أُدْنُنِي من هذه؛ لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا بن آدم! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟! قال: بلى، يا ربِّ! أُدْنُنِي من هذه، لا أسألك غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أيْ ربِّ، أدخلنيها، فيقول: يا بن آدم! ما يُعْرِيْنِي منك؟} ومعنى يعريني منك: أي: أَيُّ شيءٍ يرضيك؟ ويقطع السؤال بيني وبينك، {أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ فيقول: أيْ ربِّ! أتستهزئ مني، وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر} رواه الإمام أحمد ومسلم عن ابن مسعود، وهو حديث صحيح.
وفيه مسائل:
أولها: أن دخول الجنة على درجات.
ثانيها: أن الناس يتفاضلون في دخول الجنة بحسب أعمالهم.
ثالثها: أن لدخول الجنة أولاً، وآخِراً.
فلا يدخلون مرة واحدة؛ وإنَّما أولٌ وآخِرٌ، وأولُ مَن يدخل الجنة محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام وآخر من يدخل الجنة: هذا الرجل.
رابعها: أن عصاة الموحدين يُعَذَّبُون، خلافاً للمرجئة الذين لا يفاضلون بالإيمان.
خامسها: أن الخوارج قالوا بتخليد أهل الكبائر في النار، وقد كذبوا على الله، بل لا يُخَلَّد الموحِّد في النار، وقد يخرج بعد أن يبقى مدة في النار.
سادسها: أن الله عز وجل يخاطب الناس يوم القيامة كفاحاً، بلا ترجمان، ويتكلم معهم.
سابعها: عِظَمُ ما أعطى الله عز وجل لأقل المؤمنين في الجنة؛ فإنه ثبت من حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن {أدناهم منزلة من يملك مثل ملك الدنيا خمس مرات} وقيل: {عشر مرات}.
أَقَلُّهُم مُلْكاً من الدنيا مَلَكْ وعشرةٌ أمثالها من دون شكْ
لكنَّما موطن سوطٍ فيها خير من الدنيا وما عليها
قلت لكم آنفاً: إن الدستور الذي بين يدَيَّ يحمل أحاديث العقائد، والآداب، والأخلاق، والسلوك، بينما أنت تسمع حديثاً في الفرائض، إذا به ينتقل بك إلى اليوم الآخر، ثم يعرج على الجهاد، ثم يصلك بالتربية، ثم يعود بك إلى الأحكام، فأنت بين روضة وأخرى.(210/12)
بعض الأصناف الذين لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم
يقول عليه الصلاة والسلام: {آكل الربا، ومُوْكِلُه، وكاتبه، وشاهداه إذا علموا ذلك، والواشِمَة، والموشومةُ للحُسْن، ولاوِي الصدقة، والمرتد أعرابياً بعد الهجرة، ملعونون على لسان محمد يوم القيامة} رواه النسائي وابن خزيمة والحاكم عن ابن مسعود، وهو حديث صحيح.
معنى المفردات:
(آكل الربا): الذي يتناوله أكلاً مباشرة، أو لُبساً، أو استخداماً، أو سكنىً، أو مركوباً، أو يمتهنه في تجارة.
(ومُوْكِلُه): الذي يُوْكِلُه غيره: كالصراف، والبائع، وحامل العقود، والكاتب عليها، والشاهد، وصاحب الإرشيف، والحارس، والفراش.
(وكاتبه): الذي يكتب العقود، ويوقع على المُسَيَّرات والشركات والحوالات.
(وشاهداه): اللذان يشهدان على العقد، إذا علموا ذلك؛ لأن الجاهل معذور.
(والواشِمَة): هي التي تَشِمُ نفسَها بحبر أو ما يشابهه، وتغرزه في جسمها أو في وجهها، وهي التي تَشِمُ غيرها أيضاً.
(والمَوْشُومة): التي تطلبه من غيرها، أو تطلب غيرَها أن يَشِمَها، وهو غرز الحبر أو المداد أو نحوهما في الخدود، وتَرَوْنَ كثيراً من النساء يفعلن ذلك؛ للحسن، بقصد الجمال.
(ولاوِي الصدقة): أي: مانع الزكاة والمماطل والمؤخر لها إذا حلَّت عليه، مثل أن يطلبه الإمام أن يدفع الزكاة، فيماطل، ويقول: بعد غد، ويطلبه ثانيةً، فيقول: بعد شهر، بعد شهرين، فيماطله.
(والمرتد أعرابياً بعد الهجرة): كيف؟ أي: أنه في عهده عليه الصلاة والسلام كان إذا هاجر الرجل من مكة إلى المدينة انتهى، لا يرجع، فإذا ارتد إلى الأعرابية والصحراء وترك الهجرة، فإنه هو المقصود.
(ملعونون على لسان محمد يوم القيامة): اللعن-نعوذ بالله منه- الطرد والإبعاد من رحمة الله، وقد لعن صلى الله عليه وسلم أصنافاً.
وشاهدُنا هنا: أول الحديث.
وقد صح عند مسلم من حديث جابر أنه قال: {لعن الله آكل الربا، ومُوْكِلَه، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء}.
وعند الحاكم وابن ماجة بسند صحيح، يقول عليه الصلاة والسلام: {الربا ثلاثة وسبعون باباً، أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عِرض المسلم}.(210/13)
مكانة الدنيا عند الله
ويقول عليه الصلاة والسلام: {آكُلُ كما يأكل العبد، فوالذي نفسي بيده لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافراً كأساً} رواه هَنَّاد في كتاب الزهد، عن عمرو بن مرة مُرْسَلاً، وهو صحيح.
والمعنى: مرت امرأة بالرسول عليه الصلاة والسلام، فرأته يأكل وهو على التراب، وهو أشرف مَن خَلَقَ الله، لم يخلق الله في الناس أشرف منه صلى الله عليه وسلم، فرأته يأكل على التراب، وكانوا يقولون: إذا أكل -أحياناً- يجلس على رُكْبَتَيه كهيئة المصلي في التشهد.
وهذه المرأة التي مرت: مشركة متكبرة، قالت للناس على الرسول عليه الصلاة والسلام: انظروا إليه، يأكل كما يأكل العبد، ويجلس كما يجلس العبد، فَرَدَّ عليها، وقال: {آكُلُ كما يأكل العبد، فوالذي نفسي بيده! لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراًَ كأساً}.
الدنيا سهلة، وليس منزلة الإنسان عند الله بما يعطيه من الدنيا، أفجر الفجرة قد يعطيه الله عز وجل الملايين المُمَلْيَنَة والقصور والدور والدنيا والذهب والفضة؛ ولكن لا يساوي عند الله جناح بعوضة، وتجد المؤمن التقي البار لا يجد كسرة خبز في اليوم؛ وأحياناً ينام على الرصيف؛ لأن الموازين ليست بالدنيا.
وقوله عليه الصلاة والسلام: {جناح بعوضة} الجناح: هو طرف هذه البعوضة (النامِسَة) بمعنى: أن الله عز وجل لا يضرب للدنيا وزناً كوزن جناح البعوضة هذه التي ترونها إذا طارت به.
فالدنيا سهلة عند الله عز وجل.
وفي حديث صحيح: {إن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب} فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والله ينظر إلى القلوب، فيرى من يستحق هذه الرسالة والإيمان والقرآن فيمنحه الدين، ويرى أن بعض الناس لا يستحق الإيمان والصلاح، فلا يمنحه الإيمان: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].
ولما كان الإيمان غالياً، أعطاه الله بعض الناس من الفقراء والموالي، وحرمه بعض الأشراف من كفار مكة، ولذلك مات بعض الكفار كافراً، وقُتِلوا في بدر ودخلوا النار، أما الإيمان فعزيز، من أعطاه الله الإيمان فقد أحبه، ومن أدخل الإيمان بيته فقد أحبه.
وقوله: {ما سقى منها كافراً كأساً} مع العلم أن الكفار قد يتمتعون من الدنيا أكثر مِمَّا يتمتع المؤمن: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].(210/14)
العبودية لله
يقول عليه الصلاة والسلام: إنه عبدٌ لله، ولما أطراه ومدحه عامر بن صعصعة أحد وفود العرب، قال الرسول: {يا أيها الناس! قولوا بقولكم، أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله}.
وقد ذكر الله له العبودية في مقام التشريف، وهي:
ذكره في الإسراء، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1].
وذكره في مقام الدعوة، فقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19].
وذكره في مقام الإنزال، فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1].
لا تدعُنِي إلا بـ (يا عبدها) فإنه أشرف أسمائي
فأشرف أسمائه: العبودية لله، ومن لا يكون عبداً لله، كان عبداً لشيطانه وشهواته وغروره.(210/15)
الفقر والشريعة البيضاء
وقال عليه الصلاة والسلام: {آلْفَقْرَ تخافون؟ والذي نفسي بيده لَتُصَبَّنَّ عليكم الدنيا صَبَّاً، حتى لا يزيغَ قلبَ أحدِكم إذا أزاغَهُ إلا هي، وايْمُ الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء} رواه ابن ماجة عن أبي الدرداء، وسنده حسن.
معاني المفردات:
{آلْفَقْرَ تخافون؟} معناه: هل تخشون الفقر من بعدي؟! وهذا الاستفهام للإنكار، أي: لا تخشوا الفقر؛ فإنه لا يُخْشَى منه، ولا تموت الأمة بالفقر، بل الذي قَتَل الناس هو الغنى، والذي دمَّر كثيراً من البيوت هو المال والثراء.
{والذي نفسي بيده لَتُصَبَّنَّ عليكم الدنيا صَبَّاً} أي: لَتَكْثُرَنَّ عليكم الأموال كثرة هائلة، وقد حدث هذا، حتى أصبح الغنى أمراً عجيباً.
ثم يقول: {لا يزيغَ قلبَ أحدِكم إذا أزاغَهُ} أي: لا يَمِيْلُه، كما قال تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران:8] والزَّوَغان: الميل، ولا يُمِيْلُ القلوبَ إلا الدنيا، ولذلك نسبة الانحراف في الأثرياء أكثر منها في الفقراء؛ وإلاَّ فعلى مستوى الأفراد قد يأتي الثري أتقى لله، وأصلح من الفقير، وهذا أمر مُشاهَد.
{وايْمُ الله} وهذا قسم، كان يقسم به عليه الصلاة والسلام وهو مثل: تالله، وبالله، ووالله.
{لقد تركتكم على مثل البيضاء} أي أن الشريعة والسنة مثل البيضاء، قيل: البيضاء هي الطريق الواضحة، وقيل: البيضاء الليلة المقمرة، وقيل: البيضاء: هي المسلك الذي لا عوج فيه.
وكل المعاني صحيحة.
{ليلها ونهارها سواء} تَرَكَنا عليه الصلاة والسلام على محجة واضحة، لا لَبْس فيها، وهي ظاهرة للعَيان، وشريعة كاملة، ولذلك قبل سنوات كان في الناس عدم تَمَيُّز، يعيش الناس في العالم في ثلاث معسكرات:
معسكر إلحاد.
ومعسكر إيمان صريح صحيح.
ومعسكر وسط، فهم قوم تأتيهم شُبَهٌ وخطراتٌ؛ لكنه وسط، قد يصلون ويصومون ويحجون ويعتمرون، ولكنهم لم يتميزوا، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
ولكن في هذه الصحوة، والعودة إلى الله أصبح اليوم هناك تَمَيُّزٌ، حتى على مستوى العالم، لا تجد العالم الآن إلا يناشد التميز، حتى البلشفي الروسي الملحد أصبح يتميز، إما أن يدخل في دين، وإما أن يتجرد عن دين.
وهذا معلوم لديكم، كَمَنْ يقرأ كتاب الانفتاح المترجم والموجود لـ جرباتشوف، الذي أصبح قبل سنتين نصرانياً مسيحياً، أي أنه تَدَيَّن، وأصبحت وُلايَتا أذربيجان وأوزبكان، والولايات الجنوبية في شمال أفغانستان أصبحت تنشد الإسلام.
رُفِعَ (لا إله إلا الله) على المآذن، إمَّا دينُ إسلامٍ، وإما تبروء خالص، أما هذا الوسط، فإنه قليل في الناس، وهذا حتى في واقعنا اليوم، إما قوم أقبلوا على الهداية، وأقبلوا على الرب سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وعلى المسجد، وإما قوم ينحرفون تماماً، وهذا هو الصحيح في هذه المسألة وفي أمثالها ولها بحث آخر، وسوف يكون هناك -إن شاء الله- محاضرة عن مسألة (الشيوعية: أصولها ونتائجها) وعن: (أدوار العلمانية) بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى بعد شهر أو ما يقارب ذلك.
قوله صلى الله عليه وسلم: {آلْفَقْرَ تخافون؟ والذي نفسي بيده! لَتُصَبَّنَّ عليكم الدنيا صَبَّاً} كان الصحابة في الغالب فقراء؛ فإذا أتت غنيمة اجتمعوا عند الرسول عليه الصلاة والسلام فحذَّرهم، وأخبرهم أن الفقر لا يُخْافُ منه، بل يُخَافُ من الغنى، حتى يقول ابن عوف رضي الله عنه وأرضاه: [[ابتُلِينا بالضراء؛ فصبرنا، وابتُلِينا بالسراء؛ فلم نصبر]] أي: ابتُلِينا بالفقر؛ فصبرنا، فلما ابتُلِينا بالغنى ما صبرنا، ويقول أحد السلف: [[كنا فقراء متآخين، فلما تغانينا واغتنينا حمل بعضُنا السيف على بعض]].
مَرَّ قيسُ بن زهير - وهو شيخ من مشايخ القبائل في الجاهلية - بقومه؛ فوجدهم فقراء، قال: الحمد لله، قالوا: ما لك؟ قال: يتعاونون ويتساعدون، ثم مَرَّ بعد سنة، وإذا هم أغنياء، عندهم خيل وبقر وإبل، فغضب، قالوا: ما لك؟ قال: يتقاتلون، وما مَرَّ على كلامه أشهر إلا وقد وقعت مقتلة بينهم.
فالغنى له أسباب وتأثيرات، منها: الحسد، والضغينة، والبغضاء، والتناحر، وترك الطاعة عند كثير من الناس؛ لأنهم يشتغلون بأموالهم من دون الله عز وجل.(210/16)
شرح حديث وفد عبد القيس
قال عليه الصلاة والسلام: {آمُرُكم بأربع، وأنهاكم عن أربع.
آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تؤدوا خُمُس ما غنمتم.
وأنهاكم عن الدُّبَّاء، والنقِير، والحَنْتَم، والمُزَفَّت، احفظوهن، وأخبروا بهن من وراءكم} رواه البخاري ومسلم وأبو داوُد والترمذي والنسائي عن ابن عباس، وهو حديث صحيح.
سبب الحديث:
وفَدَ قوم من عبدُ قيس من الأحساء، وهذه من أعظم الوفود عند العرب، وفَدوا عليه - عليه الصلاة والسلام - من الأحساء وكانت تسمى البحرين، فإذا أطلقت البحرين في الحديث، فالمقصود بها الأحساء لا البحرين هذه التي عاصمتها المنامة.
فوصلوا إليه - عليه الصلاة والسلام - وفيهم أشج عبد القيس، فلَبِس أشجٌّ هذا وهو أحدهم لباساً طيباً، وتطيَّب، فقال له عليه الصلاة والسلام: {إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحِلْمَ، والأناة قال: أَتَخَلَّقْتُ بهما يا رسول الله؟ أم اللهُ جَبَلَنِي عليهما؟ قال: الله جَبَلَك عليهما.
قال: الحمد لله الذي جَبَلَني على خُلُقَين، أو صِفَتَين، يحبهما الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فقال لهم: مَن القوم؟ قالوا: عبد قيس.
قال: مرحباً بالقوم، غير خزايا ولا ندامى}: خزايا: جمع خَزْيان، وندامى: جمع ندمان، يقول: لا تخزون في الدنيا ولا تندمون في الآخرة.
معاني المفردات:
قالوا: مُرْنا بأمر.
قال: {آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع} اسمع الجمال والأسلوب، واسمع الكلمات الحية التي أحيت شعوباً وأجيالاً.
قال: {آمركم بالإيمانُ بالله وحده} هذا يسمى لَفّ ونَشْر عند أهل البلاغة، لا يستطيع اللَّفِّ والنَّشْر إلا محمد عليه الصلاة والسلام يلُفُّ العبارة ويجملها، ويقول: {أوتيتُ جوامع الكَلِم} اخْتُصِر لي الكلام اختصاراً وأوتيتُ فواتحه وخواتمه، فهو أفصح من نطق بالضاد، الآن يلُفُّ، ويقول: {آمركم بالإيمان بالله وحده} هذا لَف ونشر.
{أتدرون ما الإيمانُ بالله وحده؟} ويسمي هذا أهلُ الصحافة: الموجز والتفصيل، فإذا قرأ مذيع الأخبار قال: كان هذا هو الموجز، وإليكم تفصيل الأنباء، وأهلُ العربية من السلف يقولون: اللَّف والنشر، فالرسول صلى الله عليه وسلم يلُف، ويقول: هذا هو الموجز، وإليكم التفصيل.
قال: {أتدرون ما الإيمانُ بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان} ولم يذكر الحج، لماذا؟ قيل: لأن الوفد أتى قبل أن يُفْرض الحجُ من السماء.
{وأن تؤدوا خُمُس ما غنمتم} من المغانم، تؤدوها لبيت المال.
{وأنهاكم عن الدُّبَّاء} الدُّبَّاء: القَرْع، إذا جُوِّفَ القَرْعُ، وأُخِذَ ما بداخله، فقد كانوا يأخذون أسطُل القَرْع، وبيوت القَرْع، وآنية القَرْع، فيجعلون فيها زبيباً وشعيراً وبراً فتتحول إلى خمر وتتخمَّر فيها.
{والنَّقِير} كانوا ينْقُرون عضو الشجرة فيجعلون فيها الخمر.
{والحَنْتَم} وكذلك الحَنْتَم، قالوا: القارّ، أو الزِّفْت، يصبغونه فيصبح أدوات فخار.
{والمُزَفَّت} يطلونه بالقارّ، ولكن الصحيح عند الإمام أحمد وغيره من المحدثين أن هذا منسوخ بقوله عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: {اشربوا في كل شيء، ولا تشربوا مسكراً}.
فلك أن تشرب في هذه دون أن تشرب مسكراً، فإن المسكر محرم.
قال: {احفظوهن، وأخبروا بهن من وراءكم}.
وصلى الله على محمد، وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
والله الموفق.(210/17)
شرح حديث: (آمركم بثلاث: أن تعبدوا الله)
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثالث:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماًَ كثيراً.
هذا هو الدرس الثالث من كتاب (دستور الصحوة الإسلامية).
ويُقْصَد من هذه الدروس: تعميق التربية النبوية، وترسيخ تعاليم الإسلام في قلوب الناشئة؛ ليكون العلم الموروث عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام هو العلم المطلوب والمرغوب فيه، ولينشأ جيل الإسلام على كتاب الله عز وجل وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الكتاب كله صحيح، أحاديثه صحيحة، ما بين أحاديث في العقائد، وأحاديث في الأحكام، وأحاديث في التربية والأخلاق والسلوك.
وهو لم يُرتَّب على باب، بل هو منثور كالروضة، مرة وأنت تعيش في عقيدة، ثم تنتقل إلى خلق، ثم تعود إلى سلوك، وهكذا.
من هذه الأحاديث: قوله عليه الصلاة والسلام: {آمركم بثلاث، وأنهاكم عن ثلاث: آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وتسمعوا وتطيعوا لمن ولاه الله أمركم.
وأنهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال} هذا الحديث بهذا اللفظ رواه أبو نُعيم في الحلية، وسنده صحيح.
وشرط ما يتلى في هذا الكتاب أن تكون أحاديثه صحيحة كلها ليس فيها ضعيف أبداً, ولا موضوع، بل هي صحيحة إن شاء الله.(210/18)
معاني المفردات
أما قوله صلى الله عليه وسلم: {آمركم بثلاث} فالأمر إذا أُطْلِقَ يقتضي الوجوب.
{وأنهاكم عن ثلاث} النهي إذا أُطْلِقَ يقتضي التحريم.
والتحليل والتحريم ليس إلا للشارع الحكيم، ليس لأحد من الناس: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116] فليس لأحد أن يحلل أو يحرم ألا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
والله يقول في وصف رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].(210/19)
فضل التوحيد والنهي عن الشرك
ثم قال صلى الله عليه وسلم: {آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً} هذه كلمة التوحيد، وهذه ملخص رسالته عليه الصلاة والسلام فقد جاء بهذه الكلمة، ودعا لتوحيد الألوهية، أما توحيد الربوبية فمقرر في الفِطَر، ما أنكر الصانع في الظاهر إلا فرعون، وإلاَّ فإن الكفار يشهدون أن الذي خلق السماوات هو الله، والذي خلق الأرض هو الله، والذي أبدع هو الله؛ لكنهم يدعون معه إلهاً آخر، فكل نبي أتى معه بدعوة توحيد الألوهية: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32] والتوحيد ثلاثة أقسام:
الأول: توحيد ربوبية.
الثاني: توحيد ألوهية.
الثالث: أسماء وصفات.
فالربوبية: مقرر، وجاء به صلى الله عليه وسلم.
والألوهية: أنكره الكفار، وهو عمدة رسالته صلى الله عليه وسلم.
والأسماء والصفات: أتى به عليه الصلاة والسلام على أكمل وجه، وليس هذا محل بحثها؛ ولكن المبحث: {آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً} إذ قال الله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وفي الصحيحين: أن معاذاً كان رديف الرسول عليه الصلاة والسلام فقال له عليه الصلاة والسلام: {يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده؟} قال: الله ورسوله أعلم، قال: أتدري ما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على عباده: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً}.(210/20)
أهمية وحدة المسلمين على كتاب الله
ثم قال عليه الصلاة والسلام: {وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} حبل الله قيل: الرسالة، وقيل: القرآن، وقيل: الرسول، وقيل: محمد عليه الصلاة والسلام وقيل: (لا إله إلا الله) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103].
وحبل الله يشمل الجميع، فهو: الإسلام، والدين، والرسول عليه الصلاة والسلام والقرآن.
وقوله: {وأن تعتصموا} الاعتصام: الالتجاء والتمسك.
{ولا تفرقوا} التفرق مذموم، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].(210/21)
السماع والطاعة لولاة الأمر
ثم قال عليه الصلاة والسلام: {وتسمعوا وتطيعوا لمن ولاهم الله أمركم} في هذا ضوابط، منها:
أن يكون هذا المولَّى طائعاً لله، غير معلن للكفر؛ فإنه واجب على المسلم أن يسمع ويطيع ما لم يرَ كفراً بواحاً، عنده فيه من الله برهان.
ومعتقد أهل السنة والجماعة: أنه يُصَلَّى وراء أئمة الجور، ويُجاهَد معهم، ما لم يُرَ كفرٌ بواحٌ عند الرَّعِيَّة فيه من الله برهان.
هذا هو الصحيح.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من أتاكم وأمركم جميعٌ، يريد أن يفرق كلمتكم فاضربوه بالسيف كائناً من كان.
وقال صلى الله عليه وسلم: {من فارق الجماعة فمات، مات ميتةً جاهلية}.
والجماعةُ إذا كان لهم إمام، ففارقه أحدٌ وخرج بدون مكفِّر لهذا الإمام، فقد أثم وابتدع في دين الله.(210/22)
القيل والقال
ثم قال عليه الصلاة والسلام: {وأنهاكم عن قيل وقال} قال العلماء: معنى {قيل وقال} كثرة نقل الكلام، والمسائل التي لا فائدة فيها، مثل: قال فلان ورَدَّ عليه فلان، ونقل أقوال الناس، والتشاغل بأحاديثهم، وما يبثه الناس، والدعايات، ونشر الشائعات في الناس.
هذا هو قيل وقال.
وقيل: هي الغِيبة، مثل: قال فلان في فلان، وقال فلان في فلان.
وقيل: هي النميمة، مثل: قال فيك فلان، ثم ينتقل إلى الآخر: وقال فيك فلان.(210/23)
كثرة السؤال
{وكثرة السؤال}: قال الإمام مالك: "كثرة السؤال عن المعضلات" وهي أن يأتي أحدٌ إلى طلبة العلم والعلماء فيسألهم عن المعضلات؛ ليعجزهم فقط، دون إرادة الفائدة، فهذا يعتبر من هذا القبيل، وهو آثم، ويدل على فساد قلبه، حيث يأتي إلى العالم، ويحبك له سؤالاً صعباً، ومسألة صعبة؛ ليعجز هذا العالم، فهذا منهي عنه.
وقيل: كثرة
السؤال
هو الذي يسأل أموال الناس تعففاً، وعنده مال وعنده ما يغنيه؛ لكنه يسأل، فهو شَحَّاذٌ دائماً، أغناه الله؛ ولكن فيه حب المسألة، وكما في الصحيح: {يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزْعَة لحم} ويعذبه الله بأن يتساقط وجهه يوم القيامة، ويبقى العظم؛ لأنه سأل الناس تكثراً، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً؛ فلْيَسْتَقِلّ أو لِيَسْتَكْثِر}.
وقيل: كثرة السؤال في عهده عليه الصلاة والسلام قبل أن يُنَزَّل الوحي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة:101].(210/24)
إضاعة المال
ثم قال عليه الصلاة والسلام: {وإضاعة المال} إضاعة المال منهي عنه، قالوا: إضاعته في المعاصي، كمن يُضَيِّعُه في الأغاني، أو في شراء أدوات الغناء، أو الدخان، أو المخدرات والخمر، أو في استئجار محلات للمعصية، كما يُشْهد اليوم في بلاد كثيرة وأماكن كثيرة، كصوالين الحلاقة التي يُزاوَل فيها امتهانُ سنةِ الرسول صلى الله عليه وسلم في اللحى، أو استئجار المحلات التي يباع فيها اللباس المحرم للنساء القصير منه والشفاف، أو استئجار المحلات على الفيديوهات، وعلى الأشرطة الغنائية، كلها تدخل في {وإضاعة المال}.
وإضاعتُه: الإسرافُ في إنفاقه، كالتكثير في الملابس، والمطاعم، والمشارب، والبيوت، وهذا من إضاعة المال؛ فإنا أُمِرنا بحفظ المال؛ لنتقرب به إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
هذا الحديث رواه: أبو نعيم في الحلية بسند صحيح، عن أبي هريرة.(210/25)
نكاح الثيب والبكر
وقال عليه الصلاة والسلام: {آمِروا النساء في أنفسهن، فإن الثيِّب تُعْرِب عن نفسها، وإذْنُ البِكْر صِماتُها}.
ننتقل من هذه الآداب إلى مسألة النكاح وباب النكاح.
{آمِروا النساء في أنفسهن، فإن الثيِّب تُعْرِب عن نفسها، وإذْنُ البِكْر صِماتُها}.
رواه الطبراني والبيهقي عن العرس بن عميرة وهو حديث صحيح.
معنى الحديث:
يعني - عليه الصلاة والسلام -: فَوِّضُوا الثيِّب، فإن الثيِّب إذا أرادت الزواج أو إذا رضيَت الرجل المتقدم أو الخاطب فهي تتكلم بنفسها.
{آمِروا النساء} معناه: فوِّضُوا النساء واجعلوا أمرَ النساء إليهن، أي: شاوروا النساء في هذه المسألة.
ويظهر أن الثيِّب تُعْرِب عن نفسها؛ لأنها ليست كالبكر في الحياء ولا في الخجل، فهي تتكلم بلسانها إن أرادت أو رفضت.
{وإذْنُ البِكْر صِماتُها} إذا سكتت البكر فهذا إذن ورضى، وهو يكفي، ولا يُطلَب منها الكلام؛ لكن إذا اعترضت فلا يجوز لوالدها ولا لقريبها ووليها أن يجبرها؛ أما إذا سكتت جاز النكاح وسرى وأصبح صحيحاً.(210/26)
نكاح اليتيمة
وقال عليه الصلاة والسلام: {آمروا اليتيمة في نفسها، وإذنُها صِماتها} حديث صحيح، رواه الطبراني عن أبي موسى.
ومعنى (اليتيمة): البِكْر، فإذنُها إذا صمتت وسكتت فهو إذنها، وجاز النكاح، وأما إذا اعترضت فقد تعطَّل نكاحها.(210/27)
حب الأنصار من الإيمان
وقال عليه الصلاة والسلام: {آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار} حديث صحيح، رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أنس.
ومعنى {آية الإيمان} علامة الإيمان، أي: أن علامة إيمان المسلم، وعلامة حبه لله عز وجل، وحبه لرسول الله عليه الصلاة والسلام حب الأنصار.
الأنصار: اسم شرعي سماهم الله عز وجل وإلاَّ فهم قبيلتان مشهورتان من الأَزْد، أتتا من اليمن، اسمهما: الأوس، والخزرج.
سمى الله القبيلتين الأنصار؛ لأنهم نصروا الرسول عليه الصلاة والسلام.
فآية إيمان المؤمن أن يحبهم، ومن أبغضهم فقد نافق، ولا يبغضهم إلا منافق عدو لله عز وجل ولرسول الله صلى الله عليه وسلم.
والأنصار: كل من ناصر الرسول صلى الله عليه وسلم وبالأخص: الأوس والخزرج، أو من ناصره في المدينة يوم انتقل بعد الهجرة.
{وآية النفاق -أي: علامة النفاق- بغض الأنصار} والأنصار لا يبغضهم إلا منافق، ولا يحبهم إلا مؤمن، ونشهد الله على محبتهم في الله عز وجل من أجل أنهم ناصروا الرسول - عليه الصلاة والسلام - ورفعوا دين الله، واستشهدوا في المعارك، يقال: قتل من الأنصار (80%) في المعارك، وأكثر من يُقتل في المعارك إذا التقى المسلمون مع الكفار هم الأنصار.
يقول حسان:
فنحكم بالقوافي مَن هجانا ونضرب حين تختلط الدماءُ
إلى آخر ما قال، وهو أنصاري، والأنصار منهم العلماء والشهداء والعباد والزهاد والشعراء رضي الله عنهم وجزاهم خير الجزاء بما قدموا للإسلام.
صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {جزى الله الأنصار عني خيراً، سيما عبد الله بن عمرو بن حرام وسعد بن عبادة}.(210/28)
علامات النفاق
وقال عليه الصلاة والسلام: {آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان} متفق عليه، رواه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة، وهو صحيح.
معنى الحديث:
{آية المنافق} أي: علامة المنافق، والمقصود به النفاق العملي؛ لأن النفاق عند المسلمين قسمان:
نفاق اعتقادي.
نفاق عملي.
المنافق نفاقاً اعتقادياً: خالدٌ في الدرك الأسفل من النار، وهو الذي -مثلاً- يكفر بالرسالة، أو يكفر بالرسول عليه الصلاة والسلام أو يستهزئ بشيء أتى به صلى الله عليه وسلم أو يستهزئ بآيات القرآن؛ فهذا منافق نفاقاً اعتقادياً.
أما المنافق نفاقاً عملياً: فقد يكون مسلماً، لكن فيه شُعَبٌ من النفاق، مثل: إذا حدَّث كذب، لكن يجوز للإنسان أن يكذب في ثلاث حالات فقط:
المرأة على زوجها، والزوج على امرأته في أمور الحب والعشرة.
يجوز للإنسان أن يكذب في الصلح بين الشخصين الاثنين.
ويجوز للإنسان المسلم أن يكذب في الحرب مع الكفار؛ لأن الحرب خُدعة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: {وإذا وعد أخلف} أي: إذا ضرب ميعاداً بينه وبين الناس أخلف في الميعاد، وهذه من علامة المنافق، وعَدَ عليه الصلاة والسلام رجلاً، فانتظره ثلاثة أيام، فلم يأتِ الرجل، ثم تذكر الرجل، فأتى، فقال عليه الصلاة والسلام: {لقد شققت عليَّ} ثلاثة أيام ينتظره في المكان.
{وإذا أؤتمن خان} أي: إذا حمَّلتَه أمانة خانها، وهي علامة النفاق، قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
فمن كان فيه خَصلة من هذه كان فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعَها، ومن كان فيه ثلاث خصال اجتمعت فيه خصال النفاق، وقد يكون مسلماً مع هذا النفاق، والنفاق يتجزأ، وقد يوجد شخص منافق بخصلة، ومنافق بخصلتين، ومنافق بثلاث خصال، إلى آخرها.(210/29)
حقوق العشرة الزوجية
قال عليه الصلاة والسلام: {ائت حرثك أنَّى شئتَ، وأطعمها إذا طعمتَ، واكسُها إذا اكتسيتَ، ولا تقبِّح الوجه، ولا تضرب} رواه: أبو داوُد عن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده، بسند حسن.
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223].
معنى {أنَّى شئتَ} أي: مُقابِلَة ومُدابِرَة، أما الدُّبُر فمحرم، وملعون من فعل ذلك.
ومعنى {وأطعمها إذا طعمتَ} أي: من طعامك، فالنفقة واجبة على الزوج، وكذلك الكسوة، بمقابل ما استمتع منها.
وقوله: {ولا تقبِّح الوجه، ولا تضرب} يقال: قبَّح الوجه أي: لا تدعو لها بالقُبْح في الوجه.
وقيل: لا تضرب الوجه.
وليجتنب الإنسان الوجه؛ فإنه محرم ضربُه، ومن فعل ذلك فقد تعدى وظلم؛ لكن إذا نَشَزَت فيضرب ضرباً غير مبرح في غير الوجه.(210/30)
فوائد زيت الزيتون
قال عليه الصلاة والسلام: {ائتَدِموا بالزيت، وادَّهِنوا به، فإنه يخرج من شجرة مباركة} رواه ابن ماجة والحاكم والبيهقي في الشُّعَب عن ابن عمر، وسنده حسن.
{ائتَدِموا بالزيت} أي: اجعلوا الزيت إداماً، والزيت -كما تعرفون- يخرج من شجرة مباركة، وهو زيت الزيتون؛ فإنه مبارك، وهو يُذهب مرض البرص والبَهَق، وفيه تليين للأعضاء، وفيه قوة وحرارة، وصفها ابن القيم وغيره من أهل الطب.
{ائتَدمِوا بالزيت}: أي: اجعلوه إداماً لخبزكم ولطعامكم.
{وادَّهِنوا به} أي: دَهْن الرأس والوجه، والرسول صلى الله عليه وسلم هو طبيب البشرية: طبيبها في القلوب، وطبيبها في الأجسام صلى الله عليه وسلم.
{فإنه يخرج من شجرة مباركة} شجرة الزيتون، {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [المؤمنون:20] وهو الزيت.(210/31)
حكم إجابة وليمة العرس
وقال عليه الصلاة والسلام: {ائتوا الدعوة إذا دُعِيْتُم} رواه مسلم، وسنده صحيح - كما ترون - عن ابن عمر.
معنى {ائتوا الدعوة إذا دُعِيْتُم} على الوجوب في الزواج، من دُعِي إلى زواج فواجب عليه أن يحضر؛ لكن بشرط ألا يكون في الزواج منكر، مثل: أن يكون في الزواج غناء، أو يُدارُ فيه خمر، أو اختلاطٌ بين الرجال والنساء، أو فيه استهزاء بالكتاب والسنة فلا يَحْضُر.
أما إذا خلا من المنكرات: فواجب عليك، إذا دعاك صاحب الزواج أن تحضر؛ فإن دعوة الزواج واجبة.
أما غيرها؛ كدعوة وليمة، أو غيرها من الولائم، فإنها على الاستحباب؛ لكن من حق المسلم عليك إذا دعاك أن تجيبه، وتجيب دعوته؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في (الصحيح): {حق المسلم على المسلم خمس} وذَكَر منها: {وإذا دعاك فأجبه}؛ لأن في هذا ترقيق للقلوب، وفيه صلة، ومودة، وتعاون بين المسلمين.(210/32)
حكم صلاة النساء في المسجد
وقال عليه الصلاة والسلام: {ائذنوا للنساء أن يصلين بالليل في المسجد} رواه الطيالسي وأبو داوُد عن ابن عمر، وسنده صحيح.
شرح الحديث:
قال: {بالليل} لأنه مظنة ألا يؤذن للنساء، ولأنه مظنة الفتنة والاختلاط، وهذا الأمر على الاستحباب والندب؛ لأنه ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه ما أوجب صلاة الجماعة للنساء، وقال: {وصلاتها في بيتها خير لها} لكن لو طلبَتِ المرأة من زوجها بدون فتنة، وقد عرف أنها لا تتعرض للفتن؛ فله أن يأذن لها لتصلي في المسجد، بشرط ألا يكون هناك فتنة، فإذا صلت في المسجد كانت محتجبة عن الرجال في مكان خاص، دون أن تتطيب، ودون أن تأتي مع أجنبي، كسائق أجنبي يخلو بها، فإن هذا محرم، بل تأتي مع ولِيٍّ لها؛ لتسمع القرآن، والمحاضرات، والدروس.
قال عليه الصلاة والسلام: {ائذنوا للنساء أن يصلين بالليل في المسجد} جاء عند مسلم في صحيحه: لما قال ابن عمر هذا الحديث، قال ابنه بلال: " والله لا نأذن لهنَّ، يتخذن المسجد دَخَلاً أو دَغَلاً "، قال ابن عمر: [[أُحَدِّثُك عن الرسول عليه الصلاة والسلام وتعارضه؟! والله لا أكلمك حتى أموت]] فما كلمه حتى مات، هَجَرَه؛ لأنه عارض الحديث.(210/33)
هل للقاتل توبة؟
وقال عليه الصلاة والسلام: {أبى الله أن يجعل لِقاتِلِ المؤمن توبة} حديث صحيح، رواه الطبراني والضياء في المختارة عن أنس، وسنده صحيح.
قوله: {أبى اللهُ} أي: منع اللهُ صاحبَ القتل من التوبة.
ومعناه عند أهل السنة: أنه قد يُحْرَم القاتلُ فعل التوبة، لا أن يَحْرِمَه الله إذا تاب التوبة.
لا، ليس هذا؛ فلو تاب وصدق مع الله جعل الله له توبة؛ فإن رجلاً من بني إسرائيل قتل مائة نفس، فتاب الله عليه؛ لكن من قتل نفساً عسر الله عليه أمور التوبة، حتى أنه لا يتوب إلا بكل مشقة.
وصح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: {ولو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل امرئ مسلم لَكَبَّهُم الله على وجوههم في النار}.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لَزوال الدنيا بأسرها أهون عند الله من قتل امرئ مسلم}.
ومعنى {لِقاتِِلِ المؤمن} أي المعصوم دمُه، ففي الصحيحين: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني} وهو الثيب الذي يزني فإنه يُرْجم {والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة} فهؤلاء الثلاثة يُقْتَلون، أما غيرهم فدماؤهم معصومة من المسلمين.(210/34)
إجماع الصحابة على تولية أبي بكر رضي الله عنه
قال عليه الصلاة والسلام: {أبى اللهُ وأبى المؤمنون يُخْتَلَفَ عليك يا أبا بكر} رواه الإمام أحمد عن عائشة، وسنده صحيح.
معنى الحديث:
{أبى اللهُ} أي: قدَّر اللهُ.
{وأبى المؤمنون} أي: رفض المؤمنون.
{أن يُخْتَلَفَ عليك يا أبا بكر} أي: كتب اللهُ عز وجل ألا تختلف عليك الأمة يا أبا بكر، في أن تجعلك للناس إماماً في الصلاة.
ومنها: جُعِل خليفةً بعد الرسول عليه الصلاة والسلام.
فلم يختلف الصحابةُ لما قُدِّم أبو بكر الصديق في الصلاة، لم يختلفوا، وهذا قضاء من الله وقدر، فأبى الله والمؤمنون أن يختلف الناس على أبي بكر، بل كلهم أجمعوا على إمامته في الصلاة، فلما مات -عليه الصلاة والسلام- جعلوه خليفة من بعده، حتى قال له بعض الصحابة: [[رضيَك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا؟]].
فكان هو الخليفة الذي لم يُخْتَلف عليه، بل أُجْمِع على قبوله -رضي الله عنه وأرضاه- وهذا هو معنى الحديث.(210/35)
أنواع بيعة النبي صلى الله عليه وسلم
وقال عليه الصلاة والسلام: {أبايعك على أن تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة، وتنصح لكل مسلم، وتبرأ من الشرك} رواه الإمام أحمد والنسائي عن جرير بن عبد الله البَجَلي، وسنده صحيح.
في الحديث قضايا:
بايع - صلى الله عليه وسلم - الصحابة أو المسلمين بيعات عدة:
منها: البيعة على الإسلام.
ومنها: البيعة على الهجرة.
ومنها: البيعة على الجهاد.
ومنها: البيعة على الموت، في حديث البراء تحت الشجرة.
ومنها: البيعة على ألا يسألوا أحداً من الناس.
وقد بايع سبعة: عوف بن مالك، ومن معه؛ فهي بيعات كثيرة.
وقوله هنا: {أبايعك على أن تعبد الله} هذه أكبر بيعة بايعها رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام-.
{لا تشرك به شيئاً} هذه هي التخلية، يقولون: جمع في الحديث بين التَّحْلِيَة والتَّخْلِيَة، أي: يتخلى من الشرك ويعبد الله، فإن الذي لا يتخلى من الأضداد والأنداد، أو يوالي الكفار علىحساب المؤمنين، أو لا يتبرأ منهم، أو لا يرى أن دينهم باطل، أو أنهم منحرفون، أو يشايعهم، أو يوادهم، أو يقدمهم على المسلمين، أو يحبهم أكثر من المسلمين، أو يعاونهم في حروبهم ضد المسلمين؛ فليس بمسلم؛ لأن مفهوم الولاء والبراء عند أهل السنة والجماعة: أن تتبرأ من عدو الله، وأن توالي حبيب الله، وعند أبي داود بسند صحيح: {من أحب لله، وأبغض في الله، وأعطى في الله، ومنع في الله؛ فقد استكمل الإيمان}.
قال: {وتقيم الصلاة المكتوبة} هي التي بُوْيِع عليها، وهي الخمس الصلوات، وما زاد فنافلة.
{وتؤتي الزكاة} أي: المفروضة، أما الصدقة فنافلة.
{وتنصح لكل مسلم} قيل: إنه خصه بالنصيحة لكل مسلم؛ لأن جريراً سيد بجيلة، سيد قومه، فأمره أن ينصح لكل مسلم، و {الدين النصيحة} فكان ناصحاً حتى مات، وكان يقسم على المنبر في الكوفة: " أني لكم ناصح"، وكان إذا بايع الرجل في سلعة أو في تجارة خَيَّره بين الثمن وبين السلعة، وأخذ بهذا؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام خصه بهذا الأمر.
{وتبرأ من الشرك} ثم عاد عليه الصلاة والسلام الكلام عن البراء من الشرك، ومن الأضداد والأنداد والهيئات التي تعلن كفرها وإلحادها، أن يبرأ من جميعها.(210/36)
نظرية الولاء والبراء في الواقع
نظرية الولاء والبراء في الساحة ليست واضحة، حتى أنهم يقولون إن الذي يدعو إلى الحروب أو يدعو إلى التفرقة بين المسلم والنصراني متخلف ورجعي، ودَعُوْنا من القرون المظلمة التي مرت، أصل الإنسانية سواء، والناس كلهم في اتحاد وتعايش سلمي، ودَعُوْنا من التفرقة العنصرية.
وقد أنشئوا عصبة الأمم ثم انهارت، ثم هيئة الأمم، وحقوق الإنسان التي تجمع حقوق الإنسان المسلم واليهودي والنصراني، لأنهم -عندهم- كلهم سواء.
نقول: التفرقة العنصرية ليست في الإسلام؛ لكن الديانة موجودة في الإسلام، لا يتساوى مسلم وغيره، ولذلك من خطط العلمانية ألا تبرأ من الشرك، وتبدأ العلمانية بـ أتاتورك، وتنتهي بأصنام أهلك الله الكثير منهم.(210/37)
أسس العلمانية
وهي تقوم على ثلاثة أسس:
أولاً: لا دين: أول مبادئ العلمانية: لا دين في العالم، أتاتورك أزال اليهودية والنصرانية والإسلام في تركيا.
ثانياً: الناس سواسية: والإسلام يقول: المسلمون سواسية؛ لكنهم يقولون: الناس سواسية.
ثالثاً: السعي بالعلم: ومعنى ذلك: أنه طاغوت يُعبد من دون الله عز وجل، والعلم إذا عُبد من دون الله أصبح طاغوتاً وكفراً، ولذلك ذكر الله العلم في القرآن وقال: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ} [الروم:56] لأن علماً بلا إيمان زنذقة وكفر، وإلاَّ فقد وصلوا في العلم الكثير، قال سبحانه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] فعلم بلا إيمان كفر وزندقة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: {وتبرأ من الشرك} أي: من الشرك بأنواعه الموجودة؛ لأن أطروحات الساحة يأتي منها الكثير.
فمن أطروحات العلمانية في الساحة، وهي التي أتكلم عنها؛ لكثرتها ولغزوها، أنها تعارض توبة من تاب، وتقول: لم يكن مذنباً؛ لأنه (لا دين) عندهم؛ ولذلك يغضبون إذا تاب المغنون، ويقولون: كيف يتوبون؟! كأنهم كانوا مجرمين، وإذا قلتَ لهم في شيء من الدين، قالوا: الصلاة لك، ولك أن تصلي لكن دَعِ الناسَ أحراراً، لا تأمر ولا تنهى، ما علاقتك بالناس؟ أنتَ عِشْ مسالماًَ، ولا تتدخل في الناس.
ومنها كذلك: أنهم يرون أن الدعوات التصحيحية لا أثر لها، ولذلك إذا ذكرتَ لهم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية الصحيحة، قالوا: هذه تناسب العوام، وهي في القبور، وقد انتهت، وإذا ذكرتَ لهم مسائل المعتقدات، قالوا: لا، هذه قد عفا عليها الزمن، وما لله لله، وما لقيصر لقيصر، إلى غير ذلك من أخبارهم وأعلامهم.(210/38)
البيعة على الإسلام
يقول عليه الصلاة والسلام: {أبايعكم على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفَّى منكم؛ فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فأُخِذَ به في الدنيا؛ فهو كفارة وطهور، ومن ستره الله؛ فذلك إلى الله عز وجل إن شاء عذَّبه وإن شاء غفر له} متفق عليه، ورواه: أحمد والترمذي والنسائي عن عبادة بن الصامت، وسنده صحيح.
وفيه مسائل:
البيعة على الإسلام التي بايعها الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه.
وقوله {ولا تسرقوا} النهي عن كبائر الذنوب، ومنها: السرقة.
والخوارج يكفرون بكبائر الذنوب، وأهل السنة يقولون: من ارتكب كبيرة فهو فاسق بكبيرته لا زال مسلماً، فشارب الخمر مسلم، وكذلك السارق، والزاني؛ لكنه خرج من دائرة الإيمان وأصبح فاسقاً، فيسمى فاسقاً عند المسلمين، ويسمى عند الخوارج كافراً.
والخوارج يخلِّدونه في النار خالداً مخلداً لا يخرج منها، وأهل السنة يقولون: قد يدخل النار ويعذب، ثم يخرجه الله؛ لأنه موحد، وهو تحت رحمة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
هذه من مسائل الخوارج.
قال صلى الله عليه وسلم: {ولا تقتلوا أولادكم} لأن العرب قبل الإسلام كانوا يقتلون الأولاد خشية أن يطعموا معهم: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] وكان أبو بكر يقرأ {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] قُتِلْتِ: أي: يسألها الله.
وأول من وأد جارية في العرب هو: قيس بن عاصم المُنْقَرِي سيد العرب، وأحلمهم وأكرمهم قبل الإسلام.
وأول من أحيا الجواري، ومنعهن من القتل أبو الفرزدق أو جدُّه.
ومنا الذي منع الوائدات وأحـ ـيا الوئيد فلم توءد
وقوله: {ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم} قيل: الزنا، وقيل: هي أن تحمل المرأة من غير زوجها.
وقوله: {ولا تعصوني في معروف} أي بشرط: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ لكن الطاعة في المعروف، فمن أمرك بمعروف فأطعه، ومن أمرك بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، هذه قاعدة.
{فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فأُخِذ به في الدنيا، فهو كفارة وطهور} والحدود كفارات على الصحيح من أُخِذ وتاب وجلد في خمر، أو قُطِع في سرقة ثم تاب كانت كفارة له، لا يكرر الله عليه العقوبة، أما من لم يتب وأُخِذ عليه الحد، فلا يزال العقاب ينتظره، وإن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له.
{ومن ستره الله، فهو إلى الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له} والدرس المهم هنا -أيها الإخوة الأبرار- أن على المسلم إذا ألَمَّ بذنب أن يستغفر الله، ويتوب، وأن يستر نفسه؛ فإن الله يغفر إلاَّ للمجاهرين بالخطايا، والمجاهرون هم الذين يبيتون يسترهم الله فيخرج أحدهم في الصباح يقول: فعلتُ كذا وكذا البارحة، فيفضحه الله في الدنيا ولا يغفر له في الآخرة {كل أمتي معافىً إلاَّ المجاهرون} الذين يجاهرون بالذنوب والخطايا.
فلنتب ولنستغفر، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] اللهم تب علينا يا رب العالمين.(210/39)
الطريق إلى الجنة
إن الله سبحانه وتعالى خلق الجنة، وجعلها منزلاً للمؤمنين، ودار حبور وقرار، فالوصول إليها سهل على المؤمن ومتعسر على المفرط، فهي غالية على الكسلان، رخيصة لمن اشتاق إليها وعمل لها، ومفتاحها سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا دخول للجنة إلا من طريقه صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الدرس بيان الطرق التي توصل كل عبد مؤمن إلى جنة رب العالمين، وذكر الأوصاف التي ينبغي للمسلم أن يتحلى بها حتى ينال هذه الجائزة العظيمة.(211/1)
طرق دخول الجنة
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أرسل محمداً عليه الصلاة والسلام فكسر بدعوته ظهور الأكاسرة، وقصر بمبادئه آمال القياصرة الذين طغوا وبغوا حتى أرداهم ظلمهم في الحافرة، والصلاة والسلام على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل صلى الله عليه وسلم من معلم نبيل ومن هادي جليل، صلى الله عليه وسلم على صاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، والصراط الممدود، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سلام من الله عليكم ورحمته وبركاته.
يا مجمع الخير حيوا لي محياه نداء حق من الفصحى سمعناه
وفي الجبيل لقاءات وأمنية مع الشباب الذي قد طاب مسعاه
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
أليس من انتصار الإسلام أن تجتمع هذه الشبيبة لترفع راية الإسلام؟ أليس الإسلام يعلن تفوقه يوم يأتي شباب مخلصون يعيشون رمزاً للصحوة الإسلامية التي أعلنت أن لا إله إلا الله، وأن لا بقاء إلا للا إله إلا الله، ولا عمق ولا أصالة إلا للا إله إلا الله؟(211/2)
حب الله ورسوله وكثرة السجود طريق إلى الجنة
فهذا لقاء مفتوح لكنه تحت مظلة وعنوان (الطريق إلى الجنة) والطريق إلى الجنة سلكه محمد عليه الصلاة والسلام، وبينه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يوم قال له الأعرابي قبل أحد: {يا رسول الله! لا تمنعني دخول الجنة -يقول: لا تمنعني دخول الجنة- فوالله الذي لا إله إلا هو، لأدخلن الجنة، فيتبسم عليه الصلاة والسلام ويقول: بما تدخل الجنة؟ -أي: ما هي مؤهلاتك لدخول الجنة؟ - قال: بخصلتين: بأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: إن تصدق الله، وورد المعركة وقتل شهيداً فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت الله فصدقك الله} وأصبح من أهل الجنة إن شاء الله؛ لأنه صدق الله، وفي صحيح مسلم من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي ذاك الشاب المتوقد إيماناً، الذي يريد الجنة، يقول: {يا رسول الله! أريد مرافقتك في الجنة، فيقول عليه الصلاة والسلام: أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك يا رسول الله! قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود}.
فمن طرق الجنة كثرة السجود.
ومما زادني شرفاً وفخراًً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
ويوم يأتي ثوبان -كما في صحيح مسلم - يروي لنا حديثاً لكنه حديث راقٍ، يقول عليه الصلاة والسلام: {من سجد لله سجدة رفعه الله بها درجة}.
الطريق إلى الجنة لا يعرفه إلا الخواص من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وقد أغلق الله طريق الجنة فلا تفتح بعد رسالته صلى الله عليه وسلم إلا من طريقه، فمن ظن أو وسوست له نفسه أو اعتقد أنه سوف يدخل من طريق غير هذه الطريق، أو يهتدي بغير هدى الله الذي أرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب عظيم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: كل أرض لم تشرق عليها شمس الرسالة فهي أرض ملعونة، وكل قلب لم يهتد بهذا الدين فهو قلب مغضوب عليه.
ولذلك يقول معاذ وكلكم يعرف معاذاً، ذاك الذي عاش العلم والسمو والحب والإيمان والطموح، وكان معاذ أمة وسجلٌ تاريخه حافلٌ بالمكرمات ورفع لا إله إلا الله، رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه، ثم بعثه داعياً بعلم قليل، ولكن علمه طيب مبارك، ذهب إلى أهل اليمن ورفع لا إله إلا الله محمداً رسول الله وترك هناك إسلاماً وإيماناً، وترك مؤمنين ومسلمين وشهداء، جاء في حديث حسن عنه صلى الله عليه وسلم: {معاذ يأتي يوم القيامة برتوة} أي يتقدم العلماء إلى الجنة برمية حجر.(211/3)
عبادة الله وإقامة أركان الإسلام طريق إلى الجنة
جاء في الترمذي بسند حسن، أن معاذاً سرى مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الليل الدامس في آخر الليل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان له ورد من القيام في آخر الليل يناجي فيه ربه، يشكو على ربه ذنوبه وخطاياه وتقصيره وهو سيد الخلق وأعرف الناس بربه ومولاه، والليل عجيب! الليل يحب القرآن والقرآن يحب الليل.
قلت لليل هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار
قال لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار
قال معاذ: {يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة؟ -وفي لفظ صحيح-: دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار} ما أحسن السؤال! دل على اختيارك سؤالك؛ لأن هذا من انبعاث الإيمان وحرارته وشوقه حين يسأل عن طريق الجنة، دلني على عمل إذا عملته، يقربني من الجنة: ويباعدني من النار، هذا سؤال من أعظم الأسئلة والأطروحات التي وردت في كل العالم، ومن أعظم الأسئلة التي وردت في تاريخ البشرية، ومن هو المجيب؟ إنه سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، الدليل الماهر الذي عرف الطريق وما عرف العالم مصلحاً كمثل محمد صلى الله عليه وسلم، عرف ذلك الأعداء قبل الأصدقاء، عرف ذلك الفلاسفة الذين هم أذناب الصابئة المجوس كـ ابن سينا يوم يقول في كتابه الإشارات: ما طرق العالم مصلح كمحمد عليه الصلاة والسلام، ولفظه يقول: ما طرق العالم ناموس كناموس هذه الرسالة.
وهذا أمر معروف، فيجيب صلى الله عليه وسلم على معاذ، هل قال: تدخل الجنة بالمؤهل، أو بالمنصب، أو بالشهادة والمرتقى، أو بالمال والولد؟ لا والله كلها لا تساوي في ميزان الحق ذرة، ويوم يتخلى المال عن الإيمان يصبح تبعةً ولعنةً وغضباً، ويوم يتخلى المنصب عن الإيمان يصبح فرعونياً دكتاتورياً طاغية، ويوم يتخلى الولد عن الإيمان يصبح عذاباً وشقوةً وندامةً، ويوم تتخلى الشهرة عن الإيمان تصبح ملعنةً ومسبةً على رءوس الأشهاد يوم القيامة، ثم إذا تخلى الحب عن الإيمان أصبح حب المعشوقين والمعشوقات، والمغنيين والمغنيات، والفنانين والفنانات، ويوم يتخلى الشعر عن الإيمان يصبح كلاماً مصففاً مزجياً كبضاعة الأخسة الذين طفروا بها وهي في ميزان باطلهم تتردى معهم في جهنم، يوم يحاسب الله المجرمين على كلماتهم، والخبيثين على تصرفاتهم، يحاسب الله عز وجل هؤلاء وأولئك لأنهم جردوا الحب والمنصب والمال والولد عن الإيمان، قال عليه الصلاة والسلام وهو يجيب معاذاً: {لقد سألت عن عظيم} هذا السؤال عظيم، إن بعض الناس يسأل عن تكبيرة الإحرام، أو وضع اليدين، أو سجود السهو، أو المسح على الخفين أو التيمم، لكن العلامة الجهبذ معاذاً سأل عن سؤالٍ خطيرٍ محتواه أمر صعب وهائل وكبير، {لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه} فيا من يسر للصالحين طريقهم! يسر لنا طريقنا، العون والسداد والهداية منك وحدك وما جلسنا -إن شاء الله، ويعلم الله- إلا نريد نوراً وتوفيقاً وهداية من الله سبحانه.
وإذا كان عاقبة مجالسنا واجتماعاتنا هذه غير محمودة فالشكوى إلى الله، والله المستعان.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
إنها تنعكس عليه المقاصد، {لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه} وهذا يسمى (الإجمال في الجواب قبل التفصيل) وهو أسلوب قرآني، ويسمى عند أهل البلاغة: اللف ثم النشر، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه} فما هو اليسير؟ وما هو هذا الجواب؟ وما هو طريق الجنة؟ قال: {تعبد الله عز وجل ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً -ثم قال له صلى الله عليه وسلم وهو يواصل حديثه الشائق الرائق إلى القلوب الوالهة- يقول: ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله} ثم يواصل صلى الله عليه وسلم في طريق الجنة وفي وصفها، قال: {ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة} أي وقاء لك، تجتن به، وتتحصن به من النار، لذلك يقول عمر بن أبي ربيعة:
وكان مجني دون ما كنت أتقي ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
فيقول: إن كنت تريد الجنة والغطاء والساتر عن النار فالصوم، {الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل بجوف الليل ثم تلا عليه الصلاة والسلام {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16]} ثم يقول عليه الصلاة والسلام ليختتم باللف بعد النشر، وبالإجمال بعد التفصيل فيقول: {ألا أدلك على ملاك ذلك كله} أي على ما يجمع لك شتات هذا الموضوع، {قال: بلى يا رسول الله! قال: كف عليك هذا، وأخذ عليه الصلاة والسلام بلسان نفسه، قال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟} إلى اليوم سيد العلماء لا يعرف أن الكلام يسجل في عالم الخطيئات، وأن له حسنات ومثوبات وسيئات وعقوبات، قال: {ثكلتك أمك يا معاذ! -أيخفى عليك هذا والخطايا أكثرها من اللسان- وهل يكب الناس في النار على مناخرهم أو على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم} صلى الله وسلم على صاحب ذاك الجواب.
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا(211/4)
لا يدخل أحد الجنة إلا من طريقه صلى الله عليه وسلم
يا من يريد الجنة! هذا طريق الجنة، الذي وصفه صلى الله عليه وسلم، فإن الجنة مغلقة بعد مبعثه، ولا يدخل إلى الجنة إلا من طريقه صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم فتح للناس المستويات ليدخلوا الجنة من أبوابها الثمانية.
وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا(211/5)
أبواب الجنة الثمانية
جاء في صحيح البخاري في كتاب الجهاد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن للجنة أبواباً ثمانية، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد إلى آخر تلك الأبواب، فيأتي أبو بكر ويقول: يا رسول الله! هل يدعى أحد من كل الأبواب الثمانية؟} يريد أبو بكر أن يدعى من الأبواب جميعاً.
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
هو يريد المركز الأول في الطاعات، إن كان من الذاكرين فهو الأول، ومن المجاهدين فمحل الصدارة، ومن العابدين فهو الجبين، ومن القادة والفاتحين فهو الموجه والسيف الشهير على أعداء الله، فيتبسم صلى الله عليه وسلم ويقول: {نعم.
وأرجو أن تكون منهم}.(211/6)
المسارعة إلى أبواب الجنة ومنها الجهاد
فمن الناس من يدعى من باب واحد على حسب طاعته وتقواه، وعلى حسب سلوكه إلى طريق الجنة، {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] بعض أهل التفوق يعلن تفوقه في عالم الإيمان ويدخل الجنة، تأتيه الشهادة ليدخل من باب الجنة، ولذلك قال غلاة التصوف وأهل التصوف: نحن لا نعبد الله عز وجل طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره! فلماذا تعبدونه ثكلتكم أمهاتكم؟! أتعبدونه زندقةً؟! أم انزواءً؟! أم تلهياً وتلاعباً؟! قالوا: هكذا نعبده حباً، والله عز وجل وصف أولياءه بأنهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، والله يقول لأوليائه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران:133] والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول لأصفيائه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169 - 170] عمير بن الحمام في بدر يأكل التمر ويظن أن هناك وقتاً بين دخول الجنة وبين أكل التمر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغرس شجراً من الإيمان لا تذبل أبداً، خرج على أهل بدر قبل المعركة فقال: {يا أهل بدر! اعملوا ما شئتم فقد غفر الله لكم، والله يا أهل بدر! ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء فتدخلون الجنة، فيقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله! ما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء فأدخل الجنة؟! قال: إي والذي نفسي بيده، فيلقي التمرات من يده، ويخلع الدرع من على جنبيه، ويأخذ غمد سيفه ويكسره على ركبته فيقاتل حتى يقتل}.
وليس على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أعقابنا تقطر الدما
تأخرت استبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
يأتي جعفر بن أبي طالب فيقف في مؤتة، وقد ترك زوجته وماله وأهله وشهرته ومنصبه وباع كل شيء وأتى بروحه إلى الواحد الأحد، والذي يهدي روحه ليس كالذي يهدي عشرة ريالات، الذي يهدي روحه أجود الناس، والذي يسكب دمه أكرم الناس، والذي يقدم نفسه أبذل الناس، فلما رأى الرومَ ونظر إليهم ولكنه تطلع إلى ما بعد الروم وهي الجنة، أخذ الغمد وكسره على ركبته وأخذ يقول في زمجرة المسلم وصولة المؤمن، يوم يمتلئ إيماناً ويقيناً، ويوم يرتفع على الشهوات والملهيات وعلى المعاصي والمخالفات.
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
علي إن لاقيتها ضرابها
وصدق مع الله، وضارب وقطعت يداه، واحتضن الراية وهو لا يزال قوياً ما دام أن فيه ذرة من حياة؛ لأن وقوده من مشكاة محمد عليه الصلاة والسلام، وسقط في الأخير شهيداً ولكنه حي عند الله {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169 - 170].(211/7)
عظماء على فراش الموت(211/8)
قصة خبيب بن عدي
خبيب بن عدي يأخذه الكفار أسيراً، ويدخلونه بيتاً غير مسقوف، وتصهره الشمس ولكن إيمانه يبرده، يأتيه البرد ولكن إيمانه يدفئه، يأتيه الجوع ولكن إيمانه يشبعه، يأتيه الظمأ ولكن إيمانه يرويه، تقول إحدى النساء من اللواتي عشن قريباً من خبيب: رحم الله خبيباً، والله لقد كنت أنظر إليه وقد حصر في مكة في بيت، ما في مكة عنبة واحدة وإن قطاف العنب يأكله خبيب، من أين؟ من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، {أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] وخرج إلى ساحة الإعدام ساعة الصفر في حياة المسلم، يوم يستعلي على كل شيء، ساعة الصدق مع الله، خرج أهل مكة ليقتلوه، وهو ما قتلهم وما سرقهم {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28] لكنه ذنبه أنه رجل يعلن التوحيد، واجتمعوا في جمع حاشد في ضاحية من ضواحي مكة، فقال لهم: أريد أن تمهلوني لأصلي ركعتين، قالوا: صل ركعتين واستعجل، فقام يتوضأ وهو يعرف أن الموت سوف يأتيه بعد ركعتين، فصلى ركعتين ثم سلم ثم قال: [[والله الذي لا إله إلا هو، لولا أن تقولوا: جزع من الموت لطولت صلاتي، ثم قال: اللهم أخبر رسولك ما نلقى الغداة -يعني: أخبره بما يفعلوا بنا هذا اليوم، وفي سيرة موسى بن عقبة: {كان عليه الصلاة والسلام وهو في المدينة وخبيب! في مكة يقول: السلام عليك يا خبيب! السلام عليك يا خبيب! السلام عليك يا خبيب!} -قال: اللهم أبلغ رسولك ما نلقى الغداة، وأخذ يقول للكفار: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، فلما رفعوه إلى مشنقة الموت -هل بكى؟ لا.
لأن الأبطال لا يبكون في ساعة الصفر، هل جزع؟ لا.
لأن الأبطال لا يجزعون ساعة الموت، وهل ندم وتحسر؟ لا.
لأنه يريد هذه الساعة، ويعمل لها، إنه يريد الجنة- قال له أبو سفيان في آخر لحظة: هل تريد أن محمداً مكانك وأنك في أهلك ومالك سليماً معافى؟ قال: والله الذي لا إله إلا هو، ما أريد أني في أهلي سليماً معافى وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصاب بشوكة، ثم أخذ ينشد -هل رأيت شاعراً ينشد عند لحظة الموت؟ إن سمعت شاعراً فهذا هو الشاعر العظيم، شاعر الإيمان والحب والطموح، لا شاعر الفن الرخيص العفن المتخلف، الذي يشعر ليهدم الأمم ويزيل الشعوب ويخرب القلوب- أخذ على المنصة يلقي قصيدته الرائعة المدوية على رءوس الأشهاد لتحفظ في ميزان حسناته يوم القيامة، يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أشلاء شلوٍ ممزع
ثم قتل]]
ولكنه ما قتل! إنه حي عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مع الشهداء إن شاء الله، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:30 - 31] لا يكتشف طريق الجنة عند كثير من الناس إلا في سكرات الموت، وكثير من الناس لا يستفيق من سكاره وخماره إلا في ساعة الموت، تلك الساعة التي يضعف فيها القوي، ويفتقر الغني ويعجز الجبار، ساعة الموت يوم لا تنفع المنعة ولا الدفاع، ساعة الموت الواخزة المؤلمة المحيرة المدهشة.(211/9)
قصة هارون الرشيد
يأتي هارون الرشيد الخليفة العباسي الذي يتحدى السحاب، أرأيت السحاب يتحداها هارون من على شرفات قصره يقول للسحابة: أمطري حيث شئت فإن خراجك سوف يأتيني يصرع في مصرع الموت وينظر إلى جيشه ويبكي وهو يقلب وجهه في التراب ويقول: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه.(211/10)
قصةالمعتصم
وهذا المعتصم الخليفة العسكري الذي دك عمورية بتسعين ألفاً كما قال أبو تمام:
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
فالنصر في شهب الأرماح لامعة بين الخميسين لا بالسبعة الشهب
أتاه الموت وهو لا يزال في شبابه، فقال: أموت اليوم؟ قالوا: تموت اليوم، يظن أنه لا يموت الإنسان إلا بعد السبعين، لكن أفتاه أهل العلم أنه ثبت شرعاً أنه يموت اليوم، فنزل من على سريره ومرغ وجهه وبكى، وقال -وقد ذكر ذلك عبد الحق الإشبيلي في بعض كتبه، قال: والله لو كنت أموت اليوم ما فعلت ما فعلت من المعاصي.(211/11)
قصة عبد الملك بن مروان
وعبد الملك بن مروان المؤسس الحقيقي أو المؤسس الثاني للدولة الأموية حضرته سكرات الموت وأخذ يصارع الموت فتذكر طريق الجنة، ولكن متى؟ في الوقت الضائع، هو مؤمن إن شاء الله، هو مسلم لكن ينبغي على من يكون مثله أن يكون أحسن وأرقى، ليس كفرعون، فرعون تذكر الله في الوقت الضائع، حتى دس في التراب وسحق في الطين وأخذ ينقنق كالضفدع ويقول: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] الآن أنت من المسلمين أيها المجرم؟! في الطين أصبحت مؤمناً موحداً؟ لا.
آلآن، بعد صحائفك السوداء وتاريخك الأغبر؟ والله لا تنجو، أنت من أهل النار، لكن عبد الملك كان يترقب منه أن يكون أحسن وأحسن، قال الذهبي في ترجمته: لما تولى الخلافة في أول يوم فتح المصحف وقرأ فيه قليلاً ثم أطبقه، وقال: هذا آخر العهد بك.
قال الذهبي: اللهم لا تمكر بنا، فلما حضرته سكرات الموت سمع غسالاً يغسل بوادٍ، والمؤمن قد يكون غسالاً ولكنه لا يكون عبداً ولا رقيقاً إلا لله، وبعض الناس قد يكون سلطاناً ولكنه رقيق وعبد وخادم لبطنه وفرجه وحذائه ووظيفته، وكان الغسال يترنم بقصيدة، فقال عبد الملك وهو في سكرات الموت: يا ليتني كنت غسالاً، يا ليتني ما عرفت الحياة، يا ليتني ما توليت الخلافة، سمع سعيد بن المسيب هذه الكلمة ثم قال: الحمد لله الذي جعلهم يفرون وقت الموت إلينا ولا نفر إليهم؛ لأن من عرف طريق الجنة من أول طريقه لا يندم في سكرات الموت.(211/12)
قصة عبد الله بن المبارك
عبد الله بن المبارك العالم الجهبذ المحدث الكبير الزاهد رضي الله عنه أتته سكرات الموت فأخذ يتبسم، أرأيت متبسماً يتبسم للموت؟! لا.
إلا الأخيار الأبرار، يقول المتنبي لـ سيف الدولة يمدحه بأنه يتبسم لكنه يتبسم لدنياه وشهرته:
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
نثرتهمُ فوق الأحيدب نثرة كما نُثرت فوق العروس الدراهم
تبسم عبد الله بن المبارك فقال له الناس: مالك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: لمثل هذا فليعمل العاملون، لمثل هذا فليعمل العاملون، وأقف مع عبد الله بن المبارك قليلاً لأنه من الذين رسموا الطرق إلى الجنة، ومن الذين قادوا موكب صحوة الإسلام إلى الجنة، وعرفوا الناس بطريق الجنة إلى الله تبارك وتعالى.
يسمع بداعي الجهاد في خراسان، فيترك الحرم ويترك مكة ويأخذ بغلته ويركبها، فيقول له الناس: ابق في الحرم، الصلاة الواحدة بمائة ألف صلاة فيما سوى الحرم، قال: لا.
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
خرج وذهب للجهاد وأتته رسالة من الفضيل بن عياض يدعوه أن يعود من الجهاد إلى الحرم المكي فكتب للفضيل على خلف الورقة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
العبادة التي نحن فيها أرقى مما ذقت في الحرم، العبادة يوم يسيل الدم، العبادة يوم نتنفل لله بالركعات في جنح الليل في الظلام البارد الذي يقع كالسكاكين على الجسم، العبادة يوم يقف الإنسان ليحمي حوزة الدين.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
إن كنت تبكي فبكاؤنا من نوع آخر، نحن أجسامنا تسيل دماً وأنت عيناك تسيل دمعاً، والدم أغلى عند العقلاء من الدمع.
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
عبد الله بن المبارك الذي عرف طريق الجنة بالعلم، ولكنه بالعمل والصدق مع الله، خرج حاجاً إلى مكة ومعه قافلة، فكان يمول كل أهل القافلة وينفق عليهم من مال الله الذي آتاه، وإذا بامرأة تخرج من قرية حول الكوفة إلى المزبلة فتأخذ غراباً ميتاً، فيقول لمولاه: اذهب إلى هذه المرأة وسلها، لماذا أخذت الغراب؟ فسألها المولى، فقالت: والله ما لنا من طعام من ثلاثة أيام إلا ما يُلقى في هذه المزبلة، فدمعت عينا عبد الله بن المبارك وأمر بأمواله أن توزع على أهل القرية جميعاً، ثم عاد إلى بلاده ولم يحج، ورأى في المنام قائلاً يقول: حج مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور، رضي الله عنه وأرضاه فقد عرف طريق الجنة.
وكما تعرفون أنه ألف كتاب الزهد، فكان يأتي ليقرأ كتاب الزهد فكأنه بقرة منحورة من خشية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تلميذه الذي يصاحبه في السفر: سرت معه ليلة، فدخلنا إلى غرفة في طريق السفر فانطفأ السراج فذهبنا نبحث عن السراج فلما أتينا بالضوء والسراج وجدناه يبكي، قلنا: مالك؟ قال: تذكرت -والله- القبر بظلمة هذه الغرفة.
والقبر فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءة
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشد ويل لعبد عن سبيل الله صد
فيا من أراد الجنة إن الجنة وصفها وحقيقتها في القرآن والسنة، ويا من أراد أن ينجو يوم القيامة، يوم العرض الأكبر عند الله عز وجل! فاسلك الطريق إلى الجنة، الطريق إلى الجنة التي سلكها الأخيار.
قدم للإمام أحمد اللحم والملذات، لكنها ثمن لدينه ومبدئه الأصيل يوم وقف حصناً لـ أهل السنة والجماعة في فتنة القول بخلق القرآن عند المأمون ولكنه لم يره، بل مات في الطريق وعند المعتصم والواثق، وقالوا: نغدق عليك، ونعطيك، ونوليك، فقال: لا والله، طعام دون طعام، ولباس دون لباس وأيام قلائل حتى نلقى الله، وما ذاك إلا لأنه عرف طريق الله.(211/13)
الجنة ليست خاصة بالرجال
وطريق الجنة ليس للرجال فحسب، إن في الجنة قسم للنساء، وإن الله عز وجل يقول بعد أن ذكر الأولياء والأخيار: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] والرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة الصحيح يقول: {المرأة إذا صلت خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها، دخلت جنة ربها} والمرأة المسلمة هي نصف المجتمع يوم أن تتقي الله في رسالتها، وتعرف أن طريق الجنة لا يمكن أن يتحقق إلا بطاعة الله الواحد الأحد ثم بطاعة زوجها في طاعة الله، ويوم تعرف أن سترها وعفافها ستر الإسلام، وأن صيانتها صيانة لهذا الدين، وأن بقاءها في بيتها نصرة لهذه المبادئ الخالدة، ويوم أن تخجل من الواحد الأحد أن تتبرج أمام الأجانب، وتحفظ زوجها بالغيب فهي حافظة وراعية ومحاسبة على ذلك، ويوم تربي العلماء والأدباء والشهداء والصديقين في بيتها.
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم نبت إن تعاهده الحياء بالري أورق أيما إيراق
فجزى الله الأمهات خير الجزاء يوم يكن حاملات للمبادئ الأصيلة، مصليات عفيفات متقيات للواحد الأحد كـ عائشة وأسماء.
منا الفواطم ربات العلا ولنا كل الزيانب هم أهل وعمات
أسماء بنت أبي بكر نطاقها في الجنة شاهد بأنها كانت عفيفة ووقورة تقدم للإسلام كل ما تملك.
وعائشة أعطاها معاوية بن أبي سفيان مائة ألف درهم فذهبت تتصدق وهي صائمة فتقول لها جاريتها: لماذا لا تبقي لنا درهماً أو درهمين نشتري لك لحماً لتفطرين عليه؟ قالت: نسيت نفسي لو أنك ذكرتيني عائشة رضي الله عنه تبقى في بيته صلى الله عليه وسلم محافظة على العهد، أما ليلها فقيام وأما نهارها فصيام، عائشة كانت تعلم الجيل وتربيه وهذه هي قدوتك أيتها الأخت المسلمة، وهي معلمتك في الحياة يوم تريدين الجنة ولقاء الله.(211/14)
صفات الداعي إلى الجنة
إن من أراد أن يدل على الجنة فعليه بأمور:(211/15)
أن يكون دليله الكتاب والسنة
أولها: أن يكون دليله في هذا: كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(211/16)
أن يصاحبه اللين والرفق
الأمر الثاني: أن يكون ليناً في دلالته، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] يقول الله للداعية الكبير الذي ما طرق الدنيا داعية مثله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ويقول: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم} [الأنفال:63] أرأيت أكبر من فرعون طاغية في الدنيا؟ أسمعت أكبر من فرعون مجرماً في المعمورة؟ لا.
أرسل الله له موسى، فأوصى الله موسى وهارون وهما في الطريق ذاهبان إلى ذاك الطاغية، فقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
إننا يوم ندعو الناس رجالاً وإناثا، كباراً وصغاراً، رؤساء ومرؤوسين إلى طريق الجنة لابد أن ندلهم على طريق الجنة ونحن رحماء ولينين وسهلين كقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح لما أرسل أبا موسى ومعاذاً: {بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا} إن الدليل الماهر لا ينفر القلوب، والموجه لا يخدش الكرامات، والداعية لا يجرح الشعور، إنه يدل على الجنة لكن بإيمان وحب وطموح، فقال الله لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] احذرا أن تجرحا شعوره، احذرا أن تغضبا هذا المجرم فتأخذه العزة بالإثم فيكفر.
وفي تفسير ابن كثير عن سفيان الثوري، العالم الجهبذ يقول: [[أتدرون ما هو القول اللين؟ قالوا: لا.
قال: يأمره الله أن يكني فرعون، أن يدعوه بالكنية، أن يقول: يا أبا مرة]] قال أهل التفسير: كنية فرعون أبو مرة -مرر الله وجهه في النار- فدخل موسى يقول: يا أبا مرة! ندعوك إلى طاعة الله، إن الله سوف يبقي عليك شبابك وملكك وصحتك، يا أبا مرة! إننا نعرض عليك الرسالة الخالدة ونحو هذا الكلام، والكنية تكسب المدعو قيمة وحفظاً وجاهاً.
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب
كذاك أدبت حتى صار من خلقي أني وجدت ملاك الشيمة الأدب
فالمقصود: أن على من دل على طريق الجنة أن يكون ليناً، ولقد مني الإسلام في بعض جوانبه بشيء من الصلف في الدعوة والعنف في التوجيه، والشدة والغلظة في التربية، يوم يأت الداعية فينظر إلى نفسه أنه طاهر عفيف، وأن الناس مذنبون فيتهكم بهم، ويريد أن يحولهم في نصف ساعة إلى أن يصبحوا في درجة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، يوم يقوِّم الدنيا ويقعدها على مسائل سهلة لا يتدرج فيها، إنه قد أخطأ في ذلك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الداعية أن يتدرج، وقد أرسل معاذاً إلى اليمن فكلمه عن نوعية الناس الذين سيرسل إليهم تمهيداً له فقال: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله فإن هم أجابوك لذلك -لم يحشر عليه المسألة الثانية لكن- فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة} والرسول عليه الصلاة والسلام حين أتى إلى الأمة العربية، إلى أمة العنف، أمة لا حضارة تربطها، ولا ثقافة تؤسس مبادئها، ولا معرفة تنظر مسيرتها، أمة مبعثرة، قبيلة تطحن قبيلة وأخرى تلعن أخرى، فأتى صلى الله عليه وسلم بالحب، فيتبسم صلى الله عليه وسلم لعدوه اللدود فيكسب قلبه، وابن عمه الذي أخرجه وحاربه يقول له: عفى الله عنك، وقريش التي أخرجته وحاربته يقول: {اذهبوا فأنتم الطلقاء} قال الله عز وجل: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] كيف ألفت بين قلوبهم؟ إنه اللين والسهولة، والمودة والقرب {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
أيها الإخوة: إن هذه الجلسة كانت لقاء مفتوحاً، لكن أكتفي بذلك لأدع وقتاً للإجابة على الأسئلة ما يكون فيها إن شاء الله عوضاً على ما بقي من حديث، ولكن هذه كالتقدمة والديباجة أمام هذا الجيل السائر إلى الله الواحد الأحد، السائر إلى الجنة بإذنه تعالى، المتطلع إلى رضوانه تعالى، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
شكر الله لكم وأثابكم، وجمعنا بكم في دار الكرامة، يوم يتقبل الله منا -إن شاء الله- أحسن ما عملنا ويتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
هينون لينون أيسار بنو يسر صيد بهاليل حفاظون للجار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(211/17)
الأسئلة(211/18)
كيفية مواجهة الحرب على الإسلام
السؤال
كيف يواجه شباب الإسلام موجة الكفر التي كادت أن تأتي على الأخضر واليابس عن طريق العري والتفسخ؟
الجواب
هذا السؤال مرَّ جوابه في كلية الملك فهد البحرية، وورد مثل هذا السؤال وكانت إجابته -لئلا يتكرر- أن الحرب التي وجهت ضد الإسلام والمسلمين حرب ذات شقين: حرب الإلحاد وهو: مرض الشبهات، وحرب الشهوات، أما حرب الإلحاد فأول من ألحد في الأرض إبليس مروراً بفرعون بـ أبي جهل إلى أن تنتهي إلى كل ملحد رعديد من استالين ولينين وماركس، وحرب الإلحاد هذه أخذت الأخضر واليابس، وهو حرب الشبهات في العقائد، وقد بين كثير من العلماء كـ ابن القيم أن هذا المرض هو أخطر مرض في حياة الإنسان، مرض الشبهات يأتي بالتشكيك، ويأتي بمركب الحداثة، والاستهزاء بالقيم وبالإسلام، وبدين الله الخالد، من الذي أنتج هذا اللفيف من الإلحاد في الساحة؟ إنه مرض الشبهات الذي ورد، فالشاعر الذي يكفر بالله تعالى ويسمي بعض الناس أنه إله من دون الله، هذا من مرض الإلحاد الذي انتشر في الساحة، والمسلم الذي يدعي الإسلام ويشرب ماءنا ويسير على أرضنا، ولكن إذا كتب ترك الإيمان في بيته، وإذا تكلم خلع الإيمان من على عاتقه، وإذا تحدث حارب الإيمان، هذا مركب الإلحاد.
وأما مرض الشهوات فمرض خطير لكنه ليس في الدرجة كمرض الشبهات، إنه مرض المعاصي، وقد قدمته الرأسمالية - أوروبا - لما أخفقت الحروب الصليبية قدمته في الكأس والمرأة المتبرجة الخليعة والمجلة الماجنة، قدمت هذا المرض للشبيبة في هذا، حين يعزف على آذان الشباب بالأغنية الماجنة ينسى الله، وحين تدخل عليه المجلة والمرأة الخليعة ينسى الله، وحين يجعل مكان المصحف وكتب الحديث المجلة الخليعة ينسى الله، وحين يقدم له الكأس ينتهي قلبه ويقسو فلا يعرف الله.
وأما بالنسبة لكيفية حل هاتين المصيبتين: فبالنسبة لمرض الشبهات فحله باليقين، وأما مرض الشهوات فحله بالصبر قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] قيل لـ ابن تيمية: بما تنال الإمامة في الدين؟ قال: بالصبر واليقين، فأنا أدعو إلى اليقين، والتفكر، وكثرة قراءة القرآن، والنوافل، والذكر، وحضور مجالس الخير، وحضور الدروس الإسلامية، والتبتل إلى الواحد الأحد، هذا علاج -بإذن الله- لمرض الشبهات، أما مرض الشهوات، فالصبر ومراقبة الله في السر والعلن، كذلك الدعاء أن يثبتك على المسيرة وعلى الحق والخير حتى تلقاه.(211/19)
فضل الصحبة ومنزلة الصحابة
السؤال
إذا خاطبت الناس عن الرجوع إلى الله واستشهدت بحياة الصحابة، قالوا: هم تفرغوا وليس لهم إلا الدين ونشره، وليست لهم أعمال فهم متفرغون لذلك حتى بلغوا هذه المنزلة، وأما نحن فلنا أعمال ومشاغل كثيرة، فكيف نرد على أمثال هؤلاء؟
الجواب
أولاً: اعلم أنه لا نجاة ولا سعادة ولا فلاح إلا باتباع ما سلكه أولئك القوم {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] ثم اعلم أنه لن يوجد مجتمع متكامل في الأرض ولن يوجد ولن يتكرر كمجتمع الصحابة، جيل اختاره الله عز وجل، جيل متكامل، جيل قرآني فريد لحمل راية لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم اعلم أن فضل الصحبة درجة عالية لا يمكن أن تدركها أنت ولا أنا، فإنه لو أنفق أحدنا كـ أحد ذهباً وفضة ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، ولكن للعامل الصابر في آخر الزمن أجر خمسين من الصحابة، أما فضل الصحبة فلا يرتقي إليها أبداً.
ثم اعلم أنه لا يطلب منك أن تكون كـ أبي بكر في بذله، فهيهات!
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
فلن تستطيع ذلك فأرح نفسك، ولكن كما قال أنس أن رجلاً قال: {يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: ماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت قال أنس: فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر ولم أعمل بعملهم} فاعلم أنك لن تبلغ ذاك المستوى، لكن عليك بحبهم والتسديد والمقاربة كما قال الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
رابعاً: اعلم أنه إذا كان لديك شيء يشغلك عن طاعة الله، وتعتذر به أنك لن تبلغ ما فعله الصحابة من الفرائض، أقول: فهو شؤم عليك ونكبة وحسرة وندامة، والذي يقول: نحن لا نستطيع أن نقيم الفرائض في هذا العصر فاعرف أنه قد دخل قلبه إلحاد وزندقة وكفر، فإن الفرائض هي الخط الدفاعي الأخير ضد الكفر، ومن ترك الآداب عاقبه الله بترك النوافل، ومن ترك النوافل عاقبه الله بترك الفرائض، ومن ترك الفرائض ابتلاه الله بالكفر.(211/20)
حسن معاملة الزوجات
السؤال
ما هي دعوة الشيخ للشباب في معاملة زوجاتهم؟
الجواب
أنا أدعو كل أخٍ أن يتدبر سيرته صلى الله عليه وسلم في الحياة الزوجية، فهو صلى الله عليه وسلم الكامل في بيته ومجتمعه، الكامل في خطابته وإدارته، الكامل في جهاده وسياسته واقتصاده، الكامل في كل منحى من مناحي الحياة، وفي جانب المعاملة مع النساء قال في عرفات: {الله الله في النساء فإنهن عوان عندكم} ويقول في سنن أبي داود: {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي} فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعيش مع المرأة، فعاش معها زوجاً وأباً وأخاً، تقول عائشة وهي تذكر تلك الذكريات مع المصطفى عليه الصلاة والسلام، يوم كانت أحلى حياتها وساعاتها أن تعيش بجانبه صلى الله عليه وسلم، فعند أن توفي عليه الصلاة والسلام فقدت ذاك الضوء لكن على أمل أن تلقاه في الجنة لأنها زوجته في الجنة.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم وما جفت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
مع مشاكل الدعوة ومع الأحداث التي مر بها صلى الله عليه وسلم: أحداث تغيير الكون، وأحداث الفتوح، والجهاد، وأحداث الرد على اليهود والنصارى والمنافقين والمشركين {سُئلت عائشة رضي الله عنها كيف كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليكم؟ قالت: كان ضحاكاً بسَّاماً} يأتي صلى الله عليه وسلم فيداعبها كما في كتاب الأدب من صحيح البخاري ويقول: {إني لأعلم رضاكِ من غضبكِ، قالت: بماذا؟ قال: إذا رضيت قلتِ: لا ورب محمد، وإذا غضبتِ قلتِ: لا ورب إبراهيم، فتقول الذكية اللماعة: والله ما أهجر إلا اسمك} وفي صحيح البخاري تقول: {يا رسول الله! أإذا نزلت أرضاً ووجدت شجرتين شجرة أكل منها وشجرة لم يؤكل منها في أي الشجرتين ترعى؟ -أي: غنمك وبهائمك- قال: في التي لم يؤكل منها ثم يتبسم عليه الصلاة والسلام} لأنها هي بكر وما سواها من شريكاتها في الحياة ثيبات، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبقى معها أنيساً قريباً من قلبها يعرف أن المرأة ناقصة عقل ودين، ولكنها تدخل الجنة وتربي الرجال، وتنتج العلماء، لأن بعض المتحدثين كان يتكلم في الشرق الأوسط وليست الجريدة لكن يتكلم في مجمع ويقول للناس: إنهن ناقصات عقل ودين، فقامت امرأة وقالت: كيف تقول: نحن ناقصات عقل ودين ومنا الطبيبة والمهندسة والوزيرة؟ قال: أنا أذكر الحديث في عهده صلى الله عليه وسلم فإنه يقول في نسائه: ناقصات عقل ودين ونساء الصحابة، أما أنتن فلا عقل ولا دين، فقامت مرة ثانية -وكانت سمينة بدينة- وقالت: كيف لا ترفق بنا في الخطاب والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {رفقاً بالقوارير} قال: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {رفقاً بالقوارير} ولم يقل: رفقاً بالبراميل! أما نحن فإننا لا نزال نرفق بهن ونعتقد أن المرأة نصف المجتمع، ونعتقد إكرامها وأدبها وصونها وحشمتها، ونعتقد اعتقاداً جازماً أن حياتها أن تكون في بيتها مربية، ولكنني أطلب من الإخوة من كان له زوجة أو قريبة أن يتقي الله فيها وأن يأخذ بناصيتها وأن يراعي ضعفها، وأن يدلها على طريق الجنة.(211/21)
كلمة موجهة إلى أولياء أمور الأطفال
السؤال
انتشر في الوقت الحاضر إحضار الأطفال إلى المساجد؛ مما يؤدي إلى إزعاج المصلين، نرجو منك نصيحة في ذلك؟
الجواب
انتشر بين العوام حديث: {جنبوا مساجدكم صبيانكم} وهذا لا يصح، والرسول صلى الله عليه وسلم أحضر كثيراً من الصبيان إلى المسجد، ففي الصحيحين من حديث أبي قتادة {أنه صلى الله عليه وسلم كان يحمل أمامة بنت زينب ويصلي فكان إذا سجد وضعها وإذا قام رفعها} ذاك المعلم الكبير صلى الله عليه وسلم، فقضية إلغاء حضور الأطفال إلى المساجد ليست واردة، وحديث أبي بصرة عند النسائي قال: {صلى بنا صلى الله عليه وسلم إما صلاة الظهر أو صلاة العصر فلما سلم قال: أيها الناس: لعلي أطلت عليكم} يعتذر في السجود، وبعض الناس يطول في الناس حتى يقرءون السور، والتحيات وهم وقوف ويسبحون ويستغفرون ويتوبون كأنها صلاة الكسوف ثم إذا قالوا: أطلت قال: أنتم لا تعرفون الإسلام، فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يعتذر من تطويل سجدة واحدة ويقول: {لعلي أطلت عليكم، إن ابني هذا ارتحلني آنفاً فكرهت أن أوذيه فمكثت حتى نزل} يا للطف حتى في الفرائض! {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
لكن الأمر إذا انتقل إلى أن يحول المسجد إلى روضة أطفال أو ملعب كرة فهذا حرام، لأن هذا مسجد فيه خشوع ودموع وابتهال وقربى وزلفى من الله، أما أن يأتي الأطفال كلما أعجز امرأةً طفلها وآذاها في كسر الفناجين وفي تخريب العملة نقلته إلى المسجد فنقول: لا والله، اتق الله في مساجد المسلمين، عليكِ بابنكِ وعليكَ أنتَ بابنك واحفظه في بيتك، ومع ذلك نقول: الأطفال ليسوا سواء، بعض الأطفال يكون عاقلاً لبيباً أريباً كـ الحسن كان في الخامسة من عمره يحفظ الأحاديث، وكبعض الشباب تراه متوقداً بالنور، وعمره في العشر السنوات أو السبع والثمان وهو أزكى وأعرف وأعلم بالله من الذين في الخمسين.(211/22)
نصيحة إلى بائع الأفلام الخليعة
السؤال
أنا شاب وقد قمت بفتح محل للفيديو وخسرت حوالي نصف مليون ريال، والسؤال ما هي حقيقة مكسبي علماً بأني أبيع جميع الأفلام؟
الجواب
أولاً يا أخي! اتق الله في أمة محمد عليه الصلاة والسلام، اتق الله في هذا الدين، واتق الله في هذه المبادئ الخالدة، ما وجدت من تحاربه إلا الإسلام، ليتك ضررت بأعداء الإسلام أو بغير هذا الدين، وأنا أحمله على الفيديو المعروف الذي يؤذي، فيديو الخلاعة والمجون ليس الذي يستخدم في الخير، أنا فهمت من السؤال هذا، فإذا فعلت ذلك فاتق الله -يا أخي- أن تكون حرباً لله يوم القيامة، أن يوقفك الله على رءوس الأشهاد ويسألك: لماذا أضللت كثيراً من الناس؟ لماذا خربت البيوت؟ لماذا أدخلت الهدم والتدمير في بيوت أمة محمد عليه الصلاة والسلام؟ أنت يا أخي! المسئول عن كل فلم سيئ قبيح متبذل، فيه فحش ومجون تهدم به آلاف الأسر، وآلاف الأطفال، وآلاف البنات أنت المسئول، أتشارك الصهيونية العالمية وهي لم تقصر لا سلم الله رأسها في هدم الإسلام؟ أتشارك الرأسمالية والعلمانية والشيوعية في هدم هذا الدين وأنت من الذين تغذوا بغذاء لا إله إلا الله، وشربوا ماء لا إله إلا الله، وسروا على أرض لا إله إلا الله؟ أنا أقول: أناديك هذه الليلة وأشهد الله أنني أخبرتك أن تتقي الله في أمة محمد، وأن يتقيها كل صاحب مجلة وصحيفة وتسجيل وفيديو، أن يتقوا الله في الأمة المحمدية، وحربهم لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والله إذا أخذ الظالم لم يفلته، وأظلم ظالم من حارب هذا الدين، وأما خسارتك فاجعلها كفارة وليت كل خسارة مثلها ما أبردها على قلوبنا، فاعتبر أن هذه كفارة وعليك أن تتوب وتعود إلى الله، وأما المال الذي بقي من هذا فحوله إلى الخير، وشارك به في رفع راية لا إله إلا الله وفي الدعوة وفتح مكان ينفع الإسلام والمسلمين، وفي إفادة ونفع المجاهدين، وفي طبع كتب إسلامية، وشراء أشرطة إسلامية وتوزيعها على المسلمين، حينها تكون إن شاء الله مكفراً لذنوبك وسوف يتجاوز الله عنك {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].(211/23)
الإسلام ودور العلماء والدعاة
السؤال
نقرأ في بعض صحفنا المحلية والمجلات كتابات وأشعار تمس بكرامة الإسلام والمسلمين، فهل يقتصر دور العلماء على الزجر أم أن عليهم واجب أكبر من هذا، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
هذا يقال في مناسبات كثيرة أن الواجب على العلماء والدعاة لم يكتمل ولم يقوموا به حق القيام، قضية أن يجلس العالم أو الداعية في بيته، ويقول: حلال أو حرام، كلما سئل عن مسألة أفتى، الدعوة شيء والفتيا شيء آخر، وهذه المجالات إذا تركت فإن أهل الإجرام لا يتركونها، وأهل النية السيئة لا يتركونها؛ لأن الخير يوم ينزوي يأتي الباطل، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من سننه الكونية والخلقية والأمرية الشرعية أن جعل الخير يصارع الشر {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] إذا علم هذا فإننا لا يكفي أن نقول: الحداثة حرام أو لا يجوز، نسأل الله أن يدمرهم تدميراً، الدعاء وراد، لكننا إذا تركناهم يكتبون كتبوا، وإذا أخلينا لهم الساحة فرخوا وباضوا وهذا هو المعروف، فواجب العلماء والأخيار والدعاة أن كلاً يعرف مشربه وتخصصه وأن ينفع الإسلام بهذا الأمر.
نحن لا نقول لكل عالم: لابد أن تكون صحفياً؛ لأن العالم إذا أتى من المغني ومن المحلى لـ ابن حزم ليكتب في الصحافة لا يعرف، ونحن لا نقول كذلك لخطيب الجمعة أن تكون أديباً فهو يستطيع الخطابة لكن لا يستطيع أن يكون أديباً، فنقول: على المسلمين أن يصنفوا دعاتهم وأن يكون الصحفي مسلماً مؤمناً، وأن يكون الأديب مسلماً مؤمناً، وأن يكون صاحب المسرح مسلماً مؤمناً، والناثر الشاعر مسلماً مؤمناً، فواجبنا مقصرون فيه تماماً، وإلا فصحفنا وولاة الأمور عندنا ينادون بالإسلام ويدعون لتحكيم دين الله عز وجل، وهم يتحرون من يأخذ هذه المجالات ومن يأتي إلى الساحة ليكتب، ولكن يوم تركناها أتى أهل الباطل يكتبون ولذلك أدموا مقلة الإسلام، وأبكوا عينه وجرحوا كبده.(211/24)
حكم الصلاة في البيت بدون عذر
السؤال
أنا شاب لا أصلي في المسجد، وذلك بدون عذر فما الحكم؟ وهل صلاتي مقبولة؟
الجواب
لا أدري كيف فتح الله عليك حتى تركت الصلاة في المسجد بلا عذر، وما هو عذرك؟ هذا يحتاج إلا أن تراجع نفسك مع الله عز وجل، وتراجع إيمانك؛ فإنه أصابك باقة من النفاق دخلت إلى صميم قلبك، يقول ابن مسعود رضي الله عنه كما في صحيح مسلم: [[إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فرض لكم سنن الهدى، وإن الصلاة من سنن الهدى، ولقد رأيتنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل فيهادى به بين الرجلين حتى يقام في الصف]] فأي عذر لك؟! وإنما عذرك هو مرض خطير دب إلى قلبك وهو النفاق، فعليك أن تتقي الله وتدعوه أن يزيله من قلبك، فمن تخلف عن الجماعة بلا عذر فهو منافق، والحديث الذي في الترمذي في سنده نظر: {من رأيتموه يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان} وأحاديث أخرى لو اجتمعت لكونت قاعدة وهي:
إن من علامة إيمان المؤمن المحافظة على الصلوات الخمس.
سبحان الله! وجد عند طبقة من السلف كـ عامر بن عبد الله بن الزبير كان يقول كل صباح: [[اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، قالوا: ما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني الله وأنا ساجد]] وحضرته سكرات الموت، وأذن لصلاة المغرب فقال لأبنائه وهو في سياق الموت: احملوني إلى المسجد لأصلي، قالوا: عذرك الله أنت في مرض وفي سكرات الموت، قال: أسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح ثم أموت وولا أحضر المسجد لا والله -كان من العباد الكبار كما ذكره ابن الجوزي والذهبي - فحملوه على الأكتاف، فلما صلى صلاة المغرب علم الله صدقه وإخلاصه سجد السجدة الأخيرة فقبض الله روحه وهو ساجد، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] محمد إقبال يصف الشبيبة الإسلامية الجيل الأول الذين رفعوا لا إله إلا الله يقول فيهم: إنهم إذا حضرت المعركة وأقيمت الصلاة تركوا كل شيء حتى العدو وهو صاف لهم، وأتوا إلى الصلاة يقول:
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
هذه هي الأمة الخالدة التي رفعت لا إله إلا الله.(211/25)
حكم بيع النقود والصرف بالنقود
السؤال
بما أن العملة الورقية وضعت محل النقدين وأصبحت تزيد قيمتها وتنقص، وكأنها سلعة تجارية يجري عليها البيع أو الشراء، فمثلاً: إذا انخفض الدولار أو الفرنك سارع التجار إلى شرائه، فإذا ارتفعت قيمته باعوه ليربحوا فيه أليس هذا ضرب من الربا أرجو التوضيح؟
الجواب
هذه المسألة وغيرها من المسائل المصرفية ومن مسائل النقود، بيع النقود والصرف بالنقود وقبض السندات في الحال أو تأجيلها، هي ثلاث مسائل كلها لخلافيتها وعدم الوصول إلى قول ضابط فيها لا أتكلم فيها في هذه الجلسة، أنا أترك الحديث لأهل العلم من الذين يجتمعون على هذه المسائل، وأحيلكم إلى بعض البحوث التي تجدونها في مجلة البحوث تجدون فيها كل ما تتساءلون فيه في هذا الباب؛ لأن ضبط هذه المسألة لا بد لها من تقعيد، ثم تأصيل ثم بحث على روية؛ لأن هذه المسألة يتفرع منها عدة مسائل: مسألة السند بالسند، ومسألة الصرف بعملة أخرى، ومسألة تأجيل السند عن استلامه في فترة، ومسألة: هل الأسانيد تقوم بالزيادة كقوله صلى الله عليه وسلم: {يداً بيد مثلاً بمثل أو سواء بسواء} أم أن هذه تغطي رصيداً لها من الذهب فلا تعتبر إلا أسانيد ورقية؟ أنا لا أتكلم في هذه القضية لسعتها لكن أحيلكم إلى مجلة البحوث.(211/26)
حقيقة الزهد في الدنيا
السؤال
نرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا الطريق إلى الزهد في هذه الحياة من جميع النواحي، خاصة سكان الجبال وأنت تعلم مساكنهم؟
الجواب
سكان الجبال وغيرهم يطلب منهم الإعراض عن الحياة الدنيا، وأخذ الدنيا طريقاً إلى الله عز وجل، وأحسن من عرف الزهد في الإسلام فيما أعرف ابن تيمية يقول: الزهد ترك ما لا ينفعك في الآخرة.
أما ما ينفعك في الآخرة فليس تركه من الزهد، والزهد -أيها الإخوة- إنما مدحه الله عز وجل وأثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم كما في سنن ابن ماجة بسند حسن من حديث سهل بن سعد لما جاء رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟ قال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس} وعند البخاري من حديث ابن عمر قال: {أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، وقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} إذا علم هذا، فأحسن الزهد أن تترك كل ما يشغلك عن طاعة الله عز وجل، وكل شيء يشغلك أو يدخل العجب والزهو عليك أو يؤخرك عن الطاعة فاتركه، أما ما يعينك على طاعة الله عز وجل فتركه ليس من الزهد، فمثلاً إنسان عنده سيارة توصله إلى متطلباته، وتقضي له أعماله، وتخفف عليه الذهاب والإياب فإن تركها ليس من الزهد، بل بقاؤها عون له على طاعة الله، أو مثلاً إنسان عنده بيت وسيع يستقبل إخوانه وأرحامه وضيوفه وأقاربه فتركه والتخلي عنه ليس من الزهد، أو رجل يلبس لباس الجمال يريد بذلك إظهار قوة الدين، وروعة وجمال الدين، وإظهار نعمة الله عز وجل فإنه في الحديث الحسن: {إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده} إذاً ليس ترك ذلك من الزهد، فأنت تترك ما يشغلك عن طاعة الله، وبعضهم -كما فعل الغزالي - قسم الزهد إلى ثلاثة أقسام: زهد العوام، وزهد الخواص، وزهد خواص الخواص، فهذا التقسيم من كيس الغزالي، زهد العوام يقول: في الحرام، وزهد الخواص في المباحات، وزهد خواص الخواص في كل شيء إلا في قدر ما يقوت العبد أو كلام يشبه هذا، لكن الأحاديث تبين أن كل ما يشغلك فاتركه واستعن بكل ما يقربك من الله عز وجل.(211/27)
حكم لعبة البلوت
السؤال
ما حكم لعبة البلوت أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
هذه اللعبة وغيرها من اللعب لابد من جواب منضبط عام؛ لتندرج في هذه القاعدة هي وأمثالها من اللعب، ويلاحظ في الحكم الضرر والفائدة، أو المفسدة والمصلحة، وأي شيء يكون فيه قمار محرم، فإنه ولو كان فيها فائدة وأي لعبة يكون فيها هذا الأمر فهي محرمة بنص الكتاب.
ويلاحظ كذلك في اللعب قضية الصلاة وتأخيرها عن أوقاتها، كما ذم الله عز وجل اللاعبين المتهاونين بالصلاة، فإذا أخرت عن الصلاة كانت محرمة، هذه ناحية، وإذا وجدت في لعبة تسبب في تأخير الصلاة فهي محرمة.
ناحية ثالثة: إذا أوجدت البغضاء بين المتلاعبين؛ لأنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر في الخمر أنها توجد البغضاء بين الأحبة والإخوان فهذه -أيضاً- محرمة.
ناحية رابعة: إذا شغلت عن طاعة أعظم منها، كذكر وتلاوة قرآن، فهي محرمة.
هذه الأمور الأربعة لابد من النظر فيها للحكم على أي لعبة من اللعب، لتكون ضابطة للعب الموجودة، فإذا حدث شيء من هذه الأربع أو الأربع جميعاً فاعرف أنها محرمة، أما إذا خلت منها وكانت في وقت ليس فيه إلا متعه أو ارتياح للقلب وخلت عن محرم فلا بأس بها إن شاء الله.(211/28)
حكم التبرع بالأعضاء بعد الموت
السؤال
ما حكم التبرع بالأعضاء بعد الموت؟ وهل يعوض عنها المسلم أو يستطيع أن يؤخذ منه بعد الموت؟
الجواب
أما الجواب في هذا السؤال فأقول: أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، هذه الأعضاء وما ورد فيها تحتاج إلى بحث وما عندي فيها حصيلة؛ لأنها لم ترد كما تعرفون عند السلف وليست فيها نصوص، ومن يتكلم يتكلم بالاجتهاد وباب الاجتهاد غير منضبط ومفتوح، ولو تكلمت فيها جاء أحد الإخوة وتكلم في الليلة الثانية وحرم والثالث يحلل، فأنا لا أقول فيها شيئاً حتى تنجلي وتتضح، ويكشف الله غطاها، ولابد فيها من اجتماع أهل الفقه في العالم الإسلامي لتقرير هذه المسألة، ومؤتمرات الفقه في العالم الإسلامي تجتمع لمثل هذه المسائل، ما تجتمع لسجود السهو ولا لوضع اليدين على الصدر فهذه معروفة بالنصوص، لكن تجتمع لمسائل عصرية لا يظهر حكمها كمثل: أطفال الأنابيب، وبيع الأعضاء وغيرها من المسائل التي جدت على المسلمين، أما لو تكلمت قد يجمع في المؤتمر على غير ما تكلمت في المؤتمر، أو يأتي داعية آخر فيخالف قولي، فهي أمر لا تنضبط ولابد لها من قواعد يجتمع لها الفقهاء في العالم.(211/29)
معاملة الكفار وفق الشرع
السؤال
يوجد معنا في العمل معرضين وغير مسلمين كيف نعاملهم؟
الجواب
أرى أن تعاملهم معاملة غير المسلمين، الحسن مطلوب، قال الله لبني إسرائيل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] أي: البسمة واللطف في الكلام كمن صنع لك معروفاً تقول له: شكراً ومن هذا الكلام، لا يعني أنك مسلم وهو كافر أن تدخل عليه مغضباً وتخرج مغضباً وأن تلعنه في الصباح وفي المساء وتدعو عليه، هذا ليس أمر، الرسول صلى الله عليه وسلم عامل اليهود بالتي هي أحسن، والنصارى بالتي هي أحسن، لكن هناك أمور ضبطها العلماء ولابد أن تأخذ منها موقفاً:
منها: أن تشعره بعزتك أنك مسلم، ولا تأتي إلى عدو الله الخواجة الذي هو أنجس من الكلب والخنزير وترفعه إلى درجة حتى توهمه أنه أفضل من المسلمين، أو يأتي في مراجعة فتقدمه على المسلمين المصلين الساجدين الراكعين، أو يأتي في أمر فتقدمه في الطابور على الناس، أو تجلسه وتترك الناس المسلمين واقفين، فهذه من الإهانة لدين الله عز وجل، وهذا من الجرح في صميم الإسلام، وهدم للإسلام، لابد أن تشعره أنه كافر، لكن لا يحملك هذا إلى أن تتعدى على شخصيته وتجرح شعوره، ثم إنك لا تجعله خدناً لك وصاحباً تزوره ويزورك، وتأنس به ويأنس بك، لا.
قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} [المجادلة:22] ما دام حاد الله فلا تحمل له مودة وإنما تتعامل معه بحسن المعاملة وتسمى مصاحبة عمل أو طريق كما فعل ابن مسعود مع أحد اليهود صاحبه فأحسن إليه، فلما تفرقا نظر إليه ابن مسعود وودعه، فقال له الناس: مالك؟ أما تعرف أنه يهودي؟ قال: أعرف ولكن الله يقول: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] هذا وارد، فلا بد من إشعاره بعزة الإسلام وإشعاره أنه الأقل، ولكنك لا تتخذه خدناً ولا صاحباً وهذه المعاملة تكون على هذه الضوابط.(211/30)
بيان عقيدة بعض الفلاسفة
السؤال
نرجو أن تبين لنا عقيدة كل من هؤلاء: (الرازي
وابن سينا، أبو حيان وابن البيطار وجمال الدين الأفغاني،)؟
الجواب
فخر الدين أبو بكر الرازي صاحب التفسير، إن كان يقصده هذا الأخ السائل لا يقصد الطبيب الثاني، وابن تيمية رد على المفسر ولم يرد على الطبيب، ولكن للفائدة هذا المفسر الرازي ظهر من كلامه أنه أشعري بلا شك، والعجيب من ذلك أنه يميل إلى الاعتزاليات كثيراً، وقد قدم العقل على النقل، ولذلك رد عليه شيخ الإسلام الجهبذ ابن تيمية بكتاب: درء تعارض العقل والنقل فأتى بنيانه من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم، ولذلك يقول الرازي: الدليل النقلي والعقلي إذا تطابقا فإما أن نجمع بين النقيضين وهذا محال وإما تكذيبهما وهذا محال ولم يبق إلا أن نقدم العقل، فأتى ابن تيمية فرد عليه، والرازي هذا له تفسير والذي نعتقده أنه مسلم إن شاء الله، وعنده علم حتى في الفلسفة ولذلك يقول الشاعر:
كذب الذي بـ أبي علي قاسه هيهات يبلغ مستواه أبو علي
وأبو علي: هو ابن سينا يقول: إن الرازي أعظم وأذكى من ابن سينا.
وله تفسير جيد يقولون: فيه كل شيء إلا التفسير، أتى بالكيمياء والفيزياء والهندسة والطب وكل العلوم حتى الجغرافيا إلا التفسير فسلم منه كتابه، ولكن ليس هذا بصحيح، قال بعض الكتبة: ليس بصحيح بل وجد فيه تفسير كثير، أما الأحاديث الموضوعة فحدث ولا حرج كلها من مسند الفردوس، حتى يأتي يقول: تكور الشمس والقمر كالثورين وتسقط في النار، حديث صحيح، من أين صححته سامحك الله؟ والرازي قليل البضاعة في الحديث ولا يؤخذ بتوثيقه ومعتقده يسمي أهل السنة أحياناً بالحشوية وهو لم يكمل تفسيره.
أما الطبيب الفيلسوف فنقلت عنه كلمات والله حسيبه، لكن ليس له دور في العلم التنظيري، وهو صاحب عقاقير وأعشاب ولفائف، لكنه ذهب في المنطق فتردى.
أما ابن سينا فكثر الكلام فيه، وبعض الناس يفتخر بـ ابن سينا الاسم اللامع ويحسبه على المسلمين، وهو فيلسوف بضاعته من بضاعة سقراط وبقراط وأولئك الملأ، ليست من بضاعة صاحب طيبة عليه الصلاة والسلام، وابن تيمية يقول: إن الله لن يغفل عن المأمون لما أدخل من كتب الفلسفة في بلاد الإسلام، نحن عندنا خير لا نحتاج إلى الفلسفة أو المنطق، يقول ابن تيمية: علم المنطق أو الفلسفة لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل، لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع منه البليد.
فـ ابن سينا يُسمى: ذنب الصابئة وفرخ المجوس، وورد أنه كفر بثلاث كلمات كما قال الغزالي في كتاب: تهافت الفلاسفة منها: يقول: إن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، وأن المعاد الجثماني لا يكون وإنما المعاد يكون للروح، ولذلك ألقى قصيدته في النفس فيقول:
هبطت إليك من المكان الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع
ثم ذكر عقيدته، وتكلم كذلك في الغيبيات والسمعيات بكلام لا يصلح، حتى قال بعض العلماء: إن كان صح عنه ما يقول في بعض المقالات فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وأما أبو حيان فهما اثنان: أبو حيان الأندلسي الذي هو من أقران ابن تيمية النحوي الذي دخل دمشق ودخل مصر، فهذا ذكي لماع من أكبر النحاة، أتى إلى ابن تيمية فمدح ابن تيمية مدحاً راقياً بقصيدة رائعة، وكان ابن تيمية كما تعرفون من أذكياء الدنيا، قال أبو حيان هذا لـ ابن تيمية: ما أظن أنه يؤلف في الدنيا مثل الكتاب لـ سيبويه، قال ابن تيمية: سيبويه ليس نبياً ولا معصوماً في كتابه أخطاء، قال أبو حيان: ليس في كتابه أخطاء؟! قال ابن تيمية وغضب: في كتابه ثمانون خطأً لا تعرفها أنت ولا يعرفها سيبويه، وهو صحيح فـ ابن تيمية أخرج الثمانين خطأً، فغضب أبو حيان على ابن تيمية فأخذ يتهزر به ويستهزئ في قصائده بعد أن مدحه لأن الهوى ركبه، فهو محسن ومسلم ونحوي قوي رحمه الله.
وأما أبو حيان التوحيدي فعليه من الله ما يستحقه، ونسأل الله أن يجازيه بعدله، هذا مجرم ألف كتباً -يحارب بها الإسلام- ويحارب بها القرآن وهو مثل ابن الراوندي الذي يسمى: الكلب المعفر أكل عجين المسلمين، فهو مثل أبي حيان التوحيدي، وأتت منه كلمات تدل على زندقته، واستباح المسلمون قتله لكن ما ظفر بقائد يذبحه مثل ما فعل خالد بن عبد الله القسري يوم قام، وقال: أيها الناس: إن الجعد يقول: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، يا أيها الناس: ضحوا تقبل الله أضحياتكم وإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم عن سبعة، ثم أخذ سكينةً وافترش الجعد أضحية عن سبعة، وذبحه مستقبل القبلة ولذلك يتفنن ابن القيم وهو يشكر هذا الظالم، خالد بن عبد الله القسري ظالم لكن أحسن في هذا قال:
ولذاك ضحى خالد بـ الجعد يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
من أراد أن يتقرب يفعل مثلك، فلو وفق أبو حيان بسلطان مسلم كان ذبحه وكان أجزأه عن سبعه {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36].
ابن البيطار هناك أديب اسمه: ابن البيطار ما أظن أنه يعتقده هذا الأخ؛ لأن هذا الأخ ذكر مصاف الفلاسفة وما أدري أتته كلمة ابن البيطار يمكن قرأها في ترجمة وهو أديب ليس بالشهير، وهو رقيق العبارة في شعره مثل ابن الغزي ومثل ابن الخياط وله مقطوعات رائقة، ليس فيه كلام لأنه ليس صاحب معتقد، لا يحمل معتقداً باطلاً، ولا يتحمس للمعتقد الحق، وهو صاحب شعر، وبعض الناس مسألته في الحياة شعر فقط، يريد أن يشعر مثل المتنبي، يذهب فيمدح الملك هذا ويقول: أنت درة الزمان وبركة الوقت وفاتح الدنيا، فإذا أعطاه كيساً، ذهب وذمه، ويذهب إلى الآخر فيمدحه كما فعل في سيف الدولة وكافور وعضد الدولة، فهذا ليس له رسالة في الحياة.(211/31)
حكم السفر والحج بالخادمة
السؤال
هل يجوز أن أحج بالخادمة فقط مع العلم أني حلفت لها بذلك؟
الجواب
ما دام وصل الأمر بك إلى أن تحلف للخادمة فنسأل الله أن يعافينا مما أصابك، أصبحت الخادمة كأنها زوجتك، كأنك تقرع بين نسائك أن تسافر وتحج معك، الخادمة لست بمحرم لها، بل أنت رجل أجنبي عليها، يحرم عليك أن تراها وتخلو بها في سفر، وأن تكلمها إلا من وراء حجاب، أما أن يصل بك الحال إلى أن تقول: ما رأيك في الحج في هذه السنة؟ أريد أن نحج إن شاء الله فهي أصبحت زوجة؟ نعوذ بالله من الخذلان، الخادمة إن كنت اضطررت إليها فلا بد أن تكون مسلمة متحجبة، وإذا كان معها محرم فهو الأولى، وألا تراها ولا تراك، أو تبقى في البيت ولا تخلو بها أبداً.(211/32)
تعرض الغزو الفكري للمرأة المسلمة
السؤال
أرجو تسليط الضوء على الأخطار المحدقة بالمرأة المسلمة أو طريق الغزو الفكري؟
الجواب
الأخطار المحدقة كثيرة.
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
لو بقينا نتكلم لطالت الليالي في الأخطار، لكن المرأة المحاربة اليوم تحارب بفنون الحرب، منها: الحرب على الحجاب وهو أخطر حرب تعرضت له المرأة المسلمة، قبل سنوات من يوم أطلق ذاك المجرم كلمة: (مزقيه) فتتابعت الصيحات من كثير من الناس بتمزيق الحجاب والخروج على الحجاب، وإنما معناه الخروج على الإسلام، فالدعوة إلى ترك الحجاب هي أكبر ما تعرضت لها المرأة، وكذلك تعرضت للأفلام والمسرحيات، والأغنيات الماجنة التي تعرض للرجال الأجانب، وتعرض العورات، حرب تعرضت له المرأة من قبل الذين ينادون بحقوق المرأة، وهم الذين قتلوا المرأة، وأعدموها وسفكوا دمها قاتلهم الله.
قالوا هم البشر الأعلى وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا
فهذا لينين يقول: المرأة ملعونة فتانة، الأمريكان لما أدخلوا المرأة في الجيش ليس لخدمتها وتعليتها؛ إلا لأنه في الحرب العالمية سحق الأمريكان وقتل الكثير منهم، فاحتاجوا إلى الفتاة فأدخلوها تصارع الأحداث وتقوم بالطائرات وتركب المدفعية والصواريخ، وهذا هضم للمرأة، الجاهليون أحرموها من الميراث وما سمعوا لها كلمة، غاندي ينظر إلى المرأة باستهزاء ويرى أنه لا عقل لها تماماً، كل هؤلاء في جانب، والرسول صلى الله عليه وسلم أتى إلى المرأة فقال: {إنهن عوان عندكم} {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي} {الله الله في النساء} الرسول صلى الله عليه وسلم جعل لها حظاً في الميراث، وأخبرها أن بيتها هو سترها وعفافها وصيانتها، وأخبرها إن ربِّت أبناءها فهي مأجورة ومشكورة وأخبرها إن أطاعت زوجها دخلت جنة ربها مع طاعة الله عز وجل، وكرمها وسمع كلمتها، وغضب صلى الله عليه وسلم للمرأة، وعاش معها أباً وأخاً وزوجاً، فلا إله إلا الله كم أعطى الإسلام المرأة من حق! ولا إله إلا الله كم هدمت الوثنية والصهيونية والرأسمالية والشيوعية من حق المرأة، وكم حاربت المرأة!(211/33)
حكم تأخير الصلاة
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تؤخر صلاتها إذا كانت في السوق إلى أن تعود إلى المنزل أم ماذا؟
الجواب
ليس للمرأة أن تؤخر صلاتها إذا كانت في السوق حتى تعود بأي عذر، فليست معذورة وهي آثمة إذا أخرت صلاتها حتى خرج وقتها، وتعرفون ماذا قال أهل العلم فيمن أخر صلاته حتى خرج الوقت، فهذا ليس بعذر وعليها أن تتقي الله ولا تؤخر هذه الصلاة عن وقتها، فإنها آثمة ولا عذر لها بالخروج، ولا بالذهاب والإياب، لأنه لابد من عذر شرعي كإغماء أو نوم أو نسيان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها} ولم يذكر عذراً آخر عليه الصلاة والسلام.(211/34)
حكم حجاب المرأة عن الأقارب
السؤال
ما هو الحكم بالنسبة للزوجة في عدم التغطي أو الاحتجاب عن الأقارب مع العلم بمعرفتها بحكم الإسلام وهي رافضة لاتباعه؟
الجواب
إن كانت تقصد الأقارب: الأخ والأب والقريب الحميم فيجوز لها ترك الحجاب، ما تتحجب في وجهها، لأنه قريب لها، وإن كانت تقصد الأقارب فيما يسمون أقارب في العرف مثل: أبناء العم وأبناء الخال وهم ليسوا بأقارب ويسمونهم الناس أقارب، فهؤلاء ليسوا بأقارب والحمو كذلك زوج الأخت أو أخو الزوج هذا الأمر لا ينبغي كذلك، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {الحمو الموت} فالحجاب معروف ولكن السؤال فيه عمته ولم ينجل إلى الآن.(211/35)
دخول المؤمنين الجنة قبل الحشر
السؤال
لقد سمعت بأحاديث أكثرها أن بعض أبطال الإسلام رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة كـ جعفر الطيار وبعض أصحابه كيف يكون ذلك، والجنة مقفلة وأول من يفتحها ويدخلها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
يا أيها الأخ الكريم! أنا أذكر لك مثلاً ثم أذكر لك ضابطاً في الأخير، أذكر لك مثالاً، الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه دخل الجنة وأنه رأى فيها الرميصاء أم سليم، وأنه رأى عثمان بن مظعون في الجنة، وسمع صلى الله عليه وسلم دفَّ نعلي بلال في الجنة، وقال له: {ماذا كنت تفعل؟ قال: ما توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت ركعتين} ورأى صلى الله عليه وسلم الجنة وقد عرضت له في الحائط وهو يصلي صلاة الكسوف وهذا حديث صحيح، وأمثلة كثيرة، والمسألة مقررة نقبلها على العين والرأس؛ لأنها أتت من المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، أما قولك: كيف يدخلون الجنة وهي مقفلة؟ فهي ليست مقفلة يدخلها الصالحون فإذا أراد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يقيم الساعة، فإنه يخرج الناس سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لفصل القضاء في العرصات، وهذا من علم الغيب الذي لا تتدخل فيه العقول {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3] فإيمانك بالغيب يقتضي أن تسلم بما أتى به صلى الله عليه وسلم وما أتى في الكتاب، وهذه ليست مشكلة -والحمد لله- فهي سهلة، يدخلهم الله الجنة ثم يخرجهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى العرصات ليقتص بين بعضهم البعض ويحاكمهم، ثم يدخلهم الجنة، ودخولهم لم يخالف فيه أهل السنة والجماعة ولا أحد منهم وإنما خالفت فيه المعتزلة وقالت: الجنة والنار لم تخلق بعد، وقال أبو الهذيل العلاف: إن النار تفنى، وهذا مذهب سقيم ليس بصحيح، ولذلك يقول حافظ الحكمي في التوحيد:
والنار والجنة حق وهما موجودتان لا فناء لهما
فالجنة والنار إلى الآن موجودتان.(211/36)
كيفية التآخي في الله
السؤال
كيف ينبغي أن يكون التآخي في الله؟
الجواب
التآخي في الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يحتاج إلى كلام طويل، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وهو عقد عقده الله عز وجل ما عقده أحد غيره، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] والتآخي يكون بمعرفة حقوق المسلم على أخيه المسلم، بالسلام عليه إذا لقيته، وبحبه، والدعاء له، والزيارة، والعيادة له إذا مرض، والتشميت له إذا عطس، وتشييع جنازته، وهذا مجال طويل ولكن عليك أن تعود إلى الكتاب والسنة في حقوق الإخاء.(211/37)
التعصب يكون للحق لا للأهواء والرجال
السؤال
من العوائق التي أثرت على شباب الإسلام تعصبهم لبعض العلماء والمشايخ في أمور خلافية، هل من نصيحة؟
الجواب
التعصب لغير الحق أو للهوى مذموم، والتعصب لبعض المشايخ أو الانتماءات من علامات مركب الهوى الذي يركبه بعض الناس، وأنا أدعو الأخ أن يكون محباً لا متعصباً، لا يتعصب إلا للحق، ولا يوافق إلا مع الدليل، فإن التعصب لغير الحق معناه: الهوى نعوذ بالله منه، واعرف الحق تعرف أهله، ولا تعرف الحق بالرجال، فأنا أوصي الإخوة أن يتقوا الله ويعرفوا الأدلة، ولا يتعصبوا لأحد من الناس إلا لكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(211/38)
الخروج في سبيل الله للدعوة
السؤال
ما رأيكم في الخروج في سبيل الله مع العلم أن عملي لا يسمح لي بهذا الواجب فهل أنا مطالب بالدعوة إلى الله؟
الجواب
أما الخروج في سبيل الله قصدك الدعوة وعملك لا يسمح فعليك أن تدعو إلى الله في عملك، لا تترك عملك لأنه شبه الفريضة عليك، ولأنك تحتاج إلى عملك ومضطر إليه، فلا تخرج من فريضة إلى نافلة وتضيع عملك وقد تجني على نفسك من خروجك هذا، فادع في مكانك، وأصلح وأنت في مكانك فإن الله لا يضيع من عملك شيئاً.(211/39)
دعوة إلى حفظ القرآن
السؤال
ما هي دعوتك للشباب في حفظ القرآن؟
الجواب
حفظ القرآن من أعظم المناقب في الإسلام، وفي أثر لا يصح مرفوعاً: [[من حفظ القرآن فقد استدرج النبوة غير أنه لا يوحى إليه]] وفي حديث حسن: {يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارتق ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها} وعند الترمذي بسند فيه نظر: {إن الذي ليس في قلبه شيء من القرآن كالبيت الخرب} فعلى المسلم أن يجتهد في حفظ القرآن، ويعين على حفظ القرآن أربعة أمور:
تقوى الله، وكثرة الاستغفار، والتقليل من الحفظ مع المداومة والمراجعة باستمرار، وقراءة المحفوظ في الصلاة.(211/40)
التفريط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
قضية الإفراط والتفريط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الجواب
نعم.
وجد من الدعاة من فرط وأفرط، وجد منهم من تشدد على الناس حتى وصل به إلى تكفير الناس والتشديد في الأحكام على الناس، والتعسير في الدعوة على الناس، وإخراجهم من الاستقامة، وتبكيتهم بكلمات حتى نفروا منه، فيطالبهم هو بالسنن قبل الفرائض، ويطالبهم بالآداب قبل السنن وهذا ليس بصحيح، ووجد من الدعاة من تساهل، وقال: المسألة مسألة إسلام وصلوات خمس، أما اللحى وتقصير الثياب والسواك فهذه قشور، وهذا خطأ والوسط معروف وهو: أن تعطي كل مسألة مساحتها كما أعطاها القرآن، العقيدة لها حجم كبير، ثم الفرائض ثم النوافل ثم الآداب، لكن لا تنسى هذا عن هذا، بل تعطي الأولويات في الدين.(211/41)
حكم زيارة الجار الذي لا يصلي
السؤال
هل يجوز زيارة الجيران إذا كان الجار لا يصلي، وكان مجاوراً في السكن وقد سبق أن نصحناه ولكن دون جدوى؟
الجواب
هذا الجار إذا نصحته بالتي هي أحسن وكررت النصيحة عليه لا تهجره حتى تنصحه، فإذا نصحته وكررت عليه بالتي هي أحسن ثم أعلن أنه لن يذهب ولن يصلي مع الجماعة فاهجره ولا تزره لأنه قد حاد الله بفعله.(211/42)
حكم التأمين على الأملاك
السؤال
ما هو حكم التأمين على السيارة؟
الجواب
هذا التأمين آخر ما توصل إليه في بعض الصور كهذه الصورة أنه لا يجوز؛ لأنه أولاً: شك في قدرته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والأمر الثاني: عدم التوكل عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وفيه أكل أموال الناس بالباطل ثم فيه تزجية الأموال.(211/43)
معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما معنى صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
معناها: الرحمة من الله عز وجل والرضوان: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] ومن الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] فهي الرضوان من الله ورفع المنزلة له، والسلام كذلك إفاضة الخير عليه صلى الله عليه وسلم.(211/44)
وضع المال في البنك بدون أرباح
السؤال
ما حكم وضع المال في البنك دون أخذ أرباح؟
الجواب
وضع المال في البنك بدون أخذ أرباح أيضاً لا يجوز؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] ولا تقوم هذه البنوك إلا بمثل هذه الأموال، فتركك لمالك معهم معناه: أنك أعلنت تعاونك ومساعدتك لهم فسواء أخذت أم لم تأخذ فقد أخطأت، لكن عليك أن تسحب مالك وتستغفر الله وعفى الله عما سلف.(211/45)
الفرق بين المداراة والمداهنة
السؤال
ما هو الفرق بين اللين والمداهنة؟
الجواب
لو قلت: الفرق بين المداراة والمداهنة كان أحسن، المداراة هي: أن تدفع شيئاً من دنياك لبقاء دينك، والمداهنة هي: أن تتنازل عن بعض دينك من أجل دنياك، فالمداراة: أن تدفع شيئاً من دنياك من أجل دينك ليبقى، كأن تتبسم لمن تخشى بطشه أو تخشى اعتداءه على حرمات المسلمين، أو تلين له في الخطاب كما فعل موسى مع فرعون، والمداهنة: أن تتنازل بشيء من دينك من أجل دنياك، تذهب إلى بعض الناس وتمدحه وهو طاغية فاجر ليعطيك شيئاً من المال فتكذب على الله وتشهد الزور من نفسك، فهذا مداهنة.(211/46)
حقيقة الرهبانية
السؤال
ما هي الرهبانية؟ وما حكمها في الإسلام؟ وهل صحيح ما يقال أنها أصبحت ظاهرة؟
الجواب
الرهبانية من النصرانية وهي: الانزواء عن الناس، والجلوس في الصوامع، وترك الحياة وملاذ الجسم والانعكاف على الروح، {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27] والرسول صلى الله عليه وسلم ذمها وأنكر على أصحابه يوم أرادوا الانعزال وترك اللحم والنوم، وأما إن كانت ظاهرة فأما في بلاد الإسلام فليس صحيح، ليست ظاهرة والحمد لله، ووجد عند بعض الأفراد قلة من شدد على نفسه وترك الملاذ وأنكر استخدام هذه النعم مثل الصالات والكنبات والمكرفون والكرسي والأدوات والساعة والنظارة وغيرها، وهذا نوع من الرهبنة، ولكن -والحمد لله- ليست ظاهرة، لأن الظاهرة هي التي تحكمت وعرفت واشتهرت بين الناس وعرفت.(211/47)
كثرة الوسوسة في الصلاة والخجل من الناس
السؤال
هذا سائل يشكو من كثرة الوسواس في الصلاة، والخجول في دعوة الناس إلى الحق؟
الجواب
أما الوسوسة في الصلاة فهو مرض فعليك أن تستعيذ بالله منه، وهو يذهب عليك أجرك ومثوبتك وصلاتك، وهو درجات: منهم من يوسوس قليلاً فعليه أن يعلم أن هذا وارد ولا يسلم منه أحد، ولذلك في حديث عمار عند النسائي: {من الناس من لا يخرج من صلاته إلا بنصفها بثلثها بربعها إلى أن قال: عشرها ومنهم من يخرج من صلاته وما له منها شيء} لكن عليك أن تتقي الله عز وجل في حضور قلبك، أما الوسواس فإن عثمان بن أبي العاص في صحيح مسلم شكا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم شيطاناً لبس عليه صلاته، قال: حتى ما أدري ماذا أقول، قال: {إذا أحسست به فانفث عن يسارك ثلاثاً وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم} وهذا يقال لمن بلغ درجة لا يعرف ماذا قرأ الإمام، أو ماذا قرأ هو، وفي أي ركعة، أصبح ملبساً عليه، وهذا نادر في الناس.
أما خجولك من الناس والوقوف أمامهم فلا يقتضي من الداعية أن يكون كل الناس خطباء، ولا كل الناس متحدثين، ولا كل الناس مذكرين ومفتين، جلوسك وأدبك وسمتك وتقواك مع زملائك وإخوانك دعوة إلى السبيل، وتسهيلك مهمة الدعوة دعوة، واستضافة الدعاة العلماء دعوة في سبيل الله، والمساعدة بالمال دعوة، ونشر الكتب دعوة، هذا أمر، وإن أردت ذلك الأمر فعليك التدرب، أن تتكلم فإن الأمر يأتي بالتعلم تدريجياً حتى تصل إلى ما تريد.(211/48)
حكم زيارة الوالدين إذا كانا مبتدعين
السؤال
إذا كان أهلي يعتقدون غير معتقد أهل السنة والجماعة، وزيارتي لهم تسبب لي بعض المشاكل التي تحدث من سب الوالد وغيره، ويوجد عندهم تلفزيون وفيديو لا أستطيع إغلاقه نظراً لأنها تؤثر على تربية أبنائي، فهل إذا قطعت صلتهم علي إثم؟
الجواب
هذا سؤال مركب، فيه مرض شبهات ومرض شهوات، أما ما ذكرت من أنهم ليسوا على معتقد أهل السنة والجماعة لابد أن تحدده، إن كانوا أهل بدع فهناك بدع خفيفة وبدع مغلظة، وهذا أمر بحث وموجود في الساحة وهو معروف من الأحاديث، ومن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، لكن مما يقال: إن عليك أن تصل والديك ولو كانا كافرين، ففي الصحيح أن أسماء قالت: {يا رسول الله! قدمت أمي وهي مشركة أفأصل أمي؟ قال: نعم صلي أمك} والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فعليك بزيارتهم فإذا خشيت على أبنائك من مفسدة فزرهم في وقت عجالة، أو زرهم أنت بنفسك واترك أبناءك ولا تقطعهم ولو كانوا كفاراً.(211/49)
حكم تقصير الثوب إلى فوق الساق
السؤال
بعض الشباب المسلم الطيب يقصر ثوبه أعلى من فوق الساق، فهل في ذلك مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
السنة إلى نصف الساق، ولا بأس فيما زاد إلى فوق الكعبين، أما إذا أصبح فوق الساق إلى الركبة صار فنيلة ولم يصبح ثوباً، الفنيلة شيء والثوب شيء آخر، ولا يصبح ساتراً، يصبح إلى الركبة ثم يسجد فلا يستره، والسنة إلى نصف الساق وهو أزرة المؤمن، وما زاد إلى الكعب فلا بأس به، لكن لا ينزل عن الكعب فإنه من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه، وما أسفل الكعب فهو في النار، فهاتان عقوبتان: عقوبة عدم النظر تأتي من الجر خيلاء، وعقوبة النار تأتي من مطلق الجر في الأرض، أو تحت الكعبين، وأما السنة فإلى نصف الساق وما زاد فليس فيه أثر.
وإذا نزل السروال قليلاً دون أن يصل إلى الكعب فهل في ذلك حرج؟
ليس فيه حرج، وبعض الناس يقصر ثوبه إلى الساق وينزل سرواله إلى الأرض، أسبل في السروال وقصر في الثوب، فهو سني في الثوب ومخالف في السروال.(211/50)
عقيدة جمال الدين الأفغاني
السؤال
ما رأيك في عقيدة جمال الدين الأفغاني، مع أني قرأت في كتاب جيد أن جمال الدين الأفغاني انتسب إلى الماسونية؟
الجواب
جمال الدين الأفغاني من الدعاة، والذي عرفت أنا من سيرته أن الرجل فيه رفض، ولذلك بارك الدولة الصفوية وذهب إلى الحاكم الصفوي في طهران وبارك مسيرتها هذا الذي عرفت عنه، أما مسألة الماسونية فلا أقف على ما ليس لي به علم ولا أتهمه في ذلك فالله وكيله.(211/51)
حكم الأكل من مال الولد العاصي والفاسق
السؤال
رجل فاسق وعاصٍ للوالدين، فهل يجوز له أن يعطي والديه من المال الذي يملكه، وهل يعتبر هذا المال حلالاً عليهما؟
الجواب
هذا الابن الذي عق والديه، أو عصى الله وأعطى والديه من المال، لهما أن يأخذا من هذا المال وليس بحرام عليهما لحديث: {أنت ومالك لأبيك} وقد يكونا مضطرين إليه، فإذا استغنيا فهو أحسن، لكن إذا كانا بحاجة فيأخذا من المال، وقضية الترك أو التحرص في الأكل وارد، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل طعام أهل الكتاب وقدمت له هدايا من اليهود فأكلها صلى الله عليه وسلم، فمثل حال هذا الولد، يجوز أن يأخذ الوالد والوالدة من ماله إذا كانا في حاجة، وإن استغنيا كان أحسن.(211/52)
حكم من أخر العصر عن وقتها
السؤال
أنا شاب أعمل وأخرج من العمل عند أذان العصر، ثم أذهب إلى البيت وأتغدَّى وأصلي صلاة العصر في البيت، وهكذا في أكثر الأيام، هل هذا جائز؟
الجواب
أخطأ خطأً بيناً لما أخر الصلاة عن وقتها وترك الجماعة، وأخطأ وهو عاصٍ لكنه لا زال يقضيها في الوقت، أما إذا تركها حتى يخرج وقتها فقد أثم، وقد يصل عند بعض العلماء إلى درجة الكفر؛ لأنه تعمد تأخيرها حتى خرج وقتها، أما فعله فهو فسق، ومن يفعل هذا ويداوم عليه فهو فاسق آثم معاقب، فعليه أن يتوب ويستغفر ويصلي الصلاة في وقتها.(211/53)
حكم مساكنة من لا يصلي لأجل دعوته
السؤال
ماذا تقول فيمن يسكن مع الذي لا يصلي، ويعتقد أنه سوف يؤثر عليه ولكن يصلي أحياناً، ويترك أحياناً هل يبقى يدعوه ويساكنه؟
الجواب
الذي يسكن مع الذي لا يصلي يعرض نفسه لمخاطر، أما قضية (أؤثر عليه) فكثرت بين الدعاة وبين الشباب، فنقول له: اتق الله، قال: أوثر عليه، تؤثر عليه بعد عشرين سنة! فالمسألة أن يجعل حداً فاصلاً له، ثم أن يرى نتيجته مع هذا، إن كان يقبل على الله عز وجل وعنده تأثر وهو سوف يهتدي فلا بأس إذا كانت فترة محددة، أما أن يستمر معه فإنه خطأ لأنه من موادة من حاد الله، ومن ترك الصلاة فقد كفر.(211/54)
نجيب محفوظ في الميزان
السؤال
ما هي معتقدات الأديب نجيب محفوظ علماً بأنه أخذ جائزة نوبل؟
الجواب
نجيب محفوظ ما نشر عقيدة ولا نظر لعقيدة، إنما هو من الذين يعيشون الأدب باسم الأدب، شهيد الأدب وشهيد الفن والجمال، ورسالته معروفة وهو لم يأتِ فيه ما أعلم من الضرر كما أتى غيره ولو أن له كلمات حفظت عنه، لكن أقصد: لم يكن سفيهاً لدرجة، مثل ما فعل توفيق الحكيم ومثل ما فعل طه حسين يستهزئ بالإسلام وبالرسالة الخالدة، ويقول طه حسين: إن بين الأوس والخزرج وبين قريش لإحنٍ في الجاهلية ويتكلم ببذاءة، مثل توفيق الحكيم السفيه، وقد علم كل أناس مشربهم، أما نجيب محفوظ لا أعرف أن له رسالة في الإسلام، وليس له أثر وسيموت وحسابه على الله عز وجل، ولا أعرف ما أستند عليه حتى أحكم على الرجل.(211/55)
الحداثة وخطرها على الأمة
السؤال
هل من كلمة مختصرة توضيحية عن أدب الحداثة وخطرها على الأمة؟
الجواب
أدب الحداثة سمعتم عنه كثيراً في أشرطة وكتب، وأدب الحداثة يرى أصحابه ولو أنهم يتخفون بهذا الكلام لأن كلامهم باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فهم يرون الثورة على كل قديم بما فيها الإسلام والقرآن والسنة، ويرون إلغاء كل قيم بدأت من صدر الإسلام حتى يقول بعضهم في صحف أمريكية: ما رأينا النور منذ عشرين قرناً.
فالله حسيبه نسي نور الرسول صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فهو ينتظر ليأتي ريجن له بالنور، وماله إلا الظلام، وهذا إن لم يتب من كلامه فالله يتولاه.
هذه هي الحداثة وهم على قسمين لكن لا بأس أن أحشر قسماً في قسمين: قسم يرى أن الحداثة فن وأسلوب وقالب شعري، لكن لابد من المضمون أن يكون إسلامياً فلا بأس على هؤلاء ونحن لا نخالفهم، فمسألة أن يكون الشعر منظوماً على البحور أو منثوراً أو حراً لا بأس به، الأمر فيه سعة.
وقسم آخر: يرى أن يكون المضمون والقالب لابد أن يكون فيه تجديد حتى للإسلام ولشعره ومبادئه والقرآن، فهذا كافر زنديق ملحد عدو للإسلام.(211/56)
القصيدة البازية وقصيدة أمريكا التي رأيت
السؤال
نود أن نسمع منك بعض القصائد مثل البازية وأمريكا التي رأيت؟
الجواب
هذه تكررت على الإخوة وسئموا منها، البازية في سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي
يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل السافي
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافي
مجالس اللغو ذكراهم وروضتهم أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي
وأنت جالست أهل العلم فانتظمت لك المعالي ولم تولع بإرجافي
بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الطير في إشراقه الضافي
تشفي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم دراً غير أصدافي
أقبلت في ثوب زهدٍ تاركاً حللاً منسوجة لطفيلي وملحافي
تعيش عيشة أهل الزهد من سلف لا ترتضي عيش أوغادٍ وأجلافي
فأنت فينا غريب الدار مرتحل من بعد ما جئت للدنيا بتطوافي
سر يا أبي واترك الدنيا لعاشقها في ذمة الله فهو الحافظ الكافي
أراك كالضوء تجري في محاجرنا فلا تراك عيون الأغلف الجافي
كالشدو تملك أشواقي وتأسرها بنغمة الوحي من طه ومن قافي
ما أنصفتك القوافي وهي عاجزة وعذرها أنها في عصر أنصافي
يفديك من جعل الدنيا رسالته من كل أشكاله تفدى بآلافي
وأما أمريكا التي رأيت فأنا أذكر من الجدية ومن الهزلية ذكرت في مواطن، من الجدية للأمة الإسلامية:
يا أمة ضرب الزمان بها جموح المستحيل
وتوقف التاريخ في خطواتها قبل الرحيل
سكبت لحون المجد في أذن المجرة والأصيل
وسقت شفاه الوالهين سلافة من سلسبيل
يا أمة كم علقوا بكيانها خيط الخيال
وهي البريئة خدرها فيض عميم من جلال
شاهت وجوه الحاقدين بكف خسف من رمال
موتاً أتاتورك الدعي كموت تيتو أو جمال
يا أمة في عمرها لم تحي إلا بالجهاد
كفرت بمجلس أمن من نصب المنايا للعباد
القاتلي الإنسان خابوا ما لهم إلا الرماد
جثث البرايا منهم في كل رابية وواد
ما زرت أمريكا فليـ ست في الورى أهل المزار
بل جئت أنظر كيف ند خل بالكتائب والشعار
لنحرر الإنسان من رق المذلة والصغار
وقرارنا فتح مجيد نحن أصحاب القرار
ورأيت أمريكا التي نسجوا لها أغلى وسام
قد زادني مرأى الضلا ل هوىً إلى البيت الحرام
وتطاولت تلك السنون فصار يومي مثل عام
ما أرضهم أرض رأيت ولا غمامهم غمام(211/57)
الانتفاضة ليست بجهاد خالص
السؤال
هل الانتفاضة في فلسطين هي جهاد أم لا؟
الجواب
الانتفاضة انتفاضة، والجهاد جهاد وفلسطين هي فلسطين، فأما الانتفاضة وتحديدها فأظن فيها الغث والسمين، فيها مسلم يرفع لا إله إلا الله، وفيها علماني يشير بسبابتيه وكأنه انتصر وهو يسحق، وفيها قومي يريد القومية، وفيها ترابي وفيها وطني ولكن نحن ندعو الله أن ينصرهم وأن يعيد فلسطين للإسلام، وأن يعيد كل أرض ليحكم فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله.(211/58)
كلمة في التبرع
السؤال
كما تعلم أن لنا إخوة في العقيدة يعانون من شدة البرد الشديد القارس، ويعانون من نقص في الأطعمة التي يحتاجون إليها، فهل لفضيلتكم كلمة موجهة للأحباب في هذا المجلس الطيب حتى يقدموا ما تجود به أنفسهم؟
الجواب
أفغانستان أو المجاهدون الأفغان يعرَّفون بأنهم قوم تركوا ملاذ الطعام والشراب، وخرجوا لرفع راية الله والكتاب، وحاربوا الشيوعي الملحد، وأعلنوا قوة الإسلام وعظمته وتفوقه.
المجاهدون الأفغان أثبتوا أن الأصالة لهذا الدين، وأن البقاء لهذا الدين.
المجاهدون الأفغان أذاقوا الكافر الويلات، وهدموا ذاك الحصن الذي كان يعيشه كثير من المسلمين أن أمريكا وروسيا لن تغلب في الأرض، غلبوها وأذلوها وسفهوا برأيها.
يا أمة النصر والأرواح أثمان في شدة الرعب ما هانوا وما لانوا
هم الرعود ولكن لا خفوت لهم خسف ونسف وتدمير وبركان
كم ملحدٍ ماجنٍ ظن الحقوق له زفوا له الموت مر وهو مجان
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ
هؤلاء الأمة لهم منا الدعاء، وأنا أدعوكم إلى أن تقفوا معهم موقف المسلم مع أخيه المسلم، بالمال وبالدعوات ومن يستطيع الجهاد وكان له فرصة وانتفت الموانع فليجاهد في سبيل الله، إنما نشاركهم لأننا مسلمون، ولنشارك في رفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وليكون لنا الأجر والمثوبة أننا قدمنا شيئاً لهذا الدين، أو فعلنا شيئاً معه، أو بذلنا لرفعته.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(211/59)
الرحالة الكبير
جابر بن عبد الله من أكثر الصحابة رواية لمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الدرس يروي لنا أربع معجزات من معجزاته صلى الله عليه وسلم، ويذكر قصة الطفيل بن عمرو الدوسي وصاحبه الذي قتل نفسه ودخل الجنة بعد أن غفر الله له.
وزيد بن خالد الجهني يروي حديثين عظيمين عن النبي صلى الله عليه وسلم.(212/1)
قصة الطفيل بن عمرو الدوسي مع صاحبه الدوسي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28].
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
سلام الله عليكم في روضة من رياض المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم يجلس المؤمن مع الحبيب عليه الصلاة والسلام, فيتربى في رياضه, ويتعلم بآدابه, فإنه -بأبي هو وأمي- هو الذي رضيه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى للناس, وأوصد من بعده أبواب الجنة فلا تفتح إلا من بابه, فعلى قوله توزن الأقوال, وعلى حاله تقاس الأحوال, وعلى فعله تقبل أو ترد الأفعال، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبجلوسكم هذا لاستماع حديثه صلى الله عليه وسلم فإنكم تطلبون علماً من علم المصطفى صلى الله عليه وسلم, لست أنا المعلم في هذه الجلسة، بل المعلم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم, والملائكة تحفكم بأجنحتها, فيبارك الله الجمع, وينزل الله الرحمة, ويغشيكم بالسكينة, ويرشدكم سواء السبيل, وجلوسكم في هذا المجلس طرد للنفاق وللريبة والشك والشبهة؛ لأن أهل النفاق لا يجلسون هذه المجالس, وأهل الدنيا لا يحبون هذه الأحاديث؛ لأن لهم أحاديث أخرى, لكن أحاديث أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام هي في هذه المجالس، يتغذون منها, ومنها يشربون ويستسقون.
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا تشكت كلال السير أسعفها شوق القدوم فتحيا عند ميعاد
معنا حديث في صحيح مسلم الذي هو قمر بعد الشمس والشمس صحيح البخاري كما قال ابن القيم: البخاري ومسلم اللذان هما لنا شمسان, ومسلم أبو الحسين , مسلم بن الحجاج عالم رباني قدم هذا الكتاب هدية للأمة, فنحن نقتطف هذه الليلة حديثاً من صحيحه, وأنت إذا سمعت حديثاً رواه البخاري ومسلم فعض عليه بالنواجذ, فقد جاوز القنطرة، وقد أصبح رجاله عدولاً, رضيهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهم من خيرة الأمة لولا ذنوب البشر.
الحديث الذي معنا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه قال: قدم p=1000010>> الطفيل بن عمرو الدوسي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة فقال: يا رسول الله! هل لك في حصن حصين ومنعة؟ قال عليه الصلاة والسلام: بماذا؟ قال: لنا حصن نحن معشر دوس في الجاهلية لا أمنع منه حصناً, فهاجر إلينا يا رسول الله! نمنعك من أعدائك فأبى صلى الله عليه وسلم لما ادخر الله للأنصار من الخير, فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هاجر p=1000010>> الطفيل بن عمرو الدوسي إليه في المدينة، ومعه رجل آخر من دوس, فمرض هذا الرجل الدوسي صاحب الطفيل بن عمرو، فلما مرض جزع من المرض, فأقدم على براجمه فقطعها بمشاقص, فمات من آثار الدم, فلما توفي رآه p=1000010>> الطفيل بن عمرو الدوسي في المنام وهو في أحسن هيئة، وفي أجمل منظر، وهو يخبئ يديه في المنام, قال له: ما فعل الله بك؟
قال: غفر الله لي ذنوبي بهجرتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فما بال يديك؟
قال: قدمت على ربي وقد قطعت براجمي فقال الله: لا نصلح من جسمك ما أفسدت.
قال الطفيل: فأتيت الرسول عليه الصلاة والسلام في الصباح فأخبرته, قال: {اللهم وليديه} هذه روايه مسلم وله اختلاف في اللفظ؛ لأن الإمام مسلماً أتى به ثلاث مرات زاد بعض الزيادات وأنقص, ونسأل الله أن تكون هذه الرواية وافية أو قريبة.
جابر بن عبد الله الأنصاري يخبر الناس بقصة الطفيل بن عمروالدوسي ودوس: قبيلة من قبائل زهران، ويكفيها أن منها الطفيل بن عمرو وأبا هريرة الراوي النحرير، والعلامة الكبير، صاحب الحديث النبوي، وراوية الإسلام, ودوس من القبائل الجنوبية التي تسكن جبال السروات قبيلة من قبائل زهران.
قدم الطفيل مكة , بعد أن سمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام أطل مشرقاً على جبال مكة بنور وضاء من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى, فقدم يطلب الخير والهداية قال: [[فلما قدمت، والله ما زال بي كفار قريش يخوفونني من محمد عليه الصلاة والسلام, قالوا: احذره على نفسك، حتى أخذت القطن فجعلته في أذني]]-لئلا يسمع شيئاً من الرسول صلى الله عليه وسلم!
انظر إلى الدعاية المغرضة، وانظر إلى الإعلام الخائن الذي يشوه سمعة الصالحين! رسول الهدى، منقذ العالم صلى الله عليه وسلم؛ يريد إنقاذ البشرية ويلاحقه كفار قريش بالدعاية الآثمة المجرمة الغاشمة.
يقولون: ساحر، شاعر، كاهن! قال: فما زلت حتى وضعت القطن في أذني، فدخلت الحرم فرأيت الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب -أنت إذا رأيت وجه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ عرفت من أسارير وجهه أنه لا يكذب أبداً, حتى يقول ابن رواحة:
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبئك بالخبر
فهو لا يكذب أبداً, يقول عبد الله بن سلام -كما في سنن الترمذي -: جفل الناس، وأنا في سوق المدينة فانجفلت من الذي انجفل, فنظرت إلى وجه الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما تبينته عرفته بأن وجهه ليس بوجه كذاب.
يقول الطفيل بن عمرو: قلت يا عجباً لي! أنا شاعر فصيح, أعرف جد الكلام من هزله, فلماذا لا أسمع ماذا يقول، فإن أعجبني أسلمت وإلا تركت, قال: فأزحت القطن من أذني واقتربت منه, فإذا هو يقرأ القرآن, فوقع الإسلام في قلبي {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4]-يهدي هذا ويضل هذا, ويقدم هذا ويؤخر هذا- قال: فأسلمت ثم عرض عليه القصة, قال له: {يا رسول الله! عندنا حصن حصين -أي: حصن منيع في بلاد زهران - فهاجر إلينا يا رسول الله! فإن عندنا منعة وعزاً ومجداً -أو كما قال- فأبى صلى الله عليه وسلم} قال جابر وهو أنصاري: لما ادخر الله للأنصار من الخير -لأنه شرف في الدنيا والآخرة أن يهاجر إليهم الرسول عليه الصلاة والسلام- قال: فهاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة , وأما p=1000010>> الطفيل بن عمرو الدوسي فرجع داعية إلى قومه, كما قال تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31] فأسلم معه أكثر دوس.
وقد تأبوا عليه أول الأمر كما في صحيح مسلم في قصة أخرى، أنه قدم المدينة فقال: يا رسول الله! دوس فشا فيهم الزنا, وفي رواية: وكثر الربا, فادع الله يا رسول الله! على دوس, فرفع صلى الله عليه وسلم يديه واستقبل القبلة، قال الطفيل: هلكت دوس، هلكت دوس -ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يدعو عليهم بـ: اللهم اقطع دابرهم ودمرهم واجعل كيدهم في نحورهم, وما هكذا أسلوبه صلى الله عليه وسلم إنه أتى لإنقاذ الإنسان، ولإحياء القلوب، ولإنقاذ الشعوب من الضلالة, فكيف يدعو عليهم وهم ما سمعوا لا إله إلا الله- فقال صلى الله عليه وسلم: {اللهم اهدِ دوساً وأتِ بهم, اللهم اهدِ دوساً وأتِ بهم} فعاد الطفيل وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم آية حتى يصدقوه وهي من الآيات التي للأولياء، (كرامات للأولياء) فأوتي نوراً فوضع النور في جبينه, فلما أشرف عليهم وإذا وجهه يسطع نوراً حتى أضاء ما قبل عينيه إلى قراهم, فقال: اللهم اجعلها في غير وجهي فإني أخاف أن يقولوا: مثلة -أي: لئلا يقولوا مرضاً، أو أصابه شيء من الجن، أو مس من الشياطين- فوقع النور في رأس السوط, فكان إذا رفع السوط برقت الأودية بالنور -أودية زهران جميعاً- فقدم عليهم فدعاهم فأسلموا، لم يبق منهم إلا بيوت, وفي السير: أسلموا جميعاً عن بكرة أبيهم.
فقدم بكثير منهم، فلما وصل المدينة جلس إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ومع رفيق آخر, فمرض هذا المسلم الآخر فلما مرض كلّ من المرض, وتعب وسئم, فأتى على مشاقص وهي أشبه شيء بالمقصات، أو السكاكين فقطع أصابعه براجمها -والبراجم عقد الأنامل التي يجتمع عليها العفن- فلما قطعها سالت دماؤه ثم توفي, فرآه الطفيل في المنام وهو في أحسن حالة, وصورة, وفي أجمل منظر, قال: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بهجرتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, قال: ما لك تخفي يديك؟ لأنه يخبئها في المنام قال: قال الله لي: لا نصلح من جسمك ما أفسدت, فأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام في الصباح, فقال: {اللهم وليديه فاغفر}.
ما أحسن هذه العبارة" وليديه فاغفر" هذا مجمل قصة الطفيل بن عمرو.
وتتميماً لقصة هذا الداعية الشهير الطفيل , أخذ فداؤه وتضحيته في سبيل الله، يتنقل به من معركة إلى معركة حتى وصل اليمامة ضد مسيلمة الكذاب وفي تلك الليلة التي يصبح صباحها المعركة رأى في المنام أن رأسه حلق, وأن طائراً خرج من فمه, وأنه دخل في فرج امرأة, فعرض ذلك على علماء الصحابة في الصباح، قالوا: هذه الشهادة، أما الطائر فروحك تسافر إلى الحي القيوم كما قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] , ولذلك يقول بعض أهل العلم: الطائر في المنام إذا رؤي قد خرج فهي الروح.
وفي البداية والنهاية بسند حسن أورد ابن كثير في ترجمة ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما توفي في الطائف مكان مسجده الآن عرضت جنازته أمام الناس فرأوا طائراً أبيض على أكفانه، وسمعوا هاتفاً يقول: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
وأما المرأة التي تدخل فرجها فهذه الأرض, وأما حلق الرأس فالشهادة, لأنها تحلق الذنوب ولا تبقي خطيئة ولا سيئة, ورأى ابنه يلحقه ولا يدركه قالوا: يطلب الشهادة، ثم قتل ابنه في معركة أخرى.
سلام على أولئك النفر, ورضي الله عنهم جزاء ما قدموا للإسلام.
أما الراوي هنا فهو جابر بن عبد الله , وهنا لطيفة لأهل التخصص في علم الحديث, وهو أن هذا الحديث من رواية أبي الزبير وهي الصحيفة التي رواها أبو الزبير عن جابر , وأبو الزبير من التابعين وهو مدلس, والمدلس يروي عمن يروي دائماً وينقل، ولكنه لم يسمعه مباشرة منه، وهو تدليس الشيوخ, فهذا الحديث من الأحاديث التي دلسها أبو الزبير , كيف دلسها؟ كيف علم ذلك؟ وذلك لأنه يقول: قال جابر وعن جابر , فيحتمل أنه سمعه مباشرة من جابر أو من غير جابر.
والأستاذ العلامة الألباني رفع الله درجته وأثابه الله يقول: الذي تحصل عند أهل العلم أن كل روايات أبي الزبير عن جابر إذا لم يصرح بها فإنها مظنة الضعف، إلا رواية الليث بن سعد , فإن الليث بن سعد إذا قال: عن أبي الزبير عن جابر فقد صح الحديث.
وقال الذهبي رحمه الله: إذا روى أبو الزبير عن جابر فدلس ولم يكن من طريق ففي النفس منه شيء, ولو كان في صحيح مسلم , والصحيفة كلامها يطول وإنما ذكرتها لفتةً للمتخصصين في علم الحديث.(212/2)
معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم التي رواها جابر
جابر بن عبد الله هو ذلك العالم من علماء الأنصار الذي روى ما يقارب ثلاثة آلاف، وقيل أربعة آلاف من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام, وهو من أكثر الرواة في أحاديث السنة رضي الله عنه وأرضاه, وهو من أكثر من روى المعجزات في تاريخ الإسلام, وأبوه عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، الذي نتسلى بذكره وبقصصه دائماً، وهو الشهيد في معركة أحد والذي كلمه الله بلا ترجمان, والذي نظر الله إليه كفاحاً والله ينظر إلى كل مخلوق يوم القيامة كفاحاً, فقال: تمن يا عبدي! قال: أن تردني إلى الدنيا، فأقتل فيك ثانية, قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون, فتمنّ, قال: أتمنى أن ترضى عني, قال: فإني قد أحللت عليك وعلى إخوانك رضواني فلا أسخط عليكم أبداً القصة.
وعند ابن كثير: فجعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر ترد الجنة, فتأكل من أشجارها وتشرب من مائها, وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش.
جابر بن عبد الله رضي الله عنه روى -فيما أعلم- أربع معجزات هي في الصحيحين، بعضها في صحيح البخاري وبعضها في صحيح مسلم.(212/3)
حنين الجذع إلى النبي صلى الله عليه وسلم
في صحيح البخاري يقول جابر: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الجمعة, وقد قال في حديث سهل بن سعد في صحيح البخاري يقول البخاري: باب صنع المنبر أو صناعة المنبر أو نحو هذا, قال سهل بن سعد: قال صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: مري ابنك النجار يصنع لي منبراً أكلم الناس عليه, فصنع هذا الابن للرسول صلى الله عليه وسلم منبراً, وكان صلى الله عليه وسلم يتكئ على جذع نخلة قبل المنبر إذا أراد أن يخطب، فلما صنع له المنبر ترك هذا الجذع، وقام على المنبر يخاطب الناس عليه صلى الله عليه وسلم, فأول جمعة ترك الجذع فيها وقام على المنبر؛ خار الجذع، وصوّت في المسجد، وأصبح له بكاء كبكاء الأطفال, سمعه أكثر من ألف من الرجال والنساء والأطفال, فقطع صلى الله عليه وسلم خطبته ونزل أمام الناس ووضع يده عليه يدهدهه ويسكته حتى سكت, ولذلك تأثر الناس كثيراً، وبكى أكثر الناس؛ لأن هذا الجذع الخشب الجماد يبكي لفراق الرسول صلى الله عليه وسلم, فكيف بالإنسان؟ وكيف بالتابع؟ وكيف الذي يريد السنة؟
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
هذه قصة في البخاري.(212/4)
معجزته صلى الله عليه وسلم مع الشجرة
وهذه في صحيح مسلم ولا بد من تكرارها دائماً وأبداً حتى تحفظ.
قالوا: تكرر قلت: أحلى علماً من الأرواح أغلى
وإذا سمعت محمداً قال الملا: أهلاً وسهلا
يقول جابر: {رافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر, فلما ذهب لقضاء حاجته تبعته في الصحراء, فقال: يا جابر! تعال, قال: فاقتربت منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يقضي حاجته عليه الصلاة والسلام قال: يا جابر! اذهب إلى تلك الشجرة فقل لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك: تعالي} إن للرسول صلى الله عليه وسلم ألف معجزة من الله عز وجل على صدقه، وعلى إخلاصه، وعلى نصحه.
السماء تشهد أنه رسول الله، والأرض تشهد أنه رسول الله, والجبال تشهد أنه رسول الله, ولكن الكافر يوم أصبح عقله ودماغه كدماغ الحمار يقول: هذا سحر! فلذلك يقول الله له إذا أورده جهنم: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] هل النار سحر؟
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:14 - 15].
{فقال جابر: فوالذي أعطاني بصري وذهب به - وكان قد عمي في آخر عمره- لقد رأيت الشجرة أقبلت تخد الأرض خداً -تشقها شقاً- حتى وقفت بجانبه عليه الصلاة والسلام, والرسول عليه الصلاة والسلام يتبسم، لا يزيد على أن يقول: أشهد أني رسول الله, فيقول: ادع لي الثانية وقل لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك: تعالي, فذهب فقال لها كما قال للأولى, فأقبلت تشق الأرض شقاً، أو تخد الأرض خداً حتى وقفت بجانبه عليه الصلاة والسلام} هذا الحديث في صحيح مسلم , سنده كنجوم السماء.
من تلق منهم تقل: لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
{فلما انتهى صلى الله عليه وسلم أمر جابراً أن يأمر الشجرتين أن تعودا إلى موضعهما فعادتا كما كانتا} وهذه معجزة.(212/5)
معجزته صلى الله عليه وسلم في تكثير التمر
وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم , قال جابر: أتاني رجل من اليهود عليّ له دين, فقلت: أمهلني؟ فقال: والله لا أمهلك -أو حلف بإلهه وبآلهته- قلت: أنظرني قليلاً؟ قال: أنظرك, فذهبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أشكو له حالي, قلت: {يا رسول الله! هذا يهودي له عليّ مال كثير، ومالي لا يقوم بأداء ماله عليّ, قال عليه الصلاة والسلام: أعندك شيء من تمر؟ قلت: يا رسول الله! شيء قليل من تمر, قال: اجمعه لي حتى آتيك يأتيه في قباء في ديار بني سلمة عند المسجد فأتى عليه الصلاة والسلام قبل صلاة الظهر فدخل قال: أعندك عريش؟
قال: نعم, فنام فيه قليلاً صلى الله عليه وسلم, ثم استيقظ وأتى إلى التمر وهو حفنات قليلة, ودين اليهودي كثير, فأتى صلى الله عليه وسلم فأكل تمرة ثم دعا بالبركة في التمر, ثم قال: يا جابر! ادع ديانتك جميعاً -أي: كل من له دين عليك في المدينة ادعه ليأخذ من هذا التمر- فأعلن فيهم جابر فأتوا بأكياسهم، وأتوا بمواعينهم، وأتوا بكل ما يستطيعون أن يأتوا به فأخذوا, فقال جابر فوالله ما كأنه نقص تمرة واحدة، قال: فأشرفت على التمر, فتبسم عليه الصلاة والسلام قال: {أتشهد أني رسول الله، اذهب إلى عمر بن الخطاب وأخبره بهذا} انظر من اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم كيف اختار عمر؛ لأن عمر رضي الله عنه وأرضاه رجل إذا كسب فكأنه بألوف، بل بملايين من الرجال, فمثل هذه المعجزات تنفع في مثل عمر رضي الله عنه, فهو أشبه الناس بموسى عليه السلام, ولذلك كثّر الله لموسى من الآيات البينات, حتى موسى لما كلمه الله من فوق سبع سموات وليس بالأمر السهل فلما كلمه قال موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] , أي: لا أكتفي بالكلام.
فلذلك لما ذهب وأخبر عمر قال عمر: لقد علمت والله أنه رسول الله, والله لقد علمت أنه ما أتاك إلا وسوف يبارك الله في ذاك التمر.(212/6)
معجزته صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام في الخندق
ومعجزة رابعة وقد تكررت وهي معجزة الطعام, لما دعا جابر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحاب الخندق فكثّر الله لهم الطعام من عناق واحدة، وما يكفي ثلاثة أنفار من الشعير, فدخلوا وهم أكثر من ثلاثمائة وبعضهم يزيد العدد إلى سبعمائة, فأكلوا عشرة عشرة وبقي الأكل كما هو حتى شبع جيران جابر.
فهذه معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم التي عاشها جابر.(212/7)
شرح حديث: (اللهم وليديه فاغفر)
يقول في الحديث: " فاجتووا المدينة " يقول الطفيل بن عمرو: أتيت أنا وقريني هذا إلى المدينة فاجتوينا المدينة , فما معنى اجتوينا المدينة؟(212/8)
معنى الاجتواء
أي لم تناسبهم المدينة وكرهوا جوها وبغضوا الحياة فيها؛ لأنها موبوءة ولذلك دعا لها صلى الله عليه وسلم بالبركة, وسأل الله أن ينقل حماها إلى الجحفة كما جاء عند البخاري , قال: {اللهم إن إبراهيم دعا لـ مكة في صاعها ومدها بالبركة، فإني أدعوك أن تبارك في المدينة , اللهم انقل حمى المدينة إلى الجحفة} فنقلت حمى المدينة , لكن كأنه قدم الطفيل قبل أن تنقل الحمى, ولذلك لما قدم الصحابة المدينة وكانوا في جبال مكة , وهي وارفة وجيدة بالنسبة للجزيرة العربية , ماؤها طيب ووادي نعمان فيها، وفيها أرض لا بأس بها، لكن المدينة حارة، قاحلة، ذات حجار سود, فلما قدموا فيها استوخموها, حتى تقول عائشة في كتاب الطب في صحيح البخاري تقول: [[لما قدمنا المدينة مرض أبي، وعامر بن فهيرة وبلال بن رباح , فمررت على أبي فقلت: يا أبي كيف تجدك؟ قال:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
أبو بكر الحمى تهزه, والحمى تؤثر على المزاج حتى ينشد الإنسان أناشيد ولو لم يستطع أن ينشد, يلقي قصائد ومحاضرات, ومن الحسن أن الحمى تجعل الإنسان يتحفظ محفوظات، ويعيد جدول الضرب، وينشد ويلقي إلقاء عجيباً لأنها حمى, ولذلك العرب تكره الحمى, ويقولون: إن الحمى لا تترك مفصلاً من ثلاثمائة مفصل إلا تدخل فيه, وهي المكفرة للذنوب, حتى يقول أحد الأعراب:
زارت مكفرة الذنوب فقلت لها ألا ترجعين
يقول ابن القيم: ألا تقلعي.
وفد المتنبي على كافور في مصر وكافور هذا إخشيدي يلعب على حبلين, يقوم الليل وفي الصباح تقوم الجواري يغنين على رأسه, يقرأ المصحف وبعده يرقص مع الجواري, ولذلك لم يعرف له اتجاه، فوصله المتنبي يريد أن يأخذ إمارة, - المتنبي عنده طموح في الدنيا ولكن لا كَسَب الدنيا ولا الدين، نسأل الله العافية, لكنه شاعر العربية - فلما وصل مرض عند كافور , فيقول في قصيدة الحمى، وهي من أحسن القصائد:
ملومكما يجل عن الملام ووقع فعاله فوق الكلام
وزائرتي كأن بها حياءً فليس تزور إلا في الظلام
يقول: الحمى هذه كأنها تخجل مني, ما تأتيني إلا بعد صلاة العشاء, بعدما يتعشى ويشرب الشاي تأتيه الحمى بحفظ الله ورعايته.
بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي
أبنت الدهر عندي كل بنت فكيف نجوت أنت من الزحام
يقول: عندي كل مصيبة في الدنيا وكلما وقعت على رأسي, وحتى أنت تزاحمين مع المصائب لتدخلي في عظامي, فالعرب تتشاءم من الحمى- قالت عائشة كما في البخاري -: فمررت على بلال قلت يا بلال: كيف تجدك؟ قال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهي من أحسن قصائد العرب وهي للهذلي أوردها صاحب الأغاني وغيره وابن قتيبة , يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
شامة: جبل في مكة , وطفيل: جبل, والإذخر: شجر, وجليل: قيل: شجر، وقيل: جبل, والحمد لله سواء كان شجراً أم جبلاً لا يوجب الخلاف بين أهل السنة والجماعة لأن بعض العلماء إذا لم يعرف اسم شجرة في كتاب قال: شجرة تنبت في الهند لأنه يدري أنك لن تسافر إلى الهند فأحالك إلى معدوم, ومن أحالك على معدوم فما أنصفك.
قال: فاجتوينا المدينة والاجتواء أي: عدم الموافقة، فالرسول صلى الله عليه وسلم دعا الله أن ينقل الحمى من المدينة، ولذلك وفد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وفد من عكل وعرينة, سبعة وقيل: ثمانية -وهذه رواية سلمة بن الأكوع في البخاري - أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأكراشهم قد كبرت من السقم, ومن الهرم ومن الإعياء, بطونهم منتفخة كبيرة ولكن أعضاؤهم صغيرة, فنظر إليهم صلى الله عليه وسلم وإذا هم صفر الوجوه، ضمروا من التعب والإعياء, فأراد أن يعالجهم صلى الله عليه وسلم وأن يداويهم وانظر إلى حسن الخلق، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فأتى صلى الله عليه وسلم فقال: {اذهبوا إلى إبلي في الغابة فاشربوا من أبوالها وألبانها} وبول الإبل: طاهر, قال البخاري في صحيحه: باب طهارة أبوال الإبل، وأتى به في باب الوضوء, وبعض الناس إذا وقع عليه شيء رش من أبوال ما يؤكل لحمه, غسلوه وظنوا أنه تنجس ولم يتنجس, بل بول ما يؤكل لحمه طاهر- فذهب هؤلاء فشربوا من أبوالها، ثم شربوا من ألبانها فاصطحوا, فلما اصطحوا، ماذا كان الجزاء؟
أتوا إلى خادم الرسول صلى الله عليه وسلم راعي الإبل فقتلوه, ثم جدعوا أنفه, ثم قطعوا أذنيه, ثم قطعوا يديه وكفروا بالله العظيم, ثم استاقوا الإبل وخرجوا, قال سلمة بن الأكوع: فخرجت قبل صلاة الفجر بفرس لـ طلحة بن عبيد الله أريد أن أوصله الغابة فلقيني رجل من الخدم فقلت: ما لك؟ قال: خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل، ومثل به، واستيقت إبل الرسول صلى الله عليه وسلم, قال: فأشرفت على جبل من جبال المدينة فصوَّتُ بصوتي حتى أسمعت ما بين لابتي المدينة -هذا إعلان طارئ، واستنفار عام من سلمة وكان من أقوى الناس صوتاً، ومن أسرع الناس، وربما يكون فيمن ذكر في السير- فسمع الرسول صلى الله عليه وسلم الصوت قبل صلاة الفجر, فصلّى عليه الصلاة والسلام بالناس الفجر -لكن سلمة ما ترك هؤلاء بل خرج بعدهم- قال: فخرجت وراءهم حتى أدركني الضحى وأنا وراءهم، فإذا بهم بإبل الرسول صلى الله عليه وسلم يسوقونها إلى غطفان في نجد , فأخذت أرجمهم بالحصى وكنت من أسرع الناس, فإذا عادوا إليّ وبعضهم خيال أفر حتى أعتصم بالجبل, فإذا ذهبوا رميتهم بالحجارة وأريد تعطيلهم حتى يدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: حتى تحاجزنا مع الظهيرة يريدون الماء، وأبيت أن يشربوا من الماء، فيقول أحدهم: كم لقينا من هذا؟ وهو ينشد ويرتجز يقول:
إني أنا ابن الأكوع اليوم يوم الرضع
قال: ولما أتى الظهيرة وإذا بغبار قد انعقد على رأسي وعلى رءوسهم، فإذا هي كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقائدها كرز بن عبد الرحمن -البطل المجاهد الشاب, أعطاه صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة خيال من الصحابة، ومن شجعانهم فطوقوهم ثم أتوا بهم، فلما استدعاهم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة , أجلسهم في الحرة , ثم سمل أعينهم، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف, ثم تركهم حتى يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا, وهذا جزاء من كفر بالله، وحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم, هذا من الاجتواء.
اجتوى: هذه الكلمة لا بد من معرفتها قليلاً، ولو أنها قد وضحت إن شاء الله, فمعنى اجتويت الشيء: ما ناسبني, يقول أبو شريح وقيل: أبو سحيم الرياحي وهي من أحسن القصائد عند العرب:
أفاطم قبل بينك متعيني وإن لم تفعليه كأن تبيني
فإما أن تكون أخي بصدق فأعرف منك غثي من سميني
يقول: أريد أن تكون واضحاً، لا تكون مجاملاً ومنافقاً معي
وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني
فإني لو تخالفني شمالي ببغض ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعتها لقلت بيني كذلك أجتوي من يجتويني
أي: أبغض من يبغضني.
قال: (ثم قطع براجمه) وهي السلامى على الصحيح كما قال النووي: هي المفاصل, كم يكون في الأصابع أو في الكف الواحدة من سلامي!
يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {على كل سلامى من الناس صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس؛ تعدل بين اثنين صدقه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم, فالتسبيحة صدقة، والتهليلة صدقة، والتحميدة صدقة, وأمر بمعروف صدقة, ونهي عن منكر صدقة, ويجزي عن ذلك ركعتان يركعهما أحدكم من الضحى, أي: أنك إذا صليت في الضحى ركعتين اثنتين، خفيفتين قصيرتين، كتب الله لك الأجر ثلاثمائة وستين حسنة، بعدد هذه المفاصل, وهذا فضل من الله عظيم, والبراجم هذه هي التي في رءوس الأصابع التي يجتمع عليها الأوساخ, وفي رواية صحيحة: {وغسل البراجم} عشر خصال من الفطرة، وذكر صلى الله عليه وسلم فيها غسل البراجم, لأن الجاهليين لم يكونوا يغسلون هذه البراجم, فمن السنة غسلها عند الوضوء أو عند غير الوضوء حتى يكون الإنسان طاهراً نقياً.(212/9)
من تلبس بمعصية ومات عليها
من تلبس بمعصية هل يدخل الجنة إذا رجحت حسناته؟
نحن لا نقول كما قالت الخوارج: من ارتكب كبيرة فهو خالد مخلد في النار, كذبوا لعمر الله وتبت أيديهم, فقد هلكوا في هذه المسألة وفي غيرها وغلو غلواً كبيراً, وهؤلاء الخوارج كفروا الناس بالذنوب, والمرجئة قابلوهم فقالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب, وتوسط أهل السنة والجماعة والسلف الصالح وقالوا: لا, أخطأتم أيها الخوارج , فلا يكفر العبد بالذنوب إذا كانت أصول الإيمان عنده، ولكن من ارتكب كبيرة فهو تحت رحمة الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، لكنا نخشى عليه العذاب, وأنتم أيها المرجئة! أخطأتم كذلك حينما قلتم: لا يضر مع الإيمان معصية, بل تضر المعصية فهي تنقص الإيمان، وتخدش الحياء، وتقطع الحبل مع الله, وتورث الوحشة، وربما يدخل بها صاحبها النار، لكن لا يخلد في النار, فهذا توسط أهل السنة والجماعة.
فشاهدنا من هذه القصة أن هذا الرجل قتل نفسه.
وما حكم قتل النفس؟! قتلها كبيرة من الكبائر, وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من قتل نفسه بسم كان معه سمه في النار يتحساه, ومن قتل نفسه بسكين كانت معه سكينه يقتل أو يجأ بها في بطنه في النار, ومن قتل نفسه بشيء -أو كما قال صلى الله عليه وسلم- عذب بهذا الشيء في النار} فهذا الرجل لما قطع براجمه استعجل والله عز وجل هو الذي أعطى الروح وأعطى النفس, فليست ملكاً لصاحبها حتى يبادر بإهلاكها وإزهاقها, فمن أكبر الكبائر أن يقتل الإنسان نفسه, أو ينتحر, وهذا ليس في الإسلام فإنه ليس في الإسلام صعوبة تصل بهذا العبد إلى هذه الدرجة, صحيح أن الذي ينتحر هو الذي ما ملأ قلبه بلا إله إلا الله, الذي ينتحر هو الذي ليست له مبادئ في الحياة, الذي ينتحر هو الذي لا يؤمن بالله عز وجل، لا يؤمن بنعيمه ودرجاته وثوابه.
والعجيب أن صاحب كتاب " دع القلق وابدأ الحياة " دايل كرنيجي الأمريكي ترجم بتسع وخمسين لغة من لغات العالم، وهو من أشهر كتب الدنيا, هذا الرجل أراد أن يعالج الناس, يقول: إن القلق ضرب الناس حتى ملأت المستشفيات في أمريكا من أهل القلق والاضطراب، وأراد أن يعالجهم فألف لهم هذا الكتاب, ثم في آخر عمره انتحر هو بالسكين!! هو الذي يريد أن يعالج الناس انتحر بالسكين وقتل نفسه, لماذا؟ لأنه ما عرف طريق الله، وطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
فالشاهد هنا أن هذا الرجل لما حشر وذنبه دخل الجنة، لأن حسناته أكثر، أسلم وهاجر، وجاهد وصام وصلّى فكثرت حسناته على سيئاته فدخل الجنة.(212/10)
أقسام المسلمين عند الله عز وجل
والناس عند الله عز وجل من المسلمين ثلاثة أقسام, فاعلم من أي الثلاثة أنت، والله لتنزلن أحد المنازل الثلاثة إن كنت من المسلمين, ونسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الإسلام, أما إذا خرج الإنسان عن الإسلام فهذا أمر آخر.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] فأنت يوم القيامة إن كنت مسلماً سوف تنزل أحد المنازل الثلاثة ليس لك منزل رابع إلا من خرج عن الإسلام، نسأل الله العافية.
القسم الأول: الظالم لنفسه: وهو من يخل ببعض الفرائض، ويرتكب بعض الكبائر, هذا تعريف, أي: يخل بفرائض الإسلام, قد يزني أو يشرب الخمر أو يسرق هذا ظالم لنفسه لكنه لم يخرج عن دائرة الإسلام, لا نقول كما قالت الخوارج أنه خرج من الإسلام.
القسم الثاني: المقتصد: وهو الذي يؤدي الفرائض، ويجتنب الكبائر، لكنه لا يأتي بالمستحبات ولا يترك المكروهات.
القسم الثالث: السابق بالخيرات: وهذا من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , هو الذي يأتي بالفرائض والنوافل والمستحبات ويترك الكبائر والمحرمات والمكروهات, فسيره حثيث دائماً.
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
هؤلاء هم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم, قال ابن تيمية: الناس مقتصدون أصحاب يمين, وأبرار سابقون بالخيرات، يقصد الصلحاء ويأتي في الفجار من هو ظالم لنفسه، لكنه لا يزال في دائرة الإسلام، وهو تحت رحمة الله عز وجل, لكن نخشى عليه التنكيل والعذاب.
وهنا مداخلة بسيطة، وهي عبارة عن سؤال حول هذه الآية: قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء:93] أحسن ما قيل فيها والله أعلم قول ابن عباس رضي الله عنه قال: [[جهنم جزاؤه إن شاء الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى جازاه بها فهو خالد مخلد وهي جزاؤه, وإن شاء غفر له]] لكن هنا مسألة كيف يكون خالداً مخلداً؟ قيل: هو من يستحل القتل, أي: أنه يرى أن القتل حلال, يقول له: كيف تقتل نفساً معصومة؟ قال: أحل الله القتل, فهذا خالد مخلد؛ لأنه أنكر أمراً من أمور الله عز وجل أو من نهيه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, وقيل: هذه ليست على الأشخاص لم يقل الله: فلان إذا قتل فلاناً دخل النار خالداً مخلداً, لكن جعلها الله على العموم وليس على الأشخاص, لكن جزاؤه إن شاء عذبه وإن شاء رحمه, هذا من أحسن ما يقال فيمن يستحل القتل، أما الذي لا يستحل القتل، فقد ارتكب كبيرة وأمره عند الله عز وجل.(212/11)
أحسن الدعاء
من رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته, دعاؤه لهم عليه الصلاة والسلام, ولذلك لم يغضب عندما أخبره الطفيل بن عمرو أن هذا قتل نفسه ومع هذا لم يغضب عليه الصلاة والسلام بل قال: {اللهم وليديه فاغفر} والرسول صلى الله عليه وسلم كان من أرحم الناس بالأمة, ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فهو رؤوف بهم رحيم بهم عليه الصلاة والسلام، وقد دعا لأناس في مناسبات.
{زار عليه الصلاة والسلام البراء بن معرور في المدينة فوجده مريضاً, فلما زاره وانتهى عليه الصلاة والسلام وعاد إلى مسجده وإذا بصوت البكاء فالتفت فقال: ما هذا؟ قالوا: توفي بعدك البراء يا رسول الله! فالتفت إلى القبلة وقال: اللهم الق البراء يضحك إليك، وتضحك إليه} هذا من أحسن الأدعية في الإسلام, لا يتصور الإنسان أن يلقى ربه وهو يضحك إليه، والإنسان يضحك إلى الله!
وفي صحيح البخاري قال أبو موسى: {لما قتل أخي أبو عامر أتيت الرسول عليه الصلاة والسلام، قلت: يا رسول الله! ادع الله لأخي؟ قال: فتوضأ عليه الصلاة والسلام واستقبل القبلة يدعو قال: فوقفت بجانبه وقلت: ولي ولي يا رسول الله!} -فقد استغلها فرصة، رضي الله عنه وأرضاه, هو أول الأمر نسي نفسه وأراد أخاه، وعندما قام صلى الله عليه وسلم يدعو فلما رأى اليدين ترتفعان، وعلم أنه مجاب الدعوة، وأنه أفضل خلق الله، قال: {ولي ولي يا رسول الله! فأخذ صلى الله عليه وسلم وهو يدعو يقول: اللهم ارفع أبا عامر وأبا موسى فوق كثير ممن خلقت وفضلهم تفضيلاً} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ودعا صلى الله عليه وسلم لـ أبي قتادة فحفظه الله، وحفظ ذريته, يقول أبو قتادة: {سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -في غزوة تبوك - وكان صلى الله عليه وسلم على ناقته, فأخذ بعد صلاة الفجر ينعس حتى يكاد يسقط, فأقترب منه وأدعمه، وأرده على الناقة فينتبه وينظر إليّ, قال: فينعس صلى الله عليه وسلم فأرده حتى يستثبت, وقال: ثالث مرة مال عليه الصلاة والسلام فدعمته بيدي فانتبه فرآني فقال: حفظك الله بما حفظت نبيه} ما أحسن هذه الكلمة! فحفظه الله في ذريته، وفي قلبه، وفي بيته، فما أصابته فتنة أبداً, مرت به الفتن وكأنه في بروج مشيدة عنها, وكان أبناؤه من خيرة الناس، ولما نزلت الفتن لم تصب ذريته بفتنة، ولم تصب بالحوادث والكوارث، والفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن, لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {حفظك الله بما حفظت نبيه}.
وكان عليه الصلاة والسلام يعطي كلاً ما يناسبه من الدعاء, إذا جاءه بنحيل البنية يسأله صلى الله عليه وسلم فماذا يدعو؟ يقول: {قل لا حول ولا قوة إلا بالله} , لأن لا حول ولا قوة إلا بالله كنز وقوة, تقوي العبد كحالة أبي ذر رضي الله عنه فقد كان حاداً وضعيفاً فقال: {يا رسول الله! أوصني؟ فأوصاه بثمان -هذا عند ابن حبان - قال: وعليك بلا حول ولا قوة إلا بالله فهي كنز من كنوز الجنة} فأتى الصحابة كما في الصحيحين من حديث أبي موسى - يصعدون الثنايا ويكبرون ويرفعون أصواتهم, قال عبد الله بن قيس وكنت أقول في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله -ما يسمعه حتى الرسول صلى الله عليه وسلم- قال: فاقتربت من الرسول عليه الصلاة والسلام فقال للصحابة: {يا أيها الناس أربعوا -أي: خففوا من الصوت- على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً وإنما تدعون سميعاً بصيراً، أقرب لأحدكم من عنق راحلته، ثم التفت إليّ وقال: يا أبا موسى يا عبد الله بن قيس! ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله, قال: عليك بلا حول ولا قوة إلا بالله} فلا حول ولا قوة إلا بالله جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لحمل الأثقال للبنية الضعيفة، لمن يصعد الجبال لمن يزاول أموراً مهمات من أمور الدنيا, أما الإنسان الجالس على فراشه فأنسب له غير هذا ولو أنه قال: لا حول ولا قوة إلا بالله لكتب له أجر, لكن إنسان نائم على فراشه وهو طيلة يومه: لا حول ولا قوة إلا بالله هو مأجور ومشكور لكن يقول أهل العلم: إن من الأحسن أن يتذكر الإنسان حاله ثم يأتي بحال تناسب أو بذكر يناسب هذا الحال.
أنت إذا رأيت الجبال الشاهقة، والأشجار الوارفة، ورأيت آيات الله في الكون؛ لمع الضياء؛ وخرير الماء.
وكتابي الفضاء أقرأ فيه صوراً ما قرأتها في كتاب
فما هو الذكر المناسب؟ المناسب إذا رأيت ذلك أن تقول: سبحان الله! لأن الله إذا أتى بالآيات في القرآن قال: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23].
لأنك تنزهه، فهل بعد هذه الآيات، وبعد هذا الكيان، وبعد هذا الفلك، وبعد هذه القدرة يعبد من دون الله، سبحان الله! فأنسب شيء لهذه الآيات أن تقول: سبحان الله!
رأيت نفسك وصحتك وأبناءك أمامك, ورأيت دارك ومسكنك وسيارتك فالأنسب أن تقول: الحمد لله! وأول من يدخل الجنة الحامدون، الذين يحمدون الله في السراء والضراء.
تذكرت ذنوبك وخطاياك وإسرافك وبلاياك وبعدك عن مولاك فالأنسب لذلك أن تقول: أستغفر الله.
تذكرت الوحدانية، وأثقل كلمة في التاريخ هي لا إله إلا الله حتى يقولون: إن الكلمات كلها تنضم الشفتين فيها إلا لا إله إلا الله فتبقى الشفتان غير مضمومة في هذه الكلمة لا إله إلا الله, يقول ابن الجوزي: لا إله إلا الله لا تقبل المزاحمة حتى النقط ليس عليها نقط، الله أكبر فيها نقطة، سبحان الله فيها أيضاً نقطة, لكن لا إله إلا الله ليس فيها نقط لأنها كلمة دمرت الدنيا من أجلها خمس مرات, قال ابن تيمية: أفضل الذكر لا إله إلا الله.
جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه حصين بن عبيد وهو أبو عمران بن حصين، بعض الناس ضبطه ابن معبد لكن صاحب الإصابة يقول: ابن عبيد , وصاحب أسد الغابة يقول: ابن عبيد , قدم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم -خزاعي من خزاعه- فقال عليه الصلاة والسلام: {كم تعبد يا حصين؟ قال: أعبد سبعة -أي: سبعة آلهة- قال عليه الصلاة والسلام: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء} لأن الجاهليين بلغ بهم الإسفاف وهبوط العقل إلى درجة عقول الأطفال, بل الأطفال يميزون أكثر من ذلك, يأتي بأثافي -والأثافي هذه حجارة توضع عليها القدر- فإذا طبخ وتغدى؛ قام على حجر من هذه الأثافي يصلي له، ويسجد له, أهذا عقل؟ وإذا أعجبته شجرة طويلة وجميلة سجد لها، وعبدها من دون الله, فإذا رأى شجرة أخرى تفل هذه ورجع إلى تلك.
عمر رضي الله عنه وأرضاه قبل إسلامه أتى بصرة من التمر ولو أن في سند هذه الرواية نظراً، قال: فكان يصلي ويعبد ويسجد لها من دون الله عز وجل في الجاهلية، فإذا جاع أكل منها ما شاء الله، يأكل من ربه!!
أحدهم ذهب إلى آلهة -في جدة في جهينة- فأتى وإذا آلهتهم صنم تبول عليه الثعالب, قال:
أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب
فالله عز وجل نقدهم في القرآن وشن عليهم وشجب أفعالهم بشيء عجيب, ولذلك إذا ذكر الله الشرك في القرآن فإنه يذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ويستهزئ بأصحابه, ويقول: أين العقول؟ يخاطبهم الله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] , {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [يونس:3] , {أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:72].
فالشاهد في ذلك أن هذا أتى فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {كم تعبد؟ قال: سبعة, قال: أين هم السبعة؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء, قال: من لرغبك ولرهبك؟} -أي: من إذا اشتدت عليك الأمور, وذلك أنهم كانوا إذا اشتدت عليهم الأمور تركوا التمر، والشجر، والحجر الذي يعبدون، وعادوا إلى الله, جُربوا في مواضع, إذا ركبوا من جدة في السفينة ومرت عليهم الريح عاصفاً، قاصفاً، وأحسوا بالهلاك قالوا: يا حي يا قيوم! يا رب يا رب! فإذا نزلوا في الساحل وقبل أن يأخذوا أمتعتهم من السفينة يكفرون بالله! قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65].
- قال: {من لرغبك ولرهبك؟ قال: الذي في السماء, قال: فاترك التي في الأرض واعبد الذي في السماء, فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, قال: ألا أعلمك دعاءً تدعو به ينفعك الله به؟ قلت: بلى يا رسول الله, قال: قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي} ينبغي أن نحفظ هذا الدعاء، وهو من أحسن الأدعية على الإطلاق, لأن حاله ملتبسة فيناسب أن يهديه صلى الله عليه وسلم لهذا الدعاء.
يقول علي بن أبي طالب: {علمني يا رسول الله! دعاءً أدعو الله به, قال صلى الله عليه وسلم: قل اللهم اهدني وسددني, واذكر بهدايتك هدايتك الطريق، وبتسديدك تسديدك السهم} هذا حديث في صحيح مسلم فكان علي دائماً يقول: اللهم اهدني وسددني, فهداه الله وسدده, حتى في حروب الطوائف المارقة مثل الخوارج وغيرهم، هداه الله فقتل المارقين، ورفع راية الدين، واتبع سيد المرسلين فله الرضوان من رب العالمين.
وأبو بكر يقول: يا رسول الله! علمني دعاءً أدعو به في صلاتي؟ قال: {قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وفي رواية: كبيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم}.
هذا حديث أبي بكر في الصحيحين.
وحديث معاذ يقول له صلى الله عليه وسلم: {يا معاذ! والله إني لأحبك -ما أحسنها من كلمة! - لا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} فجعل صلى الله عليه وسلم لكل أحد ما يناسبه.
وانظر كيف يقسم صلى الله عليه وسلم الأدعية بمناسبة الناس, يأتيه ابن عباس وهو شاب صغير متهيئ لطلب العلم فدعا له قال له كما في الصحيحين: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} ففقهه الله فكان حبر الأمة, وترجمان القرآن, وبحرها وعلامتها، ولسان منبرها رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الحديث الذي معنا هذه الليلة ينتهي بقصة سعد قال للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة, قال: يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة} ثم قال: {اللهم سدد رميته وأجب دعوته} فكان إذا رمى بالقوس لا تقع الرمية، ولا يقع السهم إلا في نحر كافر, يقول له صلى الله عليه وسلم يوم أحد: {ارم سعد فداك أبي وأمي} قال علي بن أبي طالب: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي أحداً بأبيه وأمه إلا سعد بن أبي وقاص.
كان عليه الصلاة والسلام إذا رمى سعد الكفار ارتفع صلى الله عليه وسلم من بين الناس ينظر الرمية، فيراها تقع في لبة كافر فإذا هو مشدوخ كالثور على الأرض, فيتبسم عليه الصلاة والسلام ويقول: {إرم سعد فداك أبي وأمي} , وكان يقول: {هذا خالي فليرني كلٌ خاله} كأنه يتحدى به, فـ سعد هذا الأسد في براثنه.
ولما خرج عمر رضي الله عنه لقيادة المعركة الفاصلة مع كسرى أنوشروان الضال جد الخميني , خرج عمر رضي الله عنه يريد تصفية حسابه فلما نزل في غدير الخضمات اجتمع به الناس, فأراد أن يقودهم فأتى أبو الحسن علي بن أبي طالب قال: يا أمير المؤمنين! إلى أين تذهب؟ قال: أقود المعركة أقود المسلمين, قال: يا أمير المؤمنين! إنك إن قتلت -انظر إلى عقلية أبي الحسن رضي الله عنه- لم يكن للناس درء ودرع بعدك، وإني أخاف أن يستحوذ على عاصمة الإسلام - المدينة - فأرى أن تبقى في المدينة وأن ترسل جيشاً فإذا غلبوا كنت لهم ردءاً وردفاً أو كما قال, فاستصوب عمر هذا الرأي, قال: لكن من يقوم بهذه المهمة؟ قالوا: نفكر -فدخلوا الخيمة يفكرون ملياً، من يختارون في هذا المنصب الخطير! فإنه ليس منصباً سهلاً، ليست إلقاء كلمة أو خطبة أو محاضرة، أو إرسال لرعي غنم أو إبل، أو رسالة يوصلها ويرجع، لا: بل هي دكدكة إمبراطورية الظلام، التي عشعشت في تاريخ الإنسان, ومعناها أن يجتاح هؤلاء الظلمة عن وجه الأرض، وأن تؤسس لا إله إلا الله في الأرض، فدخلوا في خيامهم وأتى عبد الرحمن بن عوف يهرول إلى عمر رضي الله عنه وقال: يا أمير المؤمنين! وجدت الأسد في براثنه, قال: من؟ قال: سعد قال: أصبت أصاب الله بك الخير, واختاره عمر واسمع وصايا القائد الخليفة، للقائد العظيم يقول: يا سعد لا يغرنك قول الناس: إنك خال رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن الناس ليس بينهم وبين الله نسب, أحبهم إلى الله أطوعهم له فإياك والمعاصي، هذه وصايا صادقة من عمر تقبلها سعد رضي الله عنه تقبل الله منا ومنه, وخرج ودكدك ذلك الظلم, وبنى دولة الإسلام، ولما دخل إلى إيوان كسرى رآه مموهاً بالذهب، فكبر سعد فانصدع الإيوان من أوله إلى آخره, ودمعت عينا سعد دموع الفرحة, وقال: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} [الدخان:25 - 28].
ويذكر أهل السير أنه بعد ما يقارب خمسين سنة, دخل رجل اسمه أبو صخر وقيل: ابن مالك، (غامدي) دخل بغنمه فرعت حول الإيوان، ودخل بعضها في الإيوان, لأن شيئاً أسس على الضلال يعاد إلى هذا, ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري: {إن على الله حقاً ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه}.
القاهر أحد الخلفاء العباسيين -نسأل الله أن يغفر لنا ولكل من سلف- ذكر ابن كثير في ترجمته قال: أتى القاهر فكان أول ما فعل أن بطش بالناس، قتل كثيراً, وجمع الذهب والفضة وحفر بركاً في الأرض -خزانات- وأخذ الذهب والجواهر يصبها في الأرض صباً, فيقول له الناس: ما لك؟ قال: أريد ألا أفتقر أبداً, لأن الذي لا يستند إلى الله ولا إلى غنى الله وثروته؛ سوف يفتقر قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96].
فهذا اعتمد على قوته ولم يعتمد على الله, أخذ الذهب والمجوهرات والفضة وكل شيء وأخذ يضعها في البرك, فإذا امتلأت البركة غطاها, ويفتح بركة أخرى, خزانات من الأموال, لكن في الأخير ماذا حصل! عزل من خلافته, وسلبت أمواله, وفرق أولاده جميعاً، وسملت عيناه حتى عمي, وقام بعد عشرين سنة في مسجد المنصور في بغداد يمد يديه: من مال الله أيها الناس! لأن من اكتفى بالله رعاه وكفاه, ومن حفظه حفظه, ومن ضيعه ضيعه, والجزاء من جنس العمل.(212/12)
حديث زيد بن خالد الجهني
هذا هو الحديث, وما بقي من الوقت لحديث آخر في الأحكام وهو حديث زيد بن خالد الجهني , يقول زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه وأرضاه أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! ضالة المال -وفي رواية ضالة الذهب- قال صلى الله عليه وسلم: اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها, قال: يا رسول الله! فضالة الإبل؟ فغضب عليه الصلاة والسلام حتى احمر وجهه, ثم قال: ما لك ولها، دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وترعى الشجر، قال: يا رسول الله! فضالة الغنم؟ قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب} متفق على هذا الحديث, وفيه قضايا.
انظر إلى فقه البخاري عندما بوب لهذا الحديث: باب الغضب في الموعظة, أي: هل يجوز للأستاذ أن يغضب؟ أو حرام عليه أن يدخل الحصة جميعاً من أولها إلى آخرها ثم لا يغضب أبداً ولا يحمر وجهه؟ لا.
إن له أن يغضب، ومن المصلحة أن يغضب, والله يقول عن موسى وهو معلم من المعلمين {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} [الأعراف:154] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55].
أي: أغضبونا، والمعنى: تجاوزوا الحد حتى انتقمنا منهم, والرسول صلى الله عليه وسلم غضب لكن غضبه لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
يقول أحمد شوقي:
وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة في الحق لا كبر ولا ظغناء
وإذا سعيت إلى العدا فغضنفر وإذا جريت فإنك النكباء
فالرسول عليه الصلاة والسلام إذا غضب، غضب لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
أتاه هذا السائل يقول: يا رسول الله! ضالة المال، هذه المجوهرات الثمينة، وهناك السوط وهو لا يعرَّف أو شيء يستحقر، أو لا تتبعه إلا همة أراذل الناس هذا لا يعرف, إنسان يجد حبلاً طوله متران في الأرض ويظل في الجوامع دائماً بعد صلاة الجمعة: من ضيع جداً طوله متران نايلون؟!! لونه أصفر!! وجدته الساعة كذا!! في شمسان! فمن هو حقه فعليه أن يأخذه! أو يخبر به!! وأنا أريد أن أبرئ ذمتي! هذا لا يستحق وقوفك ولو دقيقة معه, فهذا لا يعرف به, إنما يعرف بالأمور المهمة الخطيرة, وتعريفها سنة كما قال عليه الصلاة والسلام, وتعريفها في مجامع الناس, لكن قبل هذا ما هو المال الذي يعرف؟
المال الذي يعرف هو ما له ثمن, إنسان وجد شيئاً من مال، فعليه أن يعرف وعاءه وعفاصه ووكاءه, والوكاء ما يوضع في فيه, والحبل الذي يشد به, إذا وجدت حقيبة فيها مال فتعرف عليها ثم عرفها, لا تأت إلى الناس وترفعها وتقول: من ضيع هذه الحقيبة، كلهم سيقولون: نحن أضعناها, أو تجد قلماً وتقول: من ضيع هذا القلم؟ فيأتي الطلاب كلهم يقولون: نحن ضيعناه؛ لأن الناس يريدون التملك, والقلوب بين يدي الله عز وجل, لكنك تأتي وتقول: من ضيع قلماً طوله كذا، وعرضه كذا ولونه كذا أو ساعة! وتعرفها ثم يأتي صاحبها ويأخذها.
هذا أشعب الطماع أحد الطفيليين في المدينة المنورة، كان شديد الطمع، وجد ثلاثين ديناراً في السوق, ثلاثون ديناراً تعني مكسباً وهو فقير مسكين, وسموه بالطماع؛ لأنه لا يسمع بمناسبة أو حفل زواج، أو أكل أو شرب، إلا ويذهب إليها, يقول: والله ما رأيت إنساناً يصنع الصحون إلا قلت: وسع! وسع! في الصحن, فيقول له الصانع: لماذا؟ قال: أخشى أن يهدى لي فيه طعام فيكون الطعام قليلاً!
وأتى مرة فاجتمع عليه أطفال المدينة يلعبون معه فآذوه, فلما آذوه قال: إن في ذاك البيت زواجاً, يريد أن يتخلص منهم, فهرولوا إلى ذاك البيت, فلحقهم وقال: قد يكون الخبر صحيحاً!! ذكر ذلك الذهبي وغيره.
شاهدنا في هذه القصة أنه وجد ثلاثين ديناراً في السوق, فلما رفعها قال: الحمد لله ما شاء الله هذا مكسب ولم يستحلها بهذه الطريقة, ذهب إلى عالم من علماء المدينة , قال: وجدت ثلاثين ديناراً, قال: عرفها في السوق, فذهب أشعب وقال: إذا عرفتها فسيأخذها الناس, فاشترى بها قطيفة وقال: من ضيع قطيفة؟! فلم يأخذها أحد فتملكها.
فالمقصود أن الإنسان إذا وجد معيناً كما قال صلى الله عليه وسلم يعرفها بعينها, لا أن يجد خمسمائة ريال ورقة ويقول: من ضيع خمسمائة ريال متفردة، بالريال؟! أو يغير من لونها, يقول: {اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة}.
قال صاحب تيسير العلام: وللأجهزة الآن أن تتدخل في الإعلام، وهذا لا بأس به عند علماء الإسلام, لكن الأشياء الخطيرة مثل التلفاز والراديو والصحف اليومية، يجوز أن يعلن فيها لكن للأشياء الثمينة, أما أن يجد الإنسان خمسين ريالاً فيذهب إلى جريدة عكاظ وجريدة الجزيرة وجريدة الندوة يعلن ثلاثة إعلانات بمائة وخمسين ريالاً, من ضيع خمسين؟!!
ضيع أعرابي ناقة, فقال: من وجد لي ناقة وله ناقة؟ قالوا: كيف تعطي على الناقة ناقة؟ قال: إنكم لا تعرفون بفرحة الغائب إذا أتى! فهو يريد أن يدفع الحاضر حتى يجد الغائب.
فغضب النبي عندما ذكر الإبل, لماذا غضب صلى الله عليه وسلم؟
غضب لأنه تعرض لشيء لا يتعرض له, فمن قال لك أن تتصيد إبل الناس وهي تمشي ولا خوف عليها, قال: {يا رسول الله! ضالة الإبل, فغضب حتى احمر وجهه صلى الله عليه وسلم, قال: ما لك ولها؟ دعها فإن معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر} يقول عليه الصلاة والسلام أنت لست مكلفاً بها، الإبل لا يخاف عليها, لا يأكلها السبع، ولا يجترئ عليها الذئب, ولا تموت ظمأ, وفي الغالب لا تموت جوعاً, لأن الجمل يصبر على الجوع أياماً كثيرة، وكذلك الظمأ, وهو قد يصارع النمر، والأسد، فهو ينجو بنفسه, والذئب لا يجترئ على الجمل, فيقول صلى الله عليه وسلم: {دعها، فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وترعى الشجر}.
قيل لـ ابن الجوزي: ما رأيك في الإنسان الجاهل إذا اعتزل عن الناس؟ قال: عزلته خبال ووبال وضلال, قالوا: والعالم إذا اعتزل؟ قال: العالم إذا اعتزل دعها فإن معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها, ومعنى ذلك أن الإنسان إذا وجد مثل هذه الأمور، يعني: الإبل فلا يتعرض لها.
أما البقر فهي مسألة خلافية, وأما الغنم ماذا يفعل بها؟ قال صلى الله عليه وسلم: {هي لك أو لأخيك أو للذئب} يقول عليه الصلاة والسلام إذا وجدت ضالة غنم فخذها، فإنك إن لم تأخذها أخذها الذئب, لكن ماذا تفعل بها؟ تستمتع بها، فإن جاء صاحبها فعليك أن تؤدي ثمنها له، وجدت شاة في الفلاة, وليس معنى ذلك أن يأتي الإنسان إلى الحارات فإذا وجد كبشاً داخل الحارة يأخذه: ويقول: هي لك أو لأخيك أو للذئب, -لا! - هذه في الفلوات.
يقول الإمام مالك: حدود العمار لا يتعرض لها، أي: لا يتعرض لسوارح الناس ومواشيهم ومزارعهم فيأخذ الضالة ويقول: هي لك أو لأخيك أو للذئب, -لا- المقصود بذلك في الصحاري, يأخذها من الصحاري ثم يذبحها فإن أتى صاحبها فبها ونعمت، وإلا فليستمتع بها وغفر الله له ذنبه, وبعض أهل العلم يقول: لو تصدق بها على نية صاحبها لوصلت بإذن الله، مثلاً: إنسان كان له أجير عامل، اشتغل له في عمارة ثم ترك أجره وذهب إلى بلاده, ماذا يفعل؟ إذا لم يستطع إرسال هذا المال، وظن أنه لن يعود وغلب ذلك على ظنه، فليأخذ ماله، وليتصدق به على نية ذلك العامل, هذا هو الحكم إن شاء الله فيه.(212/13)
زيد بن خالد يروي حديثاً في العقيدة
زيد بن خالد الجهني له فيما أعلم أحاديث قليلة، ما يقارب أربعة أو خمسة أحاديث في البخاري، منها حديثه الشهير وهو من الأحاديث المعتمدة في كتاب التوحيد وفي العقيدة الإسلامية, وفيه فوائد جمة.
يقول: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر في الحديبية في إثر سماء من الليل أي: بعد نزول مطر في الليل فلما صلّى بنا صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر التفت إلينا قال: {أتدرون ماذا قال ربكم تبارك وتعالى؟ قلنا: لا يا رسول الله! -وربما قالوا: الله ورسوله أعلم, وهذا خطاب الصحابة دائماً- قال: يقول الله عز وجل: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب, وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب}.
هذا الحديث من أعجب الأحاديث, ولذلك أتى به الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد، وقرره كثير من أهل العلم كـ ابن القيم وابن تيمية قبله, وغيرهم كثير, وهو ينهى عن مسألة التعلق بالأسباب من دون الله عز وجل.
معنى الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزل في الحديبية ومعه الصحابة، أمطرت السماء بفضل الله عز وجل في الليل, فلما نزل المطر والغيث صلّى بهم صلى الله عليه وسلم, فالتفت بعد الصلاة يحدثهم عن هذه القضية العقدية الكبرى, قال: (أتدرون ماذا قال ربكم؟) من أخبره صلى الله عليه وسلم أن الله قال؟ إنه بطريق الوحي, الله يوحي إليه كما قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4 - 5].
فقال الصحابة متهيبين متورعين مستحين: الله ورسوله أعلم, قال: (فإن الله يقول أصبح من عبادي) يعني: في هذا الصباح بعد هذا المطر, أصبح الناس صنفين:
صنف يقول: مطرنا بفضل الله ورحمته, وهذا مؤمن بالله كافر بالكواكب؛ لأن الكواكب لا تنفع ولا تضر, بل هي خلق من خلق الله عز وجل.
وصنف آخر يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا وهذا موجود عند بعض الناس, أن يقول: مطرنا بنوء الثريا، أو بسهيل، أو بالسبع! فهذا كافر بالله مؤمن بالكواكب, لكن في الأمر تفصيل.
ومشهور عند الناس هنا وفي الأوساط الاجتماعية أنهم يقولون: إذا دخلت هذه السبع، أو دخل سهيل، أو دخلت الثريا نزل الغيث, فهل هذا تعليق للغيث بالكواكب أو كفر بالله؟ -لا- إن معنى كلامهم إن شاء الله -كما يقول ابن الأثير - إن هذه المواعيد وهذه الهيئات وهذه العلامات مواعيد لنزول الغيث من الله عز وجل, فهي علامات فحسب, فلا ضير عليهم وليس عليهم إن شاء الله بأس, الذي يقول مثلاً: يمطر بنوء كذا أو سوف يأتي نوء كذا ومعه المطر فمعناه: أنه علامة للمطر, وأنه في وقت نزول الغيث من الله عز وجل, وهؤلاء معتقدهم أن الذي ينزل الغيث هو الله, وأنه هو الذي يكشف الضر والبأساء واللأواء.
أما من قال: إن هذا النوء إذا جاء هو الذي يمطر الناس وغيره لا يمطر، فهذا الكافر, قد كفر بالله عز وجل.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يرد الأسباب إلى مسببها سُبحَانَهُ وَتَعَالى, والكواكب خصت لأنه وجد الصابئون وغيرهم من عبدة الكواكب, ولذلك ابن سيناء يتكلم في كتبه ويقول عنه ابن تيمية: وإنه يدعو في بعض كتبه إلى عبادة الكواكب والنجوم من دون الله, ابن سيناء الذي يقعقع بذكره في المجالس، والأندية العلمية، والمؤسسات العلمية حتى في أوساطنا!
فابن سيناء هذا ضال مضل, نسأل الله العافية مما أصابه, لقد تعلم علمه كما قال تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] باطني, فلسفي, كوكبي, إسماعيلي, صابئ, متكلم.
قال ابن تيمية في كتاب المنطق المجلد التاسع: قال أهل خراسان: ابن سيناء ذكي كافر, فأنا قلت هذا لئلا يغتر بكتبه؛ لأن له مذكرات وكتيبات، وينقل منه في بعض المؤلفات, وهو يعظم الكواكب والنجوم من دون الله, ويقول: إن الإله الذي في الكون هو العقل الفعال, فإن صح عنه ذلك -كما قال أهل العلم- فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, وإن كان قد تاب فيتوب الله على من تاب, لكن لا يغتر بمبادئه؛ لأن علم الكواكب شرك عند المسلمين وقد تناقلوه، وبعض المسلمين أخذه عن الصابئة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن هذا الأمر.
وهذا الحديث من أحاديث التوحيد الكبار, فالرسول صلى الله عليه وسلم يثبت الأسباب, لكن أين مسببها إنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ولذلك يقول: {من تعلق تميمة فلا أتم الله له} ويقول له الأعرابي: إنها تزيل الوهن.
قال: {لا تزيدك إلا وهناً} والتميمة هي: شيء من خيط، أو خرزة، أو ظفار، أو قرطاس يكتب فيه شيء, ومن كتب هذه الأمور من غير الآيات، واعتقد فيها نفعاً أو ضراً فقد أشرك بالله عز وجل، وكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وسمعنا في بعض الأوساط أن قوماً حرف الله قلوبهم, وأضلهم على علم, وطبع على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم: أنهم يتعاملون بالسحر, ويكتبون بعض الأوراق لبعض الناس, فمن أتاهم وصدقهم فقد كفر بكتاب الله، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن أتاهم فلم يصدقهم لم تقبل له صلاة أربعين يوماً, وهذا موجود، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما أتى لإنهاء هذه الخرافات والتبعية والتقليد والتأخر, والضحك على عقول الناس, وأكل أموال الناس بالباطل, فانتبهوا أثابكم الله لهذا الأمر.
فمن ادعى علم الغيب من رجل أو امرأة فقد كذب على الله، والجن يخدمونهم, يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يأتي هذا الإنسان الذي يدعي علم الغيب حتى يأتي وينجس نفسه لتتلبس به الجن، ويزيد بعض الكلام, ومن العجيب أن غلاتهم هؤلاء من الإنس، لم تأته الجن حتى اشترطت عليه شرطاً وهو أن يبول على المصحف! فبال على المصحف فتلبست به, قال تعالى: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} [الأنعام:128].
يقول ابن تيمية: وكذلك يأتون إلى الأماكن الوسخة لتأتيهم الجن، فيجلسون في المزبلة والمجزرة والمقبرة ويدعون الجن من دون الله, ولا يقولون: باسم الله حتى تأتيهم الجن, ويقول: وقد قبضت على أناس كثر منهم حتى إن بعضهم يبقى في الجنابة عشر سنوات أو أكثر، لأنه لو اغتسل لا تأتيه الجن، ولذلك أعظم ما يؤمنك من الشياطين هو الوضوء، والغسل من الجنابة، وذكر الله عز وجل.
فهؤلاء الذين يتعاملون بهذه المعاملة لا تقول: إنهم أولياء لله, وسمعنا في بعض الأوساط أنهم وجدوا من الرجال والنساء, امرأة تدعي علم الغيب، وهي تدعي إخراج الماء من الآبار وتريه للناس, وإنما يخدمها الجن، وهي من أفجر نساء العالمين وحسيبها الله عز وجل.
وسمعت أن رجلاً إماماً في مسجد -أعجب من العجب- يكتب هذه الأوراق, ولما فتحت هذه الأوراق وجد أنه ليس فيها آية، ولا حديث، وإنما هي سحر وبهتان.
وحد الساحر ضربة بالسيف, ومعنى ذلك أن من يسمع لهم أو يصغي لهم فقد أعان على تأصيل الكفر.
والله قد يبتلي العبد, فتمرض زوجته فلا تجد علاجاً في مستشفيات العالم حتى العلاج عند هذا, ليرى الله هل تصبر على المرض، أو تأتي بها إلى هذا ليكشف ضرها, فإذا ذهبت بها وكشف الله ضرها, خسرت في الدنيا والآخرة.
ويبتليك بولدك فيمرض مرضاً عجيباً، ويستعصي عليه الطب والأدوية، فإذا أتيت إلى هذا المجرم الأفاك الأثيم وجدت عنده العلاج, قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] وقال: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] وهذه الخرافة أتى صلى الله عليه وسلم لإنهائها.
ويوم توجد مثل هذه الخرافات في المجتمع فإنها تدل على ثلاثة أمور:
1 - على أن الأمة هبطت في مستواها الثقافي هبوطاً لا يعلمه إلا الله.
2 - تضحك علينا أمم العالم, ماذا يقول أعداء البشرية من الأمريكان والإنجليز إذا رأوا الناس المصلين الصائمين، أهل القرآن، وأهل العقيدة يذهبون إلى مقرطسين؟
3 - إن معناها تأصيل الكفر, وخاصة في الجزيرة العربية , التي عصمها الله فلا يجتمع فيها دينان, فمن فعل ذلك فقد أعان على تأصيل الكفر.
وإنما نبهت على هذه القضية لأنها من أخطر القضايا, وحبذا لو كتب فيها الكثير, وخطب فيها، وتكلم في المجالس العامة لأنها وجدت ويجدها خاصة من يداخل الناس, ويرى بعض المنشورات, وبعض الأخبار والأعلام.
نسأل الله لنا ولكم الهداية والسداد والتوفيق والرشد, وأن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، وأن يتولانا وإياكم في الدارين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين, وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(212/14)
الأخوة الإيمانية وأثرها في حياة السلف
ذكر الشيخ الآيات الدالة على الأخوة وتعرض لتفسيرها ودلالاتها، ثم عقب بالأحاديث النبوية فآثار السلف الصالح من أقوالهم وأفعالهم، ثم ذكر ثلاث عشرة قاعدة للحفاظ على الأخوة مركزاً على الإخاء بين الدعاة والمصلحين ثم ختم بالإجابة عن أسئلة تتعلق بالدرس.(213/1)
مقدمة عن الأخوة الإيمانية
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير، الحمد لله الذي جمع شتاتنا بالإسلام، ووحد صفوفنا بالإيمان، وآخى بين قلوبنا بالحب فيه، الحمد لله الذي أنزل الكتاب وكنا متفرقين فجمعنا به، وألف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم.
والصلاة والسلام على معلم الخير، رسول المودة والمحبة والألفة والقربى، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سلام الله أرفعه إليكم بأشواقي وحبي والمودة
وأنقل من ربى أبها سلاماً لأهل الفضل من سكان جدة
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته والذي أجلسني في هذا المكان! لا أحمل للجميع وللجلوس وللغائبين من المسلمين إلا الحب فيه، وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا بكم في دار كرامته، فإني أعرف أنه ليس عندكم إلا الغضب لحدود الله، والغيرة على محارم الله، وحماية حوزة هذا الدين.
لو كنا نفهم القرآن ونفقهه ونتدبره؛ لكفانا ما سمعنا من الآيات في الصلاة.
وأنا أريد أن أقول: إنما المؤمنون إخوة.
إن اختلفنا في الأساليب وفي وجهات النظر وفي الفرعيات فإنما المؤمنون إخوة.
إن حَقَدَ بعضنا على بعض، وحمل عليه، قلنا له: اتق الله! إنما المؤمنون إخوة.
إن هجره وقاطعه، قلنا له: اتق الله! إنما المؤمنون إخوة.
إن شرَّحه أو جرَّحه أو ذمه، قلنا له: اتق الله! إنما المؤمنون إخوة.
إن اغتابه أو فسقه أو كفره وهو ما يزال مؤمناً، قلنا له: اتق الله! إنما المؤمنون إخوة.
إن كيد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد(213/2)
عناصر الدرس
محاضرتي هذه الليلة تدور على أربعة عناصر:
أولها: الأخوة في كتاب الله عز وجل.
ثانيا: ما ورد في السنة المطهرة عن معاني الأخوة.
ثالثها: كيف تآخى السلف.
رابعها: ما هو واجبنا نحو إخواننا من المؤمنين ومن المسلمين، وبالخصوص من الدعاة الذين يغضبون إذا انتهكت محارم الله عز وجل، والله عز وجل ذكرنا بأخوة الإيمان، ونادانا وأوجب علينا تلك الأخوة.
ثم أتعرض لمسائل، منها: الخلاف الفرعي لا يوجب الفرقة.
ومنها: إذا اختلفنا من هو الحاكم في المسألة.
ومنها: حسنات الناس لا تهدر بسيئاتهم إن قلَّت.
ومنها: لنكن شهوداً وعدولاً ولا يغلبنا الهوى.(213/3)
الأخوة في كتاب الله
اسمعوا أيها الناس، اسمعي أيتها الأمة المحمدية الرائدة، اسمعي يا أمة لا إله إلا الله، اسمعوا يا من كنتم كوكبة واحدة في وجه الباطل، وكنتم كتيبة واحدة ضد الطغيان، اسمعوا يا من ركبوا متن البحر والمحيط ليرفعوا لا إله إلا الله، اسمعوا يا أبناء عقبة بن نافع الذي وقف على ساحل الأطلنطي بفرسه، وقال: والذي نفسي بيده لو أعلم أن وراءك أرضاً لخضتك بفرسي لأفتح تلك الأرض.
الشهيد مع الشهيد، العالم مع العالم، الداعية مع الداعية:
يا أمة ضرب الزمان بها جموح المستحيل
وتوقف التاريخ في خطواتها قبل الرحيل
سكبت لحون المجد في أذن المجرة والأصيل
وسقت شفاه الوالهين سلافة من سلسبيل
أنتم الأمة الخالدة الواحدة يقول الله لكم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] حبل الله: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل عمران:103] يا أمة الإبل والغنم، يا أمةً كانت حقودة حسودة ماردة قبل الإسلام {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
لنزول هذه الآية سبب أورده كثير من المفسرين، أتعرفون الأوس والخزرج؟
يقول طه حسين في كتابه، متهجماً على الإسلام ودعاة الإسلام: حرب بدر هي عداء بين قريش والأوس والخزرج! كذبت، ليس عداء بين القبيلتين والعنصرين، إنما هو عداء بين الإسلام والكفر، وبين الضلال والرشاد، وبين النور والظلام.
الأوس والخزرج تقاتلتا، تذابحتا، تباغضتا، تقاطعتا، فلما أتى صلى الله عليه وسلم ألف بين قلوبهم، آخى بينهم، فكانوا تحت مظلة واحدة، وفي جلسة واحدة، وفي مسيرة واحدة؛ ولكن الشيطان أبى أن يتآخوا، فدخل بينهم فذكرهم حرب بعاث؛ فاخترط أنصاري من الأوس سيفه، وقال: يا لثارات بعاث! واخترط خزرجي سيفه، ونادى: يا لثارات بعاث! فاجتمعوا في الصحراء بعد الإيمان والقرآن والإسلام؛ لأن الهوى قد يغلب العقل، فذهبوا إلى الصحراء واجتمعوا هناك، فسمع صلى الله عليه وسلم الصوت، وقالوا له: يا رسول الله أدرك الناس، فإن الذبح قريب منهم! قال: من؟
قالوا: الأوس والخزرج، قال: وأنا بين أظهرهم؟! والقرآن ينزل علي؟!
اليهود هم الذين وشوا بهذه، وهم يوشون بها دائماً في الساحة، وفي خارج الساحة.
فأخذ صلى الله عليه وسلم إزاره وأخذ يهرول، ودخل بين الصفين، وناداهم بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرهم بنعمة الإيمان والإسلام، وبث فيهم روح الإخاء، ووزع عليهم باقات الود فدمعت العيون، وسقطت السيوف من الأيدي، وتركت الرماح.
يقول البحتري:
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
وتعانقوا والبكاء يملأ الساحة، وكأن الإسلام بدأ من هذا اليوم، وكأن القرآن نزل الآن، وعاد صلى الله عليه وسلم بالجميع في مسيرة حبٍّ في الطريق إلى المدينة.
فأنزل الله صدر الآيات يحذر من اليهود، يحذر من الصهيونية العالمية، من الخطط التي شتتت الصفوف، وفرقت بين الإخوة والأحباب، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:100 - 103].(213/4)
الود بين المؤمنين من مظاهر الولاء
يصف الله عز وجل أولياءه فيقول: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] لكن والله لقد وجد في الساحة من كان شديداً مع إخوانه رحيماً للكافر المستعمر الأجنبي المارد الفاجر، ووجد من يحمل على إخوانه وعلى أحبابه من الضغائن والأحقاد والتشريح والتجريح ما لا يحمله على عدو الرسالة الخالدة وعلى عدو الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدو الإسلام.
أيها الإخوة! يقول الله تعالى في المؤمنين: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] أذلة جمع ذلول، فالمؤمن ذلول لأخيه، سهل لين، بشوش الوجه، طلق المحيا.
متى يكون البر بالمسلم إذا لم يكن في الدنيا؟!
متى يكون الوداد إذا لم يكن هنا؟!
متى يكون العناق إذا لم يكن في الدنيا؟!(213/5)
العرب والنقلة التي أحدثها الإسلام فيهم
يمتن الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ويقول له: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] العرب -كما قال بعض الحكماء- كقرون الثوم، كلما قشرت قرناً خرج لك ستة قرون.
كان العرب بلا إسلام قطيعاً من الغنم، همجية وضياعاً، فلما أتى صلى الله عليه وسلم لم يفتح السجن، ولم يرفع السوط، ولم يأت بالسيف إلا بعد أن وعت العقول وسمعت النقل.
فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى جمعهم به.
أجمعهم بعنفوانه؟! بخطبه الحماسية النارية؟! لا.
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] منهجك عجيب، أسلوبك جيد، عرضك باهر، كيف استطعت أن تؤلف بين أمة الصحراء فتجعلهم إخواناً؟!
بلال الحبشي رقيق من أثيوبيا، لا يساوي في عالم المادة العنصرية القرشية شيئاً، وأبو طالب وأبو لهب سيدان لا ينظر إليهما إلا من علو، لكن أتى الإسلام فقال: أنت يا أبا لهب في النار؛ لأنك لم تؤمن بالرسالة، وأنت يا بلال سيدٌ، قصرك في الجنة كالربابة البيضاء.
وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالي
يأتي صلى الله عليه وسلم إلى سلمان ذلك الطريد ترك النار والوثن، ترك الصنم والتراب، وأتى يبحث عن لا إله إلا الله، فقال صلى الله عليه وسلم: {سلمان منا آل البيت} لكنَّ أبا لهب ليس من آل البيت؛ لأنه أبو لهب، وسوف يصلى ناراً ذات لهب، ولأنه لم يؤمن بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].(213/6)
إصلاح ذات البين
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] نذكر أنفسنا وإياكم بهذا الإخاء، فوالله لا يحلق الدين إلا البغضاء.
أتعرف الدين؟! أتعرف الصلاة؟! أتعرف الزكاة والعمرة والحج؟!
لا يحلقها إلا البغضاء، يوم يمتلئ الصدر بالغل والغش على عباد الله، يوم يكون اللسان مجرحاً، يكفر الحسنات، وينسى الجميل في الساحة، ويأتي فيجرح الناس وينزلهم تلك المنازل، هذا لا نريده ولا يريده الإسلام، وله ضوابط تأتي بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ * وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:10 - 9] قتال، دم يسيل، سيوف تتكسر، رماح تنثر الدم في الساحة، والله يقول: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10].
فقل لي بالله: ألكلمة أو لأسلوب أو لفرعية يوجب هذا النزاع ثم لا نجد حلاً ولا نجد نتيجة؟!
وأما اليهود والماسونيون، والقوميون والوطنيون، والشيوعيون والحداثيون؛ فيجدون لمشاكلهم حلاً؟!!
أهذا وارد عندنا في الساحة؟!
إن هذا لأمر عجيب!(213/7)
الأخوة في السنة البنوية
يقول عليه الصلاة والسلام كلام الذي لا ينطق عن الهوى: {المسلم أخو المسلم} ابن تيمية له كلام في هذا يقول: "الأخوة عقدها الله عز وجل " لا تحتاج إلى حلف ولا مستندات، ولا صكوك شرعية من محاكم العدل، لقد عقدها الله عز وجل من فوق سبع سماوات:
إن يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
ولا يحق أن يفصل هذا العقد إلا بموجب من الموجبات التي تفصل الأخوة، وهي سوف ترد إن شاء الله.(213/8)
حق المسلم على المسلم
{المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يسلمه، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه}.
وفد رجل على جعفر الصادق - فقال له: يا إمام! فلان بن فلان قال كيت وكيت (أي يغتابك).
فغضب جعفر الصادق غضباً عجيباً واحمر وجه وقال: تعال واجلس؛ فجلس، ثم قال له: أجاهدت الروم؟
قال: لا.
قال: أجاهدت فارس؟
قال: لا.
قال: أغزوت في سبيل الله؟
قال: لا.
قال: أفيسلم منك فارس والروم ويسلم منك الكفار، ولا تسلم منك أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟!
إنه أمر عجيب!
كانوا عند محمد بن واسع فقام أحدهم يقع في عرض أخيه؛ فقال له محمد بن واسع: اتق الله.
قال: هو فعل ذلك.
قال: أنا لا أقول لك: إنه فعل أو لم يفعل، ألا تذكر القطن إذا وضع على عينيك وأنت في القبر؟
إن ذِكْرَه القبر وذكر الانقعار في تلك الحفرة فاتَ كثيراً منا، فأصبحنا نقع بلا روية، ووزعنا ديننا وحسناتنا على الناس فسبحان الله! متى يكون اللسان مسلماً إذا لم يكن القلب مسلماً؟
ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في آخر الحديث: {التقوى هاهنا} فلا تنبعث كلمة، ولا يصدر منهج، ولا يوضع أسلوب، إلا لاعتقاد وارد في القلوب.(213/9)
الإيمان والحب بين المؤمنين
يقول عليه الصلاة والسلام: {والله لا تؤمنوا -وفي لفظ آخر- والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم}.
تريدون أن تدخلوا الجنة بالإيمان، لكن من أين يأتي الإيمان؟
أصلاة وزكاة وحج وعمرة لكن ضغينة وقلب يتوقد على عباد الله؟!
إنسان يريد لكثير من الناس السوء والمحق والخسار والدمار أين مفهوم الإسلام؟ {والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم} ما أحسن هذا الكلام!
أتى أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فسمع أن الأنصار بعد وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لأخذ زمام المبادرة في الحكومة الجديدة الإسلامية، وقالوا: منا الخليفة.
أبو بكر تعلم في مدرسة الإسلام أن الأمور تؤخذ بالشورى وبالنصيحة لعباد الله وباللين.
فذهب إلى عمر فقال عمر: إنا نخاف على أنفسنا سبحان الله! أمن الأنصار؟! {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
قال أبو بكر: لا والله، هم الأنصار.
يكفي أنهم الأنصار، فدخلوا عليهم ليسمعوا الكلام، ويتثبتوا من الحديث، ويدلوا بالآراء، فالأمر شورى والحقوق قضاء، فجلس أبو بكر وسمع أنهم يريدون الخلافة فيهم، قال عمر: وقد زورت كلاماً في صدري (أي أنه حضر محاضرة رنانة طنانة في صدره) ولكن أبا بكر لم يسمح له وقال: على رسلك يـ ابن الخطاب! وابتدأ الصديق شيخ الخلافة يتكلم بكلام كالدر، أترون الدر كيف ينسكب؟! الكلمة الطيبة يحيى الله بها القلوب، وتأسر الأرواح وتسل الضغينة:
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
أم المعاني اللواتي قد أتيت بها أرى بها الدر والياقوت متصلا
لو ذاقها مدنف قامت حشاشته ولو رآها غريب داره لسلا
{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] فإن التي هي أسوأ تشتت، الكلمة غير المسئولة تهدم أكثر مما تبني، الكلمة المدمرة تهدم الصفوف، تضيع الجهود، تحرق الأوراق في الساحة.
فقال أبو بكر: يا معشر الأنصار! جزاكم الله عن الإسلام وعنا خير الجزاء، واسيتمونا بالدار والمال، والله ما مثلنا ومثلكم يا معشر الأنصار إلا كما قال طفيل الغنوي -وهو شاعر جاهلي يمدح قبيلة:
جزى الله عنا جعفراً حيث أشرفت بنا نعلنا في الشارفين فزلتِ
همُ خلطونا بالنفوس وألجئوا إلى غرفات أدفأت وأظلتِ
أبوا أن يَمَلُّونا ولو أن أُمَّنا تلاقي الذي يلقون منا لملَّتِ
ثم قال: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، نحن الشعار وأنتم الدثار، والخلافة فينا، فقاموا وصافحوه وبايعوه.
هذا الحديث رواه الشافعي في كتاب السير بسنده إلى الشعبي.
لما بايعوه لأن كلمته طيبة، منتجة، مثمرة، فرضي الله عنه وأرضاه.(213/10)
صفات الحب المطلوب
الرسول صلى الله عليه وسلم يذكرنا بحق المؤمن على المؤمن: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} هل سأل أحدنا نفسه وهو على الفراش قبل أن يداعب أجفانه النوم: ألا أحب للمسلمين وللدعاة والعلماء مثلما أحب لنفسي؟
ليعلم أنه إن لم يصل إلى هذه المرتبة فإنه ضعيف الإيمان، وأن في إيمانه عوجاً ومرضاً؛ كيف نتوضأ بالماء البارد، ونزيل القشور والغبار عن أيادينا، وقلوبنا حارة ملتهبة على عباد الله؟!(213/11)
صفاء السريرة طريق الجنة
دخل رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحيته تتقاطر بالماء البارد الذي يشبه قلبه في برودته، جميل المحيا جمال مبدئه وعقيدته، فقال عليه الصلاة والسلام قبل أن يدخل: سوف يطلع عليكم رجل من أهل الجنة من هذا الباب، وأتى الرجل الذي هو من أهل الجنة وجلس، وفي اليوم الثاني يأتي الرجل ويتوضأ، ويأخذ حذاءه بشماله فيقول صلى الله عليه وسلم: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فيخرج الأول، وفي اليوم الثالث يخبر صلى الله عليه وسلم فيأتي ذاك الرجل؛ فيقوم ابن عمر فيذهب معه.
ما هي مواصفات هذا الرجل الذي هو من أهل الجنة؟ ألصيامه؟ ألقيامه؟ ألدروسه ومحاضراته؟ ألمخيماته ومراكزه؟.
وصل معه إلى بيته ونام، لكن هذا الرجل نام ولم يقم ليصلي من الليل، وصلاة الليل لها طعم عند العباد والأخيار
قلت لليل: هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار
قال: لم ألقَ في حياتي حديثاً كحديثِ الأحبابِ في الأسمارِ
لم يقم الليل، وحين أذن المؤذن لصلاة الفجر انبعث الرجل من فراشه يقول: لا إله إلا الله، قال ابن عمر: لعل الرجل خادعني أول ليلة حتى لا يظهر عمله.
وفي الليلة الثانية جلس معه، ولكن ما تغير في برنامج عمله شيء، وفي الليلة الثالثة كذلك؛ فانطلق إليه وقال له: ما جئتك إلا لأنني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا أنك من أهل الجنة ثلاث مرات، فما هو عملك؟!
قال: عملي هذا الذي رأيت.
فولى، وتوادعا، فلما مشى قال له: تعال! أما إن سألتني عن عملي، فوالله الذي لا إله إلا هو إني أبيت وليس في صدري لأحد من الناس غش ولا غل.(213/12)
لزوم جماعة المسلمين
في مسند الإمام أحمد بسند صحيح: {ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لوجه الله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين} هذه الثلاث إذا وجدها العبد في نفسه فليحمد الله تعالى على ذلك.
فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل عرى الإيمان -أو فقد استكمل الإيمان- وأوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله} كما ورد في حديث أبي داود بسند صحيح.
يا أخوتي في الله، يا عباد الله! هذا الكتاب والسنة يخبرنا بأدب الإخاء، بأدب الحب والحوار، بأدب تقارب وجهات النظر، ولننظر إلى الصحابة.(213/13)
الأخوة عند السلف الصالح
الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي إلى عمر -كما عند الترمذي وبعض المحدثين يضعف هذا الحديث والصحيح أنه حسن- ودع عمر رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لأخذ العمرة فقال صلى الله عليه وسلم لـ عمر وهو يعانقه: {لا تنسنا من دعائك يا أُخَيَّ.
يقول عمر: فقال كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها}.
إن قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
آخيتمونا على حب الإله وما كان الحطام شريكاً في تآخينا
هذا هو الحب يا أخي.
عمر تلميذ لمحمد عليه الصلاة والسلام، وهو ورقة من شجرته المباركة، وقطرة من بحره صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يقول: لا تنسنا من دعائك يا أخي.
يقول عمر: [[والله إنها لتطول علي الليلة إذا تذكرت أخاً لي أريد الصباح أن يصبح لأعانقه]].
وورد عنه في السيرة أنه لما صلى الفجر قال: أين معاذ؟
قال: هأنذا يا أمير المؤمنين.
قال: تعال، لقد تذكرتك البارحة فبقيت أتقلب على فراشي حباً وشوقاً إليك، فتعال، فتعانقا وتباكيا.(213/14)
الإخاء الصادق: عمر وأبو عبيدة
عند ابن كثير وابن جرير أن عمر عندما سافر إلى الشام قال: أين أخي؟
قالوا: كلنا إخوانك.
قال: أخي أبو عبيدة.
قالوا: يأتيك الآن.
فهو له أخ من نوع آخر، أخ قريب وحميم.
يقول عمر للناس: تمنوا.
فكلهم يتمنى أمنيته؛ فيقول عمر: أتمنى أن لي ملء هذا البيت رجالاً من أمثال أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه.
فقال: أين أخي؟ قالوا: أخوك يأتيك الآن.
فأتى أبو عبيدة على ناقة ليس عليها قتب، وخطامها من ليف، فتعانقا وجلسا على الطريق يبكيان.
يقول أحدهما: تخلفنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وفعلنا وفعلنا.
قال عمر: يـ أبا عبيدة أريد أن أبيت عندك الليلة.
قال: تريد أن تعصر عيونك عندي بالبكاء؟
قال: أريد أن أبيت الليلة عندك؛ فأتى، وأبو عبيدة آنذاك أمير الأمراء، ودخل معه وقدم له خبز الشعير على الملح، يأكلون خبز شعير ولكن قلوبهم ترتحل إلى الله، إخاءً وحباً وصفاءً.
إن الدنيا ليس لها طعم مع الفرقة، إن الإمكانيات التي تطرح وتقدم من خدمات ليس لها مذاق مع الشتات؛ فجلس معه فلما أراد أن ينام قدم له شملة، افترش نصفها والتحف نصفها، فأخذ عمر الشملة يبكي داخلها، ويقول: أمير الأمراء على شعير، أمير الأمراء على ملح، أمير الأمراء على شملة!!؟
قال أبو عبيدة وهو يسمع بكاء الخليفة: أما قلت: إنك سوف تعصر عيونك عندي في البيت.
؟ سبحان الله! {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].(213/15)
ابن المبارك يشعل لهيب الشوق بين الإخوة
يقول ابن المبارك إذا ودع أصحابه وأحبابه وإخوانه وهو يبكي:
وخفف وجدي أن فرقة واحد فراق حياة لا فراق ممات
فمتى نشعر بهذه الأخوة تحت مظلة لا إله إلا الله محمد رسول الله؟
وسوف أتكلم إن شاء الله عن إعطاء الناس حقوقهم بنسب إضافية؛ فإن الرجل يذكر بما فيه من كمال، ويحب بما فيه من طاعة ويبغض بما فيه من معصية؛ لأننا شهداء ولأننا قائمون بالقسط كما أمرنا الله بذلك، ولأن الإنسان لا ينبغي إلا أن يكون عادلاً، والظلم لا ينبغي في الحكم على الناس في الجرح والتعديل، في الحب والبغض، في الولاء والبراء.(213/16)
أبو الدرداء والدعاء للإخوان
يقول أبو الدرداء: [[إن من إخواني من أدعو لهم في السحر وأسميهم]] منهم زملاؤه من الصحابة.
أرأيتم أن أحداً منا يقوم في السحر فيقول: اللهم اغفر لفلان بن فلان وفلان بن فلان وفلان بن فلان، فيورد قائمة طولها سبعون اسماً؟!
هذا أبو الدرداء يفعل ذلك، وهذه مدرسة أبي الدرداء التي تحبب الود وتزرع الحب.
لوحوا بالكنوز راموا محالاً وأروني تلك الدنانير ملسا
لا أريد المتاع فكوا عناني أطلقوا مهجتي فرأسي أقسى
واتركوني أذوب في كل قلب أغرس الحب في حناياه غرسا
هو أبو الدرداء يدعو لسبعين من الصحابة في السحر.(213/17)
الشافعي وأحمد على الطريق
يقول الإمام أحمد لابن الشافعي: "أبوك من الذين أدعو الله لهم في السحر" هما زميلان ومن الأقران، والأقران بينهم حرب شعواء بالجملة، ولذلك يقول الذهبي: كلام الأقران بعضهم في بعض يطوى ولا يروى وقاعدة الجرح والتعديل التي عليها الجمهور أن كلام الأقران في الغالب لا يقبل في بعضهم.
وورد عن ابن عباس أنه قال: [[لَلْعلماء -أو الأقران- أشد تغايراً أو تعايراً من التيوس في زريبتها]].
قد تجد داعية إذا ذكر داعية، هون من شأنه، وقلل من قيمته، وترك حسناته التي كأنها الجبال، وأتى إلى سيئاته التي كأنها العصافير والذباب، فضخمها وشخصها للناس سبحان الله ألا تنغمر ذرات سيئاته في بحار حسناته عند الله عز وجل؟! فلماذا تغمر جبال حسناته في ذرات سيئاته؟! أين العدل؟ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].
أحمد أرسل له الشافعي قصيدة مبكية، إذا لم يفهم النثر أهل النثر فالشعر يفهمهم، وقد تكرر هذا ولكن
كرر العلم يا جميل المحيا وتدبره فالمكرر أحلى
قالوا: تكرر قلت أحلى علماً من الأرواح أغلى
فإذا ذكرت محمداً قال الملا أهلاً وسهلا
هذه بضاعة أولئك الملأ الذين نصروا الإسلام، كان الإسلام في عهدهم مرتفع الهامة، قوي البنية، لكن لما أتى الاختلاف والشقاق، حوصرنا وحاصرنا الأعداء من كل جانب، يختلف الأعداء لكن في حربنا يتفقون.
كتب الشافعي إلى أحمد يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
يـ ابن إدريس لست من الصالحين؟!
إذاً من الذي سيكون من الصالحين إذا لم تكن أنت منهم؟!
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
ثم يذكر الإمام أحمد بمنهج دعوي طيب لا يغيب عنه:
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه(213/18)
الحسن وابن سيرين في التعامل مع المغتاب
إن من سبك لم يهد لك إلا حسناته، ومن ذمك لم يقدم لك إلا درجاته في الجنة، ومن جرحك ما أعطاك إلا أجره، ومن اغتابك ما أعطاك جائزة إلا ثوابه عند الله.
أتوا إلى الحسن البصري فقالوا: اغتابك فلان اليوم.
هؤلاء قوم متبرعون لا هم لهم إلا نقل الكلام، إذا أصبحوا في الصباح قالوا: أصبحنا وأصبح الملك لله، وأصبحنا عباداً لله، ننقل النميمة بين عباد الله.
فينقلون الكلام بين الناس، ويجلس مع هذا وينقل الكلام لهذا، ثم يحول إلى هذا متبرعون وأجرهم على الله!
فأتوا إليه قالوا: سبك فلان اليوم.
قال: ماذا قال في؟
قالوا: قال فيك كيت وكيت.
فأخذ الحسن رطباً في طبق وقال: اذهب به إليه، وقل له: أهديت لنا حسناتك وأهديناك رطباً.
والحسنات أغلى من الرطب، ما سمعنا أن البلح يوماً من الأيام حتى في الغلاء أغلى من الحسنات.
وجاء رجل إلى ابن سيرين قال: اغتبتك اليوم فسامحني.
قال: والله لا أحل لك ما حرم الله.
وهذا منهج آخر.
وابن سيرين فقيه عاقل، لو قال له: سامحك الله لرجع هذا الرجل يأخذ الناس في قوائم، كلما أصبح وكلما أمسى يجرح ويعدل، ويمدح ويذم، فأوقفه عند حده حتى يكون درساً له لا يغيب عنه.
يا إخوتي في الله إن مدرسة الصحابة رضوان الله عليهم يوم أتت أتت بالحب والصفاء والود، كان الواحد منهم إذا غاب ثم أتى، استقبل استقبالاً حافياً بعناق وأخوة وحب في الله.(213/19)
قاعدة في الولاء والبراء
صاحب الإحياء - الغزالي - ينسب أثراً إلى ابن عمر وهو صحيح قال ابن عمر: [[والله لو أنفقت أموالي غلقاً غلقاً في سبيل الله وصمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، ثم لقيت الله لا أحب أهل الطاعة، ولا أبغض أهل المعصية، لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار]].
أي إسلام بلا حب في الله ولا بغض في الله؟!
ما هي موازيننا أيها الأحبة لنحب الناس.
أو لنكره الناس؟ هذا أمر لا أظنه يغيب عنكم أبداً.(213/20)
قواعد في التعامل مع المخالف(213/21)
الخلاف الفرعي لا يوجب الفرقة
والأمر الذي أريد أن أنبه عليه كذلك: أن الخلاف الفرعي لا يوجب الفرقة.
إننا لابد أن نميز ما يشتت الناس وما يخالف بينهم من أصول وفروع، وإنه والحمد لله أكثر خلافات المسلمين في الغالب خلاف تنوع لا خلاف تضاد.
فهو خلاف في الكيفيات، أو في الأساليب، أو في الفرعيات، وهو لا يوجب الفرقة، بل يوجب الحب والسعة في دائرة العمل.
إنسان رأى أن من الصالح له أن يدعو الناس بواسطة مركز صيفي يقيم فيه الكتاب والسنة ثم أقول له حرام؟! وإنسان آخر يقول: أنا لا أستطيع إلا أن أخطب الناس وأوجه الناس، ثم أقول له: لا، هناك أسلوب آخر وأسلوبك خطأ؟! وإنسان يريد أن يفتي ويدرس أقول له: أسلوبك خطأ؟! لا.
ما دامت المظلة هي الكتاب والسنة، وأما الأساليب فاعمل: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [الأعراف:160] {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً} [الرعد:17].
اعمل ولكن ليكن مقصدك الله تبارك وتعالى، اعمل ولكن ليكن منهجك الكتاب والسنة، اعمل ولكن لا تحمل ضغينة على إخوانك وأحبابك وأصحابك، فإنهم يعملون كما تعمل، ويريدون ما تريد، فالأساليب لا تفرق، والفرعيات لا تخالف، والبدائل التي توجد لظرف وزمان ومكان، نجعلها تحت مظلة الكتاب والسنة.(213/22)
الفرقة شؤم وفشل
الأمر الذي أريد أن أنبه عليه: الفرقة شؤم وفشل وضعف للحق، أرأيت أشأم من الفرقة؟
لا أشأم من الفرقة {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] إذا سمعت الإنسان يشجع الفرقة، ويشجع الاختلاف بمظلة من الكلام باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ويقول: الاختلاف رحمة وقد قال صلى الله عليه وسلم: {اختلاف أمتي رحمة}.
فقل له: لا يصح أن يكون حديثاً، مع أن ابن تيمية في مختصر الفتاوى يقول: الإجماع حجة قاطعة، والاختلاف رحمة واسعة.
لكن هذه الكلمة ليست على إطلاقها الاختلاف رحمة واسعة في فرعيات العبادة التي توسع على الأمة، ولكنها شؤم إذا أتت بنتيجتين:
النتيجة الأولى: أن تعلي خصومنا وأعداءنا علينا، فهذا شؤم ولا شك.
النتيجة الثانية: إذا أتت ببغضاء وأحقاد بيننا، فلا حياها الله من فرقة واختلاف!
فإنها عند ذلك شؤم وضعف لنا، ضعف لساعدنا وقوتنا وعلمنا ودعوتنا يا عباد الله.(213/23)
الموازنة بين المحاسن والمساوئ
القضية التي أريد أن أنبه عليه ولعلها الثالثة هي قاعدة: أن نزن الناس بحسناتهم وسيئاتهم.
يقول الله عز وجل في كتابه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16]
وقديماً قال أحد الشعراء:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
وقال آخر:
تريد مهذباً لا عيب فيه وهل نار تكون بلا دخان
إن الذي يقوِّم الناس ولا يقوِّم نفسه ضال، إن الذي يريد أن يجعل الناس في مستوى الخيال في الكمال، ولا يقوِّم نفسه في هذا المستوى ضال، وذنبنا وخطيئتنا وتقصيرنا أنا نرى الأذى والقذى والذرة في عيون إخواننا ولا نرى جذع النخلة في عيوننا! إن جبالنا من الأخطاء نجعلها ذرات، وإن ذرات الآخرين من الأخطاء نجعلها جبالا.
ترجم الذهبي لـ قتادة بن دعامة السدوسي أحد رواة الصحيحين فقال عنه: رمي بالقدر، ومع ذلك فهو بحر في العلم، رأس في القرآن، حافظ في الحديث، فنسأل الله العافية، ولكن نقدره بهذه الأمور، ومع ذلك لا نسكت عن بدعته.
إن من يبتدع لا نسكت عنه، ولا نقول له: أصبت، ولا نقول: بيننا وبينك إخاء إلا في الجانب أن تتنازل عن هذه البدعة.
إن من يخطئ في مسألة نقول له: أخطأت، لكن بالنصيحة، ومن تكتم على شيء فلا نصور له فوق ما تكتم عليه، بل نتركه وما تكتم، لكن إذا علمنا فيه شيئاً تكتمنا، لكن من شهر بدعته وخطأه على الناس، فواجبنا الرد عليه وأن نشهر الخطأ لرد الناس عن هذا الخطأ.
من سكت سكتنا، ومن تكلم أمام الناس ودعاهم إلى مذهب ضال تحاكمنا معه إلى الكتاب والسنة: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] الرد إلى الله أي: إلى الكتاب، والرد إلى الرسول أي: إلى السنة، نحن لا نعمل في فراغ، كل واحد ربما يقول: الكتاب والسنة.
لكن يا أيها الإخوة! الأمة مسيرة بمنهج منذ القرن الأول إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والكتاب موجود، والسنة موجودة، ولسنا بحاجة إلى من يتكلم أو يقنن أو يحدد أو ينظر، صحيح أن له أن يتكلم في الأساليب وفي الأمور التي تنفع الدعوة، لكن ليس له أن يتكلم في صلب المنهج والتشريع، نقول له: كثر الله خيرك! عندنا ما يكفينا، ونوزع على الناس، نحن نصدِّر ولا نستورد، عندنا الطاقة الكاملة.
أنت إن فهمت من النص فافهم، وإذا لم تفهم فاذهب وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
هذه مسألة هذا الأمر.(213/24)
أقسام الأخطاء التي يقع فيها الناس
الأمر الرابع: أن الخطأ يقع من الناس -أعني المسلمين- والخطأ على قسمين: خطأ بدعة، وخطأ معصية.
فخطأ البدعة مرض شبهات، وخطأ المعصية مرض شهوات.
فصاحب البدعة موقفنا منه أن نبصره بالكتاب والسنة والآيات البينات، ولكن ما هي قضية التبصير، نحن مجمعون على أن المبتدع لا يوافق، فالخرافي لا يمشى في طريقه، لكن ما هي الوسيلة التي بها نبين له النصيحة؟
حديث تميم الداري {الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة} فالنصيحة هي اللين في إبلاغ هذه الدعوة إليه، فإن أصر واستكبر كان ذلك التشهير ليحذر من الأخذ عنه والتعلم على يديه وأخذ الراية منه؛ لأنه سوف يضل الناس.
أما صاحب المعصية فإننا ندعوه بالصبر، وبالوعد والوعيد وبالآيات البينات، وندعوه للتوبة إلى الله عز وجل.
المسألة الخامسة: ينبغي علينا ألا نهدر حقوق المسلمين بأسباب، فإن بعض الناس -كما يقول ابن تيمية - أكثر من مرة يحمله الهوى على أن يعتدي في حكمه، وهو يقصد الحمية لدين الله والغضب لشرع الله.
لكن يعتدي في حكمه، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى طلب أن نكون قائمين بالقسط، نتكلم بعدل وأمانة؛ لأن الإنسان ظلوم جهول، جهول يتكلم بلا علم، وظلوم يعتدي حتى ولو كان عالماً.(213/25)
الولاء على قدر الحسنات والبراء على قدر الزلات
أقول: إن الحكم على الناس ينبغي أن يؤخذ على درجات في الولاء والبراء والحب والبغض، ولذلك يقول ابن تيمية في كتاب الجهاد المجلد الثامن والعشرين: عن الولاء والبراء: يوالى الإنسان ويعادى على قدر ما فيه من طاعة، وعلى قدر ما فيه من معصية.
فأما أن تجعل الناس طرازاً واحداً وتجعلهم جملة وتقول: كل من دخل في هذه الطائفة فهو ضال.
فهذا خطأ، إن الله يحاسب العباد فرداً فرداً: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95] وأنت تقول: كل من دخل هذه الطائفة مصيب ومهدي ومسدد وناج من النار؟! هذا خطأ؛ لأنه قد يوجد في الجملة من هو مركوس في الخطأ، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في حديث عمران الصحيح: {خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم}.
لكن هنا تساؤل: وجد في القرن الثاني من هو أفضل من بعض الأفراد الذين في القرن الأول، ووجد في القرن الثالث من هو أفضل من بعض الأفراد الذين وجدوا في القرن الثاني ولكن جملة هؤلاء أفضل من جملة هؤلاء، ولا يمنع أن يكون فرد من هؤلاء أفضل من فرد من هؤلاء، لكن الخيرية تبقى للأول فالثاني فالثالث.(213/26)
الاشتغال بالكتاب والسنة
الأمر السادس الذي ينبغي أن نتنبه إليه كذلك: أنه ينبغي علينا أن نأتي إلى أمر سواء بيننا وهو الكتاب والسنة، وأن نجعل كل ما نشتغل به ونفكر فيه من العلم ومن الدعوة هو الكتاب والسنة، وأن نشغل أوقاتنا بالكتاب والسنة، ففيها الخير والعطاء واليمن والبركة، فإذا فعلنا ذلك صلح الأمر بإذن الله، صاحب الخطأ يكتشف خطأه من القراءة في الكتاب والسنة، من عنده شك أو ارتياب داوى نفسه من الكتاب والسنة، من عنده زيغ أو رأى انحرافه أو زيغه فعليه بالكتاب والسنة.(213/27)
التعصب مرفوض
القضية السابعة: أن الولاء لله تبارك وتعالى ولكتابه ولرسوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55] والخطأ كل الخطأ أن نتخذ أشياء أو أموراً أو مسائل أو مناهج نوالي ونعادي عليها، ونحب ونبغض فيها، ونقاطع ونواصل عليها، فهذه عبادة لهذه المناهج من دون الله تبارك وتعالى، ولو قال أصحابها: نحن لا نعبدها؛ لكنهم يعبدونها.
أسألكم بالله أن تعودوا إلى اقتضاء الصراط المستقيم لـ ابن تيمية واقرءوا هذا الموضوع فيه، فإنه ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن القوم إلا هم!} والله تعالى يقول: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:113].
قال ابن تيمية في كلام ما معناه: سوف يأتي من هذه الأمة طوائف لا تقبل الحق إلا من طائفتها، ولا تقرأ إلا كتب طائفتها، ولا تستفيد إلا من مشايخ طائفتها، حتى أنه يوجد من هو أعلم من علماء طائفتها، وأحسن كتباً من كتب طائفتها، لكن تتركه، وهذا هو الهوى والعمى، والعياذ بالله!
فالولاء والبراء شيء، والعمل شيء آخر، الولاء والبراء لا يكون إلا لله عز وجل نوالي على شرعته ونعادي عليها، وهو الحب والبغض، وإذا صرف ذلك إلى شيء غير هذا، فقد خسرنا وخذلنا وعصينا الله.(213/28)
لا عصمة لأحد غير الأنبياء
القضية الثامنة: أنه لا معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن جعل بعض الدعاة وبعض العلماء وبعض المنظرين معصومين فقد أخطأ سواء السبيل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} [الأحزاب:21] فالعصمة له صلى الله عليه وسلم.
فائدة: لا يصح أن تقول: العصمة لله.
لأن المعصوم لابد له من عاصم، والله لا عاصم له، لكن لك أن تقول: إن الكمال له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى والصفات الحسنى والقدرة والجلال والجمال، أما العصمة لله فخطأ.
فالعصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضية أن يحسن محسن فنتولى كل ما قال، ونأخذ كل ما قال، ونعمل على كل ما قال، فهذا خطأ.
فقضية العصمة لا تكون إلا للرسول عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يتحاكم إلى شرعته مع القرآن عليه الصلاة والسلام، وأما هؤلاء فيترحم عليهم، ويعلم أنهم أجادوا وأنهم أحسنوا:
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سُدوا المكان الذي سَدوا
نأتي إلى إنسان خدم الإسلام، وقدم دمه في رفع لا إلا الله، ونحن جالسون على الكراسي والكنبات نشرب الشاي البارد، ونقول: أخطأ في مسألة!! فعليه من الله ما يستحقه، سبحان الله، أله حسنات كالجبال؟ وذبح في سبيل لا إله إلا الله وتأتي بمسألة ركبتها عليه ثم كفرته بها! ينبغي علينا أن نكون شهداء بالقسط، كما وصفنا الله عز وجل بذلك {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].(213/29)
التأصيل العلمي عصمة للفكر
المسألة التاسعة التي ينبغي أن تلاحظ: إن من أعظم ما يمكن أن يؤلف بيننا -ونحن مؤتلفون متآخون- مسألة الاهتمام بالعلم الشرعي، مسألة قضاء الوقت في التحصيل، لأن الفكر ليس له ضابط الفكر يتجدد كل يوم كدرجات الحرارة، يزيد وينقص، فإذا تماسكنا بالفكر أخذنا خيوطاً من بيت العنكبوت يتقطع في أيدينا؛ لأن هذا يقول فكراً، وهذا يقول فكراً، وذاك يعارضه بفكر، فإذا أصبحت المسألة مسألة فكر، أصبحت المسألة لا معنى لها.
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
هذا يأتينا في الظهر بفكرة ويقول: أؤيدها وأبني عليها، وفي العصر يعود ويتوب منها، وفي المغرب يعود إلى فكرة ثانية وفي العشاء يتوب منها إلى متى؟
لا ضابط للفكر، إنما الضابط للتأصيل قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حصيلة العلم الشرعي.(213/30)
تذكر حقوق المسلم على المسلم
الأمر العاشر: أنه ينبغي أن نتذكر حقوق المسلم على المسلم كإخوة وأحباء.
أليس من حقوق المسلم على المسلم أن ندعو له بظهر الغيب؟
هل دعا بعضنا لبعض بكثرة في ظهر الغيب حتى يصلح الله أحوالنا؟
لكن إذا سمعنا إنساناً قد يخطئ قمنا عليه وخطأناه، لكن لو أننا في جنح ظلام الليل وفي ساعة السحر قلنا: يا رب، يا أحد، يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد اهده سبيل السلام، سدده، وفقه!
قال الشافعي: "ما جادلت أحداً من المسلمين إلا أحببت أن يعلو علي بحجته -سبحان الله! إلى هذا المستوى؟! - لئلا يجد علي في نفسه.
لأن المغلوب دائماً يجد في نفسه.
فالمسألة العاشرة: هل حفظ أحدنا هذه الحقوق؟
هل دعونا لإخواننا بظهر الغيب؟
هل دعونا لهم بالهداية والسداد؟
لو فعلنا ذلك لصلح الأمر، ثم هل ناصحناهم؟
هل كتبت رسالة رقيقة، تقطر دمعاً ورقةً ووداً: يا أخي في الله أخطأت في هذه المسألة، فما هو وجه خطئك؟
ولماذا قلت هذا؟ ونسب إليك أنك قلت هذا والله عز وجل يقول كذا وكذا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، فما هي حجتك؟ هنا يبدأ الحوار.
هل زرنا المخطئ في بيته فبينا له خطأه، ونسمع بأنفسنا وبآذاننا؟
إنني أسمع وإنكم تسمعون بعض الكلمات التي ما صحت، والله لقد سمعنا كلمات نسبت إلى العلماء، شوهت الصورة وشتتت كثيراً من القلوب وأوجدت أحقاداً، فلما ذهبنا إلى ذلك العالم وقلنا له: اتق الله! كيف تقول كذا وكذا؟
قال: والذي لا إله إلا هو ما قلت هذا ولا فكرت به!!
فمن المسئول عن هذا؟
المسئول هو تعطيل مجالس الحوار والنقاش والسماع من الناس، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] تندمون وتخسرون حين لا ينفع الندم.
والحقوق كثيرة منها الصفاء والود، إذا لقيت أخاً لك هل عانقته بحرارة؟ هل تبسمت في وجهه؟ يقول عليه الصلاة والسلام: {تبسمك في وجه أخيك صدقة} قال جرير بن عبد الله والحديث صحيح: {والله ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي}.
قيل لأحد العلماء: ما هو السحر الحلال؟ قال: تبسمك في وجوه الرجال.
لكن لماذا انقبض هنا وانبسط هنا؟!
لأمر في القلوب الله أعلم به، فالتبسم أمره عجيب! وهو يحبه الله عز وجل ورسوله خاصة للمؤمنين، وهو المطلوب أن يتبسم لهم، الذين يريدون الخير للإسلام والمسلمين.
أحد الشعراء يصف المتكبرين، يقول:
وجوههم من سواد الكبر عابسة كأنما أوردوا غصباً إلى النار
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً أهدوك من نورهم ما يتحف الساري
تروى وتشبع من سيماء طلعتهم بوصفهم ذكروك الواحد الباري
من تلق منهم تقل: لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
شيخ الإسلام ابن تيمية لما تولى الناصر بن قلاوون، أحضره من السجن مكتفاً بالحديد، وكان أعداؤه جالسين أمامه.
أعداؤه الجالسون أمامه.
قال الناصر بن قلاوون: يـ ابن تيمية أفتني بسفك دماء هؤلاء، فوالله لأسفكن دماءهم اليوم.
الناصر بن قلاوون لا يريد الغضب لـ ابن تيمية بل يريد الانتقام لنفسه، لأن هؤلاء العلماء أفتوا أن بيعته باطلة، فيريد أدنى فرصة يدخل بها من طريق ابن تيمية حتى يقطع رءوسهم.
قال ابن تيمية: لا.
إن الله أمرنا أن نكون قائمين بالقسط، وهؤلاء أدخلوني السجن.
إي والله الذي سجن ابن تيمية هم هؤلاء الجلوس، ابن مخلوف، وآل السبكي وأمثالهم، وأضرابهم، رحمهم الله جميعاً وغفر الله لمن أساء من المسلمين إن أراد الخير.
فقال ابن تيمية: هؤلاء الذين أدخلوني السجن، ولكن هم علماء الأمة، وخيرهم أكثر من شرهم.
ليس كمن يُقَوِّم الناس بما فيهم من سوء ولو كان أقل من حسناتهم فعجب الناس لـ ابن تيمية!! قال ابن مخلوف: غفر الله لـ ابن تيمية، قدرنا عليه فحبسناه في الحديد، وقدر علينا وأخذ السيف بيده فعفا عنا.
الرسول عليه الصلاة والسلام دخل يوم الفتح، فأتي بـ أبي سفيان بن الحارث ابن عمه الذي قاتله في كل معركة، سبه بالقصائد النارية الحارة، فلما ظفر به أتى فوقف فوق رأسه بعد أن أخذ أطفاله يريد أن يخرج إلى الصحراء يموت هو وأطفاله جوعاً وعرياً وعطشاً، قال علي بن أبي طالب: يا أبا سفيان أخطأت، الرسول صلى الله عليه وسلم أرحم الناس، وأبرهم وأوصلهم، فعد إليه وسلم عليه بالنبوة، وقل له: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، كما قال إخوة يوسف ليوسف.
فأتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فسلم عليه، وقال له: يا رسول الله، تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين؛ فسالت دموعه صلى الله عليه وسلم -هذه دموع الصدق والحرارة- وقال: {لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}.
فصلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
هذه حقوق المسلم في المسألة العاشرة لابد أن يتنبه إليها كثيراً، فإنه كثيراً ما يُخْطَأ فيها، فإن من حقوق المسلم إذا استنصحك أن تنصحه، وإذا مرض أن تعوده، وإذا مات أن تتبع جنازته في الحقوق الستة التي ذكرت، وهذا ليس مجال بسطها.(213/31)
التزام منهج الرحمة
المسألة الحادية عشرة: أنه من حق بعضنا على بعض العفو والرحمة، فالرحمة منهج، ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء، وهناك حديث في سنده نظر، وهو ضعيف لا يصح رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو أن العجلوني تساهل فأراد أن يرفعه، لكن لا يرتفع، فيه: {الناس عيال الله! أقربهم إلى الله أنفعهم إلى عياله} ولكن في الصحيح ما هو غنية عن هذا.
لماذا لا نرحم المؤمنين؟
لماذا لا نحب لهم من الخير ما نحب لأنفسنا؟
هل نزعت الرحمة؟ {لا تنزع الرحمة إلا من شقي} ولذلك قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
يقول أحد العلماء: سبحان الله! الدعوة الخالدة تعلن عالميتها من مكة!!.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] قال العلماء: لم يقل: وما أرسلناك إلا رحمة للمؤمنين فيخرج الكفار، ولم يقل للرجال فيخرج الإناث، ولم يقل للإنسان فيخرج الحيوان فكان رحمة للناس، أما للمؤمنين فهو أعظم رحمة، رحمة الهداية، رحمة الاستقامة، رحمة التوفيق، رحمة النجاة من النار.
وأما الكافر فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
وأما رحمة الحيوان فورد في ذلك أحاديث، منها حديث الجمل، والحديث يقبل التحسين: {ذهب صلى الله عليه وسلم إلى حديقة من حدائق الأنصار، فأتى جمل فوضع جرانه في الأرض ودمعت، فقال صلى الله عليه وسلم: إن هذا الجمل شكا إلي ما يفعل به صاحبه} فأنقذه بإذن الله وبفضل الله ثم بفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الرجل.
حديث الحُمَّرَة وهو حديث يقبل التحسين، حمرة أُخذ فراخها، فأتت ترفرف على رأس الرسول عليه الصلاة والسلام، تشكو لكن لا تتكلم، يقول أحد الشعراء:
جاءت إليك حمامة مشتاقة تشكو إليك بقلب صبٍّ واجفِ
من أخبر الورقاء أن مكانكم حرم وأنك ملجأ للخائفِ
فقال صلى الله عليه وسلم: {من فجع هذه بفراخها؟ قال أنصاري: أنا.
قال: رد عليها فراخها}.
ورحمته صلى الله عليه وسلم تتعدى حتى يرحم الذين أساءوا إليه، وقد مر نماذج من هذا.(213/32)
ترك ما لا طائل تحته من المسائل
المسألة الثانية عشر: إن بعض الخلافيات ليس لها أساس وليس وراءها طائل، وهو خلاف يودي بأصحابه إلى أن يسيئوا أكثر مما يحسنوا، خلاف ليس له أساس، مثل خلاف الجدل البيزنطي: هل تدور الأرض حول الشمس أم الشمس تدور حول الأرض؟
لن يسألهم الله يوم القيامة عن هذا: هل تدور الأرض حول الشمس أم تدور الشمس حول الأرض؟
وينقسم المجلس، ويأتي بعض الناس فيجادل في المسألة ويعتبر هذا أسلوباً من أساليب الدعاة، ويقول: خطأ، فيقول الآخر: بل أنت أخطأت.
فيقول: أنت خطأتني، ومنهجي منهج الإسلام؛ إذاً أنت فاسق، وما دمت فاسقاً؛ فقد اقتربت من الكفر، وما دمت قد كفرت فنبرأ إلى الله منك!!!
يقول ابن تيمية عن أبي حامد إنه يركب الفتوى تركيباً، مثل بعضهم يقول: من فعل كذا فعلامة أنه يريد كذا، ومن فعل كذا فهو يريد كذا وكذا، إذاً هو كذا وكذا، وهذه مقدمات فلسفية، وهو المطلوب إثباته في الهندسة، فيقول مثلاً: ما دام قد طول إزاره فهو مستهزئ بدين الله وبسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومادام أنه استهزأ بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، والذي يستهزئ كافر لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] تصل هذه الفتوى عند كثير من الناس.(213/33)
التسرع في الفتوى مذموم
ما شاء الله! أما المفتون فالساحة مليئة بالفتاوى! كل يتربع في المجلس، ويقول: الذي تطمئن نفسي إليه كيت وكيت.
من أنت يا إمام؟!
هل كنت أبا عبد الله الإمام مالك بن أنس حتى تطمئن نفسك، هل كنت ابن تيمية حتى تطمئن نفسك إلى هذه الفتوى؟
فيعارضه الآخر.
والتسرع في الفتوى يدل على أحد أمرين:
إما الجهل، والجاهل يتكلم بلا علم؛ لأنه ليس لديه أصول مضبوطة، أو يدل على الهوى وحب الترؤس، فإنه يريد أن يظهر بين أصحابه أنه مفتٍ.
يقول أحد التابعين: والله الذي لا إله إلا هو، إنكم تفتون في مسائل لو عرضت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر.
أتى رجل إلى علي بن أبي طالب -وهذا في أعلام الموقعين - فقال: ما حكم كذا وكذا؟
قال: لا أدري.
ثم تبسم أبو الحسن أمير المؤمنين فهو علامة جهبذ، قال: [[ما أبردها على قلبي! سئلت عما لا أدري! فقلت: لا أدري]].
هذا الخليل بن أحمد وكلامه من أحسن ما قيل، يقول: الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذاك عالم فاسألوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذاك غافل فنبهوه (أي عنده علم لكن يقول: ليس عندي علم!.
يقولون له: يا شيخ حدثنا بارك الله فيك، اشرح لنا، وجه الأمة فيقول: أنا من أنا، أنا ليس عندي شيء) ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذاك جاهل فعلموه (أي رجل ليس عنده شيء فنقول له: أنت لا تدري، وليس عندك علم؛ فيقول: صدقتم، أنا أريد العلم، أفيدوني، فذاك علموه) والطامة الكبرى والداهية الدهياء والمصيبة، الذي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري! هذا ليس له حل إلا أن يتوفاه الله ويصلى عليه، أو أن يصيبه غرق في البحر أو أن يأتيه زلزال ويموت شهيداً، فهذا-الذي لا يدري وهو لا يدري أنه لا يدري وهو الاحتمال الرابع- هذا مصيبة! نقول له: أنت لا تدري يقول: لا! أنا أدري.
قلنا: هل تفتي في هذه المسألة؟
قال: نعم، أفتي.
قلنا: ما الدليل؟
قال: ما عليكم من الدليل، أنا أعرفه هكذا.
قلنا: مَنْ عَلَّمك؟
قال: علمني علام الغيوب!!
هذه علامة غلاة أهل التصوف والابتداعيون، الذين يقولون: علمنا من الخلاق لا من عبد الرزاق.
قال ابن القيم: والله لولا عبد الرزاق وأمثال عبد الرزاق ما عرفتم الخلاق.
قالوا: علمنا علم الخرق وليس علم الورق.
ويقصدون بالورق التحصيل العلمي، وإنما العلم بالتعلم، فمسألة التسرع في الفتوى هي التي تورث كذلك بعض هذه الأمور.
إخوتي في الله! الشاهد من هذا الحديث أن نسأل الله تعالى لهذه الأمة المسكينة المضطهدة المظلومة، التي اجتمع عليها الأعداء من كل جانب، أما جوها فميراج إسرائيل تقصف الأرض، وأما أرضها فأهل فسق وأهل شرود عن طاعة الله عز وجل إلا من رحم الله عز وجل، وأما هواؤها فمسموم باختلافات وأمور لا توجب الخلاف؛ فنسأل الله أن يجمع الشمل، وأن يوحد الكلمة، وأن يوفقنا وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه، ولعل الحديث واضح:
إن كيد مطرف الإخاء فإننا نسري ونغدو في إخاء تالدِ
أو يختلف ماء الغمام فماؤنا عذب تحدر من غمام واحدِ
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالدِ
يا دعاة الإسلام! يا علماء الإسلام! يا أبطال الإسلام! إلى الكتاب والسنة، وقد أقولها وأنا أعرف أن من تقصيري وعجزي أنني قد لا أبلغ هذا المستوى ولكن بجهدي وطاقتي، لأن في الناس من يقول: أنا أدعو إلى الكتاب والسنة، الخوارج يقولون: نحن ندعو إلى الكتاب والسنة، ويقولون: نحن الطائفة المنصورة، ونحن أهل السنة والجماعة، ونحن الناجون.
حتى يقول الزمخشري المعتزلي وهو يسب أهل السنة فيقول:
لجماعة سموا هواهم سنة لجماعة حمر لعين موكفة
كذب البعيد، نسأل الله أن يتولاه، ولا ندعو عليه لأن له حسنات، ولو أنه مبتدع.
أنا أقول: إن هذه الكلمة تقبل، لكن المقصد أن نطبق بالفعال والمقال، وأن نعمل شيئاً ليدل على أننا نريد الكتاب والسنة، ما كل من قال مقالاً صدق.
أيها الناس! إن على كل لسان قائل ما قال شاهد من عمله، فالله الله لا يظهر عمله مكذباً لقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(213/34)
الأسئلة(213/35)
التبسم وإفشاء السلام
السؤال
نرى من بعض الشباب الملتزمين بالدين عدم الابتسامة والضحك إلا لأصحابهم، وإذا سلم عليهم أحد من العامة، ردوا ووجوههم عابسة.
ما نصيحتكم لهؤلاء الشباب؟
الجواب
هؤلاء أولاً يذكرون بالسنة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الإسلام قال: {إطعام الطعام، وإفشاء السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف} فالسنة أن تفشي السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف من المسلمين، ومن حصر السلام أو اللقاء أو شيئاً من الود وحقوق المسلمين على طائفة فِلهوىً في نفسه، وهذه الأمور الدقيقة يتساهل فيها بعض الناس، وهي تحدث أموراً من التشتت والتمزق كالجبال، إنه ليس من السهل أن تلاقي شاباً مسلماً أو داعية أو رجلاً خيراً صالحاً، ثم ينقبض وجهك إذا رأيته، إنها سوف تورث عنده ردة فعل، ويحملها إلى أصحابه وإخوانه ويوزعها، فيأتي الشقاق!
إن البسمة ليست برخيصة بل هي غالية، تبني من قصور المحبة ما لا تبنيه وسائل أخرى، فأنا أدعو إخواني على أخذ هذا الحديث: أن تفشي السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف، وأن تعطي الناس من برك وصلتك، بل قال أهل العلم: حتى الكافر يدخل في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لبني إسرائيل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] وهو كافر، فكيف بالمسلم الذي يصلي الصلوات الخمس؟!!
الانقباض يكون لليهودي والنصراني، ويكون للبدعي الذي يريد النكاية بهذا الدين، ويريد الإضرار بالسنة المطهرة، أما رجل أخطأ في مسألة، أو خالفك في أسلوب، أو رأى هذا الطريق، ورأيت هذا الطريق والمقصد واحد، فلماذا الانقباض؟ إنه الهوى.(213/36)
التشهير بالبدعة والضلال
السؤال
هل يجوز إذا كان هناك شيخ ضال أن أشهر به؟
الجواب
أنا قلت في غضون حديثي: الضلال الذي يطرح في الساحة، أو يكتب أو يسمع، لابد أن نتثبت منه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] فلابد من التثبت، بسماع الكلام، والتحقق من مصدره؛ لأن الشائعات كثرت بين الشباب وبين الدعاة، تنقل الكلمات وليس لها أي أساس من الصحة، وتنقل العبارات الجافة فيزاد فيها حتى تبلغ عدلين، ثم تصل فتسحق الود، فموقفنا أولاً التثبت والتبين من مصدر الخبر، فإذا ظهر لنا الخطأ فعلينا واجب النصيحة، نذهب إلى هذا الذي أخطأ فنعلمه الكتاب والسنة، ونقول له: دعنا نتحاكم في النزاع إلى الكتاب والسنة، قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن أصر على ذلك حذرنا الناس منه للأمانة، فإن الجرح والتعديل ليس من باب الغيبة، يقول البخاري في ترجمته وقد ورد هذا في سير أعلام النبلاء: منذ عقلت رشدي ما اغتبت أحداً أبداً.
قالوا: فما لك ألفت في الجرح والتعديل؟ قال: هذا ليس من هذا.
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ عيينة بن حصن: {ائذنوا له، بئس أخو العشيرة!} تحذيراً وإخباراً به، فنحذر الناس خاصة من يطلب العلم عنده؛ لأنه يأخذ علماً مغشوشاً مسموماً، بهرجاً لا خير فيه.
رجل آخر ما سمعنا عنه شيئاً، نحمله على أحسن محمل، يصلي لكنه متكتم على شيء الله أعلم.
فنحذر ونأخذ حيطتنا، لكن لا نأتي على المنابر وفي المجالس والمجامع نقول مبتدع، فإن قيل لكم ما ظهر لكم من بدعته؟
قالوا: إن شاء الله يكون مبتدعاً! نسأل الله أن يكون مبتدعاً!! وما يدريكم لعله مبتدع؟ من يدري؟ لكن، نأخذ للاحتياط أنه مبتدع!
فنحن نقول: التوقف عن رميه بالابتداع أولى من رميه بالابتداع.
رجل آخر رفض، أتى يقول للناس: هذا هو الطريق الصحيح، هذا هو منهج أهل السنة والجماعة، هذا الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونشر وتكلم.
بالتالي نحن نقوم ونتكلم، ونقول: أخطأت، لو أنك تكتمت تكتمنا، ولكن مادمت نشرت نشرنا:
إن بني عمك فيهم رماح
.(213/37)
شرح حديث: احفظ الله يحفظك
السؤال
أطلب منك شرح حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: {يا غلام احفظ الله يحفظك}.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم هذه محاضرة جديدة!
هذا حديث ابن عباس من أروع وألمع وأبدع الأحاديث في السنة، وهو حديث رواه الترمذي وسنده صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قوله صلى الله عليه وسلم: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} وعند أحمد -: {واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
إذا علم هذا أيها الإخوة! فهذا يحتاج إلى كلام طويل، لكن مجمل الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم يُطالب بحفظ الله.
فما هو حفظ الله؟
هو حفظ أوامره واجتناب نواهيه، حفظ الله هو العمل بالكتاب والسنة، حفظ الله أن تكون أقوالك وأعمالك وأحوالك موافقة لما في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حفظ الله أن تكون في ليلك ونهارك وحياتك وعبادتك وسلوكك لله هذا مجمل الحديث، والتفصيل بابه آخر.
وأما حفظ الله لك فهو أن يهديك ويسددك ويوفقك ويرعاك، وهو الذي دل عليه الحديث الذي في الصحيحين: {ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} ولينتبه لأنني سمعت من بعض الإخوة أنهم سمعوا قائلاً يقول في آخر الحديث: {وأجعل عبدي يقول للشيء: كن؛ فيكون} فهذا خطأ، وهذه زيادة باطلة، لا يصح إيرادها على الناس، وتشويش أذهانهم بهذه الزيادة.(213/38)
الماسونية كفر
السؤال
ما مدى خطر المسلم الماسوني على بلاده، وهل من صار ماسونياً يكفر؟
الجواب
ماسوني مسلم! هذا لفظ خاطئ، مثل قولنا: مسلم يهودي، مسلم صهيوني هذا ليس بصحيح وهذه نسبة خاطئة، المسلم مسلم، والماسوني ماسوني، إذا كان ماسونياً فليس مسلماً، ولو كان أبوه وجده على الإسلام، وكتب في التابعية وعنده جوازه بأنه مسلم، فلا ينفعه عند الله، لأن الماسوني عدو للإسلام فلا يسمى مسلماً هذا في التسمية.
والماسوني رجل متستر بابتداعيات، بل عنده أكبر من ذلك وهو الكفر، وأنتم تعرفون الماسونية وما ظهر منها في الساحة، وهي حلف عالمي لهدم الإسلام، وقد دخلت في الذين اشتهروا بالدعوة في البلاد الإسلامية، ولا أذكر أسماءهم الآن، وهؤلاء منهجهم معروف، وهم يبدءون بأمور:
أولها: تعطيل المعتقدات والكفر بالأديان السماوية، فهي أشبه بـ العلمانية لكنها تحت مظلة ما يسمونه الإنسانية.
الأمر الثاني: أن الرسل عليهم الصلاة والسلام ليس لهم مجال في هذا المجتمع العالمي، وليس لهم دور ولا دخل في الإصلاح بشيء.
الأمر الثالث: أن الأجناس لابد أن تندمج بغض النظر عن دياناتها ومعتقداتها، فاليهودي والنصراني والمسلم كلهم سواء في بوتقة واحدة، ولهم أرقام وأسماء تجدونها في كتب تتحدث عن الماسونية وهذا ما يحضرني من الكلام.(213/39)
زيارة الجفاة
السؤال
لي بعض الإخوة في الله، والمشكلة أنني أقوم بزيارتهم دائماً، وقد أتعرض لكثير من الأذى من أجل زيارتهم وأتحمله، وأنسى كل ألم بعد رؤيتهم، ولكنني كلما طلبت منهم أن يزوروني يتعذرون بأسباب غريبة، وأحس أحياناً تهربهم مني مع أني أحاول كل جهدي ألا يجدوا مني ما يؤذيهم من قول أو فعل؛ فأصبحت وحيداً بلا أنيس ينصحني ولا يواسيني، فأرجو أن تبين مدى أهمية الزيارة في الله وفضل استمرارها.
الجواب
أنا أقول لك مبدأً: على المسلم ألا يذل نفسه، لا تذل نفسك من أجل أن ترضي أحداً، والذلة لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو الذي تنبغي له الذلة والعبودية، وأما الذي ذكرت من هؤلاء فهؤلاء قوم جفاة، عليك أن تنفض ثيابك ويديك وتدعو لهم أن الله يصلحهم.
أما أن تتعرض للإهانات صباحَ مساءَ وتدخل عليهم لتؤانسهم وتلاطفهم، فترى الانقباض والوحشة والجفاء، فهؤلاء قوم جفاة لئام، وليس عندهم من الخير شيء، ودينهم مهزوز، وقلوبهم مريضة، فإنهم لو أرادوا الخير للإسلام لاستقبلوك وحيوك؛ لأنه زاد رجل من المسلمين الأخيار، وأنت معهم في الصف والطريق، لكنهم خسروك وأنت لم تخسرهم والحمد لله.
وأما الذي ذكرت بأنك تجلس بلا مؤنس فلا! بل معك ألف ألف مؤنس، أولاً معك الله تبارك وتعالى:
يا حافظ الآمال أنت حميتني ورعيتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
الذي مع الله ليس بوحيد!
أنت القوي:
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
قد يكون صاحب الحق واحداً، وتكون الجماهير على ضلال.
والأمر الثاني: أن لك في الساحة ألف صديق وصديق، سوف تجدهم، ما عليك إلا أن تفتش عن يمينك ويسارك، فسوف ترحب بك القلوب والبيوت والعيون والأسماع والأبصار، وبدلاً من هذا الذي جفاك ولم يعانقك؛ سوف يعانقك مئات الشباب، ويرحبون بك، ويفرشون لك مقلهم لو أن المقل تفرش، وبدلاً من هذا الذي كشر في وجهك سوف يبتسم أمامك عشرات الوجوه والحمد لله، هذا الذي خسئ بيده ولم يمدها لك تمد لك الأيادي والحمد لله، فما عليك ممن سار وممن شرق وغرب، وردد مع أبي فراس بينك وبين الواحد الأحد:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب ترابُ(213/40)
الكرامة
السؤال
ذكرتم في يوم أمس شيئاً عن الكرامة، وأقول: إن بعض الإخوان يذهبون إلى أفغانستان ويَقتُلون ويُقتِلون لما يسمعون من الكرامة، وهمهم ذلك فقط، هل هذا أمر شرعي أم لا؟
الجواب
أولاً: ينبغي للمسلم ألا يعمل عملاً إلا لوجه الله، ومما يرضي الله عز وجل؛ فقد قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] هذا الأمر -الإخلاص- لابد أن يكون لله، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى قال: {قلت: يا رسول الله! الرجل يقاتل رياءً، ويقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله}.
أما الكرامة، فلها ضابطان اثنان:
أولاً: أن يكون صاحبها على العمل بالكتاب والسنة، وعلى منهج الكتاب والسنة.
الأمر الثاني: أن تستخدم هذه الكرامة لنصرة دين الله عز وجل.
وهذان الضابطان ذكرهما ابن تيمية.
الأمر الثاني: في أفغانستان جهاد مبارك، ونسأل الله أن ينصرهم وينصر دينه الحق وأن يثبت أقدامهم.
وأما من خرج لطلب الكرامة فقد أشرك في نيته، فإن أعظم الكرامة أن ترفع كلمة لا إله إلا الله، وأن تنصر الإسلام بنفسك، أما أن تخرج لطلب هذه الأمور أو ليسمع بك أو ليرى مكانك فهذا شرك والعياذ بالله!
أما الكرامات ففيها ما يقبل، وأهل السنة والجماعة يقرون الكرامات، ومن أعظم من يكرم الله عز وجل الشهداء في سبيله؛ لأنهم في موقف ضعف وزلزلة؛ فيؤيدهم الله بالكرامات.
النوع الآخر فإدخال بعض العادات في الكرامات له، فهذا ليس بصحيح، بعض الناس يأتي بأمور عادية ويقول: رأيت كذا وكذا كرامة من الله.
وقفت بسيارتي عند الإشارة الحمراء، فلما وقفت ولعت الخضراء أكرمني الله بهذا.
!
دخلت البيت وإذا بزوجتي قد فرشت السفرة ووضعت الطعام، فمن أخبرها أنني أتيت؟ هذه كرامة من الله!
فهذه عادات وليست بكرامات.
الأمر الثالث وهو أمر خطير: أن تجعل الزندقة والإلحاد والشركيات والخرافات كرامات، وهذا أمر أشرت إليه.
السحرة والكهنة يخبرونك باسمك ولقبك وكنيتك فتقول: صدقتم! هؤلاء مخرفون قد خدمتهم الجن وليس هذا بكرامة، فلا تغتر بمن يطير في الهواء ويمشي على الماء حتى توازن عمله وقوله وفعله بالكتاب والسنة.(213/41)
حكم الإيثار بالقرب
السؤال
ذكرتم أن من علامات الأخوة الإيثار، فهل يجوز الإيثار بالحسنات وبالسنن للإخوان، فمثلاً: إذا جاء إنسان يريد أن يؤذن فيؤثر أخاه في ذلك، وما مدى صحة الحديث الذي ذكرتموه: {سلمان منا آل البيت}؟
الجواب
أولاً أما حديث: {سلمان منا آل البيت} ففيه ضعف، وأما الإيثار بالحسنات، فهو مبحث تعرض له ابن القيم في كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب، كمن يؤثر أخاه المسلم بالصف الأول ويعود إلى الثاني ويترك مكانه له، فمن يأتي ليؤذن فيرى أخاه المسلم فيقدمه للأذان، وأهل العلم على رأيين: منهم من قال: لا يؤثر بالقرب لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] والمسارعة تقتضي ألا تؤثر، وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] والاستباق أن تكون الأول في كل شيء.
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
فكيف تترك الأول لتخرج من هذه النصوص ومن فضلها.
وقالت طائفة: الإيثار بالقرب وارد، وقد آثر كثير من الصحابة بقربهم وبأعمالهم، مثلما فعلت عائشة عندما قتل عمر رضي الله عنه فسألها أن يدفن في قبرها الذي أعدته لنفسها بجانب أبي بكر والرسول صلى الله عليه وسلم ثم قالت: لأوترن به اليوم على نفسي.
وكان بعض السلف يترك الأذان -كما في بعض الغزوات مثل القادسية- ولو أنهم أرادوا أن يقتتلوا عليه، لكنهم يتركونه لبعض الأخيار.
وقد آثر عمر أبا بكر في أكثر من موقف: بالكلام والحديث، بالدعوة، بالصدقة، بالنفع، وكثير من ذلك.
والصحيح أنه لا بأس بالإيثار في القرب التي تقبل الإيثار، مثل أن ترى من يستحق أن تؤثر له، ترى عالماً جليلاً دخل فلك أن تتأخر من الصف الأول إلى الثاني وتترك له مكانك، فيأجرك الله على ذلك، ترى شيخاً كبيراً مسناً تقدم يريد أن يؤذن وأراد أن يحتسب فتقدمه للأذان.
لكن أهل المعاصي والفسقة لا يؤثرون، تجد رجلاً فاجراً فتقول: يا بركة الزمن، يا درة الدهر تعال وأذن بالناس! تتحدث في المجلس وتورد عليهم قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدخل عليك ضال مضل مخرف فتقول: يا أيها العلامة الجهبذ، يا شيخ الإسلام خذ الميكرفون وتكلم! هذا من الإيثار الخطأ، فلابد أن يكون الإيثار في القربات التي تقبل الإيثار، وأن يكون لمن يستحق الإيثار، وأما الذين هم متلبسون بالمعاصي أو مشتهرون بها، أو ضلال فسقة؛ فلا يؤثرون.(213/42)
أشد أنواع الكفر
السؤال
ما حكم من يسب الله جل جلاله؟ وهل نأكل معه ونسلم عليه؟ وهو أخي شقيقي مع العلم أني دائماً أنصحه، وهل يجوز أن أضحك معه وأعطيه شيئاً من المودة؟
الجواب
نعوذ بالله من هذا، وتعالى الله عما يقول هذا علواً كبيراً!! رجل يسب الله عز وجل!!
أهل الإسلام اختلفوا في هذه المسألة، هل له توبة بعد أن يتوب؟ ومنهم من قال: لا توبة له!
أما علاقتك معه فعليك أن تتقي الله وتنصحه؛ لأن التوبة ما زالت مفتوحة وهو الصحيح لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] والله غفر للكافر الذي كان يسبه ويسب رسوله لما أسلم، فالتوبة -إن شاء الله- واردة وهو الأقرب، فعليك أن تنصحه، فإذا استمر فقاطعه، واحمل له البغضاء والضغينة، وإن استطعت أن تودي برأسه وبعنقه قتلاً فافعل؛ فإن هذا عدو من أكبر الأعداء الذين وجدوا على سطح الكرة الأرضية، هذا الذي يسب الله ليس بعد عدائه عداء، وعليك -إذا عجزت منه وحاولت- أن تتسبب في الإضرار به ومعاداته ومناوأته ولو بلغ حد قتله، فقتله من أحسن القربات إلى الله عز وجل.(213/43)
دوران الأرض والصعود إلى الفضاء
السؤال
هل الأرض تدور أم أنها ثابتة؟ وهل نصدق قول الكفار أنهم صعدوا الفضاء؟
الجواب
هذه مسألتان: مسألة هل تدور الأرض أو لا تدور، ومسألة هل صعد الكفار إلى الفضاء.
الظاهر أنهم صعدوا الفضاء ووصلوا إلى سطح القمر، وهذا معروف، لكنني قرأت للمالكية والحنابلة والشافعية والأحناف، فما قالوا بدوران الأرض، وأنا أتوقف كما توقفوا، والذي يظهر والله أعلم أنها تدور، وهذا الذي تكلم به أهل العلم، أما أن يأتي طلبة العلم فيدخلون أنفسهم في كل قضية، فكلما أتت نظرية وطرحت في الساحة، قاموا إليها ونشروها ثم تكلموا فيها، وفي بكرة النهار تأتي قضية تعاكسها أو نظرية تنكسها فنقول: عدنا كما عادوا وتبنا كما تابوا!
القرآن لا يعرض هكذا للناس رداً وأخذاً وعطاءً ومضادةً، لا! ولذلك سيد قطب رحمه الله يقول قاصداً طنطاوي جوهري صاحب كتاب الجواهر في التفسير: حمل القرآن ما لم يتحمل، القرآن نزل كتاب هداية.
وأبو الأعلى المودودي له كتاب كيف تقرأ القرآن، وهو كتاب فذ من أحسن ما كتب، يقول: أولاً: أزل من ذهنك كل تصور عن القرآن أنه كتاب تاريخ فليس بكتاب تاريخ، وليس بكتاب جغرافيا، وليس بكتاب هندسة ولا كتاب طب، لكن القرآن كتاب هداية.
بعضهم يدعي أنه أخذ من القرآن أن المثلث زواياه ثلاث.
قلنا: من أين يا بركة الزمان؟!
قال: من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:30 - 31] أين هذه من هذه؟!
ذهبتْ مشرقةً وسرتَ مغرباً شتان بين مشرقٍ ومغربِ
قال آخر: الخط المستقيم أقرب موصل بين نقطتين.
قلنا من أين؟
قال: من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] إلى آخر تلك الأقوال فحمل القرآن ما لم يتحمل؛ لأن القرآن والسنة إذا عرضا لهذا، كانا في مهب الهواء.
فأما الدوران فهو الأقرب، لكنني لا أعرف أن القرآن يدل عليه إثباتاً أو نفياً، لأن القرآن كتاب هداية، فأهل الطب يبرعون في الطب، والهندسة يبرعون في الهندسة، أي: اسق الناس الإيمان ثم اتركهم، وسوف ترى كيف تؤتي شجرة الإيمان أكلها كل حين بإذن ربها، أدخل في قلبه الإيمان ثم ترى الصحفي يكتب بإيمان، والشاعر يلقي قصيدة بإيمان، والمهندس ينفع المسلمين بالإيمان، والطبيب يخدم الإسلام بالإيمان، أما مسألة الإيمان، فقد أتى القرآن يقول: خذ الإيمان، أما هذه الوسائل فلا، بل تترك للبشر.(213/44)
الاختلاف بين الجماعات الاسلامية
السؤال
إني كنت في تحفيظ القرآن، ثم انفصلت من التحفيظ لبعض الظروف العائلية، ثم التزمت مع شباب طيبين والحمد لله، ثم قالوا لي: إن أستاذ هذا التحفيظ من جماعة الإخوان المسلمين وأنا لا أدري من هم الإخوان المسلمون، فما رأيك في هذا الأمر؟
الجواب
أولاً: لا يخفى عليكم أن هذه الجماعة الخيرة الطيبة التي نفع الله بها الإسلام والمسلمين، الإخوان المسلمون من ضمن أهل الاجتهادات في مجال الدعوة والأساليب، وهي من الانتماءات الموجودة في الساحة، أنشأها الأستاذ حسن البنا رحمه الله رحمة واسعة، ونسأل الله أن يجمعنا به في دار كرامته.
الإخوان المسلمون يحاسبهم الله عز وجل مع السلفيين مع أهل جماعة التبليغ فرداً فرداً، ولا يحاسبهم جماعات، فما عليهم من أخطاء فأخطاؤهم بينهم وبين الله، وما لهم من حسنات أثابهم الله بحسناتهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
هم بشر يخطئون ويصيبون، وللجميع اجتهادات قد تصيب في بعض النواحي وقد تخطئ، لكنهم جميعاً يريدون الخير، هذا يريد الإمساك على منهج السلف في المعتقد؛ فمأجور ومشكور، واعمل لكن لا تثرب على الآخرين، كفاك الله شر التثريب!
وهذا يقول: أريد أن أربط الواقع والفكر بالإسلام، وأن أجمع كلمة المسلمين، وأن نرد على الكافر، وأن يكون خصمنا الكافر.
نقول له: أثابك الله! أحسنت، وأنت مأجور ومشكور، لكن لا تثرب على أحد إلا من يقبل التثريب.
ذاك الثالث يقول: أنا أريد أن أخرج العصاة من البارات والخمارات وأهديهم.
نقول له: أحسنت وأثابك الله! وهذه مهمتك.
والمجموع كلهم خيرون إن شاء الله، وأنت ليس عليك هذا، إنما عليك أن تعمل لوجه الله، وتوالي في الله، وتبغض في الله، وأن تحاسب الناس أفراداً، لا لأنه هنا فتكرهه؛ لكره ما تسمع، ولا لأنه هنا؛ فتحبه لحب ما تسمع، فإنه يوجد هنا أفراد أتقى وأزهد من بعض الأفراد أو من كثير من الأفراد هناك، وهناك يوجد أفراد أتقى وأزهد من بعض الأفراد هنا، فأنت كن على منهج القرآن في المحاسبة في الآخرة فرداً فرداً هذا هو الأمر الواقع.
الأمر الذي أحب أن أقوله: إن كلامي هو في الائتلاف، وليس هناك أمور إن شاء الله توجب الفرقة، لكننا إذا أتينا بالكتاب والسنة، واشتغلنا بالعلم الشرعي، وسمحنا لأهل الأساليب في أساليبهم واقتراحاتهم التي لا تعارض الإسلام، نجحنا وأفلحنا بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن الصفاء! الصفاء! والود الود! والحب الحب! وكل مأجور مشكور، على أن في هذه الطوائف والانتماءات بعض من المتحمسين للإسلام، عقيدته عقيدة السلف يحب الخير، يشتعل حماساً لخدمة هذا الدين فجزاه الله خيراً، وفي هذه الانتماءات جميعاً عصاة مذنبون مجرمون، وحسابهم عند الله عز وجل، وفيهم من تلبس ببدعة فحسابه عند الله عز وجل، ولكن المقصد أن تعمل عمل رجل يريد الخير لهذه الأمة ونصرة لا إله إلا الله ثم من أي طريق أتيت:
خذا جنب هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق(213/45)
عفو الشيخ عمن اغتابه
السؤال
إني أحبك في الله! وقد اغتبتك مرة من المرات، فأرجو أن تسامحني وألا تقول مثلما قال ابن سيرين؟
الجواب
أما أنا فأقول: عفا الله عنك ملء هذا المسجد، وعفا الله عن كل من جلس معنا وكل من غاب عنا من المسلمين؛ لأن هذا مجلس معافاة ومسامحة، أما أن نأتي نتحاسب في آخر المحاضرة بالدينار والدرهم فليس بصحيح.
يقول صاحب المنطلق والعوائق جزاه الله خيراً: قال قائل لأخيه: تعال نتعاتب هذا اليوم، قال: بل تعال نتغافر.
فهذا ليس مجال عتاب، نزيد الأمة نكاية وتشتيتاً وفرقة بأن أقول: والله لا أسامحك، وتقول: والله لتسامحني.(213/46)
حرمة دخول الحائض إلى المسجد
السؤال
هل يجوز للحائض أن تدخل الحرم دون أن تصلي؟
الجواب
الصلاة -كما هو معروف- محرمة عليها، والحائض لا تدخل الحرم ولا أي مسجد، إلا عابرة سبيل كما قال الله تعالى في الجنب: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] وفي سنن أبي داود بسند جيد عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب} وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج لي رأسه فأرجله وأنا حائض من خارج المسجد} فلو كان يجوز لدخلت معه.
وهناك مسألة نذكرها للتنبيه والفائدة تعرض لها ابن تيمية والأحناف، وهي مسألة الحائض إذا حاضت قبل أن تطوف طواف الإفاضة؛ فماذا تفعل؟
هناك حديث: {أحابستنا} وهو حديث صفية فإنها لو كانت طاهرة لكانت طافت، وإذا كانت حائضاً فإنها كانت تحبسه صلى الله عليه وسلم.
ابن تيمية والأحناف قالوا: إذا كان بلدها بعيداً ويخشى عليها ويخاف عليها من الرفقة، فلها أن تطوف بالبيت بلا صلاة.
وهذه المسألة للفائدة، يقولون من باب الضرورة: {إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتبوه} لكن -للعلم- الحائض لا تدخل المسجد جالسة أو عابدة أو معتكفة، وإنما لها أن تمر مروراً عابراً كما قال تعالى: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43].(213/47)
أهل الذمة المحاربون
السؤال
حدثت مشاجرة بين المسلمين والنصارى في إحدى البلاد، واعتدى نصراني على مسلم، فأحدث به عاهة مستديمة، ونظراً لأنه لا تقام الحدود في تلك البلدة، هل يجوز للمسلم أن يتحين الفرصة للقصاص من هذا النصراني؟ وهل يجوز قتل النصراني لأنه محارب ومجاهر بنصرانيته؟
الجواب
أقول: عليك أن تعتدي بمثل ما اعتدى عليك، وأن تقتص بيمينك؛ سلم الله يمينك، فإن أتلف يدك فأتلف يده، وإن استطعت فالاثنتين، وعينه فعينه، وأذنه فأذنه، فهذا منهج، لكن العدل أولى وأقرب.
وأما قضية أن نحارب النصارى لأنهم كفار فلا! فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى جعل الناس ثلاثة: صاحب عهد إلى مدته، ومحارب نحاربه، وصاحب ذمة؛ فأما أهل الذمة فإنا نقرهم بشروط، إذا كنا منتصرين أقررناهم ببنود أو شروط لا نقرهم على كفر، لكن على الاستيطان، أو على المعايشة السلمية بشرط أن يدفع لنا الجزية عن يد وهو صاغر، لكننا الآن نحن نخاف أن ندفع لهم الجزية!
ومحارب: فهذا أضربه وما عليك، سيفك بسيفه، ورمحك برمحه.
وأما صاحب عهد: عاهدته شهراً أو سنة أو سنتين فأتم له عهده إلى مدته.
وأحسن من تكلم عن هذا في كتاب الجهاد أبو الأعلى وقد نقلها عن ابن القيم وذكرها سيد قطب في الظلال في سورة الأنفال عن ابن القيم، وأحسن من فصلها ابن القيم في كلامه عن الجهاد.(213/48)
القصيدة البازية
السؤال
هل يتفضل الشيخ بإعطائنا القصيدة البازية؟
الجواب
القصيدة قد ذكرت أكثر من مرة، ولكن سأعيدها كي تثبت وترسخ؛ لأنه إذا لم تكرر فسوف تُنسى.
الشيخ عبد العزيز بن باز نحبه لا لشيء إلا لأنه يحب الله، وكل من أحب الله وعمل لله فواجب علينا أن نحبه وليس بنافلة، هذا الرجل وضع الله له القبول في الأرض، نسأل الله أن يثبتنا وإياه وأن يحسن لنا وله الخاتمة، يقول عنه المجذوب في قصيدة مقطوعة مليحة:
روى عنك أهل الفضل كل فضيلة فقلنا حديث الحب ضرب من الوهمِ
فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سمعنا به في العلم والأدب الجمِّ
فلا غرو أن تسبي المكارم كابراً فتأسرها بالمكرمات وبالعلمِ
فلم أر بازاً قط من قبل شيخنا يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي
وتقي الدين الهلالي وهو محدث مغربي وقد توفي يقول:
خليلي عوجا بي لنغتنم الأجرا على آل بازٍ إنهم بالثنا أحرى
وزهدك في الدنيا لو ان ابن أدهم رآه رأى فيه المشقة والعسرا
والبازية فيها:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل الصافي
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافي
مجالس اللغو ذكراهم وروضتهم أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي
وأنت جالست أهل العلم فانتظمت لك المعاني ولم تولع بإرجاف
بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الطل في إشراقه الضافي
تشفي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم دراً غير أصدافِ
يكفي محياك أن القلب يعمره من حبكم والدي أضعاف أضعافي
يفديك من جعل الدنيا رسالته من كل أشكاله تفدى بآلاف
أراك كالضوء تجري في محاجرنا فلا تراك عيون الأغلف الجافي
كالشدو تملك أشواقي وتأسرها بنغمة الوحي من طه ومن قافِ
ما أنصفتك القوافي وهي عاجزة وعذرها أنها في عصر أنصافِ(213/49)
الشيعة الإثنى عشرية
السؤال
هل فرقة الشيعة الإثني عشرية تنطبق عليهم هذه الأخوة، وهل نبدؤهم بالسلام والدعوة والمزاح والمخالطة؟
الجواب
فرقة الشيعة الإثني عشرية لا تنطبق عليهم هذه الأحاديث، وهم في واد، وهذه الأحاديث في واد آخر، وهم مستدبرو القبلة، ونحن مستقبلو القبلة، فهؤلاء لا ينطبق عليهم الحديث لا من قريب ولا بعيد لأن هذا فيه بعد، ومن قرأ منهاج السنة لـ ابن تيمية عرف البعد الشاسع، ومن قرأ كتاب الوشيعة ذاك الكتاب الفذ لـ موسى الجار الله عرف أموراً عجيبة، فلا يمكن! فنحن في أماكننا ونحن هنا حتى يأتي من أراد أن يأتي لنعرفه ولينضم إلى الكتاب والسنة، أما أنا فأتكلم عن أناس تحت مظلة لا إله إلا الله محمد رسول الله، عن أناس يعتقدون في الجملة ما نعتقد، وأصولنا وأصولهم واحدة، إن اختلفنا معهم فإنما هو في فرعيات، خلاف تنوع لا خلاف تضاد، أما الخلاف مع الذي ذكر الأخ فهو خلاف تضاد، وليس بخلاف تنوع.
أساليب الدعوة هي من خلاف التنوع؛ أما العقائد والأصول فمن اختلاف التضاد فليعلم ذلك.
وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.(213/50)
نشرة الأخبار
يتناول هذا الدرس بعض الأحداث العظيمة التي تهم الإسلام بشكل عام وتهم الصحوة بشكل خاص, ومن هذه الأخبار:
صحوة في كل مكان.
توبة المغنين.
انهيار الشيوعية وانتصار الإسلام.
ثم ختم الأخبار بلقاءات مع فضيلة الشيخ: ابن باز , والشيخ: الألباني, والشيخ: ابن عثيمين , ولم تخل هذه اللقاءات من الدروس والعبر المفيدة لطلاب العلم خصوصاً وللمسلمين عموماً.(214/1)
سبب طرح موضوع نشرة الأخبار
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثراً.
أمَّا بَعْد: عنوان هذا اللقاء (نشرة الأخبار) وهو عنوان عصري، والسلف لهم عناوين أخرى، وهي أنه كان من منهج القرآن أن يُسأل القادم عن خبره، وكان عليه الصلاة والسلام إذا نزل به نازل سأله عن اسمه ونسبه وعن قبيلته، فآثرت هذا العنوان، وسوف أذكر الموجز، ثم التفصيل إن شاء الله، ولعله أن يكون هناك فائدة، ولعل من قوالب الحق التي يعرض فيها ما ينفع، كلما تعددت الأساليب.
دخلت الملائكة على إبراهيم عليه السلام، وكان من أكرم الناس، وله روغتان في القرآن: روغة كرم، وروغة شجاعة {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} [الصافات:93] هذا في الأصنام {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] وراغ هنا، أي: ذهب بخفية، مثلما يذهب الكريم، فإنه إذا دخل الضيف بيت الكريم، يقوم الكريم فيروغ بخفية ويأخذ السكين بخفية، ويذبح الخروف بخفية.
وأما البخيل: فيتحنحن ويتمنمن، ويلقي محاضرات، ويستعيذ بالله من الشيطان، ويَسنُّ شفرته أمام الضيف، ويصلي ركعتي الاستخارة، ويسأل الضيف هل أنت مقيم فنجعله عشاء، أو أنت مسافر فنجعله غداء، وما تأتي هذه الوجبة حتى يمل الضيف المجلس، ويسأل الله عز وجل أن يفرج عليه هذه الكربة.
إبراهيم لما دخلت عليه الملائكة قام سريعاً -وانظر إلى الكرم- وذهب عليه السلام إلى عجل -ولم يقل خروفاً- كان العجل سميناً وهذا لا يفعله إلا كرماء الناس، وأيضاً مع أن الضيوف كانوا ملكين أو ثلاثة ومع ذلك يذبح عجلاً سميناً، قال أهل العلم: إذا وجد من يأكل الطعام فلا عليك ولو كثرت.
ولفظ القرآن، قال: (سمين) وليس بهزيل، وفي سورة هود: (حنيذ) وقد جمع بينهما أهل العلم، قالوا: عجل سمين وحنذه؛ لأن الحنيذ يأكل منه الضيف أكثر ومن جرب عرف، والتجربة أكبر برهان {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} [الذاريات:27] ومن حكمة الله عز وجل وقدرته أن خلق الملائكة من نور لا يأكلون الطعام، فلما قدمه إليهم, قال ابن القيم: فيه أدب، فمن الأدب أن تقدم الطعام إلى الضيف، لا تقدم الضيف إلى الطعام، ولذلك نحن ابتعدنا عن الأدب الإسلامي الأصيل، يوم جعلنا الضيف يقوم إلى السفرة، وما نجعل السفرة تقدم إلى الضيف، هذا هو الأقرب لكن لا غضاضة، والمسألة فيها سعة.
(فقربه) ولم يقل: قربهم إليه، وإنما قرب الطعام إليهم, وفي ذلك راحة للضيف لأنه جالس والطعام يأتي إليه، وقد كان الأولون يفعلون ذلك، حتى أتت المدنية فجعلوا سفرة الطعام في مكان، والمجلس في مكان, والغسالة في مكان، والنشافة في مكان، فلما قربه إليهم نظر إليهم، قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] وهذا من الأدب، فإنه لم يقل ما لكم لم تأكلوا! نحن تعبنا وسلخنا وذبحنا، وإنما قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] فقالوا: نحن لا نأكل، قال: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} [الحجر:57] سألهم: ما هو الخبر؟ وهذا هدي الإسلام, وهو أدب عربي قح، والعربي كان إذا نزل به الضيف سأله عن أحواله وأخباره.
وعند الترمذي بسند فيه ضعف: {إذا عرف أحدكم أخاه فليسأله عن اسمه وعن نسبه، فإنه واصل المودة} وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] فالأصل أن تسأل الضيف الذي نزل عندك، ممن أنت؟ ومن أي قبيلة؟ -وليس هذا من العنصرية- هل جاءكم مطر؟ كيف أهلكم؟ لأنك إذا سكرت شفتيك خاف منك الضيف، والبخيل لا يتحدث مع الضيف، وإنما يسارقه النظر، ويعد لقمات الضيف، وينظر هل كبر أم صغر، ويكاد يبتلعه، حتى ينطوي الضيف وينقبض.
قال العربي الأزدي والأزد جدكم:
أحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف أن يُكْثَر القِرى ولكنما وجه الكريم خصيب
فقبلما يضع السرج من على الحمار، أو القتم من على الجمل، فيبدأ صاحب البيت بالترحيب بالضيف وهو لا يزال في الحوش والجرين وهذا من الكرم، قال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم - لوفد عبد القيس لما سألهم: {من القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا نداما}.
فالسنة إذا قدم إنسان بعد أيام أو أسابيع أن يتحدث لإخوانه وأحبابه بأخباره، وأنا لا أعلم أحباباً أحب إلينا منكم -يشهد الله تعالى- في الله عز وجل؛ لأنا نعلم أنكم صفوة المجتمع، وأنتم جلستم في بيت الله وتركتم أعمالكم وأتيتم تسمعون ذكر الله، فحفت بكم الملائكة، وتنزلت عليكم الرحمة، وغشيتكم السكينة، وذكركم الله فيمن عنده، والله يقول لكم في آخر المجلس: {انصرفوا مغفوراً لكم؛ فقد أرضيتموني ورضيت عنكم -فنسأل الله الكريم من فضله- فتقول الملائكة: يا رب! عبدك فلان فيهم ما جلس إلا هكذا -أي: ليس له غرض في الجلوس- قال: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم}.
ولذلك كان علماء السلف لا يدعون مجالس الذكر مع أنهم كانوا أعلم من المتكلم وأفقه، ومع ذلك يريدون دعوة مستجابة، أو مغفرة من الحي القيوم.(214/2)
موجز عناوين الأخبار
نشرة الأخبار هذه فيها مسائل:
الخبر الأول: صحوة في كل مكان: ففي هذين الأسبوعين -في الربيع- أتيت بأخبار.
الصحوة في كل مكان.
الجزء الثاني: توبة المغنيين في بلادنا، بل جمعٌ من المغنيين, سوف أخبركم بأسمائهم تابوا في أشهر معدودة من الغناء والفن، وكسروا الأعواد، وأقبلوا يتوضئون ويسجدون ويبكون في المساجد.
الخبر الثالث: انهيار الشيوعية وانتصار الإسلام.
الخبر الرابع: سلام على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وشيء من سيرته؛ لأني لقيته في مكة في هذا الربيع.
الخبر الخامس: لقاء حار بفضيلة المحدث الكبير محمد ناصر الدين الألباني، فقد جلست معه مع بعض طلبة العلم ما يقارب ثلاث ساعات في أسئلة سوف أعرضها لكم وأعرض جوابه.
الخبر السادس: جلسة مع الشيخ الفاضل العلامة محمد الصالح بن عثيمين، وسوف أقص عليكم من خبره: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:111].
ثم ننتهي ببعض الأمور، والله الذي يفتح ويهدي سواء السبيل، وعسى الله أن يجعل أعمالنا وأعمالكم خالصة لوجهه الكريم.
كان هذا هو الموجز وإليكم تفاصيل الأنباء.(214/3)
تفاصيل الأخبار(214/4)
صحوة في كل مكان
الخبر الأول: أما صحوة في كل مكان فحدث ولا حرج: (في كل أرض بنو سعد) والله يريد لهذه الأمة أن تتجه إليه، ويريد أن يكون المستقبل لها {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد:17] محاضرات في مكة وفي جدة وفي الباحة وبـ الجرشي والمخواة، لكن تمتلئ المساجد والأرصفة والطرقات من الشباب والنساء والكبار، يريدون ما عند الله، شباب أعلنوا توجههم إلى الله.
والله إن الإنسان يقف أحياناً فتدمع عيناه مما يرى من هذا الإقبال العظيم، سبحانك يا رب! قبل سنوات امتلأت المقاهي، وأعرض الناس عن المساجد، واليوم لا يجد كثيرٌ من الناس أماكن للجلوس لحضور المحاضرات أو لرؤية المحاضر، أو لسماع المحاضرة، زحام رهيب، وإقبال على الطاعة، وصحوة في كل مكان، لقيت طلبة بعضهم جاء من فلسطين وقد جاءوا من سنغافورة، وقالوا: هناك صحوة، وبعضهم في البرازيل، وأتت رسالة من أستراليا قالوا: الأشرطة التي تلقى هنا تصل إلينا بعض ثلاثة أشهر.
اتجهت الدنيا إلى الواحد الأحد؛ لأن الله يريد أن يسعد الدنيا؛ ولأنه لطيف بالخليقة، ومن لطفه أن يرد الخليقة للإسلام، ولذلك يقول سيد قطب قبل ثلاثين أو أربعين سنة: المستقبل لهذا الدين، ونقول له: يا أستاذ رحمك الله! لو رأيت الصحوة والعودة، لعلمت أن المستقبل لهذا الدين، ولي عودة على هذه القضية.(214/5)
توبة المغنين
أما توبة المغنيين في بلادنا، فقبل أسبوع كانت محاضرة وهي موجودة في تسجيلات أبها بعنوان: "رسالة إلى المغنيين والمغنيات" وقد حضرها جمع هائل من المسلمين، وحضرها أيضاً اثنان من المغنين الذين تابوا، وأتيت بقصاصات من جريدة الجزيرة وعكاظ، وبعض الصحف التي تحدثت عن سبعة تابوا إلى الله وعادوا في أشهر معدودة.
حضر المحاضرة المغني الشهير، والذي أصبح عابداً داعية (مسفر القثامي) و (يحيى أبو الكرم) صاحب الصوت الجميل، وسوف تسمعون صوته في آخر الشريط الثاني من المحاضرة.
ثم قام بعد المحاضرة ليتكلم عن مرحلتين ويومين وليلتين في حياته، مرحلة ما قبل الهداية، ومرحلة ما بعد الهداية، مرحلة يوم كان يأخذ العود، ويعزف على الموسيقى، وكان عنده فرقة، وكان عنده ناي وطبل ودف، ووتر وسهر، وضياع وكأس وسيجارة، وجمهور ولغو ولهو: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام:70].
ومرحلة يوم هداه الله، قام ووجهه قد أشرق بالنور, وعليه لحية جميلة من لحى أهل السنة والجماعة، وثيابه من ثياب أهل السنة، وعنده سواك، وقام أمام الألوف من الناس، يقول: أنا أبو الكرم، قد كنت مغنياً وأصبحت عابداً لله، ثم اندفع يبكي، وتحدث عن روعة الإيمان ونوره، وعن إشراق القرآن، وسوف تسمعون كلامه، فسأله الناس أن يقرأ بصوته الجميل الذي كان يغني به {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فقام واندفع واختار بصوته الجميل سورة (ق) {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ما كأني سمعت في حياتي صوتاً أجمل من صوته، فماذا فعل الجمهور؟ انفجر الناس يبكون، حتى تراد المسجد بالبكاء، ولعلكم تسمعونه في الشريط، حتى صوروا لنا يوم القيامة، وكان هو يؤدي القرآن تأدية بالغة مؤثرة، وتنسكب دموعه مع القرآن؛ لأنه عاش القرآن.
وفي المحاضرة تاب سبعة منهم: (محمد البيتي) غفر الله ذنبه، وحمد سعيه، أعلن أنه كسر العود، وعاد وترك الربابة والموسيقى، وأصبح من حَمَامات المسجد، وأنه لا يريد أن ينشأ ابنه على الغناء ولا على الوتر، ولا على الموسيقى، وقال: تفكرت في الغناء فإذا هو شهرة، ثم ماذا؟ {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].
و (مشاري) شرى نفسه من الله، كان مغنياً ثم عاد إلى الواحد الأحد، وهو مشهور، وله أكثر من خمسين أغنية، قد نفضت العالم العربي، وعاد وتركها وطلب من القائمين على الإعلام أن يمسحوها وأن يدمروها؛ لأنه أسس بنيانه على تقوى من الله {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109] عاد إلى الله، اسمه مشاري اشترى نفسه من الله {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111].
ومن العائدين -أيضاً- عودة العودة عاد إلى الله، وليس بغريب {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] كان له جمهور، ولكنه طلب أن تمحى أشرطته المرئية والمسموعة، وقال: تبت إلى الله، وحياتي لا يمكن أن تكون حياة غناء، حياتي أغلى وأرفع, وسوف أكون من اليوم عبداً للواحد الأحد.
و (بالخياط) تاب، وغيرهم كثير ولعلكم تسمعون بأسمائهم، والعجيب أننا سمعنا أن (مايكل جاكسون) قد تاب أيضاً وسواء تاب أو لم يتب المهم أن قوافل وأفواجاً أعلنوا توبتهم, وسوف تسمعون الإعلانات قريباً في الصحف عن الذين تركوا الغناء وأقبلوا إلى المساجد واهتدوا بهدى الله.
لأن الغناء يحطم الإرادات، ويمحق العزائم، ويطفئ نور الإيمان، ويطارد القرآن، ويحارب الفضيلة، وينشر الرذيلة، ويبني للفحشاء صروحاً، ونقل في نفس الشريط الذي لعلكم سوف تسمعونه فتوى لما يقارب عشرة من أهل العلم، من المتقدمين والمتأخرين كـ ابن تيمية وابن القيم وابن باز والألباني، وهي مقروءة وسوف تسمعون فقرة عن بعض الأغاني التي أخذتها من بعض القصاصات والصحف، والتي بعضها كفر، وبعضها فسق, وبعضها معصية.
فبعضها يعارض القضاء والقدر، وبعضها يستهزئ بالإسلام، وبعضها يقسم بغير الله، وبعضها يدعو إلى الفاحشة ونبذ الرذيلة، وإدخال الرذيلة -والعياذ بالله- على كل حال هذا من الأخبار وهم أبناؤكم، وأقاربكم، وإخوانكم، دفعنا إلى إخراج ذاك الشريط النصح ثم البيان ثم الرحمة بهم، وقاد عادوا إلى الله.
شباب الحق للإسلام عودوا فأنتم فجره وبكم يسود
وأنتم سر نهضته قديماً وأنتم فجره الباهي الجديد
الخطوط السعودية تشهد صحوة، جلسنا معهم في كل مطار، فإذا هم يهتدون، وإذا الوجوه التي تراها قبل أسبوع تغيرت وأصبح النور يتلألأ فيها: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
ودخلنا الجيش فرأينا على مستوى القيادات والضباط والجنود عودة صادقة، وأصبحوا يسألون عن مسائل وجزئيات في سنة محمد عليه الصلاة والسلام، والأمن العام، والدوريات، والمرور، والتجار، والفلاحين فلله الحمد أولاً وأخيراً, اللهم لا تخذل محمداً في أمته.
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
تجلس مع رجل مصري فتسأله فيخبرك أن عندهم صحوة وعودة ورجوع، واليمني يخبرك ماذا يفعل الدعاة؟ وماذا يفعل الشباب؟ وكيف ينتشر الإسلام، وهكذا الإماراتي والكويتي والسوداني والعراقي وكل شعب يعلن أن المستقبل لهذا الدين, فلله الحمد والشكر.(214/6)
انهيار الشيوعية وانتصار الإسلام
الخبر الثالث: انهيار الشيوعية في العالم وانتصار الإسلام، اقرءوا الصحف، أول ما يفاجئك في الصباح أن ولاية انقسمت من روسيا وأعلنت التمرد، وخرجت بمظاهرات عارمة تحطم دبابات الملاعين الملاحدة، أليس في ذلك انتصار للإسلام، ومن هذه الدول: رومانيا وتشيكوسلوفاكيا وأذربيجان وأوزباكستان وبخارى، أراضينا تعود إلينا، تعلن الإسلام، بخارى قطعة منا، عشنا معها وعاشت معنا، كتبنا بدمائنا في بخارى، وفتحناها بلا إله إلا الله، وخطبنا على منابرها، ثم تركنا فيها شهداءنا ودماءنا، ودموعنا وأشلاءنا ثم عدنا.
البخاري صاحب الصحيح من هناك، وقبره هناك، فلماذا تصبح بخارى شيوعية لا بد أن تعود إلى الإسلام، فها هي الآن تعود إلى الإسلام K موسكو وهي العاصمة افتتح فيها مركز إسلامي والمؤذنون يؤذنون كل يوم خمس مرات في وسطها، كلما حان الوقت سمعت المكرفون كما قال الثقة: يدوي وسط العاصمة الملحدة، عاصمة الأنذال الأرذال الملاحدة، يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
بلادي كل أرض ضج فيها دعاء الحق يدعوها حنينا
وأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
أيضاً (سمرقند) تعود إلى الله، ومنها السمرقندي، و (طشقند) منها الطاشقندي، و (ترمذ) التي منها الترمذي، وهي أرض سيبويه تعود إلى الإسلام، وأرض الكسائي وأرض النسائي، وأرض المؤرخين ابن قتيبة، وأرض الأئمة وأرض الزعماء تعود إلى الواحد الأحد، وليس بعجيب فهي بشرى.
وأما الشيوعية فقد كتبت عليها اللعنة كل يوم تنسحق دولة ويتحطم كيان.
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب
هنا تضعضع العالم الغربي, واهتز وشعر بالخطر فعلاً، وبدأت التحليلات الغربية تختلف، فطائفة من الغربيين أبدوا الارتياح الكامل لهذه الخطوات الديمقراطية وتفاءلوا بمستقبل زاهٍ للإنسانية، كما نسمع الآن ويردد كثيراً، وأن الإنسانية والعالم الإنساني مقبل على مرحلة انفراج، وأن النظم الشمولية ستنتهي، وأن الديكتاتوريات ستسقط، وأن وأن وغير ذلك.
وقالوا: إن هذا هو نتيجة ثورة الإنسانية، وتفاعل الحرية في قلوب العالم أجمع، هذه كانت تحليلات، وتحليلات أخرى تقول: لا.
الاتحاد السوفييتي دائماً يلدغ، الشيوعية لم يتنازل عنها، وإنما هذه حركة التفاف، وهي عملية مخادعة، واختلفت التحليلات، والذي يتتبع العملية يقول: لا يمكن أن تكون هذه إلا عملية مقصودة، كيف السقوط بهذه الدقة، ثم لماذا يبرز في كل دولة يسقط فيها الشيوعيون، يبرز في محله الشيوعيون الناقمون، (الشيوعيون الإصلاحيون) كما يسمون؟!
فكأن تروتسكي الذي قتله استالين عام (1940م) كأنه أعيد من جديد، أو غيره الدولية الثانية والدولية الثالثة والدولية الرابعة مجموعات الأحزاب الشيوعية خارج الاتحاد السوفييتي، يرون -أيضاً- الارتياح الذي تُقابل به الأحزاب الشيوعية في بلادها هذا الحدث فيقول: لا بد أن هذا أمرٌ مدبر بليل، ووراءه ما وراءه من خطر على أوروبا.
على كل حال وصلت بعض التحليلات إلى القول: إن جرباتشوف دسيسة أمريكية، أي رُبي على عين أمريكا، ووضع ليهدم الشيوعية، وليأتي في مؤتمر مالطا ويقول لـ بوش: نحن لن نتقاسم العالم معكم، والبعض الآخر يقول: بالعكس, إن جرباتشوف هو الذي سيحتوي العالم ويريد أن يحتوي العالم عن طريق هذا الخداع.
هذه تحليلات مختلفة، لكن أقول: نحن نقتصر على الأمور الظاهرة، ثم لنا الحق جميعاً أن نستنتج منها ما يمكن أن نستنتجه.(214/7)
لقاء مع فضيلة الشيخ: ابن باز
لقاءات مع أهل العلم: السلام على سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز: ربما قال بعضكم: الخبر ليس بجديد؛ لأننا كلنا نعرف الشيخ عبد العزيز بن باز، وماذا سوف تخبرنا بالعَلَم؟ والعَلَم لا يُعَرَّف.
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قال تعرفن الفتى قلن نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر
الشيخ عبد العزيز مشهور، لكن في سيرته جزئيات لا يعرفها الناس.
- ترجمة ذاتية للشيخ عبد العزيز بن باز:
المقابل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أيها الإخوة! نحن الآن في حضرة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، في لقاء نستطيع أن نسميه: لقاء السيرة الذاتية للشيخ عبد العزيز بن باز مع عرض بعض الأسئلة حول قضية العلم والعلماء والدعوة والدعاء.
وفي البداية: نرحب بسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ونشكر له هذا الوقت الذي اقتطعه من وقته الثمين، فمرحباً بك شيخنا عبد العزيز.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم.
المقابل: نحن -شيخنا الفاضل- سنبدأ هذه الأسئلة بما يشبه الترجمة عن حياة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فنرجو من الشيخ أن يقدم نفسه للأخ المستمع.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أمَّا بَعْد:
فقد كتبت في هذا شيئاً ليعرف القراء حقيقة ترجمتي مُوَصَّلَةً, وهي موجودة عند كثير من الإخوان، وهي أيضاً موجودة في مجلدي الأول من الفتاوى والمقالات التي تم جمعها وطبعها أخيراً، وقد صدر الجزء الأول منها والحمد لله، ومن ذلك أولاً: أني ولدت في الثاني عشر من ذي الحجة عام 1330هـ، ونشأت والحمد لله يتيماً في حضانة والدتي رحمة الله عليها، وكان والدي قد توفي في ذي القعدة من عام 33هـ، وأنا في آواخر السنة الثالثة من عمري، ودرست القرآن وحفظته قبل البلوغ، وكانت دراستي على الشيخ الكريم رحمة الله عليه عبد الله بن فريد، وكانت له مدرسة في شمال مسجد الشيخ عبد الله رحمه الله، المسمى أخيراً مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه في بلد الرياض.
ثم شغلت بطلب العلم على المشايخ في الرياض، وأول من قرأت عليه شيخنا العلامة قاضي الرياض الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليهم جميعاً، وكان ذلك في حدود السنة الرابعة والأربعين والخامسة والأربعين إلى أن تعينت قاضياً في الخرج في عام 1357هـ.
والشيخ وضع له القبول في الأرض، والقبول ليس بيد أحد من الناس بل هو بيد الواحد الأحد، فإنه إذا أحب عبداً جعل الناس يحبونه، وإذا أبغض عبداً جعل القلوب تبغضه، فالحب هذا لا يصطنع، ولا يأتي بالحديد والسكاكين ولا بالهراوات، بل الحب موهبة وعطية من الله عز وجل.
وفي الصحيح يقول البخاري: باب المقة من الله، أي: الحب من الله، {إن الله إذا أحب عبداً قال لجبريل: إني أحب فلاناً فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض, وإذا أبغض الله عبداً قال لجبريل: إني أبغض فلاناً فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغض في الأرض} وفي بعض الروايات: {حتى يشربون للمحبوب مع الماء البارد حبه، ويشربون للمبغوض مع الماء البارد بغضه}.
ولذلك تجد بعض الناس بغضتهم القلوب بأعمالهم في الخفاء، وبعض الناس أحبتهم القلوب ولو أنهم لم يقدموا للناس شيئاً، ولكن بأعمالهم في الخفاء.
الشيخ عبد العزيز جمع الله له أموراً منها: التقوى، رجل أول ما فيه أنه طلب العلم لوجه الله، هذا ما نحسبه والله حسيبه، ثم فقد البصر، ولكن لم يفقد البصيرة، عمي وعمره تسع عشرة سنة.
ثم يقول: وقرأت على الشيخ صالح ما جرت العادة أن يقرأه الطالب في ذاك الزمان من كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه: كـ الثلاثة الأصول، وكتاب التوحيد وكشف الشبهات، وقرأت عليه أيضاً في عمدة الحديث للشيخ عبد الغني المقدسي، ولا أذكر الآن هل قرأت عليه العقيدة الواسطية أم لا.
ثم قرأت على فضيلة شيخنا العلامة الكبير الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه، ولازمته كثيراً نحواً من عشر سنين أو أكثر، وقرأت عليه جميع العلوم الدينية التي يقرأها الطلبة في زماني في ذلك الوقت في الفقه والحديث والنحو, وسمعت عليه كتباً كثيرة من الكتب الستة ومن غيرها رحمة الله عليه، وكانت مجالسه في المسجد وفي بيته عامرة بالعلم -رحمه الله- وكان يجلس بعد صلاة الفجر في المسجد إلى طلوع الشمس يقرأ عليه الإخوان في بلوغ المرام، وفي النحو، وفي زاد المستقنع مختصر المقنع وفي كتاب التوحيد بعض الأحيان، ثم يذهب رحمة الله عليه ويجلس في بيته إلى قرب الضحى، فيقرأ عليه في المختصرات والمطولات، إلى أن يشتد الضحى، ثم يجلس بعد الظهر فُيقرأ عليه في المختصرات والمطولات وأنا من جملة من يحضر ويقرأ ويشارك في استماع الدروس، وهكذا من بعد العصر إلى قرب الغروب، وكان يجلس بعد المغرب ويقرأ عليه الطلبة في الرحبية في علم الفرائض، وكنت ممن درس عليه الرحبية مرات رحمه الله، وأخذت عنه علم المواريث أنا وجملة من المشايخ الذين تولوا القضاء وغيرهم رحمة الله عليهم، وبارك الله في الأحياء منهم.
وكانت مجالسه عامرة بالعلم، والتوجيه إلى الخير، والنصح لله ولعباده، والإجابة عن أسئلة الطلبة، مع العناية بالدليل والترجيح، فجزاه الله عنا وعن العلم وأهله وعن جميع المسلمين أفضل الجزاء، وبارك في ذريته وجعلهم صالحين موفقين.
وقرأت عليه أيضاً في أصول الفقه، وفي مصطلح الحديث، وقرأت عليه جملة من كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من كتاب التوحيد وثلاثة الأصول والعقيدة الواسطية وكشف الشبهات وأصول الإيمان وفضل الإسلام، رحمه الله، وسمعت عليه كثيراً، ومن مؤلفات الشيخ أيضاً رحمه الله مثل مختصر السيرة النبوية، وسمعت عليه أيضاً الكتب الستة بقراءات كثير من الطلبة، وسمعت عليه جملة من مدارج السالكين للعلامة ابن القيم رحمه الله.
العجيب أنهم يقولون: إن الشيخ لا يعرف يكتب اسمه، مع هذا العلم الهائل من القرآن وكتب الحديث وكتب العلم التي في رأسه، كلها مناولة، {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19].
بعض الناس عيونه كالكشافات ولكن قلبه مظلم لا يبصر شيئاً، له عيون يرى ويبصر لكن يبصر الفاحشة والمعصية والجريمة، وأما النور فلا يبصره، وبعض الناس لا يملك بصراً ولكن يملك بصيرة.
فالشيخ عبد العزيز يملك بصيرة وقلباً {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
ابن أم مكتوم أعمى، والله يسميه أعمى في القرآن، يقول: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:1 - 2] فيقول سيد قطب: لماذا يعبس في وجهه؟ لعل هذا الأعمى أن يكون منارة من منارات الأرض تستقبل نور السماء -الوحي- وبالفعل كان ابن أم مكتوم الفقير المسكين أعمى، ولكن استقبل نور السماء.
يأتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فيقول: {يا رسول الله! أنا نائي الدار (بعيد الدار) وليس قائدٌ يلائمني، فهل تجد لي رخصة في الصلاة في البيت؟ فرخص له، فلما ولى دعاه -والحديث صحيح- قال: أتسمع (حي على الصلاة) (حي على الفلاح) قال: نعم.
قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة} فكان يأتي الأعمى إلى المسجد في البرد أو في السيل أو في الحر أو في الظلام بلا قائد -يتلمس في الظلمات ليجعل الله له نوراً يوم ينقطع النور من المجرمين- حتى يصل إلى المسجد.
فقل لي بالله: أين الشباب الذين فقدوا المساجد مع أن بيته بجوار المسجد ولا يعرف طريق المسجد، ولا يهتدي إليه؟! منحه الله قوة، وشباباً، ومالاً، وصحة، وسيارة، وكل ما تمنى، ثم يعرض عن منهج الله.
من خان حي على الفلاح خان حي على الكفاح
فهذا ابن أم مكتوم الأعمى لما سمع الجهاد.
قال: [[لبسوني السلاح، قالوا: أعذرك الله أنت أعمى، قال: والله لا أقعد, والله يقول: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41]]] فنفر وركز الراية في القادسية وهو أعمى فقتل مكانه فأصبح شهيداً، أليس هذا نور؟ أليس هو منارة تتلقى نور السماء.
الشيخ عبد العزيز عمي مبكراً، لكن بدأ يلتمس النور من الواحد الأحد، ابن عباس عمي في السبعين من عمره، عالم الأمة هذا العجيب الفطحل الذي يمور علمه مثل البحر بل أكثر, فالبحر الذي إذا طم وعم أقل من علم ابن عباس , كانت العلوم تتفجر منه، يجلس بعد الفجر وهو أعمى في آخر عمره، فيسأله أهل القرآن إلى ارتفاع الشمس، ثم يأتي أهل الحديث فيسألونه حتى يقرب الضحى، ثم يأتي أهل التفسير فيسألون إلى منتصف الضحى، ثم يأتي أهل اللغة، ثم يأتي أهل الشعر، يتفجر كالبحر، عمي فقال بيتين جميلين، يقول:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي عوجٍ وفي فمي صارم كالسيف مشهور
القلب حي، والعقل حي، ومعه نور المسجد ونور القرآن، وإذا ذهبت العيون فعلى العيون السلام، يقول الله عز وجل في صحيح البخاري وهو حديث قدسي: {إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة} والحبيبتان: العينان، لكن بعض الناس عنده حبيبتان ولكن ليس عنده نور: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
الشيخ عبد العزيز بن باز متواضع، تأخذه الطفلة فيقف معها، وهذه هي أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم، يوقفه الرجل في الشمس على متاعب الشيخ وعمره الآن ثمانون عاماً, ويقف وهو في باب السيارة رجل في السيارة ورجل في الأرض ويمسكه الرجل ويقص عليه قصته، والشيخ يصغي، وهو مرهق جداًَ من الأعمال والأشغال، أمور الأمة الإسلامية تدار عليه، فيصغي حتى يكون الرجل هو الذي يترك الشيخ فيركب الشيخ.
بعض الشباب يقصون على الشيخ قصصاً فما يرد الشيخ إلا بالدموع، يتأثر بأحوال العالم، يخبرونه عن أخبار أفغانستان والفلبين فيبكي.
وقته معمور بذكر الله عز وجل، في الصباح يتنفل ثم يلقي دروساً في الغالب، ثم يذهب إلى عمله فيعود في الثانية ظهراً، وهو مضياف، هو حاتمي العصر، ولن تجد بيته يخلو من الضيوف، وهذه شهادة أقولها للتاريخ، فهو من أكرم الناس، فإفطاره وغداؤه وعشاؤه مضيف وعلمه وماله وجاهه مبذول، وشفاعته للمسلمين فهو كما قال الأول:
هو البحر من أي النواحي أتيته فدرته المعروف والجود ساحله
ومما يميز الشيخ عبد العزيز بن باز: الصبر، فإنه مثل الجمل وقد رأيته كثيراً في المحاضرة، لا يتحرك في الدرس أبداً، يبقى كأنه صخرة في مكانه، فإذا رد بشته أو تنحنح عرف الطلاب أنه قد انتهى الدرس.
ويجلس متأدباً لا يقاطع المتكلم مهما تكلم، فإذا انتهى المتكلم ولو من ساعتين، قام فعقب بأدب، ولذلك أحبته الطوائف والجماعات، والناس والمشارق، لا يجرح أبداً ولا يعرف الجرح، لسانه كالعسل، وهذه مواهب يجمعها الله لمن يشاء، وهذا تسديد من الله عز وجل، ومن ميزات الشيخ عبد العزيز بن باز: أنه محدث يعرف الأثر.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولوا العرفان
دائماً قال الله وقال رسوله، واستمع إليه في الفتوى، استمع إليه في (نور على الدرب) إذا أتى يفتي يقول: رواه أبو داود بسند جيد رواه مسلم رواه البخاري الحديث في الترمذي رواه الحاكم حفظ ونور، وهو يقيد المسائل بالدليل من محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا عارض كلام رجل الدليل ترك كلام أي رجل مهما كان لكلام محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك فتواه كما قال الأول:
إذا قالت حذامِ فصدقوها فإن القول ما قالت حذامِ
الآن العجوز تقول لابنها: لو تتعلم حتى تصبح مثل ابن باز.
رجال في أفريقيا أخبرنا بعض الشباب عنهم، بل حتى في أمريكا، إذا قلت لبعض الشباب: أفتى فيها ابن باز بكذا وكذا سكت، انتهى! بل بعض الجمعيات الإسلامية والمؤتمرات تُعقد فإذا عرضت فتوى الشيخ صوتوا عليها بالأغلبية، وهذا القبول من الواحد الأحد.
ومما يميز الشيخ عبد العزيز بن باز: سلامة الصدر، يقول من يقرب منه ومن يعرفه من طلابه والمشايخ والعلماء: ما رأينا أسلم صدراً للمسلمين منه، لا يحمل حقداً ولا حسداً ولا غشاً، ولا غلاً لأحد، وهذه هي أخلاق العلماء، ينام وليس في قلبه شيء، يخبره بعض الناس ببعض ما يقال عنه، فيقول: غفر الله لهم، اللهم اعف عنهم، سامحهم الله، وهل هذه إلا الحياة.
يقول أحد الصحابة: كنا جلوساً مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فخرج علينا رجل، فقال عليه الصلاة والسلام: {ذاك من أهل الجنة ثلاثة أيام، قال بعض الصحابة: فذهبت معه إلى بيته فلما نمت عنده ثلاث ليال، وإذا صلاته كصلاتنا, وصيامه كصيامنا, وذكره كذكرنا، فسألته: ما بالك؟ فلقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنك من أهل الجنة ثلاثاً، قال: لست بكثير صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكن والله ما بت ليلة من الليالي وفي قلبي غشٌ أو حقد أو غل أو حسد على مسلم, قال ذاك الصحابي: تلك التي ما استطعنا لها، أو ما نطيقها} فهذه من مميزات هذا العالم.
وأنا أذكر بعض أبيات قيلت فيه، منها ما قاله عالم المغرب تقي الدين الهلالي الذي توفي قبل سنة رحمه الله وهو محدث كبير، يقول:
خليلي عوجا بي لنغتنم الأجرا على آل باز إنهم بالثناء وأحرى
وزهدك في الدنيا لو أن ابن أدهم رآه رأى فيه المشقة والعسرى
وهذا صحيح فإن الشيخ لا يأتي عليه آخر الشهر إلا وهو مديون، هذا معلوم من سيرته واسألوا الكتب التي تكلمت عنه، مثل: (علماء ومفكرين عرفتهم) وقال المجذوب في قصيدة للشيخ عبد العزيز بن باز، يقول:
روى عنك أهل الفضل كل فضيلة فقلنا حديث الحب ضرب من الوهم
فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سمعنا به في العلم والأدب الجم
فلم أرَ بازاً قط من قبل شيخنا يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي
اسم الشيخ ابن باز، والباز هو الصقر، يقول: الباز إذا صاد أدمى لكن أنت تصيد القلوب ولا تدميها.
وقلت في قصيدة بعض الأبيات اسمها البازية، لأنها مذكورة ولكن أذكر بعضها:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي
يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل السافي
وفي آخرها:
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شُغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافي
وفيها:
سر يا أبي واترك الدنيا لعاشقها في ذمة الله فهو الحافظ الكافي
من ميزة الشيخ عبد العزيز بن باز: كثرة الذكر، يكلمك بالهاتف -وجرب أنت معه- وهو يسبح، يستمع المكالمة وهو يذكر الواحد الأحد.
ودعا داعٍ إذ نحن بـ الخيف من منى فهيَّج أشواق الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائراً كان في صدري
الشيخ له وردان في اليوم، بعد صلاة الفجر -أقول لكم من باب الاقتداء لعل الله أن ينفع بذلك- فبعد الفجر بعد أن ينتهي من التسبيحات، يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة، لا يتركها مهما كان، وبعد العصر كذلك, ولا يتكلم حتى ينهيها، والشيخ يقوم قبل الفجر ليستأنف جلسته التي تعودها مع السحر مع الواحد الأحد يوم يتنزل في الثلث الأخير إلى السماء الدنيا، فيقول: {هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟}.
ولذلك أنا رأيت ولاحظت إذا خرج الشيخ لصلاة الفجر يصلي بالناس عليه هالة من النور، وقد قالوا للحسن البصري: ما بال قوَّام الليل عليهم نور؟ قال: خلوا بالله فأكسبهم نوراً من نوره.
والشيخ عبد العزيز بن باز حِفظه عجيب في القرآن، يقول بعض الناس: ما أظنه يخطئ خطأ، يحفظ القرآن مثل الفاتحة، يبدأ بسورة الفاتحة، وبعد أيام وإذا هو في سورة الناس يسرده سرداً، ثم إذا جاء يستشهد ينتزع الآية من موضعها، ويستنبط لك استنباطاً عجيباً سهلاً ما سمع الناس بمثله.
والشيخ قريب من الطلاب ينشر علمه في كل مكان، ينشره في الطريق والشارع، وفي الهاتف والمكتب، وهذا هدي علماء السلف؛ لأن العالم في الإسلام لا يغلق على نفسه البيت ويقطر على المسلمين بالقطارة، ولا يجلس أحدهم تحت المكيف وينتظر أن يطرق عليه الناس، لا.
بل علماء أهل السنة في المساجد والشوارع والسكك والمكاتب يسألهم الناس، هذه بعض ذكرى لما التقينا بسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.(214/8)
لقاء حار بفضيلة المحدث الكبير محمد ناصر الدين الألباني
الخبر الخامس: وصل إلى مكة وجدة قبل ثلاثة أسابيع أو أربعة العلامة الألباني وكانت من فرص الحياة أن أرى ذاك الرجل، كنت أتمنى من الله الواحد الأحد أن أراه، وهو رجلٌ عجيب أفنى عمره في العلم, وهو الآن يقارب التسعين من عمره، ما يقارب ستين سنة منها في خدمة الحديث النبوي، حتى كأنه ما مر بحديث إلا خرجه أو تكلم فيه.
أتدرون ما هي بداية حياته؟ من أراد منكم أن يعرف ذلك فليعد إلى علماء ومفكرون عرفتهم والشيخ ليس له شيخ، ولم يتعلم في مدرسة، ولم يدخلها بل تعلم من أبيه بعض الفقه الحنفي، ثم جلس يصلح الساعات في دمشق في الشارع العام، وإذا كان عندك ساعة معطلة فإنك تعطيها الألباني ليصلحها، وكان دقيقاً في علم الساعات، يركب الساعات الخراشة البيتية والساعات الصغيرة، ولا زال إلى الآن يجيد تصليحها إذا خربت.
فأكسبته هذه الدقة والصبر, حتى مر به بعض الناس بكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، فرأى تخريج العراقي له في الحاشية، فأعجبه التخريج، فأخذ هذا التخريج فكتبه في أوراق أخرى، ثم قال في نفسه -حكمة بالغة من الله-: لماذا لا أخرج مثل هذا التخريج، فأخذ يخرج من الكتب، ثم فتح الله عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فجمع الصحيحين ثم السنن، ثم المسانيد، ثم المعاجم، ثم كتب الرجال، ثم كتب الأطراف، ثم دخل مكتبة الظاهرية، ففتح الله عليه فتحاً عظيماً، والرجل من أجلد الناس وأصبرهم يجلس في المكتبة عشر ساعات، يقولون: لا يرفع رأسه، ويقولون: عنده سلم في مكتبة الظاهرية يصعد في السلم ليبحث عن حديث، فيبقى على رأس السلم ما يقارب الساعتين أو الثلاث وهو واقف، يبحث عن المخطوطة ويردها، ويناقش الحديث.
أما بالنسبة لمصدر دخله وكسبه أثناء ما كان يشتغل بالحديث، فإنه كان عنده (تاكسي) يشتغل فيه يومين لأهله، ثم يعود بقية الأيام يبحث في الحديث، كان فيما قيل: يوضع له الإفطار في الصباح فلا يدري أن الإفطار وضع له حتى يؤذن للظهر فيتنبه، فإذا الإفطار قد برد وقد رزقه الله جلداً وحباً في قراءة كتب الحديث, والله إذا أراد بعبد خيراً حببه إلى هذا المسلك، فأخرج كتباً لم يسمع الناس بمثلها، وفيها تخريجات عجيبة.
رأيته وهو طويل البنية، إذا رأيته تعرف أن هذا بخاري، ليس في رأسه ولا في لحيته شعرة سوداء، بل قلنسوته بيضاء، ووجه أبيض مشوبٌ بحمرة، ولحيته بيضاء، وثوبه أبيض {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
والشيخ مصاب -شافاه الله- وذات مرة قال للطلاب في جدة في اجتماع ما: ادعوا لي بالشفاء علِّي أن أكمل كتب الحديث؛ فانهار المسجد بالبكاء ودعوا له بالشفاء، أسأل الله أن يشافيه، فإنه مريض في أرجله، ومع ذلك يقود السيارة هو بنفسه، وقد أتى بالبر ولم يأت بالطائرة من الأردن، وبعض الشباب يمزح يقول: إن الشيخ يتجاوز السرعة وقد أساء إلى المرور فإنه أسرع مائة وستين الله أعلم، لكن على كل حال هو يقود السيارة حتى في جدة ومكة ومعه الشباب، ومرضه في أقدامه كان يُدَلَّك وهو جالس.
ظفرنا به في مكة:
أيا ليلة من أنسها وعطائها على أنها في ساعة الوجد حلت
ليلة مع الألباني، كانت ما يقارب ثلاث ساعات، وكانت الأسئلة كما يلي:
أولاً: رحبت به بقصيدة وسوف تنشر -إن شاء الله- لكن ليست بطويلة ما أمكنني الوقت، قلت في بعض الأبيات:
هاكم سلام الله يا إخواني قولوا رعاك الله يا ألباني
يا حافظاً سنن الرسول بعصرنا كـ الترمذي أو أحمد الشيباني
يا دارقطني الشريعة إنني أشكو إليك وحبكم أشجاني
إلى آخر ما قيل، ثم سئل الشيخ في تلك الجلسة ما يقارب عشرين سؤالاً، وهي مسجلة في أشرطة وقد سألته خمسة أسئلة للفائدة.
السؤال الأول: أيها المحدث الكبير! سمعنا أنك أفتيت، وقد كتبت في آداب الزفاف بهذا، بأن الذهب المحلق لا تلبسه النساء؟
-هذا فتوى الشيخ وهي مشهورة، حيث إنه حرم الذهب المحلق للنساء، وقد رد عليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رداً عجيباً وهو قول مخالف للإجماع- فما رأيكم خاصة أنه كتب بعض الفضلاء كتاباً يرد على فضيلتكم وفي شريف علمكم أن الأدلة واردة في ذلك، وهو كتاب (المأنق في إباحة الذهب المحلق وغير المحلق للنساء) للأستاذ مصطفى العدوي جزاه الله خيراً.
فأجاب الشيخ بإجابة طويلة في الشريط ولم يرجع عن رأيه, والرأي الصحيح هو خلاف ما رأى الشيخ، لأن الله يريد أن يتفرد بالكمال، لأنه لو كان العالم لا يخطئ في مسألة لتصور الناس فيه بعض التصور، لكن مهما أتيت من عالم فلا بد أن يخطئ، قال مالك: كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب ذاك القبر، أي: محمد صلى الله عليه وسلم, بأبي هو وأمي، فالعالم له خطأ، ولكنه إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد.
ثم سألت الشيخ عن رواية أبي الزبير في صحيح مسلم فأجاب إجابة يعرفها المتخصصون في الحديث، وذكر أن هناك اصطلاحات لـ مسلم يعرف الروايات التي يرويها أبو الزبير عن جابر؛ لأن أبا الزبير يعنعن وهو مدلس، ثم سألته عن رواية المبتدع، وعن بعض الأحاديث الضعيفة التي نسبت إلى مسلم، وعن بعض المسائل، ثم سأله بعض المحبين.
إنما الطريف في الجلسة تواضع الشيخ الجم، حتى تشعر أنك أمام رجل عادي بسيط، وهو عالم يتسابق الطلبة عند حذائه، إذا أراد أن يخرج حاولوا أن يركبوا حذاءه في رجله فيرفض؛ لأنه ليس بالسهل، رجل عالم، أفنى ستين سنة من عمره في كتابة الحديث، وتقديم الحديث للمسلمين، والعجيب الذي أعجبني فيه صبره، لا إله إلا الله ما أصبره! يجلس الجلسة الواحدة أربع ساعات يتحدث لا يمل، حتى تقول أنت: قف.
سألته عن الحديث الضعيف هل يستدل به في فضائل الأعمال أم لا؟ فبقي يجيب ويجيب ويجيب! حتى قلت له: يا فضيلة الشيخ! لا نريد أن تلقي محاضرات بل نريد أن تجيب على الأسئلة حتى نستفيد منك أكثر وأكثر، فيقف، لكنه في هذا الفن مثل البحر.
يقول الألباني: هنا نصل إلى نتيجة أن كون حديث ما ضعيفاً لسبب أن إسناده ضعيفٌ أو حسن أو صحيح عند البعض بسبب أنه تتبع طرقه، هذه قضية نسبية، ولذلك فلا ينبغي لطالب العلم أن يشكل عليه أمر اختلاف المحدثين القدامى فضلاً عن المشتغلين بالحديث اليوم، أن هذا يحسن وهذا يضعف؛ لأن هذه قضية لها أسباب توجب الاختلاف أكثر من الأسباب التي توجب اختلاف الفقهاء في الأحكام الشرعية؛ لأن الحكم الواحد قد يكون مرجعه إلى نص واحد من الكتاب أو السنة، ومع ذلك تختلف الآراء وتختلف الاجتهادات.
أما الاختلاف في تصحيح حديث أو تضعيفه فهو أشكل بكثير من ذاك الاختلاف الفقهي؛ لأن مرجعه إلى ما ذكرته آنفاً، إلى أن بعضهم وقف في نقده للحديث على الإسناد الواحد؛ فضعف الحديث، والآخر وقف لهذا الحديث على أسانيد أخرى فحكم بمجموعها على تحسين الحديث، وقد قلت لكم فيما أظن في الأمس القريب: إن علماء الحديث قد نصوا في المصطلح أن طالب العلم إذا رأى حديثاً بإسناد ضعيف فلا يصح له أن يقول: هذا حديث ضعيف، وإنما يعبر عن واقعه بأن يقول: إسناده ضعيف، وهذا من دقتهم في نقدهم، وفي اصطلاحهم؛ لأن ثمة فرقاً واضحاً جداً بين أن يقول القائل: هذا حديث ضعيف؛ لأنه يعطي حكمه حول الحديث، وبين أن يقول: إسناده ضعيف؛ لأنه يقتصر في حكمه على الإسناد.
هذا الحكم لا ينافي قول من قد يقول: حديث إسناده حسنٌ، أو إسناده صحيحٌ؛ لأنه لا يعني الإسناد الذي ضعفه الأول، وبالأولى والأحرى إذا قال: حديث حسنٌ أو حديث صحيح، فلا ينافي قول من قال: إسناده ضعيف؛ لأنه: يعني أنه حسن أو صحيح بمجموع طرقه.
إذا عرف هذا التفصيل، حين ذاك يجب على طالب العلم أن يتذكر الحقيقة التالية، وهي:
إنه ليس من نشأ في هذا العلم يجب أن يعتمد على بحثه؛ لأنه يكفي أنه ناشئ وسائر في هذا الدرب من أوله، فما ينبغي أن تتشوش أفكار الطلاب لمجرد أن ظهر إنسان له بحث ما في حديث ما، فيقول: بعض الباحثين ضعف هذا الحديث؛ لأن الأمر أقل ما يقال فيه: لماذا ضعفه؟
ولما أتت وجبة العشاء، قال لنا الشيخ: أستأذنكم، أنا لا أريد العشاء، أنا لا أتعشى، يقولون: تمر به أيام لا يأخذ إلا كأس ليمون، ومع ذلك هو من أجلد الناس، يبقى ينحت في الكتب من الصباح إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى المغرب، ومن المغرب إلى العشاء، ومن العشاء حتى ينام.
فقولوا لي يا طلبة العلم: ماذا نريد أن نحصل عليه من العلم إذا كان أحدنا إذا أتى الصيف قال: حرٌ، إذا أتى إن شاء الله البرد، فإذا أتى الشتاء, قال: إذا أتى الصيف، رحلة الشتاء والصيف، وإذا مسح الدكتور بعض المقررات قالوا: غفر الله لك، ورفع الله ميزانك يا شيخ! أحسنت فينا، فأصبحت المواد محذوفة من أولها إلى آخرها.
وبادره وخذ بالجد فيه فإن أعطاكه الله انتفعتا
وإن أوتيت فيه طويل باع وقال الناس إنك قد رأستا
فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخ علمت فهل عملتا
الشيخ الألباني كان يطيل في الإجابة علينا, قلنا: لا تطيل، قال: تطيلون في الأسئلة، وتقولون: لا أطيل في الإجابة، مثلي ومثلكم كما قال الأول:
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم فكأنني سبَّابة المتندم
هو يحفظ من الشعر العربي الجميل، سبابة المتندم يعضها وليس لها ذنب.
على كل حال ودعناه وذهب في حفظ الله، وسمعت من بعض الأحبة أنه سوف يذهب إلى الدمام ثم الطائف ثم أبها؛ لأنه سوف يبقى فترة هنا، فإذا جاء فسوف تسعدون بالجلوس معه ورؤيته أطال الله عمره على طاعته، حتى يخرج من هذه الكنوز والدرر للأئمة الإسلامية, وأنا مقصودي من هذه اللقاءات هو استطرادات في حال هؤلاء الأعلام لأنها تربية لنا ولكم ولشبابنا.(214/9)
لقاء وجلست طيبة مع الشيخ العلامة محمد الصالح بن عثيمين
الخبر السادس: وهذا الشيخ لا يخفى على أحد من المسلمين وهو علم ومنارة، أهل عنيزة وغير أهل عنيزة، وهذا الرجل يميزه أمور: زهده في الدنيا، وشيخه من أذكى الناس، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تتلمذ على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وبقي عليها فترة من الفترات حتى أخرج كنوزاً من العلوم.
الشيخ محمد الصالح بن عثيمين يميزه دقته وذكاؤه العجيب، استدلاله بالنصوص، وإخراجه الدرر والكنوز، ويميزه: أنه مربٍ، ليس واعظاً فحسب، بل يربي وعنده ما يقارب ثلاثمائة شاب من طلاب العلم وأنا رأيتهم في القصيم في عنيزة يربيهم، وعنده صبر مع الطلاب، وله درس في الصباح وبعد العصر وبعد المغرب في أغلب الأيام، فيجتمع الشباب عليه، ولذلك يرفض السفر فقد دعوناه إلى أبها، ودعاه أهل تبوك، وغيرها من المناطق لكنه يرفض أن يرتحل من أجل طلابه لأنه يربيهم، فهو مربٍ، وفقيه، ثم صابر محتسب.
وشروحه من أعجب ما يكون، ويميز الشيخ اعتصامه كذلك بالدليل، فهو علامة في معرفة استنباط أخذ الحكم من الدليل، وهو علامة في أصول الفقه، وفي النحو.
- ترجمة ذاتية للشيخ ابن عثيمين:
يقول ابن عثيمين: ولدت في رمضان عام (1347هـ) ونشأت في عنيزة، وتلقيت العلم على عدة علماء، وانتقلت إلى الرياض للدراسة في المعاهد العلمية أول ما أنشئت، ثم في كلية الشريعة، ثم عدت إلى عنيزة بعد مضي سنتين من الدراسة في الرياض، ثم أكملت الدراسة في الكلية منتسباً، وصرت مدرساً في معهد عنيزة، ثم انتقلت إلى الجامعة.
القابل: شيخ محمد! بالنسبة لطريقة الدراسة، أنت درست في السابق وترى الآن أساليب الدراسة في الحاضر، هل هناك من فرق؟ وهل ترى أن الأساليب القديمة أفضل من الحديثة؟
الشيخ: في السنوات الأخيرة أصبح الناس يجمعون بين الأساليب الحديثة والأساليب القديمة، وهي حضور الدروس في المساجد، فقد انتشر ولله الحمد في السنوات الأخيرة الدرس في المسجد انتشاراً كثيراً، وصار الناس يستفيدون منه استفادة كبيرة، ولا ريب أن دروس المساجد فيها خير كثير وبركة، ويجد الإنسان فيها لذة في تحصيل العلم والاستفادة منه، ويجد ثباتاً واستقراراً فيما تعلمه أكثر من المدارس النظامية.
المقابل: شيخ محمد! بالنسبة لدروسك التي تقدمها في المسجد، ماذا تدرس فيها من العلوم؟
الشيخ: أدرس فيها علوماً شتى: التفسير، والحديث، والفقه، والتوحيد، والعقيدة، والنحو، والمصطلح.
المقابل: الملاحظ بشكل عام، وإن كنت ذكرت أنت يا شيخ/ محمد! أنك تدرس التفسير، لكن يرى كثير من الشباب أن هناك تقصيراً في الاهتمام بالتفسير من كثير من العلماء، فما رأيكم في هذا القول؟
الظاهر بأن الأمر كذلك، وأن كثيراً من الشباب أصبحوا يهتمون بالسنة أكثر مما يهتمون في تفسير القرآن، وهذا لا شك أنه نقص؛ لأن الاهتمام بالقرآن أولى من الاهتمام بالسنة، فإن القرآن قال الله تعالى فيه أنه تبيان لكل شيء، وهو الحجة التي لا يمكن لأحد أن يجادل فيها، وأما السنة فتأتي في الدرجة الثانية وفي المرحلة الثانية بعد القرآن، ولا شك أن الاهتمام بها من الاهتمام بالقرآن أيضاً؛ لأن السنة تفصل القرآن، وتبينه، وتدل عليه, وتعبر عنه، لكن الشيء الذي فيه نقص هو الاعتناء الكامل، وصرف الهمة كلها إلى السنة دون الاعتناء بالقرآن وما يشتمل عليه من المعاني العظيمة.
فالذي أرى أن يبدأ الطالب أولاً بتفسير القرآن قبل كل شيء، ثم بالسنة، ثم بما كتبه أهل العلم من مسائل العقيدة وغيرها.
والشيخ خفيف الظل، أي: دعوب، لطيف المزاج، ولذلك يقرب منه الطلاب؛ لأن الطلاب لا يريدون الإنسان المكشر المنفر، الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: {يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا} والرسول صلى الله عليه وسلم سهل الخلق، وكان يمزح، وقرأت في صحيح الجامع للألباني حديثاً صح عند أحمد وغيره، قالت عائشة: ذهبت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فقال للصحابة: تقدموا تقدموا، قالت: فتقدموا، فقال لـ عائشة: سابقيني سبحان الله! تصوروا هذا الخلق العظيم من محمد صلى الله عليه وسلم! نحن لما نتحدث عن هؤلاء العلماء الأفاضل والمشايخ فإننا نعظمهم, لكن إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كان كالشمس إذا ظهرت غاب كل كوكب ونجم, وإذا جاء سيل الله بطل سيل معقل.
المصلحون أصابع جُمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
قال: تقدموا، فتقدموا، قال: سابقيني فسابقته رضي الله عنها فسبقته؛ لأنها خفيفة كانت شابة فتية، وهو صلى الله عليه وسلم قائد يتحمل ويتعب، ومفتٍ وخطيب، وواعظ وموجه، وإداري وسياسي، وزعيم واقتصادي، وعلَّامة ويتلقى الوحي، ويربي وينهى -سبحان الله- فسبقته، فأخذها صلى الله عليه وسلم أي: حفظها لـ عائشة.
قالت: وبعد سنوات أتى الصحابة في غزوة، فقال لهم: تقدموا، فتقدموا، فقال: سابقيني، قالت: فكثر علي الشحم، وثقل بدني، فسبقني، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: {هذه بتلك} سبحان الله! بعض الناس يقول: هذا فضول، أي: هل وجد في حياته صلى الله عليه وسلم من الفراغ أن يسابق أهله؟ نقول: نعم.
لأنه مربٍ، حتى مع الأطفال فإنه يداعبهم.
تجد بعض الناس إذا قيل له: لماذا لا تمازح أطفالك؟ قال: أنا مشغول، اشتغلنا عنهم بهذه الدنيا، يا أيها الذي أنهى عمره، وفتن نفسه! هذا معلم الخير أكثر شغلاً منك، ومعلم الخير وقته مزحوم بقضايا وأحداث الأمة، بل جاء في الصحيحين {أنه صلى الله عليه وسلم أخذ أمامة وصلى بها العصر، فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها}.
يا أيها الرجل! محمدٌ صلى الله عليه وسلم صعد على ظهره الحسن في صلاة العصر أو الظهر، وهو يصلي بالناس -والحديث صحيح- فمكث في السجود حتى نزل هذا الطفل، ثم قال: {إن ابني ارتحلني وخشيت أن أقوم فأوذيه} سبحان الله! شريعة وإسلام، لكن عيبنا نحن أنا لا نطالع السيرة، ولا نطالع الأحاديث، وقليل من الناس من يطالع كيف كان تعامله وتربيته لأصحابه فلذلك علينا أن نهتم بذلك.
والشاهد: يوم تعرضنا للشيخ العلامة محمد الصالح بن عثيمين -أثابه الله- وتواضعه مع الطلاب، وأنه أخذ ذلك من رسول الله عليه الصلاة والسلام واستفاده منه.
والشيخ يميزه بعد نظره في أمور الدعوة فهو رجل يعطيك درراً إذا تكلم، ورجل ذو خبرة طويلة فهو في الرابعة والستين من عمره أو ما يقاربها، يخبرك كيف يكون فن الدعوة؛ لأن بعض الشباب الآن يريد الدعوة، لكن يتخذ من الأساليب ما يؤدي إلى نتائج عكسية للدعوة, فإذا أراد أن ينكر أغلظ في الإنكار، وإن أراد أن ينهى أغلظ في النهي، فلا يقبل الناس منه شيئاً {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
ولذلك تجد بعض الشباب يأتي متحمساً، يقول للعالم: لماذا لا تفعل كذا وكذا؟ لماذا لا تقول: كذا وكذا؟ وكأنه أعلم من العالم، لا.
العالم يعرف المصالح وهو ذكي، وأنت يا أيها الطالب! إذا عرفت جزئية أو حديثاً لا يعلمه العالم لكنك عرفت أنت مسألة وهو يعرف مليون مسألة، يعرف المصالح والمفاسد، بعيد النظر، ويعرف الواقع، ومجريات الأمور، فلذلك يجب أن تستفيد من هؤلاء القمم من العلماء، ولا بد أن تقلدهم في الخير وتقتدي بهم، وتنظر كيف يتعاملون في الواقع.
جرح المشاعر في الدعوة ليس بصحيح، فمن الأخطاء أن يأتي شاب يجرح مشاعري ثم يقول: أدعوك إلى سبيل الله!
أحد الناس مر بجزار وبيده ساطورة يقطع اللحم، فقال للجزار: صلّ يا حمار! -والحمار لا يصلي- فقال الجزار: انتظر يا عدو الله، وأتى عليه بالساطورة يريد أن يقسمه نصفين، فولى هارباً وعلم أنه أخطأ؛ فهذا اللفظ ليس له داعٍ.
بعض الناس إذا أنكر، أنكر بفضاضة فيقول: حسبنا الله عليك سلط الله عليك الله يدمرك، ونقول لهذا: لماذا يدمره الله؟ أنت ما بلغت حق البلاغ، الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] أنت ما بلَّغت حق البلاغ؛ لأن حق البلاغ أن تقدم الإسلام طرياً ناضجاً مقبولاً، أما أن تأتيني بالعصا، وتكسر ظهري، وتنفرني، وتجرح مشاعري، وكياني، ثم تقول: أدعوك! لا أقبل أبداًَ.
للإنسان كرامة: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] أنا أستطرد متعمداً؛ لأنه ينبغي علينا أن نعرف كيف نوصل الكلمة إلى أهلها، وكيف نكون حكماء مع الناس، عل الله أن يهدي بأيدينا؛ لأن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
ذكرت في محاضرة ماضية اسمها (ففروا إلى الله) في مسجد الرحمة في جدة، قصة رجل صالح عنده من العلم أشبه شيء بالعوام، لكن عنده حكمه {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] وكان في هذه المنطقة يوجد رجل مروج للمخدرات شاب مشهور بهذا، وترك المسجد والصلاة، وعق والديه، وقاطع أرحامه، وأخذ يطارده رجال الأمن، وهو يطاردهم، هم بالرشاش وهو بالرشاش، حتى يئس منه أبوه وأمه، وبكوا عليه ودعوا عليه، فأتى هذا الرجل الصالح وقال: لماذا لا أجرب أن أهديه إلى طريق الله المستقيم، ليكون في ميزان حسناتي يوم القيامة {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} لكن ماذا فعل؟
قال: أول ما أفعل أن أدعو الله أن يصلحه فإن الصلاح والهداية من عند الواحد الأحد {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] قال: فكنت أقوم في آخر الليل فأصلي ركعتين في السحر - ولعلنا نقتدي به- وأبكي، وأقول: يا رب! افتح على نفس ذاك الشاب وقلبه وأن تعيده إلى الدين، قال: واستمريت على هذا أياماً، قال: ثم أخذت هدية، والهدية طيبة، و (اللُّهى تفتح اللَّهى) يقول ابن تيمية: إذا حرم الله حراماً، جعل من الحلال ما يكافئه.
أنت لا بد أن يكون لك أسلوب جميل في الدعوة: بسمة، أو زيارة، أو عزومة، وإذا رأيت أن العاصي هذا يمكن أن تصلحه كبسة فاذبح له كبشاً واطبخه، وأكرمه حتى يهتدي؛ لأنك قد تدخل الجنة بكبسة، وإذا رأيت أنه يعجبه هدية ما فاهدها له لعله يهتدي، قال: فأخذت هدية ووصلت إليه، وقلت: أرى عليك آثار الخير فاستنار قلبه وهذا من الكلام الطيب, فإنه لا توجد آثار الخير على مروج مخدرات، لكن هذا الأسلوب من باب: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] ولو قال له: أرى عليك آثار المعصية والفجور، فإنه لن يهتدي أبداً.
قال: فأعطيته الهدية، فقبلها، فقلت في نفسي: الحمد لله، لن أكلمه بكلمة مادام قد قبل الهدية، قال: ثم عدت إلى بيتي، قلت: هذه ثاني خطوة، الخطوة الأولى: الدعاء في السحر، والخطوة الثانية: الهدية، ثم تركه أياماً ثم ذهب إليه، وقال: أريد أن تأتي؛ لأنك أكرمتني بقبول الهدية، وسبق بيني وبينك زيارة، أن تزورني لوجبة خفيفة، قال: نعم سوف أزورك، الناس على الفطرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].
الآن المجرم الفاسق في الشارع، الذي لا يصلي إذا قلت له: يا كافر! وهو كافر في الشرع لأنه ترك الصلاة، إذا قلت له: يا كافر! فإنه يخرج السكين ويؤذيك، والفاسق إذا قلت له: يا فاسق! قال: أنا فاسق؟! فيقاتلك؛ لأنهم لا يرضون الكفر ولا الفسوق، لكن الشيطان ركبهم، قال: فأتاني وتغدى فما كلمته بكلمة، وبعد أيام ذهبت إليه, وقلت: أريد أن أخرج أنا وأنت في نزهة، قال: فركب معي في السيارة، فذكرت الله معه وأسمعته بعض المحاضرات التي فيها بعض الكلمات الحارة التي تصل إلى القلب، قال: فما رد علي إلا بالدموع، وقال: أشهد الله وملائكته وحملة عرشه، ثم أشهدك أني تبت إلى الله، أسألك بالله أن تمر لي في كل صلاة وتنبهني قبل صلاة الفجر لأصلي.
وفي أيام تحول إلى الهداية، ودخل على والديه فإذا هم يبكون من الفرح.
طفح السرور علي حتى إنني من عِظْمِ ما قد سرني أبكاني
فهل يعجزنا هذا الأسلوب؟ وهل جرب أهل الأساليب الغليظة والشديدة هذه الأساليب الطيبة في الدعوة إلى الله.
هذا من ضمن ما استطردت به في سيرة الشيخ، وإنما مقصودي بالعلماء الثلاثة أن يكونوا قدوة لنا, لأن الصحوة عندنا عظيمة، لكنها هائجة مائجة، مثل الجمل الهائج تحتاج إلى خطام وزمام، فهناك شباب وهناك عودة، لكن الشباب عندهم حماس، ويريدون علماء، لأن العلماء مثل إشارات المرور, تنبه السائرين في الطريق عن الوقوع في الأخطاء, فهذه: هدئ السرعة, وتلك: أمامك منحنى، ممنوع التجاوز، ممنوع الوقوف فالعلماء مثل هذه الإشارات، فيقولون للشاب: اطلب العلم، لا تتكلم عن هذا الشيء، اترك هذه القضية، أو لا تتحدث اليوم، أو لا تتحدث في هذه القضية على المنبر، اكتبها كتابة، هذه المسألة لا تذكرها في المجلس، لا ترافق فلاناً، فهذه مسئولية طلبة العلم والعلماء والدعاة.
لأنا نعرف أن في الناس حماساً، لكن يحتاجون إلى علماء ويحتاجون إلى دعاة، ويحتاجون إلى حكماء.
من أخبار عطلة الربيع: تزوج أحد المحبين في مكة، في مهبط الوحي، وقد أقيم في أثنائه حفل جميل تم تسجيله، وهو شريط موجود في التسجيلات، اسمه: (زواج في مهبط الوحي) وأخوه معنا هنا، الشيخ حامد المصلح القحطاني الداعية المعروف، أخو الشيخ سعد تزوج زواجاً عجيباً، والزواج هذا كان فيه ذكر الواحد الأحد، وفقرات، واستبدلوا الغناء واللهو والعبث والشرود عن منهج الله، بأساس من كلام طيب دخلت فيه الآية العجيبة التي هزت الكيان، والحديث الطيب، والقصة العجيبة، والفكاهة، والطرفة، وبيت الشعر، والمواقف المحرجة من الشيخ سعيد ومني، وهي مضحكة في الحقيقة، لكن على كل حال، أقول: هي بديل عن فقرات اللهو والغناء.
شيخ سعيد معذرة هل لديك طرفة عاجلة، وإن كان لا بد فطرفة قديمة؟
هناك طرفة محفوظة مثل ما قال الشيخ، ليست من طرائفي أنا، وإنما طرفة قرأتها، ولها مناسبة زواج، وهو أنه في حفل زواج سمع به أشعب وأشعب يضرب به المثل في الطمع وفي حب الولائم، وكان صبيان الحي يتبعونه حتى تأذى منهم فأراد أن يصرفهم عنه فقال لهم: إن في بيت آل فلان عرساً، فإن أردتم الطعام فاذهبوا، فصدقوه ومضوا، فلما مضوا جلس يفكر، وقال: يمكن أنني صادق، فلحق بهم، ولم يكن هناك زواج فعلاً، لماذا لم تضحكوا؟ أظنها باردة.
أعطيكم طرفة حارة تجعلكم تضحكون منها غصباً، هذه النكتة على النساء والرجال، يقال: إن جحا مرضت امرأته، فجاء إلى التنور ليشعل النار، فحاول وانتهت علبة الكبريت قبل أن تشعل النار، وكلما حاول أن يشعلها لا تشتعل، أخيراً فكر، وذهب إلى غرفة امرأته وهي مريضة، وأخذ شيلتها من على رأسها، ولبس شيلتها وأوقد النار فاشتعلت من أول لحظة، فقال: حتى النار تخاف من زوجتي.
ويعلم الله أن الإنسان لا يذكر هذه إلا ليزداد الخير وينتشر، وإلا لا بأس أن يتحدث الإنسان، ولا بأس كما يقول ابن القيم في أحد كتبه في مقدمته.
هذا الكتاب من أحسن ما كتب، وما سمعت كتاباً كتب مثله، لكي يجعلك تقرأه، نحن نعرف أن بضاعتنا لا تصلح، وأنها مزجاة، لكن نقول كما قال الأول: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88].
فعل الله أن ينفع بها, ولا بأس أن يتحدث الإنسان عما يكتب أو يقول من أجل نشر العلم، والاستفادة منه ومن أجل أن يعم الخير، وأن يزيد الله من حسناته وأجوره لا رياء ولا سمعة، والله أعلم بالنيات {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
هذه من أخبار هذه الرحلة وعسى الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يتجاوز عنا وعنكم سيئها.(214/10)
نصائح وتوجيهات
بقي لدي بعض المسائل، وهي وصايا سهلة، ومكررة، لكن لا بد من التكرار، فأهل الإعلانات الآن يجعلون إعلاناً على الشارع عند إشارة المرور -مثلاً- وهو يعمل على الكمبيوتر، يؤشر وينطفئ ويعيد نفس العبارة، قالوا: إذا لم تجدها في اليوم مائة مرة، فلن تشتري هذا الغرض.
ولذلك أهل الصحف دائماً في عكاظ -مثلاً- تجد إعلاناً عن الأطياب، مع أنك أنت تعرف أنها قارورة كذا، وأنها فرنسية، وأنها موجودة في السوق، لكن لكثرة رؤيتك لها وكثرة تعاودها على ذهنك تجعلك تذهب تشتريها، فوجب على أهل الحق أن يستغلوا هذه الأساليب؛ وأهل الحق الآن ينقصهم الأساليب المتنوعة، فأهل الباطل غلبونا في الأساليب، فعندهم الشاشة، وعندهم أقمار صناعية، وصحف، وإعلام، وكلماتهم رنانة.
بينما أهل الخير إذا أعلنوا فإنهم يعلنون بإعلانات ميته، وإذا تكلموا أتوا في الغالب بأساليب ميتة، فوجب على الداعية أن يكرر العبارة، لا يقول: كررت، بعض الإخوة كتب لي رسائل هنا أنه نجد بعض الأحاديث والقصص في الأشرطة مكررة، أقول: لسنا مغنيين ولا فنانين حتى نأتي كل يوم بأغنية جديدة، بل نحن نتعامل مع الكتاب والسنة، فقصة موسى أعيدت في القرآن ما يقارب ثلاثاً وعشرين مرة، تأتيك قصة موسى في البقرة، ثم في الأعراف، ثم في يونس، ثم في طه، ثم في الشعراء، ثم في القصص، وهكذا كتابنا يتجدد لكن بأساليب، إذا أتيت بالقصة فاعرضها بأسلوب، ثم ردها بأسلوب آخر، ثم اقلبها في أسلوب ثالث حتى يتقبلها الناس، فالتكرار منقبة، وليس مثلبة.
قالوا تكرر قلت أحلى علماً من الأرواح أغلى
فإذا ذكرت محمداً قال الملا أهلا وسهلا
كرر العلم يا كريم المحيا وتدبره فالمكررة أحلى
فأنت لا تيأس من المكرر، أقول: من المكررات في الوصايا: أوصيكم بطلب العلم وتحصيله، سواء كنا كباراً وصغاراً، لا يوجد عندنا في الإسلام سن لطلب العلم، وسن للحفظ، وسن للفهم، لا.
هذا عند ديكارت وكانت، أما محمد عليه الصلاة والسلام، فالعلم حتى تدخل في القبر، من المهد إلى اللحد.
يقول البخاري: (وتعلم أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام كباراً) فأنت تحرص على العلم في الستين والسبعين والثمانين، والعلم مبذول الآن وله وسائل عجيبة، منها الحلقات في المسجد، ومنها الكتب، والشريط الإسلامي، والكتيبات، ومنها سؤال أهل العلم بالهاتف، وغيرها وغيرها كثير، فطلب العلم أوصيكم به، لن يضل طالب العلم؛ لأنه يكون على بصيرة، ويسلمه الله من الشهوات والشبهات، ويكون مسدداً في أقواله وأعماله، يزداد إيماناً كل يوم، وطالب العلم ينفي الله عنه النفاق، وله من الفضائل كما صح في الحديث: {تستغفر له حيتان البحر، وطيور السماء، وحتى النملة في جحرها}.
فطلب العلم احرصوا عليه يا إخوتي! أي تخصص سواءً كنت في الكهرباء، أو في شركة، أو كنت تدرس في الطب أو الهندسة، أو المعهد الصناعي، أو التكنولوجيا، في أي مكان، سواء كنت تاجراً أو فلاحاً عليك أن تطلب العلم, والعلم سهل ميسر، فولاة العلم في بلادنا يشجعون، مساجد واسعة، وكتب محققة، والعلماء متواجدون، والوسائل سهلة، ما عليك إلا أن تطلب العلم.
والآن أبشركم أن أكثر مدن المملكة سوف يفتح فيها دروس، وقد اطلعت على خطاب من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز موجهاً لسماحة الشيخ إبراهيم بن راشد الحذيفي، رئيس محاكم عسير يشجعه فيه على إقامة الدروس وعلى الإشراف على الدروس التي في المنطقة، وأطلعني سماحة الشيخ الحذيفي على هذا الخطاب فشكرته له.
وأبشركم أن الدروس سوف يكون لها مستقبل, فوصيتي بالحضور، وأن يجتهد العبد في تحصيل ما ينفعه، في أبها دروس كثيرة ومحاضرات، وكل صباح في هذا المسجد بعد كل فجر درس في مسند أحمد، غداً نأخذ الحلقة الثالثة والثلاثين والله الموفق، والذي نرجوه من الواحد الأحد أن يجعلها في ميزان الحسنات، ولا نسأل من الله إلا أن يكفر بها السيئات، فإنا نفتقر إلى عفوه ورحمته، ولا يؤاخذنا بذنوبنا، ونحتاج إلى دعاء منكم أنتم، وأنتم تحتاجون إلى دعاء منا، فهو مبذول ومطلوب، مبذول منا أن ندعو لكم، ومطلوب منكم أن تدعوا لنا بظهر الغيب, ولعلنا أن نسدد نحن وإياكم ونجتمع بكم في الجنة مثلما اجتمعنا هنا، حتى نتذاكر إن شاء الله، نقول: كنا في أبها نجتمع في ذاك المسجد {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:27 - 28].
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(214/11)
قاصمة الظهر
تحدث الشيخ - حفظه الله تعالى- عن قواصم تقصم ظهر دين الإنسان في دنياه وآخرته، ومن هذه القواصم النفاق بنوعيه الاعتقادي والعملي، ومنها المعاصي وخاصة الكبائر.
وذكر أنها سبب كل بلية يبتلى بها الإنسان، والنجاة منها يكمن في الرجوع إلى الله عَزَّ وَجَلّ وإلى دينه، وإلى إخلاص القول والعمل.(215/1)
أنواع قواصم الظهر
إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]
أمَّا بَعْد:
إن السلام وإن أهداه مرسله وزاده رونقاً منه وتحسينا
لم يبلغ العشر من قول يبلغه أذن الأحبة أفواه المحبينا
آخيتمونا على حب الإله وما كان الحطام شريكاً في تآخينا
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، سلام الله عليكم يا أهل القلوب الحية التي ملئت بحب لا إله إلا الله، محمد رسول الله! وسلام الله عليكم يا أصحاب الطلعات المجيدة، والوجوه المشرقة، الذين حضروا لإعلان تفوق الإسلام، وعظمته، وعمقه، وأصالته!
إنه نصر للإسلام أن يحضر شباب الإسلام، وأن يجلس الصف بالصف، وأن نقول للجاهلية وللوثنية وللصهيونية: ها نحن عدنا من جديد، لننقذ البشرية من براثن الوثنية.
فحيا الله كل من أحب الله، وأحب رسوله صلى الله عليه وسلم.
(قاصمة الظهر) هو عنوان لقائنا هذا، وقاصمة الظهر لا أعني بها القصم الحسي، ولكن القصم المعنوي؛ قصم التاريخ والخُلق، والدين والمستقبل التي هي مصيبة ليس بعدها مصيبة.
وهي تدور على نواح ثلاث: الكفر أعظم قاصمة، ومعه النفاق ابن عمه، ثم المعاصي الكبار، ثم المعاصي الصغار.
ولكنني لا أتكلم عن صغائر المعاصي والذنوب لأنه لا يسلم منها أحد، وباب التوبة لها وللكبائر مفتوح، ولكنني أتكلم عن النفاق فالكفر فالكبائر، أعاذنا الله وإياكم من القاصمة.
القاصمة هي: القاطعة للشيء، وقاصمة الظهر هي التي تقطعه وتبته نصفين، يقول أحد الأعراب يوم منع زكاته لـ أبي بكر الصديق، ورفض أن يؤديها للخليفة الراشد بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام:
رضينا رسول الله إذ كان بيننا فما بالنا نرضى بحكم أبي بكر
أيملكها بكر إذا مات بعده فتلك لعمر الله قاصمة الظهر
والعواصم من القواصم لـ ابن العربي المالكي والعواصم والقواصم لـ ابن الوزير اليمني كلهم يذكر قواصم وردت في التاريخ، لكن قاصمتي هذه الليلة التي أتحدث عنها لم يتحدثوا عنها، إنها أعظم مصيبة مُنيَ بها الإنسان يوم أنكر الله، وسوف أخصص قطاعاً كبيراً لـ (مرض قاصمة النفاق) يوم ينافق المصلي وهو لا يدري، يوم يحج المصلي وهو منافق ولا يدري، يوم ينافق المعتمر والداعية وهو لا يدري.
ولذلك كان أهل السنة والجماعة يخافون النفاق، قال الحسن البصري كما في صحيح البخاري تعليقاً: [[ما خافه إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق]] ما خاف النفاق إلا مؤمن يخاف على إيمانه، وما أمن النفاق إلا منافق.
تجد المؤمن فيه حاسة وقشعريرة وخوف وحرج، أما المنافق فيمشي مسرعاً متردياً على رأسه لا يخاف النفاق، كلكم يعرف عمر بن الخطاب، ومن يُعرّف عمر للمسلمين؟! رضي الله عن عمر، وسقى الله تلك العظام شآبيب الرحمة والبركة.
أتى إلى حذيفة رضي الله عنه وأرضاه والحديث للبخاري، في كتاب الصلاة، باب الصلاة كفارة، وانظر إلى إشراق البخاري يوم أتى، وانتزع هذا الحديث وهو في التكلم عن النفاق، ورسمه في كتاب الصلاة، ولا يكون اللموع والإبداع والإشراق إلا هكذا:
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
قال عمر رضي الله عنه وأرضاه لـ حذيفة: يا حذيفة!
لماذا اختص حذيفة بالسؤال؟
لأنه رضي الله عنه وأرضاه أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسماء المنافقين، والصحابة أهل تخصص.
فهذا مهمته: إقراء القرآن وتعليمه، وهذا مهمته: الفرائض كـ زيد بن ثابت، وهذا مهمته: القضاء كـ علي بن أبي طالب، وذاك مهمته: الإدارة والسياسة كـ أبي بكر وعمر، وخالد مهمته أن يفصل الرءوس عن الأجساد لمن حادَّ الله، وحسان مهمته: أن يطلق الأبيات المؤمنة يوم يدخل الإيمان في الأدب والشعر، فيناصر بها الدعوة، وحذيفة مهمته: أن يحفظ الأسرار التي يحملها صلى الله عليه وسلم في أسماء المنافقين، فإن أبا بكر لا يعلم أسماء المنافقين، ولا عمر إلا في النادر، فـ عمر يتواضع ويجلس منكسراً بعد جهاده وزهده وعبادته وعدله وعبقريته وبذله للإسلام، فقد أعطى الإسلام دمه وعرقه ووقته وجهده رضي الله عنه وأرضاه.
يقول لـ حذيفة: [[يا حذيفة! أسألك بالله أسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟ -لا إله إلا الله! إذا كان عمر من المنافقين فمن هو الذي من المؤمنين؟ - قال حذيفة وعيناه تدمع: لا والله ما سماك الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين، ولا أزكي أحداً بعدك]].
وفي كتاب الصلاة: باب الصلاة كفارة يقول عمر للناس وحذيفة معهم: {أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال حذيفة: أنا، قال: أتحفظ الحديث؟ قال: نعم، قال: إنك عليها لجريء} كيف تستطيع أن تتكلم في هذه الموضوعات الخطيرة؟! وهذا لأن حذيفة كان يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشر والناس كانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه
ولذلك لا يكفي إسلام الدروشة أو أن يعرف الإنسان طريق المسجد وهو لا يعرف أن في المجتمع ضلالات وجهالات، وطامات وفواحش وكبريات من الذنوب والخطيئات، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى للرسول عليه الصلاة والسلام: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] نخبرك بالجاهلية وبـ الوثنية وبالضلال حتى تكون على بصيرة.
ولذلك يا دعاة الإسلام! يا أساتذة الإسلام! يا أبناء الإسلام! جدير أن نعرف المخططات التي تحاك لنا صباح مساء، حتى نرد عليها بقوة، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[إنما تنقض عرى الإسلام عروةً عروة من أناس عاشوا في الإسلام لا يعرفون الجاهلية.
]
قال حذيفة: {أنا أعرف، قال: ماذا قال في الفتنة؟ قال حذيفة رضي الله عنه وأرضاه: سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: فتنة الرجل في أهله وماله تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي -وهذه سهلة- قال عمر: لست عن هذه أسألك} ففتنة الشجار مع الأهل ليست بقاصمة، واختلافك مع زميلك ليس بقاصمة، فهذا ذنب صغير تتوب منه وليس بقاصمة، شرود في عقلك وفي فهمك وقت الخشوع ليس بقاصمة، قال عمر: ما أسألك عن هذه ما دام لها علاج وكفارة: {قال عمر: وإنما أسألك عن التي تموج موج البحر -فتنة تموج موج البحر، تقصف قصفاً، تأخذ الأخضر واليابس- قال حذيفة: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين! -يقول: لا تخف وأبشر- إن دونك ودونها باباً} والباب هو: عمر، ولذلك لما قتل عمر انهد حصن الإسلام، وبكى علماء الإسلام موت عمر، وقالوا: كفنت سعادة الإسلام في أكفانه:
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
كلما وقعت قذيفة على الإسلام تلقاها عمر وردها على قاذفيها، ولما قتل بدأ السيف يمزق الأمة، وبدأت الفرقة، وبدأت القواصم تلو القواصم، يقول علي: [[لقد كفنت سعادة الإسلام في أكفانك يا عمر!]] ويقول: [[والذي نفسي بيده! ما أريد أن ألقى الله بعمل رجل، إلا بعمل رجل كعملك]] وعمر مطعون مكفن قد فارق الحياة.
قال حذيفة: {إن دونك ودونها باباً، قال عمر: -وكان ذكياً لماعاً عبقرياً-أيكسر أم يفتح؟ -وأكثر الجالسين لا يعرفون من الباب، ولا معنى الكسر أو الفتح- فقال حذيفة: بل يكسر، فعرف عمر أنه الباب، وأنه سوف يقتل -فقال عمر ذلك أولى وأحرى ألا يغلق أبداً} وبدأت القواصم تلو القواصم بعد موت عمر رضي الله عنه وأرضاه.
ومن أعظمها، بل قد عاشها صلى الله عليه وسلم: قاصمة النفاق، قاصمة النفاق يوم تنتشر في الأمة يصلي المصلي ولكن إذا خلا نسي الله، يجلس مع الأخيار خيِّراً، فإذا خلا إلى شياطينه وإخوانه هتك عرض الأخيار، يجلس مع أهل العبادة عابداً، فإذا خلا مع قرنائه في الظلام أتت لسانه تشحذ وتشن وتذبح في أعراض الذين يرفعون لا إله إلا الله محمد رسول الله.(215/2)
أقسام النفاق
والله عز وجل ذكر النفاق، والنفاق على قسمين: اعتقادي وعملي.(215/3)
النفاق الاعتقادي
أما الاعتقادي فهو: الكفر الباطن، كثير من الناس يكفر بالرسالة الخالدة، ويجحد رسالته عليه الصلاة والسلام، يعتقد أن القيامة كذب، وأن الحشر والبعث والنشور كذب، وأن ما يُلقى في القرآن خداع ودجل، فهذا منافق (100%) نفاقاً أكبر، وقاصمته من القواصم الكبرى والمصائب العظمى، فهذا جزاؤه الدرك الأسفل من النار، يحجز مقعداً هناك، وله امتياز في الحجز من أول لحظة يصل فيها إلى النار، نعوذ بالله من النار والعار والضلال والعمى.
فهذا أعمى، وليس الأعمى أعمى العينين، ولكن الأعمى أعمى القلب: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد:19].
ابن أم مكتوم أعمى العينين، ولكن قلبه ليس بأعمى، أبو جهل عيناه تبصران وترى في الظلام كما ترى القطة في الظلام الإبرة، ولكن قلبه أعمى، وابن أم مكتوم قلبه يبصر ويرى، ولكن عينيه عمياوان.
ولذلك حضر الرسول صلى الله عليه وسلم واستجاب له، فأنزل الله يوم جفاه قليلاً على الرسول عليه الصلاة والسلام قوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:1 - 3] يا محمد! ما يدريك أن هذا الأعمى سوف يتزكى ويصبح منارة من منارات الأرض تستقبل نور السماء، وبالفعل أصبح مؤذناً وداعية ومجاهداً، أين مات؟ قتل في القادسية -كما قال أهل التاريخ- قتلاً، عذره الله عن الجهاد، لكنه قال: [[لا.
كيف أسمع النداء للجهاد وأبقى والله يقول: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] والله لأنفرن]] فأخذ الراية وهو أعمى، وبقي يقاتل وهو أعمى حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه، أما أبو جهل فمات وقتل كما تقتل البهيمة لا مصير ولا مستقبل ولا أصالة ولا عمق.(215/4)
النفاق العملي
والنفاق العملي: نفاق الكلام والحديث والمعاصي، ذكره صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {علامة المنافق ثلاث -أو كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمرو، وحديث أبي هريرة - ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان -وهناك- وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر}.(215/5)
علامات المنافقين
النفاق الاعتقادي والعملي لأصحابه علامات، ما هي علامات هؤلاء الدجاجلة؟(215/6)
قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم
أكبر علاماتهم: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:11] يتكلمون بحرارة عن الإسلام وهم يحبون للإسلام الهدم والفشل والانهزامية، يشكون أمامك واقع المرأة المسلمة في المجتمع المسلم، وكيف تسفر! وكيف تتبرج! وهم -والله العظيم- يريدون أن تسفر وتتبرج وتنتشر الفاحشة: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * 6000014>يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:8 - 9] يضحكون على التاريخ، وعلى الإسلام، وعلى المبادئ الأصيلة التي أعلنت عمقها وأصالتها خمسة عشر قرناً! وسوف تستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومن الناس من يقول: آمنا بالله أمام الناس، فتجدهم يصلون ويصومون، ويحجون ويعتمرون، لكنهم يخربون بألسنتهم وأقلامهم ومخططاتهم ومكرهم وخداعهم، وهذا أعدى العدو، فالعدو الظاهر تحذر منه، فإسرائيل تعرف أنها إسرائيل، وروسيا تعرف أنها عدوة للإسلام، لكن هذا الذي دب في الصف لا ندري من هو، يكتب فإذا هو ليس الإنسان الذي معنا في المسجد، يقول أبو سريح العدوي، وقيل السحيم بن أُثيل الرياحي:
فإما أن تكون أخي بصدق فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني
فإني لو تخالفني شمالي ببغض ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بِيْنِي كذلك أجتوي من يجتويني
من علامات المنافق الذي لبس قاصمة الظهر: أنه جسد بلا روح، يهتم بالمظهر، لا يريد أن يمرض ولا يريد أن يتعكر صفوه في الشخصية، لباسه من أرقى اللباس، طعامه من أحسن الطعام، سكنه من أحسن السكنى، ولا يعني ذلك أن يتدروش المؤمن ليرفع الله درجته، لا.
قد تجد الفاجر فقيراً لا يجد كسرة خبز، ينام على الرصيف، وتجد المؤمن يسكن في أحسن القصور، لكن المنافق بالعكس ليس له اهتمام بالدين ولا بالإسلام، ولا بالفرائض ولا بالنوافل، تفوته صلاة الفجر فلا يحزن ولا يتأثر، ولكنه لو ثلم شيء من عرضه أو ماله لأقام الدنيا وأقعدها.(215/7)
اهتمامهم بأجسادهم دون قلوبهم
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] يقول حسان:
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر جسم البغال وأحلام العصافير
يهتمون بالجسم أكثر من القلب، ولذلك كيف لا ينافق من لا يصلي في الجماعة في الفجر دائماً وأبداً؟! كيف يمكن أن يخدم الإسلام؟! كيف يرفع لا إله إلا الله؟!
إذا كتب في الصحافة عادى الإسلام، إذا أتى إلى المسرح جعل المسرح عداءً للإسلام، إذا شارك في كلمة ظهر أثره وبغضه للإسلام، لأنه من تهاون بحي على الفلاح تهاون بحي على الكفاح: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] فهذا من علاماتهم، حتى ذكر عن ابن مسعود أنه قال: [[ترى المنافق بديناً سميناً وترى المؤمن نحيفاً هزيلاً]] ولذلك يقول أبو الفتح البستي وهو ينكر على هذا الإنسان الدابة الذي يعيش عيشة البهيمة:
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
فيا من بهَّى جسمه ودلله أما علمت أنك تطرح في حفرة بلا عمل؟! أما علمت أن الدود يعتور على وجهك بلا مانع؟! أما علمت أن الظلمة سوف تصاحبك؟! فما هو عملك؟(215/8)
الخوف من الأحداث
ومن علامات المنافقين: أنهم يخافون الأحداث، يخافُون الوقائع في الدنيا ويظنون أنها على رءوسهم، أما المؤمن فهو لا يخاف، فهي إحدى الحسنين: إما الحياة، فحياة السعداء الأبرار، الأتقياء الشرفاء، وإما الموت؛ فموت الشهداء الخيرة الأتقياء.
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
قال أحد السلاطين لـ بن تيمية! يزعم الناس يا ابن تيمية! أنك تريد ملكنا وملك آبائنا وأجدادنا، فضحك ابن تيمية وقال: ملكك، وملك آبائك وأجدادك؟ قال: يقولون ذلك! فأخذ شقصاً من الأرض ونفلها في وجهه وقال: والله ما ملكك وملك آبائك وأجدادك يساوي عندي هذه؛ لأن الذي يطلب رضا الله لا يطلب رضا الناس.
والعجيب أنك تجد بعض الناس يسعى للشهرة أو للمكانة على حساب الدين، لا بأس أن يفجر، وأن يطعن في الإسلام! لكن على حساب الدين.
فمن علامات المنافق وهي قاصمة الظهر: أنه يخاف: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] إذا سمع بالحدث قال: أنا المتهم؛ لأنه (كاد المريب أن يقول خذوني):
سُرقت دجاجة، فذهبت صاحبة الدجاجة إلى السلطان، فقالت: سرقت دجاجتي، قال: ابحثوا عن دجاجتها، والعجوز هذه تظن أن الحدث والكون كله في هذه الدجاجة، وبعض الناس إذا عاش في شيء أو في مستوى قاس الأحداث والوقائع على هذا الشيء.
يقول ابن كثير: أحد الناس الحمقى ذهب إلى خليفة من بني العباس، فذبح له دجاجة وطبخها وقدمها له ليأكلها، فأخذها هدية وأكلها، فكان هذا الأحمق يظن أنه فعل فعلاً في التاريخ لم يفعله أحد، كان كلما أتى الخليفة يسأل عن حدث أو معركة قال: هذه المعركة وقعت قبل أن أهدي لك الدجاجة بشهر، وسفركم بعد أن أهديت لك الدجاجة بأسبوع، فأصبحت هذه الدجاجة من المسارات الكبرى في التاريخ.
ذهبت هذه العجوز إلى السلطان فقالت له: دجاجتي، فعجز السلطان عن إمساك السارق فقام على المنبر فقال: يا صاحب الدجاجة! يا من سرق الدجاجة! عرفناك، فلا تمسح رأسك، فمسح سارقها رأسه: (كاد المريب أن يقول خذوني) ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] إذا ذَكَرْتَ -في خطبة جمعة عامة- الناس الذين يشوهون الإسلام خرج هو يسب الخطيب، لأنه (لا تحتك إلا الجرباء) أما الصحيحة فلا تحتك.(215/9)
تضجرهم من انتشار الخير
إذا رأى انتشار الخير، والدعوة والوعي، والدروس والمحاضرات، والنشاط الإسلامي تضجر، وقال: هذا تطرف، سبحان الله! أما الخمارون والسكارى، والمغنون والمغنيات، والماجنون والماجنات، فليس عندهم تطرف، ونحن عندنا تطرف.
هل التطرف أن يحافظ على الصلوات الخمس؟! أو أن يقرأ في المصحف، وأن يشرح صحيح البخاري وصحيح مسلم، وأن يأتي جيل صادق من أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؛ يعلنون أن التفوق والنصر للإسلام؟
-وسوف أعرض لكم نموذجاً من الفن الراقي الذي يورد في الساحة، فن لكن ما عرف الفن، وصاحبه فنان على مصطلح العرب لا على مصطلحهم هم، فالعرب تقول للحمار الوحشي المخطط: فنان، فهو فنان على هذا المصطلح.
لكنه كما قال أحد علماء الإسلام: والله ما عرفوا الحب والفن والجمال، لأنهم يعتقدون بأن الحب أن تحب معشوقة فتكون عاشقاً ولهاناً.
رجل خلقه الله ليعبده: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فأتى هذا الرجل يقول لمحبوبته:
يا من هواه أعزه وأذلني كيف الوصول إلى سبيلك دلني
الوصول من طريق النار، خذ يسارك على النار وتصل، قال غلاة الصوفية: قد وصلنا إلى مرتبة أنا لا نصلي ولا نصوم، قلنا لهم: لماذا؟ قالوا: لأن الله يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فنحن أتانا اليقين فانتهينا، يعني: إذا أتاك اليقين فلا تصلِّ ولا تعبد ربك، وهذا خلاف تفسير أهل السنة، فإنهم قالوا: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] يعني: الموت، قلنا: لماذا لا تصلون؟ قالوا: وصلنا إلى درجة اليقين.
قيل لـ أبي علي الروذباري: يقول غلاة الصوفية: إنهم وصلوا، قال: صدقوا، وصلوا ولكن إلى سقر.
أما الطريق فوصلوا ولكن أخطئوا المكان، أخذوا على اليسرى.
فهذا يتكلم في حياته ومستقبله ولا يُعدم آلافَ الجماهير أن يصفقوا له، وأن يشيدوا باسمه، ويقول:
يا من هواه أعزه وأذلني
والله لقد أذلك في الدنيا والآخرة، لأنك لو عرفت الله، ومن يستحق الحب وهو الله، وعرفت الطريق إلى الله، وحملت لا إله إلا الله ما استذلك هذا المعشوق الذي سفه عقلك وأخذ قلبك وحكم روحك.
وسوف أورد نماذجاً ثم آتي إلى الحب ومعناه الفن والجمال؛ لأن قاصمة الظهر أتت من هنا، تقول إحداهن، وهي كوكب الشرق، هذه التي خدعت الجماهير في الشرق الأوسط وطائرات الميراج الإسرائيلية تحجب الشمس عن الأرض، يقول البردوني وهو أعمى القلب والبصر لكنه أخذته الحمية القومية فقال:
فأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارها الخطبُ
يقول: الخطب تسقط الطائرات:
شجباً ونكراً وتنديداً بغارتها الله كم نددوا يوماً وكم شجبوا
فتقول هذه:
هل رأى الحب سكارى مثلنا
لا.
لم ير العالم سكارى مثلكم، ولا ضالين ولا فاسقين مثلكم؛ لأن الذي لا يهتدي يفعل هذا الفعل، ويقصم إيمانه ودينه وعرضه.
بشارة الخوري اللبناني دخل دمشق، فحمل من المطار على الأكتاف، لماذا؟ هل هو صلاح الدين؟!! لا.
والله ما يساوي الغبار الذي على حذاء صلاح الدين! هل أتى بمفتاح بيت المقدس؟! أهو عمر؟! والله ما يساوي البصاق الذي أرسله عمر على الصحراء، فلما أتى ونزل حمل على الأكتاف، فكان أول قصيدة يقولها وشباب الإسلام أمامه:
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
هبوا لي دينا يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
سبحان الله! برهم المجرم الهندوكي، السفاك الخبيث، ويقول هذا: تعالوا بأي دين في الدنيا نتألف جميعاً عليه، واتركوا الإسلام:
هبوا لي دينا يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
وكان يقاطع بالتصفيق، لأن الأمة ما عرفت قاصمة الظهر، مثل هذا يوم تُرك له الميكرفون والقلم والصحيفة تكلم بما أراد، لأنه هدم الإسلام من أساسه.
إيليا أبو ماضي، يتكلم في الشبيبة ويرسل دواوينه في الشرق الأوسط، فيقول في أول قصيدته طلاسم:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
!!
يقول: لا أدري من أين أتيت أتيتَ من حظيرة البقر.
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!!
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت!!
كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري!!
ولماذا لست أدري؟!! لست أدري!!
أنت لا تدري، خلقت لا تدري، وعشت لا تدري، ومت لا تدري، لكنك سوف تدري يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور؛ لأن الذي لا يدخل الإيمان في قلبه لن يفلح، ولا ينجح في الدنيا ولا في الآخرة، فهذه قاصمة الظهر.
أحد الناس الذي قصم إيمانه ويقينه دخل على سلطان من سلاطين الدنيا، فنسي الله ونسي موعوده ولقاءه، نسي الله عز وجل الذي كل شيء بحكمته وقدرته: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] نسي هذا المجرم أن الله الذي يملك الضر والنفع، والموت والحياة والنشور، فقدم على السلطان وقال له:
ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
من هو الواحد القهار؟ هو الله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95] فنسي هذا وقال:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
فعلمه الله أنه الواحد القهار، أخذه فأجلسه بمرض مزمن مقعد، فأخذ ينبح كما ينبح الكلب على فراشه، مرض عضال، اجتمع عليه الأطباء فما نفعوه، قدمت له العلاجات فما أفادت، فأخذ يبكي على فراشه، ويقول وهو يعاتب نفسه ويندم في ساعة لات مندم:
أبعين مفتقر إليك نظرت لي فأهنتني وقذفتني من حالقِ
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
الذي لا يَعرفُ الله، ولا يعرف الواحد الأحد يعرفه في وقت الأزمات، من لا يعرف الله في الرخاء عرفه الله بنفسه وقت الشدة، وهذه معان قد ذُكرت في مناسبات لكن لا بأس بإيرادها وترسيخها في الأذهان، فإن فرعون في الظاهر أنكر الصانع، ولكنه في الباطن يعلم، يقول له موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] ففرعون يعلم، لكن وقف على المنبر وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ويقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] فأجرى الله الأنهار من فوق رأسه، فلما غرق، وأصبح في الطين كضفدعة مسيلمة: نقنقي ما تنقنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] ما أحسن هذا الموحد الخبيث! هذا موحد من نوع التوحيد المعكوس، وهو يسمى شيخ الضلالة والإلحاد في العالم.
وفرعون هو الذي أخذ المرتبة الثانية بعد إبليس، والثالث: أبو جهل، ثم يأتي بعدهم أسراب وأسراب، كل من أراد النار وجد الطريق: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] {يَا أَيُّهَا الْإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] مالك!! يوم خلقك الله وصورك، وأنبتك وهداك تتنكر لله عَزَّ وَجَلّ! أتخجل أن تكون مسلماًَ؟!! وجد في المجتمعات من يخجل أن يتقلد السنة، من يخجل أن يربي لحيته ويقصر ثوبه، لكنه لم يخجل يوم يقلد لينين واستالين وماركس، مالك لا تخجل من هؤلاء وتخجل من اتباع محمد؟!!
هو الله الذي لا إله إلا هو، والله! الذي رفع السماء بلا عمد، وبسط الأرض بأحسن مدد، وخلق الإنسان في كبد!
ما طرق العالم كمحمد صلى الله عليه وسلم، من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدى غير هدى الله الذي أرسل به محمداً عليه صلى الله عليه وسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً، ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.
بعض الناس تجده في مكان، فإذا أتيته واعظاً قال: إذا أردت أن تعظ وتحاضر فيكون هذا في المسجد، أما هنا فلدينا عمل غير الوعظ سبحان الله!! أأنت مسلم؟! أأنت في رَكْبِ محمد عليه الصلاة والسلام؟!!(215/10)
مراءاة الناس
من علامات النفاق: مراءاة الناس، فعملهم رياء، امدح الرجل وأَبْشِرْ بخير، إذا مدحته وجدت رجلاً كريماً أمامك يقدم ويسعى ويبذل، لكن إذا لم يرك وإذا لم تمدحه أخفق كلما إخفاق.
أما نحن أهل الإيمان فنسأل الله أن يكون عملنا خالصاً لوجهه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
القصائد بلا إيمان تأتي يوم القيامة وهي لعنات على أصحابها، الكتب بلا إيمان تأتي يوم القيامة وهي غضب ماحق على رءوس أصحابها، الصحف بلا إيمان تأتي يوم القيامة قذائف ملتهبة في وجوه أصحابها، أمة بلا إيمان ما هي إلا قطيع غنم وضأن وإبل وبقر، عين بلا إيمان مقلة عمياء، قلب بلا إيمان قطعة لحم، كتاب بلا إيمان ورق مصفف، قصيدة بلا إيمان كلام ملفف، دنيا لم تشرق عليها شمس الإيمان دنيا ملعونة، وقلب لم يع أمر الله قلب مغضوب عليه.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في المنافقين: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ} [النساء:142] إن صلوا أمام الناس أحسنوا الصلاة، وإن خلوا تركوا الصلاة أو لعبوا بها، إذا جلسوا مع أولياء الله تكلموا في القضايا الإسلامية بحرارة، وإذا خلوا إلى شياطينهم هتكوا عرض الإسلام ومجده وعظمته: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة:13] مالكم لا تستقيمون كما استقام شباب الصحوة؟ قالوا: هؤلاء حمقى متزمتون متطرفون!! {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] فهم ما علموا، والذي لا يعلم أحمق.
{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14 - 15]
الرياء مرض من أخطر الأمراض، وهو قاصمة الظهر، وهو يدخل نسبياً في قاصمة الظهر الكبرى (النفاق) الرسول عليه الصلاة والسلام يخبرنا بأول من تسعر بهم النار يوم القيامة وهم ثلاثة: عالم، وجواد كريم، وشجاع، يؤتى بهم فيقول الله عز وجل للعالم: {أما علمتك العلم؟ قال: بلى يا رب! قال: فما عملت} والله يعلم، وهو لا يسأل عن جهل، فهو العليم البصير سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فانظر إلى الوقاحة، أخطأ في الدنيا ويجيب بخطأ في الآخرة.
قال: {علمت الجاهل، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: إنما تعلمت ليقال عالم خذوه إلى النار، فيسحب على وجهه حتى يدهده في النار} ثم يؤتى بالجواد فيفعل به كذا، وبالشجاع فيفعل به هكذا، هؤلاء أول من تسعر بهم النار، نعوذ بالله من النار.
هذا هو الرياء.
وأسباب الرياء:
1/ نسيان ثواب الله وأجره.
2/ تعظيم الناس أكثر من الله.
3/ طول الأمل ونسيان الموت.
4/ الخوف والقلق والاضطراب النفسي، فأشجع الناس الصادق، وأجبن الناس المرائي الكاذب.(215/11)
لمز المطوعين
من علامات النفاق: أنهم {يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ} [التوبة:79] المطوعين الباذلين أنفسهم في سبيل الله، المتصدقين بأموالهم لرفع لا إله إلا الله، فالمنافق ليس همه إلا أن يلمز، وهذا مرض اجتماعي سرى وهو خطير، وقد بثته هيئة الإذاعة البريطانية في أخبارها دائماً وأبداً، يوم تقول: "التطرف المتطرفون" والتي نكتته وأوحته الصهيونية العالمية، فلذلك يلمزون المطوعين.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان جالساً في المسجد فقال للناس: تصدقوا في سبيل الله، وهذا كان لغزوة تبوك، لتجهيز غزوة العسرة، فأتى عبد الرحمن بن عوف بمال كثير، فوضعه ذهباً وفضة في المسجد، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: {آجرك الله فيما أعطيت، وبارك الله لك فيما أبقيت} فتغامز المنافقون في المسجد عندما صلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما أراد بهذا إلا رياء وسمعة.
ثم أتى فقير من الصحابة ما وجد شيئاً، فأخذ حفنة تمر في كفه ودخل بها، وقال: يا رسول الله! والله ما في بيتي من مال، ولا عرض، ولا درهم، ولا دينار، وإنما هذه الحفنة من التمر فخذها، قال عليه الصلاة والسلام: {آجرك الله فيما أعطيت، وبارك الله لك فيما أبقيت} فتضاحك المنافقون، قالوا: جيش كامل ماذا تغني عنهم حفنة فلان؟! سبحان الله!! ذاك ما سلم منكم، وهذا لم يسلم، فمن هو المصيب إذن؟!
لكن تولى الله عز وجل الجواب عليهم فقال: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79] إي والله! والله إذا سخر أكبت العبد وأذله وأخزاه: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79] {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون:6] فلن يغفر الله لهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].(215/12)
الاستهزاء بالقيم والمبادئ الإسلامية
من علامات المنافقين: الاستهزاء بالقيم، وأولها مبادئ الإسلام وهي قاصمة الظهر، فهم لا يستهزئون بأهل المعاصي، هل رأيتم منافقاً يستهزئ بامرأة خرجت كاشفة الوجه؟ لا.
أو يستهزئ بامرأة لبست ثياباً شفافة؟ أو يستهزئ بمغن أذهب العقول والقلوب، وضحك على الناس والعباد والشعب؟ لا.
إنما يستهزئ بالأخيار الأبرار، ولكن الله يتولى الدفاع: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].(215/13)
الكسل في أداء الطاعة
المنافق كسلان؛ إذا قام إلى الصلاة فهو من أكسل الناس، لكن تعال به في حفلة أو عرض موسيقي، أو ترف أو في شيء فيه تبذل وتبجح فإنك تجده من أقوى الناس، قوة جسم لكن خوار قلب، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142].
قال بعض أهل العلم: عجباً، إنهم يصلون! ولكن الله ذمهم بالكسل، لأن الذي يؤدي الإسلام وقلبه بارد، فيصلي مع الناس وقلبه بارد، ويسمع الأذان فيتحرى حتى تقرب الإقامة، فإذا دنت الإقامة قام فتوضأ كأن اللعنة معقودة على رأسه، ثم يخرج من الوضوء فيمسح يديه ورجليه وعينيه وأذنيه، ثم يذهب إلى المسجد كأنه يقاد بسوار من نار، ثم يدخل المسجد فيأتي في الصف الأخير، ويركع ويسجد، لا يدري من الإمام وماذا قرأ، وما هي الصلاة، ثم يسلم ويخرج أول الناس، فهو آخر الناس دخولاً وأولهم خروجاً، بارد القلب، جذوته لا جذوة، وتوقده لا توقد، فالله المستعان!
(وإذا قاموا إلى الصلاة) لم يقل لم يصلوا؛ لأنهم إذا لم يصلوا كانوا كفاراً، لكن: {إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] والرسول صلى الله عليه وسلم أثبت أن من المنافقين من يصلي، ولذلك لامهم، قال: {بيننا وبينهم صلاة العشاء وصلاة الفجر لا يستطيعونها} فهم يصلون الظهر والعصر والمغرب، لكن صلاة الفجر والعشاء لا يستطيعون، فهذه دونها خرط القتاد، فهذه التي تبين المستويات؛ لأنها في وقت شدة: {وإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] مفهوم المخالفة: أن المؤمن يقوم بقوة وحرارة: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] لأن هذا الدين دين حياة وقوة وصمود.
فـ عمر رضي الله عنه وأرضاه سيد النساك، وهو عابد من أكبر العباد، عيناه تذرفان الدموع صباح مساء، وهو الذي يعرف النسك، وعلى ذكر عمر نذكر عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقد رأت شبيبة من الناس، والشباب في وقت الحدة يأتون بأشياء قد تخرج عن السنة، ففي فترة الهداية يزيدون حتى يخرج بعضهم عن السنة، فأتوا يتكاوسون برءوسهم كأنهم ضأن أصيبت بمطر في ليل شات، يتساوقون جوعاً وضموراً، وأنزلوا رءوسهم على صدورهم، قالت عائشة: [[من هؤلاء؟ قالوا: نساك -يعني عباد- قالت: ما لهم يمشون هكذا؟ قالوا: من النسك -من كثرة العبادة كسروا رءوسهم- قالت: والله لقد كان عمر أخشى لله منهم، وكان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع]] لأنه دين أصالة وعمق.
عن الأسود بن يزيد في صحيح مسلم {قال: قلت لـ عائشة رضي الله عنها وأرضاها: يا أم المؤمنين! كيف كان صلى الله عليه وسلم يقوم من صلاة الليل؟} متى يقوم لصلاة الليل، لم يسأل عن صلاة الفجر، ونحن الآن والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه نتمادح بمن يحضر صلاة الفجر منا، حتى من الدعاة، وإذا حضر صلاة الفجر في جماعة فكأنه من العشرة المبشرين بالجنة، أو ممن بايع رسوله تحت الشجرة، وهذا لضعف مستوى الإيمان، أما أولئك فما كانوا يسألون عن صلاة الفجر، فهي من المسلمات، حتى المنافق في عهدهم يعاب عليه عدم حضور الفجر، لكنهم يسألون عن قيام الليل.
طاوس بن كيسان اليمني أحد العلماء الجهابذة المحدثين، طرق على صديقه الباب وقت السحر، فخرج صاحبه من البيت فقال: مالك؟ أحدث شيء؟ قال: أتيت أزورك!! قال: قبل الفجر، أنا كنت نائماً، قال: أتنام في هذه الساعة؟! والله! ما ظننت أن مسلماً ينام في ساعة السحر، لأنه صح في الحديث: {أن الله ينزل في الثلث الأخير إلى الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيبه؟}
فـ الأسود بن يزيد يقول لـ عائشة رضي الله عنها وأرضاها: {متى يقوم عليه الصلاة والسلام لقيام الليل؟ قالت: كان إذا سمع الصارخ وثب، قال الأسود:
وعلمت ما معنى وثب} لم تقل: ولا جلس، ولا عرك عينيه، وإنما وثب كالأسد، لأن هذا معناه إعلان التحدي على النفس، والقوة على الشهوات، والأخذ لأمر الله عز وجل.
تقول عائشة عنه صلى الله عليه وسلم، وأحلى ذكريات عائشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حياتها، قوامتها، أشرق الذكريات في عمرها مع المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم -على سبيل الاستطراد- رجل كمال، في البيت والمجتمع، والفتيا وعلى المنبر، وفي المعركة وفي الإدارة، والأدب والسياسة، فكل شيء أخذ له وقتاً، وأعطى لها وقتاً من حياته صلى الله عليه وسلم.
فتقول: {كان يقطع معنا اللحم، ويكون في مهنتنا، فإذا سمع الأذان قام كأننا لا نعرفه، ولا يعرفنا} وهذا هو علامة الإيمان والصدق، فليس عندنا أمور معنوية نتخيل بها الناس، يقول الإنسان: الله أعلم بقلبي أنني أحب الله ورسوله، لكن أعماله وأظفاره ومخالبه في الإسلام.
الضب والحية: دخل الضب للحية في جحرها، فلسعته بسمها فبقي مريضاً عند باب جحرها، فقامت تزوره، وتقول: يا أبا ثعالة! من جرحك؟ قال: أنت أعرف بمن جرحني.
فتجد بعض الناس يقول: الله يعلم أنني أحبه وأحب رسوله، وهو لا يشهد الصلاة مع الناس، ولا يتحمس لقضايا الإسلام، ولا ينكر المنكر، ولا يكثر من الدعاء، ولا يقدم خيراً لدين الله عز وجل، فأين الإسلام؟ أإسلام بالقلب؟! إن هذا لا ينفع: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] إذا رآك المؤمنون صالحاً فأنت صالح: {أنتم شهداء الله في أرضه} {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].
{مُرَّ على الرسول صلى الله عليه وسلم بجنازتين، فأثنوا على الأولى خيراً -مدحوه بالقيام، والصيام، والصلاة، والصدق، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والوفاء -قال: وجبت، وجبت، وجبت- فهذا ختم منه عليه الصلاة والسلام يطبع به على أوراق الناس يقول: وجبت له الجنة -وأثنوا على الآخر شراً- فاجر، قاطع للصلوات، عربيد، لا يعرف الله، لاه، قرءانه الغناء، وكتابه وصحيحه المجلة الخليعة، وغيبته وعرضه وفاكهته أعراض المؤمنين -قال عليه الصلاة والسلام: وجبت، وجبت، وجبت- وهذا خاتم يطبع على أوراقه إلى النار، قالوا: يا رسول الله! ما وجبت؟ وما وجبت؟ قال: الأولى أثنيتم على صاحبها خيراً، فقلت: وجبت له الجنة، والثانية: أثنيتم على صاحبها شراً، فقلت: وجبت له النار، أنتم شهداء الله في أرضه}.
وعند الترمذي بسند فيه نظر: {من رأيتموه يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان} فنحن شهداء الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على عباده، والله عز وجل إذا رأى العبد منيباً مخلصاً نشر له القبول، وإذا رآه غير ذلك نشر له السمعة والغضب واللعنة في الناس، فهذه قواصم الظهر.(215/14)
المنافقون مرجفون
المنافق مرجف، أي: يخذل عباد الله، إذا ذكرت له انتصار الإسلام في قضايا انتشار العلم والدروس والمحاضرات والندوات هون من شأنها، يقول: لا طائل من ورائها، إلهاء للشباب، وأظنها تفرق بينهم، وتأخذ من أوقاتهم، وأما الأغاني والذهاب والإياب فلا تأخذ أوقات الشباب!!
إذا ذكرت له الجهاد هون من شأنه، إذا ذكرت له قضية الحجاب، قال: لا، الحجاب ليس هو القضية، القضية ليست قضية حجاب، فإذا أتيت في قيام الليل قال: والقضية ليست قيام ليل، وإذا أتيت في المكاييل والموازين، قال: القضية ليست مكاييل وموازين حتى يذهب الإسلام كله، فإذاً القضية ليست قضية إسلام.
فهو مرجف: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] هذه أيها الإخوة! من علامات المنافقين، وهي قاصمة الظهر الكبري، وهي تجتمع في قاصمة.(215/15)
قلة ذكرهم لله
ومن علاماتهم: أنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً، لم يقل الله: لا يذكرون الله، لكن يذكرون الله قليلاً، والإنسان علامة حبه للشيء حبه ذكره له:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
إذا أردت أن تعرف إيمان المؤمن، فانظر إلى ذكره لله، وإذا أردت أن تعرف إخلاصه وصدقه؛ فانظر إلى تبتله ودعائه للواحد الأحد: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191] {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].
فمن علامة المنافق أنه لا يذكر الله، تجده سبهللاً في الليل والنهار، يتكلم في معاشه وبيته، وفي وظيفته وأصدقائه، لكن إذا مر ذكر الله انقبض في المجلس، فهو لا يريد شيئاً من الذكر لا من القرآن ولا من الحديث، يصف هذه المجالس بالتأخر، والرجعية، والتخلف، وهو المتخلف الرجعي الوثني المتقهقر، فهذا من علامتهم حتى تنجلي.
وهذه أيها الإخوة! معلومات موجودة وجاهزة، لكنها تحتاج إلى تذكير وتأصيل حتى تعرف عند الجميع؛ لأن من الناس من يقع في النفاق ولا يدري أنه منافق.(215/16)
المنافقون ذوو ألسنة فصيحة وقلوب جاهلة
من علامات المنافق أنه عليم اللسان، إذا تكلم أصبح خطيباً فصيحاً، لكن قلبه جاهل: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] قد تجد المؤمن لا يحسن أن يركب كلمتين، ولذلك في حديث كعب بن مالك عند الترمذي: {البذاء والبيان شعبتان من النفاق، والعي والحياء شعبتان من الإيمان} فالمؤمن تجده خجولاً منكسراً في الغالب، والمنافق تجده بذيئاً غسل وجهه من الحياء، فهو صاحب بيان داهية في الكلام، يتكلم بمحاضرات في ميزان السيئات، إذا تكلم عن قضايا الفجور، عن سفره إلى أوروبا، عن رؤية البنات والكأس وعما رأى من التطور والعمران؛ لأن في منظوره أن التطور والعمران هي ناطحات السحاب، لكنه لا يتكلم عن نهضة المسلمين، وعودة الشباب إلى الله، وتدارس القرآن، ومجالس الذكر والحديث؛ لأن قلبه مشغول بـ واشنطن وباريس، فهو لا يتكلم إلا عنها: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] لكنه أعمى القلب والبصر.(215/17)
كبائر المعاصي قاصمة للظهر
ومن قواصم الظهر التي تضم مع قاصمة الظهر الكبرى: كبائر المعاصي، والله عز وجل ندد بالعصاة، والذي يأتيك بأحاديث الرجاء دون أن يذكرك بالخوف، معناه أنه يريد أن يتسامح، وأن يعفيك من عهدته، وأن يقول لك: لا بأس أن تخطئ وتعصي الله، يقول الله عن بني إسرائيل لما عصوا: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة:13] هذه أربع مصائب بسبب المعصية، ومن يفعل ذلك، ويداوم ويصر على المعصية، يبتليه الله بهذه الأربع: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [المائدة:13] عهدك مع الله، وصلتك به صلاتك صيامك حجك ولاؤك وبراؤك لله؛ لأن كثيراً من الناس يصلون، ولكن ولاءهم وبراءهم لغير الله.
قد تجد إنساناً مستقيماً يصلي الصلوات الخمس، يقرأ صحيح البخاري، يبكي إذا قرأ مدارج السالكين، ولكن ولاءه لنادٍ رياضي من النوادي، يبكي إذا هزم، ويفرح ويسهر الليل إذا انتصر، يعادي كل من يعادي هذا النادي، ولو كان من الصحابة والتابعين، لماذا؟ لأنه جعل ولاءه وحبه لغير الله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55].
ووجد كذلك -ليس في هذا المكان العامر الطاهر الذي ما أتاه إلا دعاة وأساتذة وأبطال الإسلام- من يشجع بعض المغنيين، فيؤيده وينشر محاسنه في الناس، ومناقبه وتاريخه في المجالس، وفي الحقيقة لا مناقب ولا محاسن ولا تاريخ، وينوه بأغانيه وهو ينشر الفاحشة والمعصية في المجالس والمنتديات، قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [المائدة:13] نعوذ بالله من اللعنة، هذه من علامة الاستمرار والجمود على المعاصي وعدم التوبة {لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13] القلوب القاسية أكثر ما يقسيها قواصم الظهر وهي المعاصي، يوم يقترف الإنسان من المعاصي العشرات في اليوم، ثم لا يستغفر ولا يتوضأ ولا يتوب، ولا يبكي ولا يندم، تجتمع عليه المعاصي فيطبع الله على قلبه فيصير ميتاً، فإذا صار ميتاً يرتكب كبائر الذنوب ولا يحس بها، يقول المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
الإنسان إذا مات وأتيت بخنجر تطعنه هل يحس؟! لا.
لأنه ميت.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[المؤمن يرى كأن ذنوبه جبل يريد أن يسقط عليه، والمنافق يرى كأن ذنوبه ذباب وقع على أنفه فقال به هكذا]] تجده يشرب الخمر ويزني ويفجر ويكذب، فإذا قلت له: اتق الله، قال: إن الله عفور رحيم، ما حفظ من القرآن إلا هذا المقطع، فإذا قلت له: اتق الله، قال: رحمة الله وسعت كل شيء، ونسي: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2] فهذا وأمثاله يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيهم: {لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13] والله لام بني إسرائيل، وقال للمؤمنين: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] ولكن أملنا الله في فضله، ورجانا في خيره وبره، فقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] بالأمطار، فيا من يحيى الأرض بالأمطار، فتنبت أنواع الأزهار والأشجار! نسألك يا واحد يا قهار يا غفار! أن تحيي قلوبنا بالإيمان، وأن تجعلنا من سكان تلك الدار.
هؤلاء هم المؤمنون، ولكنهم يخافون المعاصي.
{لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13] وقد وقع في هذه الأمة هذه الجزاءات، وقعت في أمة الرسول صلى الله عليه وسلم ووجد من لعنه الله، عالم لم يعمل بعلمه فاجر كبني إسرائيل، ووجد جاهل أعمى يعبد الله بالجهل فهذا قاسي القلب، ووجد من أهل البدع من يحرف الكلم عن مواضعه، يحرف الألفاظ والمعاني كما ذكر ابن تيمية.
{وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] نسيان العلم، ونسيان الفهم دليل على كثرة المعاصي، {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
أكبر ما يحبطك بعد النفاق، ويحبط مسعاك، ويعطل مستقبلك قاصمة الظهر المعاصي، وخاصة الكبائر.
لنعش مع الأنبياء ونسمع موقفهم من الذنوب، لنقول لذلك المترسل في الخطيئة، الذي انهمل في الذنب تلو الذنب، وذكرنا بالرجاء لكنه ما فتح لنا باب الخوف، لنقل: اسمع إلى إبراهيم عليه السلام، الذي أسس التوحيد، وبنى جداره، ونشر الحنيفية في الأرض، يقول عليه الصلاة والسلام في آخر دعائه {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] طمعاً، لم يقل: والذي يغفر لي خطيئتي يوم الدين، قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] وإنه والله رجاء، وإنها والله لوعة، وإنه أسى يوم يقول عليه السلام وقد جاهد وبنى البيت، ورفع علم لا إله إلا الله، ومد هذه الشريعة، وعمق هذا المبدأ، ثم يقول في الأخير، ويرفع كفيه وهو على شفير القبر، وفي سكرات الموت: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82].
يونس بن متى عليه السلام، خرج مغاضباً، وألقي في البحر، فأصبح في ظلمات ثلاث: ظلمة اليم، وظلمة الحوت، وظلمة الليل، فمن يذكر؟ لا زوجة ولا ولد ولا أهل، لا مال ولا منصب:
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] كلمة والله ما كأنه يوجد أروع منها في الإسلام! يقول عليه الصلاة والسلام: {ما من مهموم أو مغموم أو مكروب يقول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، إلا فرج الله همه، وأزال غمه وكربه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فاستجاب الله له؛ لأنه اعترف بذنبه، ففي هذه السكرات أعلن التوحيد، والله يقرن بين التوحيد والاستغفار، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فقال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] أنا مذنب، فنجاه الله، قال سبحانه: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144].
لماذا لم ينج الله فرعون وقد قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90] وهي: نفس الكلمة أو قريبة منها؟! لأنه أنكر الله في الرخاء.
وأما يونس عليه السَّلام فقد عرف الله في الرخاء، لأن له سجل حسنات وذكريات وأياماً محفوظة، وفرعون له أيام وصحائف سود، داس التاريخ تحت قدميه فلم ينفعه ذلك.
كثير من الناس وبالخصوص أهل الشباب والقوة والغنى لا يعرفون الله إلا إذا أصبحوا على الأسرة البيضاء في المستشفيات، كثير من الناس لا يعرفون الله إلا إذا أصبحوا شيوخاً كباراً، فيأتي الواحد منهم يراجع حسابه وهذا جيد، لكن أين قوتك وصحتك؟ وأين شبابك وفتوتك؟ هل استثمرتها في طاعة الله؟!
سليمان عليه السلام شكا المعاصي والخطايا فقال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35].
نوح عليه السلام ذكر قومه فقال: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12].(215/18)
الذنوب والخطايا المنتشرة اليوم
الخطايا التي تواردت في الساحة على الناس لا تعد ولا تحصى، ولكن أذكر ثلاثاً من الخطايا، أو ثلاثة مشارب تنضم تحت مظلة قاصمة الظهر:(215/19)
الأغنية الماجنة
وللمتسائل أن يتساءل: كيف جعلت هذا الحدث البسيط حدثاً كبيراً وهو ليس بالكبير! لكنه وجد أن هذه الأغنية الماجنة ركب عليها من المعاصي ما لا يعلمه إلا الله، سفور المرأة، التهاون بالحجاب، الخلطة، الاتصالات الهاتفية الغير مسئولة، جريمة الزنا، اختلاط الأنساب، موت الأعراض والضمائر، كله من أسباب الغناء.
قال ابن تيمية وابن القيم: "الغناء بريد الزنا" وهذان المُنَظِّران الكبيران العبقريان قد حذرا من هذه المغبة، وأمة جعلت قرآنها غناءها ووترها وموسيقاها، سوف تصل إلى الهاوية، لأنه يسبب العشق والوله، ويسبب التمرد على شرع الله، فالغناء يبغضك الطاعة والقرآن، ولذلك كان لبعض الناس كغلاة الصوفية غناء آخر، يأكلون قصع العصيد فإذا شبعوا قاموا يتراقصون على غنائهم، ثم يتكاوسون ويتساقطون، قالوا: مالكم؟ قالوا: سكرنا بحب الإله!!
وقالوا سكرنا بحب الإله وما أسكر القوم إلا القصع
فهذا هو غناؤهم، ولذلك من استعاض بالقرآن الغناء وقع في هذه وفي غيرها، ويصاب بمرض التهاون بالعبادات، فلا يأتي الصلاة إلا دباراً، يقول ابن القيم:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
والرسول عليه الصلاة والسلام أخبر وقال: {سيأتي أناس من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} واستحلالها لا يكون إلا بعد التحريم، وأمة لا تعرف إلا الغناء أمة ساقطة من المجد، متدهورة في عالم الحضارة، سبحان الله! كم خدر الشرق بل الشرق الإسلامي بالغناء الماجن، من المغنيين والمغنيات، وأما أعداؤنا من إسرائيل وأمثال إسرائيل فما عرف جيشها الغناء، في بحوث منشورة أن الغناء والموسيقى لا يدخلان الجيش الإسرائيلي، فما للمسلمين يدخلون الغناء ويسمعونه إلا من رحم ربك، وهذه المسألة خطيرة جد خطيرة.(215/20)
الصورة الخليعة
من قواصم الظهر التي انتشرت وأفسدت كثيراً من القلوب والأعراض والبيوت: انتشار الصور الخليعة الماجنة، والصور السخيفة المتبذلة، وهي تتمثل إما في منشورات أو في مجلات، وهذه ليست بالأمر السهل، فهي تحتاج إلى كلام طويل، لكنني أردت أن تكون تحت مظلة القاصمة الكبرى من القواصم وهي قاصمة المعاصي لانتشارها، وأخذها وعدم التهيب من الله عز وجل في تداول هذه المجلة بين الناس والنظر إليها، وهي من الفواحش الكبار، ومرض هواية القلب للصور مرض عجيب فتاك.
ذكر ابن القيم في مدارج السالكين هذا المرض، وهو الوله بالصور والعشق لها، وذكر من الخطورات ما لا يعلمه إلا الله حتى تصل بصاحبها إلى درجة النفاق.
من المسائل التي أريد التنبيه عليها أيضاً في آخر هذه المحاضرة شيئاً أشرت إليه في مقدمة الكلام، وهي مسألة الولاء والبراء.
ولاؤك أيها المصلي وبراؤك لمن يكون؟! الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] فمن تتولى؟ وممن تتبرأ؟
يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان} لا يكمل الإيمان حتى يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليك مما سواهما، وهو حديث أنس كما في الصحيحين: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يقول: {يا رسول الله! والله إني لأحبك أكثر من أهلي ومن ولدي ومن مالي إلا من نفسي، قال صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر! -أي ما استكملت الإيمان، ليس هذا هو المطلوب، ليس هذا هو الإيمان - حتى أكون أحب إليك حتى من نفسك، قال: فوالله -لا يعرف المجاملة- الذي لا إله إلا هو إنك أحب إلي حتى من نفسي} رضي الله عنه وأرضاه، وصدق والله.
وفي الترمذي عنه يقول: {ودعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعتمر، فقال وهو يودعني: لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك، قال كلمة لا أريد أن لي الدنيا وما فيها} وهذا غاية الحب.
فالولاء والبراء لا يكونان إلا لله، ولا بد أن يفهم هذا حتى عند طلبة العلم والدعاة، وانظر إلى من ضل عن الصراط في الولاء والبراء، وقد سبق أن أشرت إلى أن بعض الناس يجعل ولاءه لبعض الذوات أو الأشخاص أو الهيئات أكثر من ولائه لله، كالأندية وبعض المغنيين وبعض المجلات، فهو يجعل ولاءه لهذه الأمور أكثر من ولائه للواحد الأحد، أحد المجرمين الفسقة الفجار وهو نصيري يقول:
آمنت بـ البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني
والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يتولاه ويحاسبه بالعدل، ويخزيه وأمثاله ممن لم يعرفوا الولاء لمن يكون، والبراء لمن يكون، كل من أحب الله واقترب من الله وجب عليك أن تواليه، فإذا كان تحت مظلة الإسلام مصلياً للخمس، فلا تنظر إلى أي أسلوب ينتهجه في الدعوة، ولا لأي مشرب؛ لأن بعض الناس يجعل اعتباراته اتجاهات وأساليب الدعوة فيوالي قوماً، ويتبرأ من آخرين على حسابها، فهذا أواليه لأنه وافقني في أسلوب الدعوة، وهذا أعاديه لأنه خالفني ولو كان هذا المخالف أتقى وأزهد وأعبد من ذاك، اتق الله في نفسك، أهذا دين يضيع؟ أهذه أوراق تحرق؟ أهذه ألعوبات؟ هذا دين الله عز وجل.
فيا أيها المسلمون! هذه اثنتان من قواصم الظهر.
والكفر أمره بيِّن لكثرته وانتشاره في القرآن، ولم أشر إليه في العناصر إلا إشارة، أما النفاق والمعاصي فهي أكبر قاصمة من قواصم الظهر، بل هي قاصمة الظهر والدين، والأخلاق والشرف، يصاب الإنسان بمصيبة في ماله فيعدها القاصمة، يموت ولده فيعدها الرزية، لكن بعضهم يصاب بقواصم في اليوم الواحد في دينه وهو كالبهيمة لا يدري أنه أصيب.
أيها الفضلاء! أيها النبلاء!
أشكركم شكراً جزيلاً، ثم أشكر مركز الدعوة هنا بـ الدمام على أن تفضل ودعا وأحسن وأجاد وبذل وأعطى، نسأل الله تعالى أن يجزل المثوبة لكل من قدم شيئاً للإسلام، أو من رفع راية الإسلام، أو من أعطى في سبيل الله لرفع دين الإسلام.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(215/21)
الأسئلة(215/22)
الطريق الموصلة إلى العلم
السؤال
إني أحبك في الله يا شيخ وأريد أن أكون شيخاً، وأنا عمري أربعة عشر عاماً فما العمل لأكون شيخاً؟
الجواب
الحمد لله، أحبك الله الذي أحببتنا فيه، أما قولك كيف تكون شيخاً فللشيخ معنيان اثنان: المعنى الأول: الشيخ الكبير في السن:
زعمتني شيخاً ولست بشيخ إنما الشيخ من يدب دبيبا
فإن كنت تريد أن تكون شيخاً كبير السن فتعرض للشمس كثيراً، وحاول أن تتعب، وحاول أن تقلل من الأكل حتى تشيب وتقترب من القبر فتسمى شيخاً، ونسأل الله لنا ولك حسن الخاتمة، والشيب مذمة عند النساء، لكنه مفخرة عند الرجال:
عيرتني بالشيب وهو وقار ليتها عيرت بما هو عار
وهو وقار في الإسلام، وأنت إذا شبت في الإسلام شيبة جعلها الله لك نوراً كما جاء في الأثر، وهذا النور والوقار والعقل سمة المؤمن.
أما مقصودك وهو أنك تريد أن تكون شيخاً في العلم فعليك أن تأتي العلم من بابه، وذلك بأمور:
الأول: أن تتقي الله عز وجل في نفسك: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] فإذا اتقيت الله فتح لك السبل.
الثاني: أن تكثر من الاستغفار والتوبة، فإن الاستغفار يفتح الله به مغاليق القلوب، ويفتح به عليك ما لا يدور بالخيال، ولا يخطر بالبال.
الثالث: أن تنتهج التحصيل العلمي بوسائله الحديثة والقديمة، إن في مسجد في مسجد، أوفي كلية في كلية، أو ثانوية أو معهد، فتجمع بين هذا وذاك.
الرابع: أن تحفظ وقتك في التحصيل، فإنه لا يكفيك أن تأخذ من رءوس الشجر، كالشاردة من الإبل لا تأكل إلا من رأس الشجرة، بل ينبغي عليك أن يكون وقتك جميعاً للعلم، للتحصيل وللمذاكرة، جلاسك طلبة العلم، زيارتك مع طلبة العلم، تثير المسائل ذاهباً وآيباً، مسافراً وحاضراً.
الخامس: عليك بمنهجين، إما الحفظ أو الفهم، فإن كنت من أهل الحفظ وعندك دربة فابدأ ولا تُقدِّم على القرآن شيئاً، فابدأ بحفظه أو حفظ ما تيسر منه، ثم احفظ ما تيسر من الكتب كـ بلوغ المرام ورياض الصالحين وكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأمثالها من المختصرات، وأما الفهم فاقرأ، وأكثر من الاستغفار فسوف يفتح الله عليك، خاصة في كتب الحديث الستة، ومسند أحمد وتفسير ابن كثير، وكتب ابن تيمية، وابن القيم:
إذا أعجبتك خصال امرئ فكن مثله يك ما يعجبك
فليس عن المجد والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك
سوف تلقى العون والتسديد.(215/23)
الكتب التي أخذ منها الدرس
السؤال
هذا أخ يسأل عن الكتب التي تتحدث عن موضوع المحاضرة؟
الجواب
المحاضرة هذه جمعت من كتب، ومن قضايا موجودة، ومن استقراءات وتجارب، فهي ليست حفظاً من كتاب، ولكنها تدور في فلك الرقائق والتخويف من الذنوب، وأكثر من يتحدث عن هذا الجانب هو كتاب مدارج السالكين لـ ابن القيم، والفتاوى المجلد العاشر والحادي عشر لـ ابن تيمية، وكتاب جامع العلوم والحكم لـ ابن رجب، وتفسير ابن كثير فيه لمحات عن هذه القضايا خاصة في قضايا النفاق، هذه وأمثالها.
أما القضايا العصرية فهي موجودة لكتَّاب الإسلام كـ سيد وأبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي، وما يشابه هذه الكتب.(215/24)
حد الرياء وضابطه
السؤال
هل من الرياء إذا كان الأخ المسلم مع إخوانه زادت جذوة إيمانه، وإذا خلا مع إيمانه وجد في نفسه شيئاً من الضعف؟
الجواب
هذا السؤال يحتاج إلى تفصيل: إن كان هذا الشاب وحده ليس له أصل يعود إليه ولا يفعل شيئاً ولو حداً أدنى، ثم إذا وجد مع الشباب فعل شيئاً فهو بنيته، والظاهر أن من يفعل هذا بدون أن يكون له رصيد من العمل أن فيه رياء، فليحذر وليتق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فإن الأعمال بالنيات، والله أعلم بنيتك، فبعض الناس من عادته أنه لا يصلي الضحى، لكن إذا رافق الشباب في مركز أو مخيم أو رحلة قام يصلي الضحى لأنهم يصلون أو ليروه يصلي فهذا رياء وهو يدخل في باب الشرك كما تعرفون.
لكن القسم الآخر الذي يحتاج إلى تفصيل؛ مما عرف أن الناس يتعاونون على الخير وهذا ليس من الرياء، اجتماعك مع الناس في مجالس الذكر فتذكر الله أكثر، ذهابك مع بعض الشباب فتقوم الليل معهم لأنهم ساعدوك وعاونوك وعاملوك؛ خالصاً لوجه الله، هذا من علامات القوة والنشاط والإيمان، لا من علامات الرياء والسمعة.
ولكن هنا ضابط لا بد أن أذكره للإخلاص وهو أن تفعل مع الناس ما تفعله وحدك، إن كان من عادتك ومن هديك أنك تصلي الضحى فلا تتركها لأحد من الناس كائناً من كان، فإن العمل من أجل الناس شرك، وترك العمل من أجلهم رياء، والسلامة أن يعافيك الله منهما، إن كان من عادتك أن تصلي الليل فذهبت مع قوم فلا تخف أن يقولوا: إنك مراءٍ، فلا تصلي الليل، لا.
بل صل الليل، لكن إن كان من عادتك ألا تصلي الضحى وذهبت معهم وأردت مدحهم فتصلي الضحى لأجلهم فهذا هو الرياء والعياذ بالله.(215/25)
هل هو منافق من لم يثب وثباً للصلاة؟
السؤال
بعض الناس نومه ثقيل، وإذا جاء أحد يوقظه لصلاة الفجر لم يثب وثباً كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل هذا منافق؟
الجواب
الوثب مضى معه صلى الله عليه وسلم ومع القرن الأول، ونحن لا نقوم إلا سحباً، فالمقصود أنه جيد إذا قام الفجر ولو سحباً بأرجله إلى آخر الدرج ولا بأس، فإذا حضر الجماعة فلا يسأله الله عز وجل أقمت وثباً أو سحباً، فإنما ذكرت هذا لأنه في صحيح مسلم: {قال: إذا سمع الصارخ وثب} والرسول صلى الله عليه وسلم أدرى بمدلولات الكلمات وهذه الحركات، لكن في الأخير لا نقول هل قمت وثباً، أو قمت سحباً، أو قمت على جنب، أو على الأيدي أو الأرجل، إنما المقصود أن يصلي صلاة الفجر، وإذا صلى صلاة الفجر وداوم عليها فهو من أهل الخير والاستقامة والصلاح.(215/26)
كيف يعرف الإنسان إيمانه؟
السؤال
كيف يكتشف الإنسان أنه منافق أو مؤمن؟
الجواب
المؤمن يخاف من النفاق ويحذر منه، كلما عمل شيئاً راقب نيته وشك، وأتى فيه تذمر وتلوّم وعتاب لنفسه، وتمرير وشعور بالخطأ، فهذا هو الذي يشعر بالذنب، أما المنافق فلا يشعر بهذا أبداً، يأخذ الكبائر من الذنوب ويسحقها تحته، ويقول: أنا مخلص، تقول: أنت منافق؟ ويقول: لا.
أنا مخلص، تقول: أنت -يا أيها البعيد! - كاذب، ويقول: بل من الصادقين إن شاء الله، تقول: أنت تريد السوء للإسلام!! ويقول: بل أريد الخير: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12].
هذا ومن علاماته أيضاً: أن المؤمن يعرض نفسه على الكتاب والسنة، فيحذر من النفاق العملي؛ لأن النفاق الاعتقادي صاحبه والعياذ بالله، في الدرك الأسفل من النار، فلا يكذب إذا تكلم، ولا يخلف إذا وعد، ولا يغدر إذا عاهد، ولا يفجر إذا خاصم، ومثل هذا ونحوه.(215/27)
شروط جواز لعب كرة القدم
السؤال
أنا شاب ملتزم والحمد لله، ولكنني أحب نادياً معيناً، وأتمنى دائماً أن يفوز، وبعض الأحيان أشاهد مبارياته عن طريق التلفزيون، فما رأيكم في ذلك جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الأخ الذي ذكر هذا لا لوم عليه في هذا، لكن لا بد أن أفصل له الكلام، النوادي كنواد هي لا تحرم لأمكنتها، فأمكنتها مثل أمكنة مجالس الناس وبيوتهم، تراب وشجر وماء وحجارة، لكنها تأخذ الصفات لما يحدث فيها، وغالب النوادي إلا ما رحم ربك يخاف عليها من ثلاث قضايا كبرى:
أولها: مسألة الولاء والبراء، فهم في المعتقد يوالون ويعادون لغير الله، ويرضون ويغضبون لغير الله، ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها لغير الله عز وجل، وهذا ليس بصحيح، فهو خرم في المعتقد والتوحيد الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام.
ثانيها: ويخشى عليهم من قضية كبرى ثانية وهي قاصمة من قواصم الظهر وهي: ترك الصلاة، أو تأخيرها عن وقتها، فإذا أخرت عن وقتها حتى خرج لا يقبلها الله أبداً من أهل الملعب جميعاً، وهذا معروف، من ترك الصلاة بغير عذر حتى يخرج وقتها فقد انتهى، فصلاته انتهت فلا صلاة له، وهناك خلاف بين أهل العلم هل يقضي أو لا يقضي؟ ورجح كثير منهم ألا يقضي لأنه في تلك الفترة تركها متعمداً فهو كافر، لكن عليه أن يتوب ويعود إلى الإسلام.
ثالثها: قضية كشف العورة والتبذل في اللعب، والإسلام يأمر بالستر.
وهذه القضايا أكثر ما يدار في النوادي، فإذا خلت من هذه الأمور فهي كغيرها، بشرط أن تكون في وقت محدد، لا تطغى على وقت الجد، ولا تعارض الصلاة، ولا تدخل في المعتقد فيكون الولاء والبراء من أجلها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وتكون بلباس ساتر فلا بأس، ولا بأس أنك تحضر وتلقي كلمة، وتؤثر في الشباب؛ لأن بعض الناس يتوخى، أو إذا نظر إلى النادي من بعيد وقال: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) وهذا ليس بصحيح، الذي في المسجد لم يأت إلا ليصلي، ونحن لا نتكلم إلا في أهل المسجد، يصلون المغرب فنقوم بعد صلاة المغرب، فنقول: صلوا يا عباد الله! اتقوا الله لا يعذبكم الله بالنار، وهم أتوا يصلون قبل أن يسمعوا الكلام.
لكن أهل المقاهي أهل الملاهي أهل النوادي من يدعوهم؟ الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى سوق عكاظ وخطب، وسوق مجنة وذي المجاز، وعرض نفسه على العرب، فكان يأتي إلى السكارين المكارين الذين يعاقرون الخمر والكأس بأيديهم ويتكلم معهم صلى الله عليه وسلم، يدخل على المنافقين واليهود والنصارى ليعرض دينه وإسلامه، فالناس لا يأتونك وأنت في المسجد، ولا في زاوية المسجد ويسألونك: هل روى قتادة عن الأعمش أو الأعمش عن قتادة؟!! فهم ينتظرون من يأتي ليوصل لهم هذا الدين، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأب يوماً من الأيام وسيلة مباحة في خدمة الإسلام والدين.
أتاه ركانة وهو مصارع جهبذ كبير، فقال: لا أسلم حتى أصارعك!! وهو أقوى رجل في العرب، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم -ما دام أن فيها خدمة لرفع لا إله إلا الله وانتصار الإسلام فلا بأس- فصارعه، فصرعه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحمله ثانية صلى الله عليه وسلم وطرحه أرضاً، وثالثة: فأنزله أرضاً، فشهد أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله، وأن محمداً رسول الله.
فبعض الناس لا يدخل الإسلام حتى تكون أرجله فوق رأسه.
فالمقصود أن هذه من الوسائل المباحة، بشرط الوسائل.
وأنبه أهل النوادي إلى ألا يجعلوا النوادي غايات، فليست غايتنا أن نعلم الناس الكرة، فالأوروبيون علمونا الكرة، وبنوا لنا القصور ومدوا الجسور، فلن نغلبهم في هذه المستويات أبداً، والله لم يرسلنا للناس لنبني قصوراً، ونصنع لهم ثلاجات وطائرات وبرادات، لكنه أرسلنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَىَ لنهدي الناس، ولندلهم على طريق الجنة، ولنوجههم إلى الصراط المستقيم.
فقضية أن رسالتنا لعب كرة ليس بصحيح، بل رسالتنا دعوة، ومن وسائلنا الرياضة، فحبذا أن المنتخب إذا ذهب إلى أوروبا أن يحمل لا إله إلا الله محمد رسول الله، أحد علمائهم يقول: أهدينا لكم الثلاجة والبرادة والسخانة وما أهديتم لنا الإسلام.
أحد دعاة الإسلام سكن في ميونيخ في ألمانيا، فيوم سكن هناك رأى لوحة مكتوب عليها: أنت لا تعرف إطارات يوكوهاما، فكتب تحتها بالألمانية: وأنت لا تعرف الإسلام، إن كنت تريد أن تعرف الإسلام اتصل بتلفون كذا وكذا وأعطاه التلفون، فكانوا يتصلون عليه، فهدى الله على يديه مائتي ألف ألماني؛ لأن الناس ليسوا بحاجة إلى أن يعرفوا إطارات يوكوهاما، لكنهم بحاجة إلى أن يعرفوا طريق الجنة، وكيف ينجون بأنفسهم، كيف يخرجون بأنفسهم من النار والعار والدمار، هذا أمر، فأما أن نعلم الناس الكرة فهم الذين علمونا.(215/28)
ماهية الرياء
السؤال
إذا وجد الإنسان بعض الصفات التي قلتها في نفسه، ولكنه لم يقصد الرياء أو النفاق أبداً؟
الجواب
لا أعرف ما تريد، تقول: وجدها في نفسه ولم يقصد، هو لم يجدها إلا لأنه فعلها: قال الجدار للوتد: لم تشقني؟ قال: اسأل من يدقني.
فكيف يكذب ويقول: أنا لا أقصد الكذب؟! إنسان أتى فصفعه أخاه في الله، يحبه في الله كثيراً لكنه صفعه على وجهه فغضب أخوه وقال: مالك؟ قال: أحبك في الله، وإنما ضربتك على وجهك وأنا لا أقصد هذا.
وبلورة هذه الأمور إلى نيات ومقاصد هو من فعل أهل الابتداع والمعاصي، لماذا لا تصلي في المسجد؟ قال: يعلم الله أني أحبه، والله أدرى بالمحبة، لكن ما استطعت، ولو كان محباً لأتى.
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
فأنا لم أفهم هذا السؤال، إلا أنك لو فعلت ذلك فهذه العلامات فيك، ولو أنك أنكرت بلسانك.(215/29)
المؤمن قد يصاب أحياناً بالرياء والنفاق
السؤال
هل يصاب المؤمن ببعض النفاق أو الرياء أحياناً؟
الجواب
نعم.
يصاب المؤمن ببعض النفاق والرياء أحياناً، وهي نسب متفاوتة، فبعضهم يأخذ المركز الأول في مسألة النفاق، فلا ينافسه ولا يسابقه أحد عليه، ومنهم من يأخذ المركز الثاني والثالث والمائة وبعد المائة، فالناس نسب، ويخلص منهم قوم قليلون صادقون متقون، ولكن كفارة الرياء أن تستغفر وأن تقول: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم} وأن تعرف أن النافع الضار، الخالق البارئ، المحيي المييت هو الله عز وجل، الذي يثيبك ويجازيك.(215/30)
صور الشعور بالنقص وحكمها
السؤال
أحدهم لديه مشكلة وهي أنه يحس أحياناً بالتقصير بين زملائه، فدائماً يشعر أنه ناقص بينهم، فما هو الحل؟
الجواب
إن كان شعورك بالنقص في الدين فهذا من الخير لك، وهذا من عظمتك ومستقبلك؛ لأن المؤمن يشعر بالنقص في دينه دائماً، وهذا أمر طيب، وأبشر بخير، وعليك أن تستشعر هذا، لكنها لا تقعدك ولا تحبطك عن مسيرتك، واصل واتق الله، وزد من الأعمال الصالحة واشعر بالنقص دائماً.
وإن كان نقصك وشعورك بالنقص لأمور دنيوية فليس بصحيح، تشعر أن هذا لونه أبيض وأنت لونك أحمر، أو هذا أطول وأنت أقصر، أو هذا من أسرة كذا وأنت من أسرة كذا، نحن في الإسلام ليس عندنا معامل ولا ألوان ولا دماء ولا أجناس، بل نحن نتعامل مع آية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
بلال عبد وقصره في الجنة كالسحابة البيضاء، أبو لهب قرشي هاشمي يتردى ويعذب في النار أبد الآبدين.
فإن شعرت بالثاني فأنت مقصر ومخطئ وعليك أن تتوب، وإن شعرت بالأول فأنت فائز مفلح عليك أن تواصل.(215/31)
من أشكال التحريف اللغوي المعاصر
السؤال
إن بعض الناس يقولون: إن كلمة (مطوع) معناها حمار، فهل هذا صحيح؟
الجواب
افترى من قال هذا الكلام، وهذا أحد رجلين: إما رجل جاهل لا يعرف اللغة العربية، أو رجل يريد أن يرد على كلمة الفنان أنه الحمار المخطط، فيريد أن يرد الكُرة في مرمانا مرة ثانية.
لكن نقول: من حيث اللغة العربية والإسلام هذا ليس بصحيح، فمطوع كلمة عامية مأخوذة من الطائع لله عز وجل، وقد سماه العوام وبذلوها لكل من استقام، وأخذها أهل الاستهزاء لكل أحد من العلماء والدعاة والملتزمين والأخيار.
ومفهوم المخالفة أن الناس قسمان: مطوع وعاصٍ، فأما هذا فطائع فنسميه طائعاً، وأما ذاك فنسميه عاصياً، لكنه لا يقول لأحدكم (مطوع) ثم يسكت، لا.
بل قل: وأنت عاصٍ.(215/32)
حكم مشاهدة المصارعة على التلفاز
السؤال
ذكرت في محاضرتك مصارعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يفهم من ذلك جواز مشاهدة المصارعة في التلفزيون؟
الجواب
سبحان الله!
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
تأتي برسول البشرية ومعلم الإنسانية وهادي الناس جميعاً ومزعزع كيان الوثنية صلى الله عليه وسلم إلى أناس ليس لهم مبادئ ولا أخلاق، ولا إيمان ولا حب، ولا طموح ولا رسائل في الحياة، يأكل أحدهم كما يأكل الحمار، ويركض كما يركض الحمار، ويتعرى كما يتعرى الحمار ويصارع!! وتجوِّز هذا بهذا لشتان!! وهذا لا يحتاج إلى كثير من التعليق، فالحقائق موجودة والواقع يشهد ولن نطيل الكلام.(215/33)
حكم المغازلة
السؤال
لي أصدقاء يقولون: إن المغازلة حلال، فلم تحرمون -يا شيوخ- الحلال، فما رأيكم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذه الأسئلة بعضها يحتاج إلى تحقيق، لا أدري من أين تخرج هذه الأسئلة، أما أن المغازلة حلال، فقد افترى على الله عز وجل، وافترى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وافترى على الإسلام، وكذب وأخطأ، وأفك وأثم، فعليه أن يتوب ويستغفر الله عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116] وهذا الأمر من أنجس الأنجاس، ومن أشد الحرام، ومن أبعد الأمور عن الله عز وجل، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا كما يفعله الذين يفعلون الفاحشة ويقولون: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28].
إذاً: فقد كذب هذا الذي قال إنها حلال، لا والله ما أحلها الله، ولا أحلها رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أحلها دين الله ولا كتابه ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يحلها عالم المروءة والأدب وعالم النخوة والتحفظ حتى في غير أمة الإسلام.
فهذا الأخ عليه أن يتقي الله، وأن يعلم أن هذا الدين دين أصالة، ودين رسالة خالدة، ليس تفكهاً.
وأنا إذا أوردت بعض الدعابات فهي من قضية الدرس أن يعرض هكذا، والدعابة واردة، لكن في حدود الدعابة، أما أن يتطاول إلى هذا الجدار الذي لا يخترقه الصوت والذي دونه السيوف وخرط القتاد، فيأتي إلى أن ينقض قضاياه فهذا كفر ونفاق، والعياذ بالله.(215/34)
دعوة الكفار إلى الإسلام
السؤال
يوجد معنا في العمل أجانب كفار أمريكان وإنجليز وفلبينيين وغيرهم، وندخل ونخرج ولا نقول لهم أي كلمة في الدعوة إلى الإسلام؟ فهل علينا ذنب إذا لم ندعهم إلى الإسلام؟
الجواب
لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، من حيث الأصل أن تدعوهم وأن تكون داعية لهم إلى الإسلام، هذا من حيث الأصل، لكن هذا الأصل يختلف باختلاف الناس وطاقاتهم وأحوالهم، إن أعطاك الله عز وجل قوة في الدعوة، وأعطاك لغة وأسلوباً فعليك أن تدعو، وكل بحسب طاقته وجهده، وأنا أدعوك أن تكون داعية لهم، ولكن بالتي هي أحسن، تبصرهم بمحاسن الإسلام، تدعوهم تدريجياً إلى دين الله عز وجل، تحبب لهم هذا الدين الخالد بهذا الأمر.
أما إذا عجزت، فلم يكن عندك لغة تخاطب، ولا تستطيع هذا، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وعليك أن تتقي الله في دينك، وأن تحفظه منهم، والله معك.(215/35)
حتمية تنظيم المحاضرات والدروس
السؤال
ديننا دين النظام والترتيب، ولكن في التجمعات الإسلامية مثل هذه المحاضرات والدروس يلاحظ عدم الترتيب والنظام، وذلك والله أعلم راجع لعدم فهمهم للإسلام فهماً كلياً، فهل من توجيه لهؤلاء؟
الجواب
أنا أؤيد ما قاله الأخ، وهذه حقائق موجودة في الإسلام أنه دين النظام، في البداية والنهاية لـ ابن كثير أن سعداً رضي الله عنه لما حضر بالمسلمين في معركة القادسية كانوا ثلاثين ألفاً، فقام يصلي بهم، فكلما كبر كبروا، وهذا هدي الإسلام في الصلاة مع الإمام، وكلما ركع ركعوا، وكلما رفع رفعوا، ورستم قائد الفرس ينظر إليهم من وراء جبل، فلما رآهم في هذا النظام العجيب عض على أنامله وقال: علم محمد الكلاب الأدب، وهو الكلب، بل علم صلى الله عليه وسلم الأمة الأبيض فيها والأسود الأدب والإيمان، والحب والطموح: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
وحبذا أن نكون أهل نظام، وترفع، ورقة، ومسارات صحيحة، نأخذ أدبنا من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ لأننا نعرض الإسلام على الناس، والإسلام لا يعترف بالدروشة، بعض الناس يظن أنه إذا خرب هيئته، وعكس غترته، وقلب طاقيته أن الله يرفع درجاته في الجنة!! لا.
لا يدخل الإنسان الجنة إلا بالإيمان والعمل الصالح، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث حسن: {تزينوا حتى تكونوا كأنكم شامة في عيون الناس} ويقول في صحيح مسلم: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: يا رسول الله! إني أحب أن تكون نعلي جميلة، وثوبي جميلاً، أفمن الكبر ذلك يا رسول الله؟ قال: لا.
إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} أي: رد الحق وازدراء الناس.
فأنت لا بد أن تكون مهذباً في جلوسك ومسيرتك، وخروجك ودخولك حتى تظهر أن هذا دين الإسلام والروعة والنظام.(215/36)
تعريف بالشيخ عائض وبعض قصائده
السؤال
فضيلة الشيخ: هلاّ عرفت لنا نفسك؟ وكم قصيدة ألفت؟ وهل تكرمنا بسماع بعض الأبيات التي من إنشائك؟
الجواب
أما التعريف فأمر سهل، لكن القصائد هي على اختيار الإخوة؛ إن كان عندهم رغبة ويحددون بعض القصائد أورد ذلك إن كان في الوقت متسع:
أخوكم في الله عائض بن عبد الله القرني هذا التعريف.
أما مسألة المواليد فهذه تاريخ الأموات لا تاريخ الأحياء، ولم يقل متى ولد عمر بن الخطاب؟ وهم من عظماء الإسلام، ونحن من نحن معه! ولكن اهتم المسلمون كثيراً بالمواليد في التواريخ ماذا أكل وماذا شرب، وماذا تغدى، وكيف نام، وكيف ذهب، وهي تواريخ الأموات، إنما تاريخ الأحياء: ماذا عمل للإسلام؟ ماذا قدم في رفع لا إله إلا الله؟ هذا تاريخ الأبطال من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
أما القصائد فلدي قصائد، منها قصيدة للأمة الإسلامية وعنوانها: أمريكا التي رأيت، وقصيدة البازية للشيخ عبد العزيز بن باز، وقصيدة لأهل القصيم.
فأما قصيدة أمريكا التي رأيت فهي قصيدتان، جدية وهزلية، أما الهزلية فلا أذكرها، وأما الجدية فهي تخاطب الأمة الإسلامية:
يا أمة ضرب الزمان بها جموح المستحيل
وتوقف التاريخ في خطواتها قبل الرحيل
سكبت لحون المجد في أذن المجرة والأصيل
وسقت شفاه الوالهين سلافة من سلسبيل
يا أمة كم علقوا بكيانها خيط الخيال
وهي البريئة خدرها فيض عميم من جلال
شاهت وجوه الحاقدين بكف خسف من رمال
موتاً أتاتورك الدعي كموت تيتو أو جمال
يا أمة في عمرها لم تحي إلا بالجهاد
كفرت بـ مجلس أمن من نصب المنايا للعباد
القاتلي الإنسان خابوا ما لهم إلا الرماد
جثث البرايا منهم في كل رابية وواد
كانت هناك زيارة لـ أمريكا، فقلت: أني ما زرتها لأجلها ولكن من أجل مقاصد أخرى:
ما زرت أمريكا فليـ ست في الورى أهل المزار
بل جئت أنظر كيف ند خل بالكتائب والشعار
لنحرر الإنسان من رق المذلة والصغار
وقرارنا فتح مجيد نحن أصحاب القرار
ورأيت أمريكا التي نسجوا لها أغلى وسام
قد زادني مرأى الضلال هوىً إلى البيت الحرام
وتطاولت تلك السنون فصار يومي مثل عام
ما أرضهم أرض رأيت ولا غمامهم غمام
وأما قصيدتي في الشيخ الفاضل الوالد عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فأنا مسبوق وقد تكررت في مناسبات، ولكن لا بأس أن تتكرر، والشيخ ممدوح بقصائد كثيرة أذكر بعض مقتطفات، يقول المجذوب في مدحه:
روى عنك أهل الفضل كل فضيلة فقلنا حديث الحب ضرب من الوهم
فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سمعنا به في العلم والأدب الجم
فلم أر بازاً قط من قبل شيخنا يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي
وقال عالم المغرب المحدث تقي الدين الهلالي:
خليلي عوجا بي لنغتنم الأجرا على آل باز إنهم بالثناء أحرى
وزهدك في الدنيا لو أَنَ ابن أدهم رآه رأى فيه المشقة والعسرا
وأما البازية فقلت فيها لسماحته:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي
يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل السافي
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافي
مجالس اللغو ذكراهم وروضتهم أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي
وأنت جالست أهل العلم فانتظمت لك المعالي ولم تولع بإرجاف
وتعرفون كلكم الصحيحين والذي لا يعرف الصحيحين كأنه لا يعرف شيئاً
بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الطل في إشراقه الضافي
تشفي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم دُراً غير أصداف
أقبلت في ثوب زهد تاركاً حللاً منسوجة لطفيلي وملحاف
تعيش عيشة أهل الزهد من سلف لا تبتغي عيش أوغاد وأجلاف
أراك كالضوء تجري في محاجرنا فلا تراك عيون الأغلف الجافي
كالشدو تملك أشواقي وتأسرها بنغمة الوحي من طه ومن قاف
ما أنصفتك القوافي وهي عاجزة وعذرها أنها في عصر أنصاف
يكفي محياك أن القلب يعمره من حبكم والدي أضعاف أضعاف
يفديك من جعل الدنيا رسالته من كل أشكاله تفدى بآلاف
أما قصيدة أهل القصيم، فكانت زيارة لـ بريدة وعنيزة:
قل للرياح إذا هبت غواديها حيي القصيم وعانق كل من فيها
كان عندي مقطوعة وقلت بالمناسبة أن يكون نادي الاتفاق
فما أتى الوفاق لنادي الاتفاق فما كان هناك سلام ولا عناق
فجعلنا هذه القصائد حتى يتسنى لنا في اجتماع آخر لنحيي هذه الوجوه، أهل الدمام والظهران والأحساء والجبيل ومن جاورهم من الأعراب، فالمقصود:
قل للرياح إذا هبت غواديها حيي القصيم وعانق كل من فيها
واكتب على أرضهم بالدمع ملحمة من المحبة لا تُنسى لياليها
أرض بها علم أو حاذق فطن يروي بكأس من العلياء أهليها
عقيدة رضعوها في فتوتهم صحت أسانيدها والحق يرويها
ما شابها رأي سقراط وشيعته وما استقر ابن سينا بواديها
سقراط المجرم الذي أفسد عقائد الناس، هذا تعليق على الشعر
ما شابها رأي سقراط وشيعته وما استقر ابن سينا بواديها
ولـ ابن تيمية في أرضهم علم من الهداية يجري في نواحيها
إذا بريدة بالأخيار قد فخرت يكفي عنيزة فخراً شيخ ناديها
محمد الصالح المحمود طالعه البارع الفهم والدنيا يجافيها
له التحية في شعري أرتلها بمثل ما يعزف الأشواق مهديها
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(215/37)
تحريم التمييز العنصري
لقد كثر في هذه الأيام التحدث عن القومية العربية التي تعتبر دعوة عنصرية، ولكن دين الإسلام يحرم هذا التمييز العنصري، فالنبي صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً على أبي ذر عندما قال لبلال: يا بن السوداء.
وقال له النبي صلى الله عليه وسلم (إنك امرؤٌ فيك جاهلية) وهذا يدل على عظمة هذا الدين وإلى عدله وسماحته.(216/1)
المجاهدون الأفغان
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً ومنيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وسلم ما تضوع مسك وفاح، وما غرد حمام وصاح، وما شدا طير وناح، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الصائمين المصلين المجاهدين وسلم تسليماً كثيراً.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وحي الله من حيانا.
إن السلام وإن أهداه مرسله وزاده رونقاً منه وتحسينا
لم يبلغ العشر من قول يبلغه أذن الأحبة أفواه المحبينا
آخيتمونا على حب الإله وما كان الحطام شريكاً في تآخينا
ولقد أحسنتم يوم قرأتم في صلاتكم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] أنا أريد أن أتحدث عن المجاهدين الأفغان، فوافقني الإمام في قراءة هذه الآية وسبق لي البارحة أن تحدثت قبل الدرس عنهم؛ لأن العالم يقف مشدوهاً، شاخص الأبصار، وينظر إلى السجدات الإيمانية، وينظر إلى البطولات الإسلامية، ينظر إلى أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
في فتية من بني الأفغان ما تركت كراتهم للعدى صوتاً ولا صيتاً
قوم إذا قابلوا كانوا ملائكة حسناً وإذا قاتلوا كانوا عفاريتا
نعم إنه الإيمان، وإنه الإيمان الخالص، الذي يقول لأصحابه، قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، أتت روسيا الملحدة الكافرة الزنديقة تحارب الله من فوق سبع سموات، فخرج المتوضئون المصلون الصائمون المجاهدون يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174] يذبحون الروس على الطريقة الإسلامية، وهذا جائز عند الناس أن يذبح الكافر على الطريقة الإسلامية، ومن قال لك: إن ذبحه حرام؟!
بل يجوز بالإجماع، بإجماع المجاهدين الأفغان، وفر الروسي وهو يجر ذيل الهزيمة والخيبة واللعنة: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16] واقترب فتح كابل فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ياويلنا قد كنا في غفلة من هذا، بل كنا قوماً ظالمين.
أيها الإخوة! أيها الأبرار! أيها الصالحون! إن النصر يطلب من فوق سبع سموات: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160].
وقد جربنا مع إسرائيل أكثر من ثلاثين سنة، لكننا ما أخذنا النصر من فوق سبع سموات، طلبنا النصر من جنيف، فما أتى نصر، وطلبناه من هيئة الأمم المتحدة، فما أتى نصر، وطلبناه من مجلس الأمن، فما أتى نصر.
أما المجاهدون فقال لهم الناس: تعالوا إلى مجلس الأمن، قالوا: كفرنا بـ مجلس الأمن وآمنا بالله وحده، قالوا: تعالوا إلى جنيف، قالوا: كفرنا بـ جنيف وآمنا بالله وحده، تعالوا إلى هيئة الأمم المتحدة الظالمة المشاغبة، قالوا: كفرنا بـ هيئة الأمم المتحدة، وآمنا بالله وحده، فانسحب أعداؤهم.
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقت بالكلاشنكوف نيران
يسعى فيعثر في سروال خيبته في أذنه من رصاص الحق خرسان
والآن تشرف طلعات الإيمان، ويشرف العلم، وتشرف طلعات خالد بن الوليد، وسعد وصلاح الدين.
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
وإذا نزل القرآن والحديث والسنة والإسلام في الساحة، لم يبق مارد ولاجبار ولا عاتية ولا طاغية أبداً، بل ينصر الله من يشاء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
هذه مقدمة، وحديثنا الليلة.(216/2)
النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث إلى النساء
طلب مني بعض الأخوة، أن نعود بشيء من العود إلى درس البارحة؛ لأنه يهم النساء، يهم بنات حواء، ويهم حفيدات أسماء وزينب، هو حديث عن النساء، ولكنني لا أذكره كله؛ لأن المكرر مغرر، والنفس مولعة بمعاداة المعاد، وإعادة الحديث على الرجال أثقل من حمل الصخور من الجبال، لكنني أعود بشيء من الإيجاز بقالب آخر، يقول البخاري رحمه الله رحمةً واسعة: باب كفران العشير وكفر دون كفر، حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أُريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن، قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً، قالت: مارأيت منك خيراً قط} وهذه رواية ابن عباس والبخاري يقول في الباب نفسه عن أبي سعيد الخدري، أي: أنه ورد عن هذا وورد عن ذاك، وهذا الحديث يحمل الرقم السابع والعشرين، وقد سبق شرحه في مكة الليلة البارحة، لكن أعود بإيجاز، خرج صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس صلاة العيد فلما لبس لباس الجمال ووقف أمام المصلين يحيى القلوب.
كما قال شوقي:
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
فلما انتهى من الرجال، قال لـ بلال: {انصرف بنا إلى النساء، لنحدث النساء} إنه رسول الرجال والنساء، إنه داعية الرجل والمرأة، إنه الذي أحيا الجيل عليه صلاة الله وسلامه، فاتكأ على كتف بلال بيده الشريفة، وكان النساء يخرجن إلى المصلى في صحيح البخاري من حديث أم عطية: {أمر صلى الله عليه وسلم النساء أن يخرجن وأن تعتزل الحيض المصلى} فالمرأة لها أن تحضر الدروس الإسلامية والمحاضرات، محتشمة متحجبةً عاقلةً حافظةً للغيب بما حفظ الله.
لتسمع كلمات النور والهداية، لتسمع كلمات الإيمان، وتتأثر؛ لأن جلوس المرأة في بيتها، ثم لا تصلها دعوة ولا نور ولا إيمان ولا قال الله ولا قال رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس بصحيح، والمرأة نصف المجتمع أو أكثر، فمن هذا الدرس نأخذ أن الرسول عليه الصلاة والسلام تحدث إلي النساء وتكلم في النساء، وخاطب النساء، أتى إليهن، فوقف عليهن صلى الله عليه وسلم، فكان أول ما تكلم به بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله أن قال وهذا في حديث أبي سعيد: {تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة -عاقلة رشيدة جريئة شجاعة- وقالت: ولم؟ -لم يا رسول الله نحن أكثر أهل النار؟ - قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير} ثم بين عليه الصلاة والسلام السبب.(216/3)
ما يستفاد من حديثه صلى الله عليه وسلم للنساء
وفي هذه الأحاديث حديث أبي سعيد، وحديث ابن عباس دروس للنساء، ألقيها موجزةً لأدخل درس هذه الليلة، درس جدة.
الدرس الأول للنساء: أن عليهن أن يتقين الله عز وجل وأن يكثرن من الصدقة، والسبب في مخاطبتهن بالصدقة؛ لأنهن كثيرات الغفلة، وكثيرات السهو وكثيرات السب والشتم، وجحدان المعروف، ونكران الجميل، فعليهن أن يكثرن من الاستغفار والصدقة، أن تبذل إحداهن من حليها من قميصها من دراهمها، من مالها من جاهها لمن يستحق ذلك والله يأجرها.(216/4)
الإسلام يهتم بالمرأة
الدرس الثاني: اهتمام الإسلام بالمرأة، وما افترس مجتمعنا ولا ضاعت قيمنا ولا ضاع شبابنا؛ إلا يوم ضاعت المرأة، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {ما تركت بعدي أضر على الرجال من النساء} ويوم خرجت المرأة متبرجةً سافرةً، تحضر الولائم الداعرة، المغضبة لله عز وجل؛ حينها انطلقت العيون، وحينها ذهبت القلوب وشردت الأرواح.(216/5)
واجب على المرأة أن تطلب العلم الشرعي
الدرس الثالث: أن على المرأة أن تجتهد في طلب العلم الشرعي، وأن تسأل عن أمور دينها، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام سألته النساء في حياته، وقد سلف معنا نماذج من ذلك، لا أكرر هذا، بالإمكان أن يجدن الشريط أو شريط أحد الإخوة الدعاة، فإن في ذلك بياناً، فلا تستحي المرأة من الحق أن تسأل عالماً أو داعيةًَ، أو تستفسر حتى تعبد الله على بصيرة، في أمورها في طهرها في حيضها، في صلاتها في صيامها، وهذه هي المرأة المسلمة.
وكذب من يقول: أن الإسلام لم يهتم بالمرأة، كذب أعداء الله، والله ما عرف حق المرأة إلا الإسلام، والله ما أقام للمرأة حقاً إلا الإسلام، ومن أعظم حقوق المرأة، أن تكون درةً وجوهرةً في بيتها، محميةً محجبةً محروسةً، ولكن دعاة الباطل يريدون الفاحشة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
يقول شاعرهم الماجن المتهتك الداعر:
مزقيه مزقيه
يعني الحجاب.
ويقول الآخر: المرأة في بلادنا ما زالت متخلفة!
متخلفة يا عدو الله يوم تحافظ على صلواتها الخمس؟! ومتخلفة يا عميل الشيوعية يوم سجدت لله، وطهرت قلبها وأحصنت فرجها، وحفظت بيتها وربت أبناءها؟! لقد أخطأت كل الخطأ، بل هي متقدمة حرة جوهرة مصونة، فاستحي من الله تبارك وتعالى.(216/6)
الحديث الأول عن تحريم التمييز العنصري وشرحه
وأعود إلى هذه الأحاديث التي معنا هذه الليلة، الحديث الثامن والعشرون: عن أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه قال: {ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال لي صلى الله عليه وسلم: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤٌ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه ما لا يطيق، فإن كلفتموهم فأعينوهم} هذا الحديث في البخاري من رواية أبي ذر، وهو الذي معنا.
وعنوانه تحريم التمييز العنصري، عنوان هذا الحديث تحريم التمييز العنصري، يقول أبو ذر: {ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال لي صلى الله عليه وسلم: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل وليبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون، فإن كلفتموهم فأعينوهم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
السؤال
من هو الرجل الذي سابه أبو ذر؟
ثم كيف يكون في أبي ذر جاهلية وهو من خواص الصحابة والمقدمين في الصحابة ومن الزهاد والمجاهدين والعباد؟
ثم نبذة عن أبي ذر وحياته، ثم مسائل عن موقف الإسلام من التمييز العنصري، والطبقات واختلا ف الدماء والألوان والصور.
أولاً سياق القصة في غير البخاري:
اجتمع خالد بن الوليد في مجلس عسكري رهيب، مع كبار الصحابة، يريد غزوة من الغزوات، ولما انعقد المجلس تكلم الناس -أنا لا أعرفكم بـ خالد بن الوليد أنتم كلكم تعرفون خالداً، هو قائد وهو رئيس المجلس والجلسة- فلما دار الأمر والرأي، تكلم أبو ذر بكلمة، فعارضه بلال بن رباح، داعية السماء مؤذن الإسلام، الذي أذن في أذن المدينة، فانسلخ الشرك من أخمص قدميها إلى مشاش رأسها، فاستفاقت على أذان جديد ملأ آذانها أذان بلال.
قم يا بلال أعد نشيدك في الورى للعالمين وسجل الإنذارا
ودع التماثيل التي صورت جذذاً ومزق عبدها الخوارا
وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا
بلال جاء من الحبشة يريد النور والهداية، وأبو طالب وأبو لهب لم يهتديا لكن بلالاً عرف الحق واليوم الآخر وعرف طريقه إلى الجنة، فعارض أبا ذر في رأيه، فغضب أبو ذر، وكان في أبي ذر رضي عنه حدة وسرعة غضب، وهذا فيه دليل على أن الأولياء قد يكون فيهم حدة وغضب، وقد يكون الولي بخيلاً، وقد يكون جباناً، ولكن لا يكون كذاباً.
فلما عارضه، قال أبو ذر: حتى أنت يا بن السوداء؟! وهذه كلمة غير صحيحة، بل كلمة خاطئة، هذه كلمة لا تصدر في مجتمع مسلم رباه الرسول عليه الصلاة والسلام، لون بلال أدخله الجنة، لكن ليس للونه بل لعقيدته ولمبدئه دخل الجنة، وأين لون أبي طالب وأبي لهب وأبي جهل، أما دخلوا وهم بيض مصاقيع النار!، ما نفعهم لونهم عند الله.
وفي صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم} أيقال في المجتمع المسلم الذي رباه صلى الله عليه وسلم (يا بن السوداء)؟!
وقال بلسان الحال أنت يا أبا بكر، أنت يا أبا بكر القرشي، أخ لـ بلال الحبشي، وأنت يا عمر الكعبي أخ لـ سلمان الفارسي، أنت يا علي بن أبي طالب الهاشمي أخ لـ صهيب الرومي.
هذا هو الإسلام: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103].
توقف المجلس على غضض وانسل الناس من أمكنتهم وقام بلال سريعاً إلى من يطرح القضية؟!
هذه قضية الساعة لا بد أن تدرس، ذهب إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام، وشكا إليه أبا ذر وقال: قال كذا وكذا يا رسول الله، فغضب عليه الصلاة والسلام وتغير وجهه وتحير من هذه الكلمة، واستدعى أبا ذر ليحاكمه.
إن هذه الكلمة تعارض رسالته صلى الله عليه وسلم، تعارض الإسلام، إنها تعارض كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ أما هذه الدعوة، فدعوة التمييز نابليون وهتلر وأتاتورك وغاندي، أعداء البشر، وأذناب العمالة، أحفاد الشيوعية.(216/7)
النبي صلى الله عليه وسلم يغضب من أبي ذر
أما محمد عليه الصلاة والسلام، فأتى بمبدأ الولي حبيب لله ولوكان بعيداً مبعداً خادماً، وعدو الله بغيض مبعد ولو كان سيد قريشٍ، فاستدعى الرسول صلى الله عليه وسلم أبا ذر، فدخل فسلم على الرسول عليه الصلاة والسلام، في بعض الروايات قال أبو ذر: لا أدري هل رد علي أم لا من الغضب؟
بلغ الغضب به صلى الله عليه وسلم منتهاه، ثم التفت إلى أبي ذر فقال له: أعيرته بأمه؟
أعيرته بأمه؟
إنك امرؤ فيك جاهلية، قال: يا رسول الله! -وأتى بها ابن حجر في الفتح - أعلى كبر سني يا رسول الله؟!
يقول: أنا جاهل وأنا كبير السن، أصبحت شيخاً كبيراً أبيض اللحية، أصبح جاهلاً، يظن الجهل من صغر السن قال: نعم إخوانكم خولكم؛ ثم ساق صلى الله عليه وسلم الحديث، وفي هذا قضايا:-(216/8)
الجاهلية تطلق على عدة معانٍ
إطلاقه صلى الله عليه وسلم لفظ الجاهلية على أبي ذر، معناه أنت امرؤ ما زالت فيك شعبة من شعب الجاهلية الوثنية، التي كانت قبل الإسلام وقبل لا إله إلا الله، قبل أن تأتي الدعوة الخالدة، والجاهلية أطلقت في القرآن في عدة مواضع: {فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح:26] فهي الانتصار للباطل، والحمية على الباطل تسمى جاهلية.
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] فالخروج على الحدود وعلى أحكام الله جاهلية.
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] فمن ابتغى حكماً غير حكم الله، فهو جاهلي، والمجتمع الذي يبتغي حكماً غير حكم الله مجتمع جاهلي، وأحد الكتبة المشكورين المأجورين ألف كتاباً بعنوان (جاهلية القرن العشرين) فالمجتمع الذي يريد حكماً غير حكم الله جاهلي، والإنسان الذي فيه شيء من أوضار الجاهلية والوثنية فيه شعبة من شعب الجاهلية، والمرأة التي تتبرج وتخرج على الحجاب تعيش في فترة جاهلية، وهي جاهلية أيضاً.
هذا قوله صلى الله عليه وسلم: {إنك امرؤ فيك جاهلية} لماذا قال له صلى الله عليه وسلم: إنك امرؤ فيك جاهلية؟
لأنه سبه بشيء لا ينبغي أن يسب به، ترك مكارم بلال، ترك أن بلالاً استجاب للإسلام، ونسي أنه سجد لله، وأنه مؤذن الإسلام، نسي أنه مجاهد، وأتى بأشياء ليس فيها عيب، أتعيب الإنسان بلونه؟!
أأنت الذي خلق أم الله؟!
لونه لا يزيد فيه ولا ينقص، نحن لا نعترف بالألوان، واختلاف الألوان، واختلاف الدماء، ودعاة القومية قاتلهم الله أنى يؤفكون، يقولون: الدم العربي، اللسان العربي، العنصر العربي، وهذه دعوة أتاتورك، يوم جعلها تركية، قاحلة قبيحة.
ودعوة غاندي يوم جعلها هندية، فنحن نقول: إسلامية.
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس
ساداتنا وقاداتنا بلال بن رباح وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وخباب بن الأرت مولى من الموالي، وهؤلاء نجوم الإسلام وأمثالهم وأضرابهم كثير، ولكن قبل أن أنفذ إلى شيء من التمييز العنصري وبعض مسائله، من هو أبو ذر؟
وهذا قد تكرر معنا، ولكن أذكره للفائدة؛ ولأن المعاني التربوية أكثر فائدة من كثير من المسائل الفرعية.(216/9)
نبذة عن أبي ذر رضي الله عنه
أبو ذر أحد السابقين إلى الإسلام، وهو حبيب لرسولنا صلى الله عليه وسلم عرف الله وعرف الطريق إلى الله، والتمس النور.
هو من قبيلة غفار، وقبيلة غفار بعيدة في الصحراء، كان بعيداً ولكن قربه الله حتى دخل إلى الحرم وإلى الرسول عليه الصلاة والسلام والله إذا أراد أن يقرب البعيد قربه، وإذا أردت أن يبعد القريب أبعده، أبو طالب عند الحجر الأسود، وأبو لهب عند زمزم، وأبو جهل عند الحطيم، لكن لم تدمغ أدمغتهم لتفهم لا إله إلا الله.
وأما أبو ذر فسمع لا إله إلا الله، كان يرعى إبله في الصحراء، من غفار يقول عليه الصلاة والسلام: {غفار غفر الله لها، أسلم سالمها الله} وسبب الدعوة أبو ذر، أسلم على يديه ثلثا قبائل غفار، وكلهم في ميزان حسناته يوم يتقبل الله عنه أحسن ما عمل ويتجاوز عن سيئاته في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.(216/10)
قصة إسلام أبي ذر
سمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام أطل في طلعته البهية في مكة، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] واستقبلت الدنيا دعوته وسمعت المعمورة رسالته، فقال لأخيه أنيس: اذهب إلى هذا الرجل إلى مكة وأعطني خبره، تعال بخبره، فذهب أخوه، ولكن استعجل في ذهابه، ركب ناقته ووصل إلى الحرم، فأخذ الأنباء ما تثبت لقي مثل أبي لهب وأبي جهل وأمثالهم، عصابات الإفساد والإجرام، فسألهم من هذا الذي يدعي النبوة؟
قالوا: ساحر شاعر كاهن، وهكذا عدوك إذا وصل الخبر إليه، فحذار حذار، سوف ينزل عليك من الشائعات ما الله به عليم، فعاد إلى أخيه، فقال: وصلت مكة فسألت الناس، فقالوا: شاعر ساحر كاهن، قال: من سألت؟
قال: سألت أهل مكة، قال: ما شفيتني، المثل العام يقول: ما قضى لي حاجة مثل نفسي، أنا آتيك بالخبر، وأنا أصل إلى الخبر إن شاء الله في مستقره، قال: عليك بالغنم والأهل احفظهما.
ركب جمله قال: وأخذت قربة -أي إداوة صغيرة- فعبأتها ماءً ثم جلست على بعيري حتى قدمت الحرم، وأول من صادف علي بن أبي طالب، من ترعرع على لا إله إلا الله، غرس في قلبه لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:25] فقال لـ علي: من هذا الرجل وما عرف أنه ابن عم الذي بعث.
قال: هو نبي حقاً، من أين أنت؟ قال: من غفار، قال: أتريد أن تراه؟ قال: نعم، قال: انزل معي، فإذا رأيتني أصلح نعلي، فاعرف أنه الرجل الذي يحاذيني؛ لأن كفار قريش حول الرسول عليه الصلاة والسلام حظروا الاتصال به صلى الله عليه وسلم، وكانوا على أنقاب مكة وعلى مداخل مكة، إذا رأوا العربي حذروه، وقالوا له: احذر أن يضلك هذا الساحر، أو الشاعر، أو الكاهن.
في صحيح مسلم أن الطفيل بن عمرو الدوسي الزهراني قال: قدمت مكة، لأرى وأسمع الرسول عليه الصلاة والسلام قال: فوالله ما زال بي كفار مكة حتى شككوني في نفسي وقالوا: لا تسمع منه إنه ساحر يسحر، إنه كاهن يتكهن عليك، قال: حتى أخذت القطن فوضعته في أذني سبحان الله! لكن لا إله إلا الله أقوى من القطن، ولا إله إلا الله تفجر طبقات القطن، وتدخل إلى القلوب من وراء القطن، قال: فوضعت القطن في أذني لئلا أسمع شيئاً، ولكن الله أراد أن يهديه، قال: فجلست في طرف الحرم، فرأيت الرسول صلى الله عليه وسلم بعيداً، قال: فاقتربت رويداً ثم قلت لنفسي: يا عجباً لي، أنا شاعر من شعراء العرب -وهو شاعر- وخطيب أعرف فصاحة الكلام من هزله! فكيف لا أسمع؟! فإن أعجبني وإلا تركت، وأراد الله أن يهديه، فنزع القطن، هذا أول مشروع الهداية، هذا قص الشريط إيذاناً بافتتاح لا إله إلا الله في قلبه، فاقترب منه فسلم عليه، قال: عم صباحاً يا أخا العرب، قال: أبدلني الله بتحية خير من تحيتك السلام عليكم ورحمة الله
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
لا بأس بتكرير الكلام- فجلس عنده، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم أسمعني مما تقول: فأسمعه مقطعاً من الآيات، قال أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله.
فأتى علي بن أبي طالب فقال لـ أبي ذر: إنني إذا نزلت الحرم فسوف أتظاهر بأنني أصلح نعلي، فإذا رأيتني أخصف النعل فتقدم إليه، فهو الرجل الذي يليني.
فنزل معه واقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام ووقف علي بن أبي طالب يصلح نعله ويخصف نعله، فتقدم أبو ذر فرأى الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان منظره يميزه بين العالم، وجهه كالقمر ليلة أربعة عشر.
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
فتقدم إليه وقال: عِم صباحاً يا أخا العرب، هذه تحية الجاهلية، يقول امرؤ القيس في قصيدته الرائعة، المشرقة، ومع أنها جاهلية وثنية، لكنها جميلة السبك يقول:-
ألا عِمْ صباحاً أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العُصُر الخالي
وهل يعمن إلا سعيد منعم قليل الهموم لا يبيت بأوجال
فقرأ عليه الصلاة والسلام، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، ثم قام فوقف على الصفاء، فنادى بأعلى صوته أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فاقترب منه الجاهليون فضربوه بالحجارة، حتى أغمي عليه، فأتى كالثوب الأحمر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: اصبر فإنك لن تستطيع أن تجهر بدعوتك الآن، فإذا سمعت أني خرجت فتعال؛ فعاد رضي الله عنه بعد أن تعلم الصلاة داعية يحمل إيماناً، وديناً، ولو كان فينا اليوم أفراد مثل أبي ذر لصلح الحال بإذن الله.
وصل إلى قبيلته فجمعها كلها، جمع القبيلة أمامه في البادية، قال: دمي من دمكم حرام، هدمي من هدمكم حرام، وقال لزوجته: ابتعدي ولأبيه ولإخوانه، حتى تؤمنوا بالله وأن محمداً رسول الله، فآمن ما يقارب الثلثين من قبيلته، وسمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام هاجر إلى المدينة، فأخذ المسلمين في قوافل غفار، واتجه إلى المدينة، ثم لما دخل إلى المدينة ظنوه جيشاً غازياً للمدينة، فخرج لاستقباله، وعانقه صلى الله عليه وسلم وقربه، فكان من أحب الناس، وأقربهم إلى أبي ذر.
قال: عِم صباحاً يا أخا العرب، فقال عليه الصلاة والسلام: {أبدلني الله بتحية خير من تحيتك، قل السلام عليكم ورحمة الله، قال: السلام عليك ورحمة الله، فرد الرسول صلى الله عليه وسلم السلام عليه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ممن أنت؟ قال: من غفار، فتبسم عليه الصلاة والسلام ورفع طرفه إلى السماء} تبسم؛ لأن غفاراً كانت قبيلة تسرق الحجاج، مهمتها فقط قطع القوافل، فكيف يهتدي هذا وهو من غفار.
وفي حديث له شواهد أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك، فتخلف أبو ذر براحتله، فأخذ ما عليها من متاع وترك الراحلة، فقال عليه الصلاة والسلام: {أين أبو ذر؟ قالوا: تخلف يا رسول الله! قال: إن يرد الله به خيراً يلحق بنا؟ وأراد الله به خيراً، ورآه صلى الله عليه وسلم من بعيد، فقال: كن أبا ذر، كن أبا ذر، وأشرف بطلعته البهية، فإذا هو أبو ذر، قال: {رحمك الله يا أبا ذر! تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك} وعاد مع الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه قال له صلى الله عليه وسلم: {إذا بلغ البناء سلعاً} وهذا عند الذهبي بسند جيد: {إذا بلغ البناء سلعاً -وهو جبل بـ المدينة - فاخرج من المدينة} يريد أن يبقى صافياً قوي الإيمان، حار التوحيد، ما يشوبه شيء من الدنيا، فلما بلغ البناء جبل سلع، خرج من مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الربذة، بغنمه وخيمته.
لا طفوني هددتهم هددوني بالمنايا لا طفت حتى أُحَسَّا
أركبوني نزلت أركب عزمي أنزلوني ركبت في الحق نفسا
أطرد الموت مقدماً فيولي والمنايا أجتاحها وهي نعسى
خرج إلى الصحراء.(216/11)
أبو ذر يطلب الإمارة من رسول الله
ومن ضمن مواقفه مع الرسول عليه الصلاة والسلام أنه رأى الرسول عليه الصلاة والسلام يولي الناس الإمارة، فأتى قال: وليت فلاناً وفلاناً، فولني قال: إنك امرؤ ضعيف، وفي لفظ صحيح: {والله يا أبا ذر إني أحب لك ما أحب لنفسي، إنك امرؤ ضعيف، إنها أمانة ,وإنها خزي وندامة يوم القيامة} فترك الإمارة، فالرسول عليه الصلاة والسلام عرف أنه ضعيف قالوا: شديد العجلة، وكثير الغضب، والإمارة منصب يحتاج إلى رجل واسع الصدر، وهذا لا يقلل من الأولياء؛ لأن بعض الناس يتصور أن ولي الله يشترط فيه أن يكون ذكياً من الدرجة الأولى، طبيباً مهندساً مفتياً عالماً، وقد يجهل الولي كثيراً من الأمور، وقد لا يعرف الولي أمور الدنيا، ولذلك الذهبي لما ترجم لـ ابن الريوندي هذا الملحد الزنديق الفيلسوف الشاعر، يقول كان ذكياً ولكن لم يكن مؤمناً، ما كان متقياً لله، قال: فلعن الله الذكاء بلا إيمان، وحيا الله البلادة بالتقوى، فلا يظن متصور أنه يشترط في أولياء الله أن يكونوا في درجة ممتازة من الذكاء.
أما بلال بن رباح فأسلم قديماً مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وتبعه في أيامه ولياليه، وكان مؤذنه دائماً وأبداً، وكان يحبه صلى الله عليه وسلم، وكان صوته ينساب إلى القلوب بصوت الإيمان، وحرارة الإيمان في الأذان، ولذلك جعله صلى الله عليه وسلم مؤذنه الخاص، بل وفي صحيح مسلم لكن باختصار أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {دخلت الجنة البارحة، فرأيت دف نعليك في الجنة يا بلال! ماذا كنت تفعل؟ قال: يا رسول الله! والله ما توضأت في ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ، إلا صليت ركعتين} فهذه من أعماله الصالحة رضي الله عنه وأرضاه وهو من أهل الجنة إن شاء الله، تخلف بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، وطلب منه أبو بكر أن يؤذن للمسلمين فأبى، وطلب منه عمر فأبى، فلما فتح عمر رضي الله عنه بيت المقدس قال لـ بلال: سألتك بالله أن تؤذن، فقام يؤذن فبكى الناس، لما تذكروا ذاك الصوت وتلك الذكريات، وتلك الأيام الخالدة.(216/12)
ما يستنبط من حديث أبي ذر(216/13)
العبد يذنب ولو كان من أولياء الله
وفي حديث أبي ذر فوائد:
منها: أن العبد، قد يخطئ ويذنب وعليه بالاستغفار وقد يساب العباد ولو كان من الصحابة.
قال: فعيرته بأمه، فقال عليه الصلاة والسلام: {أعيرته بأمه؟} فيه الإنكار منه صلى الله عليه وسلم والنهي عن التعيير بالآباء والأمهات، والنهي عن سب الآباء والأمهات، وفي ذلك أحاديث وزواجر، جمع السيوطي كثيراً منها في باب من لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ منها حديث: {لعن الله من لعن والديه} وحديث: {لا تسبوا أمهاتكم} إلى غيرها من الأحاديث التي صحت عنه صلى الله عليه وسلم، وفيه أن المسلم مهما بلغ في الولاية، فقد يكون فيه بعض المعصية.(216/14)
الجاهلية والسفه قد تطرأان على كبير السن
فقال فيه: {إن فيك جاهلية، قال: على كبر سني} فيه أن الكبر والصغر أمر نسبي، فلا يظن الكبير إذا شابت لحيته، أنه سوف يكون عاقلاً فلا يصيبه شيء من السفه ولا الجاهلية والخطأ.
وما الحداثة من حلم بمانعة قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
فالحلم والسعة والإدراك والعلم والفطنة قد تأتي للصغار أو للكبار؛ ولذلك كان كثير من الصحابة يحملون الفتيا ويقودون الجيش والجهاد وعمر الواحد ما يقارب السابعة عشرة من عمره.
فلا يظن ذلك؛ لأنه ورد عن بعض العلماء أنه يقول: أنه لا يتصدر الإنسان إلا في الأربعين، سبحان الله! أهل الحداثة وأهل العمالة، يتصدرون في العشرين وفي الخامسة عشرة، ويبقى أهل الدعوة وأهل الإسلام حتى يبلغوا الأربعين، إذا بلغوا الأربعين أخذوا أكفانهم يستعدون للموت، وماذا يريدون؟!
فقد انتهى الأمر، لكن على الإنسان من يوم يدرك أن يبذل ما يستطيع للإسلام، وما عليه مما يوجه له أعداء الإسلام.(216/15)
الجاهلية أنواع
وفيه أن الجاهلية أنواع وأضراب، كما ذكر البخاري، في كتابه: صحيح البخاري في الباب، فإنه يستحق كذلك عنوانه أن يقول: جاهلية دون جاهلية، الكافر جاهلي، والمنافق جاهلي، والإنسان الذي لم يتعلم يسمى جاهل، والمؤمن الذي فيه شعبة من الجهل، يقال له: فيك جاهلية؛ كما أطلقها صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن تعيير الناس بأشخاصهم أو بألوانهم أو دمائهم، فمن فعل ذلك، فقد خالف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أن الإسلام لا يعترف بالدماء ولا يعترف بتعدد الألوان، ولا يعترف كذلك بالقوميات والشعوبيات؛ لأنها ما وجدت إلا يوم وجد الكفر بهذا الدين والتمرد على هذا الدين.
إن كيد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمامٍ واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد(216/16)
الحديث الثاني: (القاتل والمقتول في النار)
الحديث الثاني: هو الحديث التاسع والعشرون، عن أبي بكرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه}(216/17)
أصل حديث "القاتل والمقتول في النار"
أصل الحديث في صحيح البخاري وله قصة، وذلك أن الأحنف بن قيس ذهب لينصر علي بن أبي طالب في معركة الجمل، معركة الجمل وقيل معركة صفين، فكان للأحنف كلام مع أبي بكرة، الأحنف بن قيس، هو حليم العرب سيد بني تميم، ذهب لينصر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه في الجمل، فلقيه أبو بكرة قال: أين تذهب؟
قال أذهب مع عائشة في الجمل، قال: عد فإني سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة} فعاد، فلما أتت صفين بين علي ومعاوية، ذهب فلقيه أبو بكرة مرة ثانية قال: أين تذهب؟
قال: أنصر ابن أبي طالب ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: عد فإني سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، الحديث} والأحنف بن قيس هو سيد بني تميم وحليم بني تميم، كان أشل -والأشل الذي رجله أو يده متعطلة عند العرب- وكان أحنى محدودباً، نحيفاً هزيلاً، في منظره كراهة وبشاعة، ولكنه ملئ عقلاً وإيماناً، وقلباً سديداً، وكان من أفصح الناس وأدهى الناس وأحلم الناس.
ما كان يغضب، أتى سفيه من الناس قال له بعض بني تميم: ما رأيك نعطيك مالاً كثيراً وتذهب وتضرب الأحنف بن قيس على وجهه؟
هذه في الأدب، يريدون أن يمتحنوا الأحنف بن قيس، ما كان يغضب كالبحر صدره، وكنيته أبو بحر، فأعطوا هذا السفيه كثيراً من المال وذهب فاقترب من الأحنف ثم ضربه على وجهه، قال الأحنف: كم أعطاك بنو تميم مالاً؟
قال أعطوني كذا وكذا، قال: تضرب من؟
قال: يقولون: اضرب سيد بني تميم، قال وهل أنا سيد بني تميم؟ قال: يقولون ذلك، قال الأحنف بن قيس: هو ذاك، عن رجل هو جارية بن قدامة من أغلظ الناس وأشرس الناس وأفتك الناس، فذهب إليه فاقترب من جارية هذا فلطمه على وجهه، فقام جارية فضرب الرجل حتى أغمي عليه واستفاق بعد ساعة يقول: أصبحنا وأصبح الملك لله، هذا الأحنف بن قيس قيل له: ممن أخذت الحلم؟ أي: من علمك الحلم؟ من هو شيخك في الحلم؟ قال: علمني الحلم قيس بن عاصم المنقري، وهذا سيد بني تميم قبل الأحنف، وهو من السبعة الذين وفدوا على الرسول عليه الصلاة والسلام، وهناك حديث عنه أنه قال: يا رسول الله! أوصني، رق عظمي ودنا أجلي فأوصني، قال: {يا قيس! إن لكل حسنة ثواباً ولكل سيئة عقاباً، يا قيس! إن مع القوة ضعفاً، وإن مع المال قلة -أو مع الكثرة قلة- وإن بعد الحياة موتاً، يا قيس! إن معك رفيقاً يدفن معك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت، هو عملك} فبكى قيس بن عاصم، وهو الذي يقول فيه الشاعر:-
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من ألبسته منك نعمةً إذا زار عن شحط بلادك سلما
وما كان قيس موته موت واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
لما مات عبد الملك بن مروان، شيعه أبناؤه الأربعة الوليد وسليمان ويزيد وهشام، فلما وصلوا المقبرة دفنوه فقال هشام بن عبد الملك:-
وما كان قيس موته موت واحدٍ ولكنه بنيان قوم تهدما
وولي العهد الوليد غضب من هذه الكلمة، لأن معناه: مات عبد الملك وعلى الدنيا السلام، وما أصبح وراءه رجال.
وما كان قيس موته موت واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
فنظر إليه الوليد فقال: كذبت لعنك الله! لأنه عرض به، وهذا من التكالب على الدنيا، وعلى حطام الدنيا.(216/18)
حلم قيس بن عاصم
الشاهد أن الأحنف بن قيس، يقول: أخذت الحلم عن قيس بن عاصم.
كنا جلوساً عنده، فلما كان محتبياً بحبوته -الحبوة كالكيس وكاللفافة والقماش يلفه العربي على ركبتيه- قال: فاحتبينا في مجلسه وكان سيد بني تميم معه عشرة ألف سيف، إذا قال: الله أكبر، قالوا: الله أكبر.
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
دخلت الجارية وقالت: ابنك قتله ابن أخيك، قال: غسلوه وكفنوه؛ فإذا كفنتموه فأخبروني، فقال: والله ماحل حبوته ولا تزحزح من مكانه، فغسلوا ولده وكفنوه فقام فصلى عليه، ثم قال: ادفنوه، وأرسلوا لفلانة التي قتل ابنها بمائة ناقة، فإنها امرأة غريبة.
فهل بعد هذا الحلم حلمٌ؟! اكتسب الأحنف بن قيس حلمه من قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنهم جيمعاً، فـ الأحنف مخضرم وقيس صحابي، والكل عند الله من المقبولين إن شاء الله، ذهب الأحنف يريد لقاء الجيوش، مع علي بن أبي طالب فأخذ سيفه، فلقيه أبو بكرة نفيع بن الحارث من أهل الطائف، قال أهل العلم: كُني أبو بكرة بهذه الكنية لأحد سببين، إما لأنه نزل من الطائف على بكرة -ناقة- فقال صلى الله عليه وسلم: على ماذا نزلت؟ قال: على بكرة، قال: فأنت أبو بكرة وقيل: على البكرة هذه العجلة أنزل عفشه ومتاعه فسمي بها، وكلا الرأيين ليس بينهما بون، فقد يكون حصل له هذا أو هذا، ويقول الرواة: إن أبا بكرة هذا صام حتى أصبح جلداً على عظم من العبادة، ويقولون من رآه يراه كأنه سهمٌ من كثرة عبادته واتصاله بالله تبارك وتعالى.(216/19)
عقيدة أهل السنة والجماعة فيما حدث بين علي ومعاوية
لقي أبو بكرة الأحنف بن قيس قال: أين تذهب؟
قال: أذهب لأنصر هذا الرجل -وهو علي بن أبي طالب - وكان يقاتل معاوية، ومعتقد أهل السنة والجماعة في الحروب التي وقعت بين الصحابة، كالتي وقعت بين علي ومعاوية: أن نترضى عن الجميع، وأن نعتذر للجميع, وألا نخوض فيما شجر بينهم كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
هذا معتقد أهل السنة، ونعتقد أن علي بن أبي طالب هو المصيب، وأنه اجتهد فأصاب فله أجران وأن معاوية اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، وأن فئة معاوية، فئة باغية كما سماها صلى الله عليه وسلم في الحديث: فقال لـ عمار: {تقتلك الفئة الباغية} يعني فئة معاوية ومن معه؟
رضي الله عن الجميع.
قيل لـ عامر الشعبي: سبحان الله! يأتي علي بن أبي طالب بجيش كثيف، ومعاوية بجيش كثيف وهم صحابة، ثم لا يفر بعضهم من بعض!!! فماذا أجاب؟
قال: أهل الجنة التقوا فاستحا بعضهم من بعض، ونسأل الله أن يكونوا ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134].
فخرج الأحنف فلقيه أبو بكرة، قال: إلى أين؟
قال: أنصر هذا الرجل، قال: ارجع فإني سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار}.
أولاً: ما هي فائدة التعريف هنا وتسمية السيف وهذه الصفة؟
فهل يشترط أن يكون اللقاء بالسيف، إذا التقى المسلم والمسلم بالمسدسات أو بالخناجر أو بالسكاكين أو بالرشاشات، هل يدخل عليهم التثريب، أم يشترط أن يكون اللقاء بالسيف؟ والجواب أنه لا يشترط أن يكون اللقاء بالسيف؛ لأن هذا قيد أغلبي كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] ولأن هذا شيء غالب، فلو التقوا بغير السيفين لكانت المذمة واردة والإثم وارداً، ويكون الاثنان في النار نسأل الله العافية {إذا التقى المسلمان بسيفيهما} لإرادة القتال، أما إذا كان مع هذا سيف ليسلم عليه فلا نقول: هما في النار فهذه ظاهرية بحتة؛ وهناك من أقوال الظاهرية ما يضحك اللبيب، منهم من يقول: من يفعل أكثر من الذرة، فما عليه شيء؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] وضحكوا على بعض الظاهرية، قالوا: يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الوالدين: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] فمن ضرب والديه هل يشمله التأنيب؟ لأن الضرب لم يذكر في الآية وهو من قياس الأولى عند الجمهور، ولكن يلزم الظاهرية أن يقولوا: لا يلزمه شيء إذا ضرب والديه، لكن لا يقل لهما: أف.
{إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار} إذا أراد مقاتلته، وإهدار دمه، فالقاتل والمقتول في النار لماذا؟ لأن دم المسلم معصوم ولقوله صلى الله عليه وسلم: {ولا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة} ففي غير هذه الثلاث يكون دم المسلم معصوماًُ، فيقول صلى الله عليه وسلم: {في النار} ما معنى كلمة النار؟ هل يدخل النار خالداً مخلداً أم لا؟
إن استحل قتل المسلم، ورأى أن الله لم يحرم قتل المسلم، ورأى أنه يحل له قتل المسلم، فهو خالد مخلد في النار.
وإذا قاتله ويعرف التحريم، فهو من أهل الكبائر، ومعتقد أهل السنة والجماعة في أهل الكبائر، أنهم قد يدخلوا النار، ولكنهم لا يخلدون فيها، ولا يخرجون من الإسلام، ويسمون فسقة، لكن لا يزول عنهم اسم الإسلام، والله أعلم.
وفيه كذلك أن المسلم إذا كان حريصاً على قتل صاحبه ثم قتله الآخر فهو معه في النار، وأن النية والجزم على العمل، ومزاولة الأسباب، تدخل بصاحبها مداخل أهل الأعمال الذين عملوا بهذا العمل.
{إذا التقى المسلمان بسيفيها فالقاتل والمقتول في النار} يعني من الاثنين، هذا حديث أبي بكرة رضي الله عنه وأرضاه، وليس فيه قضايا طويلة ولذلك، لم يطل أهل العلم الكلام عليه.(216/20)
الحديث الثالث: (الظلم هو الشرك)
الحديث الثلاثون: حديث ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال: {لما أنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] قال الصحابة: يا رسول الله! وأينا لم يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس بذلك، أما سمعتم الله يقول: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]} لما نزل قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] الأمن في الآخرة، والأمن في الدنيا، فالأمن في الدنيا من الغواية ومن الضلالة ومن الخطأ ومن الانحراف، والأمن في الآخرة من الجحيم ومن النار ومن العذاب، والله المستعان.
{وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]: أي سالكون طريق الهداية، ناجون بإذن الله موفقون، لكن ما معنى الظلم؟
ظن الصحابة رضوان الله عليهم، أن معنى قوله سبحانه ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي: لم يذنبوا ولم يخطئوا ولم ينموا ولم يغتابوا الناس ولم يكذبوا، فقالوا: يا رسول الله! من يطيق هذا؟ كلنا ظلمة معنى كلامهم، في سند الإمام أحمد بسند صحيح أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لما أنزل قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123] قال أبو بكر: يا رسول الله! هذا الحديث في أول مسند أبي بكر: {يا رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق، فكيف العمل بعد هذه الآية؟ لأن ظاهرها إذا عملنا أي سوء نحاسب به، كلما فعلنا خطيئة نحاسب بها ونجزى بها- فقال عليه الصلاة والسلام: غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تهتم؟ ألست تغتم؟ ألست تحزن؟ ألست تمرض؟ قال: بلى، فقال: هذا من الكفارات، لا يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا حزن ولا وصب ولا مرض، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه}.
فمقصود الآية: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] أي: بشرك: {أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام:82] فالحمد الله الذي جعل الظلم هنا شركاً، فلو جعله معصية وخطأً، كنا وقعنا كلنا في هذا الظلم، وما كان لنا مخرج، والرسول عليه الصلاة والسلام هنا فسر القرآن بالقرآن، قال: {إنه ليس كما تظنون، أما سمعتم الله يقول: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان:13]} فسمى الله الشرك ظلماً، وهذا يقصد به صلى الله عليه وسلم وصية لقمان: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:12 - 13] فقال صلى الله عليه وسلم: {ليس بذلك، إنما هو الشرك، أما سمعتم الله يقول: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]} في الحديث دروس.(216/21)
ما يستنبط من حديث ابن مسعود
أولها: إن الله لا يغفر الشرك للمشرك: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] وفي الصحيحين وفي المسانيد والسنن عن معاذ {أنه كان رديف الرسول عليه الصلاة والسلام، فسأله عن حق الله على عباده فقال: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سأله ماحق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم قال: حقهم عليه ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً}
والمسألة الثانية: أن الظلم درجات، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] يرى ابن تيمية، ويرى ابن القيم أن الأصناف الثلاثة يدخلون الجنة، والجمهور يرون أن السابقين بالخيرات والمقتصدين في الجنة، والظالمين في النار، ونحن من الظالمين لأنفسنا، فنسأل الله أن يكون التفسير على ما قال ابن تيمية لندخل معهم، من هم السابقون والمقتصدون والظالمون؟
السابق بالخيرات: من أتى بالفرائض والنوافل، وترك الكبائر والصغائر والمكروهات.
والمقتصد: من أتى بالفرائض ولكن ماتزود بالمستحبات، ومن ترك الكبائر، لكن ربما أتى بالصغائر.
والظالم لنفسه: من يترك بعض الفرائض ويأتي ببعض الكبائر.
والصحيح أن الثلاثة كلهم من المسلمين؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر:33] فأعاد الضمير على الثلاثة الأصناف، قيل لـ عائشة وسألها الأسود بن يزيد: -وأتى بذلك ابن القيم في كتاب طريق الهجرتين - من هم السابقون والمقتصدون والظالمون؟
قالت: السابقون هم الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ومن سار معهم.
قال: زالمقتصدون؟ قالت: من تبعهم بإحسان، قال: والظالمون؟ قالت: أنا وأنت.
هذه عائشة قائمة الليل صائمة النهار؛ فكيف بنا؟
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
لكن نحن برحمة الواحد الأحد، قال رجل للحسن البصري: ذهب القوم من السلف على الخيول وبقينا نحن نركب الحمير، أي في العمل الصالح، في الزهد وفي العبادة، قال
الحسن: والله لتلحقن بالقوم ولو كنت على حمر معقرة إذا كنت على الطريق.
إذا كنت على طريق السنة لحقت بالقوم كقول الأول:
يا تقياً والتقى جلبابه
وذكياً حسنت آدابه
قم وصاحب من هم أصحابه
لا تقل قد ذهبت أربابه كل من سار على الدرب وصل
قال أنس: يقول صلى الله عليه وسلم: {يحشر المرء مع من أحب ونحن نحب أبا بكر وعمر ولو لم نعمل بعمليهما} أو كما قال، ونحن نشهد الله أننا نحبهم فيه، فنسأل الله أن يدخلنا بالحب، أما العمل فلا عمل، قال ابن مسعود: {لما أنزل الله قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] قال الصحابة رضي الله عنهم أينا لم يظلم نفسه؟}.
والقضية الثالثة في هذا الحديث: أن العصمة لا تكون إلا للأنبياء، وأن من قال: من الصوفية أن الولي يكون معصوماً، فقد كذب على الله، بل إن الولي يخطئ ويذنب، ويسيء ويعصي الله ولا يكون معصوماً، وهم قالوا: الولي كلامه كالوحي لا يخطئ، ولا يذنب ولا يسئ وهو محفوظ من بين يديه ومن خلف ظهره، وقد افتروا على الله، وخالفوا النصوص، بل الولي قد يكون مذنباً ولكن يغفر الله له، باستغفاره وتوبته وعمله الصالح.
ومنها: تواضع الصحابة، فاعترفوا بالذنوب.
ومنها: أن العلماء قد يخفى عليهم بعض المسائل، وأكبر الصحابة خفي عليهم هذا اللفظ، ففسره عليه الصلاة والسلام.
ومنها أن القرآن يفسر بعضه ببعض، وهي طريقة أهل السنة كما فعل ابن كثير، فإنه فسر القرآن بالقرآن، والقرآن بالسنة، والقرآن بلغة العرب وبكلام التابعين وتابعيهم بإحسان.
فقال: صلى الله عليه وسلم {ليس ذلكم} وفيه الأخذ بالظاهر، من النصوص مالم يرد به ظاهر، فإن الصحابة أخذوا بالظاهر فما أنكر صلى الله عليه وسلم عليهم، وإنما أرشدهم إلى المعنى الخاص للآية فقال: {ليس بذالكم، وإنما الظلم هو الشرك، أما سمعتم الله يقول: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان:13]}.
وفي الحديث -بالاستنباط- أن الذنوب يغفرها الله، وقد دلت الأحاديث والآيات على ذلك، وفي الصحيح ليس في صحيح البخاري ولا مسلم لكن عند الترمذي بسند صحيح، قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بشيء شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة} ومن المكفرات التي تكفر الخطأ التوبة، والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ودعوات المؤمنين، وسكرات الموت، والصعقة في القبر، وما يلقاه المسلم في العرصات يوم القيامة، وشفاعة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ورحمة أرحم الراحمين.
فمن لم تدركه واحدة من هذه العشر فليبك على نفسه،
إذا كان هذا الدمع يجري صبابة على غير سلمى فهو دمع مضيع
إذا لم تدرك العبد إحدى هذه العشر، فليبكِ على نفسه من الآن، فعليه أن يتشبث برحمة الله، ثم بواحدة من هذه العشر، ومن حسبها وجمعها جميعاً فهو الفائز بإذن الله تبارك وتعالى، ولا يهلك على الله إلا من شرد عن الله شرود الجمل الشارد على أهله، وقد أتى بذلك حديث صححه بعض أهل العلم، وصاحب الجامع وغيره.(216/22)
نصوص الأحاديث التي تم شرحها
هذه الأحاديث الثلاثة أعود إلى ذكرها باختصار؛ وهي: حديث أبي ذر، حديث أبي بكرة، حديث ابن مسعود.(216/23)
حديث أبي ذر
حديث أبي ذر الحديث الثامن والعشرون قال: {ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال صلى الله عليه وسلم: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون، فإذا كلفتموهم فأعينوهم}.(216/24)
حديث أبي بكرة
الحديث التاسع والعشرون: حديث الأحنف بن قيس قال: ذهبت أنصر هذا الرجل علي بن أبي طالب، فلقيني أبو بكرة فقال: أين تذهب؟ قلت: أنصر هذا الرجل، قال: عد فإني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار}.(216/25)
حديث ابن مسعود
حديث ابن مسعود {لما أنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] قال الصحابة: يا رسول الله! أينا لم يظلم نفسه؟
قال: ليس ذلكم إنما هو الشرك، أما سمعتم قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]} وفي بعض الروايات الصحيحة كما قال العبد الصالح -أي: لقمان: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
هذه الأحاديث التي معنا في هذه الليلة المباركة.
شفاعة الولي الصالح العامل بالكتاب والسنة: من معتقد أهل السنة أن الأولياء الصالحين يشفعهم الله عز وجل كما أتت بذلك الأحاديث، رجل صالح كـ أبي بكر، كـ عمر، كـ عثمان، كـ علي، كالأئمة الكبار يشفعهم الله عز وجل، هذا الولي الذي يعمل بالكتاب والسنة، ويخاف من الله وهو مسدد في أعماله وأقواله، يشفع بإذن الله في المذنبين يوم القيامة بقدرة الله.(216/26)
الأسئلة(216/27)
معنى كلمة بياك
السؤال
سمعتك تقول وأنت تحيي: حياك الله وبياك، فما معنى كلمة بياك وجزاك الله خيراً؟
الجواب
حياك الله وبياك، كلمة بياك مصدر وهي تستخدم عند العرب تقول: أنزلته مبوأً، وبوأته مكاناً، وبياك أي أنزلك مكاناً مكرماً من التوسعة ومن الإحفاف والإلطاف، فحياك أي مرحباً بك بالتحايا، وبياك بوأ لك مكاناً وأنزلك في مكان واسع فسيح، هذا ما أعرفه في هذه الكلمة.(216/28)
قصيدة في مدح عبد رب الرسول سياف
السؤال
أرجو إنشادنا القصيدة التي قلتها في الشيخ عبد رب الرسول سياف؟
الجواب
أنا أنشد بعض الأبيات منها وهي اسمها (المدوية):
سياف في ناظريك النصر يبتسم وفي محياك نور الحق مرتسم
وفيك ثورة إسلام مقدسة بها جراح بني الإسلام تلتئم
حطمت بالدين أصناماً محجلة وصافحت كفك العلياء وهي دم
ثأرت لله والدين الحنيف فلم يقم لثأرك طاغوت ولا صنم
على جبينك من سعد توقده وخالد في رؤى عينيك يقتحم
حلق إذا شئت فالأرواح طائرة فعن يمينك من عاهدت كلهم
وصغ من المهج البيضاء ملحمة يظل يقرؤها التاريخ والأمم
موتاً على صهوات البيد يعشقه أهل البسالة في عليائهم شمم
إلى أن قلت:-
الذاكرون ونار الحرب موقدة والسابحون ونار الهول تضطرم
أكفانهم نسجوها من دمائهم على مطارفها النصر الذي رسموا
كأنما أنت كررت الأولى ذهبوا هذا صلاح ومحمود ومعتصم
صلاح الدين الأيوبي ومحمود بن سبكتكين والمعتصم
ثم منها:-
ماتوا ولكنهم أحياء في غرف من الجنان وذابوا لا فقد سلموا
إلى أن قلت:-
يكبرون فتهتز الربى فرقاً ويهتفون فيسعى النصر نحوهمُ
يا رب أنت ولي المسلمين ومن سواك من هذه الأصنام ينتقمُ
أنزل على جندك الأسمى ملائكةً وراء جبريل روح القدس ينتظم.(216/29)
انحراف كثير من الشباب بعد الالتزام
السؤال
كان لنا إخوة في الله، وكانوا ملتزمين بأمور الدين، والآن تركوا الالتزام شيئاً فشيئاً، حتى وصل بهم الأمر إلى ترك الصلاة مطلقاً؟
الجواب
نسأل الله ألا يضلنا بعد أن هدانا، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، كيف نتكلم معهم، أولاً: يا أيها الإخوة الأبرار اسئلوا الله الثبات دائماًَ، فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الله، يحولها كيف يشاء، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: {يا مصرف القلوب، صرف قلوبنا إلى طاعتك، ويا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، الأمر الثاني: هؤلاء الذين فعلوا ذلك لأحد سببين:
إما أن تكون دعوتهم ضعيفة، الذين دعوهم وأخذوهم من الباطل إلى الحق كانوا دعاةً، لكن فيهم ضعف، يمكن أنهم استنقذوهم من المعاصي ولكن ما ربوهم تربيةً روحيةً جادةً، بقراءة قرآنٍ، وكثرة نوافلٍ، وكثرة دعاءٍ، وخشيةٍ، وصلة بالواحد الأحد؛ لأن بعض الناس في مدارسهم التربوية إذا استنقذ الشباب، قد يضعف في هذه التربية، قد يربيه على كلام فكري، على عمومات في الإسلام، على شيء من الإنشاء، ومن الأفكار الطيبة، لكن ما أعطاه حرارة الإيمان وروح الإيمان.
السبب الثاني: أن يكون هذا الداعية رجلاً ضعيف الشخصية، وهذا المدعو قوياً، فاستسلم له في مرة من المرات، ثم رجع إلى شخصيته، وساعده أهل الباطل وجلساء الشر، فجذبوه إليهم جذباً، فوصيتي للدعاة والذين يعملون في حقل الشباب، أن يهتموا بالنوافل للشباب وبعلم السلف قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يقودوا الشباب إلى كثرة النوافل وكثرة الذكر وكثرة الدعاء، ثم يلازموا الشاب ويفصلوه عن الجلسات السيئة، وعن جلساء السوء حينها يهتدي بإذن الله، وعلينا أن ندعو لضال المسلمين أن يهديه الله سواء السبيل.(216/30)
الله تواب رحيم
السؤال
اقترفت من المعاصي ما لا يعلمه إلا الله، وأنا أحب الخير، لكن نفسي لا تطاوعني، وكنت أسمع بعض المشايخ، يقولون: هناك من الناس من يستهزئون بربهم، فمثلاً يطيعون الله في رمضان، ويعصونه في غير رمضان، وهل إذا تاب توبةً نصوحةً يقبل الله عز وجل؟
الجواب
أولاً: اعلم أن التوبة مفتوحة حتى تطلع الشمس من مغربها قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله من العطا لذي الخطا
من أحسن الظن بذي العرش جنى حلو الجنى الشائك من شوك السفا
لا بد أن ينصرنا كما زوى جوداً وأن يمطرنا كما ذوى
فنتعلق بحبل الله أن يغفر لنا ولكم، وأن يهدينا وإياكم وأن يتوب علينا وعليكم توبة نصوحاً.(216/31)
أقل الوتر ركعة واحدة
السؤال
الوتر، ما هو أقله؟
الجواب
أقله ركعة، وأكثره لا حد له، وإذا فاتك في الليل فاقضه من النهار شفعاً، ولو أن بعض أهل العلم يقول: يقضي وتراً لحديث: {من فاته الوتر، فليصله متى ذكره} حديث صحيح.
ودليل من قال يصليه شفاعاً حديث عائشة عند مسلم: {كان صلى الله عليه وسلم إذا فاته الوتر من الليل، صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة} فمن كان وتره إحدى عشرة ركعة، فليصل اثنتا عشرة ركعة، تكون شفعاً في النهار؛ لأن وتر النهار صلاة المغرب، فأنت إذا كان وترك ثلاثاً، فصلِّ أربعاً، وإن كان وترك خمساً فصلِ ستاً، وهكذا؛ وبعد أذان الصبح لا تصل إلا ركعتي الفجر، وأما الوتر فتصليه بعد طلوع الشمس.(216/32)
الوصية بتقوى الله
السؤال
أريد موعظة شافية وكافية؟
الجواب
ما ورد من الكلام فهو موعظة إن شاء الله، ولكن كأن الأخ يريد أن نبدأ من جديد في محاضرة، وأنا أقول: أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل.(216/33)
فرق بين الدعوة وبين الفتوى
السؤال
هل يستطيع الأخ الذي لم يقذف في قلبه طلب العلم، ولكنه يملك موهبة الدعوة؛ لأنه إنسان اجتماعي، فهل يستطيع: أن يدعو إلى الله وهو جاهل، وهو يقول هذا، وحجته أنه يقول: إننا لو كنا جميعاً طلبة علم، لما دعونا إلى الله؟
الجواب
أولاً: أما الدعوة فهي على القدر المستطاع؛ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، قال صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية} وأما الفتيا فشيء آخر لا بد من العلم الراسخ فيها، فأنت كداعية عليك أن تدعو بما عندك ولو لم يكن عندك إلا الفاتحة.
ذكروا عن أحد الصالحين وهو لغوي ونحوي كبير، مات فرئي في المنام كما يقول الخطيب البغدادي، قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر الله لي، قالوا: بماذا؟
قال: أما النحو فما نفعنا بشيءٍ، ولكن علّمت عجائز في قريتي سورة الفاتحة، فنفعني الله بهذا، فهل أحد منا في المسجد يحفظ الفاتحة فيعلمها عجائز نيسابور، أو عجائز مدغشقر، ليدخل بها الجنة، على هذا المستوى لا يعذر أحد عن الدعوة.(216/34)
الخلاف بين علي ومعاوية
السؤال
هل نستطيع أن نقول: إن علي بن أبي طالب ومعاوية، ينطبق عليهم الحديث الذي ذكرته وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما}؟
الجواب
لا والله، هم معذورون مأجورون مشكورون، عندهم تأويل، فـ علي رضي الله عنه يرى أنه إمام مبايع، وأنه خليفة راشد ينبغي أن يطاع وهؤلاء بغاة، ويرى معاوية أن ابن عمه مقتولٌ، وعثمان قتل مظلوماً وقد قال الله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [الإسراء:33] فلـ علي أجران لأنه اجتهد فأصاب، ومعاوية اجتهد وأخطأ فله أجر واحد، وهؤلاء يدخلون في قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].(216/35)
من الخرافات المنتشرة
السؤال
قضية سلفت في البارحة وهي قضية تيس من التيوس، قيد إلى الإعدام وحكم عليه أمس بالإعدام، وقد ذبح على الطريقة الإسلامية، هذا التيس كان فتنة للناس، وربما سمعتم خبره، في جدة ومكة، أُتيَ به يحلب، خنثى مشكل، ويشربون من لبنه، عرض سؤال البارحة يقول: هل هذه كرامة؟
وما هو معتقد أهل السنة والجماعة في هذا التيس؟
الجواب
معتقد أهل السنة والجماعة في هذا أن التيس هو ابن عنز، وأنه لا ينفع ولا يضر، ولا يشفي ولا يرفع ديناً ولا يكشف غماً ولا كرباً، إنما يشفي ويكفي الله الواحد الأحد، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] وأنا قلت للإخوة بالأمس لا يسمع بنا الأجانب فيضحكون علينا، خاصة ونحن جيران بيت الله العتيق، خرافات وخزعبلات، تمائم وتولة، ماكفانا التعلق وتقديس المشايخ، وعبادة المشايخ من دون الله، حتى نعبد التيوس والثيران والحمير، هذا أمر مفزع، أمة أتت بالتوحيد وبرفع لا إله إلا الله ومحمد رسول الله، تأتي بكرامة التيوس.
وقلت إن ابن تيمية ذكر ضابطين للكرامة:
أولها: أن يكون صاحب الكرامة على الكتاب والسنة، يعمل بعلمه، أما أن يأتي فاسق زنديق ويقول: لي كرامة، فلا يقبل منه ذلك؛ فإن ابن عربي والحلاج الصوفي، أتى بأمور مذهلة وبأمور خارقة للعادة، لكن ليس ذلك بكرامة.
الضابط الثاني: أن تكون هذه الكرامة لرفع راية لا إله إلا الله، ولنصرة دين الله، فهذه كرامة، أما هذه الخزعبلات فإنها شركيات؛ ويبتلي الله بها من يشاء: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] وجزى الله هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة خير الجزاء، فقد قادت التيس آسفاً نادماً خاسئاً حقيراً، وذبحته بسكين العدالة، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(216/36)
العلم الأصيل والعلم الدخيل
إن مما انتشر بين المسلمين في هذه العصور كثرة العلوم المختلفة التي ليس منها فائدة إلا ضياع الأوقات والأعمار في البحث عنها وعن جزئياتها، حتى أصبح الناس لا يميزون بين العلم الأصيل النافع, والعلم الدخيل الضار, والناظر في الآيات والأحاديث يعرف حقيقة العلم النافع من غيره, وقد ذكر الشيخ نماذج من العلم الأصيل, ونماذج من العلم الدخيل الذي أصبح منتشراً بين المسلمين؛ فإذا أحببت أن تعرف هذه النماذج فما عليك إلا قراءة هذا الدرس.(217/1)
أهمية الحديث عن العلم الأصيل والعلم الدخيل
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، هدى الله به الإنسانية، وأنار به أفكار البشرية, وزعزع به كيان الوثنية، صلى الله عليه وسلم تسلمياً كثيراً.
أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا الموضوع، موضوع "العلم الأصيل والعلم الدخيل" موضوع كبير وخطير، وتأتي أهميته من ثلاثة أسباب:
السبب الأول: أن الله عز وجل ميز في كتابه بين العلم الأصيل والعلم الدخيل، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم فرق بين العلمين في حديثه الشريف، وكذلك أصحابه والسلف الصالح، رضوان الله عليهم جميعاً.
السبب الثاني: أن هناك عند المقصرين من أمثالي من طلبة العلم وغيرهم -من باب أولى- غبشاً وخلطاً بين العلم الأصيل والعلم الدخيل، فهم يخلطون بين هذا وهذا, ولا يميزون العلم النافع من العلم الضار، ولا المفيد من غيره، ولا الذي من ورائه ثمرة من الذي لا ثمرة من الكد والكدح فيه.
والسبب الثالث: أن هناك خطورة كبيرة من عدم التمييز بين العلم الأصيل والعلم الدخيل، وكثير من الناس لعدم معرفته بفائدة العلم لا يحرص عليه، ولا يحصله، ولا يجلس في مجالسه, ولا يتعلم عند أربابه وأهله، ولا يتعب نفسه في حفظ العلم والتفقه فيه أبداً.(217/2)
مثال لمن لم يفهم ثمرة العلم الأصيل
روى الزبيدي صاحب شرح القاموس أن أعرابياً قدم إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال له عمر: [[أتحفظ شيئاً من القرآن -وهذه هي الميزة والأهلية, وهذه هي الأصالة عند الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم- أتحفظ شيئاً من القرآن؟ قال الأعرابي: نعم.
-وظن أن عمر سوف يكتفي بهذا السؤال, ولا يمتحنه بعد هذا السؤال- فقال: نعم.
قال عمر: اقرأ عليّ أم القرآن -يعني: الفاتحة- قال الأعرابي: والله لا أحفظ البنات فكيف أحفظ الأم؟!! فضربه عمر بالعصا، ثم أدخله يتعلم عند الصحابة]] وكانت طريقة السلف بتعلم الحروف الهجائية, أنهم يبدءون بأبجد هوز, أي: جمع الحروف على هذا المستوى حتى تجمع وتفهم (أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت) حتى ينتهوا من حروف الهجاء، فأتوا يعلمونه، فما فقه حرفاً، فلما سنحت له الفرصة فر من المدينة خائفاً يترقب، ثم قال شعراً وهو في الصحراء قال:
خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري
فلما فر قال:
أتيت مهاجرين فعلموني ثلاثة أسطر متتابعات
كتاب الله في رقٍّ صحيح وآيات القران مفصلات
فخطوا لي أبا جاد وقالوا تعلم سعفصاً وقريشات
وما أنا والكتابة والتهجي وما حظ البنين من البنات
فلقلة علم هذا الرجل بالعلم الأصيل، ما حرص على أن يتعلم، وهذا يصح شاهداً لمن لم يفهم ثمرة العلم, ولم يحرص عليه قال ابن الجوزي: يا ضعيف العزم! لو علمت فائدة العلم؛ لسهرت الليل, وأظمأت النهار، وجعلت نوافلك في العلم.
في كتاب الزهد للإمام أحمد بسند جيد عن معاذ أنه قال رضي الله عنه وأرضاه: [[تعلموا العلم، فإن مدارسته تسبيح، وتعليمه يعدل الصيام والقيام، وإن دعوة الناس إليه أفضل من الجهاد]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.(217/3)
مثال لمن اهتم بالعلم الدخيل وجعله كالأصيل
ومثل آخر لرجل ظن أن العلم الدخيل علمٌ أصيل: دخل عمر رضي الله عنه المسجد النبوي في المدينة، فإذا برجل يقص على الناس من كتاب دانيال، وهو كتاب قديم فيه خزعبلات وخرافات وكذبات، ونطحات عن الأحياء والأموات، ما فيه علم ولا أصالة, يا عجباً! حتى في حياة عمر يظن أنه سوف ينشر مثل هذه الخزعبلات، فجمع الناس في المسجد وأتى يقص عليهم من هذا الخبر الذي يوجد في مثل كتاب بدائع الزهور ووقائع الدهور، ذلك الكتاب الخرافي الخزعبلي المارد الذي ليس فيه علم، إنما فيه كذب من رأسه إلى أخمص قدميه، فقال عمر: ماذا يقول هذا؟ -وأنتم تعرفون أسلوب التفاهم مع عمر رضي الله عنه- فقالوا: يقص علينا من كتاب دانيال فرجع عمر وذهب إلى بيته وأحضر عصا معه حتى يخرج القصص من رأسه حتى لا يقص مرة ثانية، ثم تخطى الصفوف, وجعل العصا وراء ظهره رضي الله عنه حتى تقدم إلى المنبر, ثم أخذ الرجل بتلابيبه وأوقعه في الأرض، وكان عمر جسيماً عملاقاً من دهاة الناس في جسمه وعلمه وزهده، ثم أخذ يضرب في الرجل وهو يقول: يا كذاب! الله يقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] وأنت تقص على الناس من كتاب دانيال، فهذا الرجل مثل لمن ظن أن العلم الدخيل علم أصيل، فإنه أدخل الخزعبلات في العلم الأصيل.(217/4)
مثال لمن لا يميز بين الأصيل والدخيل
وهناك صنف ثالث لا يحرص على التفقه في الدين، ولا يهتم بالتمييز بين الأصيل والدخيل، ولا بين النافع أو الضار، ولا المفيد من غيره، إن جاءت الكلمة عفوية حفظها يوم الجمعة، أو في درس سانح، وإن كان عنده رغبة حضر حلقة العلم، وإن كان عنده عزيمة أو مناسبة، فالله يخلف عليه بخير فإنه لن يحضر.
دخل أبو دلامة على هارون الرشيد وهو رجل دعوب مزاح طريف يدخل على الخلفاء العباسيين، قال هارون الرشيد: يا أبا دلامة سمعنا أنك انقطعت عنا لتتعلم الحديث النبوي في هذه الفترة؛ فماذا تعلمت؟ قال: تعلمت علماً نافعاً يا أمير المؤمنين! قال: أخبرني ماذا حفظت، قال: حدثنا فلان عن فلان، عن عكرمة رحمه الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من حفظ خصلتين دخل الجنة} نسي عكرمة خصلة, ونسيت الثانية، ما الفائدة؟!! ربما كانت منه طرافة، وإلا ربما يكون قد حفظ واحدة على الأقل، وإما أن يكون بليداً بلغ في البلادة المنتهى، فهذا لا التفت للعلم ولا لتمييز الأصيل من الدخيل.(217/5)
العلم النافع في القرآن الكريم
تعالوا معنا لنستقرئ العلم الأصيل والعلم الدخيل من كتاب الله عز وجل, ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أقوال الصحابة والسلف الصالح.(217/6)
العلم النافع في آية الزمر وعلاقته بالخشوع والخشية
يقول عز من قائل عن العلم النافع: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].
قال جهابذة التفسير: ذكر الله العلم هنا بعد قيام الليل، فكأنه يقول: العلم النافع هو الذي يقيمك تصلي في الليل, أو يجعلك قانتاً خائفاً مخبتاً, منيباً خاشعاً, ناسكاً زاهداً؛ فهذا هو العلم النافع: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه} [الزمر:9] ثم لم يعقب الله تعالى بأنه أعد لهم جنات النعيم، ولا قال: وقوا عذاب النار -وهم يوقون النار إن شاء الله- ولكن قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] فكأنه لما ذكر النسك عقب بالعلم النافع، ونأخذ من الآية أن العلم الأصيل هو الذي يحمل العبد على خشية الله وعلى الإنابة إلى الله والزهد في الدنيا, وعلى التقرب بالنوافل إلى الله، وإلا لو لم يكن علماً أصيلاً ما ذكره الله عز وجل بعد قيام الليل, فكأن معنى الآية: لا يستوي الذي يعلم فيقوم الليل ويتهجد لله، مع الذي لا يعلم فلا يقوم الليل ولا يتهجد لله.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] أثر أن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا قرأ هذه الآية بكى طويلاً وقال: [[ذلكم عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه]] لكن لا تختص الآية بـ عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وإنما المعنى هذا واحد من ذلك الجنس, الذي ذكر الله، يقول حسان رضي الله عنه وأرضاه:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً
وفي كتاب المروزي بسند صحيح أن عثمان رضي الله عنه وأرضاه قام ليلة كاملة من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر بركعة واحدة, قرأ فيها القرآن كاملاً: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه} [الزمر:9] ثم قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] إذاً الفائدة من هذه الآية: أن العلم النافع يقودك إلى الخير, والعلم الضار لا ينفعك ولا يقربك, ولا يجعلك تحذر الآخرة، ولا ترجو رحمة الله، ولو حفظ الإنسان من المتون ما حفظ، وحفظ الصحاح والمسانيد والسنن ثم لا يتقرب إلى الله ولا يخشى الله ولا يراقب حدود الله فما هو بعالم، بل هو جاهل بلا شك.(217/7)
العلم النافع في آية المجادلة وعلاقته بالأدب
واسمعوا إلى الآية الأخرى، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] لنقرأ ما قبل الآية، لنتبين ما هو العلم الذي يقصده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أهو الحفظ أو الشهادات، أم هو كثرة التبجح بالمقامات, والمنظومات، والمؤلفات، والمصنفات؟ أم ماذا؟ يقول عز من قائل قبل هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11] قال أهل العلم: ذكر الله العلم هنا بعد الأدب، فالأدب علم، وكثير من الناس يتعلم ولا يتأدب، فلا يتأدب في صلاته ولا في زيارته لأحبابه وإخوانه, ولا في جلوسه في المجلس، ولا يتأدب في استئذانه، ولا في زيارته للمريض، وقيامه وجلوسه, قال أهل العلم: إن قوله تعالى: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} [المجادلة:11] هذا من الأدب الذي يحض عليه الله عز وجل, ثم قال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [المجادلة:11] وعطف عليه {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [المجادلة:11] لأنهم يتفسحون, وينشزون, ويتأدبون، إذاً نأخذ من هذه الآية شاهدين:
الأول: الأدب علم يعبد به الله عز وجل، ولذلك عقد ابن القيم في كتاب مدارج السالكين باب الأدب، وتبع في ذلك شيخ الإسلام أبا إسماعيل الأنصاري، لأنه قال: (ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الأدب) والأدب: حفظ الجوارح مع الله، وقيل أنه إذا خلوت بالله كنت أشد حياء منه، من إذا جلوت بالناس.
وقيل: هي أن تحبس مرادك على مراد الله، قال معاذ رضي الله عنه وأرضاه في الأدب: [[ما بصقت عن يميني منذ أسلمت]] وقال أحدهم: ما مددت رجلي تجاه القبلة منذ عرفت يميني من شمالي، وإن كان ذلك جائزاً وقال ابن المبارك: نحن بحاجة إلى كثير من الأدب مع قليل من العلم، وقال: أن نجعل علمنا طعاماً, وأدبنا ملحاً، والواجب أن نجعل أدبنا طعاماً, وأن نجعل علمنا ملحاً.
ومن الأدب ما تأدب به الصالحون، وربما نذكر بعض النماذج فيما بعد.
والدليل الثاني من الآية: أن من لم يتأدب فقد نقصه علم أصيل, ودخل عليه علم دخيل.(217/8)
العلم النافع والزهد في الدنيا
وقال عز من قائل: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80] وهذه في قصة قارون , ذكر الذين أوتوا العلم والإيمان؛ أما الإيمان فآمنوا بالله وبرسله، وكتبه، والسبب في أن الله وصفهم بالعلم هنا يظهر مما قبلها قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] أي فهؤلاء علمهم دخيل, أحبوا الدنيا, وغبطوا قارون؛ لأن عنده مالاً، وغفلوا عن طاعة الله, وعن حفظ حدود الله، فيأتي العلم الأصيل، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80] مدح الله العلم هنا وسماه علماً؟ بسبب الزهد في الدنيا والإعراض عنها, وطلب ما عند الله؛ فهو علم أصيل، وبمفهوم المخالفة ما خالفه من علم فهو دخيل.(217/9)
العلم النافع هو علم القرآن والتوحيد
وقال عز من قائل: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] وجاءت هذه الآية بعد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] فالعلم المراد هنا علم القرآن، لا يعرف التفسير إلا بالسياق والقرائن وفهم ما قبل الآية مع ما بعدها, فالعلم الأصيل هنا هو علم القرآن.
{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] لو أن الآية قرئت مبتورة لظن بعض الناس أنه يدخل في ذلك علم الفلك -على ما سوف يأتي- وعلم النجوم، وعلم الأنساب, وزيادة معرفة القبائل وبطونها، وأفخاذها وأسرها وعشائرها، لكن قال عز من قائل: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] فدل على أن العلم النافع علم القرآن.
وقال عز من قائل في سورة آل عمران: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]
السؤال
لماذا سماهم الله أولي العلم؟
السبب: أنهم شهدوا لله بالوحدانية واستنبط بعض أهل العلم من هذه الآية أن علم التوحيد علم أصيل، وأن من لم يوحد الله ولم يخلص العبودية لله؛ فعلمه دخيل ولو علم علوم الدنيا، لأن بعض الناس ضلوا وهم علماء، لأنهم خرافيون، قادة ضلالة، وعملاء جهالة، كما مر في تاريخ الإسلام من أمثال ابن الراوندي والحلاج، وابن عربي محيي الدين الطائي صاحب كتاب الفتوحات المكية، وفصوص الحكم وهي فصوص الظلم، وهي ظلمات بعضها فوق بعض، يقول الذهبي: إذا لم يكن كفر في الفتوحات المكية فليس في الدنيا كفر، فهؤلاء لا يسمون أهل علم؛ لأن أهل العلم هنا هم أهل الوحدانية لله.
وقال عز من قائل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] وهذا هو علم التوحيد، وعلم العقيدة، فغيره دخيل وهو أصيل، وقال عز من قائل: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] ثم قال بعدها: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت:44] فدل على أن التفكر والتدبر في آيات الله علم أصيل، وأن من لم يتدبر ولم يتفكر في آيات الله فعلمه دخيل، فالتفكر والتدبر في آيات الله علم أصيل.
وقال عز من قائل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] لهذه الآية معنيان، بأيهما أخذت أصبت
خذا جنب هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق
فالمعنى الأول: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] أي: بل هذا القرآن آيات واضحات، محفوظة في صدور الذين أوتوا العلم؛ فهذا فيه دليل على فضل الحفظ.
والمعنى الثاني: أن هذه الآيات بينات معانيها في صدور الذين أوتوا العلم، أي: أنها مشروحة في صدورهم يعرفون معانيها، أو بيّن معناها في صدورهم لا أنهم يحفظونها، وإن حفظوها فهم يحفظون معانيها في صدورهم.
وقال عز من قائل عن موسى والخضر: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66] إنه العلم النافع دل عليه السياق، ونكتفي بهذا من كتاب الله عز وجل دليلاً على العلم النافع الأصيل.(217/10)
العلم النافع في السنة النبوية
أما في السنة فالرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث عن العلم الأصيل.(217/11)
العلم النافع والهدى
يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث} جمع بين العلم والهدى؛ لأنه لابد من هاتين الكلمتين، فالهدى: هو العمل الصالح، والعلم: هو العلم النافع، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالعلم النافع والعمل الصالح؛ لأن النصارى عملوا لكن عملهم ليس بصالح، واليهود تعلموا لكن علمهم ليس بنافع، أما قال الله عز وجل في النصارى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27] فأضلهم الله لأنهم عملوا بلا علم، وأما في اليهود فقال عز من قائل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13] تعلموا العلم ولم يعملوا به، وفي اقتضاء الصراط المستقيم لـ ابن تيمية أن سفيان بن عيينة قال: وقع في هاتين الآيتين عبّاد من عبّادنا, وعلماء من علمائنا، فمن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه بالنصارى.
قال عليه الصلاة والسلام: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث} وعبر بالغيث ولم يقل: (المطر) لنكتة؛ قال: أهل العلم مثل المطر؟ قال أهل العلم: اختار صلى الله عليه وسلم كلمة الغيث، واختُصر له الكلام اختصاراً، وهو الذي يجيد صنع الكلمة المؤثرة.
ما بنى جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمة من عفاء
فما قال المطر؛ لأن المطر ما استخدم في القرآن إلا في العذاب، يقول عز من قائل: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:84] فعدل صلى الله عليه وسلم عن هذا اللفظ، وأتى بلفظ أرق وأحسن وأبدع وأروع فقال {كمثل الغيث} والغيث فيه ثلاث صفات:
الأولى: صفاؤه ونقاؤه.
الثانية: أن فيه معنى الغوث، يغيث القلوب والأرواح.
الثالثة: أنه حديث عهد بربه.
كان صلى الله عليه وسلم كما في البخاري {= 7004596>إذا أمطرت السماء يخرج فيتمطر} قال البخاري باب من تمطر في المطر -يعني: إذا نزل الغيث- ثم أتى بحديث كان إذا نزل الغيث خرج صلى الله عليه وسلم بثيابه يتمطر وقال: {إنه حديث عهد بربه}.
مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل الغيث أصاب أرضاً -وهذه الأرض هي الأمة الإسلامية وغير الإسلامية- فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وهؤلاء أهل الفهم والحفظ، وأهل الدعوة؛ حفظوا النصوص، وأخرجوا كنوزها، وشقوا أنهارها، وغرسوا أشجارها، وأخرجوا ثمارها، وبلغوها للأمة، وهذه أمثال أهل العلم الكبار من السلف الصالح.
وطائفة أخرى وهي الأجادب، أي: غدران، حبست الماء فنفع الله بها الناس, فسقوا, وزرعوا, وشربوا، وهذه طائفة حفظت, ولكنها ما تفقهت ولكنها أمسكت النصوص للأمة، كما يقول ابن حجر والقرطبي.
وكان منها أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، هؤلاء لا حفظوا ولا تفقهوا، ولا تعلموا ولا علموا ولا تبصروا -نسأل الله العافية والسلامة- فقال عليه الصلاة والسلام حاكماً على الطوائف الثلاث: {فذلك مثل من نفعه الله بما أرسلني به فَعِلم وعَلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً, ولم ينفعه ما بعثني الله به} صدق صلى الله عليه وسلم.(217/12)
الفقه في الدين وفضله
استفدنا من الحديث: أن علم الحديث الأصيل هو ما أفاد ونفع في الدنيا، أما من لم يتجه إليه, أو تشاغل عن علم الكتاب والسنة، فإنه ليس بنافع علمه ولا أصيل ولا مفيد, ويقول عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}.
فدل الحديث على أن الفقه في الدين وتعلم أحكامه وأسراره هو العلم الأصيل، ولذلك يقول بعض أهل العلم: أثر عن بعض الصوفية أنه كان في بيت المقدس له زاوية, فكان هذا الصوفي جالساً مع الناس في بيت المقدس، فلما صلى العشاء قام إلى زاوية من زوايا المسجد، وقام عالم من العلماء يدرس الناس كتاب الحيض بعد صلاة العشاء، وأما ذاك الصوفي فإنه يقول: حي حي، حي حي، ولما قرب الفجر قام الصوفي على هذا العالم وقال له: وصل الواصلون إلى الله, وأنت في كتاب الحيض، قال: بماذا؟ قال: لقد قلت حي حي كذا كذا ألف، وأنت تدرس الناس كتاب الحيض، قال: نسأل عالم المسلمين أبا علي الروذباري، فذهبا يسألانه، قال: ما عندكما؟ قال الصوفي: أما أنا فجلست أتصل بالله, وأذكر الله, وأقول حي حي، وأما هذا فجلس بعد صلاة العشاء يعلم الناس الحيض، فقلت: وصل الواصلون والعارفون، وأنت ما زلت في كتاب الحيض، فقال أبو علي: نعم.
وصل الواصلون من أمثالك, ولكن وصلوا إلى سقر، وذلك لأنه عطل نفسه من العلم النافع، والأمر الثاني: أنه ابتدع ذكراً ما أتى به صلى الله عليه وسلم، هل علم صلى الله عليه وسلم الناس أن يقولوا: حي حي، وهل هذا ذكر؟
وابن عربي الطائي صاحب الفتوحات، يقول: هو هو، فهو ينبح مثل الكلب، ويسمى "ذكر الضمير" حتى يقول: إذا بلغ هذه الكلمة فيكررها وهو الذكر الخالص، ويقول في قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] قال: إذا نسيت الله فقد ذكرت الله، وقالوا في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] يعني: الصحابة في أحد , قال الله عز وجل فيهم، معنى الآية: أن الله مدح بعض الصحابة يعني: أن منكم من يريد الغنائم ومنكم من يريد الجنة، فصفقت الصوفية وقالوا: الله المستعان! وأين الذين يريدون الله؟ فأبطلوا الطائفتين، وخطئوا الفريقين.
يقول صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} طلب الأحكام أجل عبادة، ولذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "لأن أتعلم حديثاً خير من أن أصلي"، وسأله سائل: أجلس أتعلم الحديث أو أتنفل؟ قال: "تعلم الحديث" وهذا الكلام فيه تحفظات، ومحترزات, سوف ترد مناسبته إن شاء الله.(217/13)
العلم النافع ثلاثة
يقول عليه الصلاة والسلام في العلم الأصيل: {العلم ثلاثة، وما سوى ذاك فهو فضل آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة} رواه أبو داود وابن ماجة وفي سند ابن ماجة ابن لهيعة وهو رجل ضعيف، فاضل عابد, لكن دخل عليه الضعف، فضعف سنده، وأما في سند أبي داود فـ عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي ضعيف، ولكن ربما تعتضد إحدى الروايتين بالأخرى فتستقيم إن شاء الله فدل كلامه صلى الله عليه وسلم على أن العلم الأصيل عند المسلمين يتركز على ثلاث نواح:
كتاب عظيم أنزله الله للناس وهو القرآن، وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلم الفرائض، وسوف تأتي علوم لا نجعلها دخيلة، بل هي إن شاء الله أصيلة، وأثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ بالله من علم لا ينفع، والذي يستعيذ منه صلى الله عليه وسلم هو العلم الدخيل المشوب بالدخن، قال زيد بن أرقم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها} رواه مسلم وزاد الأربعة: {ومن دعاء لا يسمع} وزاد الترمذي: {أعوذ بك من هذه الأربع} فتعوذ صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع.
وقال عليه الصلاة والسلام كما عند ابن ماجة: {سلوا الله علماً نافعاً فإنه ربما يكون العلم غير نافع} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ذكره في المقدمة، وكان عليه الصلاة والسلام كما روى الترمذي عن أبي هريرة يقول: {اللهم انفعني بما علمتني, وعلمني ما ينفعني، وزدني علماً} فالعلم النافع الذي يريده صلى الله عليه وسلم هو الكتاب والسنة، والفرائض، وسوف تأتي علوم تندرج تحت العلم الأصيل.
قال البخاري في كتاب العلم، وإنما العلم بالتعلم، وتعلم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الكِبَر، وقال ذلك لأن بعض غلاة المتصوفة، أو أهل الطرق، أو الذين أخذوا أعمال القلوب وجعلوها القضية الكبرى, يقولون: نحن لا نتعلم، إنما يأتينا علمنا من السماء، ينزل عليهم جبريل عليه السلام بالعلم، وقالوا: علمنا علم الخرق لا علم الورق، والخرق هي الثياب الممزقة التي يلبسها المتصوفة، وكانوا يغضبون على أهل الحديث إذا رأوهم يحملون صحفاً بيضاء في أيديهم، ولذلك ذكر ابن القيم في مدارج السالكين أن أحد هؤلاء المشعوذة والمتفلسفة والمتصوفة يقول: علمكم من عبد الرزاق، وعلمنا من الخلاق، عبد الرزاق بن همام الصنعاني صاحب المصنف أحد رواة الصحيحين من أكبر وأشهر المحدثين على الإطلاق، قال ابن القيم راداً على ذلك: والله يا ضعيف العقل! لولا عبد الرزاق وأمثال عبد الرزاق ما عرفت الخلاق، ولذلك قال البخاري: العلم بالتعلم وهو أن تحفظ وتكتب, وتقرأ وتدرس, وأن تطالع، ليس العلم أن يجلس الإنسان في زاوية ويقول: يفتح عليَّ فتوح, وينزل عليَّ, فهو العلم اللدني الذي يسمونه ويطنطنون به، ولذلك قال أبو سليمان الداراني كما ذكر عنه ابن كثير والذهبي: عملنا -يقصد أهل الطريق، زهدهم وعبادتهم- يقول: عملنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن, ولم يكتب الحديث، فلا تثقوا به.
وأثر عن الجنيد أنه قال: إن النكتة تقع في قلبي من نكت القوم -أي كلمة يسمعها- فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين، وهما الكتاب والسنة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {اللهم إني أسألك إيماناً دائماً؛ فرب إيمان غير دائم, وأسألك علماً نافعاً؛ فرب علم غير نافع} ذكره أبو نعيم صاحب الحلية، وشطره الأول ذكره الطبراني في المعجم الكبير بسند جيد، ووقفه الإمام أحمد على ابن مسعود، وذكره الحاكم وابن حبان من حديث أنس وصححوه؛ فكأنه لا يصح مرفوعاً.(217/14)
الأسس التي يدور عليها العلم النافع عند السلف
والعلم النافع هو العلم الأصيل وأبوابه سنتحدث عنها.
ذكر البخاري رحمه الله في كتاب الأدب من صحيحه أن عبد الله بن عون قال: ثلاث نحبهن لإخواننا، قالوا: ما هي؟ قال: هذا القرآن أن يتعلموه, وأن يعملوا بما فيه، والسنة أن يتفقهوا فيها، وأن يدعوا الناس إلا من خير.
والعلم النافع عند الصحابة والسلف الصالح -كما يقول ابن رجب - يدور على ثلاث نواح أو على ثلاث واجهات كما سيأتي(217/15)
القرآن من أسس العلم النافع
القرآن أول أسس العلم الأصيل، ومن لم يهتم بالقرآن فما نفعه علمه، بل هو وبال عليه، ولذلك قال شعبة بن الحجاج: يا أهل الحديث! مالكم كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في القرآن؟
فبعض الناس لسوء فهمه وتدبيره إذا أتى يطلب العلم، قدم كتب البشر على كتاب الله، فلا يتحفظ من القرآن شيئاً ويحفظ الأحاديث, وربما حفظ الصحيحين، أو شيئاً من السنن والمسانيد، وربما حفظ الفرائض وعرف القسمة، والضرب والتوزيع، والعول والأنصباء والرد، ولكنه لا يحفظ القرآن، فكيف يقدم قبل القرآن شيئاً آخر!
إن أصالة العلم تبدأ بالقرآن، كان السلف إذا أتى طالب العلم، يقولون: أحفظت من القرآن شيئاً؟ فإن قال: نعم.
حفظَّوه وعلموه وفهَّموه ودرَّسوه، وإن قال: لا.
قالوا: عد فتعلم القرآن ثم تعال.
فالعلم الأصيل هو علم القرآن، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام لـ أبي بن كعب كما في الصحيح: {أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فأخذ صلى الله عليه وسلم يده ثم ضربها في صدره وقال: ليهنك العلم أبا المنذر} فالعلم هنا هو القرآن، فدل كلامه صلى الله عليه وسلم على أن العلم الأصيل هو القرآن، ولذلك يقول عز وجل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فسماه علماً نافعاً.(217/16)
السنة من أسس العلم النافع
ومن فرق بين القرآن والسنة فهو خارجي مارق، سفيه جاهل, يؤخذ على يده ويؤدب، وقد سمعت نعقات في العالم الإسلامي بعضها تقول: نكتفي بالقرآن، وأُلِّفَ في ذلك كتاب, وحمل الناس على أن يعتقدوا أن لا شريعة إلا في القرآن, وهذا ضال مارق من الإسلام سخيف سفيه، قد افترى على الله عز وجل, صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {رب رجل شبعان ريان على أريكته، يأتيه الأمر من أمري فيقول: حسبكم القرآن، ما وجدتم في القرآن من حلال فأحلوه، وما وجدتم في القرآن من حرام فحرموه، ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه, وفي لفظ: ومثليه معه} فمن فرق بين القرآن والسنة، أو قال: يكفينا القرآن، فقد ضل وجهل، وهذا يأتي من طائفتين من الناس:
طائفة: عندهم فكر خارجي، وقلة علم، وتشدد وغلو في الدين، يتمسكون بظاهر القرآن،
وطائفة أخرى: جاهلة، يقول أحدهم: يكفينا القرآن، وإذا رأى الناس يتعلمون صحيح البخاري ومسلم يقول: تشاغلوا بالقرآن واتركوا هذه الأحاديث، وهذا خطأ بل لا بد من الوحيين (القرآن والسنة) لتبين للناس ما نزل إليهم، ولا يبين إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.
هل في القرآن أن صلاة الظهر أربع، وصلاة العصر أربع، وصلاة المغرب ثلاث، وصلاة الفجر ركعتان؟
هل في القرآن أن أنصبة الزكاة في كل أربعين شاة شاة، وفي خمس من الإبل شاة، وفي أربعين من البقر مسن أو مسنة؟ هل في القرآن الطواف وبيان من أين يبدأ وأين ينتهي، والسعي والوقوف والرمي؟(217/17)
فهم السلف الصالح
والأساس الثالث: علم الصحابة، وميزة علم الصحابة على علمنا ثلاث:
1 - يسر علم السلف:
الميزة الأولى: أن علمهم يسير، وبعض الناس بحسن قصد أو بسوء قصد صعبوا العلم على الناس، حتى تجده يقول: لن تحصل على العلم، حتى تترك المنام، وتهجر الفراش، وتقلل من الأكل، وتقرأ في اليوم كم ساعة، وفي الليلة كم ساعة، وتحفظ هذه المنظومات، وهذه المتون، فيأتي طالب العلم فيصطدم بهذه الألغاز التي نصبوها شباكاً للناس, ويعود خائباً خاسراً حسيراً على وجهه فلا يطلب العلم، يقول: ما دام أن العلم بهذه الصعوبة فلن أطلبه، حتى يقول محمد بن إبراهيم الوزير -العالم الكبير النحرير؛ اليمني، الذي يعتبر من فطاحل العلماء في القرن الثامن- يقول: لقد اشترط المتأخرون في العالم شروطاً لا تنطبق على أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما، نعم.
اقرءوا في كتب أصول الفقه، يقولون: أن يحفظ القرآن، ويحفظ كذا ألف من الحديث، ويعرف أصول الفقه، ويلم باللغة، ويحفظ كذا من القواعد، وكذا من الضوابط، تعال طبق هذه الأمور على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
فميزة علم الصحابة اليسر، نقولها بكل شجاعة وجرأة، كان عليه الصلاة والسلام يقرأ الآيات، فيعرفون معناها، ويعطيهم الحديث فيستخرجون منه الحكم، أما يقول الله عز من قائل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] قال مجاهد: ولقد يسرنا طلب العلم, فهل من طالب علم؟ تأتي بما أتاك الله من فهم بعد أن تستغفر كثيراً, وتتوب إلى الله، وتصحح النية وتطلب العلم لوجه الله، فسوف يفتح الله عليك، أما هذه التشديدات وهذا التزمت والتشنج الذي عرض من القرن الخامس فما بعد, وحرموا الناس من طلب العلم لأجله وردوهم إلى صعوبات، وأوثقوهم حبالاً وأنزلوهم جبالاً، فهذا ليس بوارد، فعلم الصحابة يسر، إن أبا بكر لم يرو من الحديث إلا ما يقارب مائة وخمسين حديثاً في كتب السنة، وهو أفضل وأعلم وأتقى وأورع من أبي هريرة الذي روى خمسة آلاف وسبعمائة وستة وعشرين حديثاً، وبعض الناس يعيش في هذا العصر, فيحفظ عشرة آلاف حديث، فهل هو أعلم من أبي بكر؟ لا والله، لكن في الموطأ موقوفاً: {ما سبقكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكن بإيمان وقر في صدره}.
2 - عمق علم السلف:
فعلمهم عميق ليس بسطحي، روى سعيد بن منصور في السنن أن ابن مسعود رضي الله عنة وأرضاه، قال: [[يا أيها الناس! عليكم بأصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، فإنهم أبر الأمة قلوباً, وأصدقها لهجة, وأعمقها علماً, وأقلها تكلفاً]].
العمق في العلم الدقة, ومعرفة المقاصد، وأخذ العلم النافع.
3 - علم السلف يطلب للعمل:
والميزة الثالثة لعلم الصحابة: أنه علم يطلب للعمل، أما نحن -نسأل الله العافية والسلامة- واسألوا أنفسكم جميعاً، لو فكر أحدنا في اليوم والليلة أن كثيراً من المسائل يتشاغل بها وقد لا تعرض عليه في حياته الدنيا، وقد لا يستخدمها, ولا يحتاج إليها, وقد ينشغل بها عن الفائدة, أو عن العلم النافع الذي يحتاج إليه في كل ساعة ولحظة، فعلم الصحابة علم يراد للعمل, روى الدارمي في كتابه السنن بسند حسن إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه، أن صبيغ بن عسل -أحد أهل العراق - أتى فجلس في الجيش عند أبي موسى الأشعري في العراق، فجلس بين الصحابة يطرح الشبهات ويضارب بين الآيات، يقول: قال عز وجل: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} [النازعات:1] ويقول هناك: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} [المرسلات:1] ويقول هناك: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} [الذاريات:1].
فيقول بعض الجيش: لا ندري والله ما المراد، فيقوم من الحلقة ويجلس في الحلقة الأخرى ويقول: لماذا يقول الله عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] ويقول هناك: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] هنا ينفي السؤال وهنا يثبت
السؤال
فقالوا: لا ندري، فرفع أمره إلى أبي موسى , فرفع أبو موسى أمره إلى p=1000202>> عمرو بن العاص، فأتى p=1000202>> عمرو بن العاص فأخبر عمر، قال عمر: أين الرجل؟ قال: في رحالنا، يعني: تركته مع الإبل في طرف المدينة، قال: احذر, لا يفوت الرجل فتمسك مني عقوبة، ثم قال: عليّ به، فذهب عمرو رضي الله عنه يأتي بالرجل، أما عمر فقال: عليّ بعراجين النخل، يريد أن يعالجه ويجيب على أسئلته بما لا ينساه أبد الدهر، تمر به ثلاث وعشرون سنة وستة أشهر فلا ينسى، فلما أتوا بعراجين النخل خضراً, وضعها بجانبه وقال: تعال، أأنت الذي يسأل في الجيش؟ قال: نعم.
قال: امسك الرجل، فأمسك رجل بيمينه وآخر بيساره، ثم أتى عمر وضربه ضرباً حتى أدماه، فلما غشي عليه، قال: رشوه بالماء، واذهبوا به إلى رحالكم وغداً تأتونني به، فذهبوا به، وفي الغد أتوا به، فضربه عمر حتى أدماه، فقال عمر: رشوه بالماء، واذهبوا به وغداً تأتونني به، فأتوا به في اليوم التالي، فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد دوائي فقد داويتني، وإن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، فقال عمر: يا عدو نفسه! يا عدو الله! قاتلك الله، ومن كلفك أن تتعمق هذا التعمق وتسأل هذا السؤال، والذي نفسي بيده، إن عدت إلى ما كنت تفعل لأجعلنك عبرة للمعتبرين, وعظة للمتعظين وصدق رضي الله عنه ثم قال للجيش: لا يكلمه منكم أحد؛ اهجروه فكان يجلس وحده لا يكلمه أحد، ولا يسلم عليه أحد، حتى طالت به المدة، فتاب وأناب وأتى إلى أبي موسى يبكي، وقال: ردني إلى الناس، فكتب لـ عمر وأخبره، وقال: دعه يكلمه الناس ويجلسوا معه.
علم عمر أن العلم الدخيل سوف يدخل على الأمة بالتشكيك في الكلام, والجدل الذي يقضي على الأعمار, ويضيع الليالي والأيام, جلسة طويلة من بعد صلاة العشاء إلى ما يقارب الساعة الثانية عشرة في جدال عن دوران الأرض، ويقوم بعض الناس فيتضارب ويتصارع مع بعض الناس في المجلس، كيف تدور الأرض؟ وبعضهم يقول: لا تدور، والله لا يسألنا يوم القيامة، هل تدور الأرض أو لا تدور؟، وبعضهم يسأل، ويقول: أطفال المشركين هل يعذبون أو لا؟
وجدل عقيم لا طائل فيه، ولو أدرك عمر بعضنا لضربهم ثلاثة أيام؛ لأنه يريد أن يشتغل الناس بالعلم الأصيل لا بالعلم الدخيل.
تقدم أن علم الصحابة يتميز باليسر والعمق وأنه يطلب للعمل؛ أتى رجل إلى زيد بن ثابت فسأله مسألة، قال: [[أوقعت هذه المسألة؟ قال: لا، قال: إذا وقعت، فتعال لنتجشم لك الجواب]] وأكثر المسائل الآن يجاب عنها وما وقعت.
يأتي أحد الناس يقول -مثلاً-: لو صليت خلف الصفوف، ثم ما شعرت أنهم يصلون الظهر, وهم يصلون العصر، فماذا الحكم؟ وهو ما فعل وما صلى وما حدثت له القصة.
ومن ضمن الأمثلة كذلك: أهل التفسير وهم مشكورون ومأجورون على عملهم, يأتون بمسائل لا يستفاد منها صراحة، كلون الكلب الذي كان مع أهل الكهف، قال بعضهم: كان مبرقشاً، قال ذاك: أخطأت ليس مبرقشاً، بل هو مبرقع، فيرد عليه آخر قال: لا.
بل هو أحمر يميل إلى الصفرة، فيقول ذاك: بل هو بنفسجي يميل إلى الحمرة، والواجب أن تتأكد من النقل، ثم يقول: والأحسن الذي نخرج به من الجدل أن يكون على عينيه نقطتان بيضاوان، وهذا ما كلفنا بطلبه ولا بعلمه، والله يقول بعدها: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً} [الكهف:22] يقول: لا ينفعك أنهم ثلاثة ورابعهم كذا، أو خمسة وسادسهم، أو سابعهم وثامنهم، قال تعالى: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ} [الكهف:22].
وبعضهم يقول: اسم المرأة التي هم بها يوسف وهمت به زليخا، قال الثاني: لا.
اسمها برجا، قال الثالث: لا.
اسمها يازي، وهم ليس لهم سند ولا رواية، يسودون الصحف بهذا الكلام، فهذا من العلم الدخيل على المسلمين، وقد حصل في الأمة.(217/18)
العلم الأصيل يدل على أربعة أمور
وقبل أن آتي إلى العلم الدخيل, وأذكر أقسامه، أذكر ما يدل عليه العلم الأصيل؛ قال أهل العلم مثل: ابن رجب والذهبي، العلم الأصيل يدل على أمور تجتمع في أربعة؛ فإذا لم يدلك العلم عليها، فاعلم من أول الطريق أنه غير نافع.
أولها: على معرفة الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، فهذا أول ما يدل عليه العلم النافع.
إذا ما لم يفدك العلم شيئاً فليتك ثم ليتك ما علمتا
فتقوى الله رأس الأمر حقاً وليس بأن يقال لقد رأستا
فالعلم النافع: هو الذي يدلك على معرفة الحي القيوم، ليس كمعرفة اليهود والنصارى، الذي يعرف الله ويسكر في الليل، فهذا عرف الله كما يعرف الكلب أن له رباً، وهذه معرفة لا تنفع، إنما العلم الخشية، وإنما يخشى الله من عباده العلماء.
الأمر الثاني: المعرفة بما يحبه الله ويرضاه وهي ثلاثة أقسام:
ففي العقائد: عقيدة أهل السنة والجماعة، وفي الظاهر: الحلال والحرام، وفي الباطن: اعتقاد القلب بالصفات الجميلة، والردع والتخلي عن الصفات الذميمة، هذا هو العلم النافع الذي يدل على ما يحبه الله ويرضاه، ويحصل هذا بالتفقه في الدين.
والأمر الثالث: الذي يدل عليه العلم النافع، دعوة الناس إلى هذا العلم.
علامة العلم النافع أن تحرص على نشره بين الناس, وتحرص على تبليغه، فلا تكتمه ولا تحجر عليه، لا تتعلم وتثقل على نفسك، فإن معنى ذلك أنك تميت العلم في نفسك.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160].
الأمر الرابع: الزهد في ما لا يقرب من الله الحي القيوم.
علامة العلم النافع: الزهد في الدنيا، فازهد في غير كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(217/19)
العلم الدخيل والأمثلة عليه
تعال الآن إلى العلم الدخيل نستقرئه من كتاب الله عز وجل، يقول عز من قائل: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78].
هذه حكاية عن بني إسرائيل, وعن كل من شابه بني إسرائيل، ومنهم أميون: أي: لا يكتبون ولا يقرءون, لا يعلمون الكتاب إلا أماني، الأماني التلاوة, أي: لا يعرفون من كتبهم إلا التلاوة، فلا فهم ولا استنباط ولا فقه، ولا خشية ولا عمل، فهم يمرون عليه مر السحاب، قال الشاعر في عثمان بن عفان:
تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر
كما يقول ابن جرير مستشهداً بهذا البيت، ومعناه تلا كتاب الله أول الليل، واستشهد في آخره، قال ابن عباس: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون، قال: أماني: يكذبون كذباً، وقال مجاهد والضحاك: زوراً وبهتاناً، وقال ابن جرير: الأشبه بالآية أن معناها أن منهم من لا يعرف من القرآن إلا ما يكذب به على الناس، أو يقول به زوراً وبهتاناً، والأشبه كذلك بالآية أن منهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أماني, أي: ليس عندهم إلا تلاوة بلا تدبر ولا فقه ولا فهم، {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78] أي: يتخيلون ويوسوسون.
قال عز وجل: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة:102].
وهذا علم السحر ونعوذ بالله من علم السحر، فمن العلوم الدخيلة علم السحر، من علم أو تعلم، أو حرص على علم شيء منه؛ فقد أحبط الله عمله، وهو من الكبائر عند جمهور أهل العلم، وحد الساحر ضربة بالسيف كما ورد، فذكر الله العلم الدخيل, بعدما ذكر السحر، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم.(217/20)
من العلم الدخيل علم بني إسرائيل
وقال عز وجل في علم دخيل وعالم دخيل ما نفعه علمه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ.
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176].
"إياك أعني واسمعي يا جاره" و"مصائب قوم عند قوم فوائد".
هذا الرجل عالم من علماء بني إسرائيل علمه دخيل واسمه بلعام بن باعوراء كما يقول ابن كثير وغيره من المفسرين.
بلعام بن باعوراء تعلم علماً من علم التوراة، ثم أتى وعَلِمَ الله الخبث من قلبه, وعلم الخسيسة والدسيسة في نفسه، فبعد أن تعلم كفر بما أنزل الله على رسله، واستبدل بالعلم وتبليغه الدنيا، وأغري بالقصور من الكفار, وانقلب على عقبيه, وكتب لموسى بالردة عن دين الله عز وجل، فقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: اتل على طلبة العلم، اتل على جيلك وعلى أصحابك، اتل على أمتك أن رجلاً تعلم علماً آتيناه آيات بينات في صدره.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] يا لروعة التصوير: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] قال ابن كثير: جمال ما بعده جمال؛ انسلخ كالحية عندما تنسلخ من قشرها، وكالثعبان عندما ينسلخ من جلده، لم يقل انخلع أو انحط، نعوذ بالله من الانسلاخ: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:175] وما قال (تبع الشيطان) وهذا فيه وجه بلاغي، أي أنه بلغ من شيطنة هذا الرجل أن الشيطان يتبعه، يقول بعض شياطين الإنس من الفجرة:
وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
أصبح إبليس من جنده، ففي مرحلة من المراحل كان مقوداً للشيطان, يقول: ثم تطورت به الأمور حتى صار الشيطان من سريته.
سر الجمال في الآية: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:175] أن الشيطان أتبعه، لقوة شيطنته.
{فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175] ولم يقل: من المغوين؛ لأن الغاوين يغوون غيرهم، لأن العالِم إذا زل، زل بزلته عالمَ.
حتى إذا رأيتم بعض الناس ممن أوتوا العلم يصلي في بيته، صلى كثير من العوام في بيوتهم، وقالوا: فلان يحفظ الترمذي بأسانيده وسنن ابن ماجة ويصلي في البيت وهو عالم، لا بد أنه قرأها في القرآن, فإذا أطال ثوبه أسبلوا أثوابهم، وقالوا: وجدها العالم فيه، وأكثر العصاة في مجتمعنا الآن يستدلون ببعض من يذنب، والعلماء غير معصومين فيخطئون كما يخطئ البشر، لكن يجعلون الهفوة الواحدة صورة مكبرة فإنه يقال: انظروا إليه كيف أخطأ، وإذا سمع الغناء يقول: الغناء ليس فيه بأس فنسمعه، فقال الله عز وجل: {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف:175 - 176] يقول: لو علمنا من الرجل خيراً كنا رفعنا رأسه ومجدناه, وشرفناه وكرمناه، ولكنه أخلد إلى الأرض، أي: أحب التراب، وعشق الدنيا, وأحب المنصب والذات والمدح، نعوذ بالله من ذلك: {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:176] وانظر إلى المثل: مثل الله بصنفين قبيحين، مثل بالحمير وبالكلاب لعلمائهم، فالكلب أخس مثل لمن تعلم، فخبثه معه سواء تعلم أو لم يتعلم، والحمير لمن عنده علم في صدره ولم ينفعه علمه: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] المجلدات والمصنفات على ظهر الحمار، لكن يذهب بها لا يدري ما هو صحيح البخاري من صحيح مسلم من مستدرك الحاكم، هذا مثل العالم الذي ما استفاد من علمه: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] أي: إن أدخلته في الشمس أو أخرجته منها مد لسانه ولهث, وجربوا بالاستقراء تجدوا هذا.
ويقول تبارك وتعالى متحدثاً عن العلم الضار المذموم الدخيل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23].
قال بعض أهل التأويل: وأضله الله على علم, أي: عنده علم فأضله الله, لأنه ما طلب الهداية، هذا وجه من وجوه التفسير والمهمة أو الصائبة في المسألة.
وقال عز وجل في العلم الدخيل: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر:83] علم دخيل ظنوا أنه علم، وهذا يشمل اليهود والنصارى الذين لم يدخلوا في هذا الدين، ويشمل كفار قريش أو كل كافر، فإن كل معاند يظن أن عنده فهماً وعلماً، فعلمه العلم دخيل؛ لأنه ما قاده وما عرفه على الحق، إذاً فالفائدة من هذه الآية: أن كل علم لا يدلك على الحق فهو علم دخيل، وكل علم لا يسددك ولا يردك إلى الصواب فهو علم دخيل.(217/21)
من العلم الدخيل العلم بالدنيا مع جهل الآخرة
قال الله عز وجل: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] علم الظاهر ليس المراد علم الظاهرية كـ داود بن علي وابن حزم، هذه ناحية أخرى، لكن المقصود: هم الذين يعرفون علوم الدنيا ولكنهم في علم الآخرة تجد أدمغتهم أدمغة حمير, لا يعرفون شيئاً, يقول عز وجل: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] أي: لا علم لهم أصلاً أو بلغ حقيقته لما عاينوا الآخرة, وعلى المعنى الأول هم في الدنيا يحللون لكن ليس عندهم شيء عن الآخرة، قال عز وجل: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] والعلم الدخيل ذكر بعضه في السنة المطهرة، وبعضه في كلام السلف الصالح، وبعضه من استقراء أهل العلم.(217/22)
التوسع الزائد في علم النسب علم دخيل
من العلم الدخيل علم النسب إذا زاد عن الحاجة؛ يقول عليه الصلاة والسلام، لما قيل له في حديث أنس: {يا رسول الله! ما أعلم فلاناً! قال: بماذا؟ قالوا: بعلم النسب قال: ذلك علم لا ينفع وجهالة لا تضر} ذكر هذا الحديث ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله , وذكره السمعاني في الأنساب , وقال ابن عبد البر: الأشبه أنه موقوف.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: {تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم} فرواه الترمذي والحاكم بسند صحيح، وذكره الذهبي وأقر الحاكم على تصحيحه.
إذاً فالفائدة من علم النسب:
معرفة ما نصل به أرحامنا، وما زاد عن ذلك فهو علم دخيل، فإن بعض الناس يفنون أعمارهم لا يتفقه في الدين ولا يتدبر القرآن، ولا يعرف الحلال والحرام، بل ولا ضروريات الدين في الحياة، وهو مشغول ليل نهار بأنساب القبائل، قبيلة عتيبة تعود إلى هوازن، وقبيلة مطير أصلها من غطفان، وقبيلة خثعم أصلها من قبائل شنوءة، وذاك أصله من بني عبد مدان، وذاك من عبد شمس، وذاك من بني عبد الدار، وعمة فلان خالة فلان، وجد فلان ابن عم لفلان، فهذا علمه لا ينفع وجهله لا يضر، لو ينسب لنا القبائل أو يرد لنا العمات مع الخالات، والجدات مع الأمهات، فما نفعنا وما قدم لنا شيئاً، سواء رضي أم غضب، إنما يستفاد من علم الأنساب ما يصل به الأرحام، تعرف أن هذه قريبة، وأن هذا خال، وأن هذا عم، فهذا المفهوم في الإسلام.(217/23)
علم النجوم علم دخيل خبيث
ومن العلوم الدخيلة: علم النجوم:
يقول عليه الصلاة والسلام: {من اقتبس شعبة من علم النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر} وفي لفظ: {زاد ما زاد} أي: إن زاد شعبة زاد الله له من السحر شعبة، روى هذا الحديث أبو داود وابن ماجة والطبراني بسند صحيح.
ورخص أهل العلم في التعرف على بعض المنازل لمعرفة القبلة، قال قتادة بن دعامة السدوسي: للنجوم ثلاث فوائد، من زاد أو من حرف، أو من ظن أن لها منافع غيرها فقد ضل سواء السبيل:
الأولى: أنها هداية للمسافر، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:97].
الثانية: أنها زينة للسماء، قال تعالى: {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر:16].
الثالثة: أنها رجوم للشياطين، قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5].
ومن يتعمق في علم النجوم فقد ضل سعيه وخسر حظه, وكذا إن علق بها أموراً، قال أهل العلم: من تعلق وتعلم علم النجوم أصيب بأمور:
أولاً: قلّت عقيدته بالله عز وجل المدبر المصرف الرازق الخالق.
الثاني: أساء ظناً بالمسلمين وقال: صلاة المسلمين إلى غير القبلة، لأن سهيل اليماني على يده اليسرى، وهذا المسجد منحرف، ومسجد آل فلان يصلون إلى غير القبلة، والأصل أن يكفيك حديث: {ما بين المشرق والمغرب قبلة} يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وسع في القبلة، ولو انحرف الناس قليلاً واجتهدوا لكانت صلاتهم صحيحه، فمن أخذ النجوم للقبلة فقد ضل، يقول الإمام أحمد: يكفي هذا الحديث عن علم النجوم فعلم النجوم، نسبة الأنواع، أو نسبة الأمور، أو المواليد أو الوقائع والأحداث، أو الزلازل والبراكين إلى النجوم وهو ضلال مبين، يقول الذهبي: خزعبلات وسفاسف لا يتشاغل بها إلا من أضل الله سعيه في الحياة الدنيا والآخرة.(217/24)
التعمق وتشقيق الكلام
ومن العلم الدخيل: التعمق والتشقيق:
التعمق هو تشقيق الكلام والتعمق فيه، والإتيان ببعض المناسبات, وبعض المقاصد التي لا تمت إلى الشريعة ولا إلى القرآن بصلة، يقول أهل العلم في تفسير الرازي: فيه كل شيء إلا التفسير، وهذه الكلمة فيها شيء.
وبعض العصريين ألف تفسيراً اسمه الجواهر، أتى فيه بأمور عجيبة، فمثلاً: في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] يقول: وفيه يستفاد أن الخط المستقيم هو أقرب الخطوط بين نقطتين، ومن أين أتى إلى الآية هذا الكلام، قال: وفي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} [المرسلات:30] فيه دليل على أن المثلث ذو ثلاث زوايا منفرجة؛ هندسة, وطب, وجغرافيا, وكيمياء في القرآن، ولذلك قال صاحب الظلال: هذا المنهج لا أرتضيه، وهو إخراج وتكلف وتشقق وتعمق من غير حاجة.(217/25)
كثرة الكلام
ومن العلم المذموم: تكثير الكلام:
قال حماد بن زيد لـ أيوب بن أبي تميمة السختياني أحد علماء البصرة، من التابعين: يـ ابن أبي تميمة! الحمد لله كثر العلم -يعني: في القرن الثاني - قال: لا والله ما كثر العلم ولكن كثر الكلام وقل العلم, بعض الناس إذا رأى المذكرات والمجلدات مصفوفة, قال: ما شاء الله! كيف فتح الله على الناس في العلم، لكن أوقف طالب علم واسأله في مسألة، ما دليلها؟ وماذا تستنبط منها؟ يقول: ما راجعت هذه المسألة, وإن شاء الله أراجعها واسأل عن الحديث، نحن فقط نضع خطاً تحت الكلمة, وإذا أتى الامتحان, ما دام أنها تبدأ في الفترة الثانية نبدأ نذاكر من بعد صلاة الفجر, معنا خمس ساعات والحمد لله، نذاكر فيها ونحفظ المذكرة حفظاً، يقول ابن رجب: السلف أقل الناس كلاماً, لكنهم أفقه وأكثر إخلاصاً.
تعال إلى تفسير أبي بكر وعمر للآيات تجدها كلمة، لكن فيها النور والهداية، وأحدنا إذا فسر آية فسرها في دفتر كبير, تجدها مائة وعشرين صفحة، ثم يأتي بكلام يجمعه فترى (وقال أهل العلم, وقال أهل الطب، وقال أهل الفلسفة) فكثرة الكلام من العلم الدخيل، أثبت ذلك الذهبي وابن رجب وابن تيمية كما في المجلد العاشر من الفتاوى.(217/26)
علم الكلام
ومن العلم الدخيل: علم الكلام، ونعوذ بالله من علم الكلام.
قيل لـ ابن الصلاح كما في بعض فتاويه، ما رأيك في علم الكلام؟ قال: علم الكلام يظلم قلب العبد إذا تعلمه، ويصده عن معرفة الشريعة، ويطمس نوره، ويقسي فؤاده، ويبلد ذهنه، ويصده عن معرفة كنوز السنة، وعلم الكلام: علم محرم أرى أن يؤدب من تعلمه.
وقيل للشافعي: ما رأيك في علم الكلام؟ قال: العلم بعلم الكلام جهل، والجهل به علم، حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة, وذهب إلى علم الكلام.
علم الكلام علم قديم عند المسلمين، أسسه أرسطا طاليس اليوناني، وترجم في عهد المأمون، فقال المأمون: كل من يقرأ صفحة له ثلاثة دراهم في اليوم، والذي يقرأ حديث محمد صلى الله عليه وسلم أعطاه نصف درهم، انظروا الخائن الخائب الفاسق، فاشتغل الناس بعلم الكلام الذي يتحدث عن الربوبية والألوهية، وعن الأسماء والصفات بفلسفة ومنطق، قال ابن تيمية: إن الله لا يغفل عن المأمون، سوف يسأله لماذا أدخل علم المنطق وعلم الكلام على المسلمين، ولذلك أتى الشر والبلية من هذا العلم، وقال الإمام أحمد: جهل كله، ولذا دخلت البدعة على المسلمين من علم الكلام، فعلم الكلام ليس للمسلم إليه حاجة.
قال ابن تيمية، كما في الفتاوى: لا يحتاج إليه الذكي, ولا ينتفع به البليد.(217/27)
تقديم العقل على النقل
ومن العلم الضار الدخيل: تقديم العقل على النقل:
وهذا مذهب المعتزلة، ومن لف لفهم من المعطلة والأشاعرة، فإنهم قدموا العقل على النقل وأثبت هذا الكلام في الفصل الثاني والثلاثين من كتاب أساس التقديس للرازي، ورد عليه ابن تيمية في كتاب درء تعارض العقل والنقل، بل هذا الكتاب كله رد على أساس التقديس للرازي.
يقول الرازي: إذا تعارض العقل والنقل، فإما أن يقدم النقل على العقل وهذا تسفيه للعقل، وإما أن يعملا معاً, وفيه إسقاط واستحالة لأنه تناقض، والصحيح أنه يقدم العقل.
وهذا ضلال ومن قدم العقل على النقل فقد ضل سواء السبيل، حملهم هذا العلم على نفي بعض الصفات، ومنهج أهل السنة إمرارها كما جاءت.(217/28)
علم الباطن
ومن العلوم الدخيلة: علوم الباطن التي أتى بها غلاة المتصوفة، وعبدوا الله بالتشقيق والتدقيق، حتى بلغ بهم الحال إلى أن تزندقوا وخرجوا من الدين جملة وتفصيلاً، فقالوا: لا تصلوا الظهر، اجلس مكانك فإن الصلاة تزكية الباطن، وما دام أنه زكى باطنك فقد سقطت عنك الصلاة، قالوا: والصيام؟ قالوا: حفظ أسرارنا، أن نحفظ أسرارنا، فإذا حفظنا أسرارنا فقد سقط عنا الصيام, فلا نصوم رمضان، قالوا: والحج؟ قالوا: الحج زيارة مشايخنا، فإذا زرت الشيخ فقد حججت البيت، بل أفضل، هؤلاء تزندقوا وخرجوا من الملة، ويلحق بهم من تعمق في علم (دقائق القلوب وخطرات النفوس) قال الذهبي ليس منهج أهل السنة، وقال ابن رجب: " في فضل علم السلف على علم الخلف: ليس هذا منهج الصحابة التدقيق في الخطرات والواردات في النفس، وليت كتاب الرعاية للحارث المحاسبي لم يؤلف.
ومما يؤخذ عليه في بعض الجوانب، كتاب مدارج السالكين، ومن أنا حتى ألوم ذاك الشيخ الذي نتقرب إلى الله بحبه، ونسأل الله أن يحشرنا في زمرته، وأن نتولاه، لكن هناك مسائل نبه عليها بعض المحدثين: أنها من التعمق الذي ما عرف في الصدر الأول، كمنزلة البرق واللمع والفناء إلى غير ذلك.(217/29)
المراء والجدال والتعصب بغير دليل
ومن العلم الدخيل: الخوض في القضاء والقدر:
روى ابن ماجة في المقدمة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج على قوم من أصحابه, يقولون في القضاء والقدر، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، تغير صلى الله عليه وسلم وغضب، وقال: {أبهذا أمرتم, أم بهذا بعثتم؟} ثم نهاهم صلى الله عليه وسلم.
ومن العلوم الدخيلة: الجدال والمراء:
قال ابن قتيبة: ما دخل المراء قلباً إلا أخرج طاعة الله منه، وقال عمر بن عبد العزيز: المراء نفاق، وقال عليه الصلاة والسلام: {الجدال في القرآن كفر} رواه الحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه وأحمد في مسنده وسنده صحيح عند أهل العلم.
إذا جلس طالبان في مجلس، فقال أحدهم: هذه الآية ترد على هذه الآية، قال: بل ترد عليها هذه الآية، فصنيعهم هذا كفر بالله العظيم، نعم.
هذا حكمه الكفر عند أهل العلم.
ومن العلوم الدخيلة: التعصب المذهبي بدون دليل, وبدون تقيد بالدليل:
فمن رجح مذهباً على مذهب لا لدليل شرعي، فعلمه وبال عليه وهو علم دخيل، حتى وصلت المبالغة بالعلم الدخيل عند بعض المسلمين، أنهم يقولون: أنه لا يجوز للشافعي أن يتزوج امرأة حنفية، ولا يجوز للحنفي أن يتزوج امرأة شافعية، ونصوا في بعض كتبهم، هل يجوز للحنفي أن يصلي وراء الشافعي؟ ومن شك في هذه فليعد إلى بعض كتبهم وحواشيهم ويقرأها، بل في حاشية ابن عابدين أتى في أوله بحديث موضوع, يقول: قال صلى الله عليه وسلم: أبو حنيفة سراج أمتي، قال: وابن الجوزي يقول: هذا الحديث موضوع؛ لأن ابن الجوزي حنبلي متحامل على الأحناف، فأقول: رحم الله الجميع، لكن هذا من العلم الدخيل الذي ذكروه.(217/30)
الإسراف في الفكر والاشتغال به
ومن العلم الدخيل: الإسراف في الفكر والاشتغال به، وإشغال الناس وتضييع العمر، مرت بنا فترة شربنا فيها أفكاراً وتقيأنا أفكاراً ليس فيها آية ولا حديث، كلام فكري مصفوف, والإسلام لا يعترف بمفكرين، بل يعترف بعلماء، أما كلمة فكر، فجديدة وأجنبية ودخيلة على المسلمين، فالفكر يستفاد منه في جوانب رد الشبه، وفي جوانب وسائل تبليغ العلم, أما أن يكون علماً مستقلاً فهو علم دخيل.(217/31)
جعل الوسائل مقاصد
ومن العلوم الدخيلة -وهي آخر عنصر- جعل الوسائل مقاصد كالنحو والأدب، ولا يغضب عليَّ الأدباء ولا اللغويون، فإن أهل العلم كـ الذهبي والإمام أحمد وابن مخيمرة وابن رجب قالوا: من أسرف في هذه العلوم وجعلها مقاصد, فقد ضيع العلم المهم, وقد اشتغل بما لا ينفع ولا يفيد، وقال ابن مخيمرة لأحد النحاة: إياك وطلب أكثر من الحاجة في علم النحو, فإن أوله بغي وآخره عدوان.
وأنا مستعد لمن أراد أن يطلبني بالسند أن أخرج له السند عن الإمام أحمد أنه قال لـ أبي عبيدة معمر بن المثنى اللغوي: يا أبا عبيدة! لا تتشاغل بهذا النحو, فإنه مشغلة عن المهم، قال ابن رجب: النحو المحمود منه ما علمك الكتاب والسنة، وما زاد فلا حاجة له، كرد البصريين على الكوفيين، وقال سيبويه، ورد عليه الكسائي في مسائل لا تستخدمها في الكتاب ولا في السنة، وكذلك الأدب والشعر، قال الشافعي كما في سير أعلام النبلاء المجلد العاشر، في ترجمة الشافعي: الشعر أقلل منه أو أكثر، فهو غث، وقال ابن عباس كما في عيون الأخبار لـ ابن قتيبة: احفظ من الشعر الشاهد والمثل.
الشعر شريف في ثلاثة مواطن: أن تقدمه بين يدي حاجتك، أو أن تجعله وسيلة لتبليغ دعوة الله, أو تستشهد به في آية أو في معنى حديث، وما زاد على ذلك فلو حفظت دواوين الدنيا ما نفعك وإنما شغلك، وهذه من العلوم الدخيلة.
وإن الموضوع طويل طويل، ولكن أكتفي بهذا، سائلاً المولى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً, وأن يفقهنا في دينه، وأن يجعل علمنا نافعاً مفيداً خالصاً لوجهه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ونعوذ به من العلم المذموم، العلم الضار الدخيل، الذي يضيع علينا أعمارنا وشبابنا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:193] وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(217/32)
الأسئلة(217/33)
التعالي على علماء المذاهب
السؤال
هذه قضية من أخطر القضايا التي غرق فيها من يسمون أنفسهم طلاب علم هناك بعض طلاب العلم، لا يقيم للمذاهب الأربعة ولا للأئمة الأربعة وزناً، ويقول: نأخذ الفقه من الحديث، ولا نأخذ من أبي حنيفة وابن حنبل، فهم رجال ونحن رجال، وهؤلاء يحفظ أحدهم جزءاً من القرآن الكريم، ولا يحفظ عشرة أحاديث, وهو جاهل بعلوم الأصول, والقواعد الفقهية، وجاهل باللغة وقواعدها ولا يعرف عاماً ولا خاصاً ولا يعرف ناسخاً ولا منسوخاً، فما رأي فضيلتكم؟
الجواب
هذا السؤال وارد, وقد كتب فيها أهل العلم رسائل وكتباً ومجلدات, منهم: ابن الوزير في العواصم والقواصم، ومنهم: الشوكاني في رسالة في التقليد ومنهم: ابن القيم في جزء من إعلام الموقعين، ومنهم: الشاطبي في الموافقات وابن تيمية في المجلد العاشر، وتعرض لهذه المسألة وغيرهم من أهل العلم، قال ابن تيمية في أول كتاب الاستقامة: الناس في هذه المسألة ثلاثة أقسام: طرفان ووسط:
طرف قال: نأخذ علمنا من هذه المذاهب أي: الرأي، ولا ننظر إلى الكتاب ولا إلى الدليل, وهؤلاء العلماء ما أتوا بهذا العلم إلا لأن الله عصمهم وفتح عليهم، فنأخذ علومنا منهم، وقد كفونا الاستنباط، وأراحونا من تعب التحصيل وطلب الدليل، فهم مقبولون فأخذ الدليل منهم، قال: هذه الطائفة مخطئة، ثم ضرب مثلاً لا أذكره في هذا الجانب، أنتم تعودون إليه لكيلا نمس بعض الأشخاص.
وقال: وقابلتهم طائفة في الطرف الآخر وقالت: لا نلتفت لهؤلاء الأئمة الأربعة, ولا لغيرهم من العلماء -كما ورد السؤال- ونأخذ من الآيات والأحاديث، ونحن أصبحنا في درجة تخولنا إلى الاستفادة، قال: وهؤلاء مخطئون أيضاً.
وتوسطت طائفة: وهم فقهاء أهل الحديث، هكذا ينص ابن تيمية في المجلد الرابع: أهل الحديث بمنزلة الصحابة، وأهل الكلام بمنزلة المنافقين في عصره صلى الله عليه وسلم، فيقول: وتوسط فقهاء أهل الحديث وقالوا: نستفيد من آراء أهل العلم هؤلاء، أبو حنيفة رحمه الله، والشافعي وأحمد رحمهم الله والليث والأوزاعي وسفيان وغيرهم, ولكن لا نجعلهم معصومين، وإنما نطلب دليل كل واحد منهم، فعلى طالب العلم أن يطلب الدليل كما نص العلماء، فنستفيد من العلماء, لكن بشرط أن يصح الدليل، فلا يكفيك أن يقول الإمام أحمد بهذه المسألة وقال الحنابلة بهذه المسألة، ثم لا تفهم الدليل، ولا إذا أتاك من الإمام أحمد مسألة ترميها عرض الحائط وتقول: أنا رجل وهو رجل، نعم، لكن هو إمام أهل السنة وفتح الله عليه، وحفظ مائة ألف حديث في الأحكام، ومائة في غيرها, ومائة في المقطعات, ومائة من الآثار.
فالمقصود: أن نحترم هؤلاء العلماء، ونقبل علمهم بشرط أن نعرف الدليل أيها الإخوة، فإنك إن أخذت -مثلاً- مسألة القراءة وراء الإمام، فالأحناف يقولون: لا نقرأ لأن أبا حنيفة يقول: لا يُقرأ وهو إمام، فنقول: ما هو دليلكم؟ فيقولون: دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: {من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة} فنبحث عن هذا الحديث فإذا هو في الدارقطني بسند ضعيف، وإذا في مسلم: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب أو بأم القرآن} أفنترك هذا لأن أبا حنيفة قال هذا؟
إذاً فجواب ما تفضل بسؤاله السائل؛ أن الحكمة كل الحكمة أن نحترم هؤلاء الأربعة، ونضعهم على رءوسنا وفي عيوننا، ولا نجعل كلامهم شريعة، فإنهم كما قال أحد العلماء الفضلاء من الأحياء الآن: (يحتاج إلى كلامهم ولا يحتج بكلامهم) فننقل كلامهم ولا نمقتهم -نعوذ بالله من ذلك- لكن لا نجعلهم مشرعين وقد تعرض ابن القيم لها وقال: إنهم ليسوا مشرعين، وإنما هم علماء مجتهدون, نقبل أقوالهم إذا وافقت الدليل, فهذا ما عندي في هذه المسألة.
فملخص ما قلته: إن لطالب العلم أن يقرأ في مذهب, لكن عليه أن يتقيد بالأدلة، لا يكفيك متناً فقهياً مجرداً عن الأدلة, تأخذ حقه وباطلة وصحيحه وسقيمه، ناسخه ومنسوخه، ركيكه وجزله، ثم تقول: أنا على هذا الكتاب، لكنك تأخذ هذا المتن وتقرنه بالأدلة، وتعود إلى كلام أهل العلم، فتأخذ الصالح وترد الطالح، هذا هو المنهج السديد, وأحسن ما يعاد إليه ابن تيمية في أول كتاب الاستقامة، ورسالة الشوكاني في الاجتهاد والتقليد، وكتاب ابن رجب في كتاب فضل علم السلف على علم الخلف والذهبي في كتاب زغل العلم إلى غيرها من الرسائل، وأريد أن أختصر.(217/34)
الأناشيد
السؤال
هل الأناشيد التي تسمى بالأناشيد الإسلامية من العلم الأصيل أم من العلم الدخيل؟ وما هي الأناشيد التي نستطيع أن نقول إنها أناشيد إسلامية؟ هل هي تلك التي تقرب القلب من طاعة الله عز وجل، أم تلك التي تقرب القلب إلى القسوة والبعد عن طاعة الله؟
الجواب
لو علمت أنك ستسأل عن هذا السؤال لقلت: إن هناك علماً أصيلاً وعلماً دخيلاً وعلماً بينهما، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فالعلم الأصيل وجبة غذاء, وأما مثل الأناشيد فهي مشهيات أو ملهيات، فما أستطيع أن أضمها إلى الأصيل ولا إلى الدخيل، لأني إذا ضممتها إلى الأصيل لا بد أن يكون فيها نفع ومقصد وثمرة، وإن ضممتها إلى الدخيل فإنه يكون فيها ضرر وبهت وإسراف وضياع، فالأناشيد بحسب النية، لكن لا بد من التحرز منها، أما الأناشيد الإسلامية التي تدعو إلى مكارم الأخلاق, ولا تصحب بعزف, ولا ناي, ولا طبل، ولا تأنث، فهذه جيدة.
وأما الأناشيد التي تدعوا إلى الغزل, وإلى السخف, وإلى الفحش أو صاحبها آلة لهو فهذه نضمها إلى العلم الدخيل، وأما الأناشيد في جانب الشعر, فيحفظ منها الشاهد والمثل، فهناك علوم قد لا تدخل يسميها صاحب الموافقات الشاطبي من ملح العلم، لأنه قسم العلم إلى ضروري, وإلى ملح, وإلى ضار؛ فهذا من المُلح.
نخرج من المسألة خروجاً من الخلاف لأنه من الملح.(217/35)
التوفيق بين العلم الأصيل وعلم ما تحتاج إليه الأمة
السؤال
يبدو من كلام فضيلتكم أن العلم الأصيل هو الوحي وما يتصل به، وكيف نوفق بين ذلك وبين كلام العلماء الذين يقولون: إذا احتاجت الأمة إلى علم أياً كان ولم يتعلموا هذا العلم أثموا جميعاً، ويدخل فيه الطب والهندسة وغيره من العلوم؟
الجواب
أنا معك في هذا الكلام، والحقيقة أقول لكم: إن العلم الأصيل يحتاج إلى بعض النقاط، أو ما يندرج في العلم الأصيل؛ لكن:
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
الوقت ضيق والنقاط كثيرة، والمحاضرة ذات شقين: شق أصيل, وشق دخيل، فالعلم الأصيل يدخل فيه كل ما نفع المسلمين، يقول ابن تيمية: كل علم نافع فهو علم أصيل، والذي ليس بنافع فليس بأصيل وصحيح أن أهل الطب والهندسة، والتربية، ومن لف لفهم، وأهل التاريخ، والجغرافيا من كان في الساقة كان في الساقة، ومن كان في الحراسة كان في الحراسة، وربما إنسان يدرس التاريخ أو الجغرافيا أتقى وأورع وأخشى لله ممن يدرس التفسير والحديث والفقه، هذا موجود وأنفع للمسلمين، فأنا أقول: لا يشترط في العلم أن يكون تفسيراً وفقهاً وحديثاً، لكنني جعلت العلم الأصيل نافعاً مثمراً، تدخل فيه ما استطعت، وجعلت العلم الدخيل ضاراً مضيعاً للوقت مفرط صاحبه فأدخل فيه ما شئت, والأحسن أن توضع فيه قاعدتان: أصيل نافع ودخيل ضار، فأدخل كل نافع في الأصيل, وأدخل كل ضار في الدخيل.(217/36)
علم الفرائض
السؤال
ذكرت أن من أقسام العلم الأصيل علم الفرائض، ولكن وللأسف كثير من طلاب العلم يتهرب من هذا العلم, وهذا خطر شديد على الإسلام والمسلمين، أرجو توضيح هذا الأمر والإرشاد إلى الصواب؟
الجواب
علم الفرائض، من صدقه صلى الله عليه وسلم الذي وقع حدسه في الأمة، أن علم الفرائض بدأ يهمل وينسى، وهو أول علم ينسى, ولذلك حث صلى الله عليه وسلم على تعلمه، وقال في بعض الآثار: هو نصف العلم؛ لأن علم الحياة المواريث، وعلم الآخرة علم القلوب, أو ما يقرب من الله عز وجل, وهذا العلم في الحقيقة قصرنا فيه كثيراً, لأسباب منها:
أن هذا العلم يحتاج إلى مصاحبة دائمة ومسائلة، فإذا تركته فترة من الوقت نسيته، فلا بد لمن أراد هذا العلم أن يكون له كل يوم ولو مسألة يتشاغل بحلها وتقسيمها, حتى يبقى متذكراً لهذا العلم، ولذلك تجد أكثر الناس تذكراً له المفتون والقضاة.
والسبب الثاني: أنه ليس هناك من يشجع، وأدخل على المسلمين بعض العلوم، أدخلت مجلدات كبار ككبر الأسمنت مكتوب عليها الثقافة الإسلامية، ليس فيها ما يسمن ولا يغني من جوع، كلام كله مصفوف: الإسلام دين عدالة، ودين قوة، عناصر مركزية تنطلق من أطر وتنبثق في بوتقة، وهكذا فنشغل به (576) صفحة ونقرأه ليلة الامتحان، ونلخصه في عناصر ومن أطر وتنبثق في بوتقة، وهكذا فنشغل به (576) صفحة ونقرأه ليلة الامتحان، ونلخصه في عناصر ولا نأتي بجيد، فلو كانت ثقافتنا من الكتاب والسنة أو من الكتاب الذين كتبوا في الثقافة بعمق، لكان أحسن.
ولكن نجعل لعلم الفرائض حظاً، ولعلم أصول الفقه، وكل علم نأخذ منه بنصيب، ولذلك نحن بحاجة لأن نتعلم بعض العلوم، وأنا أذكر أن من أهم العلوم التي قررت علم التربية، أما رأيتم منهج التربية عند المسلمين للنحلاوي، ما أحسن إشراقه واستشهاده وعرضه، وأسلوبه وصدقه وإخلاصه في الكتاب! وكيف أثر في الكثير من الشباب! لأننا بحاجة لهذا العلم, وبماذا نقابل الناس، إذا كان عندهم تربية وعرضوا لنا في الأسواق تربية؛ أنقول لهم: حدثنا قتادة؟ وإذا قالوا: هل عندكم علم نفس؟ نقول: قال: شعبة عن الأعمش أو الأعمش عن شعبة، لا بد أن نقابل السلاح بالسلاح، وعلم الفرائض نعود إليه ونقول: هو من المهمات، وأولى ما يتعلم في المساجد، وأحسن طريقة أن يجتمع ثلاثة أو أربعة من الشباب فيخصصون له يوماً في الأسبوع، فيتدارسون هذه المادة، ويحلون فيها ويقسمون، ليبقى هذا العلم محفوظاً فإنه من أشرف العلوم.(217/37)
حقيقة كتمان العلم
السؤال
ما المقصود بكتمان العلم؟ وهل صحيح أن كتمان العلم، أن يسألك أحد فلا تجيب وأنت تعرف الإجابة، أو ترى الباطل ولا تمنع؟
الجواب
كتمان العلم: هو عدم إظهاره للناس، هذا أمر, وعدم إفتاء المفتي عند الحاجة إلى الفتوى مع تخلف المانع، بألا يخشى على نفسه ضرراً أعظم من فائدة أو مصلحة الفتوى، لأنه ما كل مسألة يلزمك أن تجيب فيها، بعض الإجابات قد تذهب برأسك، فقال أهل العلم في هذا: أجدر لك أن تعتذر، نص على ذلك الإمام أحمد في كتاب الورع، لك أن تعتذر عن مسألة, لأنك إذا أجبت فيها ذهبت برأسك، فما كل إنسان ينبغي له أن يجيب، ثم إلى الحاجة، أن ترى حاجة السائل لهذا العلم، بألا ترى أنه يريد أن يستدل ببعض الأمور, أو يتعمق معك بعض التعمق، فيريد منك أن تجيبه على حسب هواه، فهذا متنطع لا ينبغي أن تجيبه، كأن يسألك فإذا رأى عندك تشديداً ذهب إلى فلان, وقال: ما حكم هذه وهذه؟ فشدد عليه فذهب إلى فلان فإذا رخص له، أخذ فتواه وذهب إلى أهله وقال: فتح الله على الشيخ فلان، أما هو فقد آتاه الله علم الأولين والآخرين، أما أولئك فما عندهم من العلم شيء، وذلك لأنه وافق مراده فهنالك أن تمنع، وكتمان العلم -بارك الله فيكم- قسمان:
القسم الأول: ألا تظهره للناس وألا تنشره، ولا تعلمه، فهذا من الكتمان، وذلك فعل بني إسرائيل، ينطوي الإنسان بعد أن يتعلم بدون خوف أو ضرر, ويقول: لا أنشر علماً ولا أتدخل بالناس، نفسي نفسي أنشغل بها ولا أنشغل بالناس.
والقسم الآخر: كتمان السائل أو المستفيد حينما يعرض لك:
وواجب طالب العلم: ألا يتكلم بجهل, وألا يكتم علماً، فإذا سئلت عن مسألة فلا تقل: لا أدري، فإن بعض الورع سفه وقلة حياء، كأن يسألك إنسان بدوي لا يعرف شيئاً يقول: أريد أن تتوضأ لي، فيحملك الورع, وتقول: الله ورسوله أعلم، أحمي سمعي وبصري، اذهب إلى العلماء فاسألهم، فإن الإمام مالك سئل في خمسين مسألة ما أجاب إلا في ثمان مسائل، فأنا أقول: لا أدري.
هذا من السخف والسفه، فيجب عليك أن تجيبه لأنك عرفت المسألة.
والأمر الثاني: أن يأتي إليك سائل طلق زوجته في مجلس وأنت لا تعرف كلام أهل العلم، واختلافات الحديث، وبعض المسائل قد تصعب عليك، فتخشى من أهل الحارة أو من القبيلة أن يقولوا: تخرج من كلية الشريعة وهو لا يعرف شيئاً فتقول: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، هذه المسألة الصحيح فيها كذا وكذا، لما رواه ابن ماجة من حديث فلان، وما روى ابن ماجة حديثاً ولا أنت تعرف الجواب، فتتعمد الجهل، فهذا يلجم بلجام من نار, وذاك يلجم بلجام من نار، إذاً فالواجب أن نفتي فيما تعلمنا ولا يحملنا الورع أن نهز رءوسنا ونقول: لا ندري، فبعض المسائل يعرفها حتى العوام, وأما بعض المسائل فنقول: لا ندري، ونحن صادقون، ومن وفقه الله سدده وثبته.(217/38)
حفظ القرآن
السؤال
ذكرت أن أفضل العلم تعلم القرآن وحفظه، فنرجو منك أن تعطينا بعض الإرشادات لتساعدنا على حفظ القرآن؟
الجواب
حفظ القرآن من أكبر القضايا في حياة المسلم، ولذلك إذا سمعت بعض الناس يقول: ليست القضية قضية حفظ قرآن؛ فاعرف أنه إبليس, أما بعضهم فقد يجلس معك المجالس الطويلة في غير مثمر فكر، مورد، إنشاء، تعبير، فإذا قلت: دعنا نحفظ آيتين، أو نتدبر آيات، قال: لا.
القضية ليست قضية حفظ قرآن.
إذاً قضية جهل، وقضية تضييع وقت، أما حفظ القرآن فهو من أكبر القضايا, ولحفظه وسائل نسأل الله أن يعيننا وإياكم على تنفيذها لنحفظ كتابه:
أولها: تقوى الله عز وجل: فإن من اتقى الله علمه وفهمه وحفظه.
ثانيها: كثرة الاستغفار: يقول ابن تيمية: إنها لتعجم عليَّ المسألة فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر فيفتحها الله عليَّ.
الثالثة: التقليل من المحفوظ: قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: يا طالب العلم! قلل وداوم, فإن التقليل والمداومة أصل عظيم، وبعض الطلبة أو الإخوة، أخبروني أن أستاذاً قال لهم قبل أربع سنوات أو خمس سنوات: احفظوا كل يوم آية فتضاحكوا في الفصل، وقالوا: نحفظ آية فقط! الآية قليل، قالوا: والله لقد مرت بنا فترة حسبنا الأيام التي مرت وما حفظنا كل يوم آية، لو حفظنا كل يوم آية لختمنا القرآن جميعاً.
يقول: أحفظ سورة الكهف في يوم، فيحفظ ويجهد نفسه في اليوم الأول ثم يأتي اليوم الثاني وقد انقطعت حباله، وتقطعت أوصاله, ونسي فريقه, وتكسرت أضلاعه، فما يستطيع أن يعود إلى المصحف مرة ثانية، لأنه مل وكل وفتر، وفر وهر، فالواجب التقليل والمداومة، هذا أصل عظيم يكتب بماء الذهب، قال: الجاحظ في كتاب الحيوان: قلل من المحفوظ وداوم، آية واحدة، آيتين, ثلاث آيات.
الأمر الثالث: إذا قرأت الآية أو الآيتين أن تكررها حتى تكون على لسانك كاسمك الذي سماك به أبوك، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] تكرر هذه الآية إذا أردت أن تحفظها خمسين مرة، ما تكرر أربع مرات، بعض الإخوة أخبرني أنه حفظ وكان يكرر أربع مرات، يقول ابن الجوزي: ما حفظت مقطعاً إلا كررته سبعين مرة، وقال أبو إسحاق الشيرازي صاحب المهذب: كنت إذا أردت أن أحفظ أسطراً من الدرس أكرره مائة مرة, وإذا حفظت قياساً كررته ألف مرة، وعودوا إلى كتاب المجموع ترجمة أبي إسحاق أو إلى سير أعلام النبلاء.
فالتكرار أن تكرر المقطع ولو كنت حافظاً، كرره حتى تمل، ولذلك سمعت جارية سيدها يكرر مقطعاً يقول: قال أهل العلم وهي قواعد أربع، من قواعد القفال المروزي , فأخذت الجارية تقول: يا هذا! ما حفظت، أنا حفظت من أول كلمة، قال لها: بيني وبينك الأيام، وبعد شهر قال: ماذا يقول القفال، قالت: ما أدري، قال: يقول أهل العلم وهي قواعد أربع إلخ؛ لأنه كرر كثيراً وهي اكتفت بأول مرة.
والسادس: أن تقرأه في الفرائض والنوافل:
فتقرأه إذا صليت بالناس، فإذا قرأت به في الصلاة فاعلم أنك قد حفظت وفهمت.
والأمر السادس: أن تفهم معنى الآية:
قال ابن تيمية: وفهم معنى الآية مُعينٌ على حفظها وعلى تيقنها في القلب، وهذا موجود، بعض العوام يردد الآيات: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً} [الأحزاب:25] أو مثلاً قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً} [الأحزاب:9] ما يدري ما هي الريح، وما هي الجنود, وما هم الأحزاب, يظن أن الأحزاب واد في الجنة، أو نهر فيها، فإذا ضيع معنى الأحزاب ما درى، لكن الذي يفهم المعنى، يعرف الأحزاب وملابسات القصة وأولها وآخرها، ولذلك سمع أعرابي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] قرأها أحد البله (إن الله عزيز حكيم) قال الأعرابي: امرأته طالق ثلاث، ما يقولها الله، قال: لماذا؟ قال الأعرابي: ما يقول الله عزيز حكيم بعد غفران الذنب؟ قال: دعني أنظر في المصحف فوجد: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فعرف أنه صحيح، ولذلك إذا فهم طالب العلم المعنى حفظ اللفظ، ومن ذلك أنه إذا ذكر الله آيات النهار يقول: (لعلهم يبصرون) لأن البصر في النهار أقوى، وإذا ذكر الله الليل يقول: (لعلهم يسمعون) فآلة السمع في الليل أقوى، وإذا ذكر الله الحدود وتنفيذ العقوبات والجلد والفرش والضرب، ذكر (عزيز حكيم) وإذا ذكر الرحمة واللطف، ذكر (غفور رحيم).
فالمعنى يعين على ذلك (الربط والشبك) ويسمى عند الشناقطة التخييل، أن تشبك المقطع في الآخر، لا تحفظ ثلاث آيات اليوم، ثم تأتي في اليوم الثاني تفصل، لكن اشبك هذه الآية لتبقى محفوظة في ذهنك.
وقال البخاري: مما يساعد على الحفظ إدامة النظر في المصحف.
أيضاً: أن يكون لك مصحف واحد، لا تقرأ في العشاء في مصحف وفي المغرب في طبعة أخرى، فتأتي تجمع من هنا ومن هنا، تتصور الآية في اليمين, ومرة في الخلف, ومرة أمامك.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(217/39)
أسباب الانحراف
كل مولود يولد على الفطرة، ثم تأتي عوامل الانحراف فتصرفه عن فطرته، والناس بعد ذلك إما أن يعرف طريق الحق ثم يزيغ عنه أو لا يهتدي إطلاقاً، أو أن يكون زائغاً ثم يهديه الله.
ولهذا الزيغ أسباب لا بد من معرفتها، لكي نكون على بصيرة منها لنتقيها ولنحذر منها عل الله أن يثبتنا على الصراط المستقيم، فمن استقرأ أحوال الزائغين وجد أسباباً كثيرة وعديدة، وفي هذا الدرس بيان لثمانية أسباب منها.(218/1)
الانحراف عن طريق الجنة
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أسعد الله لياليكم بالمسرات، وأيامكم بالخيرات، وجمعنا بكم في الجنات، عنوان هذا الدرس "أسباب الانحراف".
عن منهج الله، فما هي أسباب الانحراف؟
ولماذا ينحرف العبد عن طريق الهداية إلى طريق الغواية؟
ولماذا ينحرف العبد عن منهج الله؟
ولماذا يعرض عن كتاب الله؟
هذه الأسئلة وأمثالها تجيب عنها هذه المحاضرة إن شاء الله.
أسباب الانحراف جمعت في ثمانية أسباب، أسردها، ثم أشرحها والله المستعان!
أول أسباب الانحراف عن منهج الله، وعدم طاعة الله، والانطواء تحت ظلال الله: خبث النفس.
والثاني: اتباع الهوى.
والثالث: الفراغ القاتل.
والرابع: الغفلة عن ذكر الله.
والخامس: الصحبة السيئة.
والسادس: طول الأمل ونسيان الموت.
والسابع: التربية على العواطف.
أما الثامن: فهي معايشة الوسائل التي تحطم مصداقية الإيمان.(218/2)
خبث النفس
قلت: إن أول أسباب الانحراف: خبث النفس، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] يتحدث سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن قوم انحرفوا عن منهجه وضلوا، فيتساءل المتسائل لماذا رفضوا المسجد؟
ولماذا رفضوا القرآن؟
ولماذا أعرضوا عن الهداية؟
قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] معنى الآية: لا خير فيهم، وفي رواية عن موسى عليه السلام: {أنه كلم الله، فقال: يا رب! تدخل الجنة قوماً وتدخل النار قوماً فلم؟ قال: يا موسى! ازرع زرعاً، فزرع زرعاً، قال: احصده، فلما اكتمل حصده، قال: يا موسى! لم تركت هذا؟ -أي: القصب بقية العلف- قال: لا خير فيه، قال: وأنا أترك في النار من لا خير فيه} {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:2] أي: لا خير فيهم، ولا سداد، ولا زلفى إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36].
قال أهل العلم: أي من صد عن منهج الله عز وجل قيض الله له قرين سوءٍِ يأخذه إلى الضلال، فمن ترك المسجد، أين تجده؟! أتظن أنه في الجنة؟! لا.
هو في المقهى!
من ترك المصحف فهو مع المجلة الخليعة، ومن ترك التلاوة فهو مع الأغنية الماجنة! {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:3].
قيل للجعلان: لم نزلت إلى هذا المستوى؟
قال: همتي أنزلتني.
الجعلان هذا حيوان يعيش دائماً في القذارة، إذا خرج من القذارة مات، فما يعرف إلا القذارة، مثل الخفاش فإنه أول ما يرى الشمس يموت.
يقول أحد الشعراء في رجل من الناس يبتغي الغواية دائماً، يقول:
إذا أدلج الأخيار للفضل في الدجى سريت لزرع الشر في كل منزل
وإن غرسوا غرس الفضائل في العلا حصدت رخيصاً من قتاد وحنظل
والمعنى: أنت دائماً لا تحب الخير، الناس يسهرون مع كتاب الله، وأنت تسهر في الغواية -والعياذ بالله- والناس يتقربون من الله، وأنت تتقرب من الشيطان.
الناس يصونون ذممهم وأخلاقهم بأخلاق الإسلام، وأنت دائماً تنتكس في المعصية والغواية، وهما بيتان لطيفان، حبذا لطالب العلم أن يحفظهما.
يقول أحد الأدباء: دخلت على فلان، وكان ماجناً ضائعاً لا يعرف الحياة، فقال: كلما دخلت عليه وجدته يغني بعود، وعنده باطية خمر -والعياذ بالله- يشرب، ويدَّعي الإسلام وأظنه مسلماً، قال: وكلما دخلت على يزيد بن هارون وجدته يقرأ القرآن ويبكي -يخرج من بيت يزيد بن هارون المحدث الكبير فيقابل بيت هذا المجرم- قال: وكلما دخلت على هذا وجدته يغني ويشرب الخمر، وأدخل على يزيد، وهو جاره، فأجده يقرأ القرآن ويبكي.
يزيد بن هارون: عالم زاهد من العباد الكبار، بكى من خشية الله حتى عمي.
قال له أحد تلاميذه: أين العينان الجميلتان يا يزيد بن هارون؟
قال: أذهبهما والله بكاء الأسحار، لكنها عند الحي القيوم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {من ابتليته بحبيبتيه، فصبر عوضته عنهما الجنة} وعوض الله لا عوض مثله، وعزاء الله لا عزاء يشابهه، هذا خبث النفس، وهو السبب الأول، ولذلك لا تجد أحداً يتقرب إلى الله إلا قربه الله.
من الذي أتى إلى باب الله فرده؟
من الذي سأل الله فما أعطاه؟
من الذي استهدى الله فما هداه؟
لكن العبد هو المنحرف: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] هم الذي بدءوا في الزوغان والانحراف، فلما بدءوا ختم الله على قلوبهم، ولذلك يقول بعض الشباب: مالي لا أهتدي؟!
أنت الذي عطلت أسباب الهداية، فلو أردت أن تهتدي لحافظت على الصلوات الخمس، وأتيت إلى مجالس الخير، وإلى المحاضرات الإسلامية، وإلى الدروس النافعة، ولسمعت الشريط الإسلامي، ولقرأت الكتاب الإسلامي، ولرفعت يديك إلى الحي القيوم الذي يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بيده كل شيء، أجلسكم هنا، وأجلس غيركم في خمارات الخمر وبارات الدعارة -والعياذ بالله- يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ولكن يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] فأنتم بدأتم إن شاء الله خطوات، فاجتباكم، فنسأل الله أن يثبتنا وإياكم.(218/3)
اتباع الهوى
إذا ركب الهوى العقل؛ ضل صاحبه، ومن أطاع هواه قتله، وما عصى العصاة ربهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى إلا لكثرة الهوى وغلبته، يرى النار محرقة، ولكن يحترق، ويرى الهول ولكن يركب الهول، ويرى المضرة ولكن يتناول المضرة، قال سبحانه: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] ومن اتبع الهوى وحكَّمه أضله الله في الدنيا والآخرة، وكثير من الناس، يعرف من نفسه أن الإسلام خير، والصلاة في المسجد طيبة، لكن يقول: والله لا أستطيع، ورجالٌ أدمنوا في المخدرات طلب منهم التوبة فرفضوا، وقالوا: لا نستطيع.
وسوف أذكر نماذج من هؤلاء.(218/4)
أبو جهل واتباع الهوى
يقول أبو جهل للرسول عليه الصلاة والسلام: أعلم أنك صادق، وأنك لا تكذب، ولكن تقول؟ بنو عبد مناف منا نبي، فما نقول؟ وقال أبو جهل في مجلس قريش: إني أعلم أن محمداً لا يكذب، ولكن قال بنو هاشم: فينا السقاية، فقلنا: فينا الرفادة، فقالوا: فينا الحجابة، فقلنا: فينا الراية، فإذا قالوا: فينا النبوة، فماذا نقول؟!
قال سبحانه: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] يقول أحد الماجنين من الشعراء وقد نصحه العلماء أن يتوب فما تاب، يقول في بيتين يصور نفسه يوم غلبه الهوى، وقتل نفسه به، ولكن ما أناب ولا تاب، يقول:
أتوب إليك يا رحمن مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوب
وأما من هوى ليلى وترك زيارتها فإني لا أتوب
أستغفر الله! قيل له: تب، قال: ربه الهوى.
ولذلك بلغ بعض الناس منزلة لا يستطيع أن يتوب، وبعضهم يبكي وهو في الذنب، فيقال له: تب، قال: والله ما أستطيع، ولقد حاولت كل محاولة وجربت نفسي فما استطعت، بل بعضهم انهزم أمام سيجارة الدخان، فما استطاع أن يتوب منها وأعلن فشله، فقال: لا أستطيع.
يقول سيد قطب في كلام معناه: " يا عاصياً! حاول مائة محاولة، حاول ألف محاولة، ووراء الألف محاولة لعل الله أن ينصرك في الواحدة بعد الألف ".
جلس أحد الحكماء بجانب شجرة؛ وكانت الشجرة ملساء، فرأى نملة تصعد في الشجرة، فكلما صعدت سقطت، ثم تصعد فتسقط، ثم تصعد فتسقط، ثم صعدت فأعانها الله حتى ارتقت، فقام الحكيم، فقال: " الخط الذي طوله ألف خطوة يقطع بخطوة " يعني: بالصبر.
صابر ولا تضجر من مطلب فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بطول المدى على صليب الصخر قد أثرا
ولعلَّ الله أن ينظر إليك في ساعة يعطي فيها من يشاء، ويهدي فيها من يشاء فيهديك هدايةً ما بعدها ضلالة، وتعرض لنفحات الله عز وجل في ساعات الإجابة، وأدبار الصلوات، وما يدريك لعل يوم هدايتك اليوم، أو غداً، أو بعد غدٍ، فلا تيأس من روح الله: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87].
الهوى غلب بعض الناس حتى أرداهم في النار والعياذ بالله، والمبتدعة ورؤساء المبتدعة غلبهم الهوى.(218/5)
الجعد بن درهم واتباع الهوى
الجعد بن درهم هذا الفاجر بدعي، قرأ القرآن فابتدع في دين الله، الله عز وجل يقول: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] قال: ما كلمه، ويقول: ما اتخذ الله إبراهيم خليلاً، فاستتابه حكام الإسلام، كـ خالد بن عبد الله القُسَري، قال: تب، قال: لا أتوب، وقال: والله لوددت أني أمحو قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] من المصحف.
ورئي في المنام أن الله مسخه قرداً، أتي به يوم عيد الأضحى، والمسلمون في المصلى، فأتى به خالد بن عبد الله القسري، فوقف خالد، فقال: تب يا جعد! قال: لا أتوب.
سبحان الله! صاحب الضلالة لا ينحرف عن الضلالة، والمهتدي ينهار!
الحبل برقبته، والسيف على رأسه، ويقول له الأمير أمام الناس: تب وإلا ذبحناك، قال: لا أتوب -وهو على ضلالة، غلبه الهوى- فقال خالد في آخر الخطبة: يا أيها الناس! ضحوا تقبل الله أضحياتكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، ثم سل سيفه، فذبحه مستقبلاً القبلة {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36].
يقول ابن القيم يروي القصة في ثلاثة أبيات:
ولأجل ذا ضحى بـ جعد خالد الـ ـقسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر المضحي كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
يقول: من أراد أن يتقرب إلى الله فليفعل مثله، ومن أراد أن يضحي فليضح بمثل أضحيتك، فالبدنة عن سبعة.(218/6)
مخالفة الإمام أحمد للهوى
قال رجل للإمام أحمد وهو في السجن، الإمام أحمد يجلد بسبب وقوفه نصرةً للسنة، الإمام أحمد قاد أهل الإسلام في وجه البدعة، قال له المأمون: قل القرآن مخلوق، قال: لا.
فجلدوه، قال الذي جلده: والله لقد جلدت الإمام أحمد جلداً لو ضربته جملاً لمات.
أُتى بخمار جلد خمسين مرة، فسجن مع الإمام أحمد.
ووضع في زنزانة الإمام أحمد، ليهينوا الإمام أحمد.
الإمام أحمد لما كتفوه في الليل، أتدرون ماذا بحث؟ يقول الإمام أحمد: أدخلوني، وأنا صائم، قال: ووضعوا الحديد في يدي، وأركبوني على فرس فخشيت أن أسقط من كثرة الحديد، فرموني بالحديد في بيت مظلم، ثم أدخلوا معي خماراً، فأدخلوه في الزنزانة، قال: فالتمست لعلي أجد ماءً أتوضأ، فوجدت ماءً فتوضأت.
واستقبل الإمام أحمد القبلة يصلي ويبكي، ويناجي الله، ويقرأ القرآن، فثار هذا الخمار ولم يصبر، منظرٌ عجيب في السجن! يقرأ القرآن ويسبح! وهذا منهار! فقال: يا فلان! من أنت؟ قال: أنا أحمد بن حنبل، قال: لا إله إلا الله، أنت أحمد بن حنبل! قال: نعم.
قال: لم سجنوك؟ قال: قلت كذا، وقالوا كذا، قال: وماذا يقولون؟ قال: يجلدونني حتى أقول، قال: يا أحمد! اصبر على الحق، ولا تجب لهم في الباطل، فوالله لقد جلدوني في الخمر خمسين مرة، وأعود كل مرة.
فكان الإمام أحمد كلما صلى دعا له بالتوبة، فتاب توبةً نصوحاً: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].(218/7)
عبد الغني المقدسي يخالف هواه
أتوا بـ عبد الغني المقدسي صاحب الكمال في أسماء الرجال كان من أعبد الناس، ومن أقوى الناس، وكان شرساً قوياً، إذا رأى المنكر لا ينتظر، ولا يتفاهم بالهدوء، وآتاه الله قوة في الجسم، يقولون: كأنه كان ساريةً من حديد، وأسرته قوية.
مر بوزير من الوزراء، والوزير على فرس، ومع الوزير بغال محملةً خموراً، يريد أن يدخل بها العاصمة، فقال له: أين تذهب؟
قال: أريد أن أدخل، قال: ما هذه؟
قال: أمور، ففتش، فوجد الخمر، فقفز عبد الغني على هذا الوزير من على الفرس، فحطه في الأرض، وبرك على صدره، وأخذ يلطمه، ثم أخذ سكيناً ففجر كل القراب في الأرض.
وهذه نقف معها موقف: متى يكون تغيير المنكر باليد؟ وأحيلكم على ضوابط الأمر بالمعروف، وقد سبق هذا.
إنما الشاهد أن عبد الغني هذا سجن، وغضب عليه السلطان، فسجنه مع النصارى في بيت المقدس، فلما دخل السجن، رأى النصارى والصلبان على نحورهم، فقام يتوضأ، وكلما توضأ في الليل صلى ركعتين وبكى شهيقاً كأن القيامة قامت، فإذا جف وضوؤه، ذهب ليتوضأ، فما نام، فلما أصبح الصباح، أتى النصارى إلى السجان، فقالوا: أخرجنا إلى السلطان لنسلم، فأخرجهم فدخلوا على السلطان، فقالوا: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قال: مالكم؟ قالوا: رأينا عبد الغني البارحة يصلي من صلاة العشاء إلى الفجر، فذكرنا بالقيامة.(218/8)
عاقبة من اتبع هواه
ومن اتباع الهوى كما ورد عند مسلم، قال صلى الله عليه وسلم لرجل كان يأكل بشماله: {كل بيمينك قال: لا أستطيع -تكبراً- فقال له: كل بيمينك، قال: لا أستطيع، قال له صلى الله عليه وسلم: لا استطعت -أي: جعلك ما تستطيع- فما رفعها إلى فمه} جعلها الله يابسة: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16].
وتجد المتكبر الذي ركب هواه يعارض السنن الشهيرة، ويفتي في الدين، تجده مفتياً من هيئة كبار العلماء مجتهداً مطلقاً، تعرض عليه المسائل، قال: لا.
هذه من القصور، والأمر فيه سعة، وأنتم متشددون، وليس هذا بصحيح، وأمره إلى الله.(218/9)
الفراغ القاتل
والسبب الثالث من أسباب الانحراف عن منهج الله، وطاعته: الفراغ القاتل.
قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] قال أحد السلف: " المؤمن إذا فرغ غفل.
قال عمر: [[إنني أنظر إلى الرجل، فإذا رأيته ليس في شأن من شئون الدنيا ولا الآخرة سقط من عيني]] فبعض الناس لا هم له إلا أن يعدد السيارات، ليس عنده عمل.
لا يعرف يتنفل، ولا يقرأ القرآن، ولا يسبح، وإنما يجلس في حديقة من الحدائق، أو في دويرة، أو يجلس عند الإشارة، أو على الرصيف، ويأتي من الصباح ينقل السيارة من طرف الشارع، فيوصلها، ويعود يأخذ الثانية، ويوصلها، فما يأتي في المساء إلا ورقبته تكاد تنحط في سبيل اللهو، وأجره على الشيطان.
أمير المؤمنين عمر كان يشتغل، فإذا انتهى من عمل الخلافة ذهب فصلى، فإذا انتهى أصلح بين الناس، فإذا انتهى دار على البيوت، فإذا انتهى دخل يتفقد الأيتام والأرامل، فإذا انتهى أتى إلى الدواوين، فإذا فرغ قال لـ أبي موسى: [[ذكرنا بربنا يا أبا موسى!]] فلا فراغ عند المؤمن أبداً، والرسول عليه الصلاة والسلام من أحفظ الناس لوقته، أما الذي يشكو من الضيق والكدر، فهذا لا يعرف معنى الحياة، ولا يعرف سيرة محمد عليه الصلاة والسلام.
وقال بعض السلف: " الراحة بطالة ".
فإذا رأيت الإنسان يرتاح، أي: ينام كثيراً، فاعرف أنه بطال.
سمعت أستاذاً في شريط يقول: والله لقد عرفت رجلاً نام من بعد صلاة المغرب إلى صلاة الظهر في اليوم الثاني، فقلنا: هذا يمكن أن يكون من أصحاب الكهف: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف:18] وبعضهم في برنامجه أن ينام إلى قرب الظهر، ليس عنده عمل ولا وظيفة، ولا تسبيح ولا نوافل، ولا شغل ولا شيء، فينام إلى الساعة الحادية عشرة، ثم يقوم، فيفطر إلى الظهر، فإن أحسن وكان من المحسنين صلى الظهر، ثم عاد فتغدى، ثم نام إلى العصر، ثم ذهب بسيارته يجول ويصول إلى الغروب، ثم من المغرب إلى العشاء في جلسة لاهية، وبعد العشاء جلسة حمراء يستعيذ منها الشيطان.(218/10)
حال السلف مع الوقت
أتى قصاص يقص شارب معروف الكرخي وكان معروف يعتمر، فحلق رأسه، ثم قال للقصاص: خذ من شاربي، فأخذ معروف يسبح الله، قال له القصاص: أنا أقص شفتك، اسكت، قال: أنت تعمل، وأنا أعمل، قالوا: ما رئي إلا متمتماً بذكر الله، وقال بعضهم: أظنه يسبح مئات الألوف في اليوم، ويقولون: كان إذا نام عند أهله سبح سبح، فلا يستطيعون النوم.
ويقال عنه: ربما مرت عليه بعض الليالي يسبح فيها حتى ينام، فإذا اضطجع على فراشه سبح حتى يؤذن الفجر.
وكان سفيان الثوري في بعض الليالي لا ينام
نامت الأعين إلا مقلةً تذرف الدمع وترعى مضجعك
قيل لـ سفيان: لم لم تنم؟ قال: أردت أن أنام فتذكرت يوم يكون عرش الله بارزاً للناس، فما نمت.
وعمر بن عبد العزيز، قيل: أنه مرت به ليلة، فما نام.
وأما عمر بن الخطاب، فقد قيل لـ عاتكة: ماذا كان يفعل عمر؟ قالت: إذا أتى إلى فراشه وضع عنده ماء بارداً، فإذا نعس رش وجهه ثم ذكر الله، فإذا نعس رش وجهه، فإذا انتصف الليل قام يدعو ويبكي حتى الفجر، قالت عاتكة: يا أمير المؤمنين! لم لا تنام؟ قال: إن نمت في النهار، ضاعت رعيتي، وإن نمت في الليل، ضاعت نفسي-سلام عليك ورفع الله منزلتك-.
الجنيد بن محمد أحد الصالحين، أتى في سكرات الموت، فأخذ يقرأ القرآن، فأتى الناس -قرابته وجيرانه- يحدثونه، وهو في مرض الموت، فسكت وما حدثهم، وأخذ يقرأ القرآن، قال له ابنه: يا أبتاه! أفي هذه الساعة تقرأ القرآن؟! قال: ومن أحوج الناس مني بالعمل الصالح، فأخذ يقرأ ويقرأ حتى انتهى.
وابن تيمية لما وصلته الوفاة، قال لمقرئ عنده: اقرأ عليَّ القرآن، فقرأ، فلما بلغ القارئ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55] فاضت روح شيخ الإسلام.
عفاء على دنيا رحلت لغيرها فليس بها للصالحين معرج
كدأب علي في المواطن كلها أبي حسن والغصن من حيث يخرج
سلام عليك في الخالدين، وجمعنا بك في الصالحين، وروض الله روحك في الأخيار الطيبين:
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} * {وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
وقال الذهبي عن عبد الله بن إدريس العالم الكبير -الله ما أكبره! وما أحسنه! - هذا العالم استدعاه هارون الرشيد ليوليه القضاء، فلما دخل عليه، قال: تولَّ القضاء، قال: لا أتولى، قال: ولم؟ قال: يرسلني أهلي إلى السوق لأقتضي مقاض، فأنسى الغرض الذي أرسلوني إليه، فتوليني أمور المسلمين، قال هارون وقد غضب: سمعت أنك مجنون، قال عبد الله بن إدريس: ما زال أهلي يسمونني مجنوناً إلى اليوم، قال: ليتني ما رأيتك، قال عبد الله بن إدريس لـ هارون: وليتني أنا ما رأيتك، ثم خرج من عنده، فلما حضرته الوفاة، جمع ابنه وبناته، وقال: يا بني! لا تعص الله في هذا البيت، والله لقد ختمت القرآن فيه أربعة آلاف مرة.
ذكرها الذهبي بسند صحيح.
يقول سبحانه: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان:29] قيل لـ ابن عباس: [[كيف تبكي السماوات والأرض؟! قال: المؤمن يبكي عليه مصلاه ومقعده وممشاه إلى المسجد]].
الخطيب البغدادي المحدث الكبير، كان يأخذ كتاباً إلى المسجد، ويقرأ ذاهباً وآيباً، قيل له في ذلك، قال: أحدث الكتاب، ويحدثني.
وقال أحد الصالحين لتلاميذه: " إذا خرجتم من المسجد فتفرقوا لتقرءوا القرآن، وتسبحوا الله، فإنكم إذا اجتمعتم في الطريق، تكلمتم وضاعت أوقاتكم ".
ما أحسن هذا الوقت! وما أثمنه! وما أعظم قدره عند الله!.
قال الذهبي في ترجمة عبد الرحمن بن أبان بن عثمان حفيد لـ عثمان بن عفان، وعبد الرحمن كان غنياً، كان يجمع أهل البيت من العبيد والموالي فيكسوهم، فإذا أكساهم أعتقهم لوجه الله، فيقول له المسلمون: لماذا؟ قال: أستعين بها في غمرات الموت، وأول ليلة في القبر.
فارقت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون
القبر أول ليلة بالله قل لي ما يكون
يقول هذا الأديب الشاعر: بت عند جاري، مرة فما نمت لأنه تغير المكان، فكيف بأول ليلة من ليالي القبر؟!!
يقول أحد الصالحين، وقد دخل على سلطان من السلاطين فرآه مغروراً بالذهب والفضة والخيل المسومة، والأنعام، والحرث، قال له: اسمع مني كلمة، قال: ما هي؟ قال:
والله لو عاش الفتى في عمره ألفاً من الأعوام مالك أمره
لا يعتريه السقم طول حياته كلا ولا ترد الهموم بصدره
ما كان ذلك كله في أن يفي فيها بأول ليلة في قبره
أول ليلة هي ليلة عجيبة، ومن أراد أن يتهيأ بضيافة في أول ليلة فليفعل، وليقض على الفراغ، وكان السلف يحرصون على أنفاسهم في سبيل الله، وكانوا يستغلونها.
قالوا عن وكيع بن الجراح: كان يصلي مائة ركعة بخشوع وخضوع من غير الفرائض.
وقالوا عن أحمد: صلى ثلاثمائة ركعة.
والضابط في ذاك السنة، وليس العمل بالكثير، ولكن العمل المخلص الصادق الخاشع لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
قال ابن الجوزي في كلام ما معناه في صيد الخاطر: لمحت فإذا الناس يضيعون الأوقات؛ فهذا يجلس فارغاً في السوق، وهذا يتناول المشايخ على وجه الخدمة، أي: يزورهم، وأصبحت الآن الزيارات كثيرة خاصة بين الشباب، يزوره في الله، ويسهره إلى الساعة (اثنتين) في الله، ويضربه في الله، ويغتابه في الله، أصبح كل شيء في الله، وهذه مضيعة للوقت، إذا لم تحدد الزيارة بجدول لعمل، وإلا فالضياع الحتم الذي ما بعده ضياع.
المجد ابن تيمية له شيء عجيب في حفظ الوقت، كان يقول لابنه إذا دخل الخلاء، أو ذهب يغتسل في دورة المياه: اقرأ عليَّ، وارفع صوتك، لعلي أستفيد وأنا هناك، فيقرأ ويرفع صوته.
أنفاسهم محسوبة، لأن هذا العمر لا يتكرر.(218/11)
الغفلة عن ذكر الله
ومن أسباب الانحراف أيها الأخيار: الغفلة.
ولا يصاب العبد بشيء أعظم من الغفلة، والغفلة ركن من أركان الكفر كما قال أهل العلم.
قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] مرض الغفلة مرض خطير، فتجده ينتبه لكل شيء إلا للدين، والذكر، والقرآن، تجد أحدهم يعتني بكل شيء: بسيارته، وبمطعمه، وبملبسه، وبمشربه، وبكل شأن من شئون الحياة، ولكن لا يعرف الدين، سبحان الله! عرف الإنسان حتى جهاز الكمبيوتر، ولا عرف الطريق إلى الله، وتجده مشغولاً عن الدين ومستعداً أن يضحي بكل وقت إلا في الاستقامة، مستعد أن يتكلم عشرات الساعات لكن بغير ذكر الله، وأن يقرأ من المجلات والصحف ما شاء، لكن في غير كتب العلم.(218/12)
أسباب الغفلة
ومن أسباب الغفلة: أن بعضهم قد يلعب، أو يغني، أو يرقص، أو يعرض أربع أو خمس ساعات، لكن إذا صلى التراويح فطول الإمام قليلاً شكا وبكى، وناح وصاح، وأتى بالأحاديث، خفف، يا أيها الإمام! من شق على أمة محمد شق الله عليه, وإن لجسمك عليك حقاً، والدين يسر، والقصد القصد، وإن منكم لفتانين، ونحو هذا.
على كل حال: هذه من علامة الغفلة، ونحن لا نأمر الناس بالإطالة على الناس بالعبادة، لكن الحكم بيننا جميعاً السنة.
قال عمار بن ياسر: {أرسلني صلى الله عليه وسلم إلى قوم من الأعراب في ضواحي المدينة، فأتيت، فإذا هم ليس لهم همٌّ إلا الإبل، فجمعتهم لأعلمهم كتاب الله -أي: يجمع الأعراب الذين عندهم إبل وغنم ليقرئهم الفاتحة- قال: فأتيت، فإذا قوم كالمجانين، نفروا إلى إبلهم لا يريدون، فعدت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فأخبرته، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له}.
ولذلك تجد بعض الناس فيه غفلة عجيبة، لا يزيد من فقهه وفهمه في الدين، ولا من سؤاله، ولا من ذكره وصلاحه، ويعيش في غفلة وسبات عميق لا يعلمه إلا الله.
ولذلك فمن أسباب الغفلة: سكن البوادي، ونحن لا نقول لأهل البوادي: تعالوا، انقلوا من البوادي إلى المدن، لا.
لكن نقول لهم: اعتنوا بدينكم وانتبهوا.
ومنها: القرى فهي من أسباب الغفلة، قال في حديث ثوبان، وفي سنده نظر، أورده البخاري في كتاب الأدب المفرد، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {يا ثوبان! لا تسكن الكفور، فساكن الكفور كساكن القبور} أي: لا تسكن القرى.
بعض القرى تمر عليها سنة لا تسمع فيها درساً ولا محاضرة، فهي من أسباب الغفلة التي ما بعدها غفلة.
قال ابن تيمية: " هؤلاء يفهمون مجمل الدين، ولا يفهمون تفصيل الدين ".
لأن الدين يحتاج منك كل يوم أن تفهم معلومة أو آية أو حديثاً، أما أن تعيش ستين سنة، وأنت على دينك الأول، فلا يصح، فأنت لا ترضى في الدنيا أن تعيش في بيت واحد هذه الفترة، أو ترضى بسيارة واحدة، أو بثوب واحد، كل يوم تجدد إلا الدين.
قال رجل لـ أبي هريرة: [[أريد أن أطلب العلم، لكن أخاف أن أنساه، قال أبو هريرة: كفى بتركك طلب العلم إضاعة]].
يقول: الآن ضيعت العلم عندما خفت أن تنسى العلم.
ومن أسباب الغفلة: عدم الحرص على طلب العلم:
كان المجرمون يقولون: الإنسان إذا بلغ كذا وكذا لا يطلب العلم.
أبو بكر طلب العلم وهو شيخ في الأربعين، وعمر طلب العلم وهو كبير، وعثمان طلب العلم وهو كبير، وأصبحوا من العلماء في الدنيا.
قال البخاري: " وتعلم أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام في الكبر ".
ولذلك يطلب من الإنسان أن يتعلم ولو كان في الثمانين ويطلب ويتفقه ويجالس أهل العلم، وطلبة العلم، عل الله أن يفتح عليه.
قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].(218/13)
بُعْد السلف عن الغفلة
وقال وهب بن منبه في قوم غافلين: ألجأني المطر فدخلت في بيت على قوم جلوس، فرأيتهم في حلقة كبيرة، فقلت: الحمد لله، وفقني الله بجلوس مع أخيار ما بعدهم أخيار، رأيت لحاهم وعمائمهم، قال وهب بن منبه العالم العابد: فلما رأيتهم سمعتهم يتحدثون، قلت: لعلهم يتحدثون في العلم فأستفيد، قال: فإذا هذا يقول: متى أتى ابنك؟ هل أتى بمال؟ ويقول هذا: هل بعت سلعتك؟ ويقول هذا: هل كسبت؟ قال وهب بن منبه: لقد ساء ظني بكم، قالوا: ماذا؟ قال: مثلي ومثلكم كمثل رجل أتى عليه مطر وليل، فرأى باباً مفتوحاً، فظن أن وراء الباب بيتاً، فدخل فهرب من هذا الباب، ثم دخل الباب، فوجد أنه مكشوف إلى السماء، فلما خرج فإذا هو فضاء، قال: فهذا كمجلسي مع مجلسكم، وهؤلاء الذين لا يقربونك من الآخرة، ولا يقصد من ذلك: أن تكون مجالسنا كلها ذكر، لكن أن تكون في المباحات التي لا غيبة فيها ولا كذب.
مر الحسن البصري بفتيان يضكحون يوم العيد، قال: يا فتيان! أجزتم الصراط حتى تضحكون؟! قالوا: لا، ما جزنا، فقال: لا يضحك إلا من تجاوز الصراط.
الحسن البصري لم يكن يضحك، يقولون: كان يتبسم، وقيل له: لماذا لا تضحك؟ قال: كيف أضحك؟! ولعل الله اطلع علي، فقال: اعمل، وعزتي وجلالي لا أغفر لك، أو كما قال.
يقول ابن القيم في بدائع الفوائد: " عجباً لك يا من تخالف الله كل يوم! الخضر رافقه موسى فخالفه ثلاث مرات، فقال له في الثلاثة: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78] أفما تأمن أيها العبد وأنت تخالف الله كل يوم أن يقول الله لك: هذا فراق بيني وبينك ".
فلذلك الحسن يلوم من يضحك ويلهو كثيراً، والضحك مباح، لكن إذا أصبح عادة وبلادة، وأصبح إلفاً وعدم زيادة في الخير، أصبح صاحبه غافلاً عن طريق الهداية.
يقولون: قالوا لعيسى بن مريم عليه السلام، وقد مر بهم وكان ذاهباً إلى المصلى: ألا تلعب معنا؟! -وهو طفل- قال: ما خلقني الله للعب، قال الله عنه: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم:12] وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
كان بعض السلف إذا واجهوا بعضاً قال: في كم ختمت القرآن؟ كم قرأت اليوم؟ كم سبحت؟ كم صليت؟ ليس من باب الرياء، لكن ليتشجع بعضهم ببعض.(218/14)
الصحبة السيئة
أيها المسلمون! ومن أسباب الانحراف: الصحبة السيئة.
ألا إني أحذر نفسي وإياكم من قرناء السوء: الذين وقفوا في طرق الهداية يصدون شباب الإسلام، وحرفوا وبدلوا في سيرة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام.(218/15)
الأصحاب ثلاثة
قال أحد العلماء: الأصحاب ثلاثة: صاحب كالهواء، وصاحب كالدواء، وصاحب كالداء، فأما الصاحب الذي كالهواء فهو الذي لا تستغني عنه، فإذا انقطع الهواء عنك مت، فهو الذي يقربك من الله، ويدلك على الله، ويحبب إليك ذكر الله، فهذا الصاحب كالهواء، لا تفارقه دائماً وأبداً ما استطعت، زره، وجالسه، واسأله، وادع له.
وصاحب كالدواء، وهؤلاء أهل المنافع، لا تحتاج إليه إلا وقت الطلب، وضربوا على ذلك أمثلة، مثل: الفران أو الخباز، تحتاج إليه إذا أردت خبزاً في الصباح، أما أن تجلس دائماً مع الفران، وتقول: أحبك في الله، ولا أستغني عنك من الصباح إلى المساء، فهذا ليس بصحيح، والخياط تحتاجه عندما تحتاج ثوباً، والنجار لإصلاح الأبواب، والمهندس للسيارة، فلا يحتاج إليه إلا وقت الحاجة.
وصاحب كالداء يعديك، وهذا السم الزعاف، وهذا الذي يقربك من النار، ويقودك إلى الخزي في الدنيا والآخرة -والعياذ بالله- وهذا اهرب منه، وفر منه فرارك من الأسد، واجعل ثوبك في فمك، وتوكل على الله واهرب.
قال أحد الصالحين: " إذا رأيت الرجل يتهاون في تكبيرة الإحرام مع الجماعة، فاغسل يديك منه"، يعني: تب من مرافقته وقالوا: إذا رأيت الإنسان يتهاون عن فرائض الله، فلا تصاحبه قيد أنملة.
وقال جعفر الصادق لابنه: " يا بني! لا تصاحب ثلاثة: لا تصاحب عاق الوالدين فقد لعنه الله، ولا تصاحب فاجراً فيعديك بفجوره، ولا تصاحب كذاباً، فإن الكذاب يقرب لك البعيد، ويبعد عنك القريب ".
وهذه من أحسن الوصايا.
فالصحبة الصحبة.
أحذر نفسي وإخواني من جلساء السوء الذين صدوا عن منهج الله.
يقول أحد الصالحين في صاحب له اسمه محمد يكسب بمنظره وبمسيرته أحسن الصفات، قال:
صحبت محمداً فكسبت منه خلائق من بهاها الليل يبسم
فقلت له: وايم الله إني بحبك يا أخا العلياء مغرم
فقال: تهن في عيش كريم كذا من صاحب الأخيار يكرم(218/16)
سبب ذكر الكلب في القرآن
قال ابن كثير رحمه الله: " صاحب الكلب أهل الكهف وهم صالحون فذكره الله في القرآن ".
كلب صاحب الصالحين فتشرف بهم، وذكره الله في القرآن، وما نسيه سبحانه، والله لا ينسى، فقال: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18].
يقول سيد قطب وهو ينقل لنا الحدث والصورة على مسرحية الحياة: " تدخل الغار فتجدهم نياماً، والشمس تزاور عنهم، وتقرضهم ذات اليمين وذات الشمال، وصور لنا فتحة الغار، واتجاه الغار، وعددهم، وأين الكلب ".
قال أهل العلم في هذا دروس:
أولها: الكلب لم يدخل معهم من الأدب، فهو كلب محترم، ويقولون: لم يدخل معهم الغار؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، وبقي هناك؛ ولأن هؤلاء صالحون.
قال: والدرس الثاني: أنه بأدبه ما ذهب وراء الغار، فبعض الكلاب غبي تضعه عند الباب من أجل أن يحرس، فيذهب وراء البيت ينام، أو يلهو ويلعب، أو لا يميز بين الضيوف وغيرهم، وإنما ينبح لهذا وهذا، وهذا كلب غبي، والكلب الذكي: هو الذي يقف بالوصيد، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18] قالوا: وهي هيئة الكلب، فما وقف ليستغرب موقفه، وما أدبر، وإنما بسط، قال: ومن كرامة الله عز وجل لمن صاحب الأخيار أنه أماته معهم، فمكثوا ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى -اسمعوا أسلوب القرآن-: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف:18] يقول: عيونهم مفتحة، ولحمهم على هيئته، وأجسامهم وأيديهم، ويمكث الإنسان منهم ثلاثة أيام، أو أسبوع، أو شهر، أو سنة، ثم يميل وينقلب، وبعد عشر سنوات ينقلب على الجهة الثانية، وبعد خمسين سنة يمل من جنبه الأيمن، فينقلب، قال أهل العلم: ينقلبون لئلا تأكلهم الأرض.
قال ابن كثير: " انظر كيف صاحب الكلب الشرفاء، فتشرف بهم، فذكره الله، وصاحب أبو طالب النذلاء كـ أبي جهل وأمثاله، فأدخلوه النار ".(218/17)
الصاحب ساحب
أتى صلى الله عليه وسلم الخبر أن أبا طالب في سكرات الموت، والذي أخبره! هو أبو الحسن علي بن أبي طالب سيف الله، رجل المهمات، فقال: يا رسول الله! عمك الشيخ الضال في سكرات الموت.
لا يقول أبي؛ لأن النسب مقطوع في هذا، نسب الولاية، أما نسب الولادة فموجود، فأتى عليه الصلاة والسلام يريد أن يدرك آخر فرصة مع هذا الرجل الذي دافع عنه، وقدم دمه وماله، وكان سيداً من السادات، يقول في قصيدة:
كذبتم لعمر الله نبزي محمداً ولما نقاتل دونه ونناضل
يقول: والله، لا ندفع لكم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نقطع دونه، فدخل عليه الصلاة والسلام، وأبو طالب في سكرات الموت، وإذا بـ أبي جهل وعبد الله بن أبي أمية جالسان عنده، والحديث في صحيح مسلم، فقام رجل من جانب أبي طالب من عند رأسه، فقام صلى الله عليه وسلم ليقرب منه، فقام أبو جهل حتى يحل المكان الشاغر، فقال صلى الله عليه وسلم: {يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، يا عم! قل لا إله إلا الله فأراد أن يقولها، فقال -النجس الرجس الخبيث المخبث- أبو جهل: أتريد أن تموت على ملةٍ غير التي مات عليها عبد المطلب، فقال: لا.
هو على ملة عبد المطلب، فمات عليها فدخل النار}.
جليس السوء الجرار، قال أهل العلم: الصاحب ساحب، وقال عبد الله بن المبارك: [[من ذا الذي يخفى إذا نظرت إلى قرينه]].(218/18)
الصحبة الحسنة وثمرتها
ويقول ابن المبارك:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا عفاف وحياءٍ وكرم
قوله للشيء لا إن قلت لا وإذا قلت نعم قال نعم
وقال رحمه الله:
إذا صاحبت قوماً أهل ودٍ فكن لهم كذي الرحم الشفيق
ولا تأخذ بزلة كل قوم فتبقى في الزمان بلا رفيق
وقالوا:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
جزاء من صاحب الصالحين ثلاثة أمور:
أن يزيده الله علماً وفهماً وتوفيقاً.
وأن تدركه دعوتهم في الدنيا.
وأن ينال شفاعتهم في الآخرة.
أولاً: تزداد منهم حسناً إلى حسنك، ينفعونك علماً ونسكاً وزهداً.
الأمر الثاني: يدعون لك بظهر الغيب، ألا دعوةٌ مستجابة، دعوةُ قريبٍ وحبيب لحبيب.
الأمر الثالث: يشفعون لك: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
قال أهل العلم: ينفع بعضهم بعضاً في الآخرة، وقال سبحانه عن المعرضين: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101] ومفهوم مخالفة الآية: أن لو كان لهم أصدقاء بررة لنفعوهم بإذن الله لو كانوا معهم.(218/19)
طول الأمل ونسيان الموت
أيها الأحباب! ومن أسباب الانحراف: طول الأمل:
الأمل هو: أن تجعل في مخيلتك أنك ستعيش ستين أو سبعين أو ثمانين أو مائة سنة، ولذلك أكثر الشباب -ونحن منهم- لا يتصور الموت، ونظن أنه لا يموت إلا الكبار، وكأن عادة الناس أنه لا يموت الإنسان إلا إذا كبر، أو عمي، أو أصابه صمم، أما الصغار فنادراً أن يموتوا، وبالاستقراء يقولون: الموت في الشباب أكثر، وسبب طول الأمل (سوف) قالوا: من زرع شجرة سوف تنبت له نبتة لعل، فيها ثمرٌ اسمه ليت، يذوقه الإنسان وطعمه الخيبة والندامة، ولذلك فلا يردد (سوف) إلا أخيب الناس، اقرأ القرآن، قال: إن شاء الله سوف أقرأ، إن شاء الله سوف أحفظ، لماذا لا تتوب؟ قال: أنا مصمم وعندي تخطيط بإذن الله، لكن لا أريد أن يكتشفه أحد؛ لأن عندي تخطيطاً في أمور، فبعد أن أبني بيتاً، وبعد أن أتمم الأمور أتوب إلى الله توبةً نصوحا، وأحج إن شاء الله، ثم أتوب.
أتحج السنة هذه؟ قال: لا.
أنا إن شاء الله سوف أحدد الحج الذي أتوب فيه، ثم أتوب توبة ما بعدها توبة، ثم يموت وهو لم يتب بعد، لماذا لا تترك هذه المعصية؟ قال: أنا سوف أتركها، لكن هناك بعض الأمور والملابسات أنت لا تعرفها ولا يكتشفها إلا مثلي وأمثالي.
يقول ابن عثيمين الشاعر النجدي الميت رحمه الله:
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلَّ الردى مما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخرب
وفي أولها يقول:
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
هذا ينزل، وذاك يركب، وكل يوم نودع غادياً ورائحاً إلى الله.(218/20)
حال الناس مع طول الأمل
اجتمع قوم من الصالحين كما قال ابن عبد البر: فتذاكروا قصر الأمل، قال أولهم: أما أنا فبلغ بي قصر الأمل أني ما أصبحت إلا وقلت لا أمسي، قالوا: أملك طويل، وقال الثاني: وأنا والله ما رفعت رجلي، إلا ظننت أني لا أضعها في الأرض حتى يبادرني الموت، قالوا: أملك طويل، قال الثالث: أما أنا فوالله ما أخرجت نفساً، إلا ظننت أني لا أخرج النفس الآخر.
صح عنه صلى الله عليه وسلم {أنه قضى حاجته، ثم أتى فتيمم، فقال الصحابة له: يا رسول الله! الماء قريب، قال: لعلي لا أبلغه} ربما أموت دون الماء، فالماء كان بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أمتار، فلما قضى صلى الله عليه وسلم حاجته تيمم ليكون على طهارة، ومشى إلى الماء، فقال الصحابة: يا رسول الله! الماء قريب، قال: لعلي لا أبلغه.
ومر عليه الصلاة والسلام بـ ابن عمر، وهو يبني بيتاً من سعف النخل ويقويه، فقال: {ما هذا يا ابن عمر! قال: بيت لنا يكننا يا رسول الله! من المطر، ويظلنا من الشمس، قال: الأمر أعجل من ذلك} موتك قريب، وصح في حديث: {إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح} وهو عند البخاري من كلام ابن عمر، ولكن رفعه بعض أهل العلم من الصحابة إلى محمد عليه الصلاة والسلام.
الخليفة العباسي المتوكل أعطى الإمام أحمد أموالاً لا يعلمها إلا الله، ركَّب على البغال والخيول أموالاً من الذهب والفضة، والإمام أحمد يحتاج إلى كسرة الخبز، وليس عنده من الدنيا إلا القليل، قالوا: لماذا لا تأخذ أموال المتوكل؟ قال: طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وأيام قلائل حتى نلقى الله، ولذلك مات الإمام أحمد، ومات المتوكل، فهل نفع هذا ماله، وهل ضر هذا فقره، لا.
ذهبوا إلى علام الغيوب.
وقال الحسن البصري: دخلت على بشر بن مروان وهو أمير، فرأيته بطيناً سميناً أبيض غضاً غشوماً ظلوماً، والحراس على رأسه بالسيوف، ووالله ما خرجت من قصره، إلا والأطباء يستدعون، فدخلت مع الأطباء، فإذا هو يبرم في الأرض كالحية، فمات، هذا بشر بن مروان أخو عبد الملك بن مروان، كان أميراً على العراق، وهو المقصود بقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
تولى الإمرة والجنود كانوا على رأسه بالسيوف، وفي لحظات أتته سكرات الموت: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6 - 7] {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].
انتفض وقال: عليّ بالأطباء فدخل الأطباء فما أدركوه إلا وقد مات.
الخليفة المعتصم فاتح عمورية، الذي دائماً نكرر قصيدة أبي تمام فيه، هذا المعتصم خليفة عسكري كان يأخذ السيخ الحديد يكتب اسمه في الهواء، يقولون: ربط رجله اليمنى بوتد في الأرض، وربط اليسرى بوتد، ثم قفز من الأرض على ظهر الفرس، فاقتطع الوتدين والخيوط.
كان من أقوى الناس، ويقولون: أنه أخذ ذراع أحد القواد، فأراد أن يلويه بإصبعين، قال: لا تكسر ذراعي، وصاح القائد، قال الذهبي، أو ابن كثير: " ما سمعنا بأقوى منه، لكن مات في الأربعين فما نفعته قوته ".
يقول: أتته سكرات الموت ما مرض قبلها، لكن أتته بغتة، مثل الجلطة، فنزل، فقال: علي بالقواد، فأسرعوا، قال: علي بالعلماء، فأسرعوا، قال: علي بالأمراء، فأسرعوا، قال: أموت الآن؟
قال العلماء: تموت بالإجماع أي: أفتوا أنه يموت، ثبت الهلال، قال: كيف أموت؟ قالوا: تموت، ذق الموت، قال: لو أعلم أني أموت الآن ما فعلت ولا فعلت، أي: لو علمت ما كنت فعلت بعض الأفعال.
{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] غفر الله للمعتصم صاحب عمورية، دهده مدن الروم، أحرق هذه في قلب هذه، ونكس مئات الألوف من رءوسهم، وأشعل عليها النار، وأغلى عليها قدور اللحم، وأطعم القواد، وهو الذي يقول أبو تمام فيه:
السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب
رمى بك الله ركنيها فهدمها ولو رمى بك غير الله لم يصب
يقول: الله الذي رمى بك من السماء، الله الذي نصرك، وأما غير الله فلن يصيب مرمى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
قيل لنوح عليه السلام في طول الأمل وفي قصره، وقد عاش ألف سنة إلا خمسين عاماً: كيف رأيت الحياة؟ قال: والله لقد رأيت الحياة كبيت ذي بابين دخلت من هذا، وخرجت من هذا.
معاوية بن أبي سفيان عاش ثمانين، أو أكثر، قال: لبست كل شيء، فما وجدت كلباس التقوى، وذقت كل شيء فما وجدت كالصبر، وطعمت كل شيء فما وجدت كغلبة الرجال، أو كما قال، وما بقي من لذتي في الحياة إلا أن أجلس مع أخٍ يقربني من الله ليس معي ومعه أحد، يضع الكلفة عني، وأضع الكلفة عنه.
ومن طول الأمل، قال سبحانه للخائبين النادمين الفاجرين المعرضين عن منهجه: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:112 - 113].
مر شيخ من قبيلة غفار قد بلغ السبعين سنة وأصبحت لحيته بيضاء -وهي طويلة على صدره- بأطفال يلعبون في سكة، فلما رأوه تضاحكوا، قال: مالكم؟ قال أحدهم: يا عم! بكم اشتريت هذه القوس يعني: اللحية، قال: يا بني! باعها الدهر مني بلا ثمن، وسوف يعطيك قوساً مثلها، يقول: انتظر قليلاً.
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
الإمام أحمد التفت فجأة، فرأى الشيب في لحيته، قال: " والله ما مثلت الشباب إلا بشيء كان في يدي، ثم سقط من يدي ".
بكيت على الشباب بدمع عيني فلم يغن البكاء ولا النحيب
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب(218/21)
التربية على العواطف
والسبب السابع في الانحراف بين الناس قاطبة: تربيتهم على العواطف، لا يربون على القرآن، ولا على نوافل، ولا على علم شرعي، وإنما على عواطف.
الرسول عليه الصلاة والسلام ربى الصحابة على الجهاد، ورباهم على الذكر والقرآن وعلى الصيام والنوافل.(218/22)
التربية على المجاملة
أما تربية الناس على العواطف، فمثل المجاملة، بعض الناس لا يستقيم إلا مجاملة، أو إعجاباً بأشخاص، وقد رأينا بعض الناس قد يرافق في مركز صيفي، أو مخيم، فلحبه لبعض الأشخاص يستقيم، لا لحبه الله، ولا لحبه رسول الله، يعجبونهم في دلهم وسمتهم كذا فيستقيم، ثم ينحرف؛ لأنه استقام للمجاملة، وبعضهم يستقيم للدرجات وللمنافع، كما يفعل بعض الطلبة إذا أتت أعمال السنة ربى لحيته، فأصبح كأنه من الفقهاء السبعة، وجلس في الفصل هادئاً، وسوى غترته بخشوع وخضوع، وعليه آثار السكينة حتى كأن من رآه تستقر الثعالب على رأسه من السكينة، فإذا -وهذا حاصل- وضعت الدرجة، حلق لحيته.
صلى وصام لأمر كان يطلبه لما انتهى الأمر لا صلى ولا صاما
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175].(218/23)
التربية على الأناشيد
ومنها من أسباب التربية التي تثبت الانحراف التربية على غير إيمان وعمل صالح وعلم نافع، بل على الأناشيد:
أي إن بعض الناس وسيلتهم الوحيدة النشيد، ففي الصباح نشيد، وفي الظهر نشيد، وفي العصر نشيد، يذهبون يعتمرون نشيد، ويرجعون في الليل ينشدون، أصبحنا وأصبح النشيد لله، وأمسينا وأمسى النشيد لله، دائماً نشيد، لبيك واجعل من جماجمنا لعرشك سلماً، ولا قرآن، ولا حديث، ولا آيات، فلذلك هؤلاء يستقيمون معهم، فإذا انتهى المخيم، انتهى الأناشيد.
هل يستعد الإنسان أن يكون معهم دائماً بالأناشيد، تنتهي الأناشيد، فيعود، هذا على العواطف، فلا تكفي، ولذلك ينتكس بعض الشباب كثيراً؛ لأنهم ما ربوا على إيمان.(218/24)
التربية على المنافع والمصالح
كإيمان الأعراب، الأعراب يقولون: كانوا يؤمنون، فإذا رأوا المطر، وأخصب لهم العام، ودرت لهم أغنامهم، قالوا: هذا دين خير، فإذا أتى الجدب والقحط وقلة الأمطار، قالوا: دين شر، فقال سبحانه: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:200 - 201].
الأعراب المعرضون يقولون: أعطنا ما تريد أن تقدمه لنا اليوم، حتى قيل: كانوا يحجون مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فيقول الأعرابي: اللهم كثر غنمي، اللهم أدر ضرعها، اللهم أكثر المال.
فيقول له بعض الصحابة: ادع في الآخرة، قال: لا.
الأول هنا في الدنيا.
وخرج أعرابي كما يقول ابن الجوزي: خرج من منى على الحرم، فأسرع سريعاً، ثم دخل من باب الحرم، ثم قفز على أستار الكعبة، قال: اللهم اغفر لي قبل أن يدهمك الناس، أي: اغفر لي قبل أن يزدحم عليك الناس، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا تزدحم عليه الحوائج، ولا تكثر عليه الطلبات، فهو الغني سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كما في الحديث القدسي: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر} وهذا يقول: قبل أن يدهمك الناس.
ومنها ما ذكره عليه الصلاة والسلام يوم أعرض عن قوم تربوا على المنافع، تألف قلوبهم، فما جعلهم عليه الصلاة والسلام هم الطليعة، وإنما الطليعة المهاجرون والأنصار، وأهل بدر وأحد، أما الذين أسلموا بعد الفتح، فهم يأتون في المرتبة الثانية؛ لأنهم أسلموا بالإبل والبقر والغنم والمال، أعطى صلى الله عليه وسلم قوماً، وترك بعض الصالحين، ثم قام يخطب، فقال عليه الصلاة والسلام: {إني لأعطي أناساً لما جعل الله في قلوبهم من الطمع والهلع، وأدع آخرين لما جعل الله في قلوبهم من الإيمان منهم عمرو بن تغلب -أحد الصحابة-.
وأعطى صلى الله عليه وسلم رؤساء العرب الأموال، وترك الأنصار، فوجد الأنصار في أنفسهم، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: أما ترضون يا معشر الأنصار! أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ قالوا: رضينا بالله قسماً ونصيباً} أي: رضينا بالله رباً، وبنبي الله رسولاً.(218/25)
معايشة الوسائل التي تحطم مصداقية الإيمان
أيها المسلمون! ومن أسباب الانحراف في صفوف الكبار والشباب والفتيات: معايشة الوسائل التي تحطم مصداقية الإيمان وهي: وسائل اللهو واللغو والغناء والمجون، ولها أضرار سبعة، فاسمع إليها:(218/26)
رؤية المجتمع المتفسخ
أولها: رؤية المجتمع المتفسخ على الفيديو والشاشة، وفي المجلة، فيرى الشاب نفسه ويسائلها: لماذا أعيش أنا في هذا الوضع وهؤلاء في جنة؟ حتى أن بضعهم يقول: أما الأمريكان فعجل الله لهم الجنة في الحياة الدنيا، فهم يعيشون في جنة، ويقول الشاب حين ينظر الرجل يسلم على المرأة في منظر الخزي والعار والدمار والعهر -والعياذ بالله- فيقول: وأنا لماذا أعيش هذا الحبس؟! فكأنه يشك في مصداقية الإسلام، صباح مساء دائماً، وهذا الفيلم يراه، وتتكرر هذه الصورة عليه، ألا يحدث ذلك ارتباكاً في قلبه؛ لأنه لا يسمع آيات الله، ولا أحاديث رسوله، ولا سيرة السلف، ولا الخوف من الله، فدائماً تطرق عليه هذه فيقول: عجيب، لماذا هذا الضنك؟ فيقول: أنا محبوس والناس مطلقون؟! لماذا أتقيد؟! فقد خسف بالأمريكان وهم يفعلون هذه الأفعال، فنقول له: ولا تعجبك أموالهم، ولا أولادهم، ويقول سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] ويقول: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16].(218/27)
مسح معالم الدين من القلب
ومنها مسح معالم الدين من القلب، فما تكرر عبد على وسائل الإفساد إلا مسحت معالم الدين، وهيبة الله من قلبه، فالذي يتحدث دائماً عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي في المجالس، ليس كالذي ينظر إلى أعداء الله من الخواجات، والمستغربين، والمستشرقين، وأذنابهم، فتصبح سيرة أبي بكر وعمر عنده لا شيء، ولذلك الآن تجد بعض الناس إذا حدثته عن أبي بكر، فليس عجيب عنده أبو بكر، فلا يعرف عن أبي بكر شيئاً، أليس أبو بكر رجل مثل الناس تولى الخلافة.
وعمر، قال عمر: سمع أنه الخليفة الثاني رضي الله عنه فيه خير، وسمعنا أنه رجلٌ طيب، فمثله مثل أحد الحمقى كما يذكرون: ذكر له إبراهيم عليه السلام، قال: سمعت أنه كان كفء.
الأحباش أتوا يعرضون في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم -أتدرون ما هي القصيدة التي عرضوا بها؟ - أخذوا الحراب يقولون:
محمد عبد صالح، محمد عبد صالح، فهو محطم كيان الوثنية، ورافع رءوس البشرية، وهادي الإنسانية.
يقولون: محمد عبد صالح، أي: فيه خير، فلذلك الذي يعيش على هذه الأمور، يمسخ معالم الدين والتاريخ من قلبه، فلا يفهم شيئاً.(218/28)
إضعاف التحصيل العلمي
فلا يعرف له قدوة لأن قدوة المسلم في العالم، أولها محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما التحصيل العلمي: فأضعف الناس تحصيلاً علمياً من كان مصدر ثقافته هذه الأمور، ويظن ظان أن الصحف اليومية تنمي الثقافة، وهذا خطر، الصحف اليومية أخبار، وليست علماً، ومن جعل ثقافته وتحصيله وعلمه من الصحف اليومية، فهو من أقل الناس تحصيلاً، ولا بد أن تعرف الواقع، ولا بد أن تطلع على ما يدور، ولا بد أن تقرأ حتى كتب الشر إذا أمنت وتحصنت بالعقيدة، ولم تكن خائفاً على نفسك، لكن أما أن تكون أسباب علمك وحصيلتك هذه الأمور فلا.
ولذلك تجد بعض الناس يقرأ الصحف ثلاث ساعات في المكتب، يقرأ الجزيرة، فإذا انتهى قرأ عكاظ، ثم الندوة، ثم المدينة، ثم الشرق الأوسط، ثم المسلمون، ثم ما شاء، ودائماً على هذا المنوال، لكن اسأله بعد شهر، كم في ذهنه من الآيات؟! كم عنده من الأحاديث؟! كم يحفظ من قصص؟! كم عنده من التأصيل العلمي؟! لا شيء؛ لأن الصحف ليس فيها علم، صفحتين إعلان عن الأسمنت، وصفحة عن أناس ضيعوا توابعهم، وإعلان عن العطور والكحول، من أراد أن يشتري، وسيارة تويوتا موديل جديد/ عبد اللطيف جميل، واستقبل وودع، أهذه أخبار قد تهمه! قد تنفع لكن في جانب، كذلك الصيدليات المناوبة، ودرجات الحرارة، وهذه ليست علماً، ولا بد للإنسان أن يقرأها، أما أن تكون ثقافته اليومية، فهذا ليس بصحيح، ثقافتك اليومية المصحف، ورياض الصالحين، لا بد من حزب من القرآن، وثلاثة أحاديث من رياض الصالحين تقرأها أنت وأهلك، تستمع الشريط الإسلامي، أما أن تقف على هذه، فليس بصحيح، فانتبه لنفسك.(218/29)
داء التقليد: الاستهانة بالمناهي
ومنها: داء التقليد، مما تسبب هذه الأمور، أنها تسبب التقليد عند الشخص حتى يقلد الكفرة في مشيتهم، وأكلهم وشرابهم، حتى تجد الأطفال يحاولون أن يقلدوا الكافر في لباسه وأكله وكلامه.
ومنها: الاستهانة بالمناهي، وبكثرة رؤيتها:
كنا قبل أن نعرف المجلات الخليعة وأمثالها عندنا من العيب الكبير أن يخالف الإنسان السنة في كثير من الأمور؛ لأنه يرى المجتمع المحافظ، ويرى المصداقية، ويرى أناساً ينهجون نهج الصحابة، لكن الآن من كثرة ما نرى أصبحت في العادة هذه الأمور سهلة، ولذلك إذا حدثته في هذه الأمور قال: هذه قشور، المسألة أعظم، أنت تقول: المسألة إيمان وقيام ليل، وهو يقول: المسألة ليست مسألة قيام ليل، المسألة أكبر.
ولذلك يستهان بالمعاصي من كثرة ما ترى ويحس بها حتى رأينا المجتمع الذي لا يعتني بالحجاب في خارج هذه البلاد المباركة المسددة، أن المرأة من كثرة ما يراها الناس، حتى الشاب المستقيم أصبح يكلمها، وتقول له: لماذا تكلمها؟! قال: الأمر عادي، مع كثرة الإحساس، المساس يبطل الإحساس، أي: من كثرة ما يتداول يبطل هذا الأمر.(218/30)
الإعجاب بالكافر
ولذلك حديث الناس أصبح تعليقاً على ما يدور من الأنباء؛ (الله ما أقوى أمريكا!) وما أقوى روسيا! واختلف الناس هل روسيا أقوى أم أمريكا؟! وعندها من الصواريخ والطائرات ما لا يعلمها إلا الله.
وما تذكروا عظمة الواحد الأحد، الذي بيده مقاليد الأمر {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].
إن الله ذو القوة المتين، فسبحان الله ما أقواه! فهل يتحدث في قوة الله الذي {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
سان فرانسيسكو أعظم مدينة في أمريكا، أصابها الزلزال في اثنتي عشرة ثانية، فحطم الكثير منها، لم يأتهم إنذار من الله، قال سبحانه وتعال: ى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99] ما أفادهم الرادار، ولا الإنذار المبكر، وإنما:
يا غارة الله جدي السير مسرعةً في أخذ هذا الفتى يا غارة الله
أيها الإخوة! هذه أسباب الانحراف، ولعلها متأملة من كلام أهل العلم، والسلف الصالح، ومن الأحاديث، وما عندي إلا أن أقدمها، فإن أحسنت فمن الله، وإن أسأت فمن نفسي، وأستغفر الله.(218/31)
الأسئلة(218/32)
الخطأ في الشعر
السؤال
يقول الأخ: البيت صحته: لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلماً، وليس لعرشك سلماً، فتنبه لذلك؟
الجواب
أثابك الله، أستغفر الله الذي لا إله إلا هو، اللهم إني أتوب إليك، أنا أخطأت، أصلاً يا أخي ليست قراءة حفص ولا شعبة، وليس هذا حديثاً نبوياً، بل هذا شعر، إن قالوا: لعرشك ولعزك، الأحناف والشافعية والمالكية والحنابلة لا يرون سجود السهو عند هذا الخطأ.(218/33)
توزيع الوقت بالحق
السؤال
هناك بعض الدعاة يقولون: أنتم كيف تربون الناس؟ الصباح قرآن، والظهر قرآن، والعصر قرآن، والدهر قرآن، فماذا نفعل؟
الجواب
نعم صدقوا، أجل إذا أدخلتهم في مدخل ما يخرجون منه، انظر إلى تربية محمد صلى الله عليه وسلم أبر الناس، وأصدق الناس، ساعة وساعة، وقت للقرآن، ووقت للتسبيح، ووقت للنفس، إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه، أما أن يمسك الناس حتى يكسر ظهورهم، مثلما يفعل البعض، ففي بعض المنتديات قد يأتي إنسان في حفل زواج، فيأخذ الناس أربع ساعات يحدثهم، ولماذا؟ أذنبوا لكي يكفر عنهم سيئاتهم بهذه الليلة، وحتى يتوبون فلا يعودون مرة أخرى هذا العرس، ليس بصحيح، نصف ساعة يكفي، أو ساعة ويخلطها بدعابة وبنشيد وبقصائد إسلامية، وبقصص وبسوالف ليس فيها غيبة، أما أن يشدهم ثلاث ساعات، فلا: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286].(218/34)
الدعوة مقتصرة على الأصول لا على الفروع
السؤال
ذكرت في المحاضرة أن من أسباب الغفلة في القرى، أنها تمر عليها السنة لا يلقى فيها محاضرة، ونحن قد دعونا الدعاة مثلكم لزيارة تلك القرى، ولكن لم نجد مجيباً، علماً بأن أغلب القرى لا يوجد فيها داعية؟
الجواب
أنا أقصد الإخوان، ولا أقصد نفسي، أقصدهم بالدعوة، وأما أنت أيها السائل، فاعلم أن هنا في منطقة الجنوب ما يقارب أربعة آلاف قرية، والداعية لا يستطيع أن يذهب إلى أربعة آلاف، مثلاً: في جيزان مئات القرى، يأتي أحد الإخوة، -أنا أعرفهم هنا في المسجد- فيقول: نريد محاضرة في مسجد كذا وكذا، وهذه القرية كلهم بسياراتهم ومواشيهم سبعة عشر، بالجمال والحمير والمواشي والسيارات سبعة عشر، فهل يذهب الداعية، ويلقي محاضرة هناك، لا.
بل يقصد المدن، جيزان وما حولها، صبية وما حولها، أبو عريش وما حولها، أما أن يذهب إلى كل قرية، فلو كان عمره عمر نوح ما انتهى من هذه القرى إلا وتلك قد مر عليها ثلاث سنوات، واعرف أن كل من في المسجد دعاة، فخذ أي واحد من هذا المسجد بيده بعد صلاة العشاء، ومستعد أن يعلم أهل قريتك الفاتحة، وأن يدرسهم أركان الإسلام، وأن يتكلم بكلام مفيد.(218/35)
تكرار التوبة
السؤال
أنا تبت، ثم عدت، ثم تبت، ثم عدت، ثم تبت، ثم عدت، ثم تبت، ثم رجعت، ثم تبت، ثم رجعت، ثم تبت، ثم رجعت اقلب الصفحة؟
الجواب
فتح الله عليك، نسأل الله أن يعيدك عودة إليه، وأن يثبت قلبك، وما ندري الآن أنت رجعت وإلا عدت، أوقعتنا في حيص بيص، فأنت الليلة إن شاء الله تائب إلى صلاة العشاء، وما ندري بعد الصلاة ماذا تفعل؟! أنت ترجع وإلا لا، لكن نسأل الله أن يثبتك بالقول الثابت، وأرى أنه كلما عدت رجعت، وإن كنت مستمراً أن يربطك أبوك في البيت، حتى ما تفر أبداً، وأن تدعو لك أمك، ونحن ندعو لأنفسنا ولك بدعوة مقبولة إن شاء الله أن يثبتنا الله وإياك، فلا تعود أبداً.
كان خوات بن جبير من الصحابة، أسلم لأول الإسلام، ولم يتمكن الإسلام من قلبه بعد، وهذا مثل حالنا، كثير من الشباب حالهم مضطرب هكذا، وسوف يتمكن الإيمان في قلبك إن شاء الله مع كثرة الدعاء، ومع النوافل، حتى يصبح كالجبال، فأتى هذا المسلم لأول وهلة، ولم يكن الإيمان قد تمكن في قلبه، قال: {خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأيت فتيات في واد (نساء أجنبيات) قال: فلبست لباساً، وذهبت إلى الفتيات، فجلست معهن، فخرج صلى الله عليه وسلم، فمر بي، وقد خرجت من عند الفتيات، قال: يا خوات! أين كنت؟ قال: يا رسول الله! شرد علي جمل، فأنا أبحث عنه -وهو لم يشرد جمل ولا شيء- فتبسم عليه الصلاة والسلام، لكن علمه الذي علم السر وأخفى أن المسألة فيها شيء، قال: فرجعنا إلى المدينة، فلقيني في الطريق جملي بجمله، قال: يا خوات! وجدت جملك، قال: فسكت من الخجل، فإذا تقدم تأخرت، وإذا تأخر تقدمت -لا يريد أن يلقى الرسول صلى الله عليه وسلم- قال: فوصلنا المدينة، فلما أردنا ندخل التفت إليَّ، قال: أوجدت جملك؟! قال: فدخلنا المسجد، قال: يا خوات أوجدت الجمل؟! -ويتبسم صلى الله عليه وسلم- فقام خوات، فوضع يده في كف المصطفى عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله! والله ما شرد جملي منذ أسلمت، فدمعت عينه صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم اغفر له وتب عليه} ومعنى ما شرد جملي: ما شرد إيماني، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل عن الإيمان، أما الجمال أمرها سهل.(218/36)
التأثير في الصاحب
السؤال
أحد الناس سمع شريطاً إسلامياً، فقال: آه آه رأسي، أغلق المسجلة جزاك الله خيراً، فهل يصاحب مثل هذا الشخص؟
الجواب
نعم، يصاحبه ويؤثر فيه، وأنا أقول للإخوة: أن يقتصدوا حتى في السماع، فهل تريد أن تشترط عليه أن يسمع الأشرطة من أبها إلى مكة، وكلما انتهى شريط فتحت له الآخر، الأصل: أن يسمع شريطاً، وبعدها حدثه قليلاً، واتركه يأخذ راحته، ثم أسمعه شريطاً آخر، أو نشيداً إسلامياً مباحاً، أو قصة، أما أن تشده من أول الطريق لا يسمع ولا يلتفت، ودائماً: اسمع اسمع، فهذا سوف يتوب من سماع الأشرطة، فالقصد القصد تبلغوا.(218/37)
المعاناة من ضياع الوقت
السؤال
أعاني من ضياع الوقت، وأشكو حالي إلى الله؟
الجواب
ونحن جميعاً نشكو حالنا إلى الله، أتى رجل من أهل خراسان، إلى الإمام مالك، فقال: أبطيت على أهلي يا أبا عبد الله! -الإمام مالك - والله ما دريت منذ خرجت ماذا وقع لأهلي، قال الإمام مالك: وأنا أهلي وراء هذا الجدار، والله ما دريت منذ خرجت عنهم، فكلنا نشكو حالنا إلى الله، ولا أدري ماذا يريد الأخ من السؤال، لكن كأنه يطرح حاله إلى الله، فأنت لا تطرح حالك على أحد إلا على الواحد الأحد، ونحن كذلك.
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي والذي قد أصابني من طبيبي(218/38)
حرمان البكاء بسبب المعاصي
السؤال
أنا أحياناً أحرم البكاء، لا أدري ما السبب؟
الجواب
نحن وإياك حرمنا البكاء بسبب معاصينا، وقسوة قلوبنا.(218/39)
عوامل الثبات والتحصيل
السؤال
هل لطالب العلم عامل من عوامل الثبات والتحصيل؟
الجواب
أسباب التحصيل كثيرة، تكوين مكتبة سمعية، ومقروءة، ومجالسة طلبة العلم، والسير إلى الدعاة، والانتظام في المؤسسات العلمية، سؤال الله المغفرة، وهناك محاضرة إن شاء الله بعنوان: آداب طالب العلم، وحلية طالب العلم منذ أشهر.
وأنبه الإخوة طلبة العلم، أن مساء كل جمعة في هذا المسجد من المغرب إلى العشاء، أي: من ليلة السبت مساء الجمعة درس في بلوغ المرام، علَّ الله أن ينفع به، فمن أراد أن يطلب العلم، فعليه بهذه الحلقات وأمثالها، والله هو المعلم سبحانه.(218/40)
الأهل أحق بالنصيحة
السؤال
إنني أشكو إلى الله عز وجل من واقع أسرتي التي تعيش فيه، أنا اهتديت، ولكن أسرتي في حالة لا يعلمها إلا الله، معرضين عن الله تماماً، فما الحل؟
الجواب
أسأل الله أن يهدي أسرتك، فعليك بالنصيحة، والصدق مع الله، والصبر، وحاول أن تنقذهم من النار، ليكونوا في ميزان حسناتك، وأثر عليهم بما استطعت، بإدخال الكتاب الإسلامي، وبتحديثهم، وبالشريط الإسلامي، ودعوتهم باللين حتى يهديهم الله، ولا تيأس من روح الله.(218/41)
الاستغفار وفضله
السؤال
بعض الناس لا يتورع عن محارم الله، يخرج من المسجد بعد الصلاة، وقد ينظر إلى الفتاة، وقد يجلس في المقهى على البلوت إلى آخر الليل، فما الحل؟
الجواب
حله أن يتوب، ويستغفر وهؤلاء كما قال الله: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} [التوبة:102].(218/42)
موت قلب تارك الصلاة
السؤال
ما حكم من سمع أذان الفجر، ولكنه ينام، ويترك الصلاة بلا عذر؟
الجواب
قلبه قد مات، ولو صدق مع الله، أو كان في قلبه ذرة إيمان لقام إلى المسجد وصلى مع الناس، لكن قد صلى على قلبه صلاة الجنازة، وكبروا عليه أربعاً.
أيها المسلمون! في ختام هذه الجلسة، نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية، وشكر الله لكم استماعكم، وجمعنا بكم في الجنة، وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(218/43)
وحل المشيب
إن الحياة الدنيا ظل زائل يعمر فيها الإنسان، ثم تأتي عليه سنة الله في الأولين والآخرين، فيهلك ويفضي إلى ما قدم فيها من أعمال، إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر، وهذه هي طبيعة الدنيا، تمني الإنسان وتبعده عن طاعة الله.
ولنا مع سلفنا الصالح وقفات مع زهدهم في الدنيا وذم الاغترار بها وحال الإنسان منهم إذا شاب وكبر سنه، والتحذير من التكالب على حطام الدنيا الفاني وجمعه والبخل به، وبيان فضل المال وأن الإنسان قد يدخل الجنة بماله إذا أدى حق الله فيه مثل عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان.(219/1)
الحث على عدم الاغترار بالدنيا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أمَّا بَعْد:
أيها الناس:
يقول أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه كما ذكر ذلك البخاري في صحيحه: [[إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل]].
خذ واضح الحل ودع ما اشتبها مخافة المحذور يا من فقها
وازهد بدنياك وأقصر الأمل واجعل لوجه الله أجماع العمل
وزهرة الدنيا بها لا تفتتن ولا تغرنك وكن ممن فطن
تالله لو علمت ما وراءكا لما ضحكت ولأكثرت البكا
كبار السن في مجتمعاتنا الغالب فيهم التهالك على الدنيا، كانوا في الشباب أخف وأسعد حالاً من وضعهم اليوم، وقد صدق فيهم قول المعصوم عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {يشيب ابن آدم وتشب فيه اثنتان: الحرص على الدنيا، وطول الأمل}.
إن غالب كبار السن في مجتمعاتنا الإسلامية متهتكون في الدنيا، وتسعة أعشار أوقاتهم وحديثهم وسفرياتهم في الدنيا، اهتماماتهم في الدنيا في المعارض والعقار؛ والبيع والشراء؛ والمؤسسات والبناء، وتجد بعضهم لا يعرف المهم من دينه، ومع ذلك يهتم بشئون الدنيا ويجمع ويكدس ويهتم.
إذا أصبحوا أصبحوا كالأسود باتت مجوعة حاردة
فتجد كل اهتماماتهم في الدنيا ونحن لا نقول: حرام، ولا نقول لهم: لا تعملوا في البناء والعمارة، والبيع والشراء، وفي طلب الرزق، وفي الكسب، ولكن نقول: يا من شاب رأسه وشابت لحيته! أما تهيأت لعمل صالح تلقى الله به؟ {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ} [فاطر:37].
قال أهل العلم: النذير هو: الشيب.
والشيب أمره عجيب؛ فإذا ظهر الشيب في رأسك أو في لحيتك، فكأنه يقول لك: تهيأ للقبر، فقد أصبحت قاب قوسين أو أدنى من القبر.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {أعذر الله لامرئ، بلَّغه ستين سنة} معنى ذلك: قطع الله المحجة عليه، فلا حجة له يوم القيامة عند الله إذا بلغ ستين سنة، ثم لم يهتد.
وكنت مع الصبا أهدى سبيلاً فمالك بعد شيبك قد نكثتا
مشيت القهقرى وخبطت عشوا لعمرك لو وصلت لما رجعتا
والله لو عرفت لذة المسجد والذكر والإيمان، ولذة المحاضرات والدروس ما فعلت بنفسك ما فعلت، رأينا من عمره أكثر من الستين وهو صباح مساء بين الحديد والإسمنت، ذكره قليل، ونوافله قليلة، قد ألغى قيام الليل من حياته؛ لأنه لا ينام إلا الثانية عشرة، وإذا صلى الفجر صلاها على عجل، وأخذ عماله وسيارته وباكر عمارته، ونحن لا نقول: حرام، ولكن نقول: أيصرف العمر في هذا الأمر؟!
أترضى أن تصرف ساعاتك الغالية الثمينة وأيامك الممدوحة الجيدة في هذه الأمكنة؟
كم تسكن وتعمر وتتلذذ؟
رأينا من عمر فلة فلما جهزها وفرشها مات، ورأينا من كدح وجمع واشترى مزرعة، فلما بنى فيها بيتاً وحفر بئراً مات.
لكم فجع الموت من والد وكم أسكت الدهر من والدة
وكم قد رأينا فتىً ماجداً تفرع من أسرة ماجدة
يشمر للحرب في الدارعين ويطعم في الليلة الباردة
رماه المنون بسهم الردى فأصبح في جثة هامدة
ماذا ينور القبر؟ ينوره العمل الصالح.
وأنا أقول: يا من شابت لحيته ورأسه! اتق الله، فإن هذا الشيب نذير.
يقول أبو العتاهية:
بكيت على الشباب بدمع عيني وما يغني البكاء ولا النحيب
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
تسهر ولا تتلذذ بالمطعوم والمشروب، ذهبت لذة القوة والحياة، ومع ذلك تجد بعضهم ما زال مُصراً على المعاصي والانغماس في الدنيا وعدم التهيؤ للقبر.(219/2)
أقوال السلف في ذم الدنيا
قال أحمد بن حنبل وقد رأى في المرآة شعرة بيضاء في لحيته فبكى، وقال: والله ما مثلت الشباب إلا بشيء كان بيدي ثم سقط.
ومر شيخ كبير بأطفال يلعبون في السكة، فقال أحد الأطفال لهذا الشيخ الذي كانت لحيته بيضاء على صدره - كان السلف يتشرفون باللحى، واللحى إذا شابت في الإسلام فكل شيبة بحسنة، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة} وصح أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن إبراهيم عليه السلام -الخليل أستاذ العقيدة شيخ التوحيد- رأى المرآة فرأى شيبة بيضاء وهو لا يعرف الشيب، قال: يا رب! ما هذا البياض في لحيتي؟ قال: يا إبراهيم! هذا وقار، قال: اللهم زدني وقاراً}.
فلما مر هذا الرجل الصالح على الأطفال، قال طفل لهذا الشيخ الكبير: يا شيخ! من الذي باعك هذا القوس الذي على صدرك -يعني اللحية الشمطاء-؟ قال: أعطانيها الدهر بلا ثمن وسوف يعطيك قوساً مثلها.
ارتقب الأيام والليالي، والليالي عجيبة تلد كل عجيب.(219/3)
عظم المعصية في الكبر
ويُروى أن رجلاً من بني إسرائيل نظر إلى مرآة وكان في شبابه وقد أطاع الله أربعين سنة، ثم أدركه الخذلان والحرمان والشيطان والطغيان فعصى الله أربعين سنة.
بعض الناس يحسن في الشباب ويسجد ويبكي ثم يسقط، والعجيب أنك تجد بعض الكبار يسافرون إلى مواطن نستحي من ذكرها على المنابر وعنده أسرة وعشرة أبناء وبنات، ويقطع تذاكر إلى بانكوك ليعصي الله في شيخوخته.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ} وفي لفظ: {أشيمط زان}.
شابت لحيته، ودنا قبره، وهو لا يزال يزني، فالله لا ينظر إليه ولا يكلمه ولا يزكيه ويدهدهه على وجهه في النار.
هذا الرجل من بني إسرائيل عبد الله أربعين سنة، ثم انتكس على عقبيه، فعصى الله أربعين سنة، فصار عمره ثمانين، فنظر إلى المرآة فرأى الشيب قد ظهر في لحيته، فقال: يا رب! أطعتك أربعين، وعصيتك أربعين، فهل تقبلني إذا عدت إليك؟
فسمع هاتفاً يقول: أطعت الله فقبلك، وعصيت الله فأمهلك، وإذا عدت إلى الله تاب عليك.
من الذي قرع باب الله ولم يجد رؤوفاً رحيماً؟
وإنما المقصود: أن طاغوت الدنيا الذي ران على القلوب، وجعل العقول ذاهلة يستحي الإنسان إذا نظر إلى بعض المناظر والتهتك في الحطام والجمع، ثم حرص هذا الشيخ الذي بلغ الستين سنة، بل بعضهم مصاب بأمراض في جسمه، والمرض يدبغه صباح مساء وهو يدبغ في الدنيا، ولذلك لا يتلذذ بمطعوم ولا مشروب ولا منكوح، وهو وراء الجمع تجد مجلسه في قطع الأراضي والشيكات، والبساتين والحدائق؛ والسيارات والإجارات؛ والبيع والشراء؛ والإسمنت والحديد.
فيا عبد الله! ابذل واطلب الدنيا واجعل لها وقتاً، لكن كما قال الله: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] أما أن تصرف هذه الأوقات والأيام والليالي للدنيا فكيف تلقى الله؟
يطرح الشيخ الكبير في القبر وليس عنده عمل.
أعرف وتعرفون في بعض المناطق شيوخاً كباراً في السن لما بلغوا الستين، لزموا المسجد وانتهوا إليه.(219/4)
هدي السلف في الكبر
ولقد كان السلف الصالح إذا بلغ الواحد منهم ستين سنة أخذ المصحف في المسجد فيصلي العصر ويسبح إلى الغروب، ومن الغروب إلى صلاة العشاء يتنفل، ثم يعود إلى بيته وينام مبكراً ليقوم من آخر الليل؛ لأنه لم يبق له إلا القليل ما بقي إلا رأس تلع وتفيض إلى مزدلفة ثم منى وترمي الجمرات وتنتهي، وأما نهاره فصلاة الضحى والعبادة والصيام والقرآن.
قال أحد المشايخ: عندنا في منطقة جهة الرياض قوم يختمون القرآن في يوم واحد يجلس من بعد صلاة الفجر إلى أن يدخل الخطيب يوم الجمعة فيختمه ختمة، وبعضهم يصوم يوماً ويفطر يوماً، وبعضهم أخذ على نفسه ألا يخالط أحداً من كثرة الغيبة والنميمة وشهادة الزور، فقارن بين صنفين اثنين هذا في دين وذاك في دنيا، هذا في حفظ وذاك في ضياع.(219/5)
زهد السلف في الدنيا
اعلم أن الدنيا لا تساوي شيئاً، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالم أو متعلم} وفي حديث حسن عنه عليه الصلاة والسلام {أن رجلاً سأله، فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، قال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس}.
أوحى الله إلى عيسى: إن كنت تريد أن تكون من أوليائي فاطرح الدنيا.
ويذكرون في تراجمه أنه كان من أزهد الناس، ولم يكن عنده بيت ولم يكن عنده شيء من ملاذ الدنيا أبداً، وفي ذات يوم أتى لينام تحت شجرة، فأخذ حجرة ليتكئ عليها وينام، فقال له جبريل: يا عيسى! أما طلقت الدنيا؟ قال: بلى، قال: فمالك تتكئ على هذه، ذكر هذه الغزالي وأمثاله، ويغني عن ذلك ما ثبت في الصحاح.
وقد صح عن علي رضي الله عنه أنه قال: [[يا دنيا يا دنية غري غيري طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها]].
هذا علي بن أبي طالب البطل الذي كسَّر رءوس المشركين، وقطع رقابهم، كان يدخل بثوب ممزق في السوق، ويقول: [[أنا أبو الحسن أهنت الدنيا أهانها الله]] كان غداؤه سويقاً ويقول: لو اشتهيت أن آكل نسيل عسل ولباب بر لكان، لكن أخشى أن أعرض على الله، فيقول الله لي يوم القيامة: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20]]].
والدنيا لا تساوي شيئاً، يقول عليه الصلاة والسلام: {ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {مالي وللدنيا؟! إنما مثلي ومثل الدنيا كرجل قال في ظل شجرة ثم قام وتركها} وبالفعل انظروا لتراجمه وحياته صلى الله عليه وسلم، كان بيته من طين، ومركبه الحمار، وثوبه ممزق، ومات ودرعه مرهون عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير، ما شبع ثلاثة أيام متتالية من خبز الشعير عليه الصلاة والسلام.
كفاك عن كل قصر شاهقٍ عمدٍ بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدةً نصب الخيام التي من أروع الخيم
إذا ملوك الورى صفوا موائدهم على شهي من الأكلات والأدم
صففت مائدةً للروح مطعمها عذب من الذكر أو عذب من الكلم
صلى الله وسلم عليه، وقد فعل أصحابه مثلما فعل.
فمات أبو بكر وما خلف من الميراث إلا بغلة وثوبين، ومات عمر وفي بردته أربع عشرة رقعة، ومات علي وقد تصدق ببيت المال وبقي أهله ما وجدوا عشاء ليلة؛ لأن الله أعد لهم جنات عرضها السماوات والأرض.
فيا أيها الناس! وصيتي خاصة لكبار السن، فإني أعرف أن الشباب مرضهم مرض الشهوات، وقليل من الشباب من تجده حريصاً على المال، فالشاب يتلف المال إتلافاً، لكن الشيخ يصرصر المال صرصرة ويموت عليه موتاً ويحسب له ألف حساب، وحياته وليله ونهاره دنيا إلا من غفر الله له، ومن وفقه الله لعمل صالح.
ألا تزودوا من الصالحات: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].
أترجو أن تكون وأنت شيخ كما قد كنت في عصر الشباب
لقد خدعتك نفسك ليس ثوب جديد كالبلي من الثياب(219/6)
من قصص عبدة الدنيا
يذكر ابن الجوزي في صيد الخاطر قصصاً لهؤلاء الكبار عبدة الدنيا، التي عكفت الدنيا على قلوبهم، فأصبح الواحد منهم كشارب الخمر لا يعي أبداً، تحدثه فلا يسمع حديثك، ولو تليت عليه كتاب الله من أوله إلى آخره.
يقول ابن الجوزي: بعضهم حضرته سكرات الموت وعنده حبات ذهب -حصيلته وميزانيته في حياته- قال: وليس عنده ولد ولا بنت ولا وارث وخاف أن يأخذ الناس ماله، قال: فأخذ يأكل حبات الذهب في بطنه وأدخلوه القبر وحبات الذهب في بطنه.
قال: وشيخ كبير عبد الدنيا، فلما حضرته سكرات الموت كان عنده دنانير من الذهب، فلما أتاه اليقين، وسكرة الموت التي يذعن فيها الجبار، ويضعف فيها المتكبر، ويسلم فيها الكافر، فكَّر في ماله؛ لأنه ليس له وارث -بل ذكر في رواية أخرى أنه كان له ابن لكن بينه وبين ابنه شقاق فلا يحب أن يرث ابنه هذا المال- قال: فأخذ الدنانير وعجنها في الطين، ثم جعله لبنة عند رأسه ينام على هذا المال، فلما أتته سكرات الموت، قال: ادفنوا هذه اللبنة عند رأسي، قالوا: ماذا فيها؟
قال: أريد كذا أوصيكم بهذا، فلما غسلوه تفتت هذه اللبنة من الماء، فخرج الذهب، فعجبوا من حاله.
هذه الدنيا تصل بأصحابها إلى أشد من ذلك.
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجوع
أكثر من يجوع اليوم هم التجار؛ لأنهم لا يجدون وقتاً للأكل، أما الفقراء فأوقاتهم كلها أوقات أكل وشرب، كأنها أيام منى يأكلون ويشربون.
اللهم عمِّر قلوبنا بالتقوى، اللهم إنا نسألك من الدنيا ما يعيننا على طاعتك، اللهم لا تجعلنا عبدة للدنيا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(219/7)
بيان فضل نعمة المال
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس! في أوساطنا من يسمع هذا الكلام فيظن أني أشن حملة على الدنيا وكسبها وطلبها، وأعرف أن فيكم تجاراً وأغنياء نفع الله بتجارتهم وبغناهم فبنوا المساجد، وساعدوا المجاهدين، وأطعموا الفقراء، وكسوا العراة، فأقول: أثابهم الله، فلا يفهم فاهم أننا نقف معارضين لهؤلاء ونريدها رهبنة، ولا نقول: دعوا كسب المال، وخذوا المسابح واجلسوا في المساجد، لكننا نطلب التوازن في الحياة، وإعطاء الأولويات، لأن الله لما خاف على المؤمنين أن ينصرفوا عن المال، قال: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [القصص:77] لكن اليوم نحن نقول لأحدهم: لا تنس نصيبك من الدين؛ لأن الوقت أصبح للدنيا، وأصبحت كل اهتمامات الإنسان وذكرياته للدنيا، فلا يعني ذلك أننا نقف من هؤلاء هذا الموقف، فالإسلام لا يعترف بالرهبنة، فقد ذمها الله، فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27] ذم المال ليس على إطلاقه.
والزهد عند أهل السنة هو ترك مالا ينفع في الآخرة.
أما ترك ما ينفع في الآخرة فإنه من الجنون والحمق.
إذاً نريد تجاراً وفقراء صالحين، وكباراً وشباباً صالحين.(219/8)
أناس دخلوا الجنة بأموالهم
المال نعمة عظيمة؛ فقد دخل عثمان بن عفان رضي الله عنه الجنة بماله، وذلك: أنه جهز جيش تبوك فقال له عليه الصلاة والسلام: {اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم} وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه دخل الجنة بماله، جاءته سبعمائة راحلة محملة بالتمور والحبوب والزبيب والأقمشة، فقال للتجار: كم تدفعون لي في هذا المال؟ قالوا: نعطيك في الدرهم درهماً -أي: ضعف- قال: وجدت من زادني، قالوا: نعطيك درهمين، قال: وجدت من زادني، قالوا: نعطيك ثلاثة دراهم، قال: وجدت من زادني، قالوا: نحن تجار المدينة وما زادك أحد، قال: لكني رأيت الله يعطي من ينفق في سبيله عشرة أضعاف، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] أشهدكم أنها في سبيل الله لفقراء المدينة فتوزعوها، وقالوا: سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة.
وقارون دخل النار بماله، وهذه الأصناف التي تحدثنا عنها يتبعون قارون بأموالهم، أموالهم رباً وطاغوت وطغيان، وفجور ومساعدة لأهل المعاصي، فلا تجد أحدهم يساهم في بناء مسجد ولا يساعد مجاهداً، ولا يعطي فقيراً، ولا يواسي معدماً، ولا يعاون متزوجاً، ولا يتصدق أبداً، إنما أمواله في حدائق وبساتين وقصور وسفريات وسيارات ضخمة، فهذا يحشر مع قارون ويكون مصيره إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم.
وما شر الثلاثة أمَّ عمروٍ بصاحبك الذي لا تصحبينا
وهناك تجار عرفوا نعمة المال والغاية منه، فسخروا أموالهم في سبيل الله، وقد سمعنا عن واحد منهم في بلادنا ماله حلال لا يعرف الربا، وأعطاه الله من الأموال الطائلة ما الله به عليم، فبنى اثني عشر مسجداً بمرافقها ولوازمها، فهنيئاً له الأجر؛ لأنه كلما صلّى مصلٍّ في مسجد من هذه المساجد، أو قرأ قارئ فله من الأجر مثل أجره، ونعرف أقواماً صرفوا الملايين للمجاهدين الأفغان حتى إن بعضهم فصّل ثياباً بالألوف المؤلفة وأرسلها إلى الأفغان، والبعض اشترى الأحذية الجلدية وأرسلها بالألوف المؤلفة إلى هناك، ليكون له مثل ما للمجاهدين من الأجر، وكثير منهم يدفع وينفق من حلالٍ فجزاهم الله عن الإسلام خيراً.
إذاً فالتوازن في الحياة هو: أن نجعل رضا الله وعبادته هي مقصودنا، والله أكبر أسمى مقصود لدينا، وأن نتجه إلى الله بأموالنا ودمائنا.
أما هذا الطاغوت الذي ران على كبار السن، وأفسد عليهم حياتهم، وضيَّع أوقاتهم، وجعل الواحد منهم كسولاً، حتى إنه إذا دخل المسجد مع الأذان ينظر في الساعة، ويصيح على المؤذن والإمام، فنقول لهذا: ضاقت بك نفسك في ربع ساعة وفي ثلث ساعة، وأنت كنت مع عمارتك وحديدك وإسمنتك ست ساعات، أفلا تضيق منها وتذكر الله تعالى؟!
ويروى عن بعض السلف أنه قال: من علامة أهل الإيمان: أنهم إذا دخلوا مساجد الرحمن كان أحدهم كالسمكة في الماء.
ومن علامة المعرض عن الله: أنه إذا دخل المسجد كان كالبلبل في القفص، وتجد كثيراً من الناس لا يأتي إلا مع الإقامة وهو أول من يخرج، لأنه مخبول العقل قد سكر بالدنيا، وخمر الدنيا يتلف الأرواح والعقول.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، واجعل الدين أكبر اهتماماتنا في الحياة.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدةً صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على حبيبك ونبيك محمد، اللهم اعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.(219/9)
دعاة المستقبل
إن الاهتمام بالدعاة الناشئين والأخذ بأيديهم ومساندتهم وإعانتهم؛ يجعل منهم قادة في هذه الأمة التي فقدت الكثير من القادة والعلماء الكبار؛ كأمثال ابن باز، وابن عثيمين، والألباني وغيرهم من العلماء والدعاة الكبار.
وقد ذكر في هذا الدرس ثمان كلمات لثمانية من الدعاة الذين نسأل الله لهم أن يجعلهم قادة لهذا الدين ولهذه الأمة المباركة.(220/1)
نماذج من الدعاة الناشئين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عنوان هذا الدرس: (دعاة المستقبل) وأستميحكم عذراً فقد كان من المعهود أن يكون هذا الدرس لمسلمين أمريكيين وليم جنسون ورايت جنسون وقد وفدا إلى أبها قبل أسبوع، وطلبنا من فضيلة الدكتور عبد الله أبو عِشِّي وأصحاب الفضيلة الدكاترة ترجمة ما يقولون لكم، ولكن قدر الله وما شاء فعل، أحدهم اتصل به أهله، وتوفي أبوه وهو مسلم فسافر قبل هذا الموعد، ثم رأينا أن نقدم لكم شبابكم وأبناءكم وأفلاذ أكبادكم ليتحدثوا إليكم الليلة، ثم بالمناسبة أشكر الإخوة الذين يتقدمون بقصاصات وصحف ومجلات مما يخص الإسلام والدعوة والدعاة، حتى نكون على بينة، أشكرهم على جهدهم وغيرتهم.
قبل هذا معي قصيدة هي بنت الساعة بعنوان (تباركت يا ذا الجلال)
تباركت يا ذا الجلال
وربك ذو السلطة القاهرة
قلوب من الحب ينسجها محمد في بردة طاهرة
ويغمسها في سناه رؤاه بها بل علاه تعيش برياه في آصره
تباركت صوت الرعاة.
وهمس السواني حداء الجلال
لك الحمد دنيا وفي آخره
تباركت ترسل دمع المحب على وجنتيه
لك الحب صفواً
أردت لنا يا إله جناً
ما درى قاطفيه
بأن لنا في جنادريتنا قصة الأذكياء
عباقرة نحن ننتج ودلواً وغرباً من الجلد في معمل الكيمياء
بعيراً نسيره للأنام كمركبة في الفضاء
تراث من الجير والخزف النائم في غرف الأقوياء
نحفِّظ أنشودة البدو سكان روما
ونسأل أصحابنا في جنيف
ألم تجدوا الناقة الحائرة
فلا بدر لا زمزم لا أبو بكر نعرضه في القديم
لأن التراث جديد ونحن نحب الجديد سوى الدلوِ والغربِِ والجرة العامرة
صواريخنا أرض جو من الرقصات على ضربة الزير في الهاجرة
نسينا مع العرض صوت بلال وجبة سعد ودرة فاروقنا الظافرة
سنخبر كل العوالم أن لنا من المجد كبري المشاة مع قاطرة
قديم هو القيروان مع بيت لحم مع الأزهر الراقد في القاهرة
فلا تدخلوا في النوادي مالك والشافعي فقد حُنِّط القوم في الحافرة
فضيلة الدكتور عبد الله أبو عشي! فضيلة الدكاترة الذين حضروا! أيها الجمع الكريم! سوف يكون لهؤلاء الفضلاء موعد آخر إن شاء الله ليقدموا ما عندهم ولتلتقوا بهم في ترتيب أرتبه معهم بإذن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
ولكن رأيت من المصلحة أن أقدم دعاة المستقبل الذين سوف يكونون بإذن الله غداً هم رجال المنابر والمتحدثون للناس، وكان قصدي من هذا والله الموفق أموراً:
الأول: أن تكون هناك طاقات تستغل وتوجه، وهي المناجم البكر التي تكتشف في عالم الخطابة.
الثاني: التمرين والتدريب ليجرأ الواحد منهم لمقابلة الجمهور، والعجيب أن الغربيين والشرقيين سبقونا في تأسيس جامعات ومعاهد وأقسام للخطباء والخطابة، وهو فن الخطابة المؤثر، وكتبوا عن ذلك في مجلدات ومؤلفات، فحق علينا أن ننشئ أقساماً ومعاهد ودورات نعلم فيها أبناءنا مقابلة الجماهير والخطابة لأنها آصرة.
الثالث: عنيت أن تكون الكلمات التي تلقى مكتوبة من الكتاب والسنة بما ينفع الناس في دنياهم وأخراهم، أنا أقدمهم لكم هذه الليلة وهم ثمانية من أبنائكم وشبابكم ومن جيلكم.
لكن أبشر هذا الكون أجمعه أنا صحونا وسرنا للعلا عجبا
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضبا
عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنبا(220/2)
شؤم المعصية
الأخ الداعية علي بن غُرم الشهراني معه كلمة عن (شؤم المعاصي) فليتفضل:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أيها الإخوة في الله! ليس من شر وبلاء إلا وسببه المعاصي والذنوب، فبالمعصية تبدل إبليس بالإيمان كفراً، وبالقرب بعداً، وبالرحمة لعنة، وبالجنة ناراً تلظى، وعم قوم نوح الغرق، وأهلكن عاداً الريح العقيم، وأخذت ثمود الصيحة، وقلبت على اللوطية ديارهم فجعل الله عاليها سافلها وأمطر عليها حجارة من سجيل فساء مطر المنذرين، قال تعالى: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].
إنها الحقيقة الصارخة، فكلاً أخذنا بذنبه، تلكم الذنوب وشؤمها وعواقبها وما هي من الظالمين ببعيد، ما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتها، ولا تمكنت من قلوب إلا أعمتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها.
أيها المسلمون! إن للمعاصي شؤماً ولها عواقب في النفس والأهل والمجتمع، وفي البر والبحر، تضل بها الأهواء وتفسد بها الأجواء، بالمعاصي يهون العبد على ربه فيرفع مهابته من قلبه، قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18].
يقول الحسن البصري رحمه الله: [[هانوا على الله فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم]] أخرج الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن جبير عن أبيه قال: [[لما فتحت قبرص رأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي.
فقلت: يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى فنعوذ بالله من سخط الله]].
عباد الله! بسبب الذنوب والآثام يكون الهم والحزن والعقد النفسية، إنها مصدر العجز والكسل، ومن ثم يكون البخل والجبن وغلبة الدين وقهر الرجال، وتسلط الأعداء، واندراس الحق وفشو الباطل، بها تزول النعم، وتحل النقم، وتتحول العافية، ويستجلب سخط الرب ويحجب القطر.
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحافظ عليها بشكر الإله فإن الإله سريع النقم
إذا ابتلي العبد بالمعاصي استوحش قلبه، وضعفت بأهل الخير والصلاح صلته، وجفاه الصالحون من أقاربه وأهله، حتى قال بعض السلف: [[إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق امرأتي ودابتي]].
أيها الإخوة في الله! إن ملازمة المعصية ومعايشتها تورث بلادة في الحس، وموتاً في القلب، واستئناساً بها، فلا يحس العاصي بالعقوبة، ولا يشعر بالذنب لما قد أورثته في قلبه من ذل وخضوع لها؛ لأن الذنب بعد الذنب يقطع طرق الطاعات، ويصد عن سبل الخيرات، ومن ثم يقسو القلب فلا ينتفع بموعظة ولا يطمئن بذكر، يقول ابن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
فالحذر الحذر يا عباد الله! من مخالفة أمر الله، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] وإياكم والأمن من مكر الله، قال تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
فعلينا أن نأخذ أنفسنا من أوحال المعاصي وأن نفكها من أسر الذنوب، وأن نبادر بالتوبة النصوح، وأن نسارع في فعل الخيرات والأعمال الصالحات، ولا نصر على المعاصي والمخالفات، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:133 - 136].
نحن أمة أعزها الله بالإسلام وحده، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
فنسأل الله أن يطهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة؛ فإنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويحفظ دعاة الإسلام والمسلمين من كل سوء ومكروه وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الشيخ عائض:
أثابكم الله.
أولاً: هذا العرض الذي تسمعونه وترونه هذه الليلة من التجديد في أساليب الدعوة، فإنه قد يكون من المسُئم الممل أن تعرض المحاضرة في كل مرة بنفس أسلوب العرض الأول.
ثانياً: سوف يكون مساء كل جمعة من المغرب إلى العشاء درس في الفقه، ومن أذان العشاء إلى الإقامة معالم ودروس في فن الخطابة لمن أراد أن يتعلم وسوف يحضر معنا أساتذة متخصصون في هذا إن شاء الله، ونحضر كتباً متخصصة في فن الخطابة حتى يتعود من أراد ذلك إن شاء الله.(220/3)
التوبة
الكلمة الثانية للأخ علي بن حسين بن علي السحاري بعنوان (التوبة) فليتفضل:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]
أمَّا بَعْد:
فربما يسأل الإنسان نفسه ويقول: أنا أسرفت على نفسي بالمعاصي وأكثرت من ارتكاب المحرمات، فهل يا ترى إذا تبت إلى الله فإنه سيقبل توبتي، أم أن ذنوبي وآثامي ستحول بيني وبين التوبة والعودة إلى الله؟ إننا نبشره ببشارة من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ونقول: ألم تسمع قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
فهي دعوة من الله إلى كل من أسرف على نفسه بالمعاصي، وأكثر من ارتكاب الذنوب والآثام والتعدي على حدود الله أن يعود إلى ربه ومولاه، وأن يصحح مساره بالتوبة إلى الله الذي يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم، والذي يقبل التوبة من عباده.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لو كان لابن آدم وادياً من ذهب؛ لأحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب} متفق عليه، بل إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أخبر عن الذي يستمر في غيه وفي عصيانه وتعديه على الله ولم يتب من ذلك أنه ظالم، يقول تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11] ظالم لنفسه؛ لأنه لم يجعلها طائعة لله منقادة لأوامره؛ لأنه عصاه وهو الذي أنعم عليه، وخلقه ورزقه، وجعل له البصر والسمع والفؤاد، قال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23].
ونقول للذي يريد أن يتوب: أبشر بالفلاح في الدنيا والآخرة إن كانت توبتك صادقة خالصة لله تعالى يقول تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] فقرن الله الفلاح بالتوبة والإنابة إليه.
واعلم -أخي المسلم- أن التوبة سبب في تكفير السيئات، بل سبب في تبديلها إلى حسنات، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:68 - 70].
ونقول لمن أراد التوبة: ألم تسمع بقصة ذلك الرجل الذي انتهك حرمات الله، وأسرف على نفسه بالمعاصي، وفي يوم من الأيام أراد أن يتوب إلى الله من فعل المحرمات، ويحرص على فعل الطاعات ليفوز برضا رب الأرض والسماوات، فسأل ذلك الرجل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب فأتاه فقال له: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له توبة؟ فقال له الراهب: لا.
فقتله فكمل به المائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال له ذلك العالم: ومن الذي يحول بينك وبين التوبة؟ نعم.
لأن باب التوبة مفتوح لا يقفل إلى يوم القيامة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه} رواه مسلم.
وقال له العالم: ولكن انطلق إلى أرض كذا فإن فيها أناساً يعبدون الله فاعبده معهم ولا تعد لأرضك فإنها أرض سوء، فلما وصل إلى منتصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وقالت ملائكة الرحمة: جاء مقبلاً إلى الله بقلبه تائباً، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه حكماً بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أقرب فهو لها، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة.
أخي المسلم! بعد أن سمعت الأحاديث والآيات السابقة التي توضح لك سعة رحمة الله تعالى، ألم يأن للقلوب القاسية أن تتوب؟ أولم يأن للقلوب الضالة أن تهتدي؟ أولم يأن للقلوب البعيدة من الله أن تقترب إليه؟ ألم تسمع قول الله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50].
أسأل الله العلي القدير أن يرزقنا توبة نصوحا، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
الشيخ عائض:
أثابكم الله.
أيها الإخوة! في آخر الكلمات سوف أقدم عرضاً لبعض الملاحظات، وبعض ما يجب على الخطيب أن يلم به، كل ذلك من كتب من ألف في الخطابة في هذا العصر ومن قبله.
أيضاً نريد من أهل أصحاب الكلمات أن يحذفوا ثلث الكلمة؛ لأنها قد تطول، ونريد أن يبقى وقت لبعض الملاحظات وبعض الفوائد.(220/4)
أثر الطاعة
الكلمة الثالثة للأخ محمد بن عبد الله بن مبطي الشِّهري بعنوان (أثر الطاعة) فليتفضل:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أمَّا بَعْد:
أيها المسلمون: لقد مر على المسلمين زمن لم يكن الإسلام فيه سوى لا إله إلا الله، وقد لبث الرسول صلى الله عليه وسلم حقبة طويلة من الدهر وهو يدعو الناس إلى هذه الكلمة الطيبة، حيث مكث في مكة المكرمة ثلاث عشرة سنة يقوي في المسلمين جانب العقيدة الصحيحة التي بموجبها يصبح المؤمن طائعاً لله منفذاً لأوامره في كل شئون حياته، حيث إن هذه الكلمة غير بها الحبيب صلى الله عليه وسلم مجرى تاريخ الأمة البشرية، فاستطاع أن يغير معتقداتهم الباطلة إلى معتقدات صحيحة وغير كذلك لباسهم ومظهرهم، واقتصادهم ومعاشهم، وتعاملهم وأوقاتهم وكل شئون الحياة، حيث جعلهم مرتبطين ارتباطاً مباشراً بخالقهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى محققاً فيهم قول الحق تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32] وقال موضحاً للأمة المحمدية أنه لا فوز ولا فلاح إلا في الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52] لقد كانت آيات القرآن الكريم تنزل على هذه القلوب الرطبة والطيبة فتصهرها على بوتقة الإيمان، ونور الهداية المحمدية حتى أصبحوا كما وصفهم الله فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] فلما رأى نبيهم الحبيب صلى الله عليه وسلم الاعتراف بفضل القادر على عباده، وأنه الرازق المدبر، المسخر الموجد لكل هذه النعم حيث أعطى الإنسان كل ما سأل، فجدير بالمؤمن أن يكون طائعاً لله وحده ممتثلاً لأمره في السر والعلن، وفي الغنى والفقر، وفي الصحة والسقم، وفي الصغر والكبر، وفي حال السلم والحرب وكل الأحوال، يتحقق فيهم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عن العباس {} لأن الإسلام جاء وافياً مستوفياً لكل المعاني النبيلة والطيبة ليعيش هذا الإنسان في سعادة ونعمة حتى يلقى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
معشر الجمع المبارك! من آثار الطاعة: الإخبات لله عز وجل، والخشوع، وحسن السمت.
وأيضاً: انشراح الصدر يقول الله عز وجل: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22].
وأيضاً: قد يصبح الطائع لله ولياً من أوليائه.
وأيضاً: إذا تقرب الإنسان إلى الله بالطاعات وبالنوافل كان الله سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سأل الله ليعطينه، ولئن استعاذ الله ليعيذنه.
والإسلام -يا معاشر المسلمين- كما وضحه صلى الله عليه وسلم للسائل عن العمل الصالح فقال له: {قل آمنت بالله ثم استقم} وإليكم معشر الجمع المبارك! بعض النماذج الخالدة التي قال الله فيها: {ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207] كأمثال الصديق فقد حقق الطاعة لله بكامل وأسمى معانيها، وكذلك بقية الصحابة رضوان الله عليهم.
ومثال آخر كـ أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية رضي الله عنه وطاعتها لربها وحبها لله، وكيف قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم: {اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة} إن المؤمن يجد نفسه أمام بحر لا ساحل له أمام هؤلاء العمالقة، الصدر الأول، الذين اختارهم الله لشرف صحبة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، كيف لا! وهم تخرجوا من جامعة الحبيب صلى الله عليه وسلم، فالواجب علينا أن نحذو حذوهم وأن نستشعر عظمة الله جل وعلا ونلتزم بأمره، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يعلمنا ويوجه إلينا خطاباته القرآنية في مواضع كثيرة فقال سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:32] ويقول أيضاً: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] ويقول جل وعلا: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] وقال جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
نسأل الله جل وعلا أن يجعل ما سمعنا حجة لنا لا علينا، وأن يوفق الجميع لاتباع أوامره واجتناب نواهيه وصلى الله وبارك على نبينا محمد.
الشيخ عائض:
أثابكم الله.
أنتم تعلمون أيها الإخوة! ويعلم المسلمون جميعاً أننا أمة معطاءة فينا الكثير والكثير، وأنا أعلم وأمامي المئات من شباب الإسلام ومن الصالحين الأخيار أن فيهم من هو أقدر مني ومن إخواني الذين يتكلمون ولكنها وللأسف طاقات معطلة لم تستخدم إلا القليل، أفلم يأن بعد أن يتحرك أصحابها بطاقاتهم وبمواهبهم التي سوف يسألهم الله عنها ليقولوا للناس: نحن أحفاد أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، فأردنا أن نقدم نموذجاً من أبنائكم لتسمعوا ولتروا وكلٌ يرى موهبته ويرى تجربته أمام هؤلاء.(220/5)
الاستقامة
والكلمة الرابعة الآن للأخ سعيد بن أحمد النعِّمي بعنوان (الاستقامة) فليتفضل:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] والصلاة والسلام على خير الأنام وعلى آله وأصحابه الذين تمسكوا بسنته واستقاموا على دينه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها المسلمون: اتقوا الله واعلموا أن الله سبحانه أمر عباده بالاستقامة عموماً وأمر نبيه بها خصوصاً، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112] فأمره ربنا أن يستقيم هو ومن تاب معه، وألا يجاوزوا ما أمر به، وأخبر أنه بصير بأعمالهم مطلع عليها، وذكر القشيري وغيره عن بعضهم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: {يا رسول الله! قلت: شيبتني هود وأخواتها} فما شيبك منها؟ قال: قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112].
والاستقامة هي: سلوك الصراط المستقيم وهو الدين القيم من غير عوج يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها، والاستقامة كلمة جامعة وهي: القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد، فهي من جوامع الكلم، ولهذا لما جاء سفيان بن عبد الله رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: {يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: قل: آمنت بالله ثم استقم} رواه مسلم، ولهذا فإن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه إعراضاً عن الدين أو تكاسلاً عن الطاعة رغبه بالتساهل والتكاسل، حتى يتحلل من الدين فيترك الواجبات ويفعل المحرمات، ولا يزال يغريه حتى يقطع صلته بالدين ويتركه في متاهات الهلاك، وإن رأى من العبد حرصاً على الدين فلم يتمكن من صده عنه؛ أمره بالاجتهاد والجور على النفس ومجاوزة حد الاعتدال، قال بعض السلف: [[ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة -وهي الإفراط- ولا يبالي بأيهما ظفر زيادةً أو نقصاناً]] فكل الخير في الاجتهاد المقرون بالاعتدال، والسير على منهج أهل السنة والجماعة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس لن يطيقوا الاستقامة حق الاستقامة، وكما خرجه الإمام أحمد وابن ماجة من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن} وفي رواية الإمام أحمد: {سددوا وقاربوا ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن} وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {سددوا وقاربوا} فالسداد: هو حقيقة الاستقامة وهو الإصابة في جميع الأقوال، والأعمال، والمقاصد، كالذي يرمي إلى هدف فيصيبه، والمقاربة: أن يصيب ما قرب من الهدف إذا لم يصب الهدف نفسه، لكنه مصمم وقاصد إصابة الغرض، فالمطلوب من العبد الاستقامة وهي: السداد، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة، فإن لم يحصل منه سداد ولا مقاربة فهو مفرط مضيع والعياذ بالله.
فالحمد لله الذي لم يكلفنا ما لا نطيق، وشرع لنا ما يجبر تقصيرنا ويكمل نقصنا، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25] ويضاعف الحسنات فضلاً منه وتكرماً.
عباد الله! في الختام: يجب على كل مسلم أن يستقيم في عقيدته على عقيدة أهل السنة والجماعة، ويجب عليه أن يستقيم على محبة الله ورسوله، أسأل الله الواحد الأحد أن ينفعني وإياكم بما سمعتم، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين الاستقامة على دينه حتى نلقاه وهو راض عنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
الشيخ عائض:
أيها الإخوة! أنا وإخواني نلحن في كلامنا، ولو أني صححت معهم قبل أن نحضر ولكننا نلحن جميعاً، وكما قال الأول:
سامح حبيبك إن فيه فهاهة بدوية ولك العراق وماؤها
ولكن الذي يتكلم ويخطئ أحسن من الذي لا يتكلم وهو جالس، ولذلك يقول الصينيون: الجالس لا يسقط، والذي لا يتحرك بهذا الدين، ولا يتفاعل مع مبادئ محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يعظ ولا يبلغ رسالة الله، ولا يحمل الميثاق وينتقد! هو أقل بكثير من هذا الذي يتكلم ولو أخطأ.
أيضاً أيها الإخوة! من أسباب خطئنا في اللغة العربية أننا ما لقنا، ولا حفظنا ولا عُلمنا القرآن ونحن أطفال، تصوروا أن من يدرس أطفالنا الآن القرآن في مساجدنا هم الأفغان والباكستان العجم، ولا أقولها من باب العنصرية أو القومية لكن العجم أصبحوا الآن يدرسون أبناءنا: الضاد ومخارج الضاد، أثابكم الله.(220/6)
خشية الله عند السلف
الكلمة الخامسة للأخ الداعية خالد بن عبد الله العَسِيري فليتفضل:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقائد المجاهدين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
أيها الأخيار! يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عنوان هذه الكلمة (خشية الله عند السلف).
نعم.
سوف نعيش في هذه الدقائق لنأخذ طرفاً من أحوالهم، وشيئاً من أخبارهم تجاه هذا الموضوع المهم.
أيها الأبرار! سوف نقضي بعضاً من الوقت مع ذلكم الجيل، جيل البطولة والتضحية، وقد صدق الشاعر حين قال عنهم:
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
نعم -أيها الإخوة- أين الأندلس؟ أين فلسطين؟ وأين أفغانستان؟ لقد ضيعنا تلك البلاد يوم أن ضيعنا لا إله إلا الله، والمقصود من هذه الكلمة يا عباد الله! أن نعيش بعض الوقت مع أولئك النفر؛ عل الله أن يوقظ القلوب من غفلتها، والأنفس من سباتها.
يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في وجهه خطان من البكاء، وثبت في مستدرك الحاكم أنه لما حج وضع شفتيه على الحجر الأسود ثم قبله وبدأ يبكي، وكان يصلي بالمسلمين ذات مرة صلاة العشاء فقرأ بهم سورة الطور فلما بلغ هذه الآية: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7] سقط مغشياً عليه وأصبح يعاد في بيته شهراً كاملاً رضي الله عنه وأرضاه، وكان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على القبر؛ بكى حتى تخضل لحيته من البكاء، وكان يقول: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه} وسمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر وإن لم ينج منه فما بعده أعظم} وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلى صلاة الفجر وجلس حزيناً مطرقاً، فلما طلعت الشمس قبض على لحيته وبدأ يبكي ويقول: [[لقد رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً غبراً بين أعينهم كأمثال ركب المعزى قد باتوا لله سجداً وقياماً، فإذا طلع الفجر ذكروا الله فمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهطلت أعينهم بالدموع، والله، لكأن القوم باتوا غافلين]].
وهذا موقف آخر لصحابي جليل هو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه [[أُتى له بطعام وكان صائماً فقال: قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو خير مني، فلم نجد له ما يكفن فيه إلا بردة إن غُطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت بها رجلاه بدا رأسه ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وأخشى أن تكون حسناتنا عجلت لنا]] ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام الله أكبر! قلوب عرفت الله عز وجل.
وثبت في ترجمة سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال: [[أضحكني ثلاثه: غافل ولا يغفل عنه، ومؤمل دنيا والموت يطلبه، وضاحك ملء فيه ولا يعلم أساخط عليه رب العالمين أم راض عنه، وثلاث أبكينني: فراق الأحبة محمداً وصحبه، وَهَولُ المطلع، والوقوف بين يدي الله عز وجل]].
وموقف من مواقف الخشية لله عز وجل مع خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز، جاء عنه أنه بكى وهو غلام صغير فجاءت إليه أمه فقالت: ما يبكيك؟ قال: [[ذكرت الموت]] فبكت أمه.
وعن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك قال: بكى عمر بن عبد العزيز فبكت فاطمة فبكى أهل الدار جميعاً، فلما تجلى عنهم البكاء جاءت زوجته فاطمة وقالت له: بأبي أنت يا أمير المؤمنين! مم بكيت؟ قال: [[ذكرت يا فاطمة! منصرف القوم بين يدي الله عز وجل فريق في الجنة وفريق في السعير]].
أسأل الله أن يجمعنا وإياكم بهم في دار الكرامة مع الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الشيخ عائض:
أثابكم الله.(220/7)
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
والآن مع الكلمة السادسة للأخ محمد بن عمر بن محمد الزُّبيدي بعنوان (محبة الرسول عليه الصلاة والسلام) فليتفضل:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على خير المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
يا حملة المبادئ! يا درة التاريخ! يا صفحة الدهر الناصعة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بشرى من الغيب ألقت في فم الغار وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرار
بشرى النبوة طافت كالشذى سحراً وأعلنت في الدنا ميلاد أنوار
وشقت الصمت والأنسام تحملها تحت السكينة من دار إلى دار
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين} ومعنى الكلام أي: لا يكون أحدكم مؤمناً خالصاً حتى يُؤثر طاعتي وأمري على هوى نفسه وشهوات قلبه، ولا يذوق طعم الإيمان إلا من آثره عليه الصلاة والسلام على الوالد والولد والناس أجميعن.
وقد غرس عليه الصلاة السلام حبه في نفوس أصحابه حتى خالطت شغاف قلوبهم وجرت مع مجرى دمائهم، تصوروا هذا الحب في مواقف سطرها التاريخ بمداد من ذهب، فهذه صورة من صور هؤلاء الصحابة الذين أحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا خُبيب بن عدي حين أسرته قريش وصلبته يقول له أبو سفيان: أتحب أن يصاب محمد بأذىً وتكون أنت سليماً معافى في أهلك؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه: [[]].
نعم أيها الأحباب! إنها المحبة الخالدة، كيف لا وهو الذي أخرجهم من ظلمات الكفر إلى أنوار الإيمان، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
ويصوغ الفاروق رضي الله عنه هذه المحبة في قالب آخر كما ذكر البخاري أن عمر رضي الله عنه قال: {يا رسول الله! لأنت أحب إليَّ من كل شيء من إلا نفسي، فقال له عليه الصلاة السلام: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فيقول عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليَّ من نفسي، فيقول عليه الصلاة والسلام: الآن يا عمر!}.
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا التاريخ أنت المحرر
كيف لا يحبونه وقد جعل منهم قادة للأمة، وحملة للواء الحق، ومجاهدين لإعلاء كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله!!
أيها الأحباب! ما من طفل ولا امرأة ولا شيخ ولا فتى إلا رفرف قلبه بحبه عليه الصلاة والسلام، فعندما مات صلى الله عليه وسلم بكت عليه المدينة بأسرها، صغيرها وكبيرها، وبكى عليه الدهر، ورثاه التاريخ، وأظلمت المدينة على أهلها، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد شهم يموت لموته بشر كثير
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: [[طبت يا رسول الله! حياً وميتاً]] ثم تفطرت كبده على فراق خليله وصاحبه، فيموت رضي الله عنه ليلحق بصاحبه بعد فترة وجيزة إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
فما لقلوب تعي مثل هذا الكلام، وما لعقول تفهم هذا الحديث لا تعيشه عليه الصلاة والسلام في سويداء قلوبها!!
أيها الإخوة الأحباب! نسأل الله جل وعلا أن يجمعنا به وبصحبه في مستقر رحمته، في مقعد صدق عند مليك مقتدر إنه على ذلك قدير وصلى الله وسلم على الهادي البشير المبعوث رحمة للعالمين، والحمد لله العليم الحكيم.
الشيخ عائض:
أيها الإخوة الكرام! لعل من المصلحة أن نذكر بعض المساوئ للخطباء من المقصرين أمثالنا في مجتمعاتنا ولكن نرجئ الحديث حتى نكمل النصاب بشخصين فاضلين الأخ محمد بن شبلان عن (استقبال شهر رمضان) فليتفضل:(220/8)
استقبال شهر رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أمَّا بَعْد:
اعلموا أنه قد أظلكم شهر عظيم وموسم كريم تضاعف فيه الحسنات وتعظم فيه السيئات، إنه شهر رمضان، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] إنه شهر الصيام والقيام، شهر الصدقات والبر والإحسان، شهرٌ تفضل الله به على هذه الأمة بخمس خصال لم تعطها أمة من الأمم:
الخصلة الأولى: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.
الخصلة الثانية: تستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا.
الخصلة الثالثة: يُزيِّن الله فيه كل يوم جنته ويقول: {يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المئونة والأذى ويصيروا إليك}.
الخصلة الرابعة: تصفد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره.
الخصلة الخامسة: يغفر الله لهذه الأمة في آخر ليلة منه.
شهر من صامه إيماناً بالله واحتساباً لثواب الله؛ غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيماناً واحتساباً؛ غفر الله له ما تقدم من ذنبه، شهر تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النيران، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان يفرح بهما: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه} يفرح عند فطره بأمرين:
الأمر الأول: باستكمال صوم اليوم الذي من الله عليه بصيامه وقواه عليه.
الأمر الثاني: بتناول ما أحل الله له من طعام وشراب.
ويفرح عند لقاء ربه بما يجده عند ربه مدخراً له من أجل الصيام.
واستكثروا في شهر رمضان من أربع خصال اثنتان ترضون بهما ربكم، واثنتان لا غنى لكم عنهما، فأما اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، والاستغفار، وأما اللتان لا غنى لكم عنهما: فتسألون الله الجنة، وتستعيذون به من النار، واحرصوا على الدعاء عند الإفطار فإن في الحديث: {إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد}.
واعلموا أن الصيام إنما شرع ليتحلى الإنسان بالتقوى، ويمنع جوارحه من محارم الله، فيترك كل فعل من الغش والخداع والظلم ونقص المكاييل والموازين، ومنع الحقوق والنظر المحرم وسماع الأغاني المحرمة، ويترك كل قول محرم: من الكذب، والغيبة والنميمة، والسب والشتم، وإن سابه أحد أو شاتمه فيقل: إني صائم، فلا تجعل -أيها المسلم- يوم صومك ويوم فطرك سواء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه}.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والله أعلم.
الشيخ عائض:
أثابكم الله.(220/9)
احفظ الله يحفظك
وآخر الإخوة الأخ عبد الحكيم بن سِعِيدان القحطاني بعنوان (احفظ الله يحفظك) فليتفضل:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله أمَّا بَعْد:
أيها المسلمون: صح عنه عليه الصلاة والسلام عند الترمذي وأحمد أنه قال لابن عمه حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: {يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف} زاد الإمام أحمد في مسنده: {واعلم أن الفرج مع الكرب وأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرى} هذا حديث صحيح وهو وصية محمد صلى الله عليه وسلم للأولين والآخرين (احفظ الله يحفظك).
من يتق الله يحمد في عواقبه ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
من استجار بغير الله في فزع فإن ناصره عجز وخذلان
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
أفاد الحديث أموراً عديدة منها:
أولاً: تحريم سؤال غير الله تعالى مما لا يقدر عليه إلا هو كالرزق والمغفرة والنصر وغيرها، أما ما جرت عليه عادة الناس أن يتعاونوا فيه مما يقدرون عليه فلا مانع من سؤالهم كالاستعارة والاستقراض والاسترشاد وغير ذلك.
ثانياً: ما أثبته سُبحَانَهُ وَتَعَالى في أم الكتاب ثابت لا يتبدل ولا يتغير ولا ينسخ، وما وقع وما سيقع كله معلوم لله، ولا يقع شيء إلا بعلمه تعالى.
ثالثاً: الحديث أصل عظيم في مراقبة الله تعالى، ومراعاة حقوقه، والتوكل عليه، وشهود توحيده وتفرده، وعجز الخلائق كلهم وافتقارهم إليه.
رابعاً: حقيقة التوكل: إن الكرب إذا اشتد وتناهى؛ أيس العبد من جميع المخلوقين وتعلق قلبه بالله وحده.
وروى البخاري في صحيحه في باب الوكالة: {أن رجلاً من بني إسرائيل ذهب إلى أخيه ليقترض منه فقال له: من يكفلك؟ فأنا لا أعرفك، قال: يكفلني الله، قال: رضيت بالله ومن رضي بالله أعطاه الله ما تمنى وسلمه، فكتب صكاً، فلما بقيت خانة الشهادة قال: من يشهد لك؟ قال: الله، قال: رضيت بالله شاهداً، فكتبوا وشهد على ذلك الحي القيوم، وأخذ الصك وأعطاه ألف دينار وأتى وقت أداء القرض، فذهب المقترض ليركب البحر وليوصل هذا الدين فلم يقدر ولم يجد سفينة ولا قارباً تحمله، فدمعت عيناه وقال: يا رب! سأل كفيلاً فقلت: أنت الكفيل فرضي بك، وطلب شاهداً فقلت: أنت الشاهد فرضي بك، اللهم ادفع له هذا المال، وأخذ خشبة فنقرها ووضع فيها ألف دينار ثم كتب رسالة إلى صاحبه ثم قال: باسم الله، ووضعها في الماء فأخذها الكفيل الذي ما بعده كفيل، والشاهد الذي ما بعده شاهد، وأخذت تتدحرج على ظهر الماء ولا تعرف.
وخرج ذاك الرجل في نفس الميعاد ليستقبل صاحبه على الموعد وإذا بالبحر يرمي عليه خشبة قال: لا أفوت سفري آخذ هذه الخشبة حطباً لأهلي فكسر الخشبة فوجد الألف دينار والرسالة} فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
الشيخ عائض:
أثابكم الله.
انتهى الإخوة الذين شاركوا في هذه الندوة، وأسأل الله أن يثيبهم على ما قدموا، وباسمكم أشكرهم، وأتمنى لهم ولإخوانهم من شباب هذه الأمة أن يكونوا دعاة إلى منهج الله عز وجل.(220/10)
مسائل في الخطابة
ولكني أحبذ أن أبين مسائل حفظكم الله.
قلة الدربة في طلبة العلم، وقد كان عليه الصلاة السلام يرسل أصحابه خطباء ومنذرين، وكان صلى الله عليه وسلم بنفسه يقيم الواحد منهم خطيباً على المنبر كما أقام ثابت بن قيس بن شماس يخطب في وفد بني تميم، وأقام حسان شاعراً، وأرسل هذا داعية، وهذا مفتياً، فكان عليه الصلاة والسلام بنفسه يعلمهم ويربيهم كيف يقابلون الناس، وإن أعظم ما يمكن أن يتحصن به المتكلم أو المقابل للناس هي التجربة، كما يذكر ذلك مثل الشيخ محمد أبو زهرة في كتاب الخطابة، أعرف شاباً ولا بأس من ذكره تشجيعاً له حفظه الله هو الأخ محمد بن سليمان بن فايع، شاب يقابل الناس ويتكلم بجرأة وبحذاقة وبنباهة، فأسأل الله عز وجل أن يثيبه ويثبته هو وإخوانه.
والإخوة لم يقصروا وإن حصل تقصير فمني، ويعلم الله أنني شكلت معهم كثيراً من الكلمات ولكن ما ضبطت لأسباب:
لمقابلة الجمهور خاصة وأن معنا القضاة والعلماء، والدكاترة والأساتذة، والصالحون والأخيار، ومقابلة الجمع ليس بالأمر السهل حتى تمنى بعض الخطباء أن يقابل السيوف ولا يقابل الصفوف، وقيل لـ عبد الملك بن مروان: [[نراك شبت، قال: من صعود المنابر كل جمعة أعرض عقلي على الناس]] وكان يوصي أبناءه وكان خليفة: [[إذا صعدتم المنابر فارموا آخر الناس بأبصاركم]] لأن الموقف صعب، وتولى عثمان رضي الله عنه الخلافة فصعد المنبر فأراد أن يتحدث فاضطرب واهتز وارتجى عليه؛ لأن عثمان كان حيياً تستحي منه الملائكة، وكان أمامه بقية العشرة، وأهل بيعة الرضوان، وأهل بدر وأحد، فلم يستطع أن يتكلم، فنزل من على المنبر يرتعد، ثم قال كلمة هي من أحسن الكلمات في التاريخ: [[إنكم في حاجة إلى إمام عادل خير من خطيب فصيح]].
والموقف صعب، ولكن من مآسينا وتقصيرنا أن يوجد في مجتمعاتنا خطيب يورد على الناس الموضوعات، وخريجو الجامعات يستمعون له في كل جمعة وهو يردد عليهم حديث علقمة وحديث ثعلبة ولا أصل لها عند المسلمين، لا يروي إلا موضوعات ولا يحفظ حديثاً في صحيح البخاري ولا في صحيح مسلم، ومن المآسي أن خطيباً يظن أنا لا زلنا نعيش في عهد السلطان عبد الحميد فيدعو له في آخر الخطبة: اللهم انصر السلطان عبد الحميد وأعوانه وأجناده، وخطيب لا يعرف إلا الخطبة المخضوبة القديمة التي حفظها جماعته وقبيلته فينامون قبل أن يدخل ولا يستفيقون إلا مع الإقامة، وربما يرددون عليه مما سمعوا ومما شربوا ومما أكلوا، خطيب لا يقيم من القرآن ولو حرفاً واحداً فينكس كلام الله، ولعلكم تسمعون في بعض الحروف أنه ينطق حرف القاف في القرآن بغير الفصحى فينطقها بالعامية مشابهة لجيم المصرية هذا لأن مخارج الحروف عندنا سقيمة، أمة غُزِّيت في لغتها وعقولها وفي كرامتها وأدبها ومجدها فلم تعد أمة تستطيع أن تتكلم للناس.
وخطيب يطول على الناس حتى يتضجرون منه، ويخرج بهم عن موضوعه، بل سمعت أن بعض الخطباء يقف في الناس ساعة كاملة، وهم يملون منه ولو كان خمس دقائق، ولكن كما يقول أحدهم في عهد بني العباس وقد صلى وراء خطيب ثقيل الدم فطول به كثيراً فقال:
صلاة ولا عبد العزيز إمامها وحد ولا عبد العزيز إمامه
أو كما قال ما ولم أضبط البيت، لكن يقول: أصلي وراء كل إمام!! إلا وراء هذا الإمام، أتوب إلى الله أن أجلس معه في خطبة! خطيب يتبهذل بالسعال والنحنحة وبالزكام على المنبر، فتأخذ هذه المسائل وهذه الوقفات والمطبات نصف الخطبة، فيسعل كثيراً ويتنحنح وليس به سعال ولا نحنحة ويحك رأسه ولحيته، ويصلح بشته وغترته حتى يمل الناس ويتضجروا، وخطيب ينوم الناس وليس بهم نعاس، لكن هو بأسلوبه يتعتع كالسيارة وهي تصعد إذا كان موديلها قديماً، فتجده ينحت الكلمة: قال: قال رسول الله رسول الله رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، فلا يخرج الكلمة حتى تخرج قلوب الناس.
يا خلي البالِ قد بَلْبَلَتَ بالبَلبَالِ بَالِي بالنوى زلزلتني والعقل زالي
فبعض الناس يبلبل بالك ويزلزل قلبك.
قيل للشافعي: من هم غشاوة حُمَّى الرِّبْعِ؟ قال: الثُّقَلاء.
وقال الأعمش المقصود بقوله تعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12] قال: الثُّقَلاء نعوذ بالله من الثقلاء، وخطيب لا يعرف أحوال الناس، ولا موضوعاتهم فيدخل في قرية ليتكلم لهم هل الأرض كروية الشكل؟ وهل الأرض تدور حول الشمس؟ أو الشمس تدور حول الأرض؟ وقلوبهم أصلاً تدور حول الشرك، وهو لا يقيمهم على منهج التوحيد ليدورهم حول رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخطيب يذهب إلى البادية ليتكلم لهم عن مشكلة الخدم والخادمات وهم لم يسمعوا في حياتهم بخادم ولا خدم، هذه من المآسي التي نعيشها وكثير كثير هي.
خطيب في الثمانين من عمره كأنه أوتي وصاية ألا يترك المنبر لشباب محمد صلى الله عليه وسلم خريجي الشريعة وأصول الدين والكليات العلمية الذين بكت القلوب من وعظهم ولكن يأبى هذا، صمد على المنبر وأخذه وحجبه ورفض أن يتركه حتى آخر قطرة من دمه حتى يقتل، هذه بعض المعالم وسوف أتحدث عن أدب الخطابة، وأصول الخطابة في الإسلام إن شاء الله، وبعض نكات الخطباء عبر التاريخ التي ذكرها ابن الجوزي في بعض كتبه وذكرها غيره كـ السيوطي.(220/11)
كتب الخطابة
أيها الإخوة الكرام! أُلف في الخطابة كتب يحتاج طالب العلم إلى أن يقرأها ويفهمها ككتاب الخطابة للشيخ محمد أبي زهرة ولا أعلم كتاباً أحسن منه في موضوعه، وهو فيما يقارب (600) أو (700) صفحة، أصولها تجارب الخطباء، ونقل عن جميع الأمم كافة آداب الخطيب وما ينبغي على الخطيب، وكيف تكون خطيباً؟ وصور الخطابة، إلى غير ذلك، وهناك كتاب عجيب والحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها أخذها، لـ دايل كارنيجي الأمريكي اسمه فن الخطابة وفيه بعض التراجم، كيف تكون مؤثراً وتتحدث للناس؟ كذلك كتاب الخطابة لـ محفوظ من علماء الأزهر، وكتاب القصاص والمذكرين لـ ابن الجوزي، وكتاب في تذكير الناس للسيوطي، هذه الكتب أصول في معرفة الخطابة وكيف تتكلم للناس؛ لأن الأصل عندنا التأثير على الناس بواسطة الكلمة، وأعظم ما يؤثر في الناس في الإسلام هي الكلمة، وأعظم ما أثر به صلى الله عليه وسلم في الناس الكلمة، حتى يقول شوقي يمدح الرسول عليه الصلاة والسلام:
فإذا خطبت فللمنابر هزةٌ تعرو الندي وللقلوب بكاء(220/12)
مزالق الخطباء
ورد في التاريخ مزالق لكثير من الخطباء، ويأتي ذلك من نقص علمهم، أو من ارتجاجهم على المنبر، أو من حمقهم، أو من عدم معرفتهم لتسيير الأمور.
منها: خطيب ذكره ابن الجوزي وقف على المنبر يريد أن يرتجل، والارتجال صعب حتى يتمكن العبد ويكتب ما يمكن أن يقوله ويحفظ خطبته؛ لأن بعض الشباب الآن يريد أن يرتجل قبل أن يخطب مكتوباً فارتجل فقال: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أشهر، فقال له الناس: في ستة أيام، قال: والله لقد تقاللت ستة أشهر يعني قليلة عندي أردت أن أقول ست سنوات.
ومنها: خطيب ذكره ابن الجوزي في الحمقى والمغفلين وقف على المنبر وقال: كما قال الله في محكم كتابه: (اعملي أم خالد ربَّ ساعٍ لقاعدِ) فقالوا: هذا ليس من كلام الله قال: يقول الله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] إلى غير ذلك.
ومن مزالقهم أيضاً: أن أحدهم وقف وقال: أيها الناس! اتقوا الله فإن الله أهلك ثمود بناقة لا تساوي مائتي درهم، فسموه مثمن ناقة صالح.
ومن مزالق الخطباء التي يذكرها ابن الجوزي أيضاً: التطويل على الناس وقد ذكرت هذا، ومنها: الكُرب التي تعلو بعض الناس حتى أغمي عليه وهو على المنبر، قام يتكلم فأغمي عليه لما واجه الناس، وقد كان ابن الجوزي في شبابه خجولاً جداً حتى كان ينصب الحجارة في الصحراء ويقوم فيها خطيباً حتى تمرن وتدرب وأصبح واعظ الدنيا بلا منازعة، لا أعلم بعد الصحابة إلى الآن أخطب من ابن الجوزي، وهو واعظ الدنيا، يقف في بغداد يقول في صيد الخاطر ويجتمع له أكثر من مائة ألف سامع، يأتي خليفة المسلمين المستضي ويجلس وراء الستار في المسجد ليستمع كلامه فكأن ابن الجوزي ما يعرف أن الخليفة وراء الستار، فقال له أحد الجلاس: يا ابن الجوزي! إن أمير المؤمنين وراء الستار، قال: لا تخبر الخليفة أنك أخبرتني أنه يسمع، يريد أن يفاجئه بكلام، فبدأ في الخطبة وقال -وهذا الكلام لأمير المؤمنين-:
ستنقلك المنايا من ديارك ويبدلك البلى داراً بدارك
فدود القبر في عينيك يرعى وترعى عين غيرك في ديارك
ثم وجه كلمة للخليفة الغائب وكأنه لا يعرف أن الخليفة هنا، وبعد أن انتهت الخطبة خرج الناس فوجدوه مغمياً عليه يرش بالماء، كان الخليفة عالماً يخطب بهم العيد ويفتي ويوجه ويربي من علماء بني العباس لكنه حضر يستمع.(220/13)
أصول الخطابة
أيها الإخوة الفضلاء! أصول الخطابة عشرة أصول:
الأصل الأول: الإخلاص، أن يكون العمل خالصاً لوجه الله.
اليابانيون اليونانيون والصينيون يتعلمون الخطابة ويؤثرون في الناس إما لأجل الانتخاب أو لأجل الاقتصاد، أو لسحب الرأي العام، أو لاجتلاب محبة وكسب أصدقاءٍ، أما نحن فلتبيين الحق الذي بعث به عليه الصلاة والسلام، ولا يحق لي أن أجلس هنا أنا ولا غيري لنتكلم نحن عن عظمتنا، وذواتنا، ومقامنا، وذكائنا، وعبقريتنا، إنما أتينا هنا لنتكلم عن عظمة العظيم، وعن حكمة الحكيم، ونعرف به خلقه فقط، ليس لنا شيء، فهو الذي خلق اللسان والحبال الصوتية والصوت، فالمنة له، فالإخلاص: أن يكون العمل خالصاً لله {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3].
الأصل الثاني: العلم، إن من المآسي أن يتأخر طلبة الشريعة، وحملة القضاء، وأهل الميثاق عن المنابر ثم يصلون مأمومين أمام عوام يخطبون فيسيئون للشريعة وصاحب الشرع عليه الصلاة والسلام.
الأصل الثالث: الإلقاء وليس مقصودي بالإخوة الثمانية أن يتكلموا بأي كلام، ولذلك قد تلاحظون مني ومنهم أن الواحد منا يريد أن يلقي أي شيء، ولذلك ابن القيم يحبذ في مدارج السالكين أن تؤثر في الناس في الإلقاء، كيف تشير؟ كيف تختار العبارة القوية؟ متى ترفع صوتك؟ متى تخفض صوتك؟ ومتى تغضب؟ متى تهدئ من الصوت؟ ومتى تستفهم؟ ومتى تقف؟ ومتى تضغط على الكلمة؟ ومن أحسن ما سمعت خطيباً في هذا العصر -لولا بعض الملاحظات-: عبد الحميد كشك، ولذلك تسمع كيف يضغط على الكلمة، وكيف يحرك الجماهير، وكيف يهدأ يهدأ حتى كأنه الليل في آخره ثم يثور يثور كأنه السيل أقبل، ثم يتصدع قلبه ثم يستفهم ثم يلقي الشعر، ويحبس أنفاسه عند آخر القصيدة، ثم ينتزع الناس حتى لا يملك الناس مشاعرهم، هذه خطبة وتأثير، حقاً ولذلك لك أن تسمع أشرطته، ولك أن تقلد الخطباء البارعين ولو ببراعة نسبية.
وليس المقصود أن تقرأ على الناس قراءة فإن الناس كلهم يستطيعون أن يقرءوا، لكن كيف تستطيع أن تؤثر وتوصل المعلومة؟ يقول النعمان بن بشير: {كنت في السوق -سوق المدينة الزوراء والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب فرفع صوته ووعظ وأنذر وحذر حتى سقطت خميصته من عليه} ويقول أنس: {وعظنا رسول الله عليه الصلاة والسلام فالتفت في المسجد إلى الصحابة وكل قد وضع رأسه بين ركبتيه ولهم حنين من البكاء} ويقول جابر: {كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب اشتد غضبه، وعلا صوته، واحمرت وجنتاه، وكأنه منذر جيشٍ، يقول: صبحكم ومساكم} هذه الكلمة، لا أن تأتيني بوعظ بارد، وتأتي لي بزجر وتجعله في سهولة ويسر، لا.
نحن أمام فن خطابة.
وفن الإلقاء أن تكون متفنناً في إلقائك، ولا تخف، ولا تقل: رياءً أو سمعة، أو ظهوراً أو شهرة، لا.
أنت صاحب الأسلوب واقصد به وجه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
الأصل الرابع: معرفة الواقع الذي نعيش فيه، فللبادية خطبة، وللحاضرة خطبة، ولأساتذة الجامعات خطبة، ولطلبة العلم خطبة، ولكبار السن كلام، لأن من أوتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، وكان عليه الصلاة والسلام يحدث الناس على قدر عقولهم.
الأصل الخامس: اجتناب الأحاديث الموضوعة، أما أن تأتي بحديث وهو موضوع وتحمل تبعة العمل به، فأنت المسئول عند الله، ويصبح البعيد كاذباً يتبوأ مقعده من النار؛ لأنه يعلم الناس الكذب على منبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
الأصل السادس: أن يكون الخطيب عاملاً بما يقول، ولذلك أُبطلت مصداقية كثير من الخطباء، في كثير من الأمكنة بسبب أنهم خالفوا ما دعو إليه، كأن يحذر الخطيب من شهادة الزور ثم يشهد على جيرانه بها، ويحذر من قطيعة الرحم ويكون أول قاطع للرحم، ويحذر من أخذ أراضي الناس ظلماً وعدواناً، ويعرف الناس في المسجد أنه أخذ أراضيهم، فلذلك يبكي على المنبر ولا يبكون، يقولون: أراضينا عندك!!
الأصل السابع: ترك التجريح، فلا يستخدم المنبر ليشفي غليله ولينتقم لنفسه فإن بعضهم يأخذ هذا، فتجده إذا تكلم لقبيلته أو جماعته أو حيه أو مستمعيه لا يحترمهم، ربما لأمور في نفسه يثور عليهم وينتقم منهم ويقول: أنتم تفعلون كذا وكذا وكأنه يبرئ نفسه، وسمعت أن أحد الخطباء فيه حمق وقف يقول: يا أيها الناس! لا تركنوا إلى أنفسكم، ولا تأمنوا مكر الله، والله لا أضمن أنا، وهو أنا لا أضمن لنفسي الجنة! أو كما قال، وأحفظ من هذا الكثير، فترك التجريح مطلوب، كان صلى الله عليه وسلم يقول: {ما بال أقوامٍ يفعلون كذا وكذا} ويقول: {يا بني عبد الله! إن الله أحسن اسم أبيكم، فأحسنوا العمل والاستجابة}.
الأصل الثامن: الجذب، أن تكون جذاباً بأسلوبك، فلا بأس أن تدخل الخطبة بقصة، ثم لا تخبر من هو بطل القصة، انظر هؤلاء المنحرفين كيف ملكوا أسماع الناس وأبصارهم بالتأثير العالمي، بالأساليب وبالأطروحات، تأتي بقصة ولا تذكر بطلها، وتبدأ بقصيدة ولا تذكر صاحبها، وأحياناً تبدأ مستفهماً متأثراً، أحياناً تبدأ هادئاً ثم تثور بصوتك، فالجذب فن، ولم أجعل مثل هذه الندوة ولا يجعل زملائي وإخواني مثل هذه الندوات إلا لتعليم فن الخطابة، ولا أعرف أن هناك جهة تتولى تعليم الناس الخطابة، مع أن في تركيا معهد الخطباء، قابلنا ما يقارب 400 منهم خطباء مؤثرين بلغتهم، وفي الدول الشرقية والغربية معاهد وجامعات للخطابة وأقسام ليؤثروا في الناس.
الأصل التاسع: إجادة اللغة العربية، ألا تلحن، واللحن خدش في الوجه، ولا أعلم أحداً الآن إلا ويلحن لا من العلماء ولا من الخطباء، لكن قليلاً قليلاً.
سامحن بالقليل من غير عذْل ربما أحسن القليل وأرضى
ونحن لا نقول للخطيب: إنك تستطيع أن تكون كـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أو كـ زياد بن أبيه، لا.
لكن يقلل من اللحن خاصة في كتاب الله عز وجل، وفي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأحد الخطباء يقول: واتقوا يومٌ ترجعون فيه إلى الله، (يومٌ) هل يحل له أن يصرف كتاب الله عز وجل ويلعب به على المنبر، ولو لحن في الكلام المجرد لكان سهلاً، أما في كتاب الله فلا.
الأصل العاشر: أن يكون مستغفراً داعياً لله منيباً إليه قبل أن يصعد إلى الناس؛ لأن الموقف صعب، وكان بعض الصالحين يمرغ وجهه في التراب قبل أن يصعد ويقول: (اللهم ثبت قلبي وسدد لساني) ورأيت في ترجمة شيخ الإسلام رحمه الله أنه قبل أن يتكلم في مجلس درسه كان يقول: (اللهم بك أصول وبك أجول وبك أقاتل) ويدعو الله ويبتهل كثيراً، وكان من عادة ابن تيمية كما ذكر ذلك ابن عبد الهادي في كتاب العقود الدرية أنه إذا أراد أن يتحدث للناس بعد العصر، ويزدحم الناس عليه، الخطباء والعلماء، والأصوليون والمفسرون، والنحاة والفقهاء، فكان إذا أراد أن يتكلم أغلق عينيه؛ لأنه كان يغرف من بحر وما كان يتلعثم ولا يتوقف، مثل البحر إذا أقبل هائجاً مائجاً، ولذلك أثر في مسار التاريخ، ولا أعلم الآن عالماً أثر في مسار التاريخ مثل ابن تيمية بسبب قوته وحجته وبيانه، وهو يقول في اقتضاء الصراط المستقيم أصول النبوغ بين الأمم جميعاً: " البيان والحفظ والفهم ".
البيان: أن يكون لك لسان تؤدي رسالة الله به، والحفظ: أن تحفظ النصوص الشرعية، والفهم: أن تستنبط، فهذا من أصول الخطابة.
وأذكر أن أبا معاذ الرازي الخطيب العظيم كان إذا صعد المنبر دعا الله وبكى ثم جلس قليلاً ثم بدأ كلامه، وكان لا يبدأ كلامه إلا بهذا البيت يقول:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليل
فيبكي الناس.
أيضاً: أن يكون مستهلاً خطبه بما يسمى براعة الاستهلال، فإن أول الخطابة لها دور في استثارة الناس، أن تبدأ مع الناس ببراعة حتى تجذبهم إليك، المنذر بن سعيد البلوُّطي عالم الأندلس كان خطيباً في الزهراء، والزهراء كانت لـ الناصر بناها ومكث فيها سنوات حتى أصبحت من مشاهير مدن الدنيا، فأراد أن يعظ هذا السلطان فيوم الجمعة بعد أن انتهى من البناء وعمل حفلاً للناس أجمعين ليحضروا في المدينة، فقام المنذر فحمد الله والتفت إلى الخليفة وقال، قال الله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:128 - 130] فتأثر الناس، لأن هذا مطلع عظيم.
أيها الإخوة الفضلاء! هذه بعض المسارات في الخطابة التي هي من النقص الذي نجده في عالم الدعاة فضلاً عن عامة الناس أو عن العاديين من الناس، لأن الكثير منهم الآن لا يمنعهم من التحدث إلى الناس إلا عدم الجرأة وعدم المعرفة بكيف يكيف نفسه مع الناس، ولا يعرف ما هي موضوعات الناس، وما هي الأطروحات التي ينبغي له أن يطرحها بين يدي الناس.
أيضاً -أيها الإخوة- لا يظن أحد أن من يتكلم بفصاحة وبراعة أنه أفضل الناس، فإنه ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {البيان والبذاء شعبتان من النفاق، والعي والحياء شعبتان من الإيمان} هذا في سنن الترمذي ولا تحملوا هذا بالعكس أن يقول أحدهم: عدم استطاعة الكلام علامة الإيمان، بعضهم عفريت في الكفر والنفاق لا يستطيع أن يذكر اسمه، وبعض المؤمنين كـ أبي بكر وعلي إذا تكلم يكاد يبكي الحصى، لكن ليس الفضل فقط بفصاحة العبارة وبقوة الصوت إنما بأمور أخرى أرادها الله وهي: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
أيها الإخوة الفضلاء! أشكر الإخوة باسمكم وأطلب منكم الدعاء لهذه الأمة لدعاتها وعلمائها وطلبة العلم والصالحين حتى يحفظها الله بهم ويحفظهم بها.
أيها الإخوة! أطلب منكم دعاء بظهر الغيب لإخوانكم المسلمين المستضعفين، فقد قرأت في بعض الملاحق وعلمت من بعض العلماء أن هناك مآس في العالم الإسلامي لا يعلمها إلا الله الواحد الأحد، ففي تونس ثلاثون ألفاً من المسلمين والمسلمات في السجون يعذبون تعذيباً عظيماً لا يعلمه إلا الله، وقد أخبرني أحد العلماء من تونس وفد إلى مكة يقول: يؤتى بالمرأة فتجرد من ملابسها كهيأتها يوم خلقها الله، ثم يدار بها في الزنزانة على أخيها وأبيها وتجلد أمامهم، وهذه يقين قالها كثير من العلماء حتى وصلت إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ثلاثون ألف مسلم ومسلمة يعذبون، ويصهرون، ويضربون، ويصيحون، ويستغيثون فنحول حالهم إلى الله، ينفعهم دعاؤكم لهم في ظهر الغيب.
في الجزائر ستة آلاف وأكثر نصبت لهم خيام في الصحراء تصهرهم الشمس، ولا يُسلم لهم في اليوم إلا وجبة واحدة، وكنت مساء الأربعاء مع بعض الدعاة من دعاة البلاد وقرئت على سماحة الشيخ رسالة قرأها الشيخ سلطان الخميس من الجزائر ونحن جلوس مع سماحته وصلت إليه قالوا: يا سماحة الشيخ! يا علماء الأمة! يا دعاة الأمة! إنا نسأل الله عز وجل أن يفك أسرنا، إنا نطرح مشكلتنا عليكم ثم ذكروا لنا القصص: يُؤتى بالرجل فتحلق لحيته وحاجباه، ثم يُنكل بهم تنكيلاً لا يعلمه إلا الله، ذنبهم أنهم قالوا ربنا الله وسجدوا لله، ويطلق على الطفل المسدس أمام أمه حتى تموت حزناً وهماً، والرسالة أنا لا أتخولها فبإمكان أحدكم أن يسأل سماحة الشيخ وأنا مسئول عما أقول، أنا أتكلم الآن أمام ثلاثة آلاف، كانت الرسالة مساء الأربعاء وقرئت على سماحة الشيخ فما كان منه إلا أن اهتز باكياً؛ لأنها مؤثرة، وهي دعوة للعلماء والدعاة أن يدعوا لهم، فإنهم في ضنك لا يعلمه إلا الله.
يأتي رجل مشرد ثم ينزل الجنود والجيش يحملون السلاح والدبابات ويغلقون المساجد على الناس ويقودونهم إلى السجن باسم التطرف والأصولية؛ لأنهم يريدون الله، أيُّ قلب لمسلم لا يتفاعل مع هؤلاء، ولا يعيش قضيتهم، ولا يسأل الله لهم، أين الولاء؟ والله عز وجل يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] أما الكفار والمنافقون فقال: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] أجزاء كأجزاء البهيمة، أما أولئك فولاية حب ودعاء ونصرة.
يا أيها الإخوة! مَنْ مِنَّا بكى؟ والله تصور أن أختك أو زوجتك تعيش في الزنزانة مجردة؟ تضرب ليل نهار، لكن أنا أسألكم أين قلوب هؤلاء؟ لا يرحمون، اسمعوا إذاعة لندن وصوت أمريكا وهي تصيح صباح مساء لـ تونس والجزائر: أعدمتم الإنسان، ومزقتم الإنسان لا يحق لكم هذا، وهم كفرة أصبحوا أرحم من هؤلاء -حقوق الإنسان- تصيح إليهم، وأرسلت وفداً إلى تونس والجزائر تناديهم أين حقوق الإنسان؟ ومع ذلك تجد الإنسان محترماً في أمريكا وفرنسا وبريطانيا أقولها ولو خالفني الكثير، فتأتي تلك الدول وتنادي باسم حقوق الإنسان، وترسل اللجان، وتعنف على هؤلاء ولكن يأتي هؤلاء بلا رحمة وينزلون الطوابير التي فشلت في قتال إسرائيل، أين الجيوش هذه التي لم نرها تقاتل إسرائيل؟ بلادنا في فلسطين وفي أفغانستان وفي الأندلس وفي لبنان مسلوبة، فإذا أتى قمع الدعاة وطلبة العلم والأخيار نزلت الجيوش في الشوارع تضرب وتهبد في عباد الله عز وجل!
يا عباد الله! أنا لا أقول هذا إلا رجاء أن ينفعنا الله بهذا، فإنها من الميثاق فالله عز وجل يقول: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160].
أنت لا تعيش فقط في هذه الجزيرة أنت مسلم، وكل مسلم على وجه الأرض أخوك تتألم لألمه يقول صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر}.
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني
بـ الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
وفي ثرى مكة تاريخ ملحمة على رباها بنينا العالم الفاني
في طيبة المصطفى روحي وا ولهي في روضة المصطفى عمري ورضواني
النيل مائي ومن عمان تذكرتي وفي الجزائر آمالي وتطوان
وأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
دمي تصبب في كابول منسكباً ودمعتي سفحت في سفح لبنان
اللهم يا كريم! أسألك من على هذا المنبر الكريم، في هذا الموقف الكريم، في هذا الجمع الكريم، أن تنصر المسلمين وأن تعز بهم الإسلام، اللهم إن زرع الباطل قد سنبل، وإن شوك الكفر قد حنظل، اللهم فيدٌ منك حاصدة لا تبقي له بقية، اللهم احمنا وانصرنا واهدنا وتولنا واحفظنا من كل مكروه، واجعل العاقبة لنا يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(220/14)
بر الوالدين
بر الوالدين أعظم الجهاد وأيسره، ترفع فيه الدرجات، وتقبل من البار الدعوات، ولو أقسم على الله، فقسمه مبرور، لأن سعيه مشكور.
وعلى النقيض من هذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من عقوق الوالدين الذي يمكن في أسباب ثلاثة والتي تقابلها عدة أسس لبر الوالدين، ومع هذا فإن رحمة الله واسعة، والجزاء من جنس العمل، فمن أحسن أحسن الله إليه، ومن أساء فعليه.(221/1)
الشباب والنوادي الصالحة
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك، أنت رب الطيبين، أنت عوذ المظلومين، أنت ناصر المهضومين، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
والصلاة والسلام على أشرف هادي ما سالت البوادي، وما هطلت الغوادي، أشرف من تكلم في النوادي، وأجل من جاء بالنور وهو خير هادي، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
سلام الله أرفعه إليكم بأشواقي وحبي والهداية
وأرفع من ربى أبها سلاماً لأهل الحق في سبك العلاية
سلام على نادي الزيتون، وعلى القائمين عليه، وعلى رأسهم فضيلة الأخ الأستاذ/ محمد بن سعيد بن ريش ومساعدوه وزملاؤه وطلابهم، سلاماً لا ينقطع إلا بدمع العين، إلى أن نلقى الله في مستقر الرحمة.
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:1 - 6].(221/2)
التربية على القرآن
يا أهل نادي الزيتون! نسأل الله أن تكونوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وما أحوجنا إلى الإيمان وعمل الصالحات؛ لأنه ينقصنا نوادٍ تقيم الإيمان، ويَتَرادُّ في جوانبها القرآن، وتسبح بحمد الواحد الديان، نوادٍ تؤسس على (لا إله إلا الله) نوادٍ ينطلق منها أشبال الإسلام، من أحفاد خالد وسعد وطارق وصلاح الدين.
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109] نوادٍ تخرج شباباً يعبدون الله.
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
كن كالصحابة في علم وفي ورع القوم هم ما لهم في الناس أشباه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يُشَيِّدون لنا مجداً أضعناه
نريد شباباً يخرجون إلى العالم ليقولوا: ها نحن عدنا من جديد، وليقول الواحد منهم: أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن صلاح الدين.
رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمرُ
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ
ذاكم هو النادي الذي بدأ اسمه يلمع في سماء الحق (نادي الزيتون) ليقول للناس: لقد مللنا النوادي التي أتت بالناس لتربيهم على اللهو واللعب وضياع الوقت، لا ينقصنا ضياع وقت ولا لعب ولا لهو، ولكن ينقصنا إيمان بالله الواحد الأحد، وتوحيد وقرآن واستقبال إلى القبلة.
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
فحيا الله هذا النادي يوم أَجلسَ شبلاً من أشباله يقرأ القرآن ليسمعنا القرآن، وليشرح صدورنا به، لقد ظمئت قلوبنا -والله- لكتاب الله، يوم أن شبعت من الغناء، والغيبة والنميمة، ومن الزور إلا من رحم ربك، فأسمعنا -يا شاب الإسلام- كلام الواحد العلام، لتضيء طريقنا خلف سيد الأنام عليه الصلاة والسلام.
أيا قارئ القرآن بالله قم واقرا فصوتك يجلو عن مسامعنا الوقرا
أعد ذكر بدر كي تقر عيوننا فقد صرت أنت اليوم في حفلنا بدرا(221/3)
بر الوالدين قصص وعبر
ثم إن هذه المحاضرة بعنوان: (بر الوالدين) قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] فلا يُعْبَد إلا الله، ولا يوحَّد إلا الله، ولا يقصد إلا الله، ولا يحب في الله إلا ما كان لله، ولا يبقى إلا وجه الله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24]!(221/4)
قصة الثلاثة النفر الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار
وقبل أن أتحدث عن كثير من الآيات والأحاديث أسوق قصة يرويها محمد عليه الصلاة والسلام ويتكلم بها؛ لأنه كان يربي الناس إما بضرب المثل، أو بالخطابة العارمة الجياشة التي تصل إلى القلوب، أو بالقصص الصحيحة التي تحيي الأرواح.
يقول عليه الصلاة والسلام: {بينما ثلاثة آواهم المبيت إلى غار في جبل}.
دخل ثلاثة من بني إسرئيل في غار، وهو الكهف في الجبل، فانطبقت عليهم الصخرة، فلما أغلق الله عليهم باب الغار بهذه الصخرة، وقفوا في موقف ضيق حرج، وردوا أمرهم إلى الله، والعبد إذا ضاق فإنه لا يلتجئ إلا إلى الله الواحد الأحد، أرأيت إلى الإنسان إذا ضاقت به الحيل، فإلى مَن يلتجئ؟ قال تعالى: {وإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53].
يونس بن متى في بطن الحوت يلتجئ في الظلمات الثلاث إلى الله الواحد الأحد ويقول: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
فتقطعت بهم الحيل، وانتهت بهم أسباب الدنيا، وتصرمت بهم حبال الناس، ولم يبق إلا حبل الله.
يا واهب الآمال! يا حافظ القلوب! يا مقوي حبال الطائعين بحبلك! يا مرسل الأسباب لأوليائك! انقطعت بنا الحبال.
يا واهب الآمال أنت حفظتني ومنعتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فنصرتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك منعتني
تباكوا في الغار، فسمعهم الواحد القهار {فقال أحدهم لإخوانه: لا ينجيكم إلا عملكم الصالح فادعوا الله بأحسن أعمالكم}.
وهذا درس لنا؛ فإنه لا ينجي العبد من الكربات والظلمات، ولا من الأمور المدلهمات إلا تقوى رب الأرض والسماوات.
زكريا يرفع يديه يدعو الله أن يصلح زوجته، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:90] لماذا؟ {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
فلما قال لهم أخوهم: فادعوا الله بصالح أعمالكم.
تقدم الأول، فقال: {اللهم إنك تعلم -ولا زال الله يعلم، فعلمه أبدي سرمدي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- أنه كان لي أبوان شيخان كبيران} انظر إلى التصوير العجيب في الحديث الأب والأم إذا كبرا وأتاهما الهرم أصبحا في منظر بئيس، ترحمهم القلوب من الأجانب فكيف بالقريب! قال: {وبلغ بي من البر أني لا أغبق عليهما أهلاً ولا مالاً} لا يسقي أطفاله اللبن، ولا يقدم لأهله الطعام حتى يشبع أبوه وأمه ويروَيان، قال: {ونأى بي طلب الشجر ذات يوم، فلم أرجع حتى ناما} أتى هذا الرجل، وهو يرعى الغنم بعد صلاة العشاء، ثم حلب إبله وبقره، وتقدم باللبن في الإناء، فأتى وإذا بالشيخين نائمين، فقام على رأسيهما، وأطفاله يتضاغون عند أقدامه، لا يجدون مضغة، ولا يجدون من أبيهم ما يسد عوَزَهم أو جوعهم قال: {فانتظرت حتى برق الفجر، ولم أقدم أطفالي على والديَّ} فلما طلع الفجر استيقظ الوالدان، فسلم لهما اللبن فشربا، قال: {اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء مرضاتك، ففرج عنا ما نحن فيه، فتزحزحت الصخرة شيئاً بسيطاً؛ لكن لا يستطيعون الخروج، وقال الثاني: اللهم إنك تعلم أنه كان لي ابنة عم أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، وإني راودتها عن نفسها، فأبت، حتى أَلَمَّ بها قحط وفقر وجدب، فقدمت لها مائة دينار، فلما تمكنت منها، قالت: اتق الله! ولا تفض الخاتم إلا بحقه فتركتها، اللهم إن كنتَ تعلم أني تركتُ ذلك ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، ولكن لا يستطيعون الخروج، وقال الثالث: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أجراء -أي: عُمَّال- فأعطيت كلاً أجرته إلا عاملاً واحداً، ذهب مغاضباً، ولم يأخذ من أجره شيئاً، فجمعت ما له من مال، وثمرته له، فلما أتى قلت: هذا المال جميعه لك، قال: لا تستهزئ بي.
قلت: بل كل هذا لك، فأخذه ولم يبقِِ لي شيئاً، اللهم إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاء مرضاتك، ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، وخرجوا يمشون}.
والدرس الوحيد الذي نريده وهو الشاهد: بر الوالدين
يوم يقول الله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] قرن الله حقه بحق الوالدين، وجعل الله رضوانه في رضا الوالدين؛ لأنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي يتولى حق الوالدين.(221/5)
قصة الشيخ الذي شكا ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم
يجلس عليه الصلاة والسلام في مجلس مع الصحابة، فيأتي شيخ كبير مسن عجوز، وهو يبكي، فيقول عليه الصلاة والسلام: ما لك؟ قال: يا رسول الله! أشكو إليك داهية من الدواهي -أي: معضلة من المعضلات- قال: ما لك؟ قال: ابني يا رسول الله! ربيته، سهرتُ لينام، وجعتُ ليشبع، وظمئت ليروَى، وتعبت ليرتاح، فلما كبر غمط حقي وظلمني، ولوى يدي وضربني -ذكر ذلك الزمخشري وغيره- ثم أنشد شعراً في ولده يقول:
غذوتُك مولوداً وعِلْتًك يافعاً تعلُّ بما أجني عليك وتنهلُ
إذا ليلةٌ ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململُ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لدغت به دوني فعيناي تَهْمِلُ
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنتُ أؤمِّلُ
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضلُ
فليتك إذ لم ترعَ حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعلُ
فبكى عليه الصلاة والسلام، وروي أن جبريل نزل فقال: {إن الملائكة بكت لبكاء هذا الشيخ} ثم استدعى النبي صلى الله عليه وسلم ابنه، فأخذ بتلابيب الابن وهزَّه، وقال: {أنت ومالك لأبيك} ليبين عليه الصلاة والسلام أن الابن وماله لأبيه يتصرف فيه، وأنه لا يجوز أن يخرج عن طاعته، إلا إذا أمر بمعصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.(221/6)
أبو هريرة وبره بأمه
أبو هريرة يضرب به المثل في طاعته لوالدته، يقول: {هاجرت من زهران إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلما نزلت في البيت ومعي أمي أخذت تسب رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: فغضبت، وذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقلتُ: يا رسول الله! أمي تسبك، أسمعتني فيك ما أكره، فادعُ الله لها، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه، وقال: اللهم اهد أم أبي هِرٍّ، اللهم اهد أم أبي هِرٍّ قال أبو هريرة: يا رسول الله! وادعُ الله أن يحببني وإياها إلى صالح المسلمين قال: وحببهما إلى صالح عبادك} وعاد فوجدها تغتسل، وطرق عليها، وإذا بها تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وعادت مهتدية إلى الله، لما كان ابنها باراً بها.(221/7)
من قصص التابعين في بر الوالدين
قيل لأحد الصالحين، وكان مشهوراً ببر الوالدين: ما بلغ برك بأمك؟ قال: ما مددت يدي إلى الطعام إلا بعد أن تمد يدها، وما نمت إلا بعد أن تنام، وما رقيت سطحاً وهي تحتي خوفاً من أن أعقها بأن أرتفع عليها.
وقالوا للحسن البصري: سمعنا أنك بارٌّ بأمك، فما بلغ بك من بر أمك؟ قال: ما نظرت إلى وجهها حياءً منها فكيف بمن بلغ به العقوق إلى أن يضرب والديه، أو يلعنهما؟!!
جاء في الأثر: [[من عق والده حتى بكى، فالذمة منه مقطوعة]].
وفي أثر آخر: [[من بكى منه أبوه أو أمه فقد سلخ النور عن جبينه]].
وهذه الآثار تنسب للسلف، ولا ترفع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال جعفر الصادق لابنه: [[يا بني! لا تصاحب عاقَّ الوالدين؛ فإن الله قد غضب عليه من فوق سبع سماوات، فكيف تصاحبه؟!]].(221/8)
أسباب عقوق الوالدين
ولا يحدث عقوق الوالدين إلا بأسباب، أجملها في ثلاثة:
أولها: سوء التربية:
فإن الوالد مسئول عن تربية ابنه على الكتاب والسنة، والوالد الذي لا يربي ابنه على القرآن، وعلى حب الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلى الإتيان به إلى المسجد، والمداومة على الصلوات الخمس، وعلى تقوى الله، والصدق، والوفاء، يستحق العقوق من ولده.
ثانيها: الجهل:
فعلى الوالد أن يعلِّم ابنه ولا يتركه جاهلاً، لا بد أن يعلِّمه العلم الشرعي وهو كتاب الله، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام.
يُروَى أن أحد العلماء جاءه رجل، فقال له: ابني ضربني، قال: تعال بابنك، فأتى به فإذا هذا الابن كبير سمين بدين كأكبر ما يكون من الرجال، فقال له: أضربتَ أباك؟ قال: نعم.
ضربتُه، قال: لِمَ ضربتَه؟ قال: وهل يحرم أن يضرب الابن أباه؟ أي: هل في الشريعة أنه لا يجوز ضرب الابن لأبيه؟ قال العالم للأب: أعلَّمتَ ابنك شيئاً من القرآن؟ قال: لا والله.
قال: أعلمتَه شيئاً من السنة؟ قال: لا والله.
قال: أعلمتَه شيئاً من آداب السلف؟ قال: لا.
قال: فماذا صنعت معه في حياته؟ قال: أطعمتُه وسقيتهُ وآويتُه حتى كَبُر، قال: تستحق أن يضربك؛ لأنه ظن أنك ثور فضربك.
فالسبب الثاني: عدم تعليم الأبناء العلم الشرعي الذي ينفعهم في الدار الآخرة، ويقربهم من الله، ولا أعني علم الثقافة، وعلم القشور، والمعلومات التي تستحوذ على الذهن ليصبح سلة مهملات، هذا ليس بعلم قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
ثالثها: عق الرجل والديه؛ فالجزاء من جنس العمل، فمن بر أبويه رزقه الله عز وجل أولاداً يبرونه.
أحد الناس سحبه ابنه من بيته حتى أخرجه خارج المنزل، فقال الأب لابنه: قف هنا، فوالله لقد سحبت أبي من هذا المكان حتى أوقفته في هذا المكان، وهذا الجزاء من جنس العمل.(221/9)
أقسام بر الوالدين
وبر الوالدين على قسمين:
بر الأم، وبر الأب.
الرسول عليه الصلاة والسلام يأتيه رجل -والحديث متفق عليه- فقال: {يا رسول الله! مَن أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك}.
قال أهل العلم: بين عليه الصلاة والسلام أن للأم ثلاثة أرباع الحق، وللأب ربعاً من الحقوق.
ولذلك اجتهد الصالحون في برهم بأمهاتهم.
فقد مر ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه برجل من أهل اليمن، وقد حمل أمه على كتفيه في حرارة شمس مكة، وهو يطوف بها، وقد سال العرق على جبينه في الظهيرة، فقال: [[يا ابن عمر! أسألك بالله، أجازيتُ أمي بما قَدَّمَت لي؟ قال ابن عمر: لا والذي نفسي بيده ولا بزفرة من زفراتها]].
معنى الكلام: لَطَوافك بالبيت، وهذا الضنك والمشقة التي وجدتها لا تساوي زفرة من زفراتها، أو طلقة من طلقاتها في وقت الولادة، لا يساوي بر الابن بأمه طيلة ستين أو سبعين سنة.
خرج عمر رضي الله عنه، وأسكنه فسيح الجنات، وجمعنا به وأرانا ذاك الوجه الكريم خرج في ظلام الليل بعد صلاة العشاء يتفقد الناس، ونزل إلى خيامٍ حول المدينة وفيها فقراء من بوادي العرب، فأتى إلى خيمة، فسمع امرأة تصيح وتبكي وهي في الطلق، فوقف عند باب الخيمة، وهو يرتجف كالعصفور من شدة البرد ويبكي رضي الله عنه وأرضاه، فقال له مولاه أسلم: [[ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: إنك لا تدري يا أسلم! ماذا تجد من ألم الولادة]] ثم ذهب رضي الله عنه في قصة طويلة، وأتى بطعام لها، وصنع لها عشاءً، حتى قالت: والله إنك أحق من عمر بن الخطاب بالخلافة.(221/10)
أسس بر الوالدين
وبر الوالدين له أسس:(221/11)
من بر الوالدين: الدعاء لهما
أولها: أن تدعو الله لهما في أدبار الصلوات:
الدعاء العظيم، يوم أن ترفع يديك تدعو لوالديك في أدبار الصلوات وفي السجود، وتقول: (رب ارحمهما كما ربياني صغيراً) (اللهم اغفر لوالدي، اللهم ارحمهما، اللهم تجاوز عنهما) يوم تقف في ظلام الليل لتدعو لأفضل مخلوقين حيين قدما لك أحسن مكرمة في الحياة الدنيا، وهو وجودك، ولذلك فليس في الإسلام ولا في الشريعة أن يُقْتَصَّ للولد من الوالد، ولو قَتَل الوالد ابنه فلا يقتل به الوالد؛ لأنه سبب لوجوده فلا يكون الولد سبباً في إعدامه؛ بل لا يجوز للولد أن يشكو أباه إلا في الميراث, ومهما تكلم عليه، أو عزَّره، أو ضربه، أو أدبه؛ فلا يجوز أن يرفع في حقه شكوى، ولا أن تسمع شكواه؛ لأنه مهما فعل فلن يجاوز ذلك خير، ولا نفع، ولا معروف أبيه و {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:60].
ويصف الرسول عليه الصلاة والسلام الرحم ويقول -كما في الصحيحين -: {لما خلق الله الرحم تعلقت بالعرش، وقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أصل من وصلكِ! وأقطع من قطعكِ؟ قالت: بلى يا رب! قال: فذلك لكِ}.
قال أبو هريرة: [[اقرأوا قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * =6004567>أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]]].
ومن الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم من عق والديه، وقطعهما في الحياة حتى بكيا من عقوقه، فذلك نسي الله فأنساه نفسه، فيأتي يوم القيامة مبتور الحجة، مجذوم الإرادة، لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.
ومن حقوق الوالدين: أن يطاعا في أي أمر أمرا به في طاعة الله، وأما إذا أمرا بالمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة، خال رسول الله عليه الصلاة والسلام، لما أسلم وشهد أن لا إله إلا الله، قالت أمه: لا آكل ولا أشرب حتى تعود من الإسلام إلى الشرك، قال: يا أماه! كلي واشربي.
قالت: قد سمعتَ، وحَلَفَتْ بلاتِها وعزَّاها ألا تأكل ولا تشرب حتى يعود، فحاورها وراودها ونازلها فرفضت، ثم قال: يا أماه! والذي نفسي بيده لو كان لك ألف نفس فخرجت نفساً نفساً على أن أعود عن دين رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين فلن أعود، فكلي أو اتركي، فأكلت.
فأنزل الله عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:14 - 15].
إذاً: فلا طاعة لهما في معصية الله.
قال الحسن: [[مَن أمرته أمه أن يصلي العشاء في البيت ويترك الجماعة فليعصها وليذهب إلى المسجد]].
إذاً لا طاعة للوالد في المعصية؛ لأنه قد وجد من بعض الآباء من يجبر أبناءه على المعصية، ويرفض أن يستقيم ابنه، فإن قصر الابن ثوبه على السنة قال: هذا لا يوافق، هذا ليس من زينا، هذا من التزمت، هذا من التطرف، فيرفض ابنه ومسلك ابنه، وهذا خطأ.
فطاعة الوالد في معصية الله عز وجل ليست واردة، لكن يطاع في طاعة الله عز وجل.(221/12)
من بر الوالدين: الإنفاق عليهما وقت العجز
ومن البر بهما: الانفاق عليهما وقت العجز عن النفقة:
وكثير من الآباء والأمهات اليوم لا يستطيعون الإنفاق على أنفسهم، لأن شبابهما وقوتهما وصحتهما وما آتاهما الله قد ضعفت، وعندما كبر هذا الشاب جحد حقهما في النفقة، وبلغ بمستواه هذا أخلاق اليهود والنصارى، فإن الذي يبلغ به العقوق إلى أن يحرم والديه النفقة فخلقه خلق اليهود والنصارى -والعياذ بالله- بل نفقة الوالدين واجبة على الولد على رغم أنفه، ومهما حاول أن يتمرد فإنه يجبر ويحبس حتى يؤدي النفقة إليهما.(221/13)
من بر الوالدين: تقديمهما على الزوج والأولاد
ومن البر لهما أن يقدم والديه على أبنائه وبناته وعلى زوجته.
فلا يقدم زوجته مهما كانت، وإن فعل فقد خان الله ورسوله، وخان دين الله وميثاقه وعهده.
إن قدم زوجته وأرضاها على حساب أمه، فهذا خائن غادر لميثاق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، بل يجب أن يكون رضا الوالدة مقدماً دائماً، فإن أراد أن يحلي زوجته، أو يلبسها، أو يطعمها، فبعد أن يرضي أمه، وأن يقدمها في كل الحقوق؛ فإن تنازلت وسمحت ورضيت فلا بأس أن يزيد لزوجته؛ لأنه أرضى قبلها أمه.(221/14)
من بر الوالدين: السكنى
قال أهل العلم: يسكنون أينما أرادوا، ولو كان في العين، فإن العين مهما ضاقت فإنها لا تضيق بالوالدين.
فمن حقوقهما: السكنى لا يسكن الولد إلا ووالداه معه؛ إلا إذا اختارا ورأيا أن المصلحة في عدم السكنى معه، لسلامة القلوب، والبعد عن الشجار والاختلاف، فلهما ذلك؛ لكن إذا أراد الوالد أو الوالدة بيتاً أو اختارا أمكنة من بيوته فيقدمان، ولهما الحق شريعة وعرفاً وميثاقاً وعهداً من الله.(221/15)
من بر الوالدين: الزيارة
ومن حقهما: الزيارة، فإذا كانا في بلد بعيد فبالاتصال، وطلب الرضا والسماح، وطلب الدعاء منهما.
ولكن كثيراً من الناس قد جهلوا هذه الحقوق، وتغمطوها، بل بلغ ببعضهم أن هجر أباه وأمه السنوات الطويلة في غضب، أو بلغ به العقوق أن لعن أباه أو أمه، أو ضرب أحدهما، أو خاصمهما حتى بكيا، فإذا بلغا إلى درجة الغضب الشديد الذي ينتج البكاء فقد عقهما عقوقاً كبيراً، وأصبح فعله هذا من الكبائر السبع التي ذكرها عليه الصلاة والسلام.(221/16)
أهمية وفضل بر الوالدين
يأتي رجل من أهل اليمن فيقول: {يا رسول الله! أريد الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله، قال: ألك والدان؟ قال: نعم.
قال: فالزمهما، فإن الجنة عند قدميهما أو رجليهما} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، والحديث عند مسلم.
وفي رواية صحيحة: {ففيهما فجاهد}.
فخدمة الوالد والوالدة أعظم من الجهاد في سبيل الله، وقد ظهر في شبابنا من يذهب إلى الجهاد -مثلاً- في أفغانستان، ولا يستأذن والديه، ويذهب على رغم أنفهما، ويغضبهما، ويريد الأجر من الله! فهذا ليس له أجر، وليس له ثواب حتى يأذن له والداه، ويسمحا له عن طيب قلب، وراحة نفس، فإذا سمحا فله الأجر والثواب عند الله.
ولذلك يقول بعض أهل العلم: أهل الأعراف الذين ذكرهم الله عز وجل بقوله: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف:46] هؤلاء يسكنهم الله عز وجل في مكان بين الجنة والنار، ليسوا في النار ولا في الجنة، قال بعضهم: هؤلاء الذين خرجوا في سبيل الله، ولكن بغير إذن الوالدين، فليسوا في النار ولا في الجنة؛ ولكن على الأعراف.
فليعلم العبد أن بقاءه في خدمة والديه، وطاعتهما، أعظم من الجهاد وحمل السيف والبندقية، وضرب أعداء الله في سبيل الله، هذا هو الجهاد العظيم الذي يأجر الله العبد عليه يوم القيامة، ثم الجهاد في سبيل الله بعد رضا الوالدين.
جاء في صحيح مسلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال وهو على المنبر: {رغِمَ أنفُ رغِمَ أنفُ رغِمُ أنفُ} وفي السنن: {رغِمَ أنفُه، قالوا: من يا رسول الله؟ قال رغِمَ أنفُه، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: رغِمُ أنفُه، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: مَن أدرك والديه أو أحدهما في الكبر، ولم يَدْخُلِ الجنة} من أدرك والديه الكبيرين أو أحدهما ولم يدخل بسببهما الجنة فأرغم الله أنفه في التراب، فهو محروم من البر والرحمة، والإحسان والحنان، والخير والتوفيق، والهداية والسداد.(221/17)
أويس القرني بر أمه فبر الله قسمه
وهذا أويس القَرَني، وهو من مراد، ونحن نلتقي معه، لكن لا نفتخر بذلك؛ فـ أبو لهب عم الرسول عليه الصلاة والسلام في النار، والنسب لا يقارب ولا يباعد، يقول عليه الصلاة والسلام: {يا بني هاشم! لا تأتوني بأنسابكم يوم القيامة ويأتيني الناس بأعمالهم} وقال عليه الصلاة والسلام: {من بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه} وعبد مولى قريب من الله عز وجل هو حبيب الله وولي الله، فـ بلال الحبشي أتى من الحبشة، كان يباع ويشترى، فلما أسلم رفع الله ذكره في الخالدين، وأصبح له قصر في الجنة كالربابة البيضاء.
يقول عليه الصلاة والسلام للصحابة وهو يحدثهم: {سوف يقدم عليكم من أهل اليمن رجل اسمه أويس بن عامر القرني} وضبط قبيلته: قَرَن.
كما قال ابن مالك:
وعدن وقرن ولا حق وشذقم وهيلة وواشق
فهي قَرَن، وليست قَرْناً.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: {له أم هو بار بها، لو أقسم على الله لأبره، فيه كالدرهم من آثار مرض البرص، يشفع يوم القيامة لمثل قبيلة مضر حتى يدخلوا بشفاعته الجنة}.
وكان رجلاً فقيراً في اليمن، ليس له مال، ولا زوجة، ولا أبناء ولا بنات.
هذا الرجل قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم عنه للصحابة: {إذا قدم عليكم فاطلبوا منه أن يستغفر الله لكم} يستغفر لـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم خير منه لكنها حكمة من الله! {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
فكان أبو بكر في خلافته كلما أقبل وفد من أهل اليمن سألهم، وقال: أفيكم أويس بن عامر القرني؟ فيقولون: لا.
فتوفي أبو بكر ولم يأت أويس،
وتولى عمر رضي الله عنه وأرضاه، فكان يسأل أهل اليمن حتى أتاه وفد الحجاج من أهل اليمن، فقال: أفيكم أويس بن عامر القرني؟ قالوا: نعم.
يا أمير المؤمنين! عندنا رجل يَرْعى الإبل لنا في الوادي، إن كان هو الذي تقصد فهو راعي غنم، ماذا تريد من راعي الغنم؟ قال: ألَهُ والدة؟ قالوا: نعم.
قال: أهو بار بها؟ قالوا: نعم.
قال: أصابه برص فبقي في بطنه كالدرهم من آثار البرص، قالوا: نعم.
فقال للصحابة: قوموا بنا إلى أويس بن عامر فركب حماره رضي الله عنه وأرضاه ومعه علي وجل الصحابة، وذهبوا إليه في الوادي، وهو في ضاحية من ضواحي المدينة، أتوا إليه، وقد توضأ وجعل عصاه سترة له إلى القبلة، يسجد ويركع ويدعو ويبتهل إلى الله، فانتظر عمر حتى انتهى أويس من الصلاة، فسلم عليه، وقال عمر: من أنت؟ قال: أويس بن عامر قال: ألك والدة؟ قال: نعم.
قال: اكشف عن بطنك، فكشف، فرأى عمر رضي الله عنه كالدرهم من البرص في بطنه، فقبل عمر بطنه، وقال: استغفر لي، فبكى أويس بن عامر، وقال: سبحان الله! أستغفرُ لك وأنت أمير المؤمنين! قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لنا: {يقدم عليكم من أهل اليمن رجل له والدة هو بها بار، لو أقسم على الله لأبره، يدخل بشفاعته مثل قبيلة مضر يوم القيامة في الجنة} فقال: غفر الله لك يا أمير المؤمنين!
فأخذ الصحابة يقولون: استغفر لنا استغفر لنا، وهو يدعو لهم.
ثم قال عمر: أتريد أن تقيم معي في المدينة؟ قال: يا أمير المؤمنين! اتركني أحيا يوماً جائعاً ويوماً شبعاناً حتى ألقى الله.
فعاد عمر وسأل عنه في اليوم الثاني فلم يجده، وسأل رفقته فلم يجدوه، وقالوا: اختفى وذهب إلى العراق وحيداً غريباً.
غريباً من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد
سكن الخرابات حتى لقي الله، وهو يشفع يوم القيامة لمثل القبيلة العربية العظيمة مضر، يدخلهم الجنة بسبب بره بأمه.
فرضي الله عن أويس، الذي استغفر لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد ذهب إلى الله ببره بأمه.
وتتكرر دائماً صور الصالحين في برهم بأمهاتهم، وصدقهم مع ربهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأحد الصالحين من السلف قام في خدمة أمه، فطلب منه كثير من الخلفاء أن يتولى لهم أعمالاً وإمرة، فقال: لا.
إمرتي في بيتي مع أمي، فقام على أمه، قالوا: كان يغسلها، ويلبسها ثيابها، ويصنع الطعام لها، ويكنس بيتها، حتى رأى في المنام قائلاً يقول: لقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر بما فعلت مع أمك.
يروي هذا صاحب الحلية وأمثاله من أهل الرقائق والمواعظ.
فيا عباد الله! يا أبناء من آمنوا بـ (لا إله إلا الله) وصدقوا بموعود الله: ما أحوجنا لبر الوالدين، والعبد كما يقول ابن تيمية: لا بد أن يقصر مع والديه، فإن ابن تيمية شيخ الإسلام، يتحدث عن أمه، فقد كانت في بلد حَّران، وهو في بلد آخر، فقال: قد قصرت معكم في الزيارة، وفي الحقوق، والنفقة، والله لو حملتني الطيور بأجنحتها لسرنا إليكم؛ لكن العبد لا بد أن يقصر مع والديه؛ فليستغفر الله، وليدرأ بالحسنات السيئات {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
فمن أغضب والديه فليدع لهما بظهر الغيب، ومن أنقص حقهما فليوفه يوماً من الأيام.(221/18)
أنواع البر بالوالدين(221/19)
من بر الوالدين تقديم القربات لهما
ومن كان عاقاً لوالديه وقد ماتا فليبرهما بعد الموت بالدعاء لهما، وبصلة قريبهما، وبالاستغفار لهما، وبقضاء دينهما،
فقد جاء في بعض الآثار: أن الرجل يموت والداه وهو عاق لهما فلا يزال يدعو لوالديه، ويستغفر لهما، ويصل قرابتهما حتى يكتبه الله في الخالدين باراً بوالديه.
وإني أوصي نفسي وإياكم يا من مات له أب أو أم: أن تقدموا لهما هدايا كل ليلة، فقد جاء في الأثر: [[ما دعا داعٍ ولا تصدق متصدق إلا أتت على أطباق من نور حتى تدفع للوالد أو الوالدة في القبر]].
وهذه آثار موقوفة على بعض السلف الصالح.
وفي صحيح مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قال: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أوعلم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له}.
فيا من فقد أحد والديه! تقدم إلى الله بالدعاء، وتصدق عن والديك، وحج عنهما واعتمر؛ فإنها تصلهما، وتكون لهما في القبر وعند الله ويثقل بهما الميزان، وكلما سجدت لله سجدة فادعُ لهما، فمهما فعلت فوالله لن توفِّ لهما الحق أبداً، وإنا لمقصرون.
ولذلك كان -عليه الصلاة والسلام- إذا سئل عن أفضل الأعمال جعل بر الوالدين هو الثاني منها.
ففي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: {يا رسول الله! ما أحب العمل إلى الله قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله}.
فبر الوالدين هو العمل الثاني الذي يلقى به العبد ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالى فيكون مأجوراً على ذلك.
وكان عليه الصلاة والسلام يتفقد أصحابه في بر الوالدين، بل ورد في صحيح مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج ليزور قبر أمه، قال أبو هريرة: خرجنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد ماتت أمه وهو طفل.
كفاك باليتم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم
خرج يتيماً؛ لكنه حوَّل العالم، وُلِد يتيماً مطروداً شريداً جائعاً ظامئاً على فاقة وفقر، ولكنه أصبح أجل إمام، وأعظم زعيم، وأنبل قائد، وأحسن رائد لقومه ولأمته، وأبرك من وجد على ظهر الأرض، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ماتت أمه وهو صغير، فلما كبر -عليه الصلاة والسلام- وأنزل الله عليه الوحي، قال: {أين قبر أمي؟} لهفة الإنسان لوالديه ولقرابته وصلة وقرب وحب وعطف، كما قال الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
تشوق عليه الصلاة والسلام لأمه حناناً بها، ولذلك كما قال الأول في قرابته لما فارقوه:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم وما جفت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
قالوا: يا رسول الله، قبر أمك على طريق المدينة، فأخذ الصحابة وذهب بهم، فدخل المقبرة، فقام يبكي عند القبر حتى بكى الصحابة.
ثم قال: {اللهم اغفر لأمي} فنهاه الله أن يستغفر لها؛ لأنها ماتت على غير الملة، حتى قال -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم: {استأذنت ربي أن أزور أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي} لأن المشرك لا يُشْفَع فيه، وقد مضوا إلى ربهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وإنما الشاهد: حنانه -صلى الله عليه وسلم- وبره بقرابته.(221/20)
من بر الوالدين صلة قرابتهما
يأتي عليه الصلاة والسلام بعدما فتح الطائف، يوزع الغنائم على الناس، وإذا بـ الشيماء بنت الحارث أخته من الرضاعة، أرضعته وإياها حليمةُ السعدية في بني سعد في جوار الطائف، وأخبر الناسُ هذه المرأة أنها أخت الرسول صلى الله عليه وسلم، فقدمت عليه، وهي عجوز كبيرة في السن، فأخذت تخترق الصفوف وعليها مظلة تظللها من الشمس، وتقول: أين رسول الله؟ فاقتربت منه صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! أنا أختك من الرضاعة، فلما سمع كلمتها قام فعانقها وبكى وأجلسها مكانه، وقام يظللها من الشمس، وأخذ يقول: كيف حالكم؟ كيف أهلكم؟ كيف أطفالكم؟ ثم قال لها: {الحياة حياتي، والموت موتي، أتريدين الإقامة معي أم تريدين الذهاب أمتعك إلى أهلك متاعاً حسناً؟ قالت: المتاع الحسن، فأعطاها مائة ناقة، وسألها أن تزوره، وأخذ يودعها وهو يبكي حتى اختفت عن العيون} والناس يلحظون بره عليه الصلاة والسلام لأن من يخاف موعود الله عز وجل يبقى باراً بقرابته وبوالديه {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
لكن بر الوالدين لا يأتي إلا بالإيمان، وبالخوف من الواحد الديان، ويوم نربي بيوتنا على (لا إله إلا الله) ونحبب المساجد لأطفالنا، ويوم نقربهم من الله، حينها ينشئون نشأة إسلامية إيمانية ترضي الله الواحد الأحد.
أما من ربى أولاده على الغناء، والتطبيل، وعلى ضياع الوقت، وقرناء السوء، والتمرد على آيات الله، فكيف يريد أن يكونوا بارين به؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
فندعو أنفسنا وإخواننا المسلمين إلى بر الوالدين، والعطف عليهما، والحنو بهما، والدعاء لهما بظهر الغيب، ومن أساء فليحسن، ومن أذنب فليستغفر، ومن قصر فليكمل، ومن كان عاقاً وقد مات والداه فليبرهما بعد موتهما؛ ليكتبه الله باراً في الخالدين.(221/21)
من بر الوالدين تعليمهما أمور الدين
ومن أعظم البر بهما تعليمهما أمور دينهما:
فإن كثيراً من الآباء والأمهات لا يعرف أحدهما الصلاة، ولا يعرف أركان الإسلام وأركان الإيمان، أو لا يعرف العلم الضروري من الشريعة، فواجبك -يا عبد الله- أن تعلم والديك، وأن ترشدهما إلى أمور الصلاة والوضوء، وأن تقربهما من الله، وأن تبعدهما مما يغضب الله؛ من شهادة الزور، والغيبة والنميمة، والاستهزاء والاستهتار، واللعن والفحش، والمعاصي ما ظهر منها وما بطن، فإنهم أعظم من تدعوهم، قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] و {الأقربون أولى بالمعروف} فدلهما على طريق الجنة، وخذ بأيديهما إلى صراط الله المستقيم، فإن من سعادة المؤمن يوم القيامة أنه إذا دخل الجنة جمع الله له قرابته إذا كانوا مسلمين.
كيف يسعد الإنسان إذا دخل الجنة وهو، يقول: أين أمي؟ أين أبي؟ أين إخواني؟ أين أبنائي؟ قال الله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] لكن بشرط أن يكونوا مسلمين، أما أبٌ مشرك وابنٌ مسلم فلا يجتعمان في الجنة، أو ابن ملحد زنديق معرض عن الله لا يجتمع مع أبيه المسلم.
فيا من أراد أن يجتمع بأسرته وبقرابته وبوالديه وبأبنائه وبناته! اعمل صالحاً، وقدهم إلى الطريق المستقيم، وجنبهم المعاصي والمنكرات، عل الله أن يجمع بينك وبينهم في دار الكرامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الشراب وتلهيها عن الزادِ
لها بوجهك نور تستضيء به ومن حديثك في أعقابها حادي(221/22)
حث الآباء على تربية الأبناء
عباد الله: براً بالوالدين، وطاعةً لهما، ويا أيها الآباء! ويا أيتها الأمهات! تعلموا حتى تربوا أبناءكم على طاعة الله، وأقيمومهم على منهج الله، وأدخلوا ذكر الله في البيوت، لتنشئوا أطفالاً مستقيمين ملتزمين، مخلصين مخبتين، عل الله أن يهدينا وإياكم، وأن يقيمنا على الطريق المستقيم.
والمآسي التي نسمعها -والعياذ بالله- مآسٍ تنبئ عن أن في بعض البيوت سوء تربية، فقد حدثنا رجل من رجال الأمن، أن أماً أتت إلى رجال الأمن وشكت ابنها، وقالت: ضربها سبع مرات، قال هذا الشرطي وكان مستقيماً: فما كان منا إلا أن داهمنا منزله، واقتحمنا عليه البيت، وأخرجناه، فضربناه ودسناه بأرجلنا، وكان يصيح: يا أماه أنقذيني! فكانت تقول: أعدمك الله، وقتلك الله، وغربلك الله كما غربلتني، ذق بعض ما ذقتُ.
هذا رجل خلع رِبْقَةَ الهداية والتوفيق عنه، وقطع الحبل بينه وبين الله، تبلغ به الدرجة وقسوة القلب ويهودية الضمير -والعياذ بالله- إلى أن يضرب أمه هذا الضرب العنيف؛ فيصبح أذل من البهيمة، وأقل من الدابة، والعياذ بالله.
فنسأل الله أن يثبتنا، ونعوذ به من الخذلان؛ فإن العبد إذا قطع ما بينه وبين الله، قطع الله ما بينه وبين والديه، وما بين قرابته والناس.
اللهم ثبتنا وسددنا، واهدنا ووفقنا.
ونكتفي بهذا القدر، ليكون ما بقي من وقت للأسئلة، عل الله أن ينفع ويهدي سواء السبيل.
وأكرر شكري للقائمين على هذا النادي، ولكم أيها الحضور.
ونسأل الله أن يجمعنا هناك في دار الكرامة، في مكان أحسن من هذا المكان وأوسع وأصفى وأرَقُّ.
فلما جلسنا مجلساً طله الندى جيملاً وبستاناً من الروض دانيا
أثار لنا طيبُ المكان وحسنُه مُنَىً فتمنينا فكنتَ الأمانيا
اللهم اجعل أمانينا جنة عرضها السماوات والأرض، في جوارك يا رب العالمين! فقد سئمنا الحياة، حياة الهم والغم والحَزَن.
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(221/23)
الأسئلة(221/24)
كيفية تعليم الوالدين الصلاة
السؤال
علَّمتُ والدي كيفية الصلاة مرات عديدة، ونصحته كثيراً؛ ولكن الاستجابة قليلة، فما هو توجيهكم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أثابك الله على ما فعلتَ وسددك، وهذا هو الواجب أن تعلمه، لكن كيف علَّمتَه؟ وما هي الطريقة التي تعلمه بها كيفية الصلاة أو أي مسألة؟ إنما هي طريقة اللين والحكمة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
وأحق الناس بالحكمة واللين: الوالد والوالدة، فحاذر أن تكون عنيداً في تعليمهما، فتنفُر قلوبهما، فلا يستفيدان.
وعليك أن تعلِّم والدك بطريقة العمل أكثر من طريقة الكلام؛ كأن تصلي أمامه، أو تقول له: هذه الصلاة التي كان يصليها صلى الله عليه وسلم، وتصلي أمامه الصلاة الشرعية التي أتى بها صلى الله عليه وسلم وصلاها.
وإن لم يقبل منك فلتأتِ برجل أو بطالب علم أو بداعية فيعلمه الصلاة وكيفيتها، أو تأتي بشريط إسلامي، أو بكُتيب، أو بأي طريقة.
وإذا فشلت في المرة الأولى، فحاول في الثانية، وفي الثالثة، واصبر حتى يتعلم منك وبشكل تدريجي، ولا تعلمه دفعة واحدة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتدرج في التعليم
فالمرة الأولى تعلمه الفاتحة، حتى يحفظها، وتستمر معه، والمرة الثانية تعلمه التحيات، والمرة الثالثة تعلمه كيفية السجود والركوع، والمرة الرابعة تعلمه السنن، والمرة الخامسة تعلمه كيفية الجلوس، وهيئة الخشوع في الصلاة.
وحينها تنجح معه بإذن الله، وثوابك، وأجرك على الحي القيوم.(221/25)
حكم الحلف برءوس الأولاد
السؤال
ما حكم من حلف على رءوس أولاده؟ وهذا كثيراً ما يحدث من النساء، أرجو التوجيه في هذا؟
الجواب
إن كان القصد أنه حلف على رءوس أبنائه مثل المباهلة التي فعلها صلى الله عليه وسلم مع النصارى، أن جمع علياً وفاطمة والحسن والحسين، وهذه تحدث كثيراً في الخصومات، كأن يأتي رجل يخالف رجلاً في مسألة، فيقول: تعال أباهلك على أهلي وأهلك، والعرب تفعلها، وهذا هو آخر الأيمان، ولعل السائل لا يقصد هذا، لكن للبيان: هذا كان يفعله العرب، كان الواحد منهم يأخذ أطفاله فيحلف عليهم، ويباهل الرجل الآخر، ويقول: إن كنتُ صادقاً فأبقى الله لي أبنائي وسلمهم، وإن كنتُ كاذباً فحصدهم وحشرهم وأخذهم.
وهذه من يفجر فيها عقوبته كما هي سنن الله عز وجل أن يموت في الحال، وإذا خرج بدوابه ثم حلف عليها ماتت، أو على مزارعه أعدمها الله عز وجل، وهذا لم يرد فيه نص فيما أعلم، إلا في المباهلة لأعداء الله عز وجل.
وإن كان قَصْد السائل أن الرجل أو المرأة يجمع أبناءه، ثم يحلف ويقول: على رءوس أبنائي، فهذا ليس بوارد، ولا يزيد في اليمين ولا ينقصها، وإذا حلف فبر بيمينه فأحسن، وإذا حنث، فعليه كفارة.
أما اليمين الغموس، وهي التي يقتطع بها حق امرئ مسلم، فسواء حلف على رءوس أطفاله وأولاده أو لم يحلف فهذا يحاسبه الله، ولا يكلمه، ويكون عليه غضبان يوم القيامة، ولو كان على قضيب من أراك؛ لأن بعض الناس يقول: أحلف على أموال الناس وأكفِّر بإطعام عشرة مساكين، وهذا خطأ وافتراء على الله، فاليمين قسمان:
يمين غموس، ويمين مكفرة.
فإن حَنثَ أحدٌ في اليمين الثانية، كأن يحلف ألا يذهب إلى رجل، أو لا يأكل عنده، أو لا يركب سيارته، ثم فعل فليكفر كفارة يمين: إطعام عشرة مساكين.
أما إن حلف على أموال الناس، كأن يحلف على سيارة لأحد الناس، أو على قطعة أرض، أو مزرعة، أو بيت، أو ميراث، كاذباً فاجراً، فهذا لا ينظر الله إليه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم، ويُطَوَّق بهذا الملك من سبع أرضين، يأتي بها يوم القيامة مطوقة في عنقه حتى يُفْصَل بين الناس.(221/26)
حكم التفضيل بين الأولاد
السؤال
فضيلة الشيخ! بعض الآباء يثني على أحد الأولاد ويقدمه على الآخر، فما حكم ذلك؟
الجواب
هذا من سوء التربية، وقد حذر منه أهل العلم، أن يأتي الرجل فيمدح أحد أبنائه على مرأى ومسمع من الآخرين، خاصة إذا أزري بالثاني، وقال: أنت يا فلان نجيب وجيد، وذكي وفطن وعاقل، وأنت يا فلان سفيه ومعرض ومتمرد، وفيك كَيْتَ وكَيْتَ، فهذا من سوء التربية، وتؤدي إلى نتائج لا يعلمها إلا الله؛ ولذلك قال أهل العلم: يقول يعقوب لابنه في القرآن الكريم: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5] فسبب الكيد:
أولاً: أن يوسف أخبر إخوته بالرؤيا.
ثانياً: أن إخوة يوسف احتجوا أن {قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8]
انظر كيف تشاور أحد عشر ابناً في ظهر الغيب، وقالوا عن أبيهم، وهو نبي من الأنبياء عليه الصلاة والسلام، قالوا: أخطأ خطأًَ بيناً، كيف يقدم يوسف علينا؟ قال بعض العلماء: كان عليه السلام معصوماً، لكنه كان ينظر إلى يوسف أكثر في المجلس، ما قدمه بكسوة، ولا بطعام ولا شراب، وإنما كان ينظر إلى يوسف؛ لأنه يحبه أكثر منهم، وكان يوسف قد أوتي شطر الحُسْن في العالم، فالحسن قسمان: قسمٌ ليوسف، وقسمٌ وزَّعه اللهُ على الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
كان يوسف كالقمر ليلة البدر، فكان ينظر إليه يعقوب معجباً به، فقالوا في القرآن الكريم: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8].
فكانت النتيجة أن قالوا في القرآن الكريم: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف:9].
قال الحسن: [[رحمهم الله أجمعوا على العمل، وأجمعوا على التوبة قبل أن يعصوا الله عز وجل فغفر الله للجميع]].
والمقصود: أن هذا الفعل من سوء التربية، ونحذر من هذا الفعل؛ لكن لك أن تذم الابن، وتعزره بكلام ليرتدع، إن كان في ذلك من التربية، كأن يكون مخلاً بالصلاة، أو ليس مثابراً على الدراسة والعلم، فلا بأس أن تسبه أمام أهله؛ لكن بشرط ألا تمدح ذاك أمامه، أو تقول: لستَ كأخيك، أو تقدمه بجائزة.
فقد ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام أتاه والد النعمان بن بشير وقال: {يا رسول الله! نحلتُ ابني هذا مزرعة، فقال عليه الصلاة والسلام: أكل ولدك أعطيته كذلك؟ قال: لا، قال: استشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على زور} فمنع صلى الله عليه وسلم تقديم بعض الأبناء على بعض، فلا يجوز أن تقدم بعض الأبناء على بعض في جائزة، أو هدية، أو عطية، أو ملبوس، حتى تساويهم جميعاً، إلا إذا رضي أحدهم وسامح فلا بأس بذلك.(221/27)
العلم النافع سبب لرضوان الله
السؤال
فضيلة الشيخ! عندي أخت تدرس المرحلة الثانوية، ولكنها لم تستفد من علمها، لا في المحافظة على الصلاة في وقتها، ولا في تعاملها مع والدتها، إذ تعاملها معاملة لا يصح نسبتها إليها، أرجو التوجيه حول ذلك؛ لأنني -إن شاء الله- سوف أسمعها المحاضرة عن طريق الشريط، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
نعوذ بالله من علم لا ينفع، والعلم الذي لا ينفع هو الذي يُحْفَظ ثم يُعْرِض صاحبه عن ذكر الله عز وجل، وعن إقامة الفرائض، وأوامر الله، وينسى حدوده.
وهذه الفتاة ندعوها إلى الهداية؛ أن تعود إلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن تتقي الله في والدتها، وتتقي الله في نفسها أولاً، وأن تطيع ربها، فإن دراستها لا تنفعها بل تبعدها وتغضب الله عليها، فأول ما فعلت أنها تهاونت بالصلاة، وتركت كثيراً من فرائض الله عز وجل عليها، فهذا علامة الخذلان، وهي بهذا العمل تشهد على نفسها بالفجور -والعياذ بالله- وما سبب ذلك إلا الخذلان، يوم أعرضت عن منهج الله، أو أن هناك وسائل تربت عليها من فيديو مُهَدِّم، أو مسلسلات مخربة، أو أغنية ماجنة، أو مجلات خليعة، أو اتخذت أخداناً -والعياذ بالله- بظهر الغيب، فهذا كله من الخذلان، والإعراض عن منهج الله.
فيا أيتها الشابة المسلمة! ويا كل مسلمة! إن العلم النافع هو الذي يقودك إلى رضوان الله، قال الله: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34].
يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا أطاعت المرأة ربها، وأطاعت زوجها، وصلت خمسها، وصامت شهرها، دخلت جنة ربها}.
فالعلم المطلوب للمرأة هو العلم الذي يوصلها إلى رضوان الله، فتكون طائعة لوالديها، متحجبة، تحفظ سمعها وبصرها وفرجها، لا تتخذ أخداناً، ولا تستمع غناءً، ولا تطالع مجلات خليعة، ولا تكون مضيعة لحقوق الله، حينها يرضى الله عنها، أما إذا عاشت الفتاة على هذا الحال فنعوذ بالله من مصير سوف تنقلب إليه، ومن حياة سوف تشرف عليها، ومن تعاسة سوف تنتظرها، فإن من تعثر في طريق الهداية عثر الله حياته حتى يلقى الله وهو مخذول، ومن أعرض عن الهداية سلب الله إرادتَه ورشده، حتى يعيش وكأنه مجنون والعياذ بالله {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].(221/28)
حرمة لبس السراويل القصيرة أو النظر إلى من يلبسها
السؤال
فضيلة الشيخ! ما حكم اللعب بالكرة مع لبس السراويل القصيرة التي لا تستر العورة؟ وما حكم النظر إلى من يلعبون بتلك السراويل؟
الجواب
صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث جُرْهَد أنه قال: {غَطِّ فخذك فإن الفخذ عورة} وعورة الرجل من السرة إلى الركبة، فلا يجوز له كشفها، واللباس الذي لا يصل إلى الركبة فليس بلباس شرعي، ولو أن فيها فتيا ضعيفة من بعض الناس، لكن الصحيح أن الفخذ عورة، وعلى شباب المسلمين إذا لعبوا الكرة أن يغطوا أفخاذهم من السرة إلى الركبة بساتر، ولا يجوز النظر إلى من لم يفعل ذلك، أو مشاركته في اللعب، أو النظر إليهم أبداً، فقد عصوا الله بهذا الفعل، وقد بُيِّنَ هذا في أكثر من فُتيا وأكثر من مناسبة.
ومن مآسي بعض الأندية: أنهم يجعلون وقت اللعب وقت الصلاة، وهذه سيئة كبرى -والعياذ بالله- ومن مآسيهم أيضاً: أنهم يوالون عليها ويعادون؛ فيصرفون الحب والبغض لأجل الأندية، فيحبون على حساب هذا النادي ويبغضون، حتى بلغ ببعض الناس ممن سمعنا من الثقات أنه طلق زوجته؛ لأنها تشجع فريقاً، وهو يشجع فريقاً آخر، وهذا صحيح، بعد أن انتصر فريقها ومنتخبها الذي تحبه أكثر من الله ورسوله، قالت: ذُقْ يا فلان! انهزم فريقك.
قال: ذوقي أنتِِ يا عدوة الله! فأخذت ترد عليه ويرد عليها، حتى طلقها بالثلاث، وهذه نتيجة خواء القلوب من الإيمان، وعدم استقبالهم وطاعتهم للواحد الديان، وشرورهم عن منهج الله الذي أنزله للناس، وإلا فحياة تبنى على هذا، إنما هي كحياة البهائم {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].(221/29)
حكم مصافحة النساء
السؤال
عندي مشكلة وهي مصافحة النساء ولا سيما الكبار في السن، فإذا امتنعت قالوا: هذا متشدد، ويقولون: القلوب نظيفة، والإيمان في القلب، فما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب
مصافحة النساء الأجنبيات ليس بجائز ولا بوارد، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يصافح في حياته امَرْأة لم تحل له، بل لم يمس يدها، وكان صلى الله عليه وسلم -كما في السِّيَر بأسانيد جيدة- يبايع النساء، فمدت هند يدها، لتصافح بها الرسول عليه الصلاة والسلام، فرفض صلى الله عليه وسلم وامتنع وقال: {ما هذه اليد التي كأنها يد سبع} لأنها ما كانت تختضب، ولا تأخذ من أظفارها، وهذه لها مناسبة أخرى.
إنما المقصود: قالت عائشة: {ما مست يد الرسول صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا تحل له}.
فمصافحةُ الأجنببات منكر، وهذه عادة سيئة جاهلية، ما أنزلها الله في كتابه، ولا رسوله عليه الصلاة والسلام.
أما قول الأخ السائل: قلوبهم نظيفة، فلا والله! لو كانت نظيفة لاتبعت الكتاب والسنة، لكنها سيئة ومظلمة، ومتأخرة، ومعارضة لكتاب الله ولسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبقي هؤلاء على قلوبهم النظيفة إلى أن أتت فاحشة الزنى -والعياذ بالله- والفاحشة الكبرى، والله يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] يقال لبعض الناس: حجبوا نساءكم، لا يجوز للضيف الأجنبي أن يجلس مع المرأة الأجنبية، فيقولون: قلوبنا نظيفة، قلنا: بل مظلمة {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] كيف يكون شيءٌ يخالف منهج الله ويكون نظيفاً؟! بل هو سيئ ووسخ والعياذ بالله.
إذا علم هذا؛ فالحذار الحذار من اختلاط الأجانب بالأجنبيات، وقد وجد أن بعض الناس يخرجون في رحلات جماعية، فيجلس الرجال والنساء سوياً في مقعد واحد وتحت شجرة، ويتحدثون ويتمازحون، وينظر هذا لزوجة هذا وهذا لزوجة ذاك، وهذا مُنْكَر، وليس من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وهو محاربة لشريعة الله، وفي بعض البيوت ينظر الأخ لزوجة أخيه، ويأخذ الشاي منها، ويجلس معها، ويتحدث معها، ويأكل معها، ويذهب أخوه ويسافر، ويدعهما في المنزل ليس معها أحد، وربما سافر معها في السيارة، أو أوصلها إلى المستشفى، وقد أتت منها -والعياذ بالله- نتائج وخيمة، من فاحشة كبرى، وأمور تغضب الله عز وجل، فحكم الله لا بد أن يمتثل، ولا تقدم العادات والتقاليد بحجة أنهم نِظَاف القلوب، فلم تأتِ الجاهلية والمنكرات -والعياذ بالله- إلا من هذه الأفاعيل.
ومنهج الله عز وجل هو المقدم.(221/30)
بر الوالدين متعلق برضاهما
السؤال
ما رأي فضيلتكم في الذي ينام أو يسكن في الدور العلوي وأمه في الدور الأرضي؟
الجواب
إذا كانت أمه راضية، وطلب منها واستسمحها، وكانت رغبتها في الدور الأرضي فنعم؛ لأن بعض الأمهات تكون كبيرة ولا تستطيع الصعود إلى الدور العلوي، فتكون -مثلاً- في الستين أو المائة من عمرها، أو لا ترى ولا تبصر، فالأحسن لها أن تكون في الدور الأرضي دائماً، فإذا طلبت ذلك وسامحت ورضيت فله ذلك.
وبعض الناس يتصور أن بر الوالدة أن تكون ساكنة معه، وهذا ليس بصحيح، بل قد تكون معه في الغرفة التي ينام فيها، وهو عاق لها، وقد تكون في مدينة وهو في مدينة وهو بارٌّ بها، لأن البر هو إرضاؤها، فلا يتصور إنسان أنه إذا سكنت أمه معه في بيته فإنه قد أبرها، بل قد يضربها في الصباح والمساء فيعقها، وقد تكون بعيدة عنه وهو بار بها، وهي راضية؛ فالرضا هو المطلوب.
وإذا سامحت وجوزت فلا بأس بذلك، حتى ولو قدم زوجته في بعض الأمور إذا سامحت أمه، كأن يسافر بزوجته أو يزيدها من الحلي، أو الملابس، أو السكنى، فإن قالت: عفا الله عنك ورضيتُ وسامحتُ، فهو مأجور ومشكور، وقد فعل الخير والأصوب.(221/31)
واجب الأبناء تجاه خصومة الأبوين
السؤال
كثيراً ما تحصل مشاجرة بين والديَّ على أتفه الأسباب، وكثيراً ما أحار في الإصلاح بينهما، فبم تنصحني جزاك الله خيراً؟
الجواب
أنصحك أن تلزم الحياد، وألا تتدخل، وأن تبقى بعيداً، وإذا ارتفعت شرارة الوقود والحرب فقف ليناً وداعياً إلى الهدوء والسكينة، وتهدئ الأمر؛ لأنك إذا وقفت بصف الأم عققت الوالد، وإذا وقفت بصف الوالد عققت الأم، إلا إذا بلغت الأمور مبالغها، كأن ترى الوالد يضرب الأم فلك أن تأخذ بيده من باب الإصلاح، لا من باب القيام في جانب الأم؛ لأن هذا يُحدث عند الأب والعياذ بالله عقوقاً، وربما يأخذ عليك، ويتصور منك العداء له، فعليك أن تلزم الحياد، وأن تكون بجانب الإصلاح دائماً وأبداً، وأن تهدئ من الوضع، وألا تتدخل في الشئون الخاصة، وليس كلما سمعتهم في مسألة تتدخل ما نتيجة المسألة؟ ما سببها؟ لماذا؟ هذا ليس مطلوباً منك، ولكن الإصلاح هو المطلوب، والحياد أن تكون من دول عدم الانحياز.(221/32)
حكم أداء الحج والعمرة عن الأبوين وهما أحياء
السؤال
فضيلة الشيخ! هل يجوز لي أن أعتمر لوالدتي وهي لا تزال حية؟
الجواب
إذا كانت الوالدة لا تستطيع، وأصبحت عجوزاً كبيرة مسنة، أو مريضة؛ فلك أن تعتمر عنها، ولو كانت على قيد الحياة؛ لأن الخثعمية كما في الصحيحين قالت: {يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير لا يثبت على الراحلة، أفأحج عن أبي؟ قال: نعم.
حجي عن أبيك واعتمري} وهو حي.
والجهنية سألت عن أمها، فأجازها صلى الله عليه وسلم.
فتحج بشرط ألا تستطيع، أما أن تكون قوية ومستطيعة وقادرة فلا؛ بل تذهب معك.(221/33)
جواز طلب الإمامة لا سيما إذا كان فيها إرضاء للوالدين
السؤال
شيخنا! إن والديَّ يريدان أن أكون إماماً بأحد المساجد كي يستفيدا من راتبي، فهل أطيعهما في ذلك؟
الجواب
أطعهما في ذلك بشرط أن تكون نيتك لوجه الله عز وجل، وألا تكون الإمامة من أجل هذا الراتب، ويكون مقصدك من أجل أن تنفع المسلمين، وأن تكون إماماً؛ لأن الإمامة في الإسلام مطلوبة، قال الله عز وجل: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] وقال عثمان بن أبي العاص فيما صح عنه: {يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم}.
فاطلب الإمامة، واقصد بها وجه الله، وخذ هذا الراتب الذي يصرف من الأوقاف؛ بشرط أن تداوم على الفرائض في المسجد، وأعطه والديك، فتكون باراً من جهتين: أنك أحسنت لنفسك فكنت إماماً، وكنت متبوعاً ومقتدىً بك في الخير، وبررت والديك لأنهما قد يحتاجان للمال، وليس عندك وظيفة، ولا عندهم دخل، فأحسن إليهما بهذا الفعل، والله يأجرك.(221/34)
لا يسأل بوجه الله إلا الجنة
السؤال
كثيراً ما يسأل والدي بوجه الله، فما حكم ذلك؟
الجواب
يقول عليه الصلاة والسلام: {لا يُسْأل بوجه الله إلا الجنة} فحذار حذار من التبذل بهذه الكلمة، وجه الله عظيم، وعزيز، وكبير، وكريم، ومن يفعل هذا فقد أخطأ وأساء وارتكب ذنباً، وعليه أن يستغفر، وهذه العادة منتشرة بين الناس؛ أنهم يدعون بوجه الله عند العزومة والدعوات والأمور التافهة، وهذا من قلة الورع، وقلة التقوى والعياذ بالله! وهو من عدم احترام حدود الله وحرماته وشعائره.
فوجه الله عظيم، لا يُسْأل به إلا الجنة {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].(221/35)
حال أهل الأعراف
السؤال
لقد ذكرت في محاضرتك أن رجالاً يسكنون بين الجنة والنار، فهل هم منعمون بخيرات الجنة؟
الجواب
ذكر أهل التفسير في هؤلاء الرجال أقوالاً منها:
أنهم أناس تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فأنزلهم الله في الأعراف، لكن لا بد لهم من دخول الجنة فيما بعد؛ لأنهم من الموحدين، ومنتهى الموحد ولو دَخَل النار أن يُدْخَل الجنة.
وقال بعضهم: هم الشهداء الذين لم يستأذنوا والدِيهم قيل:
وأهل الأعراف مُنَعَّمُون، لكن قيل: إنهم في جبال تشبه جبال الدنيا، وشجر الدنيا، ومثل ماء الدنيا، ودور الدنيا، وهذه ليست كالجنة، فإن موضع السوط الواحد فيها يعادل الدنيا وما فيها.
وأقل أهل الجنة منزلة يملك عشرة أمثال ملك في الدنيا، قصره في الجنة كالربابة البيضاء، أي: كالسحابة، يركب هو وأهله في القصر، فيمشي بهم في سماء الجنة، من قصر إلى قصر، وكل هذه الأراضي التي يجتازها ملك له، وهو من أقلهم منزلة.
الخيمة الواحدة طولها في السماء ستون ميلاً، يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها.
والشجرة الواحدة في الجنة لا يقطعها الراكب على الفرس المُجِدِّ إلا في مائة عام.
وهم فيها لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يمتخطون ولا ينامون، ولا يهتمون ولا يحزنون ولا يغتمون، قلوبهم على قلب رجل واحد، خلا من الحقد والحسد، نزع الله الحقد والحسد يوم دخلوا الجنة، وجوههم كالقمر ليلة أربعة عشر.
ولباسهم الإستبرق والحرير، وأساورهم الذهب والفضة كما وصف الله، ومهما وصف الواصفون فلن يبلغوا حقيقتها، نسأل الله رحمته وأن يدخلنا جنته.(221/36)
يجب طاعة الأم مهما كانت الأسباب
السؤال
فضيلة الشيخ! أنا شاب متزوج، ومقر عملي بعيد عن القرية التي أسكنها بحوالي (500) كيلومتر، وبعد مضي ستة أشهر من زواجي أردتُ أن أذهب بزوجتي إلى المدينة التي فيها عملي، فرَفَضَت والدتي، وأصْرَرْتُ على السفر بزوجتي، فبكت أمي وأخذت تسبني، فماذا أفعل بأمي، حيث أنها غضبانة، وقد ذهبت بزوجتي؟
الجواب
لقد أخطأت بهذا العمل، وعصيت الله عز وجل عندما أبكيت أمك، وجرحت شعورها، وكسرت قلبها، فأنت بالخيار:
إما أن توافقك أمك بالذهاب معك ومع زوجتك؛ لتقوم ببرها وخدمتها، فلك ذلك، وإما أن تُبقِي زوجتك مع أمك، وهذا هو المفروض عليك.
ولا تفعل ما فعلتَ من الخطأ، واستغفر الله وتب إليه، وخير أمك بأحد الأمرين: الذهاب معك، أو أن تبقى زوجتك معها في القرية أو المكان الذي تسكن فيه.(221/37)
حكم قول الأشعار التي فيها ذكر الحروب بين القبائل
السؤال
فضيلة الشيخ! والدي وبعض كبار السن كثيراً ما نسمع منهم بعض الأخبار عن الحروب التي حدثت في الماضي القريب، ونراهم يمجدون فلاناً؛ لأنه قتل فلاناً من الناس، ويكيلون المدح له، نرجو أن توضح في هذا الأمر توضيحاً كاملاً؟
الجواب
ذكر الحروب التي جرت من قبل عشرات السنوات فيما يسمى بالجاهلية عند الآباء والأجداد، هذه عصبية جاهلية، وهم ما فتحوا بها بدراً، ولا أحد ولا حنيناً ولا حضروا القادسية، ولا اليرموك، كلها قتل للشيطان ومن أجل الشيطان والجاهلية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا بليتم فاستتروا} فليس ذاك بمدح أيتمدح على الناس بقتل المسلمين؟! فليستتر ويسأل الله عفوه ورضوانه كيف يمدح قبيلته على أنها هاجمت القبيلة الأخرى المسلمة؟! هذه والله وصمة عار، وهذا عيب لا يُعْرض في المجالس، بل يُتابُ ويُسْتَغْفَر منه.
أما أن فلاناً ذبح الناس فما ذبح اليهود ولا النصارى ولا الشيوعيين، بل ذبح إخوانه المسلمين، وهذه كبيرة عظيمة.
وبعض الآباء يذكرون السرقة أو الزنا -والعياذ بالله- أو القتل، وهذا ليس من منهج الإسلام تجاه العصاة، بل هم من المجاهرين.
فعلى العبد إذا أذنب أن يستغفر، ويتوب، ويستتر، ولا يخبر الناس بما فعل؛ عَلَّ الله أن يتوب عليه؛ فإن الله يغفر لكل الناس إلا المجاهرين، أما أن يذكر قبيلة ذبحت قبيلة أخرى؛ فهذا ليس بمجد ولا فخر، وإنني أُنَدِّد مِن هذا المكان بالشعراء النَّبَطِيِّين، هؤلاء القَبَليون الجاهليون الذين يمدحون القبيلة أنها صبَّحت القبيلة الفلانية، وذبحت منهم وأخذت هؤلاء جهلة سفهاء، والواجب أن يؤخذ على أيديهم، وإذا حوكموا إلى القضاة يُعَزَّرون تعزيراً بالغاًَ، ويجلدون، ويوقفون عند حدودهم، ويحبسون؛ لأنهم حاربوا شرع الله وكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
كان الجدير بالشاعر من هؤلاء الشعراء أن يمدح الإسلام، أو يذكر الجنة والنار، أو يتحدث عن الآداب والأخلاق الإسلامية، ويسب الكفار، أَمَّا أن يواشي بين القبائل ويعادي بينها، فهذا عدو لله، وقد عصى الله بفعله هذا.
فعلى العبد أن يتوب ويستغفر، لكن لا بأس أن تتحدث عن أخبار الجاهلية، مثل: الجوع والفقر الذي مر بالناس؛ لأن هذا من ذكر نعمة الله الموجودة، ومن ذكر ما كان عليه الناس؛ لينشط الشباب لذلك، ويحمدوا الله عز وجل على هذه النعم.(221/38)
حرمة المسجد
السؤال
من عادات الناس في بلدتنا أن يتقدم المتزوج أو قريبه يوم الجمعة في المسجد بعد أن يسلم الإمام ويقول: عندنا زواج يوم كذا، ويدعو الناس، فهل يجوز دعوة الزواج في المسجد؟
الجواب
ليس للإنسان أن يتحدث بزواج في المسجد، قياساً على حديث إنشاد الضالة، والرسول عليه الصلاة والسلام صح عنه أنه قال: {من سمعتموه في المسجد ينشد ضالة، فقولوا: لا ردها الله عليك} وورد حديثٌ عند الحاكم بسند صحيح: {ومن سمعتموه يبتاع ويشتري في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك} ولا تقام الحدود في المسجد، وهذا مثل أن يحول المسجد إلى عزائم، فكل ذلك لا يجوز.
لكن للإنسان أن يقول في المسجد: يا جماعة، أو يا إخوان! نريدكم في كلمة، ثم لا يتكلم حتى يخرجوا خارج المسجد، أو يخرج هو وينتظرهم ويجمعهم خارج المسجد فيكلمهم.
ثم هناك ظاهرة لا تجوز: وهي أن يقوم إنسان فيشكو من رجل، أو يقول: يا جماعة الخير! إني سادعو على فلانٍ الذي ظلمني فأمنوا، هذا من فعل الجاهلية، ولا يجوز أن يُدعى معه، ولا يؤمن على دعائه؛ لأنه أتى بفعل بدعي ما أنزل الله به من سلطان، وهو يدعو على المسلمين بفعله هذا، فهو ولو جَارَ عليه أخوه المسلم فهو مسلم؛ لكن لا يوافَق، بل يؤخذ على يديه، أو يشكو إلى بعض الناس، أو يقول: سيارتي سرقت، أو بيتي سرق، فلا يجوز التشكي إليهم إلا إذا خرجوا خارج المسجد.(221/39)
لا يبنى المسجد إلا على أرض طاهرة
السؤال
مجموعة من البيوت لا يوجد حولها مكان لإقامة مسجد، وعند أحد هؤلاء مكان تقف فيه السيارات تحته بيارة، هل يجوز بناء المسجد على هذا المكان؟
الجواب
لا يجوز بناء المسجد على البيارة مباشرة؛ لأنها أكيد ومُتَيَقَّنٌ أنها نجسة، فعليه أن يبحث عن مكان آخر، أو ينضح ما بهذا المكان ويطهره وينظفه إذا اضطر إليه، أو يحول ماء هذه البيارة إلى مكان آخر، فإن أصبح المكان طاهراً وطيباً فلا بأس.
أنا أقول: هذا هو الرأي الراجح والصحيح، ولو أن بعض أهل العلم قالوا: إذا بُنِيَ على هذا المكان فقد أصبح مرتفعاً دوراً ثانياً فلا بأس؛ لأن الحسن البصري يقول في صحيح البخاري: [[لا بأس أن يُصَلَّى على القناطر التي يَمُر من تحتها ماءٌ نجس]] فقاسوا على ذلك البيارات؛ لكن أقول: الأحوط والأحسن والأقرب ألا يفعل ذلك، وليبحث عن مكان آخر أطهر؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(221/40)
أسئلة يجيب عليها رسول الله
عرض الشيخ مجموعة من الأسئلة التي أجاب عليها النبي صلى الله عليه وسلم, وهي أسئلة متنوعة في أبواب متفرقة, وقد كانت إجابات النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه مرة على قدر السؤال، ومرة زيادة عن قدر السؤال، ومرة مخالفة للسؤال وذلك للتنبيه على ما هو الأفضل، والأولى أن يسأل عنه.(222/1)
تخريج بعض الأحاديث النبوية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين, وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
عنوان هذا الدرس: أسئلة يجيب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحسبك به فصاحةً ونبلاً وفهماً وتقوى، ولكن قبل ذلك أقول:
حضرنا مجلساً عذباً طرياً بذكر الله يزهو بالأحبة
فذكَّرنا بصحب رسول ربي فقلنا حيِّه ربي وصحبه
هنا أحاديث عرضت يطلب الإجابة عليها.(222/2)
حديث: (قل الحق ولو كان مراً)
السؤال
حديث: {قل الحق ولو كان مراً} من رواه؟ ومن خرجه؟ وما درجته؟
الجواب
رواه من الصحابة أبو ذر، وخرَّجه ابن حبان، وهو صحيح.(222/3)
حديث: (أول الوقت رضوان الله)
السؤال
حديث: {أول الوقت رضوان الله, وأوسطه رحمة الله, وآخره عفو الله} من خرَّجه؟ وهل هو صحيح أم لا؟
الجواب
هذا الحديث رواه الدارقطني بسند ضعيف, بل واهٍ جداً عن أبي محذورة , وفي سنده يعقوب بن الوليد المدني، قال عنه الإمام أحمد: من الكذابين الكبار، أي: وزنه كبير في الكذب.
وقال أبو حاتم: جبل في الكذب.(222/4)
حديث: (لا يُؤمَّن أعرابي مهاجراً)
السؤال
حديث: {لا يَؤمَّن أعرابي مهاجراً, ولا فاجر مؤمناً, ولا امرأة رجلاً} من رواه، وما مدى صحته؟
الجواب
رواه ابن ماجة بسند ضعيف فيه عبد الله بن محمد العدوي ضعيف، وفيه غيره من الضعفاء.(222/5)
حديث: (أحلت لنا ميتتان)
السؤال
حديث: {أحلت لنا ميتتان ودمان: أما الميتتان فالطحال والكبد، وأما الدمان: فالحوت والجراد} من رواه؟
الجواب
هذا الحديث رواه ابن ماجة بسند فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.
فالحديث ضعيف.
لكنه مرفوع حكماً، وهو من كلام ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه.(222/6)
حديث: (إتقان العمل)
السؤال
حديث: {إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه} ما صحة سنده؟
الجواب
رواه البيهقي في الشعب بسند حسن عن عائشة، وله رواية أخرى حسنة.
والآن نترك الحديث إلى صاحب الحديث, والكلام إلى صاحب الكلام, والنطق إلى صاحب النطق.
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
وإني لأستغشي وما بي غشوة لعل خيالاً منك يلقى خياليا
فعليه الصلاة والسلام ما صدح البلبل على الشجر, وما هتف الغرنوق على المدر, وما هطل المطر، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(222/7)
أقسام الأجوبة عند العرب
الأسئلة عرضت في القرآن وأجاب الله عنها والعرب تقول: الأجوبة ثلاثة أقسام:
جواب الحكيم، وجواب المطابق، وجواب المستهتر.
الإجابات ثلاثة أقسام: حكيم يجيبك بحكمة، وحكيم يجيبك بمطابقة، ومستهتر.
فأما جواب الحكيم فهو: أن تسأل عن شيء فيترك سؤالك ويأتي بجواب لسؤال آخر.
وأما المطابق فهو: أن يعطيك على قدر ما سألت.
وأما المستهتر فهو: أن يترك سؤالك, ويهزأ بك ويسخر.
وسوف آتي بأمثلة على ذلك: أما جواب الحكيم، فكقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة:189] السؤال من الكفار سؤال سخيف تافه، ومعناه: يسألونك كيف يبدو الهلال صغيراً ثم يكبر ثم يصغر؟ وهل الرسول عليه الصلاة والسلام مشغول بالأهلة.
لماذا يكبر الهلال ثم يصغر؟! هذا سؤال سخيف.
فترك الله الإجابة على هذا السؤال وأجابهم على سؤال آخر، إذ كان من الأولى أن يكون
السؤال
ما فائدة الأهلة؟
فقال الله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] فأخبرهم بجواب لسؤال ما سألوه، ولسان الحال يقول: لماذا ما سألتم هذا السؤال المفيد, وتركتم هذا السؤال الخائب خيبة وجوهكم السود سواد مبادئكم؟! هذا جواب الحكيم.
أما جواب المطابق؛ فكقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة:222] يسألونك عن المحيض أهو طاهر أم نجس؟ فأجابهم بالمطابقة.
أما جواب المستهتر: فهو كثير في كلام العرب، وقد ذكر الذهبي أمثلة على ذلك مثل الأعمش -المحدث الكبير راوية البخاري ومسلم فقد كان يمزح كثيراً، سأله رجل عن الصلاة وراء الحائك هل تجوز أم لا؟
قال: نعم.
تجوز بلا وضوء!
قال: وهل تقبل شهادته؟
قال: نعم تقبل مع شاهدي عدل!
ودخل رجل من بني هاشم على أحد الخلفاء فقال له الخليفة -يريد أن يستهزئ بالهاشمي-: أين عمك أبو لهب؟
قال: على يسارك إذا دخلت النار.
يقول: إذا دخلت النار خذ يسارك تجد غرفةً هناك جاهزة للاستقبال مكتوب عليها غرفة أبي لهب ممنوع الدخول.
وقالت امرأة للمأمون: ثبتَّك الله! قال: وإياكِ فثبت!
فلما خرجت قال المأمون: أتدرون ماذا قالت هذه المرأة؟ قالوا: لا.
قال: أنا قتلت ولدها وهي تقول: ثبتك الله، أي على خشبةٍ مصلوباً، فأنا أقول: وإياها فثبت الله على خشبةٍ مصلوبة.
وقال رجل للمعتضد: ثبتك الله! قال: على صدرك!
وأمثلة هذه الأجوبة كثير في الأدب العربي، ولكن تعال إلى أجوبته عليه الصلاة والسلام.(222/8)
من أجوبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأسئلة أصحابه
وأجوبته صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: إما أن يجيب بأكثر من السؤال, مثل: الحديث الصحيح: سأله رجل عن ماء البحر يقول: {يا رسول الله! إنا نركب البحر وليس معنا إلا الماء القليل, فإن توضأنا به عطشنا؛ أنتوضأ بماء البحر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو الطهور ماؤه الحل ميتته} رواه الخمسة وغيرهم.
فزاده جواباً على سؤال ما سأله، وهذا من أحسن الأجوبة أن تزيد السائل؛ لأنه خفي على السائل الماء، فمن بابٍ أولى أن يخفي عليه الطعام.
وكان له عليه الصلاة والسلام أسلوب آخر, كأن يسأل أو يجيب عن سؤال ما وقع من باب سؤال الحكيم.
يقول له سائل -في الصحيحين -: يا رسول الله! ما يلبس المحرم؟ -أي: الرجل إذا أراد أن يحرم ما يلبس؟ - فأتى صلى الله عليه وسلم فترك سؤاله، وأتى بأمور يحصرها؛ لأن ما يلبس المحرم لا ينحصر, فقال: {لا يلبس المحرم القميص, ولا العمامة, ولا البرنس, ولا ثوباً مسه ورس أو زعفران، ولا يلبس الخفين إلا ألاَّ يجد نعلين فيلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين}.
وكان عليه الصلاة والسلام يسأل أحياناً فيقول: (نعم).
فقط، أو يقول: (لا) فقط, وربما سُئِلَ صلى الله عليه وسلم فلا يجيب، بل يسكت، فيعيد السائل فيسكت، فيعيد فيسكت عليه الصلاة والسلام لمصلحة.
وقد عرض عليه أكثر من خمسمائة سؤال في حياته عليه الصلاة والسلام في العقيدة والقدر والطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج والرضاع والنكاح والبيع والحدود والجنايات, والأدب, وغيرها من شئون الحياة.
وسأله الملوك, وأبناء الملوك, والأعراب, والأطفال, والنساء، والفقراء، والأغنياء, فأجاب على كل سؤال على حدة.
وسألته النساء عن الحيض, والطهارة والجماع والجنابة والغسل، فأفتى.
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
وكان فصيحاً عليه الصلاة والسلام، ما تلعثم في كلمة، وما شك في حرف، بل كان يأتي بالكلام فصيحاً؛ فهو أفصح من نطق بالضاد.(222/9)
إجابته عن رؤية المؤمنين لربهم عز وجل
سُئِلَ عن رؤية المؤمنين لربهم تبارك وتعالى يوم العرض الأكبر؟ فقال: {هل تضامون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا.
قال: هل تضامون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا.
قال: أما إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته} متفق عليه، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(222/10)
إجابته عن القَدَر
سُئِلَ عليه الصلاة والسلام عن القدر، يقول أحد الصحابة: يا رسول الله! أنعمل في شيء انتهى وقضي أم نعمل في شيء مستأنف؟ معنى
السؤال
يا رسول الله! هل مكتوب علينا ما نعمل أم لم يكتب علينا شيء؟ فقال عليه الصلاة والسلام: {بل في شيء قد قضي وانتهى, قالوا: ففيم العمل يا رسول الله؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له} حديث صحيح.(222/11)
الله جل وعلا قبل خلق السماوات والأرض
سُئِلَ صلى الله عليه وسلم -كما في مسند أحمد - جاءه أعرابي -بدوي من الصحراء- قال: يا رسول الله! أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ فتبسم عليه الصلاة والسلام وما زجر السائل وما انتهره وما رده، فقال صلى الله عليه وسلم: {كان ربنا في عماء، ما فوقه هواء، وما دونه هواء} سُبحَانَهُ وَتَعَالَى!(222/12)
قصة فيها علم من أعلام النبوة
جاء أعرابي إلى النبي عليه الصلاة والسلام وكان قد عقل ناقته في وادٍ من الوديان, فقال: يا رسول الله! أين ناقتي؟ فسكت وقد ظهر عليه الغضب واحمر وجهه؛ لأنه مستهتر، وهل بعثه الله ليخبر العرب والبدو عن نياقهم وغنمهم؟! فسكت.
فقام عمر ثم جلس كالأسد أمام الرسول عليه الصلاة والسلام لما رآه مغضباً، وقال: رضينا بالله رباً, وبالإسلام ديناً, وبمحمد نبيا.
ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى الأعرابي، وقال: {يا أعرابي, ناقتك تعلق خطامها بشجرة كذا وكذا, في وادي كذا وكذا، وأنت عقلتها.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله}.(222/13)
إجابته عن فتنة الدجال
جاءه أعرابي آخر، فقال: {يا رسول الله! كيف يبعث الدجال؟ قال: يبعث معه ثريد من خبز ولحم, فمن أكل من ثريده استغواه.
قال الأعرابي: والله الذي لا إله إلا هو لآكلن من ثريده حتى إذا شبعت قلت: آمنت بالله وكفرت بك؛ فتبسم صلى الله عليه وسلم وسكت}.(222/14)
تفسيره للحساب والعرض
وسئل صلى الله عليه وسلم: ما معنى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:8] قال: {إنما ذلك العرض} رواه مسلم.
تقول عائشة: يا رسول الله! ما معنى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:8] قال: {إنما ذلكِ العرض}.
وأول ما ابتدأ الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر الحساب قال: {من نوقش الحساب عذب فقالت: يا رسول الله! كيف والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:8]؟ قال: إنما ذلك العرض}.
والعرض معناه: أن يعرض الناس على الله عز وجل, فيقرر الله العبد بذنوبه، يقول: يا عبدي! فعلت كذا وكذا؟ قال: نعم يا رب! قال: فعلت كذا وكذا؟ قال: نعم يا رب.
قال: أما إنني سترتها عليك في الدنيا, وغفرتها لك اليوم؛ ادخل الجنة, نسأل الله من فضله!
أما الحساب العسير فهو المناقشة، وهو يخزي به الله المنافقين والمجاهرين بالذنوب الذين يعلنون ذنوبهم ويخبرون الناس بها.(222/15)
إجابته عن مكان الناس (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ)
سئل عليه الصلاة والسلام: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض؟ اسمع ما أحسن سؤال السائل! يقول: يا رسول الله: أين نحن يوم تبدل الأرض؟ والله يقول: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48].
وأهل العلم منهم ممن يقول: يبدل الله الأرض فيصل أرض المساجد ببعض ثم يمدها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ومنهم من قال: بل يأتي الله بأرض غير هذه الأرض، أرض لا دنيا عليها, ولا سرق, ولا سفك دم فيطرها الله كما تطر الخبزة من النقي، فيحاسب الناس عليها.
فيقول السائل: أين نكون يا رسول الله يوم تبدل الأرض غير الأرض؟
قال صلى الله عليه وسلم: {في قنطرة بين طرفي الصراط، يجمع الله الأولين والآخرين على الصراط، وتبدل الأرض ثم يحاسبهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى}.(222/16)
إجابته عن أسئلة عبد الله بن سلام
سأله عبد الله بن سلام ثلاثة أسئلة، وكان عبد الله بن سلام يهودياً فأسلم، وهو من أهل الجنة.
رأى في المنام أنه متعلق بعروة, فسأل الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: {هذه العروة الوثقى -لا إله إلا الله محمد رسول الله- وأنت من أهل الجنة}.
قال قبل أن يسلم: أسألك ثلاثة أسئلة لا يعلمها إلا نبي.
قال: سل.
قال: ما هو أول ما يأكله أهل الجنة؟
الثاني: كيف يشبه الولد أباه, أوكيف يشبه أمه؟
الثالث: ما أول علامات الساعة؟
قال عليه الصلاة والسلام: {أول ما يأكل أهل الجنة في الجنة زيادة كبد الحوت.
قال: صدقت! -لأنه يجدها في التوراة- قال: وأما كيف يشبه أباه أو يشبه أمه فماء الرجل غليظ أبيض, وماء المرأة رقيق أصفر، فإذا غلب هذا هذا أشبه أباه أو أمه.
قال: صدقت، قال: وأما أول علامات الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب.
قال: صدقت، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
}.
وجاءه أعرابي -والحديث فيه كلام طويل عند أهل العلم- ومعه ضب، فقال له صلى الله عليه وسلم: {أتشهد أني رسول الله؟ قال: أنت؟! قال: نعم قال: والله لا أومن بك حتى يؤمن هذا الضب، قال: يا ضب! أتشهد أني رسول الله؟ قال الضب: أشهد أنك رسول الله؛ فولول الأعرابي وقال: أشهد أنك رسول الله}.(222/17)
إجابته عن رؤيته لربه ليلة الإسراء
وسئل عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم هل رأيت ربك؟ -في تلك الليلة العامرة يوم سافرت إلى الملأ الأعلى- يقول شوقي:
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم
كنت الإمام لهم والجمع محتفل أعظم بمثلك من هادٍ ومؤتمم
لما خطرت به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
حتى بلغت سماءً لا يطار لها على جناح ولا يسعى على قدم
وقيل كل نبي عند رتبته ويا محمد هذا العرش فاستلم
رفع هناك عليه الصلاة والسلام, ورأى من آيات ربه الكبرى، قالوا له: ماذا رأيت؟ قال: {رأيت سدرة المنتهى عليها ألوان لا أستطيع أن أصفها} ورأى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وجرى بينه وبين موسى حوار أخوي حار، وتكلم مع إبراهيم، ورأى بني الخالة، ورأى الملائكة، والجنة، والنار، ثم عاد فقال له أبو ذر: {يا رسول الله! هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه} والمعنى: ما رأيته، أي: كيف أرى النور؟
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(222/18)
إجابته عن كيفية نزول الوحي
سُئِلَ عليه الصلاة والسلام - كما في الصحيحين سأله p=1000641>> الحارث بن هشام البطل المسلم وكان أخاً لـ أبي جهل , سبحان من يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
أبو جهل مجرم في نار جهنم (فرعون هذه الأمة) والحارث بن هشام اهتدى, وسمع لا إله إلا الله، مع العلم أن الحارث بن هشام كان مع المشركين يوم معركة بدر قائداً حربياً معه سيف ورمح ودرقة، ولما نزلت الملائكة تقاتل, ورأى المهاجرين, وشباب الأنصار يقتحمون الموت, ويشربون الدم مثلما يشربون الماء فر على بغلته، رأى أمراً لا يطاق؛ فهجاه حسان وقال:
إن كانت كاذبة التي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجى بفضل طمرة ولجام
فكانت كالخنجر في قلبه؛ فأتى فأسلم، وقال: والله لا يطهرني إلا أن أموت في سبيل الله، فخرج إلى اليرموك وقتل هناك.
بـ قندهار ومن تكتب منيته بـ قندهار يرجم دونه الخبر
قال الحارث بن هشام: {يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟
قال: يأتيني أحياناً مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي}.
إذا أتى عليه الوحي من مثل هذا النوع؛ جلس عليه الصلاة والسلام إن كان واقفاً، وإن كان جالساً اتكأ واضطجع، وإن كان مضطجعاً اتكأ.
قال زيد بن ثابت: {نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجله على فخذي، فكادت رجله أن ترض فخذي}.
وكان إذا نزل عليه الوحي وهو على الناقة أخذت الناقة تصيح بين النوق وترغي, ثم تناخ في الأرض وتمد جرانها فينزل من عليها.
وربما اضطجع وكشفوا عليه أو جعلوا عليه صلى الله عليه وسلم الغطاء فيسمع له صلى الله عليه وسلم غطيطاً، قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:5 - 6] فهذا أشد شيء عليه.
وأحياناً يأتيه الملك في صورة رجل فيكلمه، وهذا أسهل شيء.
وقد أتاه جبريل مراراً وتكراراً في صورة دحية بن خليفة الكلبي، وكانت له صورة جميلة.
ورآه مرتين -كما في الصحيح- في صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، كل جناح قد سد ما بين المشرق والمغرب.
قال أحد السلف: "إذا كان للطائر جناحان كيف تركب الجناح الثالث؟! فما بالك بملك له ستمائة جناح!! ".
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {رأيت جعفر الطيار يطير في الجنة من شجرة إلى شجرة، ورأيته يطير مع الملائكة} رضي الله عنه وأرضاه، أبدله الله جناحين باليدين الجميلتين التي قطعت في سبيل الله.
حضر المعركة فقدم يده فقطعوها، فقدم الثانية فقطعوها، وفي الأخير أخذ الراية بحضنه -وكان من أشجع الناس- فضربوه حتى قتلوه؛ فأبدله الله جناحين يطير بهما في الجنة, فهو يطير مع جبريل وإسرافيل وميكائيل في كل منزل من منازل الجنة.(222/19)
إجابته عن كيفية حشر الكافر على وجهه
سُئِلَ عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح- كيف يحشر الكافر على وجهه؟
قال: {إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه} فإن الكفرة يحشرهم الله عز وجل على وجوههم؛ لأن من استطاع أن يمشيه على أقدامه يستطيع سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يمشيه على وجهه.(222/20)
المرء مع من أحب
دخل أعرابي والرسول عليه الصلاة والسلام يحدث الناس، فقاطعه فلم يلتفت إليه عليه الصلاة والسلام، كان الأعرابي يصيح عليه من آخر المسجد ويقول: متى الساعة يا محمد؟ متى الساعة يا محمد؟ والرسول -عليه الصلاة والسلام- يتكلم.
فسكت وما التفت إليه.
فلما انتهى قال: {أين السائل عن الساعة؟ قال: أنا.
قال: ماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كثير صلاة, ولا صيام, ولا صدقة, ولكني أحب الله ورسوله.
قال: المرء مع من أحب}.(222/21)
إجابته عن أعظم ذنب عصي الله به
وفي الصحيح من حديث ابن مسعود، سأله رجل قال: {يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك}.
أعظم مجرم في الأرض من أشرك بالله، وهذا كمن يهوي من السماء فتخطفه الطير, أو تهوي به الريح في مكان سحيق، وقد حرَّم الله على المشرك الجنة، لا يشم نسيمها ريحها.
ولا يدخلها أبداً، وفي كتاب الزهد بسند جيد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {يقول الله تبارك وتعالى: عجباً لك يا بن آدم! خلقتك وتعبد غيري، ورزقتك وتشكر سواي، أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي، خيري إليك نازل، وشرك إليَّ صاعد} أو كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
قال: {أعظم الذنب أن تجعل لله نداً وهو خلقك.
قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك.
قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك} متفق عليه.(222/22)
إجابته عن أحب الأعمال إلى الله تعالى
سئل صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها, قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين, قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله} وفي رواية الترمذي: {الصلاة في وقتها}.
ومن ترك الصلاة في أول وقتها فاته أجر عظيم، ومن تركها بعذر حتى خرج وقتها فقد برئت منه الذمة وهو مجرم, وعند بعض العلماء أنه مرتد، ولا تقبل منه الصلاة ولو قضاها إذا تركها حتى يخرج وقتها بلا عذر.(222/23)
إجابته عن معنى الإسلام, والإيمان, والإحسان
سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان؟ فقال: {الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت.
والإيمان: أن تؤمن بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, وتؤمن بالقدر خيره وشره.
والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} حديث صحيح.
بالله لفظك هذا فاض من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلَ
والعجيب أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يتوقف في الأسئلة إلا نادراً، أحياناً يتوقف ليطلب الوحي، وأحياناً يتوقف، ويقول: لا أدري، وهذه قالها ثلاث مرات في حياته, كما روى الحاكم يقول: قال عليه الصلاة والسلام: {لا أدري أتبع نبي أو رجل صالح؟ ولا أدري هل الحدود كفارات أو لا؟ ولا أدري أذو القرنين نبي أو لا؟}.
وجاءه رجل فقال: {يا رسول الله، قبلت امرأةً أجنبية فهل لي من كفارة -والرجل وجل وخائف- قال: لا أدري, ثم توقف فأنزل الله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] قال: هل هي لي خاصة؟ قال: بل لك ولكل من عمل بعملك من أمتي إلى يوم القيامة}.
وجاء أعرابي إلى عمر فقال: يا عمر! الطواف قبل السعي أم السعي قبل الطواف؟
قال: [[إن سعيت قبل أن تطوف فلا حرج عليك، وإن طفت قبل أن تسعى فلا حرج.
قال: صدقت، سألت محمداً قبل قليل فقال كما قلت.
فالتفت عمر ودحرج بعينيه، وقال: سقطت من يديك.
تسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تسألني؟!]].
وروي أن عمر رضي الله عنه وأرضاه جاءه رجل من المنافقين ومعه رجل من اليهود يتخاصمان، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكم بينه وبين صاحبه فأفتاه، ثم ذهب إلى أبي بكر فأفتاه.
ثم ذهب الخصمان إلى عمر فسألوه.
قال: [[أسألتم أحداً قبلي؟ قالوا: سألنا الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: فماذا أجابكم؟ قالوا: بكذا وكذا.
وسألنا أبا بكر فأجابنا بكذا وكذا.
قال عمر: انتظراني لأجيبكم إن شاء الله.
ثم ذهب فدخل بيته فأخرج سيفه، وأتى إلى الرجلين فأتى عليهما فقطع رأسيهما]].
وهذا لا يتعارض مع القرآن, فإنه لا يؤمن من كان في قلبه حرج من حكم الله وحكم رسول الله عليه الصلاة والسلام.(222/24)
تفسيره لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)
سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] ما معناها؟
تقول عائشة رضي الله عنها: {أهم الذين يسرقون ويزنون ويخافون يا رسول الله؟ قال: لا يـ ابنة الصديق، هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون, ويخافون ألا يقبل منهم}.
وقال ابن عمر لما قرأ قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] قال: [[والله الذي لا إله إلا هو لوددت أن يتقبل الله مني ولو مثقال ذرة؛ لأن الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]]].
قال الحسن البصري: [[المؤمن يحسن ويخاف, والمنافق يسيء ويأمن]].
وكان الصالحون يتصدقون ويصلون ويصومون وهم خائفون من الذنوب، والمنافقون يغدرون ويفجرون وهم آمنون.
وفي الصحيح أن ابن مسعود قال: [[المؤمن يرى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يسقط عليه، والمنافق أو الفاجر يرى ذنوبه كذباب طار على أنفه فقال به هكذا (وأومأ بيده)]].(222/25)
تفسيره لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ)
سُئِلَ عليه الصلاة والسلام عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105].
فقال -بإسناد يقبل التحسين-: {بل ائتمروا بالمعروف, وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحاً مطاعاً, وهوىً متبعاً, ودنيا مؤثرة, وإعجاب كل ذي رأي برأيه, فعليكم بخاصة أنفسكم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(222/26)
إخباره أن الأدوية والعلاج من قدر الله
سُئِلَ عليه الصلاة والسلام عن الأدوية والرقى, هل ترد من القدر شيئاً؟
قال: {هي من قدر الله} حديث صحيح.
أتى رجل فقال: يا رسول الله! هل الأدوية والعلاج ترد من قدر الله؟
أي: ما دام أن الله كتب علي المرض فهل العلاج يرد ما كتب؟
قال: {هي من قدر الله}.
وقال عليه الصلاة والسلام: {يا أيها الناس! تداووا ولا تتداووا بمحرم، ما أنزل الله من داء إلا أن أنزل الله له شفاء}.
قال بعض السلف: "من عطل السبب فقد قدح في عقله".
فصير مجنوناً معتوهاً.
بعضهم لا يذاكر ويقول: أنا سوف أنجح.
وبعضهم يأتي على أرض صخرية ما زرعها ويقول: اللهم أنبت فيها رماناً وبرتقالاً.
هذا مجنون, لأن من قدح في السبب فهو أحمق، ومن قدح في الشرع فهو مشرك، ومن أخذ بهما فهو مؤمن.
قال صلى الله عليه وسلم: {اعقلها وتوكل} حديث رواه ابن حبان وهو صحيح.(222/27)
إجابته عن حال أطفال المشركين في الآخرة
سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين؟
قال: {الله أعلم بما كانوا عاملين}.
ولذلك ينبغي ألا تتكلم في أطفال المشركين، ولا أو في مسألة أكبر من حجمك، أو تضيع وقتك في مسائل لا يترتب عليها جزاء أو عقاب في الآخرة, أو حتى مجرد نفع في دنياك.(222/28)
تفسيره لقوله تعالى: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)
وسُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن معنى قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس:64] ما هي البشرى في الدنيا؟
صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له} فمن رأى رؤيا صالحة, أو رئيت له رؤيا صالحة, فهي أول عاجل بشرى المؤمن، كأن ترى محمداً عليه الصلاة والسلام, أو ترى الجنة, أو ترى أنك من السعداء, أو أنك مع الصالحين، هذه البشرى الأولى.
والبشرى الثانية: الثناء الحسن.
ذهبوا يرون الذكر مجداً خالداً ومضوا يعدون الثناء خلودا
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
قال أحد السلف: "يا عجباً لكم! ألا تشترون الثناء تريدون به وجه الله, وقد قال إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84]؟! ".
أتى أعرابي إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين! لي حاجة، فهل أقولها لك؟ قال علي: احفظ عليك ماء وجهك، اكتبها في الأرض.
يقول: أنا فقير وعندي حاجة أريد أن أطلبك، هل أتكلم بها؟
قال علي: لا، أنا أريد أن أحفظ ماء وجهك, ولا أريد أن أخجلك اكتبها في الأرض.
فكتب: أريد كذا دراهم وأريد حباً وأريد حلة، فأعطاه علي من بيت المال، فكتب في الأرض:
كسوتني حلة تبلى محاسنها لأكسونك من حسن الثناء حللا
يقول: أنت أعطيتني حلة تذهب, ولكن والله لأعطينك حلة لا تذهب وهو حسن الثناء {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84].
وإنما المرء لسان بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى
وقد كان أحسن الذكر لمحمد عليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4].
قال أهل العلم: لا أذُكر إلا ذكرت معي.
ولذلك مؤذننا في المغرب وفي العشاء, سوف يتلو على الأسماع، ومؤذنو مليار مسلم سوف يقولون: أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً رسول الله.
يقول حسان في قصيدة له -وكان صلى الله عليه وسلم يتبسم وهو يسمع الكلام-:
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى شق له هذا الاسم الطيب الطاهر فهو من رفعة الذكر.(222/29)
إجابته عن أفضل الجهاد
سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن أفضل الجهاد؟
وقال: {أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر} أي: أن تقول الحق في مواطن الهلكة السيف مسلول, والرمح موجود, وتقول الحق لا تخاف في الله لومة لائم، مثلما فعل النابلسي، وقد ذكرت قصته في محاضرة بعنوان "من أخبار علمائنا".
يقولون: إن النابلسي من أعظم الشهداء في الإسلام، كان محدثاً، أتى إلى الزنادقة الفاطميين الحكام، فأفتى الناس في المسجد قال: من كان عنده عشرة أسهم فليرم الروم بسهم واحد وليرم الحكام الفاطميين في مصر بتسعة أسهم.
فوصل الخبر إلى الخليفة الفاطمي فاستدعاه هذا المجرم اللعين عليه لعنة الله, قال: سمعنا يا نابلسي أنك تقول: من عنده عشرة أسهم؛ فيرمينا بسهم واحد, ويرمي الروم بتسعة أسهم.
قال: لا، الذي أخبرك بالفتوى أخطأ.
فظن أنه سوف يتبرأ، فقال: كيف الفتوى؟
قال: لم أقل يرميكم بسهم بل يرميكم بتسعة، ويرمي الكفار بسهم واحد.
قال: والله لأقتلنك قتلة ما قتل بها أحد من الناس.
فسلط عليه يهودياً -لأن الفاطمي يهودي جده ابن قداح وجدته يهودية- فأخذه اليهودي فعلقه بأرجله ونكسه، ثم أخذ يجزره ويسلخ وجهه بالسكين، فظللته غمامة بإذن الله، وما وجد مساً للألم.
قال الذهبي: يروى أن دمه لما نزل إلى الأرض كان يكتب الله، الله.
وهذه لا نردها ولا نسلمها، وإن ثبتت فهي من كرامات الأولياء.
وقد مر عليّ منشور فيه رسم الحنجرمكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
أقول: في هذا ثلاث قضايا:
الأولى: نحن ما تعبدنا بهذا، وخلقك أنت أعظم من كتابة لا إله إلا الله محمد رسول الله، عينك يوم أن تتحرك وترسل شعاعها وضوءها ورؤيتها ويدك وقلبك {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] أنت أعظم في خلقك من رسم الحنجر.
عجباً لنا كيف نرى الشمس صباحاً ومساءً تذهب وتأتي, ولا نتعجب فإذا جُدَّت نظرية اندهشنا؟! ولا ندري عن صحة هذه، فربما توافقت الأحرف وتوافقت القصبات؛ فانطبقت فكتب لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فهي محتملة؛ والأمر محتمل لا يبنى عليه شيء.
وينتبه إلى أمر وهو: ألا نجعل ديننا تسليمات فقط، كلما أتانا رجل بمنشور سلمنا.
ولو فرضنا أنه أتانا رجل بهذه فقلنا: آمنا وصدقنا، ثم أتانا غداً هذا الرجل برجل مكتوب فيه لا إله والحياة مادة.
هل نقول: لا، هذا خطأ؟! يقول: أنتم آمنتم قبل قليل بهذه الكتابة فآمنوا بهذه الكتابة كذلك!
نقول: لا، نحن لا نجعل ديننا تخريصاً, ولذلك يقول علماؤنا: لا نصدق النظريات كلما أتتنا نظرية قلنا: نعم، فنقول: القرآن أيدها.
وبعد شهر قالوا: اكتشف العالم فلان أن النظرية خطأ.
قلنا: أجل، يمكن أن يكون في القرآن نظر.
أستغفر الله!
وهذه فائدة عابرة:
قف لنا في الطريق إن لم تزرنا إن بذل السلام نصف الزيارة(222/30)
إجابته عن أفضل الصدقة
سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصدقة؟
قال: {أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل والغنى، ولاتمهل حتى إذا بلغت الحقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان} أما إذا أصبح الإنسان في سكرات الموت فيتصدق في تلك الساعة لكنه لا ينفعه.
بعض البخلاء -ذكرهم ابن الجوزي في صيد الخاطر وقد ذكرت لكم بعض قصصهم- يقول: بقي بهم البخل حتى دخلوا القبور! منهم بخيل عنده ذهب, فلما حضرته سكرات الموت, أخذ يبتلع الذهب.
وآخر كان عنده دراهم من الذهب, فلما حضرته سكرات الموت طيّن عليها في بلكة -نوع من أنواع الحجارة- وجعلها عند رأسه، وقال: هذا من غبار الجهاد في سبيل الله؛ فادفنوه عند رأسي في القبر.
فانكسرت البلكة؛ فإذا الذهب داخلها -نعوذ بالله من الخذلان- هذا من أبخل البخل.(222/31)
إجابته صلى الله عليه وسلم عن أفضل الكلام
سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن أفضل الكلام؟
فقال: {ما اصطفى الله لعباده: سبحان الله وبحمده} هذا أفضل الكلام، وأنت عليك أن تجريه على لسانك؛ ولذلك سأل أبو ذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا السؤال، قال: {ما أفضل الكلام؟ قال: سبحان الله وبحمده} والله يقول: {أنا جليس من ذكرني}
وفي الترمذي بسند فيه كلام: {أن محمداً عليه الصلاة والسلام مرَّ بإبراهيم فسلم عليه فلما انتهى قال أبونا إبراهيم عليه السلام: بلغ أمتك مني السلام -وعليك السلام ورحمة الله وبركاته- وأخبرهم أن الجنة قيعان, وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر}.
وجاءه عليه الصلاة والسلام رجل يمشي -قيل: وابصة بن معبد - وقبل أن يسأل قال عليه الصلاة والسلام: {جئت تسأل عن البر والإثم؟ قال: نعم.
قال: البر ما اطمأنت إليه النفس, واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في نفسك, وكرهت أن يطلع عليه الناس, وإن أفتاك الناس وأفتوك} يفتيك عالم في مسألة ولكنها تحيك في نفسك وقلبك، فاتركها، المعنى أن فيها إثماً ولو أفتاك الناس، ما دام أن قلبك يحدثك ويوسوس لك، فاترك هذا الأمر فإن معناه أن فيه إثماً.(222/32)
حكمه صلى الله عليه وسلم على الماء الكثير
سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من بئر بضاعة , وهي بئر في المدينة يُلقى فيها الحيض والعذرة.
قال: {إن الماء لا ينجسه شيء} فالماء الكثير لا يتغير ريحه ولا طعمه ولا لونه.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه سُئِلَ عن الماء في الصحراء وما ينتابه من دواب وسباع، مثل: الغدران, والجداول, والخزانات, والبرك ونحوها، قال عليه الصلاة والسلام: {إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث} والقلتان: خمس قرب، إلا إذا تغير لونه أو ريحه أو طعمه.(222/33)
إجابته عن الأكل في آنية أهل الكتاب
سُئِلَ أبو ثعلبة النبي صلى الله عليه وسلم: إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى أما غيرهم من الكفار فلا يجوز الأكل في آنيتهم مثل الشيوعيين.
قال: {لا تأكلوا في آنيتهم, إلا ألاَّ تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها}.
إذا كنت ساكن مع يهودي أو نصراني ليس لك أن تأكل في آنيته إلا بشرطين: ألا تجد غيرها، عليك أن تغسلها.(222/34)
إجابته عن الحدث في الصلاة
سُئل عليه الصلاة والسلام عن الرجل يخيل إليه أنه يجد شيئاً في الصلاة، أي: خرج منه شيء في الصلاة مثل الرائحة, أو انتقض وضوءه وهذا يقع لكثير من الموسوسين؟
قال: {لا ينصرف حتى يجد ريحاً, أو يسمع صوتاً} هذان ضابطان اثنان: يجد ريحاً أو يسمع صوتاً, وأما من وسواس فلا يضره.
والحديث صحيح.(222/35)
إجابته عن حكم المذي والاستحاضة
سأل المقداد النبي عليه الصلاة والسلام لـ علي عن المذي، لأن علياً كان رجلاً مذاءً قيل: من شجاعة الرجل، وكان علي رضي الله عنه صنديداً، كان يذبح الرجال ذبحاً في سبيل الله، قال: {فيه الوضوء} والمذي: هو السائل اللزج الذي يأتي من تذكر الجماع, أو القُبلة أو نحوها، وليس المني الذي يتدفق بشهوة وفيه الغسل، أما المذي ففيه الوضوء، والودي: هو الذي يخرج بعد البول ففيه الوضوء.
وسألته فاطمة بنت حبيش فقالت: يا رسول الله! إني امرأة أستحاض فلا أطهر.
أفأدع الصلاة؟
والاستحاضة غير الحيض، الاستحاضة: هو الدم الزائد عن العادة، ويسمى عندنا النزيف.
قال: {لا، إنما ذلك عرق فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة -أيام الحيض- فإذا أدبرت فصلي} ولو كان الدم يقطر في الاستحاضة فلا يضر لأنه نزيف.(222/36)
إجابته عن الوضوء من اللحم, والصلاة في مرابض الإبل والغنم
سُئل صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الغنم؟ قال: {إن شئت توضأت وإن شئت فاترك} قالوا: يستحب الوضوء من لحم الغنم، ولكنه ليس بواجب.
وسئل عن الوضوء من لحم الإبل، والحديث صحيح من حديث جابر بن سمرة والبراء قال: {نعم! توضأ من لحم الإبل} لماذا؟ قالوا: لأنه يسبب ارتخاءً في المفاصل.
وسئل عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في مرابض الغنم قال: {نعم، صلِّ في مرابض الغنم}.
وسُئل عن الصلاة في معاطن الإبل؟ قال: {لا تصلِّ في معاطن الإبل}.
والحديث صحيح.
هذه الأسئلة والأجوبة أحسن من الدنيا وما فيها، هذه درر من محمد عليه الصلاة والسلام.(222/37)
إجابته عن بعض الأحكام المتعلقة بالنساء
وسألته أم سليم فقالت: {إن الله لا يستحيي من الحق} قدمت هذه المقدمة تريد أن تسأل سؤالاً لتمهد لكلامها، وكانت أم سلمة جالسة, والرسول عليه الصلاة والسلام جالس، فجاءت أم سليم من الأنصار، فقالت: {إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فالتفتت إليها أم سلمة مغضبة، وقالت: يا أم سليم! فضحت النساء، أو تحتلم المرأة؟! قال صلى الله عليه وسلم: نعم، تربت يمينك -يقول لـ أم سلمة - إذا رأت الماء} أي: إذا نزل منها الماء.
وسألته زوجته أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، فقالت: {إني امرأة أشد ظِفر رأسي -أي الجدائل تشدها شداً- أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات}.
المرأة لا تنقض رأسها من غسل الجنابة, وتنقض رأسها من الحيض، وقد صح في ذلك حديثان.
سبحان الله! أي رسالة هذا الرسالة؟! مع المرأة في حيضها مع الطهارة مع الاقتصاد والعسكرية، والجهاد، والقدر، والتوحيد، والإيمان، والجنة، والنار، والصراط، وكل شيء.
شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق سباتِ
بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات
وسألته امرأة تقول: {إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع؟ قال: تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه} حديث صحيح.(222/38)
إجابته عن الفأرة إذا سقطت في السمن
سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن فأرة وقعت في السمن، الفأرة فويسقة؟
يقال: كانت الفأرة امرأة من بني إسرائيل فاسقة فاجرة, وقيل: زانية فمسخت، قال صلى الله عليه وسلم: {أما تراها تأخذ الفتيل وتشعل على أهل البيت بيتهم}.
وإذا وقعت في سمن، فيقول عليه الصلاة والسلام: {ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم} فلا تلق السمن كله, بل ألقها هي وما حولها, سواء أكان جامداً أم سائلاً، ولم يصح في التفصيل بين الجامد والمائع شيء، بل قال البخاري: وهو وهم ويعني بذلك ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: {إذا كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فاتركوه}.(222/39)
إجابته عن حكم استخدام الجلود
سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن جلود الميتة هل لنا أن نستخدمها؟
قال: {طهورها دباغها} حديث صحيح.
وذلك إذا ماتت عليك شاة وأنت لم تذكيها, أما إذا ذكيتها فليست ميتة، ومثله إذا ماتت ناقة أو بقرة, أما الحمير سواءً ماتت أو ذكيتها فلا فرق؛ لأنها نجسة أصلاً.(222/40)
إجابته عن الإسباغ في الوضوء, ومدة المسح على الخفين
سُئِلَ عليه الصلاة والسلام عن الوضوء، فقال لـ لقيط بن صبرة: {أسبغ الوضوء}.
والإسباغ يكون بأن تروي البشرة, أو تأتي بالسنن.
قال: {أسبغ الوضوء, وخلل بين الأصابع, وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً} حديث صحيح رواه أبو داود وغيره.
وسئل صلى الله عليه وسلم عن مدة المسح على الخفين؟ فقال: {للمسافر ثلاثة أيام, وللمقيم يوم وليلة} حديث صحيح.(222/41)
إجابته عن بعض أحكام الصلاة
- سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله وما يقرب من الجنة؟ فقال: {أعني على نفسك بكثرة السجود} وفي لفظ: {فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة} فمما يقربك من الجنة كثرة النوافل وكثرة السجود.
- وسئل عليه الصلاة والسلام عن الصلاة الوسطى؟ قال: صلاة العصر.
ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام لما قاتل في معركة الخندق بقي يقاتل هو والصحابة حتى أظلم الليل, وهو لم يصل العصر ودخل المغرب واقترب العشاء، فقال عمر: {يا رسول الله! لعن الله الكفار! شغلوني عن الصلاة, ما صليتها إلا الآن، -قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما صليتها، ملأ الله قبورهم وأجوافهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر}.
ثم أذن المؤذن وصلى العصر.
ولما نزلت صلاة الخوف صلوا في المعركة ولم ينتظروا.
إذاً الصلاة الوسطى هي صلاة العصر فليتنبه لذلك بارك الله فيكم.
- وسأله عمران بن حصين وكان به بواسير, وهو مرض في مقعدته مكث به ثلاثين سنة حتى صافحته الملائكة في السحر بأيمانها، فلما اكتوى ارتفعت الملائكة, وما عادت تصافحه، ثم ذهب إلى الله -نسأل الله أن يجمعنا به في الجنة- قال: {صل قائماً, فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك} حديث صحيح.
- وسأله عثمان بن أبي العاص الثقفي قال: {يا رسول الله! لبَّس علي الشيطان صلاتي؟ قال: ذاك شيطان اسمه خنزب}
الشياطين عندهم تخصصات، هناك شيطان متخصص في الوسوسة في الصلاة، وشيطان في الهجوم على الوحي -أقصد معتقد القلب- وشيطان في التفريق بين الرجل وزوجته، وشيطان في التحريش بين الناس همه نقل الكلام إلى غير ذلك من التخصصات.
فهذا الشيطان الذي اسمه "خنزب" متخصص في الوسوسة في الصلاة.
قال: {ذاك شيطان اسمه خنزب، فإذا أحسست به فانفث عن يسارك ثلاثاً, وتعوذ بالله منه} رواه مسلم.
- وسأله أبو ذر عن أول مسجد وضع في الأرض؟
قال: {يا رسول الله! ما أول مسجد وضع في الأرض؟ قال: المسجد الحرام.
قال: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى.
قال: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة} متفق عليه.
قال: {يا رسول الله! أي مسجد أسس على التقوى؟ فأخذ صلى الله عليه وسلم حصبة من التراب، فقال: مسجدي هذا} يعني: مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام.
- وسئل عن الصلاة في السفينة -سأله جعفر الطيار بن أبي طالب - فقال: {صل فيها قائماً إلا أن تخاف الغرق} رواه الحاكم بسند صحيح.
يقول: صلَّ قائماً في السفينة إلا أن تخاف الغرق، وهذا يحمل على السيارة إذا لم تجد منزلاً تنزله في الفريضة كأن يكون في الأرض طين, أو يكون المطر مستمراً، أما إذا وجدت نزولاً فلا يعذر أن تصلي إلا بالنزول، وكذلك الطائرة إذا استمرت بك الرحلة وخشيت أن يخرج الوقت فصلِّ قائماً, فإن لم تستطع فعلى كرسيك.
هذا هو الصحيح.
- وسُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟
قال: {هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد} حديث صحيح.
- وسئل صلى الله عليه وسلم عن الكلب الأسود يقطع الصلاة دون الأحمر والأصفر؟
قال أبو ذر: {ما بال الأحمر من الأصفر من الأسود يا رسول الله؟ قال: الكلب الأسود شيطان} يحب الشيطان الكلاب السود.
- وسئل عليه الصلاة والسلام عن صلاة الليل؟
قال: {مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة}.
متفق عليه.
أي: صلَّ اثنتين وسلم، فإذا خشيت الفجر فأوتر بواحدة.(222/42)
إجابته عن موت الفجأة
وسُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن موت الفجاءة, أي: الموت بالسكتة القلبية فجأة، قال: {راحة للمؤمن، وأخذة أسف للفاجر} أما المؤمن فيرتاح من عناء الدنيا، وأما الفاجر فأخذة أسف لأنه لا يتوب.
رواه أحمد بسند صحيح.(222/43)
حكمه في زكاة الحلي
وسألته أم سلمة عن زكاة الحلي، فقالت: -وفي يدي أوضاح- {أكنز هذا؟ قال: أتؤدين زكاته؟ قالت: نعم يا رسول الله.
قال: فليس بكنز}.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده {أن امرأة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يديها مسكتان، فقال: أتؤدين زكاته؟ قالت: لا.
قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار فألقتهما} -أو كما قيل- حديث صحيح.
إذا علم هذا فزكاة الحلي واجبة سواء لبسته أم لم تلبسه، فعليها أن تقدر ثمنه وتخرج الزكاة من الثمن.(222/44)
الزكاة عن القريب بعد موته
وسأل رجل النبي عليه الصلاة والسلام: {إن أبي مات ولم يوصِّ أينفعه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم تصدق عن أبيك} فالصدقة عن الأب والأخ والقريب والمسلم أن تتبرع عنه بعد موته تصله بإذن الله.(222/45)
أحكام في الصيام
سُئِلَ عليه الصلاة والسلام عن الوصال للصوم كان يواصل عليه الصلاة والسلام ليلتين أو ثلاثاً ولا يفطر، قالوا: يا رسول الله! نراك تواصل؟ قال: {إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني} قال ابن القيم: " يطعمه ربه ويسقيه من المعارف والحكم، وإلا فلو أطعمه وسقاه من الماء والأكل ما كان صائماً ".
قال الأول:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به ومن حديثك أعقاب حادِ
إذا تشكت كلال السير أسعفها شوق القدوم فتحيا عند ميعاد
- وسُئل عليه الصلاة والسلام عن الصوم في السفر؛ رواه مسلم عن حمزة بن عمرو وغيره؟
فقال: {إن شئت فصم وإن شئت فأفطر} وجاء في رواية البخاري: {إن شئت فأفطر فحسن، وإن شئت فصم فلا جناح عليك} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وقالت امرأة: {يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر, أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم يا رسول الله! قال: فدين الله أحق بالقضاء} حديث صحيح.
وهذا رجل له قصة، اسمه سلمة بن صخر البياضي , روى حديثه السبعة واللفظ لـ مسلم.
أتى سلمة بن صخر البياضي والرسول عليه الصلاة والسلام جالس مع أصحابه في نهار رمضان وقت الظهر، فأتى يولول ويصيح، ويقول: {يا رسول الله! هلكت! قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على أهلي في رمضان -جامع امرأته- فقال عليه الصلاة والسلام: أعتق رقبة.
قال: ما أملك إلا رقبتي هذه} وكان الرجل مزاحاً، وثبت أنه مزح أربع مزحات، فتبسم منه صلى الله عليه وسلم.
يقول: من أين لي برقاب أعتقها وأنا ما عندي إلا رقبة واحدة وهي رقبتي، قال: {صًم شهرين متتابعين.
قال: وهل وقعت فيما وقعت فيه إلا من الصيام} ما استطعت أن أصوم إلى المغرب أفأصوم ستين يوماً؟!! فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: {أطعم ستين مسكيناً قال: على أفقر مني؟!!}.
فجلس صلى الله عليه وسلم, وسكت وسكت الصحابة، فجاء رجل من الأنصار بمكتل مليء بالتمر ليتصدق به الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: {خذ هذا فتصدق به! قال: على أفقر مني؟ - يريد أن يأخذه هو، قال: كيف أتصدق به, وأنا أفقر من في المدينة -والله ما بين لابتيها أفقر مني؟ فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، وفي رواية أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: خذه فأطعمه أهلك}.
أي سماحة في هذا الدين؟! وأي يسر وإشراق وروعة؟! وأي إبداع لهذا النبي الذي أحبته القلوب؟!! أسر الأرواح فهذا الموقف يكفي أن يسلم به الآف وملايين من الناس.
وفي الصحيح أنه أتاه رجل فقال: {يا رسول الله! اللقطة ماذا أفعل بها؟ -أي: لقطة المال، لقطة الذهب، لقطة الفضة- قال: اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة} أي: اعرف دليلها ثم ضعها في البيت ولا تأتِ إلى الناس؛ لأن الحمقى إذا وجدوا شيئاً قالوا: من ضيع قلماً؟ الناس سيأخذونه، وكل واحد سوف يقول: هذا قلمي.
ولكن أنت أخفه في جيبك وقل: من ضيع شيئاً؟ فإذا قال: قلماً.
قل: ما وصفه؟ ما لونه؟ وكم طوله؟ وكم عرضه؟
فقال صلى الله عليه وسلم: {اعرف وكاءها وعفاصها} العفاص: هو الوعاء التي تحفظ فيه, والوكاء: هو الحزام الذي تشد به، {ثم عرفها سنة، فإن جاء ربها فأعطه, وإلا فاستنفق بها وهي أمانة عندك إذا جاء ربها، قال: فضالة الإبل؟ فغضب عليه الصلاة والسلام -لأن الجمل يستطيع أن يصبر على الجوع والظمأ سبعة أيام، وهذا يريد إذا رأى جملاً أن يأخذه- قال: ما لك ولها؟ دعها فإن معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها، قال فضالة الغنم؟ قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب} يقول: إذا ما يأت صاحبها فخذها فإنك إن لم تأخذها أكلها الذئب لأنها لا تمتنع, أما الجمل فيمتنع من الذئاب.
لكن العجيب! أن الجمل يمتنع من الأسد والذئب, لكن إذا رأى النمر أصبح في ورطة لأن النمر يغلبه.
سأل أحد الناس عالماً من العلماء قال: وجدت غنماً يا شيخ؟ قال: أعطها الأمير.
قال: الأمير بعيد.
قال: أعطها القاضي.
قال: القاضي بعيد.
قال: عرف بها أو أوصلها إلى البلدية.
قال: لا.
تأخذها.
قال: إنك تريد أن تأخذ الغنم.
وسُئِلَ عليه الصلاة والسلام عن صوم يوم الإثنين كما جاء في صحيح مسلم عن أبي قتادة؟ قال: {ذاك يوم ولدت فيه, وأوحي إلي فيه} وقد مات عليه الصلاة والسلام في يوم الإثنين.
فصيامه حسن.
لكن عيد المولد يوم الإثنين ليس بوارد، بل هو خزعبلات وخرافات، وما فعل صلى الله عليه وسلم عيد المولد, ولا أصحابه, ولا السلف ولا التابعون وليس له أصل في السنة.(222/46)
الدعاء في ليلة القدر
وسألته عائشة رضي الله عنها قالت: {إذا وافقت ليلة القدر بم أدعو يا رسول الله؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني} حديث صحيح، وهذا من أحسن الدعاء.(222/47)
نذر الاعتكاف في الجاهلية
وسأله عمر رضي الله عنه، فقال: {يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف يوماً في الجاهلية؟ قال: فأوف بنذرك} حديث صحيح.(222/48)
جهاد النساء
وقالت عائشة: {يا رسول الله! نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: لا، لكن جهادكن الحج} فهو جهاد الضعيف والنساء والكبير.(222/49)
أحكام في الحج
وقال رجل: إن أبي مات ولم يحج أفأحج عنه؟ قال صلى الله عليه وسلم: {أفرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم.
قال: فاقض فالله أحق بالقضاء}.
وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً وهو في طريق الحج يقول: {لبيك عن شبرمة، لبيك عن شبرمة، لبيك عن شبرمة.
قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب.
قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا.
قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة} حديث صحيح.
وأتت امرأة من أهل اليمن بطفل بين يديها, فمشى صلى الله عليه وسلم وحوله كوكبة من الصحابة، لأنه إذا مشى كان علية القوم يمشون عن يمينه ويساره، أبو بكر , وعمر , وعثمان , وعلي , وسعد بن معاذ , وسعد بن عبادة , ومعاذ فيتحدث لهم ويتحدثون إليه.
فاعترضته امرأة من أهل اليمن في مضيق وادي ضجنان فرفعت طفلها، قالت: {من أنتَ؟ قال: أنا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: من أنتِ؟ قالت: حاجَّة، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر} فأثبت له حج النافلة لا حج الفريضة، وأمه تؤجر على أنها حجت به.
وسألته ضباعة بنت الزبير قالت: {يا رسول الله! إني أريد الحج وأنا شاكية -أي: مريضة- قال: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني} هذا للمريض إذا كان به داء مثل ما بـ ضباعة فله أن يشترط.
إذا كنت مريضاً وأنت محرم فقل: اللهم إني نويت حجاً فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني.(222/50)
من كنوز القرآن
{سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن أعظم آية في القرآن؟ فقال: آية الكرسي} {وسئل عن أعظم سورة؟ قال: الفاتحة}.
قال له رجل: إني أحب سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].
فقال: {حبك إياها أدخلك الجنة} حديث صحيح.
وسُئِلَ عن أهل الله من هم؟ فقال: {أهل القرآن هم أهل الله وخاصته} رواه أحمد.
وسُئِلَ عن الباقيات الصالحات، ما هي الباقيات الصالحات التي ذكرت في القرآن؟
قال: {سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر}.(222/51)
إجابته عن أفضل الأموال
وسئل أي الكسب أطيب؟ قال: {عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور} رواه أحمد وسنده صحيح.
وسُئل عن الأجرة على كتاب الله؟ قال: {إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله}.
هذا إذا كان في الطب ونحوه، والتعليم فيه خلاف.
وسُئِلَ عن الأموال التي تدفع للناس من أموال السلاطين، فقال صلى الله عليه وسلم: {ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك}.(222/52)
نهيه عن قتل الحيوانات
وسُئِلَ عن قتل الوزغ؟ فأمر بقتله، حديث صحيح.
وسُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع؟ فنهى عليه الصلاة والسلام عن قتله.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع: الهدهد, والصرد, والنملة, والنحلة.
وزاد ابن ماجة والضفدع.(222/53)
إجابته عن حال ابن جدعان وحاتم الطائي
سألته عائشة عن ابن جدعان، وكان كريماً في الجاهلية, هل ينفعه كرمه عند الله وقد مات على الشرك؟ -كما في صحيح مسلم - قال: {لا، إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين}.
وسأله عدي بن حاتم عن أبيه هل ينفعه الكرم؟
قال: {لا، إن أباك طلب شيئاً فأصابه} وهو الرياء والسمعة والعياذ بالله.(222/54)
إجابات متفرقة
وسأله عبد الله بن بسر عن أمر يتشبث به؟ قال: {لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} رواه الترمذي وأحمد بسند صحيح.
وسأله سفيان بن عبد الله أن يقول له قولاً لا يسأله عنه أحداً غيره؟ قال: {قل: آمنت بالله ثم استقم}.
وسأله حكيم بن حزام هل يبيع شيئاً لم يكن عنده وسوف يشتريه للمشتري؟
يأتيك رجل فيقول: أريد أن أشتري منك سيارة -وليس عندك سيارة- فتبايعه وينتهي البيع ثم تذهب إلى المعرض وتشتري؟
هذا حرام، فقال عليه الصلاة والسلام: {يا حكيم بن حزام لا تبع ما ليس عندك} رواه أحمد وغيره بسند صحيح.
بل تشتري أولاً لك ثم تبيع بعقد آخر.
وسُئِلَ عن الثوم أحرام هو؟ قال: {لا، ولكني أكرهه من أجل رائحته} رواه مسلم.
وسُئِلَ عن الضب أحرام هو؟ قال: {لا، ولكني أجد نفسي تعافه، إنه ليس بأرض قومي} متفق عليه.
وسألته عائشة: {إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذُكِرَ اسم الله عليه أم لا؟ قال: سموا أنتم وكلوا} حديث صحيح رواه البخاري.
إلى آخر تلك الإجابات العجيبة التي تفوه بها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.(222/55)
الأسئلة(222/56)
قبول نصيحة الفاجر
السؤال
أمرني فاجر بالمعروف، فماذا أفعل؟
الجواب
تسمع وتطيع إذا أمرك بالمعروف, ولا تأخذك العزة بالإثم, ولا تحاربه, ولا تنابذه, ولا تخاصمه؛ بل تتقي الله عز وجل وتقبل، ولا تكن ممن قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206].(222/57)
إيداع الأموال في البنوك
السؤال
ما حكم الإيداع في البنوك بفوائد؟
الجواب
الإيداع في البنوك بفوائد أو بغير فوائد لا يجوز، لأنه ربا، فمن أودعها بغير فائدة فقد تعاون معهم على الإثم والعدوان، وأما بفائدة مشروطة فهو ربا.
وهناك بديل وهو الشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي، يجوز إيداع الأموال فيها، ولها مقر في كل مدينة، ولها مكتب معروف في أبها، وهي تستقبل أموال المسلمين وهي تتعامل بالمضاربة الإسلامية, ولا تشرط لك فائدة نسبية مقررة, وإنما تضارب لك بمالك على نظام المضاربة الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وهي رابحة بإذن الله وخالية من الربا، لأنه يقوم عليها رجال معتمدون ويرأس ذلك سمو الأمير محمد الفيصل ومعه نخبة من العلماء الأجلة والدعاة والمفكرين، فهذه الشركة هي عوض عن هذه البنوك الربوية، وهي تستقبل أموال الناس وتضارب بها, وهي بعيدة عن الشبهة، نسأل الله لنا ولكم مطعماً حلالاً، ورزقاً حلالاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم لـ سعد: {أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة} وذكر صلى الله عليه وسلم: {الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، فأنى يستجاب له؟}.(222/58)
نصيحة بسماع أشرطة
السؤال
اذكر لي ثلاثة أشرطة لك ترضاها لي؟
الجواب
عليك بشريط احفظ الله يحفظك، ورسالة إلى المغنيين والمغنيات، ورحلة إلى الدار الآخرة.(222/59)
نقل دم زوج لزوجته للإسعاف
السؤال
هل يجوز للرجل أن يعطي لزوجته من دمه إسعافاً في المستشفى؟
الجواب
نعم، بالإجماع يسعفها هو من باب أولى، وليس في ذلك من حرج، وتسعفه من دمها والحمد لله.(222/60)
حكم إطالة الثياب
السؤال
بعض الشباب يطيلون الثياب ويقصرون السراويل؟
الجواب
هذا خلاف السنة، لا يجوز إطالة السراويل ولا الثوب، وإنما تكون كلها من فوق الكعب، لا تطل سراويلك ولا بنطلونك, ولا بشتك تحت الكعب {ما أسفل من الكعبين فهو في النار} ولا يظن الإنسان أنها في الثياب فقط أما السراويل فلم يأتِ فيها شيء، بل الأحاديث في ذلك.(222/61)
حكم سماع الأناشيد
السؤال
أنا أستمع الأناشيد، فما حكم ذلك؟
الجواب
لك أن تستمع الأناشيد بثلاثة شروط:
1/ ألا يكون معها موسيقى أو أدوات لهو.
2/ لا يكون فيها كلام فحش.
3/ لا تكثر منها حتى تضيع وقتك.(222/62)
حكم نظر الزوج إلى فرج زوجته
السؤال
هل للرجل أن ينظر إلى فرج زوجته؟
الجواب
نعم له ذلك، وأما حديث أن عائشة لم ترَ منه صلى الله عليه وسلم ولم يره منها فلا يصح، بل هو ضعيف.(222/63)
كيفية إخراج كفارة اليمين
السؤال
كيف أخرج كفارة اليمين؟
الجواب
تخرج كفارة اليمين على الترتيب: إطعام عشرة مساكين, أو كسوتهم, أو عتق رقبة, فإن لم تجد فصيام ثلاثة أيام.
أما إطعامهم فيكفي وجبة غداء أو عشاء أما فطور فلا، لأن الفطور سهل, ولذلك نرى البخلاء لا يعزمون إلا في الفطور، فالبخيل يجلس في المجلس وإذا انتهى الجماعة من العزومة قال: يا جماعة! أنتم من أعز الناس عندي ولا يمكن أن تذهبوا قبل أن تأتوا عندي؛ والفطور غداً عندي.
فكفارة اليمين لا تكون فطورا, ً بل غداءً أو عشاءً.(222/64)
النفث في الصلاة بسبب الشيطان
السؤال
هل أنفث في صلاتي إذا جاءني الشيطان؟
الجواب
نعم، إذا لبَّس عليك, بشرط أنك لا تدري كم صليت, أو لا تدري ماذا قلت، أما إذا وسوس وسوسة خفيفة فلا تقل ذلك في الصلاة.(222/65)
حكم الوضوء من الدم الخارج من الجرح
السؤال
هل أتوضأ عند خروج دم من جرح معين؟
الجواب
لا يلزمك، إنما تزيل الدم، هذا هو الصحيح, وهو رأي البخاري ورأي كثير من المحدثين.(222/66)
من عصته زوجته وخرجت عن طاعته
السؤال
زوجتي تعصيني في البيت كثيراً وتخرج عن طاعتي فماذا أفعل؟
الجواب
لك أن تنصحها وبآداب القرآن، ثم تهجرها، ثم تضربها ضرباً غير مبرح، ثم تتصرف!(222/67)
المسح على الجوارب إذا كانت خفيفة
السؤال
الشُّراب الخفيف هل يمسح عليه أم يشترط أن يكون غليظاً؟
الجواب
الشراب الخفيف الذي يبدي اللحم والبشرة لا يمسح عليه, وهذا هو الصحيح.(222/68)
الدخول بالمصحف إلى الحمام
السؤال
رجل دخل بالمصحف إلى الحمام، ماذا عليه؟
الجواب
إن كان متعمداً فهو آثم، وإن كان ناسياً فليخرج سريعاً, وليستغفر الله وليخرج كتاب الله من الحمام.(222/69)
حكم اللحوم المستوردة
السؤال
ما حكم اللحوم والدجاج المستورد؟
الجواب
إذا كان من بلاد أهل الكتاب فالظاهر فيه أنه مباح، قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة:5] ونسمي عليه ونأكل، أما البلاد الكفرية الشيوعية: كـ روسيا والهند فهذه الدول لا يأكل من ذبائحهم لأنه حرام.(222/70)
الحكمة في الدعوة
السؤال
أريد أن أدعو إلى الله عز وجل ولكن ليس عندي حكمة؟
الجواب
نسأل الله أن يلهمك الحكمة، والحكمة تأتي بالتجربة, وبقراءة سيرة محمد صلى الله عليه وسلم, فإنك إذا قرأت سيرته عرفت الطريق إلى الحكمة بإذن الله عز وجل.(222/71)
من لا يحب الذكر ومجالس الذكر
السؤال
لي جليس طيب ولكن فيه أمور تغضب الله عز وجل، منها: أنه لا يحب الدروس, ولا يحب الذكر، ولكنه يصلي -والحمد لله- ويقرأ القرآن؟!
الجواب
كما قال الله: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} [التوبة:102] وهذا فيه مرض.
الذي لا يحب الذكر, ولا يحب مجالس الخير, ولا يحضر المحاضرات؛ فهذا دليل على أن فيه مرضاً, وعليك أن تأخذه بالتي هي أحسن علَّ الله أن يهدي قلبه.(222/72)
حكم الخروج بالأسر للنزهة
السؤال
كثير من الناس يخرجون بأسرهم للنزهة فما حكم ذلك؟
الجواب
عليك أن تنصحهم, فلا يجوز اجتماع الأجانب مع الأجانب من الرجال والنساء في مجلس واحد؛ لأن هذا محرم، فلا يجلس الرجل مع زوجة أخيه في مجلس عام أبداً ولم يأتِ في هذا دليل.(222/73)
سبب الوضوء من لحوم الإبل
السؤال
هل سبب الوضوء من لحم الإبل هو من كثرة الشحوم؟
الجواب
يقال هذا، لكني قلت: يقال لأن المفاصل تسترخي حتى لا يستطيع أن يتحكم في نفسه.(222/74)
معنى (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ)
السؤال
ما معنى {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]؟
الجواب
معناه: وضعنا عنك خطيئتك وذنبك.(222/75)
معنى (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)
السؤال
ما معنى {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]؟
الجواب
معناه: وسعناه وأصبح مشروحاً.(222/76)
التعامل مع البخيل
السؤال
عندنا جار بخيل فكيف نتعامل معه؟
الجواب
أسأل الله أن يجعله كريماً وأن يرزقك الأدب مع جيرانك.(222/77)
حكم تارك الصلاة
السؤال
ما حكم تارك الصلاة؟
الجواب
من ترك الصلاة فهو كافر.(222/78)
حكم الودي
السؤال
الودي قلت: إنه يخرج بعد الجماع, وأنا قرأت أنه يخرج بعد البول؟
الجواب
أنا لم أقل: إنه يخرج مع الجماع، لكنني قلت: إذا توضأ الإنسان بعد الجماع, أو اغتسل ثم خرج منه ودي فعليه أن يتوضأ منه ولا يغتسل.(222/79)
حديث بئر بضاعة
السؤال
حديث بئر بضاعة فهل الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يرمون الجيف في البير؟
الجواب
لا، يقولون: يأتي بها السيل ويطم بها كما قال الخطابي وغيره.(222/80)
ليلة البركة
السؤال
ليلة الغد توافق الخامس عشر من شهر شوال, والبعض يسمونها بليلة البركة ويصومون ذلك اليوم والذي يليه.
فهل ورد في ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم شيء؟
الجواب
لا، وردت عن عجائز أبها , أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يرد عنه شيئاً، وعلى كل حال فلا يجوز إفراد هذه الليلة بشيء من العبادة, ولا يومها بشيء من الصوم غير الأيام؛ لأنه يدخل في البدع والعياذ بالله.(222/81)
لقاء مع الشباب
الشباب هم الثروة الثمينة التي لا تعوض, وهم تاج وعز الأمة، بصلاحهم تنهض الأمة، لذلك كان لزاماً من تلمس حاجاتهم، والسؤال عن أحوالهم، ووضع حلول لمشاكلهم وهمومهم، وقد تعرض الشيخ لبعض القضايا التي تهمهم، كضعف الإيمان وكيفية معالجة هذا المرض, وتعرض لقضية فتور الشباب عن الدعوة إلى الله, وتكلم عن قضية مهمة أخرى وهي: تذبذب الشاب, أسبابها، وعلاجها، وألمح إلى قضية سلبية عند الشباب وهي قلة الاطلاع في الدين والواقع.(223/1)
ضعف الإيمان وفساد التوبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عنوان هذا الدرس: لقاء مع الشباب.
حييت يا هذا الشباب لك التحية والسلام
أثلجت قلبي بالحضور وزاح عن عيني المنام
يا بسمة الفجر الجديد إلى الأمام إلى الأمام
بشر بنا دنيا الورى نحن المشاعل في الزحام
وإمامنا المعصوم أنعم خير من وطئ الرغام
صلى الله عليه وسلم، اجتمعنا على حبه وعلى مبادئه وسنته.
أولاً: إني أحبكم في الله -تبارك وتعالى- حباً لا يعلمه إلا هو، أسأله أن ينفعني وإياكم بهذا الحب, فما جمعنا هنا رغبة ولا رهبة إلا حب فيه تبارك وتعالى.
ثانياً: أسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، كما جمعنا هنا أن يجمعنا: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55].
اللهم إن أهل الدنيا اجتمعوا لدنياهم، وقد اجتمعنا الليلة لديننا، اللهم فلنا عليك حق الضيافة وأنت أكرم الأكرمين.
اللهم إن ضيافتنا مغفرة من عندك، فنسألك أن تغفر لنا ذنوبنا, وأن تستر عيوبنا, وأن تحفظنا من كل مكروه, وأن تنصرنا بالإسلام, وأن تنصر الإسلام بنا.
اللهم إن من سلَّ علينا سيفاً فاقتله بسيفه, واكفنا شره, واجعل تدبيره في تدميره يا رب العالمين.
أيها الفضلاء: أعدكم -إن شاء الله- أن يرتقي هذا المنبر في القريب العاجل كثير من العلماء والدعاة، كالشيخ: العمر والعودة والحوالي والطريري وابن مسفر، والقحطاني والبريك وابن زعير والجلالي وغيرهم من العلماء، أعدكم -إن شاء الله- بهذا؛ لتسمعوا منهم ويسمعوا منكم مباشرة, وما نحن إلا إخوة يسعى بذمتنا أدنانا.
وأحببت هذه الليلة أن أجعل القضايا قضايا الشباب, فأنا شاب أعيش مشكلات الشباب وطموحاتهم ومعاناتهم, وكثير من القضايا استفدتها من الشباب، وكم فرحت -ويعلم الله- هذه الليلة وأنا أرى الشباب من كل حدب ينسلون, يأتون إلى المسجد حاملين في قلوبهم حب الله وحب رسوله عليه الصلاة والسلام، فأبشروا ثم أبشروا ثم أبشروا.
وأشكر شكراً جزيلاً أصحاب الفضيلة العلماء الذين حضروا والأساتذة والأدباء, وأشكركم يا زملائي ويا إخواني من الشباب.
هذا اللقاء -كما قلت- للشباب فحسب، وسوف يكون هناك لقاء -إن شاء الله- للشابات ومشاكلهن وقاضاياهن، والقضايا كثيرة ومزدحمة, وقضايانا ومشكلاتنا ومسائلنا لا تحل إلا من المسجد ومن المحراب, من منبر محمد -عليه الصلاة والسلام- وأنا أعلم أن فيكم من هو أعلم مني وأصلح وأكرم وأتقى، ولكن كما قال الأول:
لعمر الله ما نسب المعلى بذي كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا استعرت وصوح نبتها رعي الهشيم
فأنا هذه الليلة الهشيم الذي يرعى لما ذهب النبت الأخضر، أسأل الله أن يعيده للمسلمين.(223/2)
ظاهرة ضعف الإيمان
أول قضايانا يا معشر الشباب: ضعف الإيمان.
ونشكو أحوالنا فيه إلى الله, ولكن أبشركم أن من علم أن إيمانه ضعيف، وشكا حاله إلى الله، وانطرح بين يدي رب العزة, وبقي عند عتبات الباب؛ يوشك أن يدخل -بإذن الله- كلما أكثر الطرق وقرع الباب.
إن أهل السنة يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، قال البخاري: باب زيادة الإيمان ونقصانه, قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] فتدرجوا في الهداية فأعطاهم الله الهدى, كتدرجكم في طلب العلم، وفي كثرة النوافل، وفي مصاحبة الصالحين، وفي حضور المحاضرات والدروس العلمية.
واعلموا أن الله لا يذهب علمكم سدى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وقال تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} [المدثر:31] وقال الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] فإذا ترك شيء من الكمال فهو نقص.
يا أيها الفضلاء! إن إيماننا يضعف كثيراً, ونحن نُحارب بالشهوات والأطروحات والأفكار الهدامة صباح مساء, المتمثلة في الوسائل الإعلامية وفي الأفلام، والأندية, والجامعات, والكتبة, فمالنا حيلة إلا أن نلتجئ إلى الله, لكن في المسجد: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36 - 37].
واعلموا -رحمكم الله- أن كثيراً من أهل العلم نص على ضرورة العمل في الإيمان، قال الحسن البصري رحمه الله: [[ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني, ولكنه ما وقر في القلب وصدقه العمل]] رواه مالك في الموطأ، وليس من كلامه عليه الصلاة والسلام.
فليس الإيمان دعاوى وكلاماً يقال:
والدعاوى مالم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء
الإيمان عمل, ولعلك تفاجأ بشاب من الشباب يدَّعي حب الله عز وجل وحب رسوله عليه الصلاة والسلام، ولكنه: ينام عن صلاة الفجر, ويهجر القرآن, ويعق والديه, ويسيء الجيرة مع جيرانه, ولا يقوم بحقوق المسلمين, ولا يتمعر وجهه عند المنكرات, ولا يغضب إذا انتهكت حقوق الله ومحارمه، فأين الإيمان؟! أين الإيمان؟!
قال الربيع بن خثيم: [[أتدرون ما الداء, وما الدواء, وما الشفاء؟ قالوا: لا.
قال: الداء: الذنوب، والدواء: الاستغفار, والشفاء: أن تتوب ثم لا تعود]] فنحن بحاجة إلى أن نتوب توبة صادقة, قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
قال الحسن: [[القلوب تحيا وتموت، فتحيا بالفرائض والنوافل، وتموت بالمعاصي]] ونحن في زمن قل الناصح, وذهبت القدوة إلا القليل, وانطوى العلم الشرعي, ووجدت أطروحات أهل الباطل, وملكوا الوسائل, وليس لنا إلا المنبر والمحراب، ولكن معنا الله, قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].(223/3)
التوبة النصوح وشروطها
إخوتي في الله! إنَّ مما يرفع هذا النقص في الإيمان -يا شباب الإسلام- التوبة النصوح إلى الواحد الأحد من الذي يقبل التوبة ويعفو عن السيئات ويعلم ما تصنعون؟!
إنه الله، والله تعالى تحدَّى أعداءه, وتحدَّى محاربيه أنه لا يغفر الذنب إلا هو، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
قال ابن القيم -رحمه الله-: شرائط التوبة ثلاثة:
1 - الندم.
2 - الإقلاع.
3 - الاعتذار.
قال: أما الندم فأوله تعظيم الجناية؛ أن تعلم أنك أخطأت خطأً عظيماً مع الله تبارك وتعالى، الذي أنعم عليك, وكساك ثوب الشباب, وأسدى لك الجميل, ثم قلبت ظهراً لجنب وأخطأت معه؛ ولذلك يغضب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من ثلاثة- لأنهم احتقروا الجناية, وعلموا أنهم ما أساءوا, واعتقدوا في أنفسهم أنّ ما عملوه حقير أو قليل- {ثلاثة لا ينظر الله إليهم, ولا يكلمهم, ولا يزكيهم, ولهم عذاب أليم: أشيمط زانٍ- شيخ كبير دنا من القبر ويزني- وملك كذاب- وما الداعي له أن يكذب وقد ملك الدنيا- وعائل مستكبر- وهو الفقير الذي يتكبر على عباد الله عز وجل}.
واتهام التوبة بألا تثق من توبتك ,فأنا أعرف من نفسي ومن إخواني أنهم يتوبون كثيراً، ويظن الواحد منهم أنه صدق في التوبة, لكن سرعان ما يعود إلى الذنب، فعليه أن يحذر، وأن يعلم أن السقوط قريب, وأن النفس أمَّارة بالسوء فليحاذر، وعليه بالتوبة دائماً ولا يثق بنفسه، فإن بعض الشباب تاب من معصية ثم عاد لها بعد سبع سنوات، ومنهم من عاد لها بعد عشر سنوات، والقلب يحن للذنب حتى يقع فيه فلا ينجو إلا بتوبة نصوح.(223/4)
علامة فساد التوبة
واعلموا أن من علامة فساد التوبة أمور:
منها: ضعف العزيمة, فلا يعزم على فعل الخير, يتوب من المعصية لكن تراه متخلفاً عن الفرائض, ووالله لو صدق في توبته ما تخلف عن أذان الفجر، ولو تقطع جسمه من الماء البارد، والحب ليس بالدعوى, قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
ومن علامات فساد التوبة وضعف التوبة: إلتفات القلب إلى الذنب الفينة بعد الفينة, فيحن إلى الذنب, كذنب الزنا أو النظر, أو استماع الغناء, أو ذنب تناول المخدرات، أو شرب الخمر, فتجده دائماً بعد شهر وبعد سنة يحن إلى ذاك، ويحاول أن يرتكبه، فإذا حيل بينه وبين الذنب، قال: أشهدك يا رب أني تبت، وهذه ليست بتوبة.
ومنها: أن يثق بنفسه, فإن الله -عز وجل- قال: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] فبعضهم يثق بنفسه, فإذا نهيته أن يسافر إلى الخارج وتنذره بالخطر أن يقع في فتنة من الفتن، قال: أنا واثق من نفسي، أنا قوي الإيمان، لا يمكن أن أقع في الخطأ؛ فيقع في الخطأ، فإن العزيز الحكيم هو الله، والغالب على أمره هو الله، فحذارِ حذارِ من هذا.
ومن علامات ضعف التوبة: جمود العين, فلا تدمع ولا تبكي أبداً, وهذا من علامة فساد القلب.
ومنها: استمرار الغفلة, فتجده مع الغافلين, وقد أنذره الله بالنذر, فرأى أحبابه, ورأى زملاءه يصرعون في حوادث السيارات, ويحملون على النعوش, ويدفنون أمامه, ويبعثرون في التراب؛ ومع ذلك لا يرتدع ولا يعود, ويسمع الإنذار من الخطباء والعلماء والدعاة ومع ذلك لا يرتدع.
ومنها: أنه لا يستحدث بعد التوبة أعمالاً صالحة، فتجده بعد الخطيئة مثله قبلها لا يزيد من عمله الصالح, ولا يحاول أن يستدرك ما فرط فيه في أيامه, أو أن يجمع ما مزق، وهذا من ضعف التوبة.(223/5)
علامات التوبة الصحيحة
إخوتي في الله! للتوبة الصحيحة علامات، وهي التي ترفع ضعف الإيمان:
منها: أن يكون العبد بعد التوبة خيراً منه قبل التوبة، فقد سئل شيخ الإسلام العلامة ابن تيمية -رحمه الله-: هل يكون العبد بعد التوبة مثله قبل الذنب؟ قال: قد يكون مثله أو أعلى أو دون ذلك، وهذه بحسب الأمور، وقد يكون -يا أيها الشاب- ذنب من الذنوب تلم به, سبباً لسعادتك في الدنيا والآخرة، ولا تعجبوا من هذا، قال الحسن رحمه الله: "إن المؤمن ليذنب الذنب فما يزال كئيباً باكياً حتى يدخل الجنة".
وقال سعيد بن جبير: [[رب عاملٍ عمل ذنباً ما زال الذنب بين عينيه حتى دخل الجنة]] فهذا شأن بعض الصالحين؛ أنهم أذنبوا وأخطئوا, فبكوا وتقطعت قلوبهم، حتى دخلوا بتوبتهم جنة عرضها السموات والأرض.
ومنها: ألا يزال الخوف من الله مصاحباً لك ليلاً ونهاراً.
قرأت في ترجمة سفيان الثوري: أنه كان إذا أراد أن ينام تقلب على فراشه يبكي خائفاً وجلاً، قال: أتذكر القبر بالفراش.
كلما أتى إلى فراشه ولحافه, تذكر ظلمات القبر وهول ذاك المكان الذي لا بد أن ننزله جميعاً.
والقبر فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءة
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
ومن علامات التوبة الصحيحة: انخلاع القلب؛ أن يكون قلبك منخلعاً من خوف الله متقطعاً, قال الله تعالى: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:110] قال الثوري: تقطع بالتوبة، لا يمكن أن يخرجوا من هذا الذنب إلا أن تقطع قلوبهم بالتوبة.
ومن علامات التوبة: أن ينكسر قلبك تواضعاً لله, فإن أنين المذنبين عند الله خير من إجلال العابدين, وبعض الناس يتكبر بفعل الخير، وبالحسنات والأعمال الصالحة حتى تلحقه في درجة الجبروت على الله، وبعضهم ينكسر بالذنب ويبكي ويتقطع ويخشع لربه حتى يكون هذا الذنب سبب سعادته عند الله -عز وجل-, وفي الحديث الصحيح: {أن رجلاً -من بني إسرائيل- قال لأحد المذنبين: تب إلى الله.
قال: اتركني وربي.
قال: والله لا يغفر الله لك.
قال الله عز وجل: من الذي يتألى علي، أشهدكم أني غفرت لهذا وأحبطت عمل هذا}.
ومن علامات التوبة: أن تلزم ما يرضي ربك -سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- من قراءة القرآن، وأن تلزم الطاعة حتى يأتيك اليقين, كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فلم يجعل الله -عز وجل- أجلاً في العبادة إلا بمسألة واحدة حتى يأتيه الموت, فليست العبادة شهراً ولا شهرين ولا ثلاثة ولا أربعة ولا سنة ولا سنتين, إنما هو عمر مستمر حتى نلقى الله -سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- بذلك.(223/6)
أسباب زيادة الإيمان
اعلم أن هناك أسباباً ترفع ضعف الإيمان، ذكرها أهل العلم، وقد وصلتني عشرات الأسئلة، ولا أبالغ إن قلت: مئات الأسئلة من الشباب، كلٌ يشكو ضعف إيمانه, وجمود عينه, وقسوة قلبه, وأنا من ذلك الصنف, نشكو حالنا إلى الله، ولعل الله -سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- أن ينظر لنا في هذا الجمع المبارك بنظرة رحمة فيقول لنا: انصرفوا مغفوراً لكم فقد رضيت عنكم وأرضيتموني:
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرارِ
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار
السبب الأول في زيادة الإيمان:
أن تناجي ربك -سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- وأن تكثر من دعائه ورجائه وتذكره كثيراً.
السبب الثاني:
أن تتدبر كتابه, فلا يلم شعث القلب إلا كتاب الله -عز وجل- ووجد أن كثيراً من الشباب تشاغلوا حتى بالعلم الشرعي عن قراءة القرآن, فتجد أحدهم في المسائل وفي الترجيحات والتنقيحات والتحقيقات وتخريج الأحاديث -وهو في طاعة ولكنه- تشاغل عن القرآن حتى قسا قلبه، فكيف بمن قسا قلبه بالمعاصي والمخالفات والجلوس مع البطالين؟!
ومنها وهو من أعظمها: أن تحافظ على الفرائض جماعة، فإن الله ضمن لمن حافظ على الفرائض جماعة ألا يخذله ولا يذله، وأن يحفظه في الدنيا والآخرة.
ومنها: أن تحافظ على السنن الرواتب, وأن تكثر منها, فإنك كلما سجدت لله سجدة رفعك بها درجة.
ومنها: أن تصاحب الصالحين وأن تحبهم {المرء يحشر مع من أحب} وقال -عليه الصلاة والسلام- كما في الحديث الصحيح: {والمرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل} رواه مسلم وغيره، وقال عليه الصلاة والسلام كما عند الترمذي: {لا تصاحب إلا مؤمناً, ولا يأكل طعامك إلا تقي} وأرى لزاماً على الشباب أن يجددوا إيمانهم بحضور الندوات والمحاضرات والدروس, وألا يقولوا: الملقي أقل منا علماً, فإن الله قد يكسبك بالحضور أموراً لا تحصل عليها في غير هذا المكان، منها: أن يذكرك الله في الملأ الأعلى.
ومنها: أن الملائكة تحفك بأجنحتها.
ومنها: أن السكينة تتنزل عليك.
ومنها: أن الرحمة تغشاك.
هذه بعض الأمور التي ترفع من درجة الإيمان، وزاد النووي وغيره أموراً: منها:
المراقبة؛ أن تعلم أن الله معك: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] وأنه يعلم سرك وعلانيتك، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7].
يا شباب الإسلام! يا فتية محمد عليه الصلاة والسلام! يا رواد الحق! إنه ينقصنا في عالم الإيمان مسائل.
ينقصنا محاسبة النفس كما كان يفعل السلف، كانوا يحاسبون أنفسهم عند النوم محاسبة عظيمة ماذا قدمنا من الخير، وماذا فعلنا من الشر.
ينقصنا أيضاً: استرشاد أهل العلم والدعاة وطلبة العلم, وطلب النصح منهم.
وينقصنا أيضاًً: زيارة المقابر، حتى ألهينا وشغلنا بالحياة الدنيا.
وينقصنا قراءة تراجم السلف , التراجم الحية المتمثلة في سيرة الصحابة والتابعين, والأئمة كـ أحمد , والشافعي ومالك والثوري والأوزاعي، وغيرهم كثير.
أيضاً ينقصنا الدعاء والمناجاة في الثلث الأخير من الليل، والجلسات الروحية بعد الشمس إلى طلوع الفجر وقبل الغروب: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:16 - 17].(223/7)
عدم الجدية
أيها الإخوة الأبرار
ومن مسائل الشباب ولعلها المسألة الثانية: عدم الجدية.
إن قطاعاً هائلاً من الشباب الملتزم لا يأخذ الأمر بجد.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [الأعراف:171] قال قتادة: [[قوة الجد، وقال مجاهد: [[بقوة: بعمل ما فيه]] وقال الله عز وجل: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم:12] وأجمع كثير من الفضلاء على أن القوة هي العمل وهو أن تأخذ كتاب الله عز وجل, وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام على أنهما نذير بين يدي عذاب شديد, وأنهما سر نجاتك في الحياة الدنيا فتأخذ الكتاب بقوة.(223/8)
هدي السلف في الجد في العبادة
كان الأسود بن يزيد يجهد نفسه في العبادة, فقد صام حتى اصفر جسمه.
على أنني لا أطلب منكم أن تقتدوا بأحد إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأقول لكم: إن سيرة العلماء والدعاة والعباد والزهاد تعرض على سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن وافقت فبها ونعمت، وإن لم توافق لم نقبلها ولم نأخذ بها، وهؤلاء ليس المقصود الاقتدء بهم فإنا أضعف من ذلك، ولكن انظر إليهم في الجد، فإن بعضهم صام أربعين سنة سرداً، وبضعهم كان يصلي في اليوم ثلاثمائة ركعة، وبعضهم بكى حتى أخذت الدموع خطين أسودين في خده, فهنا درس عظيم نأخذه أنهم كانوا أهل جد.
إذا علم هذا, فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {لكل عمل شرة ولكل شرة فترة, فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى} وهو حديث صحيح, والمعنى: أن العامل يعمل أولاً بجد, تأخذه حدة في العبادة ولكنه يفتر بعدها.
فوصيتي للشباب: أن يلاحظوا أنفسهم، فلا يزيدوا في العبادة على السنة، فتلقي بهم إلى العطل والخمول والبطالة، لكن عليهم بالتسديد والمقاربة، وعليهم بالمداومة على منهج النبوة منهج محمد صلى الله عليه وسلم, قال ابن القيم: تخلل الفترات أمر لازم للعبد, فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد, لم تخرجه من فرض ولم تدخله في محرم رجي له أن يعود خيراً مما كان.
وقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[إن لهذه القلوب إقبالاً وإدباراً, فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإذا أدبرت فألزموها الفرائض]].
إخوتي في الله! كلٌ منا يسأل نفسه: أما يمر بك يوم وأنت نشيط في العبادة تحب صلاة الجماعة, وتحافظ على النوافل, وتقرأ في اليوم الجزءين والثلاثة, ثم يمر بك يوم وأنت خامل لا تستطيع أن تؤدي الفريضة, ولا تقرأ في اليوم إلا ربع حزب أو أقل من ذلك؟ هذه مسيرة من قديم، وشنشنة نعرفها من أخزم! ومن يشابه أبه فما ظلم!! لكن أوصي نفسي وإياكم أنّ من تشجعت نفسه وطابت عزيمته؛ أن يكثر من النوافل، ومن خمدت نفسه أن يلزم نفسه الفرائض، فلا يترك فريضة ولا يرتكب محرماً، ففي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه}.(223/9)
الجدية في العقيدة
إن من صور الجدية التي يجب على الشباب أن يعيشوها: الجدية في العقيدة.
فالمؤمن يحمل رسالة ومبادئ، والمؤمن يعلم أنه بحمل عقيدته هذه مطالب أمام الله ماذا قدم لها؟
فيا إخوتي في الله! معنى أخذ عقيدة التوحيد بجدية أن تعيش لها, وأن تكون عندك أغلى من أمك وأبيك وزوجتك وولدك, وأن تعلم أن جمجمتك التي فوق كتفيك ثمن للعقيدة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] فتحيا بالعقيدة, وتموت للعقيدة, وترضى من أجلها, وتغضب من أجلها ثم لا تساوم على عقيدتك بثمن من الأثمان, ولا تبعها بشيء من الأشياء إني أعلم أن قطاعاً من الشباب لضعف عقيدته قد يتخلى عن شيء من مبادئه بسبب خوف, أو رغبة في شيء من الدنيا, أو مجاملة أو أمر آخر، ومعنى ذلك أنه ناقص الإيمان.
يا عجباً! يسجن الكافر ويعذب من أجل عقيدته! يقال له: عد عن عقيدتك وكفرك, فيقول: لا.
والمؤمن -أحياناً- قد يتخلى عن بعض عقيدته أو شيء من صلب عقيدته خوفاً من البشر, أو رغبة فيما عند البشر, وهذا خطأ كبير.
انظر إلى حبيب بن زيد رضي الله عنه ذاكم الشاب الطموح، الذي يقدَّم إلى مسيلمة الكذاب، فيطلب منه مسيلمة أن يعود عن دينه فيأبى, فيقطع منه قطعة من لحمه وتسقط على الأرض، فيأبى، فيقطع قطعة ثانية، فيأبى، وثالثة، فيأبى، حتى يقطع جسمه كله.
ودخل عبد الله بن حذافة السهمي على ملك فارس وقيل ملك الروم؛ فرأى أجسام المؤمنين وهي تغلي في القدور, فقال: تعود عن دينك وأعطيك نصف ملكي.
قال: والذي لا إله إلا هو, لو أعطيتني ملكك وملك آبائك وأجدادك على أن أعود عن ديني طرفة عين ما فعلت ذلك.
وغيرهم كثير، بل بعض المؤمنين حرق بالنار وبقي على لا إله إلا الله حتى مات.
رفع خبيب بن عدي على المشنقة وأخذ ينشد ويقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع
حتى مات ولم يعد عن دينه.
يقول له أبو سفيان وهو على المشنقة: أتريد يا خُبيب أن محمداً مكانك؟ قال: والذي نفسي بيده, ما أريد أني في أهلي وفي مالي وأن محمداً يصاب بشوكة.
لله درك! وبارك الله في أشلائك, وجمعنا بك في دار الكرامة.(223/10)
الجدية في الشخصية
من الجدية أيضاً: جدية الشخصية.
أن تكون علماً في قولك, واثقاً من نفسك, متحرراً من الرق إلا لله -سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عند مسلم: {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف} وأن تمثل شخصية عمر بن الخطاب في نفسك وطموحاتك وكلامك وفي مشيك، وألَّا تأخذ الإسلام بتهازل.
[[رأت عائشة رضي الله عنها وأرضاها شباباً يمشون -وهم نساك عباد- مشية هينة سهلة لينة تنبي عن الضعف والخور، قالت: ما لهؤلاء؟ قالوا: هؤلاء عُبَّاد نساك زهاد.
قالت: والذي نفسي بيده, أن عمر كان أعبد منهم, وأخشى لله منهم, وكان إذا ضرب أوجع, وإذا قال أسمع، وإذا مشى أسرع]] فخذ الكتاب بقوة، قوة الشخصية في الكلام، وفي الحركة، وفي المشي.(223/11)
جدية الهيئة
أيضاً من الجدية: جدية الهيئة
أن تلبس جميلاً طيباً مباركاً؛ حتى تظهر أمام الناس بمظهر الدين، قال عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم: {إن الله جميل يحب الجمال} وقال عليه الصلاة والسلام للصحابة: {تجملوا حتى تكونوا كأنكم شامة في عيون الناس} فأطالب نفسي وإخواني من الشباب أن يتطيبوا, وأن يظهروا باللباس الجميل؛ الذي ينبي عن نظام, وعن دين عظيم؛ حتى يقبل منهم الناس دعواتهم, ولا يصدقوا أهل الخرق من الصوفية المتهالكة الذين شوهوا سمعة الدين ووجهه.(223/12)
علو الهمة
ومنها: علو الهمة.
فلا ترضى من الصلاة إلا بأحسنها وأخشعها, ولا ترضى من العلم إلا أن تأتي على أطرافه وتجيد فيه، ولا ترضى في تخصصاتك إلا وأنت المبرز الأول:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
وكما قال أبو فراس، وهمته في الدنيا لكن همتنا نحن في الدين، قال:
ونحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر
فخذ الصدر دائماً وإنني أطالب إخوتي في كلية الشريعة، أن يكونوا أئمة, وأن يجعلوا في أذهانهم أن يكونوا هم مفتو المستقبل, وأئمة مجتهدين في القريب العاجل, يقودون الأمة بالفتوى, وقال الله, وقال الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأطالب أخي في كلية الطب أن يكون طبيباً ماهراً متفوقاً على الطبيب الكافر؛ حتى نستغني بأطبائنا البررة المصلين الساجدين عن الأطباء الكفرة الملاحدة الزنادقة شكراً للأطباء الذين حملوا سنة محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك المهندس نراه مصلياً، ولكنه بارع في علمه مقبول عند الله عز وجل ومأجور على ما فعل وكذلك التاجر الأمين عند الله من أوليائه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, وقد مدح صلى الله عليه وسلم التجار الأمناء وكذلك الفلاح الذي يُؤدي مهمته بإتقان وعمل، فعند البيهقي بسند حسن، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه}.
وهناك صنف من الشباب يعيش بطالة تركوا العمل, وتركوا الوظيفة, والدراسة هربوا من الحياة بحجة أن الدنيا فانية، وأنها تؤثر على القلب, وأنها تهدم الدين، وقد افتروا فيما قالوا -سامحهم الله وردهم إلى الصواب- فإن الدين عمل، ولمن تتركون الحياة والله استخلفكم واستعملكم فيها؟ الدين إنتاج الدين أن تكون عاملاً في الورشة, أو طبيباً في العيادة، أو مهندساً منتجاً متحضراً ومقدماً حضارة للإنسان.
دخل عمر -رضي الله عنه وأرضاه- المسجد، فوجد شباباً في الزوايا يصلون ويتعبدون فقال: [[من أنتم؟ قالوا: عباد.
قال: من يطعمكم؟ قالوا: الله.
وهل شك عمر أن المطعم هو الله؟ قال عمر: أنا أعلم أن الله يطعمكم, لكن السماء لا تنزل ذهباً ولا فضةً من يطعمكم؟ قالوا: جيران لنا.
قال: جيرانكم خير منكم, انتظروني قليلاً.
فأغلق عليهم الباب وذهب وأتى بدرته التي تخرج الشياطين من الرءوس، وضربهم ضرباً مبرحاً حتى سالت دماؤهم، وقال: اخرجوا اعملوا، إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة]].
فيا إخوتي! لا بد من الجدية وترك الخمول والنوم الطويل والتكاسل؛ بحجة أن الحياة للكفرة وأن لنا الآخرة, فلا يصل العبد إلى الجنة إلا من طريق الدنيا، وعمر كان كاسباً يبيع ويشتري، وكان من أغنى الناس أبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، ولا بد أن نراجع السيرة مراجعةً تامةً قويةً.(223/13)
الجدية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيضاً أطالب إخواني بالجدية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد يصل الشاب إلى درجة أن يموت قلبه, وعلامة ذلك ألا يأمر ولا ينهى؛ لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر, وقد حذَّر شيخ الإسلام من ذلك، وقال: لا بد للعبد أن يأمر وينهى ومن لم يفعل ذلك فلن يصبح في قلبه من الإيمان حبة خردل؛ فليشكُ حاله إلى الله, وليطرح نفسه على عتبات العبودية، وليعلم أنه أخطأ كثيراً.(223/14)
الجدية في طلب العلم
ومن الجدية أيضاً: الجدية في طلب العلم -كما قلت- فيحافظ على الدروس العلمية التي تقام في المساجد، وليأت إليها ولو لم يكن الحضور إلا هو لكفاه أجراً وفخراً وشرفاً أنه حضر واجتمع وطلب العلم.
إن الشاب يندفع أولاً اندفاعاً هائلاً ثم يتلاشى ويتلاشى فأنا أعرف دروساً قامت على خمسين أو ستين شاباًً ثم تلاشت إلى ثلاثة أو أربعة, والخطأ من الشباب أنهم ما واصلوا المسيرة، وما علموا أن هذه فرصة سانحة, فتح الله لك درساً فاحضره.
كذلك بعضهم لا يجدُّ في بحثه، فإذا كُلِّف ببحث مسألة توانى عنها وتكاسل حتى تذهب عليه الأيام، ثم يأتي ببحث ميت أو بحث لا جدوى فيه ولا تحقيق، وكذلك التواني عن حضور المحاضرات العامة، وأنا أعتبر أن من يحضر هنا يشد من أزر المؤمنين, وأنه ينصر عباد الله الموحدين، وأنه يرغم الشيطان.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: الدين مبني على المراغمة؛ ولا يرى الشيطان أحقر منه في مثل هذه الليالي؛ أن يرى العباد بالمئات بل بالألوف يجتمعون على محاضرة، يريدون (قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام) فالشيطان وأولياؤه من المرتدين والمنافقين يندحرون ويذوقونها غصصاً إذا رأوا هذا التجمع الإيماني المبارك العاطر.
يا رب أحي ضميره وليذوقها غصصاً وتتلف نفسه الآلام
هذه بعض الصور التي تفوتنا كثيراً في عالم الجدية، ومنها أيضاً: عدم أخذ الجدية في أخذ سنن محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تفاجأ بمن يحمل العلم الشرعي وهو لا يطبق سنة محمد عليه الصلاة والسلام في لحيته أو في تقصير ثوبه، أو تراه يلبس الذهب، أو الحرير، أو يستمع الغناء، أو يفوت صلاة الجماعة, فتظن أنه لا يصدق ما يحمل, أو تتهمه في دينه, وهذا أمر واضح، فإن الله جعل على الإيمان دلائل وعلامات، قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
فالحذر الحذر من عدم الجدية في تطبيق السنن, والذين يهونون من شأن السنن؛ كاللحية والثوب والسواك, وخصال الفطرة؛ لا يعقلون ولا يفقهون في دين الله إن محمداً عليه الصلاة والسلام أتى بلا إله إلا الله وأتى بإعفاء اللحية، وأتى بلا إله إلا الله وبقص الشارب، وأتى بلا إله إلا الله وبتقصير الثوب، وأتى بلا إله إلا الله وبتحريم الغناء.(223/15)
(وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)
المسألة الثالثة: عدم العدل في القول عند كثير من الشباب.
وأقصد من الملتزمين, فكلامي مع الغير سوف يكون في حلقات مقبلة إن شاء الله.
مما يعاب على الشباب التعامل بالعاطفة المحضة, والتي قد تجنح بصاحبها فتخرجه عن جادة الصواب، ومن ذلك: أن تمنعه من العدل في القول، فإذا أحب شخصاً نسي معايبه، وإذا أحب فئة نسي معايبها، وأثنى عليها بالمديح، وأعطاها أكثر من حقها, وإذا أبغض شخصاً نسي محاسنه، وإذا أبغض فئةً نسي محاسنها وأعمالها الصالحة, وظلمها وجحدها وأخذ ينكث عليها بالنكث في كل مجلس.(223/16)
الأمر بالعدل في القرآن الكريم
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] وقال سبحانه: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135] ويقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى:15] فهو عادل عليه الصلاة والسلام، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90].(223/17)
العدل في الحب والاتباع
فالحذر الحذر يا شباب الإسلام من أن تغلب علينا أهواؤنا، فإذا أحببنا الشيء مِلْنَا بالكلية إليه, وقد جاء في الأدب المفرد للبخاري، والألباني يجعله من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام, وأظن كما قال كثير من العلماء أنه من كلام علي رضي الله عنه: [[أحبب حبيبك هوناً ما فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما]].
إن حب الناس بالعاطفة لا يجدي, والانسياق وراء العاطفة ليس بصحيح، وبعض الشباب إذا أحب شخصاً -ولو كان عالماً أو داعية أو فاضلاً- كساه من المحاسن كأنه معصوم أو كأنه نبي مرسل، فيقول: لا يخطئ، ولا يمكن أن تأتي منه نادرة, ومثله يقول الحق ولا يقول الخطأ, فيتقمص شخصية ذاك ولا يراجعه ولا ينقده, أو لا يعرض كلامه على الكتاب والسنة، قال مالك رحمه الله: [[ما من امرئ إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب ذاك القبر عليه الصلاة والسلام]].
فالرسول عليه الصلاة والسلام هو وحده المعصوم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ما من أحد إلا يحتاج لأن يحتج لقوله، إلا الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه يحتج بقوله.
وقد سبق معنا في دروس أنه لا بد للعبد من معصوم -وهو الرسول عليه الصلاة والسلام- يأخذ بأقواله, ولا بد أن يعرض أقوال غيره على أقواله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال الله ورسوله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر]] هذا وهو أبو بكر وعمر، فما بالك بغيرهما رضي الله عنهما؟!
من الشباب أيضاً: من إذا رأى خصلة واحدة مذمومة في شاب؛ سابّه وهجره وقطعه، وأخذ منه موقفاً حاداً، ولا ينظر لبقية المحاسن فيه، والولاء والبراء، والحب والبغض عندنا نسبي, وقد يجتمع في الشخص الواحد حب وبغض تحبه لطاعة؛ لأنه يحافظ على الصلوات الخمس، وتبغضه لأنه يشرب الدخان تحبه لأنه يبر والديه، وتبغضه لأنه يستمع الغناء، فعلى العبد أن يكون عادلاً وأن يكون ميزاناً، ولا يميل بالكلية إلى جهة من الجهات.
كذلك بعض الفئات وبعض الجماعات فيها خير وفيها نقص؛ فعليك أن تحبها للخير الذي فيها، وتنصحها وتنبهها على النقص الذي يكمن فيها؛ لأن أفرادها ليسوا معصومين وليسوا بأنبياء، لكن التنبيه والنصيحة لابد منها؛ حتى لا يقع الناس في هذه الأخطاء المتكررة.(223/18)
النبي صلى الله عليه وسلم وميزان العدل
انظر إليه عليه الصلاة والسلام، {يؤتى بشارب الخمر قد شربها عدة مرات، فيقول بعض الصحابة: أخزاه الله، ما أكثر ما يؤتى به من شرب الخمر، قال عليه الصلاة والسلام: لا تقولوا ذلك، والله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله} فانظر كيف علم أنه يحب الله ورسوله، وأثنى عليه بتلك الخصلة, مع العلم أنه شرب الخمر مرات كثيرة.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
أتي بـ حاطب بن أبي بلتعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد أخبر الكفار بمسير الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم, فأتي به، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: {يا رسول الله, دعني أضرب عنقه فقد نافق.
فقال: يا عمر , أما تعلم أنه من أهل بدر , وأن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}.
فعلينا أن نكون موازين في أحكامنا وأقوالنا, ولا نتبع العواطف، وإني أعلم كثيراً من أمثالي من الشباب تسوقهم العاطفة والميل الكلي؛ حتى يضخموا المحاسن فيجعلونها كالجبال وهي صغيرة، ويجعلون المساويء لا شيء، وبالعكس؛ يجعلون المساوئ كالجبال -وهي لا شيء- وينسون المحاسن، فعلى العبد أن يكون متأملاً لما يقول, وينظر بعينية؛ فإن المحب إذا أحب نسي العيوب، والمبغض إذا أبغض نسي الحسنات:
فعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا(223/19)
ضياع الأوقات عند الشباب
من قضايا الشباب: صرف الوقت فيما لا ينفع ولا يفيد.
وهذه مأساة لا زلنا نعيشها، حتى في صفوف الدعاة، فالوقت رخيص عند المسلمين، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] وكم تكرر على الأسماع قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
وبادر شبابك أن يهرما وصحة جسمك أن يسقما
وأيام عيشك قبل الممات فما دهر من عاش أن يسلما
ووقت فراغك بادر به ليالي شغلك في بعض ما
وقدم فكل امرئ قادم على بعض ما كان قد قدما
وسوف يعلم الشباب إذا لقوا الله عز وجل غداً, أي أوقات أذهبوها, وأي أوقات أضاعوها, ويا حسرتنا على ما فرطنا في جنب الله, وهي الأيام والدقائق والساعات الغالية، وإنني أعلم أنّ من الشباب من يقف مع زميله خارج المسجد يتكلم معه ساعة كاملة, فإذا طلبته أن تدرس معه مسألة, اعتذر بقوة.(223/20)
قضايا في الدعوة إلى الله(223/21)
احذروا العجلة
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114].
وكان النبي عليه الصلاة والسلام ينبه أصحابه إلى عدم العجلة، فإن دين الله عز وجل لا يقبل العجلة، والله عز وجل جعل العبد حكيماً: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] استعجل بعض الصحابة النتائج، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده, ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون} وحدث ما قاله عليه الصلاة والسلام، فأتم الله الدين، ونصره نصراً مؤزراً لكن بعد ثلاثٍ وعشرين سنة, ولا بد -كما قال ابن الجوزي في صيد الخاطر - لا بد من عقبات، ولا بد من عراقيل وعوائق، ولا بد من أن تسقط تارة وتقوم تارة، وأن تكسب تارة, وتخسر تارة, ولا بد أن يواجهك بعض الناس بسب وشتم، وبعضهم لا يستجيب لك، وبعضهم يكسحك أمام الناس، وبعضهم يستهزئ بك، ولكن تلقى من الصنف الآخر من يحييك ويرحب بك ويهش ويبش, فالحذر كل الحذر من استعجال النتائج.
ووصيتي للشاب خاصة من يدعو أهله: أن يمكث معهم طويلاً, وألا يستعجل بهم النتيجة, وأن يأخذ مسائل العقيدة مسألة مسألة, ويبدأ بكبار المسائل بيت لا يصلي أهله، ما هي حيلة الشاب المهتدي في البيت؟ أتذهب إليهم وتقول لهم: اتركوا سماع الغناء وتقف معهم ليل نهار في سماع الغناء؟
إن ترك الصلاة أعظم, إن ترك الصلاة كفر, وأنا أطالبك بقضية الصلاة فقط, لا تتحدث عن الغناء, ولا تتحدث عن إسبال الثوب، ولا تتحدث عن مسألة شرب الدخان، ولا تتحدث عن الغيبة، ابق معه ليل نهار في مسألة الصلاة, فتأتي لهم بفتاوى أهل العلم, والأشرطة وماذا قال الدعاة في الصلاة, كل هذا بالتي هي أحسن؛ فإذا صلوا فابدأ بالمسألة التالية، فلا بد من التدرج حتى تصل معهم إلى قضايا محددة, ولا تبدأ بصغار المسائل.
إن الرسول عليه الصلاة والسلام أتى إلى العرب ومنهم من يسمع الغناء, ومنهم من يزني, ومنهم من يأكل الربا, ومنهم من يشرب الخمر, فأتى بلا إله إلا الله محمد رسول الله، فلما استجابوا أمرهم بالصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، ثم ذكر المحرمات حتى وقف في عرفة في آخر أيامه فأنزل الله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فلا نريد العجلة، وإن العجول يخطئ دائماً.
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل(223/22)
الغلظة والعنف في الدعوة
أيضاً من قضايا الشباب: الغلظة والعنف في الدعوة.
وهذا ليس عند الشباب جميعاً, ولكنه عند بعضهم، فتجده إذا تكلم أغلظ في الكلام, وجرح المشاعر, وقد يأخذ كلاماً نابياً تنبو عنه السهام، وعلى العبد أن يكون رقيقاً في تعامله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
يقول أحد السلف: كن باش الوجه لين الكلمة؛ تكن عند الناس أحب ممن يعطيهم الذهب والفضة.
وفي الحديث: {إنكم لا تسعو الناس بأموالكم ولكن تسعوهم بأخلاقكم} وقد قسَّم الله الأخلاق بين الناس كما قسم الأرزاق.
فأنت تريد مني أن أستجيب لك وقد جرحت مشاعري, وقد نصحتني وفضحتني أمام الناس, وأمام الجماهير، كيف أستجيب لك؟! قال الشافعي:
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت قولي فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
لا نريد غلظة في الخطاب: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] إن الكلمات النابية ليست في سنته عليه الصلاة والسلام.
أسألكم بالله -يا شباب الإسلام- هل سمعتم في الكتب الستة والمسند والمعاجم، وكتب سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ودواوين الإسلام كلمات نابية قالها الرسول صلى الله عليه وسلم للمدعوين؟ هل أغلظ في القول؟ لا والله, إنما كان يأتي بالخطاب المحبب العجيب اللين السهل؛ حتى يصل إلى القلوب بالبسمة وباللين.
فالحذر الحذر فإن بعض الناس يأمر بمعروف وينهى عن منكر، فيفوت من المعروف ما هو أعظم بسبب أمره, ويأتي من المنكر بأعظم بسبب نهيه، قال ابن تيمية رحمه الله: ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف, ونهيك عن المنكر بلا منكر.(223/23)
التذبذب
من قضايا الشباب أيضاً: التذبذب.
وهذا مرض، مرة يكون طائعاً ومرة يكون عاصياً، مرة محافظاً على الصلوات الخمس, ومرة تاركاً لها، مرة مع أولياء الله، ومع أحباب الله, مقبلاً على الله, ومرة مع الأشقياء البعداء في الملاهي والمنتديات وأماكن اللغو هذا تذبذب وسببه أن هؤلاء تربوا على العواطف، ولم يربوا على علم راسخ, أو على إيمانيات, أو على ترسيخ شأن العقيدة في قلوبهم أو على القضايا الكبرى من قضايا الإسلام, فالوصية لهؤلاء أن يثبتوا, وأن يديموا طاعة الله عز وجل, وأن يعلموا أن الأمر جد, وأنه لا يتحمل هذا التذبذب والتلاعب على الحبال.(223/24)
جلساء السوء هم السبب في التذبذب
إن سبب التذبذب هم جلساء السوء؛ فتجد الشاب لا يترك جلساءه الأولين, يأتي مع الطائعين فإذا خرج من عندهم ذهب إلى أولئك، والله عز وجل يقول: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فاحذر من جليس السوء.
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي(223/25)
التذبذب في الأمور الخاصة
ومنها أيضاً: تذبذب الشاب في أموره الخاصة, كتذبذبه في الدراسة، وقد عرض لي شيء من هذا, وقد أضر هذا بكثير من الطلاب، تقول العرب: من ثبت نبت.
إذا دخلت قسماً واستخرت الله -عز وجل- ورضيت به فاثبت فيه حتى تواصل وتنتهي, لكن بعضهم يدخل سنة في الطب, وسنة في الشريعة, وسنة في أصول الدين, وسنة في علم النفس, وسنة في الإدارة, ثم يخرج في الأخير بسنة واحدة, مكسبه في خمس سنوات سنة واحدة, بسبب تذبذبه.
ومشتت العزمات ينفق عمره خفقان لا ظفر ولا إخفاق
لا يدري، حيران، لا ظفر ولا إخفاق.(223/26)
التذبذب في طلب العلم
ومثل هذا: التذبذب في طلب العلم، فليس عنده منهجية -وسوف يأتي الكلام عن ذلك- مرة يقرأ في كتاب أدب, ومرة في التاريخ, ومرة يقرأ في السير، ومرة في الحديث, ومرة في التفسير, فيصبح عنده ثقافة عامة، ولو عرف لرتب نفسه وبدأ بخطى رتيبة في طلب العلم يأخذ المتون -أولاً- المقربة المسهلة المبسطة، فيحفظها أو يقرأها قراءة متأنية حتى يستظهرها, ثم يقرأ شروحها, ثم يراجع المسائل، وأنا أنصح الشباب أن يأتوا إلى الدروس العلمية عند المشايخ، حتى يبدءوا حياتهم لبنة لبنة.(223/27)
التذبذب في الأمور العامة
التذبذب -أيضاً- في الأمور العامة للشخص، مثلاً: الزيارت، فتجده -أحياناً- يزور باستمرار، فيكثف من الزيارات في شهر حتى يثقل على الناس، ثم يقطع الزيارة في مرحلة من المراحل حتى لا يراه الناس, وهذا ليس بصحيح، بل هو خطأ؛ فإنّ على المسلم أن يكون صاحب جدول, وصاحب خطة مرسومة, كما يفعل أهل الدنيا، فإن لهم في مشاريعهم خططاً ثلاثية ورباعية وخماسية وسداسية يبنون عليها حياتهم.(223/28)
التذرع بالذنوب لترك الدعوة إلى الله
من قضايا الشباب: التذرع بالذنوب وترك الدعوة بسبب أنهم يحملون ذنوباً, وأن الواحد منهم عاصٍ فتطالبه أن يدعو إلى الله عز وجل، وأن يشارك في الخطابة, أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, أو في التعليم, أو في إسداء الكلمة البارة, وفي نصيحة إخوانه، فيقول: أنا رجل مذنب ومثلي لا يدعو الناس، وهذا خطأ نبه عليه أهل العلم, وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور:21].
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
وأنا أسأل هؤلاء الشباب: هل ينتظرون إلى درجة أن يصبح الإنسان منهم معصوماً لا يخطئ؟
لا يكون هذا أبداً، والمعصوم هو محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال {كل ابن آدم خطاء, وخير الخطائين التوابون} وقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: {والذي نفسي بيده, لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم}.
يقول رجل للإمام أحمد: يا أبا عبد الله , هل يبقى الرجل حتى يكمل ثم يدعو الناس؟ قال الإمام أحمد: ومن يكمل؟ من يبقى حتى يكمل، فادعُ الناس؛ لأن عندك حد أدنى من الطاعة، فأنت تؤدي الفرائض وتجتنب الكبائر, لكنك تقع أحياناً في خدوش وفي زلات وسيئات وخطايا, فاستغفر وتب، لكن لا تسكت عن الدعوة، لا تسكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة أنك مذنب.
قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس: وقد لبس إبليس على بعض المتعبدين فيرى منكراً فلا يغيره, ويقول: إنما يأمر وينهى من قد صلح، وأنا لست بصالح فكيف آمر غيري.
وهذا غلط؛ لأنه يجب عليه أن يأمر وينهى ولو كانت تلك المعصية عنده، وقد سبق معنا قول شيخ الإسلام وأكرره، يقول: وكل بشر على وجه الأرض فلا بد له من أمر ونهي ولا بد أن يؤمر هو وينهى.
وقد ذكر شيخ الإسلام في المجلد العاشر من الفتاوى في وصيته لـ أبي القاسم المغربي: أن العبد لا بد له أن يذنب, وأن الذنب حتم على العبد, لكن عليه أن يستغفر.
فوصيتي للشباب ألا يعتذر أحدهم بالذنب، وأنا أعرف شباباً تركوا خطبة الجمعة بسبب أنهم يقولون: نحن أهل معاصي، تطلب من الواحد منهم أن يلقي كلمة وأن يعظ الناس، فيقول: أنا عاصي.
ولو كان يشترط في الواعظ والداعية والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر العصمة ما كان دعا ولا وعظ أحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم.
فيا إخوتي! نسدد ونقارب، ونأمر وننهى, فلعل الله أن يكفر بسبب دعوتك خطاياك ومعاصيك التي وقعت فيها.(223/29)
الانعزال عن المجتمع
من قضايا الشباب التي يعيشها: الانعزال عن المجتمع.
وهذا ليس بكثير في قطاع الشباب، لكنه في فئة وفي شريحة من الشباب, أن الواحد منهم إذا استقام فرَّ من المجتمع وهرب إلى بيته واختفى بحجة أن البلد أصبح بلد معاصٍ, وأن الناس مذنبون، وأن الخطايا كثرت, ويقول: فر بدينك فرارك من الأسد.
ويقول أحدهم ويستدل بالحديث: {عليك بخاصة نفسك} وأحدهم يستدل أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: {يوشك أن يكون خير مال المرء المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن} فتجده من بيته إلى المسجد، يترك المجتمع والمسجد والدراسة والكلية والفصل والسوق، وهذا مخطئ.(223/30)
المخالطة مع الصبر أفضل
قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم} رواه أبو داود وغيره بسند صحيح، وهذا أمر واقع, فإن من يخالط الناس يرى منهم النكال والاستهزاء والتشهير، ويرى منهم الغصص, لكنه يصبر ويحتسب، وهذا شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإن الأنبياء لم يبعثوا في الكهوف, والذي يريد أن يعتزل بدينه قد يسيء للإسلام إلا في بعض المراحل والأحوال والأشخاص, لكن أن تكون هذه ظاهرة ويكون هذا منهجاً مدروساً فلا نوافق عليه, وليس بصحيح.
فيا إخوتي في الله! على العبد أن يتقي ربه، وألا يعتزل إخوانه المؤمنين, وأبشركم أن الحال بخير والحمد لله، وأن الناس مقبلون على الطاعة, وأنهم يقدرون كلماتك, ويرحبون بك إذا أمرت ونهيت, ولم يأتِ زمن لا يقال في الأرض: لا إله إلا الله أو الله الله.
بل ما زال هناك مصلون وصائمون وصادقون وعباد وأبرار, فخالطهم، وأمر وانه.(223/31)
العزلة مطلوبة أحياناً
قال ابن تيمية -رحمه الله-: لا بد للعبد من أوقات يعتزل فيها بنفسه، لذكره ودعائه ومحاسبة نفسه.
ولكن يجب عليه المخالطة في مثل صلاة الجماعة والجمعة, والأعياد، ثم يستحب أن يخالطهم في الدروس العلمية والمحاضرات العامة.
مثلاً: الشاب الذي حضر مثل هذا الدرس أو غيره من الدروس، وشاب غيره يقرأ في بيته القرآن، فرأيي أن من حضر هنا أفضل ممن بقي هناك؛ لأنه حضر ليكسب أربعة أمور ذكرتها، وكثّر سواد المؤمنين، وأرغم الشيطان, وأظهر التضامن مع إخوانه, وقوّى من جانب الدعوة؛ لأن حضوركم تقوية للعلماء والدعاة وطلبة العلم، وانتصار للا إله إلا الله، وإرغام للشيطان وأوليائه.(223/32)
الفتاة الداعية
أيضاً من القضايا -وهذه للشابات وسوف يأتي حديث للشابات مستفيض إن شاء الله-.
فالشابات ابتعدن عن الدعوة والقيام بها؛ بحجة أن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للرجال, والله -عز وجل- يقول في محكم كتابه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] فالمرأة لا بد أن تكون آمرة ناهية داعية إلى منهج الله عز وجل, عليها من التكليف بين بنات جنسها ما على الرجل، فمن يدعو النساء إلا المرأة, ومن يعلم ويربي وينصح النساء إلا المرأة؟! وهذه أمانة محمد عليه الصلاة والسلام على عواتق النساء.(223/33)
من داعيات الإسلام
وقد أخرج الإسلام داعيات وآمرات وناهيات، كـ عائشة رضي الله عنها، وحفصة بنت عمر رضي الله عنها، وكذلك حفصة بنت سيرين وعمرة وفاطمة بنت سعيد بن المسيب وغيرهن كثير، بل على مر التاريخ وجد آلاف النساء من العالمات المحدثات والمفسرات والفقيهات, يعلمن ويدرسن.
إني أرى من النقص الكبير في مجتمعنا ألا توجد دروس للنساء، وهذه رسالة أبعثها إلى مركز الدعوة في هذه المنطقة؛ أن يوجدوا دروساً خاصة للنساء، يدرسن النساء ويعلمنهن، وكم أحمد الله عز وجل أن رأيت في كثير من المدن دروساً خاصة للنساء في التفسير والفقه والحديث؛ لأن المرأة تقبل من المرأة، وتستطيع أن تدخل معها في مسائلها الخاصة، وتحدثها وتبادلها الكلام فهذا أمر مطلوب.(223/34)
مجالات الدعوة عند المرأة
وتتمثل دعوة المرأة في بيت أهلها وزوجها، وبيوت جيرانها، وشكرًا لتلك المرأة التي هدت زوجها إلى صراط الله المستقيم, وقد ذكرت في كثير من القصص، وهناك عشرات النساء سبب البركة في البيت والهداية فيه أنها دخلت بيت زوجها، فقلبت البيت رأساً على عقب إلى صراط الله المستقيم، ولما دخلت البيت دخلت معها السكينة والرحمة والنور والبركة, وأصبحت تأمر وتنهى وتعلم السنن؛ بسبب استقامتها على منهج الله عز وجل.
المرأة داعية في مجالسها عند جاراتها, وفي فصل دراستها وتدريسها, وفي لقائها مع أخواتها, تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فلا ترتع مع النساء في الغيبة -وفواكه النساء الغيبة والنميمة إلا من عصم الله- ولا تذكر معهن الفحش, بل تتدارس معهن كتاب الله عز وجل، وكتب أهل العلم وفتاوى العلماء, وتستغفر معهن وتسبح، وتدعوهن إلى ما ينفعهن في الدنيا والآخرة.
إنها مهمة عظيمة, وإن مما يؤسفنا أن يكون المكان ضيقاً على النساء في هذا المسجد أو في غيره, ولكن ماذا نفعل؟ ونحن نعتذر كثيراً في كل لقاء, لكن عسى الله عز وجل أن يأجر من أتى, ولعل في الشريط وفي سماعه عوضاً لمن لم تحضر في هذا اللقاء المبارك، ومن نوى وجه الله عز وجل وقصد الخير كتب له الأجر, ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته، ورب من مات على فراشه وهو شهيد، وقال صلى الله عليه وسلم: {من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء, وإن مات على فراشه} رواه مسلم، وهي النية الصادقة التي يفعلها كثير من المؤمنين ثم لا يدركون الأعمال؛ فيكتب الله لهم بنياتهم.
وكما في الخبر: {نية المؤمن خير من عمله}.(223/35)
قلة الاطلاع عند الشباب
من قضايا الشباب: ضحالة المعرفة وقلة الاطلاع.
لم يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتزود من شيء إلا من العلم النافع، قال له الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] والعلم إنما يزيد -يا أيها الشباب- بكثرة الاطلاع, وبمنافسة أهل العلم, والمناقشة, والاستفادة, والمساءلة, يعجب طالب العلم إذا سأل إخوانه في جلسة من الجلسات: هل عندكم أسئلة في أي مجال؟ فيقولون: لا.
وذلك ينبي أنهم لا يقرءون.
قيل لـ ابن عباس رضي الله عنهما: [[بم نلت هذا العلم؟ قال: بقلب عقول ولسان سئول]].
وسل الفقيه تكن فقيهاً مثله من يمضِ في علم بحق يمهر
فعليك أن تسأل كثيراً, وأن تكون ملحاحاً في الأسئلة.(223/36)
السؤال ممقوت إلا في حالتين
والسؤال كله ممقوت إلا في بابين:
الأول: سؤال الواحد الأحد، فإنه يرضى كلما سألته، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].
الثاني: سؤال أهل العلم, فإنهم يفرحون, وتزيد أنت من معلوماتك ومن ثقتك وفقهك.
أيها الإخوة! إن كثيراً من كتب أهل العلم التي ألفوها -وهي كنوز في مكتباتنا- لا يعرفها الكثير, ولم يقرءوا فيها, ولم يفتحوها, وهذا خطأ كبير إن أوقات الفراغ عندنا جعلتنا ننفصل عن تراثنا الخالد وتقل معلوماتنا ومعرفتنا, لماذا لا يكون عندنا كتب جيب؟ كل واحد لا يخرج من بيته إلا وهو يحمل كتاب الجيب مع المصحف.
إن بعض الناس ختم كتباً بسبب هذه الأوقات الضائعة؛ الانتظار في مكان الرحلة في الطائرة, الانتظار في المطار, ركوب السيارة ونحو ذلك؛ هذه تختم فيها كتباً، أما تضييع الأوقات في غير طائل، أو الانتظار حتى تتهيأ أمورك ويجتمع شملك، فإن الدنيا لا تجمع شمل أحد.
فوصيتي لإخواني: أن يكثروا من القراءة والمطالعة الجادة, وأن يكون لأحدنا مكتبة هائلة فيها من كتب أهل العلم, ولا يشترط أن تكون كثيرة الكتب؛ فإن القليل المبارك نفعه عظيم، تكون هناك قائمة مباركة, والعبرة ليست بالكتب, بل العبرة بالقراءة، العبرة أن تكرر وتقرأ وتبحث وتسأل.(223/37)
اطلع على واقعك
أيضاً: يا أيها الإخوة! ينقص كثيراً من الشباب الاطلاع على واقع المسلمين, وما يعيشه المسلم في واقعهم, فتجده ينعزل حتى ولو كان مع علم السلف، العلم المبارك، لكن لا يعفيه هذا أن يطلع على الأطروحات التي في الساحة, وعلى الكتب المؤلفة في هذه المرحلة، والمجلات الإسلامية, والصحف وما يكتب فيها؛ حتى يكون على بصيرة بواقعه وببيئته يعرف كيف يتكلم, وكيف يدعو، ويعرف ماذا يخطط لدينه، أما أن يقف في عزلة عن عالمه وعن واقعه فليس بصحيح, وقد قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] فعلى الأقل لا بد أن تقرأ ولو صحيفة في اليوم، ومجلة إسلامية في الأسبوع, وأن تعرف أن هناك خططاً, ووسائل, وأسراراً, وهناك ما يحاك ضد هذا الإسلام, فتكون على بصيرة حتى تعلم أين تضع قدمك.
هذا مما يطلب من شباب الإسلام, ومن أهل الحق الذين يحملونه, ويطلب منهم أن يبلغوه للناس.
إخوتي في الله! بقيت قضايا كثيرة كثيرة لا تنتهي, ولكني أسأل الله عز وجل أن يعين على إتمامها، وكما وعدتكم سوف يستقبل هذا المنبر دعاة وعلماء يتحدثون لكم في هذه المسائل مسألة مسألة، ويوم تحضرون ويحضر أصحاب الفضيلة العلماء؛ يكون هناك مجلس مبارك، واجتماع على الحق، والله عز وجل قد نهى عن التفرق: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
وهذه المحاضرة مبنية على محاضرة سابقة بعنوان: "فن الدعوة"، وهاتان المحاضرتان متلازمتان تماماً، تفهم هذه بتلك, وتلك كالمقدمة والديباجة لهذه المحاضرة.
وشكراً لمن حضر، وكم فرحت، وقد كدت أن أبكي قبل صلاة المغرب, وأنا أرى الشباب في زحمة الليل وزحمة السيارات, وفي وهج البرودة, وفي قطرات الرذاذ, وهي تتقاطر من السماء, وهم يزدحمون يأتون إلى المسجد، تركوا دراستهم وأشغالهم وأهلهم وارتباطهم وضيوفهم ليحضروا في هذا المكان.
فيا رب يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد, حضرنا لوجهك ولمرضاتك، أسألك ألا تعيدنا من هذا المكان إلا مقبولين, مغفورة ذنوبنا, مستورة عيوبنا, قد رضيت عنا ورضينا عنك، وقد أسعدتنا بتوبة تجلو عنا الذنوب والهموم والغموم، أسألك أن تحفظنا بالإسلام وأن تحفظ الإسلام بنا، وأسألك أن تجمعنا بحبيبنا في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأسألك أن تنصر هذا الدين، وأن تعلي كلمة المسلمين، وأسألك أن تحفظ العلماء والدعاة، وأن ترفع كلمتهم وأن تؤيدهم بالحق، وتؤيد الحق بهم، وأسألك أن ترد شباب الإسلام إليك رداً جميلاً يا عظيم، وأن تأتي بإخواننا وفلذات أكبادنا من الشباب الذين جلسوا على الأرصفة وفي المقاهي وفي أماكن اللغو أن تأتي بهم لنراهم، فإننا -والله- نحبهم حب الإسلام، ولا نريد يا رب أن تعذبهم بالنار, ونريد يا رب أن تخرجهم من الظلمات إلى النور، هذه مسألتنا ولهذا اجتمعنا.
وأما كلامي فأسأل الله أن ينفع به، فإن أصبت فمن الواحد الأحد، فهو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى منزل الصواب على عباده، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان والله ورسوله بريئان، أسأل الله عز وجل أن يجمعني بكم مرات كثيرة في مناسبات كثيرة، وأنا أعتبر أن من يدعو لهذا الدرس ولغيره، ويدعو إخوانه وجيرانه والمسلمين؛ أنه داعية إلى منهج الله, وأنه أمين على دعوة الله, وأنه رجل صالح يدعو إلى خير.
شكراً لكم، ومرضاةً وقبولاً زائداً من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(223/38)