إسلام بعض الصحابة في أول الإسلام(184/32)
إسلام أبي بكر الصديق
قال المؤلف رحمه الله تعالى: وأول من أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
أول من أجابه من الرجال أبو بكر، وأول من أنفق أمواله في سبيل الله أبو بكر، ولذلك كان هو الخليفة بعد الرسول عليه الصلاة والسلام وما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر الصديق.
يقول عمر: {أردت أن أسبق أبو بكر يوماً من الأيام؛ فأخذت نصف أموالي وأتيت بها رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال لي صلى الله عليه وسلم: ماذا أبقيت لأهلك؟ قلت: أبقيت لهم نصف مالي، ثم قلت: يا رسول الله هل سبقني أحد بشيء، قال: نعم سبقك أبو بكر الصديق بماله كله قال عمر: فو الله ما أستطيع أن أسابق أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه}.
أسلم وصدَّق الرسول عليه الصلاة والسلام وأنزل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33] يقول عليه الصلاة والسلام: {ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة، غير أبي بكر الصديق} أي: كان له توقف وكان له تأمل إلا أبا بكر رضي الله عنه فإنه أسلم وما تلعثم وما تأخر رضي الله عنه وأرضاه.(184/33)
إسلام عثمان بن عفان
وممن أسلم في أول الإسلام عثمان بن عفان، وهو ذو النورين؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام زوجه ابنتيه، زوجه رقية ثم ماتت، ثم زوجه أم كلثوم، وهو رضي الله عنه عند كثير من المفسرين المقصود بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] كان ابن عباس إذا قرأ هذه الآية، قال: ذاكم عثمان بن عفان، وقد آتاه الله مالاً كثيراً، وكان من تُجَّار الصحابة، فأنفق أمواله في سبيل الله.
يقول صلى الله عليه وسلم على المنبر: {من يُجهِّز جيش تبوك وله الجنة؟} فتوقف الناس، فقال: {من يجهز جيش تبوك وله الجنة} فقام عثمان؛ فجهز جيش تبوك، فقال عليه الصلاة والسلام: {اللهم اغفر لـ عثمان بن عفان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض} وقتل شهيداً رضي الله عنه.
أبو بكر الصديق والصديق لا تأكله الأرض عند كثير من أهل العلم، وعمر قتل شهيداً، وقتل عثمان شهيداً، وقتل علي شهيداً، فـ عثمان قتله الثوار عليه، وكان المصحف مفتوحاً بين يديه، وكان صائماً يوم قتل، وقد نام بعد صلاة العصر قليلاً، فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، وكأنه صلى الله عليه وسلم في الجنة معه أبو بكر وعمر، فقال له صلى الله عليه وسلم: يا عثمان! اصبر فإنك سوف تفطر عندنا هذه الليلة، فقتل قبل الغروب وما أفطر، وسال دمه على المصحف، على قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137] هذا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، رفع الله منزلته، وجمعنا به في دار الكرامة، ويتنقصه الرافضة عليهم غضب الله، وهو من السعداء عند الله عز وجل وهو ثالث الخلفاء الراشدين.(184/34)
إسلام الزبير بن العوام
وممن أجاب أيضاً الزبير بن العوام: حواري الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان صلى الله عليه وسلم يرسله في المهمات وكان من أشجع الناس، يقول ابنه عروة: [[كنت ألعب بجروح في صدر أبي وفي كتفه وفي ظهره من كثرة ما ضرب في سبيل الله]] هذه الجروح كانت مغارات من ضرب السيوف والرماح، قال: [[كنت ألعب بها بعدما برئت فيما بعد]] هذه جروح الزبير بن العوام، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة.
حضر معركة الجمل، وبعدها رجع وفي أثناء طريقه وهو عائد إلى المدينة نام تحت شجرة، فأتاه رجل اسمه ابن جرموز، فوجد الزبير نائماً، فأخذ سيف الزبير وهو معلق؛ فذبح الزبير، فأتت عاتكة زوجة الزبير تقول:
يا ذاك لو نبهته لوجدته لا طائشاً رعش الجنان ولا اليد
شلت يمينك إن قتلت لمسلماً حلت عليك عقوبة المتعمدِ
فلما قتله ابن جرموز هذا، كان يرى في المنام أنه يسبح في بحر من الدم، فأتى إلى عبد الله بن الزبير، فقال: خذوا بدمي من دم أبيكم اقتلوني بأبيكم، والله ما نمت بعده ليلة واحدة إلا رأيت في المنام أني أسبح في بحر من الدم، قال عبد الله بن الزبير: والله لا نقلتك بـ الزبير، والله لا تساوي شراك نعل الزبير، ولكن نتركك لله، وقد صدق؛ لأن ابن جرموز ماذا يساوي مع الزبير بن العوام أحد العشرة؟! فتركوه.(184/35)
إسلام عمر رضي الله عنه
وممن أسلم: عمر رضي الله عنه وأرضاه، وهو من المتقدمين في الإسلام، خرج متوشحاً سيفه يريد أن يقتل الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي أثناء طريقه إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم، عرض له رجلٌ من قريش أو ممن أسلموا، فأخذ عمر يسب هذا المسلم، ويقول: كيف تصبأ وتترك دينك؟ قال: اترك عنا هذا يا ابن الخطاب، فإن الإسلام قد دخل بيتك وأختك قد أسلمت وزوجها، فعاد غاضباً ومعه السيف، وكان كبير الجسم وشجاعاً، فأقبل إلى أخته وزوجها، فضربهم حتى شج رءوسهم وسالت دماؤهم.
وسمعهم يقرءون في صحف فطلبها، فقالا: لا.
أنت نجس حتى تغتسل، فاغتسل ثم فتح الصحف، فوجد فيها: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} [طه:1 - 4] فأسلم، وأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مسلماً، فخرج له صلى الله عليه وسلم لما رآه بالسيف، وأخذه صلى الله عليه وسلم بتلابيب ثوبه، يظن أنه لا يزال مشركاً، قال: [[أما آن لك يا ابن الخطاب أن تسلم حتى ينزل بك ما نزل بـ الوليد بن المغيرة؟ فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله]] فأسلم.
ولما هاجر وقف على الصفا وقال: [[يا معشر قريش، من أراد أن تثكله أمه فليلقني ببطن ذاك الوادي]] فما قام له أحد، كان من أشجع الناس، حتى يقول حافظ إبراهيم:
قد كنت أعدا أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها(184/36)
إسلام طلحة بن عبيد الله
وأسلم طلحة بن عبيد الله ذو الجود، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وكان من أكرم الناس يداً، وأنفعهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد حضر الغزوات كلها مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وشلت يده يوم أحد، ضرب بالسيوف والرماح والنبل حتى شلت يده، فلما انتهت المعركة قال له الصحابة: كيف وجدت نفسك؟
قال: والذي نفسي بيده، ما في جسمي شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، فكان أبو بكر يبكي على المنبر ويقول: [[أما يوم أحد فقد ذهب بأجره طلحة بن عبيد الله]] وكان من أشجع الناس.
وقد قتل طلحة يوم معركة الجمل التي وقعت بين علي من جهة ومن معه، وبين عائشة ومن معها، وهي فتنة وقعت {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134].
ومن معتقد أهل السنة والجماعة ألا يخوضوا فيما شجر بين الصحابة ولا يتكلموا ولا يخطئوا بعض الصحابة، ويقولوا: الصواب مع فلان أو مع فلان، لا، بل يكفوا ألسنتهم كما كفوا أسيافهم، قيل لـ عامر الشعبي: ما رأيك في أهل الجمل وأهل صفين عندما فر بعضهم من بعض؟
قال: أولئك أهل الجنة التقوا فاستحيا بعضهم من بعض.
طلحة بن عبيد الله قتل في المعركة، وكان في الصف المقابل لـ علي، وسبب خروجه من المدينة أنه يريد أن يقاتل قتلة عثمان فلما خرج قتل، فنزل علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما رأى طلحة، وكان زميله وحبيبه وصديقه ومن العشرة المبشرين بالجنة معه، فنزل علي وأخذ يمسح التراب عن وجه طلحة وهو مقتول، ويقبله ويبكي، ويقول: [[يعز عليّ يا أبا محمد أن أراك مجندلاً على التراب، لكن أسأل الله أن يجعلني وإياك ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]]].
قيل: هذه الآية نزلت في الصحابة وفي المسلمين عامة، فممن أسلم طلحة رضي الله عنه.(184/37)
إسلام صهيب الرومي
وممن أسلم أولاً: صهيب الرومي الذي اشترى نفسه من الله، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].
خرج مهاجراً إلى المدينة، وكان من أرمى الناس في الأسهم، يرمي رمياً هائلاً، فلحقه كفار قريش، وقالوا: لنقتلنك، وحوطوا عليه، فأخرج كنانته وأسهمه، وقال: إنكم تعلمون أني من أرمى الناس، والله لا أترك سهماً إلا رميت به، ولكن خذوا مالي واتركوني، قالوا: أين مالك؟ فأخبرهم بمكان المال، فلما رجعوا وجدوا ماله؛ فأخذوه كله، وذهب بلا مال إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة، فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال: {ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى} صهيب كنيته: أبو يحيى، وقد اشترى نفسه من الله، فيقول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204] ثم قال بعدها بآيات: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].(184/38)
إسلام ابن مسعود
ومن السابقين الأولين: عبد الله بن مسعود، وهو هذلي، كان يرعى الغنم، نحيف الجسم، يقولون: كان جسمه إذا قام يعادل الجالس إذا جلس، أي: وأنت جالس وهو قائم يعادل رأسك، وكان نحيف الجسم جداً، حتى صعد مرة يأخذ سواكاً للرسول عليه الصلاة والسلام من شجرة، فهبت الريح، فاهتزت الشجرة وعليها ابن مسعود كالصقر، فأخذ الصحابة يتضاحكون من خفته ومن دقته، فقال صلى الله عليه وسلم: {أتعجبون من دقة ساقيه! والذي نفسي بيده، إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد}.
ولذلك ترى بعض المجرمين مثل السارية وهو مجرم لا يساوي عند الله فلساً، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] ويقول حسان في بعض المجرمين، لما رآهم طوالاً، قال:
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر جسم البغال وأحلام العصافير
أسلم ابن مسعود وكان له لقاء تاريخي مع الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، خرج صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وفي أثناء الطريق وإذا راعي هذا الضأن يرعى -وهو ابن مسعود - لهذيل، وهذيل قبيلة قريبة من البحر الأحمر، فاقترب صلى الله عليه وسلم، فقال: يا غلام! أفي غنمك حلوب؟ فقرب لهم، وقيل: قرب لهم حائلاً؛ فدعا صلى الله عليه وسلم فحلب بإذن الله، فقال له ابن مسعود: علمني يا هذا مما تعلم؟ سمع دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم: {إنك غلام معلم} ثم ذهب صلى الله عليه وسلم، ولما عاد أسلم ابن مسعود رضي الله عنه وأخذ من فم الرسول صلى الله عليه وسلم سبعين سورة مباشرة.
وكان جميل الصوت، يقول مسروق بن الأجدع: [[استمعت لـ ابن مسعود وهو يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في صلاة المغرب، والله ما سمعت صنجاً، ولا ناياً، ولا وتراً، أجمل من صوته، وودت أنه قرأ بنا بسورة البقرة]].
كان صلى الله عليه وسلم يقول: {اقرأ عليّ القرآن، قال: كيف أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن أسمعه من غيري -يقول: أنا أتلذذ بالقرآن من غيري- فبدأ يقرأ سورة النساء، حتى بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك الآن، يقول ابن مسعود فنظرت؛ فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام}.
قام ابن مسعود يقرأ سورة الرحمن عند المقام، وأبو جهل جالس هو وكفار قريش فأخذ يرفع صوته ويقول: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإنسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:1 - 5] هل يستطيع بشر أن يقول مثل هذا الكلام؟
هل سمعتم أجمل من هذه العبارات؟! (الرَّحْمَنُ) (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (خَلَقَ الْإنسانَ) (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) فقام أبو جهل؛ فأخذ يضربه على وجهه بيده، وابن مسعود لا يتوقف يندفع يقرأ ويضربه ويضربه ثم أخذ بأذنه وجعل يطوف به في الحرم.
فلما أحق الله الحق، وأتت معركة بدر، حضرها ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فلما قتل أبو جهل وأصبح في الرمق الأخير، أتى ابن مسعود ومعه سيف؛ فأخذ يحز عنق أبي جهل، قال أبو جهل: سيفك هذا لا يصلح، خذ سيفي، يريد أن يريح نفسه بالموت؛ لأنه مطعون ودمه يسيل، فأخذ سيف أبي جهل وصعد على صدر أبي جهل، قال أبو جهل: لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم، يقول: تصعد على صدري، فلما حز رأسه أتى برأسه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يسحبه بخيط في أذنه، فتبسم صلى الله عليه وسلم، وقال: {هذه بتلك} وقيل في بعض الروايات: {الأذن بالأذن والرأس نافلة} يقول: سحبك بأذنك في الحرم، وأنت تسحبه الآن بأذنه.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: {هذا فرعون هذه الأمة} قالوا: يا رسول الله! كيف نعرف جثته؟ قال: {تعرفون جثته بجرح في ركبته، فإني تصارعت أنا وأبو جهل ونحن شباب على مائدة عبد الله بن جدعان في مكة؛ فصرعته في الأرض فهو مجروح في ركبته} فأتوا إلى ركبة أبي جهل وإذا فيها آثار جراح، فسحبوا جثته فلما ألقي في القليب قام عليه الصلاة والسلام فيهم ثم قال: {يا معشر قريش! هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا فقال عمر: يا رسول الله! ماذا تحدث من جثث لا حراك بها؟ قال: والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم}.(184/39)
إسلام أبي ذر الغفاري
وممن أسلم كذلك: أبو ذر الغفاري رضي الله عنه في مكة، وهو من المتقدمين، وفي بعض الروايات أنه يحشر مع عيسى عليه السلام، وورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر الغفاري} وهو الزاهد الكبير والعابد.
أما سبب إسلامه فإنه كان في البادية، في قبيلة غفار في شمال مكة، وكانت بادية لم يكونوا حاضرة، فسمع بمبعث الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال لأخيه أنيس: يا أنيس! اذهب إلى هذا الذي يدِّعي النبوة في مكة، فأعطني منه خبراً، فأتى أنيس فركب جمله، وأبو ذر يرعى إبل وغنم أخيه مع إبله وغنمه، فذهب أنيس هذا؛ فدخل مكة؛ فلقيه أبو لهب، قال أنيس: من هذا الذي يدعي النبوة عندكم؟
قال: كذاب، ساحر، شاعر، خرج علينا يسب آلهتنا، فخرج أنيس وما أخذ الخبر.
وأتى إلى أبي ذر، قال: يقولون: كذاب، ساحر، شاعر، قال: ما أنصفتني وما شفيت غليلي، فركب جمله رضي الله عنه وأرضاه، فوصل إلى مكة فدخلها في ظلام الليل.
فالتقى بـ علي بن أبي طالب وهو شاب، قال لـ علي: دلني على هذا الذي يدعي النبوة؟ قال: هو ابن عمي، وصدق، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو ابن عم علي فهذا علي يبكي في معركة تبوك ويقول: يا رسول الله! خلفتني مع النساء والأطفال؟ قال صلى الله عليه وسلم وعيونه تهراق بالدموع: {يا علي! أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي} ويقول صلى الله عليه وسلم لـ علي: {لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق}.
فالمقصد: أن خرج علي بن أبي طالب وقال لـ أبي ذر: إذا توقفت أصلح حذائي أتظاهر كأني أصلح حذائي فهو الرجل القريب مني؛ لأنه لا يريد أن يكشف نفسه لكفار قريش، فأتى علي فنزل مع أبي ذر إلى الحرم، فلما اقتربوا كان صلى الله عليه وسلم يجلس في وسط الحرم؛ دائماً هو في عراك -كل يوم وكل ليلة- مع كفار قريش، يقول: {قولوا: لا إله إلا الله} ويقولون: لا.
وثلاثمائة وستين من الأصنام حول الكعبة لم يهدمها؛ لأنه ينتظر بها مستقبل لا إله إلا الله، حتى يهدمها {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} [الفتح:1 - 3] فوقف صلى الله عليه وسلم وهو جالس، وتوقف علي يصلح حذاءه، فتقدم أبو ذر وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: عم صباحاً يا أخا العرب -هذه تحية الجاهليين- العرب إذا التقى أحدهم أخاه في الجاهلية، يقول: عم صباحاً يا أخا العرب، ويقول امرؤ القيس في قصيدته الشهيرة:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي
فقال صلى الله عليه وسلم: {إن الله أبدلني بتحيةٍ خيراً من تحيتك} قال: ما هي؟ قال: {السلام عليكم ورحمة الله وبركاته} قال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: من أنت؟ قال: {أنا رسول} قال: من أرسلك؟ -هذا يسمى اللقاء الحار- قال: {الله} قال: بماذا أرسلك؟ قال: بعبادة الله وحده وإقام الصلاة، وصلة الرحم، والبر، ثم ذكر له، قال: أسمعني مما أنزل الله عليك، قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وبدأ صلى الله عليه وسلم يقرأ عليه من القرآن، قيل: من سورة فصلت، فقال أبو ذر: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: {من أين الرجل؟ قال: من غفار، فتبسم عليه الصلاة والسلام، ورفع طرفه إلى السماء، وقال: إن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.
أبو جهل وأبو لهب عند الحجر الأسود، رفضوا لا إله إلا الله، ويأتي هذا من غفار يسلم، قال: يا رسول الله! ائذن لي أن أجهر بالدعوة، قال: لا.
-انظر الحكمة! يقول: لا تجهر الآن- فخرج أبو ذر ووقف على الصفا، وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقام عليه كفار قريش، وضربوه حتى سال دمه وأغمي عليه، فأتى العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: يا معشر قريش! هذا من غفار، والله إن سمعت قبيلته، لتمنعن عنكم تمر وحب الشام فلا يصلكم منه شيء، فتركوه.
وبعدما هاجر صلى الله عليه وسلم، أتى أبو ذر بقبيلة غفار بكاملها، كأنها جيش، ودخلوا في دين الله أفواجاً وأسلموا، وهو سيدهم عند الله، وله قصة طويلة شائقة.
قد بكت غربتي الرمال وقالت يا أبا ذر لا تخف وتأسا
قلت لا خوف لم أزل في شباب من يقيني ما مت حتى أدسا
أنا عاهدت صاحبي وخليلي وتلقنت من أماليه درسا
جمعنا الله وإياهم في دار الكرامة، ووفقنا وإياكم لسيرة محمد صلى الله عليه وسلم، وهدانا لا تباع سنته، وحشرنا في زمرته، وسقانا شربة من حوضه لا نظمأ بعدها أبداً.(184/40)
مرحلة الجهر بالدعوة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (باب الجهر بالتبليغ) لما أسر صلى الله عليه وسلم دعوته وكتمها في صفوف الناس لم تجدِ كثيراً هذه السرية ولو أنها من لوازم الدعوة، وكان صلى الله عليه وسلم يرى أول العهد أن يكتم دعوته، حتى لا تتصور قريش أنه يريد ملكاً أو مالاً أو يريد سبباً آخر.
فأنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عليه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] ومعنى اصدع بما تؤمر: أي: تكلم بما يأمرك به سُبحَانَهُ وَتَعَالى أو بما ينزل ربك عليك.
واصدع كلمة جميلة، معناها: ارفع صوتك صادعاً بالحق، وبما تؤمر، وفيه أن كل ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم فهو وحي: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:1 - 3] فلم يأتِ بشيء من عنده عليه الصلاة والسلام، ودائماً يقول: إنما أنا بشر يوحى إلي، ودائماً يتبرأ صلى الله عليه وسلم من الحول والقوة، ويقول: لا أعلم الغيب {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف:188].(184/41)
وقوف النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا يدعو كفار قريش
فلما أنزل الله ذلك وقف صلى الله عليه وسلم على الصفا، وقد كان هناك وادٍ بين الصفا والمروة قبل أن تسوى الآن، وقبل أن يصلح حالها ويطبطب، واد فيه شجر ولم يكن مغطى، وكانت الصفا من أرفع أماكن الحرم، وتحتها قرى قريش حول الحرم، فوقف صلى الله عليه وسلم ورفع صوته بالنداء، يدعو كفار قريش بطناً بطناً: يا بني فهر! يا بني عدي! يا بني كعب: فلما نادى القبائل اجتمعت، يقول الراوي: كان الرجل إذا سمع الصوت ولم يستطع أن يأتي أرسل ابنه أو أخاه؛ لأن المسألة صعبة وقريش إذا سمعت النداء، فمعناه إما عدو هجم عليهم، وإما رجلٌ منهم قتل، وإما جيش عرمرم يريد اجتياح الحرم، هذه احتمالات.
فاجتمعوا حتى ملئوا الحرم، منهم من اجتمع بالسلاح، ومنهم من كان لابساً رمحه، ومنهم من تدرع، وأتى الشيوخ والنساء والأطفال، فلما اجتمعوا: قال: يا قريش! قالوا: نعم، قال: {أرأيتم لو أخبرتكم أن ببطن هذا الوادي خيلاً تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟} هذا سؤال عجيب، يقول: لو أخبرتكم أن جيشاً يريد اجتياحكم أتصدقوني أم لا؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً هل سمعتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم في عمر أربعين سنة، هل يمكن أن يكون له فيها كذبة أو خيانة أو سرقة أو غش؟ هل سمع في التاريخ بهذا؟ {قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا}.
فقال الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] تلاها على الصفا، والله يقول له ذلك في مكة وليس عنده إلا أربعة: أبو بكر وخديجة وزيد وعلي بن أبي طالب، فأخذ بعض الكفار يلتفت في بعض ويضحك، ويقول: أي رحمة للعالمين وهو يتخفى بصلاته، لكن أراد الله عز وجل ذلك، ويقول: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].
وبعد خمس وعشرين سنة، أما سارت كتائبه إلى قرطبة؟ أما وصلوا إلى الحمراء؟ أما فتحوا الهند والسند؟ هذا رحمة للعالمين.
فقال أبو لهب لما سمعه وهو عم الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان وضيء الوجه، لكنه ليس وضيء المبادئ، وهذا دين فرق بين الوالد وولده، وبين الأخ وأخيه {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] والهداية هبة ربانية، لا تأتي للأسر، ولا للأموال، ولا للأولاد، يمنحها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الفقير، ويحرمها الغني متى شاء.
ذكر ابن جرير وغيره أن موسى عليه السلام تربى في بيت فرعون الطاغية، فرباه فرعون وأعطاه فرعون التعاليم، ولقنه المبادئ، لكن لم يستمع لأي جملة من مبادئه تماماً، وموسى السامري رباه جبريل عليه السلام، فلما رباه جبريل على التوحيد وصل هذا عمره أربعين وهذا أربعين، هذا الذي ربَّاه جبريل كفر بالله العظيم، وهذا الذي وصل الأربعين -موسى- أصبح نبياً من أنبياء الله عز وجل من أولي العزم، قال الشاعر:
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مؤمن(184/42)
موقف أبي لهب من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] قام أبو لهب؛ فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: تباً لك ألهذا دعوتنا؟ ألهذا جمعتنا؟ يقول: أتعبتنا من أجل هذه الكلمة؟! فتولى الله الرد عليه، وقال: {تَبَّتْ يَدَا أبي لهب وَتَبّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5] يقول بعض أهل التفسير {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4] أي: تمشي بالنميمة، وقال بعضهم: بل وضعت الشوك في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الظاهر.
فتصدعت القبائل تريد قتله عليه الصلاة والسلام وتجمعوا وذهبوا عامدين بسيوفهم وسلاحهم إلى بيت أبي طالب، وهو أكبر أهل مكة ذاك الوقت وهو الذي يديرهم، فاجتمعوا؛ فقالوا: نشكو إليك ابن أخيك هذا، سب آلهتنا، وسفَّه أحلامنا، إن كان يريد ملكاً ملّكناه، وإن كان يريد زوجة زوجناه، وإن كان مسحوراً بحثنا له عن طبيب فداويناه {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22] يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: صاحبكم عنده دواء الجنون، أما أن يكون مجنوناً فلا؛ لكنه يداوي المجانين: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:22 - 24].
يقول: هل سمعتم أنه يخون الغيب أو أنه بخيل بالغيب أو أنه مظنون بعدالته؟ لا يكون ذلك فيه عليه الصلاة والسلام، اجتمعوا، فقال أبو طالب وكان عاقلاً: أرجئوني يوماً، قالوا: لك يومين -وكانوا عندهم عقول، لكن ما أجدت وما أغنت عنهم، عقول لكن في الدنيا مثل عقول بعض الناس: ثقافته في الدنيا لكن ليس له ثقافة فيما يقربه من الله، ليس عنده ثقافة في الإيمان، يعرف كل شيء إلا أمور الإيمان- فذهبوا، فأتى أبو طالب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى هذا اليتيم الذي يريد أن يشق العالم، وقال له: ماذا تريد؟ قال: يا عم! أريد أن يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال: إنهم عرضوا عليك أموراً، وأرى أن تكف عنهم ويكفوا عنك، وأخبره، قال: {والذي نفسي بيده، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه} فقام وتركه، ثم رجع له أبو طالب، فقال: يا بن أخي! افعل ما بدا لك، والله لأحمينك وأنصرنك حتى لو أقتل دونك، ثم نظم فيه قصيدة لامية رائعة، هي موجودة في السير، يمدح فيها الرسول صلى الله عليه وسلم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ويقول في قصيدة أخرى:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
يقول: لن يصل إليك كفار قريش أبداً، وهو صادق، فاستمر في حمايته، واستمر صلى الله عليه وسلم يصدع ويخطب، ثم مرت به اللدغات واللذعات والأسى واللوعة، واسمع إلى بعض المواقف.
في اليوم الثاني: نزل صلى الله عليه وسلم، فجلس في الحرم، فحانت وقت الصلاة؛ فقام صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام، فلما سجد قال أبو جهل: مَن مِن شبابكم يذهب فيأتي بسلى ناقة آل فلان فقد ولدت؛ فيضعها على رأسه، فذهب رجل: يشتد أي: يسعى حتى أتى بها، فلما سجد صلى الله عليه وسلم وضعها على رأسه، قال ابن مسعود: وكنت أنظر وما أغني عن الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً، لأن ابن مسعود فقير ويتيم ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، والحرم كله يمتلئ بهؤلاء الطواغيت، قال: فأتت فاطمة؛ وألقت عنه الأذى وأخذت تبكي، فقام صلى الله عليه وسلم؛ فاستقبل القبلة؛ ورفع يديه ودعا، قال ابن مسعود: {والذي لا إله إلا هو، لقد كانوا في الحرم سبعين، وما من أحد ممن رأيت إلا رأيته قتيلاً في بدر}.
السبعون كلهم قتلوا جميعاً في بدر، وقد ألقى فيهم صلى الله عليه وسلم خطبة عصماء وتكلم فيهم، وقال: {هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً}.
واستمر عليه الصلاة والسلام، قال الله له: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:215 - 216] فجمعهم صلى الله عليه وسلم، وقال: {إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون}.
كل شيء تفهمه قريش إلا مسألة كيف يعود الإنسان إذا مات: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7].
أتى أعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: {يا محمد! أومن أن ما جئت به حق وأصدقك، لكن هناك مسألة حاكت في صدري، قال: ما هي؟ قال: كيف يبعثنا الله بعدما نموت؟ قال: أأنت في شك من ذلك؟ قال: بلى.
قال: أما مررت بروضة خضراء؟ قال: بلى مررت بها} يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم معه؛ لأنه صاحب غنم يعرف الروضة الخضراء، ولذلك ترى القرآن يخاطب الأعراب الأوائل، بالجمل، والسماء، والنهر، والماء، والشجرة، والخيمة، والصوف في سورة النحل؛ لأنهم هم الذين يعرفون هذه الأمور، قال: {أما مررت بروضة خضراء؟ قال: بلى مررت بها، قال: فمررت بها بعد حين؟ قال: نعم قال: فكيف وجدتها؟ قال: وجدتها ميتة هامدة، قال: فمررت بها بعد حين؟ قال: نعم.
قال: فكيف وجدتها؟ قال: وجدتها خضراء مزهرة، قال: فمن أحياها؟ قال: الله، قال: فالذي يحيي هذه يحيي هذه}.(184/43)
موقف العاص بن وائل
أما العاص بن وائل المجرم، أتى من الحرم معه عظام في جيبه -انظر الإجرام والسخرية بالرسول صلى الله عليه وسلم كل إنسان يأتي بمصيبة- فلما استمعوا وجلسوا، أخرج العظام وهي باليه، فقال: يا محمد! قال: نعم.
قال: أتزعم أن ربك يحيي هذه، قال: {نعم، يحييها ويدخلك النار} لا يحييها فقط، لكن يحييها ويدخلك النار، فأتى جواب القرآن، نزل جبريل والرسول صلى الله عليه وسلم جالس، أمامه العاص بن وائل، قال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79].
والآن تأتي الاعتراضات على الرسول صلى الله عليه وسلم، اسمع إلى قول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج عليهم، ليلة أربعة عشر، وهي ليلة اكتمال البدر، يصبح القمر في كبد السماء جميلاً وبديعاً ويقول: {أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله} لم يأمرهم صلى الله عليه وسلم أولاً بالصلاة، ولا بالزكاة، ولا بالصيام، ولا بتقصير الثياب، ولا بإعفاء اللحى، إنما يقول: قولوا لا إله إلا الله، حتى لما اجتمعوا مرة، قال: أريد منكم كلمة، قال أبو جهل: نعطيك عشراً، فما هي كلمتك؟
قال: قولوا: لا إله إلا الله، قال: أما هذه فلا؛ لأنها ما دخلت أمزجتهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].
فلما دخل صلى الله عليه وسلم الحرم، كانوا بعد صلاة العشاء والبدر في كبد السماء، قال: {قولوا: لا إله إلا الله} قال أبو جهل: ما دليلك على أنك رسول؟ قال: ما أردت، قال: وأقسم باللات والعزى لا أومن لك حتى تشق لي هذا القمر، قال صلى الله عليه وسلم: لئن شققته أتؤمن لي؟ قال: نعم.
فرفع صلى الله عليه وسلم يديه، وسأل الله أن يشق القمر، فشق الله القمر، فلقة ذهبت تجاه عرفة، والفلقة الأخرى ذهبت تجاه جبل أبي قبيس، فقام أبو جهل ينفض ثيابه، ويقول: سحرنا محمد، سحرنا محمد؛ فأنزل الله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:1 - 3].(184/44)
حادثة الإسراء
أسري بالرسول صلى الله عليه وسلم وعاد في ليلة، وصلى في بيت المقدس، وفرض الله عليه خمس صلوات، فلما رجع مع الفجر أتى إلى كفار قريش.(184/45)
موقف كفار قريش من حادثة الإسراء
قال أبو جهل في الصباح: ما هي أخبارك يا محمد البارحة؟ لأن القصة طويلة، والصراع طويل، وكل يوم هو في قصة قال: أسري بي إلى بيت المقدس، هذه أطم وأعم لا يتصورها إنسان، هو يصيح من مسألة ادعائه النبوة، قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس، قال: وبعدها؟ قال: وعرج بي إلى السماء السابعة، فضحك أبو جهل حتى تمايل على زملائه، قال: في ليلة؟! قال: في ليلة، وأقسم باللات والعزى أن المسافر منا يسافر إلى بيت المقدس في شهر ويعود في شهر، وأنت سافرت وذهبت إلى السماء السابعة وعدت في ليلة!
قال: انتظر حتى يسمع الناس، فذهب فجمع كفار قريش، قال: تعالوا اسمعوا خبراً، فاجتمعوا؛ فلما ملئوا الحرم قال: ماذا تقول يا محمد؟ قال: أقول كذا وكذا، قال: من يصدقه منكم؟ قال أبو بكر: أشهد أنه صادق، أبو بكر الصديق، قال تعالى فيه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33](184/46)
وصف النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش بيت المقدس
قال الوليد بن المغيرة: لا تكذبوه يا معشر الناس -هذا من شيوخهم عاقل، لكنه مات كافراً هو أبو خالد بن الوليد، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: {ولعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً} فأخرج الله من صلب هذا المجرم - الوليد - خالد بن الوليد سيف الله المسلول، هذا خالد أبو سليمان، الذي أدب الطغاة على مر التاريخ، أرسل أبو بكر برسالة إلى مسيلمة الكذاب، يدعوه إلى ترك النبوة ويدعوه للدخول في الدين فرفض، قال أبو بكر على المنبر: والله لأرسلنّ لك أبا سليمان خالد بن الوليد يخرج منك وساوس الشيطان؛ فأرسل له خالداً؛ فذبحه، هذا خالد بن الوليد بن المغيرة - إنما الوليد بن المغيرة المقصود- قال: يا معشر الناس! لا تستعجلوا عليه بالتكذيب، أنا أعرف بيت المقدس -وهو من تجار قريش- وقد ذهبت، فأنا أعرف أبوابه وسراديبه ومداخله، فإن كنت صادقاً -يا محمد- أنك ذهبت إلى بيت المقدس فصف لنا بيت المقدس، أليس هذا هو الحكم العدل؟ بلى.
حكم عدل، فهذا إنصاف يرضاه ويؤيده العقل، وهذا هو الحوار.
الرسول صلى الله عليه وسلم دخل في الليل الدامس، ولم يرَ شيئاً من البيت، إنما دخل بيت المقدس وصلَّى بالأنبياء وعرج به، ولم يرَ شيئاً، قال: فأخذت الرحضاء والعرق يسيل من جبين الرسول صلى الله عليه وسلم، ويلتفت إلى الله عز وجل ألاَّ يخيبه -هذا موقف صعب؛ لأنه سوف يكون نتيجة لسنوات عديدة، أو لتاريخ الدعوة إلى آخر الأبد- قال: فالتفت إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم تجاه الحرم، فأتى الله بصورة بيت المقدس مكبرة؛ فوضعها أمامه، فأخذ يصفه لهم باباً باباً، وسرداباً سرداباً، وغرفة غرفة، قال الوليد بن المغيرة: والذي لا إله إلا هو، ما زدت ولا نقصت على وصف بيت المقدس بهذه، فأسلم جماعة من الجلوس وكفر آخرون.
قال الله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} [الحجر:14] اسمع أسلوب القرآن، يقول: لو فتحنا عليهم باباً سلماً، وصعد أبو جهل ومن معه حتى رأوا الملائكة والجنة، وظلوا فيه يعرجون: {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:15] فيقول الله لهم استهزاءً إذا أدخلهم النار يوم القيامة، قال: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] يقول: ذوقوا أفهذا السحر مثل سحر الدنيا أم لا؟
واستمر عليه الصلاة والسلام، قال الله فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة:104] وأتى صلى الله عليه وسلم وجمع حصيلته في الدعوة بعدما يقارب ثلاثة أسابيع، تدرون من الذي استجاب له؟
صهيب الرومي وخباب بن الأرت نافخ الكير الحداد، وبلال الحبشي من أرض الحبشة، وأمثالهم وأضرابهم، وابن مسعود راعي الغنم من هذيل، هؤلاء حصيلته عليه الصلاة والسلام.
فاقترب أبو جهل هو وكفار قريش، قالوا: يا محمد! نريد مجلساً معك، قال: اجلسوا، قالوا: والله ما نجلس معك وهؤلاء الأعبد والموالي معك، أخرجهم ونجلس معك، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يخرجهم ويطردهم ويأتي بهؤلاء السادة على منطق الجاهلية، فأنزل الله {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] وقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52] فقال صلى الله عليه وسلم: {بل أكون معكم، بل أكون معكم} وطرد هؤلاء السادة؛ لأنهم لا يهتدون.
وفي اليوم الثاني جلس عبد الله بن أم مكتوم في الحرم، ورأى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اجتمع به سادات مكة، فأتى إليه يسأله مسألة فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، سأله وكان أعمى لا يرى والرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يكسب هؤلاء السادات حتى يدخلوا في الدين، فأعرض عنه؛ فأنزل الله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:1 - 2] عبس: يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم خطاب الغيبة، يقول الله: عبس هذا من العتاب الحار {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:2] سماه أعمى، يقولون: هنا من باب جلب عطف الرسول عليه الصلاة والسلام، بينما في سورة الرعد يقول: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] فعمى العين سهل، ولكن عمى القلب هو البعيد والسحيق والمخيف، قال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4] قال: وما يدريك أن يكون منارة من منارات الأرض تتلقى نور السماء: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس:5 - 7].
يقول: أنت مشغول به وما عليك ألاَّ يتزكى، دعه في رجسه ونجسه، وفي الأخير تركهم عليه الصلاة والسلام وما استجابوا.
وأصبح ابن أم مكتوم قائداً عسكرياً ومؤذناً وعذره الله من الجهاد، وقال: والله لأخرجن بالراية، فقتل في القادسية، أما أولئك فإلى النار.
واستمر عليه الصلاة والسلام يدعو، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:24] هذا أبو جهل يقول: لو كان فيما جاء به محمد هداية كان أبي وجدي دخلوا فيه، لكن ماتوا على غير الهداية، وقال الوليد بن المغيرة: لو كان في دينه هداية ما سبقنا هؤلاء الأعبد إلى دينه، كيف يسبقنا بلال؟
فيقول ابن القيم: نادى منادي الحق على الصفا فقال أبو جهل: لا سمع ولا طاعة، وقال الوليد بن المغيرة: لا نسمع ولا نطيع، وقال أبو لهب: تباً لك ألهذا دعوتنا؟ وقال بلال من أرض الحبشة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، دينه صلى الله عليه وسلم يناسب الضعفاء والمساكين، ويصعب على المترفين، لذلك ترى الظلمة والمستبدين لا يريدون أن يحكموا الإسلام في حياتهم، ولا يريدون أن ينتشر الإسلام؛ لأن الإسلام يلغي قداسة البشر، وظلمهم واستبدادهم.
ولذلك الشيوعية الآن عندما تنتشر لا تنتشر إلا في المناطق الضعيفة الفقيرة بدعاوى: رفع الظلم الكادحين الفقراء حقوق الشعب الضمائر فتنتشر في هذه الأوساط، أما الإسلام كله حق، ليس فيه تورية، يرفض الظلم، فوجد بلال هذا النور سوف يرفع الظلم عنه، فدخل هو والفقراء والمساكين، وترك المترفون دين الله ودائماً هم أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] وفي قراءة: {أَمّرْنَا مترفيها} [الإسراء:16] ومعنى أمَّرنا، قيل: كثرنا، وقيل: (أمَّرنا): جعلناهم ولاة أمر، وقيل: (أمَّرنا): جعلنا سوادهم كثيراً، وجعلنا لهم بقعة أو شريحة من المجتمع كثيرة، هذه سنة الله عز وجل.
واستمر عليه الصلاة والسلام، ووصل إليه من الإيذاء ما لم يجده رسولٌ قبله عليه الصلاة والسلام، وحتى كان يتذكر أيامه الأولى صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة، يقول: {والله لقد أخفت وما خاف أحد} أي: في أول الدعوة، يقول: كنت أخاف أنا وحدي في هذا العالم، في الكرة الأرضية لا يخاف إلا هو {وجعت وما كان يجوع أحد، ويسرت وما كان ييسر أحد، وأوذيت وما كان يؤذى أحد} وكان عليه الصلاة والسلام يسجد، ويبكي طويلاً ويسأل الله عز وجل، وكان سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يرفع من قيمته صلى الله عليه وسلم، ويرفع من معنويته، ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] ويقول: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ويقول: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهَ} [الأنفال:62] {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال:71] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].
يصل به اليأس إلى درجة الإحباط أحياناً، فيقول الله عز وجل له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] يخاف من القتل، فيقول الله له: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] أي: يمنعك، يخاف أن يغلب، فيقول الله له: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52] يخاف أن يهزم، فيقول الله له: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173].
هذه ساعات ودقائق ولحظات من حياته عليه الصلاة والسلام طواها الزمن لكن ما طوتها القلوب، وعفا عليها التاريخ ولكن ما عفت عليها القلوب والأرواح والأفئدة التي تعيش معه صلى الله عليه وسلم أينما حل وارتحل، فقد سكن في ضمير كل مسلم في كل بقاع الأرض.(184/47)
إيذاء المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (باب الإيذاء) أي: إيذاء المشركين للرسول عليه الصلاة والسلام، ورأى صلى الله عليه وسلم من المشركين الأذى الكثير؛ فصبر واحتسب، استهزءوا به، سفهوه في رأيه، اتهموه بالجنون والشعر والسحر والكهانة، ومع ذلك صبر حتى أتم الله نوره، وأكمل دينه، وأتم على الأمة النعمة بمبعثه عليه الصلاة والسلام.(184/48)
أبو جهل من أشد الناس إيذاءً للنبي صلى الله عليه وسلم
من أشد من تعرض له صلى الله عليه وسلم بالإيذاء: أبو جهل عليه غضب الله، اسمه عمرو بن هشام، ولم يؤمن، وقتل كافراً في بدر، يقول لقريش: يا معشر قريش! لأحملن صخرة على رأسي، وأخدش بها رأس محمد، فامنعوني أو أسلموني، يقول: إن شئتم قوموا معي وإن شئتم اتركوني، فذهب بالصخرة والرسول عليه الصلاة والسلام جالس، فلما اقترب منه دنا ليرمي الصخرة، وإذا بصورة فحل -جمل- مقبل هائج على أبي جهل، فرمى الحجر وفر فزعاً خائفاً وجلاً، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} [العلق:15] والناصية: مقدمة الرأس، أي: يؤخذ بناصيته ويجر في نار جهنم {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:16] وهي ناصية أبي جهل وأمثاله، أي: لا تعرف الصدق {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق:17] لأنه يقول هو: يا معشر قريش! يقول محمد: إنه سوف يدعو الملائكة وسوف أدعو عليه أهل النادي، يقصد: كفار قريش، قال سبحانه: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبَْ} [العلق:17 - 19].
وقد آذى الرسول عليه الصلاة والسلام إيذاءً بالغاً، ولكن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حمى رسوله حتى أتم به النعمة.(184/49)
إيذاء عقبة بن أبي معيط للنبي صلى الله عليه وسلم
ومنهم أيضاً عقبة بن أبي معيط، كان الجار الثاني للرسول عليه الصلاة والسلام، جمع الناس في وليمة، ودعاهم جميعاً، فحضر صلى الله عليه وسلم وقال: والله لا آكل طعامك حتى تؤمن بالله، فتشهد عقبة، فبلغ ذلك أبي بن خلف الجمحي، وكان صديقاً له، فقال: ما شيء بلغني عنك؟ قال: لا شيء، دخل الرجل منزلي فأبى أن يأكل طعامي حتى أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له، قال أبي: وجهي من وجهك حرام، إن لقيت محمداً فلم تطأ عنقه وتبصق في وجهه وتلطم عينه، فلما رأى عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل به ذلك، فأنزل الله فيه سورة الفرقان {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإنسانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29].
هذا عقبة حضر يوم بدر، وكان في صف المشركين فوقع في الأسارى، وقع أسيراً في يد المسلمين، فمر صلى الله عليه وسلم وهو محجل بالحديد -في يديه سلسلة من حديد- وفي أقدامه سلسلة من حديد وهو كالجمل، وهو من أشجع الناس، فرآه صلى الله عليه وسلم بين الأسرى، فقال صلى الله عليه وسلم: من يقتل هذا؟ قال علي بن أبي طالب: أنا يا رسول الله، فتقدم علي بن أبي طالب بالسيف المسلول، فيقول عقبة بن أبي معيط: يا محمد! لمن الصبية؟
قال صلى الله عليه وسلم: إلى النار، فتقدم علي بن أبي طالب فقتله؛ لأنه آذى الإسلام وآذى رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذاءً بالغاً، وهو الذي بصق في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وآذاه في مكة واعترض على المسلمين وعذب كثيراً من المؤمنين، وكذلك قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه النضر بن الحارث، ثم ذهب صلى الله عليه وسلم فنزل في الأثيل وهي قرية قريبة من بدر ومعه الجيش، فأتت أخت عقبة تقول: دلوني على الرسول صلى الله عليه وسلم فدلوها فوقفت بين يديه، قالت: عندي أبيات أريد أن أنشدها بين يديك، قال صلى الله عليه وسلم: قولي، قالت:
أمحمد يا نسل كل كريمة من قومه والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
ثم أخذت تنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده، لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قتلته} لكن إلى النار؛ لأنه عدو لله وللمؤمنين.
واستمر صلى الله عليه وسلم يصبر ويحتسب ويدفع بالتي هي أحسن حتى بلَّغ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى دينه مبلغ الليل والنهار.(184/50)
العاص بن وائل وأذيته للنبي صلى الله عليه وسلم
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن العاص بن وائل، وكان هذا العاص -كما قلت لكم- هو أبو عمرو بن العاص - السهمي قتل في بدر، أتى إلى خباب بن الأرت، فصقل له سيفاً، وخباب كان يعمل على الكير، فقال خباب: أعطني الأجرة، قال: أتؤمن بمحمد؟ قال خباب: نعم أومن، قال: وتؤمن أن الله يبعثنا بعد الموت، قال: نعم أومن، قال: فانتظر حتى يبعثنا الله فأعطيك الأجرة؛ لأني سوف أكون كثير المال يوم القيامة -يضحك- قال: كيف تكون كثير المال؟
قال: لأني إذا بعثت سوف أكون على وضعي في الحياة الدنيا، وأنت سوف تكون على وضعك، يبعثك الله كياراً حداداً، ويبعثني غنياً تاجراً.
اسمع رد القرآن، ليس برد البشر: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} [مريم:76 - 80] هذا رد القرآن، يقول: انظر إلى هذا المجرم الذي يتقول على الله، وكأن عنده عهداً من الله عز وجل أو أثارة من علم، أنه سوف يبعث غنياً -كذاب وهو مجرم- ويقول الله بعدها؛ لأن هذا المجرم العاص بن وائل يقول: سوف أبعث من القبر في أسرتي، بني سهم سوف يخرجون معي من القبور، فيحمونني من ملائكة محمد الذي يزعم أنهم يأخذون الرجل فيكبونه في النار، قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95].
وهذا رد على كل طاغية في الأرض، فلا حرس ولا موكب ولا حراسة ولا حماية إلا حماية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا في الحياة الدنيا، وأكبر آية أن الإنسان يدفن بدون أن يدخل معه أحد.
هارون الرشيد الذي حكم ما يقارب نصف الكرة الأرضية المشرق كله من السند إلى أسبانيا، قال لما حضرته الوفاة، قال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه، وعبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، لما حضرته الوفاة، قال: يا ليتني كنت غسالاً، يا ليتني ما عرفت الحياة، يا ليتني ما توليت الملك، وهذه هي مصائر الناس، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].(184/51)
الوليد بن المغيرة وأذيته للنبي صلى الله عليه وسلم
وممن آذى الرسول صلى الله عليه وسلم الوليد بن المغيرة، أبو خالد بن الوليد، كان عنده عشرة أبناء، وكان تاجراً وذا مالٍ في مكة، كان يكسو الكعبة سنة، وكفار قريش يجتمعون في كسوة الكعبة في سنة، الوليد بن المغيرة كان الذهب عنده يقسم بالفئوس، إذا أراد أن يحضر نوادي مكة أو ولائم مكة جعل خمسة من أبنائه عن يمينه وخمسة عن يساره، هو صاحب عشرة أبناء، فالله سوف يعترض عليه الآن وسوف يدمغه القرآن بعد قليل.
أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وجمع كفار قريش، قال: يا معشر قريش! دعوني أذهب إلى محمد وأفاوضه، قالوا: اذهب، فجلس أمام الرسول عليه الصلاة والسلام وطلب منه أن يترك دعوته، وطلب منه ألا يقطع الأرحام، كأن الذي قطع الأرحام رسول الله صلى الله عليه وسلم -وألاَّ يسب الآلهة، أي: الأصنام، قال: وألاَّ يثير على قومه فتنة، ولا يفتح عليهم باب قتل، فقال صلى الله عليه وسلم: انتهيت يا أبا المغيرة؟ قال: نعم انتهيت، قال: اسمع، لا يرد صلى الله عليه وسلم من عنده، يرد بسورة فصلت، فبدأ صلى الله عليه وسلم من أولها، ثم قرأ عليه بصوت الرسول صلى الله عليه وسلم، وذاك مبهوت أمام الرسول صلى الله عليه وسلم كالصنم، ثم بلغ صلى الله عليه وسلم قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13].
فقام الوليد فجعل يده على فم الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: أسألك بالله والرحم، يقول: أسألك بالله لا تزيد علينا من هذا؛ لأنه بلغ إلى أضلاعه وأقطار نفسه ودخل قلبه، فقام بوجه كقطع الليل المظلم متأثراً، فرجع إلى كفار قريش، قال كفار قريش: والله لقد جاءكم الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، قالوا: ماذا رأيت؟ قال: سمعت الشعر هزجه ورجزه وليس بشعر، وسمعت السحر نفثه ورفثه، وليس بسحر، وسمعت الكهانة وليس بكهانة، قالوا: ما هو؟ قال: كلام يعلو ولا يُعلى عليه، أسفله مغدق وأعلاه مثمر، له حلاوة، وعليه طلاوة، قالوا: لا تبرح من هذا المكان حتى تقول فيه كلاماً وإلا قاطعناك.
فجلس، والقرآن ينقل لنا صورة الرجل وهو يتكلم، قال: فجلس وفكر، ثم رفع طرفه يبحث عن كلام يغمز به القرآن، ثم تأمل قليلاً ثم عاد، فقال: إن هو إلا سحر يؤثر، اسمع كيف يرد عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر:11] يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: اتركني وهذا المجرم، وأنت إذا تركتني لهذا المجرم أنا أنصفك منه، كقولك ولله المثل الأعلى: اتركني وفلاناً، لا تتدخل بيني وبين فلان أنا أكفيك فلاناً، فالله يقول: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر:11] يقول: هذا خلقته واحداً، لكن عنده عشرة أبناء الآن: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} [المدثر:12] من الذي جعل له المال؟ من الذي خوَّله؟ من الذي أعطاه؟ الله، يقول: أنا الذي أعطيته، وأنا الذي سوف أحاسبه {وَبَنِينَ شُهُوداً} [المدثر:13] قال أهل التفسير: يشهدون المحافل معه، منهم خالد بن الوليد لكنه أسلم، وأحد الأئمة رحمه الله، يقولون: كان يصلي في الحرم، وكان وراءه خالد بن الوليد، فصلى خالد رمضان هناك، فلما أتى الإمام إلى هذه السورة قفزها.
هذا مشرك نعم، لكن تقدير المشاعر وارد، أبوه الوليد في النار، لكن خالد هو سيف الله المسلول، هذا أبو سليمان الذي فتح المشرق وراءه، قال: فمن احترامه وتقديره قفز في سورة المدثر، وهذه ذكرها التاريخ، لأن خالداً يعرف من هو المقصود، أنت تصور في أسرتك أنه يقرأ عليك في الحرم القرآن وهو في أبيك وفي أسرتك ألا تتأثر ولو كان أبوك كافراً؟ البشر بشر، قال: قفزها وتركها، فقالوا: يسمونه النبيل، سموا هذا الإمام نبيلاً لعقله وذكائه وفطنته، وإلا فلا يهدر شيء من كلام الله عز وجل.
قال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} [المدثر:11 - 14] أي: أصلحت له الأمور، ولذلك ترى كثيراً من الكفرة تتكسر العقبات في طريقهم، تجد الفاجر يعيش ستين سنة لا يبكي أبداً، ولا يتضور من الجوع ولا يظمأ ولا تحدث له مشكلة، كل شيء معبد في طريقه، إن ذهب يراجع فالشفاعات أمامه، إن ذهب في مصلحة وجدت الواساطات قبله، إن أراد شيئاً وجد الفيتامينات، تسمى فيتامينات (و) تسهل عليه كل مهمة.
بينما تجد بعض الصالحين الأولياء الكبار، مبهذل في الحياة، جائعاً وأسرته جائعة، وإذا تقدم إلى طلب رُفِضَ طلبه.
ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع الصحابة، وعنده أبو ذر الغفاري، فمر رجل على فرس في ديباج أخضر ومعه سيف، وفرسه له إشارة طويلة، فقال صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: ما رأيك في هذا الرجل؟ -هذه موازين محمد عليه الصلاة والسلام، ليست موازين العروبة والقومية الخاسرة القبيحة- قال أبو ذر: هذا جدير إن شفع أن يشفع -أي: إذا توسط عند الناس أن تقبل وساطته- وإذا نكح أن ينكح -إذا أراد أن يخطب امرأة زوجوه ولم يردوه- وإذا قال أن يسمع له، فتبسم صلى الله عليه وسلم وسكت.
فمر رجلٌ فقير يمشي على الأرض، عليه ثياب مقطعة مرقعة وجائع وعليه تضور الجوع والفقر، قال: يا أبا ذر! ما رأيك في هذا؟ قال: هذا جدير إذا شفع ألا يشفع -لا تقبل له وساطة، ولذلك بعض الناس لا يدخل من الأبواب، ينام على الرصيف، ولا يقبل كلامه، ولا يلتفت ولا ينظر إليه، ولا يسلم عليه أصلاً- قال: وجدير إذا نكح ألا ينكح -لا يزوج- وإذا قال: ألا يسمع، قال صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر! والذي نفسي بيده، إن هذا الرجل خير من ملء الأرض من ملء ذاك} لماذا؟ لأن الموازين عند الواحد الأحد.
يقول: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:1 - 3] قال أهل التفسير: تحفض أناساً كانوا مرفوعين في الدنيا بالكذب، وترفع أناساً كانوا مخفوضين في الدنيا، هذه موازين الله عز وجل.
والمقصود، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزيد} [المدثر:15] هذا المجرم كذلك يطمع أن أزيد أمواله وهو يفعل كذا: {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} [المدثر:16] بآيات الله عز وجل الشرعية القرآنية {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر:17] الصعود: جبلٌ في جهنم نعوذ بالله منه، يقول: يصعده يصعده وله نفس، فإذا بلغ منتهاه سقط إلى آخره، ثم يصعد، وهذه تسمى الأعمال الشاقة التي اكتشفها هتلر، أن يصعد الإنسان، لكن عذاب الآخرة أشد وأخزى، فإذا صعد ووصل رأس الجبل، يقولون: يصعده ما يقارب سبعين سنة، فإذا انتهى إلى أعلاه سقط إلى آخره وهكذا.
{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} [المدثر:18] الآن يصف لك المجلس الذي جلسه، فكر، أي: ماذا يريد أن يطعن في هذا القرآن، ماذا يريد أن يتقول على هذا القرآن، أعظم معجزة هو هذا القرآن، أحد المستشرقين أسلم، وأنتم تعرفونه أنه يوسف، اعتنق الإسلام وحيته الصحف، يقولون: إن من أسباب إسلامه، ولو أنها رويت عن رجل أمريكي آخر، لكنها نقلت عن هذا كذلك، أنه أتى يقرأ القرآن، الآن أي كتاب يؤلف من كتب البشر التي بأيدينا، كل كتب المكتبات الإسلامية في أولها يقول المؤلف: وأنا أعتذر إلى الإخوة القراء، أو كلام يشبه هذا، إن ند بيان، أو تلعثم لفظ، أو أخطأت في مسألة، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، فالمعذرة، هكذا البشر يقولون إذا ألفوا كتاباً اعتذروا إلى قرائه، أما الله عز وجل فما اعتذر لأحد من الناس، يقول في كتابه: (الم) {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] يقول: أتحدى أن يوجد فيه ريب أو خطأ، ويقول بعدها: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ثم يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإنس وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88].
الآن اسمع في صلاة التراويح، كأن الآية أول مرة تسمعها في حياتك، كأنك ما سمعت بها إلا هذه الليلة، كأنها أنزلت هذه الليلة فحسب.
لما مات صلى الله عليه وسلم، قام عمر يقول: [[يا معشر الناس! من زعم أن محمداً قد مات ضربتُ عنقه بهذا السيف]] فأتى أبو بكر، فقال: [[رويدك يا ابن الخطاب]] ثم قام أبو بكر يتلو قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] قال عمر: [[والله الذي لا إله إلا هو، كأنها أول مرة أسمع هذه الآية]] ثم أغمي على عمر، هذه جدارة القرآن.
يقول: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّر * ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر:18 - 21] الآن بدأ يصف لنا مجلسه مع كفار قريش.
يقول: نظر إلى السماء يتفكر ماذا يطعن في القرآن: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر:22] عبس وجهه: أظلم وجهه، وبسر: كلح، هذا أسلوب القرآن يخاطبهم باللغة العربية الفصحى: {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:23 - 24] أي: ينقل {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:25 - 26].
الفيصل مع هذا المجرم، وذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وقال: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:10] وكان كثير الحلف فجوراً وإعراضاً وصداً عن منهج الله، ووصفه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فقال: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:11] الهماز: هو العياب الطعان، مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ: ينقل الأحاديث للإفساد بين الناس: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:12 - 13] عتل: غليظ القلب، بعد ذلك زنيم، قيل: بخيل {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:14 - 16] يقولون: ضرب على أنفه الخرطوم، وقيل: في الآخرة سوف يضرب على أنفه الخرطوم، وإنما قال: الخرطوم، وإلا كان يقول: الأنف، لكن من باب أن يلحقه بعالم الحيوانات؛ لأن الخرطوم للفيل ولأمثاله، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16] والعرب تدري بهذا، وتعرف ما هي دلالة هذه الألفاظ.(184/52)
أذية النضر بن الحارث للنبي صلى الله عليه وسلم
ومن المستهزئين النضر بن الحارث العبدري، من بني عبد الدار، كان إذا جلس الرسول صلى الله عليه وسلم مجلساً للناس يحدثهم ويذكرهم ما أصاب من قبلهم، قال النضر: هلموا يا معشر قريش، فإني أحسن مثل هذا الحديث، فقام يحدثهم عن فارس، وعن الروم، وعن أساطير وأخبار عجائز الجاهلية فيتضاحكون.
يحدثهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن فرعون وعاد وثمود، فيأخذ هو كرسياً ويجلس بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم، فيحدثهم عن عجائز الجاهلية، فلانة، وفلانة، فيضحكون استهزاء.
ينقل في السير: [[أن عمر دخل المسجد فوجد قاصاً من المسلمين -لكنه مغفل- أخذ كتاب دانيال، فأخذ يقص على الناس في المسجد، وعمر داخلٌ من الباب، قال عمر: ما هذا؟ قالوا: قاص، قال: وما قاص؟ قالوا: يقص علينا من أخبار دانيال، أخبار مثل: تودد الجارية، مثل: داحس والغبراء، مثل: المهلهل، ومثل: الزير سالم، ومثل هؤلاء الذين هلكوا في الجاهلية، قال عمر: خير، ثم ذهب، وأتى بعصا ودخل عليه، وهو عند الكرسي، فأتى؛ فأمسكه وضربه على رأسه.
قال: يا عدو الله! يقول الله عز وجل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] وأنت تقص علينا قصص دانيال، أي: هل أصبحت أفضل من قصص القرآن؟! هل هي أحسن من قصة يوسف، وقصص الصالحين، وقصص الهالكين؟ أي: كأن الأمة تعيش فراغاً فكرياً، مثلما نعيش الآن، نحن نعيش خواءً عقدياً، أي: تجد الأمة محتاجة لقال الله وقال الرسول، وتجد المسلسل يأخذ ساعة ونصف أو ساعتين في كلام فارغ (افتح يا سمسم).
أي: ضياع للأمة، وضياع للضمائر، الأغاني أربع ساعات، ونحن بحاجة إلى حدثنا، ورواه البخاري ورواه مسلم، ولذلك انظر واقع العالم الإسلامي، الطباشير مستوردة، أمة تأكل وتشرب وتنام وترقص، تخرج اللاعب والمغني والموسيقار، هذه جودتنا أمام العالم، وهذا بسبب الترف الفكري والضياع الذي ما شهده عمر رضي الله عنه، يسمى الخواء العقدي، فإذا فرغت الأمة تصبح هكذا.
يقولون: إذا لم يتشاغل الإنسان بالكتاب والسنة يصبح فارغاً، حتى تجد -الآن- أناساً في الأربعين والخمسين، بل منهم من بلغ الستين، ينطلق بعد التراويح إلى المقهى يلعب البلوت إلى الساعة الثانية ليلاً، لا يقرأ قرآناً، ولا يستمع حديثاً، ولا يقرأ من ثقافة الأمة، أو من ثقافة تنفعه في الدنيا والآخرة، ولا يتقرب إلى الله إنما يلعب البلوت إلى الثانية ليلاً أو إلى السحور، وهذا موجود لا ينكره إلا مكابر، وشريحة في المجتمع تفعل ذلك؛ لأن هناك خواء عقدياً، لم يحمل الكثير {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فنحن نشكو حالنا إلى الله.
يقول سبحانه في هؤلاء الكذبة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6] القرآن شيء، ولهو الحديث شيء آخر، لهو الحديث ضياع للمجالس: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان:6] قصده الصد عن منهج الله، تجد بعضهم يرتاح لسماع الأغنية ولا يرتاح لسماع القرآن، ولا يريد أن تحدثه ولا تعظه، بل إذا حدثت في المجلس، قال: عندنا خير، واستفدنا والحمد لله، واتركونا من هذه الأحاديث اتركونا نتكلم في حديث آخر، هذا من الذين يصدون عن سبيل الله: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:6 - 7].(184/53)
إسلام حمزة بن عبد المطلب
قال المؤلف رحمه الله تعالى: باب إسلام حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حمزة أحد الأعمام التسعة للرسول عليه الصلاة والسلام، وكانوا أبناء عبد المطلب عشرة، منهم: أبو الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمزة، وأبو طالب، والعباس، كلهم أعمام له صلى الله عليه وسلم.
فـ حمزة كان من أشجع الناس، وحمزة في لغة العرب اسمٌ للأسد، والأسد له ما يقارب مائة اسم، من أسمائه حمزة، وحيدرة، والليث، وهزبر، فسمى عبد المطلب ابنه هذا بـ حمزة، فأتى اسماً على مسمى، ولذلك كان هو من أشجع الناس، كان يأخذ ريش نعامة فيضعه في عمامته وقت المعركة، فإذا ركب ريش النعامة عرف الناس أنه سوف لا يحجم، ولا ينكسر حتى يفل خصمه.
سبب إسلام حمزة أنه كان يصطاد في وادي نعمان فوق عرفة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو إلى الله في الحرم، وفي النهار أتى بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي جهل كلام، فقام أبو جهل فسب الرسول صلى الله عليه وسلم وآذاه وتكلم عليه، وكان من أشد الناس إيذاءً للرسول صلى الله عليه وسلم.
فجاء حمزة إلى أهله بصيد صاده من البرية، إما طير أو غزلان أو أرانب، قال: هل وقع اليوم شيء؟ قالوا: ترافع صوت ابن أخيك محمد وصوت أبي جهل اليوم في الحرم، فسبه أبو جهل أمام الناس، فقام، فأخذ قوسه الذي يصيد به وذهب والناس مجتمعون في الحرم، وأبو جهل في أكبر حلقة، فعمد إلى أبي جهل فضربه على رأسه فشجه؛ فإذا الدم على وجهه، فأراد أن ينتقم، فقامت الأسر بعضها تحامي عن بعض، فلما أخذته الحمية ذهب حمزة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
مادام أنه بلغ هذا الإيذاء وعلم الله انتصاره للرسول صلى الله عليه وسلم، فهداه للإيمان: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] واستمر حمزة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من أحب أعمامه إليه، قريباً من قلبه، ومواقفه البطولية لا تنسى أبد الدهر.(184/54)
حياة حمزة مع الرسول صلى الله عليه وسلم
هو أول من بارز في معركة بدر، دعاه صلى الله عليه وسلم للمبارزة حمزة عمه، لئلا يقول الناس: دعا الناس للمبارزة والقتال وترك أقاربه، جعل كل المبارزين أقاربه صلى الله عليه وسلم، حمزة، وعبيدة بن الحارث وعلي بن أبي طالب، يقول علي بن أبي طالب في الصحيح: [[أنا أول من يجثو يوم القيامة، ومن بارز يوم بدر؛ لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19]]] الذين تبارزوا يوم بدر هم أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة، ثلاثة من المؤمنين، وثلاثة من المشركين.
ثم بدأت المعركة، يقول أحد من حضر المعركة: [[والله إني كنت أنظر إلى حمزة وبيده السيف، وإن الناس يتفللون بجانبه وأمامه كالمعزى في الليلة الشاتية، أي: الرجال يصبحون أمامه كالمعزى إذا رأت الأسد، وإلا فهم شجعان، أشجع العرب هم قريش، لكنهم بلوا برجل من أشجع الناس، وحضر معركة أحد، وكان أكثر السبعين الذين قتلوا يوم بدر من كفار قريش على يد حمزة.
فأتت هند امرأة أبي سفيان، فأخذت قلادتها، وأخذت ذهبها وحليها، وأتت إلى وحشي مولى من الموالي، وقالت: هذه الحلي، وأعتقك إن قتلت حمزة في معركة أحد، وحضر الجمعان أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله، قائدهم رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، ومعه عمه حمزة، ولما بدأت المعركة، أخذ حمزة ووضع ريش النعامة على صدره، مستعداً لمعركة ويوم كيوم بدر، فأتى ابن عرفطة، فنزل حمزة والتقى معه وبدأت المعركة، قال حمزة لـ سباع بن عرفطة: يا ابن أم مقطعة البظور! أتيت تحاد الله ورسوله، يقول: يا ابن الختانة! لعنك الله، ثم قتله.
وقد قتل سبعة من قادة قريش ومن حملة الراية، فلما أتى في منحنى الوادي، قام وحشي وكان من الحبشة معه حربة، فهزها وحمزة لم يدرِ أن هذا قد كمن له في شجرة، وإلا لو كان أمام الأرض كان رآه، فضربه بالحربة حتى أخرجها من بطنه، قال بعض الرواة: إن حمزة ضرب الشجرة حتى قطع غصونها، لكنه لم يدرك وحشياً، وسبقه الدم فوقع صريعاً على وجهه.
فأتت هند بعدما قتل حمزة، فبقرت بطنه، وجدعت أنفه، وأخذت كبده فلاكتها، ثم لفظتها ولكنها لم تستطع أن تبتلعها من الحقد والغيظ والضغينة؛ لأنه قتل أقاربها الكفار، فمر صلى الله عليه وسلم على القتلة، فلما رأى حمزة وقف طويلاًَ، وبكى وغضب عليه الصلاة والسلام، وقال: {والذي نفسي بيده، لئن ظفرت بهم لأمثلن منهم بسبعين} فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128].
هذا هو حمزة الذي أسلم، وهذه أيامه ومشاهده، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].(184/55)
حياة بلال بن رباح
وممن أوذي في سبيل الله بلال بن رباح، الذي أتى من أرض الحبشة مجيباً لداعي الله عز وجل، فأجاب دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وركب في سفينة التوفيق مع رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، سحبوه في الرمضاء، وهو يقول: أحد أحد، وأحرقوه في الشمس، وهو يقول: أحد أحد، وضربوه بالسياط وهو يقول: أحد أحد.
مر أبو بكر الصديق وبلال رضي الله عنه وأرضاه يعذب، وهو يصيح: أحد أحد، فقال أبو بكر لـ أمية بن خلف سيده -عليه غضب الله- هذا أمية بن خلف المجرم، هذا الذي عذَّب بلالاً، من سادات قريش.(184/56)
أبو بكر الصديق يشتري بلالاً من أمية بن خلف
قال له أبو بكر: أتبيع مني بلالاً؟ قال: خذه لو أخذته بدرهم بعته منك، قال: وأنت لو قلت: بمائة ألف دينار أخذته منك، فأعتقه أبو بكر، فكان عمر يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا؛ لأن عمر دخلت في قلبه لا إله إلا الله وإلا لو أنه كان مشركاً لما قال هذه الكلمة، كان كفار قريش لا ينظرون إلى بلال ولا يُسلِّمون عليه ولا يجلس معهم، واستمر بلال فجعله صلى الله عليه وسلم مؤذناً للرسالة الخالدة.
كان يؤذن دائماً بصوته الجميل العاطر الندي، فيرتفع صوت الأرض إلى السماء، وكان صلى الله عليه وسلم دائماً إذا حزبه أمر، يقول: {أرحنا بها يا بلال} أرحنا بالصلاة، وكان دائماً مع الرسول صلى الله عليه وسلم قريباً من راحلته، وأحياناً ربما حمل معطف الرسول صلى الله عليه وسلم، أو حمل أدواته وحاجياته الخاصة عليه الصلاة والسلام.(184/57)
بلال بن رباح مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم
ونام الجيش في ليلة من الليالي، والحديث في البخاري والرسول صلى الله عليه وسلم معهم، فقال: {من يحرسنا هذه الليلة، ويحبس علينا صلاة الفجر} أي: يوقظنا لصلاة الفجر، هبط في معرس من الأرض يريد أن يوقظهم أحد الصحابة، قال بلال: أنا يا رسول الله! فوقف مع ناقته يصلي ويتهجد، فلما قرب الصبح، جلس بجانب الناقة فنام حتى طلعت الشمس، فلما طلعت الشمس، حمي الناس من الشمس، لم يقم أحد من الجيش، معهم المشرع المعصوم عليه الصلاة والسلام، وإلا فالله كان يوقظه؛ لأنه تنام عيناه ولا ينام قلبه، لكن أراد الله أن يشرع للأمة، يخبرنا ماذا يفعل الإنسان إذا نام.
وعند الإمام مالك في الموطأ، حديث يقول: {إني لأنسى لأسن} وهو منقطع لكن معناه صحيح، أنسى، أي: ينسى صلى الله عليه وسلم ليسن للناس، ينسى ليشرع للناس، فكان أول من استيقظ لحرارة الشمس عمر بن الخطاب، وكان رجلاً مهيباً جلداً صابراً حازماً، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً -وانظر إلى الأدب كيف صاغ الله هذه الأمة حتى أصبحت تتعامل مع رسولها عليه الصلاة والسلام! أتظن أن عمر يأتي ويقول: يا رسول الله! قم تأخرت عن الصلاة، أو يقول: يا رسول الله! ويرفع صوته، لا.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63] لا تتعاملون مع هذا الرجل كبعض الرجال، إنه رسول، إنه معصوم، إنه نبي- فأتى عمر فوقف بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، فاستيقظ صلى الله عليه وسلم.
فلما استيقظ الناس وإذا بهم من الخوف والهلع ما الله به عليم، أول مرة في تاريخهم تطلع عليهم الشمس، وهم لم يصلوا الفجر، فقل لي بالله كم من ملأ لا يصلون الفجر دائماً إلا بعد طلوع الشمس، لكن يقول المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
فقال صلى الله عليه وسلم: ما عليكم، أي: لا تخافوا ولا تحرجوا، ثم أمرهم بالاستيقاظ والمشي، فمشوا من هذا الوادي، يقول صلى الله عليه وسلم: {هذا وادٍ بات معنا فيه شيطان} قيل: وادي العقيق، وقيل: وادٍ غيره، ولكن يهمنا أن هذا الوادي بات شيطان مع الصحابة فناموا، فلما مشوا قليلاً، قال صلى الله عليه وسلم: أعندكم ماء؟، قالوا: ما عندنا يا رسول الله شيء، فالتمسوا في القرب فما وجدوا ماءً، يريدون أن يتوضئوا، جيش ما يقارب ثمانمائة مقاتل، قال صلى الله عليه وسلم: يا علي! - وهو رجل المهمات أبو الحسن:
فلسان يدعو وعقل يشير وحسام يمضي وفكر جدير
قال: يا علي! ويا زبير! التمسا لنا الماء، والزبير كذلك رجل المهمات، حواري الرسول صلى الله عليه وسلم، وهما من أشجع الناس.
فذهبا على فرسين في الصحراء، وإذا بهم بأعرابية أقبلت على جملين تريد الماء لأهلها، هذه بدوية ذهبت تستقي من غدير وركبت القرب على الجمال، وذهبت تريد أهلها، فاعترضها علي بن أبي طالب والزبير، فقالا لها: كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: الصابئ؟ أي: المنحرف عن دين آبائه وأجداده إلى دين غيره، وهذه كلمة من التشويش الإعلامي الذي وقع له صلى الله عليه وسلم، قالوا: هو الذي تريدين، صلى الله عليه وسلم، وهذا جواب لطيف، لو قالا: نعم.
لكانا أخطأ، ولو قالا: لا، لما عرفت هي، ولذلك قالا: هو الذي تريدين.
فذهبا قبلها بالفرسين وهي وراءهم بالجمال، فلما اقتربوا أخذ صلى الله عليه وسلم قربة من قربها، فقال: صبوها عليَّ، فأخرج يده البيضاء النظيفة الجميلة، التي لم تعرف سفك الدماء ولا السرقة، ولا أكل أموال الشعوب، ولا اللعب بالمبادئ، اليد التي أخرجتني وأخرجتك وأخرجت هذا العالم من الظلمات إلى النور، فقال: صبوا، قال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال أنس: [[والذي نفسي بيده، إني رأيت الماء ينبع من بين أصابعه كالأنهار]] ليس من القربة، إنما من بين يديه، فأخذت الصحاف تمتلئ ويغتسل الناس ويتوضئون ويملئون القرب من قربة واحدة.
فلما انتهت، دعا صلى الله عليه وسلم بالبركة لها، فامتلأت قربتها، لم ينقص منها شيء ولم تذهب منها قطرة، وأعادها على الجمل، ثم قال للناس: اجمعوا طعاماً لهذه الأعرابية، فجمعوا طعاماً ووضعوه على جمالها، ثم ذهبت.
هذا من قصص بلال، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: {إن بلالاً يؤذن بليلٍ، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم} كان يؤذن قبل أن يوتر الناس، وابن أم مكتوم ينادي مع الفجر، أتى صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي -والحديث صحيح- وفي الصباح قال للصحابة: {يا بلال! دخلت الجنة البارحة، فسمعت دفَّ نعليك في الجنة، فماذا كنت تصنع؟ قال: ما توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بعده ركعتين}.(184/58)
بلال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم
هذا بلال منادي رسول الله، وكان جميل الصوت، وذكر بعض أهل السير -والله أعلم بذلك- أن بلالاً مات في الشام في حمص، لكنه لما سافر إلى الشام مكث هناك فترة طويلة، بعدما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض أن يؤذن للناس، توفي صلى الله عليه وسلم، وقام هو يؤذن صلاة الفجر، فرفع صوته الجميل في المدينة يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فلما بلغ أشهده أن محمداً رسول الله، بكى وخنقه البكاء، فما استطاع أن يكمل الأذان فنزل؛ لأنه تصور الرسول صلى الله عليه وسلم قد انتهى.
قال أبو بكر: أذن لنا يا بلال؟
قال: والله لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ما شاء الله، ولما فتح عمر بيت المقدس، تقدم عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى الصخرة.
رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
تقدم، قال: يا بلال! عزمت عليك أن تؤذن هذا اليوم، فرقى بلال عند بيت المقدس، وقال: الله أكبر، فانفجر الصحابة يبكون؛ لأنه ذكرهم أيام الرسول عليه الصلاة والسلام، فقام بلال في الشام، وفي ليلة من الليالي رأى الرسول صلى الله عليه سلم في المنام، قال: هجرتنا يا بلال! أي: لا تزورنا حتى في المدينة، هذه الفترة لم نرك، فشد بلال جمله وذهب إلى المدينة، فوصلها ليلاً ووجد المؤذن قد تأخر تلك الليلة عن الأذان، فقام بلال يؤذن، قالوا: فما بقي بيتٌ سمع نداء بلال وصوته إلا بكى.(184/59)
مصرع أمية بن خلف على يد بلال بن رباح
ذهب بلال إلى الله، ولكن بقي بلال في قلب كل مسلم من مسلمي الكرة الأرضية يعيش معه، ويتفاعل معه، ويحبه، ويتولاه، وذهب أمية بن خلف وأبو جهل والوليد بن المغيرة، ولم يبق قلب مسلم إلا يبغض هؤلاء ويلعنهم ويتبرأ منهم إلى قيام الساعة.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن أمية بن خلف وعن أبي بكر الصديق، في قصة البيع والشراء: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل:14 - 15].
هذا أمية بن خلف رفض أن يخرج يوم بدر، يقول له كفار قريش في بدر: اخرج معنا نلاقي هذا الصابئ محمداً، قال: لا.
إني رأيت محمداً دعا علينا عند الكعبة، وأخاف أن أخرج فأقتل هناك -وإذا كتب الله أن يقتل فسوف يخرج- فرفض أن يخرج وأرسل أبناءه وأرسل أجيراً له، فأتى أبو جهل إليه بمبخرة، فركب فيه البخور والجمر، وقال: يا أمية بن خلف! تجمر مثل النساء، أما القتال فلا تحضر معنا.
قال: أنا أشجع منك ومن أبيك ومن جدك، ثم أقسم أن يخرج -هذا أحرجه حتى يورده الموت- فخرج معهم، فلما أصبح في معركة بدر أي: أمية بن خلف وفر الناس وفر أمية بن خلف، فرآه بلال من آخر الوادي -هذا صاحبه الأول- فأخذ بلال يرفع السيف، ويقول للأنصار: [[أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا]] أي: صاحب الصفحات والفعائل السوداء، فلحقه الأنصار فاشتبكوا معه، فأتى عبد الرحمن بن عوف فألقى رداءه وألقى جسمه على أمية بن خلف، فاستخرج الأنصار أمية بن خلف ورفعوا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو يريد الإصلاح، فتناولوه بالسيوف فقطعوه إرباً إرباً، هذا أمية بن خلف قتل في معركة بدر، ورحل إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم.
فيقول: {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:16] هذا هو أمية بن خلف {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل:17] هذا الصديق الأكبر أبو بكر الصديق {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:18 - 21].
ذكر ابن ماجة لكن في سنده كلام، أن الله عز وجل أول من يلقى بعد الرسل والأنبياء في الجنة أبا بكر الصديق، والذي نعتقده أن أفضل الناس بعد الأنبياء والرسل هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه بلا خلاف.(184/60)
إسلام عمار بن ياسر
وممن أسلم أيضاً: عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه، وأخذه كفار قريش وعذَّبوه، حتى قدموا له الجعل وقدموا له الحشرات، فيقولون: ربك هذا؟ قال: نعم ربي.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106].(184/61)
تعذيب كفار قريش لعمار بن ياسر
ومن هذه القصة أن من عذب عذاباً شديداً ولا يستطيع أن يتحمل، له أن يتفوه بشيء يوافق من عذبه حتى ينجو من العذاب إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان.
الآن انظر إلى الأنظمة الفاسدة التي عذبت البشر، مثل بعض المذكرات: نظام الحكم مثلاً في العراق الذي عذب الدعاة، كانوا يقولون: أنت متواطئ مع الصهيونية، يأخذون العالم من المسجد المفتي عالم المسلمين، ويقولون: أنت متواطئ مع موشي ديان، فيقول: لا.
فيجلسونه على منضدة من كهرباء، ويركبون الفيش حتى يحترق، فيقول: نعم أنا تعاملت مع موشي ديان.
وهذا يفعله الناس كذا، والإنسان له أن يتكلم بكلام حتى يرفع عنه الضيم إذا بلغ به هذه المسألة، فيقول: ربك هذا، قال: نعم ربي، ثم حرج رضي الله عنه وخاف بعدما قال هذا، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106].
وصل صلى الله عليه وسلم المدينة، ولما وصل هناك واستقر أتى النبي صلى الله عليه وسلم يبني مسجده، فأخذ اللبنة الأولى، فوضعها في مكانها، من يأخذ اللبنة الثانية؟ أبو بكر الصديق عرف الناس أنه رجل الساعة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذها ووضعها، ثم قام عمر فأخذ اللبنة الثالثة، فقام عمار كان يأخذ الناس لبنة لبنة، وهو يحمل لبنتين، فأتى إليه صلى الله عليه وسلم، فمسح التراب عن رأس عمار رضي الله عنه وقبله، وقال: {ويحك يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية} هذه من دلائل النبوة، كل يوم برهان من براهين النبوة، وحجة من حجج الرسالة: {ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار} قال عمار: أعوذ بالله من الفتن، لم يعرف ماذا ينتظره المستقبل وينتظره القدر.(184/62)
مقتل عمار رضي الله عنه
واستمر الحال بـ عمار حتى بلغ السبعين، وقيل: الثمانين من عمره، فلما حضر معركة صفين التي كانت بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عن الجميع {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] مرض عمار في أول المعركة، فقال ابنه: يا أبتاه! أوصِ بدينك فأني أظنك تموت، قال: [[والله لا أموت حتى أقتل في المعركة، وعد خليلي الصادق المصدوق ما كذب ولا كذب]] ولما حضر المعركة أتوه بكوب من لبن، قال: أشهد بالله أنه آخر شرابي من الدنيا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرني أن آخر ما أذوقه من الدنيا شربة لبن.
فشرب وخرج وكان من أشجع الناس، وتصور ابن ثمانين يقاتل، وقاتل حتى قتل في سبيل الله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بعض الناس أنه سوف يقتل، هذه من أقوى دلائل النبوة التي عاشها صلى الله عليه وسلم والتي قدمها للإنسانية {كان رأس الرسول صلى الله عليه وسلم في حجر علي مرة فتبسم، قال علي: مالك يا رسول الله؟ قال: أتدري من أشقاها؟ -يقول صلى الله عليه وسلم: أتدري من أشقى الأمة؟ - قال: ما أدري، قال: أشقاها قاتل الناقة وأشقاها من يخضب هذه بهذه، ثم أشار إلى لحية علي بن أبي طالب وكانت كثة} هذا أشقى الأمة عبد الرحمن بن ملجم.
فأتى علي رضي الله عنه، ومرض ليلة بالحمى، فقام الحسن والحسين يدفونه، ويقولون: مرض الموت يا أبتاه مرض الموت، قال: لا.
والله لا أموت حتى تخضب هذه من هذه، وعد الرسول عليه الصلاة والسلام.
وليس على الأقدام تدمى كلومنا ولكن على أعقابنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
وبالفعل قتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجي عليه غضب الله، ولما قتله قال عمران بن حطان مادحاً له:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه من خير خلق عباد الله إنسانا
هذا خارجي يمدح خارجياً، فرد عليه أحد شعراء أهل السنة، فقال:
يا ضربة من شقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا
إني لأذكره يوماً فألعنه وألعن الكلب عمران بن حطانا
فنسأل الله أن يرفع منازل الصالحين، ويجمعنا بهم، هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم من تلك السلالة، ومن ذاك الموكب، (ومن يشابه أبه فما ظلم) وحبهم يدخلكم مع العمل الجنة، ومن تولاهم في الدنيا تولاه الله في الآخرة، نشهد الله على حبهم، وعلى توليهم، وعلى بغض أعدائهم، ونسأل الله أن يجمعنا بهم في دار الكرامة، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(184/63)
بين يدي كتاب الله
تعددت مناهج المفسرين، فاللغويون اهتموا باللغة، والقصاصون أكثروا من رواية الإسرائيليات، والمتكلمون شحنوا تفاسيرهم بمباحث كلامية فلسفية عقيمة لا تسمن ولا تغني من جوع.
والباطنية من الصوفية والشيعة جاءوا بتحريفات عجيبة يضحك الجاهل والطفل الصغير من سخافتها، أما أهل السنة فإنهم يفسرون القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بما صح عن الصحابة والتابعين، وبما فهم من كلام العرب.(185/1)
أهمية تفسير القرآن
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
يصل بنا الإمام البخاري -رحمه الله- هذه الليلة إلى قمة القمم، وإلى بيت القصيد، وإلى المعنى واللباب، إلى كتاب التفسير من صحيحه، ويوم نظرنا إلى كتاب التفسير لم نجد تفسير القرآن كاملاً في صحيحه، بل وجدنا أحاديث وتركت أكثر منها بعشرات المرات أضعافاً مضاعفة؛ لأنه يشترط في الحديث الصحة، فهو لا يأخذ إلا ما كان على شرطه، فرأيت أنه من السُعْدى ومن البركة والخير أن نبدأ بأول القرآن، وأن نعيش مع القرآن، وأن نحيا بالقرآن، وأن ننغمس في أنهار القرآن، وأن نتأدب بآداب القرآن، وأن نعيش سويعات في مثل هذه الليالي المباركة مع القرآن.
إنني لسعيد جداً يوم أتل آيات الله المباركات على هذا الجمع المبارك النبيل الحافل، وأستمع ماذا قال فيها العلماء والمفسرون، وإنني أعلم أن من العلماء من يفسر، ولكن لكلٍّ مشرب ولكلٍّ مقصد، ومقصدنا جميعاً هو -إن شاء الله- ما يرضي ربنا تبارك وتعالى.
والقرآن يا أمة القرآن ينبغي أن يأخذ كثيراً من دروسنا ومن اجتماعاتنا، ولقاءاتنا ومحاضراتنا وندواتنا.
والقرآن يا أمة القرآن يفسر تفسيراً يفعله بعض العلماء، لا تفسيراً آخر.
إن بعض الناس عندما يفسر القرآن يجعله كتاب صرف، أو كتاب نحو، أو كتاب لغة، فأخذ يعرب الآيات والكلمات حتى ذهبت طلاوة القرآن، وذهبت حلاوة القرآن!
هذا الكتاب الخالد الذي أخرج الأمة الضائعة من الضلالة إلى الهدى، وبصرها وعلمها ورفع رأسها، هذا الكتاب هو كتاب العقيدة، هذا الكتاب هو كتاب العبادة، وكتاب الاقتصاد، وكتاب الأدب، واللغة، هذا الكتاب الذي أخرج الأمة من رعي الغنم إلى أن قلدها مفاتيح التاريخ، وأعطاها منبر الدنيا، وأركبها صهوة المجد، وقال: أنتِ الأمة المجيدة الرائدة.
نريد أن نسمع القرآن في هذه الليالي، ونعيش مع القرآن إن شاء الله من الفاتحة إلى الناس، وسوف لا نطيل بخلافيات وصرفيات ونحويات، لكننا نورد القرآن بالقرآن، والحديث الذي يفسر القرآن واللغة العربية، ثم نصل إلى قضايا: منها قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] وقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1].
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِين * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192 - 195].
وقال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:1 - 8].
دعني ومدحي آيات له لمعت كلمع برق سرى ليلاً على علم
أتى على سفر التوراة فانهزمت فلم يفدها زمان السبق والقدم
ولم تقم منه للإنجيل قائمة كأنه الطيف زار الجفن في الحلم
القرآن من قرأه أجر، ومن عمل به أجر، ومن تدبره أجر، القرآن يذهب عنك الوساوس والخطرات والهواجس.
والقرآن يشفيك شفاءً ظاهراً وباطناً ويقودك إلى الجنة.
والقرآن يعلمك الإيمان والحب والطموح.
ولكن قبل أن نبدأ بسورة الفاتحة؛ أريد أن نأخذ الخمس والست والسبع آيات ونبدأ بقضايا كبرى عن القرآن:(185/2)
مناهج التفسير في القرآن
ما هي مناهج التفسير في القرآن؟
وتتلخص مناهج المفسرين في أربعة مناهج:
المنهج الأول: منهج الصوفية.
المنهج الثاني: منهج الرافضة.
المنهج الثالث: منهج المتكلفين المتنطعين.
والمنهج الرابع: منهج أهل السنة والجماعة حشرنا الله في زمرتهم: {هم القوم لا يشقى بهم جليسهم}
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
ولا يستطيع الفاعلون كفعلهم وإن حاولوا في النائبات وأجملوا(185/3)
منهج الصوفية في تفسير القرآن
أما الصوفية: فإنهم دخلوا في مقاصد لم يقصدها القرآن، لا من قريب ولا من بعيد، تركوا القرآن بالقرآن والسنة النبوية واللغة العربية، وأتوا ينحتون من أفكارهم وشعوذاتهم، وزواياهم ومن مرقعاتهم؛ كلاماً يُضحك عجائز نيسابور!
اسمع إلى بعض تفسيراتهم يقول الحقي في التفسير الذي نقلته عنه وقرأته قبل ساعات وهو عجمي ونحن لا نقول هنا العرب والعجم بل نقول الإسلام:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
لكن من باب التعريف، يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، بدأ الله بالباء لعشرة أسباب:
السبب الأول: أن الباء فيها تواضع وانكسار، ولذلك تمتد على السطر نقول: فتح الله عليك! أأنزل القرآن لهذه المعاني؟! تمتد على السطر منكوسة على رأسها، ومطروحة على ظهرها، ولذلك بدأ الله بالباء هكذا يقول في تفسيره.
السبب الثاني: لأن الباء فيها تواضع ولذلك ما وقفت مثل الألف.
يقول: الألف متكبرة وترى نفسها وتفتخر فوقفت وقوفاً! أما الباء فانصرعت وتواضعت فبدأ الله بها.
السبب الثالث: من تواضع الباء جعلت النقطة تحت أرجلها! لأن الجيم أخذت النقطة في بطنها، والخاء على رأسها والحاء تركت النقطة! لكن الباء من تواضعها جعلت النقطة تحتها.
ونحن نقول: الياء أكثر تواضعاً لأن تحتها نقطتان! فهكذا يقول إلخ.
وهذه الأسباب ولا أريد أن نضيع الوقت في نقل مثل هذه الأشياء.
ونقول: أأنزل القرآن لهذا؟! لو سألت ابن عباس وابن مسعود وخالد بن الوليد الذين فتحوا الدنيا ووصلت خيولهم إلى المحيط الأطلنطي وعمروا منبر التاريخ، وأقاموا لا إله إلا الله في الأرض أيقولون الباء بدئ بها لهذه الأسباب؟! لا والله.
ويقول من ضمن الأسباب: لأن الباء مكسورة، والكسر معناه انكسار القلب والتواضع والرقة.
قلنا: حاشا وكلا ما نزل القرآن لهذا، زيدونا من تفسيركم يا أيها الصوفية! ففيهم كما ترون الخير، يحمد فيهم أشياء، ولكن هناك أمور غلوا فيها لا نقبلها؛ لأنها وزنت على السنة فرمت بها السنة على شفا جرف هار فانهار بها في نار جهنم.
أحد الصوفية لما قال الله عز وجل في سورة آل عمران: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] أي: من الصحابة.
فأهل المغانم لما نزلوا وتركوا عبد الله بن جبير -قد قتل مع السبعين في أحد -وتركوا الجبل وحماية الموقف قال الله لهم: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152] المتاع: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152] ومنكم من يريد جنة عرضها السماوات والأرض كـ مصعب، وكـ أنس بن النظر، وعبد الله بن عمرو الأنصاري الذين يأتون إلى الواحد الأحد تتدفق دماؤهم، ولسان حال الواحد منهم يقول: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى.
فيقول هذا الصوفي: سبحان الله! وأين الذي يريد الله؟ فهذا يريد الدنيا وهذا يريد الآخرة ولا أحد يريد الله؟!
قلنا له: يا غبي! الذي يريد الآخرة يريد الله.
ولذلك سمعت أن بعض الناس يقول: إن رابعة العدوية تقول: ما عبدت الله طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره -قلنا: لماذا عبدت الله؟ - قالت: إنما عبدته حباً فيه.
قلنا: هذا يخالف منهج أهل السنة والجماعة؛ والله عز وجل ذكر السنة وأهل الصلاح فقال: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح:29] وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران:133] وجعفر تتحكم السيوف على رأسه يوم مؤتة ويقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
ثم يطير بعد ساعات بجناحين من شجرة إلى شجرة في الجنة، والله يقول: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:170].
ما هذا التخلف؟! تقول للذي يريد الآخرة أنه لا يريد الله؟! فهذا كلام رابعة مرفوض ولا نقبله؛ لأنه وزن بالقرآن والسنة فأصبح كلاماً خاطئاً لا صحة له.
يقول أحد الصوفية وهو يعظ الناس: يا قلب! يا لسان! اذهب إلى فرعون إنه طغى.
قالوا له: من هو فرعون؟ قال: قلبي.
قالوا: وموسى؟ قال: لساني.
ففرعون هنا يقول: إنه القلب، قال: وأرسل الله اللسان إلى القلب فقال: يا لسان! اذهب إلى فرعون إنه طغى.
كأن هذا المتخلف ما علم أن الله خلق فرعون وخلق موسى، وأوجد صراعاً عالمياً، وتحدياً حضارياً، بين دعاة التوحيد ودعاة الضلالة، بين أهل العمالة وأهل الحق، وقامت الدنيا، حتى قال بعض المفكرين: موسى وفرعون حربهم جوية وبحرية وبرية.
فكان الثعبان يشتغل في الجو، والبحر يدمر فيه فرعون، والبر ينازله فيه موسى.
وبعد هذا كله ينسى التاريخ ويقول: اذهب يا لساني إلى قلبي -فقلبي فرعون- إنه طغى.(185/4)
منهج الرافضة في تفسير القرآن
أمَّا الرافضة فهم أجهل الناس؛ يقول ابن تيمية: هم من أضل الناس في المنقولات ومن أجهلهم في المعقولات، لا خبر ولا علم ولا شيء.
وهذا مثل أحد الناس كان يقرأ: "فخر عليهم السقف من تحتهم" والقرآن يقول من "فوقهم" لكن هذا أعمى بليد جاهل لا يعرف الآية، ولا يعرف معنى اللغة، فقال: "فخر عليهم السقف من تحتهم! " قال ابن تيمية: لا عقل ولا قرآن؟! فالسقف دائماً من فوق ولو لم يقرأ الإنسان، وهل يأتي السقف من أسفل؟!
واسمع إلى تفسيراتهم قالوا: {الم} "ألف": ألف الله محمداً فبعثه هادياً ورسولاً، "لام" لام الله المشركين، "م" مقت الله معاوية.
أهذا كلام؟ حتى الذين ما قرءوا وما كتبوا وهم في أدغال إفريقيا وأحراش آسيا لا يقولون مثل هذا الكلام.
وقالوا في تفسير قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن:19] قالوا: البحرين علي وفاطمة!
وقوله تعالى: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:20] قالوا: التقوى والعفاف.
قلنا: وقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] قالوا: الحسن والحسين.
قال مفسرهم في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] قال: البقرة عائشة؛ لأنهم يلعنونها، نعوذ بالله من الخذلان والحرمان، وكذبوا لعمر الله! فهم ما علموا القصة ولا قرءوا اللغة، ولا عاشوا مع موسى وهو يقول هذا لقومه.
فهذا تفسيرهم.(185/5)
منهج المتكلفين في تفسير القرآن
أما تفسير المتكلفين فهم من العصور المتأخرة، من عهد الرازي إلى هذه العصور، يقول بعض العلماء: إن الرازي أدخل في كتابه كل شيء إلا التفسير.
فهو أدخل الكيمياء والفيزياء والطب والهندسة والتاريخ والجغرافيا لكن لم يتكلم فيه بالتفسير.
فهو مر وترك التفسير على شماله، وما التفت إليه حتى وصل سورة الناس، لكن فيه بعض اللمحات واللطخات من التفسير، وهو يجهل الحديث النبوي مع أنه عقلية كبيرة، حتى إنهم فضلوه على ابن سينا -ابن خالته وعمته في المنهج- يقول الشاعر:
كذب امرؤ بـ أبي علي قاسه هيهات يبلغ مستواه أبو علي
ومن اللطائف أن الرازي يقول عنه ابن كثير أن عنده خمسين من الخدم، وكانت ملوك خوارزم تعظمه.
وكان فصيحاً داهية لكنه ما تعلم الإيمان والحب والطموح من الكتاب والسنة، ولم يقرأ الحديث قراءة مكثفة، بل قرأ فلسفة سقراط وأرسطو وعماتهم وخالاتهم، وهذه عملة مزيفة، إذا أركبتها عملة محمد صلى الله عليه وسلم سقطت ولا تصلح، فإذا أتت عملة مختوم عليها من طيبة المدينة من محمد صلى الله عليه وسلم وتحت الختم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فاقبلها وإلا فردها فهي لا تصلح.
فهو أخذ ختمه من سقراط وبقراط وأفلاطون وأتباعهم وأشباههم، فتموج الرجل وما انضبط.
كان جالساً في المسجد بعد صلاة الفجر يدرس الناس الفلسفة، فتكتفت حمامة من البرد فوقعت على بردته فأخذها فضمها، فقال أحد الشعراء وهو جالس هناك:
جاءت إليك حمامة مشتاقة تشكو إليك بقلب صبٍ واجف
من أخبر الورقاء أن مكانكم حرم وأنك ملجأ للخائف
وهذا من أحسن ما قيل، على أننا لا نوافقه أنه (ملجأ للخائف) إلا بعد الله، لكن هذه من أحسن الكلمات، من يستطيع أن يأتي بهذا الإبداع، حمامة سقطت فاعتذر لها وقال: إنها خائفة، فأتت إلى الشيخ لتشكو إليه هذا تصوير أدبي، وهل الشعر إلا خيال وأسلوب؟!
أما أن تقول للشجرة شجرة ولليل ليل وللنهار نهار فما فعلت شيئاً.
يقول ابن عبد ربه في العقد الفريد: بعض الشعراء يقول:
الليل ليل والنهار نهار والأرض فيها الماء والأشجار
فهذالم يأت بشيء.
جلس أحد الطفيليين مع بعض الشعراء فحلفوا عليه أنه لا يقوم حتى يقول بيتاً -وهو ليس بشاعر، بل هو أكال فقط، يأكل ويشرب مجاناً- فقالوا: لا تقوم حتى تقول شعراً، فنظر فرأى النهر حوله ونظر إلى الشعراء وقال:
كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء
وهذا ليس إبداعاً.
والمقصود: أن هؤلاء المتكلفين يبدءون من الرازي ثم تصعد إلى أن تصل إلى هنا.
,الأستاذ الداعية المتحمس للإسلام، الباكستاني القوي، أبو الأعلى المودودي سقى الله عظامه شآبيب الرحمة، كان قلمه مارداً جباراً على الطغاة، وعلى المفسدين من الشيوعيين وأذنابهم، وكان له ترجمان القرآن، تبدأ في الصباح باستهلاليتها، وكان بليغاً يأسر القلوب، حتى يقول أحد الناس: قرأت له مقالة، فأخذ قلبي بالمقالة فما رد قلبي إلى اليوم.
يقول: قبل أن تقرأ القرآن انزع من ذهنك كل تصور سابق عن القرآن، فالقرآن ليس بكتاب تاريخ -صدق- ولا بكتاب هندسة أو جغرافيا أو طب، بل القرآن كتاب هداية؛ ولذلك يأتي بعض المفسرين فيقولون: يقول الله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] فمعنى ذلك: أن كل قضية لابد أن تكون في القرآن سبحان الله! كل شيء؟ قالوا: كل شيء.
على سبيل الدعابة: الإمام محمد عبده المصري الذي يسمونه إماماً مفسراً، وكان ذكياً لامعاً، توفي قبل سنوات، سافر في سفينة اسمها كوك إلى فرنسا، ومعه خواجة مستشرق يقرأ القرآن، فأراد أن يسخر من محمد عبده يقول: يا محمد عبده! يقول الله في كتابكم: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] فهل سمى السفينة هذه في القرآن؟ قال: ما اسمها؟ قال: كوك.
قال: نعم، سماها في القرآن.
قال: ماذا قال؟ قال: وتر كوك قائماً وهذه الآية التي في سورة الجمعة في قوله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11] أي: تركوا الخطيب قائماً، لكنه يريد أن يهزأ من هذا ويضحك على عقله، وإلا فالقرآن ما أتى معجماً، حتى بعض الناس يقول: كيف لم يورد الله عز وجل تحريم الشيشة ولا الدخان في القرآن؟
ونقول له: على استطراداتك لماذا لم يذكر الميرندا والبيبسي والموز والتفاح؟!! هل تريد القرآن أن يأتي معجماً لكل اسم يرد في الكون؟ فلا تسعه الدور ولا القصور.
فالقرآن قواعد كلية، يأتي بقاعدة تندرج فيها ملايين القضايا، فقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف:157] أدخل فيه مليون قضية، وقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] أدخل فيه مليون قضية.
واسمع ما يقول المتكلفون، فأحدهم يفسر -وتفسيره موجود- ويقول القرآن فيه أسس علم الهندسة.
قلنا: مثل ماذا فتح الله عليك؟
قال: الخط المستقيم أقرب موصل بين نقطتين.
قلنا من أين أخذته؟ قال: من قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] قال: والمثلث إحدى زواياه منفرجة.
قلنا: من أين لك هذا؟ قال: من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:30 - 31].
فالقرآن لم ينزل للتاريخ، ولم ينزل للجغرافيا، فلم يخبرنا متى ولد فرعون، ومتى تولى ومتى توفي.
بل القرآن كتاب هداية، فلا بد أن نعرف هذا.
والقرآن ليس كتاب صرف، والآن كثير من التفاسير كلها صرف، ما تقرأ فيه إلا ويقول وأصل الكلمة فيعمل فانقلبت الواو إلى ياء، فماتت الأمة وذهبت معتقدات الأمة ونحن من فيعل إلى فعول كانت ياءً فقلبها الله حتى صارت واواً، صحيح أن هذا فن مختص لكن لا يصح أن ندخله ليكون تفسيراً.
وكثير من التفاسير كلها نحو، ما تقرأ إلا ويقول: الفاعل المفعول الحال المبتدأ الخبر، حتى تجد في القلوب قسوة، ننظر في السبورة والأستاذ يشرح فيقول: قال أصلها قول، وهي من الفعل الماضي، قال زيد لعلي: كذا وكذا.
أين هذا الإبداع الذي أتى به القرآن؟ فالقرآن ما أتى لهذا بل أتى لمقاصد أبينها إن شاء الله.
ثم هو ليس كتاب جغرافيا -كما قلت- فما ذكر المناخ ولا التضاريس، وما ذكر هبوب الرياح ولا دراجات الحرارة، ولا ذكر الصادرات والواردات وأهم المدن، بل هو كتاب هداية.
لذلك يريد سيد قطب أن يقرر هذا المبدأ جزاه الله خيراً في كتاب الظلال، فهو يقرره دائماً، ويقول: كتاب هداية.(185/6)
منهج أهل السنة في تفسير القرآن
أما تفسير أهل السنة، فرحم الله أهل السنة وجعلنا منهم، فهم يعتمدون في تفسيرهم على أربعة أسس:
الأساس الأول: تفسير القرآن بالقرآن، فهم إذا رأوا آيات بحثوا لها عن مفسر من القرآن، ففسروا القرآن بالقرآن.
الأساس الثاني: يفسرون القرآن بالسنة.
الأساس الثالث: يفسرون القرآن بأقوال الصحابة كـ ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي بن كعب والخلفاء الراشدين، ثم بأقوال كبار التابعين كـ سعيد بن المسيب وقتادة والحسن البصري، وهؤلاء الكبار.
الأساس الرابع: يفسرون القرآن باللغة العربية.(185/7)
قضايا تتعلق بالتفسير
ثانياً: قبل أن نبدأ في سورة الفاتحة، نبدأ بقضايا في التفسير وهو الباب الثاني، وهنا أربع قضايا فانتبهوا لها:(185/8)
القرآن كتاب هداية
أولاً: القرآن كتاب هداية يدعوك للهداية وإلى إنقاذ نفسك من النار والعار والدمار.
القرآن يدعوك إلى أن تنقذ بيتك ومجتمعك من لعنة الله ومقته وغضبه.
القرآن يدعوك إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
القرآن يدعوك إلى ترك الوساوس والخطرات والشكوك والأمراض والمعاصي والمخالفات فهو كتاب هداية.(185/9)
إعطاء كل قضية حقها
القضية الثانية: القرآن يُعطي كل قضية حجمها وحقها، سبحان الله!
إبداع القرآن، حيث يُعطي التوحيد أكثر لأنه قضية كبرى، والغيبة يعطيها آيتين أو ثلاث لأنها قضية محجمة، والنميمة يعطيها آية، وخفض الصوت يعطيه آية، والتواضع في المشي آيتين، أما الأسس الكبرى كالتوحيد، والإيمان، والإحسان، والإسلام، والصلاة، والبر، والعدل، والسلام، فيعطيه القرآن أكبر حجم؛ فهو يعطي كل قضية حجمها وهذا درس للدعاة.
كيف نأخذ درساً للدعاة من هذا؟
إن الداعية إذا قام يتكلم فإن عليه أن يُعطي القضية حجمها، وأثرها في الواقع، ولذلك قد تجد داعية لا يتكلم في التوحيد أبداً وهي قضية كبرى تكلم القرآن بثلاثة أرباعه في التوحيد، لكن يقوم بعد كل صلاة: يا أيها الناس! ربوا لحاكم، إن الله عز وجل سوف يسألكم عن اللحى يوم القيامة.
قلنا: سمعنا وأطعنا، هذه سنة لا بد منها؛ لكن يبقى كل يوم بعد الفجر وبعد العصر وبعد الضحى دائماً في اللحية، فهذا قد أعطاها أكثر مما تستحق.
فالقرآن يعطي كل قضية حجمها، وينتبه له الدعاة، يُبدأ بالأولويات، ثم بما يليها إلى أن تنتهي إلى التي أعطاها القرآن من المندوبات ومن المستحبات حتى تكون مقبولاً عند الناس.(185/10)
الاهتمام بالقضايا الكبرى
المسألة الثالثة: القرآن يدعو إلى قضايا كبرى، والقضايا الكبرى في القرآن مثل: الإحسان، والإيمان، والعدل، والتقوى، والصدق.
هذه دائماً تمر بك في القرآن كثيراً، وهي قضايا كلية لابد أن يتحدث عنها.
ويمقت القرآن قضايا نعوذ بالله منها: مثل: الكذب، والسوء ووالفحشاء والمنكر، والخداع، والمكر، والظلم، والكفر، والنفاق.
وهذه دائماً تتكرر معك في القرآن.(185/11)
الاهتمام بالسنن الكونية
الأساس الرابع: القرآن مليء بالسنن الكونية، فقعد لك قاعدة وهي تصيب بلا شك، وهي قاعدة ثابتة ثبوت الجبل، بل أثبت من الجبل مثل: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] فهذه قاعدة، والعاقبة والنصر والفلاح دائماً للمتقين.
قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21] فهذا يعلم به الناس أنه من ظلم لا يفلح أبداً لا في الدنيا ولا في الآخرة، والتاريخ يصدق هذا بالاستقراء.
منها قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52] من خان وظن أنه ينتصر على خصمه وزميله وقرينه فلا يهدي الله كيده ويكون هو المغلوب، فهي قاعدة.
ومنها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] المفسدون؛ لا يصلح الله عملهم ولو بهرجوا عملهم وغطوا عملهم بشيء من الكلام، لا يصلح الله عملهم أبداً.
ومنها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120] من أحسن لا يضيع الله أجره لا في الدنيا ولا في الآخرة.
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
قيل: إن هذا البيت هو أحكم بيت قالته العرب، وهو للحطيئة، وأستطرد مع الحطيئة.
مر من جبال بني تميم فلما وصل إلى ماء عليه الزبرقان بن بدر الأمير جالس -وهو تميمي- قال: أقرني (ضيفني).
فما أقراه وما ضيفه ولا عشاه -ولسان الشاعر تقطع بشيء من المال حتى لا يتكلم- فأعطاه أخزى قصيدة في التاريخ، يقول للزبرقان:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
فلما سمع الزبرقان هذه الأبيات قامت قيامته وذهب إلى العبقرية المتحدرة، إلى عمر بن الخطاب وشكا إليه الوضع، فمن يحكم عمر في المسألة؟ أيحكم زيد بن ثابت الفرضي؟ لا.
فهو تخصصه فرائض: جدة وعمة وخالة، أيعطيها خالداً؟ لا.
فهو تخصصه ضرب الرءوس.
أيعطيها ابن عباس؟ لا.
فـ ابن عباس مفسر.
فدعا حسان بن ثابت -أعطى القوس باريها- فهو أديب الإسلام؛ فدعاه فقال له: هل ترى في هذا هجاءً؟ قال حسان ما هجاه ولكن سلح عليه.
فأنزله عمر في حفرة من بئر فأخذ يبكي فيها ويقول:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
(يقصد أبناءه في اليمامة)
ضيعت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر
فلما وصلت عمر القصيدة دمعت عيناه، وكان رقيقاً رققه الإسلام، وقواه الإيمان، ورباه القرآن، فقال: علي به، اقطعوا لسانه.
ولكن قطعوه بالمال واشترى أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم منه، ووقع على العقد ألاَّ يسب مسلماً؛ فلما مات عمر أخذ يتكئ في المجالس ويسب من أراد ويمدح من أراد، وأمره عند الله.
والمقصود من هذا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120] قاعدة.(185/12)
حالة القرآن مع الخلف
المسألة الثالثة قبل أن أبدأ بتفسير القرآن: حالة القرآن مع الخلف، بعض المناطقة الأغبياء يقولون: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم!
أي: إن السلف دائماً لا يتكلمون في القضايا الحرجة، مثل الصفات، والغيبيات فقالوا: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم.
قلنا لهم: بل طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم، وطريقة الخلف أغشم وأظلم وأجرم.
أما القرآن فإنه طالت به العهود إلى أن أصبح للرقى والتمائم، إذا صرع مصروع ودخلت عليه جانة بركوا على صدره وقرءوا عليه القرآن ولا بأس بقراءة القرآن، لكن القرآن لم ينزل للمجانين فحسب، بل نزل للعقلاء ليحكموه في حياتهم وفي اقتصادهم واجتماعهم وأخلاقهم وسلوكهم، لكن مرحلة القرآن بعد قرون أصبحت لهذا الأمر، إذا صرع مصروع بركوا على صدره وقرءوا عليه آية الكرسي.
إذا أتى حفل ومناسبة ووليمة بدءوا بآيات من القرآن الكريم وكأنهم يقولون: هذا القرآن للحفلات والتمائم: يكتبون عليها آيات القرآن، والأهازيج والمواليد التي ما أنزل الله بها من سلطان.
ويجتمع المتصوفة وتنكس رءوسهم بعد أن يأكلون القصع من العصيد:
وقالوا سكرنا بحب الإله وما أسكر القوم إلا القصع
فجعلوا القرآن لهذه الأمور.
ثم جعل القرآن للتأكل به، فقد وجد صنف من الناس وقراء ما أخذوا طريق الراتب والمعاش إلا من القرآن، يريد أن يتعلم التجويد والقلقلة ليكون قارئاً في التلفاز وفي الراديو ليستلم راتباً!!
سبحان الله! يتأكل بكلام الله! سلوكه وإيمانه ومعتقده في واد، والقرآن في واد آخر.
رأينا حليقين عليهم من آثار البشاعة والخوف، ويصاب الإنسان برجفة إذا رآهم يقرءون القرآن ويتمتمون به فلا يصبح للقرآن طعماً ولا ذوقاً ولا أحاسيس؛ فهذا قرآن التأكل.
والتأكل بالقرآن، للمسابقات وللجوائز، أنا لا أقول: حرام.
لكن لا بد أن يكون مقصد الشاب الذي يتسابق وجه الله، ثم تأتي الجائزة فيما بعد، أما أن يسابق ليحفظ عشرة أجزاء لينال جائزة ثم ينسى العشرة ويأخذ الجائزة ولا يصلي ولا يعتبر بالقرآن، فهذا آثم يسحب على وجهه إلى النار -نعوذ بالله من النار-.
فهذا القرآن أتى إلى تركيا فحولها إلى أمة إسلامية، فلما تركت القرآن في عهد أتاتورك وسجدت للعلم فسميت علمانية سلخ الإيمان والمهابة والقداسة من علم تركيا.
أتى إلى باكستان فحولها إلى أمة إسلامية في عهد الفتوح، فلما تركت القرآن تحولت إلى أمة متخلفة.
أتى إلى أمم كثيرة وكثيرة لا نذكرها في هذا المجال لأنكم تعرفونها، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
ونحن اليوم نشكو حالنا إلى الله، والقرآن يشكو إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى من وضعنا معه، فكثير منا لا يقرأ القرآن إلا يوم الجمعة إذا تيسر له ذلك، فيقرأ سورة الكهف وهو نعسان لا يدري لماذا أنزلت؟ فلا يعرف تفسير القرآن، وما أحيا بيته بالقرآن، ولا عاش مع القرآن، ولا تدَّبر القرآن، حصيلته من القرآن قليلة جداً، حتى سمعت من بعض الناس يحلف لزميله ويقول: والله ما قرأت القرآن ستة أشهر.
ويلك من الله، وتحلف! إذا بليتم فاستتروا، ستة أشهر بلا حياة! ستة أشهر بلا نور! ستة أشهر بلا فهم! ستة أشهر في تخلف! والله لو جمعت كتب الدنيا وقرأتها ثم لم تقرأ في القرآن، كأنك ما قرأت شيئاً.
حتى يقول العلماء لما رجعوا إلى القرآن وكثير من المفكرين لما تابوا ومن الناس الكبار كـ سيد قطب وغيرهم قال: لما أتينا إلى القرآن كأننا ما قرأنا شيئاً.
وبدأنا مع القرآن.
يقول محمد إقبال: أنا ثروتي وكنزي أن أقرأ القرآن بعد صلاة الفجر.
موجود هذا في روائع إقبال لـ أبي الحسن الندوي.
ودخل محمد إقبال على ملك أفغانستان قبل أربعين سنة فقال لملك أفغانستان: أريدك في كلمة بيني وبينك؛ فأغلق عليه الباب هو وإياه، فأخرج محمد إقبال -شاعر باكستان الشاعر العالمي- المصحف وقال: "يا فلان، يا ملك أفغانستان! أوصيك بهذا القرآن ".
فبكى ذلك الملك وقال: والله من كذا وكذا سنة ما أسمر إلا على القرآن.
وأورد ابن كثير في ترجمة المتقي لله أحد الخلفاء العباسيين قال: "لما تولى الخلافة أخذ مصحفاً وقال لوزرائه والأمراء: اخرجوا عني، كفى بالقرآن سميراً".
قال الشاطبي في الموافقات: "من أراد أن ينصح نفسه، فليأخذ القرآن سميراً وأنيساً له".
وهذا خالد بن الوليد في آخر حياته أخذ المصحف وأخذ يقرأ طيلة النهار ويبكي ويقول: [[شغلني الجهاد عن القرآن]] لم يقل شغلني لعب الكرة أو الشهوات أو الروحات أو الزملاء بل قال: شغله الجهاد عن القرآن.
وعثمان بن عفان في سيرته بسند صحيح أنه كان يقرأ القرآن من بعد صلاة الفجر حتى صلاة الظهر، فيقول له الصحابة: لو رفقت بنفسك.
قال: [[لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من القرآن]].
كتاب أنزل على الناس ليحيي قلوبهم فكان حظه الهجر، وهجر التدبر، والتلاوة، ونأخذ الآن مذكرات ألفها البشر أساتذة، ونسهر عليها الليالي الطويلة أيام الامتحانات، ونضع تحت كل كلمة قالها الأستاذ وهو ينعس، ونخرج الدر منها والياقوت والمرجان وليس فيها در ولا ياقوت ولا مرجان، ثم نأتي وقد صممناها صماً ثم ننساها نسياناً، ولو أعطينا القرآن ربع هذا الاهتمام أو عشر هذا الاهتمام لعشنا بالقرآن؛ وأنا أتكلم عن غالب الناس وأمثالي من الناس، فهذا هو موقف الخلف مع القرآن.(185/13)
القرآن يهدي للتي هي أقوم
القضية الرابعة: يقول الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].
قال أهل العلم: "أقوم في العقيدة، وأقوم في العبادة، وأقوم في السلوك والأدب، وأقوم في الاقتصاد فكل خير هو في القرآن، والقرآن متكامل ودستور حياة، فمن اعتقد بأنه سوف يهتدي بغيره فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".(185/14)
افتتاح سورة الفاتحة
بسم الله الرحمن الرحيم، ونبدأ بسورة الفاتحة.
سورة الفاتحة الكافية تكفي عن غيرها ولا يكفي غيرها عنها.
سورة الفاتحة شافية تشفي من الأمراض والهواجس والخطرات.
سورة الفاتحة راقية يسترقى بها من الأوجاع والأمراض ومرض الصرع والجنون.
سورة الفاتحة أم الكتاب فهي تقود الكتاب وهي ملخص القرآن.
سورة الفاتحة السبع المثاني، ثني فيها القرآن.
سورة الفاتحة موجزة للقرآن في سبع آيات.
ولذلك ذكر ابن القيم في مدارج السالكين عن شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه كان إذا صلى الفجر مكث في مجلسه يقرأ الفاتحة ويرددها حتى طلوع الشمس أو ارتفاع النهار.
قالوا: "ما لك إلا الفاتحة؟ "
قال: "إن الله أنزل أربعة كتب: الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن فجمعها في المفصل وجمع المفصل في الفاتحة، وجمع حكمتها في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ".
ابن تيمية تجده بدأ من القرآن فجدد في المعتقد وفي الأدب والسلوك والأخلاق، ولذلك لما دخل الإسكندرية اجتمع أهل الإسكندرية لقتله، لماذا؟
لأن أكثرهم مبتدعة، وأشاعرة وصوفية، ومتخلفة، يريدون قتله.
فقال له أحد زملائه: يـ ابن تيمية امكث في هذا المسجد ولا تخرج.
قال: ولم؟ قال: هؤلاء جميعاً يريدون قتلك؛ فتبسم ثم نفخ في يده -هذا في سيرة ابن عبد الهادي - وقال: "والله ما يعادلون عندي ذباباً كلهم! " فدخل المسجد فاجتمع عليه الناس فلما رآهم قام بعد صلاة العصر إلى صلاة المغرب يشرح: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] يتهدر كالسيل.
فمدرسة ابن تيمية مدرسة القرآن، ولذلك كان يعيش مع الفاتحة من الصباح إلى ارتفاع النهار، فأنا أوصي نفسي وإياكم بترديد الفاتحة، وبالعيش مع الفاتحة.
إن كثيراً من الهموم والغموم والاكتئاب والمرض النفسي ما كان ينبغي له أن يوجد في بلاد الإسلام، وهذا الاكتئاب والقلق والمرض عند الخواجات، ونحن نشافي الناس بكتاب الله، فنحن نعالج الناس، ونصدر لهم ولا نستورد.
ولذلك وجد في شباب الإسلام من ذهب إلى مستشفيات الغرب يقولون: مصروع، مجنون، عنده اكتئاب.
فعندك القرآن والدواء فلا تطلبه من غيرك لأنك أنت صاحب الدواء وتوزعه على الناس.(185/15)
سبب تسمية سورة الفاتحة بهذا الاسم
الفاتحة، سميت الفاتحة لأنه افتتح بها القرآن.
ولأنها تفتتح بها الصلوات.
ولأنها تفتتح بها القضايا الكبرى؛ فهي الفاتحة التي يفتح الله على من قرأها.(185/16)
فضل سورة الفاتحة
أما فضلها: ففيها أحاديث صحيحة، وأنا أحرص بحول الله وقوته ألاَّ أورد في مجال التفسير -وهذه أول حلقة من حلقات التفسير- إلا حديثاً صحيحاً، روى البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد عن أبي سعيد بن المعلى -وهو أنصاري- قال: {كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقمت أصلي فدعاني صلى الله عليه وسلم فلم ألتفت -الرجل يصلي والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يا أبا سعيد! - فلما سلم، قال له صلى الله عليه وسلم: لماذا لم تجبني؟ قال: كنت في صلاة يا رسول الله! قال: ألم يقل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]؟ لأخبرنك بأعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من هذا المسجد قال: فأخذ يدي بيده}.
انظر إلى التربية والرقة والتواضع، وهذا درس عملاق في التربية، وهو لفتة تربوية، لا ينتبه لها الناس، فقد كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يربت على الكتف، وربما ضرب على صدر الصحابي لكن لها معان ومعان لا يدركها إلا القلة من الناس.
قال: {فلما وصلنا إلى باب المسجد قلت: يا رسول الله! أخبرني بأعظم سورة، قال: ماذا تقرأ في الصلاة؟ قلت: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال: هذه أعظم سورة في القرآن}.
ورد هذا الحديث كذلك من حديث أبي بن كعب عند أحمد ومالك في الموطأ والترمذي وورد عن أبي هريرة عند أحمد كذلك، وعند أحمد عن أبي بن كعب قال: [[ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن كسورة الفاتحة]].(185/17)
حكم الرقية بالفاتحة
أما كيف يرقى بالفاتحة فأعظم رقية يرقى بها المريض الوجع المصروع الذي أصابه جان، وكثير من الناس ينكرون هذه الرقى على مذهب محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، وهؤلاء ينكرون الغيبيات كثيراً، وهذا ليس بصحيح، بل يرقى بالقرآن، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد قال: ذهبنا في البادية -أي: فرقة من الصحابة- فلدغ رجل من الأعراب -رجل بدوي لدغته عقرب أو حية، وعند العرب إذا لدغ الرجل سموه سليماً تفاؤلاً- يقول الأعشى في قصيدته الدالية التي يمدح بها الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن ما وصل بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد رشاه أبو سفيان في الطريق بمائة ناقة، فعاد فوقع من على ناقته في درب قريباً من الرياض، فانكسرت عنقه فذهبت مائة ناقة ولا أسلم ولا نجا ولا كفى.
يقول:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وعادك ما عاد السليم مسهدا
يقول: إنني بت في الليل لا أنام، شوقاً إلى المصطفي في المدينة صلى الله عليه وسلم.
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وعادك ما عاد السليم مسهدا
ثم يقول وقد بز الشعراء ببيتين حسنين جميلين ظريفين يقول:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
لكنه ما أسلم، فالشاهد أن السليم عند العرب هو الملدوغ، وقالوا له: سليماً تفاؤلاً، وقالوا للأعمى: بصير وهو أعمى، فسموه بصيراً تفاؤلاً، وقالوا للذي بعين: أبو عين كريمة.
وهذا أحسنوا فيه، وبعض الناس عنده من الذكاء ما يخرج الموقف، إذا أحرج في المجلس يأتي بكلام طيب.
دخل ابن هرثمة وهو أحد القواد العباسيين الكبار -وقيل غيره- في مجلس أبي جعفر المنصور، وأبو جعفر زوجته اسمها الخيزران، وبيد القائد خيزران وعنده الوزراء والأمراء، فقال أبو جعفر المنصور للقائد: ما بيدك؟ فإن قال: الخيزران تذكر أن امرأته في البيت اسمها الخيزران، فقال: يا أمير المؤمنين! هذه عصا تؤخذ من الشجر الذي يصنع منه الرماح؛ فأعطاه جائزة.
واسم هذا الشجر الخطي، وذكر زهير بن أبي سلمى يقول:
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه وتغرس إلا في مغارسها النخل
فلذكائه قال هذا.
فلدغ هذا الرجل فأتى أبو سعيد -وقيل: غيره- فرقى الرجل -هذه القبيلة للؤمها وقلة حيائها من الله أبوا أن يضيفوهم.
بعض القبائل تحطم الرقم القياسي في البخل، تصلي معهم في المسجد فيتركون تسبيح ثلاثة وثلاثين ويذهبون وأنت تسبح ثلاثة وثلاثين! لأنهم رأوك غريباً في المسجد، ولهم فنون في ذلك، وربما يتحالفون على الضيف حتى يتركوه، يحلف هذا أنك لا تأخذه ويحلف هذا أنك لا تأخذه فيبقى واقفاً، وتركوك قائماً.
فالصحابة ذهبوا إلى القبيلة هذه فطلبوا منها القرى فرفضوا، فلدغ شيخهم فأخذ يتعقرص ويتعقرب في البيت فقالوا: هل منكم قارئ يقرأ عليه؟
قال: والله الذي لا إله هو لا أقرأ عليه إلا بثلاثين شاة.
وهذا بطل، أحرموهم عشاء شاة فأخذ عليه تسعاً وعشرين شاة.
فقالوا: اقرأ عليه ونعطيك؛ فبرك على صدره وقرأ عليه الفاتحة فاستفاق بإذن الله، فأعطوه ثلاثين شاة.
قال الصحابة بعضهم لبعض: لا تذبحوها حتى نسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فسألوه قال: {كلوا واضربوا لي معكم بسهم، وقال للقارئ: من أخبرك أنها رقية؟} -أي: أنه أصاب فإنها رقية تقرأ على المصروع فيشافى بإذن الله ويخرج الجان المتلبس في المصروع وإلا كيف تتكلم امرأة على لسان رجل؟ فهذا لا ينكر عقلاً ولا حساً قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] وقال تعالى: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128] والرسول صلى الله عليه وسلم رقى صريعاً كما في صحيح مسلم وأخرج الجان وقال: {اخسأ عدو الله أنا رسول الله} فهذه مسألة.(185/18)
حكم قراءة الفاتحة في الصلاة
قراءة الفاتحة في الصلاة تحتها مسائل منها:(185/19)
اختلاف الفقهاء في قراءة الفاتحة في الصلاة
أولاً: قراءتها في الصلاة، عند أبي حنيفة والأحناف يجوز قراءة غير الفاتحة، فلك أن تقرأ غير الفاتحة في الصلاة، ولك أن تصلي صلاة رباعية أو ثلاثية أو ثنائية ولا تقرأ فيها الفاتحة ولو مرة، وتقرأ ما تيسر من القرآن.
قلنا لهم: ما دليلكم؟ قالوا: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20] فيكفيك أن تقرأ ما تيسر من القرآن سواء كانت آية أو آيتين آو ثلاثاً من أي سورة ولا تقرأ الفاتحة فهذا رأي الأحناف.
وما هو دليل الأحناف غير الآية: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20]؟ في الصحيحين عن أبي هريرة في قصة المسيء: {ثم اقرأ ما تيسر معك في القرآن} قالوا: "ما تيسر" عموم، فلا نخصصه بالفاتحة ولا بغيرها.
إذاً: يقرأ الإنسان ما تيسر من القرآن.
وقال الجمهور: لابد من قراءة الفاتحة في الصلاة لأدلة منها: قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة القرآن} وقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن خزيمة وابن حبان بسند صحيح: {لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة القرآن} وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج خداج خداج} أي: باطلة.
وهذه ثلاثة أحاديث صحيحة.(185/20)
حكم قراءة المأموم للفاتحة
لكن القضية الكبرى التي يُنتبه لها هل يقرأها المأموم والإمام أم يقرأها الإمام فقط أم يقرأها المأموم في السرية دون الجهرية أم ماذا؟
الأقوال في هذه المسألة ثلاثة أقوال وسوف أرجح الراجح بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:
القول الأول: يقرأها الإمام والمأموم في السرية والجهرية لعموم الأحاديث السابقة.
القول الثاني: لا تجب على المأموم قراءة الفاتحة بالكلية لا في السرية ولا في الجهرية.
قلنا: وما دليلكم؟
قالوا: ما رواه أحمد والدارقطني عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له} وهذا القول الثاني للأحناف.
قالوا: إذا قرأ الإمام فلا تقرأ أنت لا في السرية ولا في الجهرية، أي: تقف في الظهر نصف ساعة في الركعة الأولى وأنت صامت، أي: تعدد البطن، ويكفيك ألاَّ تتلفت بشيء، لا تستغفر ولا تسبح ولا تقرأ شيئاً من القرآن، لكن لا يجوز لك أن تقرأ قصيدة عصماء.
قلنا: وما الدليل؟ قالوا: {من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له}.
قلنا: الحديث ضعيف والحمد لله رب العالمين، وهذا الحديث من جميع طرقه لا يصح أبداً، وهو ضعيف لا ينجبر.
القول الثالث: تجب على المأموم في السرية ولا تجب في الجهرية لما روى مسلم عن أبي موسى الأشعري: {إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا}.
يقولون: القول الثالث: يقرأها الإمام في السرية ولا يقرأها في الجهرية.
التحقيق والترجيح: القول الراجح أن على المأموم أن يقرأها في السرية والجهرية وراء الإمام، ولا يزيد على الفاتحة في الجهرية، وأما في السرية فليزد ما تيسر؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} {وصلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج خداج خداج} وقوله: {لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن} فعلى المأموم أن يقرأها في السرية والجهرية ولا يزد في الجهرية على الفاتحة، وهذا رأي الجمهور.
وابن تيمية يرى خلاف ذلك فيقول: لا تقرأ في الجهرية ويستدل على ذلك من قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] وهذا فيه دليل عموم، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ فلابد لك من قراءتها في الصلاة السرية والجهرية وراء الإمام ووحدك؛ لأنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة القرآن.
فهذا ملخص في قضايا ولا نستطرد لأنها قضايا فقهية.
ولكننا ندخل إن شاء الله إلى الاستعاذة؛ لأننا قد نقف على الاستعاذة في هذه الليلة ثم نبدأ فنأخذ الفاتحة في درس آخر إن شاء الله ونبدأ بالقرآن بما تيسر.(185/21)
أحكام الاستعاذة
الاستعاذة فيها مسائل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
وهذا شرف للأمة أن علمها الله كيف تستعيذ من الشيطان الرجيم.
وفيها مسائل:(185/22)
مشروعية الاستعاذة عند القراءة
الأول: الأمر بالاستعاذة عند كل أول قراءة؛ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] ماذا تفهم من الآية؟
تفهم من ظاهر الآية أنك إذا قرأت القرآن وانتهيت قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأنه يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] لكن لا، فهناك كلام مقدر: إذا أردت أن تقرأ القرآن فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.(185/23)
حكم الاستعاذة في الصلاة
المسألة الثانية: الاستعاذة على الندب في كل قراءة في غير الصلاة؛ فمندوب وليس بواجب أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، والاستعاذة بصفتين: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وبعضهم يزيد لكن ما وردت الزيادة، وقد أورد القرطبي صوراً لذلك، لكن هذان اللفظان هما اللذان وردت بهما السنة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
وفي الصلاة، صح عنه صلى الله عليه وسلم، عند أبي داود وغيره: {أنه كان إذا افتتح الصلاة قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه} همزه: الشعر، ونفخه: الكبر، ونفثه: السحر.
قاله أبو عمرو أحد الرواة وهو أبو عمرو بن مرة، همزه: الشعر، والشعر إذا لم يضبط بالإسلام والقرآن والإيمان أصبح صاحبه مجنوناً: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:225 - 226] يقولون كلاماً لكنهم ما أصلوه بإيمان وقرآن.
والنفث: السحر، والنفخ: الكبر؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ من هذه الأمور، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعله في الصلاة.(185/24)
الاستعاذة ليست من القرآن
المسألة الثالثة: أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ولا آية من القرآن، فيجوز للجنب أن يقرأ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.(185/25)
فضل الاستعاذة
المسألة الرابعة: فضل التعوذ، ورد التعوذ في أمور، وفضل صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ العبد عند الغضب، فعن سليمان بن صرد قال: {استب رجلان عند الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام جالس في المجلس، الأول يسب الآخر ويتكلم عليه فغضب ذاك غضباً عظيماً حتى احمرت أوداجه فقال عليه الصلاة والسلام: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، فقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: ما هي؟ قال: لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه ما يجد، فقاموا فقالوا للرجل، فقال: لست بمجنون}.
انظر إلى الكبر قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:89] وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ} [البقرة:206].
قيل له: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
فقال: لست مجنوناً والحمد لله.
أنت أكبر مجنون!! ما دام أنك تكلمت بهذا السباب والشتائم والجرائم فأنت مجنون.
فقال: لست مجنوناً.
فمن غضب فعليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ومن أصابته غفلة ورانت على ذهنه، والغفلة: تأتيك دائماً وأبداً على مر الساعات وأنت في مكتبك، وفصلك، وأنت في طريقك، وسيارتك تمر بك الغفلة قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] فتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا أتاك مرض الشهوة فتعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
ومن فضلها: ما رواه مسلم عن عثمان بن أبي العاص وعثمان بن أبي العاص شاب ثقفي، لكنه من شباب الإيمان والحب والطموح، شاب صغير لكنه تعلم القرآن حتى حفظ الكثير منه، ثم أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام -وهذا في سنن أبي داود بسند جيد- قال: {يا رسول الله! اجعلني إمام قومي} هذا لا يطلب وظيفة من أجل الراتب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يمني الناس بالرواتب والمعاشات، بل كان أجرهم ومثوبتهم على الله، تقول له بعض القبائل العربية: {إذا ملكت الدنيا أشركتنا في الملك؟ قال: لا.
الأرض لله يورثها من يشاء}.
يأتيه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهم فقراء يريدون شيئاً فيقول: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران:133].
فقال هذا الرجل: {يا رسول الله! اجعلني إمام قومي}.
وهذا فيه دليل على طلب الإمامة، لا كما يفعل بعض طلبة العلم والدعاة سامحهم الله، يوم يتأخرون عن الإمامة ويقول: لا أريد أن أحرج نفسي، لو صليت بهم المغرب أحرجوني وورطوني في صلاة العشاء.
فهل الإمامة ورطة؟! هل تتورط أن تكون واجهة: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].
لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والبيت لا يبتنى إلا بأعمدة ولا عماد إذا لم تبن أوتادُ
فتخجل وتتورط أن تكون داعية وأن يدعى لك بالخير، وأن يترحم عليك، وأن يترضى عليك! إن هذا من الإحباط والانهزامية والفشل.
وهذا موجود أن بعضهم لا يريد الإمامة، ويقول: خطبة الجمعة لا أريد أنا محرج عندي من الأعمال ما يكفيني.
فعملك أن تكون إماماً وداعيةً، وأعمالك الأخرى لا تساوي فلساً واحداً.
فقال: اجعلني إمام قومي، قال: {أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم} وهذا فيه درس على أن من قام يصلي في الناس فلينظر في المسجد هل يرى شيوخاً كباراً، وهل يرى مرضى، وهل يرى أطفالاً، فليكن حكيماً لبيباً فقيهاً.
وبعض الناس إذا دخل في الصلاة نسي كل شيء وطول الصلاة وهو ربما يوسوس ويبيع ويشتري في السوق، ويطول على الناس حتى يتضجرون من الجماعة والصلاة، وهذا تعذيب للناس: {أفتان أنت يا معاذ؟}.
وبعضهم يسلقها سلقاً كسلق البيض: الله أكبر، الله أكبر، سمع الله لمن حمده، فالناس معه كأنهم شغالين من الصباح إلى المساء! وكأنهم في تمارين سويدية! وترى لفيحهم فقط من السرعة والعجلة، وسقطت ساعاتهم وأقلامهم وكتبهم من جيوبهم! والأمر لله عز وجل؛ فيسلمون والفحمى قد قطت ظهورهم!! فهذه صلاة لا تقبل.
والصلاة التي تقبل أن تستكمل ركوعها وخشوعها وخضوعها، قال: {أنت إمامهم واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً}.
لكن ما هو الشاهد هنا؟
الشاهد أن عثمان قام بعد الصلاة فشكى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! شيطان لبس علي صلاتي} لأن بعض الناس إذا وسوس وسوس، ما يدري أهو في المسجد أو في مكان آخر، ذهب عقله ولبه فلا يدري أين هو.
ويقولون: الشيطان لا يأتي بقوة إلا في الصلاة.
وعلى ذكر ذلك يقولون: إن جحا رأى غمامة في السماء فحفر حفرة في الصحراء ووضع ماله تحت الغمامة؛ وأتى وإذا الغمامة في واد وماله في واد.
وذكر هذا عباس محمود العقاد لكن هذا من حديث عجائز نيسابور.
لكن أذكر أن أبا حنيفة جاءه رجل فقال: ما علمت أين وضعت مالي.
قال: قم صل فإن الشيطان سوف يخبرك.
فتوضأ الرجل، فلما قال: الله أكبر، أتى الشيطان وقال: وضعت مالك في مكان كذا وكذا.
فذهب وترك الصلاة وليته أكمل!
فيقول: {يا رسول الله! أشكو إليك شيطاناً لبس علي صلاتي لا أدري ماذا أقول.
قال: ذاك شيطان يقال له خنزب.
فإذا أحسسته فاستعذ بالله وانفث عن يسارك ثلاثاً} وهذا في صحيح مسلم.
الآن قد يقول البعض: لو ذهبنا ننفث ونفثت الجماعة كلهم لأصبح المسجد نفيثاً وأصبح شهيقاً وزفيراً! فهل هذا وارد؟
وهذا قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لمن كانت حالته كحالة هذا الرجل، أي أنه لبس عليه الصلاة ولا يدري هل قرأ الفاتحة أم لا.
أما الشرود فهو حاصل عند الجميع فلا تنفث فيه، لكن إنسان لا يدري هل قرأ الفاتحة؟! هل هو في الركعة الأولى؟! هل هو في صلاة الظهر؟! شرد ذهنه تماماً؛ فعليه فنقول: ينفث عن يسراه ثلاثاً ويستعيذ بالله من الشيطان، والحديث في مسلم وإذا أصبح الحديث في مسلم فخذه أيها المسلم فهذا أمر.(185/26)
شرح معنى الاستعاذة
الاستعاذة:
لدينا ثلاث كلمات: أعوذ، والشيطان، والرجيم.
وسوف يرد معنا لفظ "الله" وما أعظم لفظ "الله"! وما أجل الله! وما أكبر الله!
يقولون: إن سيبويه النحوي الفاره العبقري، الذي ألف الكتاب في النحو من خيوط الحرير، خيوط الهوى، أتى إلى أمة عربية فمنحه الله عقلاً مدركاً، فألف الكتاب، وهذا الكتاب يقولون عنه: من قرأه وفهمه فهو عالم.
ويقولون: لما توفي رآه العلماء في المنام قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي.
قالوا: بماذا؟
قال: لأني كتبت في باب المعرفة: الله أعرف المعارف؛ فغفر الله لي.
أتى سيبويه إلى الكتاب، وانظر إلى الإيمان والحب والطموح، فهو أتى يؤلف وليس كبعض الناس إذا أتى يؤلف قصيدة نسي الله، وانخلع تماماً من الإسلام، وأصبح كأنه قطعة وثن، أو كأنه زنديق عميل ضد الإسلام وهو في بلاد الإسلام، يطعن الدين بقصيدة، ويتكلم في رب السماوات والأرض قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95].
والآن الذي يقرأ كتاب الأعلام للزركلي ويرى الشخصيات هؤلاء وكيف ماتوا، ويرى ما تركوا من تراث، وتقرأ لبعضهم قصائد إلحادية، وتتفكر في أصحابها وقد ذهبوا إلى علام الغيوب، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94].
فالمقصود أن سيبويه لما رأوه في المنام قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي.
قالوا: بماذا؟
قال: قلت في باب المعرفة "الله أعرف المعارف".
فهو لم يقل: الله لفظ الجلالة مشتق من أله يألهه إذا تحير أو أحب، فقال: الله أعرف المعارف.
فالله تعرف إلى الناس بنعمه، حتى يقول بعض الفلاسفة: يستدل بوجود الله عز وجل على وجود الكائنات، ولا يستدل بالكائنات على وجود الله.
وهذا أمر ليس بصحيح، ولكن لمبالغته في الإثبات قال هذا الكلام، فيستدل بآياته ومخلوقاته على وجوده سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وعلى ملكه وصنعته وحكمته ولطفه وجماله وجلاله.
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
والنحل قل للنحل يا طير البوادي من الذي بالشهد قد حلاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
يعيش بقدرة الله
فالحمد لله الكريم لذاته حمداً وليس لواحد إلاكا
وأبو نواس شاعر الخمريات، ذهب وأمره إلى الله في يوم العرض الأكبر، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] والله يزن الناس بالحسنات والسيئات، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
أبو نواس هذا توفي؛ فرئي -كما يقول ابن كثير - في المنام قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بقصيدتي في النرجسة.
النرجسة: زهرة وصفها وردها إلى قدرة الباري تبارك وتعالى.
ولذلك يقول سيد قطب: لا يلزم الأديب والشاعر والقصصي أن يمدح الإسلام دائماً، لا.
ولكن صف الليل ورده إلى الواحد الأحد، صف الزهرة والبستان والحديقة، والماء النمير، والجدول الغدير، ولكن ردها إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
صف النجوم والخمائل، صف الفيافي والصحراء، صف البيداء، تكلم في كل شيء، لكن كن مؤمناً، ولا تتخلى عن إيمانك.
فماذا؟ ماذا قال في النرجسة؟ يقول أبو نواس:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
وهذا من أحسن ما قيل!(185/27)
معنى "أعوذ"
أعوذ: معناها ألتجئ وأعتصم وأعتمد وأستجير وألوذ بالواحد الأحد، وأنت يوم تنطق "أعوذ" فعليك أن ينصرف قلبك إلى أنك خلق أمام خالق، وأنك ضعيف أمام قوي، وأنك فقير أمام غني، فالقوة والغنى لله، والعظمة لله، وأنت إذا لم يُسددك الله عز وجل فالهلاك والدمار والشنار والبعد لك.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
وكلمة "أعوذ" قبل أن نعرف إعرابها أو نحوها أو صرفها نعرف عقيدتها، وهذا هو الواجب الذي نريد تدارسه؛ لأن الهداية في أعوذ، معناها: أن نعقد نية وعقيدة في أنفسنا على أنه لا يعيذ إلا الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يكتفى إلا بالله، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].
وأورد ابن عساكر للمتنبي بيتين ليست في ديوان المتنبي، كان يقول المتنبي لأحد السلاطين والملوك الذي هو سيف الدولة ابن حمدان:
يا من ألوذ به فيما أؤمله وأستعيذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره
وهذا يقوله لرجل من الناس سبحان الخالق!
يقول ابن تيمية: إني لأدعو بما تضمنهما هذين البيتين لله في السجود.
بمضمون هذين البيتين يدعو بهما إلى الواحد الأحد؛ لأنها لا تنصرف إلا إلى الباري.
وأحد الناس وقف أمام سلطان وقال:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
فابتلاه الله بالمرض وأقعده فأخذ ينبح كما ينبح الكلب على فراشه، حتى يقول وهو يخاطب السلطان:
أبعين مفتقر إليك نظرتني فأهنتني وقذفتني من حالق
لست الملوم، أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
سبحان الخالق!
وتأتي أبيات للشعراء فيها انحرافات عقدية، فيبدعون لكنهم انحرفوا.
أما رأيتم الأبيات لـ أبي فراس الحمداني التي قالها في بشر لا يملك ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، حتى يقول ابن القيم: أبدع كل الإبداع ولكن أساء كل الإساءة لما جعلها في بشر، والناس ينسبون هذه الأبيات لـ رابعة العدوية، وهي لـ أبي فراس يقولها لابن عمه سيف الدولة؛ لأن أبا فراس الحمداني سجن في سجن الروم أسيراً، فيقول لـ سيف الدولة:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
فأجاد كل الإجادة في النظم، ولكن أساء كل الإساءة يوم صرفها إلى مخلوق، مات قبله أو مات بعده لم ينفعه أبداً ووصلوا إلى الواحد الأحد.(185/28)
معنى الشيطان
أعوذ: ألتجئ بالله، فلا يمنعك إلا الله.
والاستعاذة من شيطانين: شيطان الإنس وشيطان الجن، وشيطان الجن يختفي إذا استعذت منه، وشيطان الإنس يلابسك ولكن عليك بالحروز.
يقول الذهبي لما ترجم لرجل: "إذا رأيت رجلاً يدعوك إلى خلاف السنة فاستعذ بالله منه فإنه أبو جهل، وابرك على صدره واقرأ عليه آية الكرسي إن استطعت وإلا ففر منه".
فالمقصود أن في القرآن قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200] وقد جاءت بعد: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] ووردت الاستعاذة في آيات أخرى لكن لا أريد أن أطيل.
ولكن الشيطان شيطان أنس وشيطان جن، فشيطان الجن تستعيذ منه ويختفي، وشيطان الإنس تداريه وتداريه بالهدية والإحسان وتستجير منه حتى يختفي عنك، فهذا شيطان وذاك شيطان، فأما الشيطان الإنسي فأمرنا بالمصانعة معه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] وأما شيطان الجن فأمرنا بمصارعته وبمقاتلته فلا ينفع فيه إلا القتال، وأعظم قتال هو أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
إذا غضبت فقل: أعوذ بالله.
وإذا أصابتك غفلة أو شهوة أو شيء من جنوح أو شيء من شرود فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وأكبر ما نصل إليه من القضايا في "أعوذ" أنها بمعنى: أستجير وأستعيذ وألتجئ وأستكفي فهذه المعاني كلها في معنى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
والشيطان: قالوا: من شاط أي احترق أو هلك.
أو من تشيطن أي: بعد، تشيطنت الديار أي بعدت، فلا يهمنا هذا ولا يهمنا هذا ولكن الشيطان خلق من خلق الله، لا يخرج عن قدرة الله، خلقه الله للابتلاء، ولو لم يخلق الله الشيطان لدخل الناس الجنة، لكن الله أخذ على نفسه أن يملأ الجنة وأن يملأ النار، لهذه ملؤها ولهذه ملؤها، والشيطان الرجيم يوسوس لك وهو أعظم عدو لك في الدنيا، وعليك بحروز:
أولها: أن تستعيذ بالله، فأنت إذا استعذت بالله شرد عنك وفر.
ثانياً: الأذان، فإنه إذا سمع الأذان شرد وهرب.
ثالثاً: مداومة الذكر.
رابعاً: الصلاة، فإنك إذا توضأت وصليت قتله هذا الأمر.
خامساً: قراءة القرآن بتدبر.
سادساً: التعوذات والحروز التي في القرآن كآية الكرسي، والمعوذات والإخلاص وغيرها.
سابعاً: تهليل مائة تهليلة في الصباح وفي المساء فلا يقربك شيطان أبداً.
ثامناً: قراءة سورة البقرة في البيت: {فبيت تقرأ فيه سورة البقرة لا يقربه شيطان أبداً} حديث صحيح.
والشيطان الرجيم: فيه خلاف.
قالوا: هو من الجن.
ولا يهمنا هل هو من الجن أو من بني سلمة أو من خلق الإنسان، إنما يهمنا أن الله خلقه ابتلاء للعبد، وأن مدافعته لا تأتي إلا بهذه الأمور التي أوردناها وقد أوردها ابن القيم في بدائع الفوائد عندما فسر سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1].
وهذه الأمور هي حروز من الشيطان.
والشيطان هل يموت أم لا؟ وهو كأنه يتناسل، والله قد أنظره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فقال: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الأعراف:15] وقوله تعالى: {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر:38] فأنظره الله إلى يوم القيامة فهو يوسوس، وعرشه وكرسيه نصبه على البحر، ومن الصباح يوزع جنوده ويرسلهم في المهمات وأعظمهم من يأتي فيقول: فرقت بين المرء وزوجه، فيقول: أنت حبيبي وقريني.
والشيطان يحب الأسواق لأنها ضجة وصجة، ويكره المساجد.
والشيطان يحب اللغط وارتفاع الأصوات.
والشيطان يرتاد الأماكن القذرة والنجاسات في المراحيض والحمامات.
والشيطان يدخل مع الإنسان وقت الغضب فيوسوس له وخاصة في وقت الشهوة والغفلة، فمنافذ المعصية ثلاثة منافذ: غضب وشهوة وغفلة، فإذا وصلتك هذه الأمور دخل الشيطان معك فيها.
هذا هو الشيطان، والشيطان يعدك الفقر؛ فهو يأتيك بالهواجس بأنك سوف تكون تعيساً في حياتك، والله يعدك مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم.
والشيطان يأمرك بالفاحشة.
والشيطان يخيل لك الحوادث والزلازل والكرب.
هذا هو الشيطان وهذا هو تعريفه المعنوي، ولا ندخل في التشقيقات اللفظية.(185/29)
معنى "الرجيم"
الرجيم: الرجم هو القتل واللعن والطرد والشتم، فرجم فلاناً بكلمة، أي: شتمه، ورجمه بحجر، أي: رماه وقذفه بحجر، رجمه فقتله، أي: قتله، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن قوم نوح: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116] أي: من المقذوفين أو من المقتولين بالحجارة.
وقال أبو إبراهيم لابنه: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم:46] فهذا الرجيم.
والرجيم هنا معناه: المطرود الملعون، فهو مطرود من رحمة الله فلا تدركه رحمة الله.
وقيل: مشتوم من الناس فالناس يشتمونه، وقيل: مقتول بالأعمال والصالحات؛ فإن العبد إذا سجد تنحى إبليس وبكى وقال: يا ويلتاه! أمر بالسجود فسجد وأمرت بالسجود فعصيت.
ولا رئي الشيطان -كما في الصحيح- يوماً أغيظ ولا أدحر ولا أبعد من يوم عرفة لاجتماع الناس.
والشيطان يغيظه أمور أربعة: منها قيام الناس في الصفوف وقت الصلاة، إذا قاموا في الصلاة صفوفاً فهو أغيظ للشيطان من كل شيء، ولذلك الذين ينادون بجواز الجماعة في البيوت، وأن جَوز هؤلاء الصلاة في البيوت فهم يرضون الشيطان ويغضبون الرحمن.
ومما يغيظ الشيطان قيام المجاهدين صفوفاً في سبيل الله، إذا شهروا السيوف وأشرعوا الرماح وأراشوا الأسهم واستقبلوا وجه الله عز وجل فهذا يغيظه غيظاً كبيراً.
ويغيظ الشيطان إذا جلست مع المصحف وقرأت وذكرت الله.
ويغيظه دروس العلم ومجالس الخير وحلق الذكر فيموت غيظاً، أغاظه الله ولعنه وشرده.
وموقفك من الشيطان أن تستعيذ، واللعن وارد لكنك لست دائماً مضطر لأن تلعن.
وكثير من الناس إذا غضب في المجلس، قال: لعن الله الشيطان!
وهذا صحيح لكن قل: أعوذ بالله من الشيطان؛ لأنه يتكبر إذا لعنته حتى يصبح كالجبل، وهو ملعون، لكن من السنة أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا نسيت شيئاً قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تقول كلمة غير صحيحة قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فالسائد بيننا والواجب أن نكرر دائماً أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأنه يتكبر من اللعن والشتم.
و"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ليست بآية من القرآن، ويجوز قراءتها في الصلاة قبل القراءة سراً ولا يجهر بها بالإجماع، فتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بعد الاستفتاح.
وسوف نصل إلى البسملة فيما يأتى -إن شاء الله- وما قرب، ونواصل -إن شاء الله- في التفسير لأن البخاري وصل إلى كتاب التفسير، واستفتح صحيحه بحديث أبي سعيد بن المعلى، قال: {كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فدعاني وأنا أصلي فلم أنصرف إليه، فلما انتهيت قال: لماذا لم تجبني؟ أما يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] لأعلمنك أعظم سورة من القرآن قبل أن أخرج، فأخذ بيدي فلما أردت أن أخرج، قال: هي الحمد لله رب العالمين}.
وهذا الحديث أورده البخاري، ولكن صحيح البخاري وحده لا يكفي في التفسير؛ لأنه لم يختر إلا نبذاً وشذرات وثمرات من الأحاديث الصحيحة، فلابد من التفسير، ومن كان له وجهة نظر أو نصيحة أو إرشاد إلى طريقة التفسير؛ لنعيش مع القرآن ونحلق مع القرآن وليكن كتابنا وسميرنا وأنيسنا القرآن.
وأدعوكم ونفسي من هذه اللحظة إلى العودة إلى المصحف، فيكون معك في كل مكان أنيسك وسميرك، لاتدخل وتجلس في بيتك إلا وقد قرأت آيات، ولا تقم في الصباح بعد الفجر إلا وقد فتحت مصحفك، وتتدبر منه وتعود إليه، وتأخذ حروزك من القرآن وأذكارك وأدعيتك الصباحية والمسائية.
وانظر إلى الجمال في القرآن، فإن القرآن عجيب جد عجيب لمن تذوقه، وقبل أن تقرأ القرآن عليك بأمور ذكرها النووي في كتاب التبيان في آداب حملة القرآن منها:
أن تتوضأ وتكون طاهراً، وأن تتساك، وتتطيب، وأن تستقبل القبلة ولم أعلم في ذلك حديثاً، وأن تتدبر ما تقول، وأن تقرأه بتمهل وترسل، ثم تعيش مع القرآن فإنك سوف تجد الجمال والروعة والإبداع.
آنس الله قلبي وقلوبكم بالقرآن، وهدانا الله بالقرآن، ووفقنا الله بالقرآن، وفتح الله علينا بالقرآن، وأرشدنا الله سواء السبيل بالقرآن، وعصمنا الله من الذنوب والخطايا بالقرآن، وشرح الله صدورنا بالقرآن، وجعل الله طريقنا إلى الجنة بالقرآن.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن أقام حدود القرآن وحفظ حروفه، اللهم اجعلنا ممن يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، يعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه، ويكل ما لا يعلم إلى عالمه.
اللهم اجعلنا ممن قاده القرآن إلى الجنة، ولا تجعلنا ممن أخذه القرآن فقذفه في النار.
اللهم اجعلنا من حملة القرآن العاملين بالقرآن، التالين للقرآن، المصدقين للقرآن، المنفذين لأحكام القرآن، اشرح به صدورنا، وأذهب به همومنا وأحزاننا، ووفقنا به لكل خير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(185/30)
أجب على هذه الأسئلة
في سورة النمل آيات عظيمة تقرع القلوب بأدلة التوحيد، وتهز المشاعر بسياقها الرائع، وكلماتها المؤثرة، إنها تستجيش الوجدان بذكر إبداع الله في خلقه، ونعمه على الإنسان، وإجابة دعائه إذا دعا، ثم تهزه هزاً عنيفاً بقوله: آلله خير أم ما يشركون!(186/1)
آلله خير أم ما يشركون
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكوراً, وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً عنوان هذه الخطبة: " أجب على هذه الأسئلة".
من هو السائل؟! ومن هو المسئول؟! وما هي الأسئلة؟!
السائل الله تعالى الله في علاه، السائل الرحمن الذي على العرش استوى.
المسئول أنت، يا من جعل الله له عينين، ولساناً وشفتين، يا من خلقه فسواه فعدله، يا من في أي صورة ما شاء الله ركبه! يا من، كان في عالم العدم! يا من خلق في كبد! يا من وقع على الأرض يبكي! يا أيها الفقير أنت أمام حشد من الأسئلة، يوجهها الله إليك، وأنت تجيب, {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الاسراء:14] ولا يجيب غيرك.
الخلق يشهد للجليل مع البرية والفلك
والليل يكتم سره يا ليل جئتك أسألك
والماء تمتم ناطقاً يا ماءُ سرٌ لي ولك
والطير يشهد صادحاً أن لا إله سوى الملك
سبحان من برأ الورى كتب الهلاك وما هلك
سبحان من بعث الضياء مع الشعاع المشترك
سبحان من رفع السما منسوجةً مثل الحبك
إن تحمي عيني أن تراك جعلت قلبي منزلك
هذه الأسئلة يسألها الله، ويوقف الإنسان أمامها، ضعيفاً ذليلاً فقيراً حقيراً.
يقول سبحانه في محكم كتابه بعد أن ذكر مصرع الشرك أمام التوحيد، وبعد أن ذكر معركة لا إله إلا الله مع لا إله والحياة مادة، يقول سبحانه: {آللَّهُ خَيْرٌ أَم ما يُشْرِكُونَ} [النمل:59].
آلله خير أم هذه الآلهة الحقيرة؟
آلله خير أم الطواغيت التي تعلق بها البشر وأحبوها؟ وخاف منها البشر، ورهبوا منها؟
آلله خير أم هذه الأنظمة والكيانات والواجهات السحيقة في الفناء، البعيدة في الخزي، الماثلة في الدمار؟ ثم ترك الإجابة للعقول وحدها لتجيب، ولا يجيب غيرها.(186/2)
الله خالق السماوات والأرض
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [النمل:60] من الذي يدعي يا بشر؟ من الذي يتكلم يا عالم؟ من الذي ينطق وينسب السماوات والأرض له، من بناها؟ من سَّواها؟ من قومها؟ من عدلها؟
ذلكم الله لا إله إلا هو، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].
يقول الله لهارون وموسى: قولا له: يا مجرم, أأنت رفعت هذه؟ أأنت بسطت هذه؟ أأنت أنبت الزهر في الربى؟ أأنت تمتمت الماء في النهر؟ أأنت أرسلت الضياء والسناء والهواء؟.
ولذلك كان جواب موسى متفوقاً، والعجيب أن الملحد هذا الذي يتكرر بالآف في كل قرن، هو الذي بدأ العراك، وهو الذي بدأ الحرب مع موسى في البلاط، فقال: فمن ربكما يا موسى؟
وموسى أتى من الصحراء ما تعلم، ولا قرأ، ولا كتب، وما عنده فن الجدل، ولكن الله قال له: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] قال أهل العلم: أسمع معك وأرى في الجدال العلمي، والعراك العملي.
قال: فمن ربكما؟
ولو قال موسى: ربي عليم، لقال المجرم: أنا عليم، ولو قال: ربي حكيم، لقال: أنا حكيم , وربما اصطاده، لكنه فر من هذه الإشكالات، وأوقفه مخزياً خاسئاً أمام قدرة الباري، وقال: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
من الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؟
من الذي أخرج الطفل لا يعي، ولا يفهم، ولا يتكلم، ولا ينطق، ولا يمشي، ودله على الثدي، وأخبره أن في الثدي لبناً؟
من الذي أرسل النحلة تجوب القفر والساحة والحديقة، وتأخذ الرحيق إلى الخلية؟
من الذي جعل النملة تدخر قوتها من الصيف إلى الشتاء: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].(186/3)
وجعلنا من الماء كل شيءٍ حي
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [النمل:60] وقصة الماء يعيشها الإنسان في كل لحظة يشربه، ويغتسل به، ويرى الكائنات تترعرع على الماء، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] ويرى الفلك يبنى على الماء؟ ويرى الأرواح تسبح على الماء، فمن الذي أنزل الماء؟
من الذي جعله سائغاً للشاربين فلم يجعله مالحاً، ولا غائراً، ولا متكدراً؟
ذلكم الله ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب.
إنها محاضرات العقيدة تلقى في كلمات يسيرة، إنها دعائم التوحيد ترسخ في جمل سهلة.
دخل ابن السماك على هارون الرشيد وهارون يحكم ثلاثة أرباع الدنيا، فاستدعى هارون ماءً في كوز ليشرب، قال ابن السماك - الواعظ-: أسألك بالله ألاَّ تشرب حتى أسألك، قال: سل، قال: بالله لو منعوك هذه الشربة، أكنت مفتديها بنصف ملكك؟
قال: إي والله -وإلا فماذا يفيد الإنسان أن يموت وملكه وراءه- فشرب، قال: أسألك بالله لو مُنعْتَ إخراج هذه الشربة، أتخرجها بنصف ملكك؟
قال: إي والله، قال: لا خير في ملك لا يساوي شربة ماء وإخراجها.
يوقف الله العبد أمام الماء الذي يشربه، ليدرس مع الماء من هو الخالق؟ ومن هو الرازق؟ ومن هو الواهب؟
ثم يترك الإجابة.(186/4)
حدائق ذات بهجة
وينتقل إلى الحدائق.
يقول أحد الفضلاء: مدرسة التوحيد في الحديقة تنبئك عن الخالق الواحد لا إله إلا هو، فالزهر، والشجر، والماء، والبساط السندسي، والعبير كلها تدل على الله، ولكن أسلوب القرآن أخَّاذ ينفذ إلى القلوب، يقول الله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60] بهجة، قالوا: حياة، وقال بعضهم: روعة، وأصاب، وقال بعضهم: منظر حسن، وأجاد، وقال بعضهم: تشكيلة خلقها الله في الكون.
ويقول أحد العصريين: من الذي جعل الألوان تتماوج في الزهرة الواحدة حتى يعجز أعظم فنان في الأرض أن يرسمها، ذلكم الله لا إله إلا هو، الذي جعل الزهرة حمراء بجانب الخضراء والصفراء, أبدع الخلق فلا يتعقب، ثم يقول للكائنات وللناس: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] يقول: هذا خلقي، وهذا صنعي، وهذه قدرتي، وهذه صناعتي، فأروني ماذا أنتج الطواغيت للعالم؟!
يُتَحَدَّون بالذباب والبعوض، فيموت النمرود ببعوض في دماغه فيقتله الله، لأنه أهون من أن يصارع بالجيوش.
ذباب يقف على أنف أبي جعفر المنصور الخليفة السفاك، فيقول أبو جعفر لأحد العلماء: لماذا خلق الله الذباب؟
قال: ليذل به أنوف الطغاة، فسبحان من خلق وأبدع.
قال سبحانه: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60] تحدٍ صارخ، وتحدٍ سافر للبشرية أن يجتمعوا فيخلقوا شجرة، أإله مع الله؟!
هل هناك أحد يخلق كخلق الله؟
هل هناك قوي كقوة الله، مبدع كإبداعه سُبحَانَهُ وَتَعَالى؟ والجواب معروف، وينتقل متحدياً، ويقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60].
قال أهل السنة: يعدلون به غيره، وهؤلاء خونة الميثاق تجدهم يقرعون أبواب غيره، ولا يقرعون بابه، ويتذللون عند عتبات غيره من المجرمين، ولا يتذللون عند عتبته.
يا رب حمداً ليس غيرك يحمد يا من له كل البرايا تصمد
أبواب كل ملوك الأرض قد وصدت ورأيت بابك واسعاً لا يوصد
الصالحون بنور وجهك آمنوا عافوا بحبك نومهم فتهجدوا
فالله يلومهم يقول: لماذا يعدلون مني إلى غيري؟ ولماذا يطلبون غيري؟
قال وهب بن منبه: قرأت في الحكمة أن الله يقول: (وعزتي وجلالي ما اعتصم بي أحد من خلقي فاجتمعت عليه السماوات والأرض ومن فيهن إلا جعلت له من بينهن فرجاً، وعزتي وجلالي ما اعتصم بي أحد من خلقي، ثم كادت له السماوات والأرض ومن فيهن إلا جعلت له من بينهن فرجاً، ثم قال سبحانه: وعزتي وجلالي ما اعتصم بغيري أحد من خلقي إلا أسخت الأرض من تحت قدميه، وقطعت الحبل بيني وبينه، وأهويته في مكان سحيق) هذه قدرة الله، وهذه قدرة غيره تعالى الله.(186/5)
أمن جعل الأرض قراراً
وتستمر الأسئلة والحوار، ويقول: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً} [النمل:61] خَلْقُ السماء شيء، وخَلْقُ الأرضِ شيء، ولكن جعل الأرض قراراً شيءٌ آخر لم يدركه العلم إلى الآن، ولا يدري العلم من أين أتت الأرض، وأين كان ترابها وجبالها ووهادها وماؤها؛ هذا سر مكتوم، فمن الذي جعلها قراراً؟
هو الواحد الأحد.
{وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً} [النمل:61] وهذا جمال فني بديع، وهي المفاصل البليغة الأخَّاذة، حينما تقف على الفواصل، قال: {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} [النمل:61].
والسلف يرون أن الله حجز بين الماء العذب والمالح بطبقة أرضية تعزل النهر عن البحر، والنهر مرتفع، والبحر منخفض، لأن ماء النهر سلس خفيف، وماء البحر ثقيل غليظ.
وأتى العلم اليوم، وقال: إن قوله سبحانه: {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} [النمل:61] أي: في داخل البحور والمحيطات عيون من الماء العذب لا تطغى في المالح، ولا يطغى المالح عليها.
فتوجد في بعض البحار عين تفيض يشرب منها الناس داخل البحر، وبينها وبين الماء المالح طبقة عازلة كثيفة من الماء، الله الذي أوجدها لا غيره، يتحدى بها غيره سُبحَانَهُ وَتَعَالى.(186/6)
أإله مع الله؟
قال تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل:61] وأكثر الخليقة مشركون به، فمنهم من يقول: الله ثالث ثلاثة، وهي الأمة الغربية التي صنعت وأبدعت وأنتجت، لكن أخفقت عقولها، وخسف بأبصارها وبصائرها، حتى يقول الله لهم بعد آيات: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] ومنهم من يقول: لا إله والحياة مادة، وهم الشيوعيون عليهم غضب الله، ومنهم من عدد الآلهة، وهم: الشرقيون، وعندهم: الظلمة إله الشر، والنور إله الخير.(186/7)
مجيب الدعاء
ثم تأتي القارعة، والسؤال الضخم الذي يعرفه الناس، وأقرب من يعرفه الطلاب وهم في قاعات الامتحان، فقد عرفوا هذه الإجابة، وإن لم يعرفوها فسوف يعرفونها في حوادث الزمن، وفي وقائع الدهر.
يقول سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] والمضطر: هو الذي بلغ به الكرب مبلغاً عظيماً، وهو الذي وقع في ورطة لا يكشفها إلا الله، والمضطر هو الذي أحيط به من كل جانب، وهو من تجمعت عليه المصائب من كل حدب، ومن تقطعت حبال البشر عنه ووسائل الدنيا وقوة الأنظمة، والقوى الأرضية، وبقي وحيداً مضطراً فإلى من يلتجئ؟ من يجيب المضطر؟
أتى أعرابي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام اسمه أبو تميمة الهجيمي كما عند أحمد في المسند، فقال: يا رسول الله! إلى ماذا تدعو؟ قال: أدعو إلى الله أتدري من هو الله؟ -العرب الجاهليون الوثنيون يعرفون أن الله هو الذي خلق السماء، وأوجد الأرض فقط- قال: أتدري من هو الله؟، قال: لا، قال: من إذا أصابك ضر فدعوته كشفه، ومن إذا ضل بعيرك في الصحراء- والبعير عند الأعرابي هو كل شيء- فدعوته رده عليك، ومن إذا أصابك سنة قحط مجدب دعوته فأمطر، هو الله، هذه العقيدة البسيطة السهلة يعرضها عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
ومما يذكر في هذا الباب: ما نجَّى الله المضطرين كيونس بن متى صاحب الظلمات الثلاث الذي ما وجد ملتجأً من الله إلا إليه، فر من الله إلى الله، كل شيء تفر منه تبتعد عنه إلا الله، فكلما فررت منه اقتربت إليه، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] وكل شيء تقرب منه تأمنه إلا الله، فكلما اقتربت منه خفته، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
ووجدها موسى في البحر، يوم اجتمعت عليه القوى الأرضية والطواغيت، فالتجأ إلى الواحد الأحد، فقال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] فنجا.
ووجدها إبراهيم قبل أن يدرك النار بدقائق، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فنجا.
قال ابن عساكر: خرج رجل من الصالحين التجار في ناحية على بغل، فاعترض له لص فأخرجه إلى الصحراء، وأخرج سكينهُ ليذبحه، فقال للص: أسألك بالله أن تتركني، قال: لا والله، قال: أسألك بالله أن تتركني لأصلي ركعتين لتكون آخر عهدي بالدنيا، قال: قم فصلِّ، فتوضأ الرجل وصلى -وهو مضطر، فمن يدعو؟! أين ملوك الأرض؟ أين القوى؟ أين الأموال؟ أين العشيرة؟ أين الأولاد؟ تبددوا، فقام يصلي- قال: فارتج علي القرآن، فلم أدرك ولا آية إلا قوله سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]-فهتف من قلبه والقلب له هتاف خالد، وله مناجاة شائقة، والقلب له حديث سمر يعرفه من يعيش المصائب والكوارث، فيجد أن القلب يقفز قفزات إلى الحي القيوم- قال: يا من يجيب المضطر إذا دعاه! يا من يجيب المضطر إذا دعاه -يا من يجيب المضطر إذا دعاه! قال: فإذا بفارس على فرس نزل من السماء، فأرسل خنجراً فقتل السارق، قلت: من أنت؟ قال: أنا رسول من يجيب المضطر إذا دعاه- قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] وهؤلاء الجنود يتكررون، فقد نزلوا في بدر، وفي أحد، وفي كل معترك بين التوحيد والإلحاد، وهؤلاء الجنود لله الواحد الأحد ينصر بهم أولياءه-
قال: لما دعوت الدعوة الأولى كنت في السماء السابعة، ولما دعوت الثانية كنت في الرابعة، ولما دعوت الثالثة وصلت إلى الأرض لأقتل هذا المجرم.
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] فلا كاشف للبلوى إلا هو، يمرض المريض، وتجتمع عليه الأطباء والدواء والعلاج فلا يشافى، لأن الله ما كتب الشفاء، فإذا كتبه رفع المرض.
تقدم بختيشوع طبيب الناس والعالم في عهد أبي جعفر المنصور وأبو جعفر في سكرات الموت، قال: أنقذني يا بختيشوع! بعلاج إني أجد الموت، قال: حضر الحق ولا علاج، قيل له: أين دواؤك؟، قال: ينفع أحياناً ولا ينفع أحياناً، قال: ماذا أفعل؟ قال: الطبيب يريد أن يقربك منه، من هو الطبيب؟ الله.
مات المداوي والمداوى والذي صنع الدواء وباعه ومن اشترى
وبختيشوع هذا حضرته سكرات الموت، كان يعالج من القولنج، وهو المرض الخطير، فأصابه الله بمرض القولنج وقد كان تخصصه أن يشفي -بإذن الله- من هذا المرض، فأصابه الله بالمرض نفسه، فجمع العلاج، وقال له الناس: أين علاجك؟ قال: ذهب العلاج ولا علاج.
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا؟
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا؟(186/8)
الاستخلاف في الأرض
{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل:62] الأسئلة كثر, تزدحم كالليل أمام الإنسان، فيجيء قرن بعد قرن، قال تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم:45] ملوك بعد ملوك، تجار بعد تجار، وصنف بعد صنف، وقوى بعد قوى، وشعوب بعد شعوب، تهلك وتبيد، ويبقى الواحد الأحد, قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] يقول ابن بطوطة: زرت تربة في خراسان، فأخبرت أنه دفن فيها ألف ملك من ملوك الأرض في تلك الناحية, فقال الناظم:
وسلاطينهم سل الطين عنهم والرءوس العظام صارت عظاما
وسلاطينهم - جمع سلطان-
وبقي الواحد العظيم، ثم قال سبحانه: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60] ثم ترك الجواب، وقال: {قَلِيلاً مَا َتَذَكَّرُونَ} [النمل:62] والإنسان بإمكانه أن يعمى إذا أراد أن يعمى، وأن يكابر ربه، وأن ينسى مبدأه، وأن يخون ميثاقه، وأن يتلاعب بأصالته يوم يريد أن يكفر، فينحط إلى درجة الحيوان.
هذه الأسئلة، ولك أنت أن تتأملها في الكون، وفي نفسك، ولك أن تجيب عنها إجابة، أما إجابة اللسان فكل يقول: الله لكن أعمالنا وعقائدنا وأفكارنا ومبادؤنا، لا بد أن نركبها على هذه العقيدة، فلا نخاف إلا الله، ولا نرجو إلا الله، ولا نحب إلا إياه، ولا نعتصم إلا به، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نلتجئ إلا إليه، ذلكم الله ربي وربكم فاعبدوه.
هل من خالق غير الله؟ تعالى الله عما يشركون.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(186/9)
العطلة الصيفية
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير، وهادي البشر ما اتصلت عين بنظر، وما تألقت أذن لخبر، وما هتف الورق على الشجر، وعلى آله وصحبه البررة، ومن سار على منهجهم إلى يوم الدين, أمَّا بَعْد:(186/10)
استغلال العطلة الصيفية
أيها الفضلاء: في هذه الأيام ينتهي الطلبة من امتحاناتهم، وكثير منهم يفكر ملياً ماذا يفعل بهذه العطلة القصيرة من عمره، وأين يصرف تلكم الساعات التي سيسأل عنها يوم العرض الأكبر, كثيرٌ منهم لا يدري ماذا يفعل، أله أن يروح على نفسه في الشاطئ، أم يسافر، أم يقيم في بيته على لعب وتسليات، أم يشارك في مخيمات ترفيهية، أم ماذا يفعل؟ وأنا أوقف كل أخ من طلبة العلم، ومن رواد هذه المبادئ، ومن تلاميذ محمدٍ عليه الصلاة والسلام أمام نفسه.
أولاً: لا عطلة عند المسلم، ولا فراغ عند المؤمن {لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع منها: عمره فيما أفناه} أين أفنى العمر؟
دقات قلب المرء قائلةً له إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان
وسوف يرى طالب العلم أي حياة أضاع في نهاية العطلة الصيفية التي تعَّود كثير من الناس أن يضيعها ضياعاً تاماً، وهذه حقيقة أعرضها للآباء الكرام، وللأمهات الكريمات، وللعقلاء من شباب الإسلام: أن يتقوا الله عز وجل في هذه العطلة وفي غيرها، وأن يسيروها في الطريق الصحيح من مراجعة للعلم الذي درسوه، ومن تذكر لكتاب الله، وحفظ شيء من العلم، والاستفادة من هذا الوقت الطويل الذي يذهب سدى.
صحيح أن الأمم التي لا تحمل مبدأ كمبدئنا لها أن تفعل ما شاءت لأنها كفرت بالله، عربدت، وسكرت، وتبرجت، وتمردت، وخسف بمبادئها، وضاعت قيمها، وامتزج حقها بباطلها، وسلخت من كرامتها، ومرغت في التراب، أما وهذه الأمة لا تزال تحمل المبدأ، فإن على الطلبة أن يعوا أن أمامهم فرصة ثمينة للاستفادة من العمر، فسوف يسألون عنه يوم العرض الأكبر، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
ما البديل إذاً؟
البديل المراكز الصيفية التي تقوم على قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام والجلوس فيها مع الصالحين من طلبة العلم، ومدارس الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن، والدروس العلمية والمحاضرات التي تعقد في كثير من هذه البلاد، والبديل أن تجعل لنفسك جدول عمل تحاسب نفسك أمامه لتستثمر وقتك.(186/11)
العبث بالكتب بعد انتهاء الدراسة
ملاحظة أخرى: نمي إلى علمي وعلم كثير من الإخوة، أن بعض الطلبة أسرفوا في عدم تقدير كتب العلم بعد الانتهاء من الامتحانات، وروي أن منهم من ركل الكتاب برجله، ووجد أن الكتاب يحمل سيرة محمد عليه الصلاة والسلام، ومنهم من مزق الكتاب ورماه على الرصيف، ومنهم من عبث بأوراقه ووضعه في مكان مشعرٍ بعدم المبالاة والسخف، وأنا أسأل شباب الإسلام: ما فائدة العلم إذاً؟ ما هي النتيجة من هذه السنة، ومن هذا الامتحان؟ ما هي الثمرة من هذه الأسئلة، ومن هذه الإدارة، وهيئة التدريس، ومن هذا الامتحان والقاعات؟ لماذا طلبنا العلم إذاً؟
أن تصل قداسة العلم عندنا إلى هذا المستوى، أي طالب علم يفعل بكتابه هذا الفعل؟ يركل سيرة محمد عليه الصلاة والسلام، كأنه يتعامل مع ذاك الرجل العظيم كما يتعامل بعض الناس مع بعض الأقزام، لك أن تركل الأقزام أنفسهم بقدمك.
من تداجي يا بن الحسين أداجي أجهاً تستحق ركلاً ولطما
أما سيرته، أو شيء كُتِبَ فيه اسمه، أو آيات ربه، أو مبادؤه الخالدة، فحرام، حرام، حرام أن تمتهن، بل نص أهل العلم: ألا يدخل بها دورات المياه، ولا يجلس أو يركب أو يتكأ عليها، بل تحترم، وكان بعض أهل العلم لا يقرأ الحديث إلا متوضئاً، والإمام أحمد في سكرات الموت سُئِلَ عن حديث واحد من أحاديث الحبيب.
أعد سهر العيون فكل نومٍ لغيرك أيها المولى حرام
وأسمعني حديث الحب سبعاً رضيت لك السرى والناس ناموا
فقال الإمام أحمد: أجلسوني، قالوا: أنت مريض، قال: لا والله، لا يسأل عن حديث الحبيب، وأنا مضطجع.
وكان الإمام مالك يمشي في الطريق، فسألوه عن حديث، فجلس واستقبل القبلة، وقال: أيسأل عن كلام الحبيب ونحن نمشي، أي: لا نجيب عنه ونحن نمشي، ولذلك رفعهم الله، وعظمهم؛ لأنهم قدسوا دينه فقدسهم الله، وأتى جيل أهانوا دين الله فأهانهم الله، وما أعظم الإهانة التي يتلقاها العالم الإسلامي بسبب عدم توقير مبادئ الله!
هل هناك أعظم إهانة من أن يصبح هؤلاء الثلة من اليهود المردة، أبناء القردة والخنازير الذين طوردوا في العالم، وضرب الله عليهم اللعنة والغضب والمسكنة، ليس لهم حبل مع الشعوب، مطاردون في كل ناحية من أنحاء العالم، طوردوا في بلجيكا، وطوردوا في سويسرا، وسحقوا في إنجلترا، وأحرقوا في ألمانيا، ثم احتضنهم العالم الإسلامي، والآن يداجيهم ويتنازل لهم ويراضيهم، فهل بعد هذه الإهانة من إهانة؟ بسبب أعمالنا.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
عباد الله! صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على منهجه ومنواله إلى يوم الدين.
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم علمنا علماً ينفعنا، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن عين لا تدمع، ومن نفس لا تشبع، ومن قلب لا يخشع، اللهم إنا نعوذ بك من علم يكون وبالاً علينا.
اللهم احفظ علينا أعمارنا، وأوقاتنا، وأعراضنا، وأموالنا، وأقم لنا مبادئنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم ولِّ علينا خيارنا، اللهم ولِّ علينا من يخافك فينا، ويرجوك، ويرحمنا فيك يا رب العالمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(186/12)
سر الخائفين
كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس خوفاً من الله، وبعده الصحابة رضوان الله عليهم، ومن كان بالله أعرف كان له أخوف، ولما قست قلوبنا ابتعدنا عن الله، وابتعدنا عن الخوف من الله.
وقد تعرض الشيخ في أثناء حديثه لنماذج من الخائفين، ثم ذكر أسباب الخوف من الله، وبالمقابل ذكر موانع الخوف من الله، وكذا المظاهر التي تدل على صدق العبد في الخوف من الله.(187/1)
النبي صلى الله عليه وسلم أخوف الناس من الله
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً, وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول, وفوق ما نقول, ومثلما نقول, عزّ جاهك، وجلّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك, ولا إله إلا أنت, والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين, هدى الله به البشرية, وأنار به أفكار الإنسانية، وزعزع به كيان الوثنية؛ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
سلام الله عليكم يوم اجتمعتم على ذكر الله, وقلب لا يخاف الله عز وجل فليس بقلب، وحي لا يرجو موعود الله عز وجل فليس بحي وإنما هو ميت, قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
ومن يوم وقع رأس الإنسان في الأرض وهو مسئول أمام الله عز وجل, وهو واقع في مشكلة أريبة معقدة لا يقطعها ولا يحلها إلا الخوف من الحي القيوم, قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50 - 51].
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
وأشرف ما يشرف هذا العبد الحي عبودية الواحد الأحد, فلا شرف له ولا خروج من المأزق إلا بأن يكون عبداً لله تبارك وتعالى, ولذلك شرف الله رسوله صلى الله عليه وسلم, وذكره في أشرف المواطن بالعبودية، فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1].
وقال في حقه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] , وقال عنه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1].
فالذي لا يتشرف بهذه العبودية، سوف يبقى ضالاً في الدنيا والآخرة ويحشر أعمى يوم يعرض الله الناس أولهم وآخرهم ليوم لا ريب فيه, ولذلك طالبنا سُبحَانَهُ وَتَعَالى بالخوف منه, وأخبرنا بأنه أعد جنتين اثنتين لمن خافه، حيث قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] , وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
ولذلك أجمع أهل العلم على أن أفضل المنازل منزلة الخوف مع الإخلاص, فمن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل, والذي يخاف الله عز وجل يعمل, لأن المؤمن يحسن العمل ويخاف, والمنافق يسيئ العمل ويرجو، ولذلك فرق عند أهل السنة والجماعة بين أهل الإرجاء وأهل العمل الصالح من ناحيتين:
1 - أهل العمل الصالح يخافون ويعملون.
2 - وأهل التواكل والإرجاء يسيئون ويرجون.
وفرق بين الطائفتين وبون بين الفريقين.
ولذلك كان أخوف الناس هو رسول الهدى صلى الله عليه وسلم, ولا وجد أخوف منه لربه تبارك وتعالى, ولذلك يقول للصحابة وهم يجتهدون في العبادة, بعضهم من شباب الصحابة يرى ألا ينام الليل إلى الصباح، فقل لي بالله! أين شبابنا الذين يسهرون إلى الفجر على الليالي الحمراء وعلى الكلام الآثم الماجن الضائع؟
وقل لي بالله! أي جلسات تلك الجلسات التي يقطعها شيوخنا -إلا من رحم الله- في أعراض الناس بالغيبة والنميمة؟
يرى بعض الصحابة أن يقوم الليل ولا ينام حتى الفجر في عبودية الله, ويرى الفريق الآخر أن الأحسن أن يصوم النهار فلا يفطر أبداً إلا مع الغروب, ليجوع بطنه, ولتظمأ كبده, وليروى من الحوض المورود, يوم يذاد عن الحوض المورود بسبعين ألف ملك مع كل ملك مرزبَّةٍ من حديد, يريد أن يري وأن يشبع في ذلك اليوم, فيأتون إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ويعرضون عليه أحوالهم, فيقول: {أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له} وصدق عليه الصلاة والسلام, ولذلك أتى به الإمام البخاري في كتاب العلم في باب الخشية وعدها من أعمال القلوب التي ينكرها أهل الإرجاء، علم من ذلك أن أخوف الخلق لربه هو الرسول عليه الصلاة والسلام.(187/2)
خوف النبي صلى الله عليه وسلم من ربه عند قراءته القرآن
وروى ابن جرير الطبري وابن مردويه عنه صلى الله عليه وسلم: {أنه مرّ به بلال بن رباح -المؤذن, داعي السماء, الذي أخرج من أوضار الوثنية إلى نور الإسلام- قبل صلاة الفجر, فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم يبكي, فقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي ماذا يبكيك؟ قال: آيات أنزلت عليّ ويل لمن قرأها ولم يتدبرها، ثم تلى عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]}.
والذي يتلو مثل هذه الآيات ولا يتدبر ولا يتفكر؛ فكأن قلبه طبع عليه إلا ما شاء الله, والطبع يصيب القلوب بالمعاصي وبالغفلة وبالشهوة, فنسأل الذي بيده مفاتيح القلوب أن يفتح على قلوبنا وقلوبكم, ولذلك يقول جل ذكره مخاطباً الصحابة ومن سار على منهجهم إلى يوم الدين -يقول بعض الصحابة: ما بين نزول هذه الآيات المعاتبة وبين إسلامنا إلا أربع سنوات-: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:16 - 17].
فكما يحيي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الأرض بالماء والغيث من السماء فإنا نطمع منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحيي قلوبنا بالذكر فقد جفت ويبست وخمدت, فإنه الذي قال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام:95].
ولذلك إذا نسي القلب موعود الله تبارك وتعالى, والعرض عليه, والقبر, وتلك الوقفات الهائلة الفظيعة أصبح قلباً فاجراً قاسياً بعيداً عن الله.
روى الإمام ابن كثير في البداية والنهاية المجلد الثاني عشر: عن السلطان نور الدين محمود وهو من سلاطين الإسلام الذين كانوا يقومون الليل ويصومون النهار, ذكر ابن تيمية هذا السلطان فقال: رحم الله تلك العظام؛ لأن تقوى الله يوزعها على البشر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, لا تختص بغني ولا فقير, ولا كبير ولا صغير, ولا أحمر ولا أسود, وإنما يوزعها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه يعلم القلوب التي تستحق الهداية.
استعرض هذا السلطان فترة من فترات الذهول والغفلة في جيشه في دمشق وعمل مهرجاناً ضخماً حضره أمراؤه ووزراؤه وقواده, وحضره أهل دمشق في مقام بهيج وفي حفل مرعب, ولما اكتمل هذا الحفل دخل أحد علماء الإسلام اسمه ابن الواسطي، دخل ببردته وعصاه ووقف أمام السلطان ثم قال: اسمع أيها السلطان لموعود سلطان السموات والأرض؟
فتوقف الناس وخمد المهرجان وانتظروا ماذا يقول هذا الواعظ, فرفع صوته وقال لهذا السلطان وهو على سرير الملك:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل نور الدين جاء مسلماً فاحذر بأن تأتي وما لك نور
حرمت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور
ثم يقول:
هذا بلا ذنب يشيب لهوله يعني: الوليد يخاف يوم القيامة وتشيب ناصيته لهول اليوم, يقول:
هذا بلا ذنب يشيب لهوله كيف المصر على الذنوب دهور
فسقط السلطان من البكاء مغشياً عليه في الأرض, ورش بالماء، واستفاق وهو يقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:27 - 28].
وأصبح هذا الموقف له توبة إلى الله وعودة إلى الحي القيوم.(187/3)
خوف النبي صلى الله عليه وسلم من ربه أثناء الصلاة
كان عليه الصلاة والسلام دائماً وأبداً يخلط خطبه ودروسه ومواعظه بالمخافة من الله الحي القيوم, بل كان هو -كما سلف معنا- أخوف الناس، وأرجاهم لربه، وأخشى الناس لمولاه, يقول أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه - أبو ذر الصادق الزاهد العابد المنيب-: {بت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي, فقام يصلي من الليل, فسمعته يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ثم بكى! ثم عاد فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم بكى! ثم عاد ثالثاً، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم ثم بكى! ثم قال وهو في صلاة النافلة: ويل لمن لَم تدركه رحمة الله} إي والله ويل لمن لم تدركه رحمة الله تبارك وتعالى.(187/4)
بكاء النبي صلى الله عليه وسلم من قراءة ابن مسعود القرآن عليه
ويقول ابن مسعود ذاك الشاب الذي كانت هدايته على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ابن مسعود الذي جسمه وهو واقف كالرجل الجالس, ليس عنده جسم ولكن عنده قلب, والله عز وجل لا ينظر إلى الأجسام أو الصور أو الأموال أو المناصب أو الأولاد، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم -وفي لفظ: ولا إلى أموالكم- ولكن ينظر إلى أعمالكم وقلوبكم} فالقلب محل نظر الرب تبارك وتعالى.
وقد ذم الله المنافقين الذين ماتت قلوبهم من النفاق، ولكن عاشت أجسامهم كأجسام البغال, قال: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
فالعبد الذي لا يعتني بقلبه ويخلصه لله لا ينفعه جسمه ولا ماله ولا منصبه ولا ولده, أتى ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه وأسلم لرب العالمين, كان راعي غنم، وأبو جهل كان سيداً من سادات مكة، إذا قال لأهل مكة هذا الأمر هو الأمر, قالوا: هو الأمر, وإذا نفى أمراً نفوه, وإذا أثبت أمراً أثبتوه, ولكن خسئ ذاك الفاجر؛ لأنه ما آمن برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأما ابن مسعود فآمن فرفعه الله عز وجل وأكرم منزلته, وجعله من عباد الله الصالحين.
صعد ذات مرة شجرة من الشجر وجسمه نحيف, فأخذت الريح تعبث بأوراق الشجرة وغصونها وهو عليها يهتز، فتضاحك الناس, جسم نحيل لطيف صغير, ولكن فيه قلب وعى القرآن، وفيه قلب معمور بلا إله إلا الله, وفيه قلب عاش على مبادئ لا إله إلا الله, فيقول عليه الصلاة والسلام: {أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده، إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد} هذا هو الإيمان, يوزن يوم القيامة، إيمان المؤمن ويقينه وثباته وصدقه وإخلاصه, ويتهاوى أهل الفجور فلا إيمان ولا إخلاص ولا صدق.
يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {يحشر المتكبرون يوم القيامة على صور الذر يطؤهم الناس بأقدامهم} فنعوذ بالله أن نتكبر في الدنيا ونحن من المهانين في الآخرة, ونعوذ بالله أن نتجبر على متن هذه الأرض ونحن من المعذَّبين في بطنها, نعوذ بوجهه وجلاله ونوره.
إذا علم هذا، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحرك شجونه بالقرآن الكريم, لتذكره الآيات مخافة الله تبارك وتعالى, يقول لـ ابن مسعود كما في الصحيحين: {اقرأ عليّ القرآن؟ فيقول: يا رسول الله! كيف أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟ -حياء وأدب وسكينة من ابن مسعود يتعاظم أن يقرأ القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تعلم القرآن هو من رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيقول: اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فاندفعت أقرأ في سورة النساء، فلما بلغت قوله تبارك وتعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41]
قال: حسبك الآن فنظرت فإذا عيناه تذرفان} فعليه أفضل الصلاة والسلام, ما كان أتقاه لله! وما كان أخوفه من ربه تبارك وتعالى! حتى كان عليه الصلاة والسلام إذا قام في النافلة كما يقول مطرف بن عبد الله بن الشخير: {دخلت عليه صلى الله عليه وسلم فسمعت في صدره أزيزاً كأزيز المرجل من البكاء} والمرجل: هو القدر إذا استجمع غلياناً.(187/5)
نماذج من الخائفين
انظر إلى أحوالنا اليوم، هل خلا أحد بنفسه فتباكى أو بكى؟
هل تذكر في الحفرة الضيقة يوم لا يدخل معه ولد ولا مال ولا زوجة ولا قريب ولا حبيب؟
هل تذكر ذاك المصرع؟
وإنه والله لعجيب! ولو تذكرناه كل يوم لزهدنا ولتورعنا ولتبنا ولاستغفرنا.(187/6)
خوف عمر بن عبد العزيز من ربه
يقول ابن كثير في البداية: صلّى عمر بن عبد العزيز رحمه الله صلاة العيد بالناس - عمر بن عبد العزيز زاهد من الزّهاد, تولى أمر الأمة الإسلامية على رأس المائة, فكان مجدداً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم, فلما انتهت الصلاة ذهب إلى بيته فاستعرضه الناس وأتوا بالموكب، فقال: باعدوه عني فما أنا إلا رجل من المسلمين, فلما مرّ بالمقبرة التفت إليها، وقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، ثم قال: آلله كم في هذه القبور من خد أسيل وطرف كحيل!
ثم قال للناس والوزراء والأمراء حوله وهو ينظر إليهم: ما كأنهم أكلوا مع من أكل, وما كأنهم شربوا مع من شرب, وما كأنهم استأنسوا بالدور ولا عمروا القصور, ثم رفع صوته وقال للمقابر: يا موت! ماذا فعلت بالأحباب؟ يا موت! ماذا فعلت بالأصحاب؟ فجاوب نفسه بنفسه، وقال: أتدرون ماذا يقول الموت؟ قالوا: لا.
-هو يقصد بهذا الكلام مدرسة لهم حتى لا ينسوا هذا الدرس أبداً- قال: يقول: ذرفت بالعينين، وأكلت الحدقتين، وفصلت الكفين عن الساعدين, والساعدين عن العضدين, والعضدين عن الكتفين, وفصلت القدمين عن الساقين, والساقين عن الركبتين, ثم بكى حتى غشي عليه, هذا الرجل العظيم الذي خاف الله وموعود الله فأكرمه الله أن جعله من السعداء في الدنيا وفي الآخرة إن شاء الله, فما يذكر إلا ترحم عليه.
ولذلك لما حضرته الوفاة يوم عيد الفطر خرج الناس يلبسون الجديد يوم عيد الفطر إلا هو, فقالوا: ما لك؟ قال: أرى أن مصرعي اليوم وأني ألتقي بربي اليوم, فلما دخلت عليه زوجته والناس يصلون العيد, قالت: ماذا ترى؟ قال: اخرجي من البيت! فإني أرى ملأً ونفراً ليسوا بجن ولا إنس, قال أهل العلم: هم ملائكة, فخرجت، فلما قبضت روحه رحمه الله، قال أهل السير والتاريخ في ترجمته: سقطت على المصلين صحيفة من السماء مكتوب فيها: براءة لـ عمر بن عبد العزيز من النار؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إذا علم من العبد أنه يخافه يؤمنه المخاوف سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولذلك قال أهل العلم: إذا خفت من الله خوَّف الله منك كل شيء, وإذا خفت من غيره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أخافك من كل شيء، ولذلك أذل الناس وأخوفهم وأخنعهم وأهزمهم وأفشلهم من لا يخاف من الله, ولو رأيته جباراً عنيداً فاعلم أن الله أذهب الهيبة من قلبه.
ولذلك يتحدث شيخ الإسلام ابن تيمية عن الخوف, ما هو الخوف المطلوب؟
قال: ما حجزك عن المعاصي فهو الخوف المطلوب.
أما ما زاد على ذلك فلا يطلب في الإسلام, فالذي يردك عن معاصي الله تبارك وتعالى فهذا هو الخوف الذي يطلب منك لتكون خائفاً منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, وصحابة الرسول عليه الصلاة والسلام إنما امتازوا علينا بمخافتهم من الحي القيوم.(187/7)
خوف أبي بكر الصديق
ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد بسند جيد, أن أبا بكر الصديق -رحمه الله رحمة واسعة- أنفق أمواله, ووقته, ودمه, ويومه, ونهاره, وليله, وكل ما يملك من قليل وصغير للإسلام, حتى أتي بثوبه الذي يلبسه فكُفِّن فيه، ما وجد له كفناً من التركة وهو خليفة المسلمين.
يذكر عنه الإمام أحمد: أنه دخل هو وبعض الصحابة في مزرعة رجل من الأنصار في المدينة، فكان النخل يانعاً بالثمار, وقد تدلّت غصونه بالرطب وعليه الأطيار, فأما الصحابة فارتاحوا, وأما أبو بكر فجلس يبكي, فقالوا: ما لك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: [[طوبى لهذا الطائر يرد الشجر ويأكل منها، ويرد الماء ويشرب منه، ثم يموت لا حساب ولا عذاب، يا ليتني كنت طائراً! يا ليت أمي لم تلدني! فبكى الصحابة!!]].
فانظر إليه -رضي الله عنه وأرضاه- والرسول عليه الصلاة والسلام بشره بالجنة, وهو مع ذلك يخاف, وهو مع ذلك يحاسب نفسه, حتى يقول: والله لا آمن مكر الله، ولو كانت إحدى رجليّ في الجنة والأخرى خارجها!! لأنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون, والذي يأمن عقاب الله وعذابه، فقد أضله الله على علم, وقد طمس الله على بصيرته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه من يأمن أخذه الله؟ ومن يعتقد أن أعماله مقبولة!
نعم.
صلينا آنفاً صلاة المغرب؛ لكن من يدري منا هل ارتفعت صلاته أم بقيت؟ هل قبلها الحي القيوم أم ردت عليه واضرب بها في وجهه؟
ولذلك يقول ابن القيم -رحمه الله-: رب مصليين اثنين وقفا في صف واحد كلٌ بجانب صاحبه ما بين صلاتيهما كما بين السماء والأرض؛ لأن بعض الناس إذا قام للصلاة خاف لقاء الله وموعوده, وخاف العرض على الله, وتذكر أنه سوف يقف مثل هذا الوقوف يوم القيامة! فإن الناس يقفون يوم القيامة عند الله كما يقفون في صلاتهم, وقد صح في الحديث: {أن الله تبارك وتعالى إذا قام العبد وقف تجاهه في الصلاة, فإذا انصرف بقلبه انصرف الله عنه} فنعوذ بالله أن تنصرف قلوبنا في الصلاة فينصرف الله عنا, وكم تنصرف القلوب إلى الأسواق! والشهوات! والنزوات! والأغراض؟! وكم نعطي الله عز وجل من صلاتنا ونحن نقف بين يديه تبارك وتعالى؟
ولذلك كثير من الناس يتذكر المقام بين يديه تبارك وتعالى بمقامه في الدنيا, قال ابن الجوزي رحمه الله: المؤمن يتذكر بكل شيء ما يحدث له يوم القيامة, إذا أتى ينام وتلحف بلحافه تذكر القبر, وإذا رأى الخضروات والفواكه والنعم تذكر الجنة, وإذا رأى النار في الدنيا والمعذَّبين والمحبوسين تذكر جهنم -نعوذ بالله من جهنم- ولذلك لا يزال من فكرة في فكرة!(187/8)
خوف ابن أبي ذئب
دخل المهدي الخليفة العباسي مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام وكان الناس مجتمعين فيه, طلبة العلم، وأهل الحديث والفقه والتفسير, ومنهم الزاهد العابد العالم ابن أبي ذئب، فلما دخل الخليفة ومعه قواده وحرسه قام له الناس في المسجد احتراماً إلا ابن أبي ذئب فما قام ولا تحرك, فاقترب منه الخليفة قال: لِمَ لَمْ تقم وقد قام لي الناس جميعاً؟
قال: والله الذي لا إله إلا هو، لقد أردت أن أقوم لك، فتذكرت قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فتركت القيام لذلك اليوم, فانظر كيف تذكر بقيام الناس يوم يقوم الناس من قبورهم!
ولذلك الذي نعني به في هذا المكان أن الذي ينبغي علينا أن نحصِّل أسباب الخوف, وأن نتذكر ما يمكن أن نتوصل به لنكون خائفين من الله عز وجل, لأن من خاف من الله أمَّنه يوم الفزع الأكبر, ومن أمن منه اليوم خوَّفه يوم الفزع الأكبر, قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:101 - 103] ثم يقول عز من قائل عن هذا اليوم: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104].
ولقد كان وعداً عليه أن يرث الأرض ومن عليها ويجمعنا ليوم لا ريب فيه.
ولذلك كما أسلفنا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه, ما كان خوفه مجرد خوفٍ نظري، لأن بعض الناس في المواعظ يخاف, ولكن إذا خرج نسي -نعوذ بالله من الغفلة- هو يخاف إذا ذُكِّر, ولكن ما يمر عليه برهة أو ذهب من الزمن إلا قدر الموعظة, أما أبو بكر وأمثال أبي بكر فكان خوفهم معهم يصاحبهم دائماً وأبداً ليل نهار.
وذكر ابن القيم: [[أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه لما تولى الخلافة كان يخرج إلى ضاحية من ضواحي المدينة المنورة بعد صلاة الفجر كل يوم, فتفقده عمر بن الخطاب وسأل عنه! فقالوا: لا ندري أين يذهب؟ قال عمر: لأذهبن وراءه هذا اليوم وأرى ماذا يصنع! فذهب وراءه رضي الله عنه وأرضاه وإذا به دخل خيمة امرأة أعرابية مسلمة فتركه عمر حتى خرج من الخيمة, فدخل وراءه وأبو بكر لا يرى عمر، فأتى عمر فوجد امرأة عجوزاً عمياء معها أطفال، فقال: يا أمة الله! من أنت؟ قالت: أنا عجوز حسيرة كسيرة في هذه الخيمة, قال: ومن هذا الرجل الذي يأتيك؟ قالت: رجل لا أعرفه من المسلمين -لم تعرف أنه أبو بكر - قال: ماذا يصنع إذا دخل عندكم؟ قالت: يأتينا كل يوم لأن أبونا مات منذ زمن, فيصنع طعامنا للإفطار، ويكنس بيتنا، ويحلب شياهنا, فجلس عمر يبكي ويقول: أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر!]] إي والله أتعبت الخلفاء بعدك, وأتعبت كل مسئول حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
تصوروا أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خليفة المسلمين الذي ضمن له صلى الله عليه وسلم الجنة, يأتي ويصنع الإفطار لهذه العجوز وأطفالها ويأتي ويكنس البيت ويحلب الشياه, فرضي الله عنه وعن أمثاله وحشرنا في زمرتهم.(187/9)
خوف عمر بن الخطاب
يأتي عمر فيكون من الخائفين لله, أول مخافته من الله يوم خطب أول خطبة للجمعة, أول ما أعلن فيها مبادئه وأسسه التي ينبغي أن يسير عليها، قطع له البكاء, فقالوا: ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: والله لوددت أنني لم تلدني أمي, يا ليتني كنت شجرة تعضد {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15].
وهذا هو مقصود الخوف منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, ولا يكفي الخوف النظري كما قلت, بل صاحب ذلك خوف منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إن كان في أعماله كان خائفاً من الله.
يذكر الذهبي عن عمر رضي الله عنه وأرضاه: أنه خرج ذات ليلة من الليالي يطوف في سكك المدينة -فكان خليفة لا ينام إلا قليلاً، تقول له زوجته عاتكة بنت زيد: [[يا أمير المؤمنين! لماذا لا تنام؟ قال: إن نمت في النهار ضاعت رعيتي، وإن نمت في الليل ضاعت نفسي]] فأما الليل فصلاة, وأما النهار فمحافظة وسعي لصالح الأمة- فسمع امرأة تبكي من وراء الباب, فأنصت قليلاً وهو يبكي!! فقال له أسلم: ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: هذه المرأة في النفاس، وإنك لا تدري ماذا تجد من ألم الولادة! قال: اذهب بنا يا أسلم، قال: فعدت معه إلى بيت مال المسلمين، فحمل جراباً من شحم، وجراباً من زيت، وجراباً من دقيق، قال: احمله على ظهري -وهو خليفة- قلت: يا أمير المؤمنين! أنا أحمله عنك؟
قال: أأنت تحمل أوزاري يوم القيامة؟ قال: فحمله ووالله لقد رأيته يهرول أمامي ثم دخل البيت واستأذن وقام في طرف البيت يصنع عشاء هؤلاء الأسرة, فتقول له المرأة: من أنت رحمك الله! والله لأنت خير من عمر بن الخطاب -تقول: أنت بتواضعك وخدمتك وقيامك على شئوننا خير من الخليفة عمر، وهي لا تعلم أنه هو عمر - قال أسلم: فلما انتهينا انطلقت معه وقد أذن لصلاة الفجر, فقام يصلي بنا، فلما بلغ قوله تبارك وتعالى في سورة الصافات: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] بكى! حتى سمعنا بكاءه من آخر الصفوف, ثم عدناه شهراً كاملاً من خوف الله عز وجل.
فأين هذه القلوب؟ وأين هذه الأرواح التي تربت على القرآن؟ وما لنا حل ولا صلاح ولا فلاح ولا سعادة إلا أن نراجع حسابنا مع الله عز وجل, وأن نعود بسير هؤلاء وبأمثالهم نستقرؤها, ونكررها في المجالس والمنتديات والمحافل ونعيدها دائماً وأبداً؛ لأن الله يقول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:111] وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
قال أبو حنيفة -رحمه الله-: سير الرجال أحب إلينا من كثير من الفقه؛ لأن الفقه أحكام مسيرة يقوم بها طائفة من الناس, أما السير والمواعظ والرقائق؛ فإنه ينبغي لكل عبد أن يكون خائفاً من الله, راجياً موعود الله, مخلصاً لله تبارك وتعالى صادقاً فيما بينه وبين الله.(187/10)
نماذج من سيرة النساء الخائفات من الله
يقول ابن أبي حاتم في تفسيره: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة من الليالي, فمرّ ببيت امرأة من الأنصار, فسمعها تقرأ من وراء الباب تردد في الليل بعض الآيات، عجوز تقرأ! انظر إلى هذه العجوز المسنة الطاعنة كيف تتربى مع القرآن!! فأين نساء المسلمين؟! وأين الأمهات اللواتي كن يتربين على كتاب الله عز وجل؟! وأين تلك البيوت التي كانت كدوي النحل من كتاب الله عز وجل ومن ذكره ومن تلاوة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ بُدّلت بالغناء الماجن, وغيرت بالكلام القبيح, واستولت عليها الغيبة والنميمة والفحش واللعن والسب والشتم إلا من رحم الله, فهل آن للبيوت أن تعود إلى الله عز وجل؟ وهل آن للأمهات المسلمات أن يراجعن حسابهن مع الحي القيوم, فإن قبلهن عائشة وأسماء وأم سليم وعاتكة وغيرهن هن يوم القيامة أسوة لكل امرأة مؤمنة تريد الله والدار الآخرة.
وقف عليه الصلاة والسلام ووضع رأسه على الباب والمرأة هذه تتلو قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] وتبكي! ثم تعود، وتقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فأخذ صلى الله عليه وسلم بيده على رأسه ويبكي، ويقول: {نعم أتاني نعم أتاني} المخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام يقول الله له: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] أي: ما أتاك وما عرفت وسوف تعرف, والغاشية والزلزلة والطامَّة والواقعة والصاخة والقارعة كلها أسماء ليوم القيامة, لأن الله ضخَّمه وفخَّمه فهل وعته العقول؟ هل تدبرت؟ هل تذكرت؟(187/11)
خوف عائشة رضي الله عنه
يقول أحد التابعين: مررت بـ عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها وأرضاها، الصادقة بنت الصدّيق, المطهرة المبرأة من فوق سبع سموات, زوجة رسولنا عليه الصلاة والسلام، التي أتاها في يوم واحد كما يقول عروة بن الزبير من معاوية بن أبي سفيان وهو خليفة في دمشق ثمانون ألف دينار فوزعتها وهي صائمة، ونسيت نفسها من الإفطار! فقالت لها مولاتها وجاريتها: يا أم المؤمنين! كيف لم تبق دنانير نأخذ بها إفطاراً؟
قالت: والله إني نسيت, يا سبحان الله! من ثمانين ألف دينار تنسى نفسها! - قال هذا التابعي وأظنه الأسود بن يزيد: [[مررت بها وهي تقرأ في صلاة الضحى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:27 - 28].
قال: وسمعت لبكائها نشيجاً، فذهبت والله إلى السوق وعدت وهي تقرأ مكانها في ركعة واحدة]] عائشة رضي الله عنها وأرضاها التي بقيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, أما ليلها فمناجاة للحي القيوم وتلاوة وذكر ودعاء, وأما نهارها فصيام.
عائشة التي كانت تربي بكلماتها ما لا يربيه ألف أستاذ وألف داع وداعية اليوم, كانت كلماتها من نور؛ لأنها تربت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما أعقلها وما أعلمها بالله تبارك وتعالى!(187/12)
خوف أم سليم رضي الله عنها
كانت أم سليم امرأة عاقلة من الأنصار, عرفت قدر الإسلام, والمرأة المسلمة لابد أن تعلم بأن القرآن يخاطبها, وأن السنة تندبها, وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث للرجل والمرأة، ولذلك يقول عزَّ من قائل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195]
فالأجر حاصل, وجهادها في بيتها وصدقها مع ربها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أجر ومثوبة, ويمكن أن تكون تربيتها لأبنائها على منهج كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من نوافل الصيام والصلاة إذا قصدت بذلك وجه الله تبارك وتعالى.
يقول أنس رضي الله عنه وأرضاه: [[ما سمعنا بمهرٍ في الإسلام أعظم من مهر أم سليم -أي: أمه- قال الناس: وما مهرها؟ قال: كان مهرها الإسلام]].
أتى لها رجل من الأنصار وهو مشرك قبل أن يسلم فأراد أن يتزوج بها، فقالت: أنت مشرك وأنا مسلمة، والله لا أتزوجك حتى تسلم فيكون مهري معك الإسلام, فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله, ثم أتت بـ أنس وعمره عشر سنوات, فقالت: يا رسول الله! تفّكرت في الدنيا فإذا هي ذاهبة, وأردت هدية أقدمها لك فما وجدت أغلى من ابني، شجا روحي، وفلذة كبدي، فخذه هدية يخدمك في الحياة الدنيا, فقال عليه الصلاة والسلام: {غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر} ثم قالت: يا رسول الله! ادع لابنك أنس؟ -أي: ابنها- فقال عليه الصلاة والسلام: {اللهم أطل عمره -وطول العمر على طاعة الله سعادة- وكثر ماله وولده، واغفر ذنبه} فأما عمره فطال حتى قارب المائة، وقيل: نيّف على مائة, وأما أولاده فكثر ذرية بعضها من بعض, يحفظون كتاب الله ويناجونه ليلاً نهاراً, حتى يقول عن نفسه كما في الإصابة وأسد الغابة وغيرها: [[دفنت من ولدي لصلبي وولد أولادي يوم دخل الحجاج الكوفة مائة نفس]] وأما جسمه فإنه صح فما مرض وما سقم, وأجرى الله عليه رزقه, وأما غفران الذنب فهذه سعادة الآخرة يوم يلقى الله.
ثم يقول عليه الصلاة والسلام: {دخلت الجنة البارحة -أي: شبه الرؤيا والمنام- فرأيت الرميصاء أم سليم في الجنة} وأخبرها صلى الله عليه وسلم, لماذا؟ لأنها صدقت مع الله عز وجل, وأنها عرفت موعود الله فأخلصت للا إله إلا الله.(187/13)
خوف الخنساء
وتأتي الخنساء السلمية في معركة القادسية، والناس قد اصطفوا للقتال, المسلمون في جهة والكفار في جهة, حزب الله في ناحية, وحزب الباطل في ناحية, ولا إله إلا الله ترتفع هنا, وراية الباطل ترتفع هنا, فالتفتت إلى القبلة ورفعت يديها، وقالت: [[اللهم إنه ما عندي اليوم أغلى من أبنائي الأربعة, اللهم إني أقدمهم لك، اللهم ارزقهم الشهادة هذا اليوم, فتأتي إلى أبنائها الأربعة, ليس لها عائل يعولها في الدنيا إلا هؤلاء الأبناء, وليس لها في الناس أحب إليها من هؤلاء الأبناء, مات أبوهم وأقاربهم, فقالت: يا أبنائي! اذهبوا واغتسلوا وتحنطوا وتكفنوا, فذهبوا واغتسلوا وتحنطوا ولبسوا أكفانهم ثم أتوا, فقالت: والله ما خنت أباكم ولا خدعت خالكم، والله إنكم أبناء رجل واحد, فإني أحتسبكم عند الله يوم العرض الأكبر, وأقدّمكم هذا اليوم, فإذا أتيتم فأخلصوا بلا إله إلا الله ولله، ثم لا أراكم إلا يوم العرض الأكبر, فلما انتهت المعركة أتوا يبشرونها، قالوا: قتل أبناؤك الأربعة, فتبسمت! وهذا من فرح المؤمن.
طفح السرور عليّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
وقالت: الحمد لله الذي رفع منزلتي بشهادتهم, اللهم اجعلهم عندك {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]]] الوداعة لا تضيع عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إذا استودعت غيره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ضيعت وديعتك، أما الله فلا تضيع عنده الودائع.
ولذلك حفظ لنا الإسلام هذه النماذج الخالدة يوم أن كنا مسلمين, يوم كانت بيوتنا تبيت مع القرآن, وتصبح مع القرآن, فلما استبدلنا بالقرآن الغناء الماجن والعهر والفحش -إلا من رحم الله- ضاعت أجيالنا, وضاع شبابنا, وضاعت نساؤنا وبناتنا, وأصبحنا نتلفت فلا نجد إلا قلوباً جافة خامدة هامدة قست من المعاصي, فأملنا في الحي القيوم أن يعيدنا كما كان عليه سلفنا الصالح.(187/14)
بعض وصايا النبي صلى الله عليه وسلم
يأتي معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، فيسافر إلى أرض اليمن داعية, فيوصيه صلى الله عليه وسلم بأجمع وصية، وصية المخافة من الله تبارك وتعالى وتقوى الله, ولذلك إذا أردت أن توصي حبيبك أو قريبك أو صاحبك أو ولدك فلا توصيه إلا بحفظ الله, فإنه إذا حفظ الله حفظه الله, وإذا ضيع الله ضيعه الله.(187/15)
وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ
يقول عليه الصلاة والسلام له كما في سنن الترمذي: {يا معاذ! اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن}.
وفي سير أعلام النبلاء للذهبي في ترجمة معاذ: فيبكي معاذ! فيقول له صلى الله عليه وسلم: {ما لك تبكي؟ قال: يا رسول الله! والله ما بكيت لأمر فاتني من الدنيا, لكن أخشى أن يكون آخر العهد بك ولا أراك إلا يوم القيامة, قال: يا معاذ! لا تجزع، فإن الجزع من الشيطان, إنك لن تراني بعد يومي هذا} ثم يقول له صلى الله عليه وسلم يزوده زاد السفر, ليس زاد السفر الأكل والشراب والطعام هذا زاد دنيوي, لكن زاد الآخرة, قال: {يا معاذ! اتق الله حيث ما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} , ثم قال له: {يا معاذ! اذكر الله عند كل شجر وحجر ومدر, فإنك إذا ذكرت الله كان الله معك} هذه وصيته عليه الصلاة والسلام.(187/16)
وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس
ويقول صلى الله عليه وسلم وهو يزود ابن عباس من زاد الآخرة كما في الترمذي: {احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله, واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك, رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
ولذلك كان معنا فيما سلف معاذ رضي الله عنه وأرضاه أخذ وصية الرسول عليه الصلاة والسلام, فكانت نصب عينيه مخافة الله, ومراقبة الله عز وجل, لأن بعض الناس يراقب الله عز وجل في الجلاء, ولكن لا يراقبه في الخفاء, يراقبه أمام الناس فإذا خلا بمحارم الله انتهكها وضيعها وهدّ حدود الله عز وجل وانتهك معاصيه.
ولذلك جاء في سنن ابن ماجة في كتاب الرقاق قال ثوبان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لأعلمن رجالاً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، يجعلها الله هباءً منثوراً, قال الصحابة: يا رسول الله! أليسوا مسلمين؟ قال: بلى مسلمين, يصلون كما تصلون ويصومون كما تصومون, ولهم حظ من الليل -أي: يصلون في الليل- ولكنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها} نعم.
إن العجيب أن تخشى الله في السر, والخفاء يوم لا يراك إلا هو, يوم تنام عنك عيون الناس ولا تنام عينه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, يوم يغفل عنك الناس ولا يغفل عنك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, ولذلك يقول الأندلسي لابنه:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
فلا يراك إلا الحي القيوم, ولا يراقب تحركاتك وسكناتك إلا هو وقد غفل عنك الناس فتذكره, ولذلك يقول أهل العلم: إذا خلوت عند الناس ورأيت الكواكب فاسأل: من كوكبها؟! وإذا رأيت النجوم! فاسأل: من أنارها؟! وإذا رأيت السماء! فاسأل: من رفعها؟! فإنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى معك أين ما ذهبت! واعلم أنك إن لم تكن تراه فإنه يراك تبارك وتعالى.
أتت سكرات الموت إلى معاذ في هذه الآونة, فتفكر بماذا يقدم على الله عز وجل, فقال وهو في سكرات الموت لابنه: اخرج انظر هل أصبح الصباح؟ فنظر ابنه وقال: لا ما أصبح, فجلس قليلاً ثم رفع طرفه، وقال: [[اللهم إنك تبارك في القليل وتكثر الصغير، اللهم بارك في هذا الجرح -وكان جرحاً من الطاعون- قال: كيف تدعو على نفسك بالموت؟ قال: مللت والله الحياة، وسئمت والله البقاء, فقال لابنه: اخرج هل أصبح؟ قال: أصبح, قال: أعوذ بالله من صباح يوم إلى النار]].
كانوا يذكرون بعض المناقب يوم تأتيهم سكرات الموت؛ لأن في سكرة الموت يذهب الكبر والخيلاء, ويذل فيها الجبار, ويذعن فيها المتكبر, ويفتقر فيها الغني, ويضعف فيها القوي, فأين الكبر عنهم؟ إنما يذكرونها للأمور التربوية للأمة التي بعدهم وللجلاس.
ولذلك يقول الأعمش لما حضرته سكرات الموت -رحمه الله رحمة واسعة، وهو من الزهاد العباد الكبار- لما بكى عليه أبناؤه, قال: يا أبنائي! لا تبكون فوالله الذي لا إله إلا الله، ما فاتتني تكبيرة الإحرام ستين سنة مع الإمام, ما قالها تفاخراً ولا تكبراً, وإنما قالها ليربيهم على تكبيرة الإحرام, ويقول ابن إدريس الزاهد العابد لابنه وهو يبكي عند رأسه: يا بني! اتق الله عز وجل, يا بني! لا تعص الله في هذا البيت الذي سكنته أنا وإياك فيه، فوالله لقد ختمت فيه القرآن أربع آلاف مرة, ذكرها الذهبي في سير النبلاء، وذكرها صاحب أهل الهمم العالية في تذكر الأيام الخالية.
بعض الصالحين يُورِّثون أشقياء -والعياذ بالله- فجرة, بدل القرآن وبدل قيام الليل يحل الغناء الماجن, ويحل الفجور والبعد عن الله عز وجل, بدل الصيام تحل المعاصي, بدل تلاوة الحديث تأتي الأفلام الخليعة الماجنة, والصحف المنهارة التي تبث السموم, وهذا سوء وراثة يبتلي الله عز وجل بها بعض الناس, فمن أراد أن يحفظه الله في أبنائه فليخف من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, وليحفظ الله, فإن أهل الكنز الذين في سورة الكهف حفظ الله عليهم كنزهم، فقال: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82] قال ابن المسيب -رحمه الله تعالى-: انظر كيف حفظ الله الكنز لهؤلاء، وقال: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82] فلما كان صالحاً حفظ الله عليه أبناءه وكنزه, قال تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196] فكل من يتولى الله يتولاه الله في أهله وزوجته وأولاده ورزقه في مدخله ومخرجه حتى يلقى الله.(187/17)
تميز الصحابة بالخوف من الله
الصحابة ميزهم عن الناس خوفهم من الله تبارك وتعالى, ولذلك سلف في مناسبة أن عمر لما خرج إلى بيت المقدس تلقته الجيوش الإسلامية, أتى ليفتح بيت المقدس ويأخذ مفاتيحه, فخرج المسلمون في جيوشهم بأبّهة وزينة وجمال وخيول وكتائب وجنود, فلما رآهم عمر رضي الله عنه وأرضاه ترك الطريق إليهم، وانحرف إلى طريق أخرى, فلحقه أبو عبيدة فوجد عمر يبكي, فقال له أبو عبيدة: ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: [[ضيعنا والله، نسينا ما كنا عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم]] ثم قال لـ عمرو بن العاص: ما لك يا عمرو؟ قال: يا أمير المؤمنين! جمعت الجيوش لأرهب بها أعداء الله, فيقول كلمته الخالدة التي يجب أن نحفظها وأن نرددها كثيراً يقول عمر: [[نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]] ولذلك من اعتز بغير التقوى أذله الله, ومن اعتز بمنصبه ونسي طاعة الله، أذله الله وأخسأه وحقره؛ لأن الله أخذ على نفسه أن من تواضع له رفعه, وأن من تكبر عليه وضعه.
فدخل عمر وخطب الناس في الجابية ثم دخل على أبي عبيدة في الليل, فقدم له أبو عبيدة أقراصاً من شعير, فقال له عمر: أما لك طعام غير هذا؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، العطاء الذي نأخذه منكم ننفقه في سبيل الله, فأخذ عمر يبكي! فلما أتى النوم قدم له شملة فالتحف نصفها عمر وافترش نصفها وأخذ يبكي، ويقول: [[غيرتنا الدنيا إلا أنت يا أبا عبيدة]] عمر -رضي الله عنه وأرضاه- بإمكانه أن يفعل كما يفعل من سبقه من ملوك كسرى وقيصر وأن يستخدم الدنيا, ولكن خاف موعود الله ولقاءه.
مرّ عمر بـ جابر بن عبد الله كما في ترجمته, فوجد عنده لحماً, فقال لـ جابر: [[يا جابر! ما هذا الذي معك؟ قال: يا أمير المؤمنين! لحم اشتهيته فاشتريته, قال: كلما اشتهيت اشتريت؟ والله إني أملك الذهب والفضة وأنفقها في سبل الخير، وإني أعلمكم بلباب البر وبصغار الماعز وبنسل العسل, وكنت أخلط هذا بهذا ثم آكله، ولكن أخشى أن أعرض على الله يوم القيامة فيقال لي: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20]]].
من أين تعلم عمر مخافة الله؟
تعلم من كتاب الله عز وجل ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في صحيح البخاري: {أنه دخل رضي الله عنه وأرضاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة قال: فدخلت فوالله ما رأيت في المشربة ما يلفت النظر إلا شيئاً من شعير في قطف, فدمعت عيناي, فقال صلى الله عليه وسلم: ما لك يا عمر؟ قلت: يا رسول الله! -وكان جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثر فيه الحصير- هذا كسرى وقيصر يتمتعون بما يتمتعون به وأنت رسول الله، والله فضلك على الناس في هذا العيش؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: أفي شك أنت يـ ابن الخطاب؟ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟} فمن رضي بموعود الله وبحكم الله فليرض بطاعة الله, فوالله لساعة واحدة يجلسها المؤمن في مثل هذا المجلس والمسجد يذكر الله فيها ويتصل به سُبحَانَهُ وَتَعَالى لهي خير ممن ملك ألف سنة وسنة في الدنيا وغير الدنيا؛ لأنها ذاهبة, قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
ولذلك ذكروا أن عثمان رضي الله عنه وأرضاه حضر المقبرة ورأى إنساناً يقبر، فبكى حتى غشي عليه وحمل إلى بيته صريعاً, فقالوا: نراك تقرأ القرآن ولا تبكي! وتذكر ببعض الذكريات ولا تبكي، فإذا رأيت القبر انصرعت, قال: سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار}.
ولذلك يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: [[ما أحسن ظواهركم! -أي: ما أحسن ظواهر القبور- ولكن ليت شعري ما في بواطنكم]] المصائب الحيات والعقارب داخل القبور, تبدو القبور لنا مزينة مجملة هامدة ساكتة, ولكن ليت أخبارنا مع أخبارهم, يقول علي رضي الله عنه وأرضاه وهو يسلم على المقابر، قال: [[ألا أخبركم عنا لتخبرونا عنكم؟ ثم قال: أما أخبارنا فعدنا من بعد أن دفناكم، فأما البيوت فسكنت, وأما الزوجات فتزوجت، وأما الأموال فقسمت, فما هي أخباركم؟ ثم بكى وقال: سكتوا ولو نطقوا والله لقالوا: تزودوا فإن خير الزاد التقوى]].
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الموت نبنيها
فاعمل لدار غدٍ رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها(187/18)
أسباب الخوف من الله
والأمور التي تحدث الخوف عند المؤمن من أربعة أمور, إذا تذكرها وتدبرها أحدثت له رقة وذكرته موعود الله عز وجل, ولقاء الله:(187/19)
زيارة المقابر
فإن فيها الأولاد والأحفاد والأجداد, وفيها الأحباب والأصحاب والأصدقاء.
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلّ الردى مما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخرب
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في سنن الترمذي: {زوروا القبور فإنها تذكركم بالآخرة} ويقول عليه الصلاة والسلام وهو يزور المقبرة: {السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية, اللهم لا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم}.
فزيارة القبور لما تركت أو قلل منها قست القلوب, ونسي الإنسان مع بهرج الحياة قصورها ودورها وسياراتها وعماراتها ومناصبها فجف القلب وقسا! فأعظم ما يذكر وما يحدث الخوف زيارة القبور, ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام وهو يزور مقبرة بقيع الغرقد في المدينة: {ليهنكم -يا أهل بقيع الغرقد - ما أمسيتم فيما أمسى فيه الناس, فتناً كقطع الليل المظلم -أي: أقبلت- يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً, ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً, يبيع دينه بعرض من الدنيا} نعوذ بالله من ذلك, ونسأل الله العافية, فأولها زيارة القبور، والوقوف عليها طويلاً، وهي للرجال وليست للنساء, فإن النساء منهيات في شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة المقابر, ويكفي المرأة أن تتذكر الموت في بيتها, وأن تتذكر موعود الله ولقاءه في بيتها, لتلقى ربها وهي سليمة مبرأة من كل ما يصرفها عن الله تبارك وتعالى.
وقد زار الصالحون كثيراً المقابر, يقول مطرف بن عبد الله بن الشخير في سيرته وهو من الصالحين الكبار: [[كنت آتي من بادية البصرة إلى البصرة لأصلي الجمعة في جامع البصرة، فكنت آتي قبل صلاة الجمعة بليلة، فإذا أتيت في الليل مررت المقابر، فسلمت عليهم ودعوت لهم كثيراً, إلا ليلة من الليالي مررت وكان المطر نازلاً وكان الليل بارداً فذهبت إلى بيتي وما وقفت على المقبرة ولا دعوت ولا سلمت, قال: فنمت تلك الليلة، فرأيت رجلاً من أهل المقابر يكلمني، ويقول لي: يا مطرف! أحرمتنا هذه الليلة من الدعاء والله الذي لا إله إلا هو، إن الله ينور علينا مقابرنا أسبوعاً كاملاً بدعائك]] فهم من أحوج الناس, فقد انقطعوا عن الأعمال وعن الصلة، وانقطعوا عن الأصحاب والأخلة والأحباب، وبقي لهم الدعاء منا, ومن دعى لقريبه أو حبيبه أو لأي مسلم وقد مات وصله ذلك ونفعه, وهم في أحوج الحاجة مرتهنون بأعمالهم.
خرس إذا نودو كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلال مطلق
فالموت آت والنفوس نفيسة والمستعز بما لديه الأحمق
فهم مرتهنون لا يكشف ضرهم ولا بلواهم إلا الحي القيوم, لا أنيس لهم إلا ما قدموا, ولذلك يقول محمد بن واسع: مررت بمقبرة، وقلت: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فسمعت هاتفاً من المقابر يقول: يا محمد بن واسع! تزود منها فوالله لو تعلمها لأخرجتها مع أنفاسك, لقد حيل بيننا وبين لا إله إلا الله فما نستطيع أن نقولها.
من يصلي عنك إذا لم تصلِ في الحياة؟ ومن يصوم عنك بعد أن تموت؟ ومن يتصدق عنك؟ ومن يحسن خلقه عنك؟ ومن يبذل الخير عنك؟ لقد انقطع العمل وبقي الدعاء.(187/20)
تذكر الموت دائماً وأبداً
كلما أصبح العبد أو أمسى, وكلما آوى إلى فراشه عليه أن يتذكر الموت دائماً، تقول فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه: كان عمر إذا أوى فراشه تقلب كالطائر الخائف من البرد, فقالت: يا أمير المؤمنين! لم لا تنام؟ قال: كيف أنام، وقد ذكّرني هذا الفراش القبر؟ تذكر القبر فما استطاع أن ينام, وقال الذهبي عن سفيان الثوري رحمه الله: ثبت عنه أنه قرأ: {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2] من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر, فإذا أتى لينام يقول: [[كيف أنام والقبر أمامي؟]].
فيا عباد الله! تذكروا الموت دائماًَ وأبداً, وذلك بقراءة سير الصالحين وأخبارهم, وأعلامهم في الكتب, وسماع المحاضرات التي تدعو إلى ذلك, وقراءة كتب الرقائق, والجلوس مع الصالحين الذين يذكرونك بموعود الله سبحانه وبلقائه.(187/21)
تذكر أن الله شديد العقاب
ومما يدعو إلى مخافته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: تذكر أنه شديد العقاب, وأنه إذا أخذ لم يفلت, وأنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إذا انتقم انتقم انتقاماً قوياً, ولذلك يقول عمر وقد كتب لبعض عماله: اعلم أن الله شديد العقاب فهل نسيت ذلك؟ ويقول عمر بن عبد العزيز لـ عدي بن أرطأه: [[يا سبحان الله! ما الذي أذهلك حتى ظلمت واعتديت، أما مررت على المقابر؟ أما علمت أن الله شديد العقاب؟]].
يقول ابن تيمية: القلب بيت الرب, ولا يمكن أن يصح هذا البيت ولا أن ينقى ولا أن يصدق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلا كلما لاحظت أن الله ينظر إليك.
كان الإمام أحمد إذا دخل بيته تربع وهو وحده وجلس خائفاً متخشعاً, فقالوا: ما لك تجلس مع الناس ولا تخشع، وإذا جلست وحدك خشعت؟ قال: يقول الله: {أنا جليس من ذكرني} كيف لا أتأدب معه تبارك وتعالى؟
هذا من أعظم ما يلاحظ مخافته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, أن يلاحظ المؤمن عين الله عز وجل ومراقبته, وإن لم تكن تراه فإنه يراك.
إذا علم هذا، فاعلموا -بارك الله فيكم- أنه قد صح في أحاديث أن الله عز وجل إذا حاسب العبد يوم القيامة يدني سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كنفه من كنفه, أي: كنفه من كنف عبده, فيحاسبه ويقرره بذنوبه، فإذا رأى العبد أنه هلك أو أنه على شفير هلاك, قال الله عز وجل: {يا عبدي! أما خفتني في يوم من الأيام في الحياة الدنيا؟ فإن كان خافه العبد نجى وسلم بإذن الله وإن لم يكن هلك}.(187/22)
أسباب عدم مخافة الله
وذكر بعض أهل العلم من أهل السير والسلوك والآداب, أن أسباب عدم مخافته سُبحَانَهُ وَتَعَالى تكمن في أربعة أسباب, فإذا توفرت هذه فقد نسي العبد ربّه ومولاه تبارك وتعالى, وأصابته الغفلة وارتكب الشبهة والشهوة, وضل قلبه في أودية الدنيا, هذه الأربعة هي سبب عدم مخافته تبارك وتعالى, وينظر بعض الناس إلى بعض, فيجدهم يفجرون ويرتكبون الأخطاء مثل الجبال ثم لا يحسون بمخافة, ولا بقلق, ولا بندامة, ولا بتوبة, فيتفكر ويتأمل، فإذا هم مصابون بأربعة أو بواحد من هذه الأربعة:(187/23)
الغفلة
فإن الغفلة إذا رانت على القلب، طبعته فلا يمكن أن يكون مستقيماً ولا يعي الذكر ولا يفهم أبداً, وقد ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن لبعض الناس قلوباً لكن لا يفقهون بقلوبهم, ولهم أسماع لكن لا يسمعون بها, ولهم أعين ولكن لا يبصرون بها, يعيشون بها في الحياة الدنيا ولكن عليها الران, فهي لا تعرف ولا تفهم ولا تتلقن, ولذلك ذكر الله في القرآن الكريم قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37].
والناس كلهم لهم قلوب, لكن بعضهم له قلب حي وبعضهم له قلب ميت, فالذي له قلب حي فهو صاحب القلب, أما الآخر فلا.
قال تعالى: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
قال أهل العلم: أقفالها منها, فالغفلة إذا رانت على القلب أنسته موعود الله وذكر الله, تحدثه بالمواعد فلا يفهم ولا يعي ولا يعقل أبداً، طمس على قلبه وطبع عليه, وهذا لا يستفيق إلا -كما يقول ابن القيم - بسوطين، سوط الخوف من الله عز وجل, وسوط الرجاء, أن تخوفه وعود الله، وأن ترجيه فيما عند الله وأنه أحسن مما عنده هنا في الدنيا.(187/24)
المعاصي
فإنها أعظم ما يحجب العبد عن مولاه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, وهي الحجب {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] وكلما كثرت المعاصي رانت على القلب, أول ما تحدث الغين، ثم تحدث الران، ثم تحدث الطبع, فالطبع آخرها وهو الذي يصيب الكافر, والران يصيب الفاسق, والغين يصيب المؤمن, ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام -وهذا في صحيح مسلم -: {يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة} وفي رواية: {في سبعين مرة} , ويقول في حديث الأغر المزني: {يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإنه يغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم مائة مرة}.
أما الران فيقول سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] أي: تراكم عليها وحدث لها، وهذا يشمل الفاسق والكافر, وأما الكافر فإنه يتحد وينفرد بالطبع, وإذا طبع الله على القلب فلو تناطحت جبال الدنيا بين عينيه ما اتعظ أبداً, ولو وعظته بعلوم الأولين والآخرين ما سمع أبداً, فنعوذ بالله من الطبع.(187/25)
كثرة المباحات
وهذه التي وقعنا فيها جميعاً, التفاخر في الدنيا والتكاثر منها, والتوسع فيها وتقديمها على أغراض الآخرة وعلى مطالب الآخرة, ومطالب ما عند الله عز وجل, هذه من الأمور المضنية: كثرة المباحات من أكل وشراب وخلطة بالناس وملبوس ومركوب ومسكون كلها من الأمور التي تصد عن مخافة الله.(187/26)
ضياع الوقت
وأعظم ما يمكن أن يحاسب عنه العبد يوم القيامة ضياع وقته عند الله عز وجل, وكثير من المسلمين لا يحسبون للوقت حساباً, يحسبون الدرهم والدينار, لكن تذهب الأيام والليالي فلا يتفكرون فيها أبداً, ولذلك يقول جل ذكره: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:115 - 117].
فعلم أن المحاسبة تكون على الوقت يوم القيامة, ولذلك يقولون: أتعس من يقف يوم العرض الأكبر على الله رجلان: رجل منحه الله عز وجل وقتاً وأصح جسمه فلم يستخدمه في طاعة الله, ورجل طوله الله عز وجل وخوّله في الدنيا فأخذ فسعى في الأرض ليهلك الحرث والنسل, وفي صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: {لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسئل عن أربع وذكر منها: الوقت -العمر فيما أبلاه وفيما صرفه-} الحديث.
ولذلك يقول ابن عباس كما في الصحيح: يقول عليه الصلاة والسلام: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} وأعظم ما يستغل الوقت فيه بعد أداء الفرائض ليس أداء الفرائض كما نؤديها ونشكو حالنا إلى الله ونستغفر الله من ذلك, لكن أداء الفرائض بمعنى أداء الفرائض, يقول ابن تيمية وقد سئل: ما هو الحل لمرض الشبهات والشهوات؟ قال: أعظم ما يمكن أن يداوى به هذا المرض: أن تصلح الفرائض ظاهراً وباطنا, فأما إصلاحها في الباطن فأن تخلص قصدك وعملك لوجه الله عز وجل, وإذا نصبت قدميك في الصلاة أن تتذكر وقوفك أمام الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, فهذا إخلاصها في الباطن, وأما إخلاصها في الظاهر فأن تكون على سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام, وأن تكون مؤداة كما صح بها الحديث, فهذا إصلاحها باطناً وظاهراً.
وبعد الفرائض التزود من النوافل, وما سجد عبد لله سجدة إلا رفعه بها درجة, يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: يا عجباً لمن عرف أنه سوف يموت كيف لا يجعل كل نفس من أنفاسه طاعة لله! ويقول: لقد صح في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم يقول: {من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة} وهذا في سنن الترمذي، فيقول: يا سبحان الله! كم يفوتنا من النخل لا نسبح الله, إذا علمت أن من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة, فأي وقت يذهب وأي ساعات تسير؟!
ولذلك استحضر كثير من أهل العلم منهم ابن رجب في جامع العلوم والحكم أهل الطاعة, وقال: إنما حملهم على الطاعة المخافة من الله, حتى ذكروا أن خالد بن معدان كان يسبح في اليوم مائة ألف تسبيحة, ذكره في قوله عليه الصلاة والسلام: {لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} قال: فلما أتوا به في المقبرة حملته الملائكة من أيدي الرجال, ذكره ابن رجب بسنده, وقال: ورؤي في المنام، فقالوا: ما فعل الله بك؟ قال: رفعني في عليين, قالوا: بماذا؟ قال: بكثرة ذكري له في الحياة الدنيا! فقل لي بالله: أي تعب يحدث على المسلم إذا حفظ وقته بالذكر؟
سئل ابن تيمية -في المجلد العاشرمن الفتاوى - سأله أبو القاسم المغربي: ما هو أعظم عمل تدلوني عليه بعد الفرائض؟
قال رحمه الله: لا أعلم بعد الفرائض أعظم ولا أحسن ولا أفيد ولا أنفع من ذكر الله عز وجل، وهو أسهل العبادات وهو شبه إجماع بين أهل العلم, ولذلك يقول جل ذكره: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
ويقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].
فإني أوصيكم ونفسي بحفظ الوقت بذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, فهذه عوامل المخافة إن كنا صادقين أن نخاف من الله عز وجل.(187/27)
علامات الصدق في الخوف
وعلامات الصدق في المخافة أربع علامات:(187/28)
أن يستوي ظاهر العبد وباطنه
يستوي الظاهر والباطن فيكونا سيان, لا يكون ظاهره خير من باطنه, خاشع أمام الناس، لكنه متهتك في حدود الله في الخفاء, فنعوذ بالله من ذلك, وفي الترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: {يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ليكونن أقوام يظهرون للناس التخشع يلبسون للناس جلود الضأن من اللين, ألسنتهم أحلى من العسل, وقلوبهم أمر من الصِّبر, فبي حلفت لأنزلن فتنة تدع الحليم حيران، أبي يغترون أم عليّ يجترءون؟} فنعوذ بالله أن تكون ظواهرنا جميلة ولكن بواطننا خبيثة, فإن هذا هو المصيبة وهذا عدم المخافة منه تبارك وتعالى.(187/29)
أن يكون العبد صادقاً مع الله عز وجل في جميع أحواله
والصدق ليس في القول فحسب, قال أهل العلم: الصدق على ثلاثة مراتب: صدق في الحال, وصدق في الفعال, وصدق في المقال.
فصدقك في المقال: ألا تتكلم إلا بصدق؛ لأن من تذكر لقاء الله لا يكذب أبداً.
وصدقك في الحال: أن تكون حالك كحال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, على الكتاب والسنة.
وصدقك في الفعال: أن تكون فعالك تطلب بها مرضاة الله عز وجل, فالذي يطلب بفعله الرياء والسمعة يذهب الله بها في الدنيا والآخرة.
وصح في صحيح مسلم عن شفي الأصبحي قال: دخلت على أبي هريرة وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فقلت: أسألك بالله -يا أبا هريرة - أن تحدثني حديثاً سمعته أنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: والله لأحدثنك حديثاً سمعته من رسول الله عليه الصلاة والسلام, ثم بكى حتى نشق -أي: غشي عليه- ثم استفاق، فقال: سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: {أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة, عالم علمه العلم -قارئ قرأه الله كتابه- فيقول الله: ألم أعلمك العلم؟ قال: بلى يا رب, قال: ماذا فعلت؟ قال: تعلمت فيك وعلمت, قال: كذبت! ولكن تعلمت ليقال: عالم، وقد قيل, خذوه إلى النار, فيجرونه على وجهه حتى يلقى في النار} ثم ذكر الجواد والشجاع الحديث, قال شفي الأصبحي: فدخلت على معاوية فعلمته بهذا الحديث وكان على كرسي له وهو خليفة, فوقع على وجهه على الأرض يبكي وقال: صدق الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].(187/30)
الندم على السيئة والفرح بالحسنة
خطب عمر الجيش رضي الله عنه وأرضاه فقال: [[أيها الناس! من سرته حسنته وساءته سيئته فهو المؤمن]] فإن سرتك الحسنة؛ تصدقت بصدقة, صليت ركعتين, ذكرت الله كثيراً, فانشرح بالك، وارتاحت نفسك، فاعلم أنك مؤمن, أسأت أخطأت اغتبت نظرت منظراً لا يجوز, ثم ندمت وحاسبت نفسك، فاعلم أنك مؤمن إن شاء الله, قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136].(187/31)
أن يكون يومك خير من أمسك وغدك خير من يومك
فمن ترقى في العبادة والصدق فهذا علامة الصدق والمخافة, ومن كان أمسه خير من يومه، ويومه خير من غده، فإنما هو يمشي القهقرى وقد دخله كذب في العبادة.
فعلينا أن نصدق مع الله عز وجل في المخافة, والذي أدل نفسي وإياكم عليه كما أسلفت آنفاً: قراءة السير، وسماع أخبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنهم خير جيل أخرج للناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, ربَّاهم صلى الله عليه وسلم على سمع وبصر, وعلمهم وقادهم وفقههم فكانوا أخوف, وأعلم الناس بربهم تبارك وتعالى.
والخوف -بارك الله فيكم- كما سلف يستفاد في أمور, يقول ابن تيمية: حد الخوف -أي: تعريف الخوف أو المطلوب في الإسلام من الخوف- ما حجزك عن المعاصي فما زاد فلا يحتاج إليه.
وقال أهل العلم غير ابن تيمية: الخوف من الله عز وجل: أن إذا جلست وحدك تصورت كأن الله بارز للناس على عرشه.
وقال أحد الصالحين: الخوف كأنك تتلظى في نار جهنم، وكأنك أفلست حتى من لا إله إلا الله.
وقال غيره: الخوف أن تأتي بأعمالك وأنت قد خجلت من الله عز وجل كأنها ردت عليك جميعاً, لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
قال ابن عمر: [[وددت -والله- أن الله تقبل مني مثقال ذرة, قالوا: لماذا؟ قال: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] , قالوا: أتخشى وأنت تعمل الصالحات؟ قال: والله ما أخاف من الصالحات ولكن أخاف أن أعمل صالحاً، فيقول الله: وعزتي وجلالي لا أقبلها منك]].
ولذلك يقول الله عز من قائل في سورة الزمر: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].
كانوا يحتسبون أعمالاً صالحة لكن داخلها الرياء والنفاق والسمعة, فعادت إلى وجوههم وضرب بها وجه صاحبها؛ لأن الله عز وجل لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه وما كان صواباً على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك سجد عمر فسمع وهو يبكي في سجوده، ويقول: [[اللهم اجعلني عبداً لك وحدك]] وهذا من أحسن الكلام! اللهم اجعلني عبداً لك وحدك, فإن بعض الناس يعبد مع الله نفسه, ولذلك يقول أحد أهل العلم وأظنه ابن تيمية: الصوفي يعبد نفسه والمسلم يعبد ربه, بعض الناس ولو بلغ في التصوف والتقشف والزهد مبلغاً لكنه عبد نفسه، كأنه يقول: انظروا إليّ.
! أنا زاهد أنا عابد فعبد نفسه مع الله.
وبعض الناس يعبد الدرهم والدينار والريال فيجعله معبوداً من دون الله تبارك وتعالى فيكون عبداً له.
وبعضهم يعبد الزوجة, أو الوظيفة, أو الشهرة, فنسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن نكون عباداً له وحده, ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في كتاب الجهاد من صحيح البخاري: {تعس عبد الدرهم والدينار، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش} فالعبد كل العبد الذي يكون عبداً لله وحده, في مقاله وحاله وفعاله.
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن نكون عباداً له مخلصين صادقين، وأن يرزقنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مخافته وخشيته, وأن يجعلنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في السراً خير من العلن, وفي الباطن خيراً من الظاهر, وفي الخلاء خيراً من الجلاء, فإنه القدير على ذلك.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا, وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا, اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة, ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(187/32)
شباب الأمس واليوم
إن واقع شباب الأمة الإسلامية اليوم واقع مؤلم، وإذا نظرنا إلى واقع شباب سلف الأمة وما كانوا عليه من عزة ومجدٍ وهمة عالية؛ نجد شباب هذا الزمان في الحضيض، حياتهم حياة اللهو والطرب والأكل والشرب والمعصية، نجده يعاني من كثير من المشكلات مثل: التفريط في صلاة الجماعة أو ترك الصلاة، ويعاني من رفقاء السوء، وضياع الوقت، وعدم الاهتمام بالعلم الشرعي.(188/1)
أقسام الناس في العطلة
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض، جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير.
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، ونصر دين الله، وبذل نفسه في سبيل الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً:
زيادة المرء في دنياه نقصان وربحه غير محض الخير خسران
وكل وجدان قوم لا ثبات له فإنما هو في التحقيق خسران
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
اللهم رب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
هذا دعاء رسولنا عليه الصلاة والسلام في كل ليلة، والمسلم يحتاج في كل دقيقة، بل في كل لحظة إلى هداية من الله الواحد الأحد، ونحن في حياتنا، وفي دراستنا، ووظائفنا، وتجارتنا، وأعمالنا نحتاج إلى هداية من الله تبارك وتعالى.
وقد اقتربت العطلة الصيفية أو العطلة الربيعية أو الإجازة الفصلية، اقتربت من شبابنا وكل شاب في ذهنه تصور كيف يقضي هذه العطلة.
وهم على قسمين اثنين:
القسم الأول: على ما اعتاد من الضياع، واللهو، والغواية، واللعب، صمم تصميماً جازماً وأكد تأكيداً بالغاً أن يقضيها في النزهات واللغو، والمرح، واللهو، واللعب، وهذه عادته في عمره ينهيه في كل معصية، وفي كل مباح مترف، وفي كل لغو ولهو.
القسم الثاني: نظر الله إلى قلوبهم فرأى ما فيها من الصلاح والصدق والاستقامة، وقد صمموا أن يصرفوها في مرضات الله الواحد الأحد، وهؤلاء شباب عرفوا أن الإجازة من أعمارهم وأنها من أوقاتهم: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
ولهؤلاء شكر وثناء، ولأولئك دعاء مع هؤلاء، نسأل الله أن يثبت هؤلاء وأن يصلح أولئك.(188/2)
قضايا الشباب ومشكلاتهم
شبابنا يعانون من مسائل، ومشكلات الشباب ومعاصيهم وحوادثهم تتلخص في أربع قضايا:(188/3)
التفريط في صلاة الجماعة
القضية الأولى: التفريط في صلاة الجماعة -إلا من رحم ربك- التي ما تركها صلى الله عليه وسلم وهو في مرض الموت، صلاة الجماعة التي طعن عمر بن الخطاب وهو يتلهف عليها، صلاة الجماعة التي يقول أحد السلف فيها وهو في مرض الموت وقد سمع المؤذن يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح، احملوني إلى المسجد، قالوا: أنت مريض، قال: لا إله إلا الله! أسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لا أجيب المؤذن؟! لا والله.
فحملوه فقبض الله روحه في السجدة الأخيرة.
صلاة الجماعة التي يقول عنها سعيد بن المسيب: [[والله ليس لي من عمل بعد لا إله إلا الله إلا أني لم تفتني تكبيرة الإحرام في الجماعة أربعين سنة]] وقال الأعمش: ستين سنة.
صلاة الجماعة التي من فقدها بلا عذر فقد فقد الإيمان والنور والاستقامة والهداية والسداد، صلاة الجماعة التي قصرنا فيها جميعاً -هذا المصلي فما أمر التارك- الأب يخرج من بيته ووراءه الستة والسبعة من أهله ولا يأمرهم بالصلاة، أنا أسكن في حي مكتظ بالسكان لا يصلي معنا الفجر إلا صف أو صف ونصف أو صفان، والحارة ممتلئة ومكتظة بالمسلمين وبالموحدين، فماذا نقول لربنا غداً إذا تركنا أطفالنا وأبناءنا وشبابنا وراءنا؟ كيف يصلح الحال وصلاة الجماعة معطلة؟ كيف ينتهي الشاب عن الفواحش وما ذاق صلاة الجماعة؟ كيف يهتدي الشاب؟ كيف يسلم من المخدرات وهو لم يعرف المسجد؟ كيف ينجو من الجرائم وما دله أبوه ولا أمه على المسجد؟
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] صلاة الجماعة حياة.
وقد شيدنا المساجد ووسعناها لكن لا يعمرها إلا القليل من الناس.
وجلجلة الأذان بكل حيٍ ولكن أين صوت من بلال
منائركم علت في كل ساحٍ ومسجدكم من العباد خالِ(188/4)
قرناء السوء
القضية الثانية: وهذا المشكلة تأتي من قرناء السوء، وهم قومٌ علم الله من قلوبهم الخبث فأخرهم، قوم لا أفلحوا في الدين ولا في الدنيا، قوم رسبوا في الدراسة، وفشلوا في الوظيفة، وتقهقروا في العمل، فجلسوا على الأرصفة يصدون عن سبيل الله.
تجارتهم ورقة البلوت، وأغنية، وموسيقى، ومسرحية، وغيبة، ونظرة آثمة، يصدون عن منهج الله، يتلقفون شباب الإسلام، نراهم إذا ذهبنا إلى المسجد جلسوا على الأرصفة، أهذا جزاء الجميل من رب الجميل؟
أنعم علينا بنعم، أفيكون هذا الجزاء؟
أهذا جزاء الشكر والعرفان؟
شباب أمهلهم الله في أعمارهم، وأصحهم في أجسادهم، وجدوا المال رخيصاً، أب يدفع لابنه، وهذا الابن في كل مكان ليس وراءه عمل ولا دراسة، بل معه شيطان يؤزه إلى كل معصية، فوجد سيارة فاخرة، وفلة واسعة، ولباساً ومأدبة، ودراهم متوفرة؛ فهتك الأعراض، وصد عن سبيل الله، وتعرض لشباب الإسلام يحملهم في سيارته إلى المنتزهات اللاغية، والأماكن اللاهية، إلى كل معصية، فأين الأب الحصيف؟ وأين الآمرون بالمعروف؟ وأين الناهون عن المنكر؟(188/5)
ضياع الوقت
القضية الثالثة: ضياع الوقت:
والوقت غالٍ لكن عند غير المسلمين، والوقت رخيص عند المسلمين، الساعات الطويلة والسنوات المديدة يضيعها كثير من الشباب في اللهو واللعب، برنامجه اليومي من صلاة العصر في الغالب إلى العشاء لهو ولعب وخروج عن البيت، دوران في المدينة لا عمل ولا تجارة ولا وظيفة ولا كسب ولا تحصيل ولا طاعة، ثم يعود كالجثة الهامدة فيسهر مع زملائه إلى منتصف الليل، ثم يرمي بجسمه على الفراش بلا ذكر وتسبيح؛ وبلا تحميد وتهليل وبلا وضوء، ثم يلغي صلاة الفجر من برنامجه، فكيف يعيش هذا؟!
أيها اللاهي بلا أدنى وجلْ
اتق الله الذي عز وجل
واستمع قولاً به ضرب المثل
اعتزل ذكر الأغاني والغزل
وقل الفصل وجانب من هزل
كم أطعت النفس إذ أغويتها
وعلى فعل الخنا ربيتها
كم ليال لاهياً أنهيتها
إن أهنا عيشة قضيتها
ذهبت لذاتها والإثم حل
قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].(188/6)
عدم الاهتمام بالعلم الشرعي
القضية الرابعة: عدم الاهتمام بالعلم الشرعي والتحصيل، أصبحت الأمة -إلا من رحم ربك- أمة ثقافة سطحية، فتحولت من أمة الأصالة والعمق، من أمة قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام إلى أمة تعرف المعلومات العامة، والثقافة السطحية، علم يشترك فيه الكافر والمؤمن، الوثني والأحمر الروسي، والخواجة الأوروبي، يشتركون في الثقافة العامة، لكن أين التحصيل؟ أين الدروس؟ أين الحرص على الدراسة؟ أين حفظ المتون؟ أين تدبر القرآن؟ يا شبابنا! يا حفظة العقيدة: اسمعوا لمقارنة بين شباب السلف وشباب هذا العصر، إلا من رحم ربك.(188/7)
مقارنة بين شباب السلف وشباب الحاضر
شباب السلف نجومه: حمزة وأنس بن النضر وجعفر الطيار وابن رواحة وأسامة بن زيد وابن عباس وابن عمر.
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غابٍ إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون لقياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
الشاب عقبة بن نافع وعمره خمس وعشرون سنة يقف على المحيط الأطلنطي الذي ينفذ من أفريقيا إلى أوروبا، يقف موحداً مصلياً بسيفه يرفعه هكذا مع ظلال الشمس، ويقول: [[والله لو أعلم أن وراء هذا الماء أرضاً لخضت بفرسي هذا الماء لأرفع لا إله إلا الله محمد رسول الله]] فتح أفريقيا، شكر الله سعيه، ورفع منزلته، ليتك تدري من شبابنا منهم من بلغ الثلاثين والأربعين وهو لا يعرف لماذا أتى ولماذا يعيش، وإلى أين يسير؟ لاهٍ لاهي لم يعرف رسالته في الحياة.
جعفر الطيار حمل سيفه، وهو شاب في الثلاثين، وذهب إلى مؤتة في أرض الأردن، فترجل للمعركة ولبس أكفانه ورفع سيفه ثم قاتل قتال الأبطال، فقتل في سبيل الله.
جعفر الطيار ليله سجود وتسبيح، ونهاره جهاد ودعوة، أتى إلى مؤتة فقطعت يمناه، فأخذ الراية باليسرى، فقطعت، فضم الراية فكسروا الرماح في صدره وأخذ يتبسم وهو يقدم إلى جنة عرضها السماوات والأرض ويقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
أنس بن النضر يقول: [[إليك عني! والله! إني أجد ريح الجنة من دون أحد]] فيضرب ثمانين ضربة فيموت في سبيل الله:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] فخلف من بعدهم خلف جعلوا بدل التلاوة الغناء، وبدل مجلس الحديث المسرحية، ومكان المصحف المجلة الخليعة، ومكان التسبيح التجارة، ومكان التهجد البلوت، ومكان التقوى الفجور، ومكان حفظ الوقت ضياع الوقت.
فيا رب! أعد هذه الأمة إليك، من ينصر لا إله إلا الله إذا تولى شبابنا؟ من يرفع لا إله إلا الله في الدنيا؟
يا مسلمون: عطلة الصيف تستغل إما في جماعات تحفيظ القرآن، أن تخطط لنفسك في عطلة الربيع، أن تحفظ ثلاثة أجزاء أو أربعة أو ما يشابهها مع الجماعة الخيرية.
فالمساجد ترحب، والأساتذة موجودون، أو مع المخيمات الإسلامية وأنا أقول لأصحاب المخيمات -وفقهم الله-.
اعتنوا بتربية الشباب على العلم الشرعي، وعلى كتب السلف، وعلى سيرة السلف، وأخلاقهم ومنهجهم؛ عل الله أن ينفع بكم وبمخيماتكم، وهناك شباب رأوا أن يحصلوا بأنفسهم العلم مطالعة ودراسة وحفظاً، نسأل الله لنا ولهم التوفيق والهداية.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله الجليل العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(188/8)
دعوى إسلام مايكل جاكسون
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
قالوا: أسلم مايكل جاكسون، قلنا: الحمد لله، قالوا: اهتدى، قلنا: ليس بعجيب.
قالوا: عرف النور، قلنا: كان في الظلام.
قالوا: أتى إلى الإسلام، قلنا: كان في الكفر.
قالوا: شهد أن لا إله إلا الله، قلنا: لو أنه لم يفعلها كان من أهل النار.
مايكل جاكسون يعرفه قطاع هائل من شباب العالم، القارات الخمس يعرفون هذا الرجل، فنان وما أدراك ما الفنان! مغنٍ وما أدراك ما المغني! أعطاه الله موهبة فصرفها إلى اللهو واللغو والإعراض، ثم منَّ الله عليه كما قالت بعض وكالات الأنباء والصحف، وأوردتها عكاظ في رواية صحيحة، أنه قد أعلن إسلامه، وأنه قد شهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، رجل يأتيه آلاف مؤلفة من الناس ليحضروا حفل الغناء أو الأمسية التي يحييها، رجل تتبارى الشركات والمؤسسات بالملايين على أخذ صورته للدعاية على السيارات والعلب والمخترعات، ولكن فجأة ينفجر داخله على الفطرة فينطق لسانه: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
فـ جاكسون كان غربياً كافراً، ثم أسلم.(188/9)
دروس من إسلام الفنانين
وهنا ثلاث مسائل:
الدرس الأول: ليس عجيباً أن يسلم، وليس عجيباً أن يؤمن، فقد قال الله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] وقال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر:4] فمالهم لا يؤمنون؟! ويقول تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36] فماله لا يسلم؟!
السماء تشهد أن لا إله إلا الله، والأرض تشهد أن لا إله إلا الله، والماء والضياء والمدر والحجر والشجر.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحدُ
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحدُ
لماذا لا يؤمن؟
العجيب ألا يؤمن هذا الرجل، أساطين الدنيا، وعلماء الذرة الذين بلغوا سطح القمر، كثير منهم يتوجه اليوم إلى الإسلام والمسجد والمصحف؛ ليقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الدرس الثاني: من هو جاكسون قبل الإسلام؟ ومن هو جاكسون بعد الإسلام؟
أما قبل الإسلام فكان دابة، وقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] يبلغ الإنسان منهم إلى علم الذرة، وتسليط الضوء، وتسيير ذبذبات الأثير، ولكنه يبقى في مسلاخ حمار، قال الله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
كان قبل الإسلام دابة يأكل ويشرب، ويرقد ويغني، ويلهو ويلعب، ويعزف وينام، ويستيقظ ويسعى ولكنه دابة، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
وبعد الإسلام أحياه الله، قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] بعد الإسلام أصبح عبداً وولياً لله، أصبح مسلماً يعرف الدنيا والآخرة، والغيب والشهادة، والحاضر والمستقبل، يعرف من هو الله، ومن هو محمد عليه الصلاة والسلام، وما هو القرآن، وما هي القبلة، ويعرف الهداية قال الله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] أصبح عبداً وأصبح إنساناً، أسلم واعتزل الفن، وترك المسرح وقال للجماهير: معذرة أنا أسلمت ووقف يقول على الشاشات في العالم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).
الدرس الثالث: ماذا يقول الفنانون في بلادنا تعليقاً على إسلام جاكسون وما هي ردود الفعل عندهم؟ وما هو تعليقهم على هذا الحدث؟
هل يستمرون في مسيرة الفن والغناء والمجون والعشق والوله، أم سوف يراجعون حسابهم مع الله؟
ماذا يقول الفنانون في بلاد المقدسات ومهبط الوحي وبلاد محمد عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، أو في العالم الإسلامي عموماً، ماذا يقولون عن إسلام هذا الرجل؟
أيقولون: إنه اهتدى، فيوم اهتدى ترك الفن، فلماذا لا تتركون الفن؟
أنتم لا زلتم في الظاهر مسلمين ولا نكفر أحداً بذنب مالم يستحله.
لكن أإسلام ترك الصلاة أو تأخيرها أو الأعراض عن القرآن والذكر وطلب العلم والدعوة والمراقبة والخشية؟
أإسلام العود والكمنجة والخوذة؟
أإسلام تدريب الناس على العشق والتزلف للزنا، وإيجاد الفراغ الذهني في العقول، وغرس الإبر من العشق في قلوب ناشئتنا؟
أإسلام تغزل الفنان بامرأة لا تحل له؟
أإسلام يُوجد في الأمة فراغاً هائلاً يسد بالغناء وبالتراهات وبإحداث العشق؟
يا أيها الفنانون: راجعوا حسابكم مع الله، وتوبوا إلى الله من الفن المغرض المقيت.(188/10)
توبة بعض الفنانين
وقبل أيام أربعة فنانين من بلادنا أعلنوا: أن المسجد خير من المسرحية، وأن القرآن خير من العود، وأن ذكر الله خير من الغناء، وأن محمداً عليه الصلاة والسلام أفضل قدوة، وأن النور في طريقه، وأن من لم يركب في سفينته غرق ولعن وطرد من رحمة الله، فأتوا وتابوا وأحدهم تبرأ من كل شريط له في الساحة، وأنتم تسمعون به اسمه عودة العودة هذا تبرأ من كل أغنية له، وأخذ المصحف يرفعه ويقول: بقية عُمُري مع هذا الكتاب.
نقول: أحسنت كل الإحسان، وأصبت كل الإصابة، وسلك الله بك طريق الخير، وهكذا ينبغي أن يكون المسلم؛ لأنك مسلم في بلد مسلم في أرض مسلمة، يريدك الله لمهمة عظيمة؛ وهي العبادة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، وفلسطين، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم اجمع كلمتهم، اللهم أنزل السكينة في قلوبهم.
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان واجعلهم من الراشدين، اللهم حبب إليهم الشريعة والسنة، وحبب إليهم محمداً عليه الصلاة والسلام.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(188/11)
قصة الإنسان الأول
آدم عليه السلام هو أبو البشر, ومنه خلقت حواء ليسكن إليها ولكن أين خلقا؟ وما هي قصتهما؟
ولماذا أخرجهما الله من الجنة؟
وما هو دور إبليس في هذه القصة؟
كل هذا وغيره ما ستعفرونه في هذه المادة.(189/1)
تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وحجة الله على الناس أجمعين، محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
ما زلنا نواصل المسيرة في تفسير كتاب الله عز وجل، ومعنا الليلة قصة أبينا آدم، قصة الخلق الأول، وسجود الملائكة له، وقصة الخطيئة.
يقول تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] فهنا قضايا هائلة، وأحداث عالمية عاشها آدم عليه السلام وسمعها الأنبياء والرسل والملأ الأعلى.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ} [البقرة:34] أي: كلفنا وأمرنا وتعبدنا الملائكة أن يسجدوا لآدم، وفي هذه الكلمة قضايا:(189/2)
حكم السجود لغير الله
ما هو هذا السجود الذي يريده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من الملائكة؟ وهل يجوز صرف السجود لغير الله؟
وفي الحديث الصحيح: {أن معاذاً أتى من الشام، فقال: يا رسول الله! رأيت العجم يسجدون لملوكهم، وأنت أولى أن نسجد لك، فقال عليه الصلاة والسلام: لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها, لعظم حقه عليها، ولكن لا يكون إلا لله} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وهي سجدة التشريف، فيوم تضع جبينك في الأرض على التراب يرفعك الله درجات.
ففي صحيح مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة}.
وفي صحيح مسلم أيضاً، عن ربيعة بن كعب وضبط ابن مالك الأسلمي قال: {قلت: يا رسول الله! أريد مرافقتك في الجنة، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود}.
فكلما سجدت لله رفعك، وكلما سجدت تحررت من العبادة لغير الله، من عبادة الوظائف والطواغيت والمناصب والدراهم والدنانير.
فهل هذا السجود الذي أمر الله به الملائكة هو السجود على الأرض مثلما نسجد في الصلاة؟
لأهل العلم قولان:
القول الأول: معناه الانحناء والخضوع, أي: يدهده رأسه ويخضع.
والقول الثاني: أن يسجد في الأرض, ويكون السجود لله ولكن تكريماً لآدم وإجابة لأمر الله تبارك وتعالى.
والرأي الثاني هو الصحيح.
وكان في شرع من قبلنا السجود للإكرام، قال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} [يوسف: 100] أما في شريعتنا فلا يسجد إلا لله ولا يسجد لعظيم مهما كان، ولا يُنحنى له فإن الانحناء محرم، وقد كان هذا موجوداً في الدولة العباسية، فإن من يقرأ تفسير ابن كثير وابن جرير والكامل لـ ابن الأثير، يجد قال: فدخل الوزير فقبل الأرض بين يدي الخليفة، ودخل الشاعر فقبل الأرض بين يدي الوزير.
وهذا كله أمر محرم, ليس في شرعنا الانحناء ولا الخضوع إلا لله الواحد الأحد.
وهنا قضايا أثارها ابن تيمية وابن القيم، وغيرهما:(189/3)
هل الملائكة أفضل أم بنو آدم
هل الملائكة أفضل أم بنو آدم أفضل؟
قال بعضهم: الملائكة أفضل لأنهم أقرب إلى الله، ولأن الله رفع أمكنتهم، ولم يجعل لهم شهوات، فإنهم عقول بلا شهوات، وابن آدم شهوة وعقل، والحيوان شهوة بلا عقل.
ومنها: أنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وكل من في السماء من الملائكة سجود إلى قيام الساعة:
ففي سماء راكعون، وسماء يسبحون، وسماء يحفون بالعرش، وهناك ملائكة لهم اختصاصات عجيبة مجالها في موضوع الحديث عن الملائكة.
واستدلوا بأدلة منها:
"أنهم يستغفرون لمن في الأرض" والفاضل يستغفر للمفضول، وليس العكس.
وقال قوم: بل بنو آدم أفضل -يعني الصالحين- لأنهم ركبت فيهم الشهوة وصارعوها، يعني الصالحين، أما الكفرة فلا يوازون بالحمير، أو الخنازير، أو الكلاب، فإنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.
والصحيح كما يقول ابن تيمية: العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات, أما في الدنيا فالملائكة أفضل لأنهم أقرب إلى الله، ولأنهم لا يذنبون أو يخطئون ولا يعصون الله، وأما في الآخرة، إذا قرّب الله بني آدم وأدخلهم الجنة - نسأل الله من فضله - أصبحوا أفضل من الملائكة.
وهذا الكلام عجيب:
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
وهذه المضايق لا يستطيع لها إلا ابن تيمية.(189/4)
كيفية خلق آدم
أولاً: خلق الله آدم من طين لازب، من حمأ مسنون، وقيل: من فخار، والطين اللازب هو الطين اللزج كالغراء، فلما خلقه الله تركه أربعين يوماً طيناً, تدخل الرياح من فمه وتخرج من دبره، وانظر إلى الخلق الضعيف، فهذه أصل النشأة، فالناس جميعاً من هذا الطين، ثم انظر إلى المتكبرين المتجبرين الذين لا ينظرون بعين البصيرة، وينظرون بعين البصر، يتيهون تيهاناً ويهيجون هيجاناً، وكأنهم ليسوا من ذاك الأصل.
وقد مر أحد وزراء بني أمية, وهو وزير متكبر متجبر, عنده بغلات وخيول وسيوف، وعنده حشم, مر والحسن البصري جالس، فقام له الناس إلا الحسن البصري، فالتفت الوزير وقال: أما عرفتني؟! قال الحسن البصري: لما عرفتك لم أقم، قال: من أنا؟ قال: أنت الذي خرج من مخرج البول مرتين -هذا وزير متجبر وهذا عالم- وأنت تحمل العذرة، وأصلك تعاد إلى جيفة قذرة، وأتيت من نطفة مذرة، فسكت كأنما أغشي على وجهه النار.
ودخل المهدي العباسي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقام الناس له جميعاً لأن حرسه يمتدون من آبار علي إلى الباب، وكان الخليفة هو أبو هارون الرشيد، فقام الناس في المسجد -طلبة العلم والعلماء والعامة- إلا ابن أبي ذئب المحدث الكبير لم يقم، بل ظل جالساً فسلم على الحضور ثم التفت إلى ابن أبي ذئب، وقال: مالك لا تقوم لنا وقد قام لنا الناس؟ قال: أردت أن أقوم لك، فتذكرت قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فادخرت هذا القيام لذاك اليوم, قال: كفى لقد قامت كل شعرة من رأسي.
حكى ابن كثير: عن طاوس بن كيسان المحدث تلميذ ابن عباس , قال: دخلت الحرم، فطفت ثم صليت ركعتين عند المقام ثم جلست أنتظر وأنظر في الناس.
فهو يتفكر في هذه الخليقة، وهي عبرة من العبر.
وسيد قطب يقول في الظلال: انظر إلى المطارات إذا كنت في انتظار أو في مغادرة, وانظر إلى الصالات والمستشفيات, واختلاف الصور والأبدان، اللمحات والنظرات كل واحد عالم مستقل في نفسه، هموم وأحزان وأفكار, شقي وسعيد، فقير وغني, سالم من الهموم، ومتورط في المدلهمات, فسبحان الباري!
ومع ذلك الله يراقب حركة كل واحد من الناس، كل يوم هو في شأن، لا تفعل من حركة ولا سكنة ولا خطوة إلا والله معك، كل العالم يموت هذا بعلم من الله، ويولد هذا بعلم من الله، ويمرض هذا بعلمه، ويشفى هذا بعلمه.
قال: فجلس طاوس يتلفت في الكعبة وإذا به يرى جلبة السلاح والحراب والرماح، فالتفت فإذا هو الحجاج بن يوسف، وهذا الحجاج بن يوسف الموت الأحمر، سفاك قتل مائة ألف بسيفه, رأى في المنام: أن القيامة قامت وأن الرحمن على عرشه بارز، وقد حاسبه الله فقتله بكل مسلم مرة، إلا سعيد بن جبير فقتله به سبعين مرة.
قال: فالتفت فإذا جلبة السلاح، قال: فسكنت مكاني، وإذا بأعرابي مسلم مؤمن بالله، يطوف بالكعبة فلما انتهى من الطواف أتى ليصلي ركعتين فنشبت حربة في ثيابه، فارتفعت ووقعت على الحجاج، فأمسكه الحجاج بيده، وقال له: من أين أنت؟ قال: من أهل اليمن، قال: كيف تركت أخي؟ قال: من أخوك؟ قال: محمد بن يوسف قال: تركته سميناً بطيناً، قال: ما سألتك عن صحته وسمنته وبطنته بل سألتك عن عدله؟ قال: تركته غشوماً ظلوماً، قال: أما تدري أنه أخي؟ قال: أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله؟!
قال طاوس: والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت.
وهكذا تكون أجوبة من عرف الله، وعرف أن الخلق ما هم إلا ذرة.
وقال ابن عبد الهادي في الدرر البهية: دخل ابن تيمية الإسكندرية، وهم يريدون سجنه، فأخرجوه من سجنه يريدون نقله إلى سجن آخر، لماذا يسجن؟ لتثبت لا إله إلا الله في الأرض، فهو يرد على المبتدعة والملاحدة والزنادقة والمعتزلة والجهمية والأشاعرة، فقال له أحد المبتدعة: والله، إن كل هؤلاء يطالبون بدمك ويريدون قتلك الآن، قال ابن تيمية: أتخوفني بالناس؟ ثم نفخ في كفه وقال: والله كأنهم ذباب.
فلما خلق الله آدم تركه أربعين يوماً، فكان يمر به الشيطان فينظر إليه وهو طين، فينفخ فيه فيجلجل نفخه فيه فعرف أنه ضعيف لا يتمالك، قال الله عز وجل: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] {وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11] {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] فهذه طبيعة الإنسان إلا إذا رتبها ونقاها وسيرها بالكتاب والسنة، فإنها تصلح بإذن الله.
فعرف أنه ضعيف ولذلك يستولي الشيطان عليه فيضعفه، فلما نفخ الله فيه الروح من روحه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا شرفٌ أحياه الله، فقال للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] لماذا؟
أولاً: ليمتحنهم للطاعة هل يطيعونه أم لا؟
ثانياً: ليرى من هم العصاة؟
ثالثاً: ليري الجميع فضل آدم عليه السلام.
فقاموا فسجدوا جميعاً إلا إبليس لأنه متكبر، فلماذا تكبر؟
قال ابن عباس: [[كان إبليس أعلم الملائكة]] لكن لم ينفعه علمه، بل زها وتجبر وافتخر, وقال في بعض الروايات التي أوردها ابن كثير وغيره: [[كان إبليس ملك السماء الدنيا]] فقال الله: (اسْجُدُوا) فأتى يعترض، يقول -انظر إلى الخبيث اللعين، عليه لعنة الله -يقول لرب العزة الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] أأسجد وأنا أشرف؟! عنصري من نار وعنصره من طين، والنار أشرف من الطين، فكيف تجعل النار تسجد للطين؟!
وهذه الكلمة هي بداية الخذلان واللعنة، وهذا الاعتراض سببه الكبر: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [البقرة:34] أي: امتنع، ولم يكتف بقوله: أبى, بل قال: واستكبر.
ولذلك أركان الكفر ثلاثة:-
الأول: الحسد.
الثاني: الكبر.
الثالث: الكذب.
فمن كان فيه كبر فقد أخذ ثلث الكفر وما عليه إلا الباقي، والكبر نميمة إبليس نعوذ بالله.
ومن علامات المتكبر: أنه لا يستفيد من غيره ولا يرى الفضل لغيره، ولا ينقاد للحق إذا عرفه، ويعرف بلفظه، فالمتكبر يسعل وليس به سعال، ويتنحنح وليس به نحنحة، ويطرق رأسه ليرى عظمته وليس عنده فكر ولاشيء.
قالت العرب عنه: "أحمق الناس المتكبر".
ولذلك أحمق الطيور الطاوس، لأنه متكبر عندهم، فهذا من الحمق.
ولذلك ذكروا لبعض الحمقى من السلاطين والكبار ما الله به عليم، سلطان من السلاطين كان وزيراً في خراسان عزل من منصبه فذهب إلى قرية من القرى ففرشوا له ملاحفهم وعمائمهم في الطريق لأنه أجزل إليهم بمال وهو في الوزارة، فالتفت إلى الناس وقال: لمثل هذا فليعمل العاملون.
ومرّ وزير من الوزراء العباسيين على الجسر -جسر بغداد - فوقف قبل الجسر, قالوا: مالك؟ قال: والله إني أخشى ألا يحمل الجسر شرفي وأن ينكسر بي في النهر.
وذكروا عن الحجاج بن أرطأة أحد المحدثين رحمه الله وهو ضعيف، روى له أحمد وأهل السنن لكن كان فيه تيه وزهو، وقد ذكر الذهبي له قصصاً منها: أنه دخل مجلساً فجلس في طرف الناس, قالوا له: اجلس في صدر الناس، قال: حيث ما جلست فأنا صدر.
وهذه من علامات الكبر التي أخذت من أصل ذاك العنصر أو أخذت بالاقتباس.(189/5)
تفسير قوله تعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ)
{إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].
قال المفسرون في قوله: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] حيث أنه لم يكن كافراً بأن معنى الآية: سيكون في علم الله كافراً: وقيل: {مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] لما سوف يصيرون - وهو الرأي الصحيح -.
فلما قال هذا القول ماذا فعل الله قبل أن يحرمه ويرجمه، وقبل أن يلعنه ويطرده؟ لا يزال هذا الشيطان مع آدم يلاحقه.
العجيب أن هذا القرآن على صغر حجمه أتى بالقضايا الكبرى والصغرى في العالم، وأنشأ العلميات ونوع النفسيات وبين القواعد الكلية والآداب والسلوك.
آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم
وبعد ما ننتهي من هذا سوف تأتي حرب النسف والإبادة على بني إسرائيل بعد آيات, ولننظر ماذا يقول الله في إسرائيل.(189/6)
تفسير قوله تعالى: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ)
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35].
فسجد الملائكة وأراد الله إكرام آدم فأسكنه جنة الخلد، وبعض العلماء كما أورد ابن القيم وغيره اختلفوا هل هي جنة في الأرض أم جنة الخلد؟ والصحيح أنها جنة الخلد.(189/7)
كيفية خلق حواء
وكان آدم عليه السلام لوحده، أبونا وأبو الجميع لم يكن معه أحد، فاستوحش، وجلس فارغاً والتفت يريد أن يجلس مع أحد لكن لم يجد، فالملائكة لهم جنس خاص والجن جنس خاص، يقول أبو عبد الله بن عتبة في الأشكال والأقران والأحباب:
تخذني خليلاً أو تخذ لك صاحباً خليلاً فإني مبتغ صاحباً مثلي
عزيز منالي لا ينال مودتي من الناس إلا مسلم كامل العقل
ولا يلبث الأخدان أن يتفرقوا إذا لم يؤلف روح شكل إلى شكل
فلا تأت بالطير مع الحمام أو الدجاج مع الحمام، أو تجعل البقر مع الغنم فهذا لا يصلح, فهذه فصائل ولا بد أن كل فصيلة -من حكمة الله- تكون مع فصيلتها.
فلما استوحش آدم عليه السلام نوّمه الله -كما يقول أهل التفسير- نومة، وأخذ من ضلعه الأيسر حواء.
فما أضعفنا! وما أهزلنا! وما أقلنا! وما أحوجنا إلى رحمة الله، إنسان هذا خلقه وهذه أمه، وهذا هو الخلق: طين لازب، ماء وطين، ويأخذ من الضلع الأيسر قطعة لحم ويخلق منها امرأة، ثم يأتي الإنسان، ويظن أنه واحد العالم وفريد العصر وأن الناس ليسوا بشيء, فيرتكب الكبائر ويأتي بكل ما عنى وخطر له، وينسى ذاك المنشأ.
فلما خلق الله حواء التفت آدم إليها بعد أن استيقظ فرآها بجانبه، فعرف أنها زوجته فسكن إليها: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] سكن وارتاح.
ولماذا سميت حواء؟
قالوا: لأنها من الحياة، والله أعلم.(189/8)
المنع من الأكل من الشجرة
ثم قال الله لهما: اسكنا في الجنة وتمتعا فيها, هذه قصورها وأنهارها وثمارها، وكلا مما لذ وطاب، لكن هذه الشجرة لا تأكلا منها، لماذا؟ إنه امتحان وابتلاء من الله، ليرى عبوديتهما، وصدقهما, وليرى إيمانهما.
ما هذه الشجرة؟
اختلف أهل العلم إلى أقوال: قيل السنبلة: البر: الحنطة تسمى الحنطة والبر والقمح وكلها أسماء لهذه السنبلة.
وقيل الكرم: العنب، وقيل: التين وهذا غير مهم كما قال ابن جرير؛ لأن الله لم يحدد لها اسماً بعينها, ولم يسمها لنا, ولم يأت بها قرآن ولا سنة فلماذا نتكلف؟
وأحب شيء إلى الإنسان ما منع منه, فإذا أدخلته غرفة مكيفة مفروشة, وعنده ما لذ وطاب من الطعام والشراب ثم قلت له: احذر! لا تخرج من هذه الغرفة وإن خرجت عاقبناك عقاباً أليماً، فيأتي فيتقهقر فيقول: منعني من الخروج, وحبسني في هذا المكان, حسبنا الله عليه! لكن اتركه, ولا تقل له: لا تخرج, بل قل: خذ راحتك وأنت مرتاح، فإنه سيأخذ راحته ولن يفكر في شيء, قال علي بن أبي طالب: [[لو منع الناس من فت البعر لفتوه]].
فأحب شيء إلى الإنسان ما منع منه, ولو منع الناس من فت البعر لفتوه، لو أتى حديث: "لا تفتوا البعر" سيقول الناس: لماذا؟ إن فيه سراً فلنجرب.
ولذلك الخمر التي تذهب العقل واللب وتفسد الأسر وتسبب التناحر بين الأقارب، وتقتل بها أمك وزوجتك, وترتكب بها الطامات، ومع ذلك يسافر لها بعض الذين لا يرجون لله وقاراً، ولا يخافون لله هيبة ولا رقابة إلى بلادها، بل بعض الناس بلغ الثمانين من عمره وهو يعاقر الخمر ويشربها, وقد ذهب لبه وعقله وإرادته.
وكذا الزنا، والنظر إلى المحرمات والغناء وأمثالها، وهذه هي التكاليف.
ولو كانت المسألة بلا منع ولا حذر, لم يكن هناك ابتلاء ولكان الناس في الجنة، وما عرف الطيب من الخبيث والمؤمن من الكافر.
فلما منعه الله أتى إبليس يوسوس له، فهذه هي العداوة.(189/9)
خلاف العلماء في كيفية دخول إبليس إلى الجنة
و
السؤال
كيف دخل معه إبليس الجنة؟
اتفقنا أنهم كانوا في السماء وخلق الله آدم في السماء، ثم أسجد له الملائكة ورفض إبليس, والآن جعل الله عز وجل آدم وحواء في الجنة, وإبليس في منأى, فلما حذرهم الله من الشجرة أتى إبليس يوسوس فأين وسوس؟
لأهل العلم ثلاثة آراء:
الأول: قالوا: دخل مطروداً محروماً، لكنه دخل يوسوس ولا تنعم, مطرود من رحمة الله لكن جعله الله يذهب، لأنه سأل أن يمهله ليحتنكن ذريته إلا قليلاً وينظره إلى يوم الدين فأنظره الله، فهو يدخل بلا حجاب ويدخل بلا حرس ويدخل عليك وأنت في السيارة والطائرة وهو معك يجري منك مجرى الدم.
الثاني: قالوا: أخذته الحية، حية سارقة مارقة ابتلعت إبليس ثم دخلت الجنة.
والثالث: قالوا: وسوس من بعيد لكن بواسطة الرادار والذبذبات الهوائية ووصلت الوسوسة.
والذي يرجح هو الرأي الأول أنه دخل مطروداً محروماً لكن أتى يوسوس.
ثم انظر إلى الخبيث قال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] فصدقه آدم, والآن: الإنسان يصدق إبليس ولو كان مؤمناً، فهو يأتيك.
فيقول: جارك لم يتكلم عليك بتلك الكلمة إلا لقصد في نفسه، قال: ما هو مقصده؟ قال: امتهانك واحتقارك وازدراؤك قال: صدقت ويذهب بسيفه وخنجره ويقاتل جاره.
وإذا غض شخص طرفه في السوق قال: أنت ما نظرت إلى السحر الحلال، ولو نظرت إلى الجمال نظرة واحدة حتى ترد نفسك بنظرة واحدة، فينظر النظرة فيكون هلاكه فيها.
والغناء: يسمع الأغنية الماجنة ويقول: الغناء حلال, والعلماء الذين قالوا بتحريمه ليس لهم دليل ثابت، اسمع وتمتع قليلاً وأنت ما ارتكبت شيئاً، هل هو شرب خمر أو زنا؟! استمعت أغنية، ويسمع الذي يقول: "هل رأى الحب سكارى مثلنا" فيسكر ثم يزني ثم يرتكب الفواحش ثم يتدهده على وجهه في النار.
فوسوس له، فآدم عليه السلام من حكمة الله -وكل شيء بقضاء وقدر- استمع لإبليس فأكل من الشجرة وأكلت حواء، فلما أكلا سقط اللباس الذي يواري عوراتهما, وهو عليهما من لباس الجنة وحسنها وحليها وبهائها, تناثرت في الأرض، لا إله إلا الله ما أزراه من موقف! هذا موقف المسكنة والذنب والخطيئة.
يقولون: يوسف عليه السلام لما هم بالمرأة وهمت به سمع هاتفاً يهتف ويقول: يا يوسف! لا تزن فإن من زنى كالطائر الذي عليه ريش نتف ريشه، وهذه مغبة المعصية.
انظر! كيف سلب الحياء والجمال والحلي وكل نعمة، وأصبح في موقف هو وحواء عراة، فأخذا من أوراق الشجر، عليهما السلام يخفيان عوراتهما من الناظرين إن كانوا ملائكة أو غيرهم، فأتاهما الخطاب مباشرة: {اهْبِطَا} [طه:123].
العصاة لا يجاورون الواحد الأحد، وهذه أعظم أمنية منينا بها, يقول ابن القيم:
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
يقول: نحن سبينا من الجنة, سبانا إبليس وأنزلنا في الأرض, فمتى نعود إلى أوطاننا؟! نحن أهل الأوطان والأنهار والقصور:
يا راقداً يرنو بعيني راقد ومشاهداً للأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي نزل النعيم وفوز خلد واحد
ونسيت أن الله أهبط آدماً من جنة المأوى بذنبٍ واحد
فكيف بنا نحن الذين أتينا بعشرات الذنوب؟!
قال: {اهْبِطَا} [طه:123] هذه الكلمة مأساة في تاريخ البشر، وهو الذي ارتكبها عليه السلام، وهي من قضاء الله وقدره فله الحمد أولاً وآخراً، وله الشكر ظاهراً وباطناً، ونسأله أن يعيدنا إلى تلك المنازل فإننا قد اشتقنا لها.
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
وانظر إلى الهبوط من العلو فأين وقعا؟ وقعا في أرض يابسة قاحلة, قال أهل العلم "عن ابن عباس: أما آدم فهبط في الهند وبيده غصن شجرة -وهذا خلق الله وإبداع الله في الكون، والله لن يتعرف الإنسان على الإنسان ولا على الكون ولا على آدم ولا على الحياة حتى يتعرف على هذا القرآن وهذا مذهل- هبط وبيده شجرة بـ الهند، وهبطت حواء بـ جدة بالفتح أو بالضم أو بالكسر.
سلام الله أرفعه إليكم بأشواقي وحبي والمودة
وأرفع من ربى أبها سلاماً لأهل الفضل من سكان جدة
قال السدي: هبط آدم على الصفا، وهبطت حواء على المروة، ولا يهمنا سواء هنا أو هنا.
فالمقصود: أن الله أهبطهما إلى الأرض.
أما آدم فأهبط بغصن شجرة فنزل هذا الغصن، فنبت بـ الهند فقالوا: "كل بخور وكل طيب يأتي فهو من آثار ذاك العود":
تضوع مسكاً بطن نعمان إن مشت به زينب في نسوة عطرات
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرّت في جوانبه بردا
فهذا من آثار عود (قطعة عود) كل الآثار التي ترد في العالم تغيرت بالماء والطين، فبقيت هذه الأطياب التي تباع في العالم من ذاك الغصن الصغير، فكيف بأطياب الجنة.
والآن يباع الرطل في بعض الأماكن النوع الغالي منه بسبعين وبثمانين ألفاً، وربما يزيد زيادات, وهناك طيب لا يستطيع شراءه إلا الملوك، وأما الطيب الذي يباع هنا بستين وثلاثين وعشرين، فهذا حطب عرعر وطلح، وهذا يمكن أن يكون من السودة والقرعى، ليس من الطيب المذكور المشهور، لكن ذاك على الرائحة والبركة والعافية.(189/10)
تفسير قوله تعالى: (وَكُلا مِنْهَا رَغَداً)
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] اسكن: لفظ فيه حبابة, ولم يقل: اجلس أو اقعد، لأن اسكن فيه من اليقين والطمأنينة والفرح والبشر ما الله به عليم: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً} [البقرة:35] والرغد هنا ليس إلا في الجنة وقد يطلق مجازاً في الدنيا يقال: عيش رغيد، لكن -والله- إذا سمعت من يقول: أنا في عيش رغيد مستمر فلا تصدقه، هل سمعتم أن أحداً استمر عشر سنوات في سعادة ما اهتم ما اغتم ما حزن وما قلق؟ لا والله.
هشام بن عبد الملك قال لوزرائه: تعالوا نحصر الأيام التي أتاني فيها السرور منذ توليت الخلافة، فحسبها فوجدها ثلاثة عشر يوماً، تصفَّى من الزلازل والنكود والفتن والمحن، استقر حاله، قال لوزرائه: لا جرم - لا ريب ولا شك - لأخلون غداً في بستاني وعلي الحراسة ولا يأتيني خبر, لأسعد من الصباح إلى المساء، قالوا: فخرج في بستان له في روضة دمشق وقال للحرس: لا تستقبلوا رسولاً موفداً ولا تأذنوا لأحد, ودعوني في هذا البستان يوماً كاملاً.
وهذا هشام كان من الخلفاء الذين ذهبوا إلى الله، فجلس في هذا المكان من الصباح فلما قرب الظهر وإذا هو بسهم فيه دم وقع بجانبه فرفع السهم فوجده طار من اثنين تقاتلا من خارج البستان وأتى إليه السهم، قال: ولا يوم واحد نسلم من المشاكل.
ولذلك لا تصدق، فهذه الدنيا حزن وهم، ولو قال الإنسان: أنا في سعادة، فربما هو مرتاح مع أهله, لكنه يموت ابنه ويمرض، وترسب ابنته وتُصدم سيارته، وتأتيه دواهي، ويأتيه جاره فيضربه بالفأس في رأسه.
يقولون: الثوب الخلق تهب الرياح من هنا فتمزقه، فإذا رقعت من هنا انشق من هنا فهذه الدنيا:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
يقول أبو الفتح البستي أحد العلماء:
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
يقول: الله أذن بخرابها وأنت تعمر.
فتجد الآن الشيخ الكبير عمره ثمانون سنة يمشي على العصا يزور قصره الذي يعمره وقد أخذ قرضاً من البنك ويعمر وينظر في القصر ويقول: "اجعل المجلس في هذا المكان، واجعل لنا حوشاً نتفرج فيه، تتفرج وعمرك ثمانون؟! بينك وبين القبر خمسة عشر سنتيمتراً، لكن العقول لا تذهب لذلك, يقول صلى الله عليه وسلم: {يشيب ابن آدم ويشب ومعه خصلتان: طول الأمل وحب الحياة} فترى الكبير متمسكاً بالدراهم أكثر من الشاب، إذا جاء يحاسب في البقالة أو في المطعم يعد الدراهم ثلاث مرات، ويستخير الله ويخاف أن يلصق الريال بالريال والعشرة بالعشرة، أما الشاب فيخرج الفلوس من هنا ومن هنا لكن الإنسان هكذا طبيعته ولا يعرف حقيقة الدنيا إلا من عرف الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك يتعجب كثيرا ويأتون الآن ويكررون على الناس وقالوا: يقول كسرة غرسها لنا آباؤنا فأكلنا وغرسنا لأبنائنا فيأكلون، وهذا ليس في الصحيحين ولا عند البخاري ولا عند مسلم، بل الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} وكان ابن عمر يقول: [[إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح]].
ويقول أبو الفتح:
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن سرور المال أحزان
والله، سلبوا من قصورهم وأنزلوا في قبورهم، كانت الجيوش أمامهم ميمنة وميسرة.
هارون الرشيد من منا لا يسمع بـ هارون الرشيد ? العجوز في نيسابور تسمع بـ هارون الرشيد أتته سكرات الموت فقال: أخرجوني أرى الجيش فأخرج - جيشه تسعون ألفاً, جيش جاهز للطوارئ- قال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه.
الوليد بن عبد الملك بنى قصوراً في دمشق لا يعلمها إلا الله, وهو الذي وسع المسجد النبوي، ووسع المسجد الأقصى وأتى بالمشاريع الهائلة، وبنى قصوراً وحدائق، هذا النهر يضرب في هذا النهر، فلما أتته سكرات الموت لبط وجهه في الأرض وضرب وجهه وقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:27 - 28] لكنهم لا يستفيقون إلا عند سكرات الموت.
عبد الملك بن مروان على ما فيه يوم حضرته سكرات الموت وسمع غسالاً بجانب القصر، قال: يا ليتني كنت غسالاً! ياليت أمي لم تلدني! قال سعيد بن المسيب: لما سمع هذه الكلمة: الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الموت ولا نفر إليهم, لماذا؟ لأن سعيداً عرف الطريق إلى الله وتهيأ للمنازل.
وهذا ميمون بن مهران - أحد الصالحين- حفر له قبراً في قعر بيته -في حوشه- فإذا أراد أن ينام توضأ ونزل في القبر وقرأ في القرآن، وخرج من القبر وقال: يا ميمون! قد عدت إلى الدنيا فاعمل صالحاً.
{وَكُلا مِنْهَا رَغَداً} [البقرة:35] الرغد: لا يكون إلا في الجنة، رغد لا هم لا حزن ولا تفكر في شيء, لا يبولون ولا يتغوطون رشحهم المسك، قلوبهم على قلب امرئ واحد، خلا من كل حقد وحسد وبغضاء، لا يخافون موتاً ولا جوعاً ولا هرماً، ولا يصيبهم سوء أبداً: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] فقربا الشجرة فظلما أنفسهما ونزلا إلى الأرض وتلقى آدم كلمات من الله، ولكن قبلها آية نتلوها ثم نستمع إلى الكلمات.(189/11)
تفسير قوله تعالى: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ)
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36].
خسارة للشيطان ونعوذ بالله من الشيطان، والحروز من الشيطان كثيرة:
أولها: أن تكون دائماً على طهارة، فالوضوء حصن حصين.
ثانيها: الأذكار، وخاصة آية الكرسي فهي تحرق الشياطين.
ثالثها: المعوذتان, وقل هو الله أحد.
رابعها: تهليل مائة تهليلة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وفي صحيح البخاري قال: {من قالها في يوم مائة مرة كتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له عدل عشر رقاب، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل بعمله أو زاد عليه}.
خامسها: ومن الحروز من الشيطان: أن تتبع أمر الرحمن: غض البصر حفظ الأذن حفظ اليد والفرج، فهذه من الحروز.
سادسها: بعض الآيات في القرآن وهي كثيرة أوردها أهل العلم، لكن من اهتدى هداه الله وسدده.
سابعها: ومن الحروز أنك إذا غضبت ألا تتكلم؛ ليزيل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عنك وسوسة الشيطان.
والشيطان من الجن، وبعضهم يقول: من الملائكة, لكن قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] هذا الشيطان.
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} [البقرة:36] والشياطين على أحجام صغير وكبير, وعلى مستويات, فإذا كان الإنسان أخبلاً فيُرسل له شيطان من الدرجة الثالثة، وإذا كان الإنسان من أقوى الناس في دينه يرسل له شيطان أقوى، والمؤمن شيطانه ضعيف جداً، يقول: أنهكه وأضناه كالجمل الطريح -الضعيف- لأنه كلما حاول الشيطان أن يبني من ذنوب هذا العبد، قال: أستغفر الله, وتاب إلى الله, وعاد إليه وهدم المبنى، يجره معه فإذا أراد أن يدخله بيته قطع الحبال وفر، فهو دائماً معه في صراع، ومن المؤمنين من لا يستطيع لهم إبليس أبداً، حاول وحاول فترك.
أما بعض الناس فيأخذهم يميناً وشمالاً.
ورسولنا عليه الصلاة والسلام يقول: {لكل منكم قرين وكل به -يعني من الشياطين- قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: حتى أنا لكن الله قد أعانني عليه فأسلم}.
فأعانه الله على شيطانه فأعلن الإسلام فلا يأمره إلا بخير.
أما نحن فالقرين معنا دائماً لكن نتحفظ منه بالآيات والأحاديث.
يقول ابن عباس: [[الشيطان جاثم على قلب ابن آدم يأتي كالحية فإذا سكت وغفل الإنسان وسوس، وإذا ذكر الله خنس وسكت، وهو يجري من الإنسان مجرى الدم]].
فأخرجهما من النعيم المقيم وقرة العين إلى الدنيا.
{وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36] والعداوة بين الناس قضاء كوني قدري من الواحد الأحد، ولكن تزول العداوة بالإيمان، والله عز وجل يقول: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118].
ولكل شيء آفة من ضده حتى الحديد سطا عليه المبرد
فالحديد هو الحديد لكن سلط الله عليه المبرد، فكل شيء له عدو, فتجد الشاة تسرح لا تخاف من الحمار أو الجمل، لكن لو رأت الذئب انتهت وترست مكانها، ولا تخطو خطوة لأنه عدوها.
والحمار له عدو وهو الضبع، والثعبان للإنسان، وهذه المواشي للأسود ولغيرها وهي فصائل، يقول أهل العلم: من العداء الذي جعله الله في الأرض: العداء الذي جعله بين الأجناس، ولذلك تجد بعض الحيوانات تتوافق وبعضها تتعادى: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ} [الأعراف:24].
فالله جعل هذين العدوين لهذا الأمر، والناس كذلك بينهم عداء.(189/12)
أنواع العداوة في الدنيا
والعداء بين الناس على قسمين:
قسم بحق، وهو عداء أهل الباطل مع أهل الحق، لا أقصد أنه حق لهم لكنها عداوة للحق، فحق أن يعادى أهل الباطل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251].
فلا يأت أحد ويقول: لا تغتابوا إسرائيل في المجالس, وإذا قيل له: قاتل الروس، قال: لا أقاتل الناس, أحب الرحمة للناس وللبشر، فهذا مذنب مخطئ غلط غلطاً بيناً، بل يحمل السلاح ويجاهد فهو مأجور، لكن على أعقاب المسلمين تجده متهتكاً فارساً.
دخل رجل على محمد بن واسع فاغتاب مسلماً قال: مهلاً قاتلت الروم؟ قال: لا.
قال: يسلم منك الروم ولا يسلم منك المسلمون.
وأما العداء في الباطل: فعداء المؤمنين بعضهم لبعض، وهذا يحصل؛ لكن على المؤمن أن يصلح وأن يكظم الغيظ وأن يحسن: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
وعلي رضي الله عنه في معركة الجمل لما رأى طلحة مقتولاً مسح التراب وقبله وقال: [[يعز عليَّ -يا أبا محمد - أن أراك مجندلاً على التراب، لكن أسأل الله أن أكون أنا وإياك ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]]].
فلا بد من شيء بين المؤمنين, حتى بين الدعاة والعلماء تجد من به غل لكن ينزعه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يوم القيامة فيتكلمون وهم أصفياء إخوان أصدقاء أحباء, وهذا لا يكون إلا في الجنة، وفي الدنيا لا بد أن يسود الإخاء.
يقول أبو تمام في مسألة الدين والإسلام:
إن كيد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الغمام فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
فنسبنا نسب الدين.(189/13)
حقيقة المتاع في الحياة الدنيا
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36] تستقرون في الأرض وتتمتعون إلى زمن قليل، ووالله، إنه لزمن قصير، وإنه عيش بسيط سهل وإنما هو كلمح العين.
عاش نوح عليه السلام ألف سنة فلما أتته سكرات الموت قالوا له: كيف وجدت الحياة؟ قال: وجدت الحياة كأنها بيت له بابان دخلت من هذا وخرجت من هذا.
وقال علي وهو يبكي في ظلام الليل: [[يا دنيا يا دنية! طلقتك ثلاثاً, عمرك قصير, وسفرك طويل، وزادك حقير، آه من قلة الزاد, وبعد السفر، ولقاء الموت]].
فكل الدنيا ليست إلا لمحة، قال: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:112 - 116].
وهذا المعتصم الخليفة العباسي عسكري وفارس من الدرجة الأولى, وهو الذي حطم الروم في عمورية بتسعين ألفاً:
تسعون ألفاً كأساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
أتته سكرات الموت في الأربعين فنزل من على سريره وقال: أموت اليوم؟ قالوا: تموت اليوم، ثبت شرعاً أنه يموت، وأجمع العلماء على أنه يموت، قال: والله، لو كنت أعلم أني أموت ما فعلت ما فعلت من الذنوب والخطايا.
يقول الإلبيري وهو يوصي ابنه:
أبا بكر دعوتك لو أجبتا إلى ما فيه حظك لو عقلتا
وقد قالها في مطلع قصيدة هي من أحسن القصائد, وأنا أقول: لو كان شيئاً ويوجب غير الكتاب والسنة على الناس لوجب على طلبة العلم والأخيار أن يحفظوا هذا القصيدة الزهدية, وهو يقول في أولها:
تفت فؤادك الأيام فتا وتنحت جسمك الساعات نحتا
فهو يوصي ابنه, وكان ابنه مسرفاً على نفسه في الشباب لا يحفظ الوقت, يجلس مع كل جليس, والحياة عنده أكل وشرب ولبس وغناء ومجون فقال له هذا في قصيدة مبكية, قالوا: إن ابنه لما قرأ القصيدة بكى وتاب:
تفت فؤادك الأيام فتا وتنحت جسمك الساعات نحتا
وتدعوك المنون دعاء صدق ألا يا صاح أنت أريد أنتا
إلى أن يقول:
ولا تقل الصبا فيه مجال وفكّر كم صبي قد دفنتا
إلى أن يقول:
إذا ما لم يفدك العلم نفعاًً فليتك ثم ليتك ما علمتا
وإن ألقاك فهمك في مغاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
فناد إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن متى
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
ويقول في آخرها:
وقد أردفتها ستاً حساناً وكانت قبل ذا مائة وستا
مائة واثنا عشر بيتاً من أحسن ما قيل في الحكم والمواعظ!
وحفظها الملوك وتهادوها في الأقطار، وطنَّت بها الأمصار، وعمرت بها القصور والدور، واتعظ بها كثير من الناس وهي لـ أبي إسحاق الألبيري.
{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36] فالأرض متاع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أو إلى حين الموت: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:19 - 21].
فحين تقبض روحك -ولا عليك من العالم أن يتأخر بعدك أو يتقدم- قامت قيامتك.(189/14)
تفسير قوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ)
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37].
لك الحمد ولك الشكر ولك الثناء الحسن، أذنب آدم وأنزل وأهبط فأخبره الله بكلمات يقولوها ليتوب عليه، قال آدم: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:16] وقال هو وحواء: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
فمد يديه عليه السلام وقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] فتاب الله عليه، فمن فعل مثل أبيه بالذنب فليفعل مثله بالتوبة: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] وقيل: إن الكلمات: (لا إله إلا الله الحكيم العليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض رب العرش الكريم).
وقيل: (أستغفر الله الذي لا إله إلا هو).
وكلها تدخل في الاستغفار, إنما علمه الله كلمات فأنقذه الله بها, فهذه هي التوبة، فنحن المخطئون والمذنبون ونحن -والله- أهل الخطايا والذنوب، وليس لنا حل إلا التوبة النصوح.
وقد صح عند الترمذي من حديثه صلى الله عليه وسلم مرفوعاً: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة}.
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم أني مسلم
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا
فانظر ما أكثر المعاصي زنا، وربا، وقطيعة رحم وعقوق والدين، وضياع أوقات، وتفلت عن أمر الله, وترك للصلوات، والرزق يأتينا من كل مكان! لا تنقطع عنا الفاكهة أبداً والخضروات صيفاً ولا شتاءً والماء البارد, والأمن والاستقرار, والسكينة والمشاريع الحية، والخطأ مع ذلك متواصل:
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة:37] فقالها آدم وقالتها حواء فغفر الله لهما، وتاب عليهما إنه هو التواب الرحيم، وما أحسن هذه الكلمات!
النصرانية تقتل الإنسان إذا أذنب، قالت: خزيت وبعدت ليس لك توبة.
واليهودية كانت التوبة عندهم قتل أنفسهم، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54].
والإسلام يقول لك: إذا أذنبت توضأ وصلّ ركعتين واستغفر الله من الذنب وتب توبة نصوحاً.
في مسند أحمد بسند صحيح عن أبي بكر، قال علي بن أبي طالب: {كان الرجل إذا حدثني عن الرسول عليه الصلاة والسلام حديثاً استحلفته, فإن حلف صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر -ما استحلفه- قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر الله له ذلك الذنب}.
فما أيسر الإسلام وما أسهله! وما أوسع باب الله! عطاؤه ممنوح, ونواله يغدو ويروح، وبابه مفتوح، ولذلك أرهقتنا الذنوب لأننا لم نعرف طريق التوبة:
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
{يا عبادي! إنكم تذنبون في الليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم}.(189/15)
تفسير قوله تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً)
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38].
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً} [البقرة:38] من الجنة, قيل: يهبط آدم وحواء ومعهما الحية والشيطان.
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} [البقرة:38] الهدى: دين الله الذي يبعث به رسله، فكل الرسل أتوا بالهدى، وكل له شريعة وهم يتفقون أنهم أتوا بالإسلام.
والفرق بين الخوف والحزن.
الخوف: على أمر مستقبل، فتخاف من أمر يأتيك.
والحزن: على أمر قد فات.
{فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] فهذا كقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:123 - 124].
قال ابن عباس: [[كتب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى على نفسه أن من اتبع هذا القرآن فأحل حلاله وحرم حرامه، ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة]]
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] معه دراهم ودنانير ودور وقصور، ولكن عليه الضنك واللعنة والغضب: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
يا إخوتي في الله! هذا درس للإنسان بأنه لا ينجيه إلا شرع الكتاب والسنة، ولا يمكن أن يكون ناجياً أو فائزاً أو مفلحاً إلا إذا جعل ورده الكتاب والسنة، وأنا أدعو إخوتي طلبة العلم والأخيار أن يكون لهم حزب كل يوم من الكتاب, وحزب من السنة, ولا يقدموا آراء البشر ولا مشاربهم أو أفكارهم، فإذا فعلوا ذلك وقدموه على الكتاب والسنة فهو أول الخزي والضلال.
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} [البقرة:38] وقد أتى والله! والله لقد أسمعت دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام راعي الغنم في الصحراء، وسمعت بدعوته العجائز في حجورهن وخدورهن، ونفذ إلى العاتق من النساء والعذراء من دعوته ما وصل علماء الصحابة في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم, والله لقد سارت دعوته مسير الشمس والليل والنهار, فما هو عذرنا إذا قلنا: لم يأتنا ولم يبين وما وضحت الطريق؟! لقد وضحت كل الوضوح, وقد بُينت كل البيان: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70].
فمن هو الحي: أهو الذي يأكل ويشرب، ويشجع ويزمر ويغني، ويلعب البلوت ويضيع الليالي والأيام, وهو يسمى حياً مجازاً، حياة الثور والشاة، فهو يأكل ويشرب لأنه حي، ولكن قلبه ليس بحي.
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] لا سواء.
فالحياة هي حياة الإيمان وحياة القرآن، والذكر، والاتصال بالله، حفظ الوقت، وطلب العلم، حياة طلب مجالس الخير, واستماع كلام الخير هذه فهي الحياة، أما غيرها فهي حياة الخواجات، كيف ينعم الإنسان؟! كيف يهدأ باله وهو ليس مستقيماً وليس الله راضياً عنه؟ عنده قصور ودور، عنده سيارات ومناصب، لكن الله غضبان عليه من فوق سبع سماوات، كيف يهدأ؟! كيف يرتاح؟! ينتهي بعد أيام ويرتحل إلى الله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
فأتى صلى الله عليه وسلم يخرج الناس من الظلمات إلى النور فمن أطاعه اهتدى ومن عصاه تردى.(189/16)
الأسئلة(189/17)
الفائدة من خلق الحشرات
السؤال
ما الفائدة من خلق الله للحشرات والزواحف الضارة للبشرية؟
الجواب
أولاً: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى له الأمور الظاهرة والباطنة, سواء عرفناها أو لم نعرفها, وبعض أهل العلم يستنبط حكماً، وبعضهم لا يستطيع, فنكل العلم إلى الباري لأن عقولنا قاصرة, كيف يعترض المخلوق على خلق الخالق وهو مخلوق بنفسه؟
والآن في هذا العالم الذي أنت تعيش فيه, إذا انتهى هذا الغطاء الغازي ثم انتهى العالم، ماذا بعده؟ تقول فضاء, فماذا بعد الفضاء؟ ما هو الجواب؟ هذه محيرة العقول:
حارة الأفكار في قدرة من قد برانا ربنا عز وجل
فهذه تحير الأفهام ولا تدرك حكمتها.(189/18)
مكان لقاء آدم وحواء وقبراهما
السؤال الثاني: لم جعل الله آدم في الهند وحواء في جدة وأين التقيا بعد ذلك؟ ومن مات منهم قبل الآخر؟ وأين؟ وقد قيل: إن قبر آدم في الطائف، وهذا قول الشيباني؟
الجواب
أما أين التقيا؟ فقد قال بعض أهل العلم أنهما التقيا في عرفة، فسميت عرفة، وهذا قول للتابعين في التفسير.
أما من مات منهما أولاً؟ فلا أدري
وقبر آدم ذكر أنه في الطائف وفي غيرها, ولا يتوقف على ذلك كبير علم، وليست من مسائل التكليف.(189/19)
كيف يتكاثر الشياطين؟
السؤال
المعروف أن الشيطان الذي جاء ذكره مع آدم واحد ولم يسجد له, فمن أين أتى هؤلاء الشياطين الذين مع كل واحد منا, أم أن الشيطان متزوج؟
الجواب
أما زواجه فما حضرنا وما دعانا وما سمعنا، قيل لـ عامر الشعبي: هل الشيطان متزوج؟ قال: ذاك عرس ما حضرته، فلا أدري عنه, ويمكن أن يكونوا تناسلوا بالتزويج ولا يكون إلا هذا.
وهنا مسألة طامة غامة وهي مسألة هل يتزوج الإنس من الجن؟
وهذه لم يتكلم فيها السلف ولا القرون المفضلة ولا أتت في الكتاب ولا في السنة، ومن يتكلم في مثل هذه المسائل ولو كان من كان فهو متكلف يتكلف، حتى ذكروا أن واحداً يقول: يتمنى (جانة) يتزوج منها لكي يكثر الشياطين في الدنيا.
فهذه من المسائل التي لا فائدة منها.
أما قوله: مع كل واحد منا شيطان فنعم, نعوذ بالله من الشياطين.
أما كيف وجدوا؟ فهكذا وجدوا, خلقهم الله عز وجل وتناسلوا, فيهم كبار وصغار.(189/20)
قصيدة الألبيري
السؤال
أين توجد قصيدة أبي إسحاق الإلبيري؟
الجواب
توجد في كتاب: القصائد الإسلامية المفيدة وقد توجد في بعض الأشرطة إذا سألتم أهل التسجيلات الإسلامية يدلوكم على ذلك.(189/21)
مكان سكن الشياطين, وكيفية صورتهم
السؤال
ما هو الشيطان؟ وكم عددهم؟ وأين يسكنون؟ وكيف صورتهم؟ وهل يموتون؟
الجواب
الشيطان: هو من الجن وهو الذي يغوي، وقد ذكرنا في الفاتحة اسم الشيطان.
كم عددهم: ما أحصيناهم.
يسكنون: في الأرض وتحت الأرض، وهم يتصورن بصور, وقد يأتون بصورة الثعالب والحيات والثعابين والقطط، ولهم تصرف في أهل القلوب الضعيفة التي والت الشيطان والمعاصي، وهم يأتون في المذابح والقاذورات والحمام كما ذكر صلى الله عليه وسلم.
ويُطردون بالطهارة والأذكار الشرعية، وقد رآهم كثير من الناس في أشخاصهم.
وقد ذكروا عن عمر: أنه رأى عفريتاً منهم فصارعه عمر فصرعه ثلاث مرات، قال عمر: [[أأنت من أقواهم؟ قال: لقد علمت الجن أني من أقواهم]] فـ عمر صرعه فما كانت الشياطين تسلك فج عمر ولا طريقه، بل كانت تأتي من طريق آخر.
وقد تأتي في صورة الحيات وهي كثيرة وتدخل في البيوت, والحيات جان وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن على من وجد حية أو ثعباناً في بيته ألا يقتله حتى يؤذنه ثلاثاً: يقول للحية أو الثعبان في البيت: أحرج عليك أن تخرج من بيتي، أحرج عليك أن تخرج من بيتي، أحرج عليك أن تخرج من بيتي، فإن خرج فبها ونعمت وإلا فاقتله، فيجعل الله لك سلطاناً عليه.
أما إن قتلته قبل أن تحرج عليه فإنه لا يؤمن أن ينتقم منك أو من أبنائك أو يؤذيك أو تؤذيك قرابته لأن لهم قرابات.
وفي الصحيح عن أبي سعيد قال: {دخل رجل من الأنصار من معركة أحد إلى بيته فرأى حية فتناولها بالرمح فقتلها فعاد الباقي عليه فقتلوه, فأُخبر صلى الله عليه وسلم فقال للصحابة: أما أخبرتكم ألا تؤذوها؟} أو كما يقول عليه الصلاة والسلام.
والشياطين يضرون وفيهم فسقة وكفرة، ومسلمون: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:14] وهم يتلبسون ببني آدم ولاشك في ذلك، وقد دلت الأحاديث والآيات على ذلك: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275].
وقد عالج صلى الله عليه وسلم منهم فنعوذ بالله منهم، لكن من يعوِّد أبناءه على قراءة آية الكرسي والمعوذات والفاتحة ويعلمهم الأذكار لا يمسونه أبداً، لكن الذين يعلمونهم أغنيات كوكب الشرق، وهذه الأغاني يدخلون إلى المخ.(189/22)
هل يُسْلِم الشياطين؟
السؤال
الشيطان الذي مع الرسول صلى الله عليه وسلم أسلم، فهل تسلم الشياطين؟ وهل يقبل إسلامهم؟
الجواب
{ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} [الجن:14] فمنهم المسلمون, فالله أعان رسوله على شيطانه فأسلم ولا يأمره إلا بخير.(189/23)
إبليس ليس بملك
السؤال
هل كان إبليس من الملائكة أم ماذا؟
الجواب
الصحيح أنه لم يكن من الملائكة وإنما كان من الجن كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50].(189/24)
سبب وسوسة الشيطان لأبينا آدم
السؤال
لو لم يوسوس الشيطان لآدم وحواء في الجنة فهل كانا الآن في الجنة ونحن معهم, فما هو تعليقكم؟
الجواب
نعم.
لكن حكمة الله اقتضت هذا والحمد لله نزل وكان في ذلك خير، فقد وجد الأنبياء والرسل والشهداء والعلماء، والأخيار والصائمون, والعباد والقائمون والمتصدقون, وسوف يأتي أن للجنة أبواباً ثمانية ما بين المصراعين كما بين بصرى وأيلة , وقيل: كما بين صنعاء وأيلة - بيت المقدس في فلسطين - فهو كما بين صنعاء اليمن وأيلة , يقول عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده! ليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام} وهي ثمانية أبواب.
نسأل الله أن نكون ممن نزاحم على ذاك الباب: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:191 - 192].
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(189/25)
حكم الغناء والأناشيد
ما حكم الغناء؟
وما الفرق بينه وبين الأناشيد؟
وهل يجوز الضرب بالدف؟
هذه الأحكام وأحكام أخرى تحدث الشيخ عنها في هذا الدرس.(190/1)
سيرة بلال بن رباح وما فيها من عبر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
هذا الدرس هو الدرس (41) من صحيح البخاري، ولنستمع إلى الإمام البخاري رحمه الله تعالى حيث يتحفنا من صحيحه، الكتاب النير العطر، بحديث في كتاب العيدين.
يقول رحمه الله تعالى: باب الحراب والدرق يوم العيد.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: {دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش، وحول وجهه صلى الله عليه وسلم، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعهما، فلما غفل غمزتهما فخرجتا، وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب، فإما سألت النبي صلى الله عليه وسلم، وإما قال: تشتهين تنظرين؟ فقلت: نعم.
فأقامني وراءه، خدي على خده، وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة، حتى إذا مللت، قال: حسبك؟ قلت: نعم.
قال: فاذهبي}.
في هذا الحديث مسائل وسوف تأتي بإذن الله، وبمناسبة لعب الحبشة وعرضهم يوم العيد أمام الرسول صلى الله عليه وسلم نتكلم هنا عن داعية الحبشة، وعن رجل من أهل الحبشة، هو أفضل أهل الحبشة في الإسلام وفي الصحابة، فمن هو يا ترى هذا الرجل؟(190/2)
بلال سفير الحبشة للإسلام
بلال بن رباح داعي الأرض الذي تلقى نور السماء وأذن في الخالدين، وكان حقاً على قلب كل مؤمن أن يقول:
وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا
بلال رضي الله عنه وأرضاه يعرفه الجميع، أهل الملايو ومسلمو اليابان والصين والسودان والعراق والجزائر، كل مسلم على وجه الأرض يعرف بلالاً رضي الله عنه وأرضاه، هو سفير الحبشة إلى الإسلام، وسفير الإسلام إلى أهل الحبشة، فإن لكل قوم سفيراً وسفير الحبشة إلى الإسلام بلال رضي الله عنه وأرضاه، كما أن سفير الروم صهيب وسفير أهل فارس سلمان.
دخل بلال مكة فما كان له قيمة عند المكيين ولا عند القرشيين، كانت وثنية تمعر في رءوسهم، لا يقيمون لهؤلاء الموالي قيمة أبداً ولا وزناً، وإنما ينزلون هؤلاء الموالي منزلة الحيوان، فأرخصوا ثمنه وهو غال عند الله، وعطلوا قيمته وهي ثمينة جد ثمينة، فلما أتى الإسلام كان بلال رضي الله عنه ممن شرح الله صدره للإسلام، أسلم مبكراً، ووضع يده في يد الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام؛ فأخرجه من الجاهلية إلى الإسلام، ومن الظلمات إلى النور، وهداه ورقاه فأصبح غالياً من أغلى الناس.
كان عمر رضي الله عنه وأرضاه يقول: [[أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا]].
إن السيادة في الإسلام تكون بالتقوى وبالعمل الصالح وبالقرب من الله عز وجل، وأما الجاهليون فما استمعوا لهذا، لما علموا أنه قال: لا إله إلا الله، ودخل في هذا الدين؛ لأن هذا الدين مجرد عن الطلاء، من يرغب في الاستقامة يأت، لا لمنصب ولا لولد ولا لمال ولا لأسرة ولكن لوجه الله تبارك وتعالى، فلما أتى بلال رفعه الإسلام وجعله الرسول صلى الله عليه وسلم مؤذناً فأبى أمية بن خلف وعذبه بأنواع العذاب، سحبه على وجهه على الرمضاء، طرح الصخور على صدره وما يزداد إلا إيماناً وتسليماً، كان كلما عذبه، قال: أحد أحد، أحد أحد هتف بها لكل معطل، يفني بها كل شرذمة باطلة خاسرة خائبة عند الله.(190/3)
هجرة بلال
هاجر رضي الله عنه وأرضاه، واستفاقت المدينة من سباتها ومن نومها على أذان بلال تنفض الجاهلية والوثنية وأدرانها، كان دائماً يمر ببيت الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الصلاة، ويقول: الصلاة الصلاة يا رسول الله! فينتشي صلى الله عليه وسلم، وإذا تأخر بلال عن هذا الموعد، قال عليه الصلاة والسلام: {أرحنا بها يا بلال} أي: بالصلاة؛ فإنها قرة عين المصطفى صلى الله عليه وسلم، وشرحة فؤاده، وراحة نفسه، عليه أفضل صلاة وأجل تسليم.
وفي مرض موته صلى الله عليه وسلم يمر بلال فيقول: الصلاة الصلاة يا رسول يا الله! ولكن أين مناخ العيس من حلب؟! كيف يستطيع صلى الله عليه وسلم أن يقوم وهو في مرض الموت، فقال: {يا بلال! مر أبا بكر فليصلِّ بالناس} فيتلعثم بلال رضي الله عنه بالبكاء ويقول: واحبيباه! وارسولاه! واخليلاه! ثم يقول: يا أبا بكر! صلِّ بالناس، فيقول أبو بكر: الله المستعان، إنا لله وإنا إليه راجعون!
ويؤثر في السيرة أنه رضي الله عنه وأرضاه قام من صلاة الفجر في أول يوم توفي فيه صلى الله عليه وسلم فرفع صوته الندي الشجي بالتكبير والتهليل فلما بلغ قول المؤذن: أشهد أن محمداً رسول الله التفت فخنقته العبرة وبكى وما استطاع أن يتم الأذان.
كان يوم الفتح مع الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما دخل الجيش العرمرم المسلم الذي يرفع لا إله إلا الله، جيش قوامه عشرة آلاف، والرسول قائده صلى الله عليه وسلم، فلما حانت صلاة الظهر ونصر الله رسوله نصراً مؤزراً ما سمع التاريخ بمثله، وقف كفار قريش أمامه وقد جردهم من السلاح والسيوف والرماح، وقال: ما ترون أني فاعل بكم؟
فبكوا حتى اختلطت أصوات بكاء الأطفال بالنساء، وظنوا أنها مجزرة ومذبحة، وظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يعاملهم بالمعاملة التي عاملوه بها، فقد أخرجوه وكذبوه وشتموه وآذوه وظنوا أنه كالبشر الذين فعلوا ما علمتم في التاريخ.
هتلر يوم دخل الشرق ماذا فعل؟
ونابليون يوم دخل الدول العربية ماذا صنع؟
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نوع آخر، رباه الله وعلَّمه وأدبه؛ فقال: {اذهبوا فأنتم الطلقاء! عفا الله عنكم} فزاد البكاء بكاءً، وقام أبو سفيان يقول: الله ما أرحمك! الله ما أوصلك! الله ما أبرك! الله ما أكرمك!
ولما أتت صلاة الظهر قام صلى الله عليه وسلم وأخذ بحلق الكعبة وقال: {الحمد لله الذي نصر عبده -اسمعوا للنصر التاريخي العظيم- وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
ثم قال: قم يا بلال أذن.
فقام بلال فارتقى الكعبة} وكانت مقصودة من الرسول صلى الله عليه وسلم.
كان من الممكن أن يدعو أبا بكر أو عمر لكن قال: قم يا بلال، يا من سحب على الرمال! يا من أوذي بالصخور! يا من تعرض للإهانة والإساءة! يا من كان هؤلاء لا يقيمون له وزناً! أخبرهم أن هذا الدين يرفع المولى، ويعز الضعيف، ويعرف قيمة الإنسان؛ فقام وهم ينظرون إليه، أهذا هو العبد الأسود الذي كان معنا نمتهنه كما نمتهن الدابة؟!
أهذا هو الخادم يرتقي على الكعبة؟! فيقوم ويطلق: الله أكبر؛ فيرتج المسجد الحرام بالبكاء.
إنه نصر عظيم! وإنه صوت عجيب! وإنه فتح كبير! ويعود حتى يقول صفوان بن أمية: ما كنت أظن أن الحياة تطول بي حتى أرى هذا الغراب ينادي من على الكعبة.
ولكن سوف يعلم لمن الرفعة عند الله عز وجل.
وفي صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {دخلت الجنة البارحة فسمعت دف نعلك يا بلال، فماذا كنت تصنع؟ قال: يا رسول الله! ما كنت كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة -أي: في النوافل- لكن ما توضأت وضوءاً إلا صليت بعده ركعتين}.(190/4)
بلال بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
توفي صلى الله عليه وسلم وكان من أحب الناس إليه بلال، ومن أندى الأصوات لديه صوت بلال، فلما أتى أبو بكر قال: أذن يا بلال؟ قال: والله لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له أبو بكر: لم لا تؤذن؟
قال: ما كنت أرفع صوتي مؤذناً إلا له صلى الله عليه وسلم، ثم استأذن أبا بكر أن يخرج إلى الشام فقال أبو بكر: لا آذن لك.
قال بلال: إن كنت أعتقتني لوجه الله؛ فاتركني أخرج للشام للجهاد -وأبو بكر يريد أن يستأنس بـ بلال وهو معه- وإن كنت أعتقتني لنفسك؛ فلك ما ترى وسوف أبقى؛ فدمعت عينا أبي بكر رضي الله عنه، وقال: أعتقتك لوجه الله فاخرج.
فخرج إلى الشام، وبقي هناك، وفي بعض السير أنه رأى -وهو في حمص - الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: هجرتنا يا بلال من الزيارة، فقام يبكي في الليل وشد راحلته وأتى المدينة -ولو أن في هذا السند ضعفاً لكنه جبر بطرقه- فقدم فلما وصل المدينة رآه الصحابة فكأنهم يرونه لأول مرة، فعانقوه وهم يبكون، ولما فتح عمر رضي الله عنه بيت المقدس قال: يا بلال! قم أذن للظهر.
فقد فتح بيت المقدس.
قال: اعفني يا أمير المؤمنين! قال: سألتك بالله أن تؤذن.
فقام فأذن قالوا: فما بقيت عين إلا بكت ذاك اليوم.
هذا بلال رضي الله عنه، أحد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أهل الحبشة الذين نعيش معهم ونسمع إلى أخبارهم ومراسيمهم وإلى عيدهم أمام الرسول صلى الله عليه وسلم.(190/5)
حديث عائشة والجاريتين
مجمل قصة الحديث تقول عائشة: {دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد} وهو من أول الأعياد في حياته صلى الله عليه وسلم {فلما دخل صلى الله عليه وسلم وجد جاريتين عند عائشة تغنيان} وفي رواية صحيحة: {وليستا بمغنيتين، لكن تكلفتا الغناء} فليس عندهن عود ولا ناي ولا طبل ولا وتر، وإنما ترزفان وتنشدان بصوتيهما.(190/6)
غناء الأنصار يوم بعاث
{فدخل صلى الله عليه وسلم فاضطجع وحول وجه إلى الحائط} ترك المغنيتين وترك عائشة ولم ينكر صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يستمع، فحول وجهه صلى الله عليه وسلم إلى الحائط، وواصلت المنشدتان تغنيان بغناء الأنصار يوم بعاث، وهو مكان حول المدينة حدثت فيه معارك رهيبة بين الأوس والخزرج، والله يمتن على الأوس والخزرج وعلى غيرهم فيقول: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
لقد كانوا متناحرين ومتباغضين وهم كلهم من الأزد وهم أبناء عم، لكن أورث الشيطان بينهم حقداً حتى قالت عائشة: وكان يوم بعاث يوماً الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، لماذا؟
وذلك أن من حكمة الله قبل أن يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم أو يهاجر إلى المدينة تقاتل الأوس والخزرج فسفكوا عظماءهم جميعاً، وبقي الشباب وبعض الشيبة، ولو بقي هؤلاء العظماء ما قبلوا الإسلام، فالله عز وجل مهد هذا اليوم فصفي فيه الحساب بينهم، قتل فيه رئيس الخزرج عمرو بن النعمان وكذا رئيس الأوس حضير والد أسيد وهو من الأوس، وقتلت فيه الأسر الشهيرة حتى قدم صلى الله عليه وسلم وأكثرهم شباب، فتقبلوا هذا الدين وعاشوا معه وأخلصوا له.
وكان اليهود إذا أرادوا أن يحركوا الضغينة فيما بين الأنصار أو يوقدوا نار الفتنة ذكروهم بيوم بعاث، فإذا سمعوا يوم بعاث فكأنها النار أشعلتها بوقود.
حتى أن شاس بن قيس وهو تاجر يهودي خبيث أتى في المسجد والأنصار جلوس فغاظه أنهم مجتمعين، الأوسي بجانب الخزرجي إخواناً متحابين في الله عز وجل، ألف الإسلام بينهم، يتضاحك بعضهم إلى بعض في إخاء ما شهد التاريخ مثله، فأتى اليهودي فجلس بجانبهم وقال لرجل من الأوس: ماذا يقول شاعر الخزرج يوم بعاث؟ قال: يقول كذا وكذا.
قال للخزرجي: ماذا يقول شاعر الأوس يوم بعاث؟
قال: يقول كذا وكذا؛ فأخذتهم النعرة والحمية، فقام ابن الأسلت وحسان فأنشدوا شعراً كل يسب قبيلة الآخر، فنادى رجل من الأوس: يا معشر الأوس! السلاح السلاح -وهذا أورده ابن جرير في تفسيره - فأخذوا السيوف وقالوا: موعدنا الحرة وهي ضاحية في المدينة، يريدون أن يصفوا الحساب مرة ثانية، والغضب قد دخل رءوسهم، والشيطان قد وسوس لهم حتى نسوا تعاليم الدين، فقاموا وأخذوا يتنادون بالسيوف.
والأنصار من أشجع الناس، حتى قتل منهم في معارك الإسلام (80%) وما مات منهم موتاً إلا (20%) حتى يقول حسان:
فنحكم بالقوافي من هجانا ونضرب حين تختلط الدماء
وكان بعض الأنصار إذا لقي المعركة؛ فقد شعوره كـ البراء بن مالك، حتى قال عمر: [[لا تولوه المعركة؛ فإنه سوف يحطم المسلمين حطماً]].
ومن الأنصار أبو دجانة كان إذا أتت المعركة أخرج عصابة حمراء وعصب رأسه؛ فقال الناس: افتحوا لـ أبي دجانة طريقاً فقد أخرج عصابة الموت.
فخرجوا رضوان الله عليهم، فصف الأوس في صف، وصف الخزرج في صف وسلوا السيوف، وأتى الخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، وإذا الصائح يصيح وإذا البكاء يرتفع، وقالوا: يا رسول الله! أدرك الأوس والخزرج لا يقتتلوا هذا اليوم.
قال: ولم؟ قالوا: أوشى بينهم شاس بن قيس حتى ورث بينهم الضغينة، وقد تواعدوا في الحرة الآن؛ فقام صلى الله عليه وسلم حافياً، فما انتعل من السرعة، خرج يجر إزاره، ومعه أبو بكر وعمر وكثير من المهاجرين، حتى وقف صلى الله عليه وسلم بين الصفين، فذكرهم بالله واليوم الآخر، وقال: ألم آت وأنتم ضلال فهداكم الله بي؟ متفرقون فجمعكم الله بي؟ ثم ذكرهم حتى بكوا، ثم تركوا السيوف وتعانقوا وهم يبكون فأنزل الله في ذلك: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103]
فلما سمعوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم كأنهم سمعوه لأول مرة:
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
فتعانقوا والرسول صلى الله عليه وسلم معهم، وعادوا إلى المدينة إخواناً متحابين، فهذا الموقف على ذكر يوم بعاث الذي ذكرته عائشة.(190/7)
إنكار أبي بكر على الجاريتين
{فاضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني} وكان أبو بكر رجل فيه حدة، حتى يقول عمر: [[كنت أراعي حدة في أبي بكر]] وقد علم الله إخلاصه وصدقه وإنابته وعبوديته، فرفعه فأصبح أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك يقول عمر: [[لما ذهبنا إلى سقيفة بني ساعدة -لما مات صلى الله عليه وسلم- وخفنا أن يختلف الناس علينا؛ زورت كلاماً في صدري، لأخطب في الأنصار به، وخفت أن يسبقني أبو بكر؛ لأنه كان مشغولاً وما تهيأ أبو بكر، قال: فلما جلسنا أردت أن أتكلم وكنت أراعي حدة في أبي بكر، فلما أردت الحديث رفض أبو بكر رضي الله عنه واعترض على عمر قال: فتكلم فوالله ما ترك كلمة زورتها في صدري إلا أتى بأحسن منها!]] وهو من أخطب خطباء العرب على الإطلاق، ومن أنسب أنسابهم ومن أفصح فصحائهم، اسمعوا إلى الكلمة اللينة، الأنصار في سقيفة بني ساعدة هموا بالاختلاف، وسبب اجتماعهم أنهم يريدون أن يكون الخليفة من الأنصار، وسعد بن عبادة كأنه الرجل المتوج للخلافة، فكأنهم يشيرون ويلوحون ولا يصرحون بتسليم الخلافة له، فلما أتى أبو بكر اندفع في الكلام وقال: [[يا معشر الأنصار! نحن الأمراء وأنتم الوزراء، قدمنا الله في القرآن وثنى بكم، نحن أقرب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نسباً وأقرب داراً والعرب لا تجتمع لحي إلا لحينا، ثم قال: يا معشر الأنصار! جزاكم الله عنا خير الجزاء، واسيتم وكفيتم وآويتم]].
ذكر ذلك الإمام الشافعي يقول: حدثني الثقة أن أبا بكر قال في سقيفة بني ساعدة: واسيتم وكفيتم وآويتم، والله ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال طفيل الغنوي:
جزى الله عنا جعفراً حين أشرفت بنا نعلنا في الشارفين فزلت
هم خلطونا بالنفوس وألجئوا إلى غرفات أدفأت وأظلت
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملت
فلما سمعوا هذا الكلام بايعوا أبا بكر بالخلافة رضي الله عنه وأرضاه.
الشاهد هو في حدة أبي بكر، حتى يقول رضي الله عنه وأرضاه في اليوم الثاني من توليه الخلافة، الذي كان إعلاناً عاماً وخطبة عامة وبياناً عاماً للمسلمين في توليه الخلافة؛ لأنه في اليوم الأول لم يستطع أن يتكلم رضي الله عنه وأرضاه، فقد انصدع من البكاء على المنبر، تذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وتذكر تلك الأيام والذكريات فما استطاع أن يتكلم، فقام عمر رضي الله عنه فتكلم كلمة أبي بكر في اليوم الأول، ومجد أبا بكر وذكر مناقبه.
وفي اليوم الثاني تكلم أبو بكر وقال: [[يا أيها الناس: إن لي شيطاناً يأتيني -وكل إنسان له شيطان- فالله الله لا أمسَّن أبشاركم]] (أي لا أضربكم) يخاف من الحدة أن ينال منهم رضي الله عنه وأرضاه.
وفي كنز العمال منسوباً إلى السير: أنه رضي الله عنه وأرضاه جاءته إبل الصدقة يريد أن يوزعها في مصارفها، فقال لرجل من الناس: لا يدخل علي أحد ثم قال: يا عمر! ادخل معي.
فدخل عمر رضي الله عنه وأما هذا الحارس فغفل، فدخل أعرابي بخطام معه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: من أدخلك؟ وأخذ الخطام وضربه، فقال: اعطني من مال الله الذي عندك، فقال أبو بكر: أستغفر الله، اقتص مني.
قال عمر: والله لا يقتص منك.
قال: لماذا؟ قال: تجعلها سنة، كلما أدبنا أحد أو عزرنا أحد قال: أقتص منكم!! لكن أعطه من المال؛ فأعطاه ناقة وأخرجه من إبل الصدقة.
تقول عائشة: {فانتهرني} أبو بكر -له أن ينتهرها لأنها ابنته- حتى في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم تأخر عن الناس في صلاة العشاء فمر أبو بكر فقال: الصلاة يا رسول الله.
انظر إلى تواضعه صلى الله عليه وسلم! في الصحيحين أن عمر رضي الله عنه يأتي في المسجد في صلاة العشاء وينظر إلى الصفوف ممتلئة وهم ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نعس هذا ونام هذا وخفق رأس هذا، فخرج عمر وأتى إلى باب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: الصلاة يا رسول الله، نام النساء والصبيان.
والآن بعض الناس لشدة تعامله وعنفه لا يرضى هذا الكلام، أتخاطبني وتقول لي هذا الكلام؟! من أنت حتى تناديني من عند باب بيتي؟ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قام وصلى بالناس، فثبت أن أبا بكر مر ببيته صلى الله عليه وسلم فقال: الصلاة يا رسول الله.
فسمع حفصة وعائشة يرفعان صوتيهما على رسول الله يطالبانه بالنفقة، فقال: يا رسول الله! احث في وجوههن التراب وقم صل بالناس؛ فتبسم صلى الله عليه وسلم وقام يصلي بالناس؛ لأنه كما وصفه الله {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
ويقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] بل ثبت أنه صلى الله عليه وسلم شكا إلى أبي بكر من عائشة فدخل أبو بكر وعنف عائشة وأخذ يغمزها بيده فأخذ صلى الله عليه وسلم يمنعها ويحميها، فلما خرج أبو بكر قال: {أما رأيتي كيف منعتك من أبيك؟!} صلى الله عليه وسلم.
فهنا أتى فدخل عليها فانتهرها، والرسول صلى الله عليه وسلم مضطجع، وظن أبو بكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم نام، فقال: {مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم!} يقول: هذا الغناء تغنيه في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم؟ {فأقبل عليه صلى الله عليه وسلم والتفت إليه وقال: دعهما -وفي لفظ صحيح- فإن لكل قوم عيد وهذا عيدنا} دعهما فإن هذه مناسبة عامة، وسوف يأتي كلام مفصل عن هذه المسألة في هذه الناحية.
قالت عائشة: [[فلما غفل غمزتهما فخرجتا]] فـ عائشة كانت هي خائفة من أبيها وكذلك أرادت أن تقر كلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يليق بها بعد أن قال صلى الله عليه وسلم: دعهما، أن تقول: اخرجا، لكن لما غفل رسول الله صلى الله عليه وسلم غمزتهما فخرجت الجاريتان.(190/8)
لعب الأحباش في المسجد يوم العيد
قالت عائشة: وكان يوم عيد، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، والناس كانوا يجتمعون في المصلى قبل أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا خرج لبس أحسن لباس، والمسلم عليه أن يعتني بالمناسبات الإسلامية، بعض الناس في الزواج والأعياد وفي الرحلات يلبس من أحسن اللباس، فإذا أتى يوم الجمعة أتى بثوب النوم! فهل هذا يليق؟! {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] عند كل صلاة، فالواجب إظهار القوة والعظمة والروعة والجمال والطيب في المناسبات والأعياد الإسلامية.
يقول ابن عباس: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في حلة حمراء يوم عيد فوالذي نفسي بيده ما رأيت أجمل منه}.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلبس في المناسبات أحسن الثياب، عندما يكون مع أهله يلبس ثياب الابتذال أي ثياب البيت، ويوم الجمعة يلبس أرقى لباس، وفي المعركة يلبس الدروع صلى الله عليه وسلم.
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بؤسها
فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد إلى المسجد ودخل المدينة، وإذا بهؤلاء النفر والثلة تستعرض أمامه صلى الله عليه وسلم، وهل ضاقت بهم الأرض حتى يعرضون ويلعبون بالحراب، في المسجد؟! وكانوا من أرمى الناس، وكان وحشي الذي قتل حمزة منهم، فكانوا يهزون الحربة حتى يرضون عنها فيرمونها فلا تغادر مقتلاً إلا أصابته.
أما أناشيدهم فيقولون كما في المسند وغيره محمد عبد صالح، محمد عبد صالح.
يقولون هذا الرسول صلى الله عليه وسلم هو رسول البشرية ومعلم الإنسانية!
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
أنت إذا أتيت تمدح عظيماً من العظماء فتقول له: أنت إنسان، ليس هناك مدح، أو أنك أتيت إلى كريم، فقلت له: أنت رجل.
ليس هناك طائل.
وهنا كيف يقولون: محمد عبد صالح! بل هو سيد الصالحين صلى الله عليه وسلم، فأخذ صلى الله عليه وسلم يتبسم، وفي رواية في الصحيح: {فلما رآهم عمر - عمر رضي الله عنه دائماً يغير هذه الأمور المخالفة- أخذ حصباء من المسجد ورماهم، وقال: أفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فالتفت فإذا به يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوقف} مادام أن الرسول صلى الله عليه وسلم موجود هنا فالأمر يقتضي استفتاءه صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {دعهم -يا عمر - ليعلموا أن في ديننا فسحة -وفي لفظ صحيح- دعهم لتعلم يهود أن في ديننا فسحة} أي: هناك يسر وسهولة وسماحة في ديننا؛ فتركهم.
انظر إلى تكملة القصة فقال صلى الله عليه وسلم: {أتشتهين تنظرين؟ (أي يقول لـ عائشة: أتشتهين تنظرين إلى هذا العرض؟) قالت: نعم.
قالت: فأقامها صلى الله عليه وسلم وراء ظهره وجعلت خدها على خده، وهي تنظر إليهم، حتى قال لها: أرضيتي؟ قالت: نعم.
} فقام صلى الله عليه وسلم وقامت وبادرت بالحجاب.(190/9)
مسائل من حديث لعب الأحباش وغناء الجاريتين
هذا مجمل القصة وفيها مسائل:(190/10)
معرفة أعياد المسلمين والأعياد البدعية
المسألة الأولى: ما هي أعياد المسلمين وما هي الأعياد البدعية؟ وأحسن من كتب في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم، ذاك الكتاب العجيب، الذي هو قنبلة على رأس كل ملحد وبدعي وشركي ومعطل.
وأعياد المسلمين: عيد الفطر وعيد الأضحى، ليس للمسلمين عيد إلا هما.
قال أنس: لما قدم صلى الله عليه وسلم كان للأنصار أعياد في الجاهلية فقال: {إن الله عز وجل أبدلنا بيومين خير من أعيادكم: يوم تفطرون من صيامكم ويوم تضحون} فعيد الأضحى وعيد الفطر هما عيدا المسلمين وليس لهم أعياد غيرهما، ومن ابتدع مناسبة وعظمها وقدسها فقد أخطأ وابتدع، فلا عيد للمرأة ولا للرجل غير عيد الفطر وعيد الأضحى، ولا عيد للمولد، فيأتون بإنسان قد يكون ملحداً أو فاجراً ويقيمون له عيد ميلاد، ويذكرون حسبه ونسبه، وماذا أكل وشرب، وكيف ينام ويقوم، ولا له أثر في الدنيا أبداً! فليس هناك أعياد إلا هذين العيدين، وأما عيد الجمعة فهو عيد على المجاز، وإلا فمناسبة العيد ليس إلا عيد الفطر وعيد الأضحى فقط.
والأعياد البدعية كيوم النيروز، وهو يوم لأهل فارس يعظمونه، وعيد الميلاد، وعيد المرأة، وغيرها من هذه الكلمات التي جعلها الناس مناسبات وهي ليست بمناسبات.
فأعيادنا: عيد الفطر وعيد الأضحى حرام صيامهما، فلا يصومهما المؤمن أبداً، سواء كان عليه قضاء أو نذرٌ أو يريد تنفلاً، بل له أن يتزين ويتجمل ويتطيب وأن يروِّح عن نفسه، وسوف يأتي الكلام عن الترويح المباح ما هو، وما هي المناسبة التي تجري في مثل هذه الأعياد.(190/11)
مظاهر الفرح يوم العيد
الأمر الثاني: الفرح يوم العيد:
الفرح يوم العيد كإنشاد الشعر الذي لا يصاحبه طبل ولا مزمار ولا دف ولا ناي، والفرح يوم العيد كالرحلة والنزهة، والفرح يوم العيد كزيارة الأقارب، وبعض المزاح المباح والدعابة الطيبة، وإظهار التوسعة على الأهل من الكسوة والمطعم والنزهة وغير ذلك هذا هو الفرح الذي نص عليه أهل العلم.(190/12)
حكم الغناء في الشريعة الإسلامية وأضراره
الأمر الثالث: حكم الغناء في الإسلام:
تقول عائشة هنا: تغنيان؛ فهل الغناء وارد وجائز أم لا؟
أما قولها في الحديث: {تغنيان} تبين هذه الرواية رواية {وليستا بمغنيتين} أي: لا تجيدان الغناء، والغناء في الإسلام هو الغناء الذي يصاحبه وتر أو طبل أو ناي أو مزمار فهو حرام نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم على تحريمه، وفي القرآن ما يشير إلى ذلك قال أعز من قائل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} [لقمان:6].
قال ابن مسعود في "لهو الحديث": أقسم بالله إنه الغناء، وفي صحيح البخاري عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} واستحلالها أي: بعد التحريم، فهي محرمة إذاً.
وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء:64] قال بعض أهل العلم: أي بالغناء.
والغناء كما يقول ابن مسعود: [[ينبت النفاق في القلب كما ينبت البقل من المطر]] فحرام على المؤمن أن يسمع أذنيه الغناء الذي يصاحبه وتر أو عود أو ناي أو غيرها من الآلات الموسيقية، فإن كان من المرأة؛ فهو أشد تحريماً وأغلظ قبحاً وأشد سوءاً، نسأل الله العافية والسلامة.
ومن أضرار الغناء: أنه يصد عن ذكر الله عز وجل، ويعمي القلب، ويشغل عن الطاعة، ويفوت المقصود، ويحبب الجريمة من الزنا، والفاحشة.
قال عمر بن عبد العزيز لأبنائه: [[إياكم والغناء فإنه بريد الزنا]] وقال ابن القيم في كتاب مدارج السالكين: الغناء بريد الزنا، فما استمعه إنسان وداوم عليه إلا حبب إليه الفاحشة وهون عليه حدود الله عز وجل، وحمله إلى أن يقترف المعصية إلا من عصم الله.
وقال عقبة بن عامر لأبنائه: إياكم والغناء؛ فإنه يشغل عن كتاب الله عز وجل ويصد عن طاعته.
ومنها: أنه يزرع النفاق في القلب، فإن الذي يستمع الغناء صباح مساء يوجد فيه شعبة من النفاق العملي، فهو يظهر للناس الخير ويبطن السوء من كثرة ما استمع.
ومنها: أنه يوجد وحشة بين العبد وبين الله عز وجل، فلا يجد أنساً بذكر الله، ولا أنساً بقراءة القرآن كما قال ابن القيم:
قرئ الكتاب فأنصتوا لا خشيةً لكنه إنصات لاغ لاه
وأتى الغناء فكالحمير تراقصوا والله ما سجدوا لأجل الله
فأهل الغناء يجدون من روعة صوت الغناء ما لا يجدون في القرآن، حتى إذا أتيت بأحسن مقرئ وأجمل صوت وقراءة حزينة مبكية لا يتأثرون ولا يبكون، فإذا سمعوا الغناء هشوا وبشوا وارتاحوا له.
فهذه أضرارا الغناء التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين حكمها.(190/13)
حكم الأناشيد والفرق بينها وبين الأغاني
هناك فرق بين الغناء وبين النشيد، والنشيد الإسلامي مباح إذا خلا من ثلاثة أمور:
الأمر الأول: ألا يصاحبه دف ولا طبل ولا مزمار ولا ناي ولا وتر ولا أي آلة من آلات المعازف، فإن صاحبه شيء من ذلك فهو حرام؛ لأنه استحلال للآلات بعد تحريمها.
والأمر الثاني: ألا يكون الشعر الذي ينشد به شعر مجون وغزل يحبب الفاحشة والجريمة فإنه حرام.
والأمر الثالث: ألا يُسرف فيه، ولا يكثر ولا تضيع فيه الأوقات؛ لأن بعض الناس لما فتح باب إباحة النشيد؛ أنشد وهو قائم وهو قاعد وفي المخيم وفي خارج المخيم وفي السفر وفي الحضر، وفي الحافلة! حتى لم يترك للقرآن مكانة ولا وقتاً يقرأ فيه، فالنشيد إنما يؤخذ منه بقدر الحاجة، يجعل في فترة ترويح؛ لأنه ليس بعلم ولا فقه ولا مسائل حلال ولا حرام، وإنما هو ترويح يؤخذ بقدر الحاجة.
والصحيح أن الصحابة أنشدوا، وقد استمع صلى الله عليه وسلم للنشيد، لكنه صوت بلا مزمار، ولذلك كان له صلى الله عليه وسلم مولى اسمه أنجشة، والموالي في الغالب أصواتهم حسنة، والسبب في الحداء هذا أن العرب تحدو للبعير إذا أرادوا أن يسافروا مع الجمال حدوا لها، أي: أنشدوا للجمال فتهز رءوسها وتقطع المسافات ولو كانت هلكى من الجوع.
قال ابن قتيبة في عيون الأخبار يروي عن الأصمعي قال: دخلت خيمة رجل من الأعراب فوجدت عنده جمالاً قد ماتت وهي حول الخيام -على ميمنة الخيمة وعلى ميسرتها- فقلت: ما هذه؟ قال: سلط الله عليَّ هذا العبد، وفعل الله به وصنع، وقد ربطه في طرف الخيمة.
قلت: وماذا فعل؟ قال: أنشد إبلي من البارحة حتى قطعت كبودها تسعى حتى وصلت إلى البيت ثم ماتت!
وهذا صحيح فإن ابن عباس رضي الله عنه قال: [[أول ما عرف الحداء عن العرب أن غلاماً لـ عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم سافر معه إلى الشام، فضرب عبد المطلب الغلام، فأخذ الغلام يبكي ويترنم في البكاء، فأخذت الإبل تهز رءوسها فعرف أن الإبل تتحرك مع الحداء]] وهذا موجود ومعروف عند العرب، فإن الجمل إذا كلَّ وملَّ أنشدوا له؛ فارتاح وتعجب وانبسط وانشرح صدره، ولذلك يقول عمر كما في مناقبه لـ ابن الجوزي في كتاب المناقب: [[أنشدوا لنا في السفر فإنه زاد المسافر.
قال: فلما أنشد أقبل عليه الصحابة، فتركهم حتى تفرقوا فقرأ في سورة الذاريات فما أقبل عليه أحد قال: عجيب! أنشد النشيد فتقبلون وأقرأ القرآن فلا تقبلون!]] وقد طلب عمر رضي الله عنه النشيد، فإنه ثبت عنه أن دخل عليه متمم بن نويرة أخو مالك فقال: [[يا متمم! ماذا قلت لأخيك؟ يا ليتني كنت شاعراً فأرثي أخي! والله ما هبت ريح الصبا إلا جاءتني ريح أخي من اليمامة]] أخوه هو زيد بن الخطاب، أسلم قبل عمر واستشهد قبل عمر، وخرج لقتال مسيلمة الكذاب الدجال الأثيم فقتل هناك، يوم يبعثه الله من تلك الجبال من اليمامة يشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أنه قاتل في سبيل الله، وعاد خالد من اليمامة، واستقبل أبو بكر وعمر الجيش فلما رآهم واستعرضهم، التفت عمر إلى زيد، وكان رجلاً طوالاً عله أن يجده في الصفوف فلم يجده فانصرع يبكي رضي الله عنه وأرضاه.
فيقول لـ متمم: ماذا قلت في أخيك؟ لأن أخاه مالك بن نويرة قتله خالد بن الوليد، فقال فيه من أعجب الأبيات عند العرب، حتى قال الأصمعي: أم المراثي هي قصيدة متمم يقول فيها:
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
فليت المنايا كن خلفن مالك افعشنا جميعاً أو ذَهَبْنَ بنا معا
وكنا كندماني جذيمة برهة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
فبكى عمر وقال: [[يا ليتني كنت شاعراً فأرثي أخي]].
وفي الأدب المفرد للبخاري رحمه الله بسند حسن قال الأسود بن سريع: {ركبت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة فقال: أتحفظ شيئاً من شعر أمية قلت: نعم.
قال: أنشدني.
قال: فأنشدته بيتاً فقال: هيه! فأنشدته الثاني فقال: هيه! حتى أنشدته مائة بيت، ثم قال صلى الله عليه وسلم: آمن لسانه وكفر قلبه}.
وفي بعض الروايات أن عمرو بن الشريد هو الذي أنشد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعند الطبراني في المعجم الكبير عن الأسود بن سريع قال: {وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إنني مدحت ربي بقصيدة؛ فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: أما إن ربك يحب المدح} إي والله الله عز وجل يحب المدح، صح من حديث ابن مسعود عند مسلم: {ولا أحد أحب إليه المدح من الله ولذلك مدح نفسه} أما قال الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]؟
أما قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]؟ أما قال بعد أن دمر الأمم الكافرة: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]؟
فالله يحب المدح، ولذلك من كان ينظم شعراً فليمدح الله عز وجل وليكثر من الثناء عليه.
وفي البداية والنهاية لـ ابن كثير أن الشاعر العباسي أبا نواس لما توفي رئي في المنام، فقالوا: ماذا فعل الله بك؟ قال: كدت أهلك فغفر الله لي.
قالوا: بماذا؟ قال: نظمت قصيدة وصفت فيها النرجسة ومدحت الله في القصيدة فغفر لي.
ذكره ابن كثير في سورة البقرة لمن أراد أن يعود، وذكره في ترجمة أبي نواس في البداية والنهاية، وهي أبيات جميلة في مدح النرجسة يقول في بعضها:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
غفر الله له بإعلانه الوحدانية في هذه القصيدة.
إذاً: الشاهد الذي حدت عنه واستطردت هو عن أنجشة وكان مولى للرسول صلى الله عليه وسلم، فطلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحدو، فقام يحدو بنشيد من أناشيد العرب؛ فأخذت الإبل تهرول والنساء عليهن، فكدن يسقطن فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {رويداً يا أنجشة بالقوارير}.
أي: خفف الصوت حتى لا يسقطن النساء وهن في الهودج من على الجمال.
وفي الصحيحين أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه كان ينشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعركة، وينشد يوم المعمعة ويوم السعة، يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
ثم كان ينشد الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول:
فثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصراً كالذي نصرا
فقال صلى الله عليه وسلم: وإياك فثبت.
ولما أتته المنية نزل من على فرسه واقتحم وأخذ الراية وقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
إلى آخر تلك الأبيات، فالنشيد الخالي من المجون والإسراف وآلات اللهو لا بأس به إذا اقتصد فيه كما مر.
وعند ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد -وهي ليست مراجع أصيلة لكن أوردها كالزهرة تشم ولا تعك- وعند ابن قتيبة في عيون الأخبار أن عمر رضي الله عنه وأرضاه مر بغلامين له يرعيان ناقة (راعيان على ناقة واحدة) فقال عمر: ماذا تفعلان هنا؟ قالا: نرعى هذه الناقة.
قال: أعيدا علي النشيد الذي كنتما تنشدانه آنفاً.
فخجلا وخافا واستحيا.
قال: عزمت عليكما إلا أنشدتما.
فبدأ أحدهما ينشد ثم أنشد الآخر فإذا أصواتهما لا تحسن ولا ترفع ولا تشرح، فقال عمر: [[أنتما كحمار العبادي]].
والعبادي هذا كان له حماران قيل له: أيهما أخس؟ قال: هذا ثم هذا.
ثم قال: أراعيان على ناقة؟!
فالمقصود: أن الصوت الحسن يستأنس به؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {ليس منا من لم يتغن بالقرآن} ومعنى التغني: تحسين الصوت، وما أذن الله لأحد كما أذن لقارئ حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن، قال ابن تيمية: معنى أذن: استمع، (وأذنت لربها وحقت) معناها: استمعت.
وتحسين الصوت مطلوب في الصلاة، ولا يقول الإنسان هذا من التكلف بل عليه أن يحسن صوته ما استطاع، فإن أبا موسى -كما في الصحيحين - يقول: {لو أعلم أنك يا رسول الله تستمع لقراءتي لحبرته لك تحبيراً} أي: القرآن.
وأنشد الموالي والجواري عنده:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
إلى آخر القصيدة.
وفي السنن: [[ w=8002498>> أن أنساً رضي الله عنه وأرضاه دخل على أخيه البراء بن مالك، فوجده قد رفع رجلاً على رجل، وينشد ويرفع صوته وعقيرته في البيت، فقال: أتنشد وأنت من علية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: اسكت، والله لقد نشدنا عند رسول الله]].
هذا البراء الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {رب أشعث أغبر ذي طمرين -ثوبين ممزقين- لو أقسم على الله لأبره} فلما جاءت معركة تستر قالوا: يا براء! أقسم على ربك أن ينصرنا هذا اليوم.
قال: انتظروني قليلاً، فنزل فاغتسل وتحنط وتكفنّ وقال: [[اللهم إني أقسم عليك هذا اليوم أن تنصرنا وأن تجعلني أول قتيل في المعركة]] فكان أول من قتل وكان النصر مع المسلمين.
وفي صحيح البخاري في كتاب الأدب وفي كتاب الطب أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أتت تزور أباها وبلالاً، وقد أصابتهم حمى المدينة؛ لأنهم عندما وصلوا المدينة أصابتهم حمى، والحمى تحدث عند المرء شبه الوسوسة والهلوسة من كثرة ما تهزه وترجه، فيتكلم بكلام لا يعيه، فدخلت عائشة تزور بلالاً فسلمت عليه وقالت: يا بلال! كيف تجدك؟ فرفع صوته وكان صوته جميلاً وقال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أرِدن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
وهذه جبال في مكة، يقول: أيا ليتني أصحو من هذا الحمى وأعود إلى مكة، فتركته وأتت إلى أبي بكر وقالت: كيف تجدك يا أبتاه؟ قال:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
رضي الله عنهم وأرضاهم.(190/14)
حكم ضرب الدف للنساء
المسألة الخامسة في هذا الدرس: ضرب الدف للنساء
ما هو حكم ضرب الدف؟ وهل هو وارد أم لا؟
أما ضرب الدف ففي السنن وغيرها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف} وهذا للنساء، فإن للنساء في مناسبات الأعراس والأعياد أن ينشدن ويغنين ويضربن بالدف.
أما الغناء الذي يحدث في بعض الأماكن: أن تأتي مغنية عاهرة فاجرة خسيسة خبيثة تجر القبح والزنا والفاحشة وتغني وتضرب الوتر فهذا حرام، وهذا أمر يغضب الله عز وجل، ولا يرضي رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو أمر منكر وجريمة شنعاء.
لكن أن يجتمع النساء في مكان لا يخالطهن ولا ينظر إليهن رجال، فيأخذن دفاً ويصفقن ويغنين وينشدن ويرقصن فلا بأس بذلك، بل قد يكون من السنة، فلا يتشدد الإنسان لكثرة الحرص حتى يخرج من السنة، فلا ينكر الإنسان أن تفعل النساء مثل هذا الفعل بل عليه أن يكون مع السنة، وأن يكون مع سيرته صلى الله عليه وسلم مسهلاً ميسراً، فالدف للنساء وليس للرجال، ولا يرى أهل العلم لهذه الأدلة أن الرجل يقف بطوله وعرضه ويرقص على الدف والمزمار، ويكفيه أنها تشغل عن ذكر الله، لكن له أن ينشد أو يستمع نشيداً مباحاً أو يستمع ما خلا من دف أو آلة لهو أو لعب.(190/15)
حكم نظرة المرأة إلى الرجال
المسألة السادسة: نظر المرأة إلى الرجال من غير ريبة:
تقول عائشة: {وضعت خدي على خد الرسول صلى الله عليه وسلم وأنا أنظر إلى الحبشة} فهل في هذا جواز نظر المرأة إلى الرجال؟
أولاً: قال الإمام النووي: نظر المرأة إلى الرجال بشهوة حرام بالإجماع، ولذلك قال أعز من قائل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] فالغض هنا واجب إذا كانت هناك ريبة وشهوة.
وأما عند انتفاء الريبة فقال: في المسألة خلاف والأصح ألا تنظر، ولكن الذي يبدو لي أنه إذا لم يكن هناك ريبة؛ فلها أن تنظر، إلى الرجال، فإن النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كن ينظرن إلى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكن ينظرن إلى وجه أبي بكر على المنبر وهو يخطب وكذلك عمر، ولو كان لا يجوز للمرأة أن تنظر كان أمر الرجال أن يحتجبوا وأن يغطي الرجل على وجهه حتى لا تنظر إليه المرأة كما تفعل المرأة في جبال الطوارق في الجزائر حيث يتغطى الرجال والنساء سافرات! يسمون قبائل الملثمين، هم مغطون ويرون الطريق بحفظ الله ورعايته لكن المرأة لها أن تنظر كاشفة عن وجهها.
ووضع الندى في موضع السيف بالفتى مضر كوضع السيف في موضع الندى
فلو كان النظر إلى وجه الرجل حرام؛ كان الرجال أمروا بأن يضعوا شيئاً على وجوههم، لكن للمرأة في حالة عدم الريبة لها أن تنظر من وراء حجابها إلى من يعلم ويدرس في حلقة العلم إذا لم يكن هناك ريبة والأولى أن تترك، لكن هنا نبين الحكم ولا يحملنا الحرص على أن نتجاوز السنة.
وأما حديث عائشة فقال أهل العلم فيه: أن هذا قبل الحجاب، أي: أن نظر عائشة رضي الله عنها وأرضاها كان قبل الحجاب، ولكن ليس هناك دليل، وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال، فمن يدلل لنا بحديث صحيح أنه قبل الحجاب أو بعد الحجاب فيبقى على أنه ليس هناك دليل، ويبقى على الأصل أنها نظرت إليهم.
وقال بعضهم: لأنها صغيرة رضي الله عنها وأرضاها، لكن حقق الحافظ ابن حجر أن هذا النظر كان في السنة السابعة وعمرها رضي الله عنها وأرضاها خمسة عشر عاماً فدل على أنها كبيرة.
وقال النووي وبعض الشافعية: نظرت إلى سلاحهم ولم تنظر إلى وجوههم.
لكن ليس هناك دليل على أنها نظرت إلى السلاح والحراب ولم تنظر إلى الوجوه.
وأحسن الأجوبة أن يقال: نظرت ولم يكن فيها ريبة ولا شهوة رضي الله عنها وأرضاها، فجاز لها الأمر وأقرها صلى الله عليه وسلم في ذلك، فليعلم هذا، لأن هذا كأنه أقرب الأجوبة مما ظهر من كلام أهل العلم.(190/16)
الحث على التدريب على القتال
المسألة السابعة: التدريب على القتال قبل نزوله ومنها المسابقة بين الخيل:
يقول عز من قائل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] فكان صلى الله عليه وسلم يقر التهيؤ للمعركة والاستعداد، ومن هؤلاء أخذ أهل العلم أن على الناس أن يتثاقفوا بالسلاح، ويريشوا سهامهم، ويجردوا سيوفهم، وأن يتدربوا على المنازلة قبل المعركة.
لما التقى سعد رضي الله عنه وأرضاه في القادسية بـ رستم قائد فارس قبل بداية المعركة بليلة، أرسل رستم الفارسي جاسوساً له، وقال: اذهب فادخل في جيش المسلمين وانظر ماذا يفعلون في ليلهم؟ وعد وادخل في جيشنا وانظر ماذا يفعلون في ليلهم؟
فذهب هذا الجاسوس إلى جيش المسلمين، فدخل في أوساطهم، فرأى فرقة تتدارس القرآن في الليل، ورأى كتيبة تتلو القرآن وتذكر الله عز وجل، ورأى آخرين يدعون الله ويناجونه ويبكون ويسألون الله النصر، ورأى آخرين يصلون، ورأى آخرين يتدربون يريشون السهام ويجردون السيوف ويتثاقفون بالرماح، فخرج من جيش المسلمين ودخل في جيش فارس فرأى أناساً قد سكروا وفقدوا وعيهم من الخمر، وأناس يعاقرون، وأناس على الفاحشة، فعاد فأخبر رستم فعض على أنامله وقال: هزمنا من الآن.
وهزموا بأمر الله {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].
فالمثاقفة والتدريب وارد عند المسلمين، ولذلك يقول ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين: {سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي ضمرت والخيل التي لم تضمر} -الفرس يضمر عند العرب أي: يجوع حتى يصبح خصره كالقوس، أي: يترك من الأكل أربعين يوماً، ويسقى ماءً ويعطى بعض الأمور الخفيفة حتى يبقى خفيفاً يصبح خصره كالقوس؛ فيصبح سريعاً كمر الريح، فضمر صلى الله عليه وسلم بعض الخيل وبعضها لم يضمرها، ثم أتى في استعراض حافل يستعد للمعارك عليه الصلاة والسلام فطلب من شباب الصحابة أن يتسابقوا ويرى صلى الله عليه وسلم- فذهبوا إلى الثنية وبدأت الخيل التي ضمرت تتسابق والرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة عند مسجده في المدينة، وبدأ السباق من ثنية الوداع، فكان ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه في الخيل التي ضمرت فأتى فرسه يقذف به قذفاً قال: فلما وصلت إلى المسجد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة ينتظرون السابقة منا، حاولت أن أحبس فرسي عند المسجد وكان للمسجد جدار فما استطعت من سرعة الفرس فاقتحم بي ودخل بي المسجد! والرسول صلى الله عليه وسلم ينظر، حاول أن يحبسه بلجامه وأن يحد من سرعته لكنه لم يأخذ حذره من ذاك الموقف فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يتبسم هو والصحابة، فلما قرب الفرس؛ ما استطاع أن يرده الجدار، فقفز به من على الجدار، حتى دخل به داخل المسجد، فكان ابن عمر فيمن سابق.
وتسابق الناس على الأقدام كما في صحيح البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: نادى مناد: من يسابق؟ من يسابق؟ أعرابي عنده جمل فقال سلمة: أنا أسابقك.
فكان سلمة رضي الله عنه وأرضاه يسابق على الأرض وذاك على الجمل، فسبق بإذن الله، وسلمة أسبق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أهل السير: كان يصيد الغزلان من سبقه، وكان يطارد الأرنب حتى يمسكها برجلها!
وثبت في صحيح البخاري في حديث الغابة أنه لما أتى السبعة العرنيين أكرمهم صلى الله عليه وسلم وأنزلهم في المدينة ورأى بطونهم قد ذربت من الوباء والسقم، فأمرهم أن يذهبوا إلى الغابة فيشربوا من أبوال إبل الصدقة ومن ألبانها علهم يصحون.
وهذا علاج للسقيم أن يشرب من بول الناقة ومن لبنها، وهذا يعرفه العرب، فلما ذهبوا ومَنَّ الله عليهم بالشفاء -انظر إلى جزاء المعروف- قاموا إلى الراعي مولى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقتلوه وجدعوا أنفه وقطعوا أذنيه وكفروا بالله وارتدوا عن الإسلام وساقوا الإبل معهم! وكلها مخازٍ وفضائح بعضها على بعض {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40].
فأتى خادم من موالي الرسول صلى الله عليه وسلم ففر منهم وأتى وأخبرهم في المدينة فسمعه سلمة وهو في الطريق فقال: ماذا حدث؟ فأخبره الخبر، فقام سلمة على جبل أحد قال: فصوت حتى أسمعت ما بين لابتيها قبل صلاة الفجر، ثم أخذ وراء هؤلاء يريد أن يلاحقهم قبل أن يصبحوا في قومهم في غطفان، وإذا دخلوا في غطفان منعتهم غطفان، قال: فلحقتهم بعد طلوع الشمس بعد أن ارتفع النهار، قال: فكنت أرميهم بالحجارة وأعطلهم فيعودون إلي فأفر إلى الجبل، فإذا رجعوا؛ شددت وراءهم، قال: فأثخنتهم بالجراح، حتى أخذوا ينزلون بردهم من عليهم ويقولون: ماذا لقينا منك هذا اليوم؟ قال: فحاججتهم وعلمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يرسل سرية ورائي وظللت أريد أن أمهلهم وأثبطهم حتى تأتي السرية، فلما أتوا يريدون الماء وقت الظهيرة وقد عطلهم أن يصلوا ديارهم، قال: وإذا بالغبار ينقاد من وراء الجبل؛ فعلمت أنها سرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت وإذا به كرز بن عبد الرحمن أحد الأبطال والشباب من شباب محمد صلى الله عليه وسلم يقود كتيبةً قوامها ثلاثمائة مقاتل، فطوقت المكان واستسلم هؤلاء الخونة، وأتى صلى الله عليه وسلم فلقيه سلمة فقال: يا رسول الله! أعطني هذا الجيش أصبح به غطفان؛ فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: ملكت فاسجح.
أي: أنك توليت فاعفوا واصفح، انتهى الأمر، فأخذ صلى الله عليه وسلم هؤلاء السبعة فألقاهم في الحرة فقطعهم من خلاف {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33] وسمل أعينهم صلى الله عليه وسلم بالمسامير الحارة، وتركهم يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا عطشاً.
إذا الشاهد من هذا أن التدريب على القتال قبل نزوله ومنها المسابقة بين الخيل، والمصارعة، وأن هذا من أسباب القوة ومن إظهار الاستعداد لقتال الكفار، والرسول صلى الله عليه وسلم -كما تعرفون في السيرة- صارع ركانة، ولو أن بعض أهل الحديث له كلام في هذا لكن هكذا ورد في السيرة أنه صلى الله عليه وسلم صارع ركانة وقد كان من أقوى الناس وأشد العرب، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يسلم، فطلب معجزة؛ فأعطاه صلى الله عليه وسلم المصارعة، فصارعه أول مرة فصرعه صلى الله عليه وسلم، ومرة ثانية فصرعه، وثالثة فأسلم ودخل في دين الله.
وصح أنه صلى الله عليه وسلم تسابق هو وزوجه عائشة رضي الله عنها وأرضها، وهذا من كمال خلقه ومن حسن عشرته صلى الله عليه وسلم، فإن الذي نشعر فيه بالتقصير في الغالب سوء العشرة مع النساء، فإن بعض الناس يكون ضحاكاً بساماً مزاحاً مع الناس، فإذا دخل بيته؛ كشر وتزمت وغضب، وفي كتاب الأدب المفرد للبخاري قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: [[الدعابة مع الأهل، والوقار مع الناس]] وقال بعض السلف: كن كالطفل إذا دخلت على أهلك.
وقالت عائشة رضي الله عنها: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل علينا دخل علينا ضحاكاً بساماً مزاحاً صلى الله عليه وسلم}.(190/17)
جواز التوسع في اللعب المباح الذي لا يصد عن ذكر الله
المسألة الثامنة: التوسع في بعض اللعب المباح الذي لا يصد عن ذكر الله ولا يشغل عن طاعته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في مثل المناسبات والأعياد، كالرمي والنضل والمسابقة وإنشاد الشعر والمساجلة والمطارحة وبعض المزاحات التي لا يدخلها كذب ولا غيبة ولا استهزاء بالمسلمين ولا تقسي القلب.
والصحابة مزحوا بل مزح سيدهم صلى الله عليه وسلم، قيل لـ سفيان الثوري: المزح هجنة.
قال: بل سنة.
فكان صلى الله عليه وسلم يمزح ولكن لا يقول إلا حقاً، وكانت تعجبه الدعابة صلى الله عليه وسلم.
وورد في السيرة: أن ابن النعيمان كان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رجلاً مزاحاً من الأنصار.
أتى أعرابي في المدينة بسمن وعسل فأخذ السمن والعسل منه، وقال: اطلب قيمته من ذاك الرجل (يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم) ثم ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: هذه هدية أهديتها لك يا رسول الله.
فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أصلاً يريد الدعوة، وأما الحساب وقضية الحساب فأمر آخر، فدعا له صلى الله عليه وسلم فلما انتهى وخرج وإذا بالأعرابي يقول: اعطني مالي.
قال: وما مالك؟ قال: قيمة السمن والعسل؛ فتبسم صلى الله عليه وسلم وأعطاه.
ابن النعيمان سافر مع أبي بكر إلى دمشق، فلما أصبحوا في الطريق أتى رجل من الأنصار وكان أسمر اللون، وكانت عنده الميزانية: التمر والدقيق والخبز وكل شيء، وكان هو الذي يوزع عليهم الأكل وابن النعيمان كان رجلاً أكولاً، يريد خمس أو ست وجبات في اليوم، وكان هذا الرجل المتصرف يريد أن يوزع عليهم وقت الوجبة فحسب، فكان يطلبه كثيراً يقول: اعطني تمراً، اعطني خبزاً فيرفض فقال ابن النعيمان: والله لأرينك.
فلما وصلوا إلى الشام وهناك أسواق يباع فيها الرقيق قبل أن يعتق الرقيق، ذهب ابن النعيمان إلى تجار من أهل الشام قال: عندي مولىً لي وسوف يقول لكم أنه ليس مولى، لقد اتعبني وأشغلني فأريد أن تشتروه مني.
قالوا: سمعاً وطاعة.
فنازلهم في الدراهم فلما دفعوا له القيمة، قال: تعالوا معي، وسوف يقول لكم: إنه حر فإن كنتم تريدون إشغالي وإشغاله فلا تأخذوه من الآن.
قالوا: لا.
فأخذوا الحبال واقتربوا منه، فلما قربوا منه قال: إني حر، أعيذكم بوجه الله، لا تقربوا مني.
قالوا: أخبرنا قبل أن تخبرنا أنك سوف تفعل، فقيدوه وسحبوه.
فلما أتى أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه قال: أين فلان؟ قال ابن النعيمان: بعته يا أبو بكر.
قال: ممن؟ قال: بعته قبل قليل في السوق.
قال: فعل الله بك وفعل، وضحك أبا بكر حتى استلقى رضي الله عنه وأرضاه فدخل أبو بكر السوق يلتمس وينادي: أين فلان؟ فأجابوه، فلما رأى التجار أبا بكر عرفوا وجهه؛ لأنه كان سفيراً في الجاهلية وفي الإسلام، صبيحاً قائداً زعيماً، فلما رآه قال: هذا فلان من أسرة آل فلان من الأنصار.
فأطلقوا له الرجل، قال: فلما وصل إلى الصحابة ضحكوا حتى ترادوا هذه القصة عاماً كاملاً.
هذا من ضمن ما ورد في المزح المباح، ولكن بعض المزح قد يجحف أو يغضب فعلى العبد أن يتجنبه.(190/18)
حكم حمل السلاح في الأعياد
المسألة التاسعة: كيف يجمع بين لعب الحبشة بالسلاح في العيد وبين النهي عن حمل السلاح في الأعياد؟
لقد عقد البخاري باب ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم، ويجمع بينهما بأمور:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يتألفهم إلى الإسلام فتركهم يلعبون بالحراب في العيد.
الأمر الثاني: أنه لا يخاف منهم أشراً ولا بطراً ولا تجبراً ولا تكبراً.
الأمر الثالث: أنه لا يخاف منهم أن يعدو بعضهم على بعض، وإنما منع حمل السلاح في الأعياد لأن بعض الناس والقبائل بينهم ثارات أو بعض الأشخاص قد يأخذونه فرصة فيقتل بعضهم بعضاً في مجمع الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم منع من إدخال السلاح في الحرم وحمل السلاح في الأعياد والمناسبات، حتى أتى ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه مكة لما حج الحجاج الطاغية؛ فطعن أحدهم ابن عمر في رجله -رضي الله عنه وأرضاه- برمح، فأتى الحجاج يزوره، ويقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
يقول هذا دجلاً ويقول: من طعنك؟ ليتني أدري، وهو الذي أمر بطعنه كما يقول بعض أهل العلم، قال ابن عمر: أنت الذي طعنتني.
قال: ولمه؟ قال: أمرت بإدخال السلاح في يوم لا يدخل فيه السلاح، فدعا عليه ابن عمر، ومات منها ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه.
فهذه مسائل هذا الباب الذي عقده البخاري في كتاب العيدين، والذي أتحفنا به، وكل كتب البخاري وأبوابه حسنة، بل تزداد حسناً كلما تأملها الإنسان وتدبرها، وكأن القائل حينما يرى هذا التبويب وهذا الكلام وهذا الجهد المشكور يقول للبخاري:
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
أم المعاني اللواتي قد أتيت بها أرى بها الدر والياقوت متصلا
لو ذاقها مدنف قامت حشاشته ولو رآها غريب داره لسلا
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إن نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.(190/19)
حسبنا الله ونعم الوكيل!
إنها الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام وهو بين السماء والأرض عندما ألقي في النار فأنجاه الله.
وهي الكلمة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمع عليه الناس.
وهي الكلمة التي قالها ويقولها أصحاب الدعوات في كل زمان ومكان إذا أدلهمت بهم الخطوب، واشتدت عليهم الكروب، فماذا تعني هذه الكلمة العظيمة؟
وما هو تعريف التوكل عند أهل العلم؟ وكيف يكون التوكل؟ وهل الأخذ بالأسباب من التوكل؟ ثم ما هي صفات السبعين الذين يدخلون الجنة بغير حساب؟
كل هذه المسائل أجاب عنها الشيخ في هذا الدرس.(191/1)
فضل كلمة: (حسبنا الله ونعم الوكيل)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
ويتجدد اللقاء، ويزداد الشوق، ويتكاثر الحب لأناس ما أحببناهم إلا في الله عز وجل, وليس بأول مرة ولا بآخر مرة -إن شاء الله- أن نرى الأخيار والأبرار, وأن نرى شباب الصحوة وجنود محمد عليه الصلاة والسلام تكتض بهم المساجد, وتزدحم بهم الأرصفة، وهم يكونون مسيرة للواحد الأحد, إنني أقول لكل شاب منهم:
أحبك لا تسأل لماذا لأنني أحبك هذا الحب رأيي ومذهبي
وأرتاح أن ألقاك في كل مجلس لقاؤك فوز للحبيب المعذب
أيها الأخيار: نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بهذا الحب, فوالله إن القلب ليسعد أن يرى المسلم أمامه وهو يحضر هذه المجالس، ليشارك بمجلس من مجالس الخير يحفظ له عند الله، اللهم إن أهل الباطل يجتمعون في مجالس ينكثون عهدك، ويحاربون أولياءك، ويحشدون حشودهم من أجل معاصيك،
اللهم فقد اجتمعنا لمرضاتك يا رب العالمين, واجتمعنا لنرفع لواءك فارحمنا رحمة عامة وخاصة.
ثم إنني أزف إليكم بشرى، وهي: أنا جئت من الجنوب وهناك آلاف الشباب يملئون المساجد, يسبحون الله بالغدو والآصال, صحوة عارمة؛ لأن الله يقول: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
والله عز وجل إذا أراد أن يتمم شيئاً فلابد أن يتممه, فالنور نوره, والرسالة رسالته، والرسول رسوله قال تعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].
وعنوان المحاضرة كما ذكرنا: "حسبنا الله ونعم الوكيل" وهي كلمة المسيرة التي تحققت في حياة الإمام الأعظم محمد عليه الصلاة والسلام, قالها في رهج العاصفة, قالها وهو يصارع الأحداث؛ لأنه كما يقول بعض المعاصرين: إنه عليه الصلاة والسلام فتح جبهات عديدة: جبهة ضد الصهاينة , وجبهة ضد النصرانية , وجبهة ضد المجوسية , وجبهة ضد الصابئة , وجبهة ضد المشركين, وكلها يتلقاها بـ (حسبنا الله ونعم الوكيل) , وهي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام وهو بين السماء والأرض عندما وضع في المنجنيق, فلما اقترب من النار أتاه جبريل عليه السلام، فقال له: ألك حاجة؟ فنبض التوحيد والتوكل في قلب إبراهيم، فقال: أما إليك فلا.
وأما إلى الله فنعم.
حسبنا الله ونعم الوكيل، فجعل الله له النار برداً وسلاماً.
والله يصف أولياءه في أحد , والرسول صلى الله عليه وسلم كله جراح, وقد انكسرت رباعيته ودخل المغفر في رأسه عليه الصلاة والسلام, وذُبح من أصحابه سبعون, فأتاه رجل من الناس يقول: إن الناس قد جمعوا لكم، فقال عليه الصلاة والسلام: {حسبنا الله ونعم الوكيل} قال سبحانه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].(191/2)
أهمية الاعتصام بالله والتوكل عليه
روى البخاري وغيره في الصحيح وزاد الإسماعيلي في روايته: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم -سيد المتوكلين- خرج إلى الصحراء في غزوة يجاهد في سبيل الله, وفي الظهيرة تفرق أصحابه تحت الشجر ينامون، كل وضع رداءه لينام, وأخذ صلى الله عليه وسلم الشجرة الكبيرة فنام تحتها وخلع ثوبه وعلقه في الشجرة وبقي في إزار، فلما نام عليه الصلاة والسلام -ولكن كما يقول شوقي:
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان
أي: إذا لاحظتك عناية الله فنم ملء عينك, ونم ملء جفونك ولا تخف {نام صلى الله عليه وسلم فأتى مشرك من المشركين فاخترط سيف الرسول عليه الصلاة السلام صلتاً بيده, وأيقظ الرسول عليه الصلاة والسلام, والرسول صلى الله عليه وسلم مضطجع أمامه، فيقول المشرك: من يمنعك مني؟ قال: الله! فاهتز المشرك خوفاً ورعباً وسقط السيف من يده, فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم السيف وأجلس المشرك، وقال له: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، كن خير آخذ، قال: عفوت عنك} فأسلم الرجل ودعا قبيلته للإسلام فأسلموا عن بكرة أبيهم.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في حديث قدسي يصححه بعض العلماء: {وعزتي وجلالي ما اعتصم بي أحد فكادت له السماوات والأرض إلا جعلت له من بينها فرجاً ومخرجاً، وعزتي وجلالي ما اعتصم بغيري أحد إلا زلزلت الأرض من تحت قدميه} فالذين يتصلون بغير الله جبناء وسفهاء, ولا يملكون شيئاً حتى ولو خططوا وملكوا ورصدوا ولو حاولوا فالقدرة قدرة الله, اسمع إلى الله تعالى وهو يقول: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:79 - 80].
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لرسوله عليه الصلاة والسلام ولكل مسلم: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] لأن الله لا يموت أما سواه فيموت، الأنداد, والأضداد, والهيئات, والمنظمات, والكيانات كلهم يموتون، والمطلوب منا ألا نخف إلا من الله، قال بعض المفسرين: إذا أردت أن تكون أشجع الناس فلا تخف إلا من الله, ومن خاف من غير الله, خوفه الله من كل شيء، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] والتوكل فسره أهل العلم فقالوا: أن تفوض أمرك إلى الله، كما فعل موسى عليه السلام, أتى إلى البحر والعدو من ورائه فقال بنو إسرائيل: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] قال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62].
وكما فعل عليه الصلاة والسلام في الغار يوم قال لـ أبي بكر: {لا تحزن إن الله معنا} فنجاه الله.
وكما فعل الصالحون من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ويفعله الدعاة دائماً، أن تفوض أمرك إلى الله, قال تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:44 - 45].
وقال تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43].
ويقول تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
وقال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].
ويقول تعالى أيضاً: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:26].
لا تهولنكم الأنظمة الكافرة, والكيانات الصادة عن منهج الله, ولو عظمتها أجهزة الإعلام, ولو ذكرت قواها, فإنها تبور أمام قوة الواحد الأحد.
ورأيت ابن تيمية شيخ الإسلام رحمه الله ذكر دعاء موسى عليه السلام في سيناء يوم سجد وقال: "اللهم إليك المشتكى, وأنت المستعان, وعليك التكلان, ولاحول ولا قوة إلا بك".
وذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد أن موسى عليه السلام يوم أن كشف الغطاء عن البئر، ثم عاد إلى الظل قال: يا رب مريض فقير غريب جائع -موسى فيه أربع صفات هي: أنه فقير، ومريض، وجائع وغريب- فأوحى الله إليه: يا موسى! الفقير من لم أكن أنا مغنيه، والمريض من لم أكن أنا طبيبه، والجائع من لم أكن أنا مطعمه، والغريب من لم أكن أنا مؤنسه.
وقال ابن القيم في الفوائد: "من توكل على الله أكسبه عشيرة بلا عشيرة".(191/3)
أثر التوكل على الله في النصر على الأعداء
يقول تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173].
ولذلك يمدك الله بنصره وتوفيقه، ويشتد على قلبك؛ لأن الواحد الأحد كتب الغلبة له وحده، فيقول: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] ومن الآيات في هذا الباب قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] والسبب أن الرسول صلى الله عليه وسلم حفر مع الصحابة-كما تعرفون- الخندق فلما عرضت في الطريق صخرة عظيمة، فما استطاع الناس أن يزيلوها, فأعطوا الرسول صلى الله عليه وسلم المعول فنزل بيده الشريفة فضرب الصخرة فبرق بارق من الصخرة ملأ المدينة قال: {أريت قصور كسرى وقيصر وسوف يفتحها الله علي} هذا في وقت الضيق والجاهلية تحاصره، فيضحك المنافقون ويتغامزون ويقول أحدهم: أحدنا لا يجترئ أن يبول، وهذا يقول: يفتح الله عليه قصور كسرى وقيصر، يقول تعالى عن المنافقين: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] فأما أبو بكر وعمر وأمثالهما فيقولون: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22].
وبالفعل فتحها الله عليه, وسبح المسبحون بحمد الله بدعوته في أسبانيا والسند وفي طاشقند وأذربيجان، وجورجيا وفي سمرقند كلها بدعوة المعصوم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه توكل على الله, وقال الأنبياء: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [ابراهيم:12].(191/4)
توكل الأنبياء والصالحين على الله
ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سير الصالحين وأن كل واحد منهم كان يقول: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] ويقول هود عليه السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] فيقول أحد المفسرين: الله على صراط مستقيم، والرسول على الصراط المستقيم، والإسلام صراط مستقيم والصالحون على الصراط المستقيم.
في كفك الشهم من حبل الهدى طرف على الصراط وفي أرواحنا طرف
قيل لـ ابن مسعود: ما هو الصراط المستقيم؟ قال: [[محمد في أوله وتركنا في آخره]] ويقول ابن القيم: "في الدنيا صراط مثل صراط الآخرة من نجا فيه هنا نجا هناك" لأن الصراط هنا هو الطريق المستقيم، وفيه شهوات وشبهات ومعاصٍ, ومنكرات, فكلما نهشتك شبهة؛ نُهِشْتَ بشوك السعدان أو الكلاليب على صراط جهنم، أعاذنا الله وإياكم من السقوط والوقوع من على الصراط، إنه على كل شيء قدير.
يقول شعيب -وهو خطيب الأنبياء- ويقال: ما سُمع بحجة كحجة شعيب عليه السلام وكان خطيب الأنبياء وكان فصيحاً وحججه دامغة أوردها الله في سورة هود إيراداً عجيباً، يقول شعيب: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] يقول المفسرون: توكلت في أول الطريق وأنيب في آخر الطريق، ويقول الله لرسوله عليه الصلاة والسلام: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] ولا يمكن لأحد أن يصارع الأحداث إلا بالتوكل على الله الواحد الأحد، ويجعل قوته من قوة الله المستمدة لا من قوة البشر، انظر إلى الأدعياء الذين يتبعون الكيانات دائماً ويفتخرون بها، تجد الواحد منهم عنده نشوة أنه يتبع فلاناً, وأنه من خدم فلان, ولكن أنت مع الله وفي حزب الله عز وجل قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].
قال ابن عباس: [[كان آخر كلام إبراهيم عليه السلام يوم ألقي في النار حسبنا الله ونعم الوكيل]] وفي الصحيحين أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: {رأيت البارحة في المنام النبي ومعه الرهيط -أي: مجموعة قليلة- والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد، فإذا سواد عظيم فظننتهم أمتي، فقالوا: هذه أمة موسى عليه السلام, ثم إذا سواد عظيم قد سد الأفق فقلت: من هؤلاء؟ قالوا: أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب} ثم قام عليه الصلاة والسلام وترك المجلس، فخاض الناس فيهم، فقال بعض الصحابة: هم الذين ولدوا في الإسلام، وقال بعضهم: هم الذين صحبوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وقالوا أشياء أخرى، فخرج عليه الصلاة والسلام وأخبرهم فقال: {هم الذين لا يكتوون، ولا يتطيرون ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون} وفي الحديث مسائل ليس الآن مجال بحثها، ومعنى: "لا يتطيرون" أي: لا يعلقون أحداثهم بالطير كمن يتشاءم بالطير ومن يظن أن هناك فألاً حسناً أو فألاً مشئوماً هذا:
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع
فعلم الغيب عند الله ليس عند الطير، كذلك بعضهم يتفاءل أو يتشاءم بصوت الثعلب، أو بعضهم بصوت الغراب حتى يقول بعضهم:
ناح الغراب فقلت نح أولا تنح فلقد قضيت من الأنام ديوني
ويقول النابغة:
زعم البوارح أن رحلتنا غداً وبذاك خبرنا الغراب الأسود
فالعرب عندها سانح وبارح، فالسانح: إذا طار الغراب في الصباح على الميمنة سافروا، وإذا طار في الميسرة لم يسافروا، كانت أمة جاهلة قال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] وقال: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].
يذكرني هذا الحديث بحديث في الصحيحين لطرافته وحسنه, أورده هذه الليلة لأن فيه مسألة خاض الناس أي: اختلف الناس في مراد الرسول عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث هو في خيبر حيث أرسل عليه الصلاة والسلام من يفتحها فاستعصت عليهم فكان الناس مهمومين مغمومين مكروبين وبعد صلاة العشاء قال عليه الصلاة والسلام: {لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله يفتح الله على يديه} قال عمر: [[ما أحببت الإمرة إلا ليلة إذ]] أي: أحببت أن أكون أنا صاحب الراية؛ لأنه من مواصفاته أنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله, فليست رتباً عسكرية, ولا شهادات علمية، إنما هي رتبة عالية هي: حب الله والرسول، وبات الناس يدوكون من يعطاها, فصلى عليه الصلاة والسلام صلاة الفجر وسلم، والتفت إلى الناس وقال: {أين علي بن أبي طالب؟} قالوا: يا رسول الله! في خيمته في طرف المعسكر، وهو لم يحضر صلاة الفجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يرى مد يده حيث أصابه رمد في عينيه، فقال عليه الصلاة والسلام: أين هو؟ قالوا: به رمد يا رسول الله لا يرى شيئاً، قال: عليّ به، فذهب الناس يقودونه إلى المعصوم عليه الصلاة والسلام، فلما اقترب منه تفل في عينيه فأصبح كأن لم يكن به رمد قال: {خذ الراية، وادعهم قبل أن تقاتلهم، لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
فأين الإعلام العالمي الذي يقول: إن شباب الصحوة ودعاة الإسلام يريدون قتل البشرية؟ في الجزائر يوم خرج مليون جزائري قبل شهر من المساجد يكبرون ويهللون في شوارع الجزائر وهم يطالبون بحكم الله ويقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
قام عليهم الإعلام العالمي قال: الأصوليون يريدون إزهاق الأرواح, أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله ليخرج الإنسان من الظلمات إلى النور! بعثه بالسعادة والنور والإيمان قال تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2] أما الصهيونية والعلمنة والزنادقة والحداثيون، والمهرجون، والمغنون، والضائعون فلهم الميدان والإعلام والمكانة, وأما هؤلاء فهم متهمون دائماً, تلاحقهم التهم, سبحانك ربي هذا بهتان عظيم.
وذكر الترمذي في حديث حسنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: {لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً} الطائر في الصباح من يتكفل برزقه إلا الله, حتى أن ابن تيمية له كلمة في هذا يقول: "الطيور في أوكارها تشدوا بذكره " إذا سمعت الحمام يغني فاعلم أنه يشدوا بذكر الواحد الأحد، "والدود في الطين تلهج بذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى" والحيتان في البحر, وجميع ما في الأرض يسبح له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6].
وقد سمعت بعض الفضلاء يذكر قصة، يقول: رأيت عصفوراً كان يأتي إلى رأس نخلة, يهاجر من مكان إلى مكان, ومن ثم يعود إلى رأس النخلة، والعصافير عند العرب لا تبيض في النخلات، قال: فتعجبت كيف يأتي العصفور إلى النخلة؟! فصعدت النخلة فوجدت حية عمياء ويأتي هذا العصفور برزق هذه الحية, فإذا اقترب هذا العصفور فتحت الحية فمها فأعطاها اللحمة والخبز، وهذه الحية العمياء في مكانها, رزقها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بهذا الرزق, وهذا عجب من الأعاجيب؛ فإن الله يرزق الحية العمياء وهي في جحرها فكيف لا يرزق الإنسان، حتى يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2].
حتى يقول بعض الفضلاء من الفلاسفة يقول: يخرج الإنسان من بطن أمه أول ما تضعه أمه ويداه مقبوضتان من حبه للدنيا وحرصه عليها, حتى يقول أحدهم:
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
فهو التوكل على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, وممن توكل على الله أصحاب الرسول عليهم الصلاة والسلام خرجوا في الصحراء مع العلاء بن الحضرمي! فانقطع بهم الماء في صحراء الربع الخالي، بحثوا عن الماء فلم يجدوا شيئاً, حتى ذكر في السير أن بعضهم حفر قبره وجلس عليه! فقام أحدهم وقال: يا علاء بن الحضرمي ادعُ الله أن يغيثنا، فقام العلاء الحضرمي وقال: يا علي يا عظيم! يا حكيم يا عليم! أغثنا؛ فأتت غمامة لتوها فنزل القطر.
أنا أعرض عليكم قصة ربما سمعها الواحد منكم مائة مرة سامحوني في التكرار, لكني أزعم أنني لا أكرر, وأن القصة ولو تكررت فهي في قالب آخر وفي مجال آخر:
قالوا تكرر قلت أحلى علماً من الأرواح أغلى
فإذا ذكرت محمداً قال الملا أهلاً وسهلا
لكن خذوا هذه القصة, وألقوها في دار الإلحاد العالمي والشيوعية العالمية في موسكو , فإذا لم يؤمنوا فاعلموا أنما يتبعون أهواءهم.
في يوم الجمعة يصعد الرسول عليه الصلاة والسلام على المنبر ويقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فيقول الصحابة: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته -في جو المدينة صيف قارص, والشمس لامعة ليس هناك قطعة سحاب- يقول أنس: {والذي لا إله إلا هو، ما في السماء من سحاب ولا قزعة} فيأتي أعرابي ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يتكلم في موضوع آخر, والأعرابي يأتي من طرف المسجد -من باب الندوة فيدخل- فيقول الأعرابي: يا رسول الله! اجاع العيال, وضاع المال فادع الله أن يغيثنا، فتوقف صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا}.
قال أنس: {فسارت سحابة كالترس -الذي يضعه المقاتل على رأسه- فملأت جو المدينة ثم أرعدت, ونزل المطر وصار الماء يتصبب من سقف المسجد على وجه الرسول صلى الله عليه وسلم, وأخذ يتبسم عليه الصلاة والسلام} هذا سيد المتوكلين, محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يسجد في المحراب في الطين وبقي المطر أسبوعاً كاملاً ليل نهار لا ينقطع حتى يقولون: سال وادي قناة في المدينة شهراً كاملاً وهو يسيل وبعد أسبوع في الجمعة دخل الأعرابي أو غيره, والرسول صلى الله عليه وسلم في الخطبة والمطر متواصل مدة أسبوع إلى الجمعة الثانية وهو مستمر فقال: يا رسول الله! جاع العيال، -أي: ما خرج بسبب المطر- وضاع المال، وانقطعت السبل، فادع الله أن يرفع عنا هذا المطر، انظر ما أسرع العبد، لا يستقر على حال البأس ولا على حال النعمة، متبجح هذا الإنسان يقول تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً} [الاسراء:83].
الإنسان إذا ألقي في السفينة, وأخذت تموج به في الهواء تجد الدعاء والتذلل والتضرع لله, فإذا خرج بطر, وأخر الصلاة, وعصى وتمرد على الله، قال: ادع الله أن يرفع عنا الغيث، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: {اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر، قال أنس: فوالله ما يشير إلى جهة إلا انصب الغيث جهتها، قال: فخرجنا من المسجد في مثل الجوبة} أصبحت المدينة في مثل الجوبة، أصبحت الشمس فقط ترسل أشعتها إلى المدينة وأما حولها فغيث،: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15].
هذه واحدة من ألف معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي تنبيء عن توكله على الله عليه الصلاة والسلام.
وأتى البراء بن عازب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به إذا أردت أن آخذ مضجعي -وفي بعض الألفاظ أنه هو الذي علمه- فقال عليه الصلاة والسلام: {إذا أويت إلى مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة وقل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك وألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك لا منجا ولا ملتجأ منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، ثم نم فإنك إن مت من ليلتك مت على الفطرة} وهذه وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقصود بهذا: حتى في النوم يجب أن تتوكل على الله عز وجل.
وكان عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح إذا خرج من بيته -في حديث أم سلمة - يقول: {اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أُزل أو أظلم أو أُظلم أو أجهل أو يُجهل علي} وهذا دعاء مطلوب من المسلمين أن يقوله المسلم كلما خرج من بيته, وفي رواية صحيحة من حديث الترمذي وأبي داود كان يقول عليه الصلاة والسلام: {باسم الله، توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أُزل، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يُجهل علي} ويقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم وفي مسند أحمد: {يدخل الجنة أقوام أفئدتهم كأفئدة الطير} قال النووي: قيل هم المتوكلون على الله، وقال بعضهم: وهم في توكلهم على الله مثل الطير التي هي أعظم المخلوقات توكلاً على الله, تجده يخرج في الصحراء لا يدري هل يلقى حباً أو لا, فيلقى حباً ويملأ الله بطنه طعاماً بدون حيلة.(191/5)
عجائب من الحيوانات في رزق الله لها
حتى ذكر الجاحظ في كتاب الحيوان: أن الحية في الصحراء -في مثل الربع الخالي - تعيش السنوات, فإذا جاعت خرجت فنصبت نفسها كالعود؛ لأن الغراب لا يهبط إلا في مكان فيه عود, فيظنها عوداً فيهبط على رأسها فتأكله، من الذي دلها؟! الله.
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله: كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
فالحمد لله العظيم لذاته حمداً وليس لواحدٍ إلاكا
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] الحيوان يخرج من بطن أمه فيأتي إلى الثدي، من علمه؟! الله، النملة تعلم -بإذن الله- بأنه سوف يأتي فصل الشتاء فيه برق ورعد ومطر وسيل فتأخذ الحبوب فتجعلها في المخزون عندها في المستودع, وتخاف النملة إذا وضعت الحب في الطين في المستودع أن تنبت الحبة فتأتي إلى الحبة فتقسمها نصفين، ذكرها ابن القيم في مفتاح دار السعادة وهذا صحيح وأثبته أهل الطب من علمها؟! الله {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
النحلة تذهب الأميال الطويلة ثم تعود إلى خليتها، حتى يقول الأمريكي كرسون مرسون: عندها جهاز أريال، فيقول سيد قطب: لا ما عندها جهاز أريال، ليس هذا الجهاز، ولكن عندها جهاز: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68].
هذا التوكل على الله عز وجل, لكن الكثير من الناس لا يتوكلون على الله عز وجل, وهم يصلون ويصومون، ولقلة اعتصامهم بالواحد الأحد, تجد بعضهم يخوفك من أهل الدنيا أخوف من الله عز وجل، يقول: انتبه! هم إذا أرادوا نفذوا ما أرادوا، والله يلغي ذلك ويقول: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16].
يقول أهل السنة ليس في الدنيا فعال لما يريد إلا الله، فليس كل أحد يريد شيئاً يمكنه أن يفعله, فإن من الناس من يريد شيئاً ولا يفعله، ومنهم من يفعل شيئاً ولا يريده، أما الذي يريد ما يفعل ويفعل ما يريد فهو الله، قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] أحياناً أنت تفعل شيئاً وأنت ما أردته، أحياناً يسقط عليك المسجل، فيقول صاحبه: لماذا أسقطته؟ فتقول: ما أردت، صحيح ما أردت، يعني: أن حركاتك وسكناتك بيد الواحد الأحد، أحياناً تقول: أريد أن أعبر البحر ماشياً, هذا ما أردت لكن لا تفعل؟ أتحداك! لست فعالاً لما تريد، أما الله فهو فعال لما يريد, هذه كذلك من المفارقات بين الخالق والمخلوق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(191/6)
الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل
أيضاً فيما يتعلق بهذا الباب ما ذكره العلماء كما عند ابن ماجة: {من خرج من بيته وقال: بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هديت وكفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان} فأوصيكم بهذا عند ذكركم وخروجكم ومزاولتكم لأعمالكم, أن تتوكلوا على الله لكن بالقلوب, وأن تعتقدوا أنه لا ينفع ولا يضر إلا الواحد الأحد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ومن هذا الباب ما ذكر عن كثير من السلف منهم عمر رضي الله عنه وأرضاه أن رجلاً كان يلزم باب عمر يسأله في حاجة, ثم ذهب هذا الرجل وقال: يا رب أسألك أن تغنيني عن عمر وعن آل عمر، فأغناه الله عز وجل فسأله عمر، فقال: ما بك انقطعت عنا؟ قال: أغناني الله عنك وعن آل عمر لأني دعوت بهذا، وهذا عمر يريد أن ينقطع عنه الناس, ويتصلون بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لأن الخزائن في يديه، وكان عمر يحرك الناس إلى الله حتى نزل فرأى أعرابياً في السوق، قال: كيف أنت يا فلان؟ قال: الحمد لله، قال عمر: إياها أريد، يعني: أريد أنك تقول: الحمد لله.
ومما يلحق هذا الجانب -أيها الإخوة- أن المحققين من أهل العلم يقولون: إن الأسباب لا تنافي التوكل, فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بارز في درعين وهو سيد المتوكلين, وأخذ بالأسباب وهو سيد المتوكلين عليه الصلاة والسلام، وعند الترمذي وغيره من أهل العلم كـ البيهقي وأبي نعيم: {أن أعرابياً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أترك ناقتي وأتوكل؟ أو اعقلها وأتوكل، قال عليه الصلاة والسلام: اعقلها وتوكل}.
فأدِّ السبب واترك المسبب وهو الله عز وجل فإنه سوف يحكم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أمره، فلذلك على أهل الخير أن يعملوا بالأسباب ويتركوا المسبب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يفعل ما يريد، فأنت عليك مثلاً: أن تذاكر إذا أردت أن تنجح، وعليك أن تعمل صالحاً إذا أردت الفوز في الآخرة.
وعند أحمد في المسند أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {نصرت بالرعب، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، ومن تشبه بقوم فهو منهم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، قال أهل العلم: قوله عليه الصلاة والسلام: جعل رزقي تحت ظل رمحي: أي: أن الله جعل سبب رزقه بالجهاد في سبيل الله, وهو الفيء والغنائم، فالرسول صلى الله عليه وسلم زاول العمل وفعل ثم منحه الله عز وجل, لا أن معنى التوكل أن تقول: رزقي سوف يأتيني في بيتي.
أنتم تعرفون القصة المشهورة -وهي ثابتة- أن عمر رضي الله عنه وأرضاه دخل المسجد فوجد شباباً يصلون ويسبحون في المسجد، فقال: ماذا تفعلون؟ قالوا: نعبد الله، قال: كلنا نعبد الله، قال: من يرزقكم؟ قالوا: الله -يُعلِّمون عمر أن الرازق هو الله- قال: أعلم أن الرازق هو الله، لكن من يطعمكم ويسقيكم؟ قالوا: جيران لنا، قال: جيرانكم خير منكم، انتظروني قليلاً، فانتظروه وأغلق عليهم المسجد, وأتى بدرته -بيض الله وجهه ووجهها- فدخل عليهم وبطحهم على ظهورهم وبطونهم ثم قال: [[اخرجوا فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، اخرجوا واعملوا]] فهو يدعو إلى أن تكون عندك مزاولة في الحياة ويكون لك مشاركة وتأثير، وتكسب المال ولا تصدق الدعوات المنحرفة التي تدعوك إلى الخمول والكسل, وتدعوك إلى ترك التأثير في العالم, وترك جمع المال كما يفعله الصالحون حتى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل اكسب واعمل واعبد الله عز وجل, والله عز وجل يتولاني وإياك.
أيها الإخوة الكرام: صراحة لا أريد أن أستهلك المحاضرة في كلام, لأني ما أردت بهذا إلا أن أشير إليكم وأذكركم بكلمة "حسبنا الله ونعم الوكيل" ولعلنا نجدد في أسلوب المحاضرات, لا يلزم أن تكون المحاضرة كلها من المغرب إلى العشاء فيكون لها مقدمة وختام ولا نبقي للأسئلة وللمشاركة وقتاً:(191/7)
الأسئلة(191/8)
الحور العين ومآل الزوجة في الجنة
السؤال
يقول السائل: إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أعد للمتقين الحور العين, نريد أن نعرف ماذا عن النساء التقيات المتزوجات وغير المتزوجات وهل هناك فرق بينهن وبين الحور العين؟
الجواب
الذي يظهر أن الحور العين ينشئهن الله إنشاء في الجنة, ويمنحها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لعباده المتقين، أما المرأة إذا كانت متزوجة فإنها لزوجها إذا كان زوجها يحبها وهي تحبه وكان صالحاً وهي صالحة, ولا يجبر ولا يجبر بزوجة لا يحبها أو كانت سيئة الخُلق، وقد أخبرنا بعض المشايخ يقول أحد الخطباء يوم الجمعة: أبشركم بشرى أن المسلم يزوج في الجنة بزوجته في الدنيا، فقال: أحد المصلين: ابتليت بها في الدنيا وأيضاً في الآخرة! ليس هذا بل إذا كان بينهما حب ووئام زوجهما الله، وأيضاً المرأة التي ما تزوجت يزوجها الله في الجنة، وهناك امرأة تزوجت أكثر من واحد -اثنين وثلاثة- فهي لأحب الأزواج إليها أو لآخرهم, هذا على خلاف بين أهل العلم, فالله أعلم بهذا, لا يهمنا إنما نعمل صالحاً وفي الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.(191/9)
نصيحة بقراءة كتاب
السؤال
هل في ذاكرتك آخر كتاب تنصحنا به؟
الجواب
نعم.
تعودت في المحاضرات أن أنصح ببعض الكتب، وفي آخر كل شريط, وأنا في هذه الليلة أطلب من نفسي ومنكم أربعين صفحة في أول كتاب لـ ابن تيمية المجلد الأول في توحيد الألوهية، في الفتاوى المجلد الأول من الفتاوى أربعين صفحة أو خمسين صفحة، فاقرءوها كلما ضعف إيمان كل واحد منكم فليقرأ من هو الخالق سبحانه ومن هو المخلوق؟ وكيف تتوكل عليه وتعتصم به؟ أعني: أن تجعل هذا المجلد عند رأسك وقبل النوم تقرأ منه صفحات، ولذلك بلغ هذا الرجل في الإيمان مبلغًا عظيماً -رحمه الله- بسبب توحيده العظيم.(191/10)
دور الوافدين في الدعوة إلى الله
السؤال
ما هو دور الإخوة الذين توافدوا على جدة بقصد النزهة وأخذ هذه العطلة؟
الجواب
نعم.
أنا أرى أن هناك وجوهاً قد وفدت, حتى إني أرى كثيراً من الوفود قد وجدت.
وأرى الإخوة من الجنوب وأنا أعرف أهل الجنوب أكثر من غيرهم, وفدوا هنا, والشرقية والوسطى والقصيم قد يتوافدون وكل بلد منزله هو بلدنا لأننا معنا أحبة وإخوة يحملون قلوبنا ومبادئنا وأفكارنا وأشواقنا كما في القصيدة:
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن أنا الجنوب بها دمعي وأحزاني
بـ الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبالفسطاط جيراني
وفي ثرى مكة تاريخ ملحمة على رباها بنينا العالم الفاني
في طيبة المصطفى روحي وا ولهي في روضة المصطفى عمري ورضواني
والنيل مائي ومن عمان تذكرتي وفي الجزائر آمالي وتطوان
دمي تصبب في كابول منسكباً ودمعتي سفحت في سفح لبنان
فأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
إن دور الوافدين في جدة وأمثالهم من الأخيار ومن أمثالكم, أقول باختصار: واجبهم أن يدعوا إلى الله عز وجل, ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر, ولا يرضوا بالمنكرات ويمرون عليها ثم لا ينكرون ولا ينهون ولا يزجرون, فإن هذه خطورة ولو أن كل إنسان رأى منكراً وسكت، لعم الفساد في العالم, والله يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
فوصيتي كلٌ بحسبه: {بلغوا عني ولو آية} تأمر بالمعروف بكلمة, وتنهى عن المنكر بكلمة, تصور لو أن صاحب الفيديو وعنده أفلام هدامة, يمر عليه في اليوم عشرة، كل واحد منهم يقول: اتق الله! هذا محرم, فإنه بعد وقت سوف يشعر أن الرأي العام ضده، وسوف يشعر أنه مخطئ، تلومه نفسه وضميره, وسوف ينتهي، لكنه يرى الناس ساكتين لا ينهونه ولا يزجرونه فيستمر في ذلك.(191/11)
ما موقفنا من الذين يتكلمون في العلماء؟
السؤال
إن الدعاة عندنا في البلاد يَنالُ منهم الفسقة, ويتكلمون فيهم في المجالس حتى تكلم في سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز، والشيخ/ ابن عثيمين، وتكلم فيكم، وفي الشيخ/ سلمان وناصر العمر؟
الجواب
الأمر الأول أقول: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] فإن كنا مؤمنين دافع الله عنا.
الأمر الثاني: على الدعاة أن يتصدقوا بأعراضهم ثم لا يعودون في الصدقة فتبتلى في سبيل الله -كما فعل بالرسول صلى الله عليه وسلم- وبدمائهم وبأموالهم.
الأمر الثالث: ينبغي على المؤمنين أن يدافعوا عن عباد الله عز وجل, فإن من خذل أخاه المسلم خذله الله في موطن يحب أن ينصر فيه, وما من مجلس إلا ويحضره صالحون, فإذا سمعت أن عالماً أو داعية أو طالب علم تنتهك كرامته وتداس، فما موقفك إلا أن تدافع عنه وتبري ساحته, وأن يراك الله وقد جاهدت وقلت الكلمة، والحمد لله نحن نعلم أن الله قد جعل خطين متدافعين متوازيين قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].
ليس يخلو المرء من ضد ولو حاول العزلة في رأس الجبل
هذا لا يهم، وأمرنا إلى الله عز وجل، وأسأل الله أن يجعلها كفارة في سبيله، فالرسول صلى الله عليه وسلم أتى إليه ابن مسعود يقول له: يا رسول الله! فلان يسبك قال: {رحم الله موسى ابتلي بأكثر من هذا فصبر} وعند البخاري في الصحيح {وصبر} وأصل القصة في غير البخاري: {أن موسى كلم الله عز وجل، فقال: يا رب أسألك مسألة، قال: ما هي؟ قال: أن تكف ألسنة الناس عني، قال: يا موسى! ما اتخذت ذلك لنفسي إني خلقتهم ورزقتهم ويسبونني ويشتمونني} وفي البخاري: {يسبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك, ويشتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما سبه إياي فيسب الدهر, وأنا الدهر أصرف الليل والنهار كيف أشاء، وأما شتمه إياي: فيدعي أن لي صاحبة وولداً وأنا الله لم أتخذ صاحبة ولا ولداً} فما دام أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يصبر، وقد وصفه صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأن أهل السنة واقفين عند الصفات، يقولون: لا أحد أصبر على الأذى من الله فما بالك بنا نحن الذي نعتبر مصدر النقص فينبغي علينا أن نصبر ونحتسب, لكن لابد على كل واحد منا أن يذب عن أخيه المسلم.(191/12)
لا بد أن نعرف القائل
السؤال
من هو القائل:
كدأب علي في المواطن كلها أبي حسن والغصن من حيث يخرجُ
الجواب
القائل هو ابن الرومي في قصيدة مشهورة يرثي أحد أبناء علي بن أبي طالب في عهد بني العباس في قصيدة رائعة من أجمل المراثي يقول فيها:
أزيد العلا لهفي لذكراك لهفة يباشر مكواها الفؤاد فينضج
متى تستعيد الأرض ثوب جمالها فتصبح في أثوابها تتبهرج
عفاء على دنيا رحلت لغيرها فليس بها للصالحين معرج
كدأب علي في المعارك كلها أبي حسن والغصن من حيث يخرج
سيصغي له من عالم الغيب ناصر ولله أوس آخرون وخزرج
وهي من أروع ما قيل في الأدب العربي وهي من الرثاء الحق.
أيها الإخوة الكرام: لا أطيل عليكم بل أطلب منكم الدعاء لدعاة الإسلام, وطلبة العلم, والعلماء بالنصر والتمكين في الأرض, وبالحماية والرعاية فإنهم بحاجة شديدة، وأطلب منكم ألا تنسوا السهام في آخر الليل فإن عندكم سهاماً لا تستخدم أحياناً، وهي أقوى من صواريخ اسكود، وهي الدعاء بظهر الغيب، قالوا متى؟ في الثلث الأخير من الليل، يعقوب عليه السلام قال لأبنائه: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف:98] يقول أهل العلم: لماذا قال: سوف أستغفر لكم ربي؟! قالوا: حتى يتحرى وقت السحر.
دخل أحد الناس على أحد الوزراء في بني العباس, وكان هذا الوزير ظالماً في عهد الخليفة القاهر وكان هو أيضاً ظالماً عنيداً يضرب الناس بالكفوف على وجوههم, لكن:
كل بطاح من الناس له يوم بطوح
فدخل أحد المساكين إلى هذا الوزير يريد أن يسأله مسألة فلطمه على وجهه، فقال ذاك الفقير: لأشكونك في الثلث الأخير إلى الله ثم ذهب، قال: افعل ما بدا لك -يتحدى- فجلس هذا الرجل في السحر في الثلث الأخير يوم يقول عليه الصلاة والسلام: {ينزل ربنا في الثلث الأخير إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من داعٍ فأجيبه، هل من مستغفر فأغفر له} فرفع كفيه إلى السماء، وقال: اللهم إنه لطمني هذا اليوم بيده اللهم اقطع يده، قال أهل العلم: والله ما مر أسبوع إلا وغضب عليه القاهر وقطع يده, وعلقت بـ باب الطاق عند مدخل بغداد وكان يستقي هذا الوزير بشماله, وله مقطوعة جميلة, وأصبح يخط بشماله ويقال: رأوه يأخذ الدلو بشماله -أهانه الله تعالى يأخذ الدلو بشماله- فقالوا: إذا أراد أن يشرب وضع الحبل في فمه وهزه حتى يشرب من الدلو ويتوضأ.
على كل حال إذا كان الجزاء في الدنيا فهو سهل, وإنما قصدي هذا أنه لا يفوتكم الثلث الأخير؛ لأن الدعاء فيه مستجاب حيث يتنزل الرب سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
وقف المسلمون على حدود كابول بجيش عرمرم ما يقارب مائة ألف, قائدهم: قتيبة بن مسلم فقال: التمسوا لي محمد بن واسع، - محمد بن واسع أزدي من جماعته- فذهبوا يلتمسونه فوجدوه قد اتكأ على الرمح ورفع إصبعه يدعو الله عز وجل وكان من سادات المحدثين, فعادوا إلى قتيبة فأخبروه، فبكى قتيبة قبل المعركة، وقال: والذي نفسي بيده، لأصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف سيف شهير، ومائة ألف شاب طرير.
وعن أبي الدرداء في الترمذي -وهو حديث صحيح- يقول عليه الصلاة والسلام: {إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم}.
ووالله إنني كلما رأيت مع إخواني مسكيناً أو ضعيفاً تقربنا منه لأن دعاءه يفوق الألوف المؤلفة, لا تجلس إلا مع المساكين ولا تحب إلا الفقراء وحاول أن تجلس معهم, وحاول أن تقترب منهم وتجتمع بهم قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
أتى الفقراء يجلسون حول الرسول عليه الصلاة والسلام وأتى أبو جهل يريد أن يسمع القرآن وأبو لهب والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل أتوا وعليهم الحلل من الحرير والديباج، والفقراء مثل: ابن مسعود وعمار وصهيب وسلمان وبلال، فقالوا: يا محمد! إن كنت تريد أن نجلس معك فاطرد هؤلاء الموالي عنا، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطردهم, والرسول صلى الله عليه وسلم بشر ويجتهد فأنزل الله جبريل بقوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52].
لا تبقى إلا معهم فالنصر معهم والتأييد والدعاء والحب والصلاح, ولكن ارفض الفجرة ولا تجلس معهم ولا تحبهم ولا تنتمي إليهم؛ لأن الله قطع الحبل بينه وبينهم, فلماذا نتحاب هل بيننا نسب؟! ليس بيننا نسب إلا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] هل بيننا سبب؟! ليس إلا سبب لا إله إلا الله، اللهم انفعنا بهذا النسب والسبب.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(191/13)
العلمانيون والصحوة
السؤال
يقول السائل: ما موقف العلمانيين في بلادنا؟ وهل يرتاحون من الصحوة أم لا؟
الجواب
أنا أقول: وهل نتحرى ارتياحهم من الصحوة؟ يقولون: يزيد حاسداً له (يزيد) مغضباً منه قال:
يزيد يغض الطرف دوني كأن ما زوى بين عينيه عليَّ المحاجم
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ولا تلقني إلا وأنفك راغم
في يوم عرفة الكل سعيد إلا الشيطان, يقول عليه الصلاة والسلام: {ما رُئي الشيطان أصغر وأدحر من يوم عرفة} فهؤلاء ما يرون أصغر ولا أدحر من اجتماع أهل الخير, ومن اجتماع أهل العلم, ومن اجتماع أهل الفضل من أمثالكم فما ضرنا، فهل نستشيرهم أرغم الله تلك الأنوف، تجدهم دائماً في الإثارات والحوادث, تجدهم وراء السارق, أو يجتمعون في البلوت, أو مع المنتخب, أو مثل هذه المشاهد لكن لا يأتون هذه المجالس التي تحفها الملائكة، ويباهي بها الله من عنده وتتنزل عليها السكينة وتغشاها الرحمة.
رأى عمر رضي الله عنه الناس يطارودون سارقاً فأتى عمر وحفن حفنة من التراب, وحثاها على وجوههم وقال: [[شاهت هذه الوجوه التي لا ترى إلا في الشر]] أما أنتم فأقول: طابت هذه الوجوه التي لا ترى إلا في الخير وعل الله أن ينفعني وإياكم بمثل هذه المجالس، فإن عطاء بن أبي رباح يقول: [[مجلس الذكر يكفر سبعين مجلساً من مجالس اللهو]].
أي: اعتمد على الله أن يكفر هذا المجلس سبعين مجلساً كنت لغوت فيه في زمن ما, أو سهوت عنه أو ذهلت عن الطاعة.(191/14)
طلب محاضرة في الترغيب والترهيب
السؤال
كذاك يقول الأخ: وددت أن تكون المحاضرة في الترغيب والترهيب حتى تخشع القلوب؟
الجواب
كل ما يقال من كلام الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الأجر حاصل فيه بحسب النية والخير, سواء كان من الرقائق أو من الأحكام, أو من التخويف, أو من أي مسألة حوت ذكر الله عز وجل، والقرآن كله إما أحكام أو مواعظ, أو فيه آيات تحثك على التفكر والتأمل والتدبر في آيات الله فالكل فيه خير والحمد لله وحضورك للاستماع لأي شيء منها سوف ينفعك عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(191/15)
حكم البنوك الربوية
السؤال
ما حكم البنوك الربوية؟
الجواب
قد سبق في هذا خطب، وذكر أقوال أهل العلم في هذه المسألة, فإني أحذر نفسي وإياكم منها وأدعوكم إلى عدم التسارع إلى البنوك الربوية؛ لأنها تحارب الله وتتحدى شرعه وهي من العار في البلاد؛ لأنها تناطح السحاب ودائماً نخرج إلى صلاة الاستسقاء نطلب الغيث لكن البنوك الربوية تقول للغيث: لا تنزل {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] والمرابي محارب لله ورسوله، قال ابن عباس رضي الله عنه: [[على المرابي أن يأخذ سلاحاً فإن الله سوف يحاربه يوم القيامة]].
فأحذركم وأحذر نفسي وأطلب منكم مقاطعة هذه البنوك التي حاربت الله عز وجل, وعارضت شرع الرسول صلى الله عليه وسلم, وكأن هؤلاء يقولون: لا يوجد حل اقتصادي غير هذا، ولم يعلموا أنه ما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وأعطانا منه خبراً عليه الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: {تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك} فنشهد أنه بلغ, وأدى, ونصح, وعلم, وهدى, وأرشد عليه الصلاة والسلام, فلا يلومن أحد إلا نفسه, سبحان الله!! يُطْعَم الأطفال من الربا, وتصرف سيارة من الربا, ثم نقول: يا رب يا رب يقول المعصوم عليه الصلاة والسلام: {ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له}.(191/16)
يوسف عليه السلام في الجب
سورة يوسف عليه السلام من السور التي ما يقرؤها القارئ إلا ويذوب فيها ولا يفيق من صورها البديعة وقصتها المؤثرة إلا بانتهائها، لأنها تخاطب كيان الإنسان كله، تخاطب مشاعره ووجدانه كما تخاطب عقله، تخاطب وجدانه بما تحمله من عواطف جياشة، ومواقف مؤثرة؛ آلام آحزان فراق بكاء شكوى لقاء.
وهي تخاطب العقل بما فيها من دروس وعبر لمن تأملها وتدبرها.(192/1)
قصة يوسف
الحمد لله القائل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ * إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:3 - 6].
والصلاة والسلام على رسول الله القائل: {أتدرون من هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم} وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
[[دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد قاصاً يقص على الناس، وواعظاً يعظهم بأخبار الجاهلية، فقال عمر: من هذا؟ فيقولون: هذا قاص يقص علينا، فيعلوه عمر بالدرة -وهي عصى غليظة- ويضربه، ويقول له: أتقص يا عدو الله! والله يقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3]]] ومن أحسن القصص قصة يوسف عليه السلام وبطلها يوسف عليه السلام، وهو يمر فيها بأربعة مشاهد:
المشهد الأول: مشهد الفراق من أبيه، أربعون سنة لا يرى أباه وأهله.
المشهد الثاني: مشهد الفتنة، امرأة العزيز تتعرض له وهي من أجمل خلق الله.
المشهد الثالث: مشهد السجن ليسجن في ذات الله.
المشهد الرابع: مشهد ملك مصر، والتحدث من مصدر القوة بعد الفراق والسجن.
يقول الله عز وجل في بداية السورة: {الر} من هذه الحروف نتكلم بحروفنا، ومن هذه الحروف نقول كلماتنا، ومن هذا الكلام قرآننا.
فيا أيها الفصحاء! يا قريش البليغةالعرباء! صوغي من هذه الحروف كما صغنا منها قرآناً يتلى، المادة موجودة، والخام معروف؛ لكن هل تستطيعون أن تصوغون قراناً كهذا القرآن؟!
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1] كتاب مبين واضح: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2] فيا من نام ولم يستيقظ! استيقظ بهذا القرآن، ويا من غفل ولم يصح! اصح بهذا القرآن، ويا من عطل عقله! اعقل بهذا القرآن: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من بعده عليه الصلاة والسلام، ثم يقول تبارك وتعالى مقدماً للقصة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] أطيب وأصدق وأروع القصص: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] كنت أمياً لا تقرأ ولا تكتب، كنت أمياً في صحراء مع أمة أمية جاهلة، ليس عندها قصص ولا كتاب.
ثم ينتقل بنا القرآن إلى يوسف عليه السلام، وإلى أبيه يعقوب، الأنبياء المطهرون المشرفون المكرمون، والأسرة العريقة في الكرم والجود والتقوى وفي الورع:
وما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجة وتغرس إلا في مغارسها النخل
يوسف عليه السلام يصحو وهو غلام لا يقارب العاشرة، وفي الصباح يجلس أمام أبيه، ومن أعجب الأعاجيب عند الطفل أن يرى في النوم ما يرى، لذلك الأطفال يرتاحون إيما ارتياح إذا رأوا في نومهم ما يقصونه على آبائهم، لو رأى حتى خيالاً أو طائراً أو جبلاً، لزاد عليه ونمق وزخرف ولأخبر أهله في الصباح، أما يوسف عليه السلام فما زخرف ولا زاد، يجلس أمام أبيه ويقول: يا أبتاه! إني رأيت البارحة أحد عشر كوكباً -نجماً في السماء، والشمس والقمر- ولو سكت لما كان في القصة عجب كل يرى أحد عشر كوكباً، وكلهم يرون الشمس والقمر، لكن ما هو المذهل يا ترى؟ إن سر الحلم والرؤيا هو: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] رأيتهم نزلوا من السماء وسجدوا لي في الأرض، فلمح يعقوب عليه السلام وهو نبي آتاه الله من العلم والإدراك والفطنة والفهم، أن ابنه هذا سيكون له شأن أيما شأن، وسوف يكون وارثه بالنبوة، فخاف أن يخبر إخوانه، فيأتي الشيطان فيحول بينهم وبينه، وهذا ما حدث.
فقال: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:5] احذر أن يسمعوا هذه القصة، لا تخبرهم أبداً أنك رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدون لك، ولكنه ما أخذ الوصية وما حفظها وما شك في إخوانه، بل أخبر إخوانه من أبيه، الأشقاء الرحماء، والأصفياء كيف ينقم بعضهم على بعض؟ ولذلك علمنا صلى الله عليه وسلم: {إذا رأى أحدكم رؤيا فلا يقصها إلا على من يحب}.
فأتى يوسف عليه السلام إلى إخوانه وهو أصغرهم وقص عليهم القصة، فثار الحقد في قلوبهم، والحسد في نفوسهم، وبدا تدبير عملية اغتيال يوسف أمراً مؤكداً، بل من المهمات التي يجب أن تنفذ، وأخبر يعقوب عليه السلام وسقط في يديه، وعلم أن المكيدة سوف تتم: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:5 - 6] وكذلك يجتبيك بهذه الرؤيا وبغيرها، ويعلمك من تأويل الأحاديث: لأنك رأيت رؤيا، ويتم نعمته عليك: نعمة الرسالة والاستقامة.
{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف:7] أي: عظات وعبر للمعتبرين، إخوان ينقمون على أخيهم، بل حاولوا طرده وإبعاده من بيت أبيه بل هموا بقتله.(192/2)
تدبير الخطة لقتل يوسف
اجتمع إخوة يوسف، ويوسف ليس معهم، وقال قائلهم: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] إخوان في بيت واحد من أب واحد قالوا: أخطأ حين قدم أخانا، لماذا يقبله أكثر مما يقبلنا؟ لماذا يجلسه بجانبه ولا يجلسنا بجانبه؟ ولذا فهذا درس في التربية؟ من كان عنده أبناء أو بنات فلا يميز أحدهم على الآخر، فإن هذا يورث الضغينة والحقد بينهم، إلا أن يكون طفلاً صغيراً فله أن يميزه بين الآخرين: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] فكانت النتيجة: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف:9] مكيدة ما سمع التاريخ بمثلها، شاب بريء طفل عاقل من أبناء النبوة، وليس البعيد الذي سيقتله بل إخوانه: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً} [يوسف:9] أو اذهبوا به إلى أرض بعيدة، وسوف تنفردون بأبيكم وينفرد بحبكم -وظنوا أن هذا سوف يحدث- ثم تتوبون من الخطأ وتستغفرون من الجريمة ويتوب الله عليكم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[نووا بالتوبة قبل الذنب]] {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف:9 - 10] والقائل أظنه أكبرهم، القتل صعب وجريمة نكراء، فتحرك هذا الأخ برحمة الأخوة والقرابة والعاطفة، وقال: لا تقتلوه وألقوه في بئر مغيبة إن كنتم مصممين على هذه الفعلة، وأجمعوا أمرهم على هذه المكيدة، ولكن من يخرج يوسف من بين يدي أبيه عليه السلام، فيأتون ويجلسون:
كاد المريب أن يقول خذوني.
فيقولون: يا أبتاه! مالك لا تأمنا على يوسف أنحن خونة؟! أتشك فينا؟! ماذا فعلنا هل أسأنا إليه! نحن نحبه -والله- وننصح له ولا نريد إلا الخير له: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:11 - 12] أرسله غداً معنا يرعى الغنم، وهم لا يحتاجون راعياً فإنهم أحد عشر، وربما كان بعض الرعاة أكثر من الغنم، فهم لا يريدون أن يعاونهم بالرعي، ولكن أضافوا عذراً آخر وقالوا: ويلعب، فهو لم يشك ولكنهم شككوه.
{قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:13] أولاً: أجد وحشة أن يخرج من بيتي، وأخاف أن يأكله الذئب، قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[لو لم يقل لهم أخاف أن يأكله الذئب، لما قالوا له في الأخير أكله الذئب]] لأنه ليس في أذهانهم أنهم سيقولون: أكله الذئب.
فهم يقولون: نلقيه في غيابة الجب ولم يجهزوا عذراً لكنه فتح لهم طريقاً وأتى لهم بعذر، فقال: أخاف أن يأكله الذئب، ولذلك في بعض الآثار: أن الله عاقب يعقوب عليه السلام بسبب هذه الكلمة أن أفقد عليه ابنه أربعين سنة، وأوحى إليه، قال: يا يعقوب! أخفت الذئب ولم تخف مني ولم تثق بي، كيف تقول: أخاف أن يأكله الذئب، ولم تقل كما قلت في آخر القصة: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]؟ ولذلك في آخر السورة بدأ يغير من هذا لكلام فكان يقول: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] فخرجوا، وعذر أكل الذئب في أذهانهم.
فلما أصبحوا في الصحراء بغنمهم، الغنم ترتع وهم يلعبون والجو ساكن وهادئ، والطيور تغرد وتزغرد، ولكن القلوب تغلي بالحقد على الأخ القريب الصغير، فأخذوه أول ما وصلوا إلى الصحراء ولم يتركوه يرتع ويلعب كما قالوا، وإنما قيدوه بحبل وأنزلوه في البئر، فأخذ يستغيث ويظن أنهم يمزحون، وقد خيروه بين القتل، وبين أن يطرحوه في البئر:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن ترى صديقاً فأعيا أو عدواً مداجياً
فأنزلوه وهو يتشبث بالحبل ويبكي، ويقول له أخوه الأكبر وهو يستهزئ به ويتهكم، كما في الآثار: [[هذه أحد عشر كوكباً وهذا الشمس والقمر يسجدون لك]] فأخذ ينزل في الحبل، وذكر ابن رجب في جامع العلوم والحكم أنه لما نزل أخذ يقول: "حسبي الله ونعم الوكيل" ويقول: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:83] قال ابن عباس وهو يبكي عند قراءة سورة يوسف: [[هدأت الحيتان في البحر من التسبيح، ولم يهدأ يوسف عليه السلام من التسبيح]] فأنزلوه، فلما نزل قطعوا الحبل فبقى في حفظ الله، فصار في حفظ الله ورعايته، وفي عين الله.
وإذا الرعاية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان
يا واهب الآمال أنت حفظتني ومنعتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فحميتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
قطعوا الحبل وتركوه في البئر، وهو يلهج بذكر الله في صحراء ليس معه فيها إلا الله، الذئاب حوله والجو مقفر، لا خبز ولا ماء ولا طعام ولا أهل ولا جيران ولا أحبة، لا ماراً يمر، وإنما الذئب يعوي في صحراء مدوية:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوّت إنسان فكدت أطير(192/3)
الأخطاء التي وقع فيها إخوة يوسف
وعادوا والذي يظهر من القصة أنهم أخطئوا في ثلاثة مواقف:
الأول: أنهم استعجلوا في التنفيذ فلو كادوه في غير هذا اليوم وعادوا به في ذلك اليوم ليطمئن أبوه، ولكن من أول يوم يأكله الذئب! ما هذا الذئب الذي ينتظر يوسف في الصحراء، وكأنه يرصد متى يخرج يوسف في تلك الساعة ثم يعدو عليه؟!
والأمر الثاني: أنهم أتوا بثوبه وهم قد خلعوا قميصه، ولم يمزقوه، والذئب لا يعرف خلع القميص، وفك الأزرار، وإنما يفك الثياب تمزيقاً، فهم خلعوا الثوب ولفوه بدم شاة.
الأمر الثالث: أنهم قالوا لأبيهم عندما جاءوا إليه: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]
كاد المريب أن يقول خذوني.
فهم يقولون: لن تصدقنا، وهذا علامة على أن في الأمر شيئاً.
ولكن ماذا فعل يوسف؟ أظلم عليه الليل، قال أهل العلم: أنزل الله عليه جبريل يسكنه تلك الليلة، وأخبره أنني معك أسمع وأرى، فلا تفتر لسانك من ذكري، فإني جليس من ذكرني، فبدأ يوسف عليه السلام يذكر الله، فلما استأنس قال: يا جبريل! استأنست بجلوسي مع الله فإن شئت فاذهب، فأوحى الله إلى يوسف: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15] سوف تمر الأيام ونخبرهم بصنيعهم هذا.
ولماذا أتوا عشاءً ولم يأتوا في المغرب أو العصر؟ أولاً: ليظهروا أنهم تأخروا في مصارعة الذئب، وملاحقته فتأخروا حتى أتوا في العشاء.
والأمر الثاني: لئلا يرى أبوهم الدم في النهار فيميز بين دم الإنسان والشاة، وانظر إلى المكيدة أتوا يتباكون، وجاءوا إلى أبيهم ولم يذهبوا إلى بيوتهم، وإنما تركوا كل شيء وعمدوا إلى أبيهم وهو في البيت عليه السلام وهم يبكون، قال: ماذا حدث؟ يا لله ما هذه الرحمة التي أبكتهم!! ما هذه الدموع الحارة على فراق يوسف عليه السلام، فسألهم ما الخبر؟ قالوا: إنا ذهبنا نستبق -تجارينا وتسابقنا- وتركنا يوسف إشفاقاً عليه عند متاعنا، فأكله الذئب، وهذا التعليل لأنه أخبرهم وقال: أخاف أن يأكله الذئب: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] والدليل على ذلك هذا الثوب، وهذا دمه، فقد أتوا بدم شاة على الثوب، فأخذه عليه السلام وهو يبكي ويقلب الثوب، {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] قال ابن تيمية رحمه الله: الصبر الجميل: الذي لا شكوى فيه، والصبر الجميل: الذي لا يظهر فيه الفقر والمسكنة لغير الله، والصبر الجميل: أن تتجمل أمام خلق الله.
قيل لأحد العباد: ما هو الصبر الجميل؟ قال: أن يقطع جسمك قطعة قطعة وأنت تتبسم، وقال آخر: الصبر الجميل: أن تبتلى وقلبك يقول: الحمدلله.
ثم تولى يبكي حتى ابيضت عيناه.
وفي بعض الآثار: أن الملائكة بكت لبكاء يعقوب عليه السلام، وكان أبو بكر رضي الله عنه يقرأ سورة يوسف في صلاة الفجر فإذا بلغ قوله تعالى: ((فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:18] بكى وبكى الناس معه.
وافترق يوسف ويعقوب عليهما السلام أربعين سنة، واستوحش الفراق وخلا الدار، وعاد يعقوب منكساً رأسه ولسان حاله يقول في فراق ابنه:
بنتم وبنا فما ابتلت جوارحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواطن الحشر نلقاكم ويكفينا
وللحديث بقية أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم(192/4)
دروس من قصة يوسف عليه السلام
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدون إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين، ومحجة السالكين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
ففي هذا المقطع السابق من سورة يوسف دروس أيما دروس، فمن هذه الدروس:
أولاً: أن هذا القرآن معجز، وهو معجزة رسولنا صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88].
ثانياً: أن في الرؤيا حق وباطل، فإذا كانت من رجل صالح، وكانت صالحة، ولم تكن في أمر مستحيل فإنها من المبشرات.
ثالثاً: أن على المسلم إذا رأى رؤيا خير ألا يخبر بها إلا من يحب، ولا يخبر بها كل الناس، وإن رأى رؤيا سوء فلا يخبر بها أحداً سواء يحبه أو لا يحبه، فرؤيا السوء لا يخبر بها أبداً.
وبعض الناس إذا رأى رؤيا مكروهة أخبر بها فتقع عليه، وفي حديث عنه صلى الله عليه وسلم وهو صحيح: {الرؤيا على جناح طائر إن تحدث عنه وقع}.
رابعاً: أن الحسد فطرة في الناس، قال الحسن رحمه الله: [[ماخلى جسد من حسد]] ولكن المؤمن يدفعه، والحسد من أكبر الذنوب والخطايا، وأقبح السيئات، وهو يأكل الحسنات وينحل الجسم، ويذهب بالتقوى، ويغضب الرب على العبد
ألا قل لمن كان لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فضله لأنك لم ترض لي ما وهب
فمن حسد فقد أساء الأدب مع الله، واعترض على القضاء والقدر، وضيع نفسه، ورد فضل ربه على الناس: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} [النساء:54] فالحسد مقيت وهو أول ما عصي الله به في الأرض، نعوذ بالله منه، والواجب على الحاسد أن يتوب إلى الله، وأن يراجع حسابه مع الله، وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويحسن إلى المحسود ويهدي له، وأن يستغفر له، ويعلم أنه ارتكب خطيئة ما بعدها خطيئة.
خامساً: أن الإخوة تقع بينهم الإحن إذا فضل بعضهم على بعض، فمن التربية أن يوازوا بالقسمة وبالحب، في التقبيل والجوائز، ولا يقدم أحدهم على الآخر، ولو أن هذا تفوق أو نجح في الدراسة أو قدم عملاً، فلا يقدم على إخوانه، {أتى النعمان بن بشير وأبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال -وقد ميزه أبوه بشيء من القسمة- فقال صلى الله عليه وسلم لأبيه: أعطيت أبناءك كلهم مثل هذا؟ قال: لا يا رسول الله! قال: إني لا أشهد على جور} وفي رواية: {أشهد على هذا غيري} وفي رواية أخرى: {اتقوا الله واعدلوا بين أبنائكم} فإن من الظلم أن يقدم أحد الأبناء وأن يؤخر الآخرين، لأنه سبيل إلى الإحباط والتباغض بين الأبناء.
سادساً: أن الحافظ هو الله، وأن المانع من السوء هو الله، والرقيب والحسيب هو الحي القيوم، فيوسف عليه السلام لما ألقي في الجب نسي كل شيء إلا الله، فحفظه ورعاه وتولاه وأيده، وسدده وآواه وأصبح ملِكاً على مصر، وآتاه النبوة وشرفه بالرسالة، ومنحه العلم والدعوة، وكذلك يحفظ الله من يحفظه: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] وهكذا تستمر سورة يوسف بمشاهدها التي سوف تأتي إن شاء الله، وبحديثها الشائق، وبروعتها في الأداء وفي الأخذ بأطناب القلوب.
نسأل الله فقهاً في كتابه، وتدبراً لآياته، وعملاً بمواعظه وأحكامه، إنه على كل شيء قدير، عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صل على حبيبك ورسولك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمَّر أعداء الدين، من الشيوعيين ومن اليهود والصليبيين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم وفق إمام المسلمين لما تحبه وترضاه، اللهم وفقه للخير ودله عليه، وجنبه من السوء إنك على كل شيء قدير، اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان وفي فلسطين، وفي كل صقع من بلادك يا رب العالمين، اللهم ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(192/5)
وسطية أهل السنة والجماعة
أهل السنة والجماعة ليسوا كغيرهم من الفرق التي انحرفت عن المنهج الرباني.
ولهم خصائص ليست لغيرهم من الفرق، وكما أن أهل الإسلام وسط بين أهل الملل (اليهود والنصارى)؛ فكذلك أهل السنة وسط بين الطوائف، فهم وسط بين الخوارج والمرجئة، وبين الروافض والنواصب، وبين المجسمة والمعطلة.(193/1)
مقدمة عن الموت والحياة
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
فعنوان هذه المحاضرة: (وسطية أهل السنة والجماعة) وقبل هذا الموضوع، هنا وقفة:
إن الله عز وجل خلق الموت والحياة، وهما خلقان من خلقه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] فما دام أن الموت وارد لا محالة وواصل لا شك فيه، فعلى المسلم أن يتهيأ لهذا الموت، فإن سعادة المسلم، أن يعيش حميداً وأن يموت شهيداً.
فإما حياةٌ نظَّم الوحي سَيْرَها وإلا فموت لا يسر الأعاديا
وأخوف من يخاف من الموت هم المنافقون وأهل الشهوات، وأرباب المادة وخدام المطامع، فإنهم يخافون أشد الخوف من الموت، قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
وأما المسلم فإنه متهيئ دائماً إن عاش ففي رضا الله، وإن مات فإلى رحمة الله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52] إما الموت في سبيل الله، وإما الحياة في رضوان الله، والمستجدات في الحياة تجعل المسلم يتأمل مستقبله مع الله، ويتدبر أين يضع قدمه، ويعلم أن الليل والنهار يأتيان بالعبر، وبمقدور من الله عز وجل:
وكم من مصبح أصبح ساكناً آمناً، ثم أمسى عليه الليل في هم وغم ومصائب لا يعلمها إلا الله:
يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
فعلى المسلم أن يتهيأ، والتهيؤ هو أن يكون على منهج محمد عليه الصلاة والسلام وسنته، وعلى حبه وسيرته، وعلى كتاب الله عز وجل وسنة محمد عليه الصلاة والسلام.
إن الذين يخافون من الموت، إنما هم الذين يريدون أن يعيشوا الحياة فقط، قال تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:96] فإذا علم ذلك، فليتمنَّ المسلمُ من الله أن يميته على الإسلام والسنة.
قيل للإمام أحمد توفاك الله على الإسلام، قال الإمام أحمد: وعلى السنة.
لأن الإسلام مجمل، والسنة هي الإسلام مفصلاً، وهذا هو الذي تمناه الصالحون، هو أن يموت الإنسان على سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وقد حث عليه الصلاة والسلام على اتباع سنته خاصة في مثل هذا العصر الذي كثرت فيه الطوائف والملل والنحل، وأشربت القلوب الأهواء وأصبحت الفتن كقطع الليل المظلم، وأصبحت الحياة معرضة للخطر في كل وقت وساعة، بما صنعه الإنسان من دمار للبشر، فأصبح متعيناً على الإنسان أن يلاحظ سنة محمد عليه الصلاة والسلام صباح مساء.
يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ} ويقول صلى الله عليه وسلم: {من رغب عن سنتي فليس مني} وأهل سنته أولهم أصحابه، وخيرهم الخلفاء الراشدون ومن سار على منهجهم من التابعين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(193/2)
أهل السنة وأهل البدعة وأهمية التمسك بالسنة
أما التمسك بالسنة فليس كلاماً فقط، لأن بعض الناس جعل للتمسك بسنته عليه الصلاة والسلام عواطف أو كلاماً يعبر به بلسانه، لكن التمسك بسنته صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أطراف: إعتقادٌ وقولٌ وعمل.
وقد ضل في التمسك بسنته صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد طوائف، فليس على سنته في الاعتقاد إلا أهل السنة والجماعة، فـ الخوارج ليسوا على سنته في الاعتقاد، والرافضة والنواصب والقدرية والجبرية والمعتزلة والأشاعرة، فقد خالفوا في الاعتقاد سُنَّتَهَ عليه الصلاة والسلام.
وهناك طائفة من أتباعه صلى الله عليه وسلم ضلت في السلوك، فتجدهم لا يتبعونه في السلوك الظاهر، وهذا دليل على مرضهم في الباطن، فهم يجعلون السلوك من القشور، ويقولون: هذه ليست من اللب بل هذه من القشور، فعندما تحدثهم في الإسبال وعن تحريمه قالوا: هذه قشور؟ ويقولون: لا تحدثنا عن الثياب، لأن الإسلام أرفع من الثياب، فالإسلام أصول، وليس فيه هذه القشور والتوافه التي يتحدثون عنها: اللحى لبس الحرير والذهب الأكل بالشمال إلى غير ذلك.
فهذه كلها يجعلونها من القشور.
والرد عليهم أن نقول: ليس في سنته عليه الصلاة والسلام قشور، بل هي لباب كلها وهي جميلة وبديعة كلها، فمن رضي بلا إله إلا الله فليرض بمحمد عليه الصلاة والسلام في أصغر شعيرة وفي أقل سنة، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
يا مدعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهوينا
خذها جميعاً تجد فوزاً تفوز به أو فاطرحها وخذ رجس الشياطينا
فقد أعلنت المبادئ الأرضية خسارتها واندحارها وتمزقها، ولم يثبت إلا منهجه عليه الصلاة والسلام في الأرض.
ضلت طوائف في اتباعه عليه الصلاة والسلام، منهم أهل التصوف، فإنهم لم يتبعوه في حاله وعبادته صلى الله عليه وسلم، فجنحوا، وجعلوا العبادة جوعاً وسهراً وتمزقاً وزوايا ومرقعات ما أنزل الله بها من سلطان: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}) ([الحديد:27] فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا قام من الليل كما في صحيح مسلم من حديث عائشة، يقول: {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم}
فعليكم بالإكثار من هذا الدعاء، فإنه من أعظم الأذكار في الفتن والحوادث والأخطار وهو المنجي، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الجمعة:8] وقال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].
فلا عيش إلا باتباعه عليه الصلاة والسلام، وأتباعه هم أهل السنة والجماعة، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
وإني في هذا الموقف أترحم على الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فإن له أعظم الدور واليد البيضاء على هذه البلاد بدعوته الناصعة، السلفية الجميلة البديعة، دعوة التوحيد، ولذلك تجد الصفاء، ولانقولها تعصباً بل العامي في مثل هذه البلاد يعادل كثيراً من العلماء في البلاد الأخرى.
فالعامي بسبب دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب يعادل في معرفته للعقيدة والسنة واتباع الرسول عليه الصلاة والسلام علماء في البلاد الأخرى، وهذا في العموم الغالب، فرحمه الله رحمة واسعة، كيف جدد الدين، وعلمه الناس، ولذلك أذكر نبذة مما فعل:
من خططه في نشر العلم في البلاد:
حيث كان ينشر في الرياض وضواحيها، أتباعه وتلاميذه في المدارس التي تقوم من بعد صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، ويدرس فيها كتاب التوحيد والأصول الثلاثة وكشف الشبهات.
وكان الناس يحضرونها كما أخبرنا كثير من المشايخ بما يشابه الإجبار، لا بد أن يحضروا الحلقات، فتغلق الحوانيت والدكاكين، والمتاجر، ويأتي أهل المزارع بعد أن يذهبوا إلى بيوتهم فيحضرون الحلقات، ويتحدث العلماء، وينشرون العلم والسنة، وتفتح المساجد أبوابها لهذا الخير العظيم الذي أتى به الله للعباد.(193/3)
خصائص أهل السنة والجماعة
أيها المسلمون! أهل السنة وسط، يذكر شيخ الإسلام في كلام ما معناه: أهل الإسلام وسط بين أهل الملل -يعني وسط بين اليهود والنصارى- وأهل السنة وسط بين أهل الطوائف، لكن قبل أن آتي إلى هذا الكلام، أحب أن أنبه إلى مسائل لا بد أن تعوها جميعاً:
من خصائص أهل السنة والجماعة:
أولاً: أنهم يدينون بالكتاب والسنة بفهم الصحابة:
فالذين يدَّعون اليوم في العالم الإسلامي بل في العالم أجمع، أنههم يتبعون محمداً عليه الصلاة والسلام كثيرون، بل تسمع الإذاعات تزبد وترغي باتباعه صلى الله عليه وسلم، لكن إذا بحثت عن الحقيقة؛ فإنك لا تجدهم صادقين، بل تجدهم كذبة ومردة، ومفترين على الله.
أهل السنة يفهمون الكتاب والسنة بفهم الصحابة، فـ الخوارج يقولون: نحن أهل الكتاب والسنة، والرافضة والناصبة والقدرية، وأمثالهم يقولون: نحن أهل الكتاب والسنة، وأهل السنة يقولون: نحن أهل الكتاب والسنة، فمن نصدق؟
نصدق الذين يفهمون الكتاب والسنة بفهم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
الخوارج يقولون: نحن رجال والصحابة رجال، فنحن نفهم كما فهموا.
ونقول: هذا خطأ، بل نفهم الكتاب والسنة بفهم أبي بكر وعلي، وفهم الصحابة.
قال سعيد بن جبير: [[كل علم لا يفهمه أهل بدر فليس من العلم]] فالعلم أن تفهم الكتاب والسنة كما فهمه أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنهم كما قال ابن مسعود: أعمق الأمة علماً، وأقلها تكلفاً، وأصدقها وأخلصها؛ فعلينا أن نفهم كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام بفهم أبي بكر، إذا أتيت إلى تفسير القرآن فتعود إلى تفسير ابن كثير، وتفسير ابن جرير لا أن تفهم القرآن أو السنة فهماً من عندك.
وقد نشأ داعية في هذا العصر اسمه رشاد خليفة، لكن ذبحه دعاة الإسلام في أمريكا، كان في ولاية ترزونا، في مدينة توسان، وهذا الرجل كان يريد أن يفهم الكتاب والسنة كما ارتأى، ثم أنكر رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، فتشرف بعض الشباب، فذبحوه على الطريقة الإسلامية، وذهب إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم:
لقد ذهب الحمار بأم عمروٍ فلا رجعت ولا رجع الحمار
ثانياً: أهل السنة لا يجتمعون على ضلالة:
عصم الله أهل السنة فلا يجتمعون على ضلالة، والذي يظهر لي أن معنى حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الحسن: {لا تجتمع أمتي على ضلالة} أن المقصود بهم أهل السنة.
لأننا وجدنا أن الخوارج اجتمعوا على ضلالة، وأن كثيراً من الطوائف البدعية اجتمعت على ضلالة، وهي في الجملة من الأمة الإسلامية.
إذاً فلا ينطبق عليهم الحديث، أما الحديث فينطبق على أهل السنة، فلك الحمد يا رب لا يجمعنا على ضلال أبداً، فلا تجد أن أهل السنة يجتمعون أولهم وآخرهم وعلماؤهم وعامتهم على الضلالة أبداً، وقد يرد أن يخطئ قائل بقول، فينكر عليه البقية، فمن عصمة الله عز وجل لـ أهل السنة وحفظه لهم، أنهم لا يجتمعون على ضلالة.
ثالثاً: يفهمون النقل بالعقل ولا يحكمون العقل في النقل:
فالكتاب والسنة ليسا مجالاً للصرف وللتحويل، فهما مجالان لأن تفهم منهما، وتفجر كنوزهما، وتأخذ من أشجارهما ثماراً، لا أن تصرفها، وتلعب بها، إنما لتفهم ولتتدبر.
إذاً هم يفهمون النقل بالعقل ولا يحكمون العقل في النقل، وقد ألف ابن تيمية كتابه العظيم ولله دره درء تعارض العقل والنقل، الذي يقول فيه ابن القيم: ما طرق العالم مثل هذا الكتاب، يعني ما سمع في هذا الباب مثل هذا الكتاب، ونهايته ونتيجته أن العقل لا يصادم النقل، بل النقل الصحيح مع العقل الصريح متفقان والحمد لله.
يقول أحد علماء السلف: أتحدى الناس قاطبة أن يوجدوا دليلين متعارضين صحيحين ثابتين أو دليلاً صحيحاً يخالف العقل الصريح.
فهذا لا يوجد والحمد لله، بل العقل السليم يدل على النقل القويم، فيتفقان.
الرابع: يؤمنون بالغيبيات ويتدبرون العمليات:
ابن حزم رحمه الله صاحب المحلى يقولون عنه: جمد في موضع السيلان، وسال في موضع الجمود، فأتى إلى الغيبيات -الأسماء والصفات- يشرح ويفيض فيها، ورد عليه ابن تيمية وأوقفه، وقال: خطأ.
وأتى إلى الأحاديث العملية التي تحتاج إلى شرح وفهم واستنباط، ووقف فيها، قال بالظاهر، قالوا: حفظك الله، لماذا ما سلت في موضع السيلان وجمدت في موضع الجمود، اجْمِدْ في نصوص الغيبيات، لأن أهل السنة يمرونها كما جاءت، وسِلْ في موضع السيلان، في النصوص التي تفهم، وهي نصوص الأحكام العملية في العبادات والمعاملات وغيرها.(193/4)
معنى وسطية الأمة
أيها المسلمون! ما معنى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143]:
لأهل التفسير فيها قولان:
الأول: وسطاً: خياراً عدولاً، قال زهير بن أبي سلمى في قصيدته المعلقة الشهيرة
وهم وَسَطٌ يرضى الأنام بحكمهم
أي: خيار عدول، فقال بعض المفسرين: أي عدول.
وقال بعض المفسرين: الوسط هم الذين يتوسطون بين الغلاة والجفاة وهو المتوسط بين الطرفين، ويرد النحوي الزجاج وغيره هذا ويقول: تركيب كلمة وسط خطأ، بل معنى المتوسط بين الطرفين يسمى وَسْط: جلست وَسْط الحلقة، وجلست وَسْط الرجلين ومشيت وَسْط الجملين، ولا يقال وَسَطَ الرجلين أو وَسَطَ الحلقة.
أما سيد قطب في الظلال فيرى أن المعنى الأخير هو الصحيح، ويأتي بكلام بديع جميل، أحببت هذا الكلام وربما يعجبكم، يقول: نحن وسط -يعني الأمة الإسلامية هي وسط- وسط في الزمان ووسط في المكان فنحن وسط في الكرة الأرضية، هذا معنى ما سبق إليه يقول: حتى إن الله لم يجعلنا في القطبين ولا في ألاسكا ولا بعيدين ولا قريبين، ولا في حدود سيبيريا، بل جعلنا وسطاً، حتى يقول لنا أهل أبولو الذين صعدوا بها إلى القمر أنهم قد وجدوا أن مكة وسط الدنيا، وهذا هو الموافق للتفسير.
فـ أم القرى في الوسط، والعالم كله في نواحيها وهي وسط بين الدنيا.
إذاً فنحن وسط في المكان.
قال: ووسط في الزمان، فما جئنا في أول الناس، فنحن ما أتينا مع نوح عليه السلام، وما تأخرنا لنأتي في آخر الدنيا، بل أخذنا تجارب الأولين ثم مضينا للآخرين، فسبحان من اختار هذه الأمة.(193/5)
الوسطية في المعتقد
ونحن وسط في المعتقد، فلم نؤله كل شيء كـ المانوية والثانوية وغيرهم، الذين يؤلهون كل شيء والعياذ بالله، النور والظلمة، والليل والنهار، ولذلك يرد الله عليهم في القرآن فيقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] بل قال بعض العلماء: ردت بداية سورة الفرقان على سبع طوائف، وهذا في أولها فقط.
قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفرقان:1 - 2] على المانوية {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} [الفرقان:2] على اليهود: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الفرقان:2] على كفار مكة: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الفرقان:2] على الاستثنائية: {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} على نفاة القدر: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الفرقان:3] ثم عودة على المشركين والطوائف الصابئة: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].(193/6)
الوسطية في الأخلاق
قال: ووسط في الأخلاق، فلسنا بالذين يجعلون الأخلاق هو الحل العالمي، فـ الماسونية تجعل الوسط العالمي القدر المشترك بين الأمم من الأخلاق، حتى تجدهم الآن - العلمانية والماسونية - ينددون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويأتون إلى الرجل ولو لم يكن في قلبه مثقال ذرة من إيمان ويقولون: ما أحسن خلقه! هو لا يجرح المشاعر، يعني: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، قالوا: وهو هادئ وأسلوبه طيب، يدخل البيت ويسمع الأغنية فلا يزعج أهله وإخوانه، وإخوانه يصلي بعضهم ويترك بعضهم، وهو مع ذلك مسالم مع الجميع ويحبه المجتمع، وسفيان الثوري يقول: إذا رأيت الرجل أجمع عليه جيرانه فاعرف أنه رجل سوء، فإذا سكت عنه الجيران جميعاً فاعرف أنه لا يتكلم، حتى قالوا لـ سفيان: نراك كثير الأعداء، قال: كلمة الحق لم تترك لي صديقاً، فـ سفيان دائماً مع كلمة حق، فهو يدخل على أبي جعفر وينزل السوق، يقول عنه الذهبي: كان سفيان إذا لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر بال الدم، فهذا ثابت عنه في السيرة، وقال: كان يغمى عليه، وكان يقوم ينتفض في الليل، فيقولون له: مالك؟ يقول: مررت اليوم بشيء فما نهيت عنه فأصابني منه شيء، فلله دره ما أعظمه.
فلذلك الإماتة -إماتة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- بحجة الأخلاق يجعلونها سُلَّم العالمين.
ونحن نقول: لا.
الخلق تحت راية لا إله إلا الله.
(وهم وسط في الفن والأدب) كما يقول سيد قطب، فلسنا بالأمة الجافية التي تقول: لا يصح الأدب، فلا شِعْرَ ولا جمالَ في الكون.
فالله عز وجل يقول: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60] فلك أن تتأمل الزهرة، والوردة، والياسمين، والروضة الفيحاء، والبساتين الغناء، لكن في حدود الجمال المباح، فنحن لسنا بالجفاة الذين يغلقون أنفسهم عن الأدب، فإذا ألقى شخص قصيدة، قال: حرام، لا تلقيها، وإذا شارك شخص في أمسية قال: هذا حرام، فالصحابة لم يشاركوا.
وهذا ينشد نشيداً بديعاً في حدود المباح، فيقول: لا.
هذا خطأ، فنحن أمة نتوسط، ورجل آخر يأتيك، فيقول: لا.
الإسلام أباح الأغنية، والموسيقى والأغنية الإسلامية، والجلسة الحمراء الإسلامية، حتى قرأت كتاباً اسمه: (الفن والجمال) لأحد المفكرين من السودان، أخطأ فيه خطأً بيناً، وأساء إساءة واضحة، وفعل مثلما فعل ابن عربي في كتبه، مثل (الفصوص) (والفتوحات المكية).
فهذا خطأ، حتى يقول: من يمنع هذا، حتى يقول: لك أن تنظر في الوجوه الجميلة فهي من التدبر، وهذا مثل كلام ابن عربي، نعوذ بالله من الخذلان.
ويقولون: أحد الزنادقة، كان ينظر لفتاة جميلة، قالوا له: اتق الله، قال: أتفكر في خلق الله، فهذا حسيبه الله، أما وجد إلا هذا، وقد قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28] فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لم يأمر بهذا.
إذاً فالوسطية أن تحل ما أحل الله وتحرم ما حرم الله، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116].(193/7)
الوسطية في معاملة الأنبياء
فنحن وسط، أليس أهل الإسلام وسط بين اليهود والنصارى؟
اليهود علقوا أنبياءهم بالمشانق.
والنصارى ألَّهوا أنبياءهم، فقالوا: عيسى بن مريم هو الله أو ثالث ثلاثة، واليهود ذبحوا في يوم واحد أكثر من أربعمائة نبي، لأن الله كان يبعث لهم أنبياء كثر في وقت واحد، كما يقول بعض المفسرين، فتوسطنا نحن، فقدرنا الأنبياء، وجعلنا رسولنا عبداً رسولاً، كما قال في الصحيح: {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله} ولا نجفوا فيه عليه الصلاة والسلام، كما جفا بعض الناس، وقالوا: هو رجل كسائر الرجال مثل ما يفعل العقاد في عبقرية محمد عليه الصلاة والسلام، أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في العسكرية في آخر الكتاب وقال: هو يتفوق على نابليون.
حسيبك الله! تقارن محمداً أصفى البشر ورسول الله وأكرم الناس وأصفى الناس وأبر الناس، بمجرم كلب فرنسي.
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
فهؤلاء يقارنون الرسول صلى الله عليه وسلم بـ هتلر ويقولون: هو في استطلاع المعارك أقوى من هتلر، وهذا خطأ، فهم يريدون أن يمدحوا الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن على حساب ذمه فهو بشر يوحى إليه الله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4] فوقع في الأمة غلو فيه عليه الصلاة والسلام، طائفة رفعته حتى كانوا يستسقون به وهو في قبره، ويطلبون منه عند القبر المغفرة، ويقولون: اغفر لنا يا رسول الله! حتى يقول البرعي شاعر اليمن:
يا رسول الله يا من ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاما
أقل لي عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاما
فهو يقول: اغفر لي ذنبي.
ويقول البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
وهو شرك.
ويقول ابن عربي لما وصل القبر:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها تقبل الأرض عنكم وهي رائدتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت فامدد يمينك كي تحضى بها شفتي
وقال الكذابون المخرصون:
فمد يده صلى الله عليه وسلم من القبر، فسلم على ابن عربي، يقول هذا أمثال النبهاني المسرف على نفسه، الذي يتعدى على ابن تيمية وكتبه، والله يتولى السرائر.(193/8)
الوسطية في العلم والعبادة
أيها الكرام! أهل الإسلام وسط في العلم والعبادة بين اليهود والنصارى، فاليهود أهل علم، لكن لا يعملون -سلة مهملات- فغضب الله عليهم.
والنصارى أهل عمل بلا علم فضلوا، قال الله في اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13] وقال عنهم: {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المجادلة:14] وقال عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة:64] وقال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فالمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى، الضالون عبدوا الله بلا علم {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا} [الحديد:27].
ويقول ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم: سوف يقع في هذه الأمة كما وقع في اليهود والنصارى، طائفة تتعلم ولا تعمل، لذلك تجد بعض الناس يعلم كثيراً ولا يعمل أبداً، وقد يكون عنده شهادة عالية ولكن لا يعمل بعلمه، وتجد من الجهلة من يعبد الله لكنه بدعي، فيعمل على غير بصيرة من الله عز وجل.(193/9)
وسطية أهل السنة بين الفرق
أهل السنة وسط بين الخوارج والمرجئة.
وبين الرافضة والنواصب.
وبين القدرية والجبرية.
وبين المجسمة والمعطلة.
ووسط بين أهل الرأي البحت وأهل الظاهر الصرف.
وبين أهل الشهوات البهيمية وأهل التصوف.
ووسط بين المفوضة والمؤولة.
ووسط بين الجفاة والغلاة.
ووسط في الأخلاق والعبادة.
ووسط في الجرح والتعديل.
لكن قبل أن أبدأ، لا بد أن أشرح بعض الجمل والكلمات.
ما معنى الخوارج ومن هم؟
الخوارج: طائفة خرجت، أول ما نبتت نابتتها في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأولهم إمامهم وشيخهم ذو الخويصرة، الذي قال عنه العلماء: هو الذي بال في المسجد، فمن حسناته أنه بال في مسجده عليه الصلاة والسلام، وبعض أهل السير يقولون: هو الذي صلى مع الرسول عليه الصلاة والسلام في المسجد وقال: {اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً} ثم بال في المسجد وقصته معروفة، وهو الذي قال كما في الصحيح: {لما قسم الرسول عليه الصلاة والسلام الغنائم قال: اعدل يا محمد} فيقول هذا للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: {خبتَ وخسرتَ، من يعدل إذا لم أعدل؟!} وفي لفظ مضبوط صحيح: {خِبتُ وخَسرتُ إذا لم أعدل} أي يقول: إذا لم أعدل هلكتُ، وعلى الرواية الأولى: خبت أنت وخسرت، إذا لم أعدل فمن يعدل؟! من يعدل من حكام الأرض وزعماء الأرض وقضاتها وعلمائها إذا لم يعدل أشرف أهل الأرض عليه الصلاة والسلام؟!
فقال عمر: {يا رسول الله! ائذن لي أقتل هذا -كان سيف عمر جاهزاً- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا عمر! يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية} وفي رواية مسلم: {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} وبالفعل أدركهم أبو الحسن علي رضي الله عنه، فقتل منهم أربعة آلاف في النهروان.
فهم الخوارج، خرجوا على إمام العدل والحق، رضي الله عنه وأرضاه، وقالوا بمسائل خالفوا بها أهل السنة، منها:
لا يأخذوا من السنة إلا ما وافق ظاهر القرآن، فأكثر السنة يعطلونها.
والخوارج يرون أن الحاكم إذا ارتكب الكبيرة يخرج عليه ولا طاعة له، وهذا خلاف أهل السنة، فإن أهل السنة يرون الصلاة وراء الأئمة والجهاد معهم ولو ارتكبوا الكبائر ما لم يكفروا بالله، لحديث مسلم: {إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان}.
والخوارج يرون أن صاحب الكبيرة كافر ومخلد في النار، فالسارق عندهم كافر، والخليلي له كتاب وهو ما زال حياً وكتابه ينص على ثلاث مسائل -هو من الإباضية - ينفي رؤية الله في الآخرة، ويرى أن القرآن مخلوق، ويرى أن صاحب الكبيرة كافر، وكتابه موجود ومشهور.
فهذه نبذة عن الخوارج، ولا أريد الإطالة.
المرجئة من هم؟
المرجئة: قوم يرون أن الإيمان قول واعتقاد بلا عمل، سواء صليت أو لم تصل، زكيت أو لم تزك، صمت أم لم تصم، فأنت وأبو بكر سواء في الإيمان، فيقولون: ما دام حصل الإيمان وآمنت بالله عز وجل ووصل الإيمان إلى قلبك فيكفي، ولهم أدلة لكن ما فهموها، فهذه المرجئة.
وتوجد طائفة أخرى أرجئوا، وهم الذين أرجئوا علياً وعثمان وقالوا: لا نحكم بكفرهم ولا بإيمانهم، فيقولون في علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان: لا ندري هم في الجنة أو النار، ومن وراءهم قالوا: لا ندري ونكل علمهم إلى الله، ونحن نقول: لا والله، بل هم من أهل الجنة، ومن العشرة المبشرين بالجنة، ومن أولياء الله وأحباب رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد توفي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ.
والقدرية يقولون: لا قدر، فيقولون: كل شيء يقع في الكون لا يعرفه الله إلا بعد أن يقع، وهم على طائفتين، الاولى تقول: لم يسبق تقدير شيء، فيقولون مثلاً: إذا حصل بركان لم يقدر الله البركان إلا بعد ما وقع، فلا قدر والأمر أنف، ومنهم من ينفي العلم.
قال ابن تيمية: من نفى علم الله السابق كفر، وأما من نفى التقدير فمبتدع بهذا، لأن منهم من يقول: لا يعلم الله حتى يقع!! فمن يقول هذا فهو كافر.
ومنهم من يقول: يعلم الله عز وجل لكنه ما كتب، فهو يعلم أنه سوف يقع البركان أو الزلزال في المكان الفلاني، لكن لم يكتب ولم يقدر، إنما علم سُبحَانَهُ وَتَعَالى فقط.
والجبرية يقولون: العبد مجبور على المعصية، ولذلك الجبرية يجعلون آدم جبرياً وموسى قدرياً، في حديث التقاء موسى مع آدم في الحديث الصحيح في البخاري ومسلم، قال عليه الصلاة والسلام: {تحاج آدم وموسى} وفي لفظ: {احتج آدم وموسى} يقول ابن الجوزي محتاراً: لا ندري أين التقوا، وابن حجر ذكر سبعة أقوال أو ثمانية منهم من يقول: في القبر، ومنهم من يقول: في البرزخ، ومنهم من يقول: في السماء، والذي يظهر أنهم التقوا في السماء فالتقى الابن مع الوالد الشيخ، مع آدم عليه السلام، وموسى كان جريئاً، حتى يتعجب أهل العلم من جرأته، حيث كان يتكلم بجرأة، فقد أعطاه الله المكالمة التي ما أعطاها أحداً من الناس، فلم يكلم الله أحداً من الناس إلا موسى، فلما كلمه الله وبلغ منزلة التكليم، قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] يقول: ما دام كلمتني أريد أن أراك، قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] وقالوا: أنه لما رأى فضائل الأمة قال: يا رب بعثت غلاماً بعدي جعلت أمته أفضل من أمتي، إلى غير ذلك مما قيل، وهو الذي تكلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وقال: {عد إلى ربك فإن أمتك لا تستطيع ذلك} فعاود رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه وحاوره، حتى خفف الله عن الأمة فجزاه الله عنا خير الجزاء، فإنه قد أحسن كل الإحسان معنا، وتلطف مع رسولنا صلى الله عليه وسلم حتى خفف الله عنا.
قال: فلما التقوا {قال موسى -فهو يبدأ بالكلام وقد لقي آدم الشيخ وبينهم مئات السنين بل آلاف-: أنت آدم أبونا؟ قال: نعم.
قال: أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه؟ قال: نعم.
قال: خيبتنا وأخرجتنا من الجنة} -قال: أنزلتنا في الأرض نعصي ونتضارب، ونتقاتل ونتحارب، ونسفك الدماء ثم نحاسب، وبعضنا يدخل الجنة وبعضنا يدخل النار، لماذا ما بقيت في الجنة؟ لماذا نزلت؟
{قال آدم عليه السلام: أنت موسى؟ -موسى بن عمران لأن موسى يختلف كثيراً ويريد أن يميزه- قال: الذي بعثك الله في بني إسرائيل؟! وكتب لك التوراة بيده سُبحَانَهُ وَتَعَالى؟! قال: نعم.
قال: بكم وجدت في التوراة كتب الله عليَّ المعصية قبل خلقي -الأكل من الشجرة- قال: بأربعين سنة -أي: وجدت أن الله كتب على آدم قبل أن يخلقه بأربعين عاماً أنه يأكل من الشجرة -قال: أفتلومني على شيء كتبه الله عليَّ؟! -والآن يتدخل الرسول عليه الصلاة والسلام- قال: فحج آدم موسى} يعني غلبه، والجبرية يقولون فحج آدم موسى وينصبون آدم فيكون مفعولاً به، يعني هو المغلوب، كقراءة قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} [البقرة:124] وهذا خطأ بل حج آدمُ موسى، أي غلبه، عليهم السلام جميعاً.
المجسمة والمعطلة:
المجسمة: قوم منهم مقاتل بن سليمان، الذي وصف الله كوصف المخلوق تماماً، فقالوا: الله مثل الإنسان -تعالى الله- يقول: ينزل كنزولنا وله أيد كأيدينا، وسمعٌ كأسماعنا، وبصرٌ كأبصارنا، والمعطلة قوم قالوا: لا سمع ولا بصر ولا صفات ولا أسماء، فجردوا الله من أسمائه وصفاته.
أهل الرأي البحت: قوم أخذوا آراء الرجال وتركوا الحديث، فلا يفتون دائماً إلا بالرأي فقط، فتجدهم يقولون: يجوز ولا يجوز وهذا مباح والأمر محرم أرى أنه لا يجوز لكن لا آية ولا حديث، لا رواه البخاري ولا رواه أبو داود.
وأهل الظاهر: قوم أخذوا الحديث وجمدوا عليه وتركوا القياس وما فهم الناس، إلى غير ذلك(193/10)
توسط أهل السنة بين الخوارج والمرجئة
لكن أقول: ما معنى توسط أهل السنة بين الخوارج والمرجئة في مسألة الإيمان؟
الخوارج قالوا: من فعل الكبيرة فقد كفر، فشارب الخمر كافر، والسارق كافر ومخلد في النار، وقابلهم المرجئة فقالوا: لا يكفر، ولا ينقص إيمانه، والحمد لله ما زال مؤمناً، وما زال يشهد أن لا إله إلا الله، فلو شرب الخمر فما زال مؤمناً كامل الإيمان.
فذاك يقول: كافر، وهؤلاء يقولون: كامل الإيمان، وقال أهل السنة: أخطأ الخوارج والمرجئة، فمرتكب الكبيرة فاسق، ناقص الإيمان، رداً على المرجئة وليس بكافر رداً على الخوارج، فهو ناقص الإيمان فاسق، ولا نكفره بارتكابه الذنب ما لم يستحله وهو تحت رحمة الله، لكن نخشى عليه العقوبة ونخشى أن يأخذه الله، وهو فاسق بكبيرته، فهم في هذا الباب وسط.(193/11)
توسط أهل السنة بين الرافضة والنواصب
ووسط بين الرافضة والنواصب:
الرافضة: أتوا إلى علي فبلغوا به حد الغلو، بل بعضهم يرى ألوهية علي رضي الله عنه وأرضاه، ويقدسون أهل البيت، حتى يقدمونهم كثيراً على الرسول عليه الصلاة والسلام، ويسبون الصحابة على حساب أهل البيت، ويلعنون الشيخين رضي الله عنهما، ويفترون ويرمون بالفاحشة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وقد برأها الله.
وقابلهم النواصب فيسبون أهل البيت، ويرون أن علياً متهم، وتوسط أهل السنة، وقالوا: أهل البيت منا وهم أحبابنا، ونحبهم في حب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحبهم إيمان، قال تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] فقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام أشرف القرابة، وقد كان الشافعي يقول:
إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي
إذاً حبهم عقيدة ولا نسبهم، ولكن لا نغلوا فيهم فنوصلهم الدرجة التي لم يصلوا إليها، فنرد على النواصب ونقول: أخطأتم، وعلى الروافض ونقول: أخطأتم، وننزلهم منزلتهم اللائقة بهم، وننزل علياً في الدرجة الرابعة في الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم، فإذا سمعت النواصب، فمعناها طائفة من المسلمين لكنهم ابتدعوا، حيث كانوا يسبون أهل البيت.
وسموا نواصب لأنهم ينصبون لأهل البيت العداء، يقول المتنبي يمدح أحد العلويين:
إذا علوي لم يكن مثل طاهر فما هو إلا حجة للنواصب(193/12)
توسط أهل السنة بين المجسمة والمعطلة
وأما المجسمة والمعطلة:
فـ المجسمة -كما قلت- وصفوا الله كالمخلوق تماماً، جل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، بل كانوا يشيرون بأيديهم ويقولون: هو كأحد منا، والمعطلة كـ الجهمية وغيرهم نفوا صفات الله وأسماء الله تماماً، فتوسط أهل السنة، وقالوا: نثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه ونفاه رسوله عنه، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
فالأسماء والصفات توقيفية، والطوائف فيها ثلاث: منهم من نفاها مطلقاً، وهم المعطلة، فقد نفوا الأسماء والصفات، فقالوا: لا أسماء ولا صفات، قالوا: لا نطلق عليه اسم عليم، ولا قادر ولا حكيم، ولا سميع ولا بصير.
والمعتزلة قالوا: نثبت الأسماء، وننكر الصفات، عليم بلا علم، سميع بلا سمع، وحليم بلا حلم، وكريم بلا كرم.
والأشاعرة: أثبتوا سبع صفات مع الأسماء، وأنكروا وأولوا بعض الصفات، وهذا خطأ.
وأهل السنة يثبتون لله ما أثبته لنفسه من غير تحريف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل.(193/13)
توسط أهل السنة بين أهل الرأي البحت وأهل الظاهر الصرف
فـ أهل السنة وسط بين أهل الرأي البحت وأهل الظاهر الصرف.
ففي الواقع توجد مدرسة متوسطة ومدرستان متطرفتان، مدرسة في الفقه -في الفرعيات- ترى أنه لا بد بأن يقلد الشخص أهل المذاهب، ويأخذون المتون فيحفظونها حفظاً ويحكمونها في الناس، ولو خالفت الأدلة، حتى لو رددت على أحدهم، قال: لا.
هذا موجود في الكتاب، تقول: الحديث في البخاري، قال: لا.
الشيخ أعلم بهذا، أبو حنيفة أعلم، والإمام أحمد أعلم، تقول: الدليل، قال: ما ندري، إنما موجود في المتن هذا، فيحكم آراء الناس ولو صح الحديث بخلاف ذلك، وهذا خطأ.
وقابلتهم مدرسة متطرفة، -وقد ذكر المدارس الثلاث ابن تيمية، في أول كتاب الاستقامة: مدرسة الرأي ومدرسة الظاهر وذكر أن أهل الحديث وسط- فقابلهم أهل الظاهر، قالوا: لا.
مَن أحمد هذا؟ هو رجل ونحن رجال.
ثم يأخذون الحديث ولا يعرفون أهو صحيح أو ضعيف ناسخ أو منسوخ، فيعملون به، وتجد أحدهم يأخذ كتب الحديث ويجتهد ويفتي وعمره ست عشرة سنة، فيطوي رجله تحته ويقول: والذي تطمئن إليه نفسي، وأرى أن الإمام مالك أخطأ في هذه المسألة، وأرى أن الشافعي لم يهتد للصواب في هذه الجزئية، فنقول رويدك:
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أو قول جرير:
وابن اللبون إذا ما شد في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس
وتوسط أهل الحديث، فقالوا: نأخذ الدليل ونستفيد من أفهام وأفكار الأئمة الكبار، لأنهم أفهم منا وأحسن عقلاً وإدراكاً ووعياً، فنأخذ فهمهم، ونترضى عليهم، ولا نجعلهم معصومين، فالمعصوم محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الصحيح.(193/14)
توسط أهل السنة بين أهل الشهوات وأهل التصوف
وتوسط أهل السنة بين أهل الشهوات البهيمية، وأهل التصوف.
والعالم الآن -حتى العالم الإسلامي- ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أهل اعتدال في حياتهم.
القسم الثاني: أهل عبادة شهوانية بهيمية.
القسم الثالث: أهل تصوف مذموم.
أما أهل الشهوات البهيمية فرجل لا يعبد إلا بطنه وفرجه، حياته كأس وبلوت، ومجلة خليعة، وأغنية ماجنة، وسهرة حمراء وعربدة وسفر إلى غير ما يرضي الله عز وجل، وانهيار في الخلق.
وحياته أكل وشرب ولهو، وما عنده من الإسلام شيء، بل هو كما يقول بعض العلماء: كجفاة الأعراب لا يفهم من الدين إلا مجمل العقيدة، فيفهم لا إله إلا الله إجمالاً، لكن لو سألته في سيرة محمد عليه الصلاة والسلام أو في بدر أو أحد أو في سيرة الخلفاء الراشدين، أو في تفسير آية؛ فإنه لا يعرف منها شيئاً أبداً، فحياته فقط حياة ظاهرة، قال تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الاحقاف:20] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] وقال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
ويقول أحد الشعراء:
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر أجسام البغال وأحلام العصافير
قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] فيتعب جسمه لجسمه، ويتعب بطنه لبطنه، ويتعب شهواته لشهواته، والله إن أحدهم يهتم بقضية سيارته ووظيفته ومنصبه أكثر من اهتمامه بالإسلام، بل الإسلام في آخر القائمة!! فقضية التحمس للدين في آخر القائمة، لا يلقي لها بالاً ولا يعد لها حسباناً أبداً:
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
وقابلهم طائفة تطرفوا -طائفة التصوف- فقتلوا النفس، فلا ينامون كما ينام الناس، سهر متواصل، ولا يأكلون الطيبات، وقد ذكر ابن الجوزي أعاجيبهم ومن يطالع كتاب إحياء علوم الدين للغزالي يجد العجائب، يقول أحدهم: والله الذي لا إله إلا هو ما أكلت الرطب أربعين سنة، فهو يمتدح نفسه بهذا، فهل الرطب حرام؟! ومن حرمه؟ هل في كتاب الله عز وجل تحريم للرطب أو الأرز أو اللحم؟ لا.
{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] فهذا ليس وارداً، لكن أهل التصوف قتلوا النفس، ويرى الغزالي وأمثاله أن هذا هو المسلك الطيب.
قال: فلان ما صلى الفجر أربعين سنة إلا بوضوء العشاء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر} قالوا: الحمد لله، فلان ما تزوج في حياته، قال: {وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني}.
جاء تلميذ إلى الإمام أحمد ممن أثرت عليه مدرسة التصوف، فقال لـ أحمد: هل الزواج أفضل أو تركه؟ قال الإمام أحمد: الزواج أفضل، قال: إبراهيم بن أدهم ما تزوج، قال الإمام أحمد: أوَّه، وقعنا في بنيات الطريق! يقول الله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] فسنته عليه الصلاة والسلام هي المتبعة.
يقول الخطابي في كتاب العزلة: أحد المتصوفة أخذ لاصقاً فوضعه على عينه اليسرى، فقال له الناس: مالك؟ قال: إسراف أن أنظر إلى الدنيا بعينين، والله عز وجل يقول: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] هذا موجود عند الخطابي - أبو سليمان - قال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) [البلد:8] فهذه نعمة، وهو يقول: إسراف أن ننظر بعينين، وأتوا بعجائب أخرى.
فتوسط أهل السنة فقالوا: نتوسط بالنعم، فنأكل الطيب ونلبس الطيب، ونتجمل بجمال الله، بدون إسراف ولا مخيلة، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]} لكن نشكر بها الله، بلا إسراف ولا مخيلة، ولا كبر ولا رياء، ويرى أهل السنة أن ننام ونقوم، فلا يُقام الليل كله، وقد نص كثير من العلماء بهذه الفتوى، ولا يُصام الدهر كله، وهو الصحيح، ولا يترك الزواج، وهو الصحيح، بل الأفضل الزواج، بل بعض العلماء يوجبه إذا وجد موجب هذا.
أهل السنة وسط بين أهل الشهوات البهيمية وأهل التصوف، فهم الذين هداهم الله سواء السبيل.(193/15)
توسط أهل السنة بين المفوضة والمؤولة
وأهل السنة وسط بين المفوضة الذين فوضوا الأسماء والصفات، وقالوا: لا نقول فيها شيئاً، فلم يثبتوها ولم ينفوها، وبين المؤولة وكـ الأشاعرة وغيرهم الذين أولوا صفات الله.
يقول عليه الصلاة والسلام: {يضحك ربنا} قال الأشاعرة، الضحك معناه الرحمة، وهذا خطأ وليس بصحيح بل له ضحك يليق بجلاله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فالقول في الصفات كالقول في الذات، ونرد عليهم أيضاً، بأنهم يثبتون سبع صفات منها: العلم، فنقول: لماذا أثبتم العلم؟ قالوا: نثبته فله علم يليق بجلاله، قلنا وللمخلوق علم، أما تخافون أنكم إذا أثبتم العلم لله أن يشابه علم المخلوق؟ قالوا: لا.
لأن لله علماً يليق بجلاله، وللمخلوق علم يليق به، ونقول لهم أيضاً: قولوا في مثل ما نفيتم مثل ما أثبتم، فلله ضحك يليق بجلاله، وللمخلوق ضحك يليق بالمخلوق، فليس للمخلوق جلال مع الله، بل الجلال لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(193/16)
توسط أهل السنة بين الجفاة والغلاة
أهل السنة وسط بين الجفاة والغلاة، فهم وسط في حبه عليه الصلاة والسلام، وقد مر شيءٌ من هذا، فهناك قوم جفوا عن حبه صلى الله عليه وسلم، حتى أنه يذكر في المجالس عندهم، فكأنك ذكرت عالماً من العلماء بالحسنات، أو ذكرت مصلحاً من المصلحين، أو رجلاً من عامة الناس، وبعضهم لا يصلي ولا يسلم عليه صلى الله عليه وسلم، رغم أنف من لم يصلِّ ولم يسلم عليه صلى الله عليه وسلم.
بل وجد من بعض العلمانيين أنه إذا تكلم في محمد عليه الصلاة والسلام أنه يدرجه في قائمة الزعماء، فيقول: ومن إصلاحاته عليه الصلاة والسلام أنه حرر الأمة وجاهد وقاتل في سبيل الله وأنه علَّم الناس، وكذلك جاء بعده أبو بكر وجاء بعده صلاح الدين، وجاء بعده فلان بن فلان، وكلهم مصلحون.
فنقول: أخطأت، الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كهؤلاء، فهو المصلح الأول، وهو صلى الله عليه وسلم المعصوم، وهو الرسول للبشرية، وهؤلاء تلاميذ له، ولا يقارنون به.
وبعضهم غَلا في حبه حتى أوصله إلى مرتبة الألوهية واستسقى بقبره وسأل منه المغفرة بعد موته وغالى فيه غلواً، كما قد ذكرت بعض أبيات المتصوفة فيما سبق.(193/17)
توسط أهل السنة في الأخلاق
وهم في الأخلاق وسط:
فالبياض إذا كثر أصبح برصاً، قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3] فالتواضع إذا زاد عن حده صار ذلة، والعزة إذا ارتفعت صارت كبراً، والكرم إذا زاد أصبح إسرافاً، وإذا قل صار بخلاً.
فالوسط الوسط في الأخلاق.
وهذه يلهمها العبد، وهي المسألة التي يقول فيها ابن تيمية الهداية إلى الصراط المستقيم، التي يسأل العبد ربه في كل صلاة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فإن دراجات الهداية دقيقة وكثيرة لا يعلمها إلا الله، ولا يصل إلى الدرجة العالية إلا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فليعلم هذا.
إذاً التوسط في الأخلاق هو المحمود، ومن أسس الماسونية أنهم يجعلون القاسم المشترك هو خلق الإنسان، فيقولون: ما دام حسن الخلق، أي: لا يزعج أحداً، حتى إذا كان الخواجة الأمريكي معك، فليس لك أن تزعجه إذا رأيته يخالف في بعض الأمور، فمن حسن الخلق أن تتأدب معه وتتلاطف، وأن تذل له، لأن خلق الإنسان لا بد أن يكون مشتركاً بين الناس، حتى أنهم يقولون: العزة هذه من أين أتيتم بها؟ فلا يجوز عندهم جرح الشعور.
والله عز وجل يقول: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] وقال تعالى عن المؤمنين: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] فلا يصح أن تقلب، بل يبقى المسلم عزيزاً بإسلامه، والكافر ذليلاً بكفره، لكن يبقى حسن المعاملة، فالدين المعاملة: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] قال بعض المفسرين: قيلت في سائر الناس، أن تقول لهم: حسناً؛ تصرفاً حسناً، أما الذلة والاستخذاء فهذا محرم.(193/18)
توسط أهل السنة في العبادة
أهل السنة وسط في العبادة، فلا يكسلون، ولا يجفون، ولا يتركون النوافل، ولا يقصرون في أداء حقوق الله عز وجل بل يتزودون بالنوافل ويعلمون أن أقرب الناس إلى الله أكثرهم نافلة، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به} الحديث.
وعند مسلم عن ربيعة بن مالك قال: {أريد مرافقتك في الجنة يا رسول الله! قال: أوغير ذلك؟ قال: هو ذاك، قال: أعني على نفسك بكثرة السجود}.
وعند مسلم عن ثوبان: {فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة} فإذا رأيت الإنسان لا نافلة له، فاعلم أن هذا لمرضٍ فيه، بل بعضهم يترك العشر النوافل التي كان يحافظ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي السنن الراتبة، وقد قال كثير من العلماء: من تركها فهو رجل سوء، وهي:
ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، فهذه العشر التي حافظ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم مع الوتر وركعتي الضحى، ومثل صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فهذا هو الوسط.
وأما قوم فزادوا على أنفسهم، فسردوا الأيام كلها صياماً، وقاموا الليل كله، وختموا القرآن في يوم؛ فانقطعوا، وأهل السنة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، ودل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: {القصد القصد تبلغوا} {فإن المنبتّ -وقد أرسله ابن المنكدر ففي الحديث نظر- لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع} {إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(193/19)
توسط أهل السنة في الجرح والتعديل
وأهل السنة وسط في الجرح والتعديل، أي: في الكلام في الرجال، والكلام في الهيئات، فهم يحكمون كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، لأن بعض الناس يحكم هواه في حب الناس، فَيُسْأَلُ عن عالم ولو كان فيه ضلالٌ، فتجده لحبه أو لأنه أسدى له معروفاً يمجده وينسى خطأه ويرفعه لأعلى عليين، ويذكر عالماً آخر أفضل من ذلك، ولكن ربما لمواقف شخصية أو هوى أو حسد، فيحط من قدره وينسف حسناته، وهذا خطأ، وقد ذكر الذهبي في ترجمة قتادة بن دعامة السدوسي وقد كانت فيه بدعة، لكنه حافظ من حفاظ الحديث وعالم جليل، قال: ولا تهدر حسنات الرجل وذكاؤه وحبه الخير -أو كما قال- هذا ولا ننسى بدعته.
ويسأل ابن تيمية عن الغزالي فيعطي حسناته وسيئاته، ويسأل عن كتابه (إحياء علوم الدين) فيعطي حسناته وسيئاته، فهم يعملون بقوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] فلا يحكِّم أهل السنة الأهواء أو الحسد أو الغيرة؛ لأن كلام الأقران كما يقولون: يطوى ولا يروى، ولا يقبل في بعضهم، إلا إذا ذكر السبب وعرفت الملابسات.
والإمام مالك على جلالته ومحمد بن إسحاق صاحب السير على جلالته يقول أهل العلم: لا نقبل كلام الإمام مالك في ابن إسحاق، ولا كلام ابن إسحاق في مالك، فالإمام مالك يقول عن ابن إسحاق: دجال الحرة، وابن إسحاق يقول: أنا بيطار كتبه، خرجت كتب مالك من يدي، رحمك الله يا بن إسحاق أنت مأجور ومشكور، ولا نقبل كلامك في مالك، ولا نقبل كلام مالك فيك، وكذلك أبو نعيم يقول في ابن مندة: ليس بحافظ، قال الذهبي: لا نقبل كلامه فيك، ولا نقبل كلامك فيه، وهو حافظ صين دين، وأنت حافظ صين دين، لكن احفظ لسانك.
وذكر عالماً آخر تكلم في رجل، وقال: لا نقبل كلامك فيه والسلام.
فأهل السنة يحكمون الكتاب والسنة، ويحكمون الدين بلا هوى في الجرح والتعديل.
وقد اجتزأتها نظراً لأني سوف أترك المجال للشيخ العامل والداعية المعروف: الشيخ/ عبد الله الجلالي، فباسمكم جميعاً وباسم أهالي المنطقة أرحب به ضيفاً عزيزاً على قلوبنا، ونسأل الله أن ينفع به وهو معروف لدى الجميع، والتعريف به كالتعريف بالعلم، فأنا أدعوه للتقدم ليعطينا مما أعطاه الله زاده الله توفيقاً ورشداً، وحياه الله وبياه ومرحباً به، فليواصل معنا إلى الأذان، ومن الأذان إلى الإقامة، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(193/20)
فضل مجالس العلم
كلمة للشيخ عبد الله الجلالي:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين.
أمَّا بَعْد:
أيها الأحبة في الله! ما كنت أتمنى أن أتقدم، وكنت أظن أن الشيخ لم يرني وكان الحديث مفيداً، لكن دعاني الشيخ، فأنا مستعد -إن شاء الله- لا معلقاً وإنما شاكراً أولاً لله عز وجل، فهو الذي يدافع عن الذين آمنوا، وهو الذي يحق الحق ويبطل الباطل، ثم شاكراً للشيخ/ عائض جزاه الله عنا خيراً، فهو الذي اجتمع أمامه هذا العدد الكبير الذي لم أره في حلقةٍ من حلق الذكر أو مجلسٍ من مجالس العلم أبداً؛ إلا لحسن طويته ولإخلاصه إن شاء الله تعالى، وأسأل الله أن يثيبه.
ثم أشكر لكم أيها الإخوة! وأقول: هكذا يجب أن يكون الرجال، وهكذا يجب أن يكون المؤمنون مع علمائهم وشيوخهم، أشكر لكم؛ لأن كثيراً منكم جاء من أماكن بعيدة، وأشكر لكم؛ لأنكم تعيشون فترة قل فيها الطالبون للعلم، وكثر فيها الطالبون للدنيا ومتاعها، وأرجو أن نكون جميعاً من الغرباء الذين قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم: {هم الذين يصلحون إذا فسد الناس}.
وليس غريباً -أيها الإخوة- أن تجتمعوا هذا الاجتماع يوم كانت المقاييس غير المقاييس التي يعيشها الناس اليوم، ولا نفقد الثقة ففي هذه الأيام خيرٌ كثير والحمد لله؛ لأن العلم تضرب له أكباد الإبل قديماً وحديثاً، ولأن في سلفنا الصالح من يقطع آلاف الأميال يبحث عن مسألة في وقتٍ كان فيه الظهر غير متوفر، ولا الظروف ميسرة، أما وقد تيسرت الوسائل وتوفرت الظهور فإن هذه حجة علينا لا حجة لنا.
أيها الإخوة! أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على مجالس، بل أثنى الله عز وجل قبل ذلك وقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والذيْنَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]
ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد فرأى حلقتين: حلقة علمٍ وحلقة عبادة، فترك حلقة العبادة وجلس في حلقة العلم، وقال: {إنما بعثت معلماً}.
بل قال عليه الصلاة والسلام: {وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده} فهذه صفات -يذكرنا الله في من عنده من الملائكة، وتحفنا الملائكة، وتغشانا الرحمة- نحن بحاجة إليها دائماً وأبداً.(193/21)
ضرورة حضور مجالس العلم
إخواني! أعداؤنا يضربون أكباد الإبل من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، من أجل مصالح مادية، بل من أجل فسادٍ في الأرض، بل من أجل إهلاك الحرث والنسل، ونحن أولى بأن نحث الخطا لمثل هذه المجالس.
والله -يا إخوتي- لا أكذبكم لقد رأيت بعيني هاتين ولا أكتم ولا أغير ما رأيت: كنت ذات يومٍ في دولةٍ من دول العالم الذي ابتلي بالهجرة -من الدول المجاورة- فسرت ساعاتٍ طويلة داخل غاباتٍ موحشة، وفي شدة الحر، وفي ضنكٍ من الطريق، فلما وصلت إلى تلك المعسكرات التي يقطنها أبناء المسلمين المعذبون رأيت أطفالاً أشبه ما يكونون بالأشباح، وليس هذا عجيباً فالعالم الإسلامي في جله معذبٌ اليوم، وأكثرهم مشرد.
وتقول الإحصائيات أن في أفريقيا وحدها: 250 مليون كلهم تهددهم المجاعة والموت، والعجيب أني رأيت أطفال المسلمين بأيدي فتياتٍ أوربيات، كأنهن الشمس جمالاً في سن العشرين فما دونها، كل امرأةٍ من هؤلاء النساء احتضنت طفلاً من أبناء المسلمين تربيه، لا تريد أن تربي جسمه؛ وإنما تريد أن تربي عقله خلاف الفطرة، قلت: سبحان الله! كيف جاء هؤلاء من بلاد أوروبا المترفة إلى هذه الغابات الموحشة التي تنتشر فيها الأمراض والأوبئة؛ ولكنها سنة الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:36 - 37] بل قلت: سبحان الله! هؤلاء الأوربيون جاءوا ليربوا أبناء المسلمين خلاف الفطرة، فأين أبناء المسلمين؟!
فأجبت نفسي بنفسي: المسلمون معزولون عن المسلمين، لو بحثت عنهم في الأندية أو في ملاعب الكرة أو لوجدتهم يتكاثرون هناك، فغفلوا عن أبناء جلدتهم فتولى تربيتهم غير المسلمين وإنها لفتنةٌ أسأل الله أن يخلص المسلمين من شرها.
أحبتي في الله: من هنا يجب أن نفهم أن الجنة سلعة الله، وأنها غالية، وأننا يجب أن نضحي بالنفس والنفيس، والوقت وكل شيء، من أجل أن نعرف كيف نعبد الله، وكيف نتعامل معه بالعبادة، ومن أجل أن نعرف كيف نتعامل مع الناس.
وإذا قيض الله لنا علماء كأمثال الشيخ/ عائض جزاه الله خيراً والحمد لله هم كثيرون اليوم، يجتزئون جزءاً من وقتهم لهذا الأمر؛ فإنه يصبح لزاماً على كل واحد منا ألا يضيع هذه الفرصة، وإن ضيع هذه الفرصة فأخشى أن يأتي وقتٌ لا تتوفر فيه هذه الفرص؛ لأن العلم سوف يرفع كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفع العلم علامةٌ من علامات الساعة، ورفعه بموت العلماء.(193/22)
ضرورة العمل لهذا الدين
والمهم -أيها الإخوة- هو العمل من أجل هذا الدين، وأن نتحمل في سبيله كل مشقة؛ لأن الله تعالى يقول لنا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] وإذا كان من الناس من يعتبر أو يظن أن حمل الدين سهل أو مفروشٌ بالورود والرياحين فليصحح معتقده، وليتفقد عقله.
قرأت ذات يومٍ -وإن كان منذ مدةٍ طويلة- قصة رجلٍ من الأتراك كان يدعو إلى الله فضلَّ الطريق فدخل في حدود بلغاريا الشيوعية التي كانت لا تسمح بأي شيءٍ اسمه دين، يقول هذا الأخ التركي: فما زلت أسير في الظلام وقد ضللت الطريق داخل الحدود البلغارية إذ أنا في وسط غابة موحشة فسمعت صوت القرآن الكريم، فاطمأنت نفسي -هو الراوي نفسه- يقول: فاقتربت فوجدت سراجاً صغيراً يحيط به أطفال وفي الوسط شيخٌ كبير السن، فجلست معهم من منتصف الليل إلى قرب الفجر، وهم يقرءون القرآن والشيخ يقرئهم، فلما قرب الفجر تفرقوا، فسألت صاحبي: فقال هؤلاء شبابٌ من بلغاريا، يجتمعون في كل ليلة في منتصف الليل، وهذا شيخ يأتي من تركيا فيخترق الحدود في كل ليلة، فيجلسون ليقرئهم القرآن ويتفرقون قبل أن تنتبه السلطات الشيوعية.
هكذا يقدر المسلمون لهذا الدين قدره.
أما إذا ظن المسلمون أن الدين يحتاج أقل من ذلك؛ فإنهم في خطأ.
أيها الإخوة! الإسلام يحتاج إلى تضحية، وما وصل إلينا بهذا المستوى إلا بعد جهدٍ جهيد، ونحن مطالبون بأن نسعى كما سعى آباؤنا؛ لإقرار الحق وإحقاقه وإبطال الباطل.
أما العلم فإنه أمرٌ مطلوب، ونحن بمقدار فرحتنا بالصحوة الإسلامية المباركة وبهؤلاء الشباب، والحمد لله الذي منَّ عليهم بالعودة بعد شرودٍ طويل؛ نطالبهم بالعلم؛ لأن العلم هو سلاح الحياة، وهذه المجالس التي تشبه هذا المجلس إنما هي الوسيلة لتحصيل العلم النافع الذي يتحصن به شبابنا.
فيجب أن نقدر لهؤلاء العلماء قدرهم، ولا نفقد الثقة فيهم مهما قيل عنهم.
ثم أيضاً يجب أن نلتف حولهم لنأخذ منهم العلم الصحيح، كيف لا وهم يعلموننا ما قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة! إن وجود مثل هؤلاء العلماء بين ظهرانينا فرصة، ولذلك فإني سوف أزف لكم بشرى سوف يفرح بها كل واحدٍ منكم إن شاء الله: لقد سمعت منذ أيام أن الشيخ عائض سوف يرتحل إلى مكة وبإلحاحٍ من إخوانه الغيورين على دين الله عز وجل وعلى انتشار العلم في كل مكان في الأرض، ولأن مكة فيها والحمد لله خير كثير؛ عدل فكرته -والحمد لله- وقرر الاستقرار هنا.
ويجب أن يكون هاهنا العلماء، فلا يجوز أن يتركوا الميدان إلا إذا كان أحدهم متحيزاً إلى فئة، ونحن نقول: هنا يجب أن يكون العلماء كما يجب أن يكون هناك في مكة وفي كل مكان من الأرض.(193/23)
أهمية التزام الوسطية في العمل للدين
إن خلو منطقة من العاملين، الذين يبذلون الجهد والوقت؛ ليؤذن بخطر؛ ولذلك فأنا أقول: أيها الإخوة! ما دام الشيخ قد عدل عن هذه الفكرة وعزم على البقاء هنا من أجل المصلحة فإني أحثكم: أن تحثوا الخطا إليه مهما غلا الثمن وعز المطلب وأن تقطعوا مسافات طويلة، فإن ذلك في سبيل مرضاة الله عز وجل.
أما ما ذكره الشيخ عن الوسطية فإنه أمر نحتاج إليه دائماً لا سيما في هذه الفترة؛ لأننا نعيش في فترة انتشرت فيها الصحوة؛ لكنها تفقد في بعض الأحيان العلم الصحيح الذي يصحح المسار، ويحدد العمل؛ ولذلك نسمع في هذه الأيام تطرف وسواس تشدد، وهذا قد يوجد؛ لكنه نادر؛ وهذه الكلمات لربما تظهر من قوم فوجئوا بهذه الصحوة الإسلامية المباركة وعلى غير انتظار، وجاءهم شباب ملتزم مستقيم على دين الله بعد شرودٍ طويل فظنوا أن هذا هو التطرف، وأنا لا أنكر وجود هذا الشيء لكنه نادر جداً، بل أقل من النادر.
أما ما يقال عن الصحوة الإسلامية: بأن فيها تطرفاً فليس فيها تطرف، بل هذا هو الحق الذي غفل عنه الناس مدة طويلةً من الزمن، فعاد الحق إلى نصابه وموقعه؛ فظن بعض الغافلين، وبعض الناس الذين ليس لديهم الخبرة والمعلومات الصحيحة عن حقيقة هذا الدين أن هذا تطرف، وقد يوجد شيءٌ من ذلك.
ولذلك فكما قال الأخ: إن الأمة الإسلامية أمةٌ وسط، والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] ومعنى هذه الآية عند المفسرين أنهم عدول؛ لأن الوسط معناه المعتدل، كما قال الله عز وجل: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم:28] أي: أحسنهم رأياً، إلا أن الوسطية أيضاً يفهم منها المعنى الآخر: وهي الاعتدال بين طرفي نقيض.
فحقاً إن دين الإسلام دينٌ وسط، وهو دائماً بين طرفي نقيض سواء كان في أصوله، أو فروعه، أو سلوكه، أو أخلاقياته، أو آدابه وغير ذلك.(193/24)
وسطية الإسلام بين المناهج العصرية
فابتداءً من المناهج العصرية التي تعيش معنا اليوم نجد أن الإسلام دينٌ وسط.
مثلاً: الرأسمالية في معناها الاصطلاحي الحاضر: جمع الأموال بدون قيدٍ ولا شرط، فلا زكاة، وليس هناك شيءٌ اسمه الربا أو الحرام في كسب المال، وهذا طرف.
والشيوعية الملحدة الكافرة التي تحكم بـ الاشتراكية وهي طرفٌ آخر: تأخذ الأموال بحجة أنها تأخذها من الأغنياء وتعطيها الفقراء، وهذا كذب، بل تؤخذ من الأغنياء لتردهم فقراء، وتدفع إلى أشياء لا نستطيع أن نتحدث عنها الآن.
ثم جاء دين الإسلام، بل دين الإسلام هو قبل هذه المذاهب كلها فهو دينٌ وسط، فقد أمر باقتناء الأموال وهو هنا مخالف للشيوعية التي تلغي الملكية الفردية، وتلغي الأسرة، بل وتنكر كل النواميس التي يؤمن بها الإنسان بعقله حتى تنكر الخالق سُبحَانَهُ وَتَعَالى تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- فجاء الإسلام وهو وسط بين طرفي نقيض فليس هو في الرأسمالية التي لا تقف عند حدٍ في كسب المال، ولا تعترف بربا ولا بمحرم في كسب المال، ولا تعترف بزكاة ولا غيره، ولا هو بـ الشيوعية الاشتراكية التي تبتز أموال الأغنياء لتحولهم إلى فقراء دون أن تسد حاجة الفقراء.
فقد جاء الله عز وجل بأحسن نظام، وهو نظام الزكاة، والنفقات، والكفارات والصدقات، إلى غير ذلك.
أمر آخر: من المذاهب العصرية التي تعيش معنا اليوم؛ الشيوعية الملحدة المادية التي لا تؤمن إلا بالمحسوسات، وهذه لا يخفى على أحدٍ منا، وهي -والحمد لله- الآن سقطت تحت أقدام المسلمين اليوم، فهي تداس بالأقدام حتى في بلادها.
وهناك مذهبٌ آخر خرافي يقدس ويحترم الروح، ويهمل الجسد، تلك تهمل الروح وتهتم بالجسد، وهذه تهمل الجسد وتهتم بالروح وتبالغ.
ولذلك الحديث عن هذا المذهب الأخير في بلادنا غير واضح وغير مفهوم والحمد لله؛ لأن بلادنا لا تعرف البدع ولا الخرافات ولا الشركيات والوثنيات، ونشكر الله عز وجل، ثم نشكر لدعوة الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب الذي كان سبباً في إنقاذ هذه البلاد بالرغم من ترامي أطرافها، وبالرغم مما هي فيه من الجهل والبادية في سابق أمرها.
لكن -يا أخي- لو سرت في العالم الإسلامي لرأيت العجب العجاب، ولرأيت قوماً يقدسون القبور والأولياء، ويعتقدون فيهم النفع والضر من دون الله، بل -والله- يقدسون حتى من دون ذلك، ولقد رأيت -والله- بعيني هاتين قبر رجل شيوعي في مكان وقد بنى عليه ضريح، وهم يعرفون أنه شيوعي صيني.
فهذه الأمور التي تعدت الحدود في الروحانيات؛ فقدست الأولياء بدون قيدٍ ولا شرط، واعتقدت أنهم ينفعون ويضرون من دون الله عز وجل، وهذا شرك أكبر.
ولو رأيت -يا أخي- بعض المزارات؛ لرأيت أن من يطوف حول الكعبة لا يساوي معشار من يطوف حول هذه الأضرحة، فإنه يحج إليها الناس في باصات وطائرات وقطارات، كلها تذهب إلى هذه الأضرحة، والناس في زحام حتى لا يُعطى الشخص في بعض الأماكن إلا شوطاً واحداً من شدة الزحام، يقول: شوط واحد فقط وتمشي، أما الطواف حول الكعبة فإنه سبعة أشواط؛ لأن العدد حول الكعبة معقول يتسع لسبعة أشواط؛ لكن هنا لا يتسع لسبعة أشواط.
والمصيبة الكبيرة -يا إخوان- أننا رأينا علماء -أشكر الله على هؤلاء العلماء الذين يسيرون بكم نحو الفطرة- يدعون الناس إلى هذه الوثنيات والقبور والأضرحة، ويريقون من الدموع حول هذه الأضرحة؛ أكثر مما يريقه المسلمون حول الكعبة المشرفة وعند الحجر الأسود.
وهذه بلية نحن -والحمد لله- سلمنا منها، فنشكر الله عز وجل الذي هدانا للفطرة.
ولقد تذكرت حينما كنت أسير في تلك البلاد وأرى هؤلاء المخرفين والخرافات بل وأرى من العلماء من يدعون هؤلاء الناس إلى هؤلاء المهذرفين وهذه الخرافات، وإذا قيل لأحدهم: اتق الله، قالوا: أنتم تكرهون محمداً والأولياء والصالحين.
ونحن -والله- نحب محمداً أكثر منهم، ونحب الصالحين أكثر منهم، لكننا لا نعطي أحداً ما نعطيه الله عز وجل، تذكرت وأنا أرى هذه المناظر المحزنة المبكية المضحكة في آن واحد قول الله عز وجل عن قومٍ في النار يلومون قوماً في النار: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28] يعني: ما جئتمونا عن طريق المعاصي، وعن طريق الآثام، بل جئتمونا عن طريق الطاعة، عن طريق اليمين وعن جهة اليمين، فلو جئتمونا عن الطريق المنحرفة لما صدقناكم، فهذا ما يقوله بعض أهل النار لبعض، ويقوله الأتباع للقادة وللسادة.
فإنهم لو أتوهم عن طريق المعصية والخمور والزنا والفواحش والسرقة والسطو لما اتبعوهم، وهذه جرائم كبيرة خطيرة لكن الإنسان وهو يقترفها يتوب منها؛ لأنه يعترف بأنها معصية، وأجهلهم إذا قيل له: اتق الله، قال: عسى الله أن يهديني؛ لكن ما رأيك في إنسان يعمل البدع والخرافات والشركيات والوثنيات ويعتقد أنها من الدين؟
هل يفكر أن يتوب في يوم من الأيام؟
لا يفكر بذلك؛ لأنه يعتقد نفسه في طاعة، ولذلك الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أخبر عنهم في النار، فقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَة * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] خشوعها ونصبها في الدنيا ما خلصها من النار الحامية؛ لأنهم لم يسيروا على المنهج الذي سار عليه محمد صلى الله عليه وسلم.
إذاً نحن بين طرفي نقيض، بين من يدعو إلى المادية وينبذ الروح، وبين من يزيد في حق الروح ويتعدى فيها الحدود، ويهمل الجسد.
ولذلك فإننا أمة وسط، وديننا وسط والحمد لله، ونحن نشكر الله عز وجل على ذلك، فنحن نؤمن بالله عز وجل، ونؤمن بالروحانيات، لكننا لا ننسجم معها على غير منهجٍ صحيح وعلى غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.(193/25)
أهمية فهم وسطية الإسلام
فهذه الأمة أمةٌ وسط، وهذه الوسطية مهمةٌ جداً، حتى لا يظن بعض الناس أن دين الإسلام دينٌ مطاط، يدخل فيه ما يشاء من البدع والخرافات، وكلما أتى ببدعة قال هذه بدعة حسنة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في كثير من خطب الجمعة: {ألا إن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة}.
إذاً: ليس هناك بدعة حسنة، فالذين جعلوا الدين مطاطاً أخطئوا، كما أن الذين تجردوا عن الإسلام أخطئوا، ولكن -وأقسم بالله العظيم- لو بعث فينا اليوم محمدٌ صلى الله عليه وسلم ورأى هذا العالم، ما بين مجرمٍ فاسق، وما بين موغلٍ في الصوفية والخرافة والشرك والوثنية؛ لحمل السلاح في وجه هؤلاء الخرافيين قبل أن يحمله في وجه هؤلاء العصاة والمجرمين؛ لأن هؤلاء إما أن يكونوا قد كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، حينما قال: {تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك} أو يكونوا قد كذَّبوا الله عز وجل يوم قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]
وقد جعل الله عز وجل شرطين لقبول العمل: أن يكون صالحاً صواباً موافقاً لما جاء به المرسلون عليهم الصلاة والسلام.
وأن يكون خالصاً لله عز وجل.
أيها الإخوة! لا أريد أن أدخل في هذه المواضيع، ولكني أقول: أبشروا فأنتم في روضةٍ من رياض الجنة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر}.
فحلق الذكر: هي مجالس العلم، وهي رياض الجنة، وأبشروا فقد حدثنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة سوف تفترق على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة: {قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثلما أنا عليه وأصحابي} والله! لقد كانت حياة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كلها علماً وبحثاً وكسباً وتحصيلاً وحرصاً على ما يرضي الله عز وجل؛ لأن هذا الإنسان ما خلق إلا للعبادة، وما تزاوله -يا أخي- من بيعٍ وشراء وأخذٍ وعطاء وغير ذلك من الأمور التي أنت محتاجٌ إليها ومأمورٌ بها إنما هي وسيلة، ولكن الغاية هي العلم النافع الذي يعرفك بالله عز وجل، ثم العمل الصالح الذي ينشأ عن هذا العلم.
ونحن -والحمد لله- نعيش فترة توفرت فيها وسائل الراحة ووسائل النقل وتوفر فيها الرزق، يوم كان آباؤنا وأجدادنا لا يحصلون على لقمة العيش إلا بعد شغفٍ وتعبٍ ومشقة؛ كانوا أحرص على طلب العلم منا اليوم، ولكننا نشكر الله أن نجد في مثل هذه المدينة المباركة، وفي هذه المنطقة المباركة مثل هذا الوجوه الطيبة التي تأتي من هنا وهناك، وتقطع الفيافي تبحث عن العلم.
وأسأل الله عز وجل أن يثبت الأقدام وأن يوفق العلماء لإحياء مجالس الذكر وحلق العلم، إنه على ذلك قدير.
ثم أقول: أيها الإخوة! اتقوا الله لا سيما في هذه الظروف، فإن أمتنا اليوم تعيش ظروفاً فيها كثيرٌ من الخطر، وإن الإنذارات التي هي الآن من حولنا وقريبةٌ منا تنذرنا بأن نخشى الله عز وجل، وأن نتفقد أنفسنا وأن نراقب أعمالنا، وأن نتفقد سجلات العمل؛ لأن هذه الفترة تشبه فترةً يقضيها التاجر مع دفاتر تجارته لو أحس بشيء من الخسارة، أو شعر بشيء من ضياع المال فإنه يستعيد دفاتر تجارته؛ لينظر في أرباحه وخسارته.
واليوم وفي مثل هذه الأيام -ونرجو أن تكون أياماً مباركةً إن شاء الله وبعدها أيامٌ مباركة- هي مفرقٌ من مفارق طرق الحياة، ولذلك فإن على كل واحدٍ منا أن يتفقد اليوم نفسه، فإن المؤمن لا يؤتى إلا من قبل نفسه، والله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة، فهو القائل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] سواء كان فساداً خلقياً، أو فساداً اجتماعياً، أو اقتصادياً، أو أي نوع من الفساد إنما هو بما كسبت أيدي الناس، بل إن الله عز وجل يقول: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [فاطر:45].
أيها الإخوة! نحن مطالبون اليوم بأن نتفقد أنفسنا وبيوتنا ومجتمعاتنا، وننظر ما الذي حدث حتى لا نقع في سخط الله عز وجل وعقابه، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] فالتضرع مطلوبٌ دائماً وأبداً لا سيما في أيام البأس، ولنا أعداء من الداخل والخارج، وأعداؤنا يكرهون بلادنا؛ لأنها هي البلاد الوحيدة التي تطبق شرع الله عز وجل؛ ولأن بلادنا هي الوحيدة التي ليس فيها معبدٌ ليهودي ولا نصراني ولا لوثني ولا بوذي ولا لغيرهم؛ ولأن بلادنا هذه هي بلاد المقدسات وبلاد الفطرة، وفيها الذين قدموا أنفسهم وأموالهم للدعوة لله عز وجل في أرجاء العالم؛ لذلك فإن علينا أن نجدد التوبة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأشكر الله ثم أشكر فضيلة الشيخ/ عائض الذي قدمني لكم وما كان ينبغي أن نتقدم بعد حديثه، ثم أشكر إخواني الحضور وأرجو الله أن يثبتني وإياكم على كلمة التوحيد، وأن يتوفانا على ملة الإسلام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(193/26)
أنقذ نفسك يا مسكين!
الإمارة حمل ثقيل, افتتن بها الجهال وهم عاجزون عن حملها, وخاف منها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, مع أنهم قادرون عليها, وخافها أولو العلم من سلف الأمة اقتداء بالصحابة لأنهم يعلمون ما فيها, وما ذاك إلا خوفاً من أن يظلم أحدهم قيد أنمله، فيلقى الله وهو متحمل لها، ففضل بعضهم -مع أن لديه خصال الولاية من القوة والأمانة- أن يجلد على أن يولى.(194/1)
حديث أبي حميد وقصة ابن اللتبية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أسأل الله عز وجل أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت، وأن يجعلنا وإياكم ممن إذا استمع القول اتبع أحسنه.
في روضة من رياض المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي جلسة تصلنا بسيرته العطرة النيرة، معنا هذه الليلة حديث رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، فحيا الله البخاري وحيا الله مسلماً، الحديث عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه وأرضاه، قال: {بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية على صدقة بني سليم، فلما بعثه صلى الله عليه وسلم لقبض صدقات بني سليم, أتى فقال: يا رسول الله! هذا لكم -يعني: من الصدقة- وهذا أهدي إلي، فقال عليه الصلاة والسلام له: أفلا جلست في بيت أبيك وأمك فترى هل يهدى إليك أم لا؟
ثم قام عليه الصلاة والسلام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال رجال أبعثهم لقبض الصدقات، فيأتي أحدهم، فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، أفلا كان جلس في بيت أبيه وأمه فيرى هل يهدى إليه أم لا؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده، لا يأخذ رجل مالاً بغير حق إلا أتى به يوم القيامة، ولأعرفن رجالاً -هذه رواية في مسلم - يأتون على رقابهم ما أخذوا, إن كان إبلاً فبعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم قال عليه الصلاة والسلام: اللهم هل بلغت}.
قال أبو حميد: رأى بصري وسمعت أذناي.
هذا الحديث في الصحيحين، ومجمل قصة الحديث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يبعث لأخذ صدقات الناس، يبعث عليه الصلاة والسلام رجالاً من أصحابه، ففي هذه المرة بعث هذا الرجل واعتمد عليه صلى الله عليه وسلم، ووثق بدينه وإخلاصه وأمانته، فذهب هذا الرجل فجمع الصدقات، والناس لهم مقاصد في الهدايا، بعضهم يهدي للرشوة، وبعضهم لأغراض يصل بها إلى غرضه، فأهدوا له فقبل الهدية، ولو كان لم يعينه صلى الله عليه وسلم عاملاً ما أهدي له أبداً، فما أتته الهدايا إلا من هذا الطريق.
فأتى فدخل المدينة بفرقتين وطائفتين من الغنم، فسأله صلى الله عليه وسلم: ما بالك قسمت الغنم؟ أو كما قال، قال: هذا لكم، أي: لبيت المال وللزكاة، وهذا لي، فغضب عليه الصلاة والسلام، وقال له كلمة حارة ساخنة: {أفلا جلست في بيت أبيك وأمك فترى هل يهدى لك أم لا؟} ثم قام صلى الله عليه وسلم، فأعلن بياناً عاماً لكل من يلي شيئاً من أمر المسلمين خاصاً أو عاماً، أن الله يحاسبه يوم القيامة.
وفي المسند من حديث عبد الله بن المغفل بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يأتي أميرٌ يوم القيامة إلا وهو مغلول، فإن أصاب في ولايته فك الله غله، وإن لم يصب تدهده على وجهه في النار} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
عنوان هذا الدرس: (أنقذ نفسك أيها المسكين) الذي تولى شيئاً من الولايات، أو من يسأله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن شيء من الأموال.(194/2)
ترجمة أعلام الحديث
أبو حميد الساعدي أحد أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، من بني ساعدة، وبنو ساعدة هم الذين جعلهم الرسول صلى الله عليه وسلم في المستوى الرابع يوم صنف الأنصار درجات.
يوم رجع الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة من الغزوات، فنظر إلى قرى الأنصار وإلى قبائلهم، واستعرضهم في اللائحة، فانتظر، فقال عليه الصلاة والسلام: {خير دور الأنصار بنو النجار} وهم أخواله أو أخوال أبيه عليه الصلاة والسلام، ومنهم أنس بن مالك، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارثة، ثم بنو ساعدة، وبنو ساعدة سيدهم سعد بن عبادة الكريم الغطريف الشجاع الجحجاح، فسمع بهذه المقالة فغاضه؛ لأنه قوي الهمة كيف يوضع في المرتبة الرابعة؟ فحرك ناقته واقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام, قال: يا رسول الله! فضلت علينا الناس، قال: {أفلا يكفيك أن تكون من الخيار؟} لأن الأنصار ما يقارب عشر قبائل أو أكثر، لم يذكر عليه الصلاة والسلام إلا أربعاً، قال صلى الله عليه وسلم: {أفلا يكفيك يا سعد! أن تكون الرابع؟ والخيار خيار}.
ولو أنه تأخر في المرتبة، لكن هذا أمر الله قضاؤه وقدره، أما الأزد فهم أزد شنوءة الذين منهم ابن اللتبية صاحبنا هذه الليلة.
ونحن -للعلم- قبائل الجنوب أزديون حتى الموت، من قبائل الأزد، ومنه ابن اللتبية عبد الله، قدم على الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلم، فأرسله صلى الله عليه وسلم في هذه المهمة فأتى بهذا الخبر، وحديث وفد الأزد حديث ضعيف ولو أنه في فضائل الأعمال.
قدم وفدهم سبعة فرآهم صلى الله عليه وسلم عليهم من الأبهة والجلالة والمهابة ما يلحق بمستوى الرجال العظماء، فتكلموا فكانوا أحسن وأحسن، فقال عليه الصلاة والسلام فيما يروى عنه: {حكماء، فقهاء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء}.
أما بني سليم فهم قبيلة عربية تسكن ساحل البحر الأحمر، وهم يجاورون جهينة وأشجع وأسد وتلك النواحي، وفيهم فضل كبير وخير كثير، لكنهم أسلموا متأخرين، ولذلك لم يجعلهم الله عز وجل كالمتقدمين، والمتقدم دائماً هو الذي يعرف له الفضل، يقول الهذلي:
ولو قبل مبكاها بكيت صبابةً لكنت شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا بكاها فقلت الفضل للمتقدم
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى فيهم: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14].
أتوا إلى المدينة، فقالوا: يا رسول الله! آمنا، الناس حاربوك إلا نحن ما حاربناك أهذه منة؟ المنة لله ولرسوله، يمتنون على الرسول صلى الله عليه وسلم، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات:17].
من الذي له الفضل؟ ومن الذي له الكرم؟ ومن الذي له العطاء إلا الله، {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات:17] وأنت هديتهم إلى طريق الإسلام، وأنت الذي قدتهم إلى دار السلام، وبينت لهم الكرامة والإكرام!! فأتوا كأن لهم الفضل عليك! لا والله.
الفضل لله ثم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] فالمنة لله ثم لرسوله صلى الله عليه وسلم.(194/3)
قضايا حديث أبي حميد
في هذا الحديث قضايا منها:
المسألة الأولى: عظم مسئولية الإمارة وخطورتها، وأنها حمل ثقيل، وأن الله عز وجل يسأل الناس وخاصة من تولى الولاية يوم القيامة في موقف عصيب، نسأل الله أن ينجينا وإياكم من كل خطورته.
المسألة الثانية: أخذ الصدقات من الناس، ولا تترك في أيدهم، فإنها لو تركت تلاعبوا بها.
المسألة الثالثة: محاسبة العمال، واستقصاء أخبارهم وطلب أعلامهم، ليكون الإمام وثيقاً في صلته بعماله، وسنورد قصصاً في ذلك.
المسألة الرابعة: هدايا العمال، هل يقبل العامل أو الأمير أو المسئول أو رئيس الدائرة، هل يقبل هدية من الرعية ومن الناس؟
المسألة الخامسة: التعميم في الدعوة بلا تشهير، وبلا تجريح، وبلا ذكر أسماء.
المسألة السادسة: إقامة الخطب للحاجة، ونفض القلوب وتوعيتها للتبصر بطريقها إلى الله تبارك وتعالى.
المسألة السابعة: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {أمَّا بَعْد} في خطبته.
المسألة الثامنة: الهدية وما ورد فيها.(194/4)
عظم مسئولية الإمارة
أعظم قضية في هذا الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام قام على المنبر، فجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار، فقال: {ما بال رجال أبعثهم لأخذ الصدقات، فيأتي أحدهم فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحدكم شيئاً ليس له إلا أتى به يوم القيامة}.
تصور قوله: إلا أتى به يوم القيامة! فمن يأتيك بالمال الذي في الدنيا؟ ومن يأتيك ببقر وغنم الدنيا؟ لكن يأتي بها الله ويصورها على أكتاف الناس.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: {فلأعرفن} جاءت اللام للقسم، وقيل: {فلا أعرفن} للنفي وهي الأصح.
قال: {فلا أعرفن} كأنه يقول: أرجوكم لا تحرجونني يوم العرض الأكبر عند الله، لا تخيبوا الأمة المحمدية بالخيانة، لا تفضحوا الأمة على رءوس الأشهاد.
يقول: {فلا أعرفن} أي: لا أرى هذا المشهد، {لا أعرفن رجالاً يأتون وعلى كتف أحدهم بعير له رغاء} الحديث.
من سرق أو غل أو خان في الدنيا ببعير، حمله على أكتافه يوم العرض الأكبر, صحت بذلك الأحاديث، ويأتي البعير لا يأتي وهو ساكت، يأتي وله رغاء في الموقف والناس يشهدون، نسأل الله العافية والسلامة.
لأن ذلك موقف المنائح أو الفضائح، إما إنسان سدد واتقى الله في المال، وخاف في الولاية أو المسئولية فهو ممنوح ومشروح، أو إنسان سلم منها سلامة مطلقة، فأتى الله وهو أبيض نقياً.
إما إنسان مفضوح يوم العرض الأكبر، فيأتي وليس البعير ساكتاً ولكن للبعير حمحمة ورغو وزبد، يرغو حتى يسمعه الناس، ليعلموا فضيحة هذا الرجل.
في الدنيا تستر عن جيرانه، وتستر عن زوجته في بيته وعن أطفاله، لكن الذي يعلم السر وأخفى هو أعلم بأنه خان وبأنه غل، ولذلك فإن الغادر يأتي بلواء منصوب مكتوب عليه: هذه غدرة فلان بن فلان، ولا حسرة, ولا ندامة, ولا كسف, ولا كسحة, إلا في ذلك اليوم.
الدنيا همها سهل وبسيط، وهي نسبية (ستون سنة أو سبعون) وينقضي فيها ومن فيها، لكن على رءوس الأشهاد يوم العرض الأكبر {أو بقرة لها خوار} يأتي والبقرة محملة على ظهره تخور أمام الناس، لتخبر أنه خان في مال الله عز وجل، الذي استرعاه الله فيه، ولذلك ما بلغ الصحابة إلى هذا الزهد والتقشف والاحتماء من أموال الناس هذه المنزلة، إلا بسبب هذه الأحاديث وأمثالها.(194/5)
عظم المسئولية عند أبي بكر وعمر
يموت أبو بكر وما خلف إلا ثوبين وبغلة وشيئاً من مال، ويقول: [[اذهبوا بها إلى عمر بن الخطاب، وقولوا لـ عمر: يا عمر! اتق الله لا يصرعنك الله كمصرعي]] فلما وصلت إلى عمر بكى حتى جلس، وقال: [[أتعبت الخلفاء بعدك يا خليفة رسول الله!]].
ولما تولى عمر الخلافة ما أخذ قليلاً ولا كثيراً حتى يقول على المنبر: [[والله الذي لا إله إلا هو، ما أخذت من مالكم شيئاً إلا بردتين (ثوبين) ثوب في الصيف وثوب في الشتاء]] وعين له راتباً كان يقوم بأحواله كفافاً، فإذا بقي دقيق، أو شيء من زبيب أو سمن رده إلى بيت المال.
لما اشتهت زوجه الحلوى قال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
حسبي وحسب القوافي حين أرويها أني إلى ساحة الفاروق أهديها
يا رب هب لي بياناً أستعين به على حقوق العلا قد نام راعيها
قل للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
هذا هو التاريخ المشرق، هذا هو الرجل القرآني الفذ الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوف يمر بنا على الطريق مع علي وأبي ذر وأبي {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] وسوف نستمع إلى أخبارهم في الإمارة.
{أو شاة تيعر} أو يأتي هذا الرجل الخائن الذي خان في شاة عليه الشاة، وفي حديث أبي ذر وأبي هريرة اللذين هما في الصحيحين {أن من غل ذهباً صفحت له صفائح فأحرق بها} وهذا شاهده في القرآن، وهو الذي يكنز ويغل ويخون {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35].
يا خونة! هذا كنزكم، يا خونة! هذا ميراثكم، يا خونة! هذا مالكم في الدنيا.
فالله الله أن يراقب الإنسان نفسه مع الله، ولا يستصغر أي مسئولية، قال صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} درهم واحد، ريال واحد، شيء من حب، شيء من زبيب، شيء من ثياب، إنها مسئولية أمام علام الغيوب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
يقول عليه الصلاة والسلام: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه} هذا الحديث صحيح، فمن رفق ورحم رحمه الله، ومن شق عليهم وأخذ أموالهم وأتعسهم أتعسه الله في الدنيا والآخرة، وفي حديث لكن في سنده نظر: {الناس عيال الله أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله} وقد ضعفه كثير من العلماء ولو أن معناه صحيح.
لما عرف الصحابة تيقنوا أن الإمرة لا تصلح أبداً، وأنهم إذا أقدموا على الإمرة أقدموا على النار، فكانوا يستعفون الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول لأحدهم: اذهب يا فلان، يقول: اعفني يا رسول الله من الإمرة.
قام عليه الصلاة والسلام في الناس خطيباً في المسجد، فقال: {والذي نفسي بيده، لا نولي أحداً منكم على عمل فينقصنا ولو مخيطاً أو شعرة إلا أتى بها يوم القيامة، فقام رجل أسمر من الأنصار، فقال: يا رسول الله! خذ عملك والله لا أتول لك عمل، قال: ولم؟ قال: سمعتك تقول: كيت وكيت، فرفع عليه الصلاة والسلام أصبعه وقال: والذي نفسي بيده، لقد قلته، والذي نفسي بيده، إني أقوله الآن، أن من تولى عملاً فنقصنا مخيطاً أو شعرة ليأتين به يوم القيامة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فأحجموا جميعاً.
حتى يقول عمر: [[ما أحببت الإمرة في الإسلام إلا مرة واحدة]] ما هي يا أبا حفص هذه المرة؟!
ما هي هذه الليلة التي أحببت فيها الإمرة وأنت لا تحب إلا الآخرة؟
يقول: ما أحببت المنصب والتولي إلا مرة واحدة! اسمع يا هذا إلى الصادق، الصادق مع الله، والصادق مع القرآن، والصادق مع نفسه {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] يقول -وهو حديث أسوقه من رواية ابن عباس، قال- {أرسل صلى الله عليه وسلم لفتح خيبر أبا بكر فلم يفتح عليه، ثم أرسل عمر فلم يفتح عليه، فاهتم الناس وباتوا يدوخون ليلتهم كيف تفتح خيبر؟ تحصن بها اليهود حتى تعرضت لجيش المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأراد صلى الله عليه وسلم أن يقتحمها اقتحاماً، لكن أراد أن يفتحها أولاً بجيش وكتيبة، لكن في الليلة الثالثة صمم عليه الصلاة والسلام على اقتحامها بكرة النهار، وأحرق شيئاً من النخل والمزارع} حتى يقول حسان وهو يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم في قصيدة عسكرية رائعة، ويذم اليهود:
وهان على سراة بني لؤي حريق بـ البويرة مستطير
يقول: الأمر سهل، انظروا بني لؤي -أي: أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم- ماذا فعلوا بكم يا إخوان القردة والخنازير؟ فأتوا تلك الليلة وناموا وهم في هم لا يعلمه إلا الله، تحصنت خيبر، والرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة قلت نفقتهم، وذهب طعامهم وشرابهم، وأتاهم أمر عظيم، فقال صلى الله عليه وسلم، بعد صلاة العشاء، في ليلة دامسة بطيئة النجوم، لكنها طيبة متفائلة بإذن الله: {لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله}.
ما أحسن هذا الرجل! فمن هو هذا الرجل؟! هو أبو الحسن علي بن أبي طالب.
يقول محمد إقبال:
أما أبوها فهو أكرم مرسل جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي سيف لا تسل عنه سوى سيفٍ غدا بيمينه تياها
يقصد فاطمة.
فقال عمر: [[فأحببت الإمرة تلك الليلة]] يريد أن يكون هو، لا والله ليس للإمرة، ولا للفخر، ولا للشهرة، ولا للرياء والسمعة، ولكن لعله أن يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فكلهم ما أتاهم النوم، خاصة كبار الصحابة, الأسماء اللامعة، النجوم التي تأتي دائماً في المقدمة ما أتاهم النوم، يريدون هذه المواصفات، وبعد صلاة الفجر النبي صلى عليه الصلاة والسلام بالناس، وعلي شاب فقير عليه كساء مخمل أتاه من البرد وكان أرمد تلك الليلة ما يرى مد يده أبداً.
قادوه إلى الصلاة وهو في طرف الناس، ما طلب الإمرة ولا سعى لها ولا حرص عليها، قال عليه الصلاة والسلام: {لأعطين الراية رجلاً يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله يفتح الله عليه}.
أين علي بن أبي طالب؟
قال الصحابة: يا رسول الله! مريض ما بات البارحة، ولا يبصر شيئاً أبداً، فذهبوا إلى أبي الحسن رجل المواقف المشهودة في الإسلام فأخذوه، ولذلك يقول وهو يبكي لما مرَّ بسورة الحج: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] قال: [[أنا أول من يجثو عند الرحمن يوم القيامة للخصومة على ركبي يوم أتحاكم أنا ومن بارزني في بدر]].
يقول: أنا أول من يجلس على العرصات في القيامة للخصومة يوم أتحاكم أنا ومن بارزني في بدر؛ لأنه بارزه رجل من الكفار، وبارز هو رجلاً, كانوا ثلاثة من المسلمين وثلاثة من الكفار، فسوف يحكم الله بين الثلاثة والثلاثة.
والقضية معروفة، الحق معروف والباطل معروف، لكن الله ليس بظلام للعبيد، يأتي بالثلاثة المبارزين من حزب الحق مع الثلاثة من حزب الضلال والغي، فيقول: لماذا تختصمون؟ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19].
فـ علي -رجل المواقف أتى يقودونه بيده- حتى وقف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: {خذ الراية} والرسول صلى الله عليه وسلم يتبسم، قال: [[يا رسول الله! والله ما أبصر شيئاً حتى مد يدي]] أرمد العينين، فقرب منه صلى الله عليه وسلم فتفل في عينيه، فإذا هو يرى كرؤية قلبه إلى الحق ما كأن به قلبة واحدة، فأخذ الراية بيده، قال: ماذا أفعل؟ -يتلقى التعليمات- ماذا أفعل يا رسول الله؟ أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، وعلي رضي الله عنه وأرضاه الرجل الذي يضرب هامات الملاحدة والطغاة في سبيل الله.
علي يجزر الكفار جزراً، قال صلى الله عليه وسلم: {يا علي! امش على رسلك، وادعهم إلى الإسلام فوالذي نفسي بيده، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم} فأخذ الراية.
قال أحد الصحابة وأظنه بريدة بن حصيب: [[والله إنا كنا نهرول معه هرولة]] أي: يهرولون، كان شاباً متيناً قوياً، ولو أنه فقير لكن كان بطيناً، حتى أورد عنه في السيرة أن أحد الخوارج، قال: نراك زاهداً وأنت بطين، كبير البطن، قال: [[أما أعلاه فعلمٌ، وأما أسفله فنعمة من نعم الله]].
فأخذ يثب ويثب معه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كالأسود، فأتى يناديهم: انزلوا يا أعداء الله! انزلوا لموعود الله! عرض عليهم الإسلام فلم يقبلوه، ثم نزل له مرحب في القصة التي مرت بنا كثيراً، فقتله علي وفتح الله على يديه، قال عمر: [[فما أحببت الإمرة إلا ذاك اليوم]].
أما غيرها فكان يتملص من كل جهة لا يريدها، حتى يوم تولَّى الخلافة في أول يوم وقت البريقات والتشريفات والهناء والترحاب قام يبكي على المنبر حتى ما استطاع أن يتكلم.
عمر رضي الله عنه أورد عنه ابن جرير أنه ما استطاع أن يتكلم أبداً، ثم قال في اليوم الثاني: [[اللهم إني بخيل فاجعلني كريماً لأوليائك، اللهم إني شديد فاجعلني رحيماً بأوليائك]] إلى آخر خطبته الصادقة رضي الله عنه وأرضاه.
أتى العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم ورأى أن له حقاً في تولي الإمرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يولي الناس، لا ينظر إلى نسب، ولا ينظر إلى أسرة، ولا ينظر إلى قبيلة بل ينظر إلى أتقاهم وأقربهم إلى الله وإلى رسوله {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] حتى ورد في المسند أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: {لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لوليته الخلافة} سالم مولى ورقيق، حافظ للقرآن، يقول صلى الله عليه وسلم: {لو كان حياً لوليته الخلافة} على المسلمين جميعاً.
وسالم هذا يقول في اليمامة: [[بئس حامل القرآن أنا إذا انهزم المسلمون اليوم أو أوتي المسلمون من قبلي]] حضر اليمامة فاغتسل وتكفن، وكان يحفظ القرآن، وأخذ العلم وحفر لأقدامه إلى ركبه في الأرض، وقال: [[والله لا أتزحزح وقبري هنا]] فأتت كتائب مسيلمة، ووقف يقاتل ويقاتل حتى قتل في سبيل الله، فهذا هو سالم الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم ذلك.
فـ العباس أتى وقال: يا رسول الله! وليت فلاناً، ووليت فلاناً أريد أن توليني ولاية، لأن المتولي يكسب، يكسب أولاً أناساً يخافونه، ويرهبونه، ويحترمونه، ويقدرونه، حتى أقل دائرة من الدوائر إذا كان رئيسها على ظهر المنصب وفي المنصب وجد تقديراً من الناس، لأن تقدير الناس في الغالب على الدنيا، لكن إذا عزل أصبح في طرف المجلس.
وقبل ذلك يعانقونه وينادونه ويقولون: يا أبا سعيد، ويا أبا علي، ويا أبا عبد اللطيف, حياك الله وبياك، يا حسنة الدهر ويا بركة الزمان، لكن إذا انتهى، انتهى ودادهم معه.
وكم في الحفل أبهى من عروس ولكن للعروس الدهر ساعد
في قصيدة طويلة يقولها أحد الأدباء من الشافعية، معنى كلامه: أن هذه الدنيا تقاس بالرتب، لكن إذا انتهت رتب الدنيا فلا ينتهي الدين، ولذلك كان ميزان الصحابة تقوى الله عز وجل، فقال: يا رسول الله! ولني ولاية، قال: {يا عباس! يا عم رسول الله! نفس تنجيها خيرٌ من إمارة لا تحصيها}.
يقول: تريد النجاة من النار؟! تريد النجاة من العار؟! تريد النجاة من الحساب والعذاب والنكال؟! نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها.
بالله ماذا ينفع الإنسان يوم القيامة، وقد تولى إمرة الدنيا جميعاً، ثم لم يعدل ولم ينصف ولم يتق الله ثم خسر نفسه؟ والخاسر الخاسر من خسر نفسه، قال: {نفس تنجيها ولا إمارة تحصيها} فأخذها رضي الله عنه وأرضاه وصية من المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكن أبا ذر لزهده رضي الله عنه وأرضاه كان صريحاً، حتى يقول بعض العلماء: رُبي في الصحراء؛ فهو صريح كالصحراء، وعاش في الصحراء؛ فهو صادق كالصحراء، {أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! وليت فلاناً، ووليت فلاناً، ووليت فلاناً، فلماذا لم تولني؟ قال: يا أبا ذر! والله إني أحب لك الخير كما أحب لنفسي -في بعض الروايات- يا أبا ذر إنك رجل ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة, نعمت المرضعة وبئست الفاطمة}.
هذه الإمرة يقول صلى الله عليه وسلم: أحب لك من الخير ما أحب لنفسي، وأنصح لك لأني أحبك ما أنصح لنفسي، فلا أنصحك أن تتولى أبداً، ثم قال له: إنك ضعيف، قالوا: ضعيف الرأي، ولا يدل ضعف الرأي على ضعف الفضل، بعض الناس من أولياء الله الأبرار قصره في الجنة كالربابة البيضاء، بعض الناس من أفضل الناس الذين يمشون على الأرض، لكن لا يعرف البيع ولا الشراء ولا يخادع، ولا يماكس، لكنه صادق، طيب القلب، وفيه طيبة وقرب وسهولة، ليس عنده تصريف ولا تحريف، لكنه يقوم بشئون دينه، فهذا من الفضلاء الكبراء.
لكن بعضهم يجمع مع الدهاء والقوة في الدين والعمق قوة في الدنيا كـ عمر بن الخطاب، هذا رجل الدنيا والآخرة، إن أتيت في طريق الجنة وجدته من السابقين، وفي طريق الدنيا يقول: [[لست بالخب ولا الخب يخدعني]] يقول: أنا لست خباً، لكن ما يخدعني أحد، فنصح صلى الله عليه وسلم أبا ذر، وقال: {نعمت المرضعة وبئست الفاطمة} أول ولاية المنصب والمسئولية والإدارة أو غيرها بشرى للناس وللأهل والأقارب، ويوم العزل يوم مأتم، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة، هذا أمر.
ثم أتى أبي بن كعب رضي الله عنه سيد القراء إلى عمر، فقال: يا عمر! كيف تولي الناس وتتركني؟
قال عمر: [[والله يا أبا المنذر! إني أحبك كحبي لنفسي، ولكن ما تركتك من الإمرة لئلا أدنس إيمانك]] فبقي وأخذها نصيحة من عمر، فلم يتول ولاية حتى لقي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
هذه هي طائفة من بعض قصص الصحابة يوم أحجموا عن هذه الأمور، ولذلك كانوا يقفون أمام عمر فيوليهم، فيقول أحدهم: لا، لا أريد ذلك.
يأتي بـ أبي عبيدة فيوليه إمرة الجيوش فيتملص ويحاول أن يتخلص، فيرغمه عمر رضي الله عنه، يأتي بـ سعيد بن عامر قال: والله لا أتولى، قال: [[والله لا تضعون الخلافة في عنقي ثم تذهبون وتتركونني]] فولاه غصباً.
وهذا منهج السلف الصالح وصل حتى القرن الرابع والخامس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أتوا بـ أبي حنيفة ليولونه القضاء، فقال: أنا لا أصلح للقضاء، قال الخليفة له: كاذب أنت تصلح للقضاء، قال: مادام أني كاذب فلا أصلح للقضاء فتركه من القضاء، وأُتي به في المرة الثانية، وقال: أنا لا أصلح للقضاء، قال: تصلح، قال: ما أستطيع، فحاولوا معه وحاولوا، ثم جلدوه ثمانين جلدة وأعفوه من القضاء.
وورد أن الإمام مالك حاولوا معه بكل الوسائل فرفض، وأتوا كذلك بـ إسماعيل بن إبراهيم بن علية فولوه القضاء، فذهب ابن المبارك فكتب له: ويلك من الله! إن في الحديث القضاة ثلاثة, اثنان في النار وواحد في الجنة، فانظر أن تكون من الاثنين، فكتب لـ ابن المبارك ما فهمت ما تقول.
أبى هذا إلا أن نقشر له العصا، فكتب له قصيدة؛ لأنه ما فهم بالنثر فيفهم بالشعر، قال:
يا جاعل العلم له بازياً يصطاد أموال المساكين
أين رواياتك فيما مضى عن ابن عون وابن سيرين
إن قلت أخطأت فقل لي إذاً زل حمار الشيخ في الطين
فذهبت قصيدة طويلة، وكان ابن المبارك من أشعر الشعراء، وشعره من أجمل ما يقال! فذهب فلما قرأ القصيدة عرف، فبكى حتى بل الورقة، ثم دخل على هارون الرشيد، قال: شبتُ يا أمير المؤمنين! اعزلني، فعزله، قال: عرفت من ضلَّلك يـ ابن علية! قال: من هو؟ قال: ابن المبارك؛ لأنه ينصحهم ابن المبارك ولا يريد لإخوانه أن يتعرضوا على نار تلظى، النصيحة في الدنيا وليست في الآخرة، وابن المبارك لم يتول أبداً، وكذا الإمام أحمد وابن تيمية.
مسألة:
لكن هنا مسألة، أن يبقى هذا المنصب والدائرة والمكان بحاجة لك، وأنت -إن شاء الله- من أصلح الموجودين فلا تتأخر، قال يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] فيوسف رأى أن الأمور تنتهي، وأن الكفار يتولونها فتقدم لأخذها.
وقد عزل عمر رضي الله عنه أبا هريرة من البحرين، لماذا؟
لأن قدامة بن مضعون أحد الصحابة رضي الله عنه وأرضاه من أهل بدر، يظن أن الخمر ليست محرمة: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93].
قال: إنه ما دام أنه لا جناح علينا فيما طعمنا وشربنا فشرب الخمر، فأُتي به إلى عمر، وكان هو صهر عمر، أخت عمر عند هذا، ولكن عمر لا يعرف في الحق لومة لائم، بل على نفسه التي بين جنبه، فقال للصحابة وجمعهم ماذا ترون؟
قالوا: هو مريض، قال علي: [[نرى يا أمير المؤمنين أن تتركه حتى يتشافى، قال: لا والله؛ لأن يلقى الله وهو مطهر بالحد خير من أن يموت وما طهرته]].
فذهبوا إليه فسألوه، قال: الخمر ليست محرمة؛ لأن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة:93] فاستشار الصحابة، قال علي بن أبي طالب: إن كان أصر على رأيه فيقتل بالسيف، وإن لم يكن فيجلد جلداً، فسألوه، فرأوا أنه متأول فجلدوه, وهو من الأخيار الأبرار الذين أخطئوا، والإجماع منعقد كتاباً وسنة ونقلاً على أن الخمر حرام، وأن من شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة، لكن هذا الرجل له عذر ولم يصله بلاغ من الله، وقد قدم دمه في خدمة الإسلام رضي الله عنه وأرضاه.
فعزل أبا هريرة لأنه أدلى بشهادته، لكن بصورة تختلف عما يطلب منه عمر، ثم أتى عمر واحتاج لـ أبي هريرة، قال: تولّ، قال: والله ما أتول، قال: ولم؟ قال: أخاف ثلاثة واثنتين، قال: قل خمساً، قال: لا.
أخاف ثلاثة واثنتين، قال: ما هي الثلاث والاثنتين؟ قال: [[أخاف أن يجلد ظهري، ويؤخذ مالي، ويسفك عرضي، وأخاف في الآخرة أن أُوتى مغلولاً، وأن أرد على وجهي في النار، قال عمر: يا بن أم أبا هريرة! أنت خير أم يوسف الذي يقول: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] قال: يوسف كريم ابن كريم ابن كريم، وأنا ضعيف ابن ضعيف ابن ضعيف]] أو كما قال، وهو صادق رضي الله عنه.
فمن وجد في نفسه قوة كما أفتى في ذلك أهل العلم، حتى ابن تيمية في باب القضاء: يقول: إذا تركت القضاء عند المسلمين، ورأيت أمور المسلمين تضيع، ويتولاها كل فاجر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، يريد المال من أي جهة، ثم يستعبد عباد الله ويجعلهم خولاً، فهذا يستثنى في هذه الصورة، إذا رأى الإنسان من نفسه قوة، وعلم أنه سوف يتقي الله عز وجل.(194/6)
أخذ الصدقات من الناس
إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كتب الصدقات، والصدقات إذا أطلقت في القرآن معناها: الزكاة، وجعل هناك عمالاً، قال في سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60] فكان عليه الصلاة والسلام لا يترك الصدقات في أيدي الناس يتلاعبون بها، بل كان يرسل عماله، وفي الصحيحين أنه أرسل معاذاً، والشاهد قال فيه: وأخبرهم بعد الصلاة: {وأن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، وتوق دعوة المظلوم -وفي لفظ- إياك ودعوة المظلوم؛ فإنها ليس بينها وبين الله حجاب}.
فأرسله صلى الله عليه وسلم ليقبض الصدقات ولم يتركها للناس، فكان من أبر الناس, ومعاذ رضي الله عنه لم يتدنس من مالهم بشيء.
وممن أرسلهم صلى الله عليه وسلم لجمع الصدقات من الناس عمر بن الخطاب، فمر بالناس جميعاً، وأتى -وهذا الحديث صحيح- وقال: {يا رسول الله! كل الناس دفعوا لي الصدقة إلا ثلاثة، قال: منهم؟ قال: عمك العباس وخالد بن الوليد وابن جميل، قال: أما عمي فيا عمر! أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه هي علي ومثلها} لأن العباس أقرض الرسول صلى الله عليه وسلم قرضةً لسنتين، واستحى يوم أن أتوا يأخذون منه الصدقة أن يقول: أعطيتها الرسول صلى الله عليه وسلم فأمسك الصدقة؛ لأنه يعرف أنهم سوف يعرفون أنها عند بيت المال.
قال صلى الله عليه وسلم: {وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، لقد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله}.
يقول: شيء أوقفه في سبيل الله تطلب منه الصدقة، خالد كان له مائة فرس، ومائة سيف، ومائة درع في بعض الروايات، قال: هي وقف في سبيل الله.
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذله
هو البحر من أي النواحي أتيته فدرته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
{وأما ابن جميل فما ينقم إلا أن كان فقيراً فأغناه الله} هذا ابن جميل فيه نفاق، ولعله تاب من ذلك؛ فإنه منع الصدقة وقد كان فقيراً، والذي دعا له الرسول عليه الصلاة والسلام ثم منع الصدقة؛ في الأخير أنزل الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة:75 - 77].
هذا في ابن جميل وأمثاله، والشاهد: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرسل أصحابه، لكن يرسل الأمناء، فيرسل أهل الأمانة، والاستقامة، أرسل للنصارى أبا عبيدة، وقال: {لأرسلن معكم أميناً جد أمين}.
ويشترط في من يتولى الأموال على الزكوات والصدقات والتبرعات وهذه الأمور، أن يكون عنده قوة وأمانة.
القوة العقلية: يكون مصرفاً، مقدماً، محرفاً، مزيلاً، محيلاً.
والأمانة أن يكون أميناً، ولذلك تقول ابنة الرجل الصالح, قيل: شعيب أو غيره: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] فأمانة بلا قوة ضعف، وقوة بلا أمانة فجور، والقوي والأحسن والأطيب، أن يكون قوياً أميناً.
فأرسل صلى الله عليه سلم مع وفد نجران أبا عبيدة، وقال: {لأرسلن معكم أميناً جد أمين} والرسول عليه الصلاة والسلام أرسل عبد الله بن رواحة يشاطرهم النخل، ويخرس نخل اليهود، فوصل إلى اليهود -وانظر إلى إخوان القردة والخنازير، الذي يربى على الخساسة يموت على الخساسة، والذي يعرف الدساسة يموت على الدساسة والنجاسة والانحراف والعياذ بالله- أتوا فجمعوا لـ ابن رواحة أموالاً، لماذا؟ رشوة، سبحان الله! ما وجدتم إلا عبد الله بن رواحة الذي ينتظر الموت صباح مساء في سبيل الله، ما يريد الدنيا إلا لمرضاة الله، أما وجدتم إلا صحابياً من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أحسن من مشى على الأرض.
فأتوا وقالوا: يا ابن رواحة! خذ هذا المال، وراعنا في الخرص، فاحمرّ وجهه حتى أخذ ينتفض، ثم قال: [[يا إخوان القردة والخنازير! والله الذي لا إله إلا هو، إنكم أبغض عندي من أمثالكم، ومن عدّتكم من القردة والخنازير، وإن هذا لا يمنعني أو لا يحملني على الحيف -أي: على ظلمكم- والله لا أظلمكم ولا آخذ هذا قيد أنملة]].
قالوا: بهذا العدل قامت السماوات والأرض، وعاد ابن رواحة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما علم الله أمانة ابن رواحة وصدقه رزقه الشهادة في سبيله.
ولذلك ثبت في الصحيح، أنه اتكأ في حجر امرأته - كان ابن رواحة من الشجعان الكبار من الأنصار، وكان شاعراً مجيداً يشعر في المعمعة- يقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
ما لي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
جلس ابن رواحة يقرأ القرآن في حجر امرأته، وأخذ يبكي ودموعه تسيل على لحيته، قالت: مالك؟ قال: ذكرت قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71 - 72] فأخاف أن أترك وأطرح في النار ثم لا ينظر إلي.
فلما أخبر صلى الله عليه وسلم في بعض الآثار، قال: {لينجه الله عز وجل} كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61] فنجاه الله بمفازته من الإيمان، حتى رأى صلى الله عليه وسلم سريره من ذهب يعترض في جو وسماء المدينة ليدخل الجنة، وقتل في مؤتة في أرض الأردن هناك حيث يعرفهم الله عز وجل.
عدو القتلى لـ عمر في معركة بها شهداء، فقالوا: فلان بن فلان قتل، وفلان وفلان ولا نعرف كثيراً، فدمعت عين عمر، وقال: [[ولكن الله يعرفهم]] يعرفهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يعرف أين ولدوا، ويعرف كيف نشأوا، ويعرف الصادق من الكاذب، ويعرف المقبل من المدبر، فهو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى العالم بكل شيء.
هذا ابن رواحة رضي الله عنه الذي عرضوا له المال؛ لأنهم قردة وخنازير، يقدمون له رشوة، ولا يعلمون أن قلبه أكبر من الرشوة، لأن قلبه عظيم، يحب الله ورسوله فلا يحب الدنيا أبداً.
خذوا كل دنياكم واتركوا قلبي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا(194/7)
محاسبة العمال
حق على المسلم الذي يتولى ولاية, وهو رئيس في دائرة, أو في مكان أو مجمع، أن يحاسب من تحت يده من رؤساء المكاتب، ومن المسئولين عن الأقسام والشعب والدوائر؛ ليلقى الله وقد حاسبهم، فإن ترك الأمور هكذا مبثوثة، فهذا معناه: الوهن والفشل والضياع، والرسول عليه الصلاة والسلام من هذا الحديث حاسب عماله.
أرسله ثم لما أتى اعترضه، وقال: أين المال؟ أين الزكاة؟ فأخبره هذا, ولكنه فصل جزءاً من الزكاة لوحده، وقال: هذا لي، فغضب عليه الصلاة والسلام وأعلن تذمره صلى الله عليه وسلم من هذا التصرف، ثم تكلم عليه الصلاة والسلام بالكلام الذي سمعتم، فيؤخذ منه المحاسبة، وعدم ترك الأمور تذهب هكذا!
ويقاس على ذلك: من كان مسئولاً في كلية، أو مدرسة، أو معهد، أو ثانوية، أو دائرة حكومية، أو مصلحة، أو شركة، أو مؤسسة، أن يتفقد دائماً من تحت يده بالحساب، وبالجلسة، وبالاستقراء من أخبارهم، ومتابعة دوامهم، وحضورهم، وذهابهم، وأدائهم للدروس، وتحضيرهم للمحاضرات والحصص فإن الله سوف يسأله عن رعيته، وعن أساتذته، وعمّن تحت يده، هذا هو أمر الإسلام في هذا.
عمر رضي الله عنه وأرضاه يحاسب عماله، إذا لم يحاسب عمر عماله فمن يحاسب عماله؟!
هو يحاسب نفسه قبل أن يحاسب الناس، ويحاسب زوجته في البيت وأبناءه، يأتي يوم عرفة في الحج الأكبر، فإذا حميت الشمس واجتمع الناس دعا عماله وصفهم بجانبه من ميمنته وميسرته، والي العراق، ووالي اليمن، ووالي مصر، ووالي الشام، كل الولاة في الأقاليم يجمعهم، ثم ينادي بالحجاج يا أيها الحجاج: هذا والي مصر -مثلاً- عمرو بن العاص تعالوا حاكموه، فيأتي كل أحد يتكلم بين يديه، هذا وهذا، فيحكم بينهم في يوم الحكومة الكبرى، يوم حقوق الإنسان، يوم أداء المظالم، يوم يتجلى الله للناس سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
حتى يأتي مصري، فيأتي بابنه، فيقول: مالك؟ قال: ابن هذا -أي: ابن الأمير عمرو - ضرب ابني، قال: ولم؟
قال: ابنه محمد سابق ابني فسبقه ابني على الفرس، فقال: أتسبقني وأنا ابن الأكرمين؟ فضربه، فقال عمر لـ عمرو: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟]] متى بدأ هذا البيان عندكم ونحن في الإسلام أعرف بالإسلام؟ فأخذه وأخذ ابنه، وقال للصحابة: [[لا يحول بيني وبينهم أحد فأخذ يضربهم بالدرة]] وعمرو يقول: [[الله الله في نفسي يا أمير المؤمنين]] فأدبهما رضي الله عنه وأرضاه حتى رضي المصري.
يقول حارث بن زياد فلما دخلت نظر إلي عمر وسأل عن أخباري، قال: فسددت والحمد لله -أي: في الكلام- هو مسدد أمام داهية الدنيا، أمام إنسان أعطاه الله من الفطنة والذكاء, فجعله ملهماً تنطق السكينة على لسانه، يقول ابن عمر: [[كنا نتحدث: أن السكينة تنطق على لسان عمر رضي الله عنه وأرضاه]].
ويقول علي: [[لقد كفنت سعادة الإسلام في أكفان عمر رضي الله عنه]].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {إن يكن أناس محدثون بعدي وملهمون فإنه عمر بن الخطاب}.
فأخذ يسأله، قال: فلما أردت أن أقوم؟ قلت: -قال حارث بن زياد: وليتني تركت هذه الكلمة- عندما نظرت إلى عمر وعليه ثياب ممزقة ومرقعة، وهو يأكل خبز الشعير في ملح وزيت، فقلت: يا أمير المؤمنين! غيرك أولى بهذا، تكون بملبس رضي، ومطعم شهي، ومركب وطي، قال: فدخل؛ فأخذ خشبة؛ فضربني على رأسي، قال: [[ثكلتك أمك، والله إني كنت أظن أنك خير من ذلك، اذهب والله لا تلي لي ولاية]].
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، العدل والتولية عنده كشرب الماء، كله رضى لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لا يفعل شيئاً إلا إرضاءً لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو مسدد.
ولذلك كانوا يتحذرون منه دائماً وأبداً لأنه شديد الرأي، وسخره الله عز وجل في تلك الفترة ليحفظ به الإسلام، وقوة الإسلام وعمقه، هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
ومثل هذا علي بن أبي طالب، ثبت في البداية والنهاية من حديثه رضي الله عنه وأرضاه، أنه لما جمع الصدقات في الكوفة، أخذ بيت المال فوزعه، ثم غسله، ثم صلى ركعتين، ثم استقبل القبلة، قال: [[اللهم اعلم واشهد أني ما أخذت لأهلي حبة ولا درهماً ولا ديناراً ولا زبيبةً خوفاً منك]].
ثم يأتي عمر بن عبد العزيز المجدد، فيحاسب عماله، تولى الإمرة، وأول ما أخذ الخلافة أتى بكيس معه، وأتى بـ مزاحم مولاه -هذا مزاحم يأتي ومعه السيف دائماً ومعه مقص- وأتى بكيس، وجلس على المنبر، وناظر الناس جميعاً، والأمراء من بني أمية في الصف الأول، والوزراء والعلماء والناس، يتولى أمر الأمة الإسلامية من سمرقند إلى أسبانيا، ومن تركستان إلى جنوب أفريقيا، فجلس على المنبر، وقال لـ مزاحم: اُخرج عليّ الصك الأول، فخرج فقرأ صكاً للعباس بن الوليد بن عبد الملك، أنه أخذ أرضاً في حمص ليست له ولا لأبيه ولا لأمه، فلما قرأ عليه قصَّه من أوله إلى آخره ورمى به، فقام العباس من هناك، وقال: والله لا تفعل، ولا تستطيع أنت ولا أبوك ولا أمك -يقول لـ عمر بن عبد العزيز - قال: عليَّ برأسه يا مزاحم! أعطني رأسه واترك الجثة، فسل سيفه، قال العباس: لا.
سمعاً وطاعة، فتركه، مادام أن الأمر سيصل إلى هذه الدرجة فلا {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].
يظن الأمر هيناً، يقبل التفاوض، لكن مادام أن هناك سيفاً فلا أستطيع، هذا العباس بن الوليد وقصته عند ابن كثير، وهي أكثر ما أخذت عن عمر بن عبد العزيز حتى نغصوا عليه، وسمموه في أكله، فمات مسموماً، لكن شهيداً إن شاء الله، وترك الدنيا لأهل الدنيا، ولكن سوف يلقى الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر.(194/8)
هدايا العمال غلول
صح ذلك من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
الهدية التي تقدم للعامل أو للوالي أو للمسئول من أحد الناس الذين يتمصلحون غلول، لا يقول: هدية بل هي رشوة، لولا أنه في منصبه، ولولا أن عنده شيء ما له هدية، يأتي إليه يريد أن يأخذ منه أمراً، أو بينه وبين أحد الناس نقاشاً أو خصومة في أرض، فيذهب لا يتكلم في الأرض أولاً، بل يذهب ويقول لهذا المسئول: أريد أن تشرف بيتي شرف الله قدرك، أحبك في الله حباً جماً حتى ما أنام الليل من محبتك، فيقول: ماذا حدث؟!
قال: أحبك أن تشرف هذا البيت، وهو لم يعزمه من قبل أبداً، فيأتي فإذا عزمه، قال: فلان اعتدى علي وخاصمني، وأخذ أرضي، ماذا ترى؟
ذاك ينصرف قلبه إذا لم يكن فيه إيمان كالجبال؛ لأن الناس عبيد من أحسن إليهم.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
كان المغيرة بن شعبة أميراً في الكوفة، فجعل خادمه عند الباب، وقال له: لا تدخل أحداً من الناس إلا من آذن أنا بدخوله، فأدخل من أذن له إلا واحداً أتى عرفه فأدخله، فقال المغيرة: لماذا أدخلته؟ قال: أدخلته لأمر، قال: ولماذا؟ قال: أحسن لي يوماً من الأيام، قال: أحسنت، إن المعروف ينفع حتى في الكلب!
ولذلك قال الجاحظ وغيره: أحفظ الحيوانات للود الكلب، إذا أحسنت للكلب حفظ الود ولا ينساه، حتى يقول أحمد شوقي يهجو حافظ إبراهيم شاعر وادي النيل، يقول:
فأودعت إنساناً وكلباً أمانةً فضيعها الإنسان والكلب حافظ
أي: أن الكلب يحفظ لكنه يقصد حافظ إبراهيم.
وعلي بن الجهم كان يرعى غنماً ومعه كلاب في البادية ما يعرف من الحضارة شيئاً، ما رأى في حياته قصراً ولا حديقةً، ولا رأى بستاناً، ولا رأى جسراً، ولا رأى جيشاً، فقط يرى التيس في الصباح يتصارع مع التيس، ويرى الكلب ينبح، فيظن الحضارة والإنسانية في هذا المحصول، وهو شاعر من أقوى الشعراء، وقد سبق هذا لكن بإعادته تتم الفائدة، فدخل على المتوكل يوم عيد الفطر، قال المتوكل: ماذا عندك؟ قال: عندي قصيدة؛ لأن الشعراء جميعهم يمدحون الخليفة، وكل الناس جالسون في المجلس, من حضر، قيل له: تفضل قل، قال:
أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب
فقاموا يبطشون به أرضاً، فقال المتوكل: اتركوه، هذا رجل عاش في البادية ما رأى إلا التيس والكلب وقد مدحنا بما عنده، أي: أن أقصى ما عنده قد مدحنا به، فأنزلوه سنة في الرصافة ليرى الجمال والحدائق والبساتين ونهر دجلة والفرات ثم يأتي بعد سنة.
فأنزلوه فلما رأى الحدائق، ورأى الجمال، ورأى القصور، وأكل الدجاج الطري رجع بعد سنة، فقال قصيدته اللامعة في تاريخ الأدب مطلعها يقول:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وأسكت الشعراء في ذلك اليوم، ثم مدح الخليفة بمدح بلغه النجم أو الثريا.
هذا علي بن الجهم، لكن ما هو الشاهد معنا؟
الشاهد: أن إسداء هذه الأمور والخدمات للناس وللعمال خاصة, معناها: رشوة، لكن استثنى الفقهاء من إذا كان بينهم هدايا من قبل، كأن يكون حبيباً له، وليس عنده معاملة ولا مشكلة ولا شيء من أمور الدنيا، فله أن يهدي له، يذهب ويعطيه ما تيسر ويأخذ هديته، أما أن يقف؛ فإذا أتت أمور من أمور الدنيا أهدى له فهي غلول، يلقى الله وقد غلها ويعيدها يوم القيامة {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161].
فهذا أمرٌ لا يغيب عن الأذهان.
أيها الإخوة الفضلاء: إن هدايا العمال غلول، والهدية للعامل رشوة {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] فحق على أي مسئول عنده لبعض الناس مراجعة أو مداولة أو مرافعة، ألا يقبل من أي خصم خدمة من الخدمات؟
ولذلك قال في آداب القاضي: ألا يكون معزوماً عند الناس، لا يجعل بيوت الناس مقاهي دائماً، السلام عليكم يذبحون له، سوف ينصرف قلبه يوماً من الأيام.
القاضي يكون قاضياً عالماً، له هيبة وقيمة، ولا يكون خادماً يتجول في بيوت الناس ويأكل ويشرب على سفرهم، ثم يأتي في اليوم الثاني ويجالس الخصوم، ويعرف أن هذا أكرمه، وهذا ما أكرمه، حينها سوف يخفق في القضايا ويفشل فشلاً تاماً، إلا إذا كان صارماً كالسيف.
قال أهل العلم: لا بأس أن يحضر في الولائم كالزواجات إذا كان من وجوده فائدة ونفع وكان متكلماً، وكان يعظهم ويأمرهم، وينهاهم فلا بأس، أما أن يصبح سبهللاً في كل وادٍ وكل مكان، فهذا فيه ريبة وشبهة وشك والعياذ بالله، هذا أمر يتنبه له.
الرشوة في صورة الهدية: يأتون بالرشوة ويقولون: هذه هدية لك وهي رشوة، فالأسماء لا تغير المعاني، يقول عليه الصلاة والسلام: {أناس يأتون في آخر الزمان يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها} يتناولون المخدرات، يقولون ليست بخمر، شيء من المعطيات والتركيبات الكيميائية يسمونها: مشروبات روحية، وهي خمر، فهذه الأسماء لا تغير حقيقتها، الرشوة رشوة ولو سماها صاحبها صدقة أو هدية أو زكاة، هي رشوة.
أقسام الرشوة:
والرشوة لها أقسام: وهي هدية العمال:
منهم من يرشي العامل ويظن أنه يهدي له بالعزائم والولائم، ومنهم من يقدم له الخدمات، ومنهم من يكثر الزيارة حتى يصادقه، ومنهم من يجاوره، ومنهم من يرسل عليه أناساً.
ومنهم من يتداولون المنافع كأن يكون هذا مسئول في دائرة وذاك مسئول في دائرة أخرى، فيقول: اخدمنا في هذا المعاملة، أو أنجزنا فيها وسوف تراها -إن شاء الله- محفوظة لك عندنا.
يحفظه في مال الله، يتصرف في معاملات ومسئوليات وضعها الله في عنقه، ولن نقصر عليك إن شاء الله، فينفذ له هذه المعاملة على أن ينفذ له ذاك معاملة، فإن كان منها إضرار بالمسلمين، فهذا -والعياذ بالله- هو الغلول، وهو الرشا بالخدمات ليس بالمال, هذا أمر يعرف.(194/9)
التعميم في الدعوة بلا تشهير
ومن مسائل الحديث التعميم في الدعوة بلا تشهير:
نحن أمرنا أن نكون هينين لينين بالمسلمين وألَّا نشهر بالناس، ولا نعلن الأسماء على المنابر، الرجل هذا اسمه عبد الله بن اللتبية، والرسول عليه الصلاة والسلام يعرف أنه عبد الله بن اللتبية، ويعرف أنه أزدي من أزد شنوءة، لكنه لم يقم يوم الجمعة، ويقول: يا أيها الناس! اسمعوا أرسلنا عبد الله بن اللتبية إلى بني سليم قبل أيام، ففعل وفعل، لا.
هذا أسلوب جارح، إنه أسلوب لا ينفع، إنه أسلوب إحباط المساعي، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يستخدم التشهير أبداً، يعمم المقال فيعرف المخطئ أنه أخطأ، ولكن الناس لا يعرفون من هو المخطئ فيتنبهون.
فحق على الإنسان أن يتجنب التجريح والتشهير بالناس، ذواتاً، ومناصب، وأسماء لتبقى دعوته طيبة وتقبل، ويعرف الحق ويؤخذ، فهذا درس من هديه صلى الله عليه وسلم في تصرفاته مع الناس، وفي الدعوة، والحكمة، والقول اللين: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].(194/10)
الخطب للحاجة
كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع أمراً يشوش على الناس، أو يحتاج إلى تنبيه قام فخطب الناس.
تكسف الشمس، فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم ابنه صلى الله عليه وسلم، فقام وأعلن أنها {لا تكسف لموت أحد ولا لحياته} يأتي أناس فقراء فلا يجدون من يعطيهم، فيقوم عليه الصلاة والسلام يخطب ويخبرهم، وتأتي أمور وقضايا مهمة للناس، فيقوم صلى الله عليه وسلم فيتكلم فيهم، مثل هذه الخطب تكون للحاجة ويجمع الناس لها، يبصرون بأمور دينهم حتى يكونوا على بينة.
فصلى الله عليه وسلم، ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا ترك شراً إلا حذرنا منه، نشهد بالله العظيم، نشهد بأسمائه وصفاته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن رسوله أدى إلينا الأمانة كاملة مكملة، بيضاء نقية كالشمس، ما كتم ولا ظلم ولا خان، وإنما بلغها كالشمس بيضاء ليلها كنهارها، فعليه الصلاة والسلام، فإن كان تقصير فمنا، أما هو فاستشهد الناس -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- يقف يوم عرفات والناس أمامه، بعد أن بلغ الجهد، وتعب، وظمأ، وجاع، وعذب، وشرد، وحورب، وذهب أصحابه، وفي الأخير يقول: {يا أيها الناس! إن الله سوف يسألكم عني}.
سبحان الله! الله يسأل الناس هل بلغكم؟ بعد هذا التعب وهذه المشقة، يقول للناس يوم حجة الوداع: {إن الله سوف يسألكم عني فما أنتم قائلون؟ فقام كبار الناس ووجهاء الصحابة، يقولون: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، وبلغت الأمة، قال: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد}.(194/11)
قول: أما بعد
ومن قضايا الحديث، قول: أمَّا بَعْد:
قال بعض المفسرين لما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) [ص:20] قالوا: فصل الخطاب: (أمَّا بَعْد) وأمَّا بَعْد لفصل ما بعدها عما قبلها، أو: أي الشأن هذا، أو: أمَّا بَعْد، فالشأن كيت وكيت، فالخطيب من آدابه أن يقول: أمَّا بَعْد: وهي غالباً اقتداءً به صلى الله عليه وسلم، ليكون فاصلاً بين كلامه، حتى استخدمت في الشعر، قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، يكتب لـ عمر بن عبد العزيز قصيدة يرثي ابنه:
باسم الذي أنزلت من عنده السور الحمد لله أمَّا بَعْد يا عمر(194/12)
الهدية وما ورد فيها
ورد في الحديث لفظ هدية، فللفائدة نتكلم عن الهدية، في كتاب الأدب المفرد: {الهدية تسل السخيمة} لكن الحديث الذي أنا متأكد منه ومتيقن: {تهادوا تحابوا} وهو حديث حسن، وورد في حديث حسن آخر: {الهدية تسل السخيمة} السخيمة هي: ما يأتي في القلب من أحقاد بين الناس، وحبذا أن تجعلها ديدنك مع جيرانك ومع أقاربك تهدي له ولو شيئاً قليلاً، لا مالاً، إنما شيئاً قليلاً، كتاباً، شريطاً، ثوباً، ملبساً؛ لأنها تسل السخيمة وتذهب الجفاء، وهي أحسن من كثير من المال، قالوا: ولو أنها قليلة؛ فإنها جليلة، ولو كانت صغيرة فإنها كبيرة، فقال عليه الصلاة والسلام: {تهادوا تحابوا} فالهدية مطلوبة ولو كان سواكاً تقدمه لأخيك المسلم، فإنه يرى أنك اعتبرته، وأنك تذكرته، وأنك احتفيت به، سوف يحفظ لك هذه اليد.
وقف ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه عند زمزم في الشمس، فأتى أعرابي فظلل ابن عباس بمظلته وابن عباس يشرب، ثم ذهب الأعرابي، وذهب ابن عباس، وبعد سنوات أتى الأعرابي قال: يا ابن عباس! لي عندك يدٌ أريد أن تكافئني بها؛ لأنه احتاج فهو فقير، قال: ما هي يدك؟ قال: رأيتك بين الحجاج تشرب من زمزم وقد صهرتك الشمس فظللتك بكسائي، قال ابن عباس: [[حياك الله من معرفة، أهلاً وسهلاً فأجلسه بجانبه، فأغدق عليه من المال والأشياء، وقال: سامحني ما كافأناك بيدك؛ لأنك نفعتنا في وقت شدة، ونحن نعطيك من رخاء]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.(194/13)
رد الهدية وهديه صلى الله عليه وسلم فيها
انتهت مسائل هذا الدرس، ولو أن هناك كلاماً في الهدية أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقبل الهدية ويثيب عليها صلى الله عليه وسلم، أي: يكافئ عليها، أهدي له مرة أمبجانية فقبلها، وأهدي له صلى الله عليه وسلم شيئاً فقبله، وكان يهدى إليه سمن فيأخذه ولكنه يرد ويثيب على الهدية، فيقول عليه الصلاة والسلام: {لو دعيت إلى كراع لأجبته، ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت} وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم.
فالحكمة أنك تقبل الهدية إذا علمت أنه لا يترتب عليها مفسدة في عرضك ولا في دينك، لأنك إذا رددت الهدية وجد صاحبها عليك، وكان هذا سوء تعامل مع الناس.
مر الرسول عليه الصلاة والسلام بـ صعب بن جثامة بـ وادي ودان فأهدى له شقاً من حمار -أي: حمار وحشي- فرده صلى الله عليه وسلم، وقال: {إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم}؛ لأنه صاده من أجله، فإذا علمت أنه يجرح شعوره رد الهدية فلا ترد الهدية، بل اقبلها وأثب عليها بالدعاء، وبإجازتها بهدية أخرى.
والهدايا من أحسن ما يفعل، خاصة الهدايا التي تنفع في الآخرة من علم ونفع عام، نسأل الله التوفيق والهداية.(194/14)
الأسئلة(194/15)
لا ولاية لضعيف
السؤال
إنك ذكرت في أثناء الدرس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي ذر: (إني أحب لك ما أحب لنفسي، ولكن لا أريد أن أدنس إيمانك) فلماذا يولي الصحابة الآخرين؟
الجواب
هذا إدخال كلام في كلام، عمر الذي يقول لـ أبي: [[لا أريد أن أدنس دينك]] والرسول صلى الله عليه وسلم، قال لـ أبي ذر: {إنك ضعيف} فهو ضعيف في رأيه، ويحب له الرسول صلى الله عليه وسلم الخير، ولو أنه جاء في الحديث يحب الخير لعمه ولـ أبي ذر ذُكر كذلك.
فالرسول صلى الله عليه وسلم ولىّ الصحابة لأنهم يستطيعون، وأما أبو ذر وأمثاله فلا يستطيعون؛ لأن الأمر يحتاج إلى طاقات، وإلى قوة، وأبو ذر يمكن أنه تنقصه هذه الأمور، وهو رجل ضعيف رضي الله عنه وأرضاه.(194/16)
سبب نزول قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ) وبيان ضعف بعض الأحاديث
السؤال
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} في من نزلت هذه الآية؟
الجواب
سبق أن قلنا أنها نزلت في ابن جميل وقال بذلك كثير من المفسرين.
وقال بعضهم: في جماعة من المنافقين ولا تعارض، فـ ابن جميل قد كان فيه شيء من هذا، والمنافقون فعلوا ذلك، وليست العبرة بخصوص السبب، ولكن العبرة بعموم اللفظ.
أما ثعلبة فليس حديثه بصحيح، ولو أن ابن جرير وابن كثير، وغيرهم من العلماء أوردوا قصته، فقصة ثعلبة لا تصح عند العلماء، وهي معارضة؛ لأنه ما قبل صلى الله عليه وسلم صدقته، ولا أبو بكر ولا عمر، فبقي هكذا، وأهل الذنوب تقبل توبتهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} فالمقصود: أن هذه معارضة، القصة وسندها لا يصح، حديث ثعلبة لا يصح، هذا ولو استشهد به كثير من الخطباء فهو حديث لا يصح.
ومثل ذلك على الذكرى حديث علقمة، الذي يقولون عنه: إنه عقّ أمه، فأتته سكرات الموت فلم يستطع ينطق بالشهادتين القصة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لي حطباً، حتى سامحته أمه، هذا حديث كذب، موضوع باطل عن المصطفى عليه الصلاة والسلام, حديث علقمة هذا لا يحدث به، وكثير من خطباء المساجد يخطبون به يوم الجمعة، فلا بد للخطيب والواعظ أن يتأكد من الحديث الذي يعرضه على الناس، ويتكلم به على المسلمين، ليكون متثبتاً من معلوماته، متأكداً مما يقول، حتى لا يظلل الناس في الأحكام، والاعتقادات والعبادات.(194/17)
اعتبار الفرد مع إطلاق الجنس
السؤال
لماذا جمع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بعد أن ثنى في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] وفي قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]؟
الجواب
قال: اختصموا، ولم يقل: اختصما؛ لأن المثنى مرفوع بالألف، لكن هنا أتى بالجمع بعد المثنى، {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] قال أهل العلم: اعتبر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الأفراد في المجموعتين هنا، فإن الطائفتين {هَذَانِ خَصْمَانِ} [الحج:19] فيهم مجموعة، الخصم يكون مجموعة، تقول: جاء ضيف والضيف قد يكون عشرة، وتقول: آتاني خصم قد يكونوا عشرة أو عشرين، فاعتبر أفرادهم أكثر من واحد.
قال: {هَذَانِ خَصْمَانِ} [الحج:19] أي: فريقان، وقد يكون في الفريقين أكثر من اثنين، قال: {اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] وهذه من بلاغة القرآن، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الحجرات:9] الطائفة: قد تكون ألف، قال: {اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] فاعتبر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالأفراد في المجموعتين ولم يعتبر بالجنسين.(194/18)
صحة حديث: (يا أبا ذر إنك رجل ضعيف)
السؤال
ما هي رتبة الحديث: {يا أبا ذر! إنك رجل ضعيف}؟
الجواب
أولاً في أبي ذر أحاديث أذكر بعضها، منها:
حديث: {يا أبا ذر! إنك رجل ضعيف} هذا حديث صحيح.
{ويا أبا ذر! إنها حسرة وندامة} أي: الإمارة وهو حديث صحيح.
{ورحم الله أبا ذر يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده} حديث ضعيف.
{وإذا بلغ البناء سلع فاخرج منها} يقبل التحسين.
{وأبو ذر يحشر مع عيسى بن مريم يوم القيامة} حديث ضعيف.
أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء، هذا في أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، لكنه روى أحاديث كثيرة تشرح البال، وهو من علماء الصحابة.(194/19)
ضعف رواية: (سيدنا محمد) في الصلاة وجواز قولها في غير الصلاة
السؤال
هل نقول عند الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم صلِّ على سيدنا محمد أم أن السيادة لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟
الجواب
الرسول عليه الصلاة والسلام لما علم الصحابة في التحيات، لم يعلمهم سيدنا، وكثير من الناس تسمعهم يقول: اللهم صلِّ على سيدنا محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، هذا ليس بصحيح هذا اللفظ (سيدنا) لم يرد في التشهد ولو أنه صلى الله عليه وسلم كما صح عنه أنه قال: {أنا سيد ولد آدم}؛ وقال في صحيح البخاري عن الحسن من حديث أبي بكرة، وقد أخذ الحسن على المنبر، قال: {إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين} هذا في المدح.
قال عليه الصلاة والسلام للأنصار: {قوموا إلى سيدكم} أي: سعد بن معاذ، فلا بأس أن يطلق على الناس لفظ "سيد"، لكن قال عمر: [[السيد: هو الله]].
وإن كان من باب التعظيم، وإدخال الغرور والعجب على الرجل فلا تقل له هذا اللفظ، أما في ألفاظ الصلاة فالأولى ألا تذكر, لأن الصحابة لم يذكروها, وما ذكرها صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، فالأفضل أن تقول: اللهم صلِّ على نبينا محمد، أو اللهم صلِّ وسلم على محمد رسول الله، أما لفظ سيدنا فلم يرد فيما أعلم في حديث صحيح، ولو أنه صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم.(194/20)
ضعف حديث: (لقد أمرت بمداراة الناس كما أمرت بأداء الفرائض)
السؤال
ما صحة هذا الحديث: {لقد أمرت بمداراة الناس كما أمرت بأداء الفرائض}؟
الجواب
هذا الحديث ليس بصحيح، حديث باطل ولا يرفع إليه صلى الله عليه وسلم، حديث {لقد أمرت بمداراة الناس كما أمرت بأداء الفرائض} ليس من لفظه، ولفظ الحديث ركيك، والرسول عليه الصلاة والسلام حديثه كالنور، وكالشمس في رابعة النهار، فهو يعرف، أما في المداراة فقد ورد فيها أحاديث وآثار، منها: في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم عيينة بن حصن، فاستأذن على الرسول عليه الصلاة والسلام -هذا الغطفاني الفزاري - قال: {ائذنوا له بئس أخو العشيرة} فلما دخل انبسط له صلى الله عليه وسلم وكلمه، فلما خرج قلنا: يا رسول الله! قلت في عيينة كذا وكذا، فلما دخل انبسطت إليه وحييته، قال: {إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه} أي: المدارة، وعلق البخاري عن أبي الدرداء في كتاب الأدب، قال: [[إنا لنكشر في وجوه قوم، وإن قلوبنا لتلعنهم]] هذا في المدارة.
وهناك فرق بين المدارة والمداهنة:
فالمداهنة هي: أن تذهب شيئاً من دينك لحصول الدنيا.
والمداراة هي: أن تذهب شيئاً من دنياك لبقاء الدين، فلك أن تداري الناس وتعاملهم بالتي هي أحسن ببسمة؛ لأنك إذا قطعت الحبال بينك وبين الناس لا يبقى لك شيء، وسوف تخسر الناس ويخسرونك، فالمدارة بالبسمة، والكلمة الطيبة، تثني على من قدم خيراً، وتشكر أهل الفضل هذه هي المداراة.
وأما المداهنة فهي: أن تنافق -والعياذ بالله- لحصول شيء من الدنيا وتضيع دينك، تأتي إلى رجل فاجر، فتقول: لا إله إلا الله ما أحسنك للإسلام! وما أنصرك للإسلام! وما أقواك في دين الله! هذه هي المداهنة، وهي شعبة من النفاق، أما المداراة فواردة وجائزة.
وفي الختام! أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، والرشد والسداد، وأن يتولانا في الدارين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(194/21)
فضل الوتر وقيام الليل
إن العبد المسلم قد يعاني طوال يومه من المشاق والتعب سواءً أكان في الدعوة أو في العمل، فجعل الله قيام الليل ليخلو بربه -عزَّ وجلَّ-.
وقيام الليل يعطي الشخص القوة والقدرة على مشاق النهار، فيناجي العبد ربه في ذلك الليل، وخصوصاً وقت نزول الجبار جل وعلا في الثلث الأخير من الليل.
وفي هذه المادة الحث على قيام الليل، وذكر فضائله، والأمور المساعدة على قيام الليل كما تطرق للحديث عن المسائل والأحكام المتعلقة بصلاة الوتر.(195/1)
مجاهدة النفس
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] عهدٌ من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وحقٌ ألزم به نفسه، ولم يلزمه به أحدٌ من الناس، أن من جاهد فيه سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يهديه سبيله.
قال أهل العلم: المجاهدة بالنية وبالعمل، والذي يدعي أنه يجاهد في سبيل الله يبذل وسعه للهداية، ومن لا يبذل وسعه ولا يعمل، فإنما هو مفترٍ على الله عز وجل.
ولذلك ورد في الموطأ عن الحسن البصري رحمه الله موقوفاً عليه: [[ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلب وصدقه العمل]].
ومن أسباب المجاهدة التي يزيد الله بها الهداية والإيمان على حد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] من هذه الأعمال الصالحة: قيام الليل، ومن أجلِّ قضاياه التي سوف نتدارسها هذه الليلة: الوتر.
وفي الوتر قضايا، منها:
المسألة الأولى: حكم الوتر في الليل، هل هو واجب أم سنة؟ وما ورد في ذلك، وما هو الصحيح؟
المسألة الثانية: الوتر على الراحلة، ويقاس عليها السيارة كذلك.
المسألة الثالثة: عدد ركعات الوتر، وما حد أكثره وأقله؟
المسألة الرابعة: ما يقرأ في الوتر، وفي ركعاته، من السور التي قرأها صلى الله عليه وسلم، وحافظ على قراءتها في الوتر.
المسألة الخامسة: الدعاء الذي يقال في الوتر.
المسألة السادسة: رفع اليدين ومتى ترفع؟
المسألة السابعة: هل يمسح الوجه بعد الانتهاء من الدعاء؟
المسألة الثامنة: إذا فات الوتر في ليل هل يقضى بعد أن يطلع الفجر، أم لا؟
المسألة التاسعة: هل يُصلى من الوتر ركعة واحدة ويكتفي بهذه الركعة، ولا يزاد عليها؟
المسألة العاشرة: هل يصلى بعد الوتر صلاة؟ أم يكتفي بالوتر في الليل؟
المسألة الحادية عشرة: أفضل أوقات الوتر، وما هو الوقت الذي وردت بفضله النصوص؟
المسألة الثانية عشرة: الوتر قبل النوم.(195/2)
حديث ابن عباس في قيام الليل
يقول الإمام البخاري رحمه الله تعالى، بسم الله الرحمن الرحيم -وكل كتابٍ نبدأ فيه بالبسملة-.
كتاب الوتر، باب: ما جاء في الوتر.
ثم قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن مخرمة بن سليمان عن كريب عن ابن عباس أخبره أنه بات عند ميمونة وهي خالته، قال ابن عباس: {فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها، فنام عليه الصلاة والسلام حتى انتصف الليل، أو قريب منه، فاستيقظ يمسح النوم عن وجهه، ثم قرأ عشر آيات من آل عمران، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوضأ وأحسن الوضوء ثم قام يصلي، فصنعت مثله - ابن عباس يقول فصنعت مثله- فقمت إلى جنبه صلى الله عليه وسلم، فوضع يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني يفتلها، ثم صلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى الصبح صلى الله عليه وسلم}.
أورد البخاري هذا الحديث في هذا الموضع مختصراً، وإلا فالروايات الزائدة سوف نوردها على ما أوردها أهل العلم، والإمام البخاري يتفنن في إيراد الأحاديث كما سلف في بعض المناسبات، منها:
أنه قد يبتدئ بالحديث ويختصره، ومنها: أنه يتشبع في طول الحديث، ومنها: أنه يأتي بالحديث بالمعنى:
يزيدك وجهه حُسناً إذا ما زدته نظرا(195/3)
ترجمة ابن عباس
وابن عباس تكرر معنا في أكثر من موضع، فمن هو هذا العملاق؟ ومن هو هذا الشاب الذي حرص على الهداية، وأولى أمور العلم جلَّ اهتمامه، وهو ما زال في العاشرة من عمره، بل قبل ذلك يهتم بتتبع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته، فآتاه الله على قدر نيته، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كما أسلفنا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] فلما علم الله من ابن عباس أنه يريد وجهه، ويريد ما عنده؛ فتح عليه {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:26] ورزقه علماً جماً؛ حتى يقال له: البحر.
ويقال له: ترجمان القرآن.
ويقال له: حبر الأمة وبحرها.
قال مجاهد: [[وقفنا مع ابن عباس يوم عرفة، فأخذ يفسر سورة البقرة من بعد صلاة الظهر إلى صلاة المغرب حرفاً حرفاً، آيةً آيةً، مقطعاً مقطعاً، والله ما تلعثم في حرف، ولا توقف في آية، والله لو سمعه اليهود والنصارى لأسلموا]].
ويقول ابن كثير في البداية والنهاية: ثبت أن ابن عباس رضي الله عنهما لما أتته الوفاة، وعرضت جنازته للناس، وكفن في أكفان بيضاء، وقام الناس ليصلوا عليه، وثلَّ قائمٌ أبيض فدخل في أكفانه، وسمعوا هاتفاً يقول: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 29].
ورئيت له منامات رضي الله عنه وأرضاه، وهو ممن له قدم صدقٍ في الإسلام، حتى أنه رآى جبريل كرامة له ولم يره كثير من الصحابة.(195/4)
معاشرة النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله
يقول: ذهبتُ ليلة من الليالي عند خالتي ميمونة، وهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له تسع نسوة مجتمعات، كل امرأة يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً من لياليه المباركة الخالدة؛ يعلمهن مما علمه الله، وينشر لهن السنة لينشرنها في نساء الأمة.
فعلم ابن عباس أن هذه الليلة ليلة خالته ميمونة فأخذ نفسه وذهب وسبق الرسول عليه الصلاة والسلام بعد صلاة العشاء، ودخل وهو لا يريد النوم ولا العشاء، ولكن يريد قوت القلوب والأرواح، يوم أن تتغذى القلوب والأرواح بغذاءٍ لا يشبه غذاء الناس، ولذلك يقول الألبيري:
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
فقوت الروح: الهداية، والذكر، وآيات الله البينات، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الواضحات.
وعلم ابن عباس أن خالته حائض؛ وهي في الروايات التي وردت صحيحة، حائضٌ لا يمكن أن يقربها تلك الليلة صلى الله عليه وسلم.
فأتى في فراش ميمونة خالته، فنام في عرض الفراش، ودخل صلى الله عليه وسلم في الليل فالتفت فرأى ابن عباس، وعرف ابن عباس، وقال: {نام الغُلَيم؟} أي: نام الغلام، ولكن الغليم كلمة تَحَبُّبّ، ويصغر الاسم للتحبب، وللتعظيم، وللتصغير، وللتهويل، وهذا للتحبب، قالت ميمونة على حد ما ترى: {نام يا رسول الله} وهو لم ينم:
نامت الأعين إلا مقلةٌ تذرف الدمع وترعى مضجعكْ
فهو يريد العلم، ويريد أن ينتبه لما يقول صلى الله عليه وسلم، فيسمع هذه المحادثة؛ لأنه نقلها للناس.
فقرب عليه الصلاة والسلام من الفراش وأتى يحدث ميمونة ساعة، يقول ساعة على حسابه الزمني:
وفيه العشرة مع الأهل، وحسن الخلق، ومحادثة الأهل، وهذه من سنته صلى الله عليه وسلم، ولا يعتذر المعتذر بكثرة أشغاله، ولا أعماله، ولا ضيوفه، ولا 000، فأكثر الناس عليهم أشغال وأعمال، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشغله ذلك عن محادثة أهله صلى الله عليه وسلم، فلما حادثهم نام عليه الصلاة والسلام ولكن ابن عباس لم ينم.
فقال ابن عباس: {فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه} والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم نامت عيناه، أما قلبه فما نام، فقلبه يسبح، وقلبه مع ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك إذا نام لا ينتقض وضوءه.
ويقوم من النوم صلى الله عليه وسلم ويذهب إلى المسجد، فتقول عائشة رضي الله عنها: {يا رسول الله! إنك نمت؟ قال: يا عائشة! إنها تنام عيناي ولا ينام قلبي} وكان ربما حدث صلى الله عليه وسلم في نومه بالآيات، فقام يقرأها على لسانه، ورؤياه صلى الله عليه وسلم حق كفلق الصبح، فإذا رأى رؤيا تقع، حتى أنه يقول قبل معركة أحد، وهو يستقرئ الأنباء للصحابة ويقول قبلها بليلة بعد أن صلى الفجر، وبعد صلاة الفجر سوف تبدأ المعركة صباح السبت، وسوف يبدأ الالتحام مع أبي سفيان في معركة أحد، قال: {رأيت البارحة كأن ثلماً أصاب سيفي، وكأن بقراً تنحر، وكأني أدخلت يدي في درعٍ حصينة، قالوا: يا رسول الله! ما أوَّلت ذلك؟ قال: أما الثلم في سيفي -كُسْر، وهو في الذبابة، في رأس السيف- فهو رجلٌ من أهل بيتي يقتل، وأما البقر التي تنحر؛ فهؤلاء المؤمنون يصابون ويستشهدون في سبيل الله، وأما أنني أدخلت يدي في درعٍ حصينة؛ فهي المدينة ندخل فيها وتحصننا بإذن الله} وبدأت المعركة وقُتل حمزة، وكان من أول من قتل في المعركة حتى وقف صلى الله عليه وسلم عليه وتغيظ كثيراً وبكى كثيراً وحلف ليمثلن منهم بسبعين، واستشهد من المسلمين سبعين، ودخل في الأخير صلى الله عليه وسلم المدينة.(195/5)
صور من معايشة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن
قام عليه الصلاة والسلام بعد أن نام، قال ابن عباس: {فرأيته في الظلماء} فما كانت هناك سُرُج ولا كهرباء، وكان بيته صلى الله عليه وسلم يلتقي رأسه بطرف الجدار ورجلاه الشريفتان بالطرف الآخر من ضيق بيوته صلى الله عليه وسلم.
كفاك عن كل قصر شاهق عمدٍ بيتٌ من الطين أو كهفٌ من العلَم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيم
فهو أتى ليبني الأرواح والقلوب عليه الصلاة والسلام، أما الأجسام والدور والقصور فلهن أناس متخصصون خلقهم الله لها، ولذلك يقول معاذ، أحد دعاة الإسلام، لما حضرته الوفاة: [[والله إني لم أكن أحب الحياة لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولا لعمارة الدور، ولا لرفع القصور؛ ولكن لمكابدة الليالي، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر، ولظمأ الهواجر]] {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب النوم من عينيه، وأخذ يتلو: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].
قرأ الآيات العشر حتى ختم سورة آل عمران، ثم قام عليه الصلاة والسلام.
وعند ابن جرير الطبري وابن مردويه بسند يقبل التحسين قال بلال: {خرجت أؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة الفجر، فوجدته يبكي صلى الله عليه وسلم، فقلت: مالك يا رسول الله! بأبي أنت وأمي؟ قال: يا بلال! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله! قال: أنزلت عليَّ آياتٌ بينات، ويلٌ لمن قرأها ولم يتدبرها، قلت: وما هي يا رسول الله؟ فأخذ يقرأ وهو يبكي: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]}.
وربما كان عليه الصلاة والسلام يقوم فيصلي من الليل، وفي بعض الأحيان يقوم ويتوضأ ويخرج إلى المدينة، وينشط إلى بيوت الأنصار والمهاجرين وهم يقرءون القرآن، فيبكي وهو يستمع لهم صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيح عن عمر وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم قالوا: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فسمع أبا موسى الأشعري يقرأ القرآن، فوضع صلى الله عليه وسلم يديه على نافذة المسجد في الليلة الظلماء وهو ينصت لـ أبي موسى} وأبو موسى الأشعري من أهل اليمن، أُوتي صوتاً ما أجمل منه! ولا أحسن منه! ولا آثر منه! يقول مسروق: [[سمعت أبا موسى يقرأ، فوالله ما سمعت صنجاً ولا طنجاً ولا نأياً ولا وتراً أعجب من صوته!]] فأخذ صلى الله عليه وسلم يستمع وينصت -وذاك يصلي ويقرأ وهو لا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستمع له- وأخذ صلى الله عليه وسلم يبكي، فلما سمع نساؤه بكاءه صلى الله عليه وسلم، أتين ووضعن أيديهن معه وبجانبه يستمعن ويبكين، فلما أصبح الصباح لقي الرسول صلى الله عليه وسلم أبا موسى وقال له: {يا أبا موسى! لو رأيتني البارحة وأنا أستمع إلى قراءتك، وقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود، فقال أبو موسى: يا رسول الله! أتستمع لي البارحة؟ قال: إي والله، قال أبو موسى: والذي نفسي بيده يا رسول الله! لو علمت أنك تستمع لي لحبرته لك تحبيراً} أي جوَّدته أكثر مما سمعت، وحسنته أكثر مما وقع في أذنيك ليكون أكثر تأثيراً.
ولذلك تسابق أبو بكر وعمر مرة ثانية إلى أبي موسى يبشرانه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستمع إليه، قال عمر: [[لما صليت الفجر ذهبت إلى بيت أبي موسى لأبشره ببشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت أبو بكر قد سبقني، فقلت: والله لا أسابقه بعد اليوم]] كلما أتى عمر رضي الله عنه يسابق أبا بكر سبقه أبو بكر.
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
ولذلك كان أبو بكر أسبق الناس، فهو في الجهاد أستاذ الجهاد، وفي العبادة أول الصحابة، وفي الخلافة الرجل المرجى والمرشح رضي الله عنه وأرضاه، لا لشيء إلا لشيء وَقَر في قلبه وهو الخشية، حتى كان يصلي بالناس ويقطع قلبه بالبكاء وهو لا يزال في سورة الفاتحة لما علم من معرفة الله عز وجل.
وقد أسلفت لكم أنه يخرج عليه الصلاة والسلام في المدينة، وفي تفسير أبن أبي حاتم بسند جيد عن امرأة من الأنصار قال: {خرج صلى الله عليه وسلم ذات ليلة يتمشى في شوارع المدينة، فسمع عجوزاً من الأنصار تصلي في الليل، وتقرأ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فوضع رأسه صلى الله عليه وسلم على سائر الباب، وجعل يستمع معها وهي تردد وتقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فيقول: نعم أتاني، نعم أتاني، وهو يبكي حتى الصباح صلى الله عليه وسلم}.
هذه بعض الملامح لمعايشته لهذا الكتاب العظيم.(195/6)
استفتاح الرسول صلى الله عليه وسلم صلاته في الليل بالدعاء
وقام صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته، فخرج من بيته صلى الله عليه وسلم، فعَلِمَ ابن عباس وعمره ما يقارب عشر سنوات أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عاد فسوف يبحث عن ماء أو يتوضأ.
قال ابن عباس: [[فقمت إلى شَنِّ قِرْبَة -معلقة في طرف البيت- فحللت وكاءها، وسكبت الماء للرسول صلى الله عليه وسلم وقدمت له]] فلما جاء صلى الله عليه وسلم رجع ابن عباس وتناوم مرةً ثانية.
فقال صلى الله عليه وسلم وهو يحدث نفسه: {من وضع لي الماء} ثم التفت إلى السماء صلى الله عليه وسلم، وقال: {اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل}؛ فعلمه الله التأويل أي: تفسير القرآن، حتى ما وجدت آية ولا سورة إلا ويعرف متى نزلت، وأين نزلت، وما معناها، حتى كبار الصحابة كانوا يسألونه رضي الله عنه وأرضاه، وفقهه الله في الدين.
فقام عليه الصلاة والسلام يصلي، وقبل أن يصلي أخذ يستاك عليه الصلاة والسلام، يستقبل القبلة، وقال دعاءً تنخلع منه القلوب، روته عائشة وابن عباس، قال: {اللهم لك الحمد، أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، وعليك توكلت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} ثم قال -كما صح في صحيح مسلم - عن عائشة: {اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم}.
من لم يكن له رصيد من الدعاء بعد كل صلاة، وفي دبر الليل، وقبل الصلاة، وبين الأذانين، وفي آخر ساعة من الجمعة، وفي يوم عرفة، وفي مناسبات الخير؛ فإنه سوف يبقى قلبه قاسياً إن لم يتزود بزاد الدعاء؛ ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما عند الترمذي عن سلمان: {إن الله يستحي من العبد إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً} قال أحد الصالحين؛ وهو من علماء الجزائر، الثورة على الفرنسيين في الجزائر قال: في إحدى المرات في غارة على الفرنسيين -وهو من علماء ثورة الجزائر على فرنسا -: أمسيت ليلة من الليالي فرأيت عمر بن الخطاب في المنام ومعه الدرَّة، فقلت له: يا أمير المؤمنين! ابتلانا الله بهؤلاء احتلوا بلادنا، وقتلوا أطفالنا، وشيوخنا، ونساءنا، فما المخرج؟ قال: فضرب على كتفي بالعصا، قال: أتخاف والله معك؟! فقلت له: يا أمير المؤمنين! -وقد عرفت أنه عمر -: ما هي النجاة؟ قال: عليك بالدعاء، قال: فما نسيت يديه وهو يدعو لنا في المنام.
فمن أراد النجاة فعليه بالدعاء، ولذلك يقال في الأثر: [[لا يهلك مع الدعاء أحد]] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].(195/7)
موقف المأموم من الإمام وحكم الحركة القليلة للمصلي
قام عليه الصلاة والسلام فابتدأ صلاته، فلما أصبح في الصلاة قام ابن عباس فأخذ ماءً وتوضأ ثم اقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام، فوقف عن يساره، يعني: تجاه جهته اليسرى صلى الله عليه وسلم.
والمأموم إذا كان منفرداً يبقى عن يمين الإمام.
فأرسل صلى الله عليه وسلم يده من وراء ظهره وألقاها على ابن عباس وفركه وهو في الصلاة ثم حوله إلى يمينه؛ قال ابن حجر: يؤخذ من هذا أن المعلم له أن يفرك أذن الطالب، وقد مرت هذه في مناسبات، وكانت أفهم له، بشرط أن يكون صغيراً في سنه، ولا يتأذى بذلك.
فحوله عن يده اليمنى، وعند ابن خزيمة: أنه كلما نعس ابن عباس أرسل صلى الله عليه وسلم يده وفرك أذن ابن عباس حتى يوقظه في الصلاة.
لماذا ينعس؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يستمر في القراءة حتى ينسى المكبر أنه كبر.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: {قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي، فصلى فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء، قيل له: وبماذا هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأدَعَهُ}.
وقال حذيفة كما في الصحيحين: {قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتدأ سورة البقرة، فقلت: يركع عند المائة، فواصل حتى خَتَمَها، ثم افتتح سورة النساء فقلت: يركع عند المائة، فاختَتَمَها، ثم افتتح سورة آل عمران، ثم اختتمها صلى الله عليه وسلم]].
فهو صلى الله عليه وسلم وابن عباس بجانبه جعل يده على أذن ابن عباس وفركه ليستيقظ، وفي رواية صحيحة أوردها ابن حجر: لئلا يستوحش في الظلماء.
يقول: لئلا يستوحش ابن عباس، فيظن أن من طول قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم أو إسراره من الرسول صلى الله عليه وسلم تركه واقفاً، أو استيحاش من باب أنه يطول عليه الوقوف.
والله أعلم.
ولا يقاس على قوَّته صلى الله عليه وسلم قوة أحد من الناس، والإنسان فقيه بنفسه لا يستمع مثل هذه الأحاديث فيأتي فيقف ليلة كاملة من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر وبعدها يترك صلاة الفجر، فهذا لا أحسن في الأولى ولا في الثانية؛ أما في الأولى: فشدد على نفسه وخرج عن السنة، فإن سنة الله بين الغالي والجافي، والحسنة بين السيئتين، والقصد القصد تبلغوا.
وأما الأمر الثاني: فأنه قد يفوت من الفرائض ما هو أعظم منه، ولا يفوتكم أن الرسول عليه الصلاة والسلام جُمِعَت في جسمه الطاهر قوة ثلاثين رجلاً، فهو أجمل وأقوى وأفصح وأحلم وأبر وأصبر الناس، حتى يقول علي؛ وأنتم تعرفون من هو علي بن أبي طالب، سيف الله المنتضى، من أشجع الناس يقول: [[كنا إذا اشتد الكرب، وحَمِي الوطيس، واقتربت الرماح، الحدق واحمرت اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم في المعركة، فوجدناه أقرب القوم إلى العدو]] من قوة جسمه صلى الله عليه وسلم.
ولما التقوا في معركة هوازن في حنين، كان عليه الصلاة والسلام في المقدمة الأولى للجيش، وفرَّ جميع الجيش إلا ستة أنفار، فلم يثبت إلا هو وخمسة معه صلى الله عليه وسلم، وهذا من القوة التي أعطاه الله إياها.(195/8)
قضايا من حديث ابن عباس
وفي حديث ابن عباس هذا قبل أحاديث الوتر قضايا:
القضية الأولى: أسلفنا منها: أن الغلام الصغير، الذي لم يبلغ الحُلُم له أن يدخل على إحدى محارمه دون استئذان، في غير الأوقات الممنوعة من الزيارة، يدخل على المحارم بغير إذن، ويجلس معهن.
ومنها: الحديث مع الأهل، والاستئناس معهم.
ومنها: أنه لا بأس بالسمر بعد العشاء؛ لأن هناك حديث أبي برزة {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها} وقال: الحديث، أي: الحديث الذي لا ينهى عن الفحشاء والمنكر، ويلهي ويكون فيه لغو، ويصد عن صلاة الفجر، فهذا يكرهه صلى الله عليه وسلم.
أما الحديث مع الضيوف، أو الأهل، أو الحديث في العلم، وفي مدارسة الشرع؛ فهذا لا بأس به، ولذلك عقد البخاري باباً في صحيحه، باب السمر مع الضيف، فلا بأس بالحديث مع الأهل بعد صلاة العشاء.
وفيه: أن المحْدِث حَدَثاً أصغراً له أن يقرأ القرآن؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام -كما قلنا- لا ينتقض وضوءه بالنوم، لكن ليس عندنا دليل أنه نام متوضئاً صلى الله عليه وسلم.
ما هو وجه الاستدلال؟
وجه الاستدلال: أنه لما قرأ صلى الله عليه وسلم هذه غيباً، يرد
السؤال
كيف يقرأ صلى الله عليه وسلم غيباً وهو لم يتوضأ بعد، لأنه توضأ فيما بعد.
وفيه دليل على أن المحْدِث حَدَثاً أصغراً غير حَدَث الجنابة له أن يقرأ القرآن غيباً، لأن الجنب لا يقرأ القرآن، لا غيباً ولا نظراً، والمحْدِث حَدَثاً أصغراً لا يمس القرآن، وله أن يقرأ القرآن غيباً بهذا الحديث وبغيره.
منها: في أثر سلمان قال: [[خرج عمر رضي الله عنه إلى البرية -إلى الخلاء- فقضى حاجته، ثم أتى يقرأ القرآن وهو لم يتوضأ]] يقرأه غيباً رضي الله عنه وأرضاه، فقال رجل من أهل نجد من اليمامة: [[يا أمير المؤمنين! كيف تقرأ القرآن وقد أحدثت ولم تتوضأ؟ قال: أأخبرك نبيك مسيلمة أنه لا يجوز أن يقرأ القرآن إلا من توضأ؟]] يقصد: مسيلمة الكذاب؛ لأنه من اليمامة، وهذا مسيلمة صفَّى حسابه خالد بن الوليد سيف الله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].
وأحاديث أخرى، ومنها: الحديث الذي في موطأ مالك مرسلاً لكنه معضود، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم -قال ابن عبد البر أشبه المتواتر-: {أن لا يمس القرآن إلا طاهر} فعُلِم بمفهوم المخالفة أن له أن يقرأ القرآن غير طاهر، ليس جنباً لكنه محدث حدثاً أصغراً، فهذه من القضايا.
ومنها: الجماعة في النافلة: لك -إذا أوترت- أن توتر بأهلك في البيت، ولا تتخذها عادة دائماً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعلها دائماً، لكن في بعض الأحيان توتر وأهلك معك، وإذا أتاك أناس وأرادوا أن يتنفلوا معك تتنفل فيهم بالليل، أو بعض الأوقات كصلاة الضحى، ولا تتخذ عادة، ففي صحيح البخاري عن عتبان بن مالك قال: {زارني صلى الله عليه وسلم في بيتي فقال: أين تريد أن أصلي لك من البيت؟ قال: فعرضت له حصيراً، وغسلته بالماء، ونضحته، فقام صلى الله عليه وسلم فصفنا خلفه، وصلى بنا ركعتين} قال أهل العلم: هذه صلاة الضحى، وهذا يقتضي جواز الجماعة في صلاة الضحى لا على الدوام، أي: أنها لا تتخذ على الدوام.
والمسألة التي تستفاد كذلك من هذا الحديث: الائتمام بمن لم ينو الإمامة، تأتي في المسجد وأحد الناس يصلي وما نوى أن يكون إماماً، لكن هو فاتته الصلاة فقام يصلي وحده، فلك أن تدخل معه، ويكون إماماً لك، وأنت مأموم، وتصلي معه، وهذا يؤخذ من هذا الحديث؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قام يصلي من الليل ما نوى أن يكون إماماً، وإنما نوى أن يصلي ويتنفل حتى جاء ابن عباس.
ومنها كذلك: أن من أراد أن يتنفل، مثلاً: صلى صلاة الظهر في المسجد، ثم قام يصلي ركعتين بعد الظهر وأتى رجل متخلف، فرأى هذا يتنفل، فله أن يدخل معه، ولو كان هذا متنفلاً وهذا مفترضاً، فدخلتَ معه وصليتَ صلاة الظهر، وهو يصلي نافلة، وهذا مأخوذ من هذا الحديث.
ومنها صورة ثالثة كذلك: أنك إذا أتيت المسجد والناس قد صلوا، وما أدركتهم في الركعة الأخيرة مثلاً، فلما سلم الإمام قمت تقضي، وقام بعض الناس يقضوا معك، فلك أن تجعل الذي بجانبك إماماً وأنت مأموماً وتصلي بصلاته، هذه الصورة الثالثة تؤخذ من هذا، وهي جائزة لأنه لم يرد حديث بمنعها.
ويؤخذ كذلك: موقف الإمام وأنه دائماً على يسار المأموم إذا كان واحداً، ولو كانوا جماعة فيصلون عن يمينه أو خلفه، والسنة إذا كثروا فخلفه، والواحد على يمينه ولا يصلي يساره؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه: يرى أن يصلي الإمام وسطاً، وأن يجعل الناس عن يمينه ويساره، ورد عليه أهل العلم بأن هذا منسوخ.
المسألة التي تليها وتستفاد من هذا الحديث: أنه لا بأس بالحركة القليلة في الصلاة؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام تحرك في الصلاة، وأخذ بأذن ابن عباس، وحاله هنا: فلك مثلاً أن تؤخر ابنك عن مكان تخاف منه وأنت في الصلاة، وإذا كنت قريباً من الباب أن تفتح الباب؛ فقد صح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح لها الباب وهو في الصلاة، وفي سنن أبي داود بسند جيد عن سهل بن الحنظلية قال: {أرسل صلى الله عليه وسلم بطليعة قوم ليأخذ أخبار العدو، فأخذ صلى الله عليه وسلم يلتفت مرة وهو في الصلاة}.
ولا يحمل هذا على الترخص، ولا على التنطع، ولا على الخروج عن الخشوع الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم.
ولكن نخبركم بهذا وعندكم خبر به من باب إبراء الذمة، ومن باب عرض بعض سننه صلى الله عليه وسلم للناس، ومن باب إيجاد بعض الرخص لبعض المكروبين في صلواتهم، أو الذين يظنون أنه لا يجوز إحداث شيء في الصلاة، فقد وردت الحركة القليلة عنه صلى الله عليه وسلم.
ويؤخذ من هذا الحديث: الاضطجاع مع الحائض؛ فالمرأة إذا حاضت فلزوجها أن ينام في فراشها الذي تنام فيه، وأن يؤاكلها ويشاربها ويحادثها، ولا بأس بذلك كله.
ومنها: الاعتداد بصلاة الصبي الصغير؛ فأنت إذا لم تجد جماعة، ولا رجل تصلي معه، لك أن تصلي مع ابنك بعد أن يتوضأ، وتجعله معك وتتم لكما جماعة، وإذا أتيت في المسجد ووجدت إماماً ومعك صبي فلك أن تصف مع الصبي وراء الإمام، وتعدُّ بالصف مع الصبي؛ ففي صحيح البخاري عن أنس قال: {صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصففت أنا واليتيم من ورائه والعجوز من ورائنا}.
وأدخل عليه الصلاة والسلام المسجد وهو مريض، في رواية ابن عباس قال: {عليه عصابة دسمة، وهو يتخطى مع الفضل وعلي حتى أدخل، فأجلس على يسار أبي بكر وأبو بكر يصلي بالناس} فأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم إماماً، وأصبح أبو بكر بجانبه مأموماً، وأصبح أبو بكر يردد بعده الناس وهو عن يمين الرسول صلى الله عليه وسلم، فالذي على اليسار هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس أبو بكر.(195/9)
أحكام صلاة الوتر
وأما الوتر ففي حكمه خلاف بين أهل العلم:
ذهب الجمهور إلى أنه سنة وليس بواجب.
وأما بعض الأحناف فقالوا: واجب؛ واستدلوا على ذلك بأدلة منها: أنه يقضى بالنهار.
ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما تركه في حضر ولا سفر.
ولكن هذه الأدلة ظنية، والصحيح أنه سنة وليس بواجب.
ومن الأحاديث التي تبين سنية الوتر:
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي طلحة في الصحيحين، قال: {كنا جلوساً مع الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد، فجاء رجلٌ من أهل نجد؛ ثائر الرأس، نسمع دويَّ صوته، ولا نفقه ما يقول، فأقبل علينا، فإذا به يسأل عن الإيمان، قال: الإيمان أن تؤمن بالله، -وفي لفظ البخاري: يسأل عن الإسلام- قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله -وفي هذا الحديث تداخل بين الإيمان والإسلام - ثم قال: وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، قال: يا رسول الله! وما هي الصلاة؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع}.
فأخذ من هذا أن الخمس الصلوات هي الواجبة، أما غيرها فتطوع، فلا يدخل غيرها في الوجوب كالوتر، ولا ركعتي الضحى، ولا تحية المسجد، ولا غيرها، إنما الواجب ما ذكره صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث.
فحكمه على الصحيح أنه سنة؛ لكنه سنة مؤكدة، لا يُترك في سفر ولا في حضر.
ومن تركه هل يقضيه بعد أن يفوته في الليل أم لا؟ سوف يأتي هذا الكلام.(195/10)
الصلاة على الراحلة وعدد ركعات الوتر
ويؤخذ من سنته صلى الله عليه وسلم أنه صلى على الراحلة، ويقاس على ذلك السيارة، فلك أن تصلي الوتر وأنت مسافر على سيارتك بعد أن تستقبل القبلة عند تكبيرة الإحرام، ثم لا بأس أن تتوجه وأنت تصلي في أي مكان وجهت بك سيارتك.
ويؤخذ من ذلك أن الوتر سنة، وأقل عدد ركعاته ركعة، وأكثره لا حد له.
وهل يجوز أن يصلي المسلم ركعة واحدة؟
أورد ابن حزم في المحلى وابن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي وسعيد بن منصور في سننه أن كثيراً من الصحابة صلوا ركعة واحدة؛ منهم: معاوية وسعد بن أبي وقاص وعثمان رضي الله عنهم وأرضاهم.
فأما عثمان رضي الله عنه وأرضاه فورد أنه دخل الحرم، قال تميم الداري: [[كنت عند المقام -مقام إبراهيم عليه السلام- فدخل رجلٌ وهو متلثم، فدفعني وأخرني عن المقام ثم قام ففك لثمته فنظرت إليه فإذا هو أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، فقام يصلي، فقرأ القرآن في ركعة من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، ثم سلم والأذان يؤذن]].
ولذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا قرأ قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] بكى وقال: [[ذلك عثمان بن عفان]] وقال حسان لما قُتل عثمان رضي الله عنه:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
وثبت أن عثمان انخرمت في يده أربعة مصاحف؛ من كثرة ما يقرأ، فأربعة مصاحف انخرمت أو تقطعت وتمزقت من كثرة ما يمسكها.
وهو على العموم أكثر من يقرأ القرآن من الصحابة الأخيار، حتى أنه كان يتوضأ ويصلي صلاة الفجر فيبقى والمصحف معه يقرأ حتى صلاة الظهر، وقال له بعض الصحابة: [[لو رفقت بنفسك يا أمير المؤمنين؟ قال: والله لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من القرآن]] رضي الله عنه وأرضاه، فالشاهد: أنه صلى ركعة.
ومعاوية صلى العشاء ثم صلى ركعة وذهب لينام، فسئل ابن عباس وقيل له: [[إن معاوية صلى ركعة؟ قال: ذاك رجلٌ فقيه]] يعني: عنده فهم في الدين.
وصلى سعد بن أبي وقاص ركعة رضي الله عنه وأرضاه.
لكن الأولى والأحسن ألا تُتخذ عادة، وللمسلم أن يصلي ركعة واحدة، لكنه خلاف النصوص الوفيرة الكثيرة عنه صلى الله عليه وسلم: أن أقل الوتر ثلاث ركعات؛ لما روى أبو داود بسند جيد عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أوتر بسبع فهو أفضل، أو بخمس، أو بثلاث} وهذا الحديث صححه ابن حبان والحاكم، فالثلاثة أقل الوتر، فمن شاء أن يوتر ويقلل فعليه أن يداوم على ثلاث ركعات، يقرأ في الأولى: سورة الأعلى، وفي الثانية: سورة الكافرون، وفي الثالثة: سورة الإخلاص؛ والدليل على ذلك حديث أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه، وهو صحيح عند النسائي قال: {كان صلى الله عليه وسلم يصلي الوتر ثلاث ركعات يقرأ في الأولى: بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] وفي الثانية: بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] لا يسلم إلا في آخرهن} ففي هذه الرواية، أي: رواية النسائي والحاكم عن عائشة: لا يفصل بينهن.
وقال: محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر: يفصل بين الوتر، ولم ينقل في حديثٍ صحيحٍ أنه يوصل بين الوتر، قال ابن حجر: بل يوصل بينها، ومن صلاها كالمغرب، فجائز له ذلك.
أما حديث أُبَي الذي أسلفت في سنن النسائي أنه يقول: {لا يسلم إلا في آخرهن} فلكم أن تراجعوه في الصفحة (481) من فتح الباري المجلد الثاني.
فهذا -بارك الله فيكم- هديه صلى الله عليه وسلم، أو ما قاله في الوتر؛ لكنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الوتر إحدى عشرة ركعة، تقول عائشة في صحيح مسلم: {ما زاد صلى الله عليه وسلم في رمضان، ولا في غير رمضان على إحدى عشرة ركعة، فإذا فاتته من الليل صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة}.
ففي هذا دليل على أن التراويح السُّنَّة فيها، والأَولى والأفضل أن تُصلى إحدى عشرة ركعة، ومن زاد فلا بأس، ومن صلى ثلاث عشرة ركعة، أو إحدى وعشرين، أو ثلاثاً وعشرين، أو زاد فلا بأس، لكن الأَولى والسُّنَّة هي هذه وهي التي وردت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم.
ما يقرأ فيه؟
ذكرنا لكم أنه يقرأ فيه بِسُوَر: الأعلى، والكافرون، والإخلاص.(195/11)
دعاء الوتر
ما هو دعاء الوتر؟
إذا أوترت، وقرأتَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وركعت كما هو معروف، فبعد أن ترفع صلبك من الركوع، ترفع يديك هكذا وتقول: اللهم اهدني فيمن هديت؛ لحديث الحسن بن علي رضي الله عنه وأرضاه؛ ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في سنن الترمذي، وقال ابن حجر: فيه ضعف؛ ولكن له طرق تشهد له فيصبح بها حسناً، قال صلى الله عليه وسلم: {إذا أوترت، فقل: اللهم اهدني في من هديت، وعافني في من عافيت، وتولني في من توليت}.
الحديث.
ولك أن تدعو بما تيسر، سواء هذا الدعاء أو غيره من الدعاء الذي يجمع لك خيري الدنيا الآخرة.(195/12)
آداب الدعاء
من آداب الدعاء:
1 - أن تبدأ بالحمد لله والصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تدعو.
2 - وترفع يديك بعد أن تقول: سمع الله لمن حمده، لما ثبت في مستدرك الحاكم، قال صلى الله عليه وسلم: {إذا رفعت صلبك فارفع يديك وادع الله عز وجل يُجِبْك} أورده ابن القيم في زاد المعاد.
3 - وهل بعد أن تنتهي تمسح وجهك أم لا؟
الراجح والصحيح ألا تمسح وجهك؛ لأن مسح الوجه لم يرد فيه حديث صحيح، وإنما هو حديث ضعيف، قال ابن تيمية: أما مسح الوجه في الصلاة فلم يرد.
ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم حديثٌ صحيح في ذلك، فالأولى أن يمسح خارج الصلاة مرة في الدعاء ويترك مرة، أما داخل الصلاة فلا يمسح الوجه.(195/13)
حديث مسح الوجه بعد الدعاء
السؤال
هل حديث مسح الوجه في الصلاة لا يصح؟
الجواب
بعض أهل العلم يصححه، منهم ابن حجر، والصحيح: أنه ضعيف، ولكن له شواهد، وابن تيمية يقول: على احتمال تحسين الحديث فيمسح الوجه خارج الصلاة مرة، وعلى احتمال ضعفه يترك مرة.
وقد أفتى فيه كثير من أهل العلم؛ منهم: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، يقول: خارج الصلاة يمسح مرة ويترك مرة، أما داخل الصلاة فلا يمسح.(195/14)
تفصيل نظر الداعي إلى يديه
السؤال
هل الذي يدعو ينظر إلى يديه؟
الجواب
لم يرد هناك شيء في النظر، ولكن الأَولى والأرجح أن ينظر إلى كفيه؛ لأنها الوجهة والقصد والمطلوب، وأجمع لقلبك، فينظر هناك عند كفيه، ولا يحيل بصره؛ لأن الداعي إذا دعا إنساناً أو طلبه فمن الأدب أن لا يحرف بصره عنه، وعند عبد الرزاق في المصنف بسند جيد يقول صلى الله عليه وسلم: {إذا قام العبد في الصلاة قام الله عز وجل تجاهه، فإذا انصرف العبد ببصره انصرف الله عنه} وهذه الرواية عن عطاء، ولكن لها شواهد تؤيد أنها صحيحة أو تبلغ الصحيح لغيره.(195/15)
قراءة المعوذتان والنفث قبل النوم
السؤال
الرسول صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه كان يقرأ المعوذات قبل أن ينام وينفث في يديه ويمسح جسمه بذلك، فهل هذا من المسح في الدعاء؟ وهل هذا يقتضي أنه يجوز أن يمسح الداعي بيديه وجهه؟
الجواب
هذا سؤال جيد، لكن هذا في غير ما نحن فيه، لأن هذا قرآن، وفعل الرسول عليه الصلاة والسلام له يريد به البركة على جسمه، وقد كان يمسح ما أقبل من جسمه وما أدبر.
وأما ذاك فمسح من باب طول التكريم، وقيل: إظهاراً للنعمة، وقيل: تبركاً لعلَّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يجيب الدعاء.(195/16)
حكم قضاء الوتر
إذا فات المسلم الوتر في الليل، فالسُّنَّة والذي تَرَجَّح من الأدلة: أن يقضيه في النهار، ولكن يقضيه شفعاً لا وتراً؛ أي: أنه إذا كان ترك في الليل ثلاث ركعات فيصلي في النهار أربعاً، وإذا كان ترك خمساً فتصلي ستاً، وإذا ترك سبعاً يصلي ثماناً.
ولماذا اختلفت الهيئة في النهار؟
لأن وتر النهار صلاة المغرب، ووتر الليل صلاة الوتر، والدليل حديثٌ حَسَنٌ، حَسَّنه ابن خزيمة وغيره من أهل العلم، فاقتضى أنه يقضى سبعاً، والدليل عليه ما مر معنا في صحيح مسلم عن عائشة قالت: {كان صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، فإذا فاته الوتر صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة} أي: أنه يجعل بدل إحدى عشرة اثنتي عشرة.
ولكن
السؤال
لماذا روى أبو داود وأهل السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: {من فاته الوتر فليقضه وتراً إذا ذكره} وهذا على نظرين اثنين:
النظر الأول: أن هذا قول لبعض أهل العلم؛ وذكره محمد بن نصر المروزي، وأن من الناس من يرى أن يقضى الوتر؛ وهي فتيا لبعض أهل العلم، فيقضى على هيئته ثلاث ركعات في النهار أو خمس.
النظر الثاني: وقيل: إن هذا الحديث فيه ضعف، ويؤخذ بحديث عائشة الصحيح عند مسلم، والأَولى أن يقضى شفعاً في النهار.(195/17)
أفضل أوقات صلاة الوتر
مسألة وهي: ما هو الوقت الأفضل في الوتر؟
قال أبو هريرة - كما في الصحيحين -: {أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت: بركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر -وفي المسند بدل: صيام ثلاثة أيام في كل شهر ورد: بغسل الجمعة-}.
قال ابن تيمية: إنما قال صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة أن يوتر قبل أن ينام؛ لأنه كان مشغولاً بتدارس الحديث في الليل، فخاف أن ينام عن مثله، فقال: {أوتر قبل أن تنام} ووقع لـ أبي هريرة هذا، فكان يوتر قبل أن ينام، ويتدارس الحديث ثم يصلي ما تيسر، أو ينام.
وقال ابن تيمية أيضاً: إنما قال صلى الله عليه وسلم: {وركعتي الضحى} لتعوض ركعتي الضحى عن قيام الليل في آخر الليل الذي قد لا يتسنى لـ أبي هريرة وأمثاله من الناس أن يصلوا ركعتي الضحى.
فلْيُعْلَم هذا، فمن أوتر قبل أن ينام ولا يستطيع أن يقوم الليل له أن يصلي الضحى وهي صلاة الأوابين، فيكفر الله بها عنه، ويكتب له أجر ثلاثمائة وستين مفصلاً من مفاصل جسمه في هاتين الركعتين الخفيفتين، فهذا وقت.
أما أوقاته الأخرى فالأفضل تأخيره إلى الليل؛ لحديث أبي أيوب الأنصاري: {اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً} وهو في سنن أبي داود كذلك، وصححه ابن حبان والحاكم.
ولك أن توتر بعد صلاة العشاء، ولا بأس أن توتر قبل أن تنام، لكن أفضل أوقات الوتر آخر الليل، والوقت الفاضل كذلك قبل النوم، والوقت المفضول بعد صلاة العشاء.
والإنسان يعرف عادته، وقدرته، وما يستطيع له، و: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].
السؤال
من نام بعد أن أوتر في الليل، ثم قام آخر الليل، هل يعيد الوتر، وقد أوتر في أول الليل، أم ماذا يفعل؟
الجواب
يصلي شفعاً ولا يوتر، وهذا رأي الإمام مالك وأورده في الموطأ أنه يصلي شفعاً ولا يوتر وكأنه الصحيح، وهو الأولى؛ لأنه لا وتران في ليلة.
فإذا أوتر في أول الليل فليصل شفعاً ركعتين، أو أربعاً، أو ستاً، أو ثماناً.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: أن من أوتر في أول الليل، وقام في آخر الليل وقد أوتر في أول الليل أنه يصلي ركعة واحدة تشفع له ما صلى، ثم يبدأ يصلي من جديد على الشفع ثم يوتر.
لكن الأَولى ما ذهب إليه الإمام مالك لظاهر الحديث: أنه إذا أوتر في أول الليل يكتفي ويصلي ما يسر الله شفعاً.(195/18)
حكم الصلاة بعد الوتر مباشرة
هل يصلى بعد أن يصلي الوتر مباشرة؟
ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى ركعتين بعد الوتر جالساً، فلك أن تصلي بعد الوتر جالساً ركعتين.
قال النووي: يحتمل أن هذا لبيان جواز الصلاة بعد الوتر؛ لأن بعض الناس يتوهم أنه لا يجوز أن يصلي بعد الوتر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بهاتين الركعتين.(195/19)
الأمور المساعدة على قيام الليل
ما هي الأمور التي تعين المسلم على قيام الليل؟
وأما فضل قيام الليل، فمهما عدَّد المعدِّد، ومهما تكلم المتكلم عن فضله فإنه أكثر من أن يذكر، ومن أراد تربية نفسه وروحه وقيادة قلبه إلى الله عز وجل فعليه بقيام الليل، ولو بمقدار حلب شاة، وورد في مجمع الزوائد بأسانيد تفيد أنه حديث حسن: {لا بد من قيام بالليل ولو بقدر حلب شاه} فهذا الوقت الصغير القصير الذي يمكن أن يقوم الإنسان ولو قبل صلاة الفجر بدقائق، يمكنه من الدعاء المستجاب إن شاء الله؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله ينزل في الثلث الأخير إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه} فهذا هو وقت الإجابة وهو من أعظم الأوقات.
ومما يعين على قيام الليل: التقليل من الخطايا والذنوب؛ فإنها توبق العبد، وتقيده عن قيام الليل، وعن الأعمال الصالحة، قيل للحسن البصري: [[يا أبا سعيد! لا نستطيع القيام؟ قال: قيدتكم خطاياكم ورب الكعبة]] فعلى العبد أن يستغفر كثيراً قبل أن ينام، وأن يتوب إلى الله.
يقول ابن تيمية: للعبد أن يأخذ وِرداًً من الدعاء، وحبذا لو كان قبل النوم، يقول في المجلد العاشر، والحادي عشر: حبذا أن يكون قبل النوم ليكون كفارة لما أسرف به وفعله في نهاره، ولا بد من الذنوب والخطايا.
فعلى العبد أن يستغفر قبل أن ينام كثيراً، وأن يذكر الله لينام وهو تائب منيب، فإن توفاه الله كان من الخالدين الصالحين: {الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16] وإن كان من الباقين كتب الله أجر يومه، وغفر ذنوبه.
ومما يعين على قيام الليل: التسبيح ثلاثاً وثلاثين، والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتكبير ثلاثاً وثلاثين؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بها علياً وفاطمة -رضي الله عنهما- فقال: {هما خيرٌ لكما من خادم} قال ابن القيم: يريد أنها في القوة مثل الخادم.
فهي مجردة تقوي العبد، وتجعل عنده نشاط وهمة، ومن يسر الله له الخير تيسر.
وكذلك أن ينام الإنسان مبكراً، وألاَّ يسهر كثيراً في غير طارئ إلا في مدارسة علم، أو في جلسة خير، أو قراءة القرآن وتدبره، وإذا علم أنه سوف يقوم لصلاة الفجر وتدبره، أما إذا علم أنه سوف تفوت عليه صلاة الفجر، فحرام أن يسهر هذا السهر، فليُعلم هذا.
وفي البداية والنهاية لـ ابن كثير قال ابن كثير: توفيت زبيدة زوجة هارون الرشيد، وأم الأمين، فرئيت في المنام، وزبيدة هذه هي التي أجرت عيناً في مكة، المسماة: عين زبيدة، فرئيت زبيدة هذه في المنام، فقال لها ابنها: ما فعل الله بك؟ قالت: كدت أهلك -أي: أُعَذَّب- فقال: وأين العين -عين زبيدة - وأجرها وثوابها التي أجريتِها للحجاج؟ قالت: ما نفعتني بشيء، كادت تهلكني تلك العين، قال: ولِمَ؟ قالت: ما أردت بها وجه الله فما نفعتني.
قال: وما نفعك إذاً؟ قالت: نفعتني رحمة الله، ثم إنه ما مرت عليَّ ليلة إلا أقوم في السحر، فأتوضأ ثم أقوم على شرفات القصر -قصر هارون الرشيد؛ لأنه خليفة وهي زوجته- فأنظر في السماء وأقول: لا إله إلا الله أدخل بها قبري، لا إله إلا الله أقضي بها عمري، لا إله إلا الله أقف بها في حشري، لا إله إلا الله يغفر بها ربي ذنبي.
فهذا العمل القليل نفعها أكثر من تلك العين، والمشروع الضخم الذي عد في التاريخ من أفضل المشاريع التي عرفتها الأمة، ما نفعها بشيء: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] إن عملاً لا يراد به وجه الله لا ينفع صاحبه أبداً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما أورده المنذري في الترغيب والترهيب: {يا معاذ! أخلص عملك يكفيك القليل} فإن المقلَّ مع الإخلاص يكفيه وهو من السابقين عند الله عز وجل، والمكثر بلا إخلاص لا ينفعه، كالذي يحمل الحجارة على ظهره فهو لم يستفد منها، ولم يسلم من حملها وثقلها، فليُعلم هذا.
نسأل الله عز وجل لنا ولكم التوفيق والهداية.(195/20)
الأسئلة(195/21)
أحوال السلف في البكاء من خشية الله
السؤال
كيف نوفِّق بين ما ذكر في الدرس من أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه كان إذا قرأ لا تسمع قراءته من كثرة البكاء، وبين الأوزاعي الذي كان لا يبكي أمام الناس، فإذا خلا بنفسه بكى حتى يَرثِِي له الجيران؟
الجواب
هذا ثابت في الصحيح من حديث عائشة: {كان أبو بكر رجلاً أسيفاً -وفي لفظ: حزيناً، وفي لفظ: رقيقاً-} وورد في كتاب الزهد للإمام أحمد بسند جيد: [[أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه دخل مزرعة رجل من الأنصار فرأى طائراً يطير من شجرة إلى شجرة، وهو خليفة، فبكى حتى جلس، فقال له الصحابة: ما لك يا خليفة رسول الله؟ قال: أبكي من هذا الطائر، يرد الماء، ويأكل الشجر، ثم يموت، فلا حساب ولا عذاب، ثم قال: يا ليتني كنت طائراً!]] فبكى الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا معلوم.
وفي مسند الإمام أحمد -وأول مسند فيه أبو بكر - في الصفحات: الأولى، والثالثة، والرابعة: أنه وقف على المنبر فبكى، ثم رفع رأسه وقال: [[أيها الناس! وقف صلى الله عليه وسلم موقفي هذا، ثم بكى ونكس رأسه، ثم رفع رأسه، ثم قال: أيها الناس! نسأل الله العفو والعافية]] فعُلم أن أبا بكر لا يمتلك عينيه رضي الله عنه، طبيعته هكذا، وإيمانه، واتصاله بالله جعله لا يملك عينيه أبداً، بل ربما كان في حياته يقولون: [[إذا ذكر صلى الله عليه وسلم دمعت عيناه على لحيته رضي الله عنه وأرضاه]].
وأما الأوزاعي فأورد ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة الأوزاعي، وأورد الذهبي، صاحب سير أعلام النبلاء: أنه كان لا يبكي أمام الناس، وإذا خلا أغلق على نفسه بابه وبكى طويلاً حتى يَرثِي له جيرانه، من خشية الله عز وجل.
ويوفق بينهم أن الأوزاعي استطاع أن يملك شعوره وجوارحه, وأن يملك عواطفه فاستطاع ألا يبكي، أما أبو بكر فما استطاع، يقول المتنبي:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكَى
فهذا استطاع، وذاك لم يستطع، فرضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً.(195/22)
حكم قضاء الوتر بين أذان الفجر والإقامة
السؤال
هل يقضي الوتر بين أذان الفجر والإقامة؟
الجواب
هذه المسألة فاتتنا، وقد تعرض لها ابن حجر، هل يقضى الوتر بين أذان الفجر وبين الإقامة؟
ورد في حديث عند محمد بن نصر المروزي أنه صلى الله عليه وسلم قال: {إذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بركعة} وهو في الصحيح من حديث ابن عمر، قال: {وقف رجلٌ يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! صلاة الليل؟ قال: مَثْنَى مَثْنَى، فإذا خشيت الفجر فأوتر بركعة} فقال: خشيت الفجر، أي: أنه لا صلاة وتر بعد الفجر.
لكن أورد ابن حزم، صاحب المحلى: أن الصحابة أوتروا بعد الفجر.
وخلاصة المسالة: أن من فاته الوتر، وأتى الفجر فله أن يصلي ولو ركعة بعد أذان الفجر إلى الإقامة، ولا بأس بذلك، وأما أن يتخذها عادة دائماً فلا يصح هذا، والصحابة لم يفعلوه، ولا الرسول صلى الله عليه وسلم.(195/23)
من الأسباب المعينة على قيام الليل
السؤال
هل التخفيف في وجبة العشاء من الأسباب التي تعين على قيام الليل؟
الجواب
وهذا الكلام الذي أورده الأخ الكريم أورده الغزالي في إحياء علوم الدين يقول: إن من الأسباب التي تعين على قيام الليل: أن يخفف الإنسان عشاءه.(195/24)
حكم قضاء النافلة
السؤال
من نسي النافلة، ثم ذكرها، ماذا عليه؟
الجواب
إذا كان في الليل الثاني فله أن يقضيها، ولو ذكرها بعد أيام؛ لأن هذا من باب قضاء النوافل، والنوافل تقضى ولو بعد أيام.(195/25)
حكم صلاة الوتر بسلام واحد
السؤال
هل يصلي الوتر بسلام واحد؟
الجواب
هذا هو الصحيح، وهذا هو الأولى والأغلب؛ لكن المسألة التي أوردتُها قبل قليل فهي لبيان الجواز، فمَن صلاها بسلام واحد فجائز؛ لحديث أُبَي الذي أورده في سنن النسائي أنه صلاها صلى الله عليه وسلم بسلام واحد، ولكنه كان غالباً يصليها بفاصل، وما هذا إلا لأبين الجواز من الأفضل، ولكن الأفضل أن يفصل مثنى مثنى، أي: بسلام.(195/26)
من لا يستطيع قيام الليل؟
بقيت مسألة لا بد من التنبيه عليها، وهي: أن كثيراً من الناس لظروفهم ولأعمالهم ولمشاغلهم، وما عندهم من الأسر لا يستطيعون أن يداوموا على قيام الليل، فما هو الذي ينوب عن قيام الليل؟ وكثير من الناس ليس عندهم مال ينفقونه في سبيل الله، ولا عندهم طائل في المال ولا في الدخل، فماذا يفعلون؟ وكثير من الناس كذلك لا يستطيعون أن يجاهدوا في سبيل الله، فماذا يفعلون؟
وكل هذه الأسئلة يجيب عنها سؤال معاذ رضي الله عنه وأرضاه، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَن أعياه الليل أن يكابده، والنهار أن يصومه، والمال أن ينفقه، والعدو أن يجاهده، فعليه بذكر الله عزوجل} فأدلكم وأدل نفسي على أكبر وأفضل وأيسر وأسهل عمل في الإسلام يعدل القيام والصيام والنفقة والجهاد، ويعدل كل نافلة في الإسلام بعد الفرائض: عليكم بذكر الله، معنى ذلك: أنك تذكر الله في بيتك ومسجدك وطريقك وسيارتك؛ حتى تصبح عادة، ولذلك ورد عنه صلى الله عليه وسلم عند الترمذي، كما أورده ابن حجر في بلوغ المرام في باب الذكر؛ يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: {أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه} فكلما ذكر الله عز وجل، وكلما حرك العبد شفتيه كلما كان قريباً من الله، فينوب عن قيام الليل والصدقة والأنفاق وعن كثير من البذل.
وعند ابن تيمية في المجلد العاشر رسالة من سائل اسمه أبو القاسم المغربي، بسؤال مشهور؛ قال فيه: دلني على أفضل عمل بعد الفرائض؟ قال: عليك بذكر الله.
فأفضل عملٍ بالإجماع بين أهل العلم هو: ذكر الله عز وجل.
فعلى المسلم أن يعود نفسه على التسبيح، لأنه قد يسبح في المجلس الواحد أو في دقائق معدودة ما يعادل أجر نفقة كثيرة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: [[لأن أقول: سبحان الله! أحب إليَّ من أن أنفق درهماً في سبيل الله]].
وعند الترمذي بسند حسن؛ قال صلى الله عليه وسلم: {من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غُرِسَت له نخلة في الجنة}.
فعلى الإنسان أن يستعين بالله عز وجل، وأن يكثر من الذكر والدعاء لتنوب عن هذه الأمور، ثم إن تيسر له القيام والصيام والنافلة والجهاد والإنفاق فعليه بذلك، والله الميسر.(195/27)
أفضل الذكر
السؤال
ما هو أفضل الذكر؟
الجواب
أفضل كلمة أتى بها صلى الله عليه وسلم بعد القرآن وهي من القرآن: لا إله إلا الله؛ فليس في الإسلام أفضل منها، وكل الكلمات تضم شفتيك بها: التسبيح والتكبير والتحميد والاستغفار والحوقلة، أما لا إله إلا الله فالإنسان لا يستطيع أن يضم شفتيه فيها، ومن أراد أن يجرب فليجرب إذا انتهت صلاة العشاء مائة مرة ليكتب الله له مائة حسنة، ويمحو عنه مائة سيئة، فتكون له عدل عشر رقاب، وتكون له حرزاً يومه ذلك حتى يمسي، كما في حديث أبي هريرة عند البخاري.(195/28)
حكم الذكر مع انشغال القلب
السؤال
بعض الناس يذكر الله عز وجل وقلبه مشغول، فلا يذكر إلا بلسانه.
الجواب
الذكر على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: أن تذكر الله بقلبك وبلسانك.
والمرتبة الثانية: أن تذكر الله بقلبك دون لسانك.
والمرتبة الثالثة: أن تذكر الله بلسانك دون قلبك.
وكل هذه مأجور ومشكور فيها، وثوابك حاصل لكن على درجات، أفضلها: الدرجة الأولى، مهما حركت شفتيك فالله معك، ومهما تلفظت فالملائكة تسجل ما قلت، سواءً أحضر قلبك أم غاب، فعليك بالاشتغال بذكر الله عز وجل: {سبق المفردون: قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات} {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فاذكروا الله يذكركم.(195/29)
حكم حديث: لا تصلوا ثلاثا، لا تشبهوا
السؤال
ما حال حديث: {لا تصلوا ثلاثاً، لا تشبِّهوا بها صلاة المغرب}؟
الجواب
هذا الحديث وارد، يقول: {لا تصلوا ثلاثاً، لا تشبِّهوا بها صلاة المغرب} وهذا لا يحضرني سنده إلى الآن، فأنا أبحث عنه، ومن عنده سنده فليفدنا بهذا الحكم على هذا الحديث.(195/30)
حكم صلاة الوتر بعد جمع التقديم
السؤال
هل يُصلِّي المسافر الوتر بعد العشاء إذا جمعها مع المغرب؟
الجواب
إذا جمعت العشاء والمغرب جمع تقديم فلك أن تصليها، فلو صليتها مع العشاء بعد صلاة العشاء لصح هذا، لكن الأفضل أن تجعله قبل نومك، ولكن لو صليته مباشرة بعد العشاء لصح الوتر، فهو وتر الليلة، والليلة تبدأ من غروب الشمس إلى بداية الفجر، بلا شك.
وفي ختام هذه الجلسة نتوجه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يتجاوز عنا وعنكم سيئها.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(195/31)
سهام الليل
الأمة اليوم تعيش في ذل وهوان، ولا يمكن أن تنتصر إلا بقربها من الله، وبدعائها إياه.
والدعاء له آداب، وله أوقات هو فيها أرجى من غيرها، وقد أتقن السلف رحمهم الله استخدام هذا السلاح لينصروا به دين الله عز وجل، وما ذلك إلا لأنهم أخذوا بأسبابه، وعرفوا أوقات إجابته، وتجنبوا موانع الاستجابة.(196/1)
وقفات للسائلين مع رب العالمين
إن الحمد لله، نحمده ونستيعنه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عنوان هذا الدرس: (سهام الليل)
ولليل سهام لا يجيد إطلاقها إلا الموحدون، تطْلَق بأوتار العبادة، وبقسيِّ الدموع في السحر إلى الله الواحد الأحد، فيجيب من شاء متى شاء إذا شاء، {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].
هذه هي ليلة الأحد مساء السبت: 14/رجب/1412هجرية.
وحديثنا من كلام الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنني أسأل الله عز وجل في هذه الساعة المباركة أن يبلغ رسوله منا أزكى السلام وأشرف التحية.
بلغ السهى بكمالهِ
زان الورى بجمالهِ
صلُّوا عليه وآلهِ
اللهم صلِّ وسلم عليه صلاةً وسلاماً دائمَين كريْمَين مباركَين ما دام الليل والنهار، وما فاحت الأزهار، وما تدفقت الأنهار، وما صاحت على الأيك الأطيار.
صلوا على المصطفى ما اهتز تيارُ وما تلألأ في الآفاق أنوارُ
صلوا عليه وزيدوا في صلاتكم فنحن في شرعه الميمون أنصارُ
والصلاة عليه - عليه الصلاة والسلام - حق له جزاء ما قدم للأمة، وما أنقذنا به من متاهة الجهل، وما أخرجنا به من الظلمات إلى النور؛ فإن من حقوقه الثابتة علينا - عليه الصلاة والسلام - أن نكثر من الصلاة والسلام عليه دائماً وأبداً.
صلاةٌُ والدموع بها تُهَلُّ وتسليم أرتله أجلُّ
فيا أخيار صاحبكم عظيمٌ ومعصوم عليه اليوم صلُّوا
لكنها صلاة وسلام على منهج أهل السنة والجماعة، لا على منهج أهل البدع الذين جعلوا الصلاة والسلام عليه رقصاً وغناءً وتطبيلاً، بل صلاة بوقار واتباع، وتسليم بحب وميل إليه عليه الصلاة والسلام.(196/2)
لفتة مع دعاء أبي بن كعب
جاء عند الترمذي من حديث أبي بن كعب قال: قلت: {يا رسول الله! كم أجعل لك من صلاتي؟ -أي: من دعائي- قال: ما شئتَ، قال: أجعل لك الثلث؟ قال: ما شئتَ وإن زدتَ فأحسن، قال: النصفَ؟ قال: ما شئتَ وإن زدتَ فأحسن، قال: الثلثين؟ قال: ما شئتَ وإن زدتَ فأحسن، قال: أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذاً يُغْفَر ذنبُك، وتُكْفَى همك}.
حديث صحيح.
ولسيرة أبي بن كعب طعم في قلوب الموحدين، وهو سيد القراء، وكان عمر يهابه كثيراً، وكان إذا تنازع القراء في عهد عمر عادوا إلى أبي، بل ذكر أهل الحديث والفقه أن الرسول عليه الصلاة والسلام تجاوز آية وهو يصلي بالناس، فالتفت إلى الناس بعد الصلاة فقالوا: يا رسول الله! نُسِخَت الآية، أم نسيتَ؟ قال: {يا أبا المنذر! أكما يقولون؟}؛ لأنه مرجعية ثابتة في علم القراءة، فهو رئيس قسم القراء في عهده عليه الصلاة والسلام.
وقد مرض بالحُمَّى ثلاثين سنة، حتى كُفِّرَت سيئاته -إن شاء الله- وخطاياه.
استقبله عليه الصلاة والسلام فقال له: {أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فضم -صلى الله عليه وسلم- كفه وضرب في صدره وقال: لِيَهْنَكَ العلم أبا المنذر} أي: افرح واغتبط بهذا العلم الصافي، النَّمِير الثابت، العميق الأصيل.
وجاء عند مسلم: {أن سورة البينة لما نزلت على المعصوم عليه الصلاة والسلام أمر الله جبريل أن يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقرأها على أبي بن كعب، فقام عليه الصلاة والسلام وذهب إلى أبي في بيته، وقال: إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة.
قال: أوسَمَّاني في الملأ الأعلى؟ -أي: هل ذكرني عند الملائكة باسمي أبي بن كعب؟ - قال: نعم سَمَّاك} فأجْهشَ بالبكاء.
سلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عن أبي بن كعب، وإنما هي لفتة في الطريق، والمقصود: سهام الليل.
وأنتم حملة الأسهم، وأنتم المستضعفون، ولذلك أحببناكم في درس المستضعفين.
اللهم إن بني إسرائيل عصوك يوم السبت وليلة السبت فمسختهم قردة وخنازير، وقد أطعناك واجتمعنا في مساء السبت فاجعلنا مرحومين بررة مقبولين.(196/3)
الدعاء في جوف الليل
ينادي الله عز وجل المتحابين يوم العرض الأكبر كما في صحيح مسلم فيقول: {أين المتحابون في جلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي} نسبي بيني وبينكم هذا الحب وهذا المسجد، وقصة الحب معكم انطلقت من قبل خمس سنوات، وابتدأت من مسجد أبي بكر الصديق، فلنا من الصديق نسب، ولنا من مساء هذا اليوم نسب، ولنا مما يتلى هنا -قال الله وقال رسوله- نسب.
ولو أنه نور فريد عذرته ولكنه نور وثانٍ وثالثُ
فعسى الله أن يجمع بيننا وبينكم بالنسب الخالد في مقعد صدق عند مليك مقتدر {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
قال ابن القيم مخاطباً أمثالَكم؛ لأنه كان عنده بررة في القرن السابع من أمثالكم، وكل قرن يفخر ببررته، وأنتم من بررة وصفوة هذا القرن، قال في أحبابه:
وكنت إذا ما اشتد بي الشوق والجوى وكادت عُرى الصبر الجميل تَفَصَّمُ
أعلِّل نفسي بالتلاقي وقربِه وأوهِمُها لكنها تتوهمُ
إلى آخر ما قال.
فيا أيها الأحباب: أسأل الله أن يزيد هذا الحب، وأن ينميه ويعمقه وأن يبارك فيه، وأن ينفعنا به وإياكم، فإنني ما اخترتُ هذا إلا لأنكم أنتم الذين تملكون هذا السلاح، وهو سلاح فتاك لكنه معطل، وهو قوة كبرى -دعاء الليل- وهو يوجد عندكم ولا يوجد عند غيركم؛ فإن الكيانات قد تملك صواريخ أسكود، والكيماوي، والطائرات، والمدمرات، والزواحف؛ ولكنها لا تملك هذا السلاح المعطل الذي لا يوجد إلا عندكم، لأنكم أنتم صفوة المجتمعات، وإذا صفَّى المجتمع أصحابه وأخياره ومفكريه وطلبة العلم كنتم أنتم الصفوة المثمرة النافعة التي تملك سهام الليل.
لماذا الليل؟
لأن الليل له طعم خاص، وله أثر في العبادة، فهو:
أولاً: أبعد عن الرياء والسمعة.
ثانياً: أهدأ للنفس.
ثالثاً: يكون الإنسان به أقرب من رب العالمين.
ولقد صور الشعراء الليل مع الله عز وجل بصور، ومنهم: ابن القيم، يمدح أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام فيقول فيهم:
بالليل رهبان وعند لقائهم لعدوهم من أشجع الأبطال
وقال آخر في أصحاب الرسول - عليه الصلاة والسلام -:
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراهُ
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناهُ
ولن تعود لنا أفغانستان سليمة ولا الأندلس ولا فلسطين إلا إذا قمنا الثلث الأخير، ولن ينتشر هذا الخير، ولن تعود الأمة إلى التوحيد، إلا إذا جلسنا جلسة راضية في الثلث الأخير مع الله.
قلتُ لليل هل بجوفك سرٌ عامرٌ بالحديث والأسرارِ
قال لم ألقَ في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحارِ(196/4)
الوزير ابن بقية يقطع الله يده بدعوة
دخل أحد الصالحين على الوزير ابن بقية -وقيل: غيره من الوزراء- فمَدَّ ابنُ بقية يدَه فضرب بها هذا الرجل الصالح والأيادي قد ترسل على الخلق لتبطشهم إن لم تقيد بتقوى من الله فقال له الصالح: لأرُدَّنَّ عليك بسهام الليل، قال: اذهب أنت وسهامك.
فاشتكى إلى الله، وجلس بعدها بِلَيْلة في السحر يرفع شكواه إلى الواحد الأحد.
قيل لـ علي بن أبي طالب: كم بين التراب والعرش؟ وظن السائل أن علياً سوف يعد له بالكيلومترات أو بالأميال، قال: [[بينهما دعوة مستجابة]].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين}.
أما هذا الرجل الصالح الذي لطمه الوزير العباسي، الذي جعل لطمته لأحد المستضعفين والفقراء وليس وراءه هيئة تطالب بحقوقه؛ لكن معه الله جلس في السحر يدعو ويشكو ويبكي ويقول: يا رب! لطمني والله يعرف أنه لطمه، والله سوف يقتص له، لكن أراد هذا الرجل الصالح أن يكون النصف والعدل في الدنيا.
قال: اللهم كما لطمني بيده، اللهم اقطعها في الدنيا.
فاستولى الخليفة القاهر على الخلافة، وأتى بالوزير فقطع يده، وعلقها بباب الطاق عند مدخل بغداد، ومرَّ هذا الفقير ورأى اليد مقطوعة؛ لأنه اشتكى في الثلث الأخير من الليل.
جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة، قال: {ينزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داعٍ فأجيبه؟}.
قال المفسرون -وقد ذكره ابن كثير وغيره- في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن يعقوب حين قال لأبنائه: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف:98] قالوا: لماذا لا يستغفر لهم وهم جلوس عنده؟ فقالوا: يريد أن يتحرى بهم السحر، أي: أراد أن يلتقي مع ربه في السحر، فقال: أنظروني قليلاً حتى يأتي السحر، فسوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم.
ومدرسة المساكين والفقراء لا يعشقها إلا رواد الحق، ولا يحبها إلا أحفاد محمد عليه الصلاة والسلام، فهم يأتون من كل حدب وصوب لهذا الدرس ولأمثاله، ولهذه المحاضرة ولأمثالها، ويحشدون ويؤيدون السواد المؤمن، ويأتون ويباركون المسيرة الخالدة الموجهة التي بنيت على تقوى من الله ورضوان، فهم أهل الثلث الأخير من الليل، وهم أهل السلاح الفتاك الذي هو سهام الليل.
وبيننا وبينكم وصية نجعلها سراً ولا تخبروا بها أحداً من الناس، وكلما ذكرت لكم سراً من الأسرار في درس السبت ذهبت إلى الناس فوجدت هذا السر قد انتشر.
هذا السر: أن ندعوَ لكم وتدعو لنا، لا نريد منكم شيئاً ولا تريدون منا شيئاً، فليس بيننا شركة ولا مؤسسة، ولا مقاولات ولا بنايات ولا عمارات ولا فِلَل، بيننا أننا جمعية كبرى إمامها محمد عليه الصلاة والسلام، وأعضاؤها كل خيِّر في الأرض، وأنتم من روادها؛ ولكن بيننا حبل متين، وهو الدعاء في ظهر الغيب.(196/5)
لا يأتي النصر إلا بالدعاء
تصوروا لو أن هذا الجمع وأمثاله وأضعافه وآلاف أضعافه في العالم الإسلامي يقومون قبل السحر بدقائق وبلحظات، فيرفعون الأكف، وفي أدبار الصلوات وفي السجود، ثم يدعون بالنصر لأهل الإسلام وعلمائه ودعاته، ويدعون بالمحق والسحق والهزيمة والخذلان لأعداء الله.
فما النتيجة؟!!
قدِّر أن واحداً قُبِلَتْ دعوتُه! أليس فينا رجل رشيد؟! أما في هذا الجمع والوجوه المكرمة الموقرة رجل يعلم الله أنه صادق؟! لماذا؟ لأن الولاية لا زالت لله، ولله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أولياء من عباده، والولاية ليست حكراً على قسم السنة في أصول الدين، ولا قسم العقيدة في الشريعة، ولا القضاء، ولا العلم، ولا الفُتيا، وإنما هي منثورة مبذولة من الواحد الأحد فهناك الولي في بقالةٍ، أو بنشرٍ، أو مؤسسةٍ، أو عيادةٍ، أو مستشفىً، أو وزارةٍ، أو دائرةٍ، أو مدرسة؛ لأن الله ينثر المناقب كما ينثر المثالب.
أيضاً مما يُجَمِّل هذا المجلس: أنه مجلس لا يرتاده إلا من يريد الإسلام لذاته، والله يأمر رسوله عليه الصلاة والسلام في لفتة من لفتات القرآن أن يأتي إلى الفقراء، وأن يجلس مع المساكين، وأنا أعلم أن بعض من يأتي هم من الأغنياء والأثرياء، ولكن هكذا مسيرة المساكين؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو إمام المستضعفين؛ لأنه حررهم؛ ولذلك أحبوه، وعشقوا سيرته، وقدموا جماجمهم في نصرة مبادئهم في أحد وفي بدر والقادسية واليرموك {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
إن مجالسَ المستضعفين هي: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36].
ولباسَهم: التقوى {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26].
وهوايتَهم: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52].
وشغلَهم الشاغل: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20].
وسَمَرَهم في نادٍ ليلِيٍّ كُتِبَ عليه: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16].
فيا خيمتَي ليلى بعيني سُراكُما ولا ليلَ يُعطينا الودادَ وأنجما(196/6)
قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم
معذرة! قبل أن أشرع في الموضوع، كانت آخر مقطوعة: وقفةُ إجلال لمعلم الجيل، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وهي بنت الساعة، والمخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام:
المعاني إليك فرضاً ونفلا والتحيات في معاليك تُجْلى
وشباب هم المحبون أضحوا فيك يا أكرم المحبين قَتْلَى
لِمَ قتل الشباب في أفغانستان؟ وخرجت مسيرة مليون شاب في الجزائر يطالبون بحكم الله؟ ولِمَ يتدفق الشباب في فلسطين يقدمون صدورهم لبنادق الصهاينة؟ كل هذا لحب الله عز وجل وجل ولحب محمد صلى الله عليه وسلم.
وشبابٌ هم المحبون أضحوا فيك يا أكرم المحبين قَتْلَى
أنتَ أوقدتَ في القلوب مناراً فأتتك القلوبُ بالحب عَجْلَى
شَهِدَتْ صدقَك الشعوبُ وصلَّت أدمعُ العاشقين والوصلُ يُتْلَى
واستفاقَ الزمان أحسن ما كا ن ورؤياه بالفضائل حُبْلَى
يَعْرُبِيَّاتُنا بغيرك زيفٌ والهوى في سواك أصبح جهْلا
يعربياتنا: العروبة بغير محمد صلى الله عليه وسلم في الوحل.
والدماء الدماء سالت لتروي في ثراك الميمون سفحاً وسهلا
أنشد الفجر ثم غنى سروراً والعصافير في حقولك جذلى
وهشيم البستان يخضر رياً وعيون الوادي من الهجر نجلا
سر بنا موكباً من الموت إنا حمزة كلنا وسيفك أعلى
اسقنا من بلال صوت يقين كلما أذن الوفا فيه صلى
وارتجل خطبة الشهادة فينا ما عشقنا التراب بعدك كَلاَّ
بك نلوي أعناق كل عنيدٍِ ليرى الحق في الوجود وإِلاَّ
هل وعى الليل سرَّنا هل رآنا هل دعا غيرنا مدى الدهر خِلاَّ
هل لهذا التاريخ كفء سوانا هل على غير نأينا يتسلى
اللهم صلِّ وسلم على محمد.(196/7)
إجابة الله للدعاء
سهام الليل تبدأ من لحظة الحرج، ولحظة الحرج في حياة المؤمن تسمى: الساعة الحمراء، وهي- كما يقول بعض الكتبة - هي الساعة التي سحقت الشيوعية في العالم؛ لأن الله يقول متحدياً الصهاينة والرأسماليين والماركسيين بأصنافهم، والوثنيين والصابئة والمجوس: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] يقول: بيني وبينكم إجابة المضطر في الساعة الحمراء، فمن يجيب المضطر هو الذي يستحق الألوهية، أما غيره فليس له علاقة بالألوهية.
فلما قالها سُبحَانَهُ وَتَعَالى انهارت كل القيم والكيانات، إلا قيمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وكيان (لا إله إلا الله).
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]: واختيار القرآن عجيب، ولفظ المضطر أصلها: المضترر، فأدغمت الراء وقلبت التاء طاءً لأجل الضاد (مربوش) والكلمة لَمَّا ارْتُبِشَتْ اندمِجت فأصبحت مضطراً، كما قال سيد قطب في كلمة (ضنكا) في قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] قال: اختيار الضاد والكاف لصعوبة المعيشة التي يعيشها الإنسان، فكأن معيشته كإخراجه للحروف الثقيلة عليه فهي ضنك، حتى إخراجك لضنكا صعب.
فالله يقول لهذا المخلوق: مَن الذي يجيبك في وقت الاضطرار؟ أليس هو الله؟ أما تذكرتَه؟ {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].
وهناك قصة ذكرها ابن القيم وابن عساكر، وقد كررتها كثيراً، وهي قصة الرجل الصالح صاحب الحمار، الذي أرسل الله له ملكاً نَصَرَهُ وقَتَلَ المجرمَ الذي أراد اغتياله؛ لأن الرجل الصالح يقول: يا من يجيب المضطر إذا دعاه! يا من يجيب المضطر إذا دعاه! يا من يجيب المضطر إذا دعاه!(196/8)
قرب الله من عباده
إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قريب، يقول تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] وفي الآية لفتة بلاغية، وهي: أن الله لم يقل: وإذا سألك عبادي عني فقل لهم: إني قريب.
لا.
بل قال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:86]؛ لأن القرب وسرعة المبادرة للإجابة تقتضي الاختصار في الكلام، فقال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186].
ركب الصحابة مطاياهم، واستقلوا رواحلهم، وهَمْلَجَت بهم في روابي المدينة، فأخذوا يقولون: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والحمد لله، وسبحان الله! فجمعهم عليه الصلاة والسلام وقال: {أرْبِعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته}.
انظر إلى الوصف! وما أحسن هذا التوحيد المبسط الذي يعلم به صلى الله عليه وسلم الأعراب وأهل البادية! يقول: هو قريب، فادعوه.
قال أحد الصحابة: {يا رسول الله! أربنا بعيد فنناديه؟ أم قريب فنناجيه؟ فسكت عليه الصلاة والسلام -لأنه لم يكن يدري- فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]}.
والله يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] وخفية: من الإخفاء، أي: أن تخفي دعاءك.
قالوا عن زكريا -عليه السلام-: لما أراد أن يدعو ربه ما سمع جليسه، فقال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم:4] لقد أراد ابناً فرزقه الله ابناً.
قالوا: لما قال هذه الكلمة، لم يعلم أحد من جلسائه ماذا قال؛ لكن الله علم ووصَل خبرُه إلى الواحد الأحد.
والله يقول عن نفسه: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] ما هو أخفى من السر؟ قال أهل التفسير: الذي هو أخفى من السر هو الذي ما فكر به الإنسان إلى الآن؛ فالله يعلم أنك بعد دقيقة سوف تفكر في أمر، فيعلم به قبل أن تعلم أنتَ به.
سبحان الله رب العرش العظيم!
وذكر الله أنبياءه، وأن كل واحد منهم دعاه في أزمة؛ فجلى الله أزمته، وكشف ضره، وأزال كربته.
فَذَكر عن نوح أنه قال: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] فنصره الله ونجاه.
ودعا موسى وكان أخوه هارون يُؤَمِّنُ بجانبه، ولم يُجابا إلا بعد أربعين سنة، قام موسى يقول كما في القرآن الكريم: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يونس:88 - 89] قالوا: إنما ذَكَر المثنى رغم أن الداعي واحد لأن هارون كان كلما قال موسى: ربنا، قال: آمين، فقال الله: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:88] ثم قال هناك: {فَاسْتَقِيمَا} [يونس:89] قال أهل العلم: إنما أمرهم بالاستقامة لتجاب الدعوة، وقد أجيبت وانسحق فرعون وبقيت مبادئ موسى عليه السلام، وحُمِلَت في شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الدعاء هو العبادة}.
رواه الأربعة وصححه الترمذي.
والمعنى: أن جُلَّ العبادةِ تكون في الدعاء.
وعند الحاكم: {الدعاء مخ العبادة} ولكن فيه ضعف.
وصفوة العبادة الدعاء، وإذا رأيت الرجل يكثر من الدعاء ويلح فاعلم أنه مؤمن، وعلى حسب كثرة دعائه يكثر إيمانه، وكل مخلوق يغضب إذا دعوته كثيراً وسألته وألْحَحْتَ عليه، أما الله فكلما ألححت عليه ودعوتَه وسألتَه أحبك، وزادت محبتك عنده تبارك وتعالى.
فاقرع باب الله دائماً، ولا تقل أكثرتُ؛ فإن الله أكثر، وما عنده أكثر مما عند غيره {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].
وروى ابن حبان والحاكم عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: {ليس شيءٌ أكرم على الله من الدعاء} فلا يوجد في الأرض عبادة أكرم على الله عز وجل من دعائه تبارك وتعالى، والله يُلْجِئ عباده إلى بعض الاضطرارات والمواقف الحرجة والنكبات والأزمات حتى يلتجئوا إليه - سُبحَانَهُ وَتَعَالَى - ويدعوه.(196/9)
أدب رفع اليدين في الدعاء
جاء في كتاب علماء من الجزائر، لأحد العلماء في عهد الشيخ عبد الحميد بن باديس، الذي يعتبر أستاذ الصحوة الحالية في الجزائر، الصحوة السنية الهادفة الراشدة، هذا الذي أخرج هو وتلاميذه- بإذن الله -الفرنسيين، وسحق منهم أكثر من مليون فرنسي، وقدم من الشعب أكثر من مليون شهيد، كان تلاميذ ابن باديس يحمل أحدهم القنابل والسلاح ويرمي نفسه -هذا على فتوى لبعض العلماء بجواز التضحية وجواز أن يقدم نفسه- فكان يفجر العمارة بما فيها من الفرنسيين، فدوخهم هذا الشيخ تدويخاً ما سمع العالَم بمثله.
هذا العالِم كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فأتته مصيبةٌ، هُدِّدَ بالقتل من بعض الجهات التي تحارب الدعاة في الجزائر.
قال: فأمسيتُ ليلة وأنا مهموم وحزين وخائف، فلما نمتُ رأيتُ عمر بن الخطاب، فقَرَعَنِي بالدِّرَّة وقال: لِمَ تَخَفْ؟ {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36]؟ قلتُ: يا أبا حفص! ما النجاة؟ قال: عليك بهذا، ورفع كفَّيه أي: بالدعاء، وهذا ثابتٌ.
فمن أعظم ما يكون ومن أحسن ما يكون للمؤمن أن يرفع أكُفَّه دائماً ويدعو، ولا تأتيه الحرب الوهمية الخاسرة التي يُدَبِّرها الشيطان في رأسه، ويقول له: كَمْ تَدْعُو ولا تجابُ؟ لا.
بل ادْعُ وحاول أن تدعو دائماً، ولا تقل: لَمْ يُسْتَجَبْ لي؛ فسوف أخبرك عن سر عدم الاستجابة لنا في مرحلة من مراحل التاريخ عشناها؛ والسر هو: أسبابٌ نحن فعلناها، والله المستعان.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام عند النسائي وابن حبان: {الدعاء بين الأذان والإقامة لا يُرد}.
فأنت بين عبادة وعبادة، وبين ندائين، فحاول أن تدعو الله كثيراً.
واسمع إلى هذا الحديث الصحيح الذي رواه الأربعة إلا النسائي، وصححه الحاكم، قال عليه الصلاة والسلام: {إن ربكم حييٌّ كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صِفْراً} فنثبت لله حياءً يليق بجلاله، لا نكيفه ولا نمثله ولا نشبهه ولا نعطله؛ لكنك إذا رفعت يديك يستحي الله منك أن يردها صِفْراً، بل يردها مليئة.
وقد ترجم ابن كثير في البداية والنهاية لأحد العباد، قال: أصابه برد في ليلة شاتية، فقام يدعو في السحر، فرفع كفاً واحدة يدعو، ثم نام، قال: فرأى قائلاً يقول: أعطيناك هذه الليلة في يدك اليمنى وبقي ما لليد اليسرى.
أو كما قال.
فمن الأدب أن ترفع الكفين، وقد رفعها عليه الصلاة والسلام وهو أبر الناس وأكثرهم إخلاصاً وصدقاً، رفعهما من بعد الزوال إلى أن غربت الشمس في عرفة، وكلما سقط خطام أو زمام الناقة أخذ الخطام وعاد ليجمع الأخرى ويدعو ربه، وربما رفعهما حتى يُرَى بياض إبطيه صلى الله عليه وسلم.(196/10)
قرب الرعيل الأول من الله في الأسحار
قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن أوليائه: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18].
وقال: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
وإنما ذكر الأسحار؛ لأنه قليل مَن يقوم في الأسحار، وعلامة المحبة أن تغالب النوم وتقوم، وقد جاء عند الطبراني: أن الله يضحك من ثلاثة، نذكر أحدهم:
رجل كان في قافلة، سافروا ومضوا، فأضناهم السير، وباتوا في تعب شديد لا يعلمه إلا الله، فلما أقبل السحر نزلوا فناموا إلا واحداً منهم رغم الإعياء والتعب والسهر، فقام فتوضأ بالماء البارد وقام يصلي ويدعو، فقال الله لملائكته: {انظروا لعبدي هذا! ترك اللحاف الوثير، والفراش الدفِيء، وقام إلى الماء البارد يدعوني ويتملقني، أُشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة}.(196/11)
صلاة عمار في الأسحار
نام عليه الصلاة والسلام بجيش عرمرم في ذات الرقاع -كما عند أبي داود بسند صحيح- وكان الجيش هائلاً يحتاج إلى حراسة ليلية حتى لا يجتاح من الكفار، فقال صلى الله عليه وسلم: {من يحرسنا هذه الليلة؟} قال عمار بن ياسر: أنا يا رسول الله، وقال عباد بن بشر: أنا يا رسول الله، رجل من المهاجرين هو عمار، ورجل من الأنصار هو عباد بن بشر، ولكلٍّ منهم قصة في التاريخ، ولولا الإسهاب لوقفتُ وقفة إجلال مع كل رجل.
أما عمار فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: {تقتُلُك الفئةُ الباغية} وقُتِل في صفين، وقد نيَّف على الثمانين رضي الله عنه وأرضاه.
وأما عباد بن بشر فهو صاحب المواقف المشهودة، وقد قتل شهيداً في اليمامة.
فقام الاثنان في الليل؛ فقال عباد لـ عمار: أتحرس الجيش أول الليل أو آخره؟ قال عمار: أنا أول الليل وأنت آخر الليل.
فنام عباد وقام عمار، فقام يصلي ويقرأ سورة الكهف، وأتى عينٌ من الكفار وجاسوس من المشركين، فأرسل الأسهم على عمار وعمار يصلي، وخاف أن يقطع الصلاة؛ لأنه في حياة من التجليات مع الواحد الأحد، في اتصال مع الحي القيوم، يقرأ ويصلي، فأرسل السهم فوقع في جسم عمار حتى نزف الدم، فأخرجه عمار، فأرسل السهم الثاني فنزعه، فأرسل الثالث فنزعه، فلما غشيه الدم خفف الصلاة وركع وسجد وسلم وقام يسحب بجسمه ودماؤه تنزف وقال لـ عباد: قم عليك بالحراسة، والذي نفسي بيده! لولا خشية أن يُجْتاحَ الجيش لأكملت الصلاة ولما قطعتُ سورة الكهف.
فقام عباد يحرس جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
الصالحون يدعون الله عز وجل، وأقرب الطرق إليه الطريق غير المُزاحَم، أي: أنك قريب من الله متى دعوته، ولا تفرح بحصول كيان من الكيانات لك، أو بشفاعتك، أو بواسطتك، ولكن افرح لأنك قريب من الله.(196/12)
العلاء بن الحضرمي مستجاب الدعوة
خرج الصحابة مع أبي هريرة وقائدهم العلاء بن الحضرمي، أحد الأبطال من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فضاعوا في صحراء الدهناء، وقيل: في الربع الخالي، وهو الأقرب ما يكون، فلما ضلوا الطريق أخذوا يدورون في مساحة من الأرض ومفازة لا يعرفون طرفها ولا أولها من آخرها، حتى انقطع الماء، فبحثوا عن الأنهار، فما وجدوا نهراً، وعن الغُدْران فما وجدوا غديراً، فأشرفوا على الهلاك، حتى قال بعض الرواة: حفر بعض الناس قبورهم ووقفوا على أطراف القبور ينتظرون الموت.
فقال أبو هريرة: [[يا علاء! إن الله عوَّدك خيراً، فقم فادعُ الله لنا]].
فقام العلاء معه سيفه وأسهمه، يبيع دمه من الله عز وجل في طاعة ما بعدها طاعة، واستقبل القبلة، وقال: [[يا حكيم يا عليم يا علي يا عظيم أغثنا]].
وما تأخرت الإجابة، وما هي إلا لحظات حتى ثارت سحابة في السماء حتى غطت الجيش، ونزل الغيث وسال، فامتلأت الغُدْران، وسَقَوا وشربوا واغتسلوا وتوضئوا.
وهذه من كرامات الأولياء التي يثبتها أهل السنة والجماعة.(196/13)
البراء بن مالك لو أقسم على الله لأبره
مرَّ البراء بن مالك على الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو أخو أنس لكنه أكبر منه، وكان فقيراً، معه ثياب ممزقة
ممزق الثوب كاسي العرض ملتهباً أنعى المخاطر في الدنيا وتنعاني
فرآه صلى الله عليه وسلم وإذا الغبار يفوح من جُمَّتِه، غبار المعارك والغزوات، وغبار البذل، فقال صلى الله عليه وسلم: {رُبَّ أشعثَ أغبرَ ذي طِمْرَين، لو أقسم على الله لأبرَّه، منهم: البراء بن مالك}.
وفي الحديث تجانس بلاغي بديع؛ (رُبَّ) و (لأبرَّه) و (البراء) وهذا تجانس بديع لا يجيده إلا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: {لو أقسم على الله لأبرَّه} فكان البراء يقسم على الله، أي: أنه بلغ من قوة إيمانه أنه يقسم على الله، وهذا حق أحقه الله على نفسه، لم يحقه ولم يُوْجِبْه أحد من الناس عليه، أنه يجيب دعاء الصالحين المضطرين.
فحضرت معركة تستر، وقائدها أبو موسى الأشعري، والتقى الجمعان، الجمع الإسلامي بقيادة أبي موسى أحد تلاميذ محمد صلى الله عليه وسلم، والمعسكر الكافر، وأتى الوعد الصادق.
فأتى الصحابة فقالوا: [[يا براء! نسألك بالله أن تقسم على الله أن ينصرنا هذا اليوم.
فقال: انتظروني قليلاً، فذهب فاغتسل وتطيب وتحنط ولبس أكفانه واستقبل القبلة، وقال: اللهم إني أقسم عليك أن تجعلني أول قتيل هذا اليوم، وأن تنصرنا]] فكان أول قتيل، وفُتِحَت قلعة تستر، وفتحوا بلد تستر وانتشر الإسلام.(196/14)
دعاء الرسول لسعد بن أبي وقاص
ومن أعظم من أجيبت دعوته: سعد بن أبي وقاص، خال الرسول عليه الصلاة والسلام، كان عليه الصلاة والسلام إذا جلس مع الصحابة وأقبل سعد بن أبي وقاص -وكان رِبْعَةً متيناً كثير شعر الساعدَين والصدر- قال: {هذا خالي، فلْيُرِنِي امرؤ خاله} بمعنى: أخرجوا لي أخوالكم إن كانوا مثل هذا الخال، وكأنه تحدٍّ، وكلامه صلى الله عليه وسلم صدق وحق؛ لأن له مساراً في التاريخ، فهو الذي دَكْدَكَ امبراطورية كسرى تحت قدميه.
حتى إن عمر قال: [[مَن يقود جيش القادسية؟ قالوا: رأيك يا أمير المؤمنين.
فقال: أنا]].
أي: أن الأزمة أصبحت إلى حد أن الخليفة الراشد يضطر إلى قيادة المعركة، ومعنى ذلك: تصفية ومقامرة ما بعدها مقامرة، إما أن ينتهي الإسلام أو أن تنتهي المجوسية ودين الصابئة وعباد النار، فقال عمر: [[أنا قائد المعركة]].
قال علي بن أبي طالب: [[يا أمير المؤمنين، ابقَ في المدينة فإنك إن ذهبتَ ذهب الإسلام، وكن فيئاًَ للمؤمنين إذا عادوا لك فقال عمر: أصبتَ، أصاب الله بك الخير يا أبا الحسن؛ لكن التمسوا لي قائداً]] فباتوا في الخيام وفي البيوت، ثم أقبل عبد الرحمن بن عوف -أحد العشرة- يُوَلْوِل، فقال لـ عمر: [[وجدتُه، الأسد في براثنه، قال: من هو؟ قال: سعد بن أبي وقاص.
قال: صدقتَ]].
فولاه عمر، ورغم أنه كان مريضاً في المعركة، ولكن ببركته ولشجاعته ولرأيه وإقدامه كسب المعركة على مر التاريخ، وسحق الكفار سحقاًَ ما بعده سحق.
يقول علي في معركة أحد: {ما سمعتُ الرسول صلى الله عليه وسلم يُفَدِّي أحداً إلا سعداً}.
أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: فداك أبي وأمي لأحد، لا لـ أبي بكر، ولا لـ عمر، إلا لـ سعد.
كان يعطيه صلى الله عليه وسلم الأسهم وقد كان رامياً من الدرجة الأولى، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله في بدر، فيقول: {ارمِ سعدُ فداك أبي وأمي} حتى أنه قيل: لو ضُرِبَ به في الشمال والهدف في الجنوب لأصابه بإذن الله.
دعها سماوية تجري على قدرٍ لا تفسدنها برأي منك منكوسِ
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لَمْ يصب
فكان صلى الله عليه وسلم يعطيه الأسهم ويدعو له، وكان يتطاول حتى يستبشر أين يقع السهم، فيقع في عين الكافر ويموت، فيتبسم صلى الله عليه وسلم هكذا في السير، ولكم أن تعودوا إليها.
فكان يقول: {ارمِِ سعد فداك أبي وأمي} ويلتفت صلى الله عليه وسلم ويرفع يديه ويقول: {اللهم أجب دعوته، وسدد رميته}.
فكان مجاب الدعوة.
وفي صحيح البخاري: [[أن عمر رضي الله عنه أرسله أميراً على أهل العراق -وبالخصوص أهل الكوفة وهم مشاغبون، ولو نزل عليهم ملك من السماء لاشتكوا منه- ذهبوا إلى عمر، فقال: ماذا تنقمون من سعد؟ قالوا: ما يحسن الصلاة بنا -اسمَعوا الكلام! - فأتى سعد رضي الله عنه.
فقال له عمر رضي الله عنه: يا أبا إسحاق! زعم أهل الكوفة أنك لا تحسن أن تصلي بهم.
فقال: عجباً لبني أسد! والله الذي لا إله إلا هو لقد أدخلتهم في الإسلام بسيفي هذا، ثم أصبحوا يعرفونني بالصلاة -فأراد عمر أن يسمع من الكل، وأن يعيش الحوار، وأن يعيش الشورى، وأن يسمع الشكوى على مبدأ (لا إله إلا الله) على مبدأ العدل، فكون لجنة يرأسها محمد بن مسلمة - وقال: مُرُّوا على مساجد الكوفة وأعطوني نتيجة سعد بن أبي وقاص -هذه تسمى أوراق استبيان ونتائج الاقتراع- فمروا، فوجدوهم كلهم يثنون عليه خيراً؛ إلا شيخاً كبيراً قال: إن سألتمونا عن سعد؛ فإنه لا يحكم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يمشي مع السرية.
فقام سعد وكان جالساً، وقال: اللهم إن كان قام رياءً وسمعة وكذباً عليَّ فأطل عمره وأطل فقره وعرضه للفتن.
فطال عمره حتى سقط حاجباه على عينيه، وأخذ يتعرض للفتيات والبنات في شوارع الكوفة يَغْمِّزُهُنَّ، ويقول: شيخ مفتون، أصابتني دعوة سعد]].
فـ سعد كان متفوقاً في الدعاء؛ لأنه أطاب مطعمه، ولِمَا عَلِمَ اللهُ من إخلاصه وقربه.
ويُروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: {يا سعد! أطب مطعمك تستجب دعوتك} ولكن في هذا الحديث ضعف.(196/15)
مسائل في الدعاء
وفي الدعاء مسائل نذكر بعضها:(196/16)
عدم الاستعجال بالإجابة
لاتستعجل النتائج؛ فإن خزائن الله مليئة، وليس هناك فقر، وقدرة الله نافذة، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يقول للشيء كن فيكون، فلا نستعجل النتائج.
يقول صلى الله عليه وسلم: {يستجاب للعبد ما لم يعجل يقول: دعوتُ دعوتُ فلم يستجب لي} فلا تقل ذلك، ولا تعدها بالأيام، ولا بالأشهر؛ فإن في عالم الغيب وقت محدد يجيب الله دعوتك {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
ضاع يوسف من يعقوب عليهما السلام، فبقي يبكيه أربعين سنة، فرده الله عليه، فقال يوسف في القرآن الكريم: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف:100].(196/17)
قد تكون المصلحة أن تتأخر الإجابة
وقد يكون الأصلح لنا أن تتأخر عنا الإجابة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] فإن الله يدري ويطلع على الخبايا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو البصير بعباده، فقد يكون الأصلح ألا تجاب في هذه المرحلة.
وقد يدعو الإنسان بما يضره، فتجد بعض الناس يدعو لنفسه بالمال أو بمنصب أو بوظيفة، وقد يكون سبب شقائه وتعاسته واندحاره هذا الأمر؛ فيمنعه الله، فالله أعلم بالعبد.
وقد يدخر الله الدعوة للعبد في الآخرة أحسن مما له أجيب في الدنيا، فتتمنى يوم العرض الأكبر أنك لم تُجَبْ لك دعوة في الدنيا، ولم يتقدم لك شيء من حثالة الدنيا، ولا من مال الدنيا، ويبقى لك الخير عند الله مما رأيتَ من العطايا.
وقد يصرف عنك من السوء أعظم مما سألت؛ فإنك قد تسأل إما ولداً، وإما رزقاً أو منصباً، أو باباً من الأبواب؛ فيصرف الله عنك من السوء أكثر من هذا الشيء الذي طلبته.(196/18)
النصر والرزق يكون بدعاء ضعفائنا
أيها الإخوة: لا تستهينوا بدعاء المستضعفين، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم} وبعض أهل العلم يحسن هذا الحديث، وهو من حديث أبي الدرداء، وقد ذكره ابن حجر في كتاب الجهاد في المجلد السادس، من فتح الباري، وهو من معلقات البخاري.
فليغتنم الإنسان حب هؤلاء المساكين والضعفاء؛ فإن الخير والنصر والإيمان والبركة والتأييد وحسن الخاتمة معهم، ويقترب منهم ويرجو دعاءهم، فإنهم هم أحرى بالإجابة بإذن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فإذا رأيتَ شيخاً كبيراً فحاول أن يكون صديقاً لك، وحاول أن تستعطف قلبه ليدعو لك؛ لأنه قد سبقك في الإسلام، وقد شابت لحيته.
وقد جاء بعض الآثار: {إن الله يستحي أن يعذب ذا شيبة في الإسلام}.
جاء في ترجمة يحيى بن أكثم وهو قاضي المأمون، وقد شابَ وبلغ الثمانين، ثم مات، فرئي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: لقيني ربي فعاتبني على بعض الأشياء، وقال: وعزتي وجلالي! لولا شيبتك لعذبتُك، ثم أدخلني الجنة.
وهذه القصة في سير أعلام النبلاء للذهبي؛ فعودوا إليها.
لماذا غفر له؟ لأنه قد بلغ الثمانين، ولكنه أخطأ قليلاً، فقد كان الوزير المفوض عند المأمون، وقد وجد في بعض القضايا التي تحتاج إلى حسم وإلى صرم، خاصة قضية الإمام أحمد بن حنبل، قضية أهل السنة، وتحتاج إلى دفاع، فوجد فيه قليل من التباطؤ، فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وعزتي وجلالي لولا شيبتُك لعذبتُك.
فأهل الشيب هؤلاء عليكم أن تقربوا منهم، وكذلك المستضعفون من الفقراء والمساكين، فإنهم أقرب إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وأكثر تواضعاً، وأكثر مسكنة.
وقد قرأت لـ ابن رجب في كتاب اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى حديثاً يعزوه إلى أحمد والترمذي، والله أعلم بصحته؛ لكن على رأي ابن رجب، يقول صلى الله عليه وسلم: {اللهم اجعلني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين}.
فإن المساكين هم أقرب الناس إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يزدريهم الإنسان، ولا يحاول أن يقلل من شأنهم؛ فإنهم هم الرصيد -بإذن الله- وهم القوة الهائلة.
وربما دفع الله عن البلاد الإسلامية وعن العباد فتناً وحروباً ومحناً بسبب دعاء الفقراء والمساكين والمستضعفين في الأرض؛ لأن هناك من يملك المال والجاه والمكانة والقرار، لكنه قد يلطخ أعماله، ويسد الحجب بينه وبين الله بمصائب كالجبال، فلا يقبل الله دعاءه.
نعم، قد يوجد من يعادل هؤلاء الفقراء بالمال بالملايين، أو من يملك نصف ما يملك أهل الأرض؛ ولكنه مع ذلك لا يستجيب الله كلمة منه، لأنه عدو له، أو أنه قد بارزه بالمعاصي.(196/19)
موانع الدعاء
للدعاء موانع تمنع من استجابة الله للداعي، نذكر بعضها:(196/20)
المطعم الحرام
وأقبحُ ذلك وأخبثُه الربا، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم: {إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً} والربا محرم، وهو أكثر سبب حجب به الدعاء من أن يرتفع إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
والأمة الآن تدعى إلى الربا، ويجر أبناء هذا الشعب جراً على وجوههم إلى أن يقعوا في حمأة الربا، وتُعْلَن الإعلانات على الشاشة وفي الراديو، وفي الصحف والمجلات المحلية والعالمية، إلى الاكتتاب والمساهمة، وهذا أمر خطير إن لم نقف ضده.
ولنعلنها صريحة بقوة وشجاعة وبيان، وإلا فسوف تقع الأمة في كارثة لا يشابهها في كارثتها إلا ما فعلت دولة إسرائيل أو الصهاينة في العالم، وهذا الذي يراد لهذا البلد أن يجر جراً إلى هذه المأساة العميقة.
لا أريد أن أفصل كثيراً، فقد سبق في خطبة الأمس بعنوان: (الحرب في ذكرى الحرب) شيءٌ من هذا؛ لكنني أحيلكم على فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عالم البلاد، وقد أرسلها قبل أسبوع، وطلب من الخطباء والأئمة والدعاة قراءة هذه الفتوى، وهي موجودة في هذا المسجد؛ توزع وتصور ليقوم الأئمة والأساتذة والدعاة والخطباء بقراءتها ونشرها؛ لأنها لم تُنْشر في وسائل الإعلام، ولأنها لو نُشِرَت لكان هناك تضاد، أن يُعْلَن عن الاكتتاب والاستهام في بنك الرياض، وبعدها بخمس دقائق يقولون: وقد أفتى سماحة الشيخ بكذا، فسحبوا هذه الفتوى، وأعلنوا المساهمة ودعوة الناس إلى الاكتتاب وجرهم إلى الربا وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [الأنعام:91] وقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ} [البقرة:85].
ففتوى سماحة الشيخ -أحياناً- تُخْرَج إذا كان لها مصلحة، ولكنها تُخْفَى إذا لم يكن هناك مصلحة، وتضر بمصالح الذين يريدون الربا في العالم.
فواجبنا نحن أن نقف مع سماحة الشيخ، فقد استشاط غضباً مما فُعِل ومما حَدَث، فإن ذلك استهتار بشريعة الله.
لماذا هذا؟ كيف تدعو عشرة ملايين إلى أن يرابوا ويحاربوا الله بالربا، ويذهبوا إلى بنوك تناطح السحاب وتتحدى شريعة الله، وتلغي شرع محمد صلى الله عليه وسلم؟ ما هو واجبك؟ كيف تخرج معي لصلاة الاستسقاء وأموالك في البنوك الربوية؟ تخرج تدعو الله أن ينزل المطر، وقد جاء في الحديث: {ثم ذكر الرجل أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، ومطعمه حرام وملبسه حرام، فأنى يستجاب له؟!}.
أهل الباطل إيجابيون في باطلهم ومؤثرون، وأهل الحق سلبيون إلا من رحم ربك، فأنا أعرف آلاف الملتزمين والمستقيمين بشرع الله والأخيار، لكنهم لا يَدْعُون ولا يؤثرون ولا يقفون مع الكلمة الحية الصادقة، ولا ينشرونها في الناس، ولا يدافعون عن الحق.
فأنت لا شك أنك تجلس في مجلس ومعك جيران، وتلتقي بالناس، ولك مَجامِع وزملاء، ولك أصدقاء، فأين موقفك من الدعوة إلى فتوى سماحة الشيخ؟
إذا رَفَضَت الشاشة -مثلاً- والصحف أن تُخْرِج فتوى سماحة الشيخ، فما هو البديل إذاً؟ إنه المنبر؛ إنه أنت، تقرؤها وتعلنها في الناس.
وإنما أحذر؛ لأن البلاد إذا استمرت على هذا الوضع، فسوف تنهار فيما يقارب العشر سنوات، وقد قالها الكثير من المحللين، وقد ذكر ذلك محمد أحمد الراشد في أشرطة له ألقاها في مدينة فينيكس بولاية أريزونا بـ أمريكا.
فهذه قاصمة ظهر، فانتبهوا! وقفوا ضد هذا المخطط الرهيب لجر الناس إلى المراباة وإلى الاكتتاب بحجة تنمية المال، والدعايات المغرضة، ثم تُلْغَى صلاتُنا وصيامنا ودعاؤنا، ونصبح في قطيعة مع الله ما بعدها قطيعة.(196/21)
الدعاء بإثم أو قطيعة رحم
إن بعض الناس قلبه ساخن على المسلمين وحقود؛ تجده لا ينسى الزلة ولا ينسى الغضبة ولا الهفوة التي صدرت من مسلم، حتى ولو كانت من قبل أربعين سنة، ومهما لا طفتَه لا يتلاطف، ودعاؤه: اللهم خذ فلاناً أخذ عزيز مقتدر وقد يكون من جيرانه، وهناك قصص في هذا الأمر، لكنني لا أريد أن أسهب؛ لأنها إما قد تكررت، وإما أنه لا داعي لذكرها، وهي عامية اجتماعية تدل على قلة إيمان بعض الناس وفقهه ومعرفته، يدعو على أسباب دنيوية، فتجده يبتهل إلى الله بدعاء ما دعاه نوح على أمته الكافرة.
من أجل هذا السبب: تصور أن قَتَبَ جملٍ -وهو ما يوضع على الجمل- اختلف رجل عمره يقارب السبعين هو وجاره قبل ثلاثين سنة في هذا القَتَب، فحلف جاره أنه قَتبه فأخذه، فذُكِرَ هذا الرجل الصالح، وقيل: نسأل الله أن يغفر له، فقال: كلا، أسأل الله أن يكبه في نار جهنم بقَتَب الجمل الذي حلف عليه.
انظر إلى قسوة القلب والحقد وقلة المعرفة، فمثل هذا وأمثاله يُحَذَّر منهم.
وقطيعة الرحم: هو أن تُقْطَع الأرحام بالدعاء، فإن بعض الناس يدعو على أرحامه، فيدعو على أخته لأنها تطلب الميراث، فيقول: اللهم اقطع نسلها وذريتها، فلا يستجيب الله دعوته، فليست المسألة فوضى، وهل كلما دعوتَ يُنَفَّذ لك؟ إذاً لدُمِّرَت الدنيا بدعاء الجهلة؛ لكن الله حكيم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(196/22)
الإلحاد في أسمائه سبحانه وتعالى
إن الله له أسماء حسنى، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180].
فهو سبحانه سمى بها نفسَه, ولَمْ يُسَمِّه أحدٌ من الناس، وأسماؤه توقيقية شرعية وردت في الكتاب والسنة.
ولا نوافق الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين عندما اخترع لنا أسماءً من ذاكرته ومن ذاكرة أئمة الصوفية، فلا يُوافَق عليها، مثل: (يا دهر الدهارير) يسمي الله بـ (دهر الدهارير).
ولا نوافق كذلك ابن عربي في فصوص الحكم في قوله: (يا هو يا هو يا هو)؛ لأنهم يقولون: إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [آل عمران:18] فكلمة (هُوَ) اسم مفرد عَلَم، فعندما تدعوه تقول في الليل: (يا هو يا هو يا هو يا هو) قال بعض أهل السنة: هذا نباح كلاب وليس بدعاء.
ودعا غيرُه، مثل صاحب قوت القلوب، فقال: ويدعى بـ (يا حي) فيقول: يا حي يا حي يا حي) لا بأس أن يقول: يا حي يا قيوم؛ لكن اطلب ماتريد؛ لأن الصوفية يقفون عند مقطع ويقولون: كرر الاسم.
حتى إنهم يقولون في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم: فإذا صليتَ ركعتين في الروضة، فاجلس وردِّد: (يا لطيف) عشرة آلاف مرة، تقول: (يا لطيف، يا لطيف، يا لطيف، يا لطيف، يا لطيف) فماذا بعد (يا لطيف)؟!
تصور أن رجلاً يأتيك في ظلام الليل فيطرق عليك بابك وينادي: يا محمد، يا محمد، يا محمد، يا محمد، يا محمد، فتقول له: نعم! فيقول: يا محمد، فتقول: نعم.
فيقول: يا محمد، ما هذا؟!
فالله قد علمنا الذكر الشرعي الذي ندعوه به، فتقول: يا غفور اغفر لي، يا لطيف الطف بي، يا رحيم ارحمني، هذا هو المطلوب في الإسلام، وهو الدعاء الشرعي، ولا تأت بأسماء (بلدية) لم ينزل الله بها من سلطان، مثل أن تقول: (يا كائناً قبل أن يكون) أستغفر الله! هذا من دعاء العامة؛ ولكن يمكن أن تقول كما يقول بعضهم: يا مستجيباً للصوت قبل الموت، وقبل إدراك الفوت) ومن هذه التراجم، وإذا صادف حرارة من الإخلاص قد يُجاب الدعاء؛ لكن الصحيح عند أهل العلم أن يُتَوَقَّف في الدعاء، بأن تكون الأسماء شرعية نبوية أتت في الكتاب والسنة.(196/23)
الاعتداء في الدعاء
ويجب أن تدعو بدعاء شرعي ينفع، ولا تعتدِ في الدعاء.
مثال الاعتداء في الدعاء: أحد الصحابة سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض على يمين الجنة.
فقال الرجل: سمعتُ الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {ليكونن أقوام من أمتي يعتدون في الطهور وفي الدعاء} وهذا من الإسراف في الدعاء، أي: التَّقَعُّر في الدعاء.
أو مثل أن تقول -والعياذ بالله-: اللهم إني أسألك أن تجعلني خيراً من أبي بكر الصديق.
والله لن تكون خيراً منه لا أنتَ ولا أبوك ولا جدك، ولو ظللت تعبد الله ألف سنة، فهوِّن على نفسَك، فإن ساعة من أبي بكر أحسن مني ومنك ومن الكرة الأرضية في هذه الفترة.
وبعضهم ربما يعتدي ويقول: اللهم اجعلني من أنبيائك! أعوذ بالله! قد ختم الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فيجب أن تعرف ماذا تقول من لسانك لتُجاب الدعوة.(196/24)
أوقات إجابة الدعاء(196/25)
السحر وقت لإجابة الدعاء
في الثلث الأخير من الليل، إذا بقيت ساعة لصلاة الفجر أو أكثر أو أقل تقوم ولو بركعتين، وتمد يديك إلى الله تعالى وتدعو، لكن لا تدعُ لنفسك فقط، بل تدعو للمسلمين، ولعلماء المسلمين، وللمجاهدين، وللدعاة في نصرة هذا الدين.(196/26)
آخر ساعة في الجمعة
ومن أوقات الإجابة: آخر ساعة في يوم الجمعة، وقد تفنن ابن حجر - رحمه الله - فذكر في الفتح ثلاثة وأربعين قولاً في ساعة الجمعة، والصحيح: أنها من بعد العصر إلى صلاة المغرب، فتأتي قبل الغروب في بيتِك أو في المسجد وتدعو، ويكون هذا ورداً لك دائماً، تلجأ إلى الله فيه بالدعاء.(196/27)
يوم عرفة
وما رئي الشيطان أغيظ ولا أدحر ولا أصغر منه في يوم عرفة؛ لأنه المؤتمر العالمي الإسلامي الأكبر الذي بدأه محمد صلى الله عليه وسلم يوم أطلق صرخة (لا إله إلا الله) من على قرن عرفة؛ فتدعو مع الجموع.(196/28)
بين الأذان والإقامة
وهو وقتٌ للتَّنَفُّل, ولقراءة القرآن، والدعاء.
وأنا أدعو في هذه المناسبة إخواني -خاصةً الشباب- أن يبادروا إلى الأذان دائماً، فإنه يوجد عند بعضهم طبع طبعت عليه نفسُه، وهو ألا يأتي إلا مع الإقامة، وبعضهم يترك الناس حتى يشرعوا في الصلاة ثم يأتي من بيته إن المسلم يُعرَف بحرصه على الخير، ويُعرَف باندفاعه الحي إلى مواسم الخير.
فرجائي -أيها الأخيار- المبادرة وقت الأذان، فإذا سمعتَ الأذان عَطِّلْ كلَّ شغل عندك يُروى عنه -عليه الصلاة والسلام- {أنه كان يكون في مهنة أهله، فإذا سمع (الله أكبر) قالت عائشة: قام كأنَّا لا نعرفه ولا يعرفنا}.
فلمثل هذا تقطع عملك، وتقطع اتصالك، وتُقِيْمُ ضيفَك من البيت، وتقول: هيا بنا إلى بيت الله، ولا تخشَ أحداً؛ فإذا حضرت وليمة أو عزيمة وسمعتَ الأذان تطلب أنت بشجاعتك الإيمانية وبحماسك وغيرتك وأدبك؛ تطلب من الناس أن يذهبوا إلى بيت الله عز وجل مع الأذان؛ لأن هذا تحصيل إيماني في الأوقات.
تصوَّر أن ما بين الأذان والإقامة ثلث ساعة في كثير من الأوقات، فلو ضَمَمْتَ الثلث إلى الثلث في خمسة أوقات لخرج لك وقتٌ كثير تستطيع أن تقرأ فيه الجزء والجزئين، وبعض الناس يقرأ جزءاً وجزئين في هذا الوقت، أو تدعو كثيراً، أو تسبح، أو تبتهل إلى الله عز وجل.
فهذا طلب لا يفوتكم وأمثالكم من الأخيار.(196/29)
أدبار الصلوات
خرج صلى الله عليه وسلم بعد صلاة من الصلوات فلقي معاذ بن جبل -قائد العلماء إلى الجنة- فأخذ بيده صلى الله عليه وسلم وقال: {يا معاذ! إني أحبك، فلا تَدَعْ في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك} هذه رواية أبي داود، وقد ورد عند بعضهم: {اللهم أعني على شكرك وذكرك} والصحيح الأغلب: {اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك}.
قال ابن تيمية: تُقال هذه قبل السلام؛ لأن دبر الشيء منه.
وقال ابن حجر: تُقال بعد السلام، هكذا قال في الفتح.
والظاهر: أن الحق مع ابن حجر، فإن دبر الصلاة هو مابعدها -والله أعلم- فيرجح ابن حجر هذا الرأي وغيره من العلماء.
والأحوط للعبد أن يقولها قبل السلام وبعد السلام، وهي الأحسن والأَولى والأكرم والأجل.(196/30)
الأسئلة
.(196/31)
إنسان يكره الدعوة والدعاة
السؤال
ما رأيك في شخص يكره الدعوة والدعاة، ويريد تحطيمها علناً؟ هل ندعو عليه أم ماذا؟
الجواب
أولاً: ندعو الله عز وجل أن يهديه، وأن يرده إلى الدين وإلى الحق رداً جميلاً، وإن أصر فندعو الله أن يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
ولا تظنوا أنه لا يوجد هناك حَسَدَةٌ، ولا منافقون، ولا مارقون، فهذا خلاف سنة الله -عز وجل- في الأرض، فلا بد أن يوجد للحق أعداء، حتى في القرية الصغيرة القليلة العدد، لا بد أن يوجد ضدٌّ لأهل الحق؛ حتى أن ابن الوردي يقول:
ليس يخلو المرء من ضِدٍّ ولو حاول العزلة في رأس الجبل
ومن حكمة الله عز وجل أن جعل ما يسمى بقانون المدافعة، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ} [البقرة:251] وقال جل اسمه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].
فمن حكمة الله أن يجعل أنداداً وأضداداً وأعداءً للمؤمنين وللدعاة وللأخيار.
فلا تتكاثَرْ هذا، ولا يضيق صدرُك، واعرف أن هذه سنة ماضية؛ لكن العاقبة للذين اتقوا: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] ويقول سبحانه: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] ويقول سبحانه: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21].
فلا تظن أن الساحة سوف تخلو من هؤلاء؛ فعلينا أن نقف له بالدعاء في الأسحار، وفي أدبار الصلوات، من أراد تحطيم الدين والدعاة والعلماء ندعو الله عليه أن يحطمه وأن يأخذه وأن يقتله بسيفه، وأن يمزقه كل ممزق، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
ثانياً: واجبك أنت أن تكون داعية إلى الحق وإلى منهج الله عز وجل، فلا تكن سلبياً، بل تدافع وتعرض فكرتك مثلما يعرضها هو، وتبرر موقف أهل الحق، وتنافح عنهم؛ لأنك إن سكت فمعنى ذلك: أنك خذلتَ أولياء الله، وأنك رضيتَ، ومُطْعِمُ المأكولِ كالآكلِ.(196/32)
كلمة إلى زوارنا من قطر
السؤال
حضر هذا الدرس بعض التائبين والزوار من دولة قطر، فهل من كلمة لهم؟
الجواب
التحياتُ تَهامَتْ كالمطر لدُعاة الحق من أهل قطر
حياهم الله وحياكم، ومرحباً بهم.
وكلمتنا لهم: أننا نحن وإياهم بيننا -قبل أن تكون هناك مصالح دنيوية أو أمور أخرى- هناك نسب خالد أسسه محمد صلى الله عليه وسلم {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
نريد منهم ثلاث مسائل:
الأولى: أن يعتبروا أنهم في هذا الجمع أهل وأحبة وإخوة، فنزلوا على الرحب والسعة، وكل منا لهم مضيف وهم الضيوف.
الثانية: أن ينقلوا سلامنا وأشواقنا إلى حملة التوحيد والمبادئ الخالدة والدين والإسلام وأهل الاستقامة في قطر.
الثالثة: أن يكونوا دعاة إلى منهج الله عز وجل، وأن يشاركوا هذه المسيرة التي فتحها الله على المسلمين، والتي أصبحت تسير في الأرض، وأصبحت سماوية، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يحميها ويرعاها، وهي مسيرة أهل الإسلام، وأن يثبتوا أقدامهم في العلى، ولك الحمد يا رب العالمين.
وأنا أعلم أنه سوف يكون هناك عثرات وصدمات، لكن لا بد منها، فهكذا الطريق، ولو أنها سلمت من الشوك ومن الصدمات لنجى منها محمد صلى الله عليه وسلم؛ لكن اسمعوا إلى الأخبار الطيبة، ولو أنها تُلَوَّث بأجهزة الإعلام العالمية؛ لكن سوف يثبت الحق، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17].
جمهوريات في الاتحاد السوفيتي تعلن استقلالها، وإذا (70%) منها مسلمون، وإذا بعلماء الذرة يرجعون وعلى الواحد منهم اللحية السنية الموروثة عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم، وهو يصدر الذرة للعالم، وإذا بالملايين المُمَلْيَنَة يتجهون إلى المساجد، والمصاحف والأشرطة تُوَزَّع هناك بالآلاف، والرسائل تَفِد من هناك: إننا لكم إخوان، وإننا كنا وراء الأسوار الحديدية حُجِبْنا عنكم، والآن أصبحنا نتصل بكم.
وهذا فتح عظيم.
أيضاً: شمال أفريقيا تتجه هناك صحوة يقودها العلماء على الكتاب والسنة.
وقد أرسل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز شريطاً مسجلاً بصوته إلى جبهة الإنقاذ في الجزائر:
أولاً: حياها بالتحية الإسلامية.
ثانياً: سأل الله لها العون والسداد.
ثالثاً: أفتى سماحته أن مَن صَوَّت لغير جبهة الإنقاذ وضم صوتَه من الجزائريين إلى الأحزاب الكافرة من الاشتراكية والشيوعية والعلمانية وغيرها فقد ارتكب جُرْماً عظيماً، وأن على الشعب الجزائري أن يصوت لهذه الجبهة، وأن يؤيدها، وأن يحشد وراءها هذا رأي سماحة الشيخ.
وقبله أرسل العلامة الحافظ الألباني شريطاً بصوته، ووزع عشرات الآلاف في الجزائر.
فماذا نقول عن هذه المسيرة الخالدة؟
نحن لا يهمنا ما حدث أو يحدث من تعكير، ولا يهمنا تجني الإعلام العالمي ضد أهل الإيمان وضد أهل الكتاب والسنة؛ فهذا أمر معروف، وماذا تريد من رجل شهواني منافق؟
ولكن إن تعجب فعجب ما فعلوه في الجزائر! جبهة الإنقاذ المسلمة الملتزمة بالكتاب والسنة التي يقودها علماء تحصل على (188) مقعداً، وحزب التحرير الضائع الضال يحصل على (16) مقعداً، والحزب الاشتراكي يحصل على (25) مقعداً، ثم يأتي الإعلام ويقول: طعونٌ في الانتخابات -طعن الله أكبادهم من منافقين!
طعونٌ في الانتخابات؟! أنتَ الذي لا تسجد لله ولا تبكي إلا من الفرح، وتقول:
طفح السرور عليَّ حتى أنني من عظم ما قد سرني أبكاني
إنها (188) مقعداً!
مليون امرأة محجبة من الجزائر يخرجن إلى صناديق الاقتراع؛ لأنهن مضطرات أن يقدمن أسماءهن، وسبعمائة ألف شاب جزائري كأنهم من شباب المهاجرين والأنصار، يهتفون بعد صلاة الجمعة بل الجمع ويقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
ويقول الإعلام العالمي: خوفاً من الأصوليين أن يحكموا الجزائر.
أصوليون؟! أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، الذين نشروا العدل في العالم، تلاميذ عمر بن الخطاب!
هل وَجْهُ هَوارِي بُوْمَدْيَن والشاذلي وأمثالهم الذين هم من المدارس المظلمة المنتنة أجدر بالحكم؟
والديمقراطية سُلَّمٌ يصعده كل أحد إلا المسلمين.
ولما ظهرت النتائج قالوا: أُلغيت وشُطِّب عليها، وأُنْزِلَ الجيش، وكلما رأوا الصوت الإسلامي سوف يغلب استدعوا الجيش والشرطة والاستخبارات والمباحث في ضرب المتطرفين ومطاردتهم وإخراجهم من البلاد.
يا أخي! هذا الشعب عَبَّرَ عن صوته، إنه يريد الإسلام، أتدرون لماذا صَوَّت الجزائريون مع جبهة الإنقاذ المسلمة؟
أنا أخبركم بالسر، سمعتُه من أناس من جبهة الإنقاذ في الرياض، يقولون: كان الرجل منا إذا تولى البلدية في مدينة من المدن حوَّل من سيرته صحابياً في هذا القرن، يأتي هذا من جبهة الإنقاذ وهو رئيس الإقليم، فيصلي بهم الجمعة، وهو رئيس البلدية، أي: رئيس المقاطعة، ثم يأتي ويجمع التبرعات ويوزعها على الفقراء، ثم يسمع بالمريض في المستشفى فيأخذ إخوانه ويذهب إلى المريض، ثم يأتي الأعراس فيحضرها ويحولها إلى أعراس إسلامية، ثم يأتي إلى المنكوبين فيساعدهم، ثم يراجع في معاملات الفقراء في الحارات، ويدخل لهم الماء والهاتف والكهرباء، فيقول الجزائريون: مادام أن هذا الدين يأتي لنا بهولاء، فلا نريد إلا هؤلاء.
أما الطعون في الانتخابات فنحن نعرف من الذي يطعن في الانتخابات، ونعرف من الذي يتكلم في أعراض أهل الحق في كل مكان.
أيضاً: نستبشر -والحمد لله- في اليمن، حيث أن هناك مسيرة خرج فيها الشيخ/ عبد المجيد الزنداني قبل جمعتين بـ (1.
000.
000) من شباب اليمن، هذا ليس رقماً من عندي ولا من كيسي، سلوا الدعاة، وسلوا أشرطتهم، مليون من شباب اليمن خرج بهم الشيخ/ عبد المجيد الزنداني ليقولوا: نريد الكتاب والسنة، لنا مطلب واحد، نريد الكتاب والسنة، لا نريد منصباً ولا دنيا ولا غيرها.
والمفاجأة الآن: أن الشعوب الإسلامية كلها تريد الإسلام؛ لكن لم يقدِّم لها الإسلام، تريد الإسلام الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنها جربت مبادئ كل شيطان في الأرض فأُحْرِقَت وسُحِقَت؛ لكن دعوها تجرب (10) سنوات، اتركوها تُحْكَم بـ (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) حتى تروا تلاميذ أبي بكر وعمر كيف يعدلون! وكيف يرحمون! وكيف يوقرون! وكيف يقدرون!
هذه بعض اللفتات.
فالإخوة من قطر، نثني بالتحية والترحاب بهم، وأشكر الله لهم.
وبالمناسبة: أشكر المشايخ من فرع جامعة الإمام الذين حضروا هذه الليلة، وأسأل الله لهم التوفيق والهداية، ومنهم نستفيد، وأثابهم الله وإياكم جميعاً.(196/33)
كتاب الأسبوع
كتاب الأسبوع في هذا السبت: الطحاوية، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، هذا العقيدة التي تُفَضِّخ رءوس الشياطين، وهو الكتاب الموسع، وهو الدرجة الثالثة من كتب أهل السنة؛ لأن لـ أهل السنة ثلاث درجات:
المبتدئون: كتاب التوحيد.
والمتوسطون: معارج القبول للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي.
والمنتهون: الطحاوية، وهو مُحَقَّق في مجلدين، حققه شعيب الأرناؤوط.
فأنا أدلكم عليه، ليكون في مكتبة كل منكم؛ حتى تعرف ماذا يقول أهل السنة في المعتقدات، ولا تأخذ عقيدتك من الشرق ولا من الغرب، بل من أهل السنة.
أيضاً: أنبهكم دائماً على التبرع للمساجد، ولكن أظن أنكم تظنون أن هذه الدعوة مقبولة مع وقف التنفيذ، فتقولون: دعوتك مقبولة؛ لكن مع وقف التنفيذ، والمقصود: أن تتبرعوا للمساجد التي ذكرتُ أسماءها؛ لأنها تريد أن تقام بأموالكم أنتم، مثل: جامع النماص، وجامع تنومة، وجامع ثريبان، ومسجد جماعة في ابن الأسمر.(196/34)
مشاركة في بحث كيف تعالج القلق
أيضاً: هناك بحث مقترح ومقدم اسمه: (كيف تعالج القلق؟!) وقد كتب بعض المثقفين العالميين في هذا؛ لكننا نريد هذا من منظور إسلامي.
والمطلوب: الاطلاع على ما كُتِب من الكتب الشرقية والغربية والإسلامية وغيرها، وإعطاءنا التجارب وإرسالها إلينا في هذا المسجد.
والمطلوب أيضاً: القصص الواقعية، إذا كان أحدكم وقعت له قصة، أو يعرف قصة ممن أصابه الهم والغم؛ لأنه مرض هذا العصر، وأصبحت الوسوسة والخوف والقلق والاضطرابات عند كثير من الناس، فنريد أن نقدم بحثاً ويُنْشَر -بإذن الله- واسمه: (كيف تعالج القلق؟!).
أيضاً: أَلتَمِس من إخواني الدكاترة الأطباء -وقد حضر منهم فئة طيبة مباركة- أن يمدونا بتجارب من علمهم ومن خبرتهم عن هذا المرض، وكيف يُعالج.
أيضاً: أرجو من أهل الفكر والأدب والعلم أن يمدونا، وألا يبخلوا علينا؛ لأن هذا مساهمة في الخير، فسوف تقوم لجنة فتهذب هذا البحث وتنقيه وتصفيه، ثم يُكْتَب ويكون بديلاً عن بعض الكتب؛ لأنه لم يطرق هذا الموضوع إلا القليل من الكتاب المسلمين.
صحيحٌ أننا أغنياء من ناحية الكتاب والسنة -والحمد لله- لكنني أقصد بحثاً من كتب البشر ومؤلفات البشر، بمعنى: أنك تجد كتاباً لأمريكي: دع القلق وابدأ الحياة، وكتاب كان عليهم أن يشاهدوا باريس لِـ مُوْر، وكتب أخرى لِكَتَبَةٍ هنود وصينيين؛ لكن الكتاب المسلمين يريدون كتاباً وبحثاً في هذا، فهذا ما أريده.
أيضاًَ: من أراد أن يرسل من غير مدينة أبها بتجاربه حول هذا الموضوع، أو ببحثه، أو ما قرأه في مجلة أو جريدة، أو كتاب، فعليه أن يكتب على: (أبها - فرع جامعة الإمام - كلية الشريعة وأصول الدين - قسم السنة) باسمي، وستصل بإذن الله.
وسوف يراه قريباً، حتى يكون -إن شاء الله- في محاضرات، وينشر عليكم، وأعدكم -بإذن الله- إذا خرج أن يوزع عليكم مجاناً في سبيل الله عز وجل.
أيها الإخوة: هذا الدرس سوف يتوقف في إجازة الربيع، ثم نبدؤه -بإذن الله- ونعود إليه بإعلان بعد الإجازة، وإن كنا سنفارق شيئاً في أبها، فلا نفارق إلا هذه الوجوه وهذه القلوب، ولن نحس بوحشة لفرقة الجبال، ففي كل بلد جبال، ولا للتراب ففي كل بلد تراب، ولا للشجر ففي كل أرض شجر؛ لكن أنتم، وإنما يُسْتأنَس بـ أبها لوجودكم، وإنما تُحَب أبها لأنكم أنتم فيها، وكلما أتى ضيف رآكم فأحب المدينة، كما قال مجنون ليلى:
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
وكان ابن المبارك إذا ودع تلاميذه بكى وقال:
وخفف وجدي أن فرقة واحدٍ فراق حياة لا فراق مماتِ
يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم(196/35)
قضاء المسلم لوقته أيام الإجازة
ولكن أمامنا -أيها الأحباب- إجازة ربيع، وليس أمام المسلم إجازة ولا فسحة في الوقت ولا فراغ، إنما الجد المتصل والعمل المثمر لمن وفقه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا بد من مشاريع تبدؤها وتكتبها أنت حتى تستثمر الإجازة استثماراً طيباً.
فمَن يذهب إلى مكة أدعوهم إلى كثرة العبادة، وإلى الإهلال بعمرة؛ لترضي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فقد ورد في سنن الترمذي: {تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما تنفي النار خبث الحديد}.
أيضاً: أدعوهم إلى كثرة قراءة القرآن في الحرم، ومدارسة كتب أهل العلم.
أيضاً: أدعوهم إلى أن يكون عند الواحد منهم كتاب يقرؤه، وأن يكون مستأنساً بعبادة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
لَفْتَة: -ولا تَجِدُوا عليَّ- ففي بعض الأماكن تجدهم إذا أرادوا أن يذهبوا إلى العمرة من أعجل الناس، يبشر بعضُهم بعضاً، ويقول: أبشرك، ما طلعت علينا الشمس إلا وقد انتهينا من العمرة وعدنا إلى الطائف، وكأنه خرج من سجن أو من حبس، يبشر الناس، ويقول: والله ذهبتُ بالوالدة، وما مكثنا في الطواف ولا في المسعى إلا ساعتين، وقبل أن يؤذن المؤذن ونحن في مكان كذا سلمك الله؛ لأنك خرجت قبل أن يؤذن المؤذن.
وهذه العجلة -أيها الإخوة- ليست في العبادة، إنها في أمكنة أخرى، إن الأجر والمثوبة أن تبقى كثيراً، وأن تدعو كثيراً، وأن تدخل بهدوء وبعبادة، حتى أنك تجد بعض الناس يجر على نفسه في العمرة وفي الحج المشاكل والزحام حيث لا زحمة ولا مشاكل؛ لكن يأتي فتجده متحفزاً مستنفراً لقواه العضلية والجسمانية والعقلية والصوتية، حتى يدخل الزحام على نفسه ولا زحام.
وتجد بعضهم يدخل بلا فقه، فيعتمر ولا يدري ماذا قال وماذا فعل، فإذا انتهى بدأ يتصل بطلبة العلم، هل يجوز هذا أو لا يجوز؟ فالواجب أن يسير على بصيرة، وأن يقرأ الكتب المبسطة في الحج والعمرة.(196/36)
دعوة إلى الأمر بالمعروف
أيضاً: هناك شبه سواحل ريفية، وسواحل يستفيد منها بعض الناس في الربيع، كالساحل الجنوبي في الشِّقِيْق، فيقع فيه اختلاط وأمور قد تخالف الشرع، فالواجب علينا أن ندعو إلى سبيل الله عز وجل، ومن ذهب إلى هناك عليه أن يدعو بالشريط، ويدعو بلسانه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد كتب بعض الإخوة كتابات في هذا، ومنهم: أحد الإخوة من البرْك كتب رسالة في ثلاث صفحات، فأنا أشكره باسمكم جميعاً، وأشكر غَيرته، وأخبر أن الناس يجتمعون ويقع هناك اختلاط، وأن بعض الناس يخرجون بملابس ليست بملابس محتشمة، ويسبح أمام العالمين، وهذا أمر مخالف، فما هو دوركم؟
هذا في منطقة البرْك، أرسلها قبل أسبوع تقريباً، ونسيت أن أذكرها أو أقرأها عليكم، لكن هذا ما يدعو إليه، فهو يدعو إلى المشاركة في الدعوة والوعي.
أيها الإخوة: أسأل الله عز وجل أن يعيد هذا اللقاء بكم في أيام قريبة، وأن يحفظنا وإياكم، وطلبنا وهو طلبٌ مُلَبَّى فيكم: ألا تنسونا من الدعاء بظهر الغيب، فإن ثمرة هذا اللقاء (سهام الليل) هي الدعاء الذي تشرفون به، والذي هو كنز لكم، والذي هو في أيديكم، متى شئتم استخدمتموه، وكان لكم النفع العظيم والأجر العميم من الله عز وجل.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يحفظنا وإياكم، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل، وأن يتولانا، وأن يرزقنا الإخلاص والصدق، وأن يجزل لنا المثوبة، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
كما أشكر الإخوة الطلبة الذين حضروا في هذا الأسبوع، وهو أسبوع امتحانات، ولكن وصلت من بعضهم أسئلة يقولون: إنا حضرنا وشاركنا حباً في الدرس وتركنا المذاكرة، فأقول: لا تتركوا المذاكرة؛ لكن اجمعوا بين الحسنيين، بين الحضور وبين المذاكرة، ونرجو لكم النجاح من الله والتوفيق.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(196/37)
صفات أهل الكفر وأهل النفاق
النفاق عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين، والمنافقون على مدار التاريخ هم أخطر على الأمة من عدوها الظاهر.
وقد ذكر الله صفات المنافقين في كتابه الكريم، وذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علامات، فإذا وجدت في أحد من المسلمين صفة من صفاتهم كان نفاقه نفاقاً عملياً لا يخرجه من الملة غير أنه مع ذلك على خطر عظيم.(197/1)
دروس وقضايا من بداية سورة البقرة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
سبق فيما مضى أن أخذنا صفات المفلحين في كتاب الله تبارك وتعالى وقد وصفهم الله تبارك وتعالى بصفات ثم قال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] ثم في هذا الدرس يصف سُبحَانَهُ وَتَعَالى أهل الكفر وأهل النفاق، وفي أول سورة البقرة لف ونشر، واللف هو: أن يجمع القضايا ويجملها سُبحَانَهُ وَتَعَالى ثم ينشر القضايا ويتكلم عنها بالتفصيل، وانظر كيف جعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى للمؤمنين خمس آيات، وللكفار آيتين، وللمنافقين ثلاثة عشر آية، وكأن النفاق -نعوذ بالله- أعظم من الكفر.
ويقول بعض المفكرين: إن في أول سورة البقرة نسف وإبادة، ولذلك يتعرض سُبحَانَهُ وَتَعَالى للكفر وللنفاق ثم يفصل سُبحَانَهُ وَتَعَالى في بقية السورة أحوال المؤمنين، وأحوال الكفار، وأحوال المنافقين.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6 - 7] انتهى من وصف الكفار وبعدها سوف يأتي بوصف المنافقين، يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] في الآية قضايا:
القضية الأولى: كيف يخبر سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن الكفار لا ينتفعون من الموعظة، وإذا كان الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يعلم أن الكفار لا ينتفعون من الموعظة فلماذا يأمر رسوله أن يعظهم ويذكرهم؟ ولماذا يأمر رسوله أن يبلغهم وما الفائدة؟ والله يعلم أنهم لن يتعظوا ويؤمنوا ويستفيدوا من الموعظة والبلاغ، فلماذا يأمره أن يعظهم؟ ما هو السر؟
القضية الثانية: ما معنى {أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [يس:10].
القضية الثالثة: وجد من الكفار من لعنهم الرسول عليه الصلاة والسلام وآمنوا وأسلموا ودخلوا في دين الله، فكيف نجمع بينها، هذه ثلاث قضايا كبرى في الآية.(197/2)
الكفار ووجوب إنذارهم
أما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] فالله يعرف أن طائفة من الناس لن يؤمنوا أبداً، ولكن أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعظهم ليقيم الله عليهم الحجة: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15]؛ لأنه لو لم ينذرهم أتوا يوم القيامة وقالوا: ما أتانا من نذير، وقد أتاهم نذير في الدنيا ومع ذلك قالوا: ما أتانا من نذير ويحلفون بالله، وهم يكذبون وهذه شهادة باطلة لم يقبلها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
إذاً فليس لكل داعية يعلم أن المدعو لا يستجيب له أن يتوقف عن دعوته، يقول تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران:20] ويقول: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد:7] ويقول: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213] فواجب الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغ، ولا يقول: أنا أرتاح ولا أتكلم لا أدعو، قال الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:6 - 7] هذا صنف من كفار مكة منهم: أمية بن خلف وأبو جهل وأبو لهب، هؤلاء كتب الله عليهم أنهم لن يؤمنوا أبداً، والسبب يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] ولماذا زاغوا؟ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].
إذاً يقول الله للرسول عليه الصلاة والسلام: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] ولا يعني ذلك أن فيها مفهوم مخالفة: أي إذا لم تنفع الذكرى فلا تذكر {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] بل قال أهل العلم: حتى وإن لم تنفع فلابد من الذكرى؛ لأن في الكلام شيئاً مقدراً معناه: وإن لم تنفع: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] أي: وإن لم تنفع الذكرى فذكر {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} [الأعلى:10 - 11] إذاً فواجب الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ.(197/3)
معنى الإنذار والفرق بينه وبين الإشعار والبشارة
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] ما معنى الإنذار؟ يقول القرطبي: الإنذار هو: الخبر في مدة يمكن فيها النجاة، إنسان بقي عليه حتى يسقط في البئر أمتار، فتقول: قف مكانك! أمامك بئر، هذا إنذار، لكن إذا وقع إنسان في البئر فإن هذا إشعار، أما إذا وقع إنسان في البئر فلا تقل: انتبه أمامك بئر، وقد وقع فيها هذا لا يكون.
قال: الإنذار في القرآن هو: الذي يكون فيه وقت يمكن النجاة فيه؛ ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في وصف نفسه: {أنا النذير العريان} والحديث في صحيح البخاري عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أنا النذير العريان} والنذير العريان عند العرب هو: رجل يأتي قومه فيخلع ثيابه فيبقى كيوم ولدته أمه ويأتي بثوبه يطير به في الجو يعني الهلكة الهلكة، محذراً لهم بأمر عظيم.
ولذلك لما أرسل أبو سفيان أبا ضمضم الغفاري ماذا فعل؟ مزق ثيابه أمام أهل مكة وقال: اللطيمة اللطيمة! يعني أدركوا عيركم، لما قطع صلى الله عليه وسلم طريق العودة، فالنذير العريان: هو الذي يخلع ملا بسه ويبقى عرياناً، ويصيح من على جبل، يقول صلى الله عليه وسلم: أنا مثلي ومثل الناس، كالنذير العريان أتيتكم بالويل والدمار أو بالفلاح في الدنيا والآخرة.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] هل الرسول منذر فحسب أم مبشر؟ يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب:45] ويقول هناك: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد:7] فكيف نجمع بينهما، يقول: إنما أنت منذر و (إنما) معناها الحصر أي حصرنا رسالتك في الإنذار.
والجمع أن يقال: إذا تكلم الله عن إنذار الكفار حصر مهمته في الإنذار، وإذا تكلم عن البشارة سمى البشارة، وهنا لما أنكر الكفار ألوهية الله؛ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء:171] وهذا مثل إنسان يقول لك: محمد ليس بكريم! ما هو الجواب؟ إن قلت محمد كريم كان الجواب ضعيفاً لكنك تقول إنما الكريم محمد.
إنما مصعب شهاب من الله تجلت عن وجهه الظلماء
وقوله: (ءأنذرتهم) لماذا لم يقل أبشرتهم أم لم تبشرهم؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بالنذارة قبل البشارة، فهم أناس سكارى يعبدون الوثن والصنم فكيف يبشرهم؟ إنما ينذرهم ثم يبشرهم عليه الصلاة والسلام، وفي حديث تعرض له ابن تيمية لكن يقول: كما في الحديث وهو حديث ضعيف: يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أنا الضحوك القتال} وقال لكفار مكة لما دعاهم فكذبوا به وقام عقبة بن أبي معيط لعنه الله فبصق في وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال: {يا معشر قريش! والله الذي لا إله إلا هو والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح} ابن أبي معيط هذا حضر بدراً فلما رآه صلى الله عليه وسلم في الأسارى مسلسلاً في الحديد، أصبح مأسوراً مع السبعين لم يقتل في المعركة، مر به صلى الله عليه وسلم فالتفت فرآه فقال: {قم يا علي فاقتله} حتى لا يبقى في الأسرى ثم ينجو معهم قال: يا محمد! لمن الصبية؟ قال: {النار} يقول: صبيانك وأولادك لهم النار، نار جهنم، فقتل، وأتى النضر بن الحارث وهو مارد آخر فقتله صلى الله عليه وسلم، فسمعت أخته فألقت قصيدة، يقول عليه الصلاة والسلام: {لو سمعتها قبل أن أقتله ما قتلته} تقول:
أمحمداً يا خدن كل كريمة من قومه والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما مَنَّ الفتى وهو المغيظ المحنق
والنضر أكرم من أسرت إسارة وأحقهم إن كان عتق يعتق
فقال عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قتلته لكن إلى النار}.
فمعنى الآية أي: هؤلاء الذين ختم الله عليهم لا يؤمنون أبداً فلا تتعب نفسك، مع العلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بقي يدعوهم ليقيم عليهم الحجة، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] لماذا لم يقل يتقون؟ لأن التقوى متدرجة عن إيمان، وإذا ذكر الله الكفر أتى بالإيمان، وإذا ذكر الإيمان ذكر الكفر، وإذا ذكر الآيات الكونية جاء بالعقل، وإذا أتى بالأدلة النقلية، جاء بالفقه، وإذا أتى بالليل؛ أتى بالسمع قال: {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس:67] وإذا أتى بالنهار، أتى بالبصر قال: {أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:71] الليل لماذا؟ قالوا: لأن الأذن هي الحاسة القوية في الليل، هل رأيتم أحداً ينظر في الظلام، إنما يسمع ولذلك السماع في الليل بسهولة ويكون اختراقاً لحجب الظلمات، حتى في العلم الحديث أن حجب الظلمات يقوي ذبذبات الصوت، ولذلك إذا أتى الإنسان في الليل يسمع من مسافات وآلته المتحركة هي الأذن {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:71] ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:72] فلما ذكر النهار ذكر البصر، ولما ذكر الليل ذكر السمع؛ لأن البصر أقوى آلة وأقوى حاسة في النهار، وأما الأذن والسمع فهو في الليل وسوف يأتي ضرب من هذا.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] ولم يقل: لا يتقون؛ لأنها مركبة على الإيمان، ولم يقل: لا يفقهون؛ لأنه ليست هنا أدلة نقلية، ولم يقل: يعقلون؛ لأنه ليس هنا أدلة عقلية، ولم يقل: لعلهم يتفكرون؛ لأنه لا يوجد هنا تفكر.(197/4)
أمراض القلوب في القرآن
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] ذكر الله في القرآن عن القلوب أموراً: ذكر الختم، والأكنة، والران، والطبع، والإقفال، والقسوة، والمرض، والرجس.
فأما الختم: فقد قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7].
وأما الأكنة: فقال: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت:5] يعني: في أغطية.
وأما القسوة: فقال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} [البقرة:74] وقال أيضاً سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13] وقال أيضاً: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16].
وأما الطبع: فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155] على ماذا؟ على قلوبهم بكفرهم.
وأما المرض: فقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة:10].
وأما الإقفال: فقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
وأما الران: فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
هذه أمراض القلوب التي ذكرها الله في القرآن وهي درجات.
أولها: الغين: والغين شيء شفاف يأتي من كثرة المباحات، وكثرة الضحك وكثرة الكلام، وكثرة الخلطة في الناس، فيه غين على القلب، يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: {إنه ليغان على قلبي} هو أشرف البشر وأكملهم وأطهر الناس قلباً وأنقاهم سريرة، وأقربهم من المولى ومع ذلك من كثرة خلطته بالناس يقول: يغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم أكثر من مائة مرة، هذا يسمى الغين، قالت الصوفية: هذا غين أنوار لا غين أغيار.
قلنا: من أين أتيتم بهذا الكلام؟ وفسر الماء بعد الجهد بالماء، هذه الطلاسم لا نتعرض لها.
وأما الران: فإنه يحجب القلب غشاوة من الذنوب وفي سنن النسائي وابن ماجة والترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حديث ما معناه: {إذا أذنب العبد نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا زاد نكتت حتى يصبح قلبه أسود فهذ هو الران} قال مجاهد: [[القلب هكذا يذنب العبد فضم إصبعه، ثم يذنب ذنباً آخر فيضم الثانية، ثم يذنب ثالثاً حتى ضم أصابعه قال: فيصبح القلب هكذا]] من كثرة الذنوب وهذا هو الران.
أما الطبع فإذا أذنب وأكثر من الذنوب والخطايا والإغفال طبع الله عليه، والختم آخر شيء، والقفل أشدها وأصعبها، نعوذ بالله من هذه الأمراض.(197/5)
أقسام المرض في القرآن
وقد ذكر الله المرض في القرآن على ثلاثة أقسام:
1/ مرض الجسم:
أولاً: مرض الجسم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] وهذا هو مرض الجسم وليس مرض القلب: {أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء:102] أي مرض الجسم.
2/ مرض الشهوة:
ثانياً: مرض الشهوة، إنسان قلبه مريض بالشهوة، إذا سمع صوت امرأة تحرك قلبه، بعضهم فيه شهوة ولو كان عنده أربع زوجات لكن مرض الشهوة في قلبه، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] وليس هذا مرض النفاق بل هذا مرض الشهوة.
3/ مرض النفاق:
ثالثاً: مرض النفاق قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة:10] {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:125].
4/ علاج هذه الأمراض:
إذاً فالأمراض ثلاثة في القرآن: مرض الجسم وهو أقلها وأيسرها وأخفها ولا عبرة به، بل لو تقطع الإنسان على السرير من المرض لكان خفيفاً يسيراً، وأما مرض الشهوة فهو أثقل، ودواؤه الصبر، وأما مرض النفاق فهو أخطر ودواؤه اليقين، ولذلك ذكر الله اليقين والصبر في موضع واحد فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] لماذا ذكر الصبر؟ قالوا: عن الشهوات، ولماذا ذكر اليقين؟ قالوا: عن الشبهات، يقول ابن تيمية: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
ثم يقول سبحانه: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] هنا تساؤلات:
أولها: لماذا ختم الله على قلوبهم؟ لأنهم لم يهتدوا {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].
ثانيها: لماذا قدم القلوب وجمعها؟ لأن لكل واحد منهم قلباً، ولا يصح أن يقال في اللغة على قلبهم، أما السمع فإنه يؤخذ منه المصدر فيقال: على سمعهم؛ لأنه قال هنا: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] ولم يقل: وعلى أسماعهم؛ بل أتى بها مفرداً أما القلب فلا يفرد.
ثالثها: ولماذا أتى بالسمع قبل البصر؟ لأن آلة السمع في العلم أقوى من آلة البصر، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] فبدأ بالسمع؛ ولذلك من يستخدم آلة السمع في طلب العلم يكون أقوى ممن يستخدم آلة البصر، ووجد أن العمي أذكى الناس؛ إذا استخدموا أسماعهم بعد تقوى الله في السماع، والسماع الذي تسمعه أنت أقوى من القراءة التي تقرأها، وحضورك للدرس وسماعك له أقوى من نظرك في الكتاب حين تقرؤه، لأنها تشترك الآلات جميعاً في استقبال الصوت وهذا مجرب وملحوظ، فالله بدأ بالسمع قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7] ولم يقل: أسماعهم؛ لأنه يجوز أن يجعلها مفرداً هنا، وليس فيه ثقل في العربية، أي: في البلاغة، وأما لو قال: على قلبهم، فإنه لا يستقيم.
{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] هنا الأبصار الذي يظهر -والله أعلم- أنها هذه الأبصار التي يرون بها، ليست البصائر ولو أنه قد يقال: إنها البصائر.(197/6)
الغشاوة في القرآن
وقوله: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] والغشاوة ثلاثة أقسام: غشاوة الكفر وهي أعظمها، وغشاوة الكبائر وهي بعد تلك الغشاوة، وغشاوة الصغائر، هذا الغشاوات من سلم منها؛ فقد أفلح ونجا في الدنيا والآخرة: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] قال أهل العلم: أي: على أبصارهم غشاوة في الدنيا ولهم عذاب عظيم في الآخرة.(197/7)
المنافقون وصفاتهم
ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] الآن يبدأ سُبحَانَهُ وَتَعَالى بذكر المنافقين وصفاتهم وسوف نمر بها في القرآن في هذا الدرس إن شاء الله وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ) لم يقل سُبحَانَهُ وَتَعَالى: آل فلان أو المنافقون، لأن التشهير ليس من أسلوب القرآن ولا السنة، وإنما شهَّر ببعض الناس في القرآن كفرعون؛ لأنه شهَّر بنفسه، وقارون وأبو لهب أما غيرهم فلم يشهر بهم في القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يصعد المنبر ويقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ولا يسميهم.
فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: (وَمِنَ النَّاسِ) وقيل: السر فيها لحقارتهم فإنهم لا يذكرون، ولذلك إذا أردت أن تتكلم عن بعض الناس لتهون من شأنهم، تقول: بعض الناس يقولون كذا وكذا لكنك إن قلت آل فلان بن آل فلان يقولون: كذا وكذا أو فلان ابن فلان يقول كذا وكذا، كأنك رفعت قدره.
والبخاري في كتاب الحيل في الصحيح أتى بهجوم أدبي، على بعض الأحناف، يقول كثيراً: قال بعض الناس: يعني: خطَّأ آراءهم، ولذلك أتى حنفي في القرن الخامس كتب كتاباً اسمه المقياس في الرد على من قال بعض الناس يقصد البخاري، فـ البخاري يهون من شأن آرائهم، يقول: من هم هؤلاء حتى يردون على السنن، فيقول: قال بعض الناس غفر الله للجميع.
المتنبي له طرفة يقولون: هجاه ثمانون شاعراً فقالوا: لماذا لا ترد عليهم؟ قال: ما سمعتهم حتى أرد عليهم، يعني: من هم؟ لأنه لو رد عليهم لضخمهم، ولذلك إذا أردت أن تميت الإنسان فاتركه.
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت
فإن جاوبته فرجت عنه وإن أغفلته كمداً يموت
لم يقل الشاعر: (أغفلته) لكن هذه الأقرب، وبعض القراء: يقرءون في سورة الدخان (مَنْ فرعون) والقراءة الصحيحة {مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان:31] فبعضهم يقرأ (مَن فرعون) استخفافاً واحتقاراً، فلذلك يقول الله عز وجل: (وَمِنَ النَّاسِ) استخفافاً بهم واحتقاراً لهم وسوف يأتي الاحتقار بهم.(197/8)
معاني الشهادة في القرآن الكريم
يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] أي: أن أناساً شهدوا فأورد الله شهادتهم في القرآن، ثم كذبهم وكذب شهادتهم، وهؤلاء هم المنافقون، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] أورد شهادتهم وأورد الشهود ثم كذبهم وكذب الشهادة، وهناك أناس قبل الله شهادتهم ثم أدخلهم والشهود في النار فمن هم؟ الجلود {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت:21] قبل الله شهادتهم فأدخلهم وشهودهم النار، وهناك شاهد استشهده الله وهو صغير فقبلت شهادته، وهو الغلام الذي في بيت يوسف لما قال: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف:26] وأناس عامة شهدوا، فقبلت شهادتهم قبل أن يزكوا {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف:82] إلى غيرها من الآيات، وهذه أقسام الشهادة في القرآن، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86].
فالمنافقون، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:8] لماذا لم يقولوا: آمنا بالرسول؟ لأن السورة تتكلم عن الله واليوم الآخر، والإيمان به صلى الله عليه وسلم يدخل في الإيمان باليوم الآخر.
يأتي عبد الله بن أبي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول للصحابة: اسمعوا للنبي، وهو كاذب، ويأتي أحدهم فيقول: إني أحبك، فيكشفه الله عز وجل.
الجد بن قيس يأتون له فيقولون: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يبايعك وقد ضاع جمله، فقال: والله لأن ألقى جملي أحب إلي من بيعتي لمحمد، وهو منافق، وقالوا له: تعال يستغفر لك ما دام صدرت منك الكلمة هذه، فأعرض برأسه خاف أن يقول: لا.
بالحروف، لكن نقلت الصورة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:5] ماذا قالوا؟ {لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} [المنافقون:5] خاف أن يقول: لا.
لن آتي، فيأتي الوحي من جبريل فيخبر الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: الجد بن قيس يقول: لا.
لن يأتي، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5].(197/9)
بعض صفات المنافقين في القرآن
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] كيف يقولون باللسان ما ليس في القلوب؟ آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم، وصفات المنافقين في القرآن كثيرة منها:
أولاً: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].
ثانياً: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران:54].
ثالثاً: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142].
رابعاً: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
خامساً: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143] مرة مع الفسقة ومرة مع الأخيار، إن جلسوا مع المتقين قالوا: ما أحسن الإسلام! وما أحسن القرآن! وما أحسن هذه المجالس! لقد استفدنا فائدة ما كنا ندري بهذا! فإذا رجع إلى أصحابه -وسوف يأتي ذلك في آخر السورة- قال: جلسنا مع أناس متخلفين حدثونا بأساطير عن آبائهم وأجدادهم، هذه الرجعية التي يتكلمون بها إلى غير ذلك من التهم.
سادساً: أنهم يعتنون بالأجسام وبالظواهر أكثر من المخابر يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] إنهم يشغلون أوقاتهم في الشارات والصور فقط أما الباطن فلا.
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر أجسام البغال وأحلام العصافير
أتى وفد من فارس على ابن مسعود -وفد من كسرى- فدخلوا هذا الوفد يتلامعون من البياض والنظرة واللبس، فقال بعض الصحابة: انظر لهؤلاء! قال ابن مسعود: [[ترى الكافر بطيناً سميناً غشوماً ظلوماً، وترى المؤمن هزيلاً ضعيفاً مؤمناً تقياً]] وليس هذا دائماً بالاستطراد، فإنك قد تجد منافقاً هزيلاً ضعيفاً، وقد تجد مؤمناً سميناً بطيناً قوياً، لكن هذه فطر في الغالب، لكن أولئك يعتنون بالمظاهر {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] أي: فصحاء.
وعند الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم قال: {البذاء والبيان شعبتان من النفاق، والعي والحياء شعبتان من الإيمان} أي: العي إنسان لا يتحدث، خجول في المجالس، فيه إيمان وحياء والبذاء والبيان شعبتان من النفاق إذا علم هذا فوصفهم الله بهذه الأوصاف {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4] يقولون: صيحة عليهم، أي: إنهم يخافون من الأحداث، ولذلك المنافق الآن إذا وقع شيء في الدنيا كأنه وقع في بيته.
ترتفع الأسعار يموت، ودائماً حديث الساعة عنده في المجالس: سمعنا بارتفاع الأسعار، سمعنا بكذا، سمعنا بكذا، نخاف من الحروب هذه، نخاف من الزلازل؛ لأنه يريد الحياة الدنيا فقط، لكن إذا ضيع الصلوات الخمس لا يخاف، وكثير من المسلمين منهم من يفسق، ومنهم لا يخاف من خروج المرأة متبرجة ولا يخاف من انتشار شريط الغناء، والفيديو الهدام ولا يخاف من المجلة الخليعة، لكنه يخاف من الأرزاق والأمطار والأشجار لأن همه الأكبر أن يأكل مثل الدابة {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] حكم الله عليهم أنهم كفرة، لأنهم {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة:9] الخداع معناه الفساد، هو في أصله من الخدع، أي: من الفساد، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (يُخَادِعُونَ) ولم يقل يخدعون؛ لأن يخادعون غير يخدعون فأنا أقول لك أنا أخادعك يعني أحاول خداعك، وخدعتك أي: أوقعتك في الخديعة حقيقة، فالله يقول: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة:9] ويقول هناك: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] أي: أثبت أنه خدعهم حقيقة، وأما هم فجعلهم يحاولون ولكن ما لم يستطيعوا.
فقوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] كيف يخادعون الله؟ يقولون: نحن نحب الصلاة ويصلون وليس في قلوبهم إيمان، يأخذون المصاحف فيقرءون ولا يصدّقون بالقرآن، يحضرون مجالس الذكر ولكن مجاملة ورياء وسمعة وهم لا يريدون مجالس الذكر ولا العلم ولا الفقه في الدين، يظهرون النسك والخشوع وليس في قلوبهم نسك ولا خشوع، فهؤلاء يخادعون الله والذين آمنوا.
و (ما يخدعون) يعني: حقيقة (إلا أنفسهم).
قال: {وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] كيف قال: (وما يشعرون) لماذا لم يقل: وما يعلمون؟ لأن الذي لا يشعر أعظم جهلاً من الذي لا يعلم.
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
إنسان ميت وتأتيه بخنجر وتطعنه، هل يحس؟ لا، ولذلك (لا يشعرون) وهذا هو الجهل المركب، والجهل قسمان: جهل بسيط، وجهل مركب.
والجهل البسيط: جاهل يعرف أنه جاهل، تقول له: أنت لا تحفظ الفاتحة، فيقول: صدقت أنا لا أحفظ الفاتحة.
لكن تأتي إلى جاهل جهلاً مركباً تقول: أنت لا تحفظ -وهو لا يحفظ- فيقول: أنا؟! أنا أعلم الناس، أنا ماهر، أنا من أذكياء الدنيا.
هذا جاهل جهلاً مركباً.
قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب
وتوما هذا رجل حكيم، كان له حمار فتكلم الناظم على لسان حمار الحكيم توما:
قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب
يقول: لو كان الدهر فيه إنصاف وعدل كان توما هو الحمار وأنا الراكب
قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب
فإنني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركب
أي: يقول: أنا جاهل وأعلم أني جاهل لكن صاحبي جاهل ولا يدري أنه جاهل.(197/10)
أقسام الناس من حيث العلم والجهل
والخليل بن أحمد هو أحد أذكياء الدنيا، هذا العروضي الذي أتى بستة عشر بحراً، كان ذكياً حلف بالله قال: لأضعن حساباً، علم الحساب أضعه حتى تذهب الجارية إلى البقال فلا يظلمها -الجارية البنت الصغيرة- تذهب إلى البقال من عنده فلا يستطيع أن يظلمها مهما كان ذكياً وبقي يفكر حتى دخل المسجد مرة فارتطم بالسارية فوقع دماغه في الأرض فمات، والخطأ منه ليس من السارية لأن السارية واقفة.
كان زاهداً عابداً ولكن أحب علم العروض يقول: تن تن تن يعني: البحور مستفعل مستفعل مستفعل فيتنتن، فدخل ابنه فلما رأى أباه يتنتن ذهب عند أمه وولول، وقال: أبي جُنَّ الليلة، قال الخليل بن أحمد لابنه:
لو كنتَ تعلم ما أقول عذرتني أو كنت أعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
يقول أنت لا تعرف ماذا أفعل؟ وأنا لا أعرف أنك سفيه، فأنت تعذلني وأنا أعذرك، هذا معنى كلامه، كان من الأذكياء الكبار، الشاهد أنه لما توفي رُئي في المنام رحمه الله - وهذه ذكرها الخطيب البغدادي في كتاب اقتضاء العلم العمل -قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: تعرفون علم العروض؟ قالوا: نعم نعرفه قال: ما نفعني عند الله بشيء قالوا: ماذا نفعك؟ قال: كنت أعلم سورة الفاتحة عجائز في قريتي.
ذهب التنتن والدندن، يعني: ليس في الحسنات، هو صحيح قد يفيد في الشعر لكن هل يوضع في سجل الحسنات؟ هل الأمة متوقفة حتى تعرف تن تن ودن دن؟ لا.
فالأمة تعيش بدون تن تن ودن دن، ولذلك أذهب أبو الفرج الأصبهاني وقته وحياته في كتاب الأغاني من التنتنة والدندنة ولو أن فيه فوائد.
يقول الخليل بن أحمد: الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري، والثاني: يدري ولا يدري أنه يدري، والثالث: لا يدري ويدري أنه لا يدري، والرابع لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، يقول: هذه أقسام الناس.
فأما الأول قال: فهو عالم فاسألوه، إنسان يدري ويدري أنه يدري، يعني يعرف ويعرف أنه يعرف، فهذا واثق من نفسه عالم تذهب إليه تقول هل تعلم هذا؟ قال: نعم أعلم علم الكتاب والسنة وأنا واثق من نفسي وأقول على حقيقة ودليل وبرهان، فهذا عالم فاسألوه.
أما الثاني: فغافل فنبهوه، أي رجل غافل عنده علم ولكن لا يدري بذلك، يقول: ليس عندي شيء، مع أن عنده حصيلة طيبة من علم الكتاب والسنة ويفهم كثيراً من القضايا، لكن يقولون: تحدث أثابك الله، يقول: ما عندي شيء، قالوا: صل بنا الليلة، قال: أنا لا أعرف أصلي بكم، فلا يدري أنه يدري، قال: فهذا غافل فنبهوه، قولوا: عندك خير، عندك علم، عندك نفع للناس.
أما الثالث: فهذا جاهل فعلموه، إنسان مسكين يقول: أنا ليس عندي علموني ما عندي شيء، فيقول له الناس: أنت لا تعرف تصلي قال: صدقتم كيف كان يصلي صلى الله عليه وسلم؟ هذا جاهل فعلموه.
وأما الرابع: فهو الطامة الكبرى والمصيبة الدهياء: وهو الذي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، وهو الجاهل المركب، يقال له: أنت جاهل، قال: أنا جاهل؟! بل أنا عالم من العلماء، أنت لا تعرف شيئاً، قال: أنا حافظ من حفاظ الدنيا، فهذا هو الجاهل المركب، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] إنهم يخدعون أنفسهم، يقول: أحد الشعراء يسب أعداء ابن تيمية:
ولو أنه جهل بسيطٌ عذرته ولكنه يدلي بجهل مركب
وقوله و (وما يشعرون) في الكلام تقدير أي: وما يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم.
ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:10] تقديم الجار والمجرور يقتضي الحصر، إذا قلت: في البيت محمد أبلغ من قولك: محمد في البيت، وهذه من صور الحصر.(197/11)
صفات النفاق العملي
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:10] أمرض الشهوة هنا أم مرض ماذا؟ هو مرض النفاق -نعوذ بالله من النفاق- وللنفاق علامات في الجوارح منها التكاسل عن الصلاة، والخلف في الميعاد، والكذب في القول، والغدر في العهد، والفجور في اليمين، كما في الحديث: {ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها} هذه صور النفاق، ويسمى هذا النفاق المذكور في الحديث: النفاق العملي، {إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان} فمن استكمل فيه كان منافقاً نفاقاً عملياً.
أما النفاق الاعتقادي، فهو: الكفر الذي يخلد في النار مثل الذي يكذب بالقرآن، يقول: هذا القرآن ما نزل من عند الله، هذا منافق نفاقاً اعتقادياً، صاحبه خالد مخلد في النار، ومثل أن يكذب بالرسول صلى الله عليه وسلم، أما الذي يكذب في القول ويخلف في الوعد فهو منافق نفاقاً عملياً، ومن النفاق العملي حب أعداء الله، قد تجد بعض الناس مصلياً صائماً قائماً، يذكر الله، ويتلو القرآن، ولكن يحب الخواجات، قلبه معلق بالكفار، لا يتحدث في المجالس إلا عن أمريكا وأوربا، ترده إلى مكة يطير بك إلى واشنطن تأتي به إلى المدينة المنورة يذهب بك إلى لندن، يقول: كم عندهم من التقدم؟! كم عندهم من التنسيق؟! كم من الوفاء؟! كم من الصدق؟! كم من الإخلاص؟! هذا منافق نفاقاً عملياً.(197/12)
صفات أخرى للنفاق العملي
يذكر ابن تيمية من أنواع النفاق من يحب لغات الكفار، حتى تجد بعض الناس الآن هذا الجيل لا يحب أن يتكلم إلا الإنجليزي، سبحان الله! هو لا يعرف شيئاً لكن يحب أن يتكلم ويرطن بلغتهم ويقدمها على اللغة العربية وهذا من علامات النفاق؛ لأن الذي لا يحب العربية معناه أنه لا يحب القرآن؛ لأنها لغة القرآن فهذه من علامات النفاق التي وقعت، ومنها أمور أخرى مثل حب ملابسهم، فهو يحب البنطلون دائماً، ولبس البنطلون ليس حراماً لكن لباسنا المعروف هي: الثياب، لكن يأتينا واحد يلبس البنطلون دائماً، فنحن نشك فيه ونقول: عنده نفاق عملي، لأنه لا يحب البنطلون إلا لأنه يحب أهله وهذا فيما إذا كان ليس بجاهل.
أحب بني السمراء من أجل حبها ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
يقول: حتى كلاب حيهم أحبها من أجل حب أهلها، ويقول مجنون ليلى:
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
فالمؤمن يحب مكة والمدينة ليس من أجل حجارتها السود، لا والله، بل من أجل من مشى على ترابها، سادة العالم وقادة البشرية ومفاتيح الخير ومشاعل الحق: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي مع صاحبهم الكبير عليه أفضل الصلاة والسلام، والكفر يبغض ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم {أحد جبل يحبنا ونحبه، وعير من جبال النار} فلذلك المؤمنون يحبون جبل أحد لا لحجارته وترابه لكن لأنه يحبه صلى الله عليه وسلم، والدبا يأكله أنس فقالوا: ما لك؟ قال: [[أحبه لأني رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يتتبعه في الصحفة فأنا أحبه]] والضب كثير من الصحابة لا يأكله، وكانوا يأكلونه، قالوا: ما لك؟ قال: [[كرهه الرسول صلى الله عليه وسلم فأنا أكرهه]] فحب ما يحب الله عز وجل من علامة الإيمان، وحب ما يبغضه الله من علامة النفاق، هذا لا بد أن يبين.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10] فيها إثبات زيادة الكفر وأن الكفر درجات، وأن النفاق درجات، وأن الإيمان درجات بمفهوم المخالفة، لأنه مر معنا أن الله يزيد الذين آمنوا إيماناً، ويزيدهم هدىً، وهنا يزيد الله المنافقين نفاقاً، فهم درجات، منهم في المركز الأول، ومنهم من يحمل دكتوراه في النفاق، ومنهم ماجستير، ومنهم من عنده مسحة من النفاق، ومنهم من عنده واحد في المائة، فهم درجات {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران:163].
ولا يخلو أحد في الغالب من شيء من النفاق، ولذلك يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه لـ حذيفة كما في صحيح البخاري: [[أسألك بالله يا حذيفة، أسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟ قال: لا، ولا أزكي أحداً بعدك]] فالنفاق كما قال الحسن البصري كما في صحيح البخاري: [[ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق]] المنافق الآن إذا جئته وقلت: أنت منافق! فإنه يقاتلك، يقول: أنا منافق؟! وإذا قلت لبعض المنتسبين إلى الإسلام الذي بلغ درجة الكفر وهو في بلاد المسلمين لا يصلي أبداً، يا كافر! فإنه يقاتلك، والمؤمن إذا أتيت تقول له: أخشى عليك من النفاق، يتأثر وينكسر قلبه، ويخاف منه ويقول: نعوذ بالله، نسأل الله العافية، يارب رحماك وعفوك، إذاً النفاق ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق.
ومن علامات النفاق: الاستهتار بالذنوب والخطايا، قال ابن مسعود: [[المؤمن يرى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يسقط عليه، والمنافق يرى ذنوبه كأنها ذباب قال به هكذا فطار من على أنفه]] يرتكب الكبائر ويقول الحمد لله نحن على خير، ونسأل الله الخاتمة الحسنة، والله غفور رحيم والناس كلهم في صلاح وخير، ورحمة الله وسعت كل شيء، لكن لا يذكر أن الله شديد العقاب.
ولكن المؤمن إذا أتى بخصلة فتراه دائماً يعض أنامله ويندم ويبكي ويتأثر، فهذه من علامات الإيمان وتلك من علامة النفاق، وقد ورد في حديث لـ عمر وبعضهم يرفعه وبعضهم يوقفه عليه {من سرته حسنته، وساءته سيئته فهو المؤمن} فمثلاً أنت إذا صليت بخشوع فرحت فأنت مؤمن، وإذا تصدقت انشرح صدرك فأنت مؤمن، وإذا وصلت رحمك فانشرح صدرك فأنت مؤمن وإذا أسأت بكلمة أو بنظرة فندمت فأنت مؤمن، إن شاء الله، وهذا ميزان.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10] يقول ابن تيمية شيخ الإسلام: مبنى النفاق على الكذب، أي أن الكذب بني على النفاق ولذلك أكذب الناس أقربهم إلى النفاق، وأكثر الناس نفاقاً أكثرهم كذباً، فالكذب ابن عم النفاق.
رضيعي لبان ثدي أم تقاسما بأسحم داج عوض لا نتفرقا
الكذب والنفاق أولاد عم رضعا من ثدي واحد، وهو ثدي الكفر والخبث -والعياذ بالله- فما يأتي الكذاب إلا منافقاً والمنافق إلا كذاباً، ولذلك الشجاع لا يكذب أبداً، وممن وصف بالصدق في التاريخ أناس كثير، حتى ولو كان في الصدق حتفهم منهم:
زر بن حبيش أحد الرواة العلماء الصادقين الصالحين العباد، قال الحجاج بن يوسف: أيكذب أحد من الناس؟ قالوا: لا ندري إلا أن زراً لن يكذب أبداً قال: لأحوجن زراً إلى أن يكذب هذا اليوم، فقال: أين أبناؤه؟ قال الناس: أبناؤه في بيته، قال: سوف أقول له: سوف أقتلهم؛ فإنه بذلك سوف يخفيهم ويكذب، فأرسل إليه الجنود فأتوا بـ زر وهو شيخ كبير قال: أبناؤك خرجوا علينا وفعلوا وفعلوا ثم حلف الحجاج لأقتلنهم أين هم؟ قال: هم في البيت، فتبسم الحجاج قال: إن كذب أحد فلن يكذب زر أو كما قال، يعني من صدقه لن يكذب أبداً.
يقول الإمام أحمد: الصدق كالسيف لو وضع على جرح لبرى، ولذلك بلغ الله الصادقين منازل الصدق، وبلغ الكاذبين منازل الكذب -نعوذ بالله من الكذب- وإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، إذا ألجئت إلى مسألة وأردت ألا تكذب فعليك بالمعاريض، وهو أن تعرض بكلامك إلا في الحقوق فإنه لا يجوز لك أن تذهب إلى القاضي وتكذب في الظاهر وأنت تريد أمراً في الباطن؛ لأن في الحديث الصحيح {يمينك على ما صدقك به صاحبك} مثلاً: إذا ضربت أحداً بالعصا، فيأتي القاضي فيقول لك: كيف تضربه بالعصا؟ تقول: ما ضربته، فتقول: والله الذي لا إله إلا هو أني ما ضربته يعني: تقصد في نيتك ما ضربته بيدي، لكن العصا ضربته، -وهذا ما يفعله بعض الناس- ويقول: ما حلفت على هذا لكن حلفت على هذا، يقول لك: لماذا غيرت منار الأرض من مكان إلى مكان؟ قال: والله الذي لا إله إلا هو ما غيرته، يعني: أنه ليس هو لكنه ابنه، وهذه من المعاريض المحرمة لأخذ حقوق الناس.
لكن المعاريض المباحة تكون في عدم أخذ الحقوق وأموال الناس مثلما حصل لـ مطرف بن عبد الله وهو أحد العلماء لما غضب عليه الحجاج بن يوسف وأرغى وأزبد وأرعد وأراد أن يقتله قال: عليَّ بـ مطرف، فأتى مطرف فدخل عليه يريد أن يقتله؛ لأنه يقول: إنه مع الذين خرجوا عليه، قال: لماذا لم تأتنا؟ قال: والله ما رفعت جنبي منذ أن فارقتك إلا ما رفعه الله، وهو صادق، ما يرفع الإنسان جنبه إلا ما رفعه الله، فصدقه الحجاج، يقول: ما رفعت جنبي يعني: كأنه من المرض إلا ما رفعه الله.
الإمام أحمد أتى إليه في أيام الفتنة جندي أرسله المعتصم يريد أخذ الإمام أحمد فطرق الباب فقام تلميذ الإمام أحمد وقال: إن أحمد ليس هنا وأشار بيده إلى كفه من وراء الباب، وهو صحيح وهذه من معاريض الأذكياء ولـ ابن الجوزي كتاب يسمى كتاب الأذكياء في المعاريض.
ابن الجوزي دخل في حي للرافضة تعرفون الرافضة وهو لو تكلم بكلمة خطأ لقتلوه قالوا: أي الصحابة أفضل؟ فقال ابن الجوزي: أفضلهم الذي ابنته عنده، ثم سكت، فسكت أهل السنة وسكت الرافضة، أهل السنة يقولون ابنته أي: أبو بكر ابنته عند الرسول صلى الله عليه وسلم والرافضة يقولون: ابنته أي بنت الرسول صلى الله عليه وسلم عند علي فسكت، فهذه هي من المعاريض التي هي مندوحة عن الكذب هذا على قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10].(197/13)
أقسام الإفساد عند المنافقين
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] في الآية إخبار وحصر، أما الإخبار فقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:11] ما هو الإفساد في الأرض؟ الإفساد في الأرض على قسمين: إفساد بتعطيل الديانات، وإفساد بإرهاق الأنفس وقتلها، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة آل عمران: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205] فما هو فساد هؤلاء؟ فسادهم في تعطيل الديانات والرسالات لا من إزهاق النفوس.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض}) [البقرة:11] إفساد المنافقين هو بتعطيل ما أنزل الله على رسوله وبتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم، وبإدخال الشك والريبة في قلوب المؤمنين وهذا أعظم فساد {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:11] ما هو أصل الجواب؟ إنسان يقول لك: لا تفسد، الجواب أن تقول: أنا لا أفسد، لكن الأدهى والأمَرْ أن يقال لك: لا تفسد، فتقول: إنما أنا مصلح، لو قالوا: ما أفسدنا لكان أسهل، لكنهم: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] كما لو قلت للكافر: لا تكفر بالله، يقول: ما كفرت هذا يمكن أن تتفاوض معه، لكن أن يقول: إنما أنا مؤمن، فهذا من الطامة.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] وهنا حصر " إنما " " نحن " بالضمير المنفصل وهو من أدوات الحصر (إنما نحن مصلحون) ما هو الجواب؟ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12] وسوف نتحدث بعد قليل عن السر بين كلمة (يشعرون) و (يعلمون).
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] قال أهل العلم إفساد المنافقين: بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، والتشكيك في رسالته، والاستهزاء به من خلفه.
1/ تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم:
الرسول عليه الصلاة والسلام في الخندق يحفر وبه من الجوع ما لا يعلمه إلا الله، وضع حجرين على بطنه، والصحابة وضعوا حجراً حجراً فأتى الصحابة يشتكون إليه ورفعوا عن بطونهم فرأى الحجر فتبسم صلى الله عليه وسلم ورفع ثوبه عن بطنه فإذا.
ينزل صلى الله عليه وسلم والأعداء من حوله حلقة، الكفار والمنافقون واليهود والمشركون: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] أي القلوب التي في الصدور أصبحت في الحنجرة من كثرة الخوف، ومع ذاك الخوف يأتي صلى الله عليه وسلم يأخذ المعول فيضرب به الصخرة فيلمع الشرر في الجو، فيقول: هذه قصور كسرى! فتحها الله عليَّ فيتضاحك المنافقون ويتغامزون، فقالوا: أحدنا لا يستطيع أن يبول من العدو ويقول: يفتح الله عليه قصور كسرى {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] فيأتي صلى الله عليه وسلم فيضرب الثانية فيلمع الشرر في الجو، فيقول: هذه قصور هرقل يعني ملك الروم وسوف يفتح الله عليَّ الأبيضين: الأبيض والأحمر يعني الذهب والفضة، فيضحكون ويقولون: يفتح الله عليه قصور هرقل! وبعد خمس وعشرين سنة يفتحها الله عليه.
2/ الاستهزاء بالصالحين:
من استهزائهم ما قاله عبد الله بن أبي حين اختلف أجيران أحدهما أنصاري والآخر مهاجري على ماء فتضاربا فكسع المهاجري الأنصاري فقال عبد الله بن أبي: صدق القائل: (سمن كلبك يأكلك، وجوع كلبك يتبعك) يعني: أن الصحابة لما أتوا من مكة كانوا جياعاً، فأطعمناهم حتى سمنوا فأكلونا، فذهبوا بكلامه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
ويقول أيضاً: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8] يقول: إذا رجعنا سوف نخرج هؤلاء المهاجرين، فوصل الكلام إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فسكت، فقال عمر: يا رسول الله اقتله فإنه منافق، فقال صلى الله عليه وسلم: سوف يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.
فأتى ابنه البار الراشد ابن عبد الله هذا واسمه عبد الله لكن الله {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام:95] أرأيت الشوك يوم يخرج منه الورد، هذا المنافق أتى من صلبه مؤمن يحمل السيف، ويقول: يا رسول الله، لا تأمر أحداً بقتل أبي فوالله الذي لا إله إلا هو، لا أطمئن في الحياة ولا أمشي على الأرض وأنا أرى قاتل أبي إلا قتلته، ولكن إن تريد رأس أبي هذا اليوم فوالله الذي لا إله إلا هو لآتينك برأسه، قال صلى الله عليه وسلم: {أإنك قاتله؟ قال: والله الذي لا إله إلا هو إن أمرتني بقتله لأقتلنه الآن -وصدق- فقال صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به} يعني نصاحبه معروفاً، انظر إلى بعد النظرة، قال أحمد شوقي:
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هم الرحماء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء
وتمد حبلك للسفيه مدارياً حتى يضيق بحبلك السفهاء
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعدو الندي وللقلوب بكاء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة في الحق لا ظغن ولا بغضاء
وإذا سعيت إلى العدى فغضنفر وإذا جريت فإنك النكباء
فلما أراد عبد الله بن أبي أن يدخل المدينة وقف عبد الله بن عبد الله ابنه عند مدخل المدينة فلما رأى أباه سل السيف أمامه وقال: [[والله الذي لا إله إلا هو، والذي شرف وجه محمد بالنبوة لا تدخل المدينة حتى يأذن لك الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: ولم؟ قال: لأنك الأذل وهو الأعز -هو عكس الآية عليه- فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن له أما إذا أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الآن]] يدخل هذا المنافق الكبير.
في تبوك يأتي المنافقون فجلسوا في السمر، ودائماً إذا خلوا يخرجون ما في قلوبهم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا خَلَوْا} [البقرة:14] لم يقل: إذا ذهبوا، لأنهم يحبون الخلوات ويحبون الدياجير والساعات الحمراء مثل الماسونية وأذناب الصهيونية العالمية والقومية والعلمانية يحبون السمر من الساعة الثانية إلى الفجر دائماً: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14] وسوف يأتي من هم شياطينهم ولماذا وصفهم بالشيطنة؟ وماذا يفعلون في خلواتهم؟ فخلوا في آخر الليل يتضاحكون قالوا: ما رأينا كقرائنا أرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء يقصدون قراء الصحابة.
وفي الصباح ولكن الله السميع البصير أنزل جبريل وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: الحق بهؤلاء فقد احترقوا، يعني احترقوا في النار، أتى صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لكم لماذا قلتم البارحة كذا وكذا؟ فأتوا يمسكون بحبل الناقة من أمامها ومن خلفها ويمسحون يد الرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، كنا نمزح فقال الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65 - 66] ولذلك في الحديث {رب كلمة يقولها صاحبها لا يلقي لها بالاً؛ تهوي به في النار سبعين خريفاً، ورب كلمة من الخير لا يلقي لها صاحبها بالاً يرفعه الله عز وجل عنده في الجنة}.
مثل إنسان يقول في المجلس وهو يريد أن يضحك الناس فيتكلم على عالم من علماء المسلمين، أو على سنة، أو على هيئات الصلاة، أو يتكلم عن صيام رمضان، أو عن بعض القضايا الإسلامية، كالقرآن والحرم أو أي شيء فيه اسم الإسلام هذه ربما تهوي به في النار ويحترق سبعين خريفاً لا ينجو من النار أبداً، يقول كلمة يكفر بها العبد ربما يستهزئ بسنة صغيرة من السنن فيدخل بها النار -والعياذ بالله، ونسأل الله العافية والسلامة- وابن الراوندي الملحد والقاسم بن عبيد الله أحد الوزراء الملاحدة كان وزيراً عباسياً وكان ملحداً، دخل عليه أحد العلماء: فتساءل هو وإياه، قال: في أي سورة هذه؟ قال: في سورة البقرة، قال الوزير: في بقرتكم أنتم، فقال هذا العالم: والله ما صدقت أنه ملحد إلا ذاك اليوم.
والإمام أحمد قال له رجل: إن فلاناً يتنقص أهل الحديث ويسب أهل السنة طلبة العلم، قال: زنديق زنديق، وزنديق يعني: ملحد وقد يلحد الإنسان بكلمة والعياذ بالله.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] هذه دعوى عريضة.
والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء
{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12] انظر إلى الضبط (أَلا إِنَّهُمْ) بالتأكيد بـ (إن) المؤكدة، (هُمُ) الضمير المنفصل (الْمُفْسِدُونَ) بأل (وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) إنما قال: لا يشعرون، لأن الشعور مع الدقة والخفاء والعلم مع الشيء الجلي الواضح.
3/ اتهام الصالحين بالسفه:
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة:13] أي إذا قيل للمنافقين: آمنوا كما آمن الناس، أي: الصحابة من المهاجرين والأنصار، وإذا قيل لشخص اهتدي كما اهتدى آل فلان قال: هم سفهاء متخلفون متطرفون متزمتون، وهذه أسماء تعرض دائماً لكن بألقاب تتغير مع مر التاريخ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة:13] يعني: الصحابة على رأي ابن كثير ومجاهد وغيرهم من العلماء {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13] السفيه الذي لا يملك رشده، والسفيه: الذي يضع الشيء في غير موضعه، وقد يكون الإنسان سفيهاً وهو كبير، يعني: لا يملك رشداً {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13] يقصدون بالسفهاء الصحابة -قاتل الله أولئك المنافقين- والصحابة هم الصحابة وأبصرهم وأكثرهم إشراقاً.
وفي قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) [البقرة:13] أعاد الله الضمير و (أل) ليحصر فيهم السفه {وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] هنا أتى بـ (لا) يعلمون، وهناك أتى بـ (لا يشعرون)؛ لأنه هنا أمر جلي وواضح أنهم هم السفهاء، ولكن هناك التبست عليهم الأمور فقال: لا يشعرون {وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} وهذا وذاك من الجهل المركب الذي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.(197/14)
ادعاء الإيمان أمام المؤمنين فقط
ثم يقول سبحانه: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:14] يأتون إلى الصحابة في مجالسهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقولون: صدقت {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] وهناك قال: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:14] ولم يقل: وإذا أتوا إلى الذين آمنوا، إنما قال: إذا لقوا، كأنهم لا يتعرضون للهداية بل هم لقوهم عرضة، كأنهم لا يذهبون لطلب العلم ولكن لقوهم في أي مكان {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} بماذا؟ بأفواههم {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14] قال: خلوا والخلوة: هي الانزواء عن أعين الناس.
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
فالخلوة عند الصوفية يسمونها الخلوة والجلوة، والخلوة، هي: الانزواء عن أعين الناس، يقول ابن تيمية: "ماذا يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنّا سرت فهي معي، أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة " يعني: خلوة أختلي بها مع الله عز وجل كما في الحديث: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} يعني وحده؛ لأنه أبعد عن الرياء.
فهذه الخلوة قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (وَإِذَا خَلَوْا) يعني خلا بعضهم إلى بعض، (إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) وهم رؤساء الضلالة، ولكل قوم شياطين، مثلاً الماسونية لها شياطين كبار، ولليهودية شياطين كبار، وهكذا والعلمانية والزنادقة هؤلاء الأساتذة والمنظرون وراء الكواليس وراء الأسوار في الليالي الحمراء {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14] تضاحكوا و {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:14] كيف إنا معكم؟ يعني: معكم على معتقدكم ليس معكم بالجلوس، فهذا أمر معروف، إنا معكم يعني: على المعتقد والمنهج والسلوك والطريقة {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] أي: نستهزئ بالمؤمنين وقيل: مستهزئون بالعقيدة، وقيل: بالقرآن وقيل: بالرسول، والكلام كله صحيح.
{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] هنا لم يقل: إنما نحن نستهزئ أو يستهزئون وإنما قال: مستهزئون؛ لأن الاسم يقبل الاستمرار أكثر من المصدر والفعل؛ لأنه اسم هنا يقبل الاستمرار والدوام أكثر من الفعل.
وفي قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14] أي: إلى كبرائهم قال ابن كثير - وقد أورد الأقوال- قال: هم رؤساؤهم من اليهود والمنافقين والمشركين وهو صحيح، وقيل: علماء اليهود وأحبارهم وقيل: هم رؤساؤهم في الدنيا، وكل المعاني صحيحة لكن الواحد منهم إذا كبر سمي شيطاناً، يقول أحدهم:
وكنت امرأً من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
نعوذ بالله! يقول: وكنت امرأً من جند إبليس، أي: كنت تابعاً له فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي، أورده ابن القيم في ذخيرة الصابرين، فالمقصود أن الشيطان لا يسمى شيطاناً إلا إذا بلغ الرأس في الضلالة، فإذا أصبح رأساً سمي شيطاناً، ولذلك يقول الناس للمسرف في اللعب: هذا شيطان، ويقولون للمخرب والمدمر: شيطان مناوب، ويقولون للخبيث: شيطان مخبث، فالشيطان هو الرئيس في الضلالة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:14] معكم أي: على معتقدكم، يعني: في الباطن معكم وفي الظاهر مع المسلمين، ولذلك نحذر أنفسنا وإياكم من ذي الوجهين، وهو الذي يجلس مع قوم بوجه ومع آخرين بوجه أن يكون فيه نفاق وهو بلا شك فيه نفاق- وهذا من أشد الناس عذاباً كما في الصحيح.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(197/15)
مبشرون لا منفرون
من أعظم أوصاف الدين الإسلامي أنه جاء بالتبشير لأتباعه.
ومن رحمة الله بعباده أن أرسل إليهم رسولاً عزيز عليه ما فيه عنت لأتباعه، حريص عليهم وعلى هدايتهم، وهو بهم رءوف رحيم.
وفي هذه المادة عرض لكثير من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم التي يظهر فيها بجلاء يسره في التعليم والتوجيه حتى مع العصاة.(198/1)
التبشير في الإسلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
نعم، " مبشرون لا منفرون " عنوان هذه المحاضرة.
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
لماذا هذا العنوان؟ لأن الله ابتعثنا مبشرين ميسرين، لا معسرين ولا منفرين، فإن زعم زاعم، أو ظن ظان أن الدعاة ينفرون الناس ويشددون ويكلفون، فقد أخطأ سبيله وضل سعيه، فأتباعه عليه الصلاة والسلام يحملون البشارة، وقبل أن أبدأ بالموضوع أخبركم أني أحبكم في الله حباً عظيماً، وهو الحبل المتين الذي أتى به عليه الصلاة والسلام، والمعجزة الكبرى التي بثها في الناس، أن يجمع بين الأبيض والأسود، وبين الأبيض والأحمر، وبين الأشعث الأغبر والمرفه تحت مظلة: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] ولسان حالي هذه الليلة يقول:
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمنٌ أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني
بـ الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
وفي ربى مكة تاريخ ملحمةٍ على ثراها بنينا العالم الفاني
في طيبة المصطفى عمري وواولهي في روضة المصطفى عمري ورضواني
النيل معي ومن عمان تذكرتي وفي الجزائر آمالي وتطوان
دمي تصبب في كابول منسكباً ودمعتي سفحت في سفح لبنان
فأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] تلكم هي الكلمة التي بثها محمد عليه الصلاة والسلام في الكون، ولكن أيضاً لماذا اخترت هذا العنوان؟، لأقول للمتسرع وللمتعجل: إننا مبشرون لا منفرون، وأقول للمتهجم المجرح: إننا مبشرون لا منفرون، وأقول للمكفر المفسق إننا مبشرون لا منفرون، وأقول لمن يسيء الظن بالناس ولا يقبل ما فيهم من حسن، ولا يمد الجسور معهم، ولا يمهد لهم حبال الود إننا مبشرون لا منفرون.
إخوتي في الله! الأصل في الإسلام التبشير وآيات التبشير في القرآن أكثر من آيات التخويف والتحذير، وقد ذكر ذلكم الإمام النووي، ولما كتب كتابه رياض الصالحين جعل للرجاء بابين، وللخوف باباً واحداً فقط.
إن العصاة والبعيدين عن الإسلام، أو الفجرة، أو المنافقين لا يمكن أن يعودوا إلا بتبشير، ولا يمكن أن يجروا إلى حلبة الإسلام إلا بتبشير، ولا يمكن أن تعالج التعاسة فيهم والندامة والخزي والقلق إلا بتبشير.
الرسول عليه الصلاة والسلام مبشر قبل أن يكون نذيراً {وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب:45] وهو يبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والقرآن مبشر {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف:2] وذكر الله كتابه، فقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء:9].
المستقبل المشرق إنما يأتي بالتبشير، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه آيات البشرى وعلامات التبشير والعاقبة للمتقين، وأخبر رسوله بأنه سوف يفتح العالم، وبشر الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه.(198/2)
الأصل في الإسلام التبشير
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] تلكم هي الكلمة التي بثها محمد عليه الصلاة والسلام في الكون، ولكن أيضاً اخترت هذا العنوان لأقول للمتسرع وللمتعجل: إننا مبشرون لا منفرون، وأقول للمتهجم المجرح: إننا مبشرون لا منفرون، وأقول للمكفر المفسق إننا مبشرون لا منفرون، وأقول لمن يسيء الظن بالناس ولا يقبل ما فيهم من حسن، ولا يمد الجسور معهم، ولا يمد لهم حبال الود: إننا مبشرون لا منفرون.
إخوتي في الله! الأصل في الإسلام التبشير، وآيات التبشير في القرآن أكثر من آيات التخويف والتحذير، وقد ذكر ذلكم الإمام النووي، ولما كتب كتابه رياض الصالحين جعل للرجاء بابين، وللخوف باباً واحداً فقط.
إن العصاة والبعيدين عن الإسلام، أو الفجرة أو المنافقين لا يمكن أن يعودوا إلا بتبشير، ولا يمكن أن يجروا إلى حلبة الإسلام إلا بتبشير، ولا يمكن أن تعالج التعاسة فيهم والندامة والخزي والقلق إلا بتبشير.
الرسول عليه الصلاة والسلام مبشر قبل أن يكون نذيراً {وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب:45] وهو يبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والقرآن مبشر {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف:2] وذكر الله كتابه فقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء:9].
المستقبل المشرق إنما يأتي بالتبشير، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه آيات البشرى وعلامات التبشير والعاقبة للمتقين، وأخبر رسوله بأنه سوف يفتح العالم، وبشر الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه.(198/3)
صور من التبشير
يا أخي! يا تلميذ محمد عليه الصلاة والسلام، يا جنديه في معترك الحياة! صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه نزل في الخندق في جوع ومجاعة، وربط على بطنه حجرين فأخذ المعول ليضرب الصخرة في وقت الأزمة الذي وصفه الله- عز وجل- بأنه: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11].
نزل عليه الصلاة والسلام ليحفر والأحزاب تتجمع لغزو المدينة والكفر طغى والظالم اعتدى، فيضرب عليه الصلاة والسلام بالمعول، فيبرق بارق فيبتسم عليه الصلاة والسلام ويقول: {أريت قصور كسرى وقيصر وسوف يفتحها الله علي} فيتغامز المنافقون ويضحك اللاعبون، ويقولون: الواحد منا ما يجترئ من الخوف أن يبول، وهذا يريد أن يفتح قصور كسرى وقيصر، فقال الله عنهم: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] وبعد خمس وعشرين سنة يفتح أصحابه الدنيا، ويحكمون الدهر، وتنصت لهم المعمورة، ويصفق لهم التاريخ.
أيضاً: يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لرسوله عليه الصلاة والسلام وهو في مكة: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45] وهذه بشرى النصر، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} [فصلت:53] وأراهم الله آياته في الآفاق، وعلم رسوله عليه الصلاة والسلام تلكم الآيات.
أيضاً وقف عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه في مكة والحديث في الصحيحين من حديث صهيب: {والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الدين حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه} وحدث هذا.
وفي السيرة لابن إسحاق يقول عليه الصلاة والسلام وهو يطرد من مكة ويطرد من الطائف وتسيل أعقابه بالدماء ويتلفت إلى الناصر المعين إلى الله، ثم يقول: {يا زيد إن الله جاعل لهذا الأمر فرجاً ومخرجاً} ويحدث هذا الفرج والمخرج وينتصر عليه الصلاة والسلام، ويحكم الجزيرة العربية بمنهج رباني، بل ثلاثة أرباع الكرة الأرضية.
وفي القرآن نهي مطلق عن التنفير، ونهي مطلق عن الحزن، ونهي مطلق عن اليأس والقنوط، قال أهل التربية: وهو اليأس قتل للإرادة.
ولما ذكر أبو إسماعيل الهروي في منازل السائرين قال: ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] منزلة الحزن، قال ابن القيم: هذا خطأ ليس من منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] منزلة الحزن، ولم يأمر به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولم يرضه، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يستعيذ الله من الحزن، فيقول: {اللهم إني أعوذ بك من الهم والغم، وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من البخل والجبن} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] والبخع عند العرب هو قطع النخاع بشيء حاد، فيقول: لعلك تمزق دماغك حزناً عليهم، أنت منهي أن تحزن، لست عليهم بمصيطر، لست عليهم بوكيل، بلغ دعوتك ولا تكن فظاً، لا تجرح الهيئات، ولا الأشخاص، ولا الأجناس، ولا تكن عدواً للأمة، ولكن كن حبيباً للقلوب.
أيضاً: نهى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الأمة نهياً مطلقاً، فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] قال سيد رحمه الله في الظلال: نحن الأعلون سنداً، والأعلون متناً، والأعلون منهجاً، والأعلون إرادة إلى آخر تلك الأعلون التي هي كالدرر جمعها أثابه الله.(198/4)
التيسير في الدين
والتبشير روح يسري في القلب والعروق، ويصل إلى الإرادة فيحركها، بعث عليه الصلاة والسلام من أصحابه مبشرين في العالم، وصح من حديث أنس عند البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: {يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا}.
وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ولـ معاذ: {بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا}.
إذاً: هو منهج، فأين كثير من الدعاة من أمثالي من المقصرين عن هذا المنهج الرباني الرائد؟ إننا قبل أن نكون مؤدبين للناس، معزرين بالكلمات مجرحين، لا بد أن نكون محببين نقودهم إلى رضوان الله وإلى الجنة، وهذه هي مهمة الداعية، وهي مهمته عليه الصلاة والسلام وهديه.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة: {أنه قال: إن الدين يسر} قال بعض العلماء -وهذه قاعدة- مقدمة من الرسول عليه الصلاة والسلام {إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه} وضبطت {ولن يشاد الدين أحداً إلا غلبه}.
أي: إن الذي يريد أن يتعمق ويستولي على جزئيات الدين، وألا ينقص في أي مرحلة من مراحل الدين، أو أن يعبد ربه على أكمل وجه دون أن يثلم ثلمة، أو أن ينقص نقصاً، فلن يستطيع، أو أراد أن يأتي بجميع الطاعات والقربات والنوافل فلا يستطيع.
ومن حديث بريدة عند أحمد -قال ابن حجر والحديث حسن- قال عليه الصلاة والسلام: {عليكم هدياً قاصداً، فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه}.
أيضاً: من يشاد الدين في الدعوة ويريد أن يحول المجتمع إلى مجتمع رباني، وصنف من الملائكة، فليعلم أن مجتمع الرسول عليه الصلاة والسلام ما تحول كله إلى مجتمع (100%) من الاستقامة والالتزام، فكان في عصره صلى الله عليه وسلم الزناة وشربة الخمر والسارقون والخونة والمنافقون، ومع ذلك أصلح عليه الصلاة والسلام ووجه، ولمح ولم يصرح وكان يقول: {ما بال أقوام}.
أيضاً: من حديث محجن بن الأدرع، وهو حديث حسن أيضاً، عند أحمد في المسند: {إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة، وخير دينكم اليسرة} وهذا منهج أيضاً للدعاة، فإن من يريد مغالبة المجتمع بأن يفرض سيطرته وكلمته يخطئ قال تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] أي: أنت لا تحمل كرباجاً ولا عصاً ولا سيفاً {لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:66] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
قدم نصحك، وقدم كلمتك، فإن اهتدت القلوب فهذا هو المطلوب، وإن تولت، فأجرك كامل على الله و {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99].
أيضاً من حديث جابر عند البزار وفي سنده لين، لأن في سنده رجلاً عابداً لكن يهم في الحديث، يقول فيما يروى عنه عليه الصلاة والسلام: {إن هذا الدين متين، فأوغلوا برفق فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى} والمعنى: أنه شديد، والدخول فيه عميق، وهو طاقة تفجر، والذي يملك الدين بلا عقل يتفجر هو، ولذلك لا يحمل الدين إلا العقلاء، ويوم يحمله الحمقى يتفجرون ويتفجر بهم الدين.(198/5)
منهج الخوارج في التيسير
الخوارج كانوا عباداً مسبحين مهللين، قراء صوام أهل صلاة، لكن كانوا حمقى بمعنى الكلمة.
قال ابن تيمية: والسبب أن الخوارج أخذوا بظاهر القرآن وأبطلوا حقائق النصوص - لله درك! وهل هذا إلا الإبداع؟ صدقت! أخذوا بظاهر القرآن يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عنهم: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وقراءتكم إلى قراءتهم وصيامكم إلى صيامهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية}.
عبد الرحمن بن ملجم هذا الفاجر العنيد، كان يقوم من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، أُتي به بعد أن قتل علي بن أبي طالب - تلكم القتلة التي لا تزال جراحها في قلوب المؤمنين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتبكي عجوز العراق مع السحر لما قتل علي وتقول:
يا ليتها إذ فدت عمراً بـ خارجةٍ فدت علياً بمن شاءت من البشر
يؤتى بـ عبد الرحمن هذا وفي جبهته كركبة العنز من كثرة العبادة، يسأله ودمه يسيل في الأرض- فيسبح الفاجر لئلا يضيع وقته في الحديث.
عجباً لك يا فاجر! تقتل أكرم الناس، وأزهد الناس، وأخشى الناس في عهده وتسبح، حتى يقول عمران بن حطان -كلبهم-:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
هكذا معتقده
إني لأذكره يوماً فأحسبه من أفضل الناس عند الله ميزانا
قال شاعر أهل السنة:
يا ضربة من شقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا
إني لأذكره يوماً فألعنه وألعن الكلب عمران بن حطانا
هذه عقيدتهم، وهذا تصورهم، ماذا يفعلون؟ خُطَب الجمعة تكفير في علي، وتكفير في معاوية، وتكفير في عمرو بن العاص والصحابة كفار عندهم، العلماء مارقون ومنهزمون، هذا منهج ضال لا يرضاه رسولنا عليه الصلاة والسلام.(198/6)
منهج القرآن في الوسطية والبشرى
لكن تعال بنا إلى منهج القرآن في الوسطية والبشرى قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] أن تتكلم للناس وأنت تعرف أن لهم طاقات محددة، فلا تكلفهم فوق الطاقة قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] فطبيعة الدين أنه ميسر يناسب الفطر {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] وفي الحديث الصحيح: {قد فعلت قد فعلت} وابن تيمية يرويه في الفتاوى أنه قال: {نعم، نعم، نعم} وهذه رواية مسلم، ومن طبيعة الرسول عليه الصلاة والسلام أنه {يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] أي: أن الأغلال التي كانت على الأمم السابقة قد وضعها عليه الصلاة والسلام عن أمته.
أتى بهذه الآية ابن تيمية رحمه الله وهو يتكلم عن مسح الخفين، والحقيقة انظر إلى العقل إذا تدخل في الشريعة فوق حدوده، أتى بعض الفقهاء، وقالوا: يشترط في الخفين تسعة شروط: أن يكون (جلداً- مخروزاً - قائماً بنفسه - لا ينفذ الماء - يمشى فيه-) إلى آخر تلك الشروط التي كأنها شروط المجتهد المطلق.
من أين نأتي لكم بخف تنطبق عليه هذه الشروط؟ أنأتي به من السماء.
قال ابن تيمية: شروط باطلة، الرسول صلى الله عليه وسلم {يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] هذا مثل من الأمثلة.
أيضاً يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن المتنطعين: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27] من هذا المبتدع الذي يبتدع أحكاماً ويسير الأمة على مزاجه؟ فمن حاد عن مزاجه وعن منهجه وعن موقفه هو، فهو فاسق كافر يميت القضايا، منهزم يميع المنهج الرباني، هكذا يحكم على الناس، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27] أنا أعرف أن من يتسرع ويتعجل يريد رضوان الله، ولكن ليس كل من ابتغى رضوان الله أصاب، والله عز وجل ذكر المبتدعة، فقال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] قال سفيان بن عيينة: نزلت هذه الآية في المبتدعة، زين الله لهم سوء أعمالهم، أتظن عمران بن حطان كان يظن أنه فاجر أو مخطئ، أو الجعد بن درهم، أو الجهم بن صفوان؟ لا، يقول ابن المبارك في الجهم -لأنه كان داعية، وكان يضحي عن مبادئه أكثر من تضحيتي أنا وأنت عن مبادئنا- يقول:
عجبت لدجال دعا الناس جهرةً إلى النار واشتق اسمه من جهنم
الجعد بن درهم ماذا فعل؟ مخطئ فاجر ضال؛ رفض أن يتنازل عن خطئه ويظن أنه صائب، قال له خالد بن عبد الله القسري: أتعود عن رأيك، قال: لا، فقال في خطبة العيد: يا أيها الناس! إن الجعد بن درهم زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، ألا إني مضحٍ بـ الجعد بن درهم ضحوا تقبل الله منكم أضحياتكم، ثم نزل فأخذه بالخنجر قتله حتى يقول ابن القيم:
من أجل ذا ضحى بـ جعد خالد القسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنةٍ لله درك من أخي قربان
يقول: من أراد أن يضحي فليضح مثله، البدنة عن سبعة.
أيضاً يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2] يقول بعض المفسرين: مفهوم المخالفة في الآية أن تسعد، نزل القرآن للسعادة، فالتلاوة فيها سعادة، والحكم به في الناس سعادة، تبيينه للناس سعادة، لا أن تشقي الناس، لماذا نشقي الناس بالقرآن؟ لماذا نشقي الناس بالسنة؟ وسوف أصل -إن شاء الله- في هذه المحاضرة إلى مواقف محمد عليه الصلاة والسلام، وليست من كلامي ولا من كلام آخر من المجاهيل النكرات، لكن من كلام من يجب علينا على رغم أنوفنا أن نستمع له، وأن نتحاكم إليه، كما قال مالك: ما من إنسان إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] فاليسر من طبيعته في العبادة، وفي الدعوة، وفي التربية، والأخلاق، والسلوك، تقول عائشة كما في صحيح مسلم: {ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما} إذا كان الناس يستجيبون لك بالكلمة اللينة، فلماذا الغضب؟! ولماذا التشنج في العبارة؟! ولماذا الجرح؟! ولماذا الوصم بالكفر والفسق؟! لماذا؟!
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] فلا تطلب من الضعيف في العبادة ما تطلبه من القوي؛ لأنه قد علم كل أناس مشربهم.
ومن صفاته عليه الصلاة والسلام: أنه رحمة للعالمين، فهل سأل كل واحد منا نفسه؟ هل سأل الإمام والخطيب والعالم والقاضي ورجل الهيئة نفسه: هل هو رحمة للعالمين أم هو شقاء للعالمين؟ رحمة للعالمين، فلم يقل رحمة للناس فيخرج الحيوانات، ولم يقل للمؤمنين فيخرج الكافرين، ولم يقل للرجال فيخرج النساء أما الرازي فقد مد نَفَسَه في هذه الآية وتكلم كثيراً، والعجيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان رحمة للعجماوات، رحمة للطيور، رحمة للزواحف ورحمة للوحوش.
في سنن أبي داود بسند صحيح: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلس تحت الشجر مع أناس من الصحابة، فأتت حمامة -طائر أنثى- كان أحد الصحابة، قد أخذ أفراخها، فأتت تشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن بلا كلام، ولا نطق حامت على رأسه عليه الصلاة والسلام ففهم أنها تشكو، قال: من فجع هذه بأفراخها، قال رجل: أنا يا رسول الله! قال: رد عليها فراخها} فلما رد أفراخها، فرفرت فرحة جذلانة وعادت إلى عشها.
يقول أحد الشعراء في هذه:
جاءت إليك حمامةٌ مشتاقةٌ تشكو إليك بقلب صب واجف
من أخبر الورقاء أن مكانكم حرم وأنك ملجأ للخائف
هذه رحمته عليه الصلاة والسلام، وسوف أصل إلى وقفة مع رحمته عليه الصلاة والسلام فيما يأتي.
أيضاً وصفه ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه (عزيز عليه ما عنتم) أي: أي شيء يعنت الأمة يعز عليه عليه الصلاة والسلام ويكلف عليه ويشق عليه قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة:128] وقرأ ابن مسعود: من أنفَسِكم، يعني: من أغلاكم، ومن أحسنكم، ومن أرفعكم نسباً وذكراً {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].(198/7)
يسر الرسول صلى الله عليه وسلم
أولاً: من صفات الإسلام أنه بسيط، ويسير، وأنه سهل ليس فيه تعقيد ولا تقعر ولا تشدق، وما صعبناه على الناس إلا يوم تقعرنا في العبارات، وأكثرنا من الحواشي والردود، وأكثرنا من البسط والأخذ والرد، فصعب الإسلام صراحة، وإلا فالرسول عليه الصلاة والسلام يشرح الإسلام في عشر دقائق لأعرابي ويذهب الأعرابي من المسجد، ويقول: والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر، فيقول صلى الله عليه وسلم: {أفلح الرجل ودخل الجنة إن صدق} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، هذا هو الدين.
في الصحيحين من حديث أنس قال: {كان الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فوفد أعرابي فعقل ناقته في طرف المسجد، وجاء يمشي قال: أين ابن عبد المطلب؟ يقصد الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أشهر عند العرب بجده من أبيه، قال الصحابة: هو ذاك الرجل الأبيض الأمهق المرتفق، قال: يابن عبد المطلب، قال: نعم، قال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، قال: سل ما بدا لك، قال: من رفع السماء؟ قال: الله، قال: من بسط الأرض؟ قال: الله، قال: من نصب الجبال؟ قال: الله، قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال آلله أرسلك فتربع عليه الصلاة والسلام، وقال: اللهم نعم، فأخذ يسأله عن أركان الإسلام، فلما انتهى قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر، فيتولى، فيشهد له صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة}.
هذا هو الإسلام، هذا هو الدين البسيط، لماذا لا نشرحه للناس؟ لماذا لا نتحدث به؟ تعال الآن إلى كثير مما يُتحدث عنه من القضايا حتى المعتقد: التعقيد، الردود، استحداث الإشكال، التشبع بما لم يعط، حتى لا يفهم الناس من العقيدة شيئاً، وهذا فعل أهل البدع كـ المعتزلة والخوارج والروافض.(198/8)
يسره عليه الصلاة والسلام في التعليم والتوجيه
يأتيه أعرابي فيصلي معه الصلاة - والحديث في الصحيحين - ويقرأ معه التحيات، فيرفع الأعرابي صوته في آخر التحيات، ويقول: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف من هو الأعرابي، من هو الذي قال هذه العبارة، لأن أبا بكر لن يقول هذا، ولا عمر، ولا أبي، ولا زيد، وهذا في الصف الأول، لكن أتظن الرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول أنت قلت العبارة، لا، لا يواجه، يقول أبو سعيد كما في الصحيحين: {كان أشد حياء من العذراء في خدرها} حتى ذكروا عنه في السيرة: أنه ما كان يبده ببصره الإنسان، يعني: ما كان يشد نظره إليك، فإذا نظرت أنت إليه، خفض طرفه من الحياء قال الله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
قال صلى الله عليه وسلم: {من قال آنفاً -كيت وكيت وتلا العبارة- فسكتوا، قال: من قال؟ فقال الأعرابي: أنا يا رسول الله! قال: لقد تحجرت واسعاً إن رحمة الله وسعت كل شيء} أي: فأين الملايين المملينة ممن يريدون جنة عرضها السماوات والأرض؟ وأين البشرى؟ وأين التسهيل؟ وأين الرحمة المهداة والنعمة المسداة التي حملها محمد صلى الله عليه وسلم؛ لينقذ الألوف المؤلفة من النار ومن العار والدمار؟ أبقى أنا وأنت فقط في الجنة وتصير الأمم في النار، كما يفعل بعض الناس حين يقول: من فعل كذا ففي النار، ومن فعل كذا فعليه لعنة الله، ومن فعل كذا غضب الله عليه، ومن فعل كذا فهو في جهنم، لم يقلها رسولنا أبداً عليه الصلاة والسلام، قام الأعرابي وبال في طرف المسجد؛ ضاقت عليه الدنيا بما رحبت إلا المسجد، قام الصحابة يريدون أن يبطحوه أرضاً.
كل بطاح من الـ ـناس له يوم بطوح
قال صلى الله عليه وسلم: {اتركوه} لأن المشكلة سهلة، ومعالجة الأخطاء بأخطاء أفدح عنف، والنار لا تطفأ بالبترول، إنما تطفئ بالماء، وإذا أردت أن تصلح الخطأ وتعنف، وتريد أن تؤدب حينها ينقلب القط أسداً، لو أغلقت على القط في البيت، وقمت تحارشه حوله الله من قط إلى هزبر، وهذا فعل الناس ولذا قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] استدعاه عليه الصلاة والسلام وأخبره وبين له، وأخذ ذنوباً من الماء وصبه على البول وانتهى، وعاد الأعرابي داعية إلى قبيلته فأسلموا عن بكرة أبيهم.
دخل معاوية بن الحكم -والحديث في مسلم - وهو لا يدري أن الكلام في الصلاة حرام، فقال: السلام عليكم ورحمة الله -والصحابة يصلون- فما ردوا، فعطس واحدٌ منهم، قال: يرحمك الله، فضربوا على أفخاذهم قبل أن يعلموا التسبيح، فقال: ويل أمي أأحدثت شيئاً! فلما سلم قال: {دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت معلماً قبله ولا بعده أرحم منه، وكان على كرسي من حديد، فعلمني وقال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي للذكر والتسبيح وقراءة القرآن} انتهى وصلاته صحيحيه، لأنه تكلم عن جهل، قال أهل الفقه: من تكلم بجهل أو ناسياً فصلاته صحيحة.
أيضاً: الدين أتى بما تفهمه العقول لا بما تحار فيه، وربما يأتي إنسان فيورد قضايا على الناس فتحار فيها عقولهم، قال عبد الله بن مسعود: [[]].
كثير من القضايا أرى أن طرحها ليس صحيحاً، وأن طرحها على الملأ ليس من الحق ولا من العدل، وكلام الخاصة للخاصة، وكلام العامة للعامة.
كان الإمام أحمد يقول للمعتصم كلاماً بينه وبينه لم يقله للناس، وقال للناس كلاماً يصلح للناس.(198/9)
الدعاة تابعون للنبي صلى الله عليه وسلم في التيسير والمحبة للناس
أيضاً ليس بيننا وبين أحد من الناس عداء، لا يتصور بعض الناس أن الدعاة يريدون شيئاً من الدنيا، أو يريدون شيئاً من الأراضي، أو المناصب، أو الممتلكات، أو القصور، فوالله ما رأيت داعية ممن يوثق بعلمه ودعوته إلا يريد الخير، ولا يريد سبباً إلا إن كان شيئاً لا نعلمه في نيته فالله المطلع، وما لسان حال كل منهم إلا كما قال القاضي الزبيري:
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
وهو منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ} [هود:88] وهناك {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] لا يطلبون أجراً على دعوتهم، ولا يريد الواحد منهم كنزاً، إنما يعيش لدعوته فقط.
أيضاً ليس بين الدعاة وبين أحد من الناس ثارات جاهلية، أو نزعات، أو مسألة أساء إلي فلا بد أن أنتقم لنفسي، أو ميراث أخذه جده أو عمته أو جدته، لا، مسألة الدين فقط، الإسلام فحسب، وإلا الرسول صلى الله عليه وسلم جرح عرضه صراحةً، وأدمي عقبه، ووضع سلى الجزور عليه، وأهين في مواقف، وقتل من أصحابه سبعون، وشج رأسه، وكسرت ثنيته، ومع ذلك يقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.
أيضاً الإسلام أيها الإخوة الكرام! أتى موافقاً للفطرة، فلا تحاول أنت أن تلغي هذا الدين الذي تقبله القلوب، والعالم الآن أصبح عالماً متديناً، نسبة التدين في العالم الآن من (76%) إلى (77%) حتى العالم الشيوعي أصبح يتدين بغض النظر عن الديانة التي يعتنقها، وقبل سنوات -كما تعرفون- اعتنق جرباتشوف النصرانية وغيره كثير من الحزب الشيوعي وتخلوا عن مسألة الإلحاد، لأنها نظرية خاطئة، والله يقول: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] لكن كيف يتدين الناس تديناً صحيحاً؟ يوم يرون عرض الإسلام عرض التبشير، عرض السهولة , عرض اليسر.
وإني من هذا الموقف أقول كلمة ويوافقني عليها الدعاة ولا أعلم داعيةً يخالفني في هذا والله لا أريد بها مجاملة ولا محاباة والله الشاهد: إنني لا أعلم في هذا العصر عالماً له منهج رباني (من الأحياء) علمه سديد، ودعوته ومنهجه، ويسره وفتاويه كسماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وإنه يستحق أن يكتب في منهجه، في الدعوة، وفي التعليم، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كتب، وأن تدرس وأن تعلم، انظر إليه الآن في منهج الفتوى، فليس هو بذاك الذي يتعلق بالفروع ويطرح النصوص، ولا هو بالظاهري الجامد على ظاهر النص، ولكنه الموافق المتألق الذي يستوحي معلوماته من الكتاب والسنة بفهم صادق، ونية يريد بها الله والدار والآخرة، هذا أمر يستحق محاضرة عن منهج سماحته في الدعوة حتى نري شبابنا وجيلنا عالماً في الأحياء، وإلا فمن عدل الله ألا يعدم الأمة من عالم حجة ومجدد، من عدله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ألا يعدم الدنيا من ذلك.
مراعاة واقع الناس، أنا أدعو إخواني من الدعاة أن يراعوا واقع الناس، وألا يطلبوا من مجتمعنا هذا أن يكون كمجتمع أبي هريرة وسلمان وسعد بن أبي وقاص، لأن القدوة عندهم محمد عليه الصلاة والسلام، وجبريل يتنزل بالوحي صباح مساء، أما زمننا أيها الإخوة! فشرور وفتن وابتلاءات وإغراءات ومحن، يقول أبو الدرداء رضي الله عنه -فيما نسبه العلماء إليه كـ ابن عبد البر والخطيب البغدادي - قال: [[إنكم في زمن من ترك عشر ما أمر به هلك، وسوف يأتي زمن من فعل عشر ما أمر به نجى]] وهذا ليس على إطلاقه، ولكن يقصد به من النوافل، أو ما زاد على الفرائض.(198/10)
منهجه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع العصاة
مراعاة واقع الناس، الضغوط التي تقع عليهم، لماذا عصى صاحب المعصية؟
صاحب المعصية لا نفرح أنه عصى الله، لا يبشر بعضنا بعضاً أنه عثر على رجل يشرب الخمر، الواجب أن نبكي إذا رأينا رجلاً يشرب خمراً، لا ندين الناس بالتهم، لا نذهب ونحرج الناس إلى أن يعترفوا، أنا أرى أن هناك ممارسات خاطئة، مثلاً: نجد رجلاً شرب الخمر وينكر أنه شرب الخمر، ولا نجد للخمر رائحة ولا علامات، فنقول: لا، وتحت السوط، وتحت التقارير، وتحت الشهود حتى يعترف، هذا ليس منهجه عليه الصلاة والسلام.
أيضاً لا نتهم الناس في نياتهم، ولا في مزاولاتهم لأعمالهم التي ظاهرها الخير.
وأيضاً لا نتجسس لنكشف أناساً تستروا بالمعاصي وما جاهروا بها، ثم لا نفرح بالمجتمع أنَّا أدنَّاه بالخطأ.
في الصحيحين أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أتي بشارب خمر شرب الخمر كثيراً، وفي بعض الروايات في غير الصحيح أنه شرب إلى خمسين مرة.
تصوروا أيها الإخوة! لو أتي لنا برجل الآن شرب الخمر خمسين مرة، بعض الناس لا يسلم عليه ولا ينظر لوجهه أصلاً، فقال أحد الصحابة: {أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به في الخمر! فغضب عليه الصلاة والسلام وقال: لا تكن عوناً للشيطان على أخيك، فوالذي نفسي بيده ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله} فأثبت له أصل الحب، وبين أن فيه خيراً وأنه لا زال على الفطرة، ومعنى الكلام: لماذا نخسر هذا الرجل ولو تكرر منه الذنب، علَّ الله أن يصلحه، وكلنا مذنبون وكلنا خطاءون.
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
أيضاً في الصحيحين: أن ماعزاً الأسلمي زنى، فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تصوروا تلكم الشفافية في التقوى الذي بلغها مجتمع الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يقول ابن الوزير في العواصم والقواصم: والله الذي لا إله إلا هو لعصاة أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام خير من طائعي زماننا، لم يكن عند الرسول صلى الله عليه وسلم أجهزة تجسس ولا مباحث ولا استخبارات ولا هيئات، ولم يرسل للناس أناساً يكبسون عليهم بيوتهم، لكنها التقوى، فلما زنى تذكر الله والقدوم على الله والجنة والنار.
أتى ماعز بنفسه ووصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ودخل عليه وقال: زنيت يا رسول الله! فهل استبشر صلى الله عليه وسلم! لو قيل لبعض الناس: اعترف فلان بالزنا لقال: خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسكلوه أثبتوا عليه، اكتبوا محضراً، خذوا بصماته؛ لأننا نخاف أن ينكر غداً، ليس هذا منهجه عليه الصلاة والسلام ماذا فعل؟ -حول وجهه من الجهة اليمنى إلى اليسرى- غضب، لا يريد صلى الله عليه وسلم أن يفتضح الناس.
يقول كما روى الحاكم عن ابن عباس: {يا أيها الناس من ابتلي بشيء من هذه القاذورات، فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه الحد} هذا قوله عليه الصلاة والسلام وهذا الحديث في بلوغ المرام لـ ابن حجر.
{فحول وجهه- صلى الله عليه وسلم- فاعترف ماعز حتى تكلم أربع مرات، وذهب به ورجم وفر قبل الرجم، فمسكه الصحابة ورجموه، قال صلى الله عليه وسلم: ألا تركتموه} لماذا ما تركتموه يذهب؟ لعله ما زنى من يدري؟!
وعند البيهقي فيما يروى عنه صلى الله عليه وسلم وبعض أهل العلم يصحح هذا الحديث لكنه يقبل التحسين ويرويه مثل ابن عدي: {ادرءوا الحدود بالشبهات} وزاد البيهقي {فإن الإمام أن يخطئ في العفو أحسن من أن يخطئ في العقوبة}.
زنت امرأة ولا يعلم بزناها إلا الله، ولم يأت الرسول صلى الله عليه وسلم خبر من المجتمع، أو إخبارية، أو قرار أنها زنت، ولم يصله ملف اعتراف، ولكنها لما زنت تحرك الإيمان الذي في قلبها، الإيمان الذي في عصاة الصحابة أكبر من الإيمان الذي في قلوب الطائعين في هذا العصر، فذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام واعترفت، قال: {عودي حتى تضعي} لأنها حبلى من الزنا، فعادت ولم يكتب عليها بياناً ولم يثبت عليها ولم يأخذ منها تقريراً وردها إلى أهلها.
أسألكم بالله لو أنكرت هي ووقفت في بيتها هل سيرسل لها الرسول صلى الله عليه وسلم من يأخذها؟ لا والله، وأتت بعد أن وضعت بطفلها -قال الراوي: وكان في لفائف- في أول يوم لكن الإيمان ارتفع في قلبها كالجبال، وقدمته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت: (طهرني يا رسول الله!) -فاعتبرت الحد تطهيراً- قال الرسول صلى الله عليه وسلم: عودي حتى ترضعيه، فإذا فطمتيه فتعالي -ولم يأخذ عليها شهوداً وكفى بالله شهيداً- فذهبت فأرضعت طفلها، فلما فطمته، أتت به وفي يده كسرة خبز قال صلى الله عليه وسلم: من يكفل هذا وهو رفيقي في الجنة كهاتين؟ فأخذه أحد الأنصار وذهبوا بالمرأة فرجموها، والرسول صلى الله عليه وسلم قيل في بعض الروايات: كان معهم، فقال أحد الصحابة: أخزاها الله لو أنها استترت بستر الله، قال: لا تسبها والذي نفسي بيده إني لأراها تنغمس في أنهار الجنة، وفي الرواية الصحيحة: {والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم} وفي لفظ: {لو تابها صاحب مكس لغفر له} وفي بعض الروايات: {لو وزعت على أهل المدينة، لكفتهم}.
هذا فضل الله، وهذه رحمته؛ وذاك عطاؤه لهذا العاصي أن يتطهر وأن يعود في الدين، وأن يدخل جنة عرضها السماوات والأرض.
من الذي حجب الجنة عن السارقين والزناة وشربة الخمر بعد أن يتوبوا إلا الخوارج؟ ولذلك فهم مبتدعة عند أهل الإسلام، لكن ما دامت رحمة الله عز وجل وسعت هؤلاء العصاة وعادوا وأنابوا وجادوا بالنفوس، من منا الآن يجود بنفسه كما جادت المرأة الزانية، ثم تابت؟
يجود بالنفس إن ضنَّ البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود(198/11)
الستر على العصاة
نحن دعاة قبل أن نكون مؤدبين، وفرق يا أيها الإخوة! بين من يجاهرون الله بالمعاصي، كمن يبني خمارةً في بيته وقصره، ومن يروج المخدرات ويتعامل بها ويزاول ذلك، ومن ينشئ بيتاً للدعارة -والعياذ بالله- فهؤلاء مجاهرون محاربون لله ولرسوله، لكن إنسان عثر عثرة، أو تستر بشيء وهناك ظنون، وهناك اتهامات فقط، فلا نذهب عليه ونجمع الناس وندينه حتى يعترف! وإلا فهي ممارسات خاطئة، أنا أحاج بالكتاب والسنة أن هذا لم يكن هديه عليه الصلاة والسلام.
أيضاً علينا أن نفتح باب التوبة للناس، وإني لأعلم أن كثيراً من العصاة ما ردهم من الهداية إلا لأنهم أحبطوا أمام الوعظ الناري الحار الذي أغلق عليهم باب الهداية.
عند الترمذي من حديث سلمان بسند حسن: {إن الله ستير يحب الستر} فهو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يحب أن يستر عباده.
{يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم} وعند مسلم: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها}.(198/12)
الرحمة بالمؤمنين والغلظة على الكافرين
العنصر الرابع: الرحمة بالمؤمنين والغلظة على الكافرين والمنافقين:
هذا مبدأ إسلامي، وأصل الاعتقاد لا يزول بمخالفة فرعية ولا بمعصية، هذه قاعدة لـ ابن تيمية رحمه الله.
صفة رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه بالمؤمنين رحيم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] هؤلاء هم المؤمنون، أشداء على الكفار رحماء بينهم.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73] لأن هناك دعوى تنشرها أجهزة الإعلام بين الفينة والأخرى، وتتكلم بها النخبة المثقفة -كما تسمي نفسها- وهي العارية عن علم الكتاب وعلم الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه النخبة المثقفة في البلاد مثل: الضباط الأحرار في البلاد الأخرى، والأفكار واحدة، والمسار واحد، فيرددون: الوفاق العالمي، والأخوة الإنسانية، والعلاقة الدولية، والإنسان أخو الإنسان، ولا بد أن نسعى إلى بسط السلام ونبذ الفرقة أي أن المسلم واليهودي والنصراني والبوذي والماركسي كلهم تحت مظلة الوفاق الدولي، والإسلام يرفض ذلك، وليس من التشنج، وليس من الفضاضة، وليس من التنفير أن نهاجم معتقدات النصارى الصليبيين، ولا اليهود ولا أذناب اليهود ولا الماركسية بل مزيداً من تعريتهم وفضحهم، والله عز وجل قد لعنهم في كتابه سُبحَانَهُ وَتَعَالى ولعنهم رسوله عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123] لكن لمَّا ذاب الولاء والبراء انقلبت الموازين، الآن يلقى الخواجة بالاحترام والشكر والتقدير، والعزايم والهدايا، والمرتب العالي، والسيارة الفخمة، والسكن في القصور، ويلقى المؤمن بالاتهام بالدروشة والفضاضة، والتنفير والغلظة حتى يقولون: إن الأشقر دائماً له من لونه نصيب، والأبيض له نبأ غريب وخبر عجيب، وتجد له كأن طابع انهزام المسلمين الداخلي من هذا المد الحضاري الذي يسمونه مد حضاري دخل عليهم حتى في المعاملات، فتجده إذا تكلم مع الخواجة تكلم بانبساط وانشراح وبشاشة وهشاشة ورضا، وإذا تكلم مع إخوانه المؤمنين إذا هو يغضب ويزبد ويرعد.
قلب بعض الناس هذا المفهوم، فتجده أحياناً مع إخوانه في مسائل خلافية ويغلظ، بينما في مسائل كبرى لا يتكلم فيها، أحياناً تجد أفكاراً علمانية تطرح في الساحة وفي الصحف والمجلات، وفي الراديو على الشاشة ولا تجد من ينتقدها أبداً بحجة الهدوء والسكينة، لكنه على إخوانه الدعاة وطلبة العلم من أشد الناس تسلطاً ومن أضخمهم عبارة.(198/13)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس غلظة ولا تشهيراً
أيضاً ظن بعض الناس أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشهير، وهناك من يريد أن يلغي مسألة الهيئات، وأنها ليست من الإسلام، وأنها أساءت سمعة البلاد، وهذا ليس بصحيح، ويوم تلغى الهيئات، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تلغى هوية لا إله إلا الله محمد رسول الله، يقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الخونة العملاء المرتزقة من أهل البذاء والنفاق والعمالة العالمية من الصهاينة وغيرهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79] جريمتهم أنهم لا ينهون عن المنكر، مصيبتهم أنهم لا يأمرون بالمعروف، تريد ديناً ليس فيه محتسبون يأمرون وينهون، لا تقوم شئون العباد ولا البلاد إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(198/14)
الاهتمام بالمنكرات الكبرى
أيضاً: سكوت بعض الناس عن المنكرات الكبرى مع انقطاعهم إلى بعض المسائل واستحداثهم لبعض المشكلات؛ وفر جهدك بدل أن تتكلم ساعتين عن تحريك الإصبع، وهي من السنة ولا بد أن تحرك , وأنا لا ألغيها ولا أهاجمها، لكن وفر هذا الجهد في المسائل الكبرى كموضوع الربا، موضوع الفساد الذي يوجد في كثير من النواحي، الطرح الغثائي، مهاجمة العقيدة الإسلامية، الغثاء الفكري التي تعيشه الأمة، موت الولاء والبراء، انسحاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من القضايا.(198/15)
التحليل والتحريم
العنصر الخامس: ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله، أو يحل ما حرم الله، ربما يتسرع متسرع فيحب مسألة التحريم، يحب دائماً يقول: حرام حرام، حتى إن بعض المرتدين والمنافقين عيروا المهتدين والمستقيمين بذلك، حتى يقول أحدهم وهو يتبجح في مجلس: هؤلاء حرموا كل شيء حتى السُكرَّ، ويقول أحدهم: صليت الجمعة -اسمع الكذب- فقام خطيب يخطب فينا، فقال: حلق اللحية حرام، وإسبال الإزار حرام، والغناء حرام، والموسيقى حرام، وكل شيء حرام.
والله ما قاله، وهذا من التشويه، هذه النصوص المزيدة من أكياس التشويه لمعالم الإسلام.
أيضاً: يصفون الدعاة بالعنف:
وأنا أجزم جزماً أنه ليس هناك عنف، وإن كان في العبارات غلظة؛ فهذا الذي أريد أن أعالجه هذه الليلة إن استطعت، أو وفقت، لكن أن يكون هناك عنف بمعنى العنف الذي يتعارف عليه الناس، فليس هناك عنف ولا تطرف، العنف يا أخي: مهاجمة المؤسسات بالحديد والنار، العنف: الاغتيال، العنف: إسالة الدماء، العنف: فتنة طامة عامة، العنف: حمل السلاح، العنف: قطع الرءوس، العنف: اقتحام المنازل للقتال، لكن هذا لم يحدث أبداً، ولم نسمع بصورة ولو واحدة أنه حدث، فلماذا يوصم هؤلاء بالتطرف؟!
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116].
أيها الإخوة: ليس لأحد من الناس أن يحرم إلا ما حرم الله ورسوله، ولا يحلل إلا ما حلل الله ورسوله، ولا يوجب إلا ما أوجب الله ورسوله، ولا يستحب إلا ما استحبه الله ورسوله، ولا يكره إلا ما كرهه الله ورسوله، ولا يبيح إلا ما أباحه الله ورسوله، هذه قاعدة يذكرها شيخ الإسلام في أصول الفقه كثيراً، لأن بعض الناس جعلوا من أنفسهم مشرعين، وهذا يدل على الجهل، وقلة الوعي، عدم المعرفة، وتحريم الحلال كتحليل الحرام سواءً بسواء، حتى المسائل الخلافية ليس لك أن تسارع إلى التحريم فيها.
ذكر ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين أن الإمام أحمد كان إذا سئل عن مسألة فيها تحريم، قال: أكرهها، أو أكره هذا، أو أخشى أن تكون حراماً؛ من الورع، لأنه لا يدري هل هي حرام أم لا.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة:101] فالواجب الورع وعدم إحراج الناس في تحريم ما لم يحرمه الله عز وجل، وما زاد عن حده انقلب إلى ضده، وقد يكون تنطعاً، ولذلك لما تنطع النصارى فحرموا على أنفسهم أموراً حرمها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عليهم، وفيه حديث: {إن من أعظم الناس جرماً عند الله يوم القيامة من سأل عن شيء لم يحرم فحرمت من أجل مسألته}.
وورد في الحديث وهو يحسن عند أهل العلم ولو أن ابن رجب نقد هذا الحديث: {إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم فلا تسألوا عنها}.(198/16)
التسرع في التكفير
العنصر السادس: التحذير من التسرع في التكفير:
{سباب المسلم فسوق وقتاله كفر} كما قال عليه الصلاة والسلام، والتكفير عند أهل السنة والجماعة أضيق من ثقب الإبرة، ويذكر عن ابن تيمية في ترجمة ابن النفيس: أنه لما حضرته الوفاة استقبل القبلة، وقال: تبت عن كل من كفرته من أهل القبلة، وأقل الناس تكفيراً هو ابن تيمية ومن يقرأ الرسائل والرد على البكري يجد أنه يعتبر الكثير من الناس الذين اشتهروا عند الكثير منا أنهم كفار، ويحمل كلامهم على محمل جميل وينصف ويخاف الله في ذلك، لكن تجد التكفير يظهر على ألسنة الكثير لجهلهم في فقه الدين.
قال صلى الله عليه وسلم: {من قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما إما القائل وإما المقول فيه} فلماذا نقول كافر؟ ولماذا لا نستغني عن هذه العبارة؟ وهل كلفنا أن نكفر إلا من أعلن كفره وعرفنا باليقين أنه كافر؟
أيضاً لا أريد في المقابل تمييع قضية التكفير فتقول: لا تكفر الناس بترك الصلوات الخمس، أو رجل يدوس المصحف بحذائه، فنقول: أحسن الظن به، أو يدمر حماة فيقتل ثلاثين ألفاً، فيقال: لا، لا تكفر اتق الله.
كيف هذا؟! هذا إماعة للقضية ومن نواقض لا إله إلا الله، أو من نواقض الإسلام التي كتبها الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، أن من لم يكفر الكافرين أو شك في كفرهم فهو كافر، فلا بد أن نكفر الكافرين، لكن لا نكفر المسلمين أو العصاة منهم.(198/17)
وقفة مع كتاب الحق الدامغ للخليلي
قرأت من قريب كتاب الحق الدامغ، وهو للخليلي من عمان، واكتشفت فيما بعد أنه خارجي، وأتى بأهل المعاصي فأخرجهم من الملة جملةً وتفصيلاً، ولو سرنا على قاعدته، لخرجت دول الخليج من الإسلام ولم يبق أحد، وهذا المنهج خارجي بحت، والرجل في كتابه مبتدع، لأنه دافع عن ثلاث قضايا، وأنا أحذركم من هذا الكتاب، وهو يباع في الأسواق وهذه القضايا هي:
1/ أن الله لا يرى في الآخرة.
2/ أن أهل الكبائر كفار.
3/ أن القرآن مخلوق.
وهل أخطأ المعتزلة وكثير من الخوارج إلا بهذه المسائل وأمثالها وبدَّعهم أهل العلم إلا بها، فنعوذ بالله من قلة الفقه في الدين.
للكفر موانع وله مقتضيات، قد تتخلف بعض المقتضيات وتوجد بعض الموانع، فأنت تجد إنساناً قد يقول كلمة هي كفر، لكن له موانع، أو مقتضيات، أو تسأله عن حكمها فلا يدري! يأتيك رجل في أرض المسلمين، لكنه عاش في البادية لم يصل الصلوات الخمس، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من ترك الصلاة فقد كفر العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} فتقول: كافر، هذا ليس بصحيح.
بل تسأله: هل الصلوات الخمس مفروضة؟، فإن قال: نعم أعلم ذلك، لكني لا أصلي، حينها يكفر، لكن قال: لا أعلم ذلك، ولا أسمع بالصلوات الخمس إلا منك الآن، فهذا لا يكفر، وقس على ذلك من أمثالها.(198/18)
التقارب مع أهل البدع
الخوارج متهالكون في التكفير حتى كفروا بعض الصحابة، وكفروا أهل الكبائر غير المستحلين لها، يقابلهم أيضاً مرجئة العصر، ومساراتهم وسيعة حتى إنهم يرون أنه لا خلاف مع أهل البدع، وأن المسألة اعتقاد فحسب، والمقصود أنه يوجد في الساحة من يميع القضايا، ويقول: المسألة مسألة عقيدة فقط، من قال: (لا إله إلا الله) فهو أخونا.
ما رأيك في الرافضي؟، قال: أخونا وحبيبنا وليس بيننا وبينه خلاف، والخوارج أحبابنا، والمرجئة إخواننا، والقدرية أخوالنا.
فإذا قيل له: من هو العدو؟ قال: شامير.
فهل هو العدو فقط؟ أما هؤلاء -المبتدعة- فيقول: لا تفرق كلمة المسلمين، وادع إلى الاتفاق، ومدوا الجسور مع هؤلاء!!
إذاً فما هي ميزة أهل السنة والجماعة؛ المذهب الذي قدم صفوة العلماء دماءهم رخيصة من أجله، وشنقوا وجلدوا وحبسوا؟ لماذا سجن أحمد بن حنبل؟ لماذا ضرب بالسياط؟ تدري كم جلد الإمام أحمد بن حنبل يقولون: ما يقارب ألف وستمائة سوط في ستة وثلاثين شهراً حتى يقول له أحد الخمارين: -انظر العصاة للمبادئ يخدمون مبادئهم وهم عصاة- وكان مسجوناً معه: يا أحمد بن حنبل! اصبر على ضرب السياط، فإنك تجلد من أجل أمة محمد عليه الصلاة والسلام، والله الذي لا إله إلا هو لقد جلدت في الخمر ألف وستمائة سوط وما تراجعت، هكذا فلتكن الشجاعة والثبات.
يذكرون في بعض المذكرات عن الأكراد أن رءوسهم يابسة من الشجاعة، فقيل: إن سلطاناً من السلاطين كان حارسه كردياً وبينما الوزراء عنده جلوس والسلاطين لا يريدون أن يكسر لهم جاه، فقال السلطان للناس: الحبحب يقطع بالسكين أو بالمقص، قال الوزراء كلهم: بالسكين، قال السلطان: نعم بالسكين، قال الكردي: لا بالمقص، قال السلطان: أنت وليد نعمتي وتخالف أمري: بالسكين، أو بالمقص؟ قال: بالمقص، قال: أوقفوه، فأوقفوه يومين، ثم استدعاه في اليوم الثالث: المقص أو بالسكين؟ قال: بالمقص، قال: غيبوه في البركة في الماء، أنزله الجنود، تدريجياً في الماء يغرقونه، ويقول: بالمقص بالمقص بالمقص بالمقص، قالوا: فلما اختفى رأسه أخرج إصبعه ويقول بها كذا، هذا من التضحيات إلى آخر قطرة من الدماء، فالمقصود: أن تنظر إلى الخمارين والسكارى كيف يبذلون دماءهم في سبيل منهجهم، فلما عرف الإمام أحمد قال: فما شد قلبي أحد كما شد قلبي ذاك الرجل جزاه الله خيراً.
الإمام أحمد يدعو له؛ لأنه لا زال مسلماً لا زال يقول: لا إله إلا الله، لا زال يصلي فدعا له، قال: جزاه الله خيراً، فاشتد قلب الإمام أحمد وانتصر بإذن الله، وحقق منهج أهل السنة والجماعة.
لماذا سجن ابن تيمية؟ أصل ابن تيمية هذا عجيب فهو دائماً في الحديد يخرج من قلعة دمشق إلى الإسكندرية؛ لأنه لا يريد الباطل، يريد أن يثبت منهج أهل السنة والجماعة، فقصدي: أن مرجئة العصر يتقون الله فينا كلما تكلمنا عن طوائف المبتدعة، قالوا: اتقوا الله لا تشتتوا شمل المسلمين، المسلمون منهم الرافضة ومنهم المرجئة ومنهم الخوارج وهؤلاء كلهم مسلمون، لا أهل السنة والجماعة فقط.
هذا هو المنهج الرباني الذي يجب أن نربي الناس عليه، وأن ننشره، وعليه دعوة الإمام أحمد بن حنبل والإمام ابن تيمية والإمام محمد بن عبد الوهاب، وهؤلاء الثلاثة نجوم في عصورهم وحسبك بهم.
تقريع الناس وتوبيخهم في الوعظ والتعليم ليس من هديه عليه الصلاة والسلام، التقريع والتعنيف تزكية ضمنية للمتكلم وإدانة للمستمعين، وإلى متى يحتمل الإنسان من يؤدبه ويجرحه؟ هو يجرحه ويعرض عليه سلبياته.
من مناهج أهل السنة والجماعة أنهم لا يوبخون على رءوس الملأ، ولا يقرعون بوعظهم الناس، ولا يشهرون العصاة بالأسماء، أو بالعلامات التي تفهم، بل إنهم يعرضون الحق ويعرضون الباطل.
أيضاً: ليس من مناهجهم التكتم على الباطل أو المنكرات، أو الفجور الموجود بحجة أن يستروا على العصاة فلا يعرضون الباطل، لا، هذا خطأ، وقضية ألا تعرض إلا الجوانب الحسنة فقط، ولا تعرض السيئة في المجتمع غير صحيح، بل عرضها بشكل عام لا يفهم منه إرادة توبيخ أحد، أو تجريحه.
كان صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: {ما بال أقوام يصنعون كذا وكذا} وقال لقبيلة بني عبد الله: {يا بني عبد الله إن الله أحسن اسم أبيكم، فأحسنوا الاستجابة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وأمره ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].(198/19)
تغليب الخوف على الرجاء
أيضاً: تغليب الخوف على الرجاء، والترهيب على الترغيب، وهو منهج بعض الدعاة وهم قلة أنهم يتكلمون في الخوف أكثر من الرجاء، وفي العذاب أكثر من الرحمة، وفي سوء الخاتمة أكثر من حسن الخاتمة، وفي النار أكثر من الجنة، ويسبون أكثر مما يثنون، فالداعية عليه ألا يقدح ولا يمدح، بل يمدح الله عز وجل، والله يحب المدح، وهو الذي يستحق المدح، الداعية يعرض منهجه السليم السديد على الناس، وفي الترغيب والترهيب تسمى هذه النظرة السوداوية، وكأن العالم أغلق من الخير، وأنه أصبح عالم فتن ومصائب، وعالم كوارث فقط، ودين الله وسط بين الغالي والجافي، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، والله قرن بين الترغيب والترهيب، فقال: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3] وقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد:6].
أخفق الحارث المحاسبي لما ألف كتاب الرعاية، ترك الناس المساجد وهو وإن أراد خيراً، لكن دخل في الخطرات والوساوس والواردات مثلاً: تريد أن تدعو العاصي وتقول: انتبه من صلى وقد وسوس في صلاته أظنها لا تقبل، ومن أتى إلى المسجد يريد رياء وسمعة الناس أظن إقباله باطل، ومن دخل المسجد ونظر إليه الناس فأعجبوا بخشوعه أظنه يبطل خشوعه، فإنه بالتالي يترك المسجد ويترك الصلاة ويترك الخشوع، هذا منهج الحارث المحاسبي، وتبعه في ذلك الغزالي في إحياء علوم الدين، وأنا أنصح أن يحذر الناشئة من قراءة هذا الكتاب، لأنه سوف يسحقهم سحقاً.
أيضاً: بدون مجاملة، وقد أكون مخطئاً: ليت ابن القيم لم يؤلف مدارج السالكين، وليته حفظ جهده وذكاءه في كتب أخرى، وقال هذا مثل: محمد حامد فقي وغيره، والصحيح أن منهجه تتبع الخطرات والوساوس، وهي ليست من مناهج الصحابة، ولو أن ابن القيم سلفي صرف من أئمة أهل السنة والجماعة، لكن أمَّا في هذا الكتاب، فإنه يتعب في التربية، ويدخل بك في متاهات، ويريد أن ترتقي بروحك إلى مرتقى صعب، حتى لو أتيت بالصحابة ووزنتهم في مدارج السالكين، لرأيت بوناً شاسعاً عن ما يريده ابن القيم، هذه وجهة نظر.(198/20)
فتح باب التوبة للعصاة
أيضاً: علينا ألا نغلق أبواب التوبة أمام العصاة، وأن نرحب بهم، وأن نخبرهم أن رحمة الله وسعت كل شيء.
في الصحيح وقد أورده الشيخ / الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب" التوحيد ": {أن رجلاً قال لعاصٍ: تب إلى الله، قال: اتركني وربي، قال: تب إلى الله، قال: اتركني وربي، قال: والله لا يغفر الله لك، وفي لفظ: لفلان، قال الله- عز وجل-: من الذي يتألى علي؟ أشهدكم أني غفرت لهذا، وأحبطت عمل هذا}.
غفر للعاصي، وأحبط عمل هذا الطائع المعجب بطاعته.
أيضاً: مما يروى في كتب التاريخ أن أحد العلماء رأى أناساً في سفينة نزلت من دجلة، وهم يصفقون ويضحكون ويغنون، وعندهم مزامير وأعواد وكمنجة فضحكوا، فقال أحد الناس من المتشددين المنفرين: يا شيخ ادع على هؤلاء أن يغرق الله سفينتهم، فالتفت الشيخ الإمام العاقل الفطن إلى القبلة، قال: اللهم كما أضحكتهم في الدنيا، فأضحكهم في الآخرة في جنتك.
وماذا يضر هذا العالم أن يدخل الجنة المغنون؟
ولذلك من الأحكام الجائرة أنه مات بعض المغنين العالميين (موسيقار) فسمعت بعض الخطباء يقولون: مات إلى جهنم وسوء المصير.
وهذا لا يجوز لأنه عند أهل السنة ضوابط في الحكم على الناس بالكفر والإيمان والحنة والنار حتى ولو كان عاصياً فاسقاً؛ فإنه لا يستطيع الحكم عليه بالنار إلا الله عز وجل.(198/21)
الوصول إلى من في وصوله الخير والنفع
أيضاً: المطلوب مد الجسور مع الناس، والوصول إلى من في وصوله الخير والنفع، وإذا رأيت أن من النفع أن تصل إلى هذا الرجل، أو إلى ذاك، فصل إليه وتبسم له وحاول أن تكسبه.
موسى عليه السلام أرسله الله إلى فرعون، أنا قرأت وأنتم قرأتم أيضاً، وهذه موجودة في كتاب الشيباني في ترجمته لـ ابن تيمية فيما أظن أن ابن تيمية كان يخرج غالب الأيام ويذهب إلى ابن قطلوبك فيدخل عليه في قصره كثيراً، فيقول السلطان -مجاملة-: يا شيخ! يا إمام! أنت أولى أن نزورك في البيت، قال ابن تيمية: دعنا من كدوراتك، كان موسى يأتي فرعون في اليوم مراراً، فالله يرسله يقول: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] لا تنتظر أن يأتيك يطرق عليك بابك، لو بقيت خمسين سنة ما أتاك؛ لأنه غني عنك، ويتصور أن الدنيا عنده، وأن القرار بيده وأنه هو المؤثر، ولماذا يأتي عندك؟ فأنت تذهب إذا رأيت أن هذا الأصلح، وتتوكل على الله، وتدعو الله أن يكون عملك خالصاً لوجهه في نفع المسلمين، ثم لا تنافق ولا تجامل، ولا تتنازل عن ذرة من دينك، ولا تخاطر بمبادئك وتقدم النصح مثلما فعل أئمة الإسلام الزهري وابن تيمية وأحمد فعلوا ذلك.
أيضاً: الدعاة كالأطباء يأتون مرضى الناس، والناس قريبون من الداعية، فهم على الفطرة، والرسول عليه الصلاة والسلام يجوب الأسواق والمنتديات ويصل إلى الطائف ويدخل سوق عكاظ، ويتكلم مع المنافقين ويصل إلى اليهود، ولكن صنف من الناس يريد أن يأتي الناس إليه في بيته ويطرقون عليه بيته.
أنا أرى أن من النقص عند بعض المشايخ الأجلاء أنهم فوتوا وفرطوا وخسروا الجيل، خسروا الشباب صراحة، أيظن العالم أن من مهمته أن يبقى في بيته حتى نطرق عليه الجرس عشرين مرة، ثم يخرج نسأله عن مسألة في الطلاق والحيض فقط! أهذه مهمته في الحياة! ابن تيمية يا أخي! كان على الرصيف وفي المسجد، وفي السوق، وفي المعركة، ومع البقالين، أنا أريد العالم أن يكون مع الناس ومع العامة والأطفال والشباب في كل مكان، هذا هو العالم، العالم يتبسم، العالم يفرح أن يطرق بابه، ويرحب بهذا الجيل، ويحمد الله أن أتي إليه، وأنه حُبَّ في الله عز وجل.
فأنا أقول: إن الكثير خسروا بسبب هذه الممارسات.
أيضاً: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للرسول صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] فعمم التبليغ، التبليغ ليس لطائفة فقط، كثير من المراكز الصيفية والمخيمات لا يدعى إليها إلا الملتزمون مع أنهم أصلاً جاهزون من قبل، الملتزمون مهيئون للطاعة، لكن من يذهب إلى المقاهي، وإلى المنديات، ونوادي الكرة، والمسرح، والملاعب، والقصور، والفلل؟ الدعاة المخلصون.(198/22)
عدم تكليف الناس في عبادتهم
من الواجب على العالم والداعية عدم تكليف الناس في عباداتهم، فلا نريد التنفير في الطاعة لا في إمامة المسجد، ولا في خطابة الجمعة، ولا في القراءة على الناس، ولا في تعليم الناس.
يا أيها الإخوة: دعونا نتحاج إلى الكتاب والسنة، صلى معاذ رضي الله عنه وهو أفقه فقهاء الأمة، وهو عالم الأمة، فطول بالناس، قرأ سورة البقرة ظن أنه أحسن؛ لأنه يقرأ قرآناً ويكسب أجراً، فمل بعض الناس من الصلاة ورفضوا أن يصلوا معه، لأنهم لا يتحملون هذا التطويل وشكوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فغضب صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً حتى يقول جابر: {ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد غضباً منه في تلك الموعظة، وقال: أفتانٌ أنت يا معاذ! أفتانٌ أنت يا معاذ! أفتانٌ أنت يا معاذ} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {يا أيها الناس! إن منكم منفرين، من صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم المريض والضعيف والكبير وذا الحاجة} وهذا درس للأئمة حتى لا يطيلوا على الناس، أتظن الناس على قلبك وقلب شباب الصحوة، رجل تاب من أسبوع، ورجل اهتدى من شهر، ورجل ترك الخمر أمس، ورجل كان يستمع الأغنية قبل الصلاة، فتريد أن تشده معك حتى يترك المسجد، اكسب الناس في صلاة التراويح، يبدأ بعض الأئمة والناس ملء المسجد، فشدد حتى ما بقي معه إلا صف فنقول: اتق الله واكسب الناس، وهذا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: {إني لأدخل في الصلاة فأريد أن أطيل، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه} وفي سنن أبي داود قال عثمان بن أبي العاص الثقفي: {يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً} والشاهد: اقتد بأضعفهم.
أيضاً: كان الرسول صلى الله عليه وسلم معاملته مع الثلاثة الذين شددوا على أنفسهم في العبادة، قال: {أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء , وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني}.
رأى سعيد بن المسيب قوماً يصلون من الظهر إلى العصر -وهذا موجود في سير أعلام النبلاء في ترجمته- فقال له أحد العباد: ما شاء الله انظر يا أبا محمد! لهؤلاء الشباب يصلون من الظهر إلى العصر -معجب هذا الشيخ- قال سعيد بن المسيب سيد التابعين: لا، والله ليست هذه بالعبادة، إنما العبادة الكف عن محارم الله والتفكر في أمر الله، وهذه الذي بلغت سعيد بن المسيب هذا المبلغ.
أما قضية أن يشد الإنسان على نفسه وعلى مجتمعه، فيكون نقمة عليهم حتى ينفرهم، فغير صحيح.
أيضاً مثل: خطبة الجمعة لماذا تخطب ساعة في الناس؟ لماذا تعذب الناس ساعة كاملة ليستمعوا لك؟ هم ما جلسوا حباً فيك، لكنهم مجبرون على الجلوس؛ لأن وراءهم صلاة وبعضهم ساعة وربع! هذه محاضرة، ندوة، هذه أمسية شعرية، يقول- صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم من حديث عمار: {إن قصر خطبة الرجل وطول صلاته مئنة من فقهه}.
أيضاً في الوعظ -وأنا طولت ما امتثلت لكن الله المستعان-!(198/23)
سلامة الصدر وحسن الظن بالمسلمين
وفي الأخير أقول: المسلم سليم الصدر لا يسيء الظن حتى تظهر له البينات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ} [يونس:36] وفي صحيح مسلم يقول صلى الله عليه وسلم: {من قال: هلك الناس فهو أهلكهم} فلماذا نجعل الأصل في الإنسان سوء الظن؟ إذا تكلم بكلمة قلنا يريد كذا وكذا، فتقول أنت: لا، يريد أن يصلح، قال: لا، أنت ما تعرفه هو دائماً يريد السوء.
أجل لقد فعل خيراً فاشكره على الخير، قال: لا، هو ما أراد إلا خبثاً ودهاءً ما أراد الخير.
يقول عمر رضي الله عنه فيما صح عنه: [[من وجد لكلام المسلم محملاً فليحمله على أحسن العذر، أو على أحسن المحامل]] أو كما قال، ويقال: التمس لأخيك عذراً ما وجدت له محملاً.
أيضاً: من مميزات المسلمين أنهم لا يسارعون في الحكم على الناس بالأحكام الجائرة: كالتفسيق، أحذركم منه وأحذر نفسي، رمي الناس بالتكفير وهذا قليل فينا ونادر -والحمد لله- لكني أخشى أن يتطور الحال إلى أن يصل إلى هذا المستوى بقلة علم أو فقه في دين الله عز وجل، فالأحكام الجائرة لا تخدم هذا الدين، واتهام الناس في نياتهم، وحمل كلام الناصح على أنه يريد السوء، أو الفوضى، أو أنه متطرف، أو أنه يريد أموراً الله أعلم بها، ليس هذا بصحيح، وهذا من الجهل ومن سوء التقدير.
فأسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرحمنا وإياكم، وأن يجمع قلوبنا على الحق، وأن يصلح الراعي والرعية، وأن يهدينا وولاة الأمر إلى ما يحبه ويرضاه، ونسأل الله أن يبقي من في بقائه صلاح للإسلام والمسلمين، وأن يهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا مبشرين لا منفرين، وميسرين لا معسرين، وأن يهدي على أيدينا أمماً من الناس، ولا يرد بسببنا أمماً من الناس {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم} وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(198/24)
الفرج بعد الشدة
في غزوة تبوك دروس وعبر عظيمة، أظهرت بجلاء صدق الصحابة وبلائهم وكذب المنافقين وخورهم، وفيها من الفوائد الشيء الكبير.
والشيخ تطرق إلى هذا الموضوع مستخرجاً الكثير من الفوائد والأحكام.(199/1)
غزوة تبوك والتهيُّؤ لها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: تجهز صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك - وغزوة تبوك كانت في حرارة الصيف، وفي شدة الحر وفي وهج الشمس- فخرج إليها صلى الله عليه وسلم، ونادى في الناس، فخرج معه ما يقارب الثلاثين ألفاً من أصحابه رضوان الله عليهم، وقبل المعركة أراد صلى الله عليه وسلم أن يجهز الجيش، فما وجد عليه الصلاة والسلام مالاً، فصعد المنبر ودعا إلى التبرع ورغب في البذل والعطاء: {من يجهز جيش تبوك وله الجنة؟ فوقف عثمان بن عفان وقال: أنا يا رسول الله، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم اغفر لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راضٍ، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وخرج صلى الله عليه وسلم، ولكن لما خرج في حرارة الصيف نظر بعض الصحابة فرأوا أن الثمار قد دنت في المدينة ورأوا أن الراحة في البيوت أحسن من الحر فجلسوا.
والذين تخلفوا عن الغزوة ثلاثة وثمانون رجلاً، لم يسجلهم صلى الله عليه وسلم في كتاب، ولم يكتبهم في ديوان، أما ثمانون فكذبوا على الله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49] والرسول عليه الصلاة والسلام كان يمشي مع أصحابه مشياً على الأقدام، في حرارة الصيف، وفي ظمأ ونصب وجوع، ومشقة لا يعلمها إلا الله.
ثم جاء الجد بن قيس أحد المنافقين، فقال: {يا رسول الله! ائذن لي ألا أخرج معك إلى تبوك، قال: ولماذا؟ قال: أنا رجلٌ مفتون، فإذا رأيت بنات بني الأصفر افتتنتُ} أي: بنات الروم، وهو كذب على الله، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49] وقال المنافقون يوصي بعضهم بعضاً: {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81] اطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتأخر، لا تنفروا في الحر، فرد الله عليهم: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} [التوبة:81].
فخرج عليه الصلاة والسلام، وكان كعب بن مالك صادق الإيمان لكنه تخلف.
يقول عن نفسه: قلت: أتهيأ غداً وألحق بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه خطيئة {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120] كيف يخرج رسول الهدى عليه الصلاة والسلام ويتخلف هؤلاء؟! هذا خطأ لا يقر.
فتخلف رضي الله عنه، يقول: أتهيأ غداً، وذهب صلى الله عليه وسلم فلما أصبح في الصحراء، يقول: فقمت غداً لأتهيأ فثبَّطني الشيطان فجلست، ومشى عليه الصلاة والسلام حتى اقترب من تبوك فنزل في الجيش وهو ما يقارب الثلاثين ألفاً، ولما نزل قبل تبوك نزل عند شجر بجيشه العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام، وفي أثناء الجلوس قال للصحابة: أين كعب بن مالك؟ -لم يذكره صلى الله عليه وسلم إلا عند تبوك - فقال رجلٌ من بني سلمة -من قرابة كعب بن مالك؛ يا رسول الله! حبسه برداه ونظره في عطفيه، فانبرى له معاذ رضي الله عنه وأرضاه سيد العلماء الذي يأتي أمامهم يوم القيامة برتوة- فقال: لا والله ما قلت خيراً، والله ما علمنا فيه إلا خيراً، والله ما علمناه إلا صادقاً مجاهداً، فسكت عليه الصلاة والسلام ولم يعلق على الحادث.
وبينما الرسول صلى الله عليه وسلم جالس تحت الشجر وإذا برجلٍ أقبل كالصقر على ناقة، فقال صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة، فاقترب الرجل فإذا هو أبو خيثمة -وهو أحد المجاهدين الكبار في الإسلام- وسأل صلى الله عليه وسلم فقال: أين أبو ذر؟ قالوا: تخلف يا رسول الله! قال: إن يرد الله به خيراً يلحق بنا}.
وأبو ذر مسكين فقير، يحشر يوم القيامة مع عيسى بن مريم، زاهد ليس عنده إلا جمل قحل هزيل، أتى بهذا الجمل فركبه فرفض الجمل أن يقوم وبرك على الأرض، فأخذ أبو ذر متاعه على كتفه ومشى في الأرض ليلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبينما هم جلوس وإذا بـ أبي ذر يطل عليهم ويمشي في آخر الصحراء فقال عليه الصلاة والسلام: كن أبا ذر، فاقترب فإذا هو أبو ذر، قال: رحمك الله يا أبا ذر! تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك.
وانتهى صلى الله عليه وسلم من الغزوة، لكن كعب بن مالك واثنان معه: هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وهؤلاء الثلاثة صدقوا لكن تخلفوا بلا عذر، أخذتهم من الهموم والغموم ما لا يعلمه إلا الله، قال كعب: {فكنت في غياب الرسول عليه الصلاة والسلام أخرج في الأسواق فلا أرى إلا منافقاً، أو شيخاً كبيراً عذره الله أو طفلاً أو امرأة، فأزداد هماً إلى همي، قال: وسمعت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقبل من تبوك إلى المدينة} الآن يتهيأ بحجج، وبراهين، ماذا يقول للرسول صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يتكلم معه؟ وما هو عذره؟ إن كذب فسوف يكذبه الله من السماء بالوحي، وإن صدق فسوف يهلك، في الأخير قال: لما أقبل الرسول صلى الله عليه وسلم حضرني بَثِّي -ما معنى بَثِّي؟ البث: أشد الحزن، قال تعالى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]- قال: حضرني بَثِّي وغمي وعلمت أني لا أخرج من غضب الله ولا من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالصدق، قال: فلما نزل صلى الله عليه وسلم المدينة بالجيش توضأ وبدأ بالمسجد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، فصلى ركعتين، ثم جلس للناس يفتيهم ويأخذ أخبارهم ويستقبلهم ويسلمون عليه ويرحبون به لأنه غاب عليه الصلاة والسلام ما يقارب شهراً أو أكثر، فصلى عليه الصلاة والسلام ركعتين ثم جلس.(199/2)
صدق كعب بن مالك وصاحبه، والأمر بمقاطعتهم
قال كعب بن مالك: {فتقدمت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فلم أدْرِ هل رَدَّ عليَّ أم لا! ووضع يده في يده}
حتى وضعت يميني ما أنازعها في كف ذي نقماتٍ قوله القيل
{فقال لي: يا كعب بن مالك! ما تخلف بك؟ أما كنت ابتعت ظهرك؟ فقال كعب: والله يا رسول الله! لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من غضبه بكلام، إني رجل شاعر، وإني قد أوتيت جدلاً -أي: رجلٌ فصيح يستطيع أن يتكلم- لكن يا رسول الله، لئن غضبت عليَّ اليوم في صدقٍ أقوله أرجو من الله عز وجل أن ترضى عني غداً، قال: قم حتى يقضي الله فيك وفي صاحبيك، فقام رضي الله عنه وأرضاه لا يكاد يرى الطريق من الهم والغم، فلحقه قرابته من بني سلمة، قالوا: كلنا اعتذر إلا أنت ما أحسنت تعتذر، فعد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأحسن واعتذر بعذر، فقال رضي الله عنه وأرضاه: والله ما زالوا بي حتى أردت أن أعود فأكذب نفسي عند الرسول صلى الله عليه وسلم -لكن عصمه الله- قال: فسألتهم هل معي أحدٌ وقع في مثل ما وقعت فيه من التخلف؟ قالوا: معك رجلان: هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، قال: فذكرا لي رجلين من أهل بدر صالحَين، قلت: لي بهم أسوة قال: فخرجت من المسجد، وقام عليه الصلاة والسلام في أهل المدينة رجالاً ونساءً وأطفالاً وقال: لا تكلموا الثلاثة: كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع}
فمنع صلى الله عليه وسلم الناس من كلامهم، قال كعب بن مالك: {فتغيرت لي الأرض التي كنت أعهد، فوالله ما هي التي كنت أعرف، وضاقت عليَّ الدنيا بما رحبت، كما وصف الله ذلك، وأظلم في عينيَّ كل شيء}
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجساد بالعلل
واستمر الصحابة لا يتكلمون مع كعب، تأتي امرأته فتصنع له الطعام وتعطيه إياه، ولا تلتفت إليه، إذا أتى يأكل أعطته ظهرها؛ لأنها تريد أن تقاطعه، فالولاء والحب والبغض والعطاء والمنع لله، يقول لامرأته: اسقيني، فتأخذ الماء في الإناء وتعطيه إياه وهي لا تلتفت إليه؛ لأنه رجل تخلف وعصى الله ورسوله، ينزل إلى السوق فيسلم على الصحابة لا يكلمه أحد، يذهب إلى أقاربه فلا يفتحون له الباب، لا يزوره أحد، هذا هو مستوى المجتمع الذي رباه صلى الله عليه وسلم، قال: [[فضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، فتسورت حائط ابن عمي أبي قتادة -وأبو قتادة هذا فارس الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ممنوعٌ أن يدخل من الباب فأتى من الجدار، فهو ابن عمه ويريد أن يكلمه- قال: فتسورتُ الجدار واقتحمت عليه البيت فدخلت، قلت: يا أبا قتادة! أسألك بالله! هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فلم يكلمني، قلت: يا أبا قتادة! أسألك بالله! هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فلم يجبني، فسألته في الثالثة ودمعت عيناي، فقال: الله ورسوله أعلم، قال: فعدت من الجدار]].
وبعد أن تمت لهؤلاء الثلاثة أربعون ليلة أرسل صلى الله عليه وسلم إليهم أن اعتزلوا نساءكم.
انظر إلى الشدة، وانظر إلى الكرب الشديد، وانظر إلى الزلزلة التي لا يعلمها إلا الله، إنسان يرى أن الله من السماء قد غضب عليه بسبب معصية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قاطعه، وأن الصحابة لا يكلمونه، أين شعوره؟ وأين أشواقه؟ وأين حياته؟ وأين صبره؟
قال: {فرفض الناس تكليمنا ولما تمت لنا أربعون يوماً أمر صلى الله عليه وسلم أن نعتزل النساء، فأتت امرأة هلال بن أمية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! ماذا أفعل؟ قال: اعتزلي هلالاً، قالت: يا رسول الله! هلال شيخٌ كبير، والله ما زال يبكي منذ تخلف عنك إلى اليوم، والله ما يأكل من الطعام إلا قليلاً}.(199/3)
رسالة ملك غسان لكعب بن مالك
قال كعب بن مالك: كنت أنا أشب القوم -كان أصغر الثلاثة- فكنت أنزل إلى الأسواق فلا يكلمني أحد، أسلم فلا يردون، قال: بينما أنا بالسوق إذا بنبطي -النبطي هذا يبيع ملابس، وقد أتى من الشام، وهو أعجمي أرسله ملك غسان برسالة إلى كعب بن مالك يريد أن يغرق بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم- قال: ففتحت الرسالة -وكان كعب يقرأ- فإذا هي من ذاك الملك يقول: لم يجعلك الله بدار مضيعة، وإنا سمعنا أن صاحبك قد جفاك، فالحق بنا نواسِك -يقول: الحق بنا واترك الدين؛ فإن صاحبك محمداً صلى الله عليه وسلم جفاك- قال كعب: فقلت: هذا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها -التنور هو الكانون، سحرتها أي: أحرقتها.
ثم لبث في بيته حتى تمت خمسون ليلة.
وقد يقال الثمانون؟ أما تخلف ثلاثة وثمانون، ثلاثة يعيشون المرارة والأسى واللوعة والقلق والاضطراب، وثمانون أين هم؟
الثمانون منافقون جميعاً، عفا عنهم صلى الله عليه وسلم وما عاتبهم؛ لأن هؤلاء منافقون، وحسابهم على الله ولا ينفع فيهم الهجر، فهو كافر فكيف يعاتبه صلى الله عليه وسلم؟
أما كعب بن مالك وصاحباه فإن فيهم خير وإيمانٌ وجهاد وصدق، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.
فقد أساءوا لكنه صلى الله عليه وسلم يمحصهم بالعتاب، والعتاب فيه مرارة، حتى يقول كعب بن مالك: {كنت أنزل فأحضر الصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم -صلاة الفريضة- قال: إذا أتيت وهو يصلي سلمت عليه، وقال: وإذا كان جالساً سلمت عليه، فوالله لا أدري هل يرد عليَّ السلام أو لا، قال: فإذا سلمت من صلاتي أقبل على شأنه عليه الصلاة والسلام، فإذا قمت أصلي التفتَ إليَّ عليه الصلاة والسلام} وتصور الصورة، الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يعاتب ويربي أحد تلاميذه الأخيار الأبرار الصادقين مع الله- يقول: إذا قمت أصلي النافلة أتى صلى الله عليه وسلم ينظر فِيَّ ويتفقد حالي ويمد بصره فيَّ، قال: {فإذا سلمت رجع عليه الصلاة والسلام ونكس رأسه}.
فلما تمت لهم خمسون ليلة أتى الفرج من الله، من فوق سبع سماوات، ليس من أحد، وإنما من الله.
أما المنافقون فالله يقول: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43] يقول: ما لكَ تعفو عنهم وهم قد كذبوا على الله وخانوا شرعه، وعطلوا الجهاد في سبيله؟! فلماذا تعفو عنهم؟! إنما عفا عنهم صلى الله عليه وسلم، فعفا الله عنه ثم عاتبه.
فتمت خمسون ليلة وأتى العفو من الله عز وجل، قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118].(199/4)
توبة الله على كعب وصاحبيه
قال كعب: {فصليت الفجر على بيتي} كان بيته في سلع وسلع جبلٌ في المدينة قريب من مسجده صلى الله عليه وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: {إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج من المدينة} أي: إذا تطاول الناس بالبنيان والعمران وبلغَتْ جبل سلع فاخرج من المدينة، فلما بلغ البناء سلعاً خرج أبو ذر إلى الربذة.
فصلى كعب بن مالك صلاة الفجر مكانه، قال: {ولما سلمت من الصلاة، وإذا برجلٍ على فرس أقبل يريد أن يبشرني وبرجلٍ آخر على قدميه على جبل سلع} يعني: الذي يمشي على رجليه صعد الجبل، والفارس أتى من الوادي يريدان جميعاً أن يبشراه، وهذه شيمة المؤمن أنه يفرح لأخيه ويبشره إذا وقع ما يسره، وأن يقدم له ما يفرحه؛ فإن هذا من عمل الخير ومن شيم المؤمنين، قال: {فسبق صوت ذاك الرجل الذي على الجبل - فقد أراد الفارس أن يسبقه بالفرس، لكن ذاك صاح- وقال: يا كعب بن مالك! أبشر بتوبة الله عليك، أبشر بخير يوم منذ ولدتك أمك، قال: فسجدت لله شاكراً} وهذا سجود الشكر.
وإذا الحسن همى فاسجد له فسجود الشكر فرض يا أخي
وحسان الكون لما أن بدت أقبلت نحوي وقالت لي إليَّ
فتعاميت كأن لم أرها حينما أبصرت مقصودي لدي
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يسجد سجود الشكر إذا أتاه ما يفرحه ويسره عليه الصلاة والسلام، وفي إحدى المرات نزل صلى الله عليه وسلم من على الدابة وسجد على الأرض والحديث حسن، فقال سعد بن أبي وقاص: {ما لك يا رسول الله؟ قال: أخبرني جبريل الآن أن الله يقول: لا يصلي عليك رجلٌ صلاة إلا صليت عليه بها عشراً} فسجد عليه الصلاة والسلام من هذه النعمة، وأتاه كتابٌ من علي من اليمن يبشره أن قبائل همدان قد أسلمت، فسجد عليه الصلاة والسلام شاكراً لله، وقال: {السلام على همدان، السلام على همدان، السلام على همدان}
وللفائدة: لا يشترط في سجود الشكر الوضوء، بل إذا أتاك ما يسرك ويفرحك فضع رأسك فرحاً لله عز وجل، خاصةً في الأمور الدينية، وتأتي الأمور الدنيوية تبعاً، لكن بعض الناس لا يظن أنه انتصر إلا إذا حصل على وظيفة أو منصب أو مال أو سيارة أو قصر، أما أمور الدين فلا يحسب لها ذلك الحساب: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] فسجد رضي الله عنه ورفع رأسه.
قال: {وكان عندي ثوبان} وهم فقراء، وغنيهم قد يعادل فقيرنا اليوم، هو من أحسن الحال، عنده ثوبان وهو يحمد الله عز وجل على أن عنده ثوبين، لكن عند بعضنا اليوم ثلاثين ثوباً، عشرة زرق وعشرة بيض وعشرة صفر، وللعيد ثياب، وللأضحى ثياب، وللعرس ثياب، وللجمعة ثياب، بذخ، أما عنده فقال: {كان عندي ثوبان -وفي رواية البخاري كان عندي إزارٌ ورداء- قال: فلبست لباساً قديماً ثم أعطيت هذا المبشِّر} من بشرك بشيءٍ فلك أن تعطيه شيئاً من المال، فلا يكون الإنسان جافاً مثل الحجر صلداً، لابد من شيء، قال: {فلما بشرني خلعت له ثوبي ولبست ثوباً قديماً وسلمت له الثوب -هذا جزاء البشارة- وذهبت إلى ابن عمي، فاستعرت منه ثوباً فلبسته} لبس ثوباً جديداً ليلقى به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومضى إلى المدينة، إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم حوله أصحابه، وهو جالس وسطهم كالبدر يقول شوقي:
لما خطرت به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
يقول: مثل هؤلاء مثل النجوم إذا حفت بالقمر ليلة البدر أو مثل الجنود إذا حفوا بالعلم، فالعلم محمد عليه الصلاة والسلام، والقمر محمد عليه الصلاة والسلام، والجنود أصحابه، والنجوم أصحابه.
أتى كعب رضي الله عنه وأرضاه مسرعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخل المسجد على الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: {فإذا وجه الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه قطعة قمر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سر بالأمر رئي وجهه يبرق من السرور} حتى قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: {كنت إذا رأيت وجه الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ أنظر إلى أسارير وجهه فأتذكر قول سويد بن كاهل:
ومبرأ من كل غبر حيضة وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل
}
ولذلك سر عليه الصلاة والسلام يوم تاب الله على أحد أصحابه، والتوبة لا يعادلها شيءٌ في الدنيا أبداً، والله ما قصور الدنيا، وملكها، وذهبها وفضتها تعادل توبة الله على العبد يوم يتوب على عبده الصالح ويعيده إليه!(199/5)
حكم القيام للداخل
قال كعب بن مالك: {فلما دخلت قام لي طلحة بن عبيد الله -وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة- قال: والله ما قام لي من قريش ولا من المهاجرين غير طلحة} قام طلحة رضي الله عنه وأرضاه تكريماً لـ كعب بن مالك، واقترب منه وسلم عليه وصافحه، والقيام -للفائدة لما وصلنا هذه المسألة- للقادم على ثلاثة أضرب: قيام له، وقيام عليه، وقيام إليه.
أما القيام عليه فهو محرم، كأن يجلس الجالس، ويقوم على رأسه أناس من باب التعظيم والتفخيم، فهذا محرم؛ لأنه فعل الأعاجم في ملوكهم، وفي الصحيحين من حديث أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا، وذلك عندما صلى جالساً صلى الله عليه وسلم ورأى أصحابه وقوفاً خلفه فأمرهم بالجلوس، وقال لهم بعد السلام: {كدتم أن تفعلوا كما تفعل الأعاجم بملوكها} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار} كأن يجلس الجالس في المجلس، ويدور الحديث ويقوم عليه بجنبتيه أو أمامه وخلفه رجال، هذا منهيٌ عنه في الإسلام، وهو الذي يسمى القيام عليه.
أما القيام له: فإن كان للتعظيم وللتفخيم فهذا يلحق بالتحريم، وإن كان للتقدير ولإعطاء المسلم حقه فلا بأس بذلك، فإن من الحق أن تقوم للمسلم من باب التواضع ومن باب إعطائه حقه، لا كبراً ولا تعظيماً له ولا تفخيماً، جاء زيد بن حارثة فقام له صلى الله عليه وسلم وقبله، وصح أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت إذا دخلت على أبيها قام لها واحتضنها وقبلها وأجلسها مكانها، وكان إذا زارها في بيتها قامت إليه عند الباب واحتضنته وقبلته وأجلسته مكانها صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها وأرضاها، وجمعنا بهم في الجنة.
وفي حديثٍ -في سنده كلام- أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لما قدم من الحبشة قام له عليه الصلاة والسلام من بين الصحابة وقال: {لا أدري بأيهما أُسَر بقدوم جعفر أو بفتح خيبر وقَبَّل جعفر وأجلسه} أحد النبلاء من الأدباء رأى عالماً أقبل فقام الأديب، فقال العالم: لا تقم، فقال هذا الشاعر:
قيامي والإله إليك حقٌ وترك الحق ما لا يستقيم
وهل رجلٌ له لبٌ وعقلٌ يراك تجي إليه ولا يقوم
وأما القيام إليه، فهو جائز بالإجماع، مثل أن تقوم إليه لتنزله أو لتعينه على شيء أو تفتح له الباب، أتى سعد بن معاذ سيد الأوس الذي اهتز له عرش الرحمن لما مات، وشيعه سبعون ألف ملك، قدم على حمار ليحكم بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين بني قريظة، وكان مريضاً مجروحاً من القتال، فلما أتى قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: {قوموا إلى سيدكم، وفي رواية: فأنزلوه} فالقيام إليه جائز كما أسلفت.
قال كعب بن مالك: {فقام لي طلحة بن عبيد الله، ووالله ما أنساها لـ طلحة} الإحسان ينفع حتى إلى الكلاب، يقول:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهم فطالَما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
كان المغيرة بن شعبة أحد الأمراء في قصره، فقال لحاجبه: لا تُدْخِل عليَّ أحداً، فأتى رجل صديق للحارس، قال: أريد الأمير المغيرة بن شعبة، قال: كيف؟ قال: أنا صديقك تمنعني قال: ادخل، فدخل قال المغيرة: أما قلت لك لا تدخل أحداً اليوم؟ قال: إنه صديقي وصاحبي فخجلت أن أمنعه، قال: [[أحسنت أصاب الله بك الخير، والله إن المعروف ينفع ولو في الكلب الأسود]]
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهم فطالَما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
يقول رجل أعرابي لـ ابن عباس: يـ ابن عباس! إن لي عندك يداً -أي: إني فعلت معك معروفاً، وقدمت لك مكرمة- قال ابن عباس: ما هي؟ قال: رأيتك في الحج في العام الأول، وأنت في الشمس فظللتك بكسائي فهذا الأعرابي رأى ابن عباس -عالم المسلمين ترجمان القرآن بحر الأمة وبحر القرآن- رآه في الشمس وهو حاج يفتي الناس وسط الحجيج كالغمام حوله يفتيهم، فأتى هذا البدوي بكسائه، فظلل ابن عباس، وابن عباس ما درى من ظلله، وبعد سنتين أتى الأعرابي يحاسب ابن عباس ويريد منه الأجرة، قال: إن لي عندك يداً، قال: ما هي؟ قال: رأيتك في العام الأول في الحج وأنت تفتي الناس، فأصابتك الشمس، فظللتك منها، قال ابن عباس: يا غلام! أعطه ألف دينار.
الخير أبقى وإن طال الزمان به والشر أخبث ما استوعيت من زاد
كان أبو جعفر المنصور الخليفة الجبار ثاني خلفاء بني العباس جالساً مع الأدباء والوزراء والأمراء، قال: ما أحسن الأبيات التي قالت العرب؟! فكلٌ أدلى ببيت، فقال: أحسن بيتٍ قالته العرب هو:
الخير أبقى وإن طال الزمان به والشر أخبث ما استوعيت من زاد
افعل الخير في أي رجل، يقول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
اشترى عمر رضي الله عنه وأرضاه من الحطيئة أعراض المسلمين بألف دينار، وكان شاعراً هجاءً.
مر الحطيئة برجل اسمه الزبرقان بن بدر على ماء، فأراد أن يضيفه الزبرقان بن بدر، وكان الزبرقان أميراً؛ لكنه كان بخيلاً، يمص الذباب وهو في الهواء، والحطيئة يخرج لسانه ويضرب أرنبة أنفه، وهذا لا يستطيعه كل الناس، ومن أراد أن يجرب فإذا عاد إلى بيته فليجرب، فـ الحطيئة لطول لسانه كان يضرب أرنبة أنفه بها، وقالوا عن حسان بن ثابت أيضاً أنه كان يضرب بلسانه أرنبة أنفه، يقول عليه الصلاة والسلام: {من يهجو المشركين؟ قال علي: أنا، قال: لا -لأن علياً لم يكن شاعراً بدرجة حسان -قال حسان: أنا يا رسول الله، قال: كيف؟ قال: عندي -يا رسول الله- لسانٌ لو وضعتها على حجرٍ لفلقه، ولو وضعتها على شعرٍ لحلقه، ثم أخرج لسانه وضرب أرنبة أنفه}.
فـ الحطيئة مر بهذا الأمير، فطلب منه العشاء فما عشاه، فأتى بقصيدة مخزية مزرية، يقول في الأمير:
دع المكارم لا ترحل لبُغيَتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
يقول: أنت خادم ولا تصلح أن تكون أميراً، لأن الأمير واجبه أن يضيف وأن يعطي وأن يبذل وأن يكون وجهه طلقاً سمحاً بشوشاً يعانق ويرحب.
دع المكارم لا ترحل لبُغيَتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
أجمعت يأساً مبيناً من نوالكم ولا يرى طارداً للحر كالآسي
أتى هذا الأمير وسمع القصيدة التي سارت في العرب -والعرب تتنقل فيهم القصائد كالهواء أو كالماء- فضاقت عليه الدنيا بما رحبت، فركب ناقته وذهب إلى عمر وخلع رداءه، وقال: [[لا أتولى ولاية، سبني الحطيئة، قال عمر: ماذا قال فيك؟ قال: يقول:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها فاقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
-وعمر يدري أنها تنزل على الكبد؛ لكن يريد أن يلطف الوضع- قال: لا أظن أنه سبك، يقول: اترك المكارم فإنك مطعم مكسي، وكلنا مطعم من الله ومكسي، قال: يا أمير المؤمنين! استدعِ حساناً -الذي يعرف- واسأله عن هذه القصيدة، فاستدعى حساناً، قال عمر: يا حسان! هل سبَّه؟ فقال حسان: لم يسبه -يا أمير المؤمنين- ولكنه سلح عليه، ليته سبه فحسب، لكنه سلح عليه.
هذه قصة تطول، وإنما الشاهد فيها -بارك الله فيكم- القيام، وتكريم الوافد.
فجلس كعب بن مالك بعد أن قام له طلحة بن عبيد الله، فقال عليه الصلاة والسلام: {أبشر يا كعب بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك} قال كعب: فبكيت من الفرح.
البكاء قسمان: بكاء حزن، وبكاء فرح، دمع الحزن حار، ودمع الفرح بارد، قال ابن القيم: يقول أحد الأولين:
طفح السرور عليَّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
ومن هذا: المرأة، إذا سمِعَتْ بنجاح ولدها تبكي، لا تبكي لأنه رسب؟ بل تبكي فرحاً بنجاحه، وكذلك إذ رجع ولدها من سفر، فهذا يسمى دمع الفرح، أن يبكي الإنسان فرحاً وهو في غاية الفرح، ويقولون: إن صغار القلوب إذا أتاهم أمرٌ طامٌ ماتوا من كثرة الفرح، يصيب أحدهم سكتة فيموت.
ذكر الجاحظ وغيره أن رجلاً من البخلاء ذهب إلى أحد الملوك، وكان هذا البخيل فقيراً وكان يظن أن الملك يعطيه عشرة دنانير أو مائة دينار أو ثوباً، أو أي شيء، فذهب فسأل الملك عطاء، فقال الملك: اصرفوا له عشرة آلاف دينار، هذه عشرة آلاف دينار ميزانية، فأتوا فأخبروا الرجل، قالوا: فجلس مرتعداً عند باب الملك وما مر عليه قليل حتى مات.
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
وهذا يقوله ابن القيم في كتابه الطب، على الإنسان أن يتدرج مع حبيبه خاصةً مع الأطفال في الفرح، فلا يعطيهم الفرح دفعة واحدة، يقول: كيف لو حصل كذا أو حصل كذا؟
وهذا نادر لا يحدث إلا لأهل الجشع، والطمع الذين يصابون بسكتات؛ لقلة الإيمان في قلوبهم، أما أهل الإيمان فسواء زادت الدنيا أو نقصت فأمرها سهل، بعضهم لا يتزعزع من المصائب ولو كانت كالجبال.
قيل للأحنف بن قيس: [[ممن تعلمت الحلم؟ قال: تعلمت الحلم من قيس بن عاصم]] قيس بن عاصم هذا هو شيخ قبائل بني تميم، عنده عشرة آلاف رجل، إذا ناداهم حملوا عشرة آلاف سيف، لا يسألونه عما غضب، يقولون: إذا سمعوه ناداهم لمعركة قالوا: غضبت زبرة، وزبرة خادمة لـ قيس بن عاصم، فإذا ناداهم قيس بن عاصم، أخذوا السيوف لا يسألون عما غضب؛ هل هو محق أو مبطل، أو ظالم أو مظلوم!
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
ويروى عنه أنه قدم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عليه جلالة ومهابة وعقل وسكينة، وهذه شارة المؤمن دائماً، فرآه صلى الله عليه وسلم فقال: {ما سمعت برجلٍ إلا كان أقل مما سمعت به إلا أنت يا قيس فكنت أعظم مما سمعت به} وقال: {هذا سيد أهل الوبر -أي: البدو- قال قيس: يا رسول الله! إنه قد رق عظمي، وشاب رأسي، ودنا أجلي فأوصني يا رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: يا قيس! إن مع الصحة سقما، ً وإن مع القوة ضعفاً، وإن مع الغنى فقراً، وإن مع العزة ذلة، يا قيس! إن معك قريناً تدفن معه وهو حي ويدفن معك وأنت ميت، وهو عملك فأقلل منه أو أكثر، فبكى وارتحل إلى قومه}.(199/6)
الفرج يأتي بعد الشدة
قال عليه الصلاة والسلام {يا كعب: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك -يوم تاب الله عليه- قال كعب: يا رسول الله! إن من توبة الله عليَّ أن أتخلع من مالي} يقول: من حق الله ما دام أنه قد تاب عليَّ وقبلني، فمن حق الله عليَّ أن أنخلع من مالي، وأتصدق به في سبيل الله.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {أبقِ عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك} وهذا مبدأ في الإسلام لابد أن يُتْنَبَه إليه، بعض الناس يمدح بعض الناس يقولون: لا يمسك درهماً ولا ديناراً! وورثته ومكسبه وأهله وأطفاله أين يذهبون؟! قال صلى الله عليه وسلم لـ سعد بن أبي وقاص: {إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس} فيقول رسول الله لـ كعب بن مالك: {أبقِ عليك بعض مالك، فهو خير لك؛ فإني أمسك سهي الذي بخيبر}
وعاد كعب وقد فرح بعفو الله ورحمته ورضوانه، وكان له هذا فرجاً بعد الشدة، أي: أن الله فرج كربته بعدما اشتدت عليه الضوائق، قال الشافعي:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
قال ابن عباس: [[لن يغلب عسرٌ يسرين]] قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5 - 6]
وهنا
السؤال
كيف يقول ابن عباس: [[لن يغلب عسرٌ يسرين]] وهو قد ذكر في الآية العسر مرتين وذكر اليسر مرتين، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5 - 6] وابن عباس يقول: [[لن يغلب عسرٌ يسرين]] وكأن اليسر ذكر مرتين، والعسر ذكر مرة، كيف وقد ذكر العسر مرتين واليسر مرتين؟
و
الجواب
لأن العسر معرف فهو واحد، وأما اليسر فَمُنَكَّر، فهو متعدد، فالعسر الثاني هو العسر الأول، أما اليسر الأول فغير اليسر الثاني، وهذه (ال) للعهد؛ فلذلك جعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مع كل عسر يسرين، فإذا ضاقت بالعبد الكرب، فليمد يده إلى الله، ولا يسأل أحداً بتفريج كربته، فلا يفرج الكرب إلا الله قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62] {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65].
ثم ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه لا يكشف الضراء إلا هو.
والعرب تقول في الأمثال: (إذا اشتد الحبل انقطع)؛ أي: إذا اشتدت الكرب سهلها الله عز وجل.(199/7)
ما يؤخذ من قصة كعب بن مالك
من حديث كعب بن مالك نأخذ أكثر من مائة فائدة، لكن أذكر ما تيسر من هذه الفوائد، منها:(199/8)
التبكير بالسفر صباحاً
ذُكر في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج صباحاً إذا أراد السفر، أي: بعد الفجر، وهذا درسٌ للمسلمين في أسفارهم أن يحرصوا على السفر بعد صلاة الفجر، للحديث الصحيح عن أبي صخر الغامدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بارك الله لأمتي في بكورها} رواه أحمد والترمذي وغيره، وهذا الحديث هو الوحيد لـ أبي صخر الغامدي، وهذه بشرى لآل غامد أنه وجد لهم حديث في مسند الإمام أحمد، وهذا شرفٌ عظيم، وذكر أهل السير في ترجمته أنه لما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {بارك الله لأمتي في بكورها} فكان يذهب بعد الفجر يتاجر حتى كثر ماله، فلا يدري أين يضعه.
ومنها: أن السفر المرغوب يوم الخميس، فإنه ذكر كعب بن مالك أن الرسول صلى الله عليه وسلم سافر يوم الخميس، وكان غالباً ما يسافر صلى الله عليه وسلم يوم الخميس، والذي ينهى السفر فيه يوم الجمعة، وبعض أهل العلم على كراهية السفر يوم الجمعة، وبعضهم يقول: الكراهة والتحريم بعد الأذان الأول، إذا أذن الأذان الأول فلا تسافر، أما في صباح الجمعة فلك ذلك، لكن الأحسن أن يستقر العبد يوم الجمعة فيجعله للعبادة والغسل والتهيؤ للصلاة والذكر والتلاوة وتدبر القرآن؛ لأنه عيد المسلمين.(199/9)
تفقد المسئول للرعية
ومن الدروس أيضاً: أن على المسئول أن يتفقد رعيته، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزل في تبوك قال: {أين كعب بن مالك؟} فعلى المسئول وعلى راعي المدرسة ومديرها ورئيس الدائرة الحكومية أن يتفقد موظفيه، وأن يتفقد رعيته على حد تعبير الحديث صحيح: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته}.(199/10)
فوائد الجرح والتعديل
ومن الدروس أيضاً: أن يذكر ما يعلم في الشخص، وأن من المستقر عند أهل العلم أن الفاجر ليس له غيبة، وإذا استنصحت فعليك أن تنصح، والغيبة في مواطن جائزة؛ كأن يأتيك رجلٌ يستشيرك بأن يزوج ابنته رجلاً من الناس، وتعلم أن هذا الرجل فاجر أو تارك للصلوات، أو سكير، أو معرض عن الله، فحقٌ عليك أن تبين عيبه ولا تكتمه، لأن هذا ليس من الغيبة في شيء، وكذلك مما جوز أهل العلم جرح أهل الحديث بعضهم لبعض، كأن يقولوا: فلان كذاب أو ضعيف أو واهم أو سيئ الحفظ، هذا من العلم ومن السنة، وهم مأجورون على ذلك، ومنها إذا شاركت أحداً في تجارة فعليك قبل ذلك أن تسأل عن هذا: هل هو مؤتمن أم لا؟(199/11)
الذب عن عرض الآخرين
ومن دروس قصة كعب بن مالك: أن على المسلم أن يذب عن عرض أخيه، مثلما فعل معاذ رضي الله عنه وأرضاه، لما سمع كلاماً في كعب ذب عنه ودافع عنه، وقال: [[بئس ما قلت، ما علمنا إلا أنه يحب الله ورسوله]] وفي حديث يروى عنه صلى الله عليه وسلم: {من ذب عن عرض أخيه المسلم ذب الله عن عرضه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فحق على المسلم إذا سمع عن مسلم في مجلس من المجالس انتهاكاً لقيمته وكرامته ومكانته أن يرد وأن يذب، وأن يبين أن هذا خطأ وأن يخبر بمناقب هذا الشخص إذا علم أن فيه خيراً.(199/12)
سنن في القدوم من السفر
وفيها من المناقب: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبدأ بالمسجد إذا قدم من السفر، وكان يصلي فيه ركعتين، والبداية في السفر من هذا الحديث كانت في الضحى، أما إذا قدم عصراً فلا أرى أن يذهب إلى المسجد، لأنه وقت نهي، وكذلك بعد طلوع الفجر، إنما إذا قدم ضحىً فليبدأ في المسجد، وليكن متوضئاً، فيصلي فيه ركعتين، كما فعل عليه الصلاة والسلام، وصح عنه من حديث أبي قتادة عند البخاري ومسلم أنه قال: {إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين}.
ومنها: أن يجلس للناس فيسلم عليهم ويسلموا عليه إذا قدم من سفر، وهذه من أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومنها: قبول عذر المعتذر، إذا اعتذر لك أخوك فاقبل عذره، واحمله على الظاهر، لا تقل: أراد كذا أو في نيته كذا، أو لم يصدق، أو كذب بل التمس له عذراً.(199/13)
مشروعية هجر أصحاب المعاصي
ومنها -وهو أعظم درس- هجر أهل المعاصي، يقول الحسن البصري فيما رواه ابن أبي حاتم عنه: وذكره ابن حجر في فتح الباري يقول: [[يا عجباً! هؤلاء -أي: الثلاثة- ما سفكوا دماً، ولا قطعوا طريقاً، ولا أفسدوا في الأرض، ولا نهبوا مالاً، وقد وصل لهم من الجزاء ما تعلمون، فكيف بمن ارتكب الكبائر والفواحش؟!]] يقول: هذا فقط لأنهم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن كيف جزاء من ارتكب الفواحش والكبائر والعياذ بالله، فهجر أهل المعاصي من مذهب أهل السنة والجماعة، أما الذي أعلن بدعته فهَجْرُه مطلوبٌ؛ بل واجب، أو كالرجل الذي اشتهر عنه شهادة الزور، وهو كاذب يصرف الحقوق، ويموه على القضاة، ويخون على شرع الله، حقه أن يُهْجَر من المجتمع، ومثل مدمن المخدرات، والمدمن على سماع الغناء، والذي يخالف السنة في مظهره ومخبره فحقه أن يُهْجَر، وهجر أهل المعاصي من سنته عليه الصلاة والسلام، ويؤجر عليه العبد.
أما الهجر الدنيوي فلا يجوز إلا لثلاث ليال، لحديث أبي أيوب عند مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث -أي: ثلاث ليال في الدنيا- يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} وأما في أمور الآخرة فيهجر العصاة حتى يؤدبوا إذا كان الهجر أنفع لهم، لكن ابن تيمية يذكر مسألة وهي: إذا كان الهجر يؤدي بهم إلى زيادة الإعراض، أو كأن الداعية نفسه ضعيفاً، أو في مجتمع ينتشر فيه المفسدون فلا يشرع الهجر لأنك عندها تصبح وحيداً مضطهداً محتقراً، وظلموك واحتقروك، ومن أراد أن يراجع هذه المسألة فليراجعها في المجلد الثامن والعشرين من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في الحسبة وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الهجرة والجهاد.(199/14)
من دلائل البشارة
ومنها: أن على المسلم أن يبشر أخاه المسلم بالمبشرات، فإذا ولد له مولود، أو نجح ابنه أو أتاه خير أو سمع عنه ذكرٌ حسن، أو رئيت له رؤيا صالحة؛ لأن أهل الحسد وأهل الضغينة وأهل الحقد يكتمون الخير ويظهرون السوء، فإذا رأى أحدهم لأخيه المسلم خيراً أو سمع خيراً كتمه، وإذا سمع شيئاً يجرح عرضه أعلنه ونشره بين الناس، وهذا من شيم أهل الحسد -والعياذ بالله- والضغينة والحقد ومن شيم الذين أعرضوا عن منهج الله عز وجل.
ومنها: أن على من بشر بشيء أن يعطي مكان هذا، لأن المسلم كريم يبذل ويعطي.(199/15)
أسعد أيام المسلم هو يوم توبته إلى الله
ومنها: أن خير أيام المسلم يوم يتوب إلى الله، لكن كيف يقول عليه الصلاة والسلام: {يا كعب! أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك} مع العلم أن إسلام كعب خير يوم، وهو قد تاب فكيف نجيب على هذا؟
يجيب أهل الحديث على ذلك، فيقولون: خير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك بسبب إسلامك، أي: أنه بسبب إسلامك ذلك اليوم أتى لك خير يوم، وهذا تكلف.
وأجاب آخرون وقالوا: هذا اليوم يوم الإسلام ويوم التوبة يجتمعان ليصبحا يوماً واحداً، فهو خير يوم ولدتك فيه أمك، أو مر عليك منذ ولدتك أمك، يوم تبت وعدت إلى الله، وكعب بن مالك لم يحضر بدراً وإنما حضر بيعة العقبة، يوم بايع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه البيعة الكبرى.(199/16)
وقفات مع بيعة العقبة
لابد أن أقف مع بيعة العقبة وقفات لأنها تسمى: البيعة الكبرى.
كان صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب، وكان يمر على السوق فيقول: من ينصرني؟ يقول لبني شيبان: انصروني، وامنعوني مما تمنعون به نساءكم وأطفالكم ولكم الجنة فيقولون: لا نستطيع، يمر على القبيلة الأخرى فيعرض نفسه عليه الصلاة والسلام فيعتذرون، وكل قبيلة تعتذر لماذا؟ لأنهم يقولون: لو أننا نصرناه لحاربَتْنا العرب عن وتيرة واحدة.
ويوم أراد الله أن يرفع الأنصار جعلهم أنصار الرسول صلى الله عليه وسلم، فأتى عليه الصلاة والسلام في العقبة ليبايع الأنصار، قال عبدالله بن رواحة: {يا رسول الله! على ماذا تبايعنا؟ قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأطفالكم وأموالكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا عند الله؟ -أي: ماذا تعطينا من مكافأة إذا نصرناك وآويناك وجاهدنا معك؟ - قال: لكم الجنة، قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل}.
يقول ابن القيم معلقاً على هذه البيعة: {البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تفرقا فقد وجب البيع} ولذلك أعلنوا بيعتهم رضوان الله عليهم، وكانوا ينتظرون متى يسلمون أرواحهم رخيصة في سبيل الله.
وأنا أذكر نماذج الأنصار كما فعل ابن حجر لما شرح هذا الحديث، عرض لبعض النماذج باستطراد ليثبت أن الأنصار بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الجهاد، كانوا يحضرون المعركة وهم ينشدون ويترنمون ويقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
من أبطالهم: أبو دجانة، سلم نفسه في أحد للبيعة، لكنه ما قتل ذاك اليوم، أتى إلى المعركة فوقف عليه الصلاة والسلام قبل المعركة، فمد سيفه صلى الله عليه وسلم، قيل: ذو الفقار، وقيل: غيره، قال: {من يأخذ هذا السيف؟ فمد الصحابة أياديهم كلهم يريد أن يأخذ السيف، قال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فسكنت الأصابع وهدأت الأصوات، وقام أبو دجانة وقال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه، فما هو حقه؟ قال: حقه أن تضرب به في الأعداء حتى ينحني -فما قال: تضرب به فحسب، وإنما تضرب به حتى ينحني- فلما أخذه أخرج عصابة حمراء من جيبه، وشد رأسه وقال:
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
فلما أخرج عصابته الحمراء سكت الأنصار وقالوا: أخرج أبو دجانة عصابة الموت!} يسمى هذا خطر ممنوع الاقتراب قال أنس: فتتبعت أبا دجانة فكان يفلق بالسيف هامات الكفار حتى أتى بالسيف في العصر وقد انحنى.
سبحان الله! سيف ينحني؟ يقول النابغة الذبياني يمدح الغساسنة فيقول:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
تخيرن من أزمان يوم حليمة إلى اليوم جربن كل التجارب
يقول: من أزمان جداتهم وسيوفهم معهم، لا عيب فيهم إلا أن أسيافهم مثلمة، وهذا يسمى عند أهل البلاغة: المدح بما يشبه الذم.
كان عكاشة في معركة بدر يضرب بالسيف حتى تكسر، وما تبقى منه إلا المقبض، فأخذ صلى الله عليه وسلم عوداً من خشب، وقال: خذ هذا السيف بارك الله لك فيه، فهزه صلى الله عليه وسلم فتحول سيفاً بإذن الله -وقد ذكر هذه القصة ابن القيم وابن هشام وابن إسحاق - هز الخشب عليه الصلاة والسلام فأخذه عكاشة وقاتل به، وبقي معه حتى قال أهل العلم: دفن معه في القبر.
وحضر قتادة بن النعمان معركة أُحُد، وهو من الذين بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام يوم العقبة، فلما حضر المعركة رميت عينه اليمنى فسالت عينه على خده، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: باسم الله، ثم أعادها مكانها وأرجعها عليه الصلاة والسلام، فكانت أجمل من العين الأخرى} حتى يقول ابنه لما يمتدح:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
ومن أهل الأنصار من أهل بيعة العقبة: عبد الله بن عمرو الأنصاري حضر في معركة أُحُد فباع نفسه من الله، وقال: اللهم خُذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى، فسلم نفسه من الله فقتل، ضرب أكثر من ثمانين ضربة، حتى يقول صلى الله عليه وسلم لابنه جابر: {ابكِِ أو لا تبكِ، فوالذي نفسي بيده، ما زالت الملائكة تظلل أباك بأجنحتها حتى رفعته، وقد كلمه الله كفاحاً بلا ترجمان}
هذه قصص استعرضتها لما قال كعب بن مالك إنه من أهل بيعة العقبة، أما الدرس فعنوانه (الفرج بعد الشدة) أي: أنها إذا اشتدت الشدائد واحتكمت الضوائق فلا يفرجها إلا الله عز وجل.
لأحد أهل اليمن وهو شاعر يمني عظيم، له قصائد طويلة.
فـ ابن دريد يقول:
يا ظبيةً أشبه شيء بالمها ترعى الخزامي بين أشجار النقا
فعارضه اليمني هذا بقصيدة في العقيدة كأنها قذائف من القِلب يقول:
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
لطائف الله وإن طال المدى كلمحة الطرف إذا الطرف سجا
يقول ابن الجوزي في صفة الصفوة: "لا يفرج الكرب إلا الله، ولا يرزق إلا الله".
وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وكتابات ابن تيمية تدور حول العبادة والرزق، وكشف الضر من الله عز وجل.
يقول ابن الجوزي في قصته: "مر رجلٌ فرأى عصفوراً ينقل لحماً إلى نخلة، قال الرجل: فتعجبت لأن العصفور لا يعشعش النخل، فصعدت النخلة فوجدت في النخلة حية عمياء، قال: إذا أتى العصفور باللحم صوَّت العصفور، وترنم بصوته، ففغرت فاها وهي عمياء، فألقى في فمها اللحم وعاد، فعلمت أنه لا يرزق إلا الله الواحد الأحد".
وعلى سبيل المثال عندما استطردنا في ذكر الحيوانات يذكر ابن القيم في مفتاح دار السعادة قصة أرويها على ذمة ابن القيم وهي قصة النملة المشهورة، لكن لا بأس بتكرارها.
كرر العلم يا جميل المحيا وتدبره فالمكرر أحلى
قص ابن القيم علينا قصة يقول: كانت هناك نملة خرجت من جحرها تطلب الرزق، والله عز وجل يتجلى في خلق النملة ويتجلى في خلق النحلة، ويتجلى في كل شيء قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] كلها تدل على الواحد الأحد.
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطِبِّه أرداكَا!
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب مَن عافاكَا!
والنحل قل للنحل يا طير البوا دي ما الذي بالشهد قد حلاكَا!
وإذا ترى بالثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكَا!
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكَا!
يقول: جلس رجلٌ عند بيت نملة، وكان هناك رجل جرادة بجانب بيت النملة، فخرجت النملة فوجدت رجل الجرادة، فحاولت أن تزحزحها وتسحبها إلى بيتها فما استطاعت، فعادت تأخذ نقالات وحمالات؛ لأن النمل ثلاثة أقسام: ملكة، وهذه لا تشتغل وإنما تصدر الأوامر ولها عاملات حولها وخدم، وهناك شغالات همها تبني خلايا البيض والبيوت وتصلح الأعشاش، وهناك خدم عمال، وهؤلاء جنودٌ متطوعون يأتون بالرزق، ذلك من حكمة الواحد الأحد، ذلك خلق الله، قال تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] وقال سبحانه: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] خرجت فحاولت أن تجر رجل الجرادة فما استطاعت، فعادت فأخبرت الشغالات أو الخدم، ففي أثناء عودتها ومعها ما يقارب الثلاثين نملة فأتى الرجل، فرفع رجل الجرادة، فبحثوا في المكان فما وجدوا شيئاً فعادوا، ووقفت النملة وحدها مكانها، فلما رجع البقية أعاد لها رجل الجرادة، فحاولت أن تسحبها ولكنها لم تستطع، فعادت فكلمتهم فأتوا، فرفع رجل الجرادة، فبحثوا ولم يجدوا شيئاً فرجعوا، ثم وضع الرِجل، فأتت تسحب فما استطاعت، فعادت فكلمتهم فأتوا فرفع الرجل فما وجدوا في المكان شيئاً، قال: فتحلقوا على هذه النملة فقطعوها إرباً إربا".
ذكرها ابن القيم في مفتاح دار السعادة، والعهدة على ابن القيم وهو ثقة عند أهل السنة والجماعة.
والذي يؤخذ من هذا: أن الفرج من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ولا يفرج الكرب إلا هو تبارك الله رب العالمين.
من ضمن هذه الكرب التي مرت قصة أكررها كثيراً، لكن لا بأس بإيرادها:
يقول ابن القيم في كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي "كان هناك رجل تاجر وخرج في تجارة، فعرض له أحد قطاع الطرق، فلجأ إلى الله فأنجاه الله".
وهناك قصة إبراهيم عليه السلام حينما أرادوا أن يلقوه في النار، تقطعت به الأسباب، وتقطعت به الحبال إلا من ذي الجلال والإكرام، أتاه جبريل فقال لإبراهيم: "ألك إليَّ حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم" والصحيح أن الإنسان يلجأ لا إلى جبريل ولا إلى ميكائيل ولا إلى إسرافيل ولا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء لا ينفعون ولا يضرون ولا يشافون ولا ينجحون ولا يرزقون ولا يشفون، وإنما يفعل ذلك الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].(199/17)
الأسئلة(199/18)
حكم استقدام العمال غير المسلمين
السؤال
أرجو منكم إيضاح مسألة العمال الذي يتم استقدامهم إلى هذه البلاد، ولا يهتم من يستقدمهم بمتابعتهم وحثهم على إقامة الصلاة؟
الجواب
كلمني في هذه المسألة كثير من الإخوة، وأنا أتوجه بهذا النداء إلى رجال الأعمال وأهل المؤسسات أن يتقوا الله عز وجل، وأخاطبهم بمسألتين:
الأولى: ألا يستقدموا إلا مسلماً، فإنه انتشر الآن أنه لا يهم رجل العمل ولا صاحب المؤسسة استقدام مسلم أو كافر، حتى أصبح أكثر العمال الآن هنديين بوذيين وأمثالهم من أعداء الله عز وجل الذين لا يعترفون بدين الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه قال: {أخرجوا اليهود من جزيرة العرب} وفي لفظٍ: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يجتمع في جزيرة العرب دِينان} وقد نبه كبار العلماء على هذه المسألة أكثر من مرة، لكن من يعي؟ هناك من لا يعي، ولا يهتم إلا بمصلحته سواءٌ أقام الدين أو هدمه.
كتب أبو موسى إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه، إن عندي رجلاً نصرانياً كاتباً حاذقاً فهل أستكتبه عندي في الإمارة؟ فكتب له عمر: [[قاتلك الله! أتقرب من بعَّد الله، وتوالي من عادى الله، وتحب من أبغض الله؟ لا تقربهم ولا تتخذهم كتبة]] فمثل هذا لا يجوز للمسلم أن يستقدم كفرة غير ديانة الإسلام.
وإذا استقدم مسلمين فليشترط عليهم شروطاً في العقد، إقامة الصلاة في المساجد؛ لأن هجر المساجد التي نشهده في أمكنتنا وخاصةً في هذه المنطقة أرى أن المسئول عنها رجال الأعمال وأهل المؤسسات، يستقدم أحدهم مئات العمال ثم يتركهم يدرجون كالبهائم، لا يدري هل صلوا؟ هل حافظوا على أوامر الله؟ لابد أن يشترط عليهم هذه الشروط، وهذه صرخة أتوجه بها إلى هذا الصنف هداهم الله ووفقهم الله، فإن أكثر من عطل الصلاة هم العمال وأمثالهم بحجة أن صاحب العمل لم يشترط عليهم ذلك وما ذكر لهم ذلك، بل إن بعضهم يجمع الصلوات الخمس مرة واحدة، فهذا نضعه في أعناقهم، وعليهم أن يتقوا الله في عمالهم فإن الله سوف يسألهم عنهم.(199/19)
منكرات البيوت
السؤال
نرجو الحديث عن منكرات البيوت؟
الجواب
منكرات البيوت سوف يكون فيها خطبة جمعة إن شاء الله وأنا أجمع عناصرها.
وأقول الآن من منكرات البيوت: الأغنية الماجنة، المجلة الخليعة، الفيديو المهدم، المسلسل المخرب، الاختلاط، ترك الحجاب، الفحش، الغيبة والنميمة، دخول الأجانب، ومما وصلني من رسائل من بعض الإخوة أنه يوجد هناك دخول بعض العمال إلى بعض المحارم، والرجل يدري أن امرأته تكلم العامل ويكلمها، وربما جلس معها، فيحدث من ذلك نتائج لا تحمد عقباها من الفاحشة والزنا والعياذ بالله، ويحدث في بعض النواحي والقرى دخول العمال والرعاة والمزارعين على المحارم، ومن رضي بذلك وفعله فهو ديوث؛ لأنه أقر الفاحشة في بيته، والجنة حرام على الديوث، فليتنبه لذلك.
وسوف يكون في هذا كلام مفصل.(199/20)
صيام التاسع والعاشر من محرم [عاشوراء]
السؤال
اضطربت في صيام يوم الخميس والجمعة وظننت أن اليوم هو العاشر، وعلمت أن غداً العاشر وصمت اليوم فماذا أفعل؟
الجواب
إن كنت صمت الأمس مع اليوم فكفاك، وإن كنت صمت اليوم فحسب فصم غداً، أنا أعرف دائماً أن السبت قبله الجمعة وبعده الأحد، لكن جل من لا يسهو.
وتقبل الله منك، وصم غداً وأنت مأجور على كل حال، فإنك ما أخطأت، وقد تمكن منك اليوم وتمكن منه، فغداً هو اليوم العاشر على ما أفتى به بعض العلماء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لئن بقيت لقابل لأصومن التاسع والعاشر} فصم اليوم وغداً، وإذا لم تصم اليوم فصم غداً وبعد غد، يوم قبله أو يوماً بعده، سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن لم يستطع إلا يوماً واحداً، فليصم يوم عاشوراء، لأنه لم يرد نهيٌ صريح في النهي على إفراده فحسب، لكن من باب الأولى أن تصوم يوماً قبله ويوماً بعده.(199/21)
كفارة اليمين
السؤال
ما هي كفارة اليمين؟
الجواب
كفارة اليمين ذكرها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة:89]؛ وهذا على التخيير، وأما الصيام فعلى الترتيب، وكفارة اليمين أن تطعم عشرة مساكين من أوسط ما تطعم أهلك به، ولا يجوز دفع المال؛ لأن الله ذكر الإطعام، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، هذه على الترتيب، وأما تلك التي قبل فمن لم يجد فعلى التخيير، فأنت مخير أن تطعم وأن تكسو، والإطعام ما يكفيه وجبة واحدة، تحضر عشرة فتغديهم أو تعشيهم، الصبوح لا يدخل لأنه رخيص، فلا بد من وجبة دسمة؛ مثل بعض الناس إذا عزم لم يعزم إلا على الصبوح.(199/22)
حكم شرب الدخان
السؤال
أنا مبتلىً بالدخان فما حكمه؟ وكيف أتوب منه؟
الجواب
نسأل الله لك أن يتوب الله عليك وأن يثبتك وأن يهديك سواء السبيل، الدخان محرم لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] فتذكر أنك قادمٌ على الله، وأن الله سوف يسألك عن عملك وحالك، ولأنك مسلم فلابد أن تتبع محمداً صلى الله عليه وسلم وأن تقتدي برسالته وتتوب وأن تجتنب جلساء السوء الذين قعدوا في طرق الأنبياء والرسل، وأخذوا شباب الأمة إلى المقاهي والمنتديات فأعطوهم السيجارة، ثم سلموا لهم كأس الخمر، ثم المرأة، ثم أودوهم إلى الشبهة والشرك والعياذ بالله، وكثيرٌ من شبابنا لم يأخذ من الغرب إلا هذه التقاليد البائسة الحقيرة الهزيلة، ما سمعنا شبابنا أنهم قدموا لنا صاروخاً أو صنعوا طائرة أو دفاية أو ثلاجة، إنما أخذوا مخلفات الغرب، كما قال الأول:
منهم أخذنا العود والسيجاره وما عرفنا نصنع السيارة(199/23)
وصية للمصطافين
السؤال
ماذا توصينا به ونحن مصطافون؟
الجواب
أوصيك به وكل نازل أن تتقي الله في هذه المنطقة، هذه البلاد بلاد محمد صلى الله عليه وسلم، بلادٌ ربيت على تقوى الله وعلى لا إله إلا الله، بلاد تهدلت أوراق أشجارها، وصدحت بلابلها على تقوى من الله، أسس بنيانها على بنيان محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109]
أوصيك بأربع وصايا أيها المصطاف:
أولاً: شكر الله لك يوم اخترتنا عن الغرب وعن أمريكا، وعن تركيا، فهنا أسلم لك، هنا العفاف والجمال، وهنا القداسة والاحترام، حللت ضيفاً، مرحباً وسهلاً على التبجيل والسعة، وإذا ضاقت الأرض فصدورنا أوسع.
ثانياً: أوصيك بالصلاة والحفاظ عليها في أوقاتها؛ لأن كثيراً من المصطافين في المنتزهات مثل السودة والقرعاء يؤخرون الصلاة عن أوقاتها بحجة الاصطياف والنزهة، وهذا خطأ فاحش.
ثالثاً: أوصيك أن تتفكر في آيات الله في الكون، فإذا رأيت سفح الجبل، ورأيت الرابية، والهضبة، والماء، والشجرة، والنحلة، والزهرة، فاعلم أنها آيات بينات تدلك على الله.
يقول أبو نواس:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيونٌ من لجينٍ شاخصاتٌ بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
رابعاً: أن تقدر حرمات الله في المنتزهات، فلا تكشف عورة، ولا تنظر إلى أجنبية، وإنني أنعى على بعض الناس ممن استهجن الحجاب، فكشفوا محارمهم في المنتزهات بحجة أنهم في نزهة، وأنهم في فسحة ولا رقيب، والرقيب معهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والحجاب ضرورة شرعية لابد من التقيد بها للمصطاف ولغير المصطاف.(199/24)
حكم كشف المرأة رأسها في السيارة
السؤال
بعض الناس يترك امرأته كاشفة في السيارة وهو يمشي، فما حكم ذلك؟
الجواب
إن كان داخل المدينة فهذا من الخطأ، أو في مكان يزدحم بالرائح والآتي، فهذا من الخطأ؛ لأنه يعرض أهله للنظر، وإن كان يمشي في ليلٍ أو في صحراء أو في مكان منقطع، فاتقوا الله ما استطعتم، لا يلزمه أن يحجب وجهها.(199/25)
المال المجموع لمساعدة المحتاجين لا زكاة فيه
السؤال
هل المال الذي يجمعه أمناء القبيلة لمساعدة بعضهم فيه زكاة أم لا؟
الجواب
هذا المال للحوادث وذلك أن تتفق قبيلة على مال أنه يكون لحوادث السيارات أو لمساعدة المحتاجين المتزوجين وغيره ليس فيه زكاة؛ لأنه للمصارف العامة وقد أفتى به العلماء، كالجمعيات التعاونية عند القبائل وأمثالهم.
أيها الإخوة الكرام: نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق والرشد والسداد، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يتولانا وإياكم في الدارين، وأن يحسن لنا ولكم العاقبة.
وقبل أن أنتهي: هنا مسألة أحب أن أعرضها عليكم -بارك الله فيكم- وهي: أن كثيراً من الشباب سمعت منهم كلاماً ورسائل تخرجوا من الجامعات، وبعضهم يدرس، وقد وصدت أبواب الزواج أمامهم وهم لا يستطيعون تكلفة الزواج، وطلبوا مني أن أوجه الرأي العام إلى مساعدة هؤلاء الطلبة المحتاجين في أن يغضوا أبصارهم ويحفظوا فروجهم وأن يحصنوا مستقبلهم وحياتهم، وأنا أعلم أن في البيوت كثيراً من الفتيات اللواتي أصبحن في سن الزواج، لكن سوء الفهم من آبائهن جعلهم يركنونهن في البيوت، وهذا خطأ شنيع.
فمن حق الدين عليكم -يا معاشر الآباء والإخوة- أن تنشروا الوعي وأن تنشروا مسألة تخفيف المهور ومساعدة الشباب؛ لأنه ما عمت الفاحشة اليوم إلا من هذه المأساة، وهناك أشرطة تبين هذا الأمر مثل: التبرج والاختلاط والسفور، ومثل: صرخة غيور وغير ذلك تنقل لكم حقائق عن مسألة كيف أدى مغالاة المهور وحبس البنات في البيوت إلى مفاسد لا يعلمها إلا الله، وأمس رأيت رسالة، وهي موجودة في المكتبات اسمها: إليكِ إليكِ احذري الهاتف وفيه كثير من صرخات الفتيات أنهن ضقن ذرعاً بآبائهن في البيوت؛ لأنهم حبسوهن، وحسابهم على الواحد الأحد.
والله يتولانا وإياكم ويهدينا وإياكم سواء السبيل.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(199/26)
عشر خطط لتدمير الإسلام
إن أعداء الإسلام لا يألون جهداً في محاربة هذا الدين والقضاء عليه بكل وسيلة، ويمكن إجمال خططهم لتدمير الإسلام وأهله في عشر خطط؛ وهناك الكثير من الوسائل التي ينبغي الأخذ بها لرد عدوانهم وإفساد مخططاتهم وإجمالها في ثمان وسائل.(200/1)
المخططات العشر لتدمير الإسلام وأهله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وعنوان هذا الدرس "عشر خطط لتدمير الإسلام" وهذا اليوم هو مساء السبت الحادي عشر من شهر محرم عام (1413هـ) وقبل أن أبدأ, أستأذنكم في هذا الهتاف؛ أسأل الله أن يستجيب دعاءنا وأن يكشف كربنا، اللهم أعز الدين وأعز حملته، اللهم أيد عبادك الصالحين واحفظ أولياءك المؤمنين، وثبت أقدام المجاهدين، اللهم اجعلنا في كنفك آمنين، وفي سترك معافين، وفي حمايتك مطمئنين، اللهم آمن روعتنا، واستر عورتنا، وثبت حجتنا، وارفع كلمتنا، وأزل فزعتنا، اللهم إنا نسألك الهداية والسداد والرشد والتوفيق، إنك على كل شيء قدير.
وقبل أن أبدأ, أوجه تحية عامة لمن حضر, وأعلن -كما أعلنت من ذي قبل على هذا المنبر الشريف- حبي لهم في الله عز وجل، فعسى الله أن ينفعنا بهذا الحب الباقي الممتد إلى عرصات القيامة, بل إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ثم أوجه تحية خاصة لضيوفنا المصطافين الذين حلوا علينا ضيوفاً كراماً, وأحبة مبجلين, نسأل الله أن ينفعهم بهذه الأيام، وأن يجعلهم مطمئنين سعداء مرتاحين بما رأوا وبما شاهدوا؛ وإنه لشرف عظيم لنا أن نستقبل هذه النماذج الملتزمة المتجهة إلى الله عز وجل المتمسكة بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحباب! هذه العشر الخطط, تكلم عنها كثير من المفكرين والعلماء, وهي خطط عشر لا يتجاوزها تخطيط الغرب أو غيره لتدمير هذا الدين، والحمد لله الذي جعل الإسلام الآن حديث الناس، حديث الصديق والعدو، وأصبحت وكالات الأنباء تتحدث عن الإسلام, وأصبح حديث الساعة والمقولات والصحف والدوريات كله عن الإسلام؛ ولكنهم لا يسمونه الإسلام بهذا الاسم الجميل المعروف من ذي قبل؛ وإنما ينسبونه إلى من يحمله؛ بوصم هو عندهم كالأصولية أو كالمتطرفين أو نحو تلك من العبارات، فلا يهمنا ذلك والله يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وإنا لنعلم علم اليقين أنهم لن يهدءوا ولن يرتاحوا حتى يدمروا هذا الدين ويدمروا حملته، ولكن عزاؤنا أن الله يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
والعالم الغربي الآن بإعلامه يوجه الضربات تلو الضربات، أما الإعلام العربي فهو يأخذ معلوماته من ذاك الإعلام، فهو كالبغبغاء يردد فقط ما ينشر هناك ويذاع ويكتب؛ فلا يأتي بجديد, حتى إنه قد يذاع وقد ينشر ما يكرر هناك من عداء للإسلام لكنه لا يكتشف.
المهم أن هذه الخطط مجملة في عشر خطط لتدمير هذا الدين وإبادة أهله، وقبل أن أبدأ أقول: لا تتشاءموا ولا ينظر أحدكم نظرة سوداوية لما يرى وما يسمع من سجون فتحت في بعض البلدان وضربات موجعة على حملة الدين, ومن قتل وإعدام وحشود عسكرية يصنعها الكافر المستعمر أو أذياله؛ فإن المستقبل لهذا الدين قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] والعاقبة للمتقين كا وعد الله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:54 - 52] وأبشركم -وهذا ليس بخافٍ عليكم وليس من الأسرار التي توزع على الجلاس, ولكنه أصبح علناً على مستوى العالم- أن الانتصار في هذا القرن خير من القرون التي مرت قبله بأربعة قرون أو بخمسة، فبشائر النور قد أطلت والحمد لله، فالمستقبل بإذن الله للإسلام، سواء في أفغانستان أو البوسنة والهرسك، أو الجزائر، أو تونس، أو السودان أو اليمن، أو أي مكان, مهما يوجه للإسلام هنا أو هناك من ضربات من الأنظمة أو غيرها، فإن المستقبل -بإذن الله- له والمسيرة خالدة, والاتجاه منضبط على الكتاب والسنة في الجملة، فلا تيئسوا من روح الله، ولا توهن أعضاؤنا أو قلوبنا مما نسمع أو مما نشاهد؛ فإن الله عز وجل أخذ على نفسه أن يتخذ شهداء, وأن يبلي المؤمنين بذنوبهم, وأن يمحصهم بزلازل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].(200/2)
المخطط الأول: إسقاط الخلافة
كانت الخلافة العثمانية تبسط سلطانها على العالم الإسلامي, وهي آخر خلافة حكمت العالم الإسلامي, وكان المسلمون -على رغم ما في هذه الخلافة من ملاحظات أو من نقص- كانوا مجتمعين في الجملة، فالبلد واحد، ولم تكن هناك حدود ولا جوازات ولا أنظمة؛ تحول بين المسلم وبين أخيه المسلم في إقليميات ضيقة، وقطع من الأراضي ممزقة، بل كان العالم الإسلامي واحداً، فسعى العالم الغربي والاستعمار لضرب هذه الخلافة؛ ولذلك يقولون: لما ابتدأت المفاوضات، وأستأذنكم في الاستطراد، فإن عندي تقريرات مكتوبة.
وسوف أعلن لكم أسماء الكتب والصفحات حتى تكونوا على بينة مما يكتب ومما ينشر.
يقول: دخلت الجيوش الإنجليزية واليونانية, والإيطالية والفرنسية, أراضي الدولة العثمانية, وسيطرت على جميع أراضيها ومنها العاصمة اسطنبول، ولما ابتدأت مفاوضات مؤتمر لوزان لعقد صلح بين المتحاربين, اشترطت انجلترا على تركيا: أنها لن تنسحب من أراضيها إلا بعد تنفيذ الشروط الآتية.
واسمع إلى شروط الاستعمار والغرب على المسلمين يوم أصبحنا ضعفة، نفعل ما يقال لنا، حتى سمعت أحد المفكرين في محاضرة مسجلة بالكاسيت وفي الفيديو وهو محاضر مشهور في العالم ما زال حياً يبلغ الستين من عمره، يقول: أصبح العالم الغربي كما يقال: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا والإل بي سي رابعهم، ولا خمسة إلا والسي إن إن سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وأمريكا معهم أين ماكانوا)؛ فأصبح هذا العالم يُسيطر عليه سيطرة، وأصبح يتجه بغير واجهة, وأصبح مفقود الهوية؛ فليس له مكان ولا كلمة
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستشهدون وهم شهود
فلا يسير نفسه في اقتصاده -مع العلم أن العالم الإسلامي أغنى بلاد العالم- ولا يسير نفسه في تعليمه ولا إعلامه ولا رأيه ولا سلاحه، بل هو عالم مستخذٍ في ضعف ومسكنة لا يعلمها إلا الله.
لكننا نأمل من الواحد الأحد أن يعيد لنا عزتنا, كما كنا أعزة يوم كان فاروقنا على المنبر يهتز لصوته كل العالم، وليس على الله بعزيز إذا نحن اتبعنا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم.(200/3)
شروط انجلترا للانسحاب من تركيا
لكن أبدأ بالشروط التي أملاها الكافر على المسلم:
أولاً: إلغاء الخلافة الإسلامية، وطرد آخر خليفة من تركيا.
الثاني: أن تتعهد تركيا بإخماد كل حركة يقوم بها أنصار الخلافة والدعوة الإسلامية، أي: أن تضرب الأصوليين صراحة.
الثالث: أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام، فأتوا بـ مصطفى كمال أتاتورك -الرجل الصنم وهو صنيعة غربية- ووضعوه بديلاً عن الخليفة، وأقام أول جمهورية علمانية في العالم الإسلامي، وأتى بحجاب المرأة المسلمة فمزقه في الميدان أمام الناس, وداسه بقدمه, وأتى إلى المصحف وهو يلقي خطبة أمام الجماهير وأمام الضباط، فمزق المصحف ثم داسه بجزمته عليه لعنة الله، ثم ألغى المدارس والمساجد واللغة العربية, وشطب على العقلية الإسلامية وصادر الخلافة؛ فتمزق العالم الإسلامي شيعاً وأحزاباً, كل حزب بما لديهم فرحون.
يقول كريزون البريطاني وزير خارجية بريطانيا آنذاك: "لقد قضينا على تركيا التي لن تقوم لها قائمة بعد اليوم؛ لأننا قضينا على قوتها المتمثلة في أمرين: الإسلام والخلافة" فصفق له النواب الإنجليز في مجلس النواب وسكتت المعارضة، هذا في كتاب (كيف هدمت الخلافة) صفحة (190).
ومع القضاء على الخلافة أخبر عليه الصلاة والسلام -أيها الإخوة- بشرى أزفها إليكم هذه الليلة: أنها سوف تقوم خلافة راشدة علىمنهاج النبوة تحكم هذا العالم الإسلامي؛ كما كانت في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وطلائعها قد أقبلت, وأنتم طلائعها، أنتم الآن جيل الصحوة الذين صاحت الأمة فيهم من عشر سنوات؛ فإن الأمة كانت غافلة, لا نقول ميتة لكن غافلة, فأنتم الآن وأبناؤكم صحوتم في حين لم تكن للجيل الذي قبل معالم الصحوة ومعالم التدين والسنة كهذا، فكيف أنتم إذا أنتجتم أبناء صالحين, يعيشون مع الكتاب الإسلامي, ومع السنة, ومع الشريط الإسلامي؟ سوف يكون الحال أحسن بإذن الله.(200/4)
المخطط الثاني: القضاء على القرآن والسنة
إن هذا القرآن يخوفهم تخويفاً عظيماً, ويرون فيه مصدر العزة، لأنه قرآن عظيم, لم يجدوا فيه مدخلاً من خمسة عشر عاماً؛ لأنهم يعتبرون القرآن هو المصدر الأساسي لقوة المسلمين، وبقاؤه حياً بين أيديهم يؤدي إلى عودتهم وقوتهم وحضارتهم، يقول غلادستون: "ما دام هذا القرآن موجوداً فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق, ولا أن تكون هي نفسها في أمان كما رأينا" كما في كتاب الإسلام على مفترق الطرق صفحة (39) أمان المسلمين كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ما دمنا نرفع القرآن والسنة فلا تخافوا ولا تخشوا أبداً.
أما الأطروحات التي يطرحها الإعلام الغربي والعربي, أو مسألة ما يبث في بعض مناهج التعليم, أو ما يدخل من الأطروحات فمكتوب عليها: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
ويقول المبشر ويليم بلقراف: "متى تولى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب؛ يمكننا -حينئذٍ- أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد صلى الله عليه وسلم وعن كتابه" يقول: إذا انقطعت صلة الإنسان بـ مكة وعن القرآن فسوف نرى العربي ينسى محمداً صلى الله عليه وسلم.
عزتنا تكمن في محمد صلى الله عليه وسلم, أبونا الروحاني -كما يقول ابن تيمية - هو محمد صلى الله عليه وسلم، أما أبونا الجثماني فهو الأب الذي ولدت من صلبه، لكن الأب الروحاني والقرآني هو محمد صلى الله عليه وسلم، ومكة صلتنا بالعمرة وبالقبلة وبالحج، وبالاتجاه إلى الله عز وجل، وإذا فصلت عنا فنحن على خطر عظيم، ولذلك أصبح كثير من الجيل؛ الذي مسخ معتقداً وأخلاقاً وسلوكاً يعتمر ويزور لندن وباريس وبانكوك , ولكن هناك الألوف المؤلفة التي اتجهت إلى الله فلله الحمد، كلام بلقراف في كتاب جذور البلاغ صفحة (201).
ويقول المبشر تاكلي: "يجب أن نستخدم القرآن وهو أمضى سلاح في الإسلام ضد الإسلام نفسه" يقول: نستخدم القرآن في ضرب القرآن, والإسلام في ضرب الإسلام، حتى يقول أحدهم: "اذبحوا الإسلام بسكين الإسلام".
وهذا ألخصه لكم:
أن ينشأ في بلاد الإسلام أناس يتكلمون لغتنا ويشربون ماءنا ويستنشقون هواءنا, ويحاربون الدعوة والعلماء والدعاة، وهذا وهم من أبناء جلدتنا الذين شكا منهم رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال تاكلي: "حتى نقضي عليه تماماً، يحب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديداً وأن الجديد فيه ليس صحيحاً" انظر كتاب التبشير والاستعمار صفحة (40) الطبعة الثانية.
ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر بمناسبة مرور مائة عام على احتلالها: "يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم حتى ننتصر عليهم" انظر مجلة المنار العدد (9،11) الصادرة عام (1962م) يقول: انتزعوا القرآن من صدورهم، لذلك دخل أحد المستشرقين القاهرة فوجد عالماً من علماء الأزهر، قال: سوف نمحو الإسلام من قلوبكم ومن صدوركم، قال العالم الأزهري: مكانك ثم دعا أطفالاً كانوا في الشارع, وأجلسهم أمامه وقال: اقرأ من سورة كذا فقرأ الطفل, ما يقارب عمره عشر سنوات, اقرأ من سورة كذا، ثم التفت إلى المستشرق وقال: أأطفالكم يحفظون التوراة والإنجيل؟ قال: لا، قال: لن تقضوا علينا أبداً ما دام أطفالنا يحفظون كتاب الله، جيلاً بعد جيل ورسالة بعد رسالة، ولكن على كل حال ففعلهم يظهر في العالم الإسلامي, وفعلهم يؤثر في عقيدتنا؛ إذا استمر وضعهم على هذا واستمر ضعفنا على هذا.
وأثار هذا المعنى كثير من الفرنسيين الذين احتلوا الجزائر , وقد ذكرت مجلة المنار: أن الفرنسيين أخذوا عشر فتيات أو طفلات من الجزائر فمسخوهن في مسألة الحجاب ومسألة التدين، فلما أتى الحفل الرسمي في الجزائر حضرت الفتيات متحجبات، فقالوا: ضيعنا جهدنا.
عشر سنوات يعلموهن ترك الحجاب، فلما أتى الحفل الرسمي وأخرجوهن في الشارع لبست المرأة الحجاب، ولذلك الحجاب الشرعي أصبح في دول الغرب حتى الشرقية - ألمانيا الشرقية - وصل الحجاب الشرعي إلى هناك, وهي لم تنفصل عن الاتجاه الشيوعي إلا قريباً فلله الحمد والشكر.
يقول عبد الحميد كشك أثابه الله: دخل نصراني في مصر في القاهرة فجمع أناساً من العمال والفلاحين وأخذ يفطرهم ويغديهم ويلقي فيهم محاضرات التبشيرية النصرانية: أن الله ثالث ثلاثة، يقولون إن الله ثالث ثلاثة، فاستمروا معه لأجل غدائه وعشائه ودراهمه, يوزع عليهم جنيهات، وظن أنه رسخ في أذهانهم الدين النصراني ومسخ المعتقد الإسلامي, فمر بهم أحد الدعاة المسلمين وقال: وحدوه، قالوا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فانهار كل هذا الجهد من الصباح إلى المساء في كلمة واحدة.
قيل لوزير المستعمرات الفرنسي لاكوست كما في جريدة الأيام عدد (7780) الصادرة بتاريخ (6/كانون أول/1962م) لماذا ما أثرت في الجزائر وقد مكث الاحتلال فيها (129)؟ قال: "وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟!.(200/5)
المخطط الثالث: تدمير أخلاق المسلمين وعقولهم
تدمير أخلاق المسلمين وعقولهم وصلتهم بالله، وإطلاق شهوتهم, وهذا تدمير عظيم رأيناه فيمن يتسمى بالإسلام وهو عدو للإسلام, فتجده يعاقر الخمر ليلاً ونهاراً، وتجده يتعامل بالربا ولا يسمع بفتوى العلماء, ولا لشيء من ذلك، وتجده يسمع الغناء ويهجر القرآن، وتجده يرى أن هؤلاء الملتزمين والمستقيمين والمتدينين خطر يهدد الأمة, ويهدد المسيرة، فماذا يصنع بمثل هؤلاء هذا هو صنيعهم وهذه هي تربيتهم.
يقول باكتول: "إن المسلمين يمكنهم أن ينشروا حضارتهم الآن بنفس السرعة التي نشروا بها سابقاً بشرط أن يعودوا إلى أخلاقهم في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام" أن يعودوا إلى أخلاق أبي بكر وعمر، هذا ذكره في كتاب (جند الله) صفحة (22).
يقول زويمر رئيس جمعيات التبشير في مؤتمر القدس عام 1935م: "إن مهمتكم -أيها المبشرون0 ليس بإدخال المسلمين في النصرانية؛ فإنهم لن يدخلوا بهذه السرعة، إن مهمتكم أن تفصلوه من الدين" تجعلوه يعيش بلا دين.
أي: صلاة الفجر عنده أمر عادي ثانوي، لا حياة له مع القرآن، ومع الرسول صلى الله عليه وسلم ليس معه اتجاه، قد يصلي أحياناً وبعضهم قد يحضر الجمع، وبعضهم قد يقرأ المصحف، لكنه مفصول التصور ومفصول الفهم عن القرآن والإسلام، ولذلك وجدنا من يقول: الإسلام في المسجد فقط، لا تدخلوا شئون الحياة في الإسلام، لا تدخلوا الاقتصاد في الإسلام ولا السياسة ولا الإعلام في الإسلام، والإسلام أن تصلي في المسجد فقط، وهذا هو الذي يريده المستعمر زويمر رئيس التبشير، كلام زويمر هذا مذكور في (جذور البلاغ) صفحة (275) لمن أراد منكم أن يعود إليه.
قال: "كرسوا جهودكم على أن تملئوا هذا الجيل بالشهوات، قدموا له المرأة العارية والمجلة الخليعة وكأس الخمر".
ولذلك وجدت في العالم الإسلامي طائرات تحمل الزانيات المومسات من العالم الغربي, وتهبط بها في مطارات العالم الإسلامي، ووجدت فنادق في العالم الإسلامي للدعارة والعياذ بالله، ووجد من يسافر من العالم الإسلامي, ويمكث العطل والإجازات يفعل الأفاعيل ويقول: الله فقط في الجزيرة أما هنا فليس موجوداً، وهذه هي الشهوات التي نجح فيها المستعمر، وكان كما يذكر زويمر أن على المبشر أن يذهب ومعه فتاة من أوروبا؛ فإن العربي إذا رأى الفتاة انهارت قواه ونسي محمداً عليه الصلاة والسلام، يقول هو: إذا رأى الفتاه نسي محمد صلى الله عليه وسلم، ويقول محمد صلى الله عليه وسلم: {ما تركت بعدي فتنةً أشد على الرجال من النساء}؛ فنعوذ بالله من فتنتهن؛ فإنهن فتنة لكل مفتون.
ويقول زويمر نفسه في كتاب الغارة على العالم الإسلامي: "إن التبشير بالنسبة للحضارة الغربية له ميزتان: ميزة الهدم وميزة البناء، أن تهدم شخصية المسلم، فتخرجه من المسجد ومن القرآن ومن محمد صلى الله عليه وسلم، وأما البناء فنعني به تنصير المسلم إذا أمكن، ولكن إذا ما أمكن فيكفي أن تخرجه من الإسلام" هذا بمعناه في كتاب الغارة على العالم الإسلامي صفحة (11) فليعاد إليه.
يقول المبشر تاكلي وهو مبشر جاب أفريقيا وتوقف في نيجيريا ينشر المسيحية وانظروا يا إخوة لجلدهم! والله إن الإنسان يعجب، وقد حدثتكم قبل محاضرات: أن امرأة من فرنسا ذهبت تبشر بالدين النصراني في المجاهدين الأفغان، سبحان الله! الذين سحقت رءوسهم كالمجاهدين على لا إله إلا الله على صخور أفغانستان، والذين تقبلوا القنابل, كأنها عقود التفاح من السماء، والذين داسوا روسيا تريد أن تبشرهم بدين باطل، ذهبت بناموسية معها تهبط في الأودية, والبعوض تقرصها من كل جهة, وتنام على الثلج؛ من أجل أن تبشر بالدين، ونحن نقول لشباب الإسلام وخريجي الشريعة وأصول الدين: اذهبوا إلى البادية بسيارات فخمة وبمخيمات وبأكل وشراب, فعلموهم الفاتحة، فانظر إلى الجهدين!
قال عمر كما في مصارع العشاق وقد علقت عليه لمن أراد أن يعود إليه قال: [[اللهم إني أعوذ بك من عجز الثقة ومن جلد الفاجر]].
يقول تاكلي: يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني لأن كثيراً من المسلمين قد زعزع اعتقادهم بالإسلام وبالقرآن, حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية.
وتعلمها قد يكون فريضة أحياناً وقد يكون مستحباً، لكن مقصدهم من تعلمها أن تدخل عليك امرأة تعلمك اللغة، وأن تجلس في النوادي بحجة أن تتعلم اللغة، وأن تسافر الأسرة لتعلم اللغة، وقد وجد بعض الفتيات يسافرن من البلاد الإسلامية بلا محرم، ورأيت في بعض المقابلات, وبعض المراسلات في بعض الصحف أن بنات من الجزيرة العربية أنها تدرس في بروكسل وتهدي سلامها إلى والدها هنا، وذكر محمد الغزالي قال: "من أعجب ما أضحكني وأنا أستمع إلى صوت الإذاعة البريطانية لقاء مع أحد الناس الأعراب وأهله ينامون على أكوام الزبالات في الصحراء، تقول له صوت أمريكا: ماذا تهدي لوالديك -وهو في أمريكا ويريدون أن يهدي لوالديه- قال: أريد أن أهدي لهم أغنية عبد الحليم حافظ , وهم في الصحراء! ربما لا يعرفون ولا يجيدون الفاتحة وهم في خيمة وعلى كومة من زبالة ولا يجدون كسرة الخبز، قال: أهذا جهدنا؟ " والغزالي أحياناً له طلعات تعجبني.
يقول في تراثنا الفكري بين العقل والشرع: "أعرف أناساً يسيمون عباد الله العذاب في العالم الإسلامي، ويدخلون عباد الله السجون، ويعدمون الناس وكانوا يطاردون الجحشة في قراهم وأصبحوا الآن ينتقلون بطائرات السمت من مدينة إلى مدينة" هذه من المفارقات، وكلمة تاكلي في كتاب التبشير والاستعمار صفحة (8).
ويقول زويمر أهلكه الله: "ما دام المسلمون ينفرون من المدارس المسيحية فلا بد أن ننشئ لهم المدارس العلمانية " والعلمانية على قسمين لأن بعض الناس يظن أن الدعاة يكفرون كل من تمسح بـ العلمانية، علمانية في تصورها غموض، قد تجد الواحد منهم يصلي، ويحج، ويعتمر، ويبر والديه ويقول: الإسلام فقط في المسجد، خطبة الجمعة لا يدخل فيها غير الصلاة وغير التيمم ومسح الخفين، لكن لا تتكلم في الحياة، محمد صلى الله عليه وسلم وأنت والمسجد والقرآن في المسجد، لا تخرج الإسلام إلى خارج المسجد، هؤلاء تصورهم ضعيف وهم مخطئون وليسوا بكفرة، أما من رأى أن الأمة يجب أن تعيش عيشة مادية لا دينية منفصلة عن الإسلام، فهذا كافر بإجماع أهل العلم، كلام زويمر هذا موجود في كتاب الغارة على العالم الإسلامي صفحة (82).
ويقول جب: "لقد فقد الإسلام سيطرته على حياة المسلمين الاجتماعية، وأخذت دائرته تضيق شيئاً فشيئاً حتى انحصرت في طقوس محددة" ثم يتوجه بالشكر هو ويقول: "لقد علّمنا المسلمين أن الإسلام لا يمكن أن يحكم الحياة" وقد علموا أبناء المسلمين هذا فحسبنا الله ونعم الوكيل، انظر الاتجاهات الأدبية الجزء الثاني صفحة (204،206) تأليف محمد حسين رحمه الله، وله كتاب اسمه حصوننا مهددة من الداخل، وهو كتاب هذا الأسبوع؛ وأشير عليكم أن تقرؤه، وأرجوكم خاصة أنتم يا طليعة الخير! ويا طلبة العلم!(200/6)
المخطط الرابع: القضاء على وحده المسلمين
وهذه ضربة قاصمة قد وقعت في العالم الإسلامي، وما من بلد عربي في الغالب إلا ومعه مشكلة حدودية مع جيرانه, بينما أوروبا تسعى لتوحيد نفسها في دولة، وهؤلاء يتناطحون على قطع صغيرة من الأراضي وهم لا يشكلون في المجمل جزءاً مما كان يحكم عمر بن عبد العزيز، كان عمر بن عبد العزيز يحكم من طنجة في المغرب إلى السند، ومن تركستان في الشمال إلى جنوب أفريقيا دولة واحدة.
يقول القس سيمون: "إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب الإسلامية، وتساعد على التملص من السيطرة الأوروبية، والتبشير عامل مهم في كسر شوكة هذه الحركة، من أجل ذلك يجب أن نحول بالتبشير اتجاه المسلمين على الوحدة الإسلامية" انظر كتاب كيف هدمت الخلافة صفحة (190).
ويقول المبشر براون: "إذا اتحد المسلمون في امبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذٍ بلا وزن ولا تأثير" كتاب جذور البلاغ صفحة (202).
وأنا أنصحكم أن تزيلوا من أذهانكم الإقليمية والوطنية؛ قضية أن فلان وطني أو أنه يحب الوطنية أو أن روح الوطنية مرتفعة عنده، فإن هذا ليس مصطلحاً إسلامياً، ولو أن حب الوطن من الإيمان فمن هو الوطني وما هو الوطن؟ الوطن هو وطن المسلمين، فلا تقل: هذا سوري أو عراقي أو يمني أو جزائري أو إماراتي أو كويتي أو قطري، جنسيتنا جميعاً مسلم، فمن سعى إلى تفريق هؤلاء فرق الله شمله وقصم الله ظهره وأعدمه حياته، نحن كلنا مسلمون {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] أما أن تنظر أنت لأنك من بلد باعتزاز لمسلم آخر في بلد آخر، فقد أخطأت سواء السبيل وما فهمت الدين وسر الإسلام، هذا أخوك يصلي صلاتك, ويستقبل قبلتك, ويتبع رسولك, ويحمل كتابك, ويتعلم سنة نبيك عليه الصلاة والسلام، قد يعذر العامي الجاهل إذا قام بالتمييز العنصري, وبالوطنية أو الترابية أو الإقليمية, ولكن ما عذرك أنت أمام الله تعالى، قيل لـ سلمان الفارسي: من أبوك يا سلمان؟ والعرب يفتخرون عنده، قال:
أبي الإسلام لا أبَ لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
كلنا {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] ويقول سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ويقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ويقول: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال:46] فالحذر -أيها الإخوة- أن ننظر إلى أي صنف من أصناف المسلمين بازدراء؛ فإن هذه قاصمة الظهر.
ثم يكمل براون قائلاً: "يجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين ليبقوا بلا قوة ولا تأثير".
يقول توينبي -وهو مؤرخ بريطاني شهير- في كتابه الإسلام والغرب والمستقبل صفحة (73) وقد تُرجم هذا الكتاب: "إن الوحدة الإسلامية نائمة، لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ" يقول: هم الآن نائمون، وهم ثمانون دولة، الآن دول عدم الانحياز أكثرها الدول الإسلامية، ودول المؤتمر الأفريقي كثير منها الدول الإسلامية، والمؤتمر الإسلامي كثير ما يقارب أربعين دولة، وفي مجموعها تقارب ثمانين، لكنها لا تشكل خطراً إلا إذا أصبحت دولة واحدة، وتصور أن العالم الإسلامي من أقاصي الهند والسند وشمال تركستان إلى الجمهوريات الإسلامية إلى جنوب أفريقيا إلى طنجة دولة واحدة، أي خطر سيشكله هذا على الغرب وعلى المستعمر!
وقد فرح هنتو وزير خارجية فرنسا حينما انحل رباط تونس الشديد بالبلاد الإسلامية، وتفلت من مكة وماضيه الإسلامي، كما ذكر ذلك في مذكرات هنتو صفحة (21).
أيها الإخوة الكرام: إن الحضارة الأوروبية مهددة بالانحلال والفناء يوم يتوحد المسلمون في دولة واحدة وفي بلد واحد وتحت كيان واحد وتحت كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكنهم إذا استمروا على وضعهم وعلى تقهقرهم فإنهم سوف يبقون خامدين مهزومين مقهورين، واعلموا أن بريطانيا وإيطاليا وفرنسا، ما انسحبت من الدول الإسلامية حتى خلفت خلافات في الحدود بين الدول الإسلامية تبقى إلى الآن وإلى غد لتبقى الحزازات في النفوس ويبقى الانقسام والدمار.(200/7)
المخطط الخامس: تشكيك المسلمين بدينهم
أن يشكك المسلم بدينه، فيقال له: هذا القرآن الذي تحمله هو قديم، وبعضه يخالف بعضاً، ويقرءون على الأطفال أشياء ويقولون هذا ليس بصحيح، والعلم يكذب ذلك، مع العلم -أيها الإخوة وخذوها قاعدة- أنه ليس هناك نظرية علمية ثابتة صادقة إلا وقد صدقت القرآن والحمد لله.
يقول المسيحيون في مؤتمر العاملين المسيحيين: "إن المسلمين يدَّعون أن في الإسلام ما يلبي كل حاجة اجتماعية فعلينا نحن المبشرين أن نقاوم الإسلام بالأسلحة الروحية والفكرية" انظر كتاب التبشير والاستعمار صفحة (191) فإذا شككوهم في دينهم؛ أصبح من السهل سحب هذا المسلم عن دينه وتخليه عن مبدئه.
وسائل التشكيك بدين الإسلام:
والتشكيك يكون بأمور:
أولاً: الغمز في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم عسى الله أن يكرم وجهه ويكرم عرضه وأعراضنا لعرضه الفداء، ودماؤنا لدمه الفداء, ووجوهنا لوجهه الفداء، قالوا: إنه شهواني؛ ولذلك تزوج إحدى عشرة امرأة، وقالوا: إنه إرهابي؛ ولذلك أقام الجهاد لكي يقاتل الناس، ولذلك يعدون الجهاد الآن إرهاباً، وغيروا كلمة الجهاد إلى إرهاب، والإعلام العربي يردد وراءهم الإرهابيون، وقالوا: إنه جبى الأموال له صلى الله عليه وسلم فأين أمواله؟ مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعاً من شعير، ومات وبيته من طين دفن فيه صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: شككوا في القرآن وقالوا متناقض.
ثالثاً: وشككوا في الإسلام بأنه قديم لا يلبي حاجات الإنسان، وصدقهم كثير من أبناء المسلمين الذين عاشوا في أوروبا أو انحرفوا عن منهج الله، وقد أصدرت مجلة العلوم والثقافة في اليونسكو، وهذه اليونسكو التي يسبح بعض الناس بحمدها صباح مساء، أصدرت وثيقة سوف أقرؤها وهي موجودة في مرجع سوف أخبركم به، اسمع الوثيقة في المجلد الثالث من وثيقة اليونسكو يقول:
أولاًً: الإسلام دين ملفق من اليهودية والمسيحية والوثنية العربية: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5].
ثانياً: القرآن كتاب ليس فيه بلاغة، انظر كيف يحكم الأوربيون على أن القرآن ليس فيه بلاغة، والله يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] القرآن هذا الذي نزل بلغة العرب وقال فيه الوليد بن المغيرة: والله إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإن له لحلاوة, وإن عليه لطلاوة, وإنه يعلو ولا يعلى عليه.
آياته كلما طال المدى جددٌ يزينهن جلال العتق والقدم
أتى على سفر التوراة فانهدمت فلم يفدها زمان السبق والقدم
ولم تقم منه للإنجيل قائمة كأنه الطيف زان الجفن في الحلم
هذا كتاب الله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ويقول الله عنه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود:1]؛ ويتحدى في أول المؤلف من كتاب الله عز وجل, والمؤلفون يعتذرون في أول مؤلفاتهم، ويقولون: سامحونا على التقصير في كتابنا، ومن وجد خطأً فليصلحه أو يتصل بنا، أما الله فيقول في أول كتابه: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2] ويقول الله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] وهذا يقولون: ليس فيه بلاغة!
رابعاً: الأحاديث النبوية وضعت من قِبل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بفترة طويلة ونُسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهم كذابون دجالون، بل هو كلامه صلى الله عليه وسلم، الكلمة الواحدة يمحصها نقاد الحديث، ويظهرون هل هي صدق أو كذب، وكان ابن المبارك قد أخرج ما يقارب عشرة آلاف حديث موضوعة صفاها، ويلقى الحديث الكذب في يوم واحد، فلا يأتي المساء إلا وقد قام الجهابذة من المحدثين، وقالوا: انتبهوا هذا الحديث كذب، فالحمد لله وصلتنا بالأسانيد، وممن قالها من المتأثرين بالغرب معمر القذافي في كتابه الكتاب الأخضر، وقد كتب عنه محمود شاكر في التاريخ الإسلامي المعاصر كتابة جميلة، وكتب عن رأيه وعن مسيرته وعما فعل.
خامساً: وضع الفقهاء المسلمون الفقه الإسلامي مستندين إلى القانون الروماني والقانون الفارسي والتوراة وقوانين الكنيسة، يقصدون أن أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد أخذوا من التوراة والكنيسة والقانون الروماني، وألفوا الفقه، وهذا من الكذب الذي لا يرقع، يعني بعض الكذب تستطيع أن ترقعه؛ لكن بعضه لا يترقع.
كان أحد الكذابين في مجلس، فقال لزميل معه دائماً يصدقه يُسمى: صح، يقول: كلما أقول قصة قلْ: صدق أنا حضرت، فقال: احذر لا تأتِ بكذبة لا نستطيع لها، قال: سنتوكل على الله -يتوكل على الله في الكذب وهو إنما توكل على الشيطان- فلما جلسوا في المجلس قالوا: يا فلان ما هي الأخبار؟ قال: أنا وجدت بطيخة في السوق وعندي سكين ففتحت البطيخة فطحت أنا والسكين داخل البطيخة، في داخل البطيخة أسواق فيها جن وعفاريت فدخلنا واشترينا ملابس ورجعنا أنت ما حضرت معنا؟ يقول لزميله من أجل أن يقول له: صدق، قال: والله هذه لا ترقع.
سادساً: أن المرأة لا قيمة لها في المجتمع الإسلامي, وكأنهم يريدون بذلك أن قيمة المرأة هي عندهم.
سابعاً: أرهق الإسلام أهل الذمة بالجزية والخراج.
هذه مذكرة اليونسكو ذكرتها مجلة التمدن الإسلامي مجلد (44) العدد (7) صفحة (508) تموز (1977م).(200/8)
المخطط السادس: إبقاء العرب ضعفاء
ولذلك تسمى الدول النامية بالنائمة فلا ترتقي ولا تصنع ولا تنتج وسبحان الله العلي العظيم! لا تنطبق قرارات مجلس الأمن إلا على الدول العربية، ولا تركب إلا عليهم، وعييت فلا تركب على إسرائيل، الآن إسرائيل عندها مفاعل نووي، وعندها أسلحة كيماوية، ولكن يأتي القرار وينشط وسبحان الذي أنشطه، يسكر لأن أمريكا هناك بالفيتو.
أما على العراق فكل قرار يمشي، شعب العراق أصبحت الدجاجة عندهم الآن بمائة ريال لا أقولها مبالغة، قدم عراقي من الدعاة المسلمين من بغداد قال: دجاجة واحدة أصبح قيمتها مائة ريال، وقطمة الرز الصغيرة بسبعمائة ريال، وأصبح لا يجد الناس اللحم بسبب صدام المجرم, فهو الذي أتى بالإجرام وعاقب عشرين مليوناً فيهم المسلم وفيهم المصلي، وفيهم الضعيف وفيهم الفقير, ومجلس الأمن يهددهم صباح مساء من أجل صدام المجرم وهو يأكل الدجاج واللحم هو وطارق عزيز والشعب يموتون, ثم تسمع القرارات وتسمع الإعلام العربي حتى نبرة المذيع بشجاعة، قال: ولقد وصل موفد الأمم المتحدة إلى بغداد وإلى النظام، وقرر عليه الحجر، الحجر على الشعب المسكين المسلم, الحجر على الأرامل وعلى المساكين، وأما صدام فما تضرر, عليه غضب الله, صدام في قصره والشعب يحرسه.
ثم يأتون لـ ليبيا وسبحان الله ينطبق القرار! ويأتون إلى باكستان وينطبق القرار؛ لأنها مسلمة ويمنعونها من التصنيع، سبحان الله! أي: حرام على باكستان والعراق وليبيا وعلى دول العالم الإسلامي أن ينتجوا أو يصنعوا القنابل النووية والذرية والكيماوية، أما لإسرائيل فجائز: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85].
واحد من غطفان غشاش كان عنده مكيالان فوق الجمل, صاعان صاع صغير وصاع كبير, فإذا ذهب هو يكتال من الناس أخذ بالكبير، وإذا كال من نفسه كال بالصغير، فأنزل الله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:1 - 5].
الديمقراطية تصلح في كل مكان إلا في الجزائر فهي حرام، لأن الأصوليين هؤلاء لا يصلحون للديمقراطية، سبحان الله! ينادون بـ الديمقراطية في بولندا وفي كوبا وفي كل مكان ويسعون إليها، وأما يوم وصل صوت الشعب الجزائري للمسلمين وللإسلاميين قالوا: لا.
التصويت حرام، هؤلاء الأصوليون لا يصلحون رءوسهم ناشفة، لأنهم يأتون بالكتاب والسنة إلى غير ذلك.
يعتقد الغرب أن العرب هم مفتاح الأمة الإسلامية، يقول مورو بيرجد في كتاب العالم العربي: "لقد ثبت تاريخياً أن قوة العرب في الإسلام فليدمروا العرب ليدمر بتدميرهم الإسلام" إذا دمر العرب فقل على الإسلام السلام، هذا ليس تعصباًًًً, أعرف أن في العجم من هم أخيار، وقد يكون من أفرادهم أفضل من أفراد بعض العرب، لكن في العرب قوة الإسلام ودرعه وداره وبالخصوص -ولا يغضب علينا غاضب- جزيرة الإسلام، هذه الجزيرة لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم في سكرات الموت، وفي آخر لحظة من لحظات الحياة كان يقول: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب} الرسول صلى الله عليه وسلم تصيبه الحمى وتعصره صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فقال: {لا يجتمع دينان في جزيرة العرب} هذه جزيرة الإسلام، جزيرة الوحي، فقضية إبقاء العرب ضعفاء مسألة رهيبة, ومحزنة ومخيفة، ورأيت بعض الناس يفرحون من تطبيق القرارات على الدول العربية, وإسرائيل تكوّن نفسها وجيشها لضرب هذا الدين وهذا الإسلام، فأقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.(200/9)
المخطط السابع: إنشاء دكتاتوريات في العالم الإسلامي
يقول جلال العالم في كتابه: المسألة السابعة إنشاء دكتاتوريات في العالم الإسلامي، يقول المستشرق الأمريكي سميث الخبير بشئون باكستان، "إذا أعطي المسلمون الحرية في العالم الإسلامي في ظل أنظمة ديمقراطية، فإن الإسلام سوف ينتصر في هذه البلاد، وبالدكتاتوريات وحدها يمكن الحيلولة بين الشعوب الإسلامية ودينها".
يقول محمد أحمد الراشد في ثلاثة أشرطة اسمها: (النظام العالمي الجديد) وأنا أوصيكم بسماعها, ألقاها قبل سنة، قال: "الديمقراطيات فرصة لانتشار الإسلام، أما الدكتاتورية في العالم الإسلامي ففرصة لسحق الإسلام" فيبشر يقول: النظام العالمي الجديد فرصة لانتشار الدين، أرادوا هم حرب الدين، لكن النظام العالمي وأمريكا تتبنى الحكم الديمقراطي، وهو حكم الشعب بالشعب، فيقول: هي فرصة لانتشار القرآن والسنة وبشروا من وراءكم بالخير.
الآن سقوط ما يسمى بـ الاتحاد السوفييتي فرصة لانتشار الدين والحمد لله، أخبركم بشيء لكن لا تخبروا به أحداً، فهو سر بيني وبينكم، أصبحت المآذن في إحدى عشرة جمهورية إسلامية -الآن- ترفرف ولها صولة وهدير بـ (الله أكبر الله أكبر) إحدى عشرة جمهوريةً تهتز اهتزازاً بالأذان، أصبح القرآن يدخل في كل بيت في الاتحاد السوفييتي الشريط الإسلامي أصبح يصل إلى هناك, الحجاج والمصلون، فهذا انتصار لهذا الدين.
أخبرنا بعض الإخوة من الإغاثة, ركبوا في سيارة من الجمهوريات، ومروا بـ أفغانستان , ودخلوا على باكستان , ثم ركبوا وأتوا مكة، فحين وصلوا مكة رأوا رجلاً في الشارع يشرب سيجارة دخان، فيقول هذا الذي من جمهورية أوزبكستان سبحان الله! هذا عربي يشرب الدخان، فهم يحسبون أنهم من الصحابة.
أو من العشرة المبشرين بالجنة.
لأول مرة يصل إلى مكة يظن أنه إذا وصل إلى مكة فسيرى ما سمع به في التاريخ، وسيرى أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ويظن أنهم سوف يدلونه على بيت أبي بكر وأن أبناء أبي بكر يلاقونه فأول ما خرج له صاحب سيارة يشرب الدخان.
فنحن لا نقول: إننا الذين نمثل الإسلام في أشخاصنا، لكننا نقول: الإسلام موجود نقدمه للناس, ونسأل الله أن يحمينا في تقصيرنا، أما كلام سميث فانظر إليه في كتاب جند الله صفحة (29).
يقول وزير خارجية فرنسا الأسبق: "إن الخطر لا يزال موجوداً في أفكار المقهورين الذين أتعبتهم النكبات التي أنزلناها بهم لكنها لم تثبط من عزائمهم" انظر الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار صفحة (19).
ولذلك وجدت مذابح من أجل لا إله إلا الله، هل تتصور أن يقع في العالم الغربي أو الشرقي مثل مذبحة حماة التي قتل فيها ما يقارب ثلاثين ألف مسلم موحد قتلوا في يوم واحد؟! هل يقع هذا في أمريكا أو يقع في أي بلد؟ هل تتصور أن حلبجة يقتل فيها ما يقارب ستة عشر ألف في يوم واحد، أين يقع؟ وهل تتصور أن في الجزائر , في الصحراء في شدة الحرارة التي تبلغ خمسين درجة يسجن ثلاثين ألف مسلم؟! وفي تونس يسجن مثلهم؟! ولكن منظمات العفو الدولي وحقوق الإنسان.
لا تلتفت إلى المسلمين، أما إذا سجن أحدهم في أمريكا أو في بولندا أو في فنزويلا ناصروه، أما هذا العالم فمسكين يشكو حاله إلى الله!(200/10)
المخطط الثامن: إبعاد المسلمين عن القوة الصناعية
ومن مخططاتهم إبعاد المسلمين عن تحصيل القوة الصناعية ومحاولة إبقائهم لسلع الغرب (وهذا من التقرير في عام 1952م) يقول: وزير خارجية فرنسا الأسبق: "لا يوجد الآن دولة إسلامية تستطيع أن تعتمد على نفسها في الأسلحة، بل جعلناهم يستوردون الأسلحة من عندنا, ووضعنا في أذهانهم: أنهم إذا صنعوا السلاح فسوف يسقطون" أي: وضعوا في أذهان هؤلاء العرب أنهم إذا صنعوا السلاح فسوف يقتلون، فتجد كل شيء مستورداً؛ الطائرات والدبابات والسكاكين والخناجر والمسدسات والآربيجي, فكل شيء مستورد، وهذه هي النكبة العظيمة, وقاصمة الظهر أن يبقى هذا العالم الإسلامي مستضعفاً, ويستورد أسلحته لكن لقتال بعضه بعضاً، أسلحة الأردن لقتل الفلسطينيين في أيلول الأسود، أسلحة جمال عبد الناصر لقتل اليمنيين في صنعاء، أسلحة صدام حسين لذبح الكويتيين، وإسرائيل سالمة غانمة لا سلمها الله!
هذه مسألة إضعاف المسلمين إلى هذه الدرجة التي لا يتصورها إنسان، لذلك المسلمون -الآن- يفخرون بإنتاج البيض والقمح والماء البارد في قوارير ذات أحجام كبيرة وصغيرة, أما السلاح فهذا يهدد الأمن ويهدد المسيرة.
فيقول في كتاب جند الله صفحة (22): "فلنعط هذا العالم ما يشاء من الخبز والانتاج الفني" أي: نرسل له عوداً وكمنجة وطبلاً ودفاً وموسيقى، لكن لا تجعله يصنع سلاحاً، فالسلاح عند أولئك، ولا يرسلون إلا سلاحاً غير صالح للاستخدام.
قرأت في التاريخ الإسلامي المعاصر لـ جمال عبد الناصر في العدوان الثلاثي وأنه أرسل له أسياده دبابات قد عفا عليها الزمن, وأصبحت غير صالحة للاستعمال، فلما أنزلها ليقاتل بها تحطمت جميعاً، ولما قاتل هو إسرائيل في حرب (67م) -التي يسمونها نكسة حزيران- أعطوه طائرات قد عفا عليها الزمن، وقد قال الخبراء الروس: إنها لا تصلح للاستعمال، فلما أتى ليرمي سحقت وسحق معها عبد الحكيم عامر، فهذا هو العالم الغربي ووضعه مع المسلمين.(200/11)
المخطط التاسع: إبعاد المسلمين عن الحكم
ومن مخططاتهم سعيهم المستمر لإبعاد قادة المسلمين الأقوياء عن استلام الحكم في دول العالم الإسلامي حتى لا ينهضوا بالإسلام، فيريدون بدل حكمتيار في أفغانستان صبغة الله مجددي، لأنه غربي ميله إلى هناك، وحكمتيار قوي مسلم على الكتاب والسنة، الشيخ عبد الرسول سياف طالب علم داعية، ويونس خالص عالم حنفي فيه خير كثير، فهؤلاء يخافونهم فيريدون أشخاصاً ذائبين.
يقول المستشرق البريطاني مونتجمري في جريدة تايمز اللندنية من آذار من عام 1968م: "إذا وجد القائد المناسب الذي يتكلم الكلام المناسب عن الإسلام؛ فإن من الممكن لهذا الدين أن يظهر كإحدى القوى السياسية العظمى في العالم مرة أخرى" انظر كتاب الحلول المستوردة صفحة (11).
ويقول جب: "إن الحركات الإسلامية تتطور بصورة مذهلة تدعو إلى الدهشة، فهي تنفجر انفجاراً مفاجئاً قبل أن يتبين المراقبون من أماراتها ما يدعوهم إلى الاسترابة في أمرها، فالحركات الإسلامية لا ينقصها إلا وجود الزعامة، ولا ينقص المسلمين إلا ظهور صلاح الدين من جديد" انظر الاتجاهات الحديثة في الإسلام صفحة (365) عن الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر الجزء الثاني صفحة (206) يقول: "إذا ظهر عند المسلمين صلاح الدين من جديد فقل على الغرب السلام".
أيا صلاح الدين هل لك عودةٌ فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ
وقد سبق أن ذكرنا في بعض المحاضرات قول بنجوريون رئيس وزراء إسرائيل السابق يقول: "إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي محمد جديد".
خرجوا في مظاهرات في تل أبيب وأطفالهم وطفلاتهم يقولون: محمد مات خلف بنات.
ولما انتصروا وضربوا جمال عبد الناصر، أصبحت إذاعات العرب تسب إسرائيل، وتغتاب إسرائيل وطائرات الميراج تعربد على رءوسهم.
يقول البردوني شاعر اليمن:
وأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارها الخطب
يقول: خطبنا ما شاء الله، تقذفنا إسرائيل بالصواريخ ونحن نرد عليها بالخطب في إذاعة صوت العرب من القاهرة.
وأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارها الخطب
وقاتلت دوننا الأبواق صامدة أما الرجال فماتوا ثمّ أو هربوا
فلم يعد هناك رجال.
ويقول دكتاتور البرتغال: " أخشى أن يظهر من بينهم رجل يوجه خلافاتهم إلينا ويكون كمحمد" عليه الصلاة والسلام، ونحن نقول: أما أن يكون كمحمد فلا، محمد صلى الله عليه وسلم نسخة لا تتكرر؛ لأنه كتب بخط المؤلف، وبقية القادة من بعده صور من تلك النسخة، أما هو صلى الله عليه وسلم فإنه معصوم، قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء:74] وزكى الله سمعه وبصره وفؤاده وحركاته وسكناته وهداه صراطاً مستقيماً، لكن هذا برتغالي لا يعلم شيئاً، انظر التبشير والاستعمار صفحة (87).(200/12)
المخطط العاشر: إفساد المرأة وإشاعة الانحراف الجنسي
يقول المبشر آن ميليغان: "لقد استطعنا أن نجمع في صفوف كلية البنات في القاهرة اللاتي آباؤهن باشوات وبكوات, ولا يوجد مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه مثل هذا العدد من البنات المسلمات تحت النفوذ المسيحي، وبالتالي ليس هناك من طريق أقرب إلى تقويض حصن الإسلام من هذه المدرسة" انظر كتاب التبشير والاستعمار صفحة (87) وهذه النصوص ليست من عندي، بل أقرؤها قراءة، ماذا يعنون بذلك؟
يعنون إخراج المرأة المسلمة من دينها وحجابها واحتشامها بما يسمى اختلاط التعليم، ويدعى -الآن- في بعض البلاد الإسلامية أن يختلط الأطفال الصغار؛ ويقولون في الصف الرابع طفل وطفلة ليس عندهم دوافع جنسية, اتركهم يدرسون جميعاً، وبعضهم يكتب كتابات في ذلك، وقرأت كتابات لبعض الناس في بعض البلدان الإسلامية ممن يشجع هذه الفكرة، ويقول: هي فكرة جديرة بالاعتبار.
فأولاً يقول: هي تخفف علينا النقل, فيصبح الركوب واحد نصفه بنات ونصفه رجال والفصول كذلك والمدرسات، التي تدرس مثلاً التاريخ امرأة والذي يدرس الحساب رجل، وهكذا نكون (حيص بيص) وكأن هذا الرجل الذي يكتب بدون محمد صلى الله عليه وسلم وبلا قرآن وبلا شيء.
يقول جلال العالم في كتاب: قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله: "حكى قادم من الضفة الغربية أن السلطات الصهيونية تدعو الشباب العربي بحملات منظمة هادئة إلى الاختلاط باليهوديات وخصوصاً على شاطئ البحر، وتتعمد هؤلاء اليهوديات دعوة هؤلاء الشباب إلى الزنا بهن، وأن السلطات اليهودية تلاحق جميع الشباب الذين يرفضون هذه العروض بحجة أنهم من المنتمين إلى الحركات الفدائية، رغم أنها لا تدخل للضفة الغربية إلا الأفلام الجنسية الخليعة جداً، وكذلك تفتح في المعامل الكبيرة التي يعمل فيها العمال العرب الفلسطينيون دوراً للدعارة مجانية تقريباً؛ كل ذلك من أجل تدمير أولئك الشباب لضمان عدم انضمامهم إلى حركات المقاومة في الأرض المحتلة" انظر كتاب قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله صفحة (84) وفيه هذا النص بجملته.(200/13)
وسائل مقاومة خطط الأعداء
أيها الإخوة الفضلاء! هذه مخططات الأعداء، فكيف نقاوم هذه المخططات؟ وقد سمعتم أن عنوان المحاضرة: عشر خطط لتدمير الإسلام، فقد أخبرتكم بالهدم، فما هي طريقة البناء؟
بعد معرفتنا بسلاح الأعداء فما هو السلاح الذي نواجه به هؤلاء؟ هل تنجو عند الله غداً يوم القيامة وأنت لا تحمل رسالة هذا الدين؟ هل تستطيع أن تضمن لنفسك السلامة وأنت لم تقم مدافعاً عن دين محمد صلى الله عليه وسلم؟ ماذا تقول لله غداً وأنت لم تنصر دينه ولم تغضب لشرعه، ولم يتمعر وجهك يوماً واحداً من أجل ما ترى وما تسمع.
إذن الوسائل لدحر هذه الخطط ولردها ولتفكيكها هي:
أولاً: اعتصامنا بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] فيجب أن تكون دراستنا وتعليمنا وفكرنا ورأينا من الكتاب والسنة، وذلك بتكثير مدارس تحفيظ القرآن والجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن، وأن تقوم أنت في بيتك بتحفيظ أبنائك كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنا أقترح أن تحفظ أبناءك كل يوم آيةً وحديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أن نتحد جميعاً نحن المسلمين، وإذا لم نستطع أن نتحد دولاً فلنتحد شعوباً، فكلما رأينا مسلماً من أي بلد إسلامي احتضناه، وأحببناه، وآخيناه، وواليناه، ودارسنا مشكلاته التي تمر به في بلاده، وعشنا قضية الإسلام في كل بلد مسلم كأنها قضيتنا في أنفسنا، المسلمون همهم واحد يسعى بذمتهم أدناهم، المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
فأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
أحد العلماء الكبار إذا ذكر له قتل في بورما أو في البوسنة والهرسك أو في الفلبين سالت دموعه على لحيته، فهم إخوانك وأطفالك وأبناؤك، فلذلك عليك أن تتابع أخبار هؤلاء بالإذاعة وبما يكتب, واسأل القادمين ما أخبار المسلمين في كل مكان، وأحذركم وأحذر نفسي من التحزب الجاهلي الأعمى والإقليمية والتمييز العنصري؛ فلا تنظر لمسلم من أي بلد كان إلا كأنه أخوك من أمك وأبيك؛ بل أعظم من ذلك قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
ثالثاً: أن نخبر المسلمين أو أن نخبر الناشئة بتاريخنا الأول الذي عشنا عليه نخبرهم تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وننشره في المحاضرات واللقاءات والمجالس ونعمر به أوقاتنا فليس لنا تاريخ إلا هو.
تاريخنا من رسول الله مبدؤه وما عداه فلا ذكر ولا شان
رابعاًَ: أن نكون دعاة إلى منهج الله عز جل بما نحمل من سلاح الدعوة، قال صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية} {نضر الله امرأً سمع منا مقالة فأداها كما سمعها؛ فرب مبلغ أوعى من سامع} وإذا لم تستطع أنت أن تتكلم فانشر الكتاب الإسلامي والشريط الإسلامي، وكن داعية إلى منهج الله عز وجل.
خامساً: ألا نصدق ما يبث في وسائل الإعلام الغربية والشرقية من هجوم كاسح على الإسلام، فإني رأيت بعض العوام شُوِّشَتْ أذهانهم لكثرة ما سمعوا في الإذاعات الغربية والشرقية من اتهام الدعاة إلى الله عز وجل بالتطرف والأصولية، حتى يقول بعضهم: ما أتى بهذا الشر إلا الأصوليون، سبحان الخالق! ويعنون بالأصوليين: الدعاة إلى الله عز وجل, الدعاة إلى منهج محمد صلى الله عليه وسلم, وتجد أولئك يهاجمون هؤلاء، فيسمع لهم من الناشئة ومن الجهلة الجمع الكثير.
سادساً: علينا -أيها الإخوة الكرام- أن نسعى جهدنا في جمع الناس تحت مسيرة اتباعه صلى الله عليه وسلم، أن يكون رسولنا ومعلمنا القائد رسولنا صلى الله عليه وسلم فقط، وأن نربط الناس بشخصه وبرسالته، فلا نربطهم بشخص آخر ولا بكيان آخر، بل نجعل له صلى الله عليه وسلم الاتباع ونجرد المتابعة له صلى الله عليه وسلم, ونعلم أنه ناصح وصادق، وأنه أنجانا من الظلمات إلى النور.
سابعاً: أن نقطع طريق الشهوات؛ بمنع المجلة الخليعة والفيديو المهدم والمسلسل المخرب، حتى إذا قطعنا سلسلة الشهوة استطعنا أن ننجو بإذن الله.
ثامناً: من الحلول التي قد لا نستطيع نحن لها أفراداً لكن يستطيع لها غيرنا: أن تكون البلاد الإسلامية منتجة للسلاح، مثلما تنتج البيبسي والصابون, أن تنتج القنبلة والطائرة والصاروخ والدبابة والقاذفة، لماذا يجوز للغرب أن ينتج ولا يجوز لنا؟!
ثم علينا أن نكذب تلك الأطروحات الكاذبة الظالمة الآثمة التي تجعل الحصار على الشعب العراقي المسكين حلالاً, والحصار على إسرائيل حراماً, والتي تحرم أن تصنع باكستان القنبلة النووية وتجوز لدولة اليهود والصهيونية أن تصنع القنبلة النووية، فيا له من ظلم! ويا له من دمار! ويا له من عار! ويا له من شنار! ثم نسعى لوحدة المسلمين, وأن نخبر الناس أن الحدود الإقليمية هذه ما أنزل الله بها من سلطان, وإنما أتى بها المستعمر, وأنها لم تكن في العالم الإسلامي, وكانت الخلافة الراشدة كلها ممتدة -والحمد لله- تسافر أنت إلى الهند وإلى طنجة وإلى ليبيا وإلى أي مكان, آمناً مطمئناً في بلاد المسلمين وهم أحبابك وأقرباؤك وإخوانك.
بلادي كل أرض ضج فيها نداء الحق صداحاً مغنى
ودوى ثَم بالسبع المثاني شباب كان للإسلام حصنا
أيها الإخوة: هذه بعض المقتضيات التي لا تغيب عنكم, لكن أحببت أن أعيدها على حضراتكم؛ علَّها أن تفهم وترسخ وتكون أمام العبد معرفةً واعتقاداً وتصوراً، وإني أوصيكم -أيها الإخوة- أن تعودوا إلى الكتبة المسلمين العارفين بالواقع، مثل كتابات سيد قطب رحمه الله، وكتابات أخيه محمد قطب أثابه الله، والأستاذ أبي الأعلى المودودي، والأستاذ أبي الحسن الندوي، وغيرهم من الكتبة الأماجد؛ لتتصوروا التصور الإسلامي الراشد مع ما يكتبه علماؤنا كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أثابه الله، وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، والشيخ ابن جبرين والشيخ الفوزان وغيرهم من العلماء.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية والرشد والسداد, ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ثباتاً وهداية ورشداً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(200/14)
الأسئلة(200/15)
حكم ضرب التنكة
السؤال
أيها الإخوة! عرض علي في المحاضرة في الأسبوع الماضي (رسائل من الداخل والخارج) سؤال عن حكم ضرب التنكة للنساء في الحفلات والأعراس، ووعدتم أن أعرض هذه السؤال على عالم الأمة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وقد عرضته عليه ومعي ما يقارب أربعة وعشرين من العلماء والدعاة في البلاد مساء الأربعاء الماضي فأجاب سماحته، وأنا سألته مباشرة دون اتصال ليس بيني وبينه حجاب ولا ترجمان؟
الجواب
لا تجوز (التنكة) للنساء، وإنما يجوز للنساء الدف في الأعراس والأعياد، الدف الذي يضرب بالأيدي فقط، ولا تجوز التنكة للنساء ولا الطبل ولا الزير ولا أدوات الموسيقى والغناء.(200/16)
حكم الطبل والزير للرجال
السؤال
ثم سألته هل يجوز الطبل والزير والزلفة للرجال؟
الجواب
قال: لا يجوز للرجال وإنما يجوز للنساء فقط، فهل فهمت الفتيا؟ هذه رسالة من سماحة الشيخ أنقلها لكم شفوياً، وقد سألته ومعي ما يقارب أربعة وعشرين من العلماء والدعاة، ومن شك منكم فعليه أن يتصل بسماحة الشيخ ليؤكد له هذه المسألة.(200/17)
قراءة في بعض المجلات المنتكسة
أيها الإخوة الكرام! بعض ما نشر في بعض الصحف والمجلات أذكر لكم بعض الكلمات فيه لتروا كيف يحارب الإسلام وتحارب الفضيلة، ويحارب أولياء الله عز وجل.
في مجلة سيدتهم، عدد (510) " من عيوب الزوج العربي الغيرة " من عيوب الزوج العربي أنه يغار، ولو أنه يغار ما كان فيه عيب!
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {أتعجبون من غيرة سعد فوالله إني أغير من سعد والله أغير مني}.
في مجلة كل الناس عدد (58) "ماذا لو قالت امرأة: هذا الرجل صديقي؟! " يقولون: ماذا في ذلك؟! هل فيه حرام أن تقول امرأتك عن رجل أجنبي: هذا صديقي؟! أو يقول رجل لامرأتك: هي صديقتي؟! ليس في ذلك عيب ولا تحريم!
هذه دعوة صريحة إلى أن تتخذ المرأة لها صديقاً وخدناً، والله حرم ذلك ورسوله عليه الصلاة والسلام.
في مجلة الحسناء عدد (81) تقول المجلة: "الفضيلة والكرامة تعترضان مسيرة النجاح" معنى الكلام بمفهوم المخالفة: إذا أردت أن تنجح في الحياة فعليك أن تترك الفضيلة والكرامة وأن تعيش حياة البهائم.
وقد ذكرها عمر الخيام وهو زنديق؛ وأحد الكتبة المصريين له كتاب عمر الخيام بين الكفر والإيمان ولذلك يقول:
لبست ثوب العمر لم أستشر وحرت فيه بين شتى الفكر
هذا شعر عمر الخيام يقول: لبست ثوب العمر ما استشارني ربي يوم خلقني؟ وكأن الواجب أن يستشيره ربه، يقول: ولدت ما استشارني، وكبرت ما استشارني، ومت ما استشارني.
لبست ثوب العمر لم أستشر وحرت في بين شتى الفكر
ثم يقول:
هات اسقنيها عذبة حلوة ممزوجة بالدمع وقت السحر
يقول: هات اسقنيها -يعني: الخمر في رمضان- هذا وهو في الشمال.
فما أطال النوم عمراً وما قصر في الأعمار طول السهر
يقول: أنت تعصي أو تطيع أنت ستجلس في القبر تجلس أبد الآباد، كل واشرب من الحرام هنا قبل أن تموت، نعوذ بالله، ولذلك بعض العوام من المتفسخين المتبذلين إذا قلت له: اتق الله قال: يحلها الحلال، وبعضهم يرتكب المعصية ويقول: الذي عقد رءوس الحبال يحلها.
هذا مما قيل.
وذكرتكم بـ مصارع العشاق بكلمة ذكرتني بـ عادل إمام هذا أحد الرؤساء ذبح العلماء وسجنهم ثم خرج في الإذاعة يقول: أنا إمام عادل كـ عمر بن الخطاب، فقال أحد العلماء: نعم عمر إمام عادل وأنت عادل إمام.
يقول الكاتب هنا: " عادل إمام مثل أبي ذر الغفاري يمشي وحده ويموت وحده ويبعث يوم القيامة وحده" مجلة المصور عدد (3507) انظر الهراء والكذب على الله عز وجل وعلى الأمة وعلى الرسالة، وإذا طلب مسلم أو طالب عالم أن ينشر زاوية عن الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: لا يوجد لدينا مساحة وليس هناك مجال.
وقيل: " أبو هريرة يروي أحاديث تنافي الذوق السليم مثل حديث الذباب " جريدة الشرق الأوسط.
وفي مجلة كل الناس عدد (84) يقولون: " عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس في طبقات المغنين، والسبب نشأتهما في المدينة المنورة حيث يتعانق الدين والفن عناقاً حاراً " بقلم الدكتور نعمات أحمد.
سبحان الله!: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس في طبقات المغنيين، عمر بن عبد العزيز الذي بكى الليل والنهار حتى وصله العلماء وسألوه بالله أن يكف عن البكاء، قالوا: مالك تبكي؟ -وهو يحكم اثنتين وعشرين دولة- قال: تفكرت في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] فأخشى أن أكون ممن قيل فيهم: (وفريق في السعير).
ووصله زياد الفقير عالم المدينة قال: يا عمر بن عبد العزيز، اتق الله في نفسك، تمتع في حياتك؛ لأنه ما استطاع حتى أن يعاشر أهله، وما استطاع أن يأكل الفاكهة, وأصبح جلده على عظمه من خشية الله عز وجل، لا يستطيع النوم تقول امرأته فاطمة بنت عبد الملك وهو حاكم يحكم في دمشق العالم الإسلامي تقول عنه: كان يأوي إلى فراشه فينتفض مثل العصفور؛ فتقول: مالك؟ قال: أخشى أن الله اطلع علي وأنا على معصية فقال: لا رضيت عليك أبداً، وقام مرة يصرخ مع السحر فتوضأ قالوا: مالك؟ قال: تذكرت قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:9 - 10] هذه النماذج نفخر بها.
عمر بن عبد العزيز الذي ليس له إلا ثوب واحد، ووالله لقد ذكر أهل التاريخ أن صُبر الذهب والفضة كانت تنكت في المسجد وتوزع في الفقراء، وما كان يجد كسرة الخبز، كان يغسل ثوبه ويصعد به على المنبر فإذا أراد أن يتكلم يبكي، حتى يقول رجاء بن حيوة: "انظر إلى جدار المسجد هل يبكي معنا" رحمه الله.
مجلة نصف الدنيا عدد (98) تقول: "قريباً تشدو نجاة الصغيرة لبيك اللهم لبيك" أحدهم يقول:
سرح الليلة وانشق القمر من غزال صاد قلبي ونفر
هذا كلام ينشد، وذلك يقول:
تبت يدا الحب من صناجة العرب حمالة الورد لا حمالة الحطب
ما بقي إلا القرآن، وقد أخبرنا بعض العلماء أنه وجد بعض الفسقة والعياذ بالله غنى بسورة تبت يدا أبي لهب وأفتى العلماء بقتله، مجلة نصف الدنيا أنشدوا هذا.
أيها الإخوة هذا بعض ما ينشر، وبعض ما يقال، وأنا أستأذن في عدم المواصلة في هذا لأن هناك مسائل أخرى؛ ولكني أحببت أن أخبرك بهذا.(200/18)
حكم البث المباشر (الدش)
السؤال
الساتلايت المسماة بالدش الذي هي وسيلة للبث المباشر ما حكمها؟
الجواب
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز سوف تخرج له فتيا في هذه الأيام يرى وجوب مقاطعة هذه الدشوش وعدم إدخالها في البيوت، وسوف أقرؤها عليكم بتوقيعه إذا وصلت إن شاء الله.(200/19)
نصائح وتوجيهات
أيها الإخوة الفضلاء! أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية والسداد والرشاد، وقبل أن أنتهي أخبرتكم بكتاب الأسبوع وهو كتاب " حصوننا مهددة من الداخل " فعليكم بقراءة هذا الكتاب, وأوصي إخواني طلبة العلم الذين عطلوا أو ارتاحوا من الدراسة ألا يرتاحوا من العمل الصالح, ليس عند المؤمن راحة كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] الذي يزعم أن طالب العلم إذا انتهى من الامتحان, يغلق على كتبه, وأنه يبدأ حياة النشاط والرياضة والتفسح قد أخطأ، هذا يصلح في بريطانيا وفي فرنسا وفي أمريكا، أما نحن شباب محمد صلى الله عليه وسلم فحياتنا اطلاع وقراءة وبحث ومدارسة وعبادة دائماً, فأوصيكم -يا إخواني- أن تقرروا لأنفسكم كتباً في هذه العطلة ولو تنزهت مع أهلك ولو ذهبت إلى أماكن الاصطياف والسياحة، فعليك أن تستصحب كتباً وأن تقرأ وأن تحقق مسائل وأن تحفظ شيئاً من كتاب الله، واحذروا أن تغفلوا، أو أن تجعلوا في أذهانكم العطلة أنها استجمام، وأنها ترك للقراءة والتحصيل، وهذا خطأ لا يقره الشرع الحنيف، قال عمر: [[المؤمن إذا ارتاح غفل]].
تنبيه آخر: أمانة في أعناقكم أسألكم عنها يوم العرض الأكبر ألا تتركوا علماء الإسلام ولا طلبة العلم ولا الصالحين ولا الدعاة ولا المستضعفين ولا المنكوبين من المسلمين من دعائكم في صلواتكم وفي السحر وفي أدبار الصلوات، وإذا قمتم وإذا قعدتم.
يا أيها الإخوة الكرام: دعاؤكم إن شاء الله مستجاب، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {يستجاب للعبد ما لم يعجل, يقول: دعوت فلم يستجب لي} فالله الله أن تلحوا على الله.
أتيناك بالجود يا ذا الغنى وأنت المعين فكن عوننا
فما في الغنى أحدٌ مثلكم وفي الفقر لا أحد مثلنا
فأكثروا وأبشروا وأملوا ما يسركم يقول المولى جلت قدرته: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] الله الله في الإلحاح! يقول أبو بكر: [[ألحوا على الله]] ادخل على الله من أي باب من الأبواب الشرعية وأكثر من الدعاء إليه والانطراح بين يديه، فإن علماء العالم الإسلامي ودعاته ومناهجه ومستضعفيه وفقراءه يعيش مأساة لا يعلمها إلا الله، فلعل الله أن يفرج بدعائك هموماً وكروباً وغموماً ويزيل ظلماً عن مظلوم، وينصر مضطهداً وأنت لا تدري.
ثم أنبه على مسألة: لا يستصغر أحد منكم نفسه ولا يحتقر نفسه، فكلنا مذنب، وكلنا يشعر أن عنده ذنوباً فيقول: أنا لو دعوت يمكن ألا يستجاب لي! مع أن دعاءك يمكن أن يكون أفضل من دعاء أعبد العباد، لأنك تشعر بالتقصير وتشعر بالانكسار، فعسى الله أن يجيب!
اللهم يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، اللهم يا أرحم الراحمين, اللهم يا ولي المسلمين!
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الركن الذي لا يضام, والعزة التي لا ترام, يا من لا ينام, يا من أنزل الإسلام؛ نسألك أن تنصرنا وأن تنصر دينك وأولياءك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأبطل سوءه, وأبطل بأسه, ونكس رأسه, وشرد بالخوف نعاسه, يا رب العالمين!
اللهم احفظنا بحفظك من كل مكروه، اللهم انصرنا على من اعتدى علينا، اللهم تولنا فيمن توليت واهدنا فيمن هديت، اللهم من أراد أولياءك وعبادك والصالحين والمستضعفين والمسلمين بسوء، فاجعل تدميره في تدبيره، واقتله بسيفه ومزقه كل ممزق والعنه كل لعنة.
اللهم اجمع شمل المسلمين, وأصلح ولاة أمورهم, وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهم على الحق وتحذرهم من الباطل، اللهم إنا نسألك العروة الوثقى, وأن تميتنا على لا إله إلا الله، وأن تدخلنا الجنة بلا إله إلا الله.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين.(200/20)
مفهوم الحب في الإسلام
الحب في الله، والبغض في الله؛ أوثق عرى الإيمان؛ وفي هذا الدرس بيان أقسام الحب, وذكر نماذج من أولئك الأخيار الذين قدموا حب الله على حب غيره, ونماذج أخر من أولئك الذين قدموا محبة غير الله على محبة الله, فإن الحب والبغض عقيدة تستقر في القلب وتترجم على الأعضاء والأركان, وليست مجرد دعوى يدعيها صاحبها.(201/1)
أقسام الحب
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم صل وسلم على من بعثته هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً بإذن الله وسراجاً منيراً.
أمَّا بَعْد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإن كان من شكر فإني أشكر الله تبارك وتعالى على أن أجلسني بين أساتذة وطلبة علم ودعاة، ثم أشكر لأهل الفضل فضلهم: {ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله تبارك وتعالى} فأشكر عميد هذه الكلية وهيئة التدريس، والأساتذة الدارسين، وأبدأ معكم موضوعي الذي هو: مفهوم الحب في الإسلام.
لقد جاء الإسلام فقنن وحدد العقائد والأفكار والتصورات والأخلاق، وضبطها ووجهها ولم يجعلها هملاً، وإنما هي موجهة من الواحد الأحد، فمن هذا المنطلق سوف نتكلم عن الحب وكيف وجهه الإسلام والرسول عليه الصلاة والسلام ولم يتركه، لأن كثيراً من الناس ظنوا أنهم يحبوا من شاءوا وفي أي وقت شاءوا وهذا خطأ، وهل العقيدة والعبادة إلا حب؟!
وهذه المحاضرة تدور على ست مسائل:
أولها: المحبوبات عند الناس في القرآن الكريم
ثانيها: حب الكافر لغير الله عز وجل.
ثالثها: ادعاء الحب, ومن ادعى الحب وكذب فيه.
رابعهاً: محبة الله عز وجل ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم أعلى المطالب وأغلى المقاصد.
خامسها: علامة حب الله عز وجل والفاصل بين الذين يحبونه ولا يحبونه.
سادسها: هو الحب الرخيص الحقير التافه الذي هو شؤم وأذى ولعنة ومقت على أصحابه، وسوف نقف مع أهل الحب الرخيص الفنانين والفنانات، والمغنيين والمغنيات، وأين صرفوا حبهم؟! وماذا فعلوا بحبهم؟! وما هو جزاؤهم عند الله إن لم يتوبوا؟!.
ذكر الإمام البخاري: {أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على المنبر فتكلم -وهو يتكلم للناس في العقائد والعبادات- فلما انتصف صلى الله عليه وسلم في حديثه وإذا بأعرابي يقاطعه فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وقال: مالك؟ قال: متى الساعة؟ فسكت عليه الصلاة والسلام فلما انتهى قال: ماذا أعددت للساعة؟ قال: يا رسول الله! والله ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة, ولكني أحب الله ورسوله, فقال عليه الصلاة والسلام: المرء يحشر مع من أحب} قال الحسن البصري معلقاً على الحديث: لا يخدعنكم الحب فحسب, فوالله الذي لا إله إلا هو لقد أحب قوم عيسى بن مريم حتى تألهوه فأدخلهم حبه النار، فهو حب بلا عمل.
وروى الغزالي في الإحياء عن ابن عمر أنه قال: [[والله, لو أنفقت أموالي غلقاً غلقاً في سبيل الله، وصمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه ثم لقيت الله، وأنا لا أحب أهل الطاعة، ولا أكره أهل المعصية، لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار]] فمن هذا المنطلق جعل الرسول عليه الصلاة والسلام الحب عقيدة، ففي سنن أبي داود بسند صحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان} فهذه عقيدة وتصور وميول فمن صرفه لغير الله فقد أساء وتعدى وظلم.
والحب على قسمين:
الأول: فطري جبلي.
الثاني: كسبي سببي.
فأما الفطري الجبلي: هو حب جُبِل عليه العبد في ذلك، منها: حب الرجل الطعام، وحبه الماء، وحبه لابنه وزوجته.
أما الكسبي السببي: فهو الإرادي الذي يحاسب الله عليه العبد إذا صرفه لغير مرضاة الله تبارك وتعالى.
ونقف قليلاً مع سؤال وجه لشيخ الإسلام ابن تيمية وذكره ابن القيم في روضة المحبين.
قال السائل: لماذا يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] كيف يأمرهم بذكره وقت الأزمات، أما هناك وقت للذكر إلا وقت مصارعة الأعداء والمقاتلة؟ قال ابن تيمية: إن المحبين يتشرفون بذكر محبوبيهم وقت الأزمات، أما سمعت لقول عنترة لما يقول لمحبوبته:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
فكان الجاهليون يتمادحون لأنهم يذكرون محبيهم وقت القتال, فأراد الله أن يحول هذا المعتقد الآثم إلى ذكره في وقت الأزمات، ولذلك أفضل الذكر يوم يذكر العبد ربه وقت ملاقاته لقرنه أو مصارعه أو مبارزه.(201/2)
المحبوبات في القرآن
يقول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] فكل محبوبات الناس تدور على هذا، ولكن عند الله خير من هذا، ومن أحب هذا الشيء الذي ذكره الله، وأفنى حبه فيه وعبده، فليس له عند الله من خلاق، لأن الحب عبادة وإذا اجتمع مع الذل فهو كمال العبادة، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة} والحديث عند البخاري في كتاب الجهاد ونصه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تعس عبد الدرهم, تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش} وإنما سماه عليه الصلاة والسلام عبداً؛ لأنه صرف حبه لهذه الأمور حتى غلبها على حب الله، ومن الناس من يحب زوجته أكثر من حب ربه تبارك وتعالى! وعلامة ذلك أن يقدم مطلوبها -ولو كان معصيته- على مطلوب الله سبحانه وتبارك.
من الذي أخرج حنظلة الغسيل من بيته وهو في أول يوم من عرسه إلى لقاء الله, وأتى إلى أحد وكسر جفن سيفه على ركبته، وقال: [[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]] إلا حب الله، وفي الأخير قال عليه الصلاة والسلام: {سلوا أهل حنظلة عن حنظلة ماله، فسألوهم، قالوا: خرج جنباً ولم يغتسل، قال: رأيت الملائكة بين السماء والأرض تغسله في صحاف الذهب بماء المزن} من الذي جعله في هذه الدرجة إلا حين غلب محبوب الله على محبوبه النفسي؛ ولذلك ترك كل شيء وخرج إلى لقاء الله، وسوف نمر بنماذج في العنصر الخامس إن شاء الله.
يقول الله سبحانه: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [الفجر:20] وهذا يدخل فيه نوعي الحب: سببي كسبي، وفطري جبلي.
أما الفطري الجبلي: وهو أن الإنسان يحب المال بلا شك، وهو مفطور على ذلك، وأما الكسبي: فهو الذي يصل به إلى درجة العبودية للدرهم والدينار, فيسبح بحمده صباح مساء، ويجعله مقصده في الحياة ومطلوبه، فيكون كما قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان:43].
فمن جعل شيئاً أعظم من الله في قلبه وأحبه كان إلهه وكان مشركاً بالله.
ولذلك ذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ذلك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165].(201/3)
لا تقدم ملاذ الدنيا وحبها على حب الله ورسوله
وقد ذكر الله جل وعلا ملاذ الدنيا، فإن ملاذ الدنيا وشهواتها لا تخرج عن ثمانية أصناف ذكرها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة التوبة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] من قدم شيئاً من هذه الثمان على حب الله، فلينتظر الموت ولينتظر اللعنة والغضب، ومن قدم هذه الأمور على الجهاد في سبيل الله وعلى طاعة الله فمعناه: أنه صرف الحب لغير الله، واستحق اللعنة والغضب من الله تبارك وتعالى، فهذه ملاذ الدنيا فمن قدمها على حب الله؛ فقد باء بغضب الله، يوم تأتي مصارعة حب الأب مع حب الله تبارك وتعالى، الأب يدعوك إلى المعصية، والله يدعوك إلى المغفرة وإلى جنة عرضها السماوات والأرض, وتعصي أباك حينها تكون محباً لله.
ومن أجلّ الصور قصة أبي عبيدة ولو أن في إسنادها نظر، لكن هي من قصص السير ولا بأس بإيرادها.
وقف أبو عبيدة عامر بن الجراح -أحد العشرة المشهود لهم بالجنة- يوم بدر فعرض له أبوه مراراً فجنح عنه بالسيف، فلما رآه معترضاً له وعلم أنه يدعوه إلى النار وعلم أنه يحارب الله؛ ضربه بالسيف فكان كأمس الدابر فقتله، فما كان من الله إلا أن جازاه في الحب حباً، وبالصدق صدقاً، وبالإقدام ثواباً وأجراً.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188] فهذا حب الجاه والشهرة, من أحب ذلك وقدمه على حب الله، فلا تحسبنه بمفازة من العذاب أبداً وله عذاب أليم.
يذهل الإنسان يوم يجد أهل الكفر والضلالة يستميتون من أجل مبادئهم ويحبون أصنامهم وطواغيتهم أكثر من حب أهل الإسلام لربهم تبارك وتعالى, يسهرون الليالي في إنتاج الخطط في محاربة الإسلام, يقدسون عظماءهم, ويقبلون صور عظمائهم، ثم نعجب حين نجد الإنسان لا يشعر بحرارة النخوة وعقيدته مع الله تبارك وتعالى.
يقول شاعر الضلالة والإلحاد الخوري:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
يعني: يتخذ من دون الله أولياء ثم يموت في هذا الولاء ويحيا فيه؛ فما جعل الشيوعي، واليهودي والنصراني يستميت ويقاتل ويذبح إلا من أجل عقيدته، ولذلك يقول: هبوا لي ديناً: لا يهمني أي دين إلا دين يجمع العرب، فلا حيّ الله ذاك الوجه ولا بياه وعليه لعنة الله.
هبوا لي ديناً يجعل العرب ملة وسيروا بجثماني على دين برهم
برهم: المجرم الهندوكي السفاك.
فيقول هذا: فأتوني بدين ولو كان على دينه، ثم يقول: لاتنظر إلى الأديان، بل بلادك الطين والتراب، فهذه عقيدته وهذا حبه وهو يلقى الله عز وجل:
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
أحد الناس الذين صرفوا حبهم لغير الله من الفسقة - ابن هانئ الشاعر- يقف أمام سلطان لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا حياة ولا نشوراً، ولا حكمة ولا تصريفاً ويقول لهذا الحشرة:
ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
سبحان الله! من هو الواحد القهار إلا الله, من هو الذي يحيي ويميت إلا الله، من الذي يغني ويفقر إلا الله!
قل للطبيب تخطفته يد الردى من ياطبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعد ما عجزت فنون الطب من عافاكا
والنحل قل للنحل يا طير البوادي من ذا الذي بالشهد قد حلاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله: كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
ستجيب بلسان حالها: الله.
فهذا صرف معتقده ونسي نفسه وخلع حبه يوم دخل على هذا السلطان:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
فما كان جزاؤه؟
والله قد يعجل بالجزاء ليجعل بعض الناس عبرة للمعتبرين، فهذا الشاعر أتاه مرض عضال فأخذ ينبح كما ينبح الكلب على فراشه، وتذكر تلك الكلمة الخاسئة الحقيرة التي صرف الحب فيها لغير الله فقال:
أبعين مفتقر إليك نظرتني فأهنتني وقذفتني من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
فخر على وجهه فوقع على أرض سحيقة لأنه أشرك بالله.
وهذا المتنبي الشاعر يقول لـ عضد الدولة:
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
فضيعه الله في الدنيا والآخرة، فلا حصل على حب الناس في الدنيا أو على مكانة فيها وضيعه في الآخرة كذلك، والأمر عند الله؛ لأن أعماله شهدت له بمقال أنه صرف حبه لغير الله تبارك وتعالى.
وبعض الناس يجعل الرياضة إلهاً من دون الله فيحبها حباً شديداً، يسبح بحمدها, فيصبح عليها ويمسي عليها، ويوالي على فريقه ويعادي عليه, وهل العبادة إلا الحب والبغض؟!
وهل العبادة إلا الولاء والبراء؟!
وهل العبادة إلا الميول؟!
ولذلك يغضب حين يجد إنساناً يناوئه على فريقه أو على نصر منتخبه، فهل هذه أمة تريد بحبها وجه الله؟!
وهل هذه أمة رسالة؟!
قد رأينا جميعاً بعض الناس يوالون على مغنيين، ومغنيات, وما جنين وماجنات, أحياء وأموات، فيتعصب لهؤلاء وهم أرخص الناس ثمناً وأقلهم سعراً في الأسواق، وهؤلاء لا عقل ولا دين كمثل أحد الصوفية كان يقرأ قوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:26]: (فخر عليهم السقف من تحتهم) لأن الأصل أن السقف من فوق، لكن لا عقل ولا دين:
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان عليّ ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني(201/4)
بطلان ادعاء الحب
الدعوى سهلة, يقول أحد الصالحين: لا تعرضوا حب الله على الألسن فتدعيه، وادعاء حب الله سهل عند الناس جميعاً, فتارك صلاة الجماعة وهو يصلي -رغم قوته- في بيته كالعجوز، تقول له: لماذا لا تصلي في المسجد؟ قال: الله يعلم أني أحبه.
وكذب لعمر الله! لو كان يحب الله ما تأخر عن الصلاة في المسجد:
يقول محمد إقبال معبراً عن حبه لمولاه:
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا(201/5)
المحبة تستلزم الطاعة
ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير، قال: يا رب! أمتني ميتة حسنة, قالوا: وما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد، فطالت به الحياة وعلم الله أنه صادق: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وأتت إليه منيته في وقت صلاة المغرب، فإنه لما كان في حالة الموت فسمع: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، قال: احملوني إلى المسجد، قالوا: أدركك الموت, قال: أسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ولا أقوم, لا والله! فنقلوه فلما أصبح في السجدة الأخيرة قبض الله روحه.
فهذه هي الميتة الحسنة.
فأهل الحب هم أهل الإيمان والحب والطموح.
قال أبو الحسن الندوي في معرض كتابه مسيرة الحياة: عين بلا إيمان مقلة عمياء، وأمة بلا إيمان قطيع من ظأن وغنم، ونحن نقول: كتاب بلا إيمان كلام مصفف، وقصيدة بلا إيمان كلام ملفف، وعقل بلا إيمان ضلال وضياع وخسار ودمار وعار، لينتبه كل منتبه أن العقل لا يأتي بالدعوى, يقول ابن القيم في مدارج السالكين، وهو يتلطف مع المحبين، ويتكلم عمن يدعي حب الله عز وجل ثم يكذب، أقواله في واد وادعاؤه في واد آخر:
أصحيح أن من يحب الله عز وجل يتدثر في فراشه وصلاة الفجر ينادى إليها؟ كذبٌ والله! إن هذا لم يحب الله، ولو أحب الله لأتى بيت الله، ولصلى مع المسلمين, ولتشرف بوضع جبهته في الأرض، فإن الذي لا يضع جبهته في الأرض لله يضعها لغير الله، والذي لا يمد يده سائلاً الله, يمدها لغير الله, وهذه قاعدة.
فلا بد للإنسان من إله: الله أو غيره, لذلك يقول ابن تيمية: الإنسان همام حارث -كما في الحديث الصحيح- لا بد لقلبه أن يهم ولا بد له أن يزاول شيئاً، فلا بد له من إله يألهه وهو الله تبارك وتعالى، واسم "الله" معناه الذي تألهه القلوب وتحبه، ولا يركن القلب ولا يرتاح القلب إلا مع الله.
وقد ذكر عن سيبويه النحوي: أنه رئي في المنام فقالوا: ماذا فعل الله بك؟ - سيبويه توفي وعمره (32 سنة) وقد ألف في النحو، ولو كان في الكتب معجزة -غير كتاب الله وسنة المصطفى- لكان هذا الكتاب، ولكن كتاب الله هو المعجز ونستغفر الله, لكن قالها أبو حيان المصري النحوي- فلما رئي في المنام، قالوا: ماذا فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قالوا: بماذا؟ قال: قلت في باب المعرفة: الله أعرف المعارف.
فهو عندما أتى إلى اسم الجلالة ليعرفه للنحاة لم يعرفه بل قال: الله أعرف المعارف وسكت، ثم أخذ في الكلام، وهذا كلام عجيب، وهو أعرف المعارف سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] وابن القيم يتحدث عن ادعاء الحب فيقول: تقول امرأة لرجل يدعي حبها:
ولما ادعيت الحب قالت كذبتني أليس أرى الأعضاء منك كواسيا
تقول: لو كنت صادقاً لنحل جسمك من الحب، ولظهر عليك علامات الحب، أما أن تتظاهر بالحب وأنت تنام الليل، وتأكل ما اشتهيت، وأنت سمين، فأين آثار الحب عليك؟
ولذلك يقول ابن المبارك:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
فيقول: كذب من ادعى المحبة، وفي أثر إسرائيلي: كذب من ادعى محبتي، فإذا ضمه الليل نام عني ولم يقم يناجيني, أو كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, وهذا من أحاديث الإسرائيليات نرويها باعتبار: {حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج}.
فالحب ادعاه قوم كثير وهو في المسلمين كثير وكثير، حتى من الفسقة الفجار ممن يحمل الكأس، ويعيش للمرأة، ويسمع الأغنية، ويعاصر الخلاعة، فإذا قلت له في ذلك ادعى حب الله، وهذا أكبر ادعاء وبهتان في الأرض وهو إفك وبهتان وزور مبين.(201/6)
محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلى المطالب وأعظم المقاصد
ومحبة الله عز وجل ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم أعلى المطالب وأعظم المقاصد، فآخر ما تصل إليه من درجة العبودية أن تحب الله أكثر من نفسك وأهلك ومالك، ومن الناس أجمعين، وتحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الحب.
في صحيح البخاري قال عمر: {يا رسول الله! والله إنك أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال عليه الصلاة والسلام: لا يا عمر! حتى أكون أحب إليك حتى من نفسك، فانتظر قليلاً ثم قال: والله -يا رسول الله- إنك أحب إلي من نفسي} فهذا هو منتهى الحب.
وفي الصحيحين عن أنس يقول عليه الصلاة والسلام: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار} فمن وجد هذه الثلاث وجد حلاوة الإيمان ومنتهاه وأصله فهنيئاً له، ومن لم يجد ذلك فليبكِ على نفسه.
وحب الله من أعظم المقاصد والمطالب، يقول ابن القيم في الفوائد في قوله تعالى: {يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ليس العجب من قوله: (يُحِبُّونَه) فإن من أطعمك وكساك ومن خلقك ورزقك تحبه جبلةً وأصلاً، ولكن العجب من قوله: (يُحِبُّهُمْ) فالله خلقهم ورزقهم، وأعطاهم الأسماع والأبصار، ثم يحبهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وأعطاهم النفوس ثم اشتراها منهم وأعطاهم الجنة ثمناً فكان الربح لهم.
أتى جبريل بصك أملاه الواحد الأحد ووقع فيه محمد: السلعة الجنة، والثمن أرواح المؤمنين، فتقدم من يشتري تلك السلعة فقدموا أرواحهم في بدر وأحد وارتفعت أرواحهم إلى الحي القيوم، فكلمهم الله كفاحاً بلا ترجمان: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].(201/7)
صور من محبة الصحابة لله
قال ابن القيم في زاد المعاد وهو يتحدث عن بيع جمل جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري أبوه أتى إلى يوم أحد فلبس أكفانه, ومعنى لبس الأكفان: أنها ساعة الخطر والصفر, فلا عودة إلى الحياة، ولا محاب إلا محبة الله، لا زوجة ولا ولداً ولا داراً ولا مالاً:
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أم من رمى نار المجوس فأُطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
أتى إلى المعركة فأخذ غمد سيفه وكسره على ركبته -وهذا في أحد وحديثه في الصحيح- وقال: [[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]] فقتل، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام لـ جابر: {ابك أو لا تبك والذي نفسي بيده, ما زالت الملائكة تظل أباك بأجنحتها حتى رفعته} وفي حديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {يا جابر! والذي نفسي بيده, لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان، فقال: تمن يا عبدي , قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فأتمنى أن ترضى عني, قال: فإني قد رضيت عنك، فأحل الله عليه رضوانه وعلى إخوانه من الشهداء, وجعل أرواحهم في حواصل طير ترد الجنة فتأكل من ثمارها، وتشرب من مائها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش حتى يرث الله الأرض ومن عليها} وأنزل الله قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
جابر أتى بجمله يضربه في غزوة لأن الجمل تحير عليه, فأتى عليه الصلاة والسلام فأخذ العصا فضرب الجمل -والحديث في الصحيحين - فتحرك الجمل حتى قال جابر: كنت أحبسه لا يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ صلى الله عليه وسلم يداعبه بكلام الأحباب بالسحر، فقال له وهم يمشون في آخر الليل: {يا جابر! أتزوجت؟ قال: نعم.
قال: بكراً أم ثيباً؟ قال: ثيباً، قال: هلا بكراً تداعبها وتداعبك؟ قال: إن لي أخوات وقد قتل أبي - يعني: في أحد - وترك عندي سبع أخوات فأردت امرأة تقوم على شئونهن, فسكت عليه الصلاة والسلام، ثم قال: يا جابر! أتبيعني جملك؟ قال: ما ترى يا رسول الله! فشراه بأوقية، فلما ذهب اشترط جابر حملانه إلى المدينة، قال: فدخلت المسجد فصليت ركعتين -وفي لفظ: قال له صلى الله عليه وسلم: صلِّ ركعتين- فلما أتى قال لـ بلال: انقده الثمن, فأعطاه الأوقية, فولى جابر فأخذ الثمن وترك الجمل، قال: يا جابر! تعال خذ الجمل والثمن، فساق الجمل والثمن} قال ابن القيم: كأنه يشير إلى قصة أبيه عبد الله يوم أعطاه الله روحه ثم أخذ روحه وأعطاه الجنة، فهو الذي أعطى في الأولى والثانية: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].
فهذا هو حب الصحابة لله تبارك وتعالى.
وفي السير عند ابن هشام وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم: {وقف قبل معركة أحد يعلن الحرب على أبي سفيان على المنبر، ويتحدث للناس ويشاورهم: أنقاتل في المدينة أم نخرج خارج المدينة؟ فقال كبار الناس: يا رسول الله! دعنا نقاتل هنا, فقام شاب من بني سالم، ققال: يا رسول الله! لا تحرمني دخول الجنة، فوالله الذي لا إله إلا هو! لأدخلن الجنة, فقال عليه الصلاة والسلام وهو يتبسم: بم تدخل الجنة؟ -هل يحلف على الله أحد؟! هل يقسم على الله فرد من الناس، ومن يدر بأحكام الله تبارك وتعالى؟! - قال: بخصلتين، قال: ما هما؟ قال: إني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف، قال عليه الصلاة والسلام: إن تصدق الله يصدقك، وبدأت المعركة يوم السبت ودارت رحاها وأتى الصادق -يوم يوف الله الصادقين بصدقهم- فصدق الله فقتل، ومرّ عليه الصلاة والسلام على البواسل من الجنود فوجد هذا فأخذ يمسح التراب عن جبينه وتدمع عيناه صلى الله عليه وسلم ويقول: صدقت الله فصدقك الله} يقول محمد إقبال:
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولنا الأزهارا
إلى أن يقول:
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا
عبدة الدينار, عبدة الحلي, عبدة المناصب، عبدة الوظائف -نعوذ بالله أن نكون منهم- لأنهم أحبوا هذا أكثر من حب الله، وعلامة ذلك: ذكرهم لها في المجالس والولاء البراء والحب والبغض من أجلها والانقياد لها أكثر من الحب لوجه الله عز وجل.
جعفر بن أبي طالب من الذي أخرجه فترك أهله وماله وولده وأحبابه؟ وقبل المعركة ماذا فعل؟ كسر غمده، وكسر الغمد عند العرب ليس بالأمر السهل، إذا كسر الرجل غمده على ركبته فهذا يعني: ساعة الصفر وأنه لن يعود أبداً، من الذي جعله يكسر غمده؟ إنه حب الله فيقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إن لاقيتها ضرابها
فقاتل حتى الظهر فقطعت يمينه, ولو كان يقاتل لغير الله فأتته نخسة برمح والله لا يثبت في المعركة, والروس يفرون الآن من أفغانستان , حتى إنهم رفعوا أصابع النصر يوم انسحبوا مهزومين، لماذا؟ لأنهم يقاتلون للطواغيت ولا يقاتلون لله، يحبون الحياة:
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ
والذي يقاتل لله لا يفر ولا ينسحب, فقطعت يده اليسرى فضم الراية بعضديه, فكسرت الرماح في صدره فهوى شهيداً وأبدله الله بجناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء, وهذا أعلى الحب.
عمير بن الحمام في بدر يقول له صلى الله عليه وسلم وللناس: {والذي نفسي بيده! ما بينكم وبين الجنة، إلا أن يقتلكم هؤلاء، فيقول الأنصاري عمير بن الحمام -الذي لا يملك إلا الرمح, ولا يملك إلا الثياب البالية, ولا يملك إلا حفن التمر في يده-: يا رسول الله! أسألك بالله ما بيننا وبين هؤلاء إلا أن يقتلنا هؤلاء؟ قال: إيه والذي نفسي بيده, قال: والله إنها لحياة طويلة إذا بقيت إلى أن آكل هذه التمرات، ثم رمى التمرات فقاتل حتى قتل -وفي لفظ في السيرة- وخلع درعه من على جنبه}.
وفي الحديث: {ويعجب ربك من الرجل يلقى العدو حاسراً} ولذلك يقول الأول فيه وفي أمثاله:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أعقابنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
أنس بن النضر:
من الذي جعله يزحف حتى يقول سعد: [[هون عليك رويداً رويداً؟ قال: إليك يا سعد! والذي نفسي بيده! إني لأجد ريح الجنة من دون أحد، فقاتل حتى قتل]] فما عرف إلا ببنانه، ووجدوا فيه بضعاً وثمانين ضربة؛ لماذا هذا؟ إنه حب الله عز وجل، والمطلوب منا نحن ليس أن نسفك دماءنا، فالحمد لله ليس عندنا سفك دماء، بل أكل خبز وشرب ماء، وصلاة في الجماعة في الصف الأخير! ثم إذا صلينا نظرنا إلى الفسقة الذين هم أسفل منا في الدين, وقلنا: نحن كالصحابة نصلي خمس صلوات في المسجد، وهذا هو حال المتخلف يوم ينظر إلى الأقل منه، لكننا ما نظرنا في الدنيا إلى الذين هم أقل بل نظرنا إلى من فوقنا، فكلما تواصينا بالزهد؛ قلنا: نحن على خير ونحن أفضل من كثير من الناس, أوما رأيت إلى أولئك وأولئك كم عندهم من الدور والقصور والسيارات! فرضينا في الدين بالهون والدنية، ولم نرض في الدنيا إلا بأعلى شيء وقمته، وهو ليس بقمة وليس بأعلى.
فمحبة الله عز وجل هي أعلى المطالب وأعلى ما يطمح إليه المؤمن بلغني الله وإياكم محبته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(201/8)
علامات محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
كل يدعي المحبة لكن هناك علامات وإذا لم يأت الإنسان بشهود فهو كاذب:
والدعاوى إذا لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء
ولو أعطي الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي، وحديث ابن عباس: {لو أعطي الناس بدعواهم, لادعى أناس دماء أناس وأموال أناس}.
ولو كان كل إنسان يسلم له بدعواه لأخر أناس صادقون وقدم قوم كاذبون.(201/9)
بيع النفس لله
أما أعظم علامة من علامات حب الله عز وجل: هي بيع النفس.
وبيع النفس هي أول خطوة من خطوات الهجرة, أن تبيعها من الله الواحد الأحد فتغضب لله وترضى لله وتقدم لله، وتعطي لله، وتحب وتبغض لله، وقد ذكرت نماذج من الذين باعوا أنفسهم حقيقة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].(201/10)
الإقبال على الطاعات
ومن علامات حب الله عز وجل: الإقبال على الطاعات, والانتهاء عن المخالفات.
من سمع الأذان ولم يأت إلى المسجد بلا عذر فإنه لم يحب الله.
من هجر القرآن فلم يقرأ فيه, وقدم قراءة المجلة الخليعة والجريدة التافهة على كتاب الله فما أحب الله.
من جلس مع رفقاء السوء وهجر الصالحين وما جالسهم فما أحب الله.
من تخلف عن النوافل وعنده بسطة في الجسم وسعة في الوقت فما أحب الله.
من أغلق قلبه عن الذكر فما ذكر الله وما تلذذ بذكره وما أحب ذكره فما أحب الله.
فهذه علامات تظهر، وعلامات المحبين بيع النفس:
يجود بالنفس إن ظن البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين؛ منزلة المحبة, ويذكر ابن القيم عشرة أسباب للمحبة نذكر منها:(201/11)
قراءة القرآن
قراءة القرآن بتدبر، فإذا رأيت الإنسان يحب المصحف ويتلذذ بالقراءة بالمصحف فاعرف أنه من أحباب الله.(201/12)
كثرة ذكر الله
ومن العلامات كثرة الذكر:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
{أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] {سيروا هذا جمدان سبق المفردون، قالوا: يا رسول الله! وما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات} وفي الترمذي عن عبد الله بن بسر: {أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني عن شيء أتشبث به, قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} فإنسان لا يذكر الله كثيراً فشك فيه، يقول الله في المنافقين: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] سبحان الله! منافق يذكر الله! ولكن ليس عنده ذكر إلا قليل, وأنت تعرف الناس بتصنيفات، فإن الناس على محبوباتهم الذي يبيع الغنم يريد أن يتكلم الناس في الظأن والماعز كما قال الغزالي، فتجد حبه في الكلام على الغنم، والبنّاء لا يتكلم إلا في البناء, والنساج والنجار وغيرهم.
أما أولياء الله إذا جلسوا في مجلس لهجو بلا إله إلا الله والله أكبر ليذكروا الله:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
تجده دائماً يريد أن يتحدث في الله عز وجل, وهذا أعظم شيء للإنسان في الحياة، فتجده يقول -مثلاً-: هل سمعتم ما قيل في هذه المسألة؟ لأنه يحمل الإيمان والحب والطموح، أما التافه فهو يتكلم في التافهات، يسميها ابن تيمية في المجلد العاشر (مجريات الحياة): وبعضهم ما يريد مجريات الحياة، وليس له هم إلا أن يتكلم في الدنيا، ويجمع من أخبارها، ثم تذهب وتسحق: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] ولذلك تأتي بضاعتهم يوم القيامة مزجاة ولا يقبل ذاك اليوم إلا بضاعة خرجت وعليها ختم محمد صلى الله عليه وسلم من طيبة، أما الختوم الأخرى فإنها لا تقبل عند الله.
ومن علامات حب الله:(201/13)
تعظيم الشعائر
وذُكر عن بشر الحافي في شبابه أنه وجد صحيفة على الأرض مكتوب فيها: الله -هل تعلم له سمياً؟ هل تعلم أعظم من الله؟ - فقال: يا رب! سبحانك تباركت وتعاليت يداس اسمك! والله لأطيبن اسمك, فأخذ الصحيفة وطيبها وعلقها, فسمع قائلاً وكأنه في المنام: يا من طيب اسم الله! ليطيبن الله اسمك، فرفع الله اسمه، فهو من العباد الكبار الذين تطيب بذكرهم المجالس؛ لأنه طيب اسم الله.
يقول أحد الصالحين -وقد ذكر هذا الذهبي عن الإبيوردي -: ما نمت في غرفة فيها مصحف، وذلك تعظيماً لشعائر الله.
الإمام أحمد - وهذا في ترجمة إبراهيم بن طهمان الراوية في الصحيحين، فهو راوية البخاري ومسلم - ذكروا عنده إبراهيم بن طهمان فقال: أجلسوني, فأجلوسه -في سكرات الموت- قالوا: كيف وأنت مريض؟ قال: نذكر الصالحين ونحن على جنب ولا نقعد! لا والله، وهذا من تعظيم شعائر الله.
قالوا لـ سعيد بن المسيب: نريد أن تحدثنا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أجلسوني، قالوا: أنت مريض، قال: أيذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ممدود مضطجع؟! فأجلسوه فتكلم.
وسئل الإمام مالك وهو يمشي, قال: الحديث لا يسأل عنه والإنسان يمشي.
ويقول ابن المبارك: كنت مع الإمام مالك في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام فلدغته عقرب, فأخذ يتغير وجهه, فلما انتهى قلت: مالك؟ قال: لدغني عقرب فكشف عن ساقه فإذا لدغ العقرب عليها واضح، فقلت: ولم لم تقطع الحديث؟ قال: أأقطع حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في لدغ عقرب؟! ثم نفث في يده وقرأ ورقى رجله فكأنما بها قلبة.
وهذا عباد تصيبه الأسهم وهو يقرأ سورة الكهف فما قطع الصلاة، قال له أخوه وزميله: لماذا لم تقطع الصلاة، قال: أقرأ كلام ربي وأقطعه من أجل هذا؟! لا والله، ثم يقول: لولا مخافتي أن يظهر العدو علينا، لبقيت حتى أتم السورة.(201/14)
الحب الرخيص
الحب الرخيص التافه حب المرأة والكأس، وحب الماجنين والماجنات، والمغنين والمغنيات، والفنانين والفنانات الأحياء منهم والأموات.
والفنان في لغة العرب هو: الحمار المخطط -الحمار الوحشي المخطط- وأكله حلال لكن أكل الحمار الإنسي حرام.
أما الفنان الوحشي المخطط فأكله حلال؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يوم خيبر أذن به وحديثه صحيح عن أبي قتادة وغيره، أما الإنسي فلا يؤكل.
فهؤلاء صرفوا الأمة وصرفوا القلوب عن باريها وهم أعداء الأمة في مسألة الحب، واسمع إلى بعض النماذج، يقول أحدهم -وهو يصرف قلوب الناس إلى غيرالواحد الأحد-:
يا من هواه أعزه وأذلني كيف السبيل إلى وصالك دلني
السبيل إلى النار خذها على يسارك ولك مقعد في النار إذا لم تتب، فالوصول إنما هو إلى الله الواحد الأحد.
يا من هواه أعزه وأذلني
نعم.
لأنك ذللت لغير الله فأذلك الله، فهم في ذلة في الحياة الدنيا، والعجيب أنهم لا يخجلون لكن دعاة الحق يخجلون، فيخجل الإنسان أن يتكلم في الدعوة وأن يخطب فيها، وأن يكون إماماً في الدعوة، يقول: أنا لا أستطيع أن أخطب في جماعتي وأن أصلي بهم، والفنان أمام الملايين لا يخجل فيذل نفسه وعقيدته ويتكلم أمام الملايين، أتدرون من المخاطب فيها؟ إنها امرأة ماجنة, امرأة حرام وليست في الحلال.(201/15)
حديث: (من عشق فعف) حديث باطل
وبعضهم يستدل ويتنطع بحديث: {من حب فعف فكتم فمات؛ مات شهيداً} هذه شهادة نابليون وهتلر، وهؤلاء الأقزام الحقراء الكلاب، وليست شهادة تدخل الجنة؛ لأنه مات من أجل امرأة, وهذا لا يوجد في العالم, فليس هناك رجلاً حب فعشق فكتم فمات فهو شهيد، لا يوجد هذا من يوم خلق السماوات والأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لم يوجد هذا الصنف، ما وجد أن واحداً يحب ويعف ويكتم حتى يأتي بفاحشة، وهذا الحديث أورده ابن خلكان وسكت عنه لأنه يوافق مشربه, وابن خلكان كان يسكت عن الأشعار وهو عنده حديث، حتى يقول الذهبي: سكت عن ابن الراوندي كأن الكلب ما أكل له عجيناً، لماذا لا يتحمس, ويعلق على هذه الأحاديث؟
فلذلك قال ابن القيم في زاد المعاد: والله الذي لا إله إلا هو لو كان سند هذا الحديث كالشمس لكان باطلاً ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، لو كان سنده سفيان الثوري ومالك وأحمد والشافعي لكان الحديث باطلاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول هذا للناس: من عشق وعف وكتم ومات مات شهيداً.
فهل صحيح أن شخصاً يحب امرأة ويعشقها حراماً، ويكتم حبها ثم يموت فيدخله الله مع جعفر وسعد بن معاذ، وأنس بن النضر؟! قطعاً لا يدخل الجنة من هذه الطريق إلا أن يكون له حسنات غير ذلك.
والثاني يقول:
هل رأى الحب سكارى مثلنا
وهذه منقولة، ورأيت أحد المفكرين ينقلها عما يسمونه كوكب الشرق وهي ظلام الشرق، تلك التي فتنت الأجيال والجماهير ووقفت تصد الشباب عن الله، وميراج إسرائيل يغطي ضوء الشمس عن الأرض ويقصف بالطائرات.
شاعر اليمن البردوني وهو أعمى القلب والبصر:
فأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارها الخطب
يقول: أسقطنا الطائرات بالخطب, وشاعر آخر يقول:
شجباً ونكراً وتنديداً بغارتها الله كم نددوا يوماً وكم شجبوا
كيف انهزمنا وما تلك بعادتنا سيسأل السيف عنا والقنا السلب
لكن انهزمنا لما سمعنا لكوكب الشرق وظلامه وخسارته, وإسرائيل لا تعرف الغناء والمجون والرفاهية للجيش, وتقصف أرضنا وتأخذ حدودنا ومقدساتنا وتقتل نساءنا وأطفالنا ونحن مع المغنين والمغنيات والماجنين والماجنات.(201/16)
من أمثلة الحب الرخيص
هذا هو الحب الرخيص الذي صرف لغير مرضاة الله عز وجل, والحب الرخيص موجود من القرون الأولى يقول أحدهم:
حج الناس في عفاف وطهر محرمين لوجه الواحد الأحد
فهذا الحاج لا يحب الله كثيراً، فهو يبحث -انظروا في أعظم المواقف- في الحرم الذي هو بيت الله عز وجل الذي جعله مثابة للناس وأمناً, فينسى الله وينسى حبه الوقوف بين يديه، فينظر إلى امرأة أتت من الطواف إلى البيت تريد الباب فنسي كل شيء وأخذ يتغنى في الحرم، فهذا شاعر ماجن:
قف بالطواف ترى الغزال المحرما حج الحجيج وأراد يقصد زمزما
لو أن بيت الله كلم عاشقاً من قبل هذا كاد أن يتكلما
فهذا هو الحب الحقير الذي يحاسبه الله بما قال وبما اقترف، ولي مقطوعة أرد عليه:
قف في الحياة تر الجمال تبسما والطل من ثغر الخمائل قد همى
والمؤمن اطلع الوجود مسلماً أهلاً بمن حاز الجمال وسلما
لا والذي جمع الخلائق في منى وبدا فأعطى من أحل وأحرما
ما في جميع الأرض أجمل منظر من مؤمن لله جد ويمما
فهذا هو الجمال وهذا هو الحب، أما من يتغزل بهذه الأمور ويصرف هذا إلى غير الله فقد كذب على الله.
أحد الصالحين خرج من بيته، فلما أصبح في الصحراء رفع طرفه إلى السماء ورفع أصبعه، وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بكى وقال:
وإني لأستغشي وما بي غشوة لعل خيالاً منك يلقى خياليا
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خالياً
{ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} وأصل هذا البيت لـ مجنون ليلى يقول:
ومحبوبة يخلو في الخلاء لعل طيفاً يلقاه منها
ويستغشي وما به غشوة ويغمى عليه وما به إغماء، لعله أن يراها في المنام، فهذا سُلب إرادته وحبه وطموحه.
وهذا المتنبي شعره شعر قوي في القمة، لكنه أساء كل الإساءة يوم صرفه لمخلوق، يقول:
فومن أحب لأعصينك في الهوى
فهو أقسم بمحبوبه وهي امرأة، نعوذ بالله من الخذلان والحرمان.
يقول ابن القيم في بدائع الفوائد عمن صرف حبه لغير الله وهو أبو فراس الحمداني الشاعر:
وأبو فراس سجن في سجن في أرض الروم, فأرسل لابن عمه سيف الدولة رسالة يقول فيها:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
قال: أحسن كل الإحسان في نظم الأبيات, وأساء كل الإساءة يوم صرفها لمخلوق.
وخلاصة الباب:
إن الحب عقيدة، ومن صرفه لغير الله فقد أشرك وأخطأ, وأعني به الحب الكسبي السببي لا الجبلي الفطري.
فإن الإنسان لازال يحب الطعام إذا جاع، والماء إذا ظمئ, ويحب زوجته، ويحب السكنى واللباس، لكن هذا فطري جبلي لا يلام عليه, يشترك فيه المسلم والكافر، ولكن الحب الكسبي السببي هو عقيدة وعبادة، من صرفه لغير الله لقي الله لا حجة له -مقطوع الحجة- أو أصابه الخذلان والحرمان نعوذ بالله من ذلك.
إخوتي في الله! الخلاصة:
أدعوكم ونفسي إلى حب الله تبارك وتعالى وإلى حب رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى إقامة البينات على هذه الدعوة من محافظة على فرائض, ومن تزود بنوافل, وتدبر لكتاب الله، وكثرة ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن حب المصطفى, وحضور مجالس الخير، وحب العلماء والصالحين.
يا أمة الإسلام! مفهوم الحب هو أن يصرف لمرضاة الله عز وجل، وأن يحب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وألا يحب غيره الحب الكسبي السببي.
يا من وقفتم أمام الأجيال رواداً: أدعوكم أن تلقنوا شباب الإسلام وأجياله وأبناءه، الإيمان بالله تعالى والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، والحب لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكتاب الله.
واعلم أنك إذا أحببت شيئاً في الله فكأنك أحببت الله، وأنت مأجور على ذلك، فحبك للصالحين لأنهم أطاعوا الله أنت مأجور عليه، وحبك للمسجد لأنه بيت الله، فأنت مأجور.
وأدعوكم أن تعلموا الأمة الطموح، فنحن حين تركنا الطموح خسرنا -والله- وانهزمنا, خسرنا حين أخذ جيلنا وطلابنا ينبت الواحد منهم وهو يستمع الأغنية الماجنة، وتعرض عليه على أن القمم والعباقرة هم هؤلاء المغنون ويسمون في بعض الصحف: الصاعدون، وهم الصاعدون إلى الحضيض، قيل لـ أبي علي الروذاباري: غلاة الصوفية -أهل الحلول- وصلوا, قال: نعم وصلوا، ولكن إلى سقر، لا تبقي ولا تذر!
فمنهم من يعجب بالكافر ويظن أنه ما خلق في الأرض إلا هذا الرجل.
يأتي بعض الشباب من أمريكا وبريطانيا حتى أن أحدهم يقول لأحد العلماء -عالم يشرح في الروض المربع، وهو أحد المتطورين الذين وقفوا على الجليد لا داخل الحلبة ولا خارج الحلبة- قال: يا شيخ! أنت تشرح في الروض المربع والناس قد صعدوا على سطح القمر، فقال له: أنت ما صعدت على سطح القمر ولا جلست على الأرض معنا تقرأ الروض المربع، فهو ما صنع لنا صاروخاً ولا طائرة ولا ثلاجة ولكن أخذ السيجارة والعود من الغرب:
منهم أخذنا العود والسيجارة وما عرفنا ننتج السيارة
أما المساوئ فنقلت للشرق، لكن ما سمعنا بأن أحداً صنع لنا ثلاجة أو سبورة ولا قدم مروحة أو سخانة أو برادة، وإنما أخذوا مخلفات الغرب وقدموها لنا، ثم يضحكون على الدعاة والعلماء وقالوا: إنهم خلف الركب، هم المتخلفون المتدهورون المتقهقرون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
إخوتي في الله: في الختام أدعوكم إلى الحب والإيمان والطموح، وكذلك أدعوكم إلى علو الهمة, وأن يكون حبنا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولكتاب الله، وحينها نرتفع وليس لي زيادة كلام, وإن كان هناك من أسئلة فسوف نستمع إليها.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(201/17)
الأسئلة(201/18)
الأخوة في الله وفضلها
السؤال
تكلمت عن الحب في الله, فأرجو التكلم عن الأخوة في الله وفضلها مع إلقاء قصيدة إن أمكن؟
الجواب
الأخوة في الله شق من الحب فيه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يؤاخى في الإسلام إلا في الحب في الله, ولا تؤاخي إلا أحباب الله، والأصل في ذلك: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] ولذلك أُثر عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: [[تزودوا من الإخوان فإنهم عون في الدنيا وفي الآخرة, قالوا: أما في الدنيا فصحيح أما في الآخرة كيف؟ قال أما يقول الله: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]]] والرسول صلى الله عليه وسلم جعل من الأخوة أن تحب في الله وأن تبغض في الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والإخوان أن تحب الطائع لطاعته والمتقي لتقواه، وعلى ذكر القصائد يقول أبو تمام في الحب في الله:
إن كيد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الغمام فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
وبعض الناس -وهذا كلام من كلام الصوفية - يقول لأخيه:
أنت أصبحت أنا, فمن أنا؟
يقول: دخلت فيّ فأصبحت من حبي لك وحبك لي، أصبحت أنت أنا وأنا أنت فمن أنا, فهو لا شيء, وهذا خطأ, وهو للسعد الشيرازي، وهو شاعر سني إيراني يقول في الحب والأخوة في الله:
قال لي المحبوب لما زرته من ببابي قلت في الباب أنا
قال أخطأت تعريف الهوى حينما فرقت فيه بيننا
ومضى عام فلما جئته أطرق الباب عليه الباب موهنا
قال لي من أنت قلت انظر فما ثمّ إلا أنت في الباب هنا
قال أحسنت تعريف الهوى وعرفت الحب فادخل يا أنا
وهذا خطأ, بل في الإسلام تبقى أنت أنت وأنا أنا, أما هذا الاندماج وتغيير الصور والأشكال فليس بواردٍ, بل يبقى المسلم وولاؤه وبراؤه على حد طاعة ذاك, فليس عندنا انضباط في الولاء والبراء، فنحب الطائع لكثرة طاعته، ونبغض العاصي بنسبة معصيته، فصاحب الكبائر يبغض أكثر من صاحب الصغائر، والطائع الباذل نفسه وجهاده يحب أكثر من الطائع الذي هو دونه: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3].(201/19)
أيهم أفضل قراءة القرآن أم الدعاء أم التسبيح
السؤال
هل الأفضل قراءة القرآن أم التسبيح أم الدعاء؟
الجواب
السؤال فيه جواب عام، وجواب خاص مفصل.
أما الجواب العام: فإن أفضل الذكر كلام الله عز وجل، وكتابه وقراءة كلامه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, وهذا على العموم.
أما على التفصيل: فيختلف باختلاف الأشخاص, وقد تعرض كثير من العلماء لهذه المسألة، فمن وجد رقة وخشوعاً وحضور قلب مع الذكر أكثر من القرآن فهو في نسبته أفضل له أن يذكر ويدعو أكثر مما يقرأ القرآن، وفي الترمذي حديث لكنه ضعيف: {من شغله قراءة القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أكثر مما أعطي السائلين} فعلى العموم القرآن أفضل من أي ذكر آخر، وعلى الخصوص من وجد رقة وخشوعاً وحضوراً في الدعاء والذكر أكثر من القرآن فعليه أن يكثر من الذكر والدعاء.
وأنبه على مسألة: هناك هيئات وأوقات لا يكون فيها إلا الذكر أو الدعاء هو الأفضل.
مثل الركوع: فالذكر فيه أفضل من قراءة القرآن، وفي حديث علي مرفوعاً وهو صحيح: {إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم}.(201/20)
وجه التحريم في الأغنية
السؤال
ما وجه التحريم في الأغنية؟ هل هي نفس الكلمات في الأغنية، أم في العزف على العود أم كلاهما معاً؟
الجواب
الأغنية من عزف وناي: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] والكلمات في حد ذاتها يحلل فيها شيء ويحرم, فما كان في طاعة الله فهو كلام مباح، وما كان فيه بذاءة أو تشبه بامرأة أجنبية أو دعوة الناس إلى فاحشة أو زنا فهو محرم، ولذلك يقول ابن القيم: "الغناء بريد الزنا" وذكر هذا ابن تيمية في أول كتاب الاستقامة وابن القيم يلوم هؤلاء الذين صرفوا آذانهم لسماع الخنى والغناء عن سماع كلام الله، وأخبر في منظومته أن الله يحرمهم الغناء في الجنة, ففي مسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة جوار يغنين ويقلن: نحن الخالدات فلا نبيد, نحن الناعمات فلا نبأس.
طوبى لمن كنا له وكان لنا} [[وإذا اشتهى أهل الجنة -وهذا من كلام ابن عباس - أرسل الله ريحاً تهز ذوائب أغصان الجنة فيجدون غناءً]] أو كما قال.
قال ابن القيم في منظومته:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
إلى آخر ما قال.
وأما الغناء -في حد ذاته- الذي يصاحبه الكلام الفاحش فإنه محرم ولو لم يكن عليه موسيقى وعزف، فإذا صاحبه زادت حرمته لحديث أبي مالك الأشعري في صحيح البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} واستحلالها إنما يأتي بعد تحريمها.
وورد عند ابن خزيمة بسند جيد عن الزبير قال: قال صلى الله عليه وسلم: {إني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة وصوت عند مصيبة} قالوا: الصوت عند النعمة هو العزف والغناء، وفي لفظ عند: نغمة، وصوت عند المصيبة هو صوت النائحة, وفي سنن أبي داود وفي سنده كلام عن ابن عمر: {أنه سمع زمارة راعٍ, فوضع أصبعيه في أذنيه حتى ولى، قال لمولاه: أتسمع؟ قال: لا.
فخلع أصبعيه، وقال: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت}.
وفي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان:6] قال ابن مسعود: [[أقسم بالله إنه الغناء]] وورد عن بعض المحدثين رفع هذا الحديث، والصحيح أنه موقوف على ابن مسعود.
فالغناء ينبت النفاق في القلب كما بنبت البقل من المطر, وقد أجمع أهل السنة على أنه محرم ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم رحمه الله تعالى، وكان ظناً منه أن الحديث ضعيف والحديث -والحمد لله- في البخاري.(201/21)
حكم الفنون الشعبية, وحكم المال الذي مصدره الغناء
السؤال
ما حكم الفنون الشعبية؟ وما حكم المال الذي مصدره الغناء أو الطرب إذا كان يتصدق منه ويبنى مساجد؟
الجواب
الغناء والعزف أو ما صاحب الغناء من آلات للرجال محرم، أما الدفوف فالذي أعرفه أنه للنساء لا بأس به في الزواج والمناسبات، لقوله صلى الله عليه وسلم عند أبي داود: {أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف} وهذا الخطاب للنساء, فقد علم بالاستقراء في حياة الصحابة أنه ماكان يزف المرأة إلا النساء, وكن يضربن بالدف, فضرب الدف للنساء، أما للرجال فلا أعلم أن هذه الآلات والغناء الماجن تجوز لهم.
أما مسألة الحفلات بلا دفوف ولا طبول ولا ناي ولا موسيقى فأنا أتوقف فيها ويسأل عنها أهل العلم.
وأما مسألة من يبني مساجد من هذه الأمور فهذا كسب خبيث، فأخذ الأجرة من الغناء والشعر بالمناسبات، قد سمعت فيه من بعض العلماء الثقات من هؤلاء العلماء الموجودين، أنه يقول: توضع في مرافق المسجد في حمامات وفي مصالح عامة كالخطوط إذا تاب أصحابها، ولا توضع في المساجد ولا في شراء الكتب؛ لأنها كسب خبيث فتوضع في خبيث وهذا حقه ومنزلته.(201/22)
شروط مزاولة الرياضة
السؤال
أنا شاب أحب الرياضة وأزاولها بعض الأوقات، فما حكم هذا؟
الجواب
الرياضة يشترط في إباحتها ثلاثة شروط:
أولها: ألا تعارض وقت صلاة، فإذا أخر من أجلها الصلاة أو ضيعت الصلاة فهي حرام وباطلة ولا تحل أبداً.
الثاني: أن يكون من يلعبها بلباس ساتر, وعورة الرجل من السرة إلى الركبة كما أتت بها الأحاديث، فإذا لبس ذلك فهذا هو المطلوب، وإذا انكشف من العورة شيء فقد دخل في التحريم.
الثالث: ألا تصد عن ذكر الله عز وجل, وألا يوالى ويعادى من أجلها، ولا تضيع أوقات طلب العلم والقراءة وإنما تكون ترويحاً.(201/23)
السبيل إلى ترك الحب
السؤال
أحببت فتاة وأريد أن أتركها لأنني خفت الله، فكيف السبيل إلى تركها؟
الجواب
السبيل إلى تركها أن تتركها، سئل سعيد بن المسيب من هم أهل السنة، قال: الذين ليس لهم اسم إلا أهل السنة، فالسبيل إلى تركها أن تتركها وأن تتوب إلى الواحد الأحد، وأوصيك بأمور, وهذا السؤال قد وجه إلى بعض أهل العلم وهو موجود في كتبهم لمن ابتلي بحب فعشق:
قال: فعلاجه أن يكثر الدعاء في السجود وفي أدبار الصلوات, وأن تدعو مقلب القلوب أن يقلب قلبك على دينه, ومصرف الأبصار أن يصرف قلبك إلى طاعته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأدعوك أنك إذا قمت في السحر أن تمد يديك إلى الله أن يعيد في قلبك الإيمان واليقين والثبات والسكينة والطمأنينة.
ومنها: أوصيك بتدبر القرآن، وتدبره يزيل عنك هذه الوساوس والعشق والغرام، ثم كثرة الذكر صباحاً ومساء.
والأمر الرابع: أن تشغل نفسك بالطاعة، وبالجلوس مع الصالحين والأخيار.
والأمر الخامس: أن تقطع جميع الحبال الموصلة إلى هذه الفاحشة مثل استماع الأغنية، والمجلة الخليعة وكل ما يذكرك بالعشق والمعصية، عسى الله أن يحجبك عن النار وأن يتوب الله علينا وعليك.(201/24)
حكم حب الوظيفة
السؤال
إذا كانت الوظيفة هي مصدر المعيشة للإنسان بعد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, فما حكم حبنا لهذا المصدر الذي يعود علينا بفائدة؟
الجواب
حب الوظيفة -كما أسلفت- حب جبلي فطري, فالإنسان يحب العمل، ويحب الراتب والمعاش، لكن الكسبي السببي أن يبلغ به هذا المنصب أن يموت فيه ويحيا فيه، وأن يوالي ويعادي فيه، وأن يكون ليله ونهاره عليه، وأن يسبح بحمده صباح مساء، وأن يراه أعظم من كل شيء، ووجد من الناس من إذا تولى شيئاً لا تجده يقرأ القرآن، ولا يتدبر ولا يعرف من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا يحرص على الدعوة، ولا على نصرة الإسلام في هذا المنصب، وإنما يريد هذا المنصب لهذا المنصب، فإنه يحب المنصب أشد من حب الله، ويبغض من يزاحمه على هذا المنصب أكثر من بغضه للكافر واليهودي والنصراني، فهذا بلغ بحبه سبباً كسبياً فأثم، أما الجبلي الفطري فلا بأس به فكل يحب الوظيفة.(201/25)
توضيح في حب الجهاد
السؤال
أرجو من فضيلتكم بيان حب الجهاد, وهل يقدم حب الجهاد على حب الوالدين؟
الجواب
حب الجهاد من حب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والجهاد المطلوب في الإسلام حدده صلى الله عليه وسلم وعرفه, قال أبو موسى: {يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية، ويقاتل ليرى مكانه, أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو سبيل الله}.
فهذا ليس فيه جواب منضبط, فإنه يختلف باختلاف الحالات والأشخاص والأحوال.
فالرسول عليه الصلاة والسلام كان حكيماً لبيباً في الفتيا, وقد روى عبد الله بن بسر في سنن الترمذي أن شيخاً كبيراً هزيلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {دلني على عمل يا رسول الله! قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} وأتاه غيلان الثقفي، وهو يحمل عضلاته وقوة جسم فقال: {دلني على عمل, قال: عليك بالجهاد في سبيل الله} وفي النسائي: {أتاه رجل من أهل اليمن له والدة, فقال: يا رسول الله! دلني على عمل قال: ألك والدة؟ قال: نعم.
قال: الزم رجلها, فإن الجنة عند رجلها}.
فإذا قيل: إن بر الوالدين أفضل فقد يكون كثير من الناس سمح له والداه بالجهاد فليذهب، أو ليس له والدان على قيد الحياة، وقد يقال للناس: الجهاد أفضل مطلقاً فيتركون طلب العلم، والدعوة وبر الوالدين ويذهبون، ويقال لبعض الناس: الذكر أفضل فيترك الإنفاق في سبيل الله، لكن يُلاحظ في فضل الأعمال أمور:
الأول: الظرف/ مثلاً: أن يكون الناس في وقت جهاد, فالأفضل أن يجاهدوا.
الثاني: الحال: أن تنظر إلى حال المستفتي فتفتيه بما يناسبه.
الثالث: النفع: نحن نخاطب التجار والأغنياء بالصدقة فلا نقول لهم: قوموا الليل, فهم سوف يقومون الليل، وأسهل شيء على التاجر أن يسمعك تتحدث عن ركعتي الضحى، وأصعب شيء عليه أن يسمعك تتحدث عن البذل والعطاء، والمجاهدون نحدثهم عن الجهاد في سبيل الله.
فهذه أمور قد تكون ضابطة لهذه المسألة.(201/26)
حكم الجلوس مع المتهاون بالصلاة
السؤال
إنني أحب الصالحين والحمد لله, ولكني أجلس مع بعض الزملاء, فبعضهم لا يصلي مع الجماعة ولا يصلي صلاة الفجر، فهل عليّ إثم في ذلك الجلوس؟
الجواب
إنما الأعمال بالنيات, إن كان قصدك أن تدعوه إلى طاعة الله وتؤثر فيه، فأنت مأجور ولا بد من الجلوس مع هؤلاء، لأن الطبيب إذا لم يجلس مع المرضى فلن يداويهم، والداعية طبيب، فإذا لم يتحمل هؤلاء فمن يعالجهم؟!
والرسول صلى الله عليه وسلم جلس مع المنافقين والكفار ومع المشركين ليقودهم إلى الله.
وأما إن كان جلوسك حباً وولاءً ورضاً بما يفعلون؛ فأنت آثم، وحسابك على الله, وينبغي أن تتوب إلى الله من مجالستهم وأن تقطعهم وتهجرهم؛ لأن هجر العاصي أصل أصيل من أصول أهل السنة والجماعة.
وهناك استدراك وتعقيب من أحد المشايخ, يقول فضيلته: لا خلاف في جواز الدف للنساء في الزواج ولكن بشروط:
أولها: عدم رفع الأصوات.
ثانيها: عدم الاختلاط بالرجال.
ثالثها: عدم اللعب والرقص للنساء؛ لأن الكثير من النساء يضربن بالطبل، وهو محرم ويظنونه أنه دف, ويلعب الناس على التركي والمصري ويقطعن الفلوس وينفشن شعرهن ثم يهيجن، ويملن ذات اليمين وذات الشمال حتى يسقطن على الأرض، فهذا تنبيه, وأنا أشكر لمن قاله, فما نحن إلا إخوة يكمل بعضنا بعضاً.(201/27)
المعاصي سبب في سوء التحصيل العلمي
السؤال
إني أعاني من سوء التحصيل العلمي، فهل للمعصية دور في ظلمة النفس، وكيف أجد حلاً لهذه المشكلة علماً بأني أحرص على القراءة والأذكار فما هو الحل؟
الجواب
نعم للمعصية دور في سوء هضم العلم، وهو من أعظم الأدوار, والله عز وجل نص على ذلك وقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] فالواو هنا قيل: استئنافية ومتعلقة بما قبلها وهو الأحسن، وقيل: عاطفة متعلقة بما قبلها أو حالية، والحال أن الله سوف يعلمكم بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فمن اتقى الله علمه الله، والمعاصي ترين على القلب وتطمس الذكاء والنور والإشراق، وتجعل صاحبها متخلفاً، وأعظم ما أتى الناس منه المعاصي، قال مالك للشافعي:
إني أرى لك فهماً فلا تطفئ فهمك بالمعاصي, وقال وكيع للشافعي: لا تطفئ نور فهمك بالمعاصي.
فقال الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
ويحكي الذهبي عن أحد الصالحين: قال: نظرت نظرة لا تحل لي, فقال لي أحد الأولياء: أتنظر إلى حرام؟! والذي نفسي بيده! لتجدنّ غبها ولو بعد حين -أي نتيجتها- قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
وفي ترجمة ابن تيمية قال: إني لتعجم عليّ المسألة -أي: تصعب- فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل فيفتحها الله عليَّ.
ولا يفتح إلا التوبة والاستغفار والعودة إلى الله والطاعة، ولا يطمس الذكاء والمستقبل إلا المعصية.
فهي ظلمة في الوجه، وسواد في القلب، وضيق في الصدر والرزق.
وبالمقابل الطاعة نور في الوجه وبياض في القلب، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، والله ذكر المعصية في بني إسرائيل في جانب العلم: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13].
وقد ذكر ابن تيمية في تحريف الكلام عن مواضعه قسمين: وهم العصاة قال: منهم الفسقة أهل الشهوات: يحرفون الكلم عن مواضعه في الطاعات، وأهل التأويل من أهل الشبهات وهم المبتدعون يحرفونها في الأسماء والصفات، وهذا واقع في الأمة، قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه بالنصارى، لأن النصارى عبدوا الله بجهل، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27].
وقال في علماء بني إسرائيل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176] وقد يصل ذهن الإنسان إلى مثل ذهن الحمار، ودماغه مثل دماغ الحمار من كثرة المعاصي، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5].(201/28)
رجل يذكر الله ويأتي بكلام عن الحب والعشق
السؤال
ما رأيكم برجل يذكر الله ثم يأتي بكلام عن الحب والعشق والغرام، ولديه أشرطة كثيرة، ولا يدري كيف يتخلص منها وربما كانت أشرطة غناء؟
الجواب
هذا من الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً, فعليه أن يتوب إلى الله عز وجل مما يتكلم فيه من هذا, إن كان كلامه من جانب تحليله للناس فقد أخطأ خطأ بيناً، وغلط غلطاً فاحشاً: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل:116] وأنا سمعت من بعض الجهلة من الذين لا يحفظون الفاتحة ولا يقرءونها قراءة مستقيمة يقول: من الذي حرم الغناء؟ أنتم تحرمون وتحللون وهي ليست بحرام، وهذا لا يتحاكم إلى رأيه، فهذا لا رأي له ولا علم، وإذا ترك الناس لمثل أراء هؤلاء الجهلة فإنها سوف تعارض الشرائع وأحكام الله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] وبعضهم يستدل ويقول: بأن الغناء لم يذكر بلفظه في القرآن، ومثله شرب الدخان.
والقرآن -يا معشر الإخوة الكرام- ليس معاجم أو قواميس للأسماء، فالقرآن قواعد كلية ثابتة تندرج تحتها مليون قضية: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] والطيبات ألف مليون طيبة، والخبائث ألف مليون خبيثة، أما أن نأتي بكل شيء جد في العصر ونقول: أخرجوه لنا من القرآن، فهذا لا يوافق العقل ولا النقل.
"الميرندا" "الببسي" "التفاح" نريد نخرجه من القرآن، أيصبح القرآن بهذا المستوى؟!
فالقرآن قواعد تسير الحياة والزمن والناس، فهذا يترك لأهل العلم، ولا يترك للجهلة أهل الشهوات: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] فإذا استنبط أهل الذكر من القرآن تحريماً, نقول: على العين والرأس، أو استنبطوا تحليلاً فنقول: على العين والرأس, أما الجهلة فلا يلتفت إليهم.
أما أشرطة الغناء، فيتخلص منها بأمور: بعض التسجيلات يقبلون هذه الأشرطة, وينسخون عليها مادة إسلامية فعليه أن يذهب بهذه الأشرطة، ويقدمها وينسخون عليها مادة طيبة تنفعه في دار الدنيا والآخرة.
وإذا لم يقبلوه فعليه أن يحرقها من باب إتلاف أدوات اللهو، والخبيث لا يتأسف عليه, واحمد الله على التوبة.
وماذا تفعل بالأشرطة؟! هل توصي بها لورثتك، أو تترك معك في القبر, أو تدفن عند رأسك؟!(201/29)
حكم الترديد خلف المؤذن في دورة المياه
السؤال
إذا أذن المؤذن وأنا في دورات المياه فهل يحق لي أن أردد معه أم لا؟
الجواب
الذي يظهر من النصوص أنه يحق لك أن تردد بقلبك، أما بلسانك فلا، وهذا من باب تعظيم شعائر الله، وعند أبي داود {أن رجلاً سلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه حتى أتى الحائط فتيمم فرد عليه} فأنت إذا كنت في الدورة فردد بقلبك, فإذا خرجت فلك أن تعيد من باب إعادة النوافل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد بعض النوافل، ولذلك تساءل بعض أهل العلم: من نسي الذكر بعد الصلاة أو قام لغرض؟ قالوا: يعيده من باب إعادة النوافل، والأصل: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد ركعتي سنة الظهر، وقال: شغلني عنها وفد عبد القيس}.(201/30)
حكم إطالة الإمام في الصلاة
السؤال
إمام مسجد يطيل الصلاة ونصح ولم يستمع النصيحة، فما الحكم إذا ذهبنا نصلي في مسجد آخر؟
الجواب
الطول والقصر في الصلاة لا يترك لآراء الناس, فإن من الناس من يعد القصر الكثير تطويلاً، ومن الناس من أفحم الناس بالتطويل وشق عليهم، فهو يصلي بالناس فيتبرع الساعات الطوال، ولا يلتفت إلى مريض ولا إلى كبير وعاجز وطفل ويصلي بالناس حتى يتوب الناس من الصلاة وراءه ومن دخول المسجد، فهذا من باب التطويل.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ؟: {أفتان أنت يا معاذ} ويقول عليه الصلاة والسلام: {من صلى بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف والكبير وذا الحاجة -وفي لفظ: الصغير-} ويقول عليه الصلاة والسلام - والحديث عند البخاري -: {إني لأقوم في الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهة أن أشق على أمه} وبعض الناس يقصر بالناس لسماع هذه الأحاديث، فيصب تمارين سويدية في المسجد، فلا يسلم الناس إلا وقد قطع صدورهم من الفحمة، وغترهم تشتغل وثيابهم وأقلامهم ومذكراتهم تساقطت، كأنه على سلم يشتغل ويغني، فهذا كذلك يستتاب ويتوب إلى الله.
وحد الطول والقصر صفة صلاته صلى الله عليه وسلم، وهو أن يقرأ الإمام بما كان يقرأ صلى الله عليه وسلم, فيقرأ بقصار المفصل بترتيل في المغرب، وبالوسط في صلاة العشاء، كالضحى, والشمس وضحاها, والليل، وما شابهها، ويطيل في الفجر لأنها بعد راحة ولأنها ركعتان، والظهر يطيل ويتوسط في العصر على نصف صلاة الظهر, ويتمم الركوع والسجود حتى إنه في حديث حذيفة: {يسبح عشراً في الركوع ويسبح عشراً في السجود} وهذا لا يفعله كثير من الناس، فهذا ينصح به الأئمة ويكونون وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء ويتحببون إلى المأمومين.(201/31)
نصيحة للدعاة
السؤال
إن الدعاة مقتصرون في دعوتهم على بعضهم البعض، والشباب يرتكبون المعاصي الكبيرة، والدعاة محاسبون عنهم؛ لأنهم لم يذهبوا إليهم ولم يخرجوا إليهم في أماكنهم, فما رأيكم يا شيخ؟
الجواب
هذا السؤال فيه كثير من الحقيقة والحق, ومن أتى بالحق نقبله من أي رجل تكلم به، سواء كان قاصداً للخير بهذا السؤال أو مغرضاً لتنقيص الدعاة، والدعاة لا يقال فيهم كلمة عامة بالبخس أو بالوفاء، فهم بشر فيهم المحسن وفيهم المقتصد، وفيهم سابق بالخيرات، وفيهم الظالم لنفسه، ولكن خير الناس الدعاة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] وأعقل الناس الدعاة، وهذا على العموم -الجنس-.
أما ما ذكر الأخ السائل فهذا صحيح, فقد وجد أن الدعوة قد انحصرت في بعض الأمكنة والأزمنة وعلى المساجد, فيقوم الداعية بعد الصلاة في أناس ما أتوا إلا ليصلون فيقول لهم: صلوا فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر, اتقوا الله في الصلاة، ولكن المقاهي والنوادي ممتلئة بالفسقة الذين يصدون عن بيوت الله, فهذا خطأ, والرسول صلى الله عليه وسلم دخل إلى الأسواق - سوق عكاظ وذي المجنة - وخطب بالناس ودعاهم، وذهب إلى مجتمعات اليهود، ودخل على المنافقين والمشركين ودعاهم إلى الله، فهذا واجب على الدعاة أن يتنبهوا إليه.
وبعض الناس يتوقف عن استخدام الوسائل في الدعوة, فلا بأس باستخدام الوسائل إذا كانت مصلحتها أعظم من مفسدتها، وهذا يقال في هذا الجانب ولا أحدد أي وسيلة، ولو كان بالكتابة في الصحف الرديئة فإني رأيت بعض الإخوة يحجم عنها ويقول: لا يكتب فيها؛ لأنها بوضع رديء وإذا تركت الكتابة في الصحف والدعوة في الصحف والمجلات أخذها أهل الباطل وسرحوا فيها كلمتهم، ونصروا فيها مبادئهم, وإذا تركت لهم الساحة فإنهم سوف يعيثون فيها فساداً: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] فواجب الإخوة الدعاة أن يتصدروا وأن يصنفوا أنفسهم، فلا يصلح كل إنسان إلا لما خلقه الله له، فداعية يصلح للخطابة يوم الجمعة؛ فهذا حقه المنبر، وداعية في البادية وفي القرى لأنه يجيد لغة البوادي والقرى، وداعية يستطيع بفكره وصبره وعلمه أن يدخل النوادي والمقاهي، وداعية يكون صحفياً وأديباً فيكون -من هذا الجانب- كل واحدٍ على ثغرة، والله خلق الناس وكلٌ ميسر لما خلق له، ونوع طاقاتهم لحكمة أرادها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(201/32)
هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في السفر
إذا كان للحياة طعم، وللعيش لذة، فإنما هي في تذكر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتدارسها وتمثلها، وفي هذا الدرس نتعرف على سيرة إمام الهدى صلى الله عليه وسلم في السفر: آدابه معاملاته عباداته أذكاره.(202/1)
وقفات مع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في السفر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته:
ما زالت هذه الجلسة مع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم العطرة، وأيامه المشرقة، وأنفاسه المتوهجة بنور الإسلام صلى الله عليه وسلم، وإن كان للحياة سعادة، وللعيش لذة، وللعمر مواهب؛ فإنما هو في تذكر سيرته صلى الله عليه وسلم.
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يوفقنا لاتباعه صلى الله عليه وسلم، وأن يحشرنا في زمرته، وأن يجعلنا من الشاربين من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
ومعنا في هذا الدرس هديه عليه الصلاة والسلام في السفر.
ماذا كان يفعل في سفره صلى الله عليه وسلم؟ في قصره إفطاره أذكاره نوافله عليه الصلاة والسلام.
وقد ذكر الله عز وجل السفر في كتابه، فذكر سفر الأنبياء، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [الأنعام:11] ولما دمر قرى قوم لوط، وحاسبهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى، قال لقريش وللمشركين عامة: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} [الفرقان:40].
يقول: أما مروا وهم مسافرون في رحلة الصيف إلى الشام على قرية قوم لوط فرأوها مدمرة؟ لماذا لم يتعظوا؟! فالذي يسافر ولا يتعظ لم يستفد من سفره.
وذكر الله عز وجل أن إبراهيم عليه السلام لما سافر إلى مكة، وعاد منها مودعاً أهله قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
وذكر سبحانه سفر لوط عن قومه، وقال: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26] فانظر إلى تأدبه مع الله فقال: مهاجر، ولم يقل: مسافر؛ لأن من سافر لطاعة الله ولو كان في نزهة فهو مهاجر بإذن الله.
وذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى موسى عليه السلام، وأنه لما كلّ وملّ وجاع في السفر قال لغلامه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [الكهف:62] وكان يسافر لطلب العلم.
وقد عقد البخاري في كتاب العلم باباً قال: باب السفر في طلب العلم، ثم أتى بقصة موسى عليه السلام يوم سافر للخضر وركب البحر؛ فأتى بهذه القصة.
وهنا سبع وعشرون مسألة، نتدارسها في هذه الجلسة المباركة، التي نسأل الله أن تكون خالصة لوجهه، وأن تكون كفارة لكل مجلس باطل جلسناه، أو لغو تحدثنا فيه، أو مجلس ضيعناه.(202/2)
الوقفة الأولى: وداع النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه
المسألة الأولى: وداعه صلى الله عليه وسلم لأصحابه: والعرب في جاهليتها كانت أحسم ساعة عندها ساعة الوداع والفراق.
قيل لـ جعفر بن محمد الصادق: لماذا لا تصاحب الناس والإخوان؟ قال: أخاف وحشة الفراق.
وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى إذا ودع أصحابه بكى وقال:
هو الدهر قد يعطيك من فلتاته رزية مال أو فراق حبيب
وابن المبارك ودع أصحابه وهم سائرون في الغزو؛ فبكى كثيراً، وقال:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
وعمر بن الخطاب كانت من أسعد اللحظات في حياته تلك الساعة التي ودَّع فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال له: {لا تنسنا يا أخي من دعائك}.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذا لـ عمر، والحديث في الترمذي وقد تكلم فيه بعض أهل العلم، لكن الصحيح أنه حديث حسن، قال: {لا تنسنا يا أخي من دعائك} فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذا وعمر حسنة من حسناته، وتلميذ من تلامذته، وقد كان عمر ذاهباً ليعتمر.
ثم يقول عمر وهو يبكي ويتذكر هذه الكلمة بعد وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام: [[كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها]].
والرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا ودع أصحابه كما في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب يقول: {أستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم} وفي الصحيح أن ابن عمر قال: {كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ودع أحدنا قال: استودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك}.
فالمسلم ينبغي له أن يقول هذا الدعاء، فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إذا استودع على شيء حفظه، والله لا تضيع ودائعه، وأحسن وأعظم ما يحفظه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الدين، والعمل، والإخلاص، والتوجه، وخواتيم العمل.
وفي السيرة لـ ابن هشام وابن إسحاق قصة عبد الله بن رواحة وقد ذكرها ابن كثير وهي أن ابن رواحة لما ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان أرسله يغزو في سبيل الله في مؤتة وهي قريبة من معان، فتخلف ابن رواحة عن أصحابه وصلى الجمعة مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال له عليه الصلاة والسلام: {ما خلفك عن أصحابك؟ قال: ليكون آخر عهدي بك أن أراك على المنبر، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد فاتتك غدوة خير من الدنيا وما فيها} فلما ودعه بكى ابن رواحة، فقال الصحابة: مالك تبكي يـ ابن رواحة! أعادك الله علينا بالخير؟ قال: لا والله.
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وطعنة ذات فرغ تقذف الزبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
فكان الصحابة كلما مروا على قبره يتباكون، ويقولون: يا أرشد الله من غاز وقد رشدا- ولما انتهى نظر ابن رواحة إلى النخل وفيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال وهو يبكي:
خلف السلام على امرئٍ ودعته في النخل خير مودع وخليل
وودع صلى الله عليه وسلم معاذاً وقد ذكر القصة الذهبي في سير أعلام النبلاء في المجلد الأول، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم ودع معاذاً فبكى معاذ طويلاً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: {يا معاذ! لعلك لا تراني بعد اليوم، فبكى معاذ كثيراً، فقال له صلى الله عليه وسلم: لا تبك فإن الجزع من الشيطان، ثم قال له: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} وهذه رواية الترمذي، وزاد غيره من أهل السير: {اذكر الله -يا معاذ - عند كل شجر وحجر ومدر} فأوصاه بتقوى الله وذكره والتوبة.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد ودع كثيراً من أصحابه فكان يوصيهم بذكر الله وبتقوى الله عز وجل كما ودع أبا ذر.
قال بريدة بن الحصيب: [[كان إذا كان لنا قائد في الغزو اختص صلى الله عليه وسلم بهذا القائد، فأوصاه بتقوى الله في ذات نفسه، ثم خطب في الناس فأوصاهم بتقوى الله عامة]].
وأما أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فإنه استعرض الجيش -الغازي في سبيل الله- الذي خرج إلى الشام، وكان أميره يزيد بن أبي سفيان أخو معاوية، وهو خير من معاوية وأفضل عند أهل السنة والجماعة، فودعه أبو بكر وأوصاه بتقوى الله، وقال: [[الله الله في الإخلاص، ثم قال: إنما ثقل الحق على قوم لأنهم ملوه، وإنما خف الباطل على قوم لأنهم أحبوه]] ثم ودعه، وودع خالداً ودعا له كثيراً.
وعمر رضي الله عنه وأرضاه ودع جيش سعد الذي ذهب إلى القادسية، وخطب فيهم خطبة عظيمة، ثم أخذ سعد بن أبي وقاص ومال به عن الجيش، وقال له: [[يا سعد بن وهيب! - سعد هو: سعد بن مالك بن أبي وقاص، لكن سماه سعد بن وهيب ليصغر من شأنه في نفسه، ويحقره كي لا تعجبه نفسه- قال: يا سعد بن وهيب! لا يغرنك قول الناس أنك خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، وإن أفضلهم عند الله عز وجل أتقاهم]] ثم أوصاه وذهب.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يوصي الناس بالاستخارة قبل السفر.
قال أهل العلم: الاستخارة قبل السفر في السفر الذي ما ترجحت مصلحته، فأنت مضطرب لا تدري أتقدم على هذا السفر أم تحجم، فكان من الحكمة أن تستخير الله عز وجل، أما سفر حج أو عمرة أو طلب علم، فهذا واضح، وإن استخرت فلا بأس وأنت مأجور على هذا، لكن السفر الذي لم يظهر لك وجه المصلحة فيه فعليك أن تستخير الله، بعد أن تتوضأ وتصلي ركعتين، ثم تدعو بالدعاء المعروف في حديث جابر، وبعدها سوف يسهل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أمرك.(202/3)
الوقفة الثانية: عدم التشاؤم
وحق على المسلم الذي يعتقد وحدانية الله عز وجل ألا يتشاءم؛ لأن من عادة المشركين والمشعوذين والكهنة أن يتشاءموا في الأسفار، فإذا حزم أحدهم متاعه وهمَّ بالسفر، ثم سمع صوت غراب ترك السفر، أو سمع صوتاً تشاءم به وترك، وهذا هو مذهب الجاهلية، وأهل الوثنية والإشراك، والصد عن الله عز وجل.
ولذلك يقول لبيد بن ربيعة:
زعم البوارح أن رحلتنا غداً وبذاك ينعاق الغراب الأسود
يقول: نحن مسافرون غداً وقد أخبرنا بذلك الغراب؛ لكن ليس عند الغراب خبر، إن الأمر إلا عند الله عز وجل، ولذلك لام الله المشركين؛ لأنهم يستقسمون بالأزلام، فكلما أرادوا السفر ضربوا بالقداح، فإن خرج اخرج خرج، وإن خرج لا تخرج ترك، وهذا من عبادة غير الله عز وجل.(202/4)
الوقفة الثالثة: ذكر الله في السفر
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم، إذا ركب الدابة، وهذا أمر من الله في كتابه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ويقاس على الدابة ما في حكمها من سيارة ومركب وسفينة وطائرة، أن إذا ركبها المسلم أن يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] فالذي سخره هو الحي القيوم، ولولاه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ما سُخر لنا شيء، فإنه الذي سخر وقاد وسهل ويسر، فإذا تمثل العبد هذه النعمة، فليقل: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13].
قال ربيعة -كما في سنن الترمذي -: {كنت مع علي بن أبي طالب أبي الحسن رضي الله عنه وأرضاه وهو في الكوفة، فأراد أن يسافر، قال: فركب دابته، فلما ركبها، قال: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله، اللهم اغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقال له ربيعة: مالك يا أمير المؤمنين تضحك؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب دابته كما ركبتها الآن، ثم ضحك، فقلت: مالك يا رسول الله؟! -وفي لفظ الترمذي - رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب دابته، ثم قال: اللهم اغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، قلت: ما أضحكك يا رسول الله أضحك الله سنك؟! قال: يضحك ربك إذا قال العبد: اللهم اغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، يقول الله لملائكته: انظروا لعبدي علم أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا، صدق عبدي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنا} فكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يحمد الله ثلاثاً، ويكبر ثلاثاً، ويسبح ثلاثاً، ثم يستغفر الله ويتوب إليه.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا انطلق في السفر، قال: {اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطو عنا بعده، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل} وزاد بعضهم: الولد لكن الرواية الصحيحة الأهل.
فهذا الدعاء يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليه، ويستحفظ الله عز وجل في أهله بعده، ثم يسأل الله عز وجل تسهيل السفر، وطي الأرض؛ لأن الأرض تطوى للصالحين، وهذه من كرامات الصالحين.
ومن تيسير الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقطع المسافات الطويلة في وقت قصير، وكلما كثُر صلاح الرجل، واستغفاره، وذكره لله، سهل الله عليه السفر، فلم يأته من وعثاء السفر شيء، أو ما يشغله في سفره، وأعاده الله سليماً معافىً.
ومن السنة والحكمة والمصلحة أن يكثر الإنسان من الذكر، خاصة آية الكرسي والمعوذات وقل هو الله أحد، إذا ركب دابته، ويتعوذ؛ ليحفظ الله عز وجل عليه كيانه، وإيمانه، ودينه؛ لأنه لا يدري بالمتالف ولا بالحوادث، والدعاء يرد القضاء بإذن الله، وإنما تلف من تلف في الحوادث؛ لأنهم ما ذكروا الله وما استعصموا بالله عز وجل، فلوا أنهم دعوا الله وتعوذوا به؛ لأعاذهم الله عز وجل، ولكن إذا وقع القضاء والقدر لطف الله بسبب الدعاء.(202/5)
الوقفة الرابعة: أنواع أسفار النبي صلى الله عليه وسلم
الأمر الرابع: أنواع الأسفار التي سافرها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
وأسفاره ثلاثة أنواع: إما حج، أو عمرة، أو غزو في سبيل الله عز وجل.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فأسفاره صلى الله عليه وسلم تدور على هذه الأنواع الثلاثة: إما حج، أو غزو في سبيل الله، أو عمرة يعتمر فيها، ولكن ذكر أهل العلم أن هناك سفراً لطلب العلم، وهذا من أعظم الأسفار، وسفر لزيارة الصالحين، وسفر للتفكر في آيات الله المعروضة، وسفر للنزهة، وسفر للمعصية، وقد ذكر ذلك ابن تيمية في فتاويه.
وتساءل شيخ الإسلام: هل يجوز أن تقصر إذا سافرت في المعصية؟ نعوذ بالله من المعاصي ما ظهر منها وما بطن، ومثّل على ذلك بمثال، يقول: كأن يخرج يريد قتل إنسان في المدينة أو في قرية بعيدة، هل له أن يقصر ويفطر، أو سافر لمعصية أخرى لأخذ مال أو نحو ذلك، فقال: نعم.
له أن يقصر، وله أن يفطر؛ لأن الله أطلق السفر في القرآن ولم يقيده بشيء، وأما بعض أهل العلم كـ أبي حنيفة فقال: أما سفر المعصية فلا يقصر فيه، وهذا سوف يأتي معنا.
إذاً أسفاره صلى الله عليه وسلم حج وعمرة وغزو، ولك أن تسافر في غير ذلك لنزهة، أو لتفكر في آيات الله المعروضة في الكون: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].
وذكروا عن الجنيد بن محمد أنه كان كثير الأسفار، فقيل له: مالك كثير الأسفار؟ قال: لا أذكر الآخرة إلا إذا رأيت الفيافي، وهي الصحاري الطويلة العريضة، فهناك يتذكر الآخرة.
وبعض الناس إذا خرج من المدن والقرى وأصبح في الصحراء؛ يتذكر فناء العالم، ودمار هذه المعمورة، وانتقال الناس والرحيل إلى الحي القيوم، فيخشع ويلين، فما عليه أن يسافر إذا أراد بعمله وجه الله عز وجل ليستعين به على طاعة الله.(202/6)
الوقفة الخامسة: أفضل أوقات السفر
متى يخرج صلى الله عليه وسلم؟ وما هو اليوم الذي يعجبه؟ وما هو الوقت الذي يحب أن يخرج فيه للسفر؟
يقول كعب بن مالك كما في صحيح البخاري وصحيح مسلم: {كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج خرج صباح الخميس} فكان أحسن الأوقات له صلى الله عليه وسلم يوم الخميس، يتفاءل فيه عليه الصلاة والسلام وكان يعجبه الفأل، فيخرج يوم الخميس في الصباح، لكنه في بعض الأسفار لا يستطيع أن يحكم ظروفه ليخرج في هذا اليوم، فكان يخرج في أي يوم من الأيام، إلا يوماً واحداً ووقتاً سوف أتكلم عنه.
وأما أحب الأوقات له صلى الله عليه وسلم فكان الصباح بعد صلاة الفجر، وكان صلى الله عليه وسلم يسافر في الغالب بعد صلاة الفجر، وكان يقول كما في حديث أبي صخر الغامدي في مسند أحمد: {بارك الله لأمتي في بكورها} أي: في صباحها يوم تصبح، وفي أثر: أن الأرزاق تقسم والأرض تطوى في الصباح، وهو أعظم وقت يستغله المسلم، ولذلك تقرب له المسافات بإذن الله عز وجل، وينهي أعماله؛ لأن الوقت في الصباح مبارك.
وذكر أهل العلم أن أبا صخر الغامدي راوي هذا الحديث: {بارك الله لأمتي في بكورها} أخذ بهذه الوصية، فكان يبيع ويشتري منذ الصباح الباكر، قال: فكثرت أمواله، حتى لا يدري أين يضعها، والقصة هذه في مسند أحمد وما ذاك إلا لأنه أخذ بوصيته صلى الله عليه وسلم.
والسفر في كل الأيام مقبول بإذن الله، وأحسنها يوم الخميس، وأحسن الأوقات الصباح بعد الفجر، وأما الجمعة فاختلف فيها أهل العلم، قال قوم: لا يسافر حتى بعد فجر يوم الجمعة، وقد رووا: {أن ملكاً ينادي من سافر يوم الجمعة ويقول: لا وفقك الله ولا صحبك الله في سفرك} وهذا الحديث ضعيف لا تقوم به حجة، وقد سافر بعض الصالحين بعد فجر يوم الجمعة، لكن الذي نُهي عنه بعد النداء الثاني من صلاة الجمعة، فلا يسافر المسافر أبداً، أمَّا بَعْد الفجر فله أن يسافر، ولو ترك السفر يوم الجمعة لكان أحسن وأولى حتى يسدده الله؛ لأن يوم الجمعة وقت تفرغ وعبادة، ووقت مقام مع الحي القيوم، وهو عيد المسلمين، فلو صرف السفر يوم الجمعة لكان أحسن، أمَّا بَعْد النداء الثاني فإنه حرام لا يجوز له، ولن يوفق في سفره، إذا عصى الله ورسوله وسافر بعد النداء الثاني.(202/7)
الوقفة السادسة: اختيار الأصحاب في السفر
وأما المسألة السادسة فهي: اختيار الأصحاب في السفر، وقد أمر صلى الله عليه وسلم باختيار الأصحاب في الحضر وكذلك في السفر: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] وفي سنن الترمذي بسند حسن، قال النووي: لا بأس بهذا الحديث، أي: بسند هذا الحديث، قال عليه الصلاة والسلام: {لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي} فما هو السر في أن جعل الوصف في السفر مؤمناً وفي الطعام تقياً؟
جعله في السفر مؤمناً؛ لأنها كلمة مطلقة، فكل متق مؤمن، وليس كل مؤمن متقياً، فالمؤمن أقل درجة، أي: أنه يشترط في أكل الطعام ودخول البيت أن تتحفظ أو تستصحب الصالحين أكثر من السفر، أما السفر فكل من آمن بالله عز وجل رافقه، فأما استصحاب الجلوس في البيوت مع الناس فالواجب أنك تؤاخي المتقي لله كثيراً: {فلا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي} لأن الفجرة -والعياذ بالله- تتنزل عليهم اللعنات، ومن كان مع قوم أشركهم؛ فإن الشر يعم والخير يخص.
ولذلك قال جعفر بن محمد الصادق لابنه وهو يوصيه كما في تراجمه: يا بني! لا تصاحب أربعة: لا تصاحب الفاجر، ولا تصاحب عاق الوالدين، ولا تصاحب الكذاب، ولا تصاحب البخيل.
فأما عاق الوالدين فإن الله غضب عليه، فكيف ترضى عليه وقد غضب الله عليه.
وأما الفاجر فإن اللعنة تتنزل عليه، فإياك أن تتنزل عليه لعنة فيصيبك منها مصيبة.
وأما البخيل فيبيعك أحوج ما تكون إليه.
وأما الكذاب كالسراب يقرب لك البعيد ويبعد عليك القريب.
فهؤلاء الأربعة أوصى هذا الرجل الذي له قدم صدق في الإسلام ابنه ألا يصاحبهم، وقس عليهم أمثالهم، والمسلم آتاه الله بصيرة من لدنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(202/8)
الوقفة السابعة: كثرة الدعاء
ومن السنن في الأسفار: كثرة الدعاء والذكر؛ لأن للمسافر دعوة لا ترد بإذن الله، والله عز وجل عند المنكسرة قلوبهم.
والمسافر إذا سافر عن أهله انكسر قلبه بالفراق والوحشة؛ فإذا انكسر قلبه؛ أجابه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فثلاثة دعوتهم مقبولة عند الحي القيوم، الوالد لولده، والمظلوم على ظالمه، والمسافر، وعند أبي داود: {الصائم حتى يفطر، والوالد لولده، والمظلوم على ظالمه} ورواية المسافر صحيحة؛ فإن له دعوة لا ترد بإذن الله.
فعلى المسلم أن يغتنم سفره في الدعاء، وكثرة التهليل والتكبير والتسبيح، وأن يلتجئ إلى الحي القيوم.
وفي صحيح مسلم قال أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: {كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، فسرنا؛ فعرض له جبل اسمه جمدان - جمدان جبل يقع بين مكة والمدينة - فقال: سيروا هذا جمدان سبق المفردون، قلنا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات}.
قال سهل بن سعد: {دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنية، فتعبنا فيها - هذه الثنية هي: جبل شائك ركبوه بفرسانهم وخيولهم فتعبوا فيه - فلما نزلوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه، فقال الصحابة: نستغفر الله ونتوب إليه، قال: أبشروا وأملوا في ربكم ما يسركم! هذه والذي نفسي بيده! الحطة التي عرضت على بني إسرائيل يوم دخلوا الباب، قال لهم الله عز وجل: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ} [الأعراف:161]}.
لما دخل اليهود باب أريحا في فلسطين قال لهم الله: {قُولُوا حِطَّةٌ} [الأعراف:161] أي: قولوا: غفرانك يا رب! نستغفرك ونتوب إليك من الذنوب والخطايا، فأخذوا يستهزئون ويتبطحون على أدبارهم، ويقولون: حنطة في سنبلة، وحنطة في شعرة، فأخزاهم الله عز وجل وقطع دابرهم، فقبلها أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، وقالوا: نستغفرك الله ونتوب إليك.
قال أهل العلم: من تعب في سفره، أو صعد جبلاً، أو حمل حملاً ثقيلاً، فليقل: نستغفر الله ونتوب إليه؛ لأنه لم تأت مشقة في سفر إلا بالذنوب التي لا نخلو منها طرفة عين، فإن ذنوبنا عدد أنفاسنا، نذنب ونحن جلوس في بيوتنا، وتذنب قلوبنا وأبصارنا وأسماعنا، ولا يغفر الذنب إلا الحي القيوم، فالجأ إليه واستغفره دائماً وأبداً.
والمقصود هنا: كثرة الدعاء في السفر والتهليل والتكبير؛ ليصحبك الله عز وجل وليؤنسك مما تخاف.(202/9)
الوقفة الثامنة: حسن الخلق
المسألة الثامنة: حسن الخلق والتحمل، وقد عقد له الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين فصلاً جامعاً مانعاً لا أحسن منه؛ لأن الأسفار تُظهر أخلاق الرجال.
فالرجل قد يكون حليماً مع أهله وفي بيته، ولكن إذا سافر انكشفت أموره، ولذلك لما استشهد عمر رضي الله عنه وأرضاه رجلاً قال: [[من يزكيه؟ فقام رجل من الناس يزكيه، قال: هل صاحبته في سفر؛ فإن السفر يسفر عن أخلاق الرجال، قال: لا.
قال: اجلس فإنك لا تعرفه]] وقال: هل جاورته؟ هل عاملته بالدرهم والدينار؟
إذاً: فالسفر يخرج أخلاق الرجال؛ لأنه وقت كربة ومشقة وجوع وملل، وثلاثة لا يُلامون في سوء أخلاقهم: المريض، والصائم، والمسافر.
ولذلك أمر بحسن الخلق في السفر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس أخلاقاً إذا سافر.
وإذا صحبت أرى الوفاء مجسماً في بردك الأصحاب والخلطاء
وتمد حلمك للسفيه مدارياً حتى يضيق بحلمك السفهاء
فهو صلى الله عليه وسلم كما وصفه ربه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
إذاً فحسن الخلق والتحمل، والذي لا يعرف من نفسه أنه لا يتحمل فلا يسافر مع المؤمنين.
وهذا الإمام أحمد بن حنبل، قال له علي بن المديني: سمعت أنك تريد الحج فأريد أن أحج معك، قال: لا.
حج وحدك وأحج وحدي؛ لئلا تملني أو أملك.(202/10)
الوقفة التاسعة: أحكام الصلاة في السفر
المسألة التاسعة: مسألة القصر في السفر، ما هي المسافة المطلوبة في القصر؟ وما هو هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة في السفر؟
اعلموا بارك الله فيكم، وقد علم كثير منكم أو علمتم جميعاً أن أقوال العلماء في مسافة القصر في السفر متعددة متشعبة، بعضهم قال: يقصر في بردان أو ثلاثة برود أو أربعة، كما بين مكة إلى عسفان، وما بين مكة إلى جدة، وما بين مكة إلى الطائف، وقد نُقل هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما في صحيح البخاري تعليقاً، وأتى مسنداً عنه صحيحاً إليه، وذكره ابن تيمية في المجلد الثالث والعشرين من فتاويه، وورد عن أنس أنه فرسخ، وورد عنه أنه ميل، وورد عن آخرين قولهم: مسافة ثلاثة أيام، وآخرين: يومان، وغيرهم أربعة فراسخ، واضطربت الأقوال في هذه المسألة.
والنتيجة والتحقيق -إن شاء الله- الذي عليه المحققون كـ ابن تيمية وابن القيم، أنه ليس هناك مسافة للقصر في السفر، وليس هناك سفر له مسافة، بل كل ما سمي سفراً فاقصر فيه.
فإذا تعارف الناس في لغتهم أن هذا الخروج يسمى سفراً فاقصر فيه، أما إذا أنكروا من قلوبهم وأنكروا عليك أن هذا ليس بسفر فلا تقصر فيه، كأن تقول: سوف أسافر إلى الطائف فلا ينكر عليك أحد، أو إلى مكة، أو بيشة.
أما أن تقول: أسافر من هنا إلى السودة، أو الخميس، أو القرعاء فسوف ينكر عليك الناس، فليس بسفر.
فالخلاصة: أن ما سمي سفراً سواء طال أم قصر فهو سفر، قال ابن تيمية: وقصر صلى الله عليه وسلم إلى عرفة هو وأهل مكة، وعد ما بين مكة إلى عرفة مسافة سفر، فلما حج أهل مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قصروا، ولو كان ليس سفراً لكانوا أتموا بعده صلى الله عليه وسلم حينما سلّم، لكنهم قصروا فصلوا ركعتين، ولو كان عليه الصلاة والسلام يريد أن يتموا، لقال لهم: {أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر} كما قاله يوم الفتح لأهل مكة، يوم صلى بهم صلى الله عليه وسلم، وقال: {أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر} أي: مسافرون، وأما في منى ومزدلفة وفي عرفة فما قال لهم هذا صلى الله عليه وسلم، بل سكت عنهم، فعلم أن السفر لا يتحدد بطول المسافة، والذين حددوه بواحد وثمانين كيلو متر؛ ليس لهم برهان ولا دليل: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: ة148] {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
ومن حدده بالأيام فالأيام تختلف، كما يقول ابن تيمية، بعضهم يقطع مسافة يومين في يوم واحد، وبعضهم يقطع مسافة ثلاثة أيام في ساعات، إما لجواده المسرع، أو لأن مركوبه سريع، والآن الطائرة قد تقطع مسافة عشرة أيام، في ساعة واحدة، فكيف نحدد للناس بأمكنة وأزمنة ما أنزل الله بها من سلطان، ولا ذكرها الله عز وجل في كتابه، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وإنما الأقوال كلها مضطربة.
إذاً فكل ما سمي سفراً فاقصر فيه، فهذا في مسافة القصر.
وكان عليه الصلاة والسلام يقصر الرباعية ركعتين، إلا صلاة المغرب وصلاة الفجر؛ لأن الفجر مقرة على أصلها ركعتان، وصلاة المغرب وتر النهار فلا تقصر.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا سافر سفراً قصر فيه، وليس هناك سفر سافر فيه صلى الله عليه وسلم فأتم فيه أبداً، ورواية الدارقطني التي تقول عائشة: {سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصر وأتممت، وأفطر وصمت} رواها الدارقطني وضعفها، وقال الإمام أحمد: هذا حديث كذب لا يثبت، وقال ابن تيمية: حديث باطل لا يصح أبداً.
فعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما سافر إلا وقصر.
والقصر أفضل في السفر، ولا يظن أحد من الناس أن هذا بالرأي، فيقول: كيف يكون أفضل أن أصلي ركعتين وأترك أربع ركعات؟ هذا الدين ليس بالرأي، يقول أبو الحسن علي رضي الله عنه وأرضاه: [[لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه]] لأن باطن الخف يلامس الأرض والوساخات، والشارع الحكيم أمرنا أن نمسح على ظهر الخف، فهذا يخالف العقل؛ لأن العقل يقول: امسح على باطن الأقدام، أما ظاهرها فإنها نظيفة، قال: ليس الدين بالرأي إنما الدين بالنقل، ثم قال: {ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه}.
أما نوافله صلى الله عليه وسلم في السفر، فما كان يتنفل العشر الرواتب، بل كان يتركها وهو مسافر عليه الصلاة والسلام، وهذه العشر يقول عنها ابن عمر كما في الصحيحين: {حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، ركعتين قبل الفجر، وركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء} وكان صلى الله عليه وسلم يترك هذه العشر، وهذا عين الحكمة؛ لأنه يصلي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين فكيف يقوم يتنفل بعدها.
ولذلك قال بعض تلاميذ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لماذا لا تتنفل؟ قال: لو كنت مسبحاً لأتممت، ولو كنت متنفلاً لأتممت الفريضة، فكيف أتنفل؟! لأن الله شرع هذه الرخصة للتيسير على الناس، فكيف تصلي ركعتين ثم تقوم تتنفل، فلا نافلة في السفر، إلا الوتر، فالوتر لم يتركه صلى الله عليه وسلم حضراً ولا سفراً أبداً، وإذا نام عنه من سفر أو مرض أو تعب، فإنه يصلي من النهار اثنتي عشرة ركعة.
لكن
السؤال
هل ترك صلى الله عليه وسلم الوتر مرة في عمره؟
الجواب
نعم.
ترك صلى الله عليه وسلم الوتر ليلة مزدلفة، يوم نام عليه الصلاة والسلام ليلة مزدلفة وصباح يوم منى يوم يرمي جمرة العقبة، في تلك الليلة ترك الوتر عليه الصلاة والسلام، وهو الظاهر من كلام أهل العلم، فإنه صلى العشاء ثم نام، وما قام عليه الصلاة والسلام حتى أذن لصلاة الفجر، حتى تلك الليلة ما قام يصلي فيها أبداً، وقد ذكر ابن القيم: أنه فعل ذلك ترويحاً على الناس، ويقول: من قامها فقد خالف السنة، ولا نقول: أنه خالف السنة لأنه يصلي في الليل، لكن إذا قام واعتقد أنها سنة أن يقوم في تلك الليلة فهو المخالف، أما من قامها ليتنفل فهو مأجور مشكور وأجره على الله.
لكن الرسول عليه الصلاة والسلام ترك الوتر في تلك الليلة، فما أوتر حتى أصبح، وبعد أن أصبح لم يوتر عليه الصلاة والسلام، فترك في عمره تلك الليلة.
إذاً فالوتر لا يترك في السفر، إلا في ليلة مزدلفة لمن تعب أو كلّ أو ملّ، ومن أوتر فلا عليه، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يوتر تلك الليلة.
فهذا هديه صلى الله عليه وسلم في السفر في الصلاة والوتر.
ويتساءل ابن تيمية من له ورد من الصلاة مثل صلاة الضحى في السفر، هل له أن يصليه؟ قال: نعم.
له أن يصلي ذلك، وهو مأجور وأجره على الله عز وجل، فإن كان له ورد واستطاع أن يحافظ عليه في السفر فليفعل، أما التي تركها صلى الله عليه وسلم فلا تفعلها أنت، بل تتركها كما تركها صلى الله عليه وسلم، فلك أن تصلي من الضحى ثمان ركعات أو ست أو أربع أو ركعتين، وليس عليك شيء وأنت مأجور في هذا.(202/11)
الوقفة العاشرة: حكم الإفطار في السفر
مسألة الإفطار للصائم: يقول عز من قائل: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] والمسألة: أيهما أفضل الإفطار أو الصيام في السفر؟
و
الجواب
بإذن الله وبعونه وبتوفيقه، أن الإفطار لمن يشق عليه الصيام في السفر أفضل، وأما إذا تساوت المشقة وعدمها فسيان إفطاره وصيامه، ولو أفطر لكان أحسن، وأما إذا وجد يسراً في سفره وسهولة، فإن صام فله ذلك وهو مأجورٌ وليس عليه شيء.
وقبل أن أبدأ في هذه المسألة -مسألة القصر في الصلاة- يقول أبو حنيفة: من صلى الظهر أربعاً في السفر فصلاته باطلة، وعليه أن يعيد الصلاة ركعتين، وتبعه الأحناف في هذا.
وقال ابن تيمية: القصر في السفر أفضل، وسئل الإمام أحمد عن القصر والإتمام في السفر، قال: أكره الإتمام؛ لأنه مخالفة لسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
أما الإفطار في السفر فيفطر إذا حصل له مشقة، ومن لم يفعل وقد شق عليه، فقد عصى أبا القاسم عليه الصلاة والسلام، قال جابر كما في الصحيح: {سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحنا بـ كراع الغميم} وكراع الغميم: بلد بين مكة والمدينة، ولذلك ضحك العلماء من تفسير الغزالي لقوله صلى الله عليه وسلم: {لو أهدي إليَّ ذراع لقبلته، ولو دعيت إلى كراع لأجبت} والكراع أي: كراع الشاة، قال: الغزالي: لو دعيت إلى كراع الغميم - أي: إذا دعيت إلى هناك- لذهبت، فقال أهل العلم: فتح الله عليك وبيّض وجهك، ليس هذا المعنى، بل المعنى كراع الشاة، أما كراع الغميم فلم يتعرض له صلى الله عليه وسلم في الحديث.
فيقول جابر: {فلما أصبحنا في كراع الغميم أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن الناس شق عليهم الصيام في السفر، وهم صوام، فنزل عليه الصلاة والسلام وأخذ ماءً بارداً فشرب وشرب الناس} فهذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] والذي قال له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] والذي قاله فيه: {طَهَ * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2] والذي قال فيه: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157].
{إلا رجلان -من الجهل وقلة الفقه، فقالوا: لا.
أما نحن نستمر، الرسول صلى الله عليه وسلم أفطر وهم تركوا- فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة، أولئك العصاة}.
أما النافلة في السفر، فلك أن تصوم نافلة، وهو من الخير أن تصوم إذا استطعت، ولا عليك إذا كان لك ورد أن تحافظ عليه، قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها كما في صحيح البخاري في باب نوافل الصيام: {جاء عمرو بن حمزة الأسلمي، فقال: يا رسول الله! إني أطيق الصيام في السفر، فهل عليّ من جناح؟ قال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر}.
فإذا صام المسافر فيشترط ألا يشق عليه ذلك؛ لأن الله عز وجل رخص له أن يفطر من الفريضة، فكيف يشق على نفسه بالنافلة في السفر؟!
وأما الذي لا يشق عليه فله أن يصوم في السفر وهو مأجور كالحضر لهذا الحديث الذي معنا، وقد صام صلى الله عليه وسلم في السفر.
والصيام يختلف عن القصر في الصلاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما أتم أبداً في سفره، وأما الصيام فقد صام في بعض أسفاره، ولذلك في الصحيح عن أبي الدرداء قال: {سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن رواحة، وإن أحدنا ليتقي الشمس بيده من شدة الحرارة} وكان في الناس صوام في سفرة سافرها صلى الله عليه وسلم، فلما نزلوا في منزل من المنازل، قام المفطرون فنصبوا الخيام، وبنوا الحياض وخلطوها بالطين، ثم ملئوها بالماء البارد، ثم سقوا وقاموا فقدموا الطعام للناس، فقال صلى الله عليه وسلم: {ذهب المفطرون اليوم بالأجر} يقولون: ظاهر الحديث أن المفطر في هذه الحالة أعظم أجراً من الصائم، والسبب أن نفعه متعد للناس؛ لأنه نفع الناس، وأما الصائم فنفعه لنفسه، فهذا لخدمته للمسلمين كان أجره أعظم من أجر الصائم الذي صام لنفسه.(202/12)
الوقفة الحادية عشرة: أحكام المسح على الخفين
المسألة الحادية عشرة: مسألة المسح على الخفين: وهي لا تخفى على مسلم عنده فقه في دين الله، ولكن يختلف المسح على الخفين في السفر عنه في الحضر، والمسح على الخفين فيه ثلاثة أقوال لأهل العلم:
قولٌ يقول: لا يحدد المسح إلا في الإقامة، أما في السفر فامسح ما بدا لك، وهذا قول الإمام مالك وابن تيمية، وقد مسح ابن تيمية سبعة أيام في سفره من دمشق إلى الاسكندرية في مصر، وخالفه وغضب عليه علماء الشافعية، مثل ابن مخلوف وابن الزملكاني، وقالوا: خالف السنة، لكن عنده دليل، ومعه أناس منهم عمر رضي الله عنه، وعقبة بن عامر وغيرهم، فالإمام مالك يرى أنه لا يحدد المسح.
وقوم قالوا: ثلاثة أيام في السفر ويوم وليلة في الحضر وهو الصحيح.
وقوم قالوا: لا يحدد في السفر ولا في الحضر وأنكروه، وهم الرافضة الضلال المبتدعة الذين هم أغبى من الحمير.
قال الشعبي لما ذكر هذه المسألة: إذا دخلت باب الزج، فخذ بيدك أحد أهل باب الزج وحرج عليه فإنه حمار، وقد ذكر هذا ابن تيمية في منهاج السنة؛ لأنهم ضلوا في هذه، يقول الإمام أحمد: سبحان الله! نقل المسح على الخفين سبعون من الصحابة وأنكرها الضلال.
يعني الرافضة.
يقول سفيان الثوري: من عقيدتنا المسح على الخفين.
فأدخلها في مسائل الأصول؛ لأنه خالف فيها تلك الفرقة الضالة.
إذاً فالمسح في السفر ثلاثة أيام، والثقوب في الجورب لا عبرة بها، بل لك أن تمسح ولو كان به ثقوب وقد ذكر ذلك ابن تيمية وقال: إنهم اشترطوا شروطاً في المسح على الخفين ليست في كتاب الله عز وجل ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما هذا من وضع الآصار والأغلال على الأمة، والتكليف بما لا يطاق، والله عز وجل يوم سن هذا ورسوله عليه الصلاة والسلام إنما هو للتيسير على الناس، فكيف نأتي إلى الناس بعد أن يسر الله لهم المسح على الخفين ونقول: لا بد أن يكون مخروزاً، وأن يكون قائماً بنفسه، وأن يستطاع المشي عليه، بل شرطه الوحيد هو أن يسمى خفاً في لغة العرب.
ثم يقول ابن تيمية: وهل كانت خفاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا مشققة، فقد كانوا قوماً فقراء ليس عندهم شيء، فكانوا يلفون اللفائف على أرجلهم حتى أن أحدهم يأخذ من قماشه -من بزه من ثوبه- ويقطعها ثم يلف بها على أرجله ويمسح عليها فيبدو منها ما شاء الله أن يبدوا.
وفي سنن أبي داود عن ثوبان رضي الله عنه وأرضاه، قال: {أرسلنا صلى الله عليه وسلم في سرية، فأمرنا أن نمسح على العصائب -أي: العمائم- وعلى التساخين الخفاف} إذاً فالأمر فيه يسر وسهولة، فالخف عند العرب هو الذي يستر المكان ستراً لا تشدد فيه، فلا يشترط أن يأتي إنسان بناظور وينظر في رجله هل يرى رجله من تحت الجورب أو لا يراها، أو يصب ماء حاراً هل يحس به أو لا، فالتعمق والتدقيق ليس وارداً في الإسلام، إنما يلبس ويتوكل على الله عز وجل ويكون سهلاً ميسراً ويمسح على جوربه بشرط أن يدخلهما على طهارة.
وقد ورد في البخاري ومسلم من حديث المغيرة بن شعبة قال: {خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهويت لأنزع خفيه، قال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين} فإذا أدخلت رجليك طاهرتين، فلتمسح عليهما في السفر ثلاثة أيام، ولا تخلعها إلا بعد حدث، أي: يستمر على الوضوء بعد الثلاثة إذا كان متوضئاً فإذا أحدث بعد الثلاثة الأيام فليخلعها.
وهذا هو الأحسن -ثلاثة أيام- لكن من زاد أربعة أيام أو خمسة أو ستة أو سبعة فله ذلك، وما أتى بمحرم، بل سبقه إلى هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كلامه من السنة إذا وافق السنة، لقوله عليه الصلاة والسلام: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي} قال عقبة بن عامر [[أتيت من الشام، فدخلت على عمر رضي الله عنه وأرضاه، فرأى في رجلي خفين، فقال: متى لبستها؟ قال: لبستها من الشام، قال: كم أخذت؟ قلت: سبعة أيام، قال: هل خلعتها؟ قلت: لا.
قال: لو خلعتها لأوجعتك ضرباً]] لأنها خلاف السنة، فهو أخذها سبعة أيام، وذكر ذلك ابن تيمية وفعلها، فمن فعل ذلك فلا عليه إن شاء الله، لكن الثلاثة الأيام هي الأقرب للدليل.(202/13)
الوقفة الثانية عشرة: التيمم في السفر
المسألة الثانية عشرة: التيمم: قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيباً} [النساء:43] فالتيمم في السفر والحضر وارد، لكنه لا يجوز في الحضر إلا إذا فقد الماء فلم يجده، أو كان مريضاً متضرراً لا يستطيع أن يتوضأ أو يغتسل، وكثير من الناس لا يفقه مسألة كيف يتيمم وهو يغسل بعض أعضائه.
إنسان فيه شجة في رأسه، وإذا اغتسل آذاه الماء في رأسه، ماذا يفعل؟ حكمه أن يغتسل في بقية جسمه، وأن يتيمم لهذه الشجة، وفي لفظ عند أبي داود يعصب عليها ويمسح على العصابة، ثم يتيمم لها، فمن كان فيه جرح في أعضاء الوضوء فليترك هذا الجرح وليتوضأ ولا يغسل يترك هذا المنطقة، ثم يتيمم بعد الوضوء تيمماً كاملاً.
والتيمم يكون في السفر؛ لأن الماء قليل في السفر، فعلى المسلم أن يتيمم في حالات: منها: إذا خاف على نفسه، حيث نزل في مكان وبجانبه وادٍ يعرف أن فيه ماء، ولكن يعرف أن هناك سباعاً ضارية وحيّات، وأن هناك أعداء، فله أن يتيمم في مكانه ولا يذهب إلى ذاك الوادي.
أو إنسان قام في الصباح وعنده ماء، وادٍ مسيل أو غدير كبير، وقام وإذا الماء أصبح قريباً من التثلج، وخاف على نفسه إذا توضأ واغتسل، فله أن يتيمم ويصلي ولو كان عليه جنابة، وقد دل على ذلك النصوص ظاهراً وباطناً، وتكلم فيها أهل العلم، إلا أن يكون عنده شيء من وقود أو حطبٍ فيسخن به الماء فهذا واجبه، لكن يقول ابن تيمية: إذا خاف أن يسخن الماء؛ فيخرج وقت الصلاة، فعليه أن يترك التسخين وأن يتيمم ويصلي ولا يعيد الصلاة؛ لأن إدراك الوقت واجب، أما هذا الفعل عند تحقق هذا الشرط فإنه يسقط بالعجز، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
قال p=1000202>> عمرو بن العاص: {خرجت في سرية -هذا الحديث أصله في الصحيح، وذكره بطوله أبو داود، وهذه السرية هي غزوة ذات السلاسل، ولها أصل في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يتألف بعض الصحابة، ومن الأناس المهمين في الإسلام عمرو بن العاص، فأراد أن يتألفه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فأمّره على سرية - قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ لصلاة العصر، وقد أمرني على السرية -فأراد عمرو بن العاص أن يبري ساحته، أي: أنه لا يحب المال ولا يحب الإمارة- قال: فقلت: يا رسول الله! لا أريد المال، أريد الجهاد في سبيل الله، قال: فما أنسى تبسمه وهو يتوضأ صلى الله عليه وسلم، وقال: يا عمرو! نعم المال الصالح في يد الرجل الصالح} لأنه سوف يحصل في هذه الغزوة غنيمة، فلما خرج وصل إلى ذات السلاسل فسمع صلى الله عليه وسلم أن أعداءهم قد كثروا واجتمعوا عليهم، فأرسل جيشاً أميره أبو عبيدة وتحت إمرة أبي عبيدة أبو بكر وعمر وأناس من الصحابة، فلما وصلوا إلى عمرو بن العاص قال أبو عبيدة: أنا الأمير؛ لأن معي أكابر الصحابة أبو بكر وعمر، وأرسلني صلى الله عليه وسلم بعدك، قال عمرو بن العاص: والله لا يتأمر إلا أنا.
قال الذهبي: وكان أبو عبيدة حسن الخلق رضي الله عنه وأرضاه متواضعاً، فتنازل عن الإمرة، فتأمر على الناس عمرو بن العاص، فقام يصلي بهم الفجر-لأن الأمير كان هو الذي يصلي بالناس- فتيمم من الجنابة وصلى بهم وهو جنب، لأنه عندما قام من النوم ليغتسل وجد الماء بارداً لا يستطيع أن يستعمله فتيمم، فأتى إلى المدينة فسبقه الجيش إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن أول وهلة حكم الرسول صلى الله عليه وسلم على فعله هذا أنه صحيح، لكن أراد أن يستدعيه ليرى ماذا في ذهن عمرو، وكان عمرو رجلاً داهية ذكياً لبيباً كما يقول ابن عباس، يقول لـ علي: أجعلت أبا موسى رضي الله عنه قريناً لـ عمرو -ذكر هذا الذهبي في ترجمة عمرو - قال: لا تزنه بـ عمرو فإنه رجل باز قارح مارس داهية.
فلما دخل عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم: {يا عمرو! أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ -فأتى عمرو يفتي بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم- قال: يا رسول الله! إن الله يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] فتبسم صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً} والتبسم عند علماء الحديث معناه الإقرار، فإن الإقرار إما بالسكوت أو بالكلام أو بالتبسم، وقيل: الإقرار بالإشارة، وهذه مسألة مختلف فيها ويعاد فيها إلى المصطلح، فمن أشار إليه بيده هل هو إقرار أو لا؟
إنما هنا تبسم صلى الله عليه وسلم فأقره.
فمن حدثت له هذه الحالة وهو مسافر فعليه أن يتيمم ويصلي ولا عليه، سواء كان جنباً أم محدثاً.
بشرط أن يعلم الله عز وجل أنه متقٍ له وأنه لم يستطع أن يسخن الماء أو يحدث شيئاً، وإذا خاف أن يفوته وقت صلاة الفجر، وعلم أنه لن يسخن الماء أو يحضر الماء في ذلك الوقت، فليصلِّ بتيممه والله المستعان.(202/14)
الوقفة الثالثة عشرة: حكم أداء النوافل في السفر
المسألة الثالثة عشرة: نوافل الصيام والصلاة والقرآن: كثير من الصالحين الذين فتح الله عليهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] كثير منهم له نوافل في الحضر، والمسلم لا بد أن يكون له حد أدنى من العبادة يداوم عليها ولو قليلاً، حتى الذكر، قال أهل العلم: ولو كان يكرر لا إله إلا الله عشر مرات بعد الفجر كان حقاً عليه أن يداوم عليها، فإن من داوم قرع الباب فتح الله له، ويقول عليه الصلاة والسلام: {أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل} وقيل: من كلام عائشة، فالقليل الدائم خير من الكثير المنقطع.
فمن كان له ورد كركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وجزء من القرآن، فماذا يحصل إذا سافر؟
له على الله الحي القيوم المنان أن يكتب له أجره ولو لم يصم، ولم يصل ركعتي الضحى، ولو لم يأت بورده، وقد صح ذلك في حديث مسلم، قال عمر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا سافر العبد المسلم، أو مرض، كتب الله له من الأجر -أجر عمله- ما كان يعمل صحيحاً مقيماً} لأنه علم الله أنه يعمل في الحضر هذا فأعطاه أجره في السفر، فليكن للعبد في الحضر نافلة، فإن سافر واستطاع أن يأتي بها، فبها ونعمت، فيضاعف الله له الثواب، ويكثر له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الأجر، وإن لم يستطع فسوف يكتب الله له الثواب ولو لم يفعل ذلك؛ لأنه مسافر، وهذا في النوافل.(202/15)
الوقفة الرابعة عشرة: دعاء نزول المكان
المسألة الرابعة عشرة: دعاء نزول المنزل، يقول عليه الصلاة والسلام -كما في الأذكار -: {من نزل منزلاً -أي: في السفر أو غيره- فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر من خلق الله، لم يصبه سوء في منزله حتى يرتحل} فحق على العبد إذا وقف في مكان بسيارته أو وقف بأهله، أن إذا نزل مباشرة يقول في المكان الذي نزل فيه: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فيعصمه الله، ويحفظه، ولا يصيبه سوء أبداً، وكثير من الناس أصيبوا في الأسفار؛ لأنهم تركوا الذكر؛ فالذكر حرز وحصن حصين بإذن الله، ومنها: (ربنا أنزلنا منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين).(202/16)
الوقفة الخامسة عشرة: التكبير عند الصعود والتسبيح عند النزول
ومن هديه صلى الله عليه وسلم التكبير عند الصعود، والتسبيح عند النزول، ولذلك يقول ابن تيمية: وضعت الصلاة على هذه، وهذا حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: {كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا} فالصلاة وضعت على هذا، يوم يرفع المسلم رأسه يقول: الله أكبر، ويسبح في الركوع والسجود، فكان عليه الصلاة والسلام إذا علا شرفاً كبّر، وإذا نزل وأبطن في الوادي والسهل؛ سبح عليه الصلاة والسلام.(202/17)
الوقفة السادسة عشرة: النهي عن التطويل في الأسفار
المسألة السادسة عشرة: مسألة عدم التطويل في السفر بلا حاجة: ففي الحديث قال عليه الصلاة والسلام: {السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته فليعد} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وذكر ابن كثير في ترجمة هارون الرشيد أنه سافر ونذر على نفسه ألا يركب مركوباً في السفر إلى الحج، فكان يمشي على أقدامه، فقيل له -وقد تعب كثيراً حتى يقولون: كان يسند رأسه مرة إلى فرس ومرة إلى فرس وهو يمشي- صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: {السفر قطعة من العذاب} قال: بل العذاب قطعة من السفر.
فالمسلم ينبغي له أن إذا قضى حاجته ومقصده وطلبه؛ أن يعود إلى أهله؛ لأن السفر يمنعه طعامه وشرابه واستقراره وراحته، وهناك أمور ينبغي أن ينبه عليها؛ لأن بعض الناس قد يضيعون أوقاتهم في الأسفار التي لا طائل منها، فتتشتت قلوبهم، وقد سأل سائل ابن تيمية -في كتاب الجهاد- أي بلد أسكن؟ قال: اسكن في البلد التي تسكن فيها نفسك وتجد قلبك خاشعاً فيها.
فالمسلم يسكن في البلد ويستقر، ولا يشتت عمره في الأسفار، فإنها تشتت الأعمار.
لكن قد يُبتلى المسلم بظروف تحوجه إلى السفر، منها ضيق الرزق، فإن في السفر فتح من الله عز وجل ورزق، ولذلك سافر سفيان الثوري إلى بغداد فقالوا: مالك؟ قال: سافرت إلى بلاد سلة الخبز فيها بدرهم، ومنها أن يكون معك نكد، إما جارٌ أو صاحب، أو كُبدت في بلد.
فغرب فالتغرب فيه نفع وشرق إن بريقك قد شرقتا
ولا تلبث بأرض فيها ضيم يذيب القلب إلا أن كبلتا
فالسفر لهذه الأمور ولهذه الدواعي، ولذلك يقول المتنبي:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم
يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم(202/18)
الوقفة السابعة عشرة: النهي عن الرجوع ليلاً
المسألة السابعة عشرة: استحباب الرجوع نهاراً لا ليلاً: وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كما في السنن ونهى صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلاً، حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة -التي أبطأ عنها زوجها- وليس من الحكمة أن يدخل الرجل على أهله ليلاً، لأمور يعلمها الله عز وجل، فالأفضل أن يأتي أهله نهاراً، أو إذا أراد أن يأتيهم ليلاً فيعطيهم خبراً قبل دخوله، إما أن يتصل عليهم أو يخبرهم أنه سوف يقدم عليهم في تلك الساعة ولو ليلاً حتى يكونوا على بينة.
ولما سمع أحد الأنصار -كما في السير- هذا الحديث، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله، ليلاً، قال: وما في ذلك؟ فطرق أهله، فوجد مع امرأته رجلاً لمخالفته للسنة -نسأل الله العافية- فالرجوع يكون نهاراً أو يكون ليلاً إذا أخبر أهله وكان عندهم خبر بقدومه قبل وقت، ليكونوا على أتم استعداد ولا يفاجئهم أو يباغتهم، ولا يخلفهم؛ لأن طارق الليل لا يطرق إلا لخوف أو لحاجة ملحة.
لذلك لما أتى محمد بن مسلمة لقتل اليهودي، قالت زوجة اليهودي: إن هذا صوت يقطر منه الدم.
فكان أحرار العرب يفتخرون بإجابة الصوت والداعي ولو في الليل، ويقولون: يجيب الأحرار في الليل لا في النهار، أو كما قالوا.(202/19)
الوقفة الثامنة عشرة: دعاء الرجوع من السفر
المسألة الثامنة عشرة: دعاء الرجوع من السفر: صح عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا أطل وأفل من سفره قال: {آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وكان يكبر عليه الصلاة والسلام وهو عائد، وكان من هديه أنه يُستقبل بأطفال المدينة، فيستقبلونه عند المشارف، ولذلك اختلف العلماء في قولهم:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
متى كان؟ وقد تكلم ابن حجر عن هذه متى كانت؟ هل هو في قدومه من مكة إلى المدينة في الهجرة، أم من رجوعه من تبوك، وكأن ابن القيم والداودي المحدث رجحا أنه عند رجوعه من تبوك عليه الصلاة والسلام، ولكن لا يهمنا هذا وهذا، إنما كان عليه الصلاة والسلام يستقبل بالأطفال، فربما أركب بعضهم أمامه وخلفه، وقبلهم عليه الصلاة والسلام ودعا لهم.
ولما دخل ونظر إلى أحد قال: {هذا أحد جبل يحبنا ونحبه -وفي رواية- وهو من جبال الجنة} وقال: {هذه - للمدينة - طابة} عليه الصلاة والسلام.
فدعاء الرجوع من السفر وارد، وفي حديث صهيب رضي الله عنه وأرضاه، قال: {أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نقول إذا أردنا أن ندخل قرية: اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، نسألك خير هذه القرية وخير ما فيها وخير سكانها، ونعوذ بك من شر هذه القرية وشر ما فيها وشر سكانها} وقد تُكلم في سند هذا الحديث، لكن هذا في باب الفضائل، فإنه إذا أتى الحديث في الفضائل تسهل فيه ما لا يتسهل في الحلال والحرام، وهذه الكلمة ذكرها ابن تيمية في المجلد الثامن عشر من فتاويه رحمه الله، وهي كلمة للإمام أحمد ثبتت عنه، أنه قال: إذا أتى الحديث في الحلال والحرام تشددنا، وإذا أتى في الفضائل تساهلنا.
وقد يفهم بعض الناس أن التساهل في أحاديث الفضائل معناه: أننا نتساهل حتى نجعل بعض الأمور مستحبة بأحاديث ضعيفة، وهذا ليس بوارد، لكن معنى كلام الإمام أحمد وابن تيمية رحمهم الله أن الفضائل ما كان لها أصلٌ في الدين يعضدها، فإن الذكر أمر الله به في الكتاب، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا أتى حديث في فضل الذكر، فلا نقف عنده وندقق كما ندقق في الحلال والحرام؛ لأن للذكر أحاديث وآيات تسندها وتعضدها، وتبين أن لها قاعدة في الإسلام.
كحديث من دخل السوق فقال: {لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كتبت له ألف ألف حسنة، ومحيت عنه ألف ألف سيئة} هذا حديث ضعيف، لكن ابن تيمية أتى به في الكلم الطيب، وسكت عنه، فلما أتى الأستاذ الأجل الشيخ الألباني، حذف هذا الحديث على قاعدته، وهو موفق ومن أنصار السنة جزاه الله عن الإسلام خير الجزاء؛ لأن الحديث علىقاعدته ضعيف حتى في الفضائل والأذكار، مع العلم أن ابن تيمية يوضح أنه إذا كان له أصل في الفضائل فلا بأس.
إذاً: فالحديث الذي سقناه حديث ضعيف، لكن لا بأس بإيراده في مثل دخول القرية والمدينة.(202/20)
الوقفة التاسعة عشرة: أول ما يفعله المسافر بعد الرجوع
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر أن يبدأ بالمسجد فيصلي فيه ركعتين، ثبت ذلك من حديث كعب بن مالك في الصحيحين: {أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أفل قادماً بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين عليه الصلاة والسلام} فمن السنة للمسلم، ومن الأمور التي يؤجر عليها ويثاب، أنه إذا رجع من سفره أن يبدأ بالمسجد فيصلي فيه ركعتين، وهاتان الركعتان من ذوات الأسباب، فمن قدم في وقت منهي عن الصلاة فيه فله أن يبدأ بالمسجد؛ لأنه لم يتحر الصلاة فيه، فهي من ذوات الأسباب -إن شاء الله- كركعتي الوضوء في حديث بلال رضي الله عنه الصحيح، لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم دفَّ نعليه في الجنة، فسأله فأخبره رضي الله عنه وأرضاه، أنه ما توضأ في ساعة من ليل أو نهار، إلا صلى بعدها ركعتين، فهذه تلحق بهذا، وابن تيمية سئل عن ركعتي الوضوء هذه أتصلى بعد الفجر أو بعد العصر، قال: نعم.
لأنها من ذوات الأسباب.(202/21)
الوقفة العشرون: عدم النوم في الطرقات
المسألة العشرون: عدم النوم في الطرقات في السفر؛ فإنها طرق الدواب: وهذا الحديث عند أبي داود {أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن ينام في الطرق} فإذا نزل الإنسان مع رفقة فلا ينم في طرقات الناس أو على قارعة الطريق، بل يرتفع عنها؛ لأنها ممر الدواب، فالدواب تخرج في الليل -الثعابين والعقارب والحيّات- فهي طرق الناس في النهار، والدواب في الليل.
فالرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن هذا لحكمة هي ظاهرة شاهرة معروفة عند الناس.(202/22)
الوقفة الحادية والعشرون: الاجتماع عند النزول
المسألة الحادية والعشرون: الاجتماع عند النزول: ولذلك وصف جابر حال أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام أنهم كانوا يتفرقون إذا نزلوا، فأمرهم صلى الله عليه وسلم بالاجتماع، حتى لو بسط عليهم بساط لكفاهم، فالاجتماع أبرك، وهو أجمع للكلمة وأسد، وعدم التفرق في ذلك، ولذلك في حديث أبي حميد الساعدي عند مسلم {لما خرج صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، أمر الناس إذا نزلوا أن يجتمعوا ولا يتفرقوا، فكلهم أنصت وأجاب لهذا، إلا رجلان اثنان خرجا وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم الخروج تلك الليلة؛ لأنه أخبرهم أنها سوف تهب ريح، فخرج الرجلان فهبت ريح، فحملتهما الريح، فألقت أحدهما في جبل آجا وسلمى} وهذا الحديث في صحيح مسلم.(202/23)
الوقفة الثانية والعشرون: الاجتماع على الطعام
المسألة الثانية والعشرون: جمع الطعام: من هدي الإسلام في السفر أن يجمع الطعام؛ لأنه كلما كثرت الأيدي بارك الله في الطعام، وهذا عند العرب قبل الإسلام وهو من علامات الكرم، والرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: {إن الأشعريين إذا أرملوا جمعوا طعامهم فاجتمعوا عليه -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- أولئك مني وأنا منهم} فهؤلاء الأشعريون، وهم قبيلة أبي موسى رضي الله عنه من أهل اليمن، كانت فيهم خصلة جميلة أن إذا أرملوا جمعوا ما عندهم من أزواد وطعام ثم اجتمعوا عليه.
ولذلك يذكر ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم، أن من فعل العجم وعاداتهم أن كل إنسان منهم يأكل وحده، أما العرب فلما جعل الله لهم من فطر سليمة، ومن كرم السجايا فإنهم يجتمعون سوياً، فلم يرد لا من السنة ولا من الأدب أن يكون مزادة كل أحد وصحنه وقدره لوحده، بل هذا من اللؤم، يقول أبو تمام:
وإن أولى الموالي أن تواليهم عند السرور الذي واساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن
وقد كان عبد الملك بن مروان -الخليفة الأموي- في مجلس سمر، مع أدباء وشعراء وعلماء، فقال: أي العرب أكرم؟ فذكروا رجالاً.
قال: ما وددت أنه ولدني من العرب إلا عروة بن الورد - كان عروة قبل الإسلام- حيث يقول:
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
أوزع جسمي في جسوم كثيرة وأحسوا قراح الماء والماء بارد
فإني امرؤ عافي إنائي شركة وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
يقول: أنت سمنت وتضحك مني أنني هزيل؛ لأني إذا نزلت أنزلت الناس على قدري، فأكلوا معي وبقيت كذا، وأنت؛ لأنه لا ينزل على قدرك أحد سمنت.
ولذلك يقول نافع رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن ابن عمر [[كان ابن عمر إذا أُحضر له طعامه، قال: ادعوا لي أناساً يأكلون معي، فيدعون له الفقراء والمساكين]] ويقول حاتم لامرأته -وليته مات مسلماً، ولكن قدر الله وما شاء فعل- يقول:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي
من كرمه يقول: إذا صنعت الزاد وأحضرتيه، فالتمسي ضيفاً يأتي معي.
وذكروا في سيرة إبراهيم عليه السلام أنه كان لا يأكل طعاماً إلا ويدعو ضيوفاً يضيفهم، ولذلك ذكر الله له روغتين في القرآن، روغة كرم، وروغة شجاعة، فروغة الشجاعة: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} [الصافات:93] وروغة الكرم: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26].
والبخيل لا يروغ، وإنما يخرج ظاهراً شاهراً بسكينته ويتنحنح ويتكلم، ويستخير الله ثلاثة أيام ثم يذبح ذبيحته.
أما إبراهيم عليه السلام فإنه خرج، قال ابن القيم: انظر إلى روغته ما أحسنها! وانظر إلى عجلته، فخير البر عاجله، وانظر إلى ذبيحته ما أعظمها! عجل فيه، ثم جاء به سمين حنيذ، فهو عجل سمين وليس بهزيل، وهو حنيذ وليس بمطبوخ، ثم قربه إليهم ولم يقرب الضيوف إلى الأكل، ولكن قرب الطعام إليهم، إلى غير ذلك من الآداب.
فمن الهدي والسنة في السفر أن يجتمع على الطعام، وهو من كرم السجايا.(202/24)
الوقفة الثالثة والعشرون: الإمارة في السفر
المسألة الثالثة والعشرون: تأمير أحد الرفقة: كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يؤمر أحد أصحابه إذا سافروا، وأمر الناس أن إذا سافروا أن يؤمروا أحدهم، يقول عليه الصلاة والسلام: {الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة ركب} فالثلاثة يؤمر أحدهم.
فنهى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن يسافر الواحد وحيداً فإن الوحدة تذم، إلا لمصلحة راجحة.
وقد قيل لـ مالك بن دينار: مالك لا ترافق الناس، والرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن الوحدة، ويقول: {الواحد شيطان} قال: أنا شيطان بنفسي -تواضعاً منه- فكيف آخذ لي شيطاناً آخر، فأحب أن يسافر وحده.
فالمصلحة إذا ترجحت -لأن هذا ليس من باب الوجوب إن شاء الله- ورأى الإنسان أنه يقوم بنوافله، ويستطيع أن يذكر الله وحده، ويخاف أن إذا رافق أحد الناس أن يكثر من الغيبة، ومن تضييع الوقت، ومن اللغو، فلا عليه بإذن الله؛ لأن بعض الناس قد يكون حملاً ثقيلاً، وعبئاً عليك إذا سافر معك، فما عليك ألا تستصحبه، لكن احرص أن يكون معك أحد.(202/25)
الوقفة الرابعة والعشرون: عدم سفر المرأة إلا مع ذي محرم
المسألة الرابعة والعشرون: عدم سفر المرأة إلا مع ذي محرم: فالرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح، قال: {لا تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم -وفي رواية- يوم وليلة} وهي روايات كثيرة، لكن أقصاها ثلاثة أيام، وأدناها يوم أو ليلة، إلا مع ذي محرم، ومن باب أولى إذا كان أربعة أيام أو خمسة، فلا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم.
وابن تيمية تكلم في الحج في هذه المسألة: قال: إلا إذا احتاجت المرأة، مثل أن تكون حاجَّة، فما استطاعت أن تحج وهناك رفقة، وهم من الأخيار الأبرار، وتأمن على نفسها فلها أن تذهب معهم، أو كانت في مكان ثم خافت على نفسها من لصوص وسراق وقطاع فلها أن تسافر مع قوم صالحين لتنتقل من هذا المكان أو ما في حكمه من باب الضرورات.(202/26)
الوقفة الخامسة والعشرون: عدم استصحاب الكلب والجرس في السفر
وأما المسألة الخامسة والعشرون: فالنهي عن استصحاب الكلب والجرس في السفر: يقول عليه الصلاة والسلام كما في سنن أبي داود: {لا تصحبُ الملائكة رفقة فيهم كلبٌ ولا جرس} فهذان منهي عن استصحابهما في الأسفار، فما بالك بالذين يربون الكلاب ويغسلونها بالماء والصابون ويضعون الميداليات في نحورها، ثم يركبونها في المرتبة الأولى، وأهلهم في المرتبة الثانية، وهؤلاء هم الذين طبع الله على قلوبهم وأعمى أبصارهم، فهذه طباع الكفار، وقد تنتقل هذه العادات بالمشابهة.
يقول الأستاذ محمد قطب: نحن قوم مقلدون، لو وضع أحد الإنجليز حذاءه على رأسه؛ لأصبح في المشرق بعد ثلاثة أيام قوم يضعون أحذيتهم على رءوسهم، فيُخشى أن ينقلوا الكلاب ويغسلونها، ثم يستصحبونها في السفر، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن استصحاب الكلاب والجرس، وما في حكمه من النواقيس والأدوات وآلات اللهو والطرب والدف والمزمار والموسيقى، فهذه منهي عن استصحابها في الأسفار، وهذا هديه صلى الله عليه وسلم.
وأعظم ما يذكر به السفر القدوم على الله عز وجل، فالمسلم يتذكر أنه بانتقاله من بلد إلى بلد، أنه مسافر إلى الله عز وجل، وأن هذه الدار لا قرار فيها، فقبحاً لها من دار، فإنها تنغص بقدر ما تسر، وكلما تم فيها شيء تنغص، ولا يرتفع فيها شيء إلا كان حقاً على الله عز وجل أن يضعه، فليس للعبد مستقر إلا في الجنة، فحيهلاً:
فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهبٌ والمسك تربتها والزعفران حشيش نابتٌ فيها
نسأل الله أن يعيننا وإياكم على سفرنا إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يزودنا بزاد التقوى، وأن يجعلنا من المعتبرين المتذكرين المتفكرين، وأن يجعلنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من الذي اتبعوا رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، وأن يجعل هذا المجلس في ميزان حسناتنا، وأن يتقبل الله منا أحسن ما عملنا، ويتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(202/27)
أحب لأخيك ما تحب لنفسك
إن الدين الإسلامي مبنيٌ على المحبة والمؤاثرة، والحلم والصبر والعفو، ومكارم الأخلاق، واتباع رسول الهدى، وموافقته فيما جاء به وتقديره وتعظيمه ولزوم نهجة، والنبي صلى الله عليه وسلم يضرب لنا أروع الأمثلة في المحبة والمؤاثرة وفي الحلم والصبر ومكارم الأخلاق وفي الآداب، ويعلمنا آداب الشريعة الإسلامية وسماحتها ويسرها.(203/1)
المآثرة والحب في الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
معنا في هذا الدرس ثلاثة أحاديث للإمام الكبير الزاهد العابد المجاهد، الإمام البخاري رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه الله عن أمة محمد أفضل ما جزى عالماً مجاهداً زاهداً عابداً عن هذه الأمة الماجدة.
الحديث الأول: يقول الإمام البخاري، ويتفنن في التبويب، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ثم قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن الحسين المعلم قال: حدثنا قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}.(203/2)
ترجمة سعيد بن المسيب
قبل أن نبدأ في شرح الحديث معنا علم من الأعلام سوف يمر في الأسانيد، وهو يمر كثيراً في صحيح البخاري وفي كل كتب العلم، وهو أشهر من نار على علم، وكما تعودنا أن نأخذ نموذجاً فريداً من السلف الصالح سواء كان من الصحابة أم من التابعين، أم من القرن الثالث، لنستضيء بسيرتهم، ولنجدد حبهم في الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، علَّ الله أن يحشرنا في زمرتهم، صاحبنا في هذا الدرس هو سعيد بن المسيب وأبو محمد القرشي الزهري؛ عالم أهل المدينة، في قرن التابعين، أدرك كثيراً من الصحابة، وسمع خطبة عمر رضي الله عنه على المنبر وحفظها، أدركته بركة من الله؛ لأنه رضع ثدي أم المؤمنين أم سلمة، هو والحسن البصري، فأكسبه الله بهذه الرضعة الطيبة من تلك الأم الحنون الرءوم الماجدة الشريفة، فصاحة، وبراعة، وعلماً نافعاً، وعاش رضي الله عنه في زهد، وعفاف منقطع النظير، وطلب العلم فنافس الأقران وأصبح وحيد الدهر، في تلك الفترة، كان رضي الله عنه، يتحدث بنعمة الله عليه يقول: [[من أربعين سنة، ما فاتتني تكبيرة الإحرام في المسجد]].
ويقول: [[والله ما نظرت منذ أربعين سنة إلى قفا أحد إلا الإمام]] يعني: أنه دائماً في الروضة وراء الإمام، فلا ينظر إلى قفا أحدٍ، أي: أنه لم يصلِّ في مرة من المرات في الصف الثاني، ولذلك سئل: من حافظ على الصلوات الخمس أعابد هو؟ قال: [[من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر من العبادة]].
وأما برنامجه اليومي فكان يصلي الفجر ويجلس في المسجد يسبح، وكان يلبس البياض دائماً، حتى أن من رآه يتذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ويذكر الله، وكان مخبتاًَ دائماً لا يرفع نظره، ولا ينظر إلى السماء من كثرة خشيته، حتى أن بعض الجواري يقلن لآبائهن: "مر بنا الأعمى اليوم" يقصدون: سعيد بن المسيب وليس بأعمى رضي الله عنه، لكن من كثرة خشوعه يظن الناس أنه أعمى، كان يجلس مستقبل القبلة حتى تطلع الشمس، ثم يصلي ما يسر الله له، ثم تنظم له حلقات العلم في المدينة، فيتهدر منه العلم كالبحر العجاج رضي الله عنه وأرضاه، فكان هو المفتي في الدولة الإسلامية، ثم يستمر إلى قرب صلاة الظهر فينام نومة في بيته، ثم يعود، والذي أثر عنه أنه صام الدهر إلا عيد الفطر وعيد الأضحى.
وكان يستمر فإذا أتى وقت الإفطار ذهب إلى ابنته -وقد ماتت زوجته وهي بنت أبي هريرة - فيفطر عندها ثم يعود إلى المسجد فيصلي، ثم يصلي العشاء، ثم يقرأ ما تيسر له من أوراده وذكره قليلاً، ثم يقوم ويصلي إلى الفجر، ويتقطع صوته بالبكاء، واستمر على البكاء من خشية الله حتى ذهبت إحدى عينيه، ولذلك قال له أحد تلاميذه: [[لو خرجت إلى العقيق الوادي الجميل الأخضر، علَّ بصرك أن يثوب إليك -يعني: بصره في العين الأخرى أما تلك فقد ذهب ضوءها ونورها- قال: وأين لي بشهود العتمة، ومن يضمن لي صلاة بألف صلاة في غير مسجده صلى الله عليه وسلم، فرفض أن يخرج]].
وكان شديداً في ذات الله لا تأخذه لومة لائم أبداً [[حاول عبد الملك بن مروان خليفة الدولة الإسلامية وأمير المؤمنين في تلك الفترة، أن يبايع لابنه الوليد بيعة ثانية ويلزم المسلمين بها -كما تعرفون ذلك- فتوقف المسلمون جميعاً حتى يبايع سعيد بن المسيب؛ لأنه رجل الموقف، ورجل الساعة في تلك الفترة، قالوا: "إذا بايع سعيد فسوف نبايع كلنا" وتوقفت الأقطار على فتواه، وأتى الوزراء إلى سعيد بن المسيب فرفض وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يبايع لخليفتين في وقت واحد} وحاول عبد الملك معه بشتى الوسائل، أعطاه المال فرفض، ومناه ورجاه فرفض أيما رفض، وفي الأخير أتاه والي المدينة فخيره بين ثلاثة خيارات: إما أن يخرج من المدينة حتى يبايع أهل المدينة؛ لأنهم لا يبايعون وهو موجود، وإما أن يلزم بيته فلا يخرج أبداً، وإما أن يدخل من باب ويخرج من الباب الثاني، ويتظاهر للناس أنه بايع ولا يبايع، قال: أما قولك أخرج لأعتمر أو أخرج من المدينة، فما كان لي أن أعتمر أو أدخل مكة بدون نية، وأما أن ألزم بيتي فوالله لا أترك شهود العتمة والصلاة في المسجد حتى يحال بين رأسي وجسدي، وأما أن أدخل من باب وأخرج من باب آخر فوالله لا أغر مسلماً أبداً.
ثم حاولوا استدراجه فرفض، وجُلد رضي الله عنه ما يقارب مائة جلدة، وطيف به على بعير، وبكى أهل المدينة عن بكرة أبيهم على هذا الإمام العالم الزاهد العابد، وحاول أن يسترضيه عبد الملك قبلها، وكأن عبد الملك وجد في نفسه لأنه خطب ابنته العابدة الصوامة القوامة لابنه الوليد بن عبد الملك ولي عهد المسلمين والخليفة المنتظر، فرفض سعيد بن المسيب وحاول العلماء، ألا يرفض وقال: أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم أتريدون أن أدخل ابنتي بعد قيام الليل، وصيام النهار، وحفظ القرآن، على أبناء مروان، لا يكون هذا أبداً.
وفي الأخير زوجَّها من فقير كان يدرس معه ماتت زوجته فسأله: لم تأخرت؟ قال: مرضت زوجتي ثم دفنتها وأتيت، قال: هل لك من دراهم؟ -قال: معي درهمان -وقيل: أربعة دراهم- قال: أتريد ابنتي؟ فدهش الرجل وما صدق وظن أن هذا من الأحلام!! زوجه رضي الله عنه من ابنته، فوجدها حافظة كحفظ أبيها، فقيهة كفقه أبيها، عابدة عبادة أبيها، زاهدة زهد أبيها، رضوان الله عليهم جميعاً]] من كلماته النيرة المشرقة: [[سئل في المسجد ماذا يقطع الصلاة؟ قال: يقطعها الفجور ويسترها التقوى]].
وقال رضي الله عنه: [[الناس في كنف الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فمن أراد أن يخرجه من كنفه سلط عليه المعصية]].
ومرت في كتب السير والتواريخ دعابة له رضي الله عنه: وذلك أن تاجرة عراقية أتت ببراقع؛ والبراقع: لباس يلبس في العراق، ولا يلبس في المدينة؛ لأن أهل الحجاز لا يعرفون ذلك، وظنت العراقية أنها سوف تكسب مالاً طائلاً فذهبت ببراقعها على بعير فنزلت في أهل المدينة، فما عرفوا ما هي السلعة هذه، فما شرت امرأة واحدة أبداً، وفي الأخير أرادت أن تعود إلى العراق بتجارتها، فعرضت لها امرأة فقالت: "إن كنتِ تريدين أن تبيعي تلك البراقع فتعرضي لأحد الشعراء ليمدح البراقع، فإنها سوف تباع في وقتها، فذهبت المرأة وأهدت إلى رجل هناك من أهل المدينة هديه، وهذا الرجل اسمه ابن عنين وهو شاعر، وقالت: امدح البراقع، فعرض بـ سعيد بن المسيب في قصيدته يقول:-
قل للمليحة في الخمار الأسودِ ماذا فعلتِ بناسك متعبد (1)
قد كان يمم للصلاة بوجهه حتى وقفت له بباب المسجد
يقول إن لابسة الخمار فتنت حتى سعيد بن المسيب على عبادته وزهده وجلالته، فسمع سعيد بن المسيب، فاستغفر وتبسم وقال: [[والله ما كان من ذلك من شيء ولكن صدق الله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224 - 226]]].
رضي الله عنه وأرضاه كان إذا تكلم بكلمة في غير ذكر الله استغفر مائة استغفارة، توفي رضي الله عنه بعد هذا العمر المديد، وهو من فقهاء المدينة السبعة، وممن يتقرب بحبهم إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، نسأل الله أن يحشرنا في زمرته، وفي زمرة الأخيار الأبرار من أصحاب محمد ومن التابعين لهم بإحسان.(203/3)
ترجمة بعض رجال البخاري
أما الحديث الأول، فيقول الإمام البخاري باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، هذا تبويب البخاري، مرة يقول: باب: إطعام الطعام من الإيمان، ومرة يقول: باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فيقدم مرة ويؤخر مرة، لجلالة الرجل وذكائه وتفننه.
قال: حدثنا مسدد ومسدد هذا شيخ البخاري، مسدد كاسمه، يقول البخاري عنه: مسدد كاسمه، أي: أنه مسدد في كلامه وفي روايته رضي الله عنه، ولعلمكم أن رجال البخاري ومسلم كلهم نجوم يهتدى بهم، وعلماء أجلة وزهاد وعباد، وللعجيب أورد الذهبي والحفاظ اسمه فقالوا: مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مرعبل، هذا اسمه أي يروى كذا، لأنه أعجمي ولذلك لما سمع الفضل بن دكين هذه التسمية قال: هذه رقية العقرب.
يعني: يكفي أن تقول: بسم الله ثم تقرأ هذه على ماء ثم تشرب ملعقتين في الصباح وفي المساء وترقيك من العقرب، هذا الفضل بن دكين تلميذه وشيخ البخاري أيضاً، وهو صاحب دعابة حتى ذكر عنه أنه طرق عليه طارق في البيت، فخرج الفضل من عند الباب فقال الفضل: من بالباب؟ قال: رجل من ذرية آدم، ففتح له وقال: الحمد لله ظننت أن ذرية آدم قد انتهوا وانقرضوا، وإذا بك لا زلت حياً.
فـ مسدد هذا كاسمه، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان إذا أطلق فهو يطلق على ثلاثة، لكن في البخاري يحيى بن سعيد الأنصاري ويحيى بن سعيد القطان؛ هذا يحيى بن سعيد القطان كان سبب موته أن سمع قارئاً يقرأ في سورة الصافات، فسقط من على الجدار، من خشية الله عز وجل ومات في ذلك اليوم.
عن شعبة بن الحجاج أبي بسطام الضخم الضخام راوية الإسلام عن قتادة بن دعامة السدوسي وهذا قتادة بن دعامة السدوسي، أحفظ عباد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، دخل على سعيد بن المسيب فقال: اسمع مني سورة البقرة فسمع منه سورة البقرة، فقال: والله ما أخطأ ولا لحن ولا أسقط حرفاً، فقال له سعيد بن المسيب: أنت أحفظ أهل الأرض.
وقال ابن المبارك: [[إن كان غير الدهر حفظ أحد فما غير حفظ قتادة بن دعامة]] كان فيه تشيع يسير، وهو من العلماء الأجلاء.
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: عن الحسين المعلم قال: حدثنا قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}.
في هذا الحديث مسائل، ثم نتعرض إن شاء الله للتحليل اللفظي والشرح المفصل.(203/4)
فضل محبة المؤمن لإخوانه
أولاً: فيه حث على محبة المؤمن لإخوانه المؤمنين، وهذه تنقسم إلى شقين: الشق الأول: التخلي، والثاني: التحلي.
والتخلي من الأخلاق السيئة التي تؤذي المؤمنين، ولذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في مسند الإمام أحمد أنه قال: {ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئٍ مسلم}.
هذا الحديث العظيم دائماً ابن تيمية رحمه الله يعيد ويبدي في شرحه ويهتم به اهتماماً عظيماً، ونحن أحوج الناس اليوم إلى هذا الحديث، يقول صلى الله عليه وسلم: {ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: الإخلاص لله في العمل، ثم النصيحة لولاة أمور المسلمين، وملازمة جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط بمن وراءهم}.
هذه الثلاثة لابد منها، وهي تسمى التخلي أي: التخلي عن الأخلاق السيئة.(203/5)
واجبات المؤمنين على بعضهم البعض
ثم يأتي التحلي ومن واجب المسلم على المسلم أمور كثيرة تربو على العشرين لكن مفاد هذا الحديث، ربما تجمع هذه الأمور في أربع مسائل وهي واجب المؤمن على المؤمن.(203/6)
الواجب الأول: النصيحة
إن من واجب المؤمن على أخيه المؤمن أن ينصح له، والذي لا ينصح للمسلمين ولا ينصح للمؤمنين، فهو خائن غاش، غادر لله ولرسوله وللمؤمنين، يحاسبه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على عمله السيء والخبيث، والذي يحمل ضغينة على المؤمنين، على أمر من أمور الدنيا، أو لأمر لا يتعلق بهذا الدين فمقصوده أن فيه شعبة من النفاق، نسأل الله السلامة، ولذلك يقول جرير بن عبد الله البجلي: {وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قبل أن أدخل المسجد يقول: سوف يقدم عليكم رجل من أهل اليمن، على وجهه مسحة ملك.
-لأن جرير بن عبد الله من أجمل هذه الأمة وهو يوسف هذه الأمة، على يوسف السلام ورضي الله عن جرير - فلما وفد قال صلى الله عليه وسلم: يا جرير! ما ذُكر لي أحد إلا كان أقل مما ذكر لي إلا أنت، فكنت أرفع مما ذكر لي، فأخذه صلى الله عليه وسلم بيده إلى بيته عليه أفضل الصلاة والسلام، ثم أجلسه فوضع له مخدة يجلس عليها فأتى جرير فرفض أن يجلس عليها تواضعاً لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فتعجب صلى الله عليه وسلم فوضع إصبعه في بطن جرير وقال: أشهد أنك من الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، مد يدك لأبايعك، فمد يده فبايعه صلى الله عليه وسلم على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، قال جرير: والله ما زلت أنصح لكل مسلم حتى ألقى الله}.
ولذلك كان إذا بايع رجلاً، وانتهت البيعة يقول جرير: [[السلعة التي اشتريت منك أحب إليَّ من الدارهم التي دفعت إليك، وقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، فإن تريدني أن أقيلها أقلتك]] حتى لا يغشه أبداً، وهكذا دائماً كلما بايع حتى لا يغشه أبداً، ولذلك وفقه الله وحفظه الله بهذه النصيحة، حتى لقي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وفي صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم}.
وهذا حديث صحيح وهو أصل من أصول هذا الدين، وهو من الأربعين النووية، يجب أن يحفظ وأن يفهم، وأن يلاحظ وأن يهتم به، فإنه من أعظم الأحاديث على الإطلاق.(203/7)
الواجب الثاني: التودد وألفة المسلمين
الأمر الثاني الذي يجب أن يلاحظ: التودد والألفة للمؤمنين خاصة.
يقول عليه الصلاة والسلام: {ألا أنبئكم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون}.
يألفهم الناس ويألفون الناس، والمقصود بهم في الحديث: المؤمنون ليس إلَّا.
المقصود به: المؤمنون الذين يألفهم المؤمن ويألفونه، أما المنافق فله أمر آخر، وكذلك الكافر، ولذلك يقول الله في سورة الأنفال ممتناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الأمة الإسلامية: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
ورد عند ابن جرير وغيره من المفسرين: أن الأوس والخزرج كانوا في مجلس من المجالس اجتمعوا فيه؛ والأوس والخزرج قبيلتان، مشهورتان، عظيمتان أزدتيتان، وهما الأنصار رضوان الله عليهم، كانوا في الجاهلية يتقاتلون، وبينهم يوم بعاث المشهور، فلما أسلموا ودخلوا في دين الله أفواجاً، فنسوا تلك الإحن، وتلك الأحقاد, وتلك الثورات، فلما اجتمعوا في مجلس من المجالس رآهم ابن شاس؛ رجل من اليهود عليهم لعائن الله، واليهود يغيظهم جمع المسلمين، ويغيظهم اجتماع كلمة المؤمنين، فقام ابن شاس هذا الرجل اليهودي، فأتى إلى الأنصار فجلس بينهم، وأخذ يذكرهم بأيام الجاهلية، أيام الحروب التي وقعت بينهم بعد أن اهتدوا والرسول عليه الصلاة والسلام موجود بينهم، وهو حي صلى الله عليه وسلم، وقد نزل عليهم القرآن، فأخذ يذكرهم فقام رجل منهم فقال: {نحن خير منكم يا أيها الأوس! قتلنا منكم يوم بعاث كذا وكذا، فقام الأوسي وقال: بل نحن قتلنا يوم كذا وكذا منكم كذا، وقال شاعرنا قيس بن الخطيب كذا، فقام الآخر وقال: حسان فيكم كذا، فقام رجل منهم وسل سيفه وقال: موعدكم الحرة -وهو من الأوس- أيها الخزرج! ثم تلبس الأوس بسيوفهم ورماحهم وخرجوا إلى الحرة الحرة؛ ظاهر المدينة، وخرج معهم الخزرج، -وهذا من ضعف البشر، طاشت العقول، ونسوا تعاليم الإسلام في تلك الفترة- وأتى الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته ومعه أبو بكر وعمر قالوا: يا رسول الله! أدرك الأوس والخزرج فإنهم مجتمعون في الحرة يريدون المبارزة والمقاتلة، وإن لم تدركهم فإنا نخشى أن ينهي بعضهم بعضاً، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن عمر: والله لقد قام صلى الله عليه وسلم بلا حذاء من كثرة ما أتاه صلى الله عليه وسلم من الدهش والفزع على هذا الأمر العظيم، فأخذ صلى الله عليه وسلم برده ومشى.
قال: وإنه مهرول هرولة، ووراءه أبو بكر وعمر وكثير من المهاجرين فأتى صلى الله عليه وسلم وإذا هم يحاججون وقد أصبحوا صفين: الأوس في صف، والخزرج في صف، وقد سلوا السيوف، وامتشقوا الرماح، فقام صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس! مالكم، ألست برسول الله؟ قالوا: بلى، قال: أتشهدون أن لا إله إلا الله؟ قالوا: بلى، قال: أتؤمنون باليوم الآخر؟ قالوا: بلى، فأخذ صلى الله عليه وسلم يسألهم بالله العظيم، أن يثوبوا إلى رشدهم ويتركوا أمر الجاهلية، ثم قال: مالكم أتفعلونه وأنا بين أظهركم، كيف لو مت؟! ثم ألقى عليهم صلى الله عليه وسلم موعظة فبدأ الأوس يلقون السيوف والرماح في الأرض وأخذوا يتباكون، فأمر صلى الله عليه وسلم أن يتعانق الناس فتعانق الأوس والخزرج معانقة عظيمة وقام صلى الله عليه وسلم وسطهم وهو يبكي عليه الصلاة والسلام}.
وهذا سبب الآية على الراجح عند الجمهور، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103].
ثم أمرهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بأن يذكروا هذه النعمة بعد أن كانوا متحاسدين، ومتحاقدين، ومتقاتلين، ومتباغضين.
فرجعوا إلى المدينة والرسول صلى الله عليه وسلم معهم، وقام عليه الصلاة والسلام فألقى خطبة على المنبر ودعا بقية الأوس والخزرج وأخبرهم بهذه النعمة، فعاد الإخاء، وهذه حكمة من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ليجدد للقلوب وليرد للأرواح ما فقدته في بعض الأوقات التي يضعف فيها البشر.(203/8)
واجب المؤمن على المؤمن
ومن واجب المؤمن على المؤمن العفو والصفح، وهو الذي يحتمله الحديث، بل احتماله أولياً، ودخوله دخولاً أولياً في الحديث، ولذلك يقول الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
وهذه من أعظم الآيات في الأخلاق، ومن أراد أن يتعلم الأخلاق، فليفهم هذه الآية وليعيها، وليعمل بمقتضى هذه الآية.(203/9)
صور من العفو في عصر السلف الصالح
يقول ابن عباس رضي الله عنه: [[كان أهل القرآن خَاصَة عمر ومستشاريه صغاراً كانوا أو كباراً، وكان منهم الحر بن قيس؛ كان شاباً ويقربه عمر رضي الله عنه وأتى ابن عم للحر بن قيس؛ وهو شيخ قبيلتهم، فقال للحر بن قيس: إنك قريب عند هذا الأمير -يقصد عمر - فاستأذن لي عنده غداً لأكلمه، فأتى الحر بن قيس فاستأذن على عمر رضي الله عنه، فأذن عمر لذاك الرجل، فلما دخل قال: مهلاً يا عمر! والله ما تحكم فينا بالعدل ولا تعطينا الجزل، فغضب عمر وحمل درته وأراد أن يبطش بهذا الرجل الذي أساء الأدب معه رضي الله عنه، فقال الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين! إن هذا من الجاهلين والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
فقال عمر: قد كظمت وعفوت وأحسنت، قال ابن عباس: رضي الله عن عمر، كان وقافاً عند كتاب الله عز وجل]].
وسطر السلف الصالح من مواقف العفو والصفح أعظم الصور الرائعة التي حفظها الدهر، ولذلك يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه خرج رضي عنه وهو خليفة للمسلمين في وسط الليل، يريد أن يصلي في مسجد بني أمية الجامع في دمشق، وكان يخرج وحده في الليل يتفقد أمور الناس، وربما صلى في المسجد، وربما زار المقبرة، وكان هو الخليفة الوحيد في تلك الفترة خليفة المسلمين رضي الله عنه من المغرب إلى نهر السند شرقاً، [[فلما خرج ودخل المسجد في الظلام وطأ برجله أحد النوام، فقال: من هذا الحمار الذي وطأني؟ فقال عمر بن عبد العزيز: أنا عمر بن عبد العزيز ولست بحمار، ثم صلى رضي الله عنه، وانصرف]].
فيقول العلماء: "إنها من حسناته الفريدة التي يرى أنها قليلة لا يلتفت إليها بل هي من أعظم الحسنات؛ لأن أهل السلطان يغضبون على أي شيء، وأما هذا فرضي الله عنه، ما غضب" ولذلك يقولون: إنه من سلالة عمر رضي عنه وهم دائماً من أشد الناس في الحق، لكنهم من أعظم الناس عفواً عما يصلهم، أو ما يخص ذوات أنفسهم رضي الله عنهم.
[[وكان سالم بن عبد الله رضي الله عنه يطوف، فزاحمه رجل من أهل العراق، فكأن سالماً زاحم الرجل فالتفت إليه العراقي، فقال: والله إني لأظنك شيخ سوء، فقال سالم: ما عرفني إلا أنت، ثم انصرف من الطواف رضي الله عنه وأرضاه]].
وسالم هذا من الذين يتقرب بحبهم إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لزهده وجلالته، ولكن العفو والصفح يأتي إما بجبلة، أو تعلم، وهو موهبة من الله عز وجل، أو اكتساب يكتسبها الإنسان بالدربة، وبالعلم، وبالرياضة، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم لـ أشج بن عبد القيس: {لديك خصلتان يحبهما الله: الحلم والأناة، فقال أجَبلني الله بهما أم تخلقت عليهما؟ قال: بل جبلك الله عليهما، قال: الحمد الله الذي وفقني لخلق، أو جبلني على خلق يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم}.
ومن أحلم الناس وأعظمهم حلماً: قيس بن عاصم المنقري وقد تعرضنا له بشيء من الإيجاز، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ قيس بن عاصم المنقري: {أنت سيد أهل الوبر}.
هذا سيد بني تميم وشيخهم، كان من أحلم الناس بل ضرب في الحلم والصفح أروع الأمثلة، حتى أنه ما كان يغضب أبداً.
قيل للأحنف بن قيس: [[ممن تعلمت الحلم؟ قال: تعلمت الحلم من قيس بن عاصم المنقري، قالوا: بماذا؟ قال: كنا جلوساً عنده ذات يوم وكان محتبياً بثوب وهو جالس القرفصاء، فأتى ولد له فقال: يا أبتاه! قتل أخي، قتل أخي قال: من قتله؟ قال ابن فلانة -امرأة ربعية سكنت عندهم وحلت ورضعت معهم وكان معها ولد فقتل ولدها ولد قيس بن عاصم أي: أسقط عليه حجراً فقتله- قال الأحنف بن قيس: فوالله ما حل قيس بن عاصم حبوته، ولا تحرك، ولا تغير وجهه، ولا قطع حديثه، قال: فلما انتهى من الحديث قال: جهزوه، وغسلوه، وأتوني به أصلي عليه وأودعه، وخذوا مائة ناقة -لأنه كان غنياً ثرياً- وخذوا مائة ناقة واعطوها ذاك الولد لئلا يخاف ذاك الولد القاتل، وسلّوا أمه وعزوا أمه؛ لئلا تظن أنا نريد بها شراً، وعفىا الله عما سلف، قال الأحنف بن قيس: فمن ذلك تعلمت الحلم]].
وكذلك كأن الأحنف بن قيس هو سيد، بعد قيس بن عاصم وقيس بن عاصم هو الذي سارت بذكره الركبان يقول: عقد له البخاري باباً في الأدب المفرد وأخذ وصاياه العلماء بل حتى المحدثون جعلوه في كتبهم ولذلك يقول الأول:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من ألبسته منك نعمةً إذا زار عن شحط بلادك سلما
وما كان قيس موته موت واحد ولكنه بنيانُ قوم تهدما
تولى الأحنف بن قيس بعده ولاية بني تميم، فجلسوا في مجلس يسمرون، فقال رجل منهم: [[هل رأيتهم الأحنف غضب في يوم من الأيام؟ قالوا: والله ما رأيناه قد غضب في يوم من الأيام، فقال: فما لي إن أغضبته؟ فأعطوه شيئاً من المال، فدعا رجلاً سفيهاً من سفهاء بني تميم، وقال: خذ هذه الجائزة -ما أدري كم من الدنانير والدراهم وهي في عيون الأخبار والعقد، وغيرها من كتب الأدب والتاريخ- قال: خذ هذه الجائزة واذهب إلى الأحنف بن قيس ولا تكلمه، وإنما الطمه على وجهه، فإذا قال لك: مالك؟ فقل: إني سمعت أنك تتعرض لي وتسبني وتغتابني، فذهب وإذا الأحنف بن قيس جالس في مجلس بني تميم فتعرض له ذاك السفيه فضربه على وجهه، فقال له الأحنف: مالك؟ قال: سمعت أنك تعرضت لي وسببتني وشتمتني، قال: من أخبرك؟ قال: أخبرني فلان بن فلان، قال: ماذا قال؟ قال اذهب إلى سيد بني تميم فلان فاضربه، فقال الأحنف: أنا ليس بسيد بني تميم، إن سيد بني تميم جارية بن قدامة -سيد آخر لكنه يغضب من الريح إذا مرت- فذهب إليه وهو في مجلس آخر، فانطلق هذا السفيه، ثم أتى جارية بن قدامة فضربه على وجهه، فقام جارية بن قدامة ومعه سيفه فضرب يد الرجل فأنزلها في الأرض]].
وهذه مشهورة عن جارية بن قدامة؛ لأنه من أحد الناس، ومن أغضب الناس.
هذا نموذج للحلم أو الصفح الذي تمثل به أهل الجاهلية في جاهليتهم وزاده الإسلام قوة ومتانة، ولذلك أحلم الناس وأعظمهم عفواً هو رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
{دخل أبو سفيان بن حرب بعد تلك الأفاعيل والأيام السوداء، بعد أن أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم، وحارب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقاتله وباع أملاكه، في مكة دخل يوم الحديبية مستسلماً، فلما دخل أخذ عمر يطارده في الخيام، وكانت المعسكرات في الحديبية، والرسول صلى الله عليه وسلم قد وزع الجيش أربعة أقسام، فأخذ أبو سفيان يكر على بغلة الرسول صلى الله عليه وسلم مع العباس وعمر وراءه بالسيف ويقول: هذا أبو سفيان لا نجوت إن نجا، حتى دخل أبو سفيان في خيمة الرسول صلى الله عليه وسلم، فتكلم أبو سفيان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! فعلتُ وفعلتُ فاعف عني.
قال: فقد عفوت, وحلمت، وقد صفحت، فدمعت عينا أبي سفيان وقال: لا إله إلا الله ما أرحمك، ولا إله إلا الله ما أبرك، ولا إله إلا الله ما أوصلك}.
ولذلك لما دخل صلى الله عليه وسلم مكة -كما ثبت في أحاديث صحيحة- وقد كان أبو سفيان بن الحارث ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ما ترك قصيدة عصماء يهجو بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلا نثرها في العرب، حتى أن الناس من المشركين أخذوا يهجون الرسول صلى الله عليه وسلم بشعر أبي سفيان بن الحارث ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كفى هذا، بل نازل وصرف ماله في حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة ونصره الله ورفع الله رايته، وأعزه وهزم الأحزاب وحده {أتى أبو سفيان بن الحارث فجمع أربعة أطفال له ما بلغوا سن التمييز وخرج بهم يريد الصحراء فلقيه علي بن أبي طالب، وهو من بني عمومته، فقال: يا أبا سفيان إلى أين تذهب؟ قال: أذهب بأبنائي إلى الصحراء فأموت جوعاً وعطشاً، والله لئن أدركني محمد ليقطعني إرباً إرباً، فقال علي: أخطأت يا أبا سفيان! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحلم الناس، ومن أبر الناس، ومن أوصلهم، فعد إليه، وقل له كما قال إخوة يوسف ليوسف {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فعاد أبو سفيان بأطفاله، ووقف على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم على رأسه ما يقارب اثني عشر ألفاً من الأنصار ومن قبائل العرب والمسلمين مسلحين، فقال: يا رسول الله! السلام عليك، تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم عينيه ودمع صلى الله عليه وسلم وقال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فنسي كل ما مر به عليه الصلاة والسلام}.
وفي ذاك اليوم وقف صلى الله عليه وسلم، وأخذ بباب الكعبة وتكلم للناس ثم قال لقريش وقد أخذ السلاح من أيديهم: {ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء}.
أي: مسامحين معفو عنكم من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، هذا عفوه صلى الله عليه وسلم وسماحته، وهذه قضايا الحديث.
وبقيت قضايا لفظية في هذا الحديث منها: قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم}.
ورد في لفظ: {لا يؤمن أحد} بدون الإضافة، وورد: {لا يؤمن عبد} وورد: {لا يؤمن مسلم}.
وأشملها: {لا يؤمن أحد} وهو أعمها في اللفظ، وأكثرها فائدة، ومعنى: {لا يؤمن} أي: الإيمان الكامل، أما أصل الإيمان فقد يحصل بدون أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه لكنه إيمان ضعيف، وإيمان ليس في تلك القوة التي يريدها الرسول صلى الله عليه وسلم.
{حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} قال كثير من العلماء منهم النووي والقرطبي: "أن يحب لنفسه من خير الدنيا والآخرة".
ولذلك يورد ابن القيم في الوابل الصيب مسألة في الإيثار بالقربات: هل لنا أن نؤثر بالقربات؟ يعني: لك إذا رأيت مسلماً في الصف الثاني أن تترك الصف الثاني أنت وتتأخر وتقدمه مكانك، أو أتيت يوم الجمعة متقدماً وجلست في مكان، ثم أتى رجل متأخر من المسلمين، هل لك أن تجلسه مكانك وتعود؟
والذي يميل إليه ابن القيم وبعض العلماء: أن هذا وارد وأنه جائز ومشروع، وأن الله يثيبك على الإيثار في القربات.
ورأى بعض العلماء: أن هذا لا ينبغي وأن الإيثار يكون في أمور الدنيا في الأكل، والشرب، واللباس، وفي مجالس الدنيا، أما في القربات التي يقصد بها التقرب إلى الله فلا يُؤثر بها.
هذه المسألة: الراجح فيها ما ذهب إليه ابن القيم، وهو جيد في بابه فإن الله سبحانه يثيب ويعطي على مقدار ما جعلت أنت وما تنازلت عنه من الأحقية ومن الثواب الذي آثرت به غيرك؛ لأنه لا يوجد في النصوص ما يعارض ذلك أبداً، بل قد آثر كثير من الصحابة رضوان الله عليهم بعضهم، فـ عمر رضي الله عنه يقولون: [[أنه آثر أبا بكر في الصلاة في بعض المواقف، وتأخر قبل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وآثره بالخلافة]] وآثر بعضهم بعضاً بالقيادة، والإمامة، وآثار بعضهم بعضاً بالمجالس، وصدور المجالس، والصفوف الأول، هذا هو الوارد، وكأنه الصحيح والله أعلم، والمسألة سهلة لا تقتضي هذا الخلاف.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} فمعناه: أن من لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فليس بمؤمن كامل الإيمان، وفي نفسه ضغينة، ولذلك يطلب من الإنسان أن يطهر نفسه من الحسد والحقد والغل، ومن لم يفعل فإنه سوف يبقى ناقص الإيمان حتى يلقى الله عز وجل.
والقضايا اللفظية سوف نتعرض لها بعد هذا الحديث إن شاء الله، إن كان هناك وقت، لكن نريد أن نربط بين الحديث الأول والحديث الثاني والثالث لأنها بمعنى واحد.
يقول الإمام البخاري باب: حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب، قال: حدثنا أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده} وفي حديث أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين} عليه الصلاة والسلام.(203/10)
لوازم حب الرسول صلى الله عليه وسلم
هذان الحديثان فيهما قضايا، أما الحديث الأول: ففيه القضية الأولى: لوازم حب الرسول صلى الله عليه وسلم، وما هي لوازم حب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال العلماء: "لوازم حب الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة لوازم:
أولاً: طاعته عليه أفضل الصلاة والسلام -وهي اللازم الأول من القضية الأولى- طاعته عليه أفضل الصلاة والسلام بما أمر واجتناب ما عنه نهى وزجر، وتصديقه فيما أخبر، وهذه من أصول أهل السنة والجماعة.
الأمر الثاني: كثرة الصلاة والسلام عليه، عليه الصلاة والسلام، فإنها من حقوقه المتوجبة على المسلمين، وهذه من لوازم الحب.
الأمر الثالث: توقيره وتقديره عليه الصلاة والسلام.
الأمر الرابع: تقديم قوله على قول غيره، وسوف أبسطها إن شاء الله.(203/11)
طاعته صلى الله عليه وسلم
أما اللازم الأول: فهي طاعته، فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] ولذلك يقول ابن القيم: "أوصد الله أبواب الجنة إلا من طريق محمد صلى الله عليه وسلم، فحرام أن يدخل الداخل من أمته الجنة إلا من طريقه، فالذي لا يأتي من طريقه، فليس بداخل أبداً والجنة عليه حرام".
ولذلك من أراد أن يهتدي بغير هداه، فقد ضل سواء السبيل، وكثير من الناس تجدونهم في تراجم بعض أهل المعارف، والذين يدعون علم الفلسفة والزندقة، وعلم المنطق، وعلم الكلام الذين أعرضوا عن منهجه وعن سنته صلى الله عليه وسلم، والذين ادعوا الاهتداء وقالوا: نهتدي بغير هذا، فأضلهم الله.
وكم أكرر هذه الكلمة لجودتها ولقوتها؛ ولأنها كلمة حارة يتعظ بها من شاء الله أن يتعظ وهي قول شيخ الإسلام في مختصر الفتاوى: "من ظن أنه يهتدي أو من اعتقد أنه سوف يهتدي بغير كتاب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وبغير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".
لازم الحب الطاعة، والذي اعتقد محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم لا يعتقد طاعته فليس بصادق في محبته.
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كنت حقاً صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
هذا من كلام ابن المبارك رضي الله عنه، ولذلك كذَّب الله مقالة اليهود، يقول تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] فقال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة:18].
قال أبو سعيد الخراز: "ائتوني بكلام من القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه فسكت الناس، قال: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] " فمفهوم الآية بالمخالفة، أن الحبيب لا يعذب حبيبه، السبب في ذلك: أنهم كانوا يقولون: نحب الله عز وجل -وهذا التلازم بين الآيتين، بين آية آل عمران وآية المائدة- فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] لأن اليهود والنصارى يقولون نحب الله لكن لا نتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، فكذب الله مقالتهم ورد بدعتهم وفريتهم، وأدحض حجتهم وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] وإذا رأيت الإنسان يقول: أنا أحب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم لم يتقيد بالسنة، ولم تظهر عليه معالم السنة فلا تقبل قوله، وكذبه في الحال؛ لأنه لم يطع الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا لعدم حبه له.(203/12)
كثرة الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم
وأما كثرة الصلاة والسلام عليه، عليه الصلاة والسلام فهذا أمر واجب في بعض المواقف، ومسنون في مواقف، فأما وجوبه ففي التشهد الأول في الصحيح وفي التشهد الثاني على الصحيح وهو قول طائفة من أهل العلم، منهم: القاضي عياض الأندلسي، ورجحه كثير من محققي العصر كـ الألباني، وفي أحاديث صحيحه، في التشهد الثاني، تدل على أنه واجب.
وأما المسنون فهو ما سوى ذلك كخطب الجمعة، وبعضهم أوجبها كما في رواية عن الحنابلة، وكالمناسبات التي ذكرها ابن القيم وهي خمس وثلاثون مناسبة ذكرها في جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام صلى الله عليه وسلم.
وورد في الترمذي أن أبي بن كعب سيد القراء قال: {يا رسول الله! كم أجعل لك من صلاتي؟ -أي: من دعائي- قال: ما شئت، قال: أجعل لك الثلث؟ قال: ما شئت وإن زدت فأحسن، قال: الثلثين؟ قال: ما شئت وإن زدت فأحسن، قال: أجعل لك دعائي كله، فقال صلى الله عليه وسلم: إذاً يغفر ذنبك وتكفى همك} فكان أُبيّ رضي الله عنه يجعل الدعاء، الذي يدعو به لنفسه ولأهله ولأولاده يجعله خالصاً كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كفاه الله همه وغفر الله له ذنبه بهذا العمل العظيم، الذي قدمه للرسول صلى الله عليه وسلم، وبلغ الجهد ببعض علماء الإسلام، أنهم كان يصلون على الرسول صلى الله عليه وسلم، في اليوم مئات المرات، وقرأت لـ محمد الحامد، علامة حماة، الشامي المجاهد الكبير، أنه كان يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم ألف مرة، لا تفوته أبداً، وفاتته مرة لما تعالج فقضاها في الليل ولما انتهى من ورده مات رحمه الله رحمة واسعة، ولذلك يقول علي رضي الله عنه: [[والله لولا ما ذكر الله ورسوله في فضل التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، لجعلت كل أنفاسي صلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم]].
فالأروع والأجزل في حياة المسلم أن يكثر دائماً وأبداً من الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن القيم المواضع التي يصلى ويسلم عليه صلى الله عليه وسلم فيها، منها: دخول المسجد والخروج منه، والتشهد، ورؤية المساجد، ودخول الأسواق، ودخول البيت والخروج من البيت، ونسيان الحاجة، وفي وقت الفقر، وفي البداية في العلم، وفي البداية في الخطب، والانتهاء من مجالس العلم، وفي لقاء الإخوان والأحباب، وفي موادعتهم ومفارقتهم، وفي مدارسة الحديث النبوي، وعند تذكره صلى الله عليه وسلم، وعند ذكر أصحابه، وعند ذكر شيء من مآثره، وعند دخول المدينة، وعند المرور على قبره صلى الله عليه وسلم إلى تلك المواضع العظيمة، التي من حفظها وحافظ عليها أجزل الله مثوبته، ورفع درجته، وكثر أجره، فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يعطي العطاء الجم، خاصة إذا كان المحب عظيماً عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو الذي أوصل لنا الهداية، وعرفنا بربه تبارك وتعالى، ونصحنا أجل النصيحة، وأرشدنا أعظم الإرشاد، وهدانا أكمل الهداية فعليه أفضل الصلاة والسلام، دائماً وأبداً ما ذكره الذاكرون وغفل عنه الغافلون.(203/13)
توقيره وتقديره عليه الصلاة والسلام
أما اللازم الثالث من لوازم حبه صلى الله عليه وسلم هو: توقيره وتقديره، فأهل السبق في ذلك وأهل القدح المعلى هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل بلغوا من الروعة والتقدير والإجلال، ما لم يبلغه أصحاب نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ورضي الله عنهم مما يؤثر عن أبي بكر أنه لما تولى الخلافة، كان يسمى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، [[فكان كلما سمع رجلاً يقول: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! بكى؛ لأنه يتذكر الرسول صلى الله عليه وسلم]] وأُثر: [[أنه لما حج مر بامرأة من أهل يحمس في منى، وكانت في خيمة فلما رأته قالت: من أنت؟ قال: أنا أبو بكر، فقالت: السلام عليك يا خليفة رسول الله! فبكى رضي الله عنه بين الصحابة]] والسبب في البكاء، قالوا: لأنها ذكرته بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ويؤثر عنه كما في كتاب المسند للإمام أحمد: {أنه كان إذا رقى المنبر يوم الجمعة، وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم يبكي رضي الله عنه، وربما يكاد يغشى عليه، حتى قال يوم تكلم: سمعت رسول الله العام الأول فبكى، ثم جعل وجهه على المنبر رضي الله عنه، ثم رفع رأسه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم العام الأول فبكى، ثم رفع رأسه، ثم قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم العام الأول يقول: أيها الناس! اسألوا الله العفو والعافية، فما أوتي مسلم بعد اليقين أحب من العفو والعافية -أو خير من العفو والعافية-}.(203/14)
نماذج من محبة الرسول وطاعته
فـ أبو بكر من أكثر الناس إجلالاً للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا لازم الحب، وبعد عرض هذه النماذج، أذكر ماذا ينبغي، وما يجب علينا أن نفعله في هذا الباب، ومن أحسن ما ألف في ذلك الجانب، دلائل النبوة للعلامة البيهقي، وكتاب الشفاء للقاضي عياض، وسوف أذكر منه نماذج إن شاء الله، أما عمر رضي الله عنه فقد ورد عنه في السيرة وفي التراجم: أنه خرج يوم الجمعة رضي الله عنه وأرضاه يصلي بالناس فلبس بردته البيضاء، فلما مر بميزاب العباس بن عبد المطلب؛ وذاك الميزاب كان يقطر بماء فيه دم؛ لأن العباس ذبح دجاجاً فوق السطح فأخذ هذا الميزاب يقطر الدم والماء، فوقع على بردة عمر وهو يريد الصلاة، فاقتلع الميزاب بدرته رضي الله عنه، فأوقعه في الأرض، ثم عاد فغير ثيابه، فصلى بالناس فلما خرج العباس قال: من أزال الميزاب؟ فقال عمر: أنا أزلته، لماذا تؤذي الناس بهذا؟ قال العباس: والله الذي لا إله إلا هو ما وضعه في ذاك المكان إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فبكى عمر وهو واقف مع الصحابة وقال: والله لا يعيده إلا أنت، والله لا تعيده إلا بعد أن تصعد على ظهري، فجلس رضي الله عنه والناس وقوف بعد صلاة الجمعة فجلس عمر على الأرض كالمحتبي ثم قام على أكتافه العباس فرد الميزاب إلى مكانه؛ إجلالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي وضع ذلك الميزاب مكانه.
هذا وارد عن عمر رضي الله عنه، وهذا شيء بسيط في جانب التوقير والتقدير من الصحابة والتابعين للرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اجلسوا -وهو في الشمس في الطريق- فجلس مكانه، فمر به صحابي فقال: مالك يا ابن رواحة؟ قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: اجلسوا، فما كان لي أن أخطو خطوة فجلست مكاني، فجلس في الطريق وفي الشمس امتثالاً لأمره عليه الصلاة والسلام} وهذا هو المطلوب منا، هذه العقيدة، وأي عقيدة وإيمان وإسلام ليس فيه هذا الامتثال ولا هذا التوقير، ولا هذا التقدير فليست بعقيدة وليس بمقبول أبداً.
والمذكور عن سعيد بن المسيب وهو الرجل الذي مر معنا رضي الله عنه وأرضاه أنه كان في مرض الموت، فلما حضر الموت، سأله سائل عن معنى حديث، فقال: اسندوني، فقالوا يشق عليك ذلك، فقال: والله لا يسأل عن حديث من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع والله لا بد من إسنادي فأسندوه، ثم قال: أضجعوني فأضجعوه فتوفي رضي الله عنه.
كل ذلك احتراماً للرسول صلى الله عليه وسلم أن يذكر حديثه وهو مضطجع، بل أسندوه توقيراً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكان ابن المبارك يمشي فسئل عن حديث، فقال: [[لا أجيب على الحديث؛ لأن من توقير الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديره وتعظيمه وتبجليه، ألا نجيب عن حديثه ونحن نمشي]] هذا كله في جانب الإجلال.
وأورد ابن تيمية في فتاويه لما تعرض لجانب الرسول صلى الله عليه وسلم نماذج كثيرة من إجلال التابعين والسلف الصالح للرسول صلى الله عليه وسلم.
وذكر لـ جعفر بن محمد الصادق من ذرية علي رضي الله عنه: أنه كان إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم تغير وجهه واحمر حتى يشق على أصحابه، فيقولون مالك؟ قال: أيذكر عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أتغير.
كل ذلك إجلالاً له صلى الله عليه وسلم، والإمام مالك من أكثر الناس توقيراً له صلى الله عليه وسلم وتقديراً، حتى أنه حلف وأقسم بالله لا يركب دابة في المدينة أبداً، يقول: مدينة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفون، لا أركب دابة أبداً، وكان إذا قرب من المسجد يرفع حذاءه ويمشي حافياً، وكثير من العلماء إذا هبطوا في المدينة أو نزلوا المدينة، رفعوا الأحذية من أقدامهم ومشوا حفاة ومنهم بعض المحدثين: كـ ابن إدريس العراقي كان يبكي إذا نزل المدينة ويقول:
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
كله من أجل الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن المبارك رحمه الله: دخلت المدينة، فوجدت مالكاً مكثور عليه، قال: فأتيت فجلست في حلقته وهو يقرأ في الموطأ، قال: فتغير وجهه ثلاث عشرة مرة، يحمر ثم يعود ثم يحمر ثم يعود، فلما انتهى من درسه قلت: ما لك يا أبا عبد الله؟ قال: انظر لدغتني عقرب ثلاث عشرة مرة، ثم رفع ثوبه فرأيت اللدغة في رجله رضي الله عنه، قلت: مالك ما قطعت الحديث؟ قال: أقطع حديث حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل نفسي لا والله!! قال: ثم تفل في يده وقرأ الفاتحة ومسح رجله فكأن ما به شيء رضي عنه وأرضاه.
ويؤثر عن الإمام مالك أنه كان يرى الرسول صلى الله عليه وسلم كل ليلة إلا ليلة واحدة؛ لكثرة توقير الإمام مالك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتبجيله له صلى الله عليه وسلم.
ومن حسنات معاوية بن أبي سفيان، وهو كما تعرفون خال المؤمنين، وكاتب وحي الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه لما حضرته الوفاة، قال: [[أيها الناس! ما عندي من العمل والله ما أعتد به عند الله، إلا شهادة لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا أنا مت فخذوا أظفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشيء من شعره في ديواني -مكان الخليفة- واجعلوها في أنفي واجعلوها في عيني علَّ الله أن يرحمني بها، ففعلوا ذلك]].
فنسأل الله أن يرحمه بذلك وأن يرضى عنه، وهذه من حسناته العظيمة التي يعتد بها عند الله عز وجل.
وعمر رضي الله عنه كان في الحج يطوف، فلما انتهى من طوافه أتاه أعرابي فقال: يا أبا حفص! هل لي أن أسعى قبل أن أطوف؟ قال: لا.
طف ثم اسع، وكان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الأعرابي -وهو لا يعرف شيئاً يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97]- قال: والله لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب بمثل ما أجبتني، قال عمر: خررت من يديك قاتلك الله، تستفتني وقد أفتاك الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولذلك في هذا الجانب قد يعذر الجاهل، لكن العالم، أو طالب العلم، أو من عنده شيء من فهم وإيمان فإنه لا يعذر أبداً، لمصادمة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع آراء غيره من الناس مهما بلغوا أبداً، فإنه لا ينبغي ولا يجوز، وليس بوارد أن تعارض بين رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بين قوله، وبين حكم أحد من الناس، مهما كان، ولذلك يقول العالم الأول المحدث:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فلان
وهذا من كلام ابن القيم.
وقال غيره:
العلم ما قيل فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين
فالعلم هو المأخوذ والمستفاد والمستنبط من كتاب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يأتي في الفقرة الثانية، ولكن قدمته لقصة عمر ولا غرو أن يفعله الأعراب فإنهم فعلوا أعجب من ذلك مع الرسول صلى الله عليه وسلم: {أتى أعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ماذا في الجنة؟ قال: فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال: يا رسول الله! إني أحب النوق -الإبل- فهل يجعل الله لي نوقاً في الجنة؟ قال: نعم.
ما بذلت ناقة في سبيل الله إلا بسبعمائة ناقة في الجنة، فالتفت إلى الأنصار فقال: يا رسول الله! إن الأنصار يحبون زراعة النخل، أينبت الله لهم نخلاً وزراعة في الجنة؟ فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: أي نعم.
قال: يا رسول! ماذا تخاف عليَّ؟ قال: أخاف عليك من فتنة المسيح الدجال، قال: وما هذا المسيح الدجال؟ قال صلى الله عليه وسلم: رجل أعور يضلل الناس، يعطيهم طعاماً ويوكلهم، وله جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار، قال: ما طعامه يا رسول الله؟ قال: طعامه الثريد؛ -الخبز باللحم- قال الأعرابي: والله لآكلن حتى أتضلع من طعامه، ثم لأكفرن به وأصدق بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فتبسم صلى الله عليه وسلم، والتفت إلى أصحابه من جرأة هذا الأعرابي} ولذلك كانوا مباشرة يردون على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو جالس، فيقول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
أتاه أعرابي فقال صلى الله عليه وسلم: {ماذا تقول في الصلاة بعد التحيات؟ قال: أقول اللهم اغفر لي وارحمني وأسأل الله الجنة وأستعيذ من النار، أما دندنتك ودندنة معاذ فما أحسنها}.
لأن معاذاً كان إماماً في ناحية من نواحي المدينة، وكان صلى الله عليه وسلم إماماً في المدينة، فيقول: كثرة الدعاء الذي تأتي به أنت ومعاذ أنا لا أعرفه، ولا أعرف إلا هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: {ما تركت شيئاً من الخير} أو كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام.
فهؤلاء يعذرون في جانب الجهل، ولذلك كما قال صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود: {من بدا جفا} أي: من ظهر ومن لم يساكن الناس ويخالط الأخيار والأبرار ويزورهم أتاه الجفاء، ولذلك في كتاب الإمام البخاري كتاب الأدب المفرد وسنده حسن يقول صلى الله عليه وسلم: {يا ثوبان! لا تسكن الكفور، فساكن الكفور كساكن القبور} قال الإمام أحمد: "الكفور: القرى والبوادي".
ولذلك تجدهم من أقل الناس علماً، وفهماً، واستنباطاً، فالمقصود: أن من سكن في قرية فعليه أن يوجههم، وأن يعلمهم، وأن يرشدهم فإنهم من أقل الناس علماً، ومن أقلهم هداية ونوراً وبصيرةً، بخلاف أهل المدن، فإن فيهم الأخيار والأبرار وطلبة العلم، والدعاة المؤمنين، فنسأل الله أن يحشرنا في زمرة الصالحين.(203/15)
تقديم قوله صلى الله عليه وسلم على قول غيره
الأمر الرابع من لوازم الحب: تقديم قوله صلى الله عليه وسلم على قول غيره، ثبت في صحيح مسلم وفي غيره من كتب الحديث: {أن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله -وفي لفظ: لا تمنعوا النساء المساجد، وفي لفظ وهو لفظ الصحيح: إذا استأذنت امرأة أحدكم لتصلي في المسجد فلا يمنعها- فقام ولده بلال وكان عنده زوجة وقال: والله لنمنعهن أن يتخذن المساجد دخلاً -الدخل أي: المفسدة، أو كما قال- فغضب ابن عمر فسبه وجدعه وشتمه وقال: والله لا أكلمك فترة الحياة، أو قال: لا أكلمك حتى ألقى الله، فاستمر ابن عمر هكذا حتى تدخل كثير من الصحابة، ومن أولاد الصحابة عله يراضي ابنه، أو يعود إلى ابنه، فرفض أبداً، حتى أنه في مرض الموت رضي الله عنه، أتاه ابنه بلال وهو صالح، وفيه خير لكن زلت منه تلك البادرة السيئة فكان يسترضي أباه، فكلما أتى أباه من جانب، حول أبوه وجهه إلى الجانب الآخر، ثم مات ولم يكلمه أبداً}؛ لأنه عارض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد للصلاة فلا يمنعها} أو: {لا تمنعوا إماء الله مساجد الله} فأعرض عن ذلك وهو مجتهد مخطئ، متأول في ذلك الباب؛ لأنه رأى المفسدة في إجابة طلبهن والمصلحة في منعهن، فأراد من هذا الجانب، أن يمنع، وقصده صحيح لكنه أخطأ في رد الحديث، فمنعه أبوه من الكلام وهجره حتى مات، ولذلك يقول الإمام مالك: "كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم ويشير إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم".
فكل أحد لك أن ترد عليه، ولك أن تستدرك وتحتج عليه، ولك أن تؤول كلامه، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم فليس لك ذلك أبداً، ولا يجوز ولا ينبغي وليس بوارد.
ويقول الإمام الشافعي: "إذا وافق كلامي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوه، وإن عارض فخذوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم واضربوا بكلامي عرض الحائط".
والأوزاعي يقول: "ما أتاك من الرسول صلى الله عليه وسلم فهو العلم، وما أتاك من غيره فألقه في الحش".
الحش: بيت الخلاء، وهذه مقولة مأثورة عن الإمام الأوزاعي، وصحيحة السند إليه.
وهذه مسألة ينبغي أن يتنبه إليها خاصة من يطلب العلم، أو من يريد عبادة الله عز وجل على بصيرة، أو من يريد مطالعة كتب السنة، خاصة الفقه الإسلامي، فإنه ينبغي أن يعول على الدليل، فعلم بلا دليل إنما هو إنشاء وتعبير، وإنما هو مجرد كلام، لكن المطلوب أن تقرن كل مسألة بدليل، يقول ابن تيمية في الفتاوى: "على طالب العلم أن يسند كلامه إلى دليل، من المعصوم صلى الله عليه وسلم وأن يعتصم به، فإذا استقر في ذهنه أن هذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن هذا هو المراد من كلامه صلى الله عليه وسلم"، فلا ينبغي أبداً أن يعول على كلام غيره مهما كان.
ولذلك فالفقهاء رضوان الله عليهم، إنما استنبطوا وأرادوا توضيح بعض المسائل، والشرح والبسط، وما أرادوا أن يشرعوا، الذي يشرع هو محمد صلى الله عليه وسلم، والفقهاء كلهم ينادون - أبو حنيفة والشافعي وأحمد ومالك رضوان الله عليهم- ينادون، باتباع السنة، لكن كذلك نستضيء بأقوالهم ونستفيد من استنباطاتهم في بعض المسائل الشائكة، أما أن نأخذ كلامهم بدون دليل، أو بدون مستند من آية أو حديث، فهذا ليس بصحيح وليس بعلم وهذا منهج خاطئ وغلط، فليتنبه الإنسان وليقرن بين الحديث والفقه في استنباط المسائل وفي عبادة الله عز وجل، وفي استخراج الفوائد.
ومن أحسن مناهج العلماء في ذلك، منهج ابن تيمية المجدد الكبير شيخ الإسلام، فإنه قرن بين الدليل وبين الفقه، ومنهج ابن القيم، ومنهج النووي وغيرهم من العلماء وابن كثير رضوان الله عليهم وأرضاهم، أما الذين يريدون أن يجعلوا هناك تقيداً بمذهب دون النظر إلى الأقوال الراجحة، أو الأدلة، أو الأقوال المعارضة، أو الناسخ والمنسوخ فهذا ليس بصحيح، فليتنبه له.
هذه لوازم حبه صلى الله عليه وسلم.(203/16)
أسباب زيادة حبه صلى الله عليه وسلم
أما أسباب حبه عليه أفضل الصلاة والسلام: فإنها تأتي بأمور قد تجمع في أربع كما قال بعض أهل العلم، أربعة أمور تتسبب في زيادة حبه صلى الله عليه وسلم في القلوب، وتجعل المسلم كثير الحب له صلى الله عليه وسلم.(203/17)
السبب الأول: تذكر المنة بإرساله صلى الله عليه وسلم
تذكر منة الله عز وجل على الناس بإرساله صلى الله عليه وسلم، فمن نحن لولا الله سبحانه ثم إرسال رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن نحن لولا أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أمدنا بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن نكون؟ وماذا عسى أن نفعل في الحياة لولا أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ابتعث منا خيرنا وأشرفنا، وسيدنا، وأكرمنا، وأفصحنا, وأعلمنا، وأتقانا لربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فهدانا إلى الله، ومن نحن إذاً؟ كنا أعراباً رعاة الشاة لا نعرف شيئاً، كان العرب في تلك الفترة يزنون، ويشربون الخمر، ويسجدون للحجارة، ويأكلون الجعلان، وتضحك منهم الأمم، في جوع لا يعلمه إلا الله، وفي فقر وذلة، ومهانة، وفرقة، وشحناء وحقد، وحسد، وفي جاهلية جهلاء، فلما أراد الله أن يرفع رايتهم، وأن يعلي حظهم، وأن يجعلهم سادة للأمم، وأن يجعلهم من أهل الجنة، وأن يرفع منزلتهم عنده، وأن يجعل منهم الصديقين، والشهداء، والصالحين والعلماء والأخيار؛ ابتعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فهداهم إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فأول سبب يمكن أن نحب به الرسول صلى الله عليه وسلم: أن نتلمح المنة بإرساله عليه أفضل الصلاة والسلام، نتذكر هذا الفيض الإلهي العظيم الذي أمدنا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى به، وجعلنا من خير أمة بسبب رسالته صلى الله عليه وسلم.
يقول البوصيري:
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
فأكرم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، وأكرم الأمم أمته عليه أفضل الصلاة والسلام، حتى أنه يروى في بعض التفاسير: أن موسى عليه السلام لما رأى ما أعد الله لأمة محمد قال في الأخير: "يا رب! اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم".
ومصداق ذلك: ما ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي} فلو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباع محمد صلى الله عليه وسلم.(203/18)
السبب الثاني: تتبع خصال الخير فيه صلى الله عليه وسلم
استقراء ومطالعة خصال الخير التي جعلها الله في الرسول صلى الله عليه وسلم، والتفكر فيما جعل الله فيه من المواهب، ومن الخصال الخيرة، والخصال الحميدة التي لم ينازعه ولم يشاكله فيها أحد أبداً، فهو كامل في كل وصف عليه الصلاة والسلام، ويأتي هذا الاستقراء بتدبر كتاب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وبتدبر سنته صلى الله عليه وسلم، وبقراءة السيرة النبوية قراءة مكثفة، والاهتمام بها؛ لأنها من أهم العلوم، فإذا قرأ المسلم ذلك، وحاول أن يتدبر وأن يتفكر، رزقه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سبباً وزيادة في المحبة تربو على أي وصف؟!
فالأمر الثاني: استقراء خصال الخير فيه صلى الله عليه وسلم، الكرم، والشجاعة، والصبر، والحلم، والأناة والتواضع، الخصال التي فوق مئات الخصال والتي جعلها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيه وجمعها له، ولم يجمعها لأحد غيره.(203/19)
السبب الثالث: النظر في رحمته عليه الصلاة والسلام
النظر في يسره ورحمته وشفقته عليه أفضل الصلاة والسلام، وهذا يدخل في الثاني لكنه ينفصل عنه للاهتمام وتستقرأ في كل باب من أبواب الفقه، وفي كل باب من أبواب السيرة، النظر في يسره ورحمته وشفقته عليه أفضل الصلاة والسلام، تقرأ في باب الوضوء وتجد من اليسر والسهولة في سيرته صلى الله عليه وسلم، وكذلك في باب الصلاة وباب الزكاة وباب الصيام، وباب الحج، والتعامل مع الناس، والبيع والشراء، وكل أمر من الأمور تقرأ اليسر والسهولة، والشفقة والرحمة على الأمة حتى قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فما دام أن الله زكاه، ووصفه باليسر والسهولة، وقال: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] وقال: (طه) * {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2] فإنه صلى الله عليه وسلم هو أول من أتى باليسر للأمم ورفع الآصار والأغلال التي كانت على الناس، ولذلك يقول السيد قطب رحمه الله رحمة واسعة في المجلد السادس في كتابه ظلال القرآن في سورة سبح، لما قال سبحانه: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8].
سال قلمه في هذا الموضع، قال: "اليسرى في التفكير واليسر في القول والعمل، واليسر في تناول الأشياء، واليسر في كل شيء، وفي كل دقيقة من دقائق الحياة".
إلى آخر ما قال، وهو فصل جميل، يجدر بطالب العلم والمؤمن أن يطلع عليه.(203/20)
السبب الرابع: أن مقام العبودية لا يتم إلا بحبه صلى الله عليه وسلم
من أسباب حبه صلى الله عليه وسلم: أن مقام العبودية لا يتم إلا بحبه والاهتداء بهديه وإلا فمقام العبودية ناقص حتى يُحب صلى الله عليه وسلم الحب الكامل، هذا السبب الرابع من أسباب حبه صلى الله عليه وسلم، فمن ظن أنه سوف يكون عبداً لله مخلصاً منيباً، ثم لم يكمل حبه صلى الله عليه وسلم فليس بصادق وهو كذاب في دعواه، وينبغي أن يكمل عبادة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بحبه عليه أفضل الصلاة والسلام، ويحصل ذلك: بكثرة الصلاة عليه كما أسلفنا, وبقراءة أخباره، وبقراءة حديثه في المجالس، وتلمح سيرته صلى الله عليه وسلم، ليكون عندك أعظم إنسان: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].(203/21)
سنن وآداب يوم الجمعة
وفيما بقي من الوقت نتذاكر بعض الأحكام التي بقيت معنا من صلاة الجمعة، هذه الأحكام هي سنن وسوف يبقى معنا فصل أخير في صلاة الجمعة، وأسلفنا القول عن ساعة الاستجابة والراجح القول: بأنها في آخر ساعة من يوم الجمعة، وأنه هو القول الراجح فعلى المسلم أن يحرص على تلك الساعة، وتحدثنا عن سورة الكهف، وأن قراءة سورة الكهف في يومها من السنن والحديث في ذلك صحيح.(203/22)
استحباب السواك
السواك يوم الجمعة: بعض الظاهرية يوجبونه؛ لظهور الأحاديث في ذلك، والصحيح: أنه سنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال حديثاً عاماً: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} وفي لفظ: {عند كل وضوء}.
فالسواك سنة ويتأكد يوم الجمعة، قال ابن القيم: "وله ميزة في ذلك اليوم العظيم -يوم الجمعة- الذي تقوم فيه الساعة، ويحشر فيه الناس ضحى، هذا اليوم العظيم للسواك فيه ميزة".
فأوصي نفسي وإخواني بالاهتمام بهذه الشعيرة العظيمة، والسنة الكريمة وألا يفرط المسلم فيه أبداً، مهما شق عليه فإنه لا مشقة إن شاء الله، وليجتهد دائماً بالسواك مع كل صلاة، ومع كل وضوء، وعند تغير الفم، وهو من شعائر المسلمين وهو من أعظم ما أتانا به صلى الله عليه وسلم، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: {السواك مطهرة للفم مرضاةٌ للرب} وخاصة يوم الجمعة، فعلى المسلم أن يعتني به، وأن يكون مستحضر السواك يوم الجمعة، ليتكلم ويذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ويقرأ الكتاب وهو على طهارة طيبة وكاملة.(203/23)
التطيب ولبس أحسن الثياب
السنة الثانية في يوم الجمعة: مس الطيب، وهو متأكد لحديث سلمان الصحيح: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل والطيب} وفي لفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من اغتسل واستن بما شاء من طيب، وبكر وابتكر 000} قال ابن عباس: [[أما الغسل فنعم، وأما الطيب فلا أدري]] لأنه ما بلغ ابن عباس، والطيب متأكد والملائكة تحضر يوم الجمعة ما لا تحضر في غيره، والمسلمون كذلك، فالطيب يُهتم به كثيراً، ويُفضل أن يكون الطيب الذي ليس فيه شائبة ولا شبهة، ولا يتعرض للأطياب التي فيها كحول، وليس الأمر فيها إلا من باب الورع وترك الشبه، وإلا فإنه ليس هناك تحريم قاطع لدليل قاطع؛ لأنه ولو كان فيها نسبة من الخمر أو الكحول فهل هناك دليل على أن الخمر نجس، نتوقف في المسألة وليس هناك قاطع لكن من باب ترك الشبه، والورع أن يترك، وأن يتطيب بالأطياب المباحة، في هذا الباب.
ومع الطيب يلبس أحسن الثياب: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31].
والزينة: أجمل الثياب، وأن يتجمل الإنسان أحسن جمال يوم الجمعة، وأن يعتني بأن يظهر في المظهر اللائق الذي يليق بالمسلمين، وبالمناسبة فإن كثيراً من الناس إذا حضر مناسبة، أو حفلاً، أو زواجاً، أو سفراً، يعتني كثيراً بمظهره وملبسه، ويترك يوم الجمعة، وهذا يدل على عدم حرصه على الخير، وعلى نقصان الأفضلية في قلبه، فعليه أن يتنبه لذلك، ولتكن مقابلة الله سبحانه تعالى أعظم عنده من مقابلة الناس.(203/24)
التبكير إلى المسجد
من السنن أن يبكر المسلم لما علم من الحديث الصحيح، وتنزيل الناس على منازل الساعات التي ذكرها صلى الله عليه وسلم في الحديث، فليبكر المسلم مهما استطاع، فإنه يحصل الأجر العظيم، وكلما بكر كان أفضل قال ابن مسعود وقد أتى يوم الجمعة وقد سبقه اثنان في المسجد فقال: [[ثالث اثنين في المسجد وما ثالث اثنين ببعيد -وفي لفظ: رابع أربعة]] لأنه أتى الرابع، وقيل: أتى الثالث وقبله اثنان، فليبادر الإنسان وليبكر إلا من شغل يشغله، فإن هذا من الأعذار، لكن يحاول أن يبكر ولذلك فالصحيح: أن الملائكة تكتب الأول في الأول فإذا دخل الإمام طوت الصحف وجلست تستمع الذكر فلا تكتب أحداً بعد دخول الإمام.(203/25)
الإنصات للخطبة
ومن السنن بل هي من الواجبات عند كثير من العلماء وهو الصحيح عند الفقهاء المحدثين، الإنصات يوم الجمعة للخطيب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من مس الحصى فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له} وهذا حديث صحيح.
وحديث: {من لغا فلا جمعة له} عند أبي داود قال الشوكاني: فيه مجهول، لكن يستند بآثار وشواهد واعتبارات تدل على أن له أصلاً، قيل: لا جمعة له كاملة، أو لا جمعة مقبولة ولا صحيحة، ولا يكتب الله له شيئاً، ولأن من لغا ذهبت جمعته، فليتنبه الإنسان لذلك، ولذلك لا يجوز للإنسان يوم الجمعة قياساً على الحصى أن يستاك بالسواك، ولا أن يصلح ملابسه، ولا أن يخرج شيئاً من جيبه يفعل به أمراً ثم يرده، ولا أن يزاول عملاً من الأعمال، إلا أن يكلم الإمام والخطيب في أمر ضروري، أو حدث أمر ضروري لا بد منه كأن يغلبه الدم أو القيء، أو أن يغمى عليه، فهذا من الأعذار التي أجازها الشارع.(203/26)
كثرة الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم
ومن السنن يوم الجمعة: كثرة الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه قال: {أكثروا من الصلاة والسلام عليَّ يوم الجمعة وليلتها فإن صلاتكم معروضة عليَّ، قالوا: يا رسول! كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ -أي: بليت وفنيت وذهبت في الأرض- قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} هذا من السنن التي ينبغي أن ينبه إليها.(203/27)
الأسئلة(203/28)
حكم تعليق القرآن على الجدران
السؤال
يوجد في السوق بائع أحذية وقد علق في محله قطعة قماش مكتوب عليها آية الكرسي، وقد مر عليه بعض الناس وأنكروا عليه فعله هذا، فأجابهم: بأنه ما وضعها إلا تعظيماً لها لا استهانة بها، فما حكم ذلك؟
الجواب
حكم ذلك أنه لا يجوز فقد كره هذا الفعل كثير من أهل العلم، وهو أن تعلق الآيات بلوائح وأقمشة إلا في أمر ضروري في أماكن موقرة، كأن يعلق الإنسان آية الكرسي في بيته، هذا ليس فيه نهي والذي أعرفه في هذا الباب أنها جائزة إما للتذكير، أو يحفظها من لا يحفظها، أو تذكر الزائر والضيف في البيت، هذه ما كأن فيها نهي، لكن إذا علقت في مكان يقصد منه الإهانة، فهذا نعوذ بالله منه، إن قصدها قصداً فهو كفر، وإن فعلها جهلاً فهو مذنب، ومخطئ، وجاهل، ويؤدب على ذلك، وينهى، فمثل هذا البائع لا ينبغي أن يفعل ذلك، وينكر عليه، والحق مع من أنكر عليه هذا العمل، لأنه قد ارتكب محذوراً، وآية الكرسي ما وضعت لهذه الأماكن وضعت لبيوت الله عز وجل، وللمنابر وللصلوات، ولغيرها من المناسبات الشريفة العظيمة التي أنزلها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لها، وما بالك إذا كانت آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله عز وجل، ورد أن إبراهيم بن أدهم وجد لفظة: بسم الله مرمياً بها في السوق فبكى وهو شاب، فقال: "سبحان الله! اسم الحبيب يوطأ بالأقدام، والله لأرفعنه فطيبه بدرهم ورفعه، فسمع هاتفاً يهتف وهو نائم، قال له: يا من رفع اسمي والله لأرفعن اسمك".
فرفع الله اسمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فأصبح من علماء الأمة، ومن زهادها، وعبادها فرُفع في الدنيا والآخرة.(203/29)
الفرق بين المؤمن والمسلم
السؤال
ما الفرق بين المؤمن والمسلم؟
الجواب
هذان إذا اجتمعا افترقا، وإن افترقا اجتمعا، معنى إذا اجتمعا افترقا: أنه إذا ذكر الله أو ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ذكر علماء الإسلام المؤمن والمسلم في موطن واحد معاً فهو بالتفريق، فالمؤمن: القائم بالعمل القلبي الذي يقوم بالأركان الستة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم؛ الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، هذا يقصد به المؤمن إذا ذكر مع المسلم، والمسلم إذا ذكر مع المؤمن يقصد به المسلم ظاهراً الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت الحرام، وقال الله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14].
فذكر المؤمن والمسلم هنا للتفريق.
أما إذا افترقا فهما يجتمعان، فإذا ذكر المسلم، فهو المسلم والمؤمن، فلك أن تسمي أمة محمد المسلمين، وهذا وارد، ولك أن تسميهم المؤمنين، وتسمي فلاناً مؤمناً إن شاء الله، وتسميه مسلماً هذا وارد؛ لأن المقصود: أن الإسلام إذا انفصل عن الإيمان أنه يشمل هذه الأعمال الباطنة والظاهرة، وإذا قلت: المؤمن كذلك يشمل العملين، هذا هو السر وهما كلمتان مترادفتان وليستا بمترادفتين مطلقاً بل بينهما اشتراك وتواطؤ كالنفاق والكفر، وكغيرها من الأمور التي نبه عليها بعض أهل العلم.(203/30)
متى تكون النصيحة مطلوبة؟
السؤال
جاء في حديث حق المسلم على المسلم: {وإذا استنصحك فانصح له} فهل يلزم من هذا النصح عند طلب النصيحة، أم في أي وقت؟
الجواب
ظاهر الحديث إذا استنصحك أي: طلب منك النصيحة، استنصاح: استدراج، أي: طلب وهو من أفعال التدرج، الاستفعال يعني: أنه طلب منك النصيحة وقال: انصحني في هذا الأمر، ولكن الأحاديث الأخرى تدل على أن للمؤمن أن ينصح أخاه المؤمن ابتداءً من نفسه بدون أن يطلب منه النصيحة، فهذا في الأمور التي يطلب فيها النصيحة، والأخرى في أمور التعقل التي من الحكمة أن تنصحه فيها، كأن تراه ضالاً منحرفاً، فلك أن تنصحه إذا أخطأ في بعض المسائل، أو تراه مسرفاً على نفسه، أو لا يحسن تربية أولاده، فتنصحه في هذا الباب.
أما أمور الدنيا فإنك لا تنصحه حتى يستنصح لك، فمثلاً: يريد أن يتزوج زوجة فتذهب أنت إليه فتقول: سمعت أنك تريد أن تتزوج فلانة فأنصحك ألا تتزوج فلانة، هذا من النصيحة التي ليست مطلوبة في هذا الباب ولا مقبولة وإنما قال صلى الله عليه وسلم: {وإذا استنصحك} ليخرج هذه النصائح الخاصة، أو التي لا تفعل إلا باستدراج، ومثل: أن يشتري السلعة أو يبتاع بيتاً أو كذا، فتذهب إليه وتقول -لأمرٍ الله أعلم به-: لا.
إن بيت فلان فيه كذا وكذا وكذا، فهو لم يطلب منك هذا ولم يسألك ولم يطلب منك النصيحة، أما إذا طلب فلك أن تخبره كالشهادة، أما في الأمور الظاهرة، أو أمور الإسلام، أو أمور الآخرة فإنك تنصح له بدون أن يستنصحك.(203/31)
حكم الدعاء بجاه النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
بعض الناس إذا دعوا الله فإنهم يدعون بجاه محمد صلى الله عليه وسلم ويقولون: اللهم إنّا نسألك بجاه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
فهل هذا وارد، أم لا؟
الجواب
هذه المسألة مختلف فيها، والصحيح عند علماء الحديث وأهل السنة أنها ليست بواردة، وأن الأحسن ترك هذا التوسل؛ لأن التوسل به صلى الله عليه وسلم إنما هو بمحبته عليه أفضل الصلاة والسلام والاقتداء به، أمَّا بَعْد موته فهذا ليس بصحيح، ومما لا يجوز: أن يذهب الإنسان في مثل هذه المسائل إلى قبره فيتوسل به صلى الله عليه وسلم فهذا شرك والعياذ بالله، وليس بوارد ولا يجوز، أو يقول: بجاه محمد وهو مخالف لسنة محمد صلى الله عليه وسلم.
أما أن يقول: بحبي لك، أو بحبي لرسولك صلى الله عليه وسلم وبالاتباع لسنته صلى الله عليه وسلم فكأن هذا هو الصحيح، وكأن ابن تيمية يميل إلى هذا، واستدل على ذلك بحديث ولو أنه ضعيف، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في دعاء الماشي إلى الصلاة: {اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا رياءً ولا سمعةً، خرجت اتقاء سخطك، واتباع رضوانك، فاغفر لي ذنبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت}.
الحديث يُستدل منه: أنه يسأل بحق السائلين، وحق السائلين أوجبه الله على نفسه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من دون أن يفرضه أحد عليه، وحق السائلين أن يعطي السائل وأن يمنح المستفيد منه تبارك وتعالى، وبحق ممشاي فهو العمل، ويقاس عليه حق اتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم فالإنسان يقول: "اللهم باتباعي لرسولك صلى الله عليه وسلم وبحبي له صلى الله عليه وسلم اغفر لي وارحمني".
ويستدل بحديث الثلاثة الذين توسلوا إلى الله بأعمالهم، وهم الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار فإن هذا توسل بعمل، وذاك توسل بعمل، وأجاب الله توسلهم، وهذا توسل بالأعمال وهو وارد، أما التوسل بالجاه فلم يذكر عن السلف في ذلك، فتوقف كثير من العلماء خاصة أهل الحديث وأهل السنة في هذا الباب وقالوا: ليس بوارد، والأحسن أن يتقيد الإنسان في ألفاظه وأقواله وأفعاله بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، نسأل الله عز وجل أن يهدينا وإياكم سواء السبيل وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.(203/32)
تأويل الحديث
السؤال
هناك أحاديث ترد من الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: يُحمل قول الرسول صلى الله عليه وسلم على كذا ويحمل على كذا؟
الجواب
هذا للعلماء فيه أقوال، لكن تختلف أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم باختلاف المناسبات، فأما أحاديث الأصول؛ أصول الإيمان فإنه لا يحمل على غير ما دلت عليه، ومن حملها على غيرها فهو إما معطل، وإما مؤول، ولذلك يحذر ابن تيمية من حمل أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في باب الصفات، وباب الألوهية وباب الربوبية التي هي أصول الإيمان، وإنما يفعل ذلك الأشاعرة والمعتزلة والجهمية وغيرهم من الفرق التي ابتدعت في الأصول، ولذلك يلوون أعناق الأحاديث بسبب أنه يحمل كذا ويحمل كذا، وأما في الفروع فالأمر أهون كما قال ابن تيمية، ولذلك لم يؤلف في الفروع رحمه الله وقيل له: "لماذا لم تؤلف في الفروع؟ قال: أمر الفروع أهون وأسهل وأيسر، فإنه لو أخطأ العالم كان لخطئه أجر واحد، ولو أصاب له أجران، لكنه يؤلف في الأصول؛ لأن الخطأ فيها، مزلة ومهلكة.
فأما في الفروع -مثلاً- في الوضوء، وفي العبادات والمعاملات فيحمل كلامه على كذا، فهذا الذي حمل الحديث إن كان قصده صحيحاً ونيته صحيحةً فهذا يؤجر أجراً واحداً إذا أخطأ، وأجران إذا اجتهد وأصاب، وأما إن كان قصده التعصب إلى مذهبه ويعرف أن الحديث يدل على كذا لكن يحمله على محمل، ويلوي النص لياً، ويرفع من دلالة النص فهذا لا يجوز وهو آثم في هذا الباب، فالحمل قسمان: حمل في أصول الإيمان فهذا مزلة ومهلكة، وحمل في الفروع فهو يشمل شقين: إن حمله بحسن نية وحسن قصد وعلم الله أنه اجتهد فرأى هذا، فهذا وارد وصحيح، وإن كان حمله لهوى في قلبه أو تعصباً لرأيه ومذهبه، فهذا آثم ولا يجوز ذلك.
نسأل الله التوفيق والهداية، وأن يلهمنا رشدنا وأن يقينا شر أنفسنا، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(203/33)
صبر الأولياء في منازل الابتلاء
أصل الأعمال هو العلم بها، وثمرة العمل بهذا العلم هي الجنة، وإذا كان الذي قدر الله عليهم الابتلاء هم أكثر الناس حاجةً للصبر، فإنهم إن عملوا بالصبر، نالوا خيراً عظيماً.
وفي هذا الدرس بيان فوائد الابتلاء، وذكر نماذج من أهل الصبر، ابتداءً من الأنبياء السابقين، ومروراً بنبينا صلى الله عليه وسلم، ثم أهل الصلاح من أمته.(204/1)
الفطرة توحي الصبر
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً، اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
اللهم صل على نبيك الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، لسان الصدق الذي بلغ الوحي بأحسن عبارة، وأذن الخير الذي تلقى الوحي فصاغه بألطف إشارة، صلى الله على سيف النصر الذي كسر الله به ظهور الأكاسرة، وقصر به آمال القياصرة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأشكر مكتب الدعوة هنا في عنيزة وفضيلة الشيخ حمود الصائغ، وأشكركم على حسن استقبالكم، وقد سعدنا اليوم بزيارة شيخنا ووالدنا الشيخ محمد الصالح بن عثيمين، فكان مع اللقاء بعض الأبيات، أستأذنكم في إلقائها بين يدي المحاضرة، وهي تكملة لما مر في بريدة البارحة:
قل للرياح إذا هبت غواديها حي القصيم وعانق كل من فيها
واكتب على أرضهم بالدمع ملحمة من المحبة لا تنسى لياليها
أرض بها علم أو حاذق فهم يروي بكأس من القرآن أهليها
عقيدة رضعوها في فتوتهم صحت أسانيدها والحق في يرويها
ما شابها رأي سقراط وشيعته وما استقل ابن سينا بواديها
ولـ ابن تيمية في أرضهم علم من الهداية يعلو في روابيها
إذا بريدة بالأخيار قد فخرت يكفي عنيزة فخراً شيخ ناديها
محمد الصالح المحمود طالعه البارع الفهم والدنيا يجافيها
له التحية في شعري أرتلها بمثل ما يحمل الأشواق مهديها
سالت قريحته بالحق فاتقدت نوراً فدنيا الهدى زانت نواحيها
أمَّا بَعْد: فموضوعنا في هذه الليلة (صبر الأولياء في منازل الابتلاء) وهذا الموضوع توحيه الفطرة للعبد، يوم أن فطر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى العباد على الصبر وعلى الجزع، وعلى الشكر وعلى الكفران قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:1 - 3] والصبر من مقامات العبودية عند أهل السنة والجماعة، بل ومن أعظم المقامات وقد ذكره الله في القرآن في أكثر من تسعين موضعاً، فمدح الصبر، ومدح الصابرين، وذم الذي لا يصبر، وبيِّن أجور الصابرين عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وما أعد لهم من درجات.(204/2)
مراتب الصبر
والصبر في الإسلام على ثلاث مراتب:
أولها: صبر على الطاعات، وثانيها: صبر عن المعاصي، وثالثها: صبر على الأقدار والمصائب.
وأعظمها الصبر على الطاعات -إن شاء الله- على خلاف، لكن هذا الذي تميل إليه النفس، لأنها مقصودة الأداء وهو الصبر العظيم المطلوب، فتؤدي الطاعة وتصبر عليها وتصابر نفسك لتؤديها على أكمل وجه بخشوعها وخضوعها.
والصبر عن المعاصي: حين تدعوك نفسك الأمارة بالسوء، فتصبر وتحتسب.
وصبر على أقدار الله حين يكتب عليك الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من أقداره ما يريد أن يخفف به من ذنوبك، ويرفع به من درجاتك، إذا علم هذا فإن أولياء الله الصالحين كان يميزهم الصبر مع اليقين، سئل شيخ الإسلام ابن تيمية، قيل له: بم تنال الإمامة في الدين؟ قال: بالصبر واليقين، أما سمعت الله يقول: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].(204/3)
سنة الابتلاء
وعباد الله الصالحين ابتلوا في حياتهم بمصائب، فمنهم من ابتلي بالمال ففقد ماله، والله عز وجل يلطف بأقداره إذا حكم على عباده بها، فما على العبد إلا التسليم، ومنهم من أصيب في عقله بمصيبة، فذهبت بعقله، فبقي أبلهاً مصروعاً مبهوتاً، ومنهم من أصيب في جسمه، فأبطلت بعض حواسه أو أعضائه، ومنهم من أصيب بابنه، إما ضل، أو مات، أو ذهب عنه ولم يعد -كما سيأتي- ومنهم من أصيب بعرضه، واتهم تهمة وهو منها براء، وهي لا تليق به، ولا يليق بها، فصبر واحتسب، وسوف أعرض للصبر مع الأشخاص، وكان إلقاء الحديث سرداً على طريقة السلف الصالح، كما ذكر ذلك الشاطبي في الموافقات، وفي هذا العصر اهتم الناس بالتبويب والترتيب والصبر والحصر.
إذا عُلم ذلك فإن الله قص قصص الصابرين ومدحهم، وقال جل ذكره في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153 - 155] ومن هم الصابرون؟ {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].
واختلف أرباب السلوك أو التربية في تعريف الصبر، فقال أحدهم: هو أن يقطع جسمك وأنت تتبسم، تلذذاً بقضاء الله، وقال الآخر: هو أن ترضى بما رضي به الله لك، فأحبه إلى الله أحبه إليك:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وقال الثالث: هو أن تحتسب الأجر أعظم مما فاتك من العافية، إذا علم هذا فإن الله عز وجل يقول في محكم كتابه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].(204/4)
فوائد الابتلاء
والابتلاء سُنة من سُنن الله عز وجل، ويبتلي العبد لأربع فوائده:
الأمر الأول: الرفعة في الدنيا؛ فإن المبتلين أعظم الناس رفعة، يكونون مبتلين في أول الطريق، فإذا صبروا واحتسبوا رفع الله ذكرهم أبد الدهر.
والأمر الثاني: التربية؛ فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يربي القلوب بالابتلاء حتى تخلص وتصدق له عز وجل.
والأمر الثالث: تحقيق العبودية؛ فإن الله يريد أن يكون هذا العبد عبداً له، ولا يمكن أن يكون عبداً بالدعاوى التي لا يقوم عليها دليل حتى يذعن، وكثير من الناس يعلن أنه عبد، ولكن إذا ابتلي نكص على عقبيه وخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين، فمن أعظم فوائد الابتلاء أنه يحقق لك مقام العبودية، إن كنت عبداً فهذا هو الابتلاء فاصبر له، لأن الذي كتب عليك الابتلاء هو الذي كتب عليك النعم.
والأمر الرابع: الأجر والمثوبة عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وهو لا تضيع عنده الودائع إذا ضاعت عند الناس، ولا يخسر من يعامله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، بل يستفيد، ولا يهزم من يتولاه، بل ينتصر:
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان(204/5)
أمور تخفف الابتلاء
إذا عُلم هذا، فليعلم أن مما يخف الابتلاء عند كثير من أهل العلم، ما ذكره ابن القيم في كتابه زاد المعاد:
أولاً: أن تؤمن بالقضاء والقدر، فإنه أعظم معالم أهل السنة والجماعة وفي أول حديث في صحيح مسلم عن يحي بن يعمر قال ابن عمر لما حدث أن قوماً في العراق لا يؤمنون بالقضاء والقدر قال: {والذي يحلف به ابن عمر، وفي لفظ والذي نفسي بيده، لو أنفق أحد منهم مثل أحد ذهباً ما تقبل منه حتى يؤمن بالقضاء والقدر} وفي حديث صحيح عن عبادة بن الصامت، أنه قال لابنه عندما حضرته الوفاة: {يا بني! عليك بالإيمان بالقضاء والقدر، فو الذي نفسي بيده، إن لم تؤمن بالقضاء والقدر، لا ينفعك عملك أبداً}.
وفي سنن الترمذي بسند حسن من حديث ابن عباس في حديثه الطويل قال: {كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك -انظر ما أحسن الكلمات- احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة -ثم قال:- واعلم أن النصر مع الصبر واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك} فأول ما يخفف الابتلاء والمصائب قضية الإيمان بالقضاء والقدر، ومن لم يؤمن بالقضاء والقدر فلا قبل الله له صرفاً ولا عدلاً، ولا كلَّمة ولا زكَّاه وله عذاب أليم.
ثانياً: أن تعرف أن ما أصابك إنما هو قليل بالنسبة لما أعطاك الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] فما أصاب الله العبد بمرض أو هم أو غم أو حزن إلا كفَّر الله به من سيئاته، فاعلم أنها تكفر عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولا تضيع.
ثالثاً: أن تتسلى بالمصابين والمبتلين من الناس، وأن تعلم أن كل دار فيها مصيبة، وأنه ما ملئت دار حبرة إلا ملئت عبرة، وفي كل واد بنو سعد، ولذلك قالت الخنساء: تسليت ببكاء الثكالى حولي، ثم قالت:
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
فالتسلي بمصائب الناس وتذكرها، من أعظم ما يزيل الكرب عن النفوس، أو يخفف المصيبة، وذكر ذلك ابن القيم فقال: واعلم أن في كل دار بني سعد.
إذا عُلم هذا فإن الذي يخففها أيضاً: أن تعلم أنها أقل مما كانت، فإن الله عز وجل يخفف بعض المصائب عن بعض، وأعظم مصيبة تصيب العبد مصيبة في الدين، فهي التي لا جابر لها، ولا مسلي، ولا معزي، ومن كل شيء عوض إلا من الله، فإذا فاتك فاتك، ومن كل شيء تسلية إلا الدين، فإذا فاتك فوالله ما بعده تسلية ولا عزاء ولا عوض، فاحمد الله عز وجل أن أصبت بمصيبة في جسمك، أو ولدك أو عرضك، ولم تصب بمصيبة في دينك، فإنها من أعظم المصائب، بل هي أم المصائب، ولا جابر لها إلا التوبة والعودة إلى الله عز وجل.(204/6)
أنواع الابتلاء
واسمعوا الآن إلى الصالحين في قصص عجيبة، وفي إيراد رحب واسع عذب، يورده سُبحَانَهُ وَتَعَالى في القرآن، ويورده رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة، وأهل السير من أرباب الحديث ومن حفظة السنة.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن أيوب لما مسه الضر: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] أصيب بمرض في جسمه فمكث ثمانية عشر عاماً، لا يهدأ، لا يذوق طعاماً، ولا يتلذذ بشراب، ولا يكتحل بمنام، فلما بلغ ثمانية عشر عاماً -كما قال أهل التفسير- عاد وقالت له زوجته: لم لا تشتكِ على الله عز وجل؟ لم لا تعرض نجواك وشكواك على الواحد الأحد؛ فإنه يكشف الضر {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] فقال: لا والله لا أدعوه حتى تتساوى أيام صحتي وأيام ابتلائي، فإن أيام الصحة لا تحسب عند كثير من الناس، نُصَح كثيراً، وننعم سنوات طويلة، فإذا أتت البلوى سنة استكثرنا السنة، وحسبناها وأحصيناها، أما أيام الرخاء فلا تحسب.
فصبر أيوب مثل أيام صحته ثم قال، وانظر ما أحسن الأدب: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] أنا المريض وبيدك الشفاء، فإن كنت ترى أني قد أصبحت في حال ترضى لي بالعافية فعافني يا رب! فأحب ما أحببته أنت والأمر ما أحببته أنت.
ولذلك ذكروا عن خليفة الإسلام الصادق الزاهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، يوم أن دخلوا عليه وهو مريض، فقالوا: ماذا أصابك؟ قال: الله أعلم ما أصابني؟ قالوا: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب قد رآني، قالوا: ماذا قال لك الطبيب؟ قال: يقول إني فعال لما أُريد، وأخذها بعض الناظمين فقال:
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي والذي قد أصابني من طبيبي
وذكر بعض الكتبة في ترجمة ابن تيمية أنهم دخلوا عليه وهو مريض، فقالوا: يا أبا العباس! مالك؟ فرفع رأسه وقال:
تموت النفوس بأوصابها ولم يدر عوادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي أذاها إلى غير أحبابها
ولذلك انظر إلى يعقوب ما أحسن عبارته يوم قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ثم يقول: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] فالبث والحزن يشكى إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فهو من باب رفع الشكوى إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
إذاً: الابتلاء بالأمراض والمصائب والزلازل والمحن من الأقدار التي يقدرها الله على الناس، والله عز وجل أعلم بالأجسام التي تتحمل المرض من غيرها.
وفي الطبراني بسند فيه نظر، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله تعالى: إني أعلم بعبادي، من عبادي من لو ابتليته لما صبر، ومنهم من لو عافيته لما شكر، فأنا أُصرِّف عبادي كيف أشاء} فله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الحكمة البالغة، فالمرض من الابتلاءات العظيمة التي مرت في تاريخ هذه الدنيا؛ منذ خلقها الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ابتلى الله عز وجل أيوب بهذا المرض، فقال هذه القولة: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] وذكر ابن حجر في الإصابة أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ابتلى أحد الصحابة الأخيار وهو عمران بن حصين بن عبيد الخزاعي، المجاهد الشهير الصحابي النحرير، ابتلاه الله بمرض مكث بسببه ثلاثين سنة لا يقوم من على فراشه، فقال له بعض الصالحين: لو شكوت، أو رفعت ضرك إلى الله؟ قال: أحبه إلى الله أحبه إلي، ما دام أن الله يرضى هذا لي، فأنا أرضاه لنفسي، فكانت الملائكة تصافحه بأيمانها مع كل فجر، وهذه من كرامات الأولياء التي أقرها أهل السنة والجماعة، فنحن نقول بها، يستبعد أن الملائكة كانت تصافحه؛ لأنه صبر واحتسب ثلاثين سنة، فشكر الله له سعيه، وجازاه في الدنيا بمصافحة الملائكة، والخير العميم والأجر والثواب عند الله تبارك وتعالى.(204/7)
الابتلاء بفوت الأعضاء
وقد يبتلي الله عز وجل الإنسان في جسمه بفوت أعضائه، فالعقل نعمة من أعظم النعم، بل هي تأتي بعد نعمة الدين، ولكن إذا حكم الله بسلب عقل هذا المخلوق وأخذ عقله، فمالك إلا أن تسلم وتحتسب.
عن عطاء بن أبي رباح في الصحيحين، قال: قال لي ابن عباس: يا عطاء! ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بأبي أنت وأمي نعم، قال: هذه المرأة السوداء، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: {يا رسول الله إني أصرع -أي: يصيبها مس من الجان فتصرع- فادع الله لي، قال: إن شئت دعوت الله لك، وإن شئت صبرت واحتسبت ولك الجنة -ما أحسن الخيارين! وما أحسن الخيار الثاني! عرض عليها خطتين، وخيرها بين طريقين، وأنزلها منزلتين- فقالت: أصبر وأحتسب، ولكني أتكشف فادع الله لي يا رسول الله! فدعا لها ألا تتكشف} فهي من أهل الجنة تمشي على الأرض؛ لأنها احتسبت عقلها وهو من أعظم النعم، فلما فوضت الأمر إلى الحي القيوم، جازاها الله بجنة عرضها السماوات والأرض.
والله عز وجل قد يبتلي عبده بالبصر، والبصر نعمة من النعم الجليلة، يوم ترى الحياة، وتذوق الجمال، وتتعرف على الأشياء والذوات والأشخاص بالعينين الجميلتين، لكن إذا حكم الله بطمس نورهما، فمالك من حيلة إلا الصبر والتسليم، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {من ابتليته بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة} ما أحسن الكلام! وما أحسن إيراد الحديث! لم يقل عينيه، وإنما قال حبيبتيه؛ لأنه يحبب العينين إلى صاحبها، فكأنها أحب إليه من كل شيء، فيقول: من ابتليته، ولم يقل من أخذت عينيه، وإنما قال: ابتليت ليبين أن هناك أجراً ومثوبة، وأن هناك كنزاً مدخراً، وأن هناك جنة وموئلاً، فقال: {من ابتليته بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة} وما أحسن الجنة!
قالوا لـ يزيد بن هارون الواسطي -كما في سير أعلام النبلاء والتذكرة وهو شيخ الإمام أحمد، ومن حفاظ الدنيا، ومن رجال البخاري ومسلم، ومن أهل واسط، بل عالم واسط الوحيد- لما ذهبت عيناه، فقيل له: يا أبا خالد! أين ذهبت العينان الجميلتان؟ قال: أذهبهما والله بكاء الأسحار، لكن معه {عوضته عنهما الجنة}.
وابن عباس حبر الأمة عمي في آخر حياته، فأتاه بعض الشامتين يعزيه استهزاء في عينيه، فعزاه في عينيه، فعلم ابن عباس أنه شامت فقال:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
عقلي ذكي وقلبي غير ذي عوج وفي فمي صارم كالسيف مشهور
صدق رضي الله عنه، إن يأخذ الله نور العين، ففي القلب نور وبصيرة، وإن يأخذ الله ضياء هاتين العينين الجميلتين، ففي الروح ضياء خارق مشع يبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وما حيلة الإنسان إلا أن يصبر.
ذكروا عن ابن هبيرة صاحب الإفصاح، الحنبلي الوزير الشهير الكبير التقي، الذي دعا الله في يوم منى بالغيث، فسقوا الغيث وهم في يوم منى، فقال وهو يبكي: يا ليتني دعوت الله بالمغفرة! وكان وزيراً للمستنجد العباسي، وقد أدركه ابن الجوزي، بل كان ابن الجوزي من أصحابه، فدخل عليه أحد الناس فسلم له ابن هبيرة جائزة ومسح على رأس هذا الشخص، ثم ذهب الشخص، فقال له الناس يا بن هبيرة! مالك أعطيته ومسحت على رأسه؟ قال: هذا عرفته ولم يعرفني، ضربني مرة على رأسي فذهبت عيني منذ ثلاثين سنة ما أخبرت أحداً بها، ما أخبر أحداً؛ لأن الشكوى إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(204/8)
الصبر على فراق الأبناء
والأبناء نعمة من النعم الجليلة، والله عز وجل ذكر عن الصالحين أنهم كانوا يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:7] ومن أحسن ما يجمل الحياة المال والبنون، فهم زينة الحياة الدنيا، وما أحسن من أن ترى أطفالك وأبناءك يترعرعون أمامك، ويهشون ويبشون بنور الإسلام، ويسجدون للواحد القيوم، ويرددون عليك آيات القرآن، ولكن إذا حكم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بأخذهم فما لك من حيلة.
في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ليس لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة} ولم يقل الولد ليخرج الأخ، ولم يقل الأخ ليخرج الأب، ولم يقل الأب ليخرج الصديق والصاحب، وإنما قال الصفي ليدخل الكل في هذا، وما أحسن هذا الكلام! فالصفي هو كل من أصابتك لوعة من فراقه، أو حرقة، أو حزن، عوضك الله عنه إذا صبرت واحتسبت الجنة.
وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا مات ابن العبد المؤمن قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى -وهو أدرى للملائكة الذين قبضوا نفسه- قبضتم ابن عبدي المؤمن؟ قالوا: نعم يا رب! وهو أعلم، قال: قبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا: نعم يا رب! قال: فماذا قال عبدي؟ قالوا: حمدك واسترجع -أي: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون- قال: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد} هذا الحديث حسن، والبيت هنا كالربابة البيضاء، أو كالكوكب الدري، مكتوب عليه بيت الحمد، يدخله الرجل الصالح يوم يحتسب مصيبته في ولده على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
والمرأة المسلمة تشارك الرجل في هذه المصائب، بل ذكر صلى الله عليه وسلم للنساء في فوت الأطفال ما لم يذكر للرجال، فإنه قال لما زارهن: {ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كانوا لها حجاباً من النار، قالت: امرأة واثنين يا رسول الله -اثنين عدد المفعولية- قال: واثنين، قالت: وواحد -في بعض الروايات- قال: وواحد} فالحمد لله أن جعل فضل موت ابن واحد تحتسبه عند الله؛ دخول لك جنة عرضها السماوات والأرض بإذن الله.(204/9)
الابتلاء بالأعضاء والأبناء
قد يرزقك الله أعضاء تتمتع بها، وقوةً وحيوية وطاقة ونشاطاً، لكن له حكمة أن يسلب عنك القوة.
ذكر أهل العلم وأهل السير والترجمة في سيرة عروة بن الزبير بن حواري الرسول عليه الصلاة والسلام، عروة الذي هو أكبر راوية في كتب الحديث عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها، الذي ذكروا عنه أنه كان يختم القرآن في أربعة أيام، وأنا لا أقف عند أربعة أيام، لأن الأولى الختم في سبعة أيام كما في حديث ابن عمرو، لكن الشاهد قوة العبادة والإقبال على الله عز وجل، فأراد الله أن يرفع درجته عنده، فكتب عليه ابتلاء.
فقد سافر عروة بن الزبير إلى الشام وبينما هو في الطريق أصابته آكلة في رجله، فاجتمع عليه الأطباء، وقالوا: نقطع رجلك من القدم، فقال: أصبر وأستأني، فدخل المرض إلى ساقه، فقالوا: نقطعها من الساق، قال: أصبر وأستأني، فدخل المرض إلى الفخذ، فقالوا: مالك من حل إلا قطعها وإلا متَّ، قال: الله المستعان! إنا لله وإنا إليه راجعون، فقالوا لا نقطعها حتى نسقيك كأساً من الخمر، قال: يا سبحان الله! عقل منحنيه ربي أذهبه بكأس من الخمر، لا والله، ولكن إذا توضأت ودخلت في صلاتي فاقطعوها، فتوضأ واستقبل القبلة، وبدأ في صلاته ينادي رب العزة تبارك وتعالى، وهو يحلق بروحه مع تلك الآيات البينات، فتقدم إليه الأطباء بالمناشير، فقطعوا رجله، فلما غلبه الوجع سقط مغشياً على وجهه، وبعد ساعات استفاق، فقالوا: أحسن الله عزاءك في ابنك، رفسته دابة الخليفة فمات، يا سبحان الله!! في هذه الفترة، فترة الإغماء رفست ابنه دابة الخليفة فمات.
انظر المصائب كيف تحدث، وانظر إلى ألطاف الله وحكمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في القضاء والقدر، ماذا قال؟ قال: الحمد الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم لك الحمد -لكن انظر إلى الذي يذكر النعم- إن كنت أخذت فقد أعطيت، وإن ابتليت فقد عافيت، أعطيتني أربعة أبناء، وأخذت ابناً واحداً، وأعطيتني أربعة أعضاء فأخذت عضواً واحداً فلك الحمد ولك الشكر، ثم قال:
لعمرك ما مديت كفي لريبة وما حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا دلني فكري ولا نظري لها ولا قادني فكري إليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الله إلا قد أصابت فتى قبلي
رجع محتسباً إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لأنه الذي قدر.(204/10)
صور من الابتلاء(204/11)
إبراهيم الخليل والبلاء المبين
رفع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالبلاء درجة الأنبياء، ومحا به خطايا الصالحين، وإبراهيم عليه السلام أستاذ العقيدة، ومعلم التوحيد، الذي بث مذهب التوحيد في الدنيا وأسسه، فكان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أشبه الناس به، ابتلاه الله بمصائب، منها أنه جمع له حطب ثم أوقدت النيران ثم ردي في النار، فانقطعت به الحبال إلا حبل الله، وأوصدت أمامه الأبواب إلا باب الله، لكن انظر إلى التوكل على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أتاه جبريل فقال: ألك إلي حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم، فلما ألقي في النار ماذا قال؟ قال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم لما ألقي في النار، وقالها رسولنا صلى الله عليه وسلم لما قيل له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:173 - 174] فلما ألقي في النار تذكر عظمة الله، وألا كافي ولا حافظ ولا حامي إلا الله:
يا واهب الآمال أنـ ت رعيتني ومنعتني
وعدا الظلوم عليَّ كي يجتاحني فنصرتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك منعتني
فالمانع هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فلما وقع في النار، أتت عناية الله عز وجل فقال الله عز وجل: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] لو قال برداً وسكت، لأصبحت زمهريراً يقطعه، ولكن قال: وسلاماً أي: بهدوء وراحة وعافية وصحة.
وابتلاه الله بابنه، فلما شب إسماعيل عليه السلام -على الراجح من أقوال أهل العلم- وبلغ معه السعي، ودرج وسار وأتى، والابن إذا أصبح في هذه السن، أصبح يشاغف حبه القلب، لأنه إذا كبر قليلاً نقص حبه، ثلاثة يحبون في ثلاثة مراحل: المريض حتى يشفى، والغائب حتى يحضر، والصغير حتى يكبر، والصغير جداً من الأطفال قد لا يحب، ولكن توسط الحب بلوغ السعي، فيصبح شجى القلب، وشغاف الروح، فأراد الله أن يخلي قلب إبراهيم بحبه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه الخليل.
قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلا
فكان من مقامات الخليل أن يكون أحب شيء إليه هو الله عز وجل، فلما بلغ معه هذا الابن الصالح السعي ابتلى الله أباه، فرأى في المنام ورؤيا الأنبياء حق -وعقد لذلك البخاري باباً في صحيحه: باب رؤيا الأنبياء حق- {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] فقام الصباح بعد أن تأكد من الرؤيا فعرض الرؤيا على ابنه، لا مستشيراً ولكن ينظر إلى رد هذا الولد الصالح، فكان رده رد المؤمن الموحد: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:34]:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
فلما علمه ولقنه التوحيد وأرضعه مع اللبن عقيدة لا إله إلا الله {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] فماذا قال؟ قال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] وما أحسن التواضع! لم يقل افعل ما تؤمر ستجدني من الصابرين، وإنما قال: إن شاء الله، فالصبر والتثبيت منه تبارك وتعالى، فتقدم إليه، ولذلك يقول الله سبحانه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:106] لأنه ابتلاء ما سمع بمثله، ابنك، وقد بلغ السعي، بل صالح، ثم يأمرك الله أن تباشر الذبح أنت بنفسك، ما قال: يا إبراهيم مر فلاناً أن يذبح ابنك وأنت تختفي!! لا، بل خذ أنت السكين واذهب إلى ابنك واطرحه أمامك ثم اذبحه، فامتثل لهذا، فرفعه الله، وأثبت لله أنه صادق، وأنه من المحسنين وترك له لسان صدق في الآخرين، فالألسنة تثني عليه، وتمدحه أبد الدهر.
فعليه السلام أولاً وآخراً، وجزاه الله في مواقف الصدق خيراً وأجراً ومثوبة.(204/12)
ابتلاء الله ليونس عليه السلام
ذكر الله عز وجل المبتلين كذلك في الأزمات وفي الكرب، فمنهم يونس بن متى عليه السلام، خرج مغاضباً قومه، ولكن لم يستأذن ربه، فذهب إلى السفينة، ولما ألقي من السفينة ذهب في ظلمات ثلاث، ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وانقطعت به الحبال إلا حبل الله، ونسي كل أحد إلا الله، ما تذكر زوجة ولا ولداً، فقال وهو في الظلمات: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، دعوة أخي يونس، ما قالها مكروب إلا كشف الله بها كربه}
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
وناد إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن متى
إذا ناديت واعترفت بلا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، كشف الله كربك، وغمك، وحزنك، ورزقك من حيث لا تحتسب.
فكان جزاء الصابرين عند الله أجراً ومثوبة، فانظر كيف أخرجه الله ونجاه وقال: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144].(204/13)
يعقوب وابنه يوسف عليهما السلام
هذا يعقوب عليه السلام يصاب بمصيبة، والعجيب أن المصائب التي عرضت في القرآن على أنواع، وما كانت على وتيرة واحدة، فنوع الله المصائب والنعم على الناس، وله في ذلك الحكم البالغة، فإن يعقوب عليه السلام لم يبتلَ بأن يكون ابنه ضالاً كابن نوح عليه السلام، ولا بأن يذبح ابنه كما ابتلي به إبراهيم، ولكن ضل منه ابنه يوسف عليه السلام، فلم يدر أين ذهب فكان يردد دائماً {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] وبلغ يوسف في قلبه الشغاف من الحب، فلما ابتعد عنه كان مقدار هذا الابتعاد أربعين سنة:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
فأخذ يبكي ويكظم أنفاسه، حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، وأخذ يقول: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، فلما علم الله تفويضه ورده الأمر إليه، رفعه بالابتلاء لما صبر وشكر، وهذا عاقبة العبد يوم أن يفقد شيئاً غالياً نفيساً عليه، فيحتسب ذلك عند الله عز وجل.
ويوسف عليه السلام ابتلي في عرضه، واتهم فصبر واحتسب، وفوض أمره إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فرفعه الله رفعة ما بعدها رفعة، وأثنى عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقال: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] لماذا؟ لأنه صبر على هذه البلوى العظيمة، ولذلك يذكر ابن القيم في مدارج السالكين نقلاً عن ابن تيمية، قال: إنما عَظُمَت مصيبة يوسف عليه السلام بأمور، وكان أجره ورفعته عند الله عز وجل لأمور:
منها: أنه شاب، وهو أقدر على الفاحشة.
ومنها: أنه غريب، والغريب لا يجد ملاماً ولا عتاباً من الناس.
ومنها: أنه في بيت امرأة عندها سلطان، فهي لا تخاف على نفسها من السلطان ولا من تطبيق الحدود.
ومنها: أن هذه المرأة جميلة.
ومنها: أنها لبست حليتها وذهبها وفضتها.
ومنها: أنها خلت به.
ومنها: أنها غلقت الأبواب.
ومنها: أنها هددته.
ومع ذلك كله صبر، وقال: معاذ الله -وما أحسن هذه الكلمة! - فرفعه الله، فنحن نقرأ قصته دائماً في القرآن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فيا سبحان الله! كيف يرفع بعض الناس بالصبر، وكيف يرفعهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالابتلاء إذا عدوا ذلك قضاء وقدراً فآمنوا به وأنزلوه منازله.(204/14)
حادثة الأفك
ومصيبة الابتلاء في العرض قد حدثت، وفي تاريخ الإسلام كما في قصة الإفك، حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها، الذي رواه البخاري في غزوة المريسيع، وفي كتاب المنافقين عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس ومن طريق الزهري أيضاً: أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها حدثت فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج -ما أحسن القصة حين تسوقها عائشة - لغزاة -أي: لغزوة- أقرع بين نسائه، فأيهن خرج نصيبها أو سهمها خرج بها صلى الله عليه وسلم، فخرجتُ معه في ذات غزوة، فلما قفلنا من الغزوة راجعين، نزلت في منزل ألتمس عقداً لي من ظفار فاتني، فارتحل الركب وما شعروا، وظنوا أني في الهودج -وهو البيت الصغير الذي توضع فيه المرأة- فحمل الهودج على الجمل، وذهبوا وارتحلوا من المنزل، وظنوا أن أم المؤمنين الطاهرة بنت الطاهر، الصديقة بنت الصديق، المبرأة من فوق سبع سماوات أنها في الهودج، فذهبوا وأتت في وقت الظهيرة، فلم تجد أحداً، فماذا فعلت تغطت، وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون!! {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] فجاء رجل من الصالحين المجاهدين الزاهدين الأخيار، اسمه صفوان بن المعطل، فوجدها متغطية، فقال: الله المستعان! زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: فو الله ما كلمني بكلمة، ثم أناخ بعيره، فأركبها على البعير فركبت، وذهب يقود البعير بزمامه وعائشة على البعير، والرسول عليه الصلاة والسلام قد نزل هو والصحابة منزلاً في الطريق.
فأتى بالجمل وعليه عائشة فأما الذين آمنوا فزادهم ربهم إيماناً، وعلموا أنها طاهرة بريئة وأنها صديقة، وأما الذين في قلوبهم مرض فخار النفاق في قلوبهم، وعشعش الشك في نفوسهم، نعوذ بالله من ذلك، فقاموا يوشوشون بالأخبار: لماذا تأخرت؟ ولماذا أتى بها هذا الرجل؟ وما هو السبب؟ نفاق وكبر وعتو وإعراض عن الله وعن شرعه.
والرسول عليه الصلاة والسلام لم يدر، ولما وصل المدينة، قالت عائشة: فأتاني مرض، فأنكرت منه صلى الله عليه وسلم ذاك اللطف الذي كنت أجده قبل ذلك يوم أمرض، لأنه وصله الخبر صلى الله عليه وسلم، ومرضت وهي في بيته، فكان يمر عليها وهي مريضة ويقول: كيف تيكم؟ ما يزيد على هذه الكلمة، قالت: فكان هذا يريبني، أي: أشك فيه، لماذا لا أجد تلك الحفاوة وذاك الحنان، وتلك الشفقة التي كنت أجدها قبل ذلك، فاستأذنته صلى الله عليه وسلم أن أمرض في بيت أبوي فأذن لي.
فارتحلت رضي الله عنها وأرضاها بمرض، لكن لا تدري أنها أصيبت في عرضها، وهو أشرف ما يملكه الإنسان.
ولذلك فأنت تريد أن يدمر بيتك ولا تصاب في عرضك، وأن تنتهي حياتك ولا تثلم في شخصيتك، وأن يذهب عنك كل شيء من ذوات الدنيا، وأن يموت أبناؤك وزوجتك وأحبابك وأقرباؤك ولكن لا تصاب في هذا المعلم أعني عرضك.
ولذلك يقول سيد قطب رحمه الله: إن هذه الأيام أوقفت الرسول صلى الله عليه وسلم على أعصابه شهراً كاملاً، أصيب في عرضه، وفي رسالته، وشكك في مبادئه، ما أصبح عند المنافقين إلا في مقام التهمة، إنسان مصلح يريد تجديد أمر البشرية، والخروج بها من الظلام يصاب في عرضه صلى الله عليه وسلم وفي زوجته، كيف يثبت بعدها في الساحة، ويؤدي الرسالة ويعلم الناس، ويجاهد ويفتي، وهو متهم ومرتاب في عرضه عليه الصلاة والسلام، إنها مصيبة عظيمة.
والعجيب أن من أقدار الله أن الوحي لم ينزل في تلك الفترة حتى يربي الله الأمة، ويرى المؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب، فلم ينزل الوحي شهراً كاملاً، فنزلت عائشة في بيت أبوها تمرض، وأتى عليه الصلاة والسلام لا يدري ماذا يتصرف، الوحي لم ينزل عليه، وجبريل ما فاوضه في هذه المسألة، سمع عليه الصلاة والسلام أن زوجته اتهمت في عرضها، وهو يعلم أنها صديقة خيرة، لكن ليست عنده براهين وإثباتات وحجج تنفي هذه التهمة والشائعة التي استبيحت في الناس، وفي أوساط المجتمع.
ذهبت عائشة رضي الله عنها ولم تدر، والنبي صلى الله عليه وسلم عاد إلى قريبه وابن عمه أبي الحسن أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه، الذي هو منه صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى، فقال: يا علي، ماذا ترى في أهلي؟ قال: النساء غيرها يا رسول الله كثير، كأنه يقول تزوج!! فذهب إلى أسامة فشاوره، فقال أسامة رضي الله عنه وأرضاه: يا رسول الله زوجك ما علمنا فيها إلا خيراً، فذهب صلى الله عليه وسلم إلى الجارية وشاورها، وقال لها: ماذا ترين؟ -التي كانت تخدم عائشة - فقالت: ما رأيتها إلا صائمة قائمة عابدة، إلا أنها كانت تنام فتأكل الداجن عجينها، يعني من غفلتها وبراءتها ولطفها، تأتي الشاة من طرف البيت فتأكل العجين الذي هو في الصحفة.
والرسول عليه الصلاة والسلام لَمْ يخرج إلى الآن بحل لهذه المشكلة المريبة، وتأتي عائشة فتخرج مع نساء فتخبرها امرأة أنها اتهمت، قالت: فسقطت على وجهي، وزاد مرضي مرضاً، وهمي هماً، والله ما اكتحلت بنوم، والله لقد بكيت حتى ظننت أن البكاء يخرق كبدي، أو يخالف بين أضلاعي، فدخل عليها صلى الله عليه وسلم وقال: {يا عائشة: إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفريه -إلى الآن لم يتأكد النبي عليه الصلاة والسلام أنها بريئة- وإن كنت بريئة فسيبرئك الله عز وجل} فقالت عائشة لأبيها: رد عني؟ فقال: والله ما أعلم ماذا أقول، فقالت: لأمها كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري والله ماذا أقول، فجلست عائشة وقالت: والله ما مثلي ومثلكم إلا كما قال أبو يوسف -ونسيت اسمه من الهم والحزن واسمه يعقوب وهذا في الصحيح- {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] وما برح صلى الله عليه وسلم، أو ما برح من مكانه حتى أتاه الوحي، فنام واستيقظ فإذا هو يتلو تلك الآيات {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] فبرأها الله عز وجل من فوق سبع سماوات، ورفع لها عظيم الدرجات، ومحا عنها كثيراً من السيئات؛ لأنها صبرت في عرضها واحتسبت عند الله.
وجلد صلى الله عليه وسلم بعض الذين ذهبوا بهذه الشائعة، نسأل الله السلامة والعافية.(204/15)
صور من صبر الرسول صلى الله عليه وسلم
رسولنا صلى الله عليه وسلم ابتلي على كافة الأصعدة، في صعيد المعركة ابتلي بالقتال، فصبر واحتسب، مات ابنه عليه الصلاة والسلام فلذة كبده وشجا روحه، وهو في العامين من عمره، فصبر واحتسب، يقول أنس: ذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم له ابنه إبراهيم ونفسه تقعقع، فأخذه صلى الله عليه وسلم واحتضنه وهو في سكرات الموت، وبكى عليه الصلاة والسلام وكان يقول: {إنا لله وإنا إليه راجعون: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم! لمحزونون} ما أحسن هذه الكلمات.
وابتلي عليه الصلاة والسلام بفقد بناته، فصبر واحتسب، وجلس عند قبرٍ، وأخذ ينكت الأرض ويبكي ويقول: {والذي نفسي بيده، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً}.
وابتلي عليه الصلاة والسلام في دعوته بالشائعات، فقالوا ساحر، وشاعر، وكاهن، فاحتسب ذلك عند الله عز وجل.
فمن هذا نأخذ: أن الابتلاء عجيب، وأنه أنواع، وأنه يمر بالمؤمن من حيث لا يشعر ولا يحتسب، فما عليه إلا الصبر، وقد ابتلي الصالحون سلفاً وخلفاً.
يقول ابن القيم: يا هزيل العزم -أو كلمة تشبهها- ناح في الطريق نوح، وذبح فيه يحيى، وقتل زكريا، وسجن الأئمة، وجلدت ظهور العلماء، هذا طريق الابتلاء {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].(204/16)
ابتلاء الإمام أحمد بن حنبل
سُجِنَ الإمام أحمد رحمه الله إمام أهل السنة والجماعة، وجلد بالأسواط على ماذا؟ على زهده وعبادته، على علمه بالحديث يوم حفظ ألف ألف حديث ما بين مرفوع وموقوف ومسند ومقطوع وأثر وكلام تابعي على صيامه في النهار، وإعراضه عن الحياة الدنيا، وعلى أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وعلى دعوته المشعة الفياضة، واستقامته في ذات الله، وتربيته لأجيال الأمة وتعليمهم العلم، ابتلي بلاء يرفع الله به منزلته، وجلد، ووضع في السجن، وأخرج فكان كالذهب الأحمر إذا أدخلته النار فعاد ذهباً خالصاً أحمراً {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] الدين ليس دعاوى:
والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء
يدعي أحد الناس أنه يحب الله، فإذا سمع الأذان لا يتحرك إلى المسجد، فهذا منافق إن لم يكن له عذر شرعي، ويدعي أنه يحب الله ورسوله، وأنه يوالي الله ورسوله، ولكنه إذا أصيب بمرض تسخط وأنكر القضاء والقدر، وقال كلمات لا أصل لها، فأين الإيمان وأين الصدق؟! الإيمان معناه: أن تقوم إلى الماء البارد في صلاة الفجر، وهو أحب إليك من الجلوس مع الأخيار، في السمر، أو في مناجاة الأحبة، وفي الحديث: {إذا قام العبد المؤمن وتوضأ من الماء البارد -وهذا من الابتلاء في الطاعات- وترك فراشه الوثير ولحافه الدفيء، قال الله: يا ملائكتي! انظروا لعبدي، ترك فراشه الوفير، ولحافه الدفيء، وقام إلى الماء البارد يتوضأ منه، وقام يدعوني ويتملقني، أشهدكم أني غفرت له، وأدخلته الجنة}.
وعلامة الصدق أن تثبت في صفوف المؤمنين في الصلاة، وأن تقدم إليها بشوق وحرارة، لأن المنافق قد يصلي، ولكن ليس هناك حب، ولا إخلاص، ولا انقياد، يقول جل ذكره: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] يصلون، ولكن كسالى، ويذكرون الله، ويقرءون القرآن لكن ببرود، ليس هناك صدق ولا إخلاص ولا محبة ولا اندفاع فلم ينفعهم ذلك.
الإمام أحمد سجن لأنه يقول ربي الله، فرفع الله درجته، فأصبحنا نذكره في كل مجلس، وعلى كل منبر، وفي كل منتدى، وعلى رأس كل محفل، فانظر كيف رفع الله ذكره، وأما خصومه ومن عارضه فمحق الله ذكرهم، فلا يذكرون إلا قليلاً، مثل الوزير ابن الزيات الذي دعا عليه الإمام أحمد، فجلد وعذب وأدخل في الفرم وهو حي حتى قطع تقطيعاً، هذا ابن الزيات الوزير الذي اعترض على الإمام أحمد، فسلط الله عليه ظالماً مثله، فعذبه وابتلاه وقطعه.
وأحمد بن أبي دؤاد شيخ المعتزلة المبتدع الذي هو أحمد أهل البدعة، وأحمد بن حنبل أحمد أهل السنة، دعا عليه الإمام أحمد فأصيب بالفالوج، لأن الإمام أحمد قال: اللهم عذبه في جسده، لأنه السبب في الجلد والسجن والضغوط السياسية للإمام أحمد، فقال الإمام أحمد: اللهم عذبه في جسده، فشل نصف جسده، والنصف الآخر سليم، قالوا: كيف حالك يا بن أبي دؤاد؟ قال: أما نصف جسدي هذا، فو الله لو أن ذباباً وقع عليه لكأن القيامة قامت، وأما نصف جسدي هذا، فوالله لو قطع بالمناشير قطعة قطعة ما أحسست به، لماذا؟ لأنه عارض الحق، أما الإمام أحمد فبقي مذكوراً في كتب الحديث، فهو يذكر آلاف المرات.
أحد الصالحين دخل على ابن بقية، الوزيرالظالم، فضربه على وجهه بكفه فأجلسه، فقال الصالح العابد: اللهم إنه ضربني، اللهم فاقطع يده، فابتلاه الله بظالم فقطعت يده، ولذلك يقول ابن بقية:
ليس بعد اليمين لذة عيش يا حياتي بانت يميني فبيني
ذكره ابن كثير في ترجمته.(204/17)
الابتلاء في حياة شيخ الإسلام
وممن عاش مرحلة الابتلاء في تاريخ الإسلام شيخ الإسلام المجاهد الكبير ابن تيمية رحمه الله، فإنه ابتلي في عرضه بالتهم الرخيصة التي لا مصداق لها ولا حق، وابتلي بالسجن، فدخل السجن؛ لأنه يدعو إلى لا إله إلا الله، وإلى تصحيح المعتقد، وإلى الخروج بالناس من الظلمات إلى النور، فلما أدخل السجن رد عليه الباب، فالتفت إلى البواب وهو يوصد عليه قائلاً {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] دخل على سلطان عصره، السلجوقي، فقال له السلطان: يا بن تيمية يقول الناس: إنك تريد ملكنا، فتبسم ابن تيمية تبسم المستعلي بلا إله إلا الله، الذي يريد ما عند الله والدار الآخرة، والذي ينظر إلى أن الدنيا رخيصة لا تساوي مجلس نصف ساعة في المسجد، وقال: أنا أريد ملكك؟! قال: يقولون ذلك، قال: والله الذي لا إله إلا هو ما ملكك وملك آبائك وأجدادك يساوي عندي فلساً واحداً! تظن أنني أسعى إلى ملكك، ونحن نسعى إلى تقرير لا إله إلا الله في الأرض، لتبقى حية أَبَدَ الدهر، ولذلك بقيت كتبه، وبقيت معالمه، وبقيت مدرسته حية في قلب كل مسلم، وما عرفنا اسم السلطان إلى اليوم.
رفع الله ذلك العلم، وكان وحيداً لأنه يعبد الله، وأما السلطان بموكبه وجنوده وحاشيته فأخفت ذكره، فلا نعرف اسمه وللأسف، لأن هذا الابتلاء عاشه ابن تيمية لوجه الله تعالى، واحتسب، وأنا قلت لكم إن من ثمار الابتلاء الرفعة، ولا تجد مبتلاً صبر واحتسب إلا رفع الله ذكره، وأعلى شأنه، فأصبح يذكر أبداً بالدعاء والثناء.
ومن الفوائد العظيمة للابتلاء لذة الانتصار، فإن الله عز وجل أقر عيون الصحابة بعد أن كانوا مستضعفين بالنصر، وما أحسن من الإنسان أن يجاهد ويبذل، ويعطي ثم ينتصر في آخر المرحلة.(204/18)
بلال بن رباح وعاقبة الصبر
وبلال بن رباح: أهين من الوثنيين إهانة لا يعلمها إلا الله عز وجل، والله عز وجل يعلم أن بلالاً يقول: لا إله إلا الله، ويصلي، ويريد الله والدار الآخرة، ويراه يسحب في جبال مكة، ويوضع عليه الصخر، وبلال يقول: أحد أحد، وفي قدرة الله عز وجل أن يخسف بهؤلاء الكفرة، وأن يطلق بلالاً ويفك أسره، لكن هكذا يريد الله ليجعله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مدرسة من مدارس الابتلاء.
وبعدها يأتي بلال بن رباح فينتصر إيمانه على الكفر، ويثبت يقينه على الطاغوت، ويهتدي بهدى الله عز وجل، فيصبح سيداً من السادات، فـ بلال بن رباح معروف الآن، وأما خصومه فليسوا معروفين، بلال يعرفه مسلمو الملايو والسودان والعراق، وكل صقع يذكر فيه لا إله إلا الله يعرفه المسلمون، لأنه مؤذن الإسلام:
فاستفاقت على أذان جديد ملء آذانها أذان بلال
وفي الصحيح لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أمر بلالاً أن يؤذن، فارتقى بلال على الكعبة المشرفة التي بنيت على التوحيد ليؤذن، وليغيظ به صلى الله عليه وسلم المشركين رؤساء الضلالة والطاغوت، يقول: انظروا إلى هذا العبد الذي لا يساوي في نظركم فلساً واحداً، أصبح سيداً بلا إله إلا الله، وانظروا إلى هذا المؤمن التقي المتوضئ اليوم يرتقي على الكعبة فيؤذن بلسان التوحيد لتسمعه آذان البشرية.
وانظروا إلى من سحبتموه على الصخور، وأهنتموه وضربتموه وشتمتموه، يؤذن يوم الفتح أذاناً، فتستمع الدنيا، وينصت الدهر لأذان بلال:
وقل لبلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا
فرضي الله عن بلال كيف ابتلي فصبر، فرفع الله ذكره أبد الآباد، هذا هو النصر، ولذلك يقول عمر: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، أصبح بلال سيداً من سادات هذا الدين، وأصبح واجهة وقدوة يتشرف المسلم أن ينتسب إلى مثل أمة منهم بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً: يا أيها الإخوة الفضلاء! ويا أيها الأخيار النبلاء! من أعظم الدروس التي نستفيدها: أن الأجر والمثوبة مع المشقة، ولذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود {قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك وعكاً شديداً، فقلت: يا رسول الله -بأبي أنت وأمي- إنك توعك وعكاً شديداً! قال: نعم، قلت: ذلك بأن لك أجر رجلين، قال: نعم، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم} ثم قال عليه الصلاة والسلام وهو يتحدث لـ ابن مسعود {ما من مسلم يصيبه هم أو غم أو حزن أو كرب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله به من خطاياه} وفي لفظ {إلا حط الله من خطاياه كما تحط الشجرة ورقها}
فانظر إلى الابتلاء معه الأجر والمثوبة، فاحتسب ما يصيبك في ذات الله عز وجل، من همٍّ أو غمٍّ، أو حزنٍ، أو حتى حر الشمس، فإن الشوكة إذا أصيب بها العبد فاحتسبها عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كتب له أجر ذلك.
ومنها: الرفعة، فإذا ابتليت فاعلم أن الله أراد رفعتك، وما أراد خفضك، فإنه إذا علم أنك تريده والدار الآخرة رفعك بالابتلاء.
ومنها: أنه علمك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى درساً من دروس العبودية لا ينسى؛ لأنك تذل بالابتلاء، وتتواضع لنفسك، وتتهذب أخلاقك، لأن بعض الناس جاهل ما تربى، فإذا أصيب بمرض أو أصيب بمصيبة ذل، وأسلس القيادة لله الواحد الأحد.
ومنها: أنك تتربى كذلك على الصبر، وهي المدرسة الكبرى التي أراد صلى الله عليه وسلم أن تتقرر للناس، ولذلك يقول الإمام أحمد: تدبرت الصبر في القرآن فرأيته في أكثر من تسعين موضعاً، وقال أهل العلم: من ركب الصبر أوصله إلى الرضا، وقال عمر: أدركنا خير عيشنا بالصبر، وقال بعض الصالحين: لما صبرنا نجحنا وأفلحنا.
من لا يصبر فلا حظ له، ولا حكمة ولا نهاية معه، ولا غاية منشودة يطلبها.
فعلينا يا عباد الله! أن نصبر في كل ما أصابنا، وأن نحتسب أجرنا على الله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم، من حديث صهيب رضي الله عنه وأرضاه مرفوعاً: {عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته نعماء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن}.
فاصبر على كل ما يصيبك في عرضك، فإن الأخيار وشباب الدعوة والصحوة الإسلامية الآن، أكثر ما يصابون في أعراضهم، متزمتون، متطرفون، رجعيون، مطاوعة، من هذه الألقاب والشائعات التي تلصق بهم، فعليهم أن يحتسبوا، وليعلموا أن رسولهم وقدوتهم صلى الله عليه وسلم أصيب بأشد من هذا، فقالوا عنه ساحر، وكاهن، وشاعر، ولكن صبر واحتسب، فأعلاه الله وخفض خصومه.
واصبر على كل ما يصيبك في مجال الدعوة، فإنك تجد الجفاء والإعراض، وتجد تكبر المتكبرين وشتم الشاتمين، وسب السابين، فعليك أن تحسن خلقك، وأن تصبر، فإن النصر سوف يكون معك إن شاء الله.
واصبر على كل ما يفوتك من الأحباب والأقارب، وكل ما يصيبك في جسمك من تعطيل بعض الحواس وتحتسب ذلك على الله، فنسأل الله لنا ولكم العافية، فإنا لا ندعو بالبلاء.
ولما قرأ أبو علي الفضيل بن عياض قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] قال: اللهم لا تبلونا فتفضحنا، يعني اتركنا مستورين، فإن بعض الناس يدعو بالابتلاء فإذا حصل لا يصبر، كما فعل بنو إسرائيل، كانوا يتمنون القتال فلما حضرت المعركة فشلوا، فنحن نسأل الله العفو والعافية، وفي حديث العباس أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في المسند: {ألا أحبوك يا عم} وفي رواية: {يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به، قال قل: اللهم إني أسألك العفو والعافية} وفي صحيح مسلم {أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى رجل من الأنصار، فوجده مريضاً قد ضمر جسمه، قال: مالك؟ قال: قلت: اللهم ما كنت معذبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فابتلاني الله، قال عليه الصلاة والسلام: ألا قلت أحسن من ذلك؟ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]}.
فندعو دائماً بالعافية.
وعند الترمذي: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك الصبر، قال: مالك دعوت بالبلاء، ولكن اسأل الله العافية} فنحن نسأل الله العافية وأن نكون مستورين، لأنا لا ندري علَّنا أن نبتلى فنفتضح، فنسأله أن يعافينا وإياكم من أي سوء، وأن يجعل أحسن الأقدار علينا ألطفه، وأن يرزقنا من الخير أعمه، ومن البر أتمه، ومن العيش أرغده، ومن الوقت أسعده، وأن يتولانا وإياكم في الدارين، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(204/19)
الأسئلة
.(204/20)
معنى الصبر
السؤال
ما معنى الصبر؟ وإذا حل بالإنسان أمر يكرهه وأخبر به أحداً، فهل يعتبر من غير الصابرين؟
الجواب
الصبر أثابكم الله في اللغة معناه: الحبس، ومعنى الصبر في الاصطلاح: أن تحبس نفسك على طاعة الله عز وجل، تحبسها من الشكوى من أمر وقع عليك، والشكوى على ضربين اثنين وعلى قسمين: شكوى بدون تأفف ولا تسخط، وإنما عرض ومناجاة، وطرح على الأحبة فلا بأس في ذلك، ولذلك قال الإمام البخاري في صحيحه: باب من قال وارأساه، هل هذا من الشكوى، ثم أتى بحديث عائشة أنها قالت: {ذهب صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، ثم أتى فقلت: يا رسول الله وارأساه، فقال: بل أنا وارأساه} فالرسول عليه الصلاة والسلام قال هنا وارأساه، وكذلك حديث فاطمة لما قالت: {واكرب أبتاه، قال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم} فهذا ليس معناه التسخط على القضاء والقدر، وإنما معناه التسلية والبوح عما في النفس:
ولا بد من شكوى إلى ذي قرابة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
وأما الناحية الأخرى، فهي الشكوى بمعنى التسخط، وهذا لا يجوز، بأن تعرض حالك على الناس وكأنك تشكو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على الناس، فهذا لا ينبغي:
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
وهذا من الخطأ، وهو مردود ومذموم، ولا ينبغي أن يزاول أو يفعل، بل يتقي الله العبدُ، ويشكو حزنه وبثه ومصابه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(204/21)
أدعية تدفع المصائب
السؤال
هل توجد أذكار أو أعمال يفعلها المسلم تدفع المصائب؟
الجواب
هناك بعض الأحاديث في هذا الباب، منها حديث {لا يرد القضاء إلا الدعاء} وقد صححه بعض أهل العلم، ومنها حديث: {إن الدعاء والقضاء يعتلجان أيهما يغلب الآخر} فأما الدعاء فقد يخفف من المصائب، وأحسن ما يدعو به المؤمن كما سلف: اللهم إني أسألك العفو والعافية، وربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
وهل الدعاء يرد القضاء، هذه مسألة، والصحيح أن يقال، نعم وبيانه أنه قد كتب وقدر أن العبد يدعو بهذا الدعاء، فيرد الله عنه ما كان سيحل به، فالدعاء يرده من هذا الباب، لأن الله قدر عليه القدر، وقدر عليه أنه سيدعوه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيصرف عنه هذا الأمر بالدعاء، فلا يَهْلك مع الدعاء أحداً، وأساس الفرج الدعاء، لأنا لو قلنا: إن الدعاء لا ينفع مع القضاء لأبطلنا الأسباب، فما فائدة أن يقول الطالب: اللهم نجحني في الامتحان، وقد كتب الله عليه أن يرسب، فهذا لا فائدة فيه! فنقول: لا، بل له فائدة، وعلى الطالب أن يدعو لأمرين: أولاً أنه ما علم الغيب، وما علم أن الله كتب عليه الرسوب، فلماذا يقول كتب الله علي الرسوب فلا أدعو؟!
ثانياً: لعل الله قد كتب له أن يدعو فينجحه بسبب الدعاء، يوم كتب الله عليه أن يرسب، لعله كتب: ثم يدعو فينجح، والقضية تحتاج إلى بسط أكثر من هذا.(204/22)
الابتلاء بالنعم
السؤال
هذه المصائب التي ذكرتم في نقص النعم، فما أمثالها في زيادة النعم؟
الجواب
أحسنت، هذا جانب الضراء وهو الابتلاء بالنقص والأخذ، والمرض والألم، لكن هناك مصائب يبتليها الله عز وجل، وهي من السراء كالزيادة في العطاء والنعم.
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض الناس بالنعم
فبعض النعم ابتلاء وامتحان ومزلة، ابتلى الله عز وجل كثيراً من الناس بالنعم والزيادة، فرسبوا وأخفقوا وما نجحوا، وابتلى الله بعضهم فأنعم عليهم فشكروا، وابتلي البعض بالنعم فما صبر وما شكر وما أعطى، وما أروا الله من أنفسهم خيراً كأهل سبأ {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا -ما شكروا- وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:15 - 17] فهؤلاء ما شكروا.
قارون أنعم الله عليه فما قدر النعمة وما شكر، وهذا ابتلاء بالنعمة {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:79 - 80] فابتلي بالمال، فما شكر، فكان كفراناً وجحوداً وذنباً وغضباً.
فرعون ابتلي بالمنصب أعطاه الله الملك، والواجب أن يستخدم هذا الملك في خدمة لا إله إلا الله، وفي خدمة دين الله، وفي تأييد رسله، لكن ماذا قال؟ جلس على المنبر، وقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] فلما قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] أجراها الله من فوق رأسه لما أغرقه.
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن الوليد بن المغيرة: {وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر:13 - 15] كلا، فابتلاه الله عز وجل ورداه إلى غير ذلك.
فالمقصود أن الزيادة ابتلاء، وأن النقص ابتلاء، فمنهم من يشكر ومنهم من يكفر، لكن ذكر الله عز وجل أن بعض الناس أدى وشكر، وفي السيرة أن عثمان دفع أمواله، فاستنقذ نفسه من غضب الله، وابن عوف كذلك أنفق القافلة في سبيل الله عز وجل، فأنقذه الله من النار، وكثير من الصالحين بذلوا، وأعطوا وأنفقوا الكثير، وشكر الله للسائل هذه اللفتة الطيبة.(204/23)
بقاء الصغير مع أهله العصاة
السؤال
كيف يصبر الإنسان في بيته، وبيته غارق بالمعاصي، وهو لا يستطيع الخروج من البيت؛ لأنه صغير السن؟
الجواب
هذا سؤال يتكرر كثيراً من الشباب الذين أقبلوا على الله عز وجل، وبيوتهم لا زالت تعيش الجاهلية الجهلاء، فهو بين أن يصبر في هذا المجتمع الآسن، وهذا البيت المكدر مع المعاصي والشهوات والمخالفات، وبين أن يترك البيت ويذهب، لكن من يكفله، والكافل هو الله عز وجل، لكن إلى أين؟ ما هو المكان الذي يذهب ليؤمن نفسه فيه؟ وأقول لأخي:
عليك أولاً: بالصبر على هذا المصاب، فإنها مصيبة تؤجر عليها.
والأمر الثاني: عليك بكثرة الدعاء، أن يجعل الله لك مخرجاً من هذه المصيبة، ومن هذا الكرب.
والأمر الثالث: عليك بالدعوة إلى الله بالحكمة واللين مع أهلك، وأن تحاول أن تصلح قليلاً قليلاً، وأن تصبر، وأن يكون نَفَسُك مديداً، فإذا انتهت أعمالك وأشواقك فعليك أن تتوجه إلى الله، وأن تعالج الأمر بشيء من الحكمة.
فإما أن ترى أن الهجر أنفع فتهجر بيتك ردحاً من الزمن علهم أن يتأدبوا؛ لأن هجر العصاة وارد وهو من السنة، وإذا رأيت ذلك لم ينجح ورأيت أهلك معرضين عن فرائض الله عز وجل فعليك أن تقاطعهم إذا رأيت ذلك بعد أن تصبر وتلين، وتدعو إلى الله عز جل، وسوف يجعل الله لك فرجاً ومخرجاً إذا رأى صدقك واحتسابك، ورأى منك صدق الدعاء.(204/24)
العلاج والتوكل
السؤال
هل الأخذ بالأسباب، ومعالجة المرض، ينافي الصبر على البلاء؟ وضحوا ذلك جزاكم الله خيراً؟
الجواب
المعالجة وطلب الدواء وعرض النفس على الطبيب إذا ابتلي العبد بمرض لا ينافي التوكل إن شاء الله، والرسول عليه الصلة والسلام يقول: {تداووا عباد الله! ولا تداووا بمحرم} وفي السنن من حديث أبي خزيمة أنه قال عليه الصلاة والسلام: {ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله} فطلب الدواء لا ينافي التوكل إن شاء الله.
وإنما اختلف أهل العلم في الرقية والاسترقاء على حديث ابن عباس: {لا يكتوون، ولا يتطيرون، ولا يرقون، ولا يسترقون} ولكن طلب العلاج لا ينافي إن شاء الله التوكل.
ومطلوب أن يعالج المسلم نفسه، ولكن العلاج على الصحيح رخصة، وليس بعزيمة، فلا يجب على العبد إذا مرض أن يتعالج إن شاء الله، كما قال بعض أهل العلم: وله أن يصبر حتى يموت، والأحسن أن يعرض نفسه على الطبيب، وأن يجلب الدواء.
فطلب الدواء لا ينافي التوكل، وهو من الأسباب المطلوبة إن شاء الله، والرسول صلى الله عليه وسلم احتجم، ورقاه جبريل عليه السلام لما سحر صلى الله عليه وسلم، وكثير من الصحابة رضوان الله عليهم تداووا، وهم أكثر منا توكلاً، وأشد اعتماداً على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فأخذ الأسباب لا بأس به.
وفي صحيح البخاري {أن الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة أحد، لما شج في رأسه عليه الصلاة والسلام، أتي بسعف فأحرق، وأدخل في الشج} فهذا من الأسباب التي قدمت للرسول صلى الله عليه وسلم، وعرضت عليه، فلا ينافي ذلك التوكل بإذن الله.(204/25)
هل البكاء ينافي الصبر؟
السؤال
إذا حصل للمؤمن مصيبة كموت عزيز ونحوه، ثم بكى فهل هذا البكاء وخصوصاً عند النساء ينافي الصبر، أرجو توضيح ذلك؟
الجواب
البكاء قسمان: بكاء بلا عويل، ولا نياحة، ولا تَسَخُّط ولا أيِّ من أمور الجاهلية، فهذا لا بأس به، فقد فعله صلى الله عليه وسلم، وبكاء تصاحبه نياحة وتسخط، وتذمر، وكلام، فهذا هو المنهي عنه، وهو الذي توعد صلى الله عليه وسلم صاحبه فقال: {النائحة إذا لم تتب أوقفت يوم القيامة وعليها درع من جرب، وصب عليها القطران، أو إزار من قطران} وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الحالقة والصالقة والشاقة} إذا علم ذلك فهذا الأمر مذموم.
أما البكاء المجرد عن ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم بكى، وهو وأرض الناس بحكم الله، وقال: {تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون} وعليه فالبكاء ودمع العين من الرقة، والرسول عليه الصلاة والسلام بكى في مواضع كثيرة، أكثر من عشرة مواضع، بكى يوم أغمي على سعد بن عبادة، وهذا في الصحيح، قال: {مات أخي؟ قالوا: لا، فبكى صلى الله عليه وسلم} وبكى لما حضر جنازة ابنته زينب، وقال: {لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً}.
وبكى صلى الله عليه وسلم لما مات سعد بن معاذ، وبكى عليه الصلاة والسلام ودمعت عيناه لما مات إبراهيم في مواطن يطول تعدادها.
وقد ذكر ابن تيمية في فتاويه، ونقل عن الفضيل بن عياض أنه مات ابنه علي فضحك، يعني من كثرة الصبر والرضا فـ ابن تيمية ذاك الذكي الأريب، يعالج المسألة، ويقول: حال رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل، لأنه لما توفي ابنه بكى، والفضيل ضحك، فاجتمع للرسول صلى الله عليه وسلم واردان، وارد الرضا، ووارد الرحمة، فاستطاع صلى الله عليه وسلم أن يرضى بحكم الله، فقال: {تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا} هذا الرضا، وجانب الرحمة تدمع العين، فجمع بين الرحمة وبين الرضا، وأما الفضيل بن عياض فما استطاع أن يجمع بينهما، مع الرضا الرحمة فضحك، فحال رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل، وحال من بكى في المصائب بلا تسخط، ولا هلع، ولا جزع، ولا تذمر، أكبر من حال من جفت عيناه، وقسي قلبه، لأن الناس ثلاثة في هذا الباب:
رجل لا يبكي ولا يتأثر عند المصائب أبداً، وهذا مذموم، ورجل يهلع ويتذمر وينوح ويشتم ويسب، إما رجل وإما امرأة، وهذا مذموم، والمتوسط وهو الخير، الذي تدمع عيناه، ويحزن قلبه، ويرضى بحكم الله ويسلم.(204/26)
وسائل تعين على الصبر
السؤال
ما هي السبل التي تعين الإنسان على الصبر؟
الجواب
أسلفت هذا في أول الحديث، ولا بأس من إعادة رءوس الأقلام في هذا الباب، فقد ذكرها ابن القيم في كتابه زاد المعاد، لما ذكر هديه صلى الله عليه وسلم في علاج المصائب.
الأمر الأول علاج المصيبة بالإيمان بالقضاء والقدر، وهو ركن من أركان الإيمان كما تعرفون، وهو شق من التوحيد.
والأمر الثاني: احتساب الأجر والمثوبة عند الله.
والأمر الثالث: أن تتسلى بأهل المصائب من عباد الله عز وجل.
والأمر الرابع: أن تعرف أن هذه المصيبة أهون من غيرها، إلى غير ذلك من الأمور التي ذكر، وهذه الأمور الأربعة كأنها الأمور الأساسية والجوهرية في هذا الباب.(204/27)
تمني البلاء
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يتمنى البلاء، لكي يحصل على الثواب؟
الجواب
هذا ليس بجائز، بل كما أسلفت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للعباس قل: {اللهم إني أسألك العفو والعافية} والرسول عليه الصلاة والسلام كما في مسند الإمام أحمد من حديث أبي بكر قال الراوي: {قام فينا أبو بكر، فبكى على المنبر، ووضع رأسه، ثم رفع رأسه، وقال: يا أيها الناس! قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أول، ثم وضع رأسه، ثم بكى، ثم رفع رأسه، وقال: يا أيها الناس! اسألوا الله العفو والعافية فما أوتي العبد بعد اليقين خيراً من العافية}.
فأمرنا أن نسأل الله العافية ولا نسأله البلاء، فإن من سأل الله البلاء لا يدري لعله يقع فيه ثم لا يجد مخرجاً ولا يصبر، فيقع في المحذور، ومن هذا الباب أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال، كما في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن سمرة: {يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة -لأن الإمارة ابتلاء- فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها -انظر كيف يعان عليها لأنه ما سألها، وما سأل الابتلاء- وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إلى نفسك} فمن طلبها بالمسألة وكل إلى نفسه، فالابتلاء لا يطلب لأنه إذا طلب وكل الإنسان إلى نفسه، وإذا أتى من دون سؤال أعين العبد عليه.(204/28)
كتب لا يستغني عنها طالب العلم
السؤال
أرجو منك تبيين ما هي الكتب التي لا يستغني عنها طالب العلم والتي تعينه على البحث والاطلاع، وعلى السير على الصراط المستقيم؟
الجواب
من الكتب التي أرشدكم إليها، بعد أن نتفق أنا وإياكم وكل مسلم على أن كتاب الله عز وجل عليه مدار التدبر والفهم والحفظ، وأنه المقدم دائماً وأبداً، وأنه الذي أوصى به صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، وعليه وصية السالفين واللاحقين والصالحين والصديقين.
من هذه الكتب زاد المعاد وجامع الأصول لـ ابن الأثير فإنه من أحسن الكتب التي ألفت في فن الحديث، مع رياض الصالحين للخطيب والداعية والمتكلم يحفظ نصوصه فهي من أفضل ما كتب وجمع؛ لأن صاحب الكتاب رزق الإخلاص والقبول، مع كتاب بلوغ المرام في الأحكام، فهو من أحسن ما حرر، قال ابن حجر في أوله: حررته تحريراً بالغاً، ليكون من يحفظه بين أقرانه نابغاً، مع عمدة الأحكام في الحديث.
وأما في الفقه فهناك كتب وإني أشكر لعالمكم الفاضل، وهو الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي صاحب كتاب السلسبيل، فما يحتاج إلى فضيلة أخرى مع كتاب السلسبيل، فقد أجاد كل الإجادة في تدليله على مسائل الفقه، فإنه يأتي بالحديث ويخرجه بعض الأحيان من عشرة مراجع، وبعض المرات ينقل تصحيحه من أربعة أو خمسة مصححين.
والأمر الثاني: أنه يأتي بترجيحات أو أقوال المذاهب، فيورد قول مالك كذا، وقول الشافعي كذا، وقول أحمد كذا، وتارة يأتي باختيارات ابن تيمية وابن القيم، فهو كتاب مفيد في الأحكام، مع البحر وحدث عن البحر ولا حرج، أعني نيل الأوطار للشوكاني، وبالجملة يقول الذهبي في ترجمة ابن حزم في سير أعلام النبلاء: أربعة كتب من جمعها وأمعن النظر فيها فهو العالم حقاً، المغني للحنابلة، والتمهيد لـ ابن عبد البر، وسنن البيهقي، والمحلى لـ ابن حزم، ومن زاد معها المجموع للنووي فقد أحسن، هذا في الأحكام وما الأحكام.
والرقائق سلف أن قلت منها جامع العلوم والحكم لـ ابن رجب، ورياض الصالحين والترغيب والترهيب، وكتاب الزهد للإمام أحمد، وكتاب الزهد> ابن المبارك، ومن فتح الله عليه سهل له الأمور، لكن أرشدكم إلى ذلك، وفي التفسير: تفسير ابن كثير، وفي التاريخ البداية والنهاية لـ ابن كثير أيضاً، وأوصيكم في الجملة بكتب ابن تيمية، وكتب ابن القيم، والحديث يطول في هذا ولكن إن شاء الله يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.(204/29)