القاهر الخليفة العباسي ما عرف الله
القاهر الخليفة العباسي، ذكره السيوطي والذهبي قبله وغيرهم تولى الخلافة فنسي الله، يوم تولى الخلافة نسي الله، أخذ حربة، فكان يحميها بالنار، ويقول: والله لا أضعها حتى أقتل بها رجلاً، حفر حفراً وبركاً وخزانات، وملأها ذهباً وفضةً، قالوا: ما لك؟ قال: أخشى الفقر.
سبحان الله! يخشى الفقر والغني في السماء! يخشى الفقر والرازق في السماء!! {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذريات:22] يملأ خزانات من الذهب والفضة فما كانت النتيجة؟ أتى الخليفة الذي من بعده، فسلبه الخلافة واقتاده وأخذ خزائنه وأخذ ذهبه وفضته وأحمى حديدة، فأذهب عينيه الاثنتين حتى أصبح أعمى، فقام في مسجد بغداد مسجد دار السلام جامع المنصور كما يقول السيوطي والذهبي يمد يده ويقول: من مال الله يا عباد الله! لماذا؟ لأنه ما عرف الله في الرخاء فلم يعرفه الله في الشدة.(164/19)
نماذج من التابعين وممن تبعهم ممن عرفوا الله(164/20)
عمر بن عبد العزيز عرف الله
عمر بن عبد العزيز لما أتته الوفاة وهو خليفة لم يكن يملك شيئاً، بعض المؤرخين يقول: ترك اثني عشر درهماً.
قالوا: أين المال؟ قال: إن كنتم صالحين فالله يتولى الصالحين، وإن كنتم فجرة فوالله لا أعينكم بالمال على الفجور.
قال أهل العلم: فكان أبناؤه من أغنى أبناء الخلفاء.
وأبناء سليمان بن عبد الملك لما حضرته الوفاة أعطاهم القناطير المقنطرة من الذهب والفضة فأصبحوا بعد طول العهد شحاذين يسألون الناس في المساجد؛ لماذا؟ تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
ومن هذا المنطلق -يا عباد الله- ينبغي لنا أن نقف طويلاً عند قوله صلى الله عليه وسلم: {تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة} تعرف عليه في وقت الصحة أن تصرفها في مرضاة المولى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وتعرف عليه وقت الفراغ، الفراغ القاتل، الفراغ الضائع الذي ضيع كثيراً من الشباب، لا قرآن، ولا تلاوة، ولا طلب علم، ولا استغفار، ولا جلوس مع الصالحين ولا الدعاة، وإنما ضياء في ضياع {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] ولذلك علم أن من تعرف على الله في الرخاء عرفه في الشدة.(164/21)
عبد الله بن المبارك عرف الله في الرخاء
حضرت ابن المبارك الوفاة، من الذي لا يعرف ابن المبارك؟ الزاهد، العابد، العلامة، المحدث، أمير المؤمنين في الحديث، المولى، المجاهد عبد الله بن المبارك، عبد الله الذي كان يجتمع تلاميذه يذكرون فضائله، عبد الله بن المبارك الذي أصبح فخراً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، كان يخشى الله، له خبيئة بينه وبين الله، سافر مع تلاميذه فدخلوا في حجرة في السفر فانطفأ السراج عليهم، فذهبوا يلتمسون السراج وأتوا إليه وإذا دموعه تنهمر من رأس لحيته، قالوا: ما لك؟ قال: تذكرت القبر والله في هذه الغرفة, تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
قال أهل التاريخ: خرج عبد الله بن المبارك بتجارة من خراسان وخرج بقافلة من الحجاج يريد مكة ليحج، وكل أهل خراسان على نفقته، فقد كان تاجراً ينفق أمواله في سبيل الله، فلما أصبح في الطريق عند الكوفة خرجت امرأة فوجدت غراباً ميتاً في مزبلة, فأخذت الغراب ودخلت بيتها فقال لمولاه: اذهب فاسأل المرأة ما لها أخذت الغراب؟ فسألها فقالت: والله مالنا طعام منذ ثلاثة أيام إلا ما يلقى في هذه المزبلة.
فدمعت عيناه وقال: نأكل الفالوذج وهم يأكلون الغربان الميتة، اصرفوا القافلة جميعاً في أهل هذه المدينة، مدينة الكوفة، وعودوا فلا حج لنا هذه السنة.
وعاد إلى خراسان.
وذكروا عنه أنه رأى في المنام رجلاً يقول له: حج مبرور وسعي مشكور وذنب مغفور.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
حضرت الوفاة ابن المبارك وهو في سكرات الموت يتبسم، من يتبسم في سكرات الموت؟ الذي يعرف الله في الرخاء ليعرفه في الشدة، من يسر في سكرات الموت وضيق الموت؟ الذي عرف الله في الرخاء ليعرفه في الشدة، يبتسم ويقول: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] وذهب إلى الله سعيداً؛ لأنه عرف الله في الرخاء فعرفه في الشدة.(164/22)
الوزير ابن هبيرة
ومما أذكر في هذا الجانب مثلما ذكر ابن رجب في طبقات الحنابلة: الوزير ابن هبيرة الوزير الحنبلي العظيم، ابن هبيرة الحنبلي العالم العابد، كان وزيراً، دخل عليه رجل فأتى هذا الرجل إلى ابن هبيرة , فأعطاه مالاً جزيلاً ومسح على رأسه فقال الناس لـ ابن هبيرة: ما لك مسحت على رأسه؟ قال: عفوت عنه, قالوا: كيف عفوت عنه؟ قال: لما دخل علي عرفني ولم أعرفه، هذا الرجل ضربني ونحن شباب في رأسي، فأذهب عيني، فلا أبصر بها منذ أربعين سنة، فلما دخل علي عفوت عنه.
يقول أهل العلم: حج ابن هبيرة فلما أصبح في منى وحجه هو والناس على نفقته وعلى ماله, قحط الناس وأجدب الناس وأشرفوا على الهلاك؛ لأنهم ما عندهم ماء، فصلى ركعتين ودعا الله فأتت غمامة بإذن الله فنزلت وهلت وأمطرت حتى شربوا الثلج ذاك اليوم.
فيقول وهو يبكي: يا ليتني سألت الله المغفرة تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة.(164/23)
نداء إلى كل مسلم ومسلمة
يا عباد الله! يا مسلمون! يا صائمون! يا مصلون! يا أبناء الذين تعرفوا على الله في الرخاء فعرفهم في الشدة: أما آن لنا أن نعرف الله ليعرفنا؟ إنها وصية المصطفى عليه الصلاة والسلام، وإنه درسٌ خالدٌ نوجهه لأنفسنا ثم لإخواننا من كل مسلم ومسلمة علّهم أن يرعوا حدود الله، علّهم أن يحترموا حرمات الله، علّهم أن يعظموا شعائر الله، فالله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين.
إذاً وصيته عليه الصلاة والسلام بل من أعظم وصاياه: (تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة) والله لقد أدرك أهل المال أن لا لذة لهم ولا سعادة إلا بتقوى الله، والله لقد سكنوا القصور وعمروا الدور واصطحبوا السيارات الفاخرة وتقلدوا المناصب لكن لما ضيعوا الله ضاعوا والله, {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] ألا إنها وصيته عليه الصلاة والسلام، ألا إنها دعوته عليه الصلاة والسلام: (تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة) ويا شباب الإسلام ويا حملة كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نعيش رخاء والله، رخاء يمثل في الأمن والاستقرار وبرد العيش، ويمثل في السكينة، ويمثل فيما كل ما سألنا وما طلبنا من الله أجابنا سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فنعوذ بالله أن نغير نعمة الله كفراً، وأن نتنكر لمعروف الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28] ألم تروا إلى الذين هجروا بيوت الله وهجروا كتاب الله، وهجروا شعائر الله، وأخذوا ما يغضب الله ويسخطه؟ ألم تروا ما فعلوا بأنفسهم؟ ألم تروا كيف يلعبون بالنار؟ وكيف يسعون إلى الدمار؟ وكيف لا يخشون الواحد القهار؟ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28] {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] سكنوا وارتاحوا وأكلوا وشربوا لكن انتهكوا المحرمات وأكثروا من السيئات فغضب عليهم رب الأرض والسماوات فأخذهم أخذ عزيز مقتدر {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
أسأل الله لي ولكم حفظاً وهدايةً وسداداً، اللهم اجعلنا من المقبولين الذين رضيت عنهم ورضوا عنك، اللهم بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مظلة، برحمتك يا أرحم الراحمين!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(164/24)
الأسئلة(164/25)
شاب يعود إلى المعاصي بعد رمضان
السؤال
أنا شاب مسرف على نفسي بالمعاصي، ولكن إذا دخل رمضان قلَّت هذه المعاصي، وما إن يخرج رمضان إلا وأعود إلى ما كنت عليه، وإني في هذا الشهر أحس بذلك، فما تنصحني أن أفعل في هذا الشهر وفي غيره؟
الجواب
الحمد لله، هذا الأخ السائل يظهر عليه الخير من سؤاله، أثابه الله وأجزل مثوبته، أما بالنسبة لحالته فهذه تسمى الفترة بعد الشرة، أو تسمى الإقبال والإدبار، ولا يسلم منها أحد، وقد صح عن بعض السلف أنه قال: إن للنفوس إقبالاً ولها إدباراً، فاغتنموها عند إقبالها وذروها عند إدبارها.
وبعض السلف يقول: إذا أقبلت أنفسكم فأكثروا من النوافل، وإذا أدبرت فألزموها الفرائض، فوصيتي لأخي أن يلزم نفسه إذا أدبرت وكلت وملت بالفرائض، فلا يخدش باب الفرائض، ولا يسيء بأي إساءة إلى الفرائض، ولتبق الفرائض آخر خط دفاع له، وإذا أقبلت نفسه أن يتزود بالنوافل وأن يكثر من الذكر وتلاوة القرآن.
وللفتور أسباب: منها توالي المعاصي
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
فالمعاصي على المعاصي {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13].
الأمر الثاني: رفقة السوء؛ وما أدراك ما عصابة السوء! عصابة تجمعت للصد عن سبيل الله، وللوقوف في طرق رسول الله وأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، عصابة وشلة أخرجت الناس من المساجد إلى السجون، وأخرجتهم من الصلوات والذكر والتلاوة إلى المخدرات والسيئات والفواحش والمنكرات، عصابة حببت المجلة الخليعة وجعلتها مكان القرآن، عصابة أتت بشباب الإسلام لتسمعهم الأغنية بدلاً من سماع التلاوة (السماع الشرعي) فوصيتي لأخي أن يتقي الله، وأن يصدق النية {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وأن يواصل الطاعة بالطاعة، وأن يزور الأخيار ويجتنب الأشرار وأن يتدبر القرآن، وأن يزور المقابر ويذكر الموت، نسأل الله أن يحفظنا وإياه من كل سوء.(164/26)
المجاهدون الأفغان يعيشون أصعب المواقف
السؤال
الإخوان الأفغان اليوم يعيشون في أصعب المواقف حيث إن كثيراً من المسلمين يعتقد أنه قد انتهى دوره في نصرة هذا الجهاد بعد هذا التقسيم وهذا الانتصار، فما تعليقكم وما توجيهكم لهؤلاء الإخوة الذين نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياهم؟
الجواب
الإخوان المجاهدون الأفغان قوم رفعوا رأس العالم الإسلامي، قوم أمجاد أعزة، قوم علموا المستعمر والأجنبي الذلة، وعلموه أن النصر لهذا الدين, وأن المستقبل لهذا الدين، قوم نقف معهم مسلِّمين، ونقف معهم معجبين، ونقف معهم داعين لهم بالنصر والثبات.
الجهاد الأفغاني لم ينته بعد، هو في أتون شدته وعنفوان اضطرامه، هم الآن يعيشون في جبهات وعلى ثغور، هم في رباط الله أعلم به؛ ولذلك ينبغي علينا في هذه الليالي أن نكثر من الدعاء لهم؛ لأنهم يضربون من الجو ومن الأرض، وهم يعيشون في معركة من أعتى المعارك، فنسأل الله أن ينصرهم وأن يثبت أقدامهم، وأن ينزل السكينة عليهم، وأن يوفقهم بنصر من عنده إنه على كل شيء قدير.
وإخواننا في بلاد الأفغان لا يزالون يواصلون الزحف المقدس الذي رايته: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وبالمناسبة لابد أن نكون شاكرين لأهل الفضل، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، والذي يجحد المعروف لا خير فيه، فنشكر ولاة الأمور في هذه البلاد على أن اعترفوا بحكومتهم وهم أول دولة في العالم اعترفت بحكومة المجاهدين، وهذا أمر يثلج الصدر ويبشر بالخير، فشكر الله لهم اعترافهم، وبارك الله في قرارهم، وزادهم ثباتاً ونصرةً لهذا الدين، ونصرهم الله بالإسلام ونصر الإسلام بهم.
ثم إن الإخوة المجاهدين يحتاجون إلى تبرعات، وإلى مد يد العون، وإمام هذا المسجد يتلقى التبرعات من المحسنين والمخلصين ومن المنفقين في سبيل الله، وفي هذا التبرع الذي يقدم للمجاهدين شيء وقسط منه للفقراء والمساكين، فحيهلاً بالهمم وبالأيادي البيضاء وبالعطايا وبالإنفاق في سبيل الله، وهذا شهر الصدقة، وهذا شهر البذل والعطاء، فأنفقوا ينفق عليكم، وأعطوا يخلف عليكم، وتوكلوا على الله: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].
الله أعطاك فابذل من عطيته فالمال عارية والعمر رحال
المال كالماء إن تحبس سواقيه يأسن وإن يجر يعذب منه سلسال
ومنها الزكاة تصرف إليهم كما أفتى بذلك علماؤنا.(164/27)
الوقت عمرك فافعل به ما تشاء
السؤال
إنني أشعر بالفراغ وخاصة في رمضان خاصة بعد صلاة التراويح، فما هو الطريق لاستغلال هذا الوقت، بارك الله فيكم؟
الجواب
أما الفراغ الذي يعيشه كثير من الشباب في رمضان وغير رمضان فهذه مأساة عامة، مأساة عامة في العالم الإسلامي إلا من رحم ربك، شباب مستقيم ومتجه، نحن لا نتكلم عن الضائع، الضائع المفلوت من الصلاة المفلوت من القرآن المفلوت من السنة هذا لا يتكلم فيه
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
لكن نتكلم عن شباب الصحوة، المقبلين على الله والتائبين إلى الله أين تصرف أوقاتهم؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] فوصيتي لإخواني أن يستثمروا أوقاتهم، الدقائق محسوبة، صح في الحديث: {لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه}:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني
يا إخوتي في الله: كم سلبت منا الساعات؟ كم ضاعت منا الأوقات؟! كم أكثرنا من المخالفات والسيئات؟! فهل آن لنا العودة في استثمار الأوقات؟! ظواهر: كثرة الزيارة بين الشباب على غير جدول عمل وعلى غير تلاوة وعلى غير طاعة، أزورك وتزورني، وأحبك وتحبني، وأتعشى عندك وتتعشى عندي، لكن حديثنا في مجريات الحياة وأخبار ونكت ومزاح لا تحصيل، هذه لا تبشر بخير.
الأمر الثاني: نوم طويل؛ بعض الناس جعل نهار رمضان نوماً، فهو يرى أنه يرى في المنام أنه صائم، يرى في المنام أنه يرى سبع بقرات سمان وأخرى عجافاً، ويرى أنه صائم، ثم يستيقظ وقت الغروب لا أحس بالجوع ولا أحس بالظمأ ولا تدبر القرآن ولا ذكر الله، فهل سمعتم بإنسان يصوم وهو نائم؟! وسهر في ظلام الليل، من صلاة التراويح إلى السحر، إما كرة ودائماً كرة كرة، أو رحلة ونزهة لا طائل من ورائها، أو جلسة لا يحمد ما يدار فيها، فوصيتي لإخواني أن يعتبروا كل ثانية تصرف من أوقاتهم، فهي عمرك فافعل به ما شئت.(164/28)
فضل الدعاء في السحر
السؤال
يمر بالفرد المسلم وبالمسلمين عامة أزمات وتحديات من قبل أعداء الإسلام، فأرجو من فضيلة الشيخ الإرشاد والتوجيه لاستخدام سلاح الليل وهو الدعاء في السحر لمواجهة هذه الشدائد، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
نعم.
السهام التي تسري في ظلام الليل هو دعاء السحر، سئل علي بن أبي طالب فيما يروى عنه [[كم بين العرش والأرض؟ قال: دعوة مستجابة]] وصح في الحديث {أن الله عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟}
قلت لليل هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار
قال لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار
دعاء الثلث الأخير من الليل، دعاء السحر، في السجود، في أدبار الصلوات سلاح للمسلم، إذا فاته الدعاء فاته خير كثير {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] فيا إخوتي في الله, الله الله في الدعاء، وورد في الحديث {لن يهلك مع الدعاء أحد} وقال عمر: [[إني لا أحمل هم الإجابة إنما أحمل هم الدعاء]].
وعند الترمذي من حديث سلمان أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً} اللهم فوفقنا واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات والنور وانصرنا على من ظلمنا وعلى من بغى علينا، ومن أرادنا بسوء ومن أراد الإسلام بسوء فأشغله بنفسه واجعل تدبيره في تدميره إنك على كل شيء قدير.(164/29)
شكر نعمة الرخاء في العيش
السؤال
كثير من الشباب وأخص منهم الطيبين يعيشون في رخاء عظيم، ولكن نلاحظ أنهم يفرطون فيه بالتشاغل بأمور هامشية، وكثرة المخالطة وجلسات السمر، نرجو من فضيلة الشيخ التوجيه لاستغلال هذا الرخاء، ومجالات الاستغلال المفيدة.
الجواب
سبق في الحديث عن الوقت ما يغني عن الكثير من الإجابة عن هذا السؤال، وأما الرخاء الذي نعيش فيه فنحمد الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] جيراننا من الدول والشعوب ينامون على أصوات المدافع، ويستيقظون على هدير الصواريخ، القنابل تقع على بيوتهم، حطمت منازلهم، قتل شيوخهم، أعدم أطفالهم، أجهضت نساؤهم، ذاقوا الجفاف، ذاقوا الفيضانات، ذاقوا الجوع، ونحن في أمن وسكينة تجبى إلينا ثمرات كل شيء، والطيبات تأتينا من كل مكان، فهل من شاكر؟ وهل من مستغفر؟ إن استدامة النعم إنما تكون بتقوى الله {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53] فهل من شكر؟ وهل من عبادة؟ وهل من استلهام لهذا الرشد؟ فمحافظة على هذا الرخاء والنعيم بالعودة إلى الله واستثمار الوقت.
والملاحظ على كثير من الشباب إشغال أنفسهم بأمور هامشية ومجريات الحياة، أو مشاغل لا تنفعهم عند الله، والإعراض عن طلب العلم أو تدبر القرآن أو النوافل فعودة صادقة إلى الدين، ومن تبصر بنور الكتاب والسنة بصره الله.(164/30)
الأسواق وخروج المرأة إليها
السؤال
ما هو الواجب على المرأة من ناحية خروجها إلى السوق، وكما تعلمون فالأسواق في هذه الأوقات مليئة بالشباب والمعاكسين، أرشدونا وفقكم الله؟
الجواب
الأسواق مجامع يجتمع فيها لغير طائل أهل الريبة الذين ليس لهم غرض, أهل الريبة وسوء الأخلاق ومن في قلوبهم شك ونفاق، وأصبحت الأسواق ظاهرة من ظواهر التفسخ والتبرج وقلة المروءة والحياء، والتطاول على تعاليم هذا الدين، وأصبحت كثير من الأسواق فرصةً لدعاة الشيطان ودعاة السوء في أن يمزجوا بين الصنفين الرجال والنساء، وهناك نساء قل الإيمان ووازع الإيمان في قلوبهن وقل أثر القرآن والتربية الإسلامية فجعلت من السوق متفسخاً لها، تفسخ جلبابها وحياءها وستر الله عنها، فنحن نسائلها من هذا المكان أن تتقي الله، وألا تخلو مع أجنبي، فإن الخلوة معه معصية ومحرم.
وأشير إلى ناحية أنه وجد من بعض النساء أنها تذهب مع السائق ولو كانت صالحة وعابدة، ولو كانت تذهب إلى المسجد، ولو كانت تذهب لصلاة التراويح فيستقل بها السائق الأجنبي وتظن لأنه سائق أنه لا يتحرك فيه شيء.
ما دام رجلاً، فعنده ما عند الرجال وهو أجنبي، هل إذا كان سائقاً يحل منه ما يحرم من غيره؟! لا والله، فخلوتها معه في السيارة لا تجوز، وهو محرم عليها، ويمكن أن الإثم الذي حصل لها من خلوتها مع السائق إلى المسجد, أعظم من الأجر الذي قد يحصل لها من صلاة التراويح والتباكي مع الإمام، لا.
عليها أن تنتبه لنفسها! وأن تتقي الله في عرضها، وفي دينها وفي رسالتها.(164/31)
المعاصي ونسيان العلم
السؤال
عندما سئلت في أحد المحاضرات عن طريقة حفظ كتاب الله وكتب السنة قلت: إن كان يرتكب المعاصي فتجده ينسى دائماً وأبداً،
و
السؤال
ما هي الطريقة التي على المرء اتباعها لكي تبقى هذه الكتب وخاصة كتاب الله عالقة في الذهن، علماً أنني أحس أنني لا أرتكب المعاصي؟
الجواب
في هذا السؤال مسألتان، وأبدأ بالمسألة الأخيرة التي أعتبرها الأولى بالنسبة لي:
المسألة الأولى: وهي أن السائل كأنه يزكي نفسه، يقول: أنه لا يرتكب المعاصي أو أنه ليس عنده شيء من المعاصي فيما يعلم، وهذه تزكية والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور:21] كلنا مخطئون، وأبونا آدم سن لنا الخطيئة فقلدناه، وتاب فينبغي أن نقلده في التوبة، ومن شابه أباه فما ظلم، فعليك أن تعرف أن عندك ذنوب، وأنك ما طهرت ولا طهرنا من الذنوب والخطايا {كلكم خطاء وخير الخطائين التوابون} ولو من الصغائر.
الأمر الثاني: نعم ذكرت أن من أسباب النسيان المعاصي لكتاب الله ولغيره من العلم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13] والحظ الذي ذكروا به قالوا هو العلم، وفي بعض الآثار: [[إن العبد ينسى الباب من العلم بالذنب يصيبه]] ونظر بعض الناس إلى امرأة لا تحل له، قال له أحد الصالحين: تنظر إلى الحرام؟ والله لتجدن غبها وعقوبتها ولو بعد حين قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
شكا الشافعي إلى وكيع سوء حفظه، عله أن يجد مأكولاً يقوي حفظه وقد روي عن الزهري أنه قال: جربت المأكولات فما وجدت كالزبيب للحفظ.
فأتى الشافعي إلى وكيع بن الجراح الرؤاسي فسأله ما هو دواء سوء الحفظ؟ قال: ترك المعاصي.
لا أكل الزبيب ولا البطاطس ولا البقدونس، إنما تقوى الله واجتناب المعاصي، فيقول في بيتين:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يؤتى لعاصي
وبعض الناس تجده ولياً عابداً خاشعاً زاهداً تالياً لكتاب الله لا يعرف كثيراً من المعاصي لكن لا يحفظ آية، ربما ينسى اسمه الثلاثي، يتحفظه في الصباح وينساه مع الظهر، فما الحل؟ نقول: هذه جبلة، فإن بعض الناس فيه جبلة عجيبة، ينسى كل شيء، حتى يروى عن بعضهم أنه: طلب العلم ما يقارب عشر سنوات، فأخذ سطرين يكررها من صلاة العشاء إلى قرب الفجر ثم نام، فاستيقظ في الصباح وقال للجارية: أتذكرين السطرين الذين كنت أكرر في البارحة؟ قالت: هي كيت وكيت.
قال: ألهمك الله الشهادة ذكرتني العلم.
فبعض الناس، قد لا يحفظ الفاتحة وهو وراء الإمام أربعين سنة؛ والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يقسم الذكاء ويقسم العي، وهذا لا يعني أنه باخس الحظ مع الله, بل قد يكون من الأولياء الكبار.
ابن الراوندي الملحد الذي سماه الذهبي الكلب المعفر, كان من أذكياء الناس، قال: كان ذكياً ولم يكن زكياً؛ كلب معفر، هاجم الإسلام، هاجم السنة، ملحد، زنديق، وقف على نهر دجلة عنده كسرة خبز يأكلها وهو فيلسوف، وكم حسب علينا من فلاسفة! ابن سيناء، والفارابي، وابن الريوندي حسبوا علينا ونحن منهم براء، وهم منا براء.
وقف ابن الراوندي يأكل كسرة خبز، فمر مولى من الموالي معه خيول ومعه تاج ومعه ذهب ومعه أموال، فالتفت إلى السماء وقال: أنا الفيلسوف الذكي تعطيني كسرة وتعطي الخادم هذه الخيول! هذه قسمة ضيزى! ثم رمى الكسرة في النهر.
ولذلك سخط الله عز وجل عليه.
ولما مدحه ابن خلكان قال ابن كثير: ترجم له ابن خلكان ومدحه؛ لأنه شاعر وذكي، وكأن الكلب ما أكل له عجيناً!
ومن الأذكياء أيضاً أبو العلاء المعري كان من أذكياء الناس، لكنه زنديق فيما يؤثر عنه إلا أن يكون تاب، وتجد بعض الصالحين لا يحفظون كثيراً من الحديث، إذاً -يا أخي- ليست العبرة بالحفظ، حتى يقول الذهبي في ترجمة ابن الرواندي: فحيا الله البلادة بالتقوى! ولعن الله الذكاء بالزندقة!(164/32)
الشعراء والهجاء بين القبائل
السؤال
بعض القبائل تحضر في الحفلات والمناسبات بعض الشعراء الشعبيين، ثم تكون فيها محاورات بين شاعر وآخر، ويكتنف هذه الأشعار إظهار عيوب قبيلة الشاعر الآخر، ويدفع من الأموال الطائلة ما يدفع، وقد يكلف إحضار هؤلاء الشعراء الألوف الكثيرة، فما حكم هذه المبالغ التي تصرف؟ وما حكم الوقت الذي يصرف في هذه المحاورة علماً أنها تستمر إلى طلوع الفجر؟
الجواب
ما ذكره السائل من هذه المشاهد والظواهر موجود في كثير من المجتمعات، وهناك قبائل كأنهم يعيشون بمعزل عن العالم، كأنهم في أرض والناس في أرض، يأتي شاعرهم فيمدح قبيلته، وكأنها هي التي انتصرت في بدر واليرموك , ورفعت راية لا إله إلا الله في القادسية، وقدمت الشهداء، وإذا رجعت إلى تاريخ هذه القبيلة تجده لا يساوي ريالين أو قرشين، ما عندهم شيء سوى الأكل والشرب وتزوجوا ودخل فلان على فلان فزاره في بيته وأكرمه وذبح له ناقة، ونحن فعلنا وصبحنا القبيلة وذبحناها! مسلمون يذبحون مسلمين! ويتهتكون في أعراض المسلمين، هؤلاء مثلهم كما قال ابن تيمية: كصوفي أعمى يقرأ وهو أعمى القلب والبصر ومن غلاة الصوفية، ويقرأ في سورة النحل: فخر عليهم السقف من تحتهم.
قال ابن تيمية: لا عقل ولا قرآن! لأن السقف دائماً يأتي من فوق، هل سمعتم بسقف أسفل؟! لو لم يكن معك قرآن فعلى الأقل معك عقل تعرف أن السقف دائماً فوق فقال ابن تيمية: لا عقل ولا قرآن، فبعض القبائل لا عقل ولا قرآن، لا دين ولا رسالة في الحياة، ولا تواصي بالمعروف.
وواجب الدعاة أن يفهموا هؤلاء وأن يعايشوهم وأن يوصلوا كلمة النور والهداية إليهم.
أما اجتماعهم ففيه محاذير: المحذور الأول: يوجد في بعض القبائل -وأعرف ذلك علم اليقين- اختلاط بين الرجال والنساء، يقف مجموعة -خاصة في البوادي- من النساء ينظرن إلى الرجال، والرجال ينظرون إلى النساء، بل من العجيب أنه وجد في بعض النواحي أن يأتي صف من الرجال وصف من النساء هذا لا يوجد إلا في موسكو أو في باريس.
والمحذور الثاني: شعراء ضلالة، يدعون إلى أبواب النار، يمدح هذه القبيلة ويقترف إثماً وزوراً وبهتاناً في عرض قبيلة أخرى، فيصفهم بالبخل وبالجبن وبالخيانة وبالغدر وبالكذب.
والمحذور الثالث: مبالغ تصرف في غير طائل؛ رياءً وسمعةً وبذخاً، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:47] لو صرفت هذه الأموال في تحفيظ القرآن أو في بناء مساجد أو في شراء كتب وأشرطة إسلامية للمسلمين لكانت عند الله شيئاً كثيراً.
فهذه ثلاثة محاذير أنبه عليها وهي محرمة.(164/33)
السنة في تطبيق السنة
السؤال
ما هي الطريقة في تطبيق السنة؟
الجواب
السنة في تطبيق السنة، أن يكون التطبيق وفق سنة الله، بين الإفراط والتفريط، بين الجفاة والغلاة، وسنة الله وسط كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] والسنن -يا إخوتي في الله- لابد أن تعطى حقها، فإن الناس انقسموا إلى ثلاثة أقسام: قسم أتى إلى مثل هذه السنن مثل اللحى وتقصير الثياب والسواك والأكل باليمين والشرب باليمين وتقديم الرجل اليمنى عند دخول المسجد، واليسرى عند دخول الخلاء وقالوا: هذه قشور، والإسلام دين لباب.
فيذهب بالقشور وبالقشور حتى ما يبقي سنة واحدة في الإسلام.
تقول له: قيام الليل، فيقول: المسألة ليست مسألة قيام الليل، تقول له: طلب العلم فيقول: المسألة ليست مسألة طلب العلم، المسألة مسألة دين.
فما هو الدين؟ فيقول: هذه السنن قشور، ونحن ندعو إلى الأصول، وعلينا أن نعرف الناس بهذا.
فيقللون من شأنها حتى سمعت من بعض الدعاة أنه سمع داعية يقول: ينبغي على بعض الدعاة أن يحلقوا لحاهم حتى لا يشعروا الناس بالتزمت ولا بالتشدد وليقبلهم المجتمع.
سبحان الله! هذا مثل اليهود حرم الله عليهم شحوم الحيوانات فجملوه وباعوه وأذابوه وأكلوا ثمنه، وهذا خطأ فاحش فلا يدعى إلى الله بمعصية.
وقوم تشددوا في هذا الجانب، فرأوا أن الإسلام هو هذا الثوب، وهذه اللحية، حتى سمعت أن بعض الناس مر به خواجة فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، انظر إلى العاصي، عاصي جددته حلق لحيته!
خواجة لا يعرف لا إله إلا الله ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ثم ينكر عليه حلق لحيته!
وتجد بعض الدعاة يتكلم قبل الظهر وبعد الظهر وفي المناسبات وفي المجالس عن تقصير الثياب، وربما الذين يتكلم فيهم زنادقة، أو فيهم نفاق، أو لا يصلون، أو لا يصومون، أو يرتكبون من الفواحش مثل الجبال وتوسط قوم ممن هدى الله {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213] فقالوا: هذه السنن أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم، لا ننكرها ولا نجحدها ولا نقول: قشور، لكن نعطيها حجمها، فالذي أتى باللحية هو الذي أتى بلا إله إلا الله، والذي أتى بتقصير الثوب هو الذي أتى بالإيمان بالله واليوم الآخر، فعلينا أن نعطيها حجمها، لكن لا نغلو ولا نلغي، لا نغلو فيها ولا نلغيها، وهذا الدين الوسط {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143].(164/34)
حكم من يعمل في قطاع الموسيقى العسكرية
السؤال
إنني عسكري في قطاع الموسيقى العسكرية، أرجو إفادتي هل الذي أستلمه حلال أم حرام؟ جزاكم الله خيراً!
الجواب
هذا السؤال ينبغي أن يتأمل فيه كثيراً وأن يحال على هيئة كبار العلماء ليجيبوا عنه؛ لأن وراءه مجريات وأسباب ونتائج عن الموسيقى وعن حكمها وعما يستدر منها، والذي أعلم أن الموسيقى محرمة، وأنها لم تكن عند السلف الصالح، وأنها من المعازف المحرمة، أما دخله فعليه أن يحيل المسألة على الشيخ عبد العزيز بن باز؛ لأنه أعرف وأفهم، لأن هذا السؤال ينبغي أن يكون شفهياً ولا يحتاج إلى كتابة.
في نهاية هذه المحاضرة نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما نقول، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(164/35)
عقيدتنا
إن مما يثبت المسلم على دينه أن يكون لديه عقيدة صحيحة يدفع بها الشبهات والشهوات التي تعترضه، وقد ضلت كثير من الفرق في هذه العقيدة المأخوذة من الكتاب والسنة، فليحذر المسلم منها، وقد اختصر الشيخ عقيدة أهل السنة والجماعة في سبع وعشرين مسألة مبسطة سهلة الفهم لطالب العلم بل والعامي.(165/1)
حقيقة الإيمان
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وحجة الله على الهالكين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسعد الله ليلكم باليمن والمسرات.
أما بعد:
فإن معنا في هذه الليلة درس بعنوان (عقيدتنا) وهذا اقتراح من بعض الإخوة، لما رأى من الحاجة في بعض النواحي، واقترح هذا الأخ الكريم أن تبسط العقيدة الإسلامية، عقيدة السلف الصالح، بسطاً يسيراً مسهلاً يفهمها الناس في القرى والبوادي، وكثير من الأماكن.
وهذه العقيدة أسأل الله عز وجل أن تكون صائبة وموفقة، وأن يعيننا وإياكم على العمل بها، واعتقادها حتى نلقى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وقد حرصت كل الحرص أن تكون مدللة بالكتاب والسنة، وبما قاله سلف الأمة، فإن أصبت فمن الله وحده سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان والله ورسوله بريئان من الخطأ.
عقيدتنا هي عقيدة أهل السنة والجماعة التي أتى بها محمد عليه الصلاة والسلام، والتي ذكرها الله في كتابه، وقد جعلت هذه العقيدة في سبع وعشرين مسألة:(165/2)
الأدلة على زيادة الإيمان
المسألة الأولى: الإيمان قول وعمل.
نقول: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والدليل على ذلك قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] فدل ذلك على أن الإيمان يزيد وينقص، فيزيد بالطاعة ويتعاظم، حتى يكون كأمثال الجبال الرواسي، ويقل حتى يكون في القلب كأمثال الهباء أو الذرة، يزيد بطاعة الله، بالإخلاص في القلب، وبالتواضع لله، وبالحب لله ولرسوله، ويزيد بالأعمال الظاهرة، وبكثرة النوافل، وبالجهاد، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالصدقة، ووالله الذي لا إله إلا هو لا نجعل إيمان أبي بكر كإيمان الواحد منا، كما قالت المرجئة، وقد أخطأت خطأً بيناً، حيث جعلوا الإيمان تصديقاً فحسب، قالوا: من صدق واعتقد بقلبه فكفى، ولا يزيد الإيمان ولا ينقص، وقد أخطئوا خطأً بيناً، بل يزيد وينقص، وإيمان الواحد منا ليس كإيمان جبريل عليه السلام.(165/3)
الإيمان قول باللسان
أما قولنا الإيمان قول: فأول ما يدخل المؤمن في هذه الدين بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله} وليس بصحيح ما قالت المناطقة: أن يبدأ بالنظر والاستدلال قبل الشهادة، بل طالب عليه الصلاة والسلام الناس كافة عرباً وعجماً ورجالاً ونساء بقول: لا إله إلا الله، ولم يقل لهم قبل ذلك: انظروا واستدلوا، بل يأتي النظر والاستدلال قبل وبعد ومع لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ومما يقوي الإيمان النظر في آيات الله الكونية والشرعية بالتدبر، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191] ويقول تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20].(165/4)
الإيمان عمل
وقولنا عمل: أي: أن العمل يدخل في الإيمان، ولا يخرج كما قالت المرجئة، ومن قال: أحب الله بقلبي ولا أصلي في المسجد كذبناه، ومن قال أحب الله بقلبي ولا يصلي ولا يزكي ولا يحج كذبناه، {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].
وقولنا اعتقاد: أي: من اعتقد ولم يشهد ولم ينطق بالشهادة وهو مستطيع فهذا كاذب، ومن اعتقد ونطق ولم يعمل فهذا كاذب، ومن نطق وعمل ولم يعتقد فهذا منافق، والمؤمن يعتقد وينطق ويعمل فهذا هو الإيمان الصحيح الذي نسأل الله أن يتوفانا وإياكم عليه.(165/5)
حكم مرتكب الكبيرة
المسألة الثانية: أن صاحب الكبيرة تحت مشيئة الواحد الأحد.
تحت مشيئة أرحم الراحمين، إن شاء عذبه وإن شاء رحمه، ولكن من يعمل كبيرة ولا يستحلها نخاف عليه العذاب، ومن استحل الكبائر فقد كفر، لكن من شرب الخمر، أو سرق، أو زنى وهو مسلم ولم يستحل ذلك، قلنا: هو تحت مشيئة الله.(165/6)
مرتكب الكبيرة عند الخوارج والمعتزلة
لا نقول كما قالت المعتزلة: هو في منزلة بين منزلتين، يقولون: ليس بمسلم وليس بكافر، وقد أخطئوا، ويخلدونه في النار.
وقالت الخوارج: من ارتكب كبيرة فهو كافر خالد مخلد في النار، وقد كذبوا.
ونحن نقول: لا يزال مسلماً.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن} فالمعنى أنه مسلم، لكن يرتفع الإيمان عنه، كما قال عطاء وغيره، فهو في حالة مزاولته الزنا، يرتفع عنه الإيمان حتى يصبح كالظلة فوق رأسه، لكنه ما خرج من دائرة الإسلام، فالإسلام دائرة واسعة، وداخلها دائرة الإيمان، وداخل دائرة الإيمان دائرة الإحسان، فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمن، وليس كل مؤمن محسن فليعلم ذلك.(165/7)
الرد على الخوارج والمعتزلة
والدليل على أن صاحب الكبيرة لا يكفر، قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
والدليل أيضاً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يُصَلَّى في عهده على المرجوم الزاني، وشارب الخمر، والسارق، ولم يخرجهم من الملة، وكانوا يدفنون في مقابر المسلمين، فليعلم ذلك.
وأيضاً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أوتي بشارب الخمر، فجلده أمام الناس، فقال رجل: أخزاه الله -أي: شارب الخمر- ما أكثر ما يؤتى به، وقيل: لعنه، فقال عليه الصلاة والسلام: {لا تلعنه! فوالذي نفسي بيده إني لأعلم أنه يحب الله ورسوله} فهو لا يزال مسلماً.(165/8)
توحيد الربوبية
المسألة الثالثة: توحيد الربوبية.
وهذا القسم من أقسام التوحيد قد أقر به المشركون، ومن أقر بتوحيد الربوبية، ونفى توحيد الألوهية، فلن ينفعه ذلك عند الله، بل فرعون اللعين عليه لعنة الله أقر بتوحيد الربوبية.(165/9)
تعريف توحيد الربوبية
وتوحيد الربوبية: هو اعتقاد أن الله خالق، ورازق، ومصرف الكون، ومدبره، فهذا أقر به المشركون وفرعون، قال موسى عليه السلام لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102].
يقول: يا لعين! يا خسيس! أنت تعلم أنه ما أنزل الآيات، وما أنزل هذا الكلام، وما بنى هذه السماء والأرض إلا رب السماوات والأرض، ولكنك جحدت، وهذا صحيح، وقد أنكر فرعون الصانع، وأنكر توحيد الربوبية في الظاهر لكنه في الباطن يدري، ولذلك يقول لقومه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51].(165/10)
إقرار مشركي قريش بتوحيد الربوبية
المشركون، ومنهم: أبو جهل وأبو لهب وأمية بن خلف وأمثالهم وأشكالهم وأضرابهم، أقروا بتوحيد الربوبية، ولكن أنكروا توحيد الألوهية، قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] فهم يدرون أن الله خلق السماوات والأرض، ولكن أنكروا توحيد الألوهية.
إذا علم هذا؛ فمن اعتقد أن الله خالق ورازق، ولم يعبد الله، ولم يوحده بالعبادة؛ فهو من أهل النار.
وأحمد زكي هذا الرجل، محرر مجلة العربي وقد هلك منذ زمن، له كتاب من آيات الله في السماء، أثبت بها توحيد الربوبية، وقال: هو الذي دعت إليه الرسل، وقد كذب على الله، فالرسل دعت إلى توحيد الألوهية مع توحيد الربوبية.(165/11)
توحيد الألوهية
المسألة: الرابعة: توحيد الألوهية.
وهو: إفراد الله بالعبادة، وأن يوحد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولا يصرف لغيره شيء من العبادة، فمن فعل ذلك فقد أشرك، وهو الذي دعت إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، كل واحد منهم يقول لقومه: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32] فكلهم أتى بهذه الكلمة، وهو توحيد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ * بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66] وقال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] وقال سبحانه: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] وقال عز من قائل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [فصلت:6].
إذا علم هذا، فتوحيد الألوهية؛ هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو: إفراد الله بالعبادة، ولا يشرك معه غيره تبارك وتعالى.(165/12)
توحيد الأسماء والصفات
المسألة الخامسة: الاقرار لله بالأسماء والصفات.(165/13)
معنى توحيد الأسماء والصفات
نقر لله عز وجل بالأسماء والصفات، التي أتت في السنة الصحيحة، ونعتقد أن له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى صفات تليق بجلاله، لا نكيفها، ولا نمثلها، ولا نحرف، ولا نعطل وإنما نثبت له الصفة التي أثبتها هو لنفسه تبارك وتعالى، وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم، كصفة اليد نقول: لله يد تليق بجلاله، بلا كيف، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تعطيل، ولا تشبه أيدي المخلوقين، لكن نثبت له يداً تليق بجلاله، وكالعين، والاستواء، والكلام، والمشيئة، وكل الصفات التي وردت في الكتاب والسنة هذا هو المعتقد.(165/14)
موقف أهل البدع من توحيد الأسماء والصفات
ولا نقول كما قالت الأشاعرة، الذين أثبتوا سبع صفات، ونفوا بقية الصفات، فقد أخطئوا وابتدعوا.
ولا نقول كما قالت الجهمية، الذين نفوا الأسماء والصفات، فقد أخطئوا وابتدعوا.
ولا نقول كما قالت المعتزلة، الذين أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات، فقد أخطئوا وابتدعوا، بل نقول كما قال أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام في الأسماء والصفات: نثبتها كما أثبتها الله لنفسه، بلا تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف ذلك الدين الخالص كما قال الشافعي: آمنت وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.(165/15)
الرؤية
المسألة السادسة: الرؤية.
يثبت أهل السنة والجماعة إن الله عز وجل يرى في الآخرة تبارك وتعالى، يراه المؤمنون بعيونهم زيادة في النعيم، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن المعرضين: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] فلما حجب أهل المعصية والإعراض والفجور، دلل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بمفهوم المخالفة أن المؤمنين يرونه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامُّون في رؤيته -أو لا تضارون في رؤيته-}.
فنقول: يُرى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يراه المؤمنون وهي الزيادة في القرآن، كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد فسرت في الحديث بالنظر إلى وجهه الكريم، فنسأل الله أن يرينا وجهه في جنة عرضها السماوات والأرض، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة.(165/16)
موقف أهل البدع في إثبات الرؤية
وذهبت المعتزلة إلى أنه لا يرى سبحانه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وذهب غلاة الصوفية إلى أنه يرى في الدنيا وفي الآخرة، فأخطأ الفريقان، وأصاب أهل السنة، فقالوا: لا يرى في الدنيا تبارك وتعالى، ويرى في الآخرة، والله يقول في سورة الأعراف لموسى: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف:143].
قال ابن مالك في الألفية:
ومن رأى النفي بلن مؤبدا فقوله اردد وسواه فاعضدا
إذاً: فالله يُرَى في الآخرة، يراه المؤمنون، ويحجب عنه الكافرون.(165/17)
مقتل الجعد بن درهم
أقول: وقد كلم الله موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلاً، وقد أنكر ذلك الجعد بن درهم المبتدع الضال المنحرف، أنكر أن الله كلم موسى تكليماً، وقال: لم يتخذ الله إبراهيم خليلاً، فأتى خالد بن عبد الله القسري أمير العراق، فأخذ سكيناً يوم عيد الأضحى، والجعد مربط بالحبال عند أساس المنبر، فخطب الناس خالد، وقال: يا أيها الناس! إن الجعد زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فضحوا تقبل الله منا ومنكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم، فذبحه كما تذبح الشاة.
قال ابن القيم ممجداً وشاكراً خالد القسري.
ولأجل ذا ضحى خالد بـ الجعد يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
يقول: شكر الله لك، ولله درك هذا الذبح وهذا القربان، الذي تقربت بدمه إلى الله، فمعتقد أهل السنة أن الله كلم موسى تكليماً، ولم يكلم أحداً من الناس، وإنما المكلم موسى عليه السلام، وقالت الأشاعرة في مقولة لهم: خلق الله الكلام في الشجرة، فسمعه، تعالى الله!! بل كلمه الله عز وجل كلاماً معروفاً يعرفه الناس.(165/18)
القرآن كلام الله
المسألة السابعة: القرآن.(165/19)
القرآن عند الجهمية
ونقول وهو معتقد أهل السنة والجماعة: القرآن كلام الله عز وجل، وليس بمخلوق، والكلام صفة من صفات الله، قديم النوع، حادث الآحاد، فالله متكلم بما شاء وكيف شاء، ومتى شاء، ويتكلم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ومن كلامه: القرآن، وقد أنكر ذلك الجهمية وقالوا: القرآن مخلوق وليس بصفة، وكذبوا لعمر الله!! والله يقول: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] فقام الإمام أحمد في وجوههم، وقد أنكر ذلك المأمون وزعم أن القرآن مخلوق!! وقامت فتنة القول بخلق القرآن؛ فتصدى لها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وبيض الله وجهه {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106].(165/20)
نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم
أنزل الله القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:194 - 195] نزل منجماً، وهو في اللوح المحفوظ، من الله بدأ وإليه يعود، متعبد بتلاوته، معجز في لفظه ومعناه، فتعالى الله من أنزله ومن تكلم به، قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] وقال: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29].
من معتقدنا وهذه أهم من فرعيات العبادة، وأهم من كل موضوع، وأجل من كل مسألة، فهذا هو علم أصل الأصول، الذي ينبغي للعبد أن يكرر هذه المسائل، وأن يستمعها كثيراً، وأن يعتقدها، وأن يسأل عنها؛ حتى يثبته الله بالقول الثابت.(165/21)
الاستواء
المسألة الثامنة: الاستواء.
نقول: إن الله مستوٍ على عرشه -تبارك الله- استواءً يليق بجلاله فوق سماواته، بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، تعالى الله.(165/22)
معنى الاستواء عند الخرافيين
وقد قال أهل الحلول عليهم من الله ما يستحقونه: إن الله قد يحل في أحد الناس.
وأتى غلاة الصوفية المعرضون عن الله عز وجل، فيقول أحد شيوخهم: ما في الجُبة إلا الله!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
ويقولون: إذا صفا أحدهم وتنزه، وأصبح في منزلة، حلَّ الله فيه، تعالى الله علواً كبيراً!
وأتى أهل الاتحاد كـ ابن عربي وابن سبعين عليهم من الله ما يستحقونه، فقالوا: اتحد الله في مخلوقاته، فاتحد بالشجر، والحجر، والجبال، والإنسان، والحيوان، والطيور، والحشرات، وقالوا: ما في الدنيا إلا هو، وهو في الكائنات متحد -تعالى الله- {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف:5] فالله على العرش استوى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وهو معنا بعلمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وبمراقبته {لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران:5] يسمع دبيب النمل، في حندس الليل، على الصفا السوداء، في الليلة الظلماء.
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النحل
اغفر لعبد تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأول(165/23)
معنى المعية عند أهل السنة
فهو معنا بعلمه، ومعيته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لأوليائه المؤمنين بالتأييد والنصرة، قال سبحانه عن صاحب الغار صلى الله عليه وسلم، وعن صاحبه: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] أي: بعلمه {وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:7] أي: بعلمه {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة:7] يعني: بعلمه {أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] فالقلوب تلهج إلى فاطرها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وباريها، والقلوب تتجه إلى العلو {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10].(165/24)
النزول إلى السماء الدنيا
المسألة التاسعة: النزول إلى السماء الدينا.
فقد ثبت في الصحيحين {ينزل ربنا إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل} {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] هذا معتقد أهل السنة والجماعة.
فالله ينزل إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، نزولاً يليق بجلاله، {فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟} فله نزول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يليق بجلاله، دل على ذلك الحديث في الصحيحين من رواية أبي هريرة.(165/25)
الإيمان بالملائكة
المسألة العاشرة: الإيمان بالملائكة.
نقول: ونؤمن بأن لله ملائكة، سمى الله بعضهم في القرآن كجبريل وميكال، ولم يسمِ بعضهم، فنؤمن بمن سمى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وبمن لم يسم، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
أما من قال: عزرائيل ملك الموت، فما سمعت في الكتاب ولا في السنة الصحيحة أن اسمه عزرائيل، وإنما سماه الله ملك الموت، وإسرافيل ورد بهذا الاسم، فمن سمى الله من الملائكة نؤمن به تفصيلاً، ومن لم يسم نؤمن به إجمالاً، فالملائكة فيهم حفظة، وموكل بالقبر، وفيهم موكل بالتعقيب على الناس {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] وصنف منهم موكل بقبض الأرواح، فنؤمن بالجميع على التفصيل والإجمال، ومن لم يؤمن بذلك بعد أن سمع البينة فقد كفر.(165/26)
الإيمان بالكتب
المسألة الحادية عشر: الإيمان بالكبت المنزلة.
فنؤمن بكتبه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} [البقرة:285] وقد سمى الله منها: الزبور لداود، والتوراة لموسى، والإنجيل لعيسى، والقرآن لمحمد عليهم الصلاة والسلام فنؤمن بما سمى وبما لم يسم.
ونقول: هناك كتب ما سماها الله، نؤمن بها ولكن ذكرها الله بالإجمال، وعند ابن ماجة عن الحسن البصري: إن الله أنزل مائة وأربعة كتب، فنؤمن بجميع كتب الله التي أنزلها الله على رسله، ومن كفر بشيء منها، فقد كفر بالله العظيم.(165/27)
الإيمان بالرسل
المسأله الثانية عشر: الإيمان بالرسل.
فنؤمن برسل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنهم كثير؛ وقد سمى الله لنا بعضهم.
قال بعض العلماء: سمي خمسة وعشرون نبياً ورسولاً، لكن من سمى الله نؤمن به، ومن لم يسم {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164] فمن قص الله نؤمن به، كنوح، وإبراهيم، وإدريس، وإسماعيل، وذا الكفل، ولوط، ويونس، وسليمان، وداود، وعيسى، وموسى، ومحمد وكثير ممن سمى الله، وبعض الناس يقول: هم مائة وأربعة وعشرون ألف، لحديث أبي ذر ولكن تكلم في الحديث، على كل حال، سواء عرفنا عددهم أو لم نعرف عددهم، فنقول: آمنا برسل الله من سمى ومن لم يسمِ إجمالاً وتفصيلاً.(165/28)
الإيمان باليوم الآخر
المسألة الثالثة عشر: الإيمان بالبعث والحساب.
نؤمن بأن الله سوف يبعث من في القبور، وأنه سوف يحاسبهم ليوم لا ريب فيه، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94] وقال سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:94 - 95] وقال سبحانه: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:51 - 52] وقال سبحانه: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:9 - 10] فمعتقدنا أن الله سوف يبعثنا من القبور ليحاسبنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فلا إله إلا الله من يوم ما أرهبه! ولا إله إلا الله من يوم ما أرعبه! ولا إله إلا الله من نهار ما أشده! نسأل الله أن يسهله علينا وعليكم.(165/29)
الإيمان بالقدر
المسألة الرابعة عشر: الإيمان بالقضاء والقدر.
القضاء والقدر حق، فلا يقع شيء في العالم إلا بعلم، وإرادة، ومشيئة، وقدرة الله تعالى، قال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ومن أنكر القضاء والقدر فقد كفر، وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] وقال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].
وقال عليه الصلاة والسلام كما ثبت ذلك في صحيح مسلم: {احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل} وفي لفظ: {قدَر الله وما شاء فعل} وعند الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} وفي لفظ صحيح: {واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك} وفي حديث جبريل الصحيح أن الإيمان: {أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخرة، وتؤمن بالبعث بعد الموت، وتؤمن بالقضاء والقدر حلوه ومره} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فهذا معتقد أهل السنة والجماعة يؤمنون بقضاء الله، وإذا حدثت لهم مصيبة قالوا: قدر الله وما شاء فعل، وقالوا: هذا بكتاب من الله، وهذا قضاء الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.(165/30)
الإيمان بفتنة القبر
المسألة الخامسة عشر: الإيمان بنعيم القبر وعذابه.
نعيم القبر وعذابه ومساءلته حق نعتقد بذلك، ونسأل الله أن يجعل قبورنا وقبوركم رياضاً من رياض الجنة.
ومن كلام الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي في معتقده.
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار} وصح عنه صلى الله عليه وسلم كما في حديث البراء عند أبي داود في مسائلة الميت، وصح عنه صلى الله عليه وسلم عند البخاري من حديث أسماء أن المنافق أو المرتاب إذا سئل يقول: {هاه هاه لا أدري؛ فيضرب بمرزبة} وأما المؤمن، فيصدق بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً، وذلك مصداق قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
وقال سبحانه في عذاب القبر: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] استدل بها عند بعض المفسرين على عذاب القبر، قال سبحانه: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] والمعنى: يعرضون عليها غدواً وعشياً قبل قيام الساعة وهو عذاب القبر، ومن لا يؤمن بعذاب القبر فلا يقبل الله منه إيماناً ولا يكلمه ولا ينظر إليه وله عذاب أليم، والإنسان من يوم يموت إما منعم أو معذب والله يتولى السرائر، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن الرسول عليه الصلاة والسلام مَرَّ على قبرين فسمعهما يعذبان، فأخذ جريدة خضراء فشقها، وجعل على كل قبر شق، وقال: {إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير! أما أحدهما: فكان يمشي بالنميمة في الناس، وأما الآخر: فكان لا يستتر من البول} أي: لا يتنزه ولا يتنقى ولا يتطهر، وفي لفظ: {أرجو أن يخفف عنهما ما لم ييبسا أو تيبسا} أي: هذا الشق الأخضر من العصا.(165/31)
الميزان
المسألة السادسة عشر: الإيمان بالميزان.
نعتقد اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الميزان ينصبه الله يوم القيامة للأعمال، وأنه الحاكم، وأن الأعمال الصالحة توضع في كفة، والسيئة توضع في كفة، كما صحت بها الأحاديث، وأتت بها الآيات، قال الله تبارك وتعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] فلا إله إلا الله ما أدق الحساب! ولا إله إلا الله ما أصعبه على من نوقش! وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من نوقش الحساب عذب أو هلك} فنسأل الله أن ييسر ويخففه علينا، وأن يأخذنا برحمته ولطفه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:6 - 9] فعلم أن هناك ميزان له كفتان توضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة، فمن مالت حسناته بسيئاته فهنيئاً له، وطوبى وكرامة له، ومن مالت سيئاته بحسناته فخسارة وندامة له، نسأل الله العافية والسلامة.(165/32)
الإيمان بنشر الصحف
المسألة السابعة عشر: الإيمان بالصحف التي توزع يوم القيامة.
ومن معتقدنا أن هناك صحفاً توزع على الناس، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله، نسأل الله أن يسلمنا وإياكم صحفنا بأيماننا، قال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:20 - 23] وقال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:7 - 8] وقال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:25 - 32].
فهذا معتقد لا بد أن يعتقده المسلم حتى يلقى الله.(165/33)
الصراط
المسألة الثامنة عشر: الإيمان بالصراط.
ونقول: هناك صراط مده الله على متن جهنم -نسأل الله أن يسهل مرورنا عليه- أحد من السيف، وأدق من الشعرة، يمر عليه الناس بحسب الأعمال، فمار كلمح البرق، وكلمح الطرف، ومار كالريح، وكالجواد المسرع، ويسير أو يسعى أو يمشي، ويحبو أو مكردس على وجهه في النار، فعلى حسب الأعمال لا بد منه، والأنبياء والرسل بجنباته، كلٌّ يقول: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم.(165/34)
الحوض
المسألة التاسعة عشر: الإيمان بالحوض.
من مسائل أهل السنة والجماعة: اعتقاد وتصديق أن هناك حوضاً جعله الله في عرصات القيامة، قيل: هو الكوثر للرسول عليه الصلاة والسلام، وقيل: غيره، والدليل على ذلك قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1 - 3] طول الحوض شهر، وعرضه شهر، وفي بعض الأحاديث: مثل ما بين صنعاء في اليمن إلى أيلة أي: بيت المقدس في فلسطين، ماؤه: أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وعدد أكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لا يضمأ بعدها أبداً، يرده المؤمنون، ويصرف عنه المعرضون، والرسول عليه الصلاة والسلام إذا رأى بعض أمته يصرفون، يقول: {يارب! يارب! أمتي أمتي: فيقال له: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك، فيقول: سحقاً سحقاً} أي: هلاكاً هلاكاً، ويشربه أتباعه عليه الصلاة والسلام في سنته، المقتدون به في سيرته، عليه صلاة الله وسلامه.(165/35)
الموحد لا يخلد في النار
المسألة العشرون: الموحد لا يخلد في النار.
لا يخلد أحد من المؤمنين الموحدين في النار، قد يدخلها بعض أهل القبلة بذنوب وكبائر لكن لا يخلدون، وقد كذب الخوارج والمعتزلة في قولهم بتخليد الموحدين العصاة، بل الموحد لا يخلد في النار، لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان} فدل على أنه يدخل النار، ولا يخلد فيها ويخرج منها؛ لأنه موحد، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة ولابد أن يعرف.(165/36)
الشفاعة
المسألة الواحدة والعشرون: الشفاعة.
الشفاعة حق لمن أذن الله له بالشفاعة، ولمن رضي أن يشفع له، ولرسولنا صلى الله عليه وسلم شفاعات، قال سبحانه: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23] وقال سبحانه: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] وقال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] وقال تقدس اسمه: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26].(165/37)
شروط الشفاعة
ويشفع الشافع بشرطين:
أولها: أن يأذن الله لهذا الشافع، من نبي، أو ولي، أو رجل صالح، في أن يشفع عنده، على خلاف سلاطين الدنيا فإنه لا يشترط عندهم هذا الشرط، فقد يشفع الشافع بغير إذنهم.
ثانيها: أن يرضى تبارك وتعالى عن المشفوع فيه، فيأذن ويرضى عنه فيشفع له.(165/38)
أنواع الشفاعة
ولرسولنا عليه الصلاة والسلام شفاعات، والأنبياء يشفعون، أما الشفاعة الكبرى فهي خاصة لرسولنا عليه الصلاة والسلام، يوم يقول كل واحد من أولي العزم: نفسي نفسي، ويأتي الناس إلى رسولنا عليه الصلاة والسلام، فيقول: أنا لها -فهو المقام المحمود- فيسجد تحت العرش، وينهال بثناء عظيم على الله لا يتذكره في الدنيا، فيقول الله له: {ارفع رأسك وسل تعطى واشفع تشفع} قال الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي:
واستشفع الناس بأهل العزم في إراحة العباد من ذا الموقف
وليس فيهم من رسول مالها حتى يقول المصطفى أنا لها
ثم يشفع الأنبياء، ثم يشفع الأولياء، ومنهم يشفع في اثنين، ومنهم من يشفع في أهل بيته إذا كانوا مسلمين.(165/39)
الشهادة للمعين بالجنة أو النار
المسألة الثانية والعشرون: الشهادة لأشخاص بالجنة.
ونشهد بالجنة لمن شهد له رسول الله عليه الصلاة والسلام، كالعشرة المبشرين بالجنة، فنشهد أن أبا بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وأبو عبيدة وثابت بن قيس بن شماس، كلهم في الجنة رضوان الله عليهم، ومن ذكره عليه الصلاة والسلام.
وذكر ابن تيمية مسألة أخرى، هل من اشتهرت عدالته وجلالته وإمامته يشهد له بالجنة ولو لم يأت نص بذلك؟
قال: لأهل العلم قولان: منهم من يقول: لا، حتى يأتي نص، ومنهم من قال: نشهد له بالجنة كالإمام أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة، واستدلوا بحديث الجنازة التي شهدوا لها بالخير، فقال عليه الصلاة والسلام: {وجبت وجبت وجبت} وقال للثانية التي شهدوا لها بالشر {وجبت وجبت وجبت} فقال: في الأولى {تلك شُهد لها بالخير، فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه أثني عليها سوءً فقلت: ولها النار، أنتم شهداء الله في أرضه}.(165/40)
أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم
المسألة الثالثة والعشرون: أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، فـ أبو بكر أفضل الناس بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد صح في فضله أحاديث، كقوله صلى الله عليه وسلم: {لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر؛ ولكن صاحبكم خليل الرحمن} وكقوله عليه الصلاة والسلام، عند الترمذي من حديث حذيفة: {اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر} واستفاضة عدالته رضي الله عنه وأرضاه، وتقديم الصحابة له بالخلافة والإمامة والجلالة، وكذلك تخليفه بعد الرسول عليه الصلاة والسلام في الصلاة، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس في مرض موته عليه الصلاة والسلام ثم عمر بن الخطاب لجلالته، ولذكره عليه الصلاة والسلام له بالأحاديث المشهورة، فـ عثمان لقول ابن عمر في الصحيحين [[كنا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر فـ عمر فـ عثمان]] ثم علي بن أبي طالب أبو الحسن رابعهم في الفضل وفي الخلافة، وننزله منزلته التي أنزله الله فيها، فلا نفعل ما فعلت الشيعة، ولا نفعل ما فعلت النواصب، فـ الشيعة غالوا فيه حتى إن من فرقهم من جعلته إلهاً تعالى الله، ومن النواصب من غلوا في بغضه حتى لعنوه رضي الله عنه وأرضاه، بل نحبه ونتولاه وننزله في المنزلة التي أنزله الله ورسوله فيها رضي الله عنه، وعن سائر صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام.(165/41)
حكم إتيان الكهان والعرافين
المسألة الرابعة والعشرون: إتيان العراف أو الكاهن.
إن من معتقد أهل السنة أنه {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد} وهؤلاء هم الذي يدعون علم الغيب، أما ما سلف أو ما استقبل من الزمان، ويستخدمون الجن، فمن أتى إليهم مصدقاً لهم وطالباً النفع منهم، أو دفع الضر منهم، فقد كفر بالكتاب والسنة، وبما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصح عند مسلم في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال: {من أتى عرافاً أو كاهناً لم تقبل منه صلاة أربعين يوماً} فليعلم ذلك.(165/42)
التمائم
المسألة الخامسة والعشرون: التمائم.
التمائم: من خيوط أو حلق أو حديد، من علقها معتقداً فيها جلب النفع أو دفع الضر، فقد أشرك، واستثنى بعض العلماء ما علق من آيات قرآنية، والصحيح: المنع سداً لذريعة الشرك، وسداً لباب الشرك، وغلقاً لهذه الفتنة فـ {من تعلق بتميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق بشيء يمنعه من الواهنة ما زادته إلا وهناً} ومن تعلق عليه خيطاً خلط عليه أمره، ومن تعلق حديداً ليدفع عنه أو يقرب له النفع حبسه الله في حديد نار جنهم، فلا ينفع ولا يدفع ولا يرزق ولا يعافي ولا يشافي ولا يحيي ولا يميت إلا الله، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ حصين بن عبيد الخزاعي {كم تعبد؟ قال: سبعة، قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: من لرغبك ولرهبك؟ قال: الذي في السماء، قال: فاترك الذي في الأرض واعبد الذي في السماء}.(165/43)
السحر
المسألة السادسة والعشرون: السحر.
الساحر ملعون، وحده القتل بالسيف، فمن سحر أو تعلم السحر فقد كفر عند كثير من الأئمة وارتكب مكفراً، وعند البعض ارتكب كبيرة من السبع الموبقات، نسأل الله العافية والسلامة.
وقال كثير من العلماء: تعلم السحر حرام، ولو للنشرة عن المسحور، وإنما ينشر عن المسحور بما ورد في السنة، بأن يأخذ سبع ورق من السدر -ذكر ذلك ابن حجر في الفتح وغيره من العلماء في باب النشرة- فيسحقها مع الماء ويقرأ القواقل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ثلاثاً {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] ثلاثاً {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ثلاثاً ثم يغتسل بهذا الماء ويستشفي ويقرأ القرآن، ولا يطلب حله من كاهن، أو عراف، أو ساحر، فإن فعل ذلك فقد أساء وظلم نفسه.(165/44)
موقف أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة
المسألة السابعة والعشرون: عدم الخوض فيما دار بين الصحابة.
فلا نخوض فيما شجر بينهم، بل نتولاهم جميعاً رضي الله عنهم، ونترضى عنهم، ونكف عما شجر بينهم، ولا نخوض بألسنتنا في المجالس، ولا نحمل لهم ضغينة، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] فنترضى عنهم جميعاً، ونستغفر الله لنا ولهم، ونقول: ما شجر بينهم بقضاء وقدر، كما حدث بين علي في الجمل وبين الزبير وطلحة وعائشة ونقول: اجتهدوا وكلُّ واحد مأجور في ذلك، من أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد.
سئل عامر الشعبي لماذا التقى الصحابة بعضهم ببعض في صفين ولم يفر بعضهم من بعض؟
فقال: أصحاب الجنة التقوا فاستحيا بعضهم أن يفر من بعض.
وسئل عمر بن عبد العزيز عن ما وقع بين الصحابة من فتن وحوادث وحروب، قال: [[تلك أمور سلم الله منها سيوفنا من دمائهم، فلماذا لا نسلم ألسنتنا من الخوض فيها]] ومن فعل ذلك، واستوشى الأخبار في المجالس، وبثها، فهي علامة النفاق.
ومن كره معاوية بن أبي سفيان فهذه علامة النفاق، فهو خال المؤمنين وعلي أفضل منه، والحق مع علي بن أبي طالب أبا الحسن ومعاوية مؤمن بالله، ومن كتبة الوحي، ومن أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن أبغض الأنصار فهو من علامة النفاق، قال عليه الصلاة والسلام: {آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار} وقال عليه الصلاة والسلام: {لا يحب الأنصار إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق}.(165/45)
المسح على الخفين
ونعتقد في جزئية فرعية من الفقه الإسلامي، أن المسح على الخفين سنة، لأنه خالفنا فيه بعض الطوائف، فأنكروه.
قال الإمام أحمد: روي المسح على الخفين عن سبعين من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام.
هذا أيها المسلمون ملخص لمعتقد أهل السنة والجماعة، بعنوان عقيدتنا، اقترحه بعض الإخوة علي، فأسأل الله أن يرحم عبداً أعان على نشر هذا الشريط، أو وزعه؛ لأنه ملخص لمعتقد أهل السنة والجماعة حرصت أن يكون ميسراً ومقرباً، مأخوذاً بأساليب شيخ الإسلام ابن تيمية عله أن ينفع في كثير من الأماكن، وعند كثير من طلبة العلم، والبيوت، والقرى، والبوادي، لأن العقيدة أهم شيء في حياة الإنسان، ويوم يلقى العبد ربه بهذه العقيدة يلقاه بقلب سليم {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89] ويلقاه مبيض الوجه {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:106 - 107].(165/46)
عقيدتنا إجمالاً
أيها المسلمون: هذه سبع وعشرون مسألة أعود بتلخيصها رءوس أقلام لتلخص لنا ما مر من درس:
نقول: عقيدتنا: الإيمان: قول وعمل واعتقاد ينقص ويزيد، وصاحب الكبيرة تحت المشيئة ولا يكفر بارتكابها ما لم يستحلها.
وتوحيد الربوبية أقر به المشركون ولكنهم نفوا توحيد الألوهية.
وتوحيد الألوهية هو إفراد الله بالعبادة وهو الذي بعث به الرسل.
أسماء الله وصفاته نقر بها ونعتقدها على ما أتت في الكتاب والسنة، بلا تكييف ولا تمثيل، ولا تعطيل ولا تحريف.
والله عز وجل يُرَى في الآخرة، يراه المؤمنون ويحجب عنه الكافرون.
والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
والله مستوي على عرشه، بائن من خلقه، ليس في خلقه شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من خلقه، استواءً يليق بجلاله على عرشه تبارك وتعالى.
والله ينزل إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، نزولاً يليق بجلاله.
ونؤمن بأن لله ملائكة سمى بعضهم ولم يسم البعض.
ونؤمن بكتب الله سمى بعضها ولم يسم البعض.
ونؤمن برسل الله الذي سمى والذي لم يسم تبارك وتعالى.
ونؤمن بأن الله يبعث من في القبور ويحاسبهم.
ونؤمن بالقضاء والقدر، وأنه لا يقع شيء في العالم إلا بعلم الله، وبإرادة الله، وبمشيئة الله، وإذن الله.
ونؤمن بأن نعيم القبر حق، وأن عذاب القبر حق، ومساءلة القبر حق، وأن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
ونؤمن بأن الميزان ينصبه الله لوزن الأعمال يوم القيامة وقد مرت الأدلة.
ونؤمن بأن الصحف يعطاها الناس بحسب أعمالهم، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ بشماله، وقد دلت عليه النصوص.
ونؤمن بأن الصراط على متن جهنم يمر عليه الناس بحسب أعمالهم.
ونؤمن بأن الحوض المورود يشرب منه المؤمنون، ويحرمه المعرضون فلا يشربون منه.
ونؤمن بأنه لا يخلد أحد من المؤمنين الموحدين في النار، بل يخرجون بحسب إيمانهم فلا يخلدون.
ونؤمن بأن الشفاعة حق، وأن الله يقبل الشفاعة لمن أذن أن يشفع، ولمن رضي أن يشفع فيه.
ونؤمن بأن الجنة حق ونشهد بها لمن شهد بها الرسول صلى الله عليه وسلم له.
ونؤمن ونقول: إن أفضل الأمة بعد نبيها: أبو بكر فـ عمر فـ عثمان فـ علي ثم المؤمنون على منازلهم في الإيمان.
ونؤمن بأن من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد، وأن من أتاه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً.
والتمائم من خيوط أو حلق أو حديد وغيرها من علقها واعتقد نفعها أو أنها تضر فقد أشرك.
وكذلك من ذبح لغير الله، ومن أقسم بغير الله، ومن أتى قبر صالح أو ولي أو غيره، فتبرك به، ليرفع حوائجه إلى الله فقد أشرك.
وكذلك من جعل طاغوتاً من الناس حاكماً، فأحبه ووالاه، وأخذ كلامه شرعاً من دون شرع الله، فقد أشرك.
ومن صرف الولاء والبراء لغير الله من طاغوت بشري، أو هيئة، أو جهة، أو مقصد، أو محب من غير الله فقد أشرك.
ونقول: إن صور الطاغوت كثيرة، قد يكون في إنسان، أو هيئة، أو جهة، أو حجر، أو حب يحب به غير الله تبارك وتعالى.
ونقول الساحر ملعون، حده القتل بالسيف، وتعلم السحر وطلبه حرام.
ونقول في الأخير: لا نخوض فيما شجر بين الصحابة، بل نترضى عنهم ونسأل الله أن يجمعنا بهم في دار الكرامة.
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193] وقد انتهى هذا الدرس بعنوان (عقيدتنا) وهو ملخص لما كتبه علماء أهل السنة، إن كان من صواب فمن الله، وإن كان من خطأ فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(165/47)
الأسئلة
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(165/48)
حكم الجمعية الشهرية
السؤال
حكم الجمعية التي يفعلها كثير من الناس، يجتمع مجموعة من الأساتذة والموظفين فيجتمع راتبهم كل شهر، ثم يدور على البقية، فهل هذا جائز؟
الجواب
قال سماحة الشيخ هذا محرم؛ لأنه قرض وشرط ولم يستدل بالحديث؛ لأنه يقول إنه ضعيف، لكن معناه مجمع عليه حديث {كل قرض جر نفعاً فهو ربا} ضعيف، لكن معناه مجمع عليه، بل قال: قرض وشرط، فقال: بالتحريم.(165/49)
حكم التمثيل
السؤال
سألنا سماحته: عن التمثيل الذي يزاوله كثير من الشباب في المراكز الصيفية والمخيمات؟
الجواب
قال: محرم، لأنه مبني على الكذب.(165/50)
العروضات الشعبية
السؤال
وسألناه وفقه الله: عن العروضات الشعبية التي يزاولها القبائل؟
الجواب
قال: لا يجوز أن تكون بدف، أو طبل، أو نحوها، لحديث عند أحمد في المسند، وإنما يجوز أن تكون بالحراب، وبالسلاح، عرضات حربية بلا دف ولا طبل كما فعل الحبشة عنده صلى الله عليه وسلم.
هذه بعض المسائل التي عرضت عليه، وفي أوقات أخرى نعرض بعض المسائل التي عرضت عليه، ثبتنا الله وإياه بالقول الثابت.(165/51)
بعض الأبيات المنسوبة للشافعي
السؤال
أرجو أن تبدي رأيك في قول الشافعي رحمه الله في هذين البيتين، وهل في ذلك تعارض مع قول الله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] أو ما شابهها، قال الشافعي:
لا يكن ظنك إلا سيئاً إن سوء الظن من أقوى الفطن
ما رمى الإنسان في مهلكة غير حسن الظن والقول الحسن
فما رأيكم؟
الجواب
أولاً: صحة هذه الأبيات للشافعي ليست بصحيحة، وربما رآها الأخ في بعض ما نسب للشافعي، أقول لك: كثير من القصائد نسبت للشافعي ليست بصحيحة.
ثانياً: ولو كانت صحيحة للشافعي فليس الشافعي معصوماً، بل يؤخذ من كلامه ويرد كما قال مالك: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب ذاك القبر، يعني: رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإذا أتى كلام لبشر وأتى كلام رب البشر، وبينهما تعارض جعلنا كلام رب البشر على العين وعلى الرأس، ورمينا بكلام البشر، بل ضربنا به عرض الحائط، كما قال الشافعي عن نفسه وأبو حنيفة ومالك وأحمد فإنهم طالبوا ألا يقلدوا في أقوالهم، وإذا عارضت أقوالهم قول الله، أو قول رسوله عليه الصلاة والسلام، فلا نلتفت إلى أقوالهم أبداً، سواءً في الأصول، أو الفروع، أو الآداب، أو السلوك.
وبالمناسبة وأنا أذكر في العقيدة قد مر بعض الأبيات التي أساءت على العقيدة، لما أدخل بنا الأخ في بحر الشعر، ندخل معه في باب المعتقد عن قصائد لا يجوز الاستشهاد بها، ومن اعتقدها فقد كفر، كقول ابن هانيء الأندلسي وقد دخل على سلطان من السلاطين:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
فابتلاه الله بمرض، حتى كان ينبح كما ينبح الكلب على فراشه، ويقول هذا الشاعر:
أبعين مفتقر إليك نظرتني فأهنتني وقذفتني من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
وكما قال الشاعر القروي عليه من الله ما يستحقه، وإن كان مات عليها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، دخل دمشق وسط عاصفة من التصفيق مع القوميين فأخذ يقول:
هبوا لي دينا يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
ثم يقول:
فيا مرحباً كفراً يؤلف بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
ومنهم البرعي البدعي الغالي القبوري، وصل قبر الرسول عليه الصلاة والسلام، فوقف عند القبر، وقال: يا رسول الله -يناديه وهو في قبره صلى الله عليه وسلم- يقول:
يا رسول الله يامن ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاماً
فأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاماً
فقد أخطأ وأشرك.
ومنها قول البوصيري في آخر البردة:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
إن لم تكن في قيامي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
القصيدة في أولها جميلة، ولكنه أساء في الأخير بكل إساءة.
وقال أبو فراس ولا نستطيع أن نشركه ونجعله مشركاً بهذه الأبيات، ولكن ذكرت بذلك قول ابن القيم في بدائع الفوائد قال: أحسن هذا الشاعر في نظمه، وأساء في أن صرفها لمخلوق، يقول أبو فراس لـ سيف الدولة ابن حمدان:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
فنقول: أسأت كل الإساءة لما جعلتها لمخلوق، ولو أنك قلت للخالق هذه الأبيات لأحسنت كل الإحسان.
وأورد ابن عساكر في تاريخه بيتين لم أرهما في ديوان المتنبي ذكرهما ابن كثير وغيره أن المتنبي يقول لـ سيف الدولة:
يا من ألوذ به فيما أؤمله وأستعيذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره
قال ابن كثير: وسمعت شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إني أدعو في سجودي بمضمون هذين البيتين.
أي: يحول مضمون البيتين لله الواحد الأحد، فلا يعاذ إلا بالله، ولا يلاذ إلا بالله، ولا يجبر الكسير ولا يكسر الجابر إلا الله، ولا يعافي ولا يشافي ولا ينفع ولا يضر إلا الواحد الأحد.(165/52)
مدح الكفار أو العجب بهم
السؤال
دار نقاش بين مجموعة من المدرسين عن المخترعات الحديثة، فقال أحد مدرسي اللغة الإنجليزية وبملء فيه: لو حملنا الأمريكيين على ظهورنا لم نكافئهم بما قدموا لنا من اختراعات، وأخذ يسرد لنا منجزات، فما كان من المدرسين إلا أن دخلوا في عاصفة من الضحك، ولم يتمعر وجه أحد منهم، وعندما عوتب على إعجابه بالكفار، قال: أقصد العلماء منهم الذين يمضون الساعات في الخنادق للبحث والتحليل، فما حكم ذلك، وأرجو توجيه وصية لهذا الأستاذ؟
الجواب
جعلك تحملهم على ظهرك حتى تلقى الله.
أولاً: أقول لهذا الأستاذ: ما ينبغي لك أن تعجب بالكافر، قال سبحانه: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ} [التوبة:85] وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء:51 - 52] وقال سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] لا تعجب بالكافر؛ لأن ثقافته وحضارته وإبداعه ظاهر في عالم المادة، وقد شاهر الله بالحرب، قال سبحانه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] وقال سبحانه: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].
وهذا الأستاذ على أحد نوعين من الناس:
الأول: إما معاند معجب بالكفار ممسوخ مغسول الدماغ؛ لأن من الناس من درس هناك فمسخ وغسل دماغه، فأتى لا يتحدث إلا بثقافتهم، يصبح ويقول: أصبحنا وأصبحت أمريكا لله، وأمسينا وأمست أمريكا لله، إن حدثته عن تقدمنا وعن بلادنا، حدثك عن بلادهم، وإن حدثته عن شمسنا حدثك عن شمسهم.
من بلادي يُطلب العلم ولا يطلب العلم من الغرب الغبي
وبها مهبط وحي الله بل أرسل الله بها خير نبي
قل هو الرحمن آمنا به واتبعنا هادياً من يثرب
فنستتيب هذا، ونقول: عد إلى رشدك، فإنك قد غسلت تماماً، وينبغي لك أن تتشرف بأن تسير في موكب محمد عليه الصلاة والسلام، وأن تنتسب في سلسلة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وأن تبتعد عن ريجن ونيكسون وجونسون وبوش وعن أضرابهم وأمثالهم، فقد أعلنوا العداء لله، ولا يعجبك ما قدموا من حضارة، فهذه قد يقدمها الإنسان المسلم والكافر.
ونحن نقول: بما قدموا من حضارة التقصير منا وعلينا أن نفعل كما فعلوا، وأن نبني كما بنو، ولا نكتفي بما عندنا من دين، بل علينا أن نستعمر الأرض التي استعمرنا الله فيها {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60].
الثاني: إما أن يكون هذا الأستاذ جاهل، ولا يدري بمدلول هذه الكلمة، فكيف يحمل الكافر على ظهره، مسلم يصلي لله خمس مرات في اليوم والليلة، متوضئ عرف الله وعرف عبودية الله، ويحمل الخواجة الكلب على ظهره، هذا جاهل، فإن كان جاهلاً فليبصر، أما إخوانه الذين ضحكوا وما أنكروا فقد يكونون من زمرته، وقرص في طرف عجينة، فربما اشتركوا في الهوى، وكانوا إخوة في الهوى.
ولذلك يقول العربي الأول:
فإما أن تكون أخي بصدق فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقين
فإني لو تخالفني شمالي ببغض ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بِيْنِ كذلك أجتوي من يجتويني
قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} [المجادلة:22] من أحب الكافر فقد حاد الله بموادته لهذا الكافر؛ نسأل الله العافية والسلامة {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113].
حدثنا أحد الأساتذة بسند جيد، قال: حدثني شيخ لي أن الإنجليز لما دخلوا السودان البلد المسلم ونزلوا الخرطوم أتى إنجليزي بريطاني عليه من الله ما يستحقه، ومسك إشارة في المرور -كان رجل مرور- وكان هناك مسلم سوداني في قرية من القرى، ما رأى الكفار على وجهه، هذا المسلم السوداني كان من مصحفه إلى المسجد ومن المسجد إلى البيت، ومن البيت إلى المصحف لم يرى خواجة ولا سمع، يظن أن الكرة الأرضية كلها تسجد لله رب العالمين، لا يعرف أن في الدنيا كفرة ولا يدري أنه {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] وما يعلم وأنه {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] فأتت له حاجة أصيب بمرض، فنقل إلى مستشفى في الخرطوم فأدخل، فلما تشافى نزل، فرأى هذا الأحمر الأشقر المبرقع الإنجليزي وهو عند الإشارة.
قال السوداني: ما هذا؟ قالوا: هذا إنجليزي، قال: ما معنى إنجليزي؟ قالوا: كافر قال: كافر بماذا؟ قالوا: يكفر بالله، قال: وهل في الدنيا أحد يكفر بالله! ثم أمسك بطنه وطرش وذهل، فهذا مربى على العقيدة.
وأحدثكم عن طالب علم كان في قرية من قرى الجنوب، عاشوا على التوحيد والإيمان، فأتى بقصاصة ورق من كتاب الله جل جلاله لـ سعيد حوى، مكتوب في فصل من الفصول الدليل على وجود الله، وهذه مباحث بحثها أهل السنة، لكن هذا الرجل الذي في القرية الشيخ الكبير الذي عاش على العقيدة مثل الجبال يرى أنه ليس هناك داعي أن نكتب الدليل على وجود الله، فأتى ابنه بالورقة، قال أبوه: اقرأ علي يا بني ما عندك، قال: بسم الله الرحمن الرحيم.
يقول: المؤلف رحمه الله: باب الدليل على وجود الله، فضرب الأب ابنه على وجهه وأخذ الورقة وقطعها، وقال: من هذا عدو الله الذي يكتب الدليل على وجود الله، وهل يحتاج الله إلى أن ندلل عليه بدليل.
هذا من عمق الإيمان، لكن بعض الناس يصل إلى درجة أن يقول: إن بيننا وبين الحضارة الغربية قدر نسبي من الإخاء، كما فعل بعض المفكرين، يوم قال في كتابه ظلام من الغرب: لا بأس أن نجتمع مع النصارى في وجه الصهيونية العالمية، ولا بأس بالأخوة الإنسانية، وأمثال ذلك، بل بعد ذلك قال الأخ العزيز شنودة، ثم هاجم بعض المستقيمين، نسأل الله أن يغفر لنا وله، ويتجاوز عنا وعنه.
وهذا من تمييع القضايا، أو تمييع الولاء والبراء، ليس عند المسلم تمييع القضايا.
وقولهم: لا بد أن نظهر بحسن خلق، ولا بد أن لا نفاصل الناس، ولا نظهر للأمريكان أننا سيئو الأخلاق؟
نقول: التعامل شيء، والولاء والبراء شيء آخر.
نحن لا نقول: إذا أصبحت الصباح تضرب الخواجة على وجهه، وتقول: أتقرب بهذا إلى الله، لا.
هذا ليس من الإسلام {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] لكن أن تواليه أو تحبه أن تجعله كأخيك، وتقول: والله إني أحبك في الله، وأرى آثار الإيمان، وإشراق الطاعة من وجهك، لا.
لك أن تحسن له، أن تحسن في معاملته في أسلوبك، لكن الولاء والبراء والحب والبغض لا يصرف إلا في مرضات الله، ولوجه الله تبارك وتعالى.
أيها المسلمون: ما بقي من أسئلة فنرجئها إلى درس قادم إن شاء الله، والدرس القادم سوف يكون بإذن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الجامع الكبير في الخميس، مساء السبت، وأسأل الله أن يتولانا وإياكم، وأن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت، وأن يحسن إلينا وإليكم، وأن يغفر لنا ولكم الذنوب والخطايا {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182] وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(165/53)
توجيه نبوي لمعاذ
حديث إرسال معاذ إلى اليمن وما فيه من نصائح وتوجيهات من النبي صلى الله وسلم له، يعتبر من أهم القواعد والأصول في الدعوة إلى الله تعالى.
الذي لابد لكل داعية خصوصاً، ولكل مسلم عموماً أن يضع هذه القواعد والأصول في اعتباره وأن تكون نبراساً له وقائداً يقوده في مسيره وطريقه.(166/1)
نص حديث معاذ بن جبل
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ولا زلنا في طوافة ومعيشة مع البخاري في صحيحه، ولو أنصفوه لما خط صحيحه إلا بماء الذهب؛ ولذلك كان لهذا الكتاب مكانته كما تعرفون ويعرف غيركم من طلبة العلم، ولا بد من تكرار هذه المعاني في كتب أهل السنة التي قدمها أئمة الإسلام إلى هذه الأمة المرحومة، الأمة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
ومعنا في هذه الجلسة حديث يستهل به الإمام البخاري رحمه الله كتاب الزكاة في هذا الكتاب، وقد قلنا في مناسبة: إنه لا بد في مثل هذه الجلسات من التنويع بين الرقائق والأحكام وبين المسائل والفضائل، وأنه لا بد أن يجمع طالب العلم بين مسائل العلم التي ترقق القلب وبين الأحكام التي تفقه المسلم في دينه.
قال البخاري رحمه الله: "باب وجوب الزكاة" وقال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:83] ثم قال بعد أن ساق الحديث بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: {لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال: إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتدفع إلى فقرائهم، وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب} هذا الحديث رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والنسائي واتفق الجماعة على إخراجه من طرق، واختلفوا في الألفاظ كما سيرد بإذن الله في الشرح.
أما صاحب هذه القصة فإنه سيد العلماء رضي الله عنه وأرضاه وقائدهم إلى الجنة، يسبقهم يوم القيامة برتوة حجر، فهم يمشون يوم القيامة بعده حتى يدخلوا الجنة جميعاً.
والعجيب أن هذا الحديث من رواية الأقران، أي: من رواية صحابي عن صحابي، وهو فن مستقل بذاته.
والطرفة الأخرى هي: أن هذا الحديث رواه عالم عن عالم، فـ ابن عباس ترجمان القرآن وحبر الأمة يروي قصة معاذ رضي الله عنه وأرضاه وقبل أن نشرع في هذا الحديث الذي سمعتموه فإن معنا عشرون قضية:(166/2)
سيرة معاذ رضي الله عنه
معاذ بن جبل الأنصاري أسلم وعمره ثمانية عشرة سنة، وأحب الدين بكل قلبه، فكان يصبح ويمسي مع الإسلام، وكان رجلاً طويلاً، وجميلاً، وبساماً، وضحاكاً، وكريماً.(166/3)
معاذ رضي الله عنه وجوده وسخاؤه
كان معاذ رضي الله عنه لا يمسك الشيء في يده من جوده وسخائه.
ألا أيها المال الذي قد أباده تعزى فهذا فعله في الكتائب
قال كعب بن مالك: [[كان أسخى الأنصار بعد سعد بن عبادة معاذ بن جبل على قلة يده]] مع فقره كان أسخى الناس، حتى باع بعض دوره وأملاكه ضيافة للوافدين، وكان الناس ينطلقون بالاثنين والثلاثة وينطلق هو بالثمانين من ضيوف الرسول إليه، فكثرت ديونه رضي الله عنه وأرضاه، وأتى أهل الدين رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكوا معاذاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن المسألة سوف تطول، وأن أموال الناس سوف تهدر، وأن تركته لا تغطي ولا تفي، حجر عليه صلى الله عليه وسلم، وأعلن في الناس أن ماله محجور تحت تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أرسله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن لحكم سوف أذكرها بإذن الله.(166/4)
معاذ يروي أعظم حديث في التوحيد
جاء في الصحيحين أن معاذاً عندما كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار، واسم هذا الحمار عُفير، وقيل: اسمه يعفور ولا يهمنا اسمه إنما هو حمار ركبه رسول الله صلى عليه وسلم من تواضعه لله تعالى.
والعجيب أن ابن كثير في كتابه الشمائل، ساق بسند مظلم أن هذا الحمار لما توفي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المدينة يطوف ويلتمس كأنه فقد صاحبه ثم تردى في بئر ليس فيها ماء ومات.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان راكباً وكان معاذ رديفه قال: {فمشينا برهة -أي ردفة من الزمن- فقال عليه الصلاة والسلام يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم! وفي لفظ للبخاري قال: يا معاذ! قال: لبيك وسعديك يا رسول الله! ثم مشى قليلاً وسكت هنيهةً، ثم قال: يا معاذ! قال: لبيك وسعديك يا رسول الله! قال: أتدري ما حق الله على العباد؟ - وفي لفظ: حق الله على العبيد- قال: الله ورسوله أعلم -وهذا من كمال أدبه وعدم تطفله، ومن توقيره لرسول الله صلى الله عليه وسلم- قال عليه الصلاة والسلام: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم مضى قليلاً وقال: أتدري -يا معاذ - ما حق العباد على الله؟! قال: الله ورسوله أعلم! قال: حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم} هذا الحديث رواه معاذ رضي الله عنه وأرضاه، وروى الكثير في الفضائل والعقائد والعبادات.(166/5)
معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك
وفي تبوك كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة، وفي أثناء الطريق قال معاذ: اقتربت من راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسسته، وكان الصحابة يستأنسون أيما أنس بقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما آتاه الله من حسن الخلق والبركة والهداية والنور، وكان من سعة حلمه وتواضعه وخلقه أنه إذا صاحب الرجل من الصحابة في السفر حدثه كثيراً حتى في الليل.
ففي تلك الليلة قال معاذ: اقتربت منه صلى الله عليه وسلم فوجدت أبا قتادة من الأنصار قريباً منه، وكان في آخر الليل، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعس على راحلته -لأنه سهر في الليل في تلك الليلة- وكاد أن يسقط من على الراحلة وتكاد تسقط به.
قال أبو قتادة كما في صحيح مسلم: {فاقتربت منه ودعمته بيدي -أي: أسندته بيدي- حتى رددته إلى مكانه، قال: ثم نعس الثانية، فرددته، ثم نعس الثالثة حتى كاد يسقط، فانتبه عليه الصلاة والسلام، قال: من؟ قلت: أبو قتادة، قال: حفظك الله بما حفظت نبيه عليه الصلاة والسلام} قال أهل العلم: ما زال أبو قتادة محفوظاً في أسرته وذريته حتى في القرن الثاني؛ لأنه تكلم بهذا الكلام، حتى عندما أتت الفتن لم يتدخل فيها، ولم يشترك في مشكلات الأمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له بالحفظ، قال: {حفظك الله بما حفظت نبيه} والحفظ أعظم ما يمن به الله على عبده.
يقول ابن المسيب رضي الله عنه: [[إن الله يحفظ العبد المؤمن في أهله وأولاده ودويريته]] أي: حتى في الدور التي تقاربه في قريته.
ففي تلك الليلة العامرة التي لا ينساها معاذ رضي الله عنه وأرضاه تقدم ليستغل الوقت في سمر من أحسن السمر مع سيد البشر عليه الصلاة والسلام -هل يتحدث معه في الدور أو القصور أو الوظائف أو يطلبه منصباً؟ وهو عليه الصلاة والسلام يستطيع أن يعطيه ذلك؛ فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أعطاه من الولايات ما الله بها عليم- فقال: يا رسول الله! ما هو العمل الذي يقربني من الجنة ويباعدني من النار؟!
هذا أعظم سؤال قد وقع بعد سؤال العقائد على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: {إنه ليسير على من يسره الله عليه} وفي لفظ الترمذي: {يا معاذ! لقد سألت عن عظيم}.
أي: لقد سألت عن أمر من أعظم الأمور، وهذا الحديث الذي تسمعونه قاعدة من قواعد الإسلام وأصل من أصول الدين، وهو من الأحاديث النبوية التي عليها مبنى أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام قال: {لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه} ثم أتى صلى الله عليه وسلم يسوق الأمور التي تقرب العبد من الجنة وتوصله إليها، وهي مفاتيح من مفاتيح أهل الجنة، فاستمعوا إليه:
يقول: {تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت -ثم وقف عليه الصلاة والسلام، وظن معاذ أن الخطاب قد انتهى- ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه} انظر إلى الكلام! كأنه هيئ من شهر أو شهرين وهو وليد الساعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالضاد، حتى يقول أبو موسى: [[إنه صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم]].
وقال ابن مسعود: [[أوتي رسول الله جوامع الكلم وهديه وآخره]].
ثم قال: {ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم سكت صلى الله عليه وسلم وقال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: الصوم جُنة -يعني: وقاية- والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل صدقة، ثم تلا عليه الصلاة والسلام قوله تبارك وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [السجدة:16] إلى قوله: (يعلمون) ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: كف عليك هذا، وأخذ بلسان نفسه عليه الصلاة والسلام، فقال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟! -أي: أيسجل علينا؛ لأنهم ما علموا إلا ما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال عليه الصلاة والسلام: ثكلتك أمك يا معاذ! -وهذا عند العرب لا يراد به الظاهر وإنما هو دعاء، أي: فقدتك، حتى هذه المسألة لا تعرفها- وهل يكب الناس على مناخرهم أو قال: على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم} رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
عاش معاذ رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام معجباً به وبعلمه، وروى الإمام أحمد في مسنده، والترمذي بسند صحيح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح}.(166/6)
اختيار معاذ لما أرسل إلى اليمن
أرسله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وكانت هذه الرسالة إلى اليمن رسالة تشريفية تكليفية من رسول الله إلى معاذ، وقال أهل العلم: إنما أرسله بأمر الله عز وجل، وفي بعض الآثار: أنه صلى الله عليه وسلم لما أوحى الله إليه أن أرسل أحد أصحابك، تحير صلى الله عليه وسلم فيمن يرسل ونزل عليه جبريل، وقال: إن الله يقرئك السلام ويقول: أرسل معاذ بن جبل فاستدعاه عليه الصلاة والسلام -ونحن نتوخى الأحاديث الصحيحة؛ لأنه قد زيد في قصة معاذ بعض الأحاديث الباطلة الموضوعة- وأرسله إلى اليمن.
فاشتد عليه ذلك أيما شدة؛ لأنه سوف يفقد حبيبه عليه الصلاة والسلام، وسوف يفقد صاحبه الذي يقول له كما في سنن أبي داود وغيره قال: {صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، فشبك أصابعه مع أصابعي، وقال: يا معاذ والله إني لأحبك، فقال معاذ: والله إني لأحبك يا رسول الله! ثم قال له: لا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك}.(166/7)
ملاحظات النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ
لم يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم معاذاً مفوضاً في كل الأمور، بل استدرك عليه بعض الملاحظات.
كان معاذ -رضي الله عنه- فيه بعض الحدة على جودة خلقه وجودة يده وسخائه، فقال له صلى الله عليه وسلم كما في الترمذي: {يا معاذ! حسن خلقك للناس} وكان دائماً باسطاً يده ويمينه وكفه.
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
من ملاحظاته صلى الله عليه وسلم على معاذ:
أن معاذاً -كما في الصحيحين - كان إماماً على قباء عند بني سلمة، فصلى بهم وأطال العشاء، وفي ألفاظ في السنن أنه قرأ بهم سورة البقرة، فأتى أحد الأنصار كان يعمل على ناضح له طيلة يومه يروي النخل، فأقبل الظلام فترك عمله وأتى للصلاة فوجد معاذاً يصلي، فكبر وبدأ معه، فطال عليه الليل وطالت القراءة، ومعاذ ربما كان متفرغاً مرتاحاً همه أن يراجع الآيات وهو جالس في البيت، لكن كثيراً من الأنصار عندهم سقي المزارع رضوان الله عليهم وأرضاهم، فهم أهل كسب ومعيشة.
فانتظر هذا الرجل وإذا الليل يسري، فأخذ نفسه وصلى في طرف المسجد، فلما سلم قال الناس: يا أبا عبد الرحمن! إن فلاناً دخل في الصلاة ثم قطعها، فأفتاهم معاذ، قال: ذاك رجل منافق؛ لأنه ظن أنه من لا يصبر على طول الصلاة أنه منافق.
فسمع الرجل هذه الفتوى فذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وطرح القضية بين يديه، قال: يا رسول الله! والله إني لأترك صلاة الغداة مما يطول بنا معاذ، وقد تركت معه صلاة البارحة مما طول بنا، فلما تركت الصلاة قال إني منافق.
فاستدعاه صلى الله عليه وسلم، وربما يتوهم متوهم أنه سوف يعطيه جائزة على صبره وحسن قراءته، ولأنه طول بالناس، قال ابن مسعود: {فلما دخل معاذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تغير وجهه وغضب، ثم التفت إليه وقال: أفتان أنت يا معاذ؟! أفتان أنت يا معاذ؟! ثم قال عليه الصلاة والسلام: من صلى منكم بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والفقير والكبير والصغير وذا الحاجة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، أو والليل إذا يغشى} وهذا في صلاة العشاء وما يناسبها، وهذه من ملاحظاته صلى الله عليه وسلم الله وسلم عليه في القول.(166/8)
النبي صلى الله عليه وسلم يودع معاذاً لما أرسله إلى اليمن
وأما من ملاحظات رسول الله عليه في الأفعال:
قال الذهبي: صح بأسانيد أنه لما أرسله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له: {حفظك الله يا معاذ من بين يديك وخلفك، ودرأ الله عنك شياطين الإنس والجن} ثم قال له: {لعلك يا معاذ لا تراني بعد يومي هذا، فأجهش معاذ بالبكاء وجزع، فقال له صلى الله عليه وسلم: لا تبكي فإن البكاء من الشيطان} وهذا حديث صحيح.
ثم التفت إليه صلى الله عليه وسلم فقال: {اتق الله حيثما ما كنت -وهذا أعظم حديث وهو من الأحاديث النووية- وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} ثم قال: {يا معاذ، اذكر الله عند كل شجر وحجر ومدر} فوصل إلى اليمن، والصحيح أنه وصل إلى بلد الجند، فاستقبله الناس وكان معه قوس ورمح -رضي الله عنه وأرضاه- وهو شاب، ثم أخبرهم برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبلوها أيما استقبال، وكان مثالاً للقدوة في التواضع والزهد والتعليم وحسن الخلق، وكان بحق سيداً من سادات العلماء وقائداً من قوادهم العلماء، فمكث هناك حتى توفي عليه الصلاة والسلام، وجاءه الخبر وكان خبراً مؤسفاً عليه؛ لأنه من أعظم الأخبار التي تلقاها في حياته؛ لأن أحب الناس إليه وأعظمهم عنده وأجلهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
طوى الجزيرة حتى جاءني خبره فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً شركت بالدمع حتى كاد يشرق بي(166/9)
حياة معاذ بعد رجوعه من اليمن
علم معاذ أن أبا بكر تولى الخلافة فقدم-رضي الله عنه وأرضاه- وعنده بعض الإبل والخيول والمال أخذها من كده وكسبه في اليمن.(166/10)
رد معاذ ما كسب من أموال في اليمن إلى أبي بكر
لما وصل معاذ إلى المدينة لقيه عمر فاروق الإسلام الذي فرق الله به بين الحق والباطل، والذي ما رآه الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجه، وقال: يا معاذ! أأرسلك رسول الله للتجارة أم للولاية والتعليم؟! قال: وماذا يا ابن الخطاب؟! قال: ما هذه الخيول والجمال التي عندك؟ قال: أخذتها بكسبي وبتجارتي، قال: لا.
أدها إلى أبي بكر، قال: لا.
وكلاهما يريد وجه الله، لكن عمر كان فيه صرامة واتجاه وصدق حتى على نفسه يحكمها بحكم الله عز وجل.
فذهب عمر -رضي الله عنه- إلى أبي بكر وقال: يا خليفة رسول الله! أأرسلتم معاذاً إلى اليمن تاجراً أو معلماً؟! قال: وماذا؟! قال: أتى بإبل وخيل ومال، فحاكمه وناصفه وخذها لبيت المال.
وهو يقصد النصيحة، وإلا فوالله إنه يحب معاذاً كما يحب نفسه، وهذا لا نشك فيه؛ لأن الله عز وجل جعلهم إخوة متحابين كما وصفهم في القرآن أنهم رحماء بينهم.
فقال أبو بكر: لا والله لا آخذ مال معاذ، إنه أصدق وأنصح لله ولرسوله من أن يأخذ من بيت المال شيئاً، قال معاذ: فحلمت تلك الليلة وكأنني أساق إلى النار، وكأن عمر يأخذ بحجزي -يعني بأطراف ثيابي يبعدني عن النار- فلما أصبح الصباح، صليت الفجر، فسلمت على عمر واحتضنته وهو يبكي وأنا أبكي، قال: مالك؟! قال: رأيت البارحة كذا وكذا.
قال عمر: قلت أما قلت لك ذلك.
قال: فذهبت إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه حتى بسوطي -أي: بعصاي التي أتيت بها من اليمن - فقلت: يا خليفة رسول الله! والله ما أبقيت في بيتي فرساً ولا جملاً ولا درهماً، ولا ديناراً حتى هذا السوط الذي أتيت به من اليمن خذه، قال أبو بكر: لا.
الآن طابت أنفسنا، هو لك حل وبل فخذه.
قال: فخرجت فلقيت عمر: قال هو لك حل وبل فخذه، الآن طابت أنفسنا، فاستمر معاذ -رضي الله عنه وأرضاه- على هذه الحالة، وكان من المقربين في أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام.(166/11)
معاذ يشارك في معركة اليرموك
حضر معاذ من المعارك معركة اليرموك، وكان من الصادقين مع الله في تلك المعركة، رؤي أنه أخذ السيف وسلَّه ومده قبل المعركة، وقرأ سورة الأنفال على الناس، قال: أبو سفيان بن حرب، ما سمع أحدٌ معاذ بن جبل يقرأ سورة الأنفال في اليرموك إلا بكى، ثم قال: [[يا أيها الناس: اجثوا على الركب فإن هذا موعود الله، إن الله قد تجلى لكم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أما ترضون أن يكون الله في صفكم وأن يكون الشيطان في صف أعدائكم؟!]] فجلس الصحابة ومعهم سبعون من أهل بدر، ومنهم معاذ رضي الله عنه فلما أقبل الأعداء زحفوا وكان النصر.(166/12)
وفاة معاذ بن جبل
ذهب معاذ إلى فلسطين معلماً، ومفقهاً في دين الله، وعمره أربعة وثلاثون وقيل: ثلاثة وثلاثون كما قال الذهبي، فأتته قرحة في كفه اليمني، فعزاه الصحابة وقالوا: لا بأس عليك جعلها الله لك طهوراً وشفاك الله، قال: [[لا والله.
أسأل الله أن يكبرها فإنه يكبر الصغير ويبارك في القليل، وأسأل الله أن تكون وفاتي في هذه، والله لقد مللت الحياة، ولو كانت نفسي في يدي لأطلقتها]].
هو ما تمنى الموت، لكنه هكذا قال، وآتاه موعود الله عز وجل.
ولما ابتلي بالطاعون -والطاعون شهادة لكل مسلم- مكث في بلده صابراً محتسباً، رزقه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الشهادة فهو من الشهداء بلا شك، فحضرته الوفاة وتغشى جسمه بالطاعون حتى أصبح كل جسمه أحمر، فأتوا وهو على الفراش، فسلموا عليه وعزوه.
فلما أتى صباح يوم من الأيام صلى الفجر، يومئ إيماءً على فراشه؛ ثم قال لجاريته: [[انظري هل طلع الفجر؟ فنظرت، قالت: لا بعد، فانتظر برهة ثم قال لها: انظري هل طلع الفجر؟ فقالت: طلع، قال: اللهم إني أعوذ بك من صباح إلى النار]] لأن هذا الصباح أول صباح يلقى فيه الله عز وجل، وهذا اليوم أول أيام الآخرة، وهذا اليوم آخر أيام الدنيا، يوم يستقبل الإنسان سجل أعماله، ويقبل على الله عز وجل: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
فيقول: [[أعوذ بالله من صباح إلى النار]] لأن الإنسان إذا مات في الليل إما أن يمسى في الجنة أو يمسي في النار، إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وإذا مات في الصباح فإما أن يصبح في حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، فهو ينظر إلى هذا الصباح الذي أطل عليه ويقول: [[أعوذ بالله من صباح إلى النار]].
ولذلك يقول الحسن البصري: [[يا بن آدم! إنما هما يومان، يوم تصوم فيه ويوم تفطر، فاجعل صيامك في الدنيا عن المحرمات وفطرك عند الله عز وجل]].
وهذا صح من كلام سالم بن عبد الله لما كتب لقريبه عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة، قال: [[يا أمير المؤمنين! اجعل الدنيا يوم صوم تفطره عند الله عز وجل]].
فـ معاذ -رضي الله عنه- يقول: [[اللهم إني أعوذ بك من صباح إلى النار، ثم التفت إلى أهله -وكان عنده ابن فقط اسمه عبد الرحمن -وقال: إني أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، ثم قال: اللهم إنك كنت تعلم أني لم أحب الحياة لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولا لعمارة الدور، ولا لرفع القصور، ولكن كنت أحب الحياة لمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر، ولصيام الهواجر، ولقيام الليل]].
فقبض -رضي الله عنه وأرضاه- وتأسف عليه الناس أيما أسف، وأصابتهم حسرة، وكان ممن قال فيهم عمر رضي الله عنه: [[والله لقد هممت أن أوصي بالخلافة بعدي لـ معاذ، فإذا سألني الله عز وجل يوم القيامة، أقول: سمعت رسولك محمد صلى الله عليه وسلم يقول: معاذ يأتي يوم القيامة، يتقدم العلماء برتوة]] أي: قبلهم بخطوات وبمسافة يقودهم إلى الجنة، هذا هو معاذ بن جبل الحبيب المحبوب، والذي كان من أجلِّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عمر لخادمه: خذ هذه الدراهم وسلمها إلى أبي عبيدة وانتظر عنده قليلاً وانظر ماذا يفعل بها؟ فذهب بها فلما أعطاها أبا عبيدة، قال أبو عبيدة: وصله الله ورحمه -يقصد عمر - ثم وزعها على جيرانه ومساكين الحي ثم نفذت فلما انتهى ورجع الخادم قال: خذ هذه الدراهم، وسلمها لـ معاذ بن جبل وتلهى في بيته قليلاً، فلما أعطاها معاذاً وجلس عنده وتلهى، فأخذ معاذ خادمة وقال: يهذا بذهب إلى فلان، وبهذا إلى فلان، حتى ما أبقى درهماً واحداً، فلما وصل إلى عمر، دمعت عينا عمر وتلا قوله تعالى: {} [آل عمران:34].
وأثر في ترجمة معاذ: أن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- صلى بالناس الفجر فالتفت إلى الناس وقال: [[يا أيها الناس: يا أصحاب محمد والله الذي لا إله إلا هو، إني لأشتاق إلى الواحد منكم فأبيت سهران لا يأتيني النوم حتى أصبح، ولقد اشتقت اليوم لـ معاذ بن جبل، فقام هو ومعاذ يتعانقان ويبكيان]].
فهذا معاذ رضي الله عنه وأرضاه بقي له حديث واحد، قال: ابن القيم في مدارج السالكين -وهذا الحديث في مسند أحمد - " ثبت أن عمر مر بقبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فوجد معاذاً جالساً عنده يبكي قال: مالك، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن أدنى الرياء شرك} وإن أحب الناس إلى الله كما قال: الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، أولئك مصابيح الدجى يخرجون من فتنة مدلهمة، رضي الله عن معاذ وأرضاه، ورضي الله عن أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسأل الله أن يحشرنا في زمرتهم.(166/13)
وقفات مع عمر بن الخطاب(166/14)
موقف عمر مع أبي هريرة لما بشر الناس بالجنة
يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بستان رجل من الأنصار، فالتمسناه فلم نجده؛ وكان الصحابة إذا فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ذهبوا ليلتمسوه؛ لأنهم يريدون أن يجلسوا مع هذا النور الذي دقائقه تعادل السنوات من كثير من سنوات الصالحين، ومكسب عظيم أن يجلس المرء مع الرسول ولو ساعة، فهو رسول الهدى وأعظم من خلق الله.
يقول: فالتمسناه فلم نجده، فذهبنا بدداً -أي: انتشرنا- لنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيت فسمعت حسه صلى الله عليه وسلم في المزرعة، فأتيت إلى قائد ماء، أي ساقية يدخل فيها الماء، وكان الأنصار يسقون مزارعهم فكان لكل واحد منهم قائداً.
قال: فجمعت ثيابي -كما في رواية مسلم - فدخلت كالثعلب من هذا المكان، فرأيت الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما رآني صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا هر -كان رسول الله يمازحه- قلت: نعم.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله! قال: خذ نعلي هاتين واخرج فمن لقيت من الناس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فبشره بالجنة، فأخذ رضي الله عنه نعلي الرسول وضمهما.
قال: ثم جمعت نفسي وخرجت، قال: ثم لقيت الناس، وقلت: يا عباد الله! من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشره بالجنة، قال: فلقيني ابن الخطاب -أي: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- قال: وما جاوزت المكان كثيراً، فجمع يديه، ثم ضربني في صدري فوقعت على قفاي، قال: أتبشر الناس فيتكلوا؟! عد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فأخذت النعلين وفي رواية في الصحيحين فبكيت بكى إما من شدة الضربة وإما من هذا العنف، أو لأنه عطل المهمة التي أرسله رسول الله لها، والتي فيها بشارة للناس وأجراً في الآخرة، فرده عمر من حيث أتى.
قال: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي وقلت: يا رسول الله! فعل بي عمر كذا وكذا، فتبسم صلى الله عليه وسلم، قال: ادع عمر، فدعوت عمر، فدخل عمر رضي الله عنه.
فقال صلى الله عليه وسلم: مالك؟! قال: يا رسول الله! أتخبر الناس أن من شهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله أنه يدخل الجنة فيتكلوا؟!! قال: صدقت، فلا تخبرهم.
وهذا من رأيه الحصيف، ومن قوة نظره وفكره، فإنه من عمالقة العالم.(166/15)
وقفة مع فراسة عمر
قال الإمام الذهبي: هو من أذكياء الدنيا بلا شك، فإن الله آتاه من سداد البصيرة -حتى في الجاهلية- ومن قوة النظر والإدراك ما جعل السكينة تنطق على لسانه، يأتي بالكلمة فيأتي الوحي مؤيداً ومسانداً لها، وهذا من شدة الفرقان في قلبه؛ لأن الله علم صدقه وإخلاصه، فنور قلبه، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29].
يقول: ابن تيمية: "فلشدة فرقانة رضي الله عنه وللنور الذي في قلبه جعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كلامه يصيب الحقيقة بلا شك" حتى في صحيح البخاري يقول ابن عمر: [[كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر، وكان لا يقول للشيء كذا إلا أتى]].
كما قال عمر وهو جالس مع الصحابة في المدينة يتحدث بعد صلاة العصر، وإذا برجل قد انحدر من جبل، فقال عمر: أتدرون ما خبر ذلك؟ قالوا: ما ندري! قال: هذا إما ساحر وإما كاهن وترك وديعة في الجبل وأتى.
فأتى الرجل وجلس بين الصحابة فقال عمر رضي الله عنه: يا فلان! قال: نعم، قال: قد كنت ساحراً أو أنت ساحر، وتركت وديعة في الجبل؟ قال: والله ما استقبلني أحد من العرب بمثل ما استقبلتني اليوم يا أمير المؤمنين -أي: كان ينتظر أن يقول له: حياك الله وأهلاً وسهلاً -فقال: أأنت ساحر أو كاهن؟ فسكت الرجل، فقال عمر: أسألك بالله إلا صدقتني، فقال: أما وقد سألتني فأنا سواد بن قارب كاهن العرب، هو كاهن العرب على الإطلاق وليس كاهن قومه، قال عمر رضي الله عنه: وماذا تركت في الجبل؟ قال: مات ابني -يا أمير المؤمنين- في الصباح، فحفرت له وصليت عليه ودفنته؛ لأنه أسلم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وله قصيدة عند ابن هشام يقول:
فكن لي شفيعاً يوم لاذو شفاعة بمغنٍ فتيلاً عن سواد بن قارب
فوقع أمر عمر رضي الله عنه وأرضاه حتى إن أمراء عمر على الأقاليم كانوا إذا أتى يحاسبهم تحرجوا أيما حرج، لأنه سوف يكشفهم بإذن الله.(166/16)
محاسبة عمر للربيع بن زياد
يقول الربيع بن زياد:
ولاني عمر على الكوفة فجمعت الأموال وأتيت أحاسبه في المدينة، فأتاني من الهم ما قرب وما بعد، قلت: إن هذا الرجل سوف يكشف ما عندي وإن أخفيت عنه شيئاً فسوف يظهره الله، قال: فلما جلست عليه كان يسألني فكنت أتحفظ في كل كلمة -حتى لما دخل المدينة كان ثوبه غالياً وثميناً- فلما قربت من المدينة، نزلت عن راحلتي وطويت ذلك الثوب الثمين وشريت ثوباً بثمانية دراهم ولبسته حتى يظهر النسك والزهد أمام عمر رضي الله عنه وأرضاه.
قال: فلما دخلت على عمر قال: أخذ يلمس هذا الثوب، قال: أتيت بشيء، قال: أتيت بالأموال يا أمير المؤمنين، قال: يا فلان! اذهب وائتي بالراحلة، ما أرسل الرجل هذا إلا لأنه سوف يخفي الثوب، قال: فذهب ذاك فأتى بالراحلة فأناخها عنده، فقام ليفتشها فوجد الثوب.
قال: لمن هذا الثوب؟ قلت: لي يا أمير المؤمنين، قال: أتلبس لي ثوباً بثمانيه دراهم، وتلبس لله ثوباً بخمسين درهماً؟!
قال: فما زلت أتحفظ حتى ظننت أني انتهيت من المحاسبة، قال: ثم قلت كلمة ليتني ما قلتها، قالوا: وماذا قلت؟! قال: قلت: يا أمير المؤمنين! أنت أولى الناس بالمطعم الهنيء، والملبس الرضي، والمطعم الشهي، قال: أنا؟! قلت: أنت، قال: انتظرني قليلاً، قال: فضربني فأخذ خشبة فظربني على رأسي قال: اذهب، والله لا تلي لي عملاً أبداً، أي: لا تتولى لي عملاً.(166/17)
محاسبة عمر لعمرو بن العاص
ذكر الذهبي عن عمرو بن العاص أنه قال: أتيت بأموال من مصر ففقدت بعضها وذكرت بعضها، ونسيت بعضها وحفظت بعضها، فلما دخلت المدينة أتاني من الهم ما قرب وما بعد، وقلت: سوف يحاسبني أمير المؤمنين عمر على كل قليل وكثيرٍ.
وكان عمرو بن العاص من دهاة العرب، فإذا لم يخرج نفسه من هذه الورطة فمتى يخرجها؟
قال: فانتظرت حتى أتى بعض الأمراء والولاة على الأقاليم؛ لأن عمر كان يحكم العراق والشام ومصر واليمن، أقاليم كثيرة وواسعة.
قال: فانتظرت حتى أتى الأمراء وجلسوا بجانب عمر، فلما أتى يحدثهم دخلت -ليحاسبه في هذه الزحمة- فلما جلست معه، قلت: يا أمير المؤمنين! قال: تكلم، قلت: يبدأ من هو أكبر مني، قال: فتكلم معاوية، فلما تكلم قاطعت معاوية فقال معاوية: أتقاطعني يا لكع؟ يقول عمرو: فلطمت وجهه، فقام عمر رضي الله عنه قال: ادعوا لي أبا سفيان، أتت مشكلة غير مشكلة المحاسبة، فدعوا أبا سفيان، فقال: إن هذا لطم ابنك فإن تجعلها لله عز وجل يثيبك خيراً منها، قال: قد جعلتها لله، قال: فقم قبل على رأسه ويقبلك على رأسك، قال: فقبلت رأسه وقبل رأسي وقلت في أثناء ذلك: يا أمير المؤمنين! خذ هذه الأموال واتركني أذهب، فذهب فما حاسبه، ذكر ذلك الذهبي وابن كثير في سيرهم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أرضاه وهذا من فقهه.(166/18)
الأسئلة(166/19)
سبب اختيار معاذ لدعوة أهل اليمن
السؤال
لماذا اختير معاذ إلى اليمن؟
الجواب
عند أهل العلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعرف رجال المواقف، يعرف كل رجل ومؤهلاته فيجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجانب الذي يريده، وهذا من حكمته صلى الله عليه وسلم، فهو يضع الأمور في موضعها
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندى
فأهل اليمن لما كانوا أهل كتاب، وكان معاذ هو حامل القرآن، وما اختار لهم رجلاً عسكرياً ولا اقتصادياً ولا سياسياً؛ لأن عمر في الإدارة هو البارع في الصحابة، وأبو ذر في الزهد، وابن عباس في تأويل القرآن والفتوى، لكن يحتاج أهل اليمن إلى فقيه يعلم الحلال والحرام ويعلم فقه الدعوة، فاختار صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه وأرضاه وأرسله.(166/20)
متى دخلت الديانة اليهودية إلى اليمن؟
السؤال
متى دخلت اليهودية اليمن؟
الجواب
قال أهل السير ومنهم ابن إسحاق: دخلت اليهودية اليمن في عهد أسعد بن كرب وهو جد العرب، ولهذا قال: صلى الله عليه وسلم: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب}.(166/21)
فائدة قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنك تأتي قوماً أهل كتاب)
السؤال
ما فائدة قول الرسول عليه السلام {إنك تأتي قوماً أهل كتاب}؟
الجواب
الفائدة عند أهل العلم: أن يأخذ حذره في الدعوة وفي أساليب الدعوة وفي توجيه كلام الناس، فيقول: المدعوون أمامك أهل كتاب فانتبه لعقولهم وفهمهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يكلم الناس على قدر عقولهم، فانتبه واعرض عليهم عرض من يعلم أنه يخاطب أهل كتاب.
ولذلك فرق بين أن يخاطب الإنسان طلبة علم، أو من كان على درجة من المعرفة، وبين من يخاطب أناساً في البادية ما عرفوا من الإسلام شيئاً كالأعراب، وهذا من فقه الدعوة، فإن بعض الناس -وربما قد يكون هذا غير موجود ولكن من باب ضرب المثل- إذا أتى إلى البادية وهم لا يعرفون الوضوء ولا الصلاة، ولا الغسل من الجنابة، ولا يعرفون عن أمور الدين الأساسية فمن الخطأ أن يتحدث لهم عن الربا، أو البنوك الربوية، أو الفكر الإسلامي، أو أسس الدعوة، أو الكلمات المنفوشة والضخمة التي تنطلق من أطر وتنصهر في بوتقة، فينظرون إليه وكأنه يتكلم لهم بالإنجليزي.
ورجل آخر إذا أتى في مجتمعٍ قد عرف الدين والطهارة وعرف أركان الإسلام وأصبح يتلمس إلى الدقائق، أتى إليهم وقال: يا أيها الناس: يجب على الإنسان أن يغتسل من الجنابة وهو واجب، من تركه يعذب.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إنك تأتي أهل كتاب فانتبه إليهم وادعهم كأهل الكتاب، ثم قال: عليه الصلاة والسلام: {وليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله} وهذا هو التدرج في الدعوة، وهذه هي حكمته صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] فإنه يبدأ بأسس الدين وأسس العقائد قبل أن يخاطب الناس في أمور جانبية ولو أنها من السنة، كمن يأتي إلى أناس لا يصلون ولا يصومون ولا يحجون ولا يعتمرون ولا يزكون فيقول: يا أيها الناس: يجب عليكم أن تعفوا لحاكم، فقد صح في تربية اللحى عشرة أحاديث، أيربون اللحى وهم فسقة مردة لا يعرفون من الدين شيئاً.
أو يأتي إلى أناس آخرين قد شهدوا أن لا إله إلا الله، وأصبحوا في العلم والفهم والفقه على درجة عظيمة فأتى يقول: يا أيها الناس: قولوا: لا إله إلا الله، وهم يقولون: لا إله إلا الله وإن كان مقصوده تجديد الإيمان، فهذا وارد وإن كان المقصود أنهم كفرة، فهذا مخطئ.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {وليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله} فالواجب على الداعية بدايةً هو الدعوة إلى التوحيد، ولكل مقام مقال، والداعية أو طالب العلم أو الأستاذ أو المربي أو الموجه يعرف ما هي حاجة الناس.
ولذلك يشترط في مجال الدعوة أن الداعية يعرف أحوال الناس، ولذلك قال أهل التفسير: إن الله عز وجل بعث الأنبياء من أقوامهم {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]
وقالوا: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ ِ} [الفرقان:7] كيف يكون منا؟ فأخبرهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أنه لو أنزل عليهم ملكاً من السماء لما آمنوا ولكفروا به.
إذاً: فالله عز وجل أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس يجوع كما يجوعون، ويشبع كما يشبعون، ويغضب كما يغضبون، ويعرف المشكلات والآمال والآلام التي يعيشها أتباعه عليه الصلاة والسلام، ولذلك هداهم الله به، ولو كان ملكاً لما استطاع أن يتلاءم معهم، قال: {ليكن أول ما تدعوهم شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله} وأن هذه هي دعوته عليه الصلاة والسلام ودعوة كل نبي وكل رسول عليهم الصلاة والسلام، كل نبي يقول: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وأسعد الناس بشفاعته صلى الله عليه وسلم من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه.(166/22)
حكم صلاة الوتر والضحى والسنن الرواتب
{ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قال: فإن هم أجابوك لذلك؛ فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة}.
أخذ أهل العلم من هذا الحديث: أنه لا يجب الوتر ولا ركعتي الضحى ولا السنن الرواتب، وإنما هي سنن فيها المؤكدة وفيها المستحب؛ لأن الله أوجب على رسوله وعلى المسلمين خمس صلوات في اليوم والليلة فقط.
وفي الصحيحين عن أبي طلحة، قال: {كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقدم رجل من أهل نجد ثائر الرأس من الغبار والشعث، نسمع دوي صوته ولا نسمع ما يقول، فقال رسول الله: مالك؟! فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت قال الرجل: والله! لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فانصرف ثم قال عليه الصلاة والسلام: أفلح وأبيه إن صدق} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فالصلوات الخمس المرتبة الثانية بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبعض الناس يقولون: من قال أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله يكفي هذا ويدخل الجنة للأحاديث التي وردت وسبق ذكرها، وسواء صلى بعض الصلوات أو ترك البعض أو صلاها كلها فلا شيء عليه، وهذا ليس بصحيح، ومن قال ذلك فقد أخطأ خطأً بيناً وغلط غلطاً فاحشاً، بل من ترك الصلاة فقد كفر وبرئت منه الذمة، واستبيح دمه وعرضه وماله، نسأل الله العفو والعافية، فالصلوات الخمس في اليوم والليلة هي الفرائض التي افترضها الله على عباده.
فقال عليه الصلاة والسلام: {فإن هم أطاعوك لذلك} أي بعد الصلوات الخمس، وقال أهل العلم: ليس المعنى أنهم إذا لم يطيعوا فلا يخبرهم بما بعدها، فهذا ليس بصحيح وليس بوارد، وإنما درج لـ معاذ الأمور المهمة التي يدعو الناس إليها.(166/23)
دعوة المظلوم
قال عليه الصلاة والسلام: {وإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم} الكرائم جمع كريمة، يقول: أنت جامع للصدقة وللزكاة فلا تأخذ أحسن الشيء من الغنم والبقر والإبل، فإنها من كرائم الأموال، والكرائم هي النفائس الغالية، ثم قال عليه الصلاة والسلام: {واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب} أي ترتفع إلى الله عز وجل ولا يردها راد.
وهل يفهم من الحديث أن بين الله وبين خلقه حجاب إلا فيما بينه وبين دعوة المظلوم؟
لا.
لأن الله عز وجل له معية سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فمعيته للكافر بالرصد وبالإحاطة وبالمحاسبة وبالمراقبة، ومعيته للمؤمن بالنصرة والتأييد والحفظ والرعاية، وفي صحيح مسلم عن أبي موسى -رضي الله عنه وأرضاه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره} سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وهناك فائدة عند كلمة (لا ينام) في سيرة موسى عليه السلام -كما ذكرها أهل التفسير-: أنه كلم الله تبارك وتعالى فقال: يا رب أتنام؟ فقال: يا موسى! لا تنم هذه الليلة، فما نام موسى تلك الليلة، فلما أتت الليلة الثانية قال: يا موسى! لا تنم، فما نام، فلما أتت الثالثة قال: يا موسى! لا تنم فما نام، فلما أتت الرابعة قال يا موسى: خذ قارورتين ثم املأهما ماءً ثم قف هذه الليلة من المساء حتى الصباح ولا تجلس، فوقف موسى عليه السلام وكان ينعس وتكاد تلتطم القارورتان، وعند الفجر لطم بين القارورتين فتكسرتا.
فكلمه الله عز وجل وقال: إني لا أنام ولا ينبغي لي أن أنام، وإني لو نمت لوقعت السماء على الأرض، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41].
فهو سبحانه الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، هذه فائدة عند كلمة "لا ينام" ولكن الشاهد في الحديث: "حجابه النور" أنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا يحجبه نور عن خلقه، وإنما هو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يراهم، بل يرى النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
قال أهل العلم: أي أخفى من السر الذي ما علمه العبد الذي هو صاحب السر، أنت تريد أن تسر شيئاً وقبل أن تسر شيئاً وقبل أن تدري أنت فإن الحي القيوم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يعلمه، فهذا هو معنى يعلم السر وأخفى.(166/24)
الدعوة إلى التوحيد
وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والإسلام كله توحيد ينبع من محبة الله عز وجل، ولابد أن توحد الله عز وجل في المحبة، والعمل توحيد وهو المسمى بالتوحيد العملي الذي يذكره ابن تيمية ويقصد به توحيد العبادة، والتوحيد: معناه الأدب والسلوك مع الله عز وجل مع توحيد القصد والإرادة، ومن جهة أخرى ينقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات وهو بهذا يشمل الإسلام كله، فكل الإسلام توحيد.(166/25)
الكفار مخاطبون بفروع الشريعة
السؤال
هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟
وهل يخاطبهم الله عز وجل ويقول: لماذا لم تصلوا يوم القيامة؟ أو لماذا لم تزكوا؟
الجواب
ذهب كثير من أهل العلم إلى أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة، ودليل ذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام لـ معاذ: {فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم بخمس صلوات} فدل ذلك على أنهم إذا لم يوحدوه فلا يسألهم عن هذا، لكن في القرآن: يقول الله عز وجل للكفار: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:43 - 44] فالله عز وجل أنبأهم على لسان الملائكة، فاعترفوا أنهم لم يكونوا من المصلين ولم يطعموا المسكين، كأنهم مخاطبون، والصحيح: أن الله يحاسبهم على كل ما تركوه من الإسلام، ولكنهم غير مطالبين بها حتى يسلموا؛ لأنهم تركوا أعظم أصل وهو التوحيد.(166/26)
حكم نقل الزكاة إلى بلد آخر
السؤال
هل الزكاة خاصة بأهل البلد فقط؟
الجواب
يقول عليه الصلاة والسلام: {ثم أخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم} في هذا دليل أن الزكاة والصدقة تصرف في فقراء البلد، فلا تؤخذ مثلاً من أبها إلى الطائف حتى ينتهي مثلاً فقراء أهل أبها وتصرف فيهم وهذا هو مفهوم هذا الحديث، وأخذ به الإمام أحمد ومالك وكثير من أهل العلم، وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: من صرفها في أي بلد جاز، والأولى ألا يصرفها الإنسان إلا في البلد الذي هو فيه، وهذا هو الأحسن والأولى، حتى زكاة الفطر من كان هنا في أبها وأهله في بلد بعيد فعليه أن يبذل زكاة الفطر لأهل وفقراء هذا البلد، وزكاة ماله كذلك لفقراء هذا البلد، وإن نقلها فهذا خلاف الأولى.
أما في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه فقد نقلت زكاة خراسان إلى الشام فردها إلى خراسان وقال: توزع على فقرائهم لا على فقراء الشام.(166/27)
حكم دفع الزكاة إلى غير المسلمين
السؤال
هل يلزم إسلام الرجل الذي تصرف له الزكاة؟
الجواب
الفقير الذي تدفع إليه الزكاة لا بد أن يكون مسلماً، ولا يجوز أن تدفع الصدقة إلى يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بوذي، بل يتوخى الإنسان لمن يدفعها حتى يلمس الأصلح فالأصلح، فإذا كان هناك فقيران: أحدهما قانت منيب إلى الله عز وجل، يتقرب إلى الله بالنوافل، يصوم، ويصلى الضحى، ويكثر من الذكر، وهذا فقير ولكنه فاسق يشرب الدخان، ويؤخر الصلوات، ويخالف السنة، فالأولى أن يصرفها على هذا الرجل الصالح كما قال أهل العلم؛ لأنها تكون عوناً له على الطاعة؛ لأن الآخر قد يذهب بها في المعاصي.
فالصحيح ألا تصرف على الكافر وأن الأولى والأصلح هو هكذا.
وأما صرف الزكاة للمؤلفة قلوبهم فهذا صنف ثامن؛ لأن الله عز وجل ذكرهم فإن علمت أن في إعطاء هذا الكافر شيئاً من الزكاة أنه سوف يسلم، أو تكف شره، أو سوف يكون للإسلام دعاية طيبة فلا مانع أن تعطيه شيئاً من الزكاة، كأن تكون تعمل في شركة أو في مؤسسة وفيها بعض الخواجات وفيهم قسوة وعنف فإن عليك أن تعطيه شيئاً من الزكاة تتألفه بها أو يرق قلبه أو تدرأ حدته وشوكته كما نص أهل العلم على ذلك، أو تطمع في إسلامه وعرض الدين عليه فتعطيه من ذلك.(166/28)
وجوب الزكاة في مال الطفل الغني واليتيم والمجنون
وهذا هو الصحيح؛ لأن الله عز وجل قال: {تؤخذ من أغنيائهم -وهذا على العموم- وترد على فقرائهم} فمن عنده طفل وله مال خاص نمى له شيء من الغنم أو الإبل أو البقر أو الذهب، فإنه يأخذ زكاة مال هذا الطفل ويصرفها، وقد يكون هذا الطفل يتيماً ورث أمولاً طائلة، فهذا يؤخذ من أمواله الزكاة وتدفع، وكذلك المجنون الذي ذهب عقله، يأخذ وليه المال فيزكي ويتصدق من ماله، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: {تؤخذ من أموالهم}.(166/29)
بعث السعاة لأخذ الزكاة
الرسول عليه الصلاة والسلام كان يبعث أصحابه في الأقاليم يجمعون المال والصدقة، وهذا دليل لمن قال بنقل الزكاة من مكان إلى مكان؛ لأن عمر وغيره من الصحابة كانوا يذهبون إلى البوادي فيجمعون الزكاة ويأتون بها إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي صحيح البخاري في كتاب الزكاة والجهاد، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً -يعني لأجمع الصدقة والزكاة- فدرت على الناس كلهم فأعطوني زكاتهم، إلا ثلاثة: العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وخالد بن الوليد وابن جميل -أحد الناس الذي عكر عليهم النفاق بعض حياتهم-]]
أما العباس فقد امتنع لأن الرسول عليه الصلاة والسلام اقترض منه زكاة عامين، قال له صلى الله عليه وسلم: ادفع لي زكاة عامين مقدماً؛ لأني أحتاجها في الجهاد، فأخذ العباس زكاة عامين وأعطاها الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول عليه الصلاة والسلام ما نسي لكن أرسل عمر للمسلمين ونسي أن يقول له: لا تأخذ من العباس، فذهب عمر وطرق باب العباس، وقال: ادفع الزكاة، قال: لا أدفعها، واستحى أن يقول: إنها عند الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن دفعها سوف تذهب عليه زكاة ثالثة وما مر إلا عام، فقال عمر رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم: دفع الناس جميعاً إلا ثلاثة: عمك، وخالد بن الوليد وابن جميل، فأتى صلى الله عليه وسلم، يجيبه عن كل واحد ويفصل:
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا عمر! أما تدري أن عم الرجل صنو أبيه -يقول: أتيت تشكو عمي علي وهو أخو والدي بل هو والدي في الحقيقة- أما علمت أنها علي دين ومثلها له.
وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، يقول: دائماً مظلوم، احتبس أدراعه وخيوله ونفسه ودمه في سبيل الله وتطلب منه الزكاة.
لأن خالداً -رضي الله عنه- أوقف ماله في سبيل الله، يقول: ليس لي مال، كل هذه السيوف معلقة في سبيل الله، وهو أبو سليمان يعرف كيف يضرب بالسيف، وفي مؤتة ذكر ابن كثير بأسانيد كثيرة أنه كسر تسعة أسياف بيده حطمها تحطيماً وما ثبتت إلا صحيفةٌ يمانية، وعلق مائة سيف وقال: هي في سبيل الله، وملأ اسطبلاً من الخيول وقال: هي في سبيل الله، فيقول عليه الصلاة والسلام: أما يكفي أن يوقف أمواله في سبيل الله حتى تأخذوا الزكاة من خالد.
وأما ابن جميل هذا فإنه لا عذر له، فقال عنه صلى الله عليه وسلم: فما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله، أي كيف يحق لـ ابن جميل أن يغضب ويتحامل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان فقيراً لا يملك شيئاً من الدنيا فأغناه الله.
وروي أن ابن جميل أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال له: {يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً، فأشار عليه الصلاة والسلام ألا يفعل ذلك؛ لأنه فتنة، فألح عليه فدعا له صلى الله عليه وسلم، فكثر ما له حتى، ترك الجماعة مع الناس في المسجد، ثم ترك الجمعة، ثم منع الزكاة} وهذا ليس بـ ثعلبة.
وقصة ثعلبة لا تصح بل هي باطلة، وأما ابن جميل فهي في صحيح البخاري وسندها صحيح.
فلما ذهب عمر إليه رفض وقال: إنما هي جزية وليست بزكاة، فعاد عمر وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما ينقم إلا أن كان فقيراً فأغناه الله، فأنزل الله عز وجل في ذلك: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة:77].
كذبوا مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فأرسل عليه الصلاة والسلام أصحابه ومنهم معاذ بجمع الزكاة، وهذا واجب على الإمام أن يرسل السعاة وألا يترك الزكاة بأيدي الناس لأنها تضيع، بل الواجب عليه أن يأخذها منهم ثم يصرفها في مصارفها.(166/30)
الصحابة يضربون أروع الأمثلة في الأمانة
ذكر ابن كثير بسند حسن قال: لما فتح سعد رضي الله عنه القادسية وأتى المدائن أتى بأموال منها مائدة سليمان وجدوها في قصر كسرى أنوشروان، مائدة موروثة من عهد سليمان عليه السلام، محلاة بالزبرجد فحملت على جمل ووصلت الأموال إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه فلما أوصلها ابن ناجية صاحب الجمال، نام عمر في تلك الليلة ورأى في المنام كأن من يكويه بكيات من نار، فقام عمر رضي الله عنه وصلى بالناس الفجر، ودعا بعض الصحابة وقال: أعيدوها إلى سعد بن أبي وقاص في العراق، والله لا أتولى شيئاً حماني منه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فذهب بعض أهل العلم يقولون: يتحفظ الإمام أو المسئول في أموال الناس، ويكلها إلى من هو بصير بها ويعرف منافذها ومصارفها ومنافعها.(166/31)
توصية الإمام عامله
كان عليه الصلاة والسلام دائماً إذا أرسل عاملاً أوصاه بتقوى الله عز وجل، وهذا على العموم، ولكن كان يوصي صلى الله عليه وسلم الوصايا بما تناسب الناس، وهذه ليست إلا له صلى الله عليه وسلم، يأتي الرجل المحتد الغضبان، يقول: أوصني فيقول: {لا تغضب} لا يقول له عليه الصلاة والسلام: لا تنفق أموالك؛ لأنه ليس له أموال أو ربما يكون بخيلاً فلا يزيده صلى الله عليه وسلم إلا بخلاً، ويأتي الرجل الشجاع، فيقول: أوصني؟ فيقول: {عليك بالجهاد في سبيل الله} ويأتي الشيخ الكبير فيقول: أوصني؟ فيقول: {لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} ويأتي الغني من ذوي الأموال، فيقول: أوصني يا رسول الله، فيقول: {أشبع الجائع، وفك العاني، وافدِ الأسير} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ويأتي صاحب الوالدة أو الوالدين وهما كبيران في السن قد بلغا الشيخوخة، فيقول: أوصني يا رسول الله، فيقول: {عليك ببر والديك أو ففيهما فجاهد} فهذا له عليه صلى الله عليه وسلم وليست لغيره؛ لأنه لا يعرف أحوال الناس إلا هو صلى الله عليه وسلم بما علمه الله.
فكان يضع كل شيء في موضعه صلى الله عليه وسلم، وكان يؤمِّر من يستحق الإمارة عليه الصلاة والسلام وأتى بعض الناس من الصحابة يطلبون الإمارة فيرفض؛ لأنه يعرف أنهم ليسوا أهلاً بالإمارة لا لقلة دينهم أو لقلة زهدهم أو ورعهم، لكن لأنهم لا يجيدون التصرف في الإمارة كـ أبي ذر قال له صلى الله عليه وسلم: {والله إني أحبك، وأريد لك ما أريده لنفسي، لكنك رجل ضعيف} قالوا: ضعيف لا يحسن تصريف قيادة الجيش، فما ولاه عليه الصلاة والسلام، وفي هذا توصية الإمام، أو توصية من يرسل بتقوى الله عز وجل، وواجب على كل مسئول ومدير ورئيس أن يوصي الموظفين والطلاب عنده بتقوى الله عز وجل صباحاً ومساءً.
قال الإمام النووي: حق على من ولاه الله شيئاً ألا تفتر لسانه بتقوى الله عز وجل للناس، فإنه إذا أدمن صباح مساء أن يوصي بتقوى الله والإخلاص في العلم وبذل الجهد والصدق مع الله رسخت هذه الكلمات ونفع الله بها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
أي أنه لا يكفى أن يقول لهم في الشهر مرة ثم يتركهم، لا.
بل يكرر عليهم هذا دائماً إذا كان ناصحاً وصادقاً ومخلصاً، أما إذا كان غير ذلك فنسأل الله العافية والسلامة.(166/32)
قبول خبر الواحد والعمل به
ورأي العلماء أن خبر الواحد يقبل، وخالف في ذلك المعتزلة وبعض الفرق ردوا خبر الواحد، والصحيح: أن خبر الواحد يقبل، فخبر الواحد قبلناه وقبلته الأمة، فمحمد صلى الله عليه وسلم واحد أرسله الله إلى الناس، وأرسل صلى الله عليه وسلم أصحابه واحداً واحداً إلى الناس فقبلوا خبره.
وكان عليه الصلاة والسلام يقبل خبر الواحد، فقبل خبر الذي أخبره بالهلال، والذي أخبره بأنه قد منع قوم الزكاة، والذي أخبره عليه الصلاة والسلام بصدقات القوم واحد، فقبل صلى الله عليه وسلم خبر الواحد حتى في العقائد.(166/33)
حكم أخذ الغني من زكاة الناس
وهذا معلوم من الحديث: {تؤخذ من أغنيائهم وتعطى لفقرائهم} ومن ملك النصاب فلا يعطى، فقالوا: غني؛ لذلك بعض الناس لِمَ جعل الله في قلوبهم من الجشع والطمع يبذلون أعراضهم ودينهم وماء وجوههم في أخذ شيء من الزكاة والصدقة، فلو كان أحدهم يملك الملايين المملينة ثم سمع أن تاجراً يوزع الصدقات في رمضان، لبس أردى ثيابه، وتحنط بالغبار، وجلس تحت الشمس والريح والبرد، ثم أخذ يمد يده في موقف شنيع مخزٍ، ما يفعله أحد عنده رجولة أو مروءة، فكيف بالذي عنده دين.
فعلى الإنسان ألا ينظر إلى هذا المال، أو يجعله كما يقول ابن تيمية في كتاب التصوف " كالكنيف -يعني: الحمام- إذا احتاج إليه ذهب إليه، وإن لم يحتج فلا يفعل"، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لـ عمر {: ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف ولا سائل وما لا فلا تتبعه نفسك} فإن من أخذ المال باستشراف وبسؤال لا يبارك الله فيه، ويكون كالشاة التي تأكل من خبط الربيع أو من خضراء الربيع ينتفخ بطنها ولكنها ما شبعت، هذا مثل من يأخذ من أموال الناس ويسأل ولا يرد شيئاً ويتطلع إلى الأموال، ولا يرد فاقته بالقناعة وتقوى الله فهذا مثله.
فعلى المسلم أن ينتبه لهذا، فإن من أخذ المال بقناعة أو عدم استشراف بارك الله له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والبركة ليست بكثرة المال ولكن بما ينزله الله عز وجل من حلال فيه وطيب.(166/34)
إذا تلف المال قبل الحلول فلا زكاة
إذا تلف المال قبل حلول الحول فلا زكاة عليه، وهذا ما رجحه ابن حجر وسانده في ذلك الشوكاني وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: تؤخذ من أغنيائهم وقت الحلول، ولكن إذا تلفت قبل الحول فلا زكاة عليه بشرط أن لا يكون مفرطاً.
مثلاً: يكون عنده غنم ومن حمقه لأنه لا يريد أن يدفعها إلى السلطان وأتى وقت حول الزكاة، أتى بسم، فماتت الغنم وقال: ماتت الغنم وأنا ما وجب علي شيء، فهذا إذا علم به تؤخذ عليه الزكاة ويؤدب ويعزر، ومن منعها كما قال عليه الصلاة والسلام كما في سنن أبي داود {فإنا آخذوها وشطر ماله، عزيمة من عزائم ربنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى}.(166/35)
سبب عدم ذكر الحج والصيام في حديث معاذ
السؤال
لماذا لم يذكر الحج والصيام عليه الصلاة والسلام في حديث معاذ؟
الجواب
الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان معتنياً بهذه الأركان الثلاثة، وأما تلك فتأتي تبعاً.
وذكر صلى الله عليه وسلم الزكاة لأنها مقرونة في الكتاب بالصلاة في كثير من المواطن بخلاف الصوم والحج فإنها تأتي تبعاً، وبعض الصحابة منهم من شهد أن لا إله إلا الله، ولكن منع الزكاة مع أنه مسلم ولم يحارب أو يقاتل.
فلما مات عليه الصلاة والسلام ارتدت العرب عن الإسلام -إلا من رحم الله- وبعضهم رفض الإسلام جملة وتفصيلاً، والبعض رفض الزكاة، حتى قالوا:
رضينا رسول الله إذ كان بيننا فما بالنا نرضى بحكم أبي بكر
أيملكها بكر إذا مات بعده فتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فرفضوا الزكاة، فسمع أبو بكر رضي الله عنه ذلك فصعد على المنبر، وأخبر الناس وقال: ماذا ترون؟ فقام عمر: وأشار بألا يقاتلوا، وأشار عثمان بأن لا يقاتلوا، وقام علي وقال: لا يقاتلوا، وأجمع المهاجرون والأنصار في كل المسجد على ألا يقاتلوا.
فسل أبو بكر السيف وقال: [[والذي نفسي بيده! لأقاتلن الذي يفرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وفي لفظ عناقاً- لقاتلتهم عليها]].
ثم عقد الراية وهو على المنبر، ثم سلم الجيوش وأرسل خالداً إلى اليمامة وخالد بن سعيد بن العاص إلى اليمن وعمرو بن العاص إلى ناحية البوادي، وعكرمة رضي الله عنه إلى اتجاه البحرين وكان يعقد الرايات ويقول للصحابة: [[والله لو أخذت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم]].
فنصره الله نصر عزيز مقتدر، حتى أتى الذين منعوا الزكاة في عمائمهم يقودهم خالد وعكرمة وعمرو وخالد بن سعيد بن العاص حتى أدخلوهم المسجد، فقام عمر -رضي الله عنه- على المنبر، وهؤلاء أهل العمائم رافضين الزكاة، في أطراف المسجد ساداتهم ومشائخهم.
فقال أبو بكر: [[اختاروا من اثنتين -وفي لفظ: من ثلاث- قالوا: وما هي يا خليفة رسول الله؟ - أصبح اليوم خليفة بعد أن ذاقوا سيف خالد - قال: إما حربٌ مجلية أو سلم مخزية.
قالوا: بين لنا، قال: السلم المخزية، أن نترككم كالنساء، لا تحملون سيفاً ولا رمحاً ولا درعاً، وتبقون تذهبون مع النساء ومع الأطفال، وتأتون معهم، لا تحضرون معركة ولا غنيمة، ولا فيئاً.
قالوا: والحرب المجلية، قال: أن نلبس سلاحنا الآن وننزل معكم فنتقاتل، فاضطربوا فقالوا: سلم مخزية.
يكفيهم ثلاثة أشهر وخالد يعمل فيهم بالسيف، والآن أبو بكر رضي الله عنه يريد أن يقاتلهم مرة ثانية، ثم قال: إذاً كل من قتل لنا فادفعوا ديته، واشهدوا على أنفسكم أنكم ضلال وأنكم تبتم، وأن قتلاكم في النار وأن قتلانا في الجنة فنكسوا رءوسهم، فقام عمر فقال: يا خليفة رسول الله! أما قتلانا ففي الجنة, وأما أن يدفعوا دية قتلانا فما نرى ذلك، فما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: صدقت، ولهم ذلك.
فسلب أبو بكر سلاحهم وتركهم في عامة الناس]].
وإذا قلنا: لماذا ذكرت الزكاة في هذا الجانب؟
قلنا: فقَّه الله أبا بكر، وشرح صدره، ووافقه الناس على ذلك يوم يشرح الله صدور أوليائه، نسأل الله أن يهدينا بهداه، وأن يوفقنا لرضاه، وأن يأخذ بأيدينا وأيديكم لكل خير، وأن يجعلنا وإياكم من المتفقهين في دينه، المتطلعين على أسرار كتابه، العاثرين على سنن نبيه صلى الله عليه وسلم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(166/36)
كيف تعيش مع القرآن؟
القرآن الكريم حبل الله من تمسك به نجا ومن تركه غرق.
والشيخ في هذه المادة تطرق إلى كثير من المسائل والأحكام المتعلقة به، من أوصافه، وفضائله، والحث على تدبره، وحال الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه، ووسائل حفظه.(167/1)
أوصاف القرآن
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها المسلمون: عنوان هذه المحاضرة: كيف تعيش مع القرآن؟
عظمة المسلم تكمن في مصاحبته لهذا القرآن، وفي العيش معه، وفي تلاوته وتدبره، والعمل به وحفظه؛ لأنه مبارك، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] فهو مبارك.
قال بعض العلماء: مبارك في تلاوته وحفظه وفي العمل به، وتعليمه، ومبارك في الرقية به، ومبارك في طلب مداواة الأجسام والقلوب منه، وقال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] كلام الله، أنزل ليوجه هذه الأمة، أنزل وليحكم هذه الأمة، وأنزل لتسير هذه الأمة عقيدةً وأخلاقاً وعبادةً وسلوكاً ومعاملةً على هذا القرآن: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] من استكفى به كفاه، ومن طلب الشفاء منه شفاه، ومن طلب الحماية في ظل من أنزله حماه، ولكن من طلب الهدى من غيره أضله الله، وأعماه وأخزاه ونكَّل به؛ ولذلك كان مصدر حياة المصطفى عليه الصلاة والسلام:
آياته كلَّما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم
أتى على سفر التوراة فانهدمت فلم يفدها زمان السبق والقدم
ولم تقم منه للإنجيل قائمة كأنه الطيف زار الجفن في الحلم
سبحان من أنزله! وسبحان من تكلم به!
وهذا الدرس بعنوان: كيف تعيش مع القرآن؟
هو على عناصر:
1 - أوصاف القرآن.
2 - مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم مع القرآن.
3 - الحث على تدبر القرآن.
4 - تحزيب القرآن وفي كم يُقرأ القرآن، وكم تختم القرآن، وما هو وردك اليوم من القرآن؟
5 - كيف تحفظ القرآن، وما هي الوسائل التي تعين على حفظ القرآن -بإذن الله- لمن أراد أن يحفظ القرآن؟
أما أوصاف القرآن فسماه الله ذكراً، والذكر هو الشرف والرفعة والمجد، فقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44] ومعنى الآية أنه شرف لك -يا محمد- ولقومك، وأنه مجد لك -يا محمد- ولقومك، وأنه علو وبهاء وثناء لك -يا رسول الله صلى الله عليك وسلم- وقومك العرب من هم إلا بالقرآن؟!
ما هو تاريخ العرب إلا بالقرآن.
ما هو مجد العرب إلا بالقرآن.
{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44] قال تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1] ذي الشرف والرفعة.
وسماه الله روحاً: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ} [الشورى:52] والروح هي التي تقوم بها الأجساد، فإذا ماتت الروح ماتت الأجساد ولم تهتدِ.
وسماه الله نوراً ووصفه الله بأنه يهدي للتي هي أقوم، وأنه شفاء لما في الصدور، وأنه مبارك وأن آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.
وهو الصراط المستقيم، وهو حبل الله المتين، وهذا من كلام علي موقوفاً عليه عند الترمذي، فلذلك لا يمدح المادحون كتاب الله مثل ما مدحه الله، ولا يمدحه بعد الله إلا رسول الله عليه الصلاة والسلام.
كان عليه الصلاة والسلام يستعرض السرية من الصحابة فيقول لأحدهم: {كم معك من القرآن؟ قال أحدهم: أحفظ سورة البقرة، قال: اذهب فأنت أميرهم} وهذا من حديث أنس وهو صحيح.
فقرب الناس من الرسول عليه الصلاة والسلام بالقرآن، حبه لهم لصلتهم بالقرآن، كثرة تلاوة الصحابة للقرآن؛ تقربهم إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فقد صح من حديث جابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بالشهداء في أحد فيقول: {أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فيقولون: هذا، فيقدمه إلى القبلة ثم من بعده، ثم يصلي عليهم}.(167/2)
مكانة قارئ القرآن
إن حفظة القرآن أئمة في الدنيا وفي الآخرة، فقد صح من حديث ابن عمر مرفوعاً إليه عليه الصلاة والسلام: {أنه يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتقِ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها} والذي يظهر من النصوص أن معناه في حافظ القرآن، وليس في الذي يتلوه من المصحف، وذلك لأمور:
1 - أنه ليس في الآخرة مصاحف، وهناك يقال لمن يقرأ القرآن: اقرأ وارتقِ ورتل.
2 - أنه جعل فيه حداً نسبياً، فلو كان لمن يتلو من المصحف لكان الناس مشتركين في هذا الفضل جميعاً، ولكن يقال لأهل القرآن من الأمة المحمدية: {اقرأ وارتقِ ورتل} فكلما قرأ آية ارتقى في الجنة درجة، وفي الجنة درجات بين الدرجة والأخرى كما بين السماوات والأرض نسأل الله من فضله، فيقول: {اقرأ وارتق} فإذا وصل إلى محفوظه وقف، فإن منزلته عند آخر آية يقرؤها.
فبعضهم يحفظ جزءاً وبعضهم يحفظ جزأين، وبعضهم يحفظ نصف القرآن، ولكن الذي يحفظ القرآن كما جاء عن ابن عمر موقوفاً عليه: [[من حفظ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه]] وقال أبو الدرداء: [[احفظوا القرآن فإن الله لا يعذب قلباً وعى القرآن]].(167/3)
خيرية حافظ القرآن ومكانة أبي بن كعب
فكلام الله لا يحفظه إلا موفق، ولذلك كان هو السبب العظيم الذي كان صلى الله عليه وسلم يشرف أصحابه به، فقد كان يحب أبي بن كعب سيد القراء رضي الله عنه وأرضاه، حتى يقول عمر: [[أقرؤنا أبي، وإنا نأخذ ونترك من بعض قراءة أُبي]] وقد صح ذلك عن عمر.
وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس فنسي آية فلما سلَّم قال الصحابة: {يا رسول الله! أنسخت الآية أم نسيتها؟ -فمن يسأل، ومن صاحب هذا التخصص؟ معاذ تخصصه الحلال والحرام، وعلي قاضي، وزيد بن ثابت فرضي، وحسان بن ثابت أديب مسلم، لكنه أعطى القوس باريها- فقال: يا أبا المنذر! أكما يقول الناس؟ قال: نعم يا رسول الله!}
وفي الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأله -والمسألة تناسب تخصص أبي - فقال له: {أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:2] فضرب على صدره وقال: ليهنك العلم أبا المنذر} ليهنك هذا الفتح العظيم، ليهنك هذا التقدم، إذا افتخر الناس بالشهادات، وافتخروا بالشاة والنعم أو بالمناصب والوظائف فليهنك هذا الفضل العظيم:
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد شهم يموت بموته بشر كثير
وذلك كـ أبي.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام، أن الله لما أنزل عليه سورة البينة ذهب إلى أبي وطرق عليه الباب وقال: {إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة، فقال أبي: وسماني في الملأ الأعلى؟ -أنا معروف في السماء من أنا، أنا لولا الرسالة الخالدة لست بشيء- قال الرسول صلى الله عليه وسلم: نعم سماك الله في الملأ الأعلى، وقرأ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم سورة البينة} ولذلك يتفكه المحدثون ويقولون: هل عرض الرسول صلى الله عليه وسلم على شيخ من الشيوخ؟ قالوا: عرض على أبي.
وعند أحمد في المسند بسند صحيح، قال أبي بن كعب: {قال المشركون لرسول الله: انسب لنا ربك -أي: من أبوه ومن جده؟ سبحان الخالق! لم يتخذ ولداً ولا والدة ولا زوجة: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَات وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95] فسكت عليه الصلاة والسلام فأنزل الله قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]}.(167/4)
الحث على تدبر القرآن
فلا قراءة إلا بتدبر، فالتدبر يثمر الإيمان، ويزرع في قلبك الإخلاص، ويربيك على التوحيد، والقرآن ما نزل إلا للتدبر، أن تسمع إذا قرأ الإمام ثم تتفكر: من أنزل هذا الكتاب؟! من أنزل هذا الكلام؟! ماذا يراد من هذا القرآن؟! ما هو المطلوب منا إذا قرأنا واستمعنا هذا القرآن العظيم؟
قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29].
ذكر ابن القيم أن امرأة صالحة مكثت في قراءة القرآن سبع عشرة سنة في ختمة واحدة، وذكر الغزالي في الإحياء أن بعضهم يمكث عمره ليختم ختمة واحدة، لكن أخذ القرآن تكاليف أمور ربانية؛ حلال وحرام، أخلاق وسلوك وعقيدة.(167/5)
كيف تحفظ القرآن
وعن أبي عبد الرحمن السلمي وغيره من القراء قالوا: [[كان الصحابة عثمان وأبي وزيد يخبروننا: أنهم كانوا يأخذون القرآن من الرسول عليه الصلاة والسلام عشراً عشراً، فلا يتجاوزونها حتى يعلمون ما فيها من العلم والعمل، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً]] وقد صح هذا من كلام ابن مسعود.
وكان أبو العالية يقول: [[كنا نقرأ القرآن خمساً خمساً]] وهو تابعي جليل، والمقصود هنا تدبر القرآن، وورد في ترجمة أبي بكر الصديق أنه كان له مصحف معلق في بيته، فكان إذا دخل بيته أخذ المصحف وتدبر آيات ليعمل بها، فكان أبو بكر قرآناً يمشي على الأرض، وكان عمر قرآناً يمشي على الأرض، فكل آية يعملون بها.
القرآن لم ينزل فقط لنقرأه على الأموات، ولا لافتتاح الحفلات، ولا تعاويذ وتمائم تعلق في رقاب المرضى، ولم ينزل للتباهي بأخذ الجوائز.
فإن بعض الناس -نسأل الله العافية- لا يحفظ إلا للجوائز وطلب المال وللتأكل به عند الناس والسلاطين، فشر الناس وأضلهم وأبعدهم أولئك الذين اتخذوا دينهم لعباً، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175].
فالقرآن أعظم من ذلك، فقد نزل القرآن إيماناً، وعقيدةً، ونزل سياسةً ومعاملةً، ونزل أخلاقاً وسلوكاً.
فوصيتي لنفسي ولإخواني أن يقرءوا القرآن ويقفوا عند كل آية وينظروا ماذا تريد الآية منهم إن كانت أمراً فائتمر، وإن كانت نهياً فانته، وإن كانت خبراً فصدِّق، وإن كانت قصةً فاتعظ، فالقرآن ليس بأحاديث سمر.(167/6)
القرآن كتاب هداية
أيها المسلمون! إن القرآن ما نزل إلا لهدف الهداية، والسر في القرآن كما يقول أبو الأعلى المودودي شكر الله له ورحمه الله في كتابه العجيب أسس في قراءة القرآن الكريم يقول: القرآن ما نزل كتاب هندسة؛ لأن بعض المفسرين مثل صاحب الجواهر يأتي بأمور القرآن بعيد عنها وما قصدها، فهو يقول في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] يقول: هذا دليل على أن الخط المستقيم أقرب موصل بين نقطتين، وهل نزل القرآن لهذا؟! وقال في قوله تعالى: {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} [المرسلات:30] قال: فيه دليل على أن إحدى زوايا المثلث منفرجة، لا إله إلا الله! {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] ولذلك رسم حيات في التفسير، ورسم عقارب عند ذكر الحشرات ورسم بحاراً ورسم غزلاناً، والقرآن لم يأتِ بهذا.
وثانياً: القرآن لم يأتِ تاريخاً، يخبرنا متى ولد فرعون، ومتى مات، وكم عنده من أطفال، وماذا كان يفطر ويتغدى، بل أتى يبين ضلال فرعون وكفره وطغيانه، وأتى يبين الضلال والهداية للناس، فهذا سر إذا عرفه الإنسان مضى في القرآن.
الأمر الثاني: أن القرآن ليس كتأليف الناس، فالقرآن يختلف عن التآليف البشرية، فالتآليف فهارس، والباب الأول فيه أربعة فصول والفصل فيه ثلاث عشرة فقرة، لكن القرآن أمره عجيب، فهو يحدثك عن التوحيد، ثم ينطلق بك إلى الطلاق؛ فإذا انتهى عاد بك إلى اليوم الآخر، فإذا انتهى أتى بك إلى الجهاد، أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً، والمقصود التدبر.(167/7)
مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة مع القرآن
في فصل: جيل قرآني فريد؛ كلام عجيب، من ضمن ما فهمت من هذا الفصل أنه ليس عند الصحابة ثقافة إلا القرآن، لم يكن عندهم مجلدات ولا مصنفات ولا صحف ولا جرائد، أما نحن فابتلينا بثقافات ملأت قلوبنا وعقولنا وأبصارنا وأسماعنا، ثم أظلمت قلوبنا إلا ما رحم ربك، تجد الواحد يظل ست ساعات يقرأ الصحيفة، ولا يقرأ آيات من القرآن، أحدهم يقول لصاحبه وهو على مكتبه يحاوره: والله! ما فتحت المصحف ستة أشهر، لكنه نشيط في قراءة الصحف، إعلانات شركات الإسمنت، درجات الحرارة، الصيدليات المناوبة، وأخبار من ضيع تابعية ومن هذا القبيل، أما النور والهداية والحبل الوثيق والصراط المستقيم فلا يقرأ، وبعضهم يقف أمام الشاشة سبع ساعات، أما القرآن فلا يقرأ ولا يسمع، مستعد أن يرى الأفلام، ويسمع الغناء، ويقرأ المجلات ويقرأ الصحف، ويشارك ويمزح؛ لكن القرآن ما وصل إلى قلبه، فكيف يهتدي؟!
فسر الإنسان وهدايته في هذا القرآن.(167/8)
حب سماع الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن من غيره
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يطلب من أصحابه أن يقرءوا عليه القرآن وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال لي الرسول صلى الله عليه وسلم: {اقرأ عليَّ القرآن، قال: قلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟! -يعني من أنا حتى أقرأ عليك القرآن وأنت الذي أنزل عليك- قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فابتدأت بسورة النساء حتى بلغت قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] فقال لي الرسول صلى الله عليه وسلم: حسبك الآن، فنظرت فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام} تأثر، وكان صوت ابن مسعود جميلاً، ولذلك يجد الإنسان من الإمام الجميل الصوت من التأثير ما لا يجده من الآخر.
وقال ميمون بن مهران: لا بأس أن يتتبع المسلم الإمام حسن القراءة أو جميل الصوت أو كما قال، وهذا طيب؛ لأن الإنسان يخشع وراءه، ويجد من التلذذ ما لا يجده خلف رجل ليس بحسن الصوت أو حسن التجويد.(167/9)
قراءة أبي موسى على الصحابة
وأبو موسى كان يقرأ على الصحابة كما كان يقول عمر: [[اقرأ علينا يا أبا موسى! ذكِّرنا بربنا]] فيقرأ أبو موسى والصحابة يتباكون.
وقد صح أن أبا موسى قرأ ليلة من الليالي فمر عليه الصلاة والسلام فاستمع لقراءته، وفي الصباح لقيه وقال: {يا أبا موسى! لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود} هذه فرصة عظيمة أن يبشره، تصور أنك تصلي في مثل هذا المسجد ولا تدري من يستمع لك، ثم يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا استمعت لك، قال: {لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود، فيقول أبو موسى: والذي نفسي بيده! لو كنت أعلم أنك تستمع لي لحبرته لك تحبيراً} يعني لجمَّلته وحسنَّته.
ولذلك قال الإمام مالك لأجل هذا الحديث: لا بأس أن يتكلف الإمام في تحسين صوته، بدون تكلف يخرج إلى المشقة كما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله.
وعند أبي حاتم بسند صحيح: {أنه عليه الصلاة والسلام مر في ليلة من الليالي في سكة من سكك المدينة فسمع عجوزاً وراء الباب تقرأ سورة الغاشية وتردد من وراء الباب وتقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فجعل صلى الله عليه وسلم رأسه على صائر الباب، وأخذ يبكي ويردد معها: نعم أتاني، نعم أتاني، كلما قالت ورددت هذه الآية قال عليه الصلاة والسلام: نعم أتاني، نعم أتاني}.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يحيي ليله بالقرآن، وكان لا يجلس مجلساً إلا ذكر الله عز وجل، وكانت خطبه ومواعظه وفتاويه من القرآن، فلذلك لما سئلت عائشة كما في صحيح مسلم عن خُلُقه صلى الله عليه وسلم، قالت: {كان خُلُقه القرآن} فإذا قرأت القرآن فهو ترجمة حية لحياته عليه الصلاة والسلام.(167/10)
تحزيب القرآن وحفظه
كيف نحزِّب القرآن؟ وما هو تحزيب القرآن؟ وفي كم نختم القرآن؟
أيها المسلمون! اعلموا أن الدين يسر ليس بالعسر، وما جعل عليكم في الدين من حرج، قال تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1 - 3] لكن تسعد فلا تشقى في تلاوة القرآن، ولا في القيام بالقرآن، ولا في حفظ القرآن، ولا في العمل بالقرآن، واعلموا أن ظروف الناس تختلف، فيهم العامل المنهك بعمله، والأستاذ المشغول بتعليمه وتلاميذه، والطالب المشغول بامتحاناته، والمزارع والتاجر والسلطان، فالله عز وجل جعل تحزيب القرآن لظروف الناس، وهذه أمور لم تتقيد بأمر واجب تكليفي من الله ورسوله بل تركت للناس.(167/11)
دروس من قصة عبد الله بن عمرو
هناك أمور نسبية تقريبية أذكرها لكم، والأصل في ذلك ما في الصحيحين من حديث ابن عمرو أنه كان يختم القرآن كل ليلة، ويصوم كل يوم واعتزل أهله، فذهبت امرأته إلى أبي عبد الله عمرو بن العاص داهية العرب، الصحابي الجليل، فشكت زوجها، فهي تريد حياة زوجية -فهو رضي الله عنه وأرضاه ظن أن الإسلام عبادة فقط، وإلا فالسعي على الأهل عبادة، وإعطاء الزوجة حقها عبادة، وطلب التجارة لمرضات الله عبادة، والكسب عبادة، والجهاد عبادة، والنوم إذا قصد به وجه الله عبادة، لكن ابن عمرو رضي الله عنه وأرضاه ظن أنه للعبادة فقط، قراءة وصيام، يصوم النهار ويفطر مع الغروب، يصلي المغرب والعشاء ويأتي وقد نامت زوجته، ويصلي إلى الفجر ويبكي وأصبح برنامجه هكذا- فذهبت إلى أبيه وقالت: تزوجت رجلاً ليست له حاجة بالنساء، إذا كان كذلك فليطلق سراحها، فذهب عمرو بن العاص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ورفعه إلى القائد الأعلى؛ فهذه قضية لا يفصل فيها إلا محمد صلى الله عليه وسلم لأمرين:
الأمر الأول: إما لأن عمرو بن العاص يريدها أن تكون قاعدة للناس جميعاً؛ لأنه يريد أن يأتي من المشرِّع صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: أو أن عمرو بن العاص أراد ألا يواجه ابنه، وأراد أن يكون الخطاب لابنه من محمد عليه الصلاة والسلام ليكون أنفع وأقبل.
فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: {يا رسول الله! ابني زوجته فتاة جميلة من آل فلان، ثم تركها، فكان يصوم النهار ويقوم الليل، قال: ائتني بابنك، فلقيه صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا عبد الله! أأنت الذي يقال عنك أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: نعم يا رسول الله! وما أردت إلا الخير، قال: لا إن لربك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه} ما أجمل الإسلام! ما أجمل التشريع! هكذا الروعة، وهكذا الإبداع، وهكذا الجمال! دين يتربى عليه البدوي في الصحراء، والملك في القصر، والجندي في الساحة، والفلاح في المزرعة، والتاجر في الدكان، دين عام حق يصل إلى القلوب، ليس كدين الكنيسة أو الرهبوت أو الكهنوت، التي قال الله عنها: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27].
أما ديننا فدين كامل يصلح للجميع، فلما أعطاه هذه القاعدة، قال: {اقرأ القرآن في شهر، يعني اختم القرآن في شهر ولو أن في بعض الروايات يذكرها بعض المحدثين في أربعين يوماً، لكن لا أظن أنها صحيحة، ففي الصحيحين في شهر يعني: في كل يوم جزءاً- قال: إني أستطيع أكثر من ذلك، قال: اقرأه في عشرين -وفي بعض الألفاظ في خمسة وعشرين- قال: أستطيع أكثر من ذلك، قال: اقرأه في خمسة عشر، قال: أستطيع أكثر من ذلك، قال: اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك} لأن أمامك متطلبات؛ قد يمرض الإنسان أو يسافر، أو قد يأتيه ضيف قريب أو جار أو رحم.
ونازله صلى الله عليه وسلم في الصيام وقال له: {صم من كل شهر ثلاثة أيام، قال: أستطيع أكثر من ذلك، فزاده صلى الله عليه وسلم حتى قال له: صم يوماً وأفطر يوماً} وهذا صيام داود عليه السلام.
ثم أخبره بقيام الليل، فقام ابن عمرو، ولما كبر ابن عمرو وشابت لحيته ورأسه ودقَّ عظمه، قال: [[يا ليتني قبلت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم]] يقول: يا ليتني ختمته في شهر، وياليتني صمت من كل شهر ثلاثة أيام.
والسبب أنه ما يريد أن يترك شيئاً شبَّ عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم بعيد النظر ويربي أجيالاً؛ لأن هذا الدين للملايين ليس لي ولك فقط، صحيح أنك تستطيع شيئاً، أما أن تفرضه علي فلا، أنت أعطاك الله عضلات وقوة تستطيع أن تفعل شيئاً، لكن أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك، ولذلك ترك التطوع للناس.(167/12)
كيف نقسم القرآن على الأيام
أيها الإخوة! تعالوا اليوم لنختم القرآن في شهر كلنا، أو فإن لم نستطع ففي كل يوم حزب، ولا بأس أن تختمه في شهرين، ومن يفعل ذلك ففيه تقصير، لكن ما لا يدرك جله لا يترك كله، والإنسان بظروفه، حتى إن بعض العلماء قالوا: لا يفوته أن يقرأ في المصحف يوماً ولو شيئاً يسيراً، والقرآن لم يأت بفريضة في جزء ولا حزب لكن أقرب ما أقول: حزب، أما طلبة العلم والأئمة والعلماء فلهم أحزاب أخرى، لكن جمهور الناس لا يفوتهم في اليوم حزب، وكان الصحابة عموماً يختمون القرآن في سبعة أيام، ذكر هذا ابن تيمية وغيره، يقول ابن تيمية: كان الصحابة يختمون القرآن في سبعة أيام، كلهم أو جلهم وهو الأشبه.
وكان الإمام أحمد يختمه في سبعة أيام، وابن تيمية يختمه في سبعة، وكثير من الأئمة، وكانوا يحزِّبونه كما يلي: ثلاث، وخمس، وسبع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، والمفصل، أي: ثلاث سور في يوم، البقرة وآل عمران والنساء ثلاث، وتأتي خمس بعده، ثم سبع سور في اليوم الثالث، ثم تسع في اليوم الرابع، ثم إحدى عشرة في اليوم الخامس، ثم ثلاث عشرة سورة في اليوم السادس، ثم من ق إلى الناس في اليوم السابع.
فجل الصحابة كانوا يفعلون هكذا، أبي وزيد وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم، وذكره أيضاً صاحب الإحياء الغزالي.
وذكر ابن تيمية توزيعاً آخر لمن يختمه في شهر، قال: إما جزء وإلا فليجعل البقرة جزءين، وآل عمران جزءين، ثم أتى يقسم السور مرة سورتين ومرة ثلاثاً حتى قسمها على ثلاثين يوماً.
والآن -الحمد لله- القرآن مجزأ عندنا ثلاثين جزءاً لمن أراد أن يقرأه في شهر، ومحزب لمن قَصُر به الحال، فأراد أن يأخذ حزباً في اليوم.
وقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث} وهل هو منهي أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث؟ أما الفقه فلن يفقه، أي لا يستفيد في التدبر، لكن الأجر أرى أنه يؤجر إن شاء الله، وقد ذكر الأئمة أن بعضهم كان يقرأ القرآن في يوم واحد.
فـ الشافعي ذكر عنه المترجمون كـ الذهبي وغيره أنه قرأ القرآن في رمضان ثلاثين مرة، وقرأه البخاري كذلك، وهذا ليس ببعيد، بل أعرف من العصريين من قرأ القرآن في يوم واحد، وهذا يحدره حدراً ويتمتم به تمتمة وهو لا يتدبر ولكنه يريد الأجر؛ لأن من قرأ القرآن فله بكل حرف حسنة والحسنة بعشرة أمثالها: {لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف}.(167/13)
وسائل حفظ القرآن
القرآن هو الشرف العظيم، والذكر الحكيم، والنور المبين، فكيف نحفظ القرآن، وما هي الوسائل؟
أنا أسردها سرداً ثم أعود بشيء من البسط والشرح لبعض المسائل.
الوسائل التي تعين على حفظ القرآن إحدى عشرة وسيلة وهي كالتالي:
1 - الإخلاص وطلب ما عند الله، وطلب ثواب الله من هذا القرآن، لا ليتأكل به، ولا ليقال قارئ؛ لأن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة منهم: قارئ حفظ القرآن ليقال: إنه قارئ أو ليقال أنه حافظ.
2 - تفريغ البال من هموم الدنيا ومشاكلها.
3 - كثرة الاستغفار.
4 - التكرار: أن تأخذ مقطعاً وتكرره أكثر من خمسين مرة، بعض علماء الهنود من الأحناف، يقولون: يكرر المقطع خمساً وسبعين مرة إلى ثمانين مرة.
5 - اختيار الوقت المناسب.
6 - تقليل المحفوظ.
7 - أن يكون حفظك على مصحف واحد.
8 - سماع القرآن من الشريط الإسلامي ومن الأئمة المقرئين.
9 - معرفة معاني القرآن، بقراءة تفسير مبسط في ذلك.
10 - تلاوة القرآن في الصلاة، وفي النوافل والفرائض، وقيام الليل.
11 - المراجعة مع صديق لك وصاحب، وما أكثر الأصحاب والأصدقاء! لكن ما أكثر الضياع مع الأصحاب والأصدقاء!(167/14)
الإخلاص
الإخلاص: كل عمل لا يكون فيه إخلاص فهو ضياع، وصاحبه ليس موفقاً ونهاية العمل إلى الفشل.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وقال أيضاً: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:7].
{وإنما الأعمال بالنيات} {من أشرك معي غيري في عمل تركته وشركه}.
والأمور التي تدخل في حفظ القرآن غير الإخلاص أو التي تضاد الإخلاص، كأن يحفظه الإنسان ليشتهر بين جماعته وقريته أنه حافظ، أو ليعين في المسجد أو ليتأكل بالراتب، ليس قصده الإمامة، ولا نفع المسلمين لكن قصده فقط الحفظ، لأنهم يشترطون أحياناً في الإمام أن يحفظ جزءين أو ثلاثة أو أربعة فيكر ويفر على الجزءين فإذا سبق ونجح وأصبح إماماً ترك الجزءين فنسيهما.
ومنهم من يحفظ للامتحانات فقط، ولذلك بعض الجامعات والكليات والمعاهد يحفظ فقط قبل الامتحان بأيام، فإذا قدم ورقة الامتحان نسي القرآن فنسيه الله، ومنهم من يعلن عن جوائز باهظة من أحد المحسنين أو أحد الهيئات فيتقدم فيكر الليل والنهار ويسهر، فهو يسهر من أجل ثلاجة أو غسالة أو مجموعة أحذية، وهل هذه تعادل كتاب الله عز وجل؟!
أهكذا يفعل مع كتاب الله عز وجل؟!
أهكذا يشترى به ثمن قليل؟ هل أصبح القرآن رخيصاً لهذه الدرجة؟
فإذا فاز في المقابلة وفي المسابقة أخذ الجائزة ثم نسي القرآن وأعرض عنه.
وبعضهم لا يقرأ القرآن في رمضان إلا ليجيب عن الأسئلة -الثلاثين سؤالاً- فتجده يفتح القرآن كأنه يفتح معجماً، أو كأنه في كتاب تاريخ يبحث عن تراجم؛ لأنه لا يعيش مع القرآن، ولا يدري أين القرآن؟
ولذلك بعضهم لو سألته عن سورة مشهورة وهو يقرأ ما أعطاك خبرها، تقول له: افتح (تبارك) فيبحث لك عند سورة الناس؛ لأنه لا يعيش مع القرآن.
وبعض الناس من كثرة قراءته في المصحف لو تسأله في آية لفتح عليها في سورة كذا ورقم كذا، عاش مع القرآن، تذوق القرآن، أحيا قلبه بالقرآن.
وبعضهم يحفظ من أجل التقدم على زملائه، وبعضهم يحفظ من أجل أن يقرأ في الحفلات العامة، وبعضهم يحفظ ليهول الناس بصوته وبكائه في صلاة التراويح.
وبعضهم يحفظ لتسجل أشرطته بواسطة هذا القرآن ويقال: المقرئ المفضل، وكلها نسأل الله العافية والسلامة من هذه المقاصد.
فيجب أن يحفظ القرآن لله عز وجل: {أول من تسعر بهم النار ثلاثة منهم: قارئ سأله الله أما علمتك القرآن؟ قال: بلى يا رب! قال: ماذا عملت به؟ قال: قمت به وأحللت حلاله وحرمت حرامه، فيقال له: كذبت، إنما تعلمته ليقال قارئ وقد قيل، خذوه إلى النار فيأخذونه حتى يلقى على وجهه في النار}.(167/15)
تفريغ البال
المسألة الثانية تفريغ البال: فالقرآن لا يستقر مع هموم الدنيا، وبعض الناس يشتغل بالتوافه حتى تستولي على عقله وفكره، يفكر في الغداء وهو في صلاة الظهر، وفي العشاء وهو في صلاة العشاء، يفكر في مسائل جزئية حتى يصبح حاله شذر مذر، أمره عجيب، يذكر الذهبي أن بعض المحدثين غلب عليهم حب الحديث وأفرطوا فيه حتى ضيع عليهم الخشوع في الصلاة.
وذكر أن أحدهم قام فقال: الله أكبر -في صلاة الظهر- فرفع صوته بالقراءة وقال: حدثنا الربيع بن سليمان، وبعضهم يقرأ التحيات وهو في الفاتحة من الشواغل التي مرت عليه، ويقرأ الفاتحة في التحيات.
فهذا لا يحفظ القرآن، بل هذا له محفوظات أخرى، لذلك تجد بعض العوام يحفظ القصائد التي قيلت حتى يكاد يجمع مجلدات، يجلس في المجلس يقول: قالت قبيلة كذا ترد على كذا، وقال فلان من آل كذا يرد على فلان من قبيلة كذا، وملحمات في ذهنه، لكن إذا سألته اقرأ سورة تبت يقول: ما حفظتها، الدين يسر ويكفي الفاتحة تقوم بها الصلاة، لكن القصائد مسجلة.
وبعضهم يحفظ أرقام الهاتف غيباً وأسماء المجلات، وأسماء العواصم، والصادرات والواردات، ورؤساء الدول، ووزراء الخارجية، لكن لا يحفظ من القرآن شيئاً.
والبخاري ذكر عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمته أنه قال: أردت أن أكتب لأقاربي في بخارى فنسيت اسم بعض خالاتي وعماتي، كذا ذكرها الذهبي؛ لأن البخاري توجه إلى القرآن والحديث، كتابه التاريخ الكبير فيه ألوف مؤلفة من الرجال فخدم به سنة الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ما من رجل كتبته إلا وأعرف أين ولد، ومتى توفي، وأين توفي، وكم يروي، ولذلك لما رآه أبو عبيد القاسم بن سلام وعبد الله بن الطاهر راوي الكتاب قالا: هذا سحر، لا أحد يؤلفه، وليس بسحر بل حق مبين، ولكنه من حفظه وذكائه حفظهم بينما لم يهتم بتلك الأمور فنسيها.
ولذلك بعض العلماء يحفظ كثيراً من الأحاديث بالسند، سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز يذكر له الحديث يقول: رواه الترمذي وفي سنده فلان بن فلان، قال فلان فيه: كذا وكذا، وهو أعمى البصر لكنه منور البصيرة: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد:19] بصيرته حية:
إن يأخذ الله من عينيَّ نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
عقلي ذكي وقلبي غير ذي عوج وفي فمي صارم كالسيف مأثور
دروس الشيخ الآن إذا درس يقرأ عليه السند فيتحدث عن الرجل، ثم يتحدث عن من زاد في الحديث، ولذلك من يقرأ فتاويه مثل الجزء الأول مثلاً يقول: قال صلى الله عليه وسلم في حديث أوس بن أوس عند أبي داود: {أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: كيف تعرض عليك صلاتنا يا رسول الله وقد أرمت؟ -أي: بليت- قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} قال الشيخ: ولا يصح الشهداء لأنها زيادة ضعيفة.
والذي علمه هو الله؛ لأنه انتهج إلى العلم:
بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الطل في إشراقه الضافي
تشفي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم درا غير أصداف
يكفي محياك أن القلب يعمره من حبكم والدي أضعاف أضعاف
حياة ليست كهذه الحياة ضياع، الإنسان عمره ستون سنة وهو يحفظ أغاني، ويحفظ أرقاماً، ويحفظ أسماء لا تنفع، وقصائد وخزعبلات! فهذا خطأ، فعمرك محسوب عليك.(167/16)
كثرة الاستغفار
ومنها كثرة الاستغفار: ورد عن ابن تيمية أنه قال: إنها لتعجم علي المسألة فأستغفر الله أكثر من ألف مرة فيفتحها الله علي، يقول: تصعب عليه المسألة فيبحث عن الترجيح والتحقيق فتتعارض عليه أقوال العلماء -بعض الأوقات كما يقول الشوكاني: تتعارض الأدلة حتى تقع عمائم الأبطال، وتتكسر النصال على النصال، يقطر عرق الإنسان، ويفض رأسه وتتشنج أعصابه كيف يجمع بين هذه الأقوال- فيأتي ابن تيمية بالاستغفار؛ لأنه لا يفتحها إلا الواحد الأحد، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام:59] دائماً يبتهل ويدعو الله بالفتح، بل ورد في ترجمته: أنه كان يذهب إلى الخربة القديمة قبل الفجر ويمرغ وجهه في التراب ويبكي ويقول: يا معلم إبراهيم! علمني.
ويا مفهم سليمان فهمني، فعلمه معلم إبراهيم وفهمه مفهم سليمان.
فتأتي إلى النحو فإذا هو أقوى من سيبويه، وفي المنطق أقوى من ابن سينا، وفي الحديث كـ يحيى بن معين، وفي الفقه أقوى من السبكي الشافعي الذي معه، كان يجلس أمام علماء المذاهب فيسمع من عالم المذهب فيقول: مذهبك ليس كذا، الصحيح في مذهبك كذا.
جاء أبو حيان الأندلسي النحوي الكبير صاحب البحر في التفسير فذكر سيبويه، فقال ابن تيمية: في الكتاب لـ سيبويه ثمانون خطأً لا تعرفها أنت ولا سيبويه، قرأ كتاب سيبويه الذي ما يقرأه الإنسان إلا كأنه حديد، وسجل ثمانين خطأً، قرأ المنطق ففتح الله عليه.
كان يغلق عينيه بعد صلاة العصر ويتكلم بشتى العلوم، ويفتحها مع الغروب، ثم يعتذر عن زملائه، وهذا يذكره ابن عبد الهادي يعتزلهم يسلم على الجالسين ويقول لهم: اعذرونا سافرنا عنكم، يغلق عينيه ثم ينطلق مثل البحر {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
وصح أن ابن دقيق العيد عالم الشافعية الذي يجعلونه مجدد القرن السابع، دخل على ابن تيمية فلما رآه يتكلم، قال: رأيت رجلاً كأن القرآن والسنة أمام عينيه، يأخذ ما شاء ويترك ما شاء، ثم يقول لـ ابن تيمية: والله ما أظن أن الله يخلق مثلك -أستغفر الله العظيم- فغضب ابن تيمية، حتى قال ابن تيمية:
أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي
فقير يأخذ هذا العلم بالأسباب، بالاستغفار، وبالفتح من الله، دائماً يرفع يديه، يعلم أنه لا يفتح عليه إلا الواحد الأحد، ولذلك منحه الله من العلوم ما الله به عليم، وأنا لا أعرف أحداً بعد الصحابة أعلم من ابن تيمية، وابن تيمية، لم يتكرر كما يقول المستشرق المجرم، جولد زيهر الذي قال: وضع ابن تيمية ألغاماً في الأرض فجر بعضها محمد بن عبد الوهاب وبقي بعضها لم يفجر حتى الآن.(167/17)
التكرار
يظن بعض الناس أن حفظ القرآن مثل حفظ أي متن؛ كحفظ قصيدة أو حديث أو قصة، لا، فالقرآن يختلف، فإنه ينسى، قال صلى الله عليه وسلم: {تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفسي بيده، لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها} إن لم تتعاهده يخرج منك، والحكمة في ذلك والله أعلم ليبقى الإنسان متصلاً بالقرآن، لا تظن أنك إذا حفظت مقطعاً وكررته مرتين أنك انتهيت، صحيح أنك تحفظه في الحال؛ لكن تنساه، وهذا يسميه الموريتانيون الكتابة (بالرصاص) الذي يكرر مرتين أو ثلاثاً مثل الذي يكتب (بالرصاص) ثم يمحى، أما إذا أردت أن تكتبه كتابة كالنحت على الحجر فكرره أكثر من خمسين مرة، خذ ثلاث آيات كل يوم وكررها أكثر من خمسين مرة، ثم تعاهدها وسوف تحفظ.(167/18)
تقليل المحفوظ
أيها الإخوة! من أراد أن يحفظ القرآن فلا يحفظه بالكثرة، القرآن إذا حفظته جملة فاتك جملة، قال بعض الشباب: حفظت سورة يوسف في يوم، وبعضهم يقول: حفظت سورة الكهف في يوم، وهذا صحيح، لكن لو اختبر بعد أيام فإنه يكون قد نسيها فالحفظ بالتقليل، قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: تقليل المحفوظ والثبات أصل عظيم.
ولذلك وصيتي لإخواني ألا يتجاوزوا في اليوم خمس آيات، قال أبو العالية: [[كنا نأخذ القرآن من الصحابة خمساً خمساً]] وقال أبو سعيد: [[كنا نتعلم القرآن ونحفظه خمساً خمساً]] أربع آيات، خمس آيات في اليوم ثم تكررها ثم تبني عليها في اليوم التالي، وتجعل لك يوماً في الأسبوع كيوم الجمعة تراجع فيه ما قرأت في الأسبوع.(167/19)
الوقت المناسب
أنسب أوقات حفظ القرآن قبل الفجر وبعده، وبعد صلاة المغرب، فهذه أنسب الأوقات للحفظ، والله ذكرها في القرآن: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39] وكذلك الفجر قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] فالفجر تشهده الملائكة، ثم إنك قمت وأنت مرتاح البال ليس في فكرك إلا القرآن، وأرشح إذا أراد الإنسان أن يحفظ مقطعاً أو ثلاثة مقاطع أو أربعة أو خمسة أن يقرأها قبل النوم كثيراً، فإذا استيقظ يقرؤها ويكررها.(167/20)
القراءة في مصحف واحد
مما يعكر على الحفاظ أنهم إذا تنقلوا من مصحف إلى آخر اختلفت واجهات المصحف، وأنا أرشح المصحف الواحد، وليكن هذا المطبوع الموجود بين أيدينا من المجمع فهو من أحسن ما يكون، وهو الذي ينتهي بآية وهو مشهور ومتوفر فليحفظ عليه، شكر الله لمن قام عليه، ولمن أسداه، ولمن قدمه للأمة الإسلامية.(167/21)
سماع القرآن من أشرطة
ووسيلة الشريط أمرها عجيب، كثير من الشباب يحفظ الآن بواسطة الشريط، يجعل الشريط في سيارته على مقطع واحد، وكلما ركب كرره فإذا انتهى عاد، فإذا انتهى عاد حتى يرسخ السماع في ذهنه، أنا أعرف شاباً حفظ سورة الأنعام من الشريط كما يحفظ الفاتحة، وهذا مجرد تعود على الشيء فإذا به يرسخ في ذهنك، بل قدم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى آلة السمع في القرآن على آلة البصر قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36] وقال أيضاً: {وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:9] فالسمع أولاً؛ لأنه أحفظ ما يكون، فوصيتي للإنسان أن يحفظ من طريق الشريط، إما في البيت وإما في السيارة، ويكرر ذلك ليحفظ المقطع الذي يريد حفظه.(167/22)
معرفة معاني القرآن
وهي مما يعين على حفظ القرآن، وقد ذكر ذلك ابن تيمية؛ فإنك إذا حفظت المعنى وحفظت الكلمة أعانك الله بإذنه، مثل قوله تعالى: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً} [النحل:52] لا تدري ما معنى كلمة (واصباً) أو لا تدري ما آخر السور، أحياناً تجده يقول: وكان الله عزيزاً عليماً، والصحيح هو: {وكان الله عليماً حكيماً} [النساء:17] فلو فهم المعنى عُرف أن القرآن لا يختم إلا بهذا.
أحد الأعراب سمع مقرئاً يقرأ قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فقرأ المقرئ: إنه هو العزيز الحكيم -ذكر ذلك مثل ابن إسماعيل وابن قتيبة - قال: لا.
لا يكون هذا، أعرابي لا يعرف القرآن لكنه يعرف لغة العرب، قال الأعرابي: لا يكون بعد المغفرة إلا غفور رحيم، فعاد المقرئ إلى المصحف فقال: صدقت.
فلو كان يعلم معنى الآية ما كان ختمها بشيء لا يناسبها، ومما يرشح في هذا الجانب كلمات القرآن لـ حسنين مخلوف مفتي مصر وقد طبعته الإفتاء وهو مجلد واحد صغير، وهو يعينك على فهم القرآن فهماً مبسطاً، وتفسير الجلالين لا بأس به، ومثل تفسير ابن كثير، أو مختصر ابن كثير لـ نسيب الرفاعي، فهذه أيضاً تعين على فهم القرآن بإذن الله عز وجل.(167/23)
تلاوة القرآن في الصلاة وقيام الليل والنوافل
إذا حفظت مقطعاً فكرره في الأربع والعشرين ساعة التي بعده في الفريضة، والنافلة، والوتر، والضحى، وتحية المسجد، وفي قيام الليل، وكلما كررته ونسيت فعد إلى المصحف فإنك سوف تحفظه بإذن الله، فقيام الليل من أحسن ما يكون للقرآن، قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6].(167/24)
المراجعة مع صديق أو صاحب
وأنا أرشح من الإخوة الذين يجتمعون دائماً للسمرات والحفلات والمناسبات أن يكون بينهم جدول عمل، والكفار بينهم جدول إلا المسلمين، فيجتمعون في قصص، وأطروحات وفكاهات، أرى أنهم يقولون: إذا اجتمعنا عندك هذه الليلة فلنحفظ خمساً من الآيات أو نقرأ في تفسير ابن كثير، أو نقرأ في رياض الصالحين، أو يكون معنا قصة نقرؤها، أو حديث، أو سيرة نبوية، فهذا مطلوب.
وأرشح أن تكون هذه المراجعة مع الصاحب، فيكون لك صديق وصاحب تقرأ عليه وتردد، وليكن ولو كان في الأسبوع يومان أو يوم واحد كالأساتذة مثلاً في المدرسة، كثير من الأساتذة يفوت عليهم وقت الطلبة بين الحصص وكذلك وقت انتظار ركوب الطائرة ساعة أو ساعتين، وتجد الإنسان يعدد الناس وينظر إلى أشكال الناس وحقائبهم حتى تتعب رقبته من كثرة الالتفات، وبعضهم إذا وقف على الرصيف، أخذ ينظر في السيارات يوصلها من مكان إلى مكان بنظره، فعليه أن يأخذ المصحف أو يكرر سورة.
فضياع الوقت أمره عجيب، بعض الناس يفتح البقالة بعد صلاة الفجر فلا يأتيه أحد، بعضهم عنده بصل أو ثوم وشيء من سكر فيفتح من بعد الفجر خوفاً أن يبتعد عنه الزبائن، فيبقى إلى الساعة العاشرة ولا يأتيه أحد، وتجده جالساً لا يقرأ، إنما ينظر في هذه المعلبات حتى لا تفر من بين يديه، يا أخي! افتح المصحف، كثير من التجار معهم مصاحف في حوانيتهم، وهذا ينبغي أن يكون كذلك في مكاتب الموظفين والأساتذة والمدراء ليقرءوا وقت الفراغ، فبعضهم ليس لديه إلا معاملة واحدة أتعب المسلمين بها، كلما أتاه المراجع يقول له: بعد شهرين إن شاء الله، لماذا؟ يقول: الأدراج مليئة بالملفات والمراجعات، وهو بهذه المعاملة أتعب الناسَّ وليس عنده شيء إلا اتصالات، فينبغي أن يكون المصحف على طاولة المكتب.
وإذا وجد هناك من الملابسات والظروف ما يعيق فليكن عندك مسجل تستمع، وهذا من أحسن ما يكون، وأنا رأيت بعض الناس معه مصحف يقرأ فيه قراءة عجيبة، مع كثرة أشغاله وأعماله لكن يزيده الله عوناً وصحة.
كذلك بعض الناس ينتظر السيارة وتجده جالساً ولكنه لا يقرأ، فيضيع الوقت وهو حياته، وهو يصرف من وقته والله محاسبه على هذا العمر، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
وبعض الناس لا يبيع ولا يشتري ولكن ينزل في السوق يجلس عند بائع الخيار نصف ساعة، وعند بائع الجرجير ساعة، ثم يقوم في الظهر لم يشتر ولم يبع، لماذا هكذا يا فلان؟ يقول: أتمشى وأنظر في هذه النعم، وأنظر في خلق الناس.
لكن هل ترضى أن يذهب وقتك سدى؟!
وبعضهم -نسأل الله العافية- يذهب إلى المحاكم يشهد شهادة زور، ليس موظفاً ولا مدرساً ولا عنده عمل، لكن أخذ مسبحته وذهب، يا فلان! عندك شيء والفلوس جاهزة -نسأل الله العافية- وهذه يفعلها من ضاع حظه من الله، فيبيع دينه بألف ريال، أو ألف وخمسمائة، أو ألفين، وبعضهم باع دينه بعشرة آلاف، ووالله! لو دفعت له الدنيا بما فيها ذهباً وفضة لهو الخسران.(167/25)
فضائل بعض سور القرآن
أيها الإخوة! هنا سور ورد فيها فضل، ولنا فيها كلام.(167/26)
فضل سورة الكهف
من هذه السور: سورة الكهف، صح في قراءتها يوم الجمعة حديث صحيح عند الحاكم والبيهقي والدارمي موقوفاً عند الدارمي وابن مردويه وهو قوله عليه الصلاة والسلام: {من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة ويوم الجمعة، أضاء له نوراً من تحت قدميه إلى عنان السماء} وهو حديث صحيح، وأورده ابن القيم وهو صحيح عند الأئمة، وفي بعض الروايات لكن فيها نظر أوردها الضياء صاحب المختارة من حديث علي؛ لكن كأنه موقوف، وهذا لا يكون من قبيل الرأي فيكون في حكم المرفوع لكن في سنده رجل تكلم فيه يحيى بن معين: {من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أو يوم الجمعة كفرت له ذنوبه ثمانية أيام}.
فوصيتي أن تقرأ سورة الكهف يوم الجمعة، يقولون: كان الإمام أحمد لا يترك سورة الكهف يوم الجمعة لا في حضر ولا سفر، حتى في مرضه كان يقرؤها.(167/27)
فضل سورة الملك
صح عنه عليه الصلاة والسلام عند أحمد أنه قال: {سورة ثلاثون آية شفعت لصحابها حتى غفر له} فتعالوا أنا وإياكم من هذه الليلة نأخذ على أنفسنا عهداً أن نقرأها كل يوم وليلة ليلاً أو نهاراً أي: ما يمر على الواحد أربع وعشرون ساعة إلا وقد قرأها مرة، وتعالوا من الآن نوصي أهلنا وإخواننا وجيراننا أن نقرأ سورة (الملك) كل يوم، وذلك لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث.
وقد ورد في السير أن الناس حفظوها حتى جواري المدينة، فكانت الجارية تلقي قربتها لأختها وتصب تلك بالدلو وتحفظها سورة (الملك) وفي بعض الألفاظ: هي المنجية أنجت مسلماً من عذاب القبر كان يقرؤها، ونسأل الله أن تنجينا من النار، فوصيتي لكم حفظ سورة (الملك) فإنها سهلة، وعملوها أهليكم وأبناءكم وجيرانكم.
وقراءتها كل يوم، إما في النهار أو الليل قبل أن تنام، فتقرؤها وتكون وردك وتعيش معها وتتأثر بها، لأنها عظيمة جد عظيمة.(167/28)
فضل سورة الإخلاص
وهي ثلث القرآن، سأل الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة: {أيكم يستطيع أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: يا رسول الله! لا نستطيع، قال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن} أجرها بثلث القرآن تقرأ ثلاث مرات: (قل هو الله أحد) كأنك قرأت القرآن مرة بالأجر والمثوبة.(167/29)
فضل المعوذتين
المعوذتان وأمرهما عجيب! خاصة في الصباح والمساء! قال عبد الله بن خبيب -والحديث صحيح-: {كنت أسري مع الرسول عليه الصلاة والسلام في ظلمة الليل فقال: يا عبد الله! قل، قلت: ماذا أقول يا رسول الله؟ قال: قل، قلت: ماذا أقول يا رسول الله؟ قال: قل، قلت: ماذا أقول يا رسول الله؟ قال: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، قلها ثلاثاً إذا أصبحت وإذا أمسيت تكفيك من كل شيء} وهذا شيء عجيب.
أحد المشايخ يقول: قرأت على مصروع فأتت الجانة التي في المصروع تقول: أنا أقفز عليك، قال: اخرجي، قالت: لكنك قرأت المعوذات اليوم، ما استطاعت، فهي حجاب وحرز، وهي حصن حصين.(167/30)
فضل سورة البقرة
وكذا سورة البقرة: صح عنه عليه الصلاة والسلام: {أن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يقربه شيطان} فوزع سورة البقرة -مثلاً- في الأسبوع سورة البقرة حتى تتمها في أسبوع في بيتك إن لم تستطع أن تتمها في يوم أو يومين أو ثلاثة.(167/31)
فضل سورة الواقعة
ورد فيها حديث ابن مسعود، وبعض العلماء يصححه وبعض العلماء يضعفه لعلة فيه، وهو أن ابن مسعود كان يعلم بناته سورة الواقعة فيقرءونها كل يوم، فلما حضرته الوفاة جاءه عثمان بن عفان -رضي الله عنهم جميعاً- يسلم عليه قال: يا بن مسعود! ألك وصية؟ قال: لا.
قال: أتوصي ببناتك إلي؟ قال: بناتي علمتهن سورة الواقعة، ولقد سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من قرأ سورة الواقعة كل يوم لم تصبه فاقة قط} أي: لا فقر ولا حاجة، وأنا أرى أن الحديث هذا حسن.
وسورة الواقعة عجيبة حتى يقول مسروق في سير أعلام النبلاء: كل علم في سورة الواقعة، قال الذهبي: في بابها؛ فإن في بابها أعاجيب لمن قرأها بتدبر.(167/32)
فضل آية الكرسي
وهي أعظم آية في القرآن، وأنتم تعرفون الحوار الحار بين الشيطان وأبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه حين جعله صلى الله عليه وسلم يحرس تمر الصدقة -والحديث عند البخاري ومسلم - فقام يحرس، فأتى الشيطان في صورة شيخ كبير، فكان يأخذ من التمر والحب فأمسكه وقال له أبي هريرة: لأرفعنك لرسول صلى الله عليه وسلم، فشكا الحال والجوع والفقر والأبناء -وكان أبو هريرة رحيم القلب- فتركه، وفي اليوم التالي أتى فأراد أبو هريرة رفعه فقال: اتركني، وفي اليوم الثالث أتى، فقال له: لأرفعنك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: دعني أعلمك آية لا تقرؤها في ليلة إلا كانت لك حرزاً -أو حافظاً فلا يقربك فيها شيطان -وكان أبو هريرة أحرص الناس على الخير- قال له: ما هي؟ قال: آية الكرسي، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبره فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: {أتدري من تحدث منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ قال: لا.
قال: ذاك الشيطان، صدقك وهو كذوب}.
وقد يصدق الكذاب، مثل الكاهن يكذب مائة كذبة ويأتي بكلمة صدق واحدة.
فالآن إذا ذهبت إلى بعض الكهنة في بعض القرى تجده يأتي لك بشيء يبين لك به أنه صادق، مثل يقول: سيارتك هيلوكس؛ لأن الشيطان علمه، لكن يأتيك بتسع وتسعين كذبة: {من أتى كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد}.
فآية الكرسي تقال عند النوم وفي الصباح، وفي دبر كل صلاة، وقد صح بها الحديث عند الطبراني.(167/33)
الأسئلة(167/34)
حكم وضع اليدين على الصدر بعد الركوع
السؤال
ما رأيك في وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع، خاصة أن بعض الشباب الملتزمين يقولون: إن وضعها على الصدر واجب؟
الجواب
ما قاله هؤلاء ليس بصحيح، وليس للمسلم أن يوجب شيئاً إلا ما أوجب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يحرم شيئاً إلا ما حرمه الله أو رسوله، ولا يستحب شيئاً إلا ما استحبه الله ورسوله، ولا يكره شيئاً -يعني في أمور الشرع- إلا ما كرهه الله ورسوله، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116] وأنتم سمعتم نقاشاً بين عالمين في هذه المسألة.
والأقرب أنه بعد (سمع الله لمن حمده) توضع اليمنى على اليسرى على الصدر، فهذا هو الأقرب إلى الأدلة، وإلا فلا أعلم نصاً صريحاً فيها، حتى من استدل من العلماء في هذه المسألة ما أتوا بنص إنما لعموم الأحاديث، ولأنها أوفق في الهيئة.(167/35)
الصدقة والداوفع الإنسانية
السؤال
أحد المؤلفين المفكرين الموجودين من المسلمين يقول في كتاب له: الذي يدفعك إلى إعطاء الصدقة للمحتاج هو شعور إنساني، وقد يكون من الصعب أن تحدد معنى هذا اللفظ الدقيق، فهو في شموله معجز: كالإنسانية فلفظ الإنسانية استبدل به بعض الناس لفظ الشريعة والأخوة الإسلامية؟
الجواب
هذا ليس بصحيح، وهذا الكاتب أعرفه وأشكره، وله قدم صدق في الدعوة، ولكن هذه اللفظة (بدافع إنساني) غير صحيح، بل دافعك إلى الصدقة طلب مرضاة الله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان:8 - 9] أما الدافع الإنساني فيشترك فيه أنك تتصدق على الأفريقي في أفريقيا وعلى الأحمر الروسي، وعلى الخواجة الأمريكي الرأسمالي بدافع إنساني.
فهذا خطأ، بل هي صدقة لوجه الله، وتريد بها ما عند الله، وهذا أحسن من هذا المصطلح.(167/36)
حال حديث (من لم تنهه صلاته)
السؤال
حديث ابن مسعود ما مدى صحته: {من لم تنهه صلاته عن المنكر ولم تأمره بالمعروف، لم يزدد بها من الله إلا بعداً}؟
الجواب
هذا موضوع على الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس من كلامه واللفظ المشهور وهو لا يصح: {من لم تنهه صلاته عن المنكر -أو الفحشاء والمنكر- لم يزدد من الله إلا بعداً} قال ابن تيمية: هذا حديث باطل ومعناه لا يصح، بل كلما تقرب الإنسان بالصلاة كلما نهته عن الفحشاء والمنكر، ورجل يرتكب المنكرات ويصلي خير من رجل يرتكب المنكرات ولا يصلي، وقد قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(167/37)
حكم حديث الصلاة بعد المغرب من ليلة الجمعة
السؤال
من صلى بعد صلاة المغرب من ليلة الجمعة صلاة يقرأ فيها فاتحة الكتاب وسورة الزلزلة خمس عشرة مرة في كل ركعة؛ أكرم بعدة كرامات، هذا الكلام في كتاب شرح الصدور فما تعليقكم على هذا؟
الجواب
هذا حديث باطل لا يصح، وهو من كيس الصوفية، وليس من بضاعة محمد عليه الصلاة والسلام.(167/38)
حكم صلاة التسابيح
السؤال
ما رأيك بصحة صلاة التسابيح؟
الجواب
صححها بعض العلماء وضعفها بعضهم، ولكن كما قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حديثها ضعيف، ومن عمل بها على أنها من فضائل الأعمال فإنه يؤجر إن شاء الله، وصححها كثير من العلماء كالشيخ الألباني وغيره وعملوا بها.
وعلى كل حال من اعتقد صحة كلام هؤلاء الأجلاء وأخذ به فهو مأجور إن شاء الله، ومن قال بضعفها وله علل في حديثها فهو مأجور إن شاء الله، وقد سمعتم كلام العلماء في ذلك، وأنا لا أستطيع أن أختار ولا أرجح في هذه المسألة.(167/39)
التعليق على رسالة فيها رؤيا خرافية
السؤال
انتشرت رسالة فيها حمد الله والثناء عليه عليه ثم فيها: مرضت فتاة وعمرها ثلاثة عشر عاماً مرضاً شديداً، وعجز الأطباء عن علاجها، وفي ليلة اشتد المرض عليها وبكت المسكينة حتى غلبها النوم، فرأت في منامها السيدة زينب رضي الله عنها -إذا ذكرت السيدة زينب وأحمد البدوي فإننا نترضى عن عبد القادر الجيلاني والسيدة زينب ونترحم على عبد القادر الجيلاني أما هؤلاء المشعوذون الكهنة فلا وفقهم الله- قال: فوضعت في فمها قطرات، وبعد أن استيقظت من النوم وجدت نفسها قد شفيت من مرضها تماماً، وطلبت منها السيدة زينب رضي الله عنها وأرضاها أن تكتب هذه الرواية ثلاث عشرة مرة وتقوم بتوزيعها على المسلمين والمسلمات لينظروا فيها.
والنسخة الأولى وقعت في يد فقير فكتبها ووزعها على الناس، وبعد مضي ثلاثة عشر يوماً أغنى الله هذا الفقير، وآخر توظف وثالث جاءه أولاد، فما تعليقكم على هذا؟
الجواب
هذا كذب وشعوذة وسحر وكهانة، ولا يفعلها إلا أحمق ضل سعيه، وانقطع حبله من الله، وليس عنده نور، وهذا كذاب مفتر، لو ظُفر به فحظه أن يضرب ويبطح على بطنه ووجهه حتى يرتدع.(167/40)
حكم مكبرات الصوت في المسجد
السؤال
ما حكم مكبرات الصوت في المساجد؟
الجواب
هذه من أحسن ما يكون، وهذه وسائل أنعم الله علينا بها، فلك الحمد يا رب، فقد أصبح الآلاف المؤلفة يسمعون في المكرفون ويسمعون الخطيب والمقرئ، ولكن تعلق المايكرفونات في حالة واحدة، إذا كان فيها تسابق، كأن يكون هناك مسجدان متجاوران ينزعج هذا بقراءة هذا أو يرفع بعض المأمومين على ركوع ذاك؛ فهذه يخفف في أصواتها.
والمقصود أن يسمع أهل المسجد ومن حوله إلا لضرورة وملابسات، فالقول بتحريمها لا يصح، والقول بأنه لا ينبغي أن ترتب وأن توجه لا يصح، وقد جعل الله لكل شيء قدراً.(167/41)
حكم قراءة القرآن في الليل
السؤال
قلت: إنه لا بد أن يختم كل شخص حزباً أو جزءاً من القرآن قبل أن تغرب الشمس، فما رأيك لو أخرتُ ذلك إلى الليل؟
الجواب
لا بأس يا أخي! وأنا قلت ذلك من باب الحث، وإلا في الليل أو في النهار: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62].(167/42)
كتاب الترغيب والترهيب
السؤال
ما رأيك في كتاب الترغيب والترهيب؟ فـ المنذري اشترط ولكن ما وفَّى بشرطه؟
الجواب
كتاب الترغيب والترهيب للمنذري كتاب جيد؛ وفيه الصحيح والضعيف، بل وفيه الموضوع، وهو يحتاج إلى تحقيق وتحرير وقد قام الألباني جزاه الله خيراً بتلخيصه واختصاره اختصاراً جيداً.
وأرى أنه لا بأس أن يقرأ هذا الكتاب، وطالب العلم ينبه على الأحاديث الموضوعة إذا وصل إليها.
أما قوله: إن المنذري اشترط ولكن ما وفَّى بشرطه.
فأقول: أنا ما رأيت له شرطاً لكن يقول نص عليه إمام وهذا لا يكفي فإن الطبراني نص على أحاديث صحيحة وهي ليست بأحاديث صحيحة، وابن حبان ينص على أحاديث صحيحة وهي ليست صحيحة، بل ابن خزيمة الذي يقولون أنه أقوى من البخاري أتى بحديث واهٍ في صحيحه.
وعلى كلٍّ أرى أن رياض الصالحين ينوب عن ذلك، وأيضاً جامع العلوم والحكم، ومختصر البخاري للزبيدي، التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، ومختصر مسلم للمنذري فأرى أن تقرأ في المساجد وفي البيوت.(167/43)
كتاب صفة الصفوة
السؤال
ما رأيك في كتاب صفة الصفوة؟
الجواب
يسمى صِفة الصفوة، أو صَفوة الصفوة لـ ابن الجوزي وهذا الكتاب فيه غموض من وجوه ثلاثة:
أولها: لا يعتني بالحديث النبوي، فأتى بأحاديث موضوعة وروايات باطلة.
ثانيها: أتى بكلام للصوفية لا داعي له إذا قارنته بالكتاب والسنة.
فنقول: رحمك الله يا بن الجوزي! وأنت سني محدث كيف تفعل هذا؟ يأتي بصوفي يقول: ما أكلت الرطب أربعين سنة، ومن منعه أن يأكل الرطب؟! وإنسان آخر يقول: صلى صلاة الفجر بوضوء العشاء.
وهذه القصص أهم شيء أن تكون قصصاً صحيحةً تتوافق مع الكتاب والسنة.
ثالثها: أنه قلل من الآثار فيه، وقلل من تراجم الصحابة.
والصحابة هم سادات الأولياء وصفوة الأصفياء وخيرة الأخيار، وهم البررة، فيأتي بـ بهلول رحمه الله وبعابد آخر وبعابدة وحامدة، وأين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟
وهو قد ذكرهم في المقدمة لكن بإيجاز.
فالأولياء هم الصحابة، والأخيار هم الصحابة، ثم التابعون وقد جعل الله لكل شيء قدراً.(167/44)
الكلام عن سنن النسائي وأبي داود
السؤال
ما رأيك في سنن النسائي وأبي داود بدون تحقيق؟
الجواب
تقرأ، ولا أعلم عن أبي داود والنسائي حديثاً موضوعاً؛ لكن فيهما أحاديث ضعيفة لا بد أن يتنبه لها، وبعض الأئمة يرى أنه يستدل بما في السنن، وهذا منهج لبعض الناس، وابن تيمية من استقرأ فتاويه يرى أنه يقول: رواه النسائي ويسكت، لكن هناك روايات شاذة أو منكرة نبه عليها أبو داود والنسائي وهناك كتاب جامع الأصول لـ ابن الأثير فإنه من أحسن ما يكون، وهو أحد عشر مجلداً، وفيه الأحاديث محذوفة السند والمكرر، وهو من أحسن الكتب المقدمة للمسلمين، وكذلك مجمع الزوائد، ومن جمع هذين الكتابين، فكأنما جمع ما يقارب عشرين كتاباً من كتب السنة أو أكثر.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(167/45)
ليلة عذبة الأصداء مع سير العظماء
لنا في سير العظماء من سلفنا الصالح القدوة الحسنة، والناظر إليهم يجدهم ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بالاستقامة على دين الله، والجهاد من أجله.(168/1)
قصة محمد بن واسع مع قتيبة بن مسلم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصبحه وسلم.
هذه قصة محمد بن واسع، وقد خرج يجاهد في سبيل الله، فافتقده قتيبة بن مسلم فأرسل الجنود يبحثون عنه، فوجدوه قد رفع طرفه إلى السماء وقد اتكأ على قوسه، ورفع سبابته وهو يقول: يا حي يا قيوم!
يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! فعادوا يخبرون قتيبة بن مسلم بما وجدوه، فدمعت عيناه فرحاً وهو يقول: أبشروا فوالذي نفسي بيده لأصبع محمد بن واسع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير، ومن مائة ألف شاب طرير في سبيل الله.
وينتصر المسلمون بإذن الله، وبعد المعركة يؤتى إلى قتيبة بن مسلم بشيء من الذهب كرأس الثور فيقدم بين يديه فيقول لوزرائه: هل تظنون أحداً من المسلمين يأبى إذا دفعنا له هذا الذهب؟ فيقولون: ما ندري، قال: والله، لأخبرنكم أن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من لا تساوي الذهب والفضة عنده التراب الذي يطؤه بأرجله، ثم قال: عليّ بـ محمد بن واسع.
فذهبوا إلى محمد وإذا هو يصلي في خيمته ويبكي قالوا: الله نصر الإسلام والمسلمين وأنت تبكي في خيمتك.
قال: نعم.
لأن ثواب الشكر العبادة والذكر أو كما قال.
قالوا: القائد قتيبة يريدك، قال: وماذا يريد مني قتيبة وأنا خرجت لله وأعود لله عز وجل؟ قالوا: هو الأمير فقد أمرك، فاستعان بالله ودخل على قتيبة في خيمته، فدفع له قتيبة هذا الرأس من الذهب وقال: خذه وتمول، فأخذه وقام من الخيمة.
فاحمر وجه قتيبة ووجوه الوزراء، ثم قال: قتيبة في نفسه: اللهم لا تخيب ظني فيه، كيف يأخذ الذهب وهو أزهد الناس وأعبدهم وأعلمهم في عصره بالله عز وجل، فيقول: لأحد جنوده اذهب وراءه وتلفت ماذا يصنع بهذا الذهب.
قال: فحمله بين يديه، فمر به مسكين يسأل الجنود والجيش فدفع إليه الذهب فمر، فاستدعى قتيبة هذا المسكين فقال: ادفع إلينا المال ثم دعا الوزراء وقال: هذا محمد بن واسع الذي أخبرتكم أن الله ينصرنا بدعائه.(168/2)
العبادة سر الفلاح
ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام في أشرف المواقف بالعبودية: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] وقال أيضاً: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1].
وأحد الصحابة الشباب الذين عاشوا الدعوة الإسلامية مع الرسول عليه الصلاة والسلام، يأتي زملاؤه فيطلبون الرسول صلى الله عليه وسلم مالاً فيعطيهم إلا هو ما مد يده، فيقول صلى الله عليه وسلم: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أناجيك يا رسول الله، فيذهب معه صلى الله عليه وسلم، فيقول: يا رسول الله! أريد مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قال: هو يا رسول الله! قال: {فأعني على نفسك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة} رواه مسلم.
فالعبودية معناها: أن تصدق العبادة مع الله، وأن تتعب هذا الجسم في مرضاة الله، فإن الدرجات العلا لا تنال إلا بإتعاب الأجسام:
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن غرور المال أحزان
إذا علمت أولئك، فهذا شيء من سير السلف الصالح أو شيء من أخبارهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله: سير الرجال أحب إلينا من كثير من الفقه، لأنها تربية صلة بأولئك الجيل، وامتداد لتلك الدعوة الخالدة التي تركها صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة إذا جلسوا في آخر عهدهم يتذاكرون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرة أبي بكر وعمر، يقول ابن مسعود: [[إذا ذكر الصالحون فحي هلاً بـ عمر]] فحي هلا بأولئك الأخيار الأبرار الذين عشنا معهم لحظات نسأل الله أن يحشرنا في زمرتهم، وأن يجعلنا من الجلاس والسمار معهم كما سمرنا مع حديثهم في هذه الجلسة:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] لقد كان في قصصهم عبرة، ولقد كان في مسيرتهم منهج، ولقد كان في دعوتهم إلهام، ولقد كان في كلامهم حرارة، ولقد كانت في أفعالهم صدق، فهل من صادق ومتوجه؟ وهل من منيب وتائب؟ وهل من مستغل لهذه الليالي، ليالي الخلود، والمغفرة، والتوبة، والإقبال على الله عز وجل، وقبل أن أنتهي أدعوكم ونفسي إلى أن نستمر في مسيرة التوبة، ولا نري الله من أنفسنا في رمضان عباداً مقبلين وفي غير رمضان مدبرين فارين من الله، فعجباً للعبد كيف يلج باب التوبة فإذا انتهى مراده وخاطره فر من الله؟! والله لا يفر منه وإنما يفر إليه:
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم مجتهداً فلا تصيره أيضاً شهر عصيان(168/3)
العبادة في رمضان وغير رمضان
ناداكم الله وفتح لكم باب التوبة، فيا من أقبل على الله في رمضان أقبل في رمضان وفي شعبان، وأقبل إلى الله في غير رمضان وفي غير شعبان، فربك في رمضان هو ربك في غير رمضان الذي يعلم السر وأخفى، وبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان، والله اطلاعه عليك في رمضان وعلمه بسرك وما يحدثه خاطرك وتهجسه نفسك في رمضان وفي غير رمضان.
فما دام أن بابه قد انفتح وأن صدرك قد انشرح فعطاء الله مفتوح، ونواله ممنوح، وبذله يغدو ويروح، فلا تتول عن الله، أسأل الله أن يثبتنا وإياكم وأن يجعلنا ممن تقبل منهم صيامهم وقيامهم، وأن يجعلنا ممن صام هذا الشهر إيماناً واحتساباً، وكما ظمئنا هنا أن يسقينا من الحوض المورود شربة لا نظمأ بعدها أبداً، وكما جعنا هنا أن يطعمنا من ثمار الجنة فلا نجوع بعد ذاك الطعام أبداً، وكما سهرنا هنا أن يريحنا هناك فلا نجد نصباً ولا وصباً: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55].
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق، أحيينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك الغنى والصدق في الخفاء والعلانية، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وإن كان من شكر فإنني أشكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي شرفني بالجلوس في هذا المكان أمام هذه الوجوه الغانمة الباسمة المقبلة إلى الله، أمام هؤلاء الأبرار الأخيار، ثم أشكر من كان سبباً في دعوتي وإجلاسي في هذا المكان فإن أهل الفضل يشكرون، ومن لا يشكر أهل الفضل فإنه لا يشكر الله:
زاد معروفك عندي عظماً وهو في نفسك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور خطير
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(168/4)
الأسئلة(168/5)
كيف نصل إلى مستوى الصحابة والتابعين؟
السؤال
فضيلة الشيخ: كيف نصل إلى مستوى هؤلاء العظماء ونحن في هذه الحالة التي يرثى لها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذي يلونهم} أي: أننا بعيدون عنهم جداً؛ فما هو الجواب يا فضيلة الشيخ؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، لابد من اعتراف أن الأفضلية متناقصة أو أن الفضل متناقص في الجملة، أما في الأفراد فقد يأتي من القرن الثالث من يكون أفضل من القرن الثاني، أما القرن الأول فأولئك هم النبلاء والفضلاء والشرفاء الذين لا يبلغ مستواهم ولا يصل إلى درجتهم إلا من أحبهم.
وأما أن نعمل بعملهم فكأن هذا ليس متحصلاً، فقد جاهدوا وأقاموا الدين وأسسوا دولة الإسلام، فواجبنا نحوهم أن نحبهم كما قال أنس في الصحيح، يقول صلى الله عليه وسلم: {المرء يحشر مع من أحب} ونحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر ولا نعمل بعملهم، إذاً فواجبنا أن نحبهم وأن نعمل عملاً مما نستطيعه، ولكن أن نصل إلى تلك الدرجة فلن نصل، وقد يصل بعض الأفراد لكن في الجملة فكما تلا أخي: {خير القرون قرني} هذا على الجملة، وقد يصل بعض الأفراد لكن لا إلى أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام فواجبنا نحو هؤلاء السلف ثلاث واجبات:
1 - حبهم في الله عز وجل.
2 - الدعاء لهم ألا نجد في صدورنا عليهم محنة أو غلاً، لأن بعض الطوائف تجد على أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في عقيدتها حقداً وغلاً وكراهية، حتى يقول ابن تيمية في منهاج السنة ليس لهم حظ من الفيء -تلك الطائفة- لأنهم ليسوا من الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] فهؤلاء في قلوبهم غل للذين آمنوا فليس لهم حظ في الفيء.
3 - أن نعمل بما أقدرنا الله عليه من أعمالهم الصالحة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أما قضية أنا نحبهم ولكن لا نعمل بعملهم فهذا خطأ:
يا مدَّعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهويناً
خذها جمعياً تجد فوزاً تفوز به أو فاطرحها وخذ عنها الشياطينا
فالمقصود: أن اليهود أتوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقالوا: نحب الله ولكن لا نتبعك ولا نعمل بأعمالك، فكذب الله مقالتهم ورد فريتهم وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فإن كنت تحب السلف حباً صادقاً فادع لهم، ولا تجد في نفسك عليهم، وكف عما شجر بينهم، واعمل بما أقدرك الله من أعمالهم الصالحة.(168/6)
حكم ختم القرآن في أقل من ثلاث ليال
السؤال
فضيلة الشيخ: ما هي السنة في ختم القرآن؟ لأن بعض الأئمة كما تعلم كان يختم القرآن في ليلة وبعضهم في يوم فهل هذا يعتبر من السنة؟
الجواب
أثر عن كثير من السلف أنهم كانوا يختمون في رمضان كل يوم ختمة ذكر ابن حجر في مقدمته عن البخاري صاحب الصحيح أنه كان يقرأ في رمضان القرآن ستين ختمة، ختمة بالليل وختمة بالنهار، وقيل ثلاثين، وذكروا عن الشافعي رحمه الله أنه كان يختم في الليل مرة في رمضان وفي النهار مرة، والعجيب وهو مثير للدهشة أن النووي في كتاب التبيان في آداب حملة القرآن يذكر أن كرز بن وبرة كان يختم القرآن في اليوم أربع مرات، فما موقف السنة من هذه؟
الرسول صلى الله عليه وسلم هو المعصوم والمقتدى به وهو بأمي وأبي، وهو الذي أمرنا بالاقتداء به: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وكلٌ -كما قال مالك - يؤخذ من كلامه ومن أفعاله وأحواله ويرد إلا صاحب ذاك القبر عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد ورد في الصحيحين إلى سبع ليال وقال: لا تزد على ذلك أي: في أقل من سبع ليال، فحدد له سبع ليال، وفي بعض الأحاديث: {لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث} فالأولى تدبر القرآن وختمه في السبع أو ما قاربها كما فعل كثير من الصحابة، وأما ختمه في اليوم الواحد فليس بسنة، ولو أن صاحبه يؤجر لكن لا يطالب الناس بذلك ولا يحثون على ذلك، لأن القصد في العمل مطلوب في الإسلام والتدبر مطلوب، وهؤلاء الأئمة الذين ختموا القرآن في اليوم مرة لمحوا ملمحاً واحداً وهو أنهم يريدون تكثير الأجور.
وفي سنن الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقرءوا القرآن، فمن قرأ القرآن فإن له بكل حرف حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن أقول: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف} قال الترمذي حديث حسن صحيح.
إذا علم ذلك وأنهم إنما أرادوا تكثير الأجور، فإن التدبر والتمهل في قراءته والترتيل والتجويد أولى.(168/7)
السنة في البكاء من خشية الله
السؤال
فضيلة الشيخ: البكاء من خشية الله من أفضل العبادات، ولكن ما هي السنة فيه؟ وهل يرفع به الصوت وما هي حالة السلف حال البكاء حفظكم الله؟
الجواب
البكاء من أعظم ما يتقى به عز وجل: {وعينان لا تمسهما النار منهما: عين بكت من خشية الله عز وجل} والله عز وجل مدح الباكين من خشيته في كتابه وقال: سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة:83] وقال في الأنبياء: {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58].
فالبكاء من خشية الله مطلوب، وعند بكائه صلى الله عليه وسلم كانت تدمع عيناه، وربما سمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، لكن ما كان إلى درجة رفع الصوت والعويل والمناداة والإزعاج، أما من يبكي كثيراً ويقول: البكاء غلبه فهو مأجور ومشكور عليه، ونسأل الله أن يحرم عينه على النار، وأن يكون من المخلصين الأبرار، وإن كان يتكلف البكاء ليظهر من نفسه أنه خاشع فهذا مصدر من مصادر الرياء نعوذ بالله من الرياء، وهذا هو المحق والبوار والدمار، نعوذ بالله وهذا شعبة من الشرك، فإن المسلم لا يتصنع ولا يتكلف للناس.
كان الأوزاعي لا يبكي أمام الناس أبداً كما ذكر ذلك ابن كثير، فإذا خلى ببيته بكى حتى يسمع جيرانه بكاءه من خشية الله.
وذكروا عن أيوب السختياني الراوي الكبير أنه إذا بكى غطى أنفه وقال: ما أشد الزكام؛ ليظهر للناس أن هذا زكام وليس بدموع من خشية الله.
وقال الحسن البصري: والله! إن الرجل من الصالحين تفيض عيناه بالبكاء فيقوم من المجلس ويختفي لئلا يرى دمعه أحد من الناس.
فالذي يشهر بنفسه ويتكلف البكاء ليعلم الناس أنه خاشع، ليس له من الأجر شيء، وعليه وزر، ويخاف أن يمحق عمله وأن يكون من المرائين نسأل الله العافية والسلامة.
وفي الصلاة بكى عليه الصلاة والسلام كما في سنن أبي داود، يقول مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه: {} فهذا صوت يترجرج من الخشية، أما الإزعاج ورفع الصوت والضجة والصجة فليس من شيم الصالحين، أما المغلوب فمعذور، وأما الذي يظن أنه مأجور على هذا أي: التشهير والإزعاج ورفع الصوت فما أظن أن هذا من شيم السلف الصالح، وفيه تشويش على المصلين، وفيه إرباكٍ على الإمام وعلى المتدبر وعلى السامع، وهو شيء من الإزعاج على المسلمين، ومدخل من مداخل الرياء؛ لأن البكاء والذكر والصيام يدخل فيه الرياء كثيراً إلا من عصم الله، فوصيتي أن من غلبته عيناه أن يحتسب ذلك عند الله ويحاول أن يكظم من بكائه إلا إذا غلب فهو معذور.(168/8)
تطبيق سنة المصطفى في الاستواء في الصف
السؤال
فضيلة الشيخ: أنا أصلي في هذا المسجد، ولكن يوجد بجانبي من يضايقني برجليه ويقول: هذه هي السنة في المراصة، ويوجد من يضايقني بيده، ويقول: هذه سنة المجافاة، فهل هذا من السنة، أفتونا مأجورين حفظكم الله؟
الجواب
أمر صلى الله عليه وسلم بمراصة الصفوف والاستواء وسد الفرج، لكن أن يبلغ الدرجة إلى كثير من الصور التي وجدت عند كثير من الناس، لا تصبح مراصة تصبح مراصعة ومصارعة وملاكمة؛ فهذا ليس بوارد، ودين الله عز وجل بين الغالي والجافي، فالمراصة مطلوبة، أما المراصعة فليست مطلوبة، أن تنتهي من الصلاة وأقدامك وجنبك يوجعك وتحتسب ذلك على الله، تصوم ثنتي عشرة ساعة، وتجد في المسجد من يلاكمك ويصارعك فهذا ليس بوارد، الوارد بارك الله فيك المراصة بالتي هي أحسن، وأن تسد الفرجة وأما أن يكون القدم بالقدم بالسنتي متر، وكذلك الكتف بالكتف والأذن بالأذن والساعد بالساعد فالأمر فيه سعة، لا بد من الملاينة، وشيء من السهولة واليسر، حتى لا يجد المؤمن مضايقة في الصف، لأن بعض الناس يتضايق إما مريض وإما متضرر وإما إنسان فتح الله عليه فأكثر في الإفطار، فيأتي فيحاسب بمحاسبين عن يمينه وعن يساره فما تنتهي التراويح إلا ويقول: ربنا أخرجنا منها، فالمقصود بارك الله فيكم أن المسألة مسألة مراصة بالتي هي أحسن.
في هذا كذلك ما أشار إليه الأخ من التفحيط بالأرجل أكثر من اللازم حتى يتشقق الثوب وبعضهم إذا سجد أخذ في الأرض طيلة حتى لا يعود للرفع إلا بصعوبة، والبعض الآخر يضع يديه في حلقه وهي على الصدر، فالمسألة بين الغالي والجافي ومعرفة السنة.
يقول سفيان الثوري: الرخصة لا يجيدها إلا العالم وأما الجاهل فما يحسن إلا التشديد.
فكلما تفقه العبد في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته كلما اتضحت له هذه الأمور، وهؤلاء الأخيار عندهم من الفقه ومن الفهم ما يجعل الحديث لغيرهم.(168/9)
حكم قراءة سورة الفاتحة في الصلاة
السؤال
ما حكم قراءة سورة الفاتحة في صلاة التراويح مع أن الإمام لا يترك فرصة في قراءتها بالنسبة للمأمومين، أفتونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
قراءة الفاتحة بالجهرية للمأموم مسألة طويلة المدى، وهي من المسائل التي تساقطت فيها عمائم الأبطال، وتكسرت فيها النصال على النصال، وأكثر فيها من الحديث والمقال، هذه مسألة طويلة عريضة لكن يلخص فيها إلى أن الأولى إن شاء الله والأرجح الذي يظهر للقاصر مثلي أنه لا بد للمأموم أن يقرأ الفاتحة وراء الإمام لقوله صلى الله عليه وسلم: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} وفي لفظ: {بأم الكتاب} {وصلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج -وقيل خِداج بالكسر-} أي ليست بصحيحة، وهذا رواه مسلم وعند النسائي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: {صلينا خلف الرسول صلى الله عليه وسلم فلما سلم قال: من قرأ منكم خلفي؟ قال رجل: أنا يا رسول الله! وما أردت إلا الخير، فقال عليه الصلاة والسلام: إني أقول مالي أنازع القرآن، من كان منكم قارئاً فلا يقرأ وراء إمامه إلا بالفاتحة، فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بالفاتحة} فشأنك أن تقرأها وأن تحدر القراءة ليتسنى لك أن تستمع كتاب الله عز وجل وكلامه وآياته البينات.(168/10)
حكم من تأخر عن صلاة العشاء فصلاها مع من يصلون التراويح بنية العشاء
السؤال
ما رأيكم بمن يأتي متأخراً عن صلاة العشاء، والإمام يصلي التراويح هل يصلي مع الإمام بنية فرض أم يصلي مع جماعة أخرى وهو الحاصل الآن في هذا المسجد، يتكرر الذين يؤدون الفريضة في الليلة الواحدة عدة مرات، فيحصل على المصلين للتراويح التشويش، أفتونا في هذه المسألة جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الأمر الأول: هذه المسألة مبنية على مسألة عند أهل العلم: هل يجوز للمفترض أن يأتم بالمتنفل؟ أي: هل يجوز أن يكون الإمام متنفلاً والمأموم يصلي الفريضة؟
والذي صح إن شاء الله، وقرب من كلام أهل التحقيق وعليه الأدلة أن المتنفل يؤم بالمفترض، وأن للمفترض أن يصلي بالمتنفل، دل على ذلك حديث معاذ رضي الله عنه في الصحيح: {أنه كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده مفترضاً ويعود إلى بني سلمة في قباء فيصلي بهم وهو متنفل وهم مفترضون}.
فعلى ذلك: من دخل والناس يصلون صلاة التراويح أو قيام الليل فعليه أن يدخل معهم وأن يصلي ويكون مقتدياً بالإمام، فعلى ذلك عليه أن يصلي مع الناس وهو في العشاء وهم في التراويح ولا ينفصل بجماعة أخرى؛ لأنه لا جماعتين في مسجد واحد.
والأمر الثاني: أنه يحدث ارتباك وتشويش للمصلين، ويحدث عدم تدبر للقرآن وهذا لا ينبغي، فواجبه أن يدخل في التراويح ويصلي العشاء، وهؤلاء يصلون التراويح ويكمل بعد أن يسلم الإمام لجمع كلمة المسلمين، ولعدم التشويش عليهم، فإن هذا مضر في المساجد وخاصة في مثل رمضان، وهذا هو السنة إن شاء الله.(168/11)
حكم الاحتفاظ بالصور للذكرى
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أعلمك بأنني أحببتك في الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى والله الشاهد، ما حكم الاحتفاظ بالصور للذكرى؟ وهل حرمة التصوير بالكاميرا مثل حرمة التصوير باليد أرجو إخباري بالحكم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أحبك الله الذي أحببتنا فيه، وأما الصور وما سألت عنها فاحتفاظها للذكرى ليس بجائز، لأن الصور في الأصل محرمة بالأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم إلا للضرورة -كما قال أهل العلم- فإن كانت ضرورة فهذا جائز، والضرورة معلومة أبوابها؛ وأما التفريق بين الصور التي ذكرت العاكسة وغيرها والممثلة والمرسومة وهذا مجاله رحب، ولا أريد أن أتحدث أنا في هذه العجالة لأنها تحتاج إلى حديث طويل وهناك رسائل تغنيك ربما اطلعت عليها، للعلماء رسائل في التصوير وحكم التصوير بأقسامه وكثر الحديث فيها، فحديثي الآن إن كان في ذهنك شيء استقررت عليه فلا يزيدك حديثي إلا ارتباكاً أو تحصيل حاصل، وإن كنت حدثتك بشيء موجود وهو مطبوع ومكتوب فمن باب إمضاء الوقت إلى شيء مكرر، فأنا أحيلك إلى رسائل العلماء في التصوير وأنت إن شاء الله ربما اطلعت عليها.(168/12)
من تدفع إليه الزكاة
السؤال
فضيلة الشيخ: لقد سمعنا عن فضل الصدقة ووجوب دفع الزكاة، وأنا رجل أحب أن أتصدق وأريد أن أدفع الزكاة، ولكن هل هناك أحد يعينني على ذلك لأنني لا أعرف الفقراء والمساكين، وأنا سمعت أن إمام هذا المسجد يجمع الصدقات والزكاة ويعطيها للمستحقين فهل أدفعها إليه وتبرأ ذمتي بذلك؟
الجواب
نعم.
وأنا أشهد بذلك أن إمام هذا المسجد كما سمعت من الثقات بسند رجاله رجال الصحيح أنه يقبل التبرعات من المسلمين والنفقات ويوزعها في وجوه الخير، وهذا المسجد حافل بمشاريع الخير والتبرعات، فأنت تدفعها إليه وتبرأ ذمتك؛ لأنه مؤتمن إن شاء الله ومعه إخوة أبرار قائمون معه بالتبرعات، وفي تنظيم الندوات، وفي إيصال النفع للمسلمين فأدعوك وأدعو كل مسلم عنده مال إلى أن يدفعه إلى إمام هذا المسجد، فكما سمعت أنه ينفقها على المستحقين من متزوج ومعسر ومديون ومكاتب، ومن محبوس ومجاهد فهنيئاً لك إذا دفعتها إليه وتبرأ ذمتك إن شاء الله.(168/13)
الصلاة بعد الوتر
السؤال
ما حكم من أوتر مع الناس ثم أراد أن يصلي من آخر الليل؟
الجواب
من أوتر مع الناس ثم أراد أن يصلي من آخر الليل فهو مخير بين أمرين: إما أن يشفع ذاك الوتر الذي صلاه مع الإمام، فإذا سلم الإمام من الوتر من صلاة التراويح فيأتي بركعة فتشفع له ما قد صلى، ثم يصلي من آخر الليل ويوتر، أو يكتفي بالوتر الأول؛ لأنه لا وتران في ليلة، وإذا قمت في آخر الليل صليت شفعاً شفعاً وتكتفي بذاك الوتر ركعتين أو أربع أو ست، لكن لا تعود إلى ذاك الوتر.
وهناك صورة ثالثة: أن توتر مع الناس، فإذا قمت في آخر الليل فصلِ ركعة تشفع لك ما صليت ثم ابدأ شفعاً ثم أوتر بركعة لكن أقربها أن تكتفي بالوتر الأول والدعاء مع الناس وأن تصلي شفعاً من آخر الليل.(168/14)
زكاة الحلي
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم زكاة الحلي بالنسبة للمرأة وهل تخرج الزكاة من مالها أو من مال زوجها إن كان عندها مال أفتونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
زكاة الحلي كثر الكلام فيه، وأنتم سمعتم فتاوى أهل العلم فيها، والذي دلت عليه النصوص وترجحت المسألة وقامت عليها البراهين أنه لا بد للمرأة أن تزكي الحلي، وفي حديث أم سلمة وحديث عمرو بن شعيب: {أنه دخل صلى الله عليه وسلم ورأى امرأة وفي يدها مسكتان فقال: أتؤدين زكاته؟ قالت: لا.
قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وهذا الحديث صحيح عند أبي داود وغيره، وأحاديث أخرى بعضهم عددها إلى أربعة أحاديث، فقامت الحجة على أن على المرأة أن تزكي حليها، وإذا تبرع زوجها بالزكاة عنها جاز ذلك والمقصود: أن تؤدي هذه الزكاة، ولو تبرع عنها متبرع فقد برئت ذمتها من إثم الزكاة إن شاء الله.(168/15)
مسألة الازدحام في الصف الأول
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ألجأ إلى الله بالشكوى وأستفتيكم وأقول: ما أن يهم المؤذن أن يؤذن لصلاة العشاء فإذا بفرسان ينطلقون من الصفوف الخلفية لاحتلال أماكن متقدمة حتى يضيقوا على عباد الله حتى تختلف أضلاعهم عليهم، فيا فضيلة الشيخ! أفتنا فيما سبق إن كان جائزاً فيبين ذلك حتى ننطلق كما ينطلقوا ونحل محل الإمام، أفتونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
لقد صاغ الأخ السؤال صياغة جيدة، صياغة حربية عسكرية وليست فقهية شرعية، والمقصود: أن الذي يطالب به المسلم أن يحسن التعامل مع إخوانه ولا يضر مسلماً ولا يؤذيه لا بكلامه ولا بفعاله ولا بتصرفاته، وهذه التصرفات التي ذكر الأخ تأتي عن سببين اثنين: إما رغبة في الخير أكيدة مع عدم تفقه في دين الله عز وجل، أو شيء من السفه، أن يكون هناك أناس صغار في السن ما بلغوا من التؤدة والعقل والاتزان ما يجعلهم يقومون بحقوق المسلمين.
فنصيحتي للإخوة: أنه من أتى في مكان أن يلزم مكانه، وأن المتقدم له المكان المتقدم، أما يتأخر في آخر الناس ثم يأتي وهو متأخر ثم يقتحم الصفوف ويقتحمها صفاً صفاً فهو آثم وأظنه لا يبرأ من الذنب لأنه آذى إخوانه المسلمين، وسبب في إرباك الصفوف وتخطي رقاب الناس، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنصيحتي إن كنت تريد الأجر وكنت تريد المسابقة فعليك أن تأتي مبكراً وإلا فتبقى في مكانك، ولو كانت المسألة بالقوة كان أقوى الناس سبقوا على الصفوف الأولى، وكان الضعاف من أمثالي وأمثالك يصلون في آخر المسجد، لكن المسألة بالتقدم في أول الوقت، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لو يعلمون ما في الصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فأنا أدعوك إلى حسن التعامل مع الناس وفقني الله وإياك لما يحبه الله ويرضاه.(168/16)
حكم قراءة القرآن للحائض والجنب
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تقرأ القرآن وهي حائض وأن تمسها بيدها؟
الجواب
الجواب الصحيح أن الجنب لا يقرأ القرآن لا غيباً ولا نظراً، وأما الحائض فقد رخص في قراءتها غيباً للقرآن لأن الحديث الذي عند أبي داود فيه ضعف وهو حديث علي رضي الله عنه وأرضاه، أما حديثه في الجنابة فهو صحيح، وكذلك حديث أبي بكر عمر بن حزم في: {نهيه صلى الله عليه وسلم ألا يمس القرآن جنب} فهذا معروف ألا يقرأ القرآن جنب، إذا عرف ذلك فالحائض لها أن تقرأ القرآن غيباً وإذا أرادت أن تقرأه من المصحف فلها أن تقرأه بدون أن تمس المصحف، إما أن تأخذ شيئاً موصلاً كما قال أهل العلم، لكن الأحسن أن تقرأه غيباً ولا تقرأه نظراً، فلو حدث أن قرأته نظراً لجاز بإذن الله ذلك؛ لضعف الحديث الناهي عن ذلك.(168/17)
مس الطفل للمصحف
السؤال
هل يجوز للطفل أن يمس القرآن؟
الجواب
هذه من المسائل التي ابتلي بها المسلمون وهي مسألة وجدت من الصدر الأول؛ لأن هناك كتاتيب ومساجد يدخلها الأطفال من الرابعة والخامسة والسادسة، وهؤلاء لا يمكن أن تأخذهم واحداً واحداً وتحلفهم والضامن الله على أنهم على وضوء بل أحدهم من سبعة أيام وهو متوضئ والحمد لله والشكر، فقضيتنا في الحلق وفي المجالس والمساجد أن نخرجهم واحداً واحداً ونقول: هل توضأت أم لم تتوضأ؟ وهل لك شاهدان عدلان اثنان ثقتان أنك توضأت أم لا؟ فلن يبقي في المساجد طفل يتعلم القرآن، فأهل العلم رخصوا في هذا، وقالوا: لا بأس أن يقرأ القرآن للحفظ، ولو لم يكن متوضئاً، لكن الأولى أن يكون الأستاذ والمربي عنده فقه وتدبير فلا يدخلهم إلا متوضئين، لكنهم سوف يحلفون لك على المصحف أنهم متوضئون وبعضهم ليسوا متوضئين، فالحكم لله عز وجل، فنأخذهم بعلانيتهم ونوكل الأمر إلى الله عز وجل، لأن قلم التكليف ما وصلهم إلى الآن، فما دام رخص عليهم بأمور فهذه إن شاء الله من باب الرخص.(168/18)
حكم إتيان النساء بأطفالهن إلى المسجد
السؤال
فضيلة الشيخ: كثير من النساء يأتين بأطفالهن فيزعجون المصليات في المسجد، فما حكم ذلك، أفتونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
فرق بين المسجد ودور الحضانة، فالحضانة تجمع وترحب بكل طفلٍ صغير أو كبير أنثى أو ذكر، أما المسجد فيرحب بكل عبد وأمة أتوا للعبادة وللذكر ولتدبر القرآن، وللتعبد والاتصال بالله عز وجل، إذا علم ذلك؛ فالحكمة من بناء المساجد هي للعبادة، فأي شيء يوجب تنغيص هذه العبادة فقد خالف الحكمة التي جعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هذه المساجد لها.
وقد وجد في كثير من المساجد أن يتحول المسجد إلى فوضى، حتى لا يدري الناس ما يقول الإمام، ومتى يكبر، ومتى يرفع، فمثل هذا يحد منه، ولتتقي الله المسلمة في أطفالها أن تبقيهم في بيتها إذا علمت أنهم يؤذون، إلا أن يكون عندها تحفظ وحصانة أنه لن يحدث هناك ارتباك ولا صجة ولا ضجة إذا علم ذلك: فالرسول صلى الله عليه وسلم ترك الأمر عاماً وأتى بـ أمامة -كما في الصحيحين - وصلى بها؛ لأن أبناء الصحابة كانوا على أدب، وكانوا يعرفون الحكم من المساجد ومن بنائها، وكانوا يوقرون بيوت الله وأما حديث: {جنبوا مساجدكم صبيانكم} فلا يصح، إنما يصح أن المساجد لعبادة الله وذكره فليتق الله المسلمون وفي بيوت الله يعمروها بالذكر ويجنبوا عنها كل ما يؤذي.(168/19)
صلاة النساء في الصفوف المتأخرة
السؤال
فضيلة الشيخ: كثير من النساء لا يصلين في الصفوف ولا يتراصصن فيها، وبعضهن تترك الصفوف الأولى وتبقى في مؤخرة المسجد، فما حكم ذلك؟
الجواب
هذا الحديث شمل قضايا، وهو أنوار بعضها فوق بعض، فأما الأول: فصلاة المرأة في الصف المؤخر وهو السنة وهو الأولى؛ لأن خير صفوف النساء آخرهن، فحينما تتأخر فهذا من علامة تقواها وعدم اقترابها من الرجال إلا أن يكون هناك مصلحة أو يكون هناك ساتر أو هناك ما يحجب النظر والفتنة فلا بأس أن تتقدم، لكن في الأصل مطلوب أن تكون في المؤخرة كما أشاد بذلك صلى الله عليه وسلم ونادى به.
وقضية عدم صفوف النساء، فالسنة: أن تصف النساء كما يصف الرجال كما كن يفعلن في عهده صلى الله عليه وسلم، وفي المراصة أحاديث عامة للرجال والنساء، فأنا أدعو المسلمات الصالحات إلى أن يصففن في الصفوف كصفوف الرجال، وأن يتراصصن في الصف، وهذه هي السنة التي أتى بها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.(168/20)
قراءة القرآن في الليل أفضل
السؤال
فضيلة الشيخ: يلاحظ أن كثيراً من الناس يقرءون القرآن في شهر رمضان في وقت النهار، أما الليل فقليل من يفعل ذلك فما رأيكم بهذا الصنف من الناس؟
الجواب
هذه الظاهرة موجودة، وهي أن كثيراً من الناس لا يقرءون القرآن إلا في النهار، وأما في الليل القليل منهم من يقرأ أو يتدبر أو يعيش مع الآيات، والعجيب أن القرآن يحب الليل، والليل يحب القرآن، ولذلك إذا ذكر الله القرآن في كتابه العزيز ذكر الليل معه {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:1 - 4].
فالليل مقرون في القرآن، والقرآن مقرون بالليل، فالأولى أن تكون تلاوة القرآن في الليل أكثر منه في النهار، حتى ذكر الإمام النووي في التبيان في آداب حملة القرآن أن تكثير القراءة في الليل هو السنة؛ لأن الليل وقت سكون وهدوء وإقبال القلب على الله عز وجل، فأنا أدعو إخواني إلى تدبر القرآن في الليالي المباركات في رمضان وفي غيره وإذا كان في الصلاة فأبرك، وإذا كان في آخر الليل فأنفع وأفيد، نفعنا الله وإياكم بكلامه.(168/21)
التهنئة بشهر رمضان
السؤال
فضيلة الشيخ: هل وردت التهنئة بشهر رمضان؟
الجواب
لا أعلم حديثاً صحيحاً في ذلك، مر بي حديث: {أن رجلاً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم -أظنه واثلة بن أصقع مر بالرسول صلى الله عليه وسلم -فقال في العيد- عيد الفطر- تقبل الله منا ومنكم يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: نعم.
تقبل الله منا ومنكم} لكن هذا يبحث في سنده فلا يحضرني ما قيل فيه الآن، والإمام أحمد قيل له في عيد الفطر هذا فقال: نعم.
تقبل الله منا ومنكم، أما إحداث كلمات لا بد من قولها ومراسيم وهيئات فما وردت في السنة لا أعلم في ذلك أحاديث صحيحة أنها وردت؛ لكن تدعو للمسلمين بالقبول وأدعية مطلقة بالخير، بشرط ألا تكون شعاراً لا بد من قولها دائماً وأبداً.(168/22)
جلسة مع الأولياء
ذكر الله تعالى في الحديث القدسي فضل الأولياء الصالحين وأنه يدافع عنهم ويحميهم ويبغض من عاداهم.
والولاية ليست حكراً على فردٍ دون فرد، ولا جماعة دون أخرى، بل هي صفات من اتصف بها حاز تلك المكانة السامقة، وهناك من أهل البدع من حكروا هذه الولاية خاصة بأناس دون غيرهم.(169/1)
حديث الولي
اللهم لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت, في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك, وفي البحر عظمتك، وفي الجنة رحمتك, وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك, لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, أسمع بدعوته الأحياء، ونشر الخير برسالته الغراء, وتركنا على المحجة البيضاء، فصلاة الله وسلامه عليه دائماً وأبداً، ما فاحت الأزهار، وما غردت الأطيار، وما تدفقت الأنهار، وما تعاقب الليل والنهار، وعلى آله وصحبه من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان، أولئك لهم عقبى الدار.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
معنا هذه الليلة حديث عظيم جد عظيم، يأخذ بأطناب القلوب وأطراف الأرواح ويخاطب الأنفس، فهذا الحديث يعرف عند أهل السنة والجماعة بحديث الولي, وقد شرحه الإمام الشوكاني في كتاب قطر الولي في شرح حديث الولي , وشرحه غيره, وفيه مسائل أعضلت على الفطاحل من العلماء، فما بالك بطلبة العلم أو العوام!(169/2)
نص حديث الولي
نص هذا الحديث كما أورده البخاري، وسوف أتعرض بإذن الله للزيادات في الحديث.
عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قال الله تبارك وتعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بأحب مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته} أو كما قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى.
هذه ضميمة الحديث أو جسم الحديث أو هيكل المتن، ولكن ورد بألفاظ أخر عند الأئمة في كتبهم.(169/3)
زيادات حديث الولي من غير رواية البخاري
من زيادات الحديث: (من عادى لي ولياً) عند الإمام أحمد في المسند: {من آذى لي ولياً} وفي حديث ميمونة وهو حديث صحيح: {فقد استحل محاربتي} وفي رواية وهب بن منبه: {من أهان وليي المؤمن فقد استقبلني بالمحاربة} وفي حديث معاذ وهو صحيح: {فقد بارز الله بالمحاربة} وفي حديث أبي أمامة وأنس وسنده حسن: {فقد بارزني} وفي رواية: {وما زال عبدي} بالماضي، وعند أهل الصحيح: {وما يزال عبدي يتقرب إليّ}.
وهناك رواية: {يتحبب} بدل (يتقرب) في حديث أبي أمامة , وفي حديث ميمونة: {حتى أحببته} في مكان: (حتى أحبه) وصح من حديث أبي أمامة: {ابن آدم! إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضته عليك} وقوله: {وبصره الذي يبصر به} وصح من حديث عائشة: {وعينه التي يبصر بها} , وفي رواية صحيحة: {وعينيه التي يبصر بهما} زاد عبد الواحد أحد الرواة العدول: {وفؤاده الذي يعقل به، ولسانه الذي يتكلم به} وفي حديث أنس الصحيح: {ومن أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً} , وفي رواية: {وإن سألني عبدي} بجعل الظاهر مكان المضمر, وفي حديث أبي أمامة: {وإذ استنصرني نصرته} وفي حديث أنس الصحيح: {نصحني فنصحت له} , وعند أبي أمامة الذي صح من كلامه صلى الله عليه وسلم يرفعه: {وأحب عبادة عبدي إليّ نصيحته، وما ترددت عن شيء أنا فاعله} وعند عائشة: {ترددي عن موته}.
انتهت زيادات الحديث، وأصله اتفق عليه الشيخان، ولكن اختلفا في الألفاظ كما عند الإمام أحمد وغيرهم من الحفاظ.(169/4)
مسائل في حديث الولي
في هذا الحديث مسائل منها:
من الولي؟
وما تعريف الولي؟
وما معنى حب الله لعبده تبارك وتعالى؟
ولماذا كانت النوافل سبباً للمحبة مكان الفرائض أو قبل الفرائض؟
وما هي خاصية الفرائض على النوافل؟
ومتى تكون النوافل محبوبة عند الله عز وجل؟
والمعضل في هذا الحديث المشكل: قوله تبارك وتعالى: {كنت سمعه} فكيف يكون الله سمع العبد وبصره ويده ورجله؟
ثم ماذا قال أهل التصوف في هذا الحديث؟
وما موقف أهل السنة والجماعة من هذا الحديث؟
وما موقف الاتحادية الجائرة الظالمة من هذا الحديث؟
وما معنى: {ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن}؟ وهل الله تبارك وتعالى يتردد؟ وهل يجوز أن نطلق عليه التردد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الإرادات؟
هذا ما سوف نعرض له بإذن الله.(169/5)
أبو بكر خير الأولياء
وقبل أن نبدأ اعلموا أن خير الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام, وهو أفضل الأنبياء وسيدهم وخطيبهم وقائدهم، إذا وردوا فهو خطيبهم, وإذا احتشدوا فهو إمامهم، وهو الشافع المشفع عليه الصلاة والسلام، وهو أول من تنشق له الأرض, وهو أول من يقرع باب الجنة.
وخير الأولياء أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فليس هناك ولي أعظم ولا أفضل من أبي بكر بعد الأنبياء والرسل, لا الخضر عليه السلام ولا غيره, إذا كان الخضر على قول من قال: إنه ولي فـ أبو بكر أفضل منه, وفي الحديث: {ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر} إذاً أبو بكر هو خير الأولياء, ولن يأتي أحد بعد أبي بكر في هذه الأمة أفضل منه, مهما صلى وصام، ومهما حج وجاهد؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه أخذ المرتبة والدرجة الأولى في كل منزلة من الفضل, ففي صحيح البخاري في كتاب الجهاد يقول عليه الصلاة والسلام: {إن للجنة أبواباً ثماينة، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة, ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان, ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد إلى آخر تلك الأبواب, فقال أبو بكر -لا يسأل إلا أبو بكر: يا رسول الله! أيدعى أحد من تلك الأبواب جميعاً؟} أي: هل يدعى أحد يوم القيامة من جميع الأبواب- فيتبسم عليه الصلاة والسلام ويقول: {نعم وأرجو أن تكون منهم} فـ أبو بكر يدعى من جميع الأبواب يوم القيامة؛ لأنه برز في كل عمل صالح رضي الله عنه وأرضاه.(169/6)
من هو الولي(169/7)
الولي عند أهل التصوف
قال غلاة أهل التصوف: الولي من غاب بمشهوده عن شهوده, ويقصدون بالمشهود: الله, والشهود: ما نراه ونبصره, يقولون: يغيب حتى لا يدرى هل هو حاضر أم غائب؟ هل هو في أبها أو في حضرموت؟ هذا عند غلاة الصوفية.
وقالوا في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] قالوا معنى الآية: إذا نسيت نفسك ومن حولك فقد ذكرت الله, وهذا خطأ في التفسير.
وقالوا في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] قالوا: سبحان الله! أين الذي يريد الله؟ أي: أنهم جعلوا الذين يريدون الآخرة لا يريدون الله, والله يذكر أن بعض الصحابة في معركة أحد يريد الله وبعضهم يريد الدنيا، فأهل الغنائم وهم الذين نزلوا وعددهم سبعون من الجبل يريدون الدنيا، فالله يقول: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152] وهم هؤلاء الذين نزلوا من الجبل, {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] وهم الصحابة وعلى رأسهم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام, فأما تفسيرهم فقالوا: لا, كلا الطائفتين كانت خاطئة، فأين الذين يريدون الله؟ لا أحد!
وقال بعضهم: من صفى وجانب الجفاء وأتى بحقوق الوفا، فهو من الصوفية على صفا، وهو الولي.
وقالت الاتحادية: كل ما في الكون من الأولياء, ويقولون: إن المشهود كله هو الله عز وجل!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! ولذلك رد عليهم ابن تيمية شيخ الإسلام رداً عجيباً، فسحق مفترياتهم ودحض حججهم.(169/8)
الولي عند أهل السنة
أما تعريفه عند أهل السنة فهو التعريف الذي عرفه الله من فوق سبع سموات, قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] فتعريف الولي هو: الذي آمن واتقى، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56].(169/9)
الولاية بين الصحابة وأهل التصوف
أما الصحابة فكانت طرق الولاية عندهم بالعبودية, وكانت طرق الولاية عند غيرهم ثلاث طرق: بالمواجيد والأذواق، وبالفلسفة وذو الجدل، وبالتفكير.
أما الصحابة فسلكوا في الولاية مسلك العبادة, فأقربهم عند الله أكثرهم عبادة له.
لماذا كان أبو بكر أفضل الأولياء؟ لأنه أكثر الناس عبادة, حج وجاهد، وصام وزكى، ودعا وفدى الإسلام بنفسه، ثم كان أخوف الخائفين من الله.
ولذلك جاء في كتاب الزهد للإمام أحمد -وقد تكرر هذا- أنه رضي الله عنه وأرضاه كان يبكي كثيراً حتى يُرثى له, وكان يقول: [[يا ليتني شجرة تعضد وكان يقول إذا رأى الطائر يطير: يا ليتني طائراً فأطير، طوبى لك أيها الطائر! ترد الماء وترعى الشجر ثم تموت لا حساب ولا عذاب]].
ولما حضرته الوفاة قالت له ابنته عائشة: [[صدق الشاعر يا أبتي! حيث يقول:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال: يا بنية! لا تقولي ذلك, ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:19 - 21]]] وانتقل إلى رحمة الله ولم يترك إلا ثوبه وبغلته وشيئاً من مال قليل، وكان من أتجر التجار، ولكن دفع ماله كله في سبيل الله.
هذا ما يستقر عليه التعريف، أن الولي من خاف الله واتقاه وعمل الصالحات.
ولـ أبي عثمان الصابوني كتاب في الولاية , ذكر أن صاحب الولاية: من أتى بالفرائض واجتنب المحرمات، وتزود بالنوافل، وكان سليم الصدر، حسن الخلق، قائماً قيام الليل, مجاهداً نفسه في ذات الله, عاكفاً نفسه على عبودية الله, حسن التعامل مع الناس، وكان صادقاً فهو الولي إلى آخر كلام طويل له؛ يقرر لنا فيه أن الولاية تنال بهذا.
والولي لا يشترط له لباس كما يقول ابن القيم في مدارج السالكين: فليس للأولياء لباس يخصهم, وليس للأولياء عمائم, وليس من لبس العمامة فهو ولي، ومن أتى حاسر الرأس فليس بولي, أو أن أهل الثياب البيض والغتر الحمراء أولياء, والذين لا يلبسون هذا اللباس ليسوا بأولياء, أو الحمر البلق, أو السود الذين يميلون إلى الصفرة, لا.
أو بنو فلان وبنو فلان، لا.
أو الكبار في السن، أو التجار، أو أبناء الأمراء والوزراء، لا.
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63].
وابن تيمية في المجلد الحادي عشر من مجموع الفتاوى يقول: إن الصوفية - أو كلاماً يشبه هذا -يرون أن من لبس البذاذة أنه هو الولي, فيأتون بالمرقعات من الثياب الممزقة ويبقون في الزوايا ويدعون الولاية, ولذلك يقول: كم من ولي في قباء، وكم زنديق في عباء.
كم من ولي في قباء، أي: في منظر بهيج وفي حلة فاخرة, وكم من زنديق في ثياب ممزقة؛ لأن المقصد ليس الثياب.
ولذلك دخل ابن عباس رضي الله عنهما على الخوارج يوم النهروان أو قبله بيوم, والخوارج فرقة ضالة، وهم كلاب النار, أخذوا في العبادة وتركوا العلم والفقه في الدين, دخل عليهم ابن عباس يحاورهم لعلهم يعودون إلى أهل السنة والجماعة , وقبل أن يدخل اغتسل وتطيب ولبس حلة بألف دينار -أي: بعشرة آلاف درهم- فلما رآه الخوارج وكانوا يلبسون الثياب الممزقة قالوا: أأنت ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام وتلبس هذا؟! قال: أأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم أم أنا؟ قالوا: أنت, قال: فوالذي نفسي بيده لقد رأيته في حلة حمراء كأحسن الحلل.
فالمقصود أن الملابس والطقوس والجلسات، أو الأكل الخاص أو أنهم إذا مشوا نكسوا رءوسهم ومشوا رويداً كأنهم نملة، هذا ليس من الولاية في شيء.
[[رأت عائشة رضي الله عنها وأرضاها شبيبة بدأوا في الاستقامة، فأخذوا يتمسكنون ويتضاعفون ويتماوتون، إذا تكلم أحدهم تكلم بالهوين، وإذا سلم سلّم بالهوين, وإذا صافح مد يده لك كأنها ميتة.
فقالت عائشة: من هؤلاء؟! قال لها الناس: هؤلاء قوم نساك.
قالت: والله الذي لا إله إلا هو لقد كان عمر أخشى لله منهم، وأنسك لله منهم، وكان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع]].
الفاروق كان يدكدك الدنيا إذا مشى، وإذا تكلم هز القلوب, والمنابر تهتز وتبكي تحت أرجله, وإذا تكلم أسمع حتى نقل عنه أنه أرسل إلى امرأة وهي حامل يريد أن يحاسبها على قضية، فأسقطت حملها -وهذا صحيح- وسأل علياً عن ذلك فقال: أرى أن فيه غرة وأن تديه فوداه رضي الله عنه وأرضاه.
وأوردوا عنه كصاحب كنز العمال وغيره، أنه رضي الله عنه وأرضاه كان يمشي أمام الصحابة في سوق المدينة فسمع جلبة, أي: صوتاً وراءه, فالتفت، قال علي أبو الحسن رضي الله عنه: والله لكأن قلوبنا نزلت في بطوننا.
ولذلك الجن خافت من عمر؛ فإذا أتى عمر من فج لم يسلك الشيطان فجه الذي يسلكه رضي الله عنه وأرضاه, كان يفرق الله به بين الحق والباطل، ولذلك سمي الفاروق.
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
فلذلك ليس للأولياء أصوات غير أصوات الناس، وليس لهم لباس غير لباس الناس, ولا طعام ولا شراب، بل يأكلون ويشربون ويبيعون ويشترون مثل الناس.
فغلاة الصوفية لما ظنوا أنهم أولياء جلسوا في الزوايا مثل الرهبان في الصوامع، لا يبيعون ولا يشترون ولا يتزوجون ولا يمزحون ولا يضحكون ولا يلبسون, وسيد الأولياء وخير الأولياء أبو بكر اشترى السمن وباعه في السوق, ويأخذ الجمل، وينزل بحمله، ويبيع ويشتري في السوق، ويسعر رضي الله عنه وأرضاه, ويقوم على المنبر يتكلم ويضيف الناس، ويودعهم ويستقبلهم، كل هذا وهو سيد الأولياء.
فحياة ليست كحياة الصحابة ليست بحياة, وليست بولاية ولا استقامة.(169/10)
أقسام الأولياء
الأولياء عند الجمهور قسمان: مقتصدون، وسابقون, وشيخ الإسلام ابن تيمية ذهب إلى أنهم ثلاثة أقسام فيقول: الأولياء تشملهم هذه الآية، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32].
الظالم لنفسه: هو الذي يترك بعض الواجبات ويأتي بعض الكبائر, وهو عند الخوارج كافر, وعندنا مسلم لا يخرج من الإسلام.
والمقتصد: هو الذي يفعل الفرائض بواجباتها ويترك الكبائر، ولكنه قد يترك المستحبات وقد يفعل بعض المكروهات.
والسابق بالخيرات: هو الذي لا خوف عليه ولا حزن، وهو الذي يفعل الفرائض والواجبات والمستحبات، ويترك الكبائر والمحرمات والمكروهات, ووصفه ابن القيم في طريق الهجرتين فقال: هو الذي ينام وقلبه معلق يطوف حول العرش.
فهو معلق بربه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فإذا نام وانتصف الليل قام فتوضأ وهو خائف منكسر القلب، خجول من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فيصلي ويناجي ربه وقد أسلم أعضاءه وروحه وإرادته وعزيمته ومحبته، فليس له من نفسه شيء، وليس لنفسه منه شيء وسوف يأتي معنا في الحديث كلامه أن الله يكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به- فهذا السابق بالخيرات.
فهم أقسام ثلاثة، وعند الجمهور قسمان: مقتصدون وسابقون, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً * وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:1 - 10].
فأصحاب الميمنة هم المقتصدون, وأصحاب المشأمة على رأي ابن تيمية ليسوا من الظالمين، بل هم كفرة, والسابقون هؤلاء هم الصنف الثاني, فالمقتصدون هم أصحاب يمين, والسابقون بررة, قال سبحانه في آخر السورة بعد أن قسم في أولها: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة:83 - 88].
فهؤلاء المقربون هم السابقون: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:89 - 90] المقتصدون {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} [الواقعة:91 - 92] وهؤلاء الكفرة وهم أصحاب المشأمة, نسأل الله أن يجيرنا من مصيرهم.(169/11)
معاداة الأولياء
قسَّم الحديث الأولياء إلى مقتصد وسابق -ومر هذا- حيث يقول الله تبارك وتعالى فيه -وسوف يأتي شرحه-: {من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليَّ عبدي بأحب مما افترضته عليه} وهذا هو المقتصد {ولا يزال يتقرب إليّ بالنوافل} وهذا هو السابق, فمن تقرب بعد الفرائض بقيام الليل، وصيام النوافل، واتقى الله، وحسن خلقه وتعامله، وصدق، وبر والديه، ووصل رحمه، فهو سابق بالخيرات, فهذا هو المقتصد والسابق كما قسم في الحديث.(169/12)
معنى المعاداة في الحديث
يقول الله تبارك وتعالى: {من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة} ما هو معنى المعاداة؟ نحن نختلف فيما بيننا في مسائل, وقد اختلف أهل العلم في مسائل، اختلف الإمام أحمد ومالك والشافعي وأبو حنيفة، واختلف أبو بكر وعمر في مسائل وتشاجرا وتجادلا, فهل هذه معاداة؟ هل إذا عاديت المسلم وأتى بينك وبينه غيظ ثم تصافيتم فهل هذا من المعاداة؟
قال أهل العلم: لا تدخل المشاحنة والمشادة ولا الخلاف والمجادلة في العداء.
ومعنى المعاداة: المعاداة التي سببها الولاية، أنه ما عاداك العدو إلا لأنك ولي لله, قالوا: مثل بغض أبي بكر من الرافضة , وسب علي من الناصبة , ومثل عداء الكفار مع المؤمنين وعداء أهل البدعة مع أهل السنة، هذا هو العداء.
ومنه عداء أهل النفاق مع أهل الإيمان, فقد عادوهم بالسخرية وبالغيبة واستحلال الأعراض والاستهزاء, فهذه هي المعاداة وليس الاختلاف العلمي والجدل والضغينة الطفيفة التي لا يخلو منها البشر معاداة, كالتي حدثت بين أبي بكر وعمر وغيرهما رضوان الله عليهم من السلف الصالح فهذا ليس عداء.
هذا يخرج معنى المعاداة في الحديث من معنى الجدل إلى معنى الضغينة بسبب الولاية.(169/13)
محاربة الله لمن عادى الأولياء
والمحاربة: هي مفاعلة، فلا بد من جانبين للمقاتلة، أي: أن يقاتل هذا هذا، ويقاتل هذا هذا، وهو من أفعال المشاركة، كالمضاربة والمجادلة, فكيف نلحق هذه الصفة بربنا تبارك وتعالى, وهي من جانبين، والله عز وجل يجل أن يحارب العبد؛ لأن سببها العداوة من الجانبين أو التوازن والتساوي، والله أجل قدراً, وأقدر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وأعظم وأجل؟!
قال أهل العلم: المعنى: قد تعرض لهلاكي، فقوله: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالمحاربة} ليس معناه: أنه يحاربني وأحاربه، فالعبد أذل وأقل وأصغر من أن يحارب الله, لكن المعنى: فقد تعرض لما يوجب هلاكه, أي: أنه أغضبني فأهلكه, ليس معناه أن العبد قام بسلاح والله بسلاح ليتحاربا -جل الله- فقالوا: هذه من الأفعال التي تبنى على الأسباب، كما يقول ابن حجر: معناه أن العبد إذا بدأ بسبب العداء فقد تعرض لهلاكه من الله تبارك وتعالى, لأنه حارب الله, ومن يحارب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟!(169/14)
التقرب بالنوافل سبب محبة الله للعبد
كيف عظمت الفرائض على النوافل؟ حيث أن الله جعل سبب المحبة النوافل، ولم يذكر في الحديث أن سبب المحبة الفرائض إنما ذكر النوافل, ولو أنه في أول الحديث قال: {وما تقرب إليَّ عبدي بأحب مما افترضته عليه} ولكن يقول: {ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه} ثم يكون الله سبحانه وتعالى سمعاً للعبد وبصراً له بسبب فعل النوافل لا بالفرائض.(169/15)
أهمية النوافل
و
السؤال
كيف عظمت الفرائض إذاً عند أهل السنة والجماعة على النوافل؟
ولماذا كانت النوافل في الحديث سبباً لمحبة الله أكثر من الفرائض؟
من الأجوبة التي أوردها أهل العلم: أنه إنما ذكرت الفرائض وعظمت لأنها سبب في رفع العقاب والغضب من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, والنوافل كانت سبباً للحب لأن العبد يفعلها حباً فيما عند الله عز وجل.
قال الحافظ ابن حجر وغيره من أهل العلم: لأن الفرائض كالأصل والأساس ولأنها علامة للعبودية، ولأن فيها الذل، وفيها امتثال أمر الآمر تبارك وتعالى, ونهي الناهي تبارك وتعالى، فكانت أعظم من النوافل، والآمر والناهي هو الحاكم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا امتثلت أمره كنت أفضل ممن يتقرب إليه بالنوافل, فكانت الفرائض هي أفضل, وأما النوافل فعلى الجواب السالف كانت سبب المحبة لأن العبد لا يفعلها خوفاً من العقاب ولا من العذاب، إنما يفعلها حباً من نفسه، ولا يكثر من النوافل إلا محب لله تبارك وتعالى.
وأنت لا تسأل عن إيمان الشخص ولا كثرة صلاحه, ولكن انظر إلى نوافله.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [[كل يحسن الكلام ما لم يعملوا، ولكن إذا عملوا انكشفوا]] أو كما قال فالكلام سهل لكن الفعل هو الصعب, فلا تسأل عن عبادة عابد أو حبه لله تبارك وتعالى حتى تنظر إلى نوافله, وكلما أكثر من النوافل كان أقرب إلى الله, وأحب إلى الله, فإذا رأيته حريصاً على النوافل فمعنى ذلك أنه من أقرب الأقربين إلى الله تبارك وتعالى، وأنه من المحبين لله تبارك وتعالى.
والنوافل في الحديث -أيها الكرام- أولها نوافل الصلاة, ولذلك تكلم عليها الحفاظ لأن نوافل الصلاة هي المتبادرة إلى الذهن، ولذلك لا يحافظ على نوافل الصلاة إلا مؤمن تام الإيمان وكامل اليقين, كصلاة الضحى, وأربع قبل الظهر وأربع بعدها, وأربع قبل العصر, وركعتين بعد المغرب أو أربع أو ست, وركعتين بعد العشاء أو أربع أو ست, والوتر إلى ثلاث عشرة إلى ما يفتح الله عز وجل، إلى نوافل كثيرة.(169/16)
حرص السلف الصالح على الإكثار من النوافل
ولذلك صحح العلماء أن الإمام أحمد كان يصلي في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة غير الفرائض, قال ابنه عبد الله: فلما آذاه الجَلْدُ-لما جلد في سبيل الله وفي سبيل رفعة لا إله إلا الله- كان يصلي مائة وخمسين ركعة, وكان إذا سجد ربما أعنته حتى أعيده إلى مكانه.
يقول أحد الذين جلدوه: لقد جلدته جلداً لو جلد به بعير لمات.
كل ذلك في سبيل الله.
وأول ما أخذ الإمام أحمد -وهو من الأولياء الكبار في الإسلام، رضي الله عنه وأرضاه ورحمه الله رحمة واسعة- أركبوه على فرس، قال: فحمَّلوني بالقيود من الحديد في يدي ورجلي -وسبب التعذيب أنه يريد منهج أهل السنة وهم يريدون البدعة, فـ المأمون ومن معه والمعتصم والواثق كلهم يريدون منهج الاعتزال بالقول بخلق القرآن, وهو يقول: لا -فلما أركبوه قال: خشيت أن أقع على وجهي فيتهشم وجههي، فكنت أداري نفسي على الفرس، لا يمسكه أحد إلا الله في ليلة ظلماء، وكان الجنود وراءه يضربون الفرس حتى أدخلوه في ثكنات المعتصم العسكرية.
فلما أدخل قال: أغلقوا عليَّ الباب وأنا في ظلمة لا يعلمها إلا الله, قال: فالتمست لأجد ماء، فيسر الله لي بإناء فيه ماء, فأكبر مهمة له أن يصلي في الليل نافلة, فتوضأ رحمه الله رحمة واسعة وقام يصلي حتى الفجر.
ولما أتى في الصباح عرضوا له الإفطار من مأدبة المعتصم الخليفة.
يقول الخليفة: لا آكل حتى أخبر أن أحمد أكل قبلي, فهم يعرفون أنه إمام الدنيا وفقيه المعمورة، ولذلك جعله الله إماماً، حتى إذا قيل للأطفال: أحمد بن حنبل، دخل في أذهانهم أنه إمام, قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
فلما عرضوا له المائدة قال: لا والله، عندي دقيق يكفيني، كان معه سويق في جراب, وكان صائماً طيلة دخوله في السجن, فإذا أذن لصلاة المغرب أخذ حفنة واحدة من هذا الدقيق -السويق- ووضعه في الماء ثم خلطه بيده ثم أكله بعد صلاة المغرب, ويبقى عليه لليوم الثاني, حتى يقال: تغاضت جفناه أو خداه من الضعف لما خرج من السجن.
ومع ذلك أخرجوه وحققوا معه وأرادوه أن يعود إلى منهج الابتداع، فرفض ولم يرض إلا منهج الإسلام ومنهج أهل السنة والجماعة , فجلدوه جلداً مبرحاً, وسلمه الله وأخرجه ورفعه رفعة ما بعدها رفعة، حتى إنه لما توفي كان الناس في جنازته، ومن كثرتهم تقطعت الأحذية، وذهب به بعد صلاة الفجر وما وصلوا إلى المقبرة إلا في صلاة العصر, وأغلقت الحوانيت في بغداد , وتوقف اليهود والنصارى عن أعمالهم, وظن بعض الناس أن القيامة قامت في يوم جنازة الإمام أحمد , حتى قال بعض المؤرخين: لم يحفظ جنازة في التاريخ اجتمع لها جمع أكثر من جنازة الإمام أحمد.
فالمقصود أن الأولياء في الإسلام إنما عَظُموا من كثرة النوافل.
يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة سفيان الثوري أبي سعيد، الإمام الحبر الزاهد العلامة الكبير الذي رفع الله هامته وقدره: يقولون: ذهب إلى صنعاء اليمن يريد أخذ العلم من عبد الرزاق بن همام الصنعاني العلامة الكبير, فلما وصل إليه قدم له عبد الرزاق بن همام رطباً وزبدةً، فأكل منه أكلاً كثيراً, لماذا؟ لأن الرجل صالح وطعام الصالحين فيه شفاء بإذن الله, والرجل مسافر، فلما أكثر التفت إلى نفسه، وقال: أكلت هذا الأكل! -يقول المثل وقد ذكره الذهبي: أشبع الحمار وكده، والله لا أنام حتى الفجر- فأخذ يصلي ويبكي حتى طلع الفجر.
ولذلك حفظ عن سفيان الثوري أنه من الذين كانوا يقومون الليل كله, ذكر الغزالي في الإحياء: أن من السلف من كان يقوم الليل كله، منهم: سعيد بن المسيب وسفيان الثوري والفضيل بن عياض، كانوا يقومون الليل كله, ولكن إذا عرضنا أنفسنا فأين الثرى من الثريا؟!!
سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرقٍ ومغرب
لكن عزاؤنا وسلوتنا أننا نحب القوم ومن أحب القوم حشر معهم, لكن العجيب أن هناك من يبغض هؤلاء لا لشيء، يبغض الإمام أحمد، ويبغض سفيان الثوري، ويبغض عمر بن عبد العزيز , أما نحن فنقول: والله لا نقدر أن نعمل بعملهم ولا نستطيع أن نصل إلى هذا المستوى، ولكن من أحب القوم حشر في زمرتهم، فنشهد الله وملائكته والناس أجمعين أننا نحبهم في الله.
يقول سعيد بن المسيب: [[الحمد لله ما فاتتني تكبيرة الإحرام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أربعين سنة]] سعيد بن المسيب بكى حتى ذهبت عينه اليمنى, وقالوا له: لا تبكِ، رويداً وإلا سوف تذهب اليسرى, قال: [[لا خير فيها إن لم تذهب من خشية الله]].
وقيل له: [[اذهب إلى العقيق فإن فيه خضرة لعل بصرك أن يعود إليك, قال: سبحان الله! ومن لي بصلاة الدلجة؟ ومن لي بصلاة في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام التي تعادل ألف صلاة فيما سواه]].
هؤلاء هم السلف الصالح الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.(169/17)
لماذا كانت النوافل سبباً للمحبة
لقد تقدم جزء من الجواب، والسبب في أن النوافل سبب للمحبة؛ لأنها تؤتى باندفاع وبحب وباشتياق ولا يرغمك أحد عليها, وبعض الناس يصلي في المسجد -نسأل الله العافية- إما مداراة للناس، وإما مجاملة لأهل الحي، وإما لأنه يخاف من الإمام والمؤذن أن يرفعه أو الهيئة، أو يخاف من السلطان أن يبطحه ويجلده فيصلي مع الناس, لكن يظهر هذا في النوافل, لا تجده يتنفل في المسجد, إذا سلم الناس كأنه طائر في قفص يخرج متضايقاً، فهو يحسب هذه الدقائق ولا يحسبها في أماكن اللهو واللغو واللعب, وبإمكانه أن يجلس جلسة سافرة ساحرة ماكرة الساعات الطويلة، يتمايل مع الأعواد، يأخذ النغمات، ويستنشق الفرح الذي ليس هو بفرح ولكنه حزن ولا يمل, لكن إذا حضر في المسجد كان آخر من يدخل وأول من يخرج، فإذا سلم الإمام يذهب ولا يتنفل, فهذا علامة على أنه ليس محباً.
أما المحب فهو الذي يتنفل, فكانت النوافل سبباً في محبة الله, فلذلك تجده يتنفل كثيراً وتجده يأتي مع الأذان أو قبل الأذان, يقول عدي بن حاتم كما في كتاب الزهد للإمام أحمد: والله ما أذن المؤذن إلا وأنا متوضئ والحمد لله، وهذا من باب قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] وذكروا أن أحد السلف كان يعمل نجاراً فكان يرفع المطرقة فإذا سمع (الله أكبر) تركها وأسقطها وراء ظهره ولا يطرق بها مرة ثانية.
وعائشة رضي الله عنها تقول: {كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم معنا ويكون في مهنة أهله ويقطع مع أهله اللحم، فإذا سمع (الله أكبر) قام كأننا لا نعرفه ولا يعرفنا}.
وكان كثير من السلف يقومون ويأتون المسجد في الغدوات، ويؤذن للصلاة وهم في المسجد، ولذلك ضيوف الرحمن يأتون على قدر منازلهم.
وقال أهل الأثر: الناس يوم القيامة في المنازل كمنازلهم في المسجد.
يقول ابن مسعود: [[اللهم لا تسبقني بأناس كثير في الجمعة, فاغتسل وتأخر قليلاً حتى سبقه ثلاثة, فدخل هو الرابع, فقال: رابع أربعة، وما رابع أربعة من الخير ببعيد]] قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37] يتقدم في الخير ويتأخر عن الخير.
ولذلك نحن نقيس هذه الأعمال أو محبة الناس لله عز وجل بأعمالهم الظاهرة، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].(169/18)
مثل المتنفل وغير المتنفل
قيل لـ ابن المبارك: لماذا يصلى قبل الظهر أربعاً؟ ألا تقبل الظهر بلا أربع؟
قال: يا بني! -لأن هذا غر جاهل يسأل- مَثَلُ الرجل الذي أتى إلى المسجد متوضأً في أول الوقت، فصلى أربعاً ودعا الله وهلَّل وكبر، ثم صلّى الظهر، ثم صلّى بعدها أربعاً، كمثل رجل له حاجة عند ملك من ملوك الدنيا -ولله المثل الأعلى- فراسل الملك قبل أن يصله، بالهدايا وأتحفه وأسمعه خيراً, ثم وصل واستأذن الملك بشفاعة طيبة، ثم تكلم بين يدي الملك بكلام طيب حتى ارتاح له الملك، ثم عرض عليه حاجته فلبَّى حاجته, فهذا مثل من فعل هذا.
ومثل الذي يأتي فيتوضأ فيدخل والناس يصلون فيصلي ثم يذهب، كمثل رجل دخل على الملك بلا إذن, وما سبقه هدية، وما تكلم مع الملك بكلام طيب، ثم قال للملك: أعطني هذه الحاجة، فإن شاء أعطاه وإن شاء منعه, فانظر إلى هذين المثالين.(169/19)
فوائد من حديث الولي(169/20)
النافلة لا تقدم على الفريضة
يستفاد من الحديث أن النافلة لا تقدم على الفريضة، وقال هذا ابن هبيرة وزير الخلافة، وهو من أعظم الوزارء في تاريخ الإسلام.
ابن هبيرة صاحب الإفصاح، كان حنيفاً مسلماً ولم يك من المشركين, كان زاهداً عابداً, ولذلك مدحته الشعراء بمدائح لم يمدح أحد من الوزراء في التاريخ الإسلامي بمثل مدح هذا الوزير أبداً, حتى يقول فيه ابن حيُّوس:
صفت نعمتان عمَّتاك وخصتا فذكرهما بين البرية يذكر
وزهدك والدنيا إليك فقيرة وجودك والمعروف في الناس ينكر
فسمعها الخليفة العباسي المستنجد فزاد عليها بيتين وقال:
ولو قام يا يحيى مكانك جعفر ويحيى لكفَّا عنه يحيى وجعفر
ولم أرَ من ينوي لك السوء يا أبا المظفر إلا كنت أنت المظفر
اسمه أبو المظفر ابن هبيرة , من أعماله الصالحة: أنه حج بالناس من بغداد، وأعلن فيهم أن من أراد الحج فليحج, ونفقته على الوزير, فحجوا بأطفالهم ونسائهم والمساكين والفقراء، وخرجت بغداد إلا قليلاً, فكان يطعمهم الفالوذج، والثريد، والعسل, وكان يظللهم من الشمس، وكان يدور عليهم في الخيام في الليل يتفقدهم وهو الوزير.
فلما وصلوا إلى منى في اليوم الثامن أتاهم في ذلك اليوم شدة شمس وقحط حتى انتهى الماء، وكانوا يبحثون ويلتمسون الماء حتى أشرف كثير من الناس على الهلاك, فقام فتوضأ وصلى ركعتين، وقال: اللهم إني أسألك أن تغيثنا, فغطت السماء غمامة ونزل الغيث في ذلك الوقت حتى شربوا بعدما يقارب ساعة شربوا الثلج, فكان يبكي وهو يشرب ويقول: يا ليتي سألت الله المغفرة.
كان في الوزارة بجانب الخليفة، فدخل عليه رجل، فلما دخل نظر هو إلى الرجل كثيراً كثيراً وتملاه، فلما انتهى قال للرجل: تعال, فأتاه ذاك الرجل, فمسح على رأسه وأعطاه شيئاً من المال، وقال: عفا الله عنك، ثم ذهب الرجل, فقال الناس: ما لك؟ ماذا حدث؟ قال: هذا الرجل تذكرت حالي وإياه في الشباب، حصل بيني وبينه مشادة ومشاجرة، فضربني بعصاً عنده على رأسي فأذهب عيني هذه فلا أرى بها شيئاً منذ ثلاثين سنة, فلما دخل عرفته وتذكرت القصاص يوم القيامة عند الرحمن، فأردت أن يعفو الله عني كما عفوت عنه فقد عفوت عنه.
فـ ابن هبيرة من أجل الوزراء في التاريخ الإسلامي، وإنما ذكرته لأنه ذكر هنا.
يقول ابن هبيرة: يؤخذ من هذا الحديث أن النافلة لا تقدم على الفريضة.
وصدق -رحمه الله- وبعض الناس من قلة الفقه في الدين يعتني بالنوافل أكثر من الفرائض, تجده في صلاة الضحى يحسب لها ألف حساب, وهذا شيء طيب، فيصلي بخشوع وخضوع وإقبال, وإذا أتت صلاة الظهر صلاها بسرعة كأنها نافلة, يقوم الليل حتى قبيل الفجر ثم ينام عن صلاة الفجر -ما شاء الله تبارك الله!!
وأين الفريضة التي تعادل آلاف الآلاف من النوافل؟
وهذا حتى في غير الصلاة، فتجد بعض الناس يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويقرأ فيها ما تيسر من القرآن، ويسبح ويهلل ويحضر نفسه عند الإفطار، ويعيش عبودية الصيام, فإذا حضر رمضان ما كأنه يعيش فريضة، والله يطالب العبد في الفرائض أكثر من النوافل.(169/21)
النافلة مكملة للفريضة
ويستفاد من الحديث: أن النافلة لا تقدم على الفريضة، وأن النافلة مكملة للفريضة, وفي الحديث الصحيح: {إن الله عز وجل إذا حاسب العبد يوم القيامة قرره بذنوبه فيقول لملائكته: انظروا هل له من نوافل؟ فإن كان له نوافل أخذ من نوافله على فرائضه} فهي تكمل ما نقص من فرائضه.
وظاهرة الاهتمام بالنوافل على حساب الفرائض هي من قلة الفهم في الدين, ولذلك [[كان سلمان رضي الله عنه وأرضاه إذا قام إلى الصلاة يحمر وجهه, فقالوا: ما لك؟ قال: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟!]]
و [[كان يصلي قبل الفجر أربع ركعات في الليل، فيقول له بعض السلف: ألا تزيد على الأربع؟ قال: لا.
إن الفرائض تكفر المقحمات وأما النوافل فهي لصغار السيئات، أو هي كوامل للفرائض، وإني في رحمة الله عز وجل إذا أكملت الفرائض]].
فالجودة في الفرائض هو المطلوب, قال الله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ولم يقل: أكثر عملاً.(169/22)
ما المقصود بالسمع والبصر في الحديث؟
ما معنى قول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: {كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها}؟
فيه ستة أقوال لـ أهل السنة ولغيرهم من الفرق.(169/23)
أقوال أهل السنة في معنى: السمع والبصر في الحديث
القول الأول:
أن هذا على سبيل التمثيل, أي: كنت سمعه وبصره في امتثال أمري وفي طلب طاعتي, فهو يحب طاعتي كحبه لسمعه وبصره.
أي: يحب طاعتي وذكري وتلاوتي ومرضاتي كما يحب سمعه وبصره، فهذا على التمثيل.
القول الثاني:
قيل: كله وجسمه مشغول بي، فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا ينظر إلا لما يعجبني، ولا يتفكر إلا في مخلوقاتي، ولا يفعل بيده إلا في طاعتي، ولا برجله إلا مرضاتي.
القول الثالث:
أجعل مقاصده كأنه ينالها بسمعه وبصره, أي: ألبي له المقاصد حتى كأنه يتناولها بالسمع والبصر.
القول الرابع:
كنت له في النصرة كسمعه وبصره ورجله, أي: كنت أقرب إليه في النصرة من اليد، وفي المعونة من الرجل، وفي المعونة والنصرة من العين ومن الأذن.
القول الخامس:
قيل: على حذف المضاف, فمعناه كنت حافظ سمعه وبصره ويده ورجله.
القول السادس:
وهو الراجح إن شاء الله، قيل: معنى سمعه أي: مسموعه، فلا يسمع إلا ذكري ولا يرى إلا صنعي.
وقال الخطابي: هذه أمثال، والمعنى: أني أوفقه لطاعتي ولمحبتي ولعبادتي فيباشر الأعمال، هذا هو معنى الحديث الراجح إن شاء الله, وهو أن الله يوفقه للطاعة فلا يتصرف بأعضائه إلا في محبة الله عز وجل كنت سمعه وبصره ويده ورجله, أي: أنني أحفظه في هذه الأمور وأوفقه لهذه الأمور فيكون لله وفي الله وبالله, فيستخدم ويستغل هذه الأعضاء والجوارح في مرضاة الله تبارك وتعالى.(169/24)
قول أهل التصوف في معنى: السمع والبصر في الحديث
يقول أهل الفناء: معنى الحديث: أنه يفنى بإرادته عن إرادته, ومعنى: كنت سمعه الذي يسمع به: أن العبد يفنى بإرادة الله عن إرادة نفسه, وبشهود الله عن شهود نفسه, فيكون في إرادة الله عز وجل وفي شهوده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, وهذا خطأ, لكنه أخف خطأً من الذي يأتي بعده.
وقال أهل الاتحاد - وأهل الاتحاد للبصيرة والبينة لمن لم يعرف أهل الاتحاد وأهل الحلول هم طائفتان كافرتان مجرمتان في الإسلام-: يقولون: كل ما في الكون هو الله, اتحد الله في الأجسام, فلا ترى إلا الله في الناس والحيوانات والطيور والأشجار وكل شيء تجد الله قد اتحد فيهم.
فقالوا في معنى الحديث: إن الله إذا وصل العبد إلى منزلة من الخير والبر والصلاح والولاية يتحد فيه, فيكون الله في صورة العبد جلّ الله وتعالى عما يقولون علواً كبيراً!!
وقالوا: وما دام جبريل عليه السلام أتى بصورة دحية بن الخليفة الكلبي , فكذلك قد يأتي الله في صورة العبد, إذا بلغ العبد في الولاية مبلغا ًعظيماً يتصور الله بصورته, {سُبحَانَهُ وَتَعَالَىَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الاسراء:43].
وهذا من أخطر الأقوال في الإسلام، وهذه مقالة ابن عربي صاحب الفصوص والفتوحات المكية، وابن سبعين , حتى يقول ابن تيمية لما ذكر هذا القول: إن صح عنه هذا القول فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وهذا كفر بواح ما أكبر منه.
إذاً هذا رأي لهم, وإنما عرضت إليه لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] وليكون المسلم على بصيرة؛ لأن طالب العلم لا يكفيه أن يعرف الحق بل لا بد أن يعرف مع الحق الباطل, قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة من قوم نشئوا في الإسلام لم يعرفوا الجاهلية]] وليس الفطن الذي يعرف الخير, لكن الفطن الذي يعرف الخير والشر.
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه
ولذلك لا بد للمسلم أن يعرف المذاهب الهدامة وماذا يقولون؛ لأنه ربما لُبِّس عليه فيظن أنها من مذهب أهل الحق.(169/25)
معنى عدم إجابة دعاء بعض الأولياء
وجد من الأولياء من دعا فلم يُجب دعاؤه، فما السر؟
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} لكن وجد في الأولياء من عبد الله وخافه ورجاه وصام له وبلغ في الولاية مبلغاً عظيماً، لكن دعا فلم يجب، فما هو السر؟!!
السر هو: أن الله عز وجل قد يؤخر جواب السائل ولو كان ولياً لأمور، منها:
1 - أن الله عز وجل قد يعطيه من الخير غير المطلوب ما يعلم سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن مصلحته في هذا الأمر وليس في ذاك الأمر، ونحن لا ندري بمصالحنا, والله هو الأعلم سُبحَانَهُ وَتَعَالى, وأدرى بنتائج الأمور، فإنك قد تطلبه في شيء فيعطيك الله عز وجل شيئاً غير الذي طلبته سُبحَانَهُ وَتَعَالى بسبب هذا الدعاء؛ لأن الله أعرف وأعلم بما تحب، أو فيما هو في مصلحتك.
2 - أن يدخر لك من الثواب في الآخرة أحسن مما يلبي لك في الدنيا.
3 - أن يصرف عنك من السوء, فقد يقدر الله عليك بعض الحوادث والكوارث والزلازل والفتن, فلكثرة دعائك صرف الله عنك من المحن والفتن ونحوها.
ولذلك أوصي نفسي وإياكم بكثرة الدعاء دائماً وأبداً، ولا تقل: دعوت دعوت فلم يستجب لي، بل ادع الله دائماً وأبداً, قاعداً وقائماً وعلى جنبك, فإنك لن تزال بين أحد أمور:
1 - إما أن يصرف الله عنك من السوء بقدر ما سألت.
2 - أو أن يدخر الله لك من الخير بقدر ما سألت.
3 - أو أن يعطيك الله عز وجل غير ما سألت.
4 - وإما أن يلبي الله لك سؤالك.
فأنت في خير وبر ومثوبة.(169/26)
عظمة الصلاة
عظم الصلاة وأنها قرة العين وسبب المحبة ورفع الدرجة وزلفى إلى الله؛ ولذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم كما في سنن النسائي بسند صحيح كما يقول ابن حجر: {وجعلت قرة عيني في الصلاة} فقرة عين النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة, وفي صحيح مسلم: {فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة} وفي صحيح مسلم من حديث ربيعة بن كعب بن مالك الأسلمي أو ابن مالك بن كعب ورد هذا وورد هذا لما قال: {يا رسول الله! أريد مرافقتك في الجنة.
قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة}.
فمن أعظم النوافل الصلاة, ولذلك إذا فرغت فتزود من النوافل, وتقدم إلى الله بركعتين, فإنه سوف يمر عليك وقت تتمنى أنك صليت ولو ركعة، ولكن كما قال سبحانه: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54].
أبني أبينا نحن أهل منازل أبداً غراب البين فيها ينعقُ
نبكي على الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
أين الأكاسرة الجبابرة الألى كنزوا الكنوز فلا بقين ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجشيه حتى ثوى فَحَواه لحد ضيق
خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلال مطلق
ذُكِرَ عن مطرف بن عبد الله بن الشخير أنه مر على مقبرة في البصرة فقال: لا إله إلا الله! فلما أمسى تلك الليلة رأى قائلاً يقول: يا مطرف! مررت اليوم على المقابر فقلت: لا إله إلا الله! والله لقد حيل بين أهل المقابر وبين لا إله إلا الله، ولو علمت بفضل لا إله إلا الله لقطعت بها عمرك.
وذكر ابن كثير في ترجمة زبيدة زوج هارون الرشيد الخليفة أنها رؤيت في المنام بعدما توفيت، رآها ابنها الأمين الخليفة, فقال: ما فعل الله بكِ؟ قالت: كدت أهلك وأعذب, قال: أما أجريتي عين زبيدة -أي: للحجيج- قالت: ما نفعتني شيئاً عند الله, قال: ولَمَ؟ قالت: ما أردت بها وجه الله، أردت بها رياء وسمعة.
قال: فما نفعك إذاً؟ قالت: نفعتني ركعتان في السحر كنت أقوم فأتوضأ فأدور على شرفات القصر -قصر الخليفة- وأقول: لا إله إلا الله أدخل بها قبري, لا إله إلا الله أقضي بها عمري, لا إله إلا الله أقف بها في حشري, لا إله إلا الله ألقى بها ربي.
فهي التي نفعتها عند الله عز وجل مع هذا العمل الصالح.
وقيل للجنيد بن محمد: ما نفعك؟ -وهذه ذكرها أهل العلم كـ الخطيب البغدادي والذهبي في السير - ذكروا أنه لما توفي -والرؤيا في المنام بشرى كما قال عليه الصلاة والسلام- قالوا: ما نفعك؟ قال: طاحت تلك الإشارات وما بقي إلا ركيعات كنا نركعها في السحر, أي: أن الإشارات وكثرة الكلام والمجادلات والمباحثات والمناقشات ذهبت وما بقي إلا ركيعات نركعها في السحر.
فمن أعظم النوافل الصلاة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {اعملوا ولن تحصوا، واعلموا أن أفضل أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن} حديث صحيح.
وابن تيمية يناقش ما هو الأفضل بعد الفرائض, كما في المجلد العاشر لسؤال أبي القاسم المغربي , فيرجح ويقول: شبه إجماع بين العلماء أن ذكر الله عز وجل بعد الفرائض أفضل الأعمال, لكن النافلة تختلف من شخص إلى شخص, بأسباب ثلاثة:
بالنفع وبالحاجة وبالحال.
فمن وجد في النافلة نفعاً له فعليه أن يكثر منها، صحيح أن القرآن أفضل الذكر، لكن بعض الناس كما ذكر ابن تيمية وغيره أنه يرق قلبه وفؤاده ويستحضر عظمة الله عند الدعاء, فالدعاء في حقه أفضل من قراءة القرآن.
وبعض الناس إذا استغفر وسبح وهلل استحضر قلبه, فيكون التسبيح والتهليل والتكبير أفضل من قراءة القرآن في حقه.
وبعض الناس إذا صام كان أفضل له من الصدقة، فقد تكون حالته المالية لا تتحمل الصدقة، فالصيام بحقه أفضل {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] وقد مر تقرير هذا المبدأ الذي أتى به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.(169/27)
العصمة لأولياء الصوفية
قال بعض أهل التصوف: إذا حفظ القلبُ الله كانت خواطره معصومة، فهل هذا صحيح؟!
هل صحيح أن العبد إذا حفظ الله عز وجل كانت الخواطر والواردات التي ترد عليه معصومة فلا يخطئ أبداً؟
يقولون: إذا بلغ العبد في الولاية مبلغاً عظيماً وحفظ قلبه الله كانت خواطره معصومة.
هذا غير صحيح؛ لأن العصمة ليست إلا لكتاب الله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم, فليس بصحيح هذا الكلام, وقد أخطئوا في ذلك.
فـ عمر رضي الله عنه سيد الملهمين، ولو كان في الأمة نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان عمر، فهو محدث، أي: كانت السكينة تنطق على لسانه, لكن مع ذلك أخطأ اجتهاده في بعض المسائل، فليس بمعصوم, ورد عليه بعض الصحابة وأصابوا وأخطأ رضي الله عنه وأرضاه وأجر أجراً واحداً.
فليس الولي أو خطرات الولي معصومة ولكنه يخطئ ويصيب، والعصمة ليست إلا لكتاب الله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم.(169/28)
هل يثبت لله تعالى صفة التردد؟
ما هو التردد في الحديث؟
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى في هذا الحديث: {وما ترددت عن شيء كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته} التردد في حق الله غير جائز، والبداء غير سائغ, فالله لا يتردد سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ لأن التردد صفة نقص وضعف, ولا يتردد إلا ضعيف الإرادة.
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
فالتردد صفة نقص وضعف ولا يجوز إطلاقه على الله عز وجل, والبداء على الله غير جائز، وقد قال بالبداء على الله اليهود، وقال به بعض الفرق المبتدعة.(169/29)
معنى البداء
ما معنى البداء؟ معناه أن الله يبدو له شيء لم يكن يعرفه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من قبل جلَّ الله عن ذلك! بل الله يعلم الأمور قبل أن تكون كيف تكون، وبعد أن تكون كيف تكون، ولو كانت أو لم تكن فإن الله يعلمها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فما هو التردد في الحديث؟ التردد حمله أهل العلم على أربعة معانٍ:(169/30)
أقوال العلماء في معاني التردد
1 - قيل: يشرف العبد على الهلاك فيدعو الله فيشافيه الله عز وجل فيكون هذا من جهة التردد, لأنه أشرف على الهلاك، وكأن القضاء قرب منه وأراد أن يموت، فيعجل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى له بالعافية فيعود, فهنا هلاك وعافية فيصبح شبه تردد, هذا قول.
2 - والقول الثاني: إن معناه: ما ردَّدت رسلي في شيء كترديدي إياهم عن قبض نفس عبدي المؤمن, أي: أن الله عز وجل إذا بعث الملائكة يكره مساءة العبد، فكأن ترداد الملائكة من محبتهم للعبد، ونفوذ القضاء والقدر في الوفاء كأنه تردد إرادتين.
وذكروا قصة موسى فقد جاء في الحديث الصحيح عند البخاري وغيره: {أن الله عز وجل أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام- وكان موسى رجلاً قوياً شجاعاً- فلطم موسى ملك الموت فأذهب عينه, فعاد ملك الموت إلى الله فرد عليه عينه} فقال أهل هذا القول: هذا تردد بين الملك وبين المتوفى فهو تنازع إرادتين, وهذا القول فيه ضعف.
وهذه الأخبار إذا سمعنا بها قلنا: {آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:53] وإذا سمعناها قلنا: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3] فنحن نؤمن بالغيب ونصدق ما جاء عن الله وعن رسول الله على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ونجعلها على العين والرأس.
يقول الشافعي: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله, وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 - القول الثالث: أنه لطف وتدرج في قبض روحه فكأنه تردد, فإن الله عز وجل رحيم بالعبد المؤمن، فيتلطف في قبض روحه، فكأنه تردد.
4 - وقيل -وهو القول الراجح-: يحب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ما يَسرُّ العبد, ويكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ما يسوء العبد المسلم, والعبد المسلم يسوءه الموت لما فيه من مشقة وكلفة, فكأن تعارض إرادة الحب مع ما يسر العبد وإرادة العبد فيه شبه تردد، وليس هناك تردد لأن التردد منتفٍ عن الله عز وجل, فكأن الله عز وجل يحب ما يسر العبد ولا يحب أن يسوءه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, فهذه إرادة وهذه إرادة، فوجود إرادتين لا وجود تردد؛ لأن التردد ليس بوارد عن الله عز وجل.
وهناك يقول: {إن الله لا يمل حتى تملوا} والله لا يمل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, حتى ولو مل العبد لا يمل الله, لكن مثل المقابلة: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79] {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وهذه صفات نقص لا تليق به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لكنها على المقابلة.
وأما الموت فإن الله قال: يكره الموت, فكيف يكره المسلم الموت؟ المسلم يكره الموت لما فيه من صعوبة ولا يكرهه لما بعده, فالمسلم يحب لقاء الله إذا رأى ما عند الله وقت السكرات ورأى ما أعد الله له من نعيم, أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه.
ومن لقاء الله قد أحبا كان له الله أشد حبا
وعكسه الكاره فالله اسألِ رحمته فضلاً ولا تتكلِ
فالمسلم يكره الموت لما فيه من المساءة.
قيل لـ عمرو بن العاص وهو في سكرات الموت -وقد جاء بسند صحيح-: [[صف لنا الموت.
قال: كأن جبال الدنيا على صدري, وكأني أتنفس من ثقب إبرة]].
وقال عمر لـ كعب الأحبار: [[صف لنا الموت.
قال: يا أمير المؤمنين! ما أجد للموت وصفاً إلا كأن غصن شجرة من شوك ضرب بها الجسم فتعلقت كل شوكة بعرق, ثم سحب هذا الغصن فانسحب كل عرق في البدن]].
ولذلك يأتي الميت من الهول في السكرات، ويأتيه من العرق وخاصة المؤمن، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول -كما عند الترمذي -: {المؤمن يموت بعرق الجبين} يأتيه من العرق ومن الكلفة التي تذهب عنه بقايا السيئات حتى يلقى الله وما عليه سيئة، فالمؤمن يموت بعرق الجبين ويغشاه من الكرب ما الله به عليم.
بل الرسول عليه الصلاة والسلام تصبب عرقه، وكان يأخذ خميصة وهو في سكرات الموت ويضعها على وجهه ويقول: {لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، اللهم هوّن عليَّ سكرات الموت}.(169/31)
النهي عن أذية أولياء الله
وفي الحديث النهي عن أذية أولياء الله عز وجل، وأن من والى أولياء الله فقد والى الله, ومن عادى أولياء الله فقد عادى الله.
وفيه النهي عن غيبة الأولياء الصالحين من المؤمنين من العَّباد والصوَّام والزهاد، وطلبة العلم والدعاة، وعدم الاستهزاء والسخرية بهم, وأن معنى هذا هو معاداتهم ومحاربة لله رب العالمين.(169/32)
الأسئلة(169/33)
حكم صلاة الرجل منفرداً خلف الصف
ؤال: إذا دخل رجل إلى المسجد والصف مكتمل، فهل يصلي منفرداً، أم يجر أحداً معه، أم يدخل في الصف؟
الجواب
إن استطاع أن يدخل في الصف فبها ونعمت، وإن لم يستطع فلينتظر ولا يجر أحداً من الصف, وحديث جر الرجل من الصف لا يصح فهو حديث ضعيف بل واهٍ.
يقول الناظم:
والطبراني قد روى جر الرجل فيه السري تركوا ما قد نقل
أي: في الحديث: السري بن إبراهيم، وهو ضعيف أو واهٍ فأبطل هذه الرواية أو ضعفها، فلا يستشهد بها, فجر الرجل ليس بصحيح, ولا يقوم بهذا الحديث دلالة.
فلينتظر قليلاً ويتحرى، فإذا لم يأتِ أحد يدخل في الصلاة ولو منفرداً وصلاته إن شاء الله مقبولة، لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه}.
أما حديث: {لا صلاة لمنفرد خلف الصف} فهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد بثلاث طرق كلها صحيحة, ولكن قيل: إنها حادثة عين, وقيل: النهي عن صلاة المنفرد الذي يجد فرجة، والأولى أن يحمل الحديث على هذه الرخصة وهي فتوى ابن تيمية، أنه يتحرى، فإن لم يجد فليصل وصلاته مقبولة.(169/34)
حكم صلاة الضحى
السؤال
ما هو القول الراجح في صلاة الضحى علماً بأن ابن عمر كان لا يصليها؟
الجواب
صلاة الضحى الراجح فيها أنها سنة, يقول أبو هريرة كما في الصحيحين وفي غيرهما: {أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت: ركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر} فهذه الثلاث هي التي أوصى بها صلى الله عليه وسلم أبا هريرة، ومعناها: المداومة عليها.
وكان كثير من السلف يداومون عليها, وفي حديث زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صلاة الأوابين حين ترمض الفصال} أي: حين تشتد حرارة الشمس، فتأتي الفصال: وهي ولد الإبل، فترفع أخفافها عن الأرض، وهذا هو وقت صلاة الأوابين.
وفي حديث أم هانئ في الصحيح قالت: {دخلت يوم الفتح والرسول عليه الصلاة والسلام يغتسل وتستره فاطمة بنته رضي الله عنها, فلما اغتسل قام فصلّى ثمان ركعات} قيل: صلاة الضحى، وقيل: صلاة الفتح, والراجح أنها صلاة الضحى.
فصلاة الضحى سنة, ومن تركها أحياناً أو صلّى أحياناً فلا بأس, والأحسن أن تصليها دائماً لحديث أبي ذر الصحيح: {كل سلامى من الناس عليه صدقة, وكل يوم تشرق فيه الشمس تصلح بين اثنين صدقة, وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو تحمل له متاعه صدقة, وبكل تسبيحة صدقة, وبكل تحميدة صدقة, وبكل تكبيرة صدقة, وبكل تهليلة صدقة, وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة, ويجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما أحدكم من الضحى} فهذه الركعتان يداوم عليها المسلم أو أربع أو ست أو ثمان.
واعلم أنك كلما سجدت لله سجدة رفعك الله بها درجة.
وعلى المسلم أن يتنفل ويجتهد ويقترب من الله كما قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] فكلما سجدت اقتربت من الله فإنه {أقرب ما يكون العبد من الله وهو ساجد, فأكثروا الدعاء فقمن أن يستجاب لكم}.
ووقتها: من ارتفاع الشمس بقدر رمح إلى قبيل الظهر قبل أن يقوم قائم الظهيرة، فإذا قام قائم الظهير يتوقف عن الصلاة, وأحسن أوقاتها إذا حميت الشمس, أي: تقدر من الساعة العاشرة إلى الحادية عشرة, لكن إذا أتت ظروف للمسلم فأراد أن يقدمها أو يؤخرها فله ذلك.(169/35)
حكم سب الأموات
السؤال
ما حكم سب الأموات؟
الجواب
لا يجوز سب أموات المسلمين، يقول عليه الصلاة والسلام: {لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا}.(169/36)
حكم قيام الليل كله
السؤال
ذكرت أن بعض السلف كان يقوم الليل كله، فهل هذا من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
لا.
هديه عليه الصلاة والسلام أنه يقوم وينام, ففي الصحيحين عن عائشة: {أن نفراً أتوا أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام فسألوا عن عبادته، فكأنهم تقالوها، فلما أتى صلى الله عليه وسلم أخبر أن أحدهم قال: أنا أقوم الليل ولا أنام, وقال الثاني: وأنا أصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء، فقال عليه الصلاة والسلام: أنتم الذي تقولون كذا وكذا؟! قالوا: نعم.
فقال: أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني}.
فالسنة أن تقوم شيئاً وتنام شيئاً, يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {خير القيام قيام داود عليه السلام، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه, وخير الصيام صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً}.(169/37)
عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم عصمة مطلقة؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم، لكنه قد يفعل صلى الله عليه وسلم بعض المسائل التي يراها عليه الصلاة والسلام وقد يكون غيرها أولى، كأسارى بدر، لكن العجيب في أسارى بدر لما عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم فيهم فقال الله سبحانه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال:67] وكان الرأي رأي عمر، العجيب أن كثيراً من أهل العلم قالوا: الرأي الصحيح هو الذي وافق رأي الرسول صلى الله عليه وسلم، لماذا؟
لأن الله أقره ولأنه أصلح, فإنه استبقى الأسارى فكان منهم مسلمون، وأتى من أصلابهم من عبد الله، وعلموا أبناء الصحابة، وأقره الله على ذلك, لكن في تلك الفترة كان ذاك أرجح.
ولكن يكفي أن نقول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم، ثم لا نبحث هو معصوم هل من الكبائر أو من الصغائر؟ وهل في المروءات والعبادات أو العادات؟
لا.
بل نقول: معصوم، قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4 - 5].
والحمد لله رب العالمين.(169/38)
الرسول بين المعاناة والانتصار
الابتلاء سنة من سنن الله الكونية القدرية، وأكثر الناس ابتلاء الأنبياء والرسل وأعظمهم ابتلاء ومعاناة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه المادة عرض سريع لسيرته صلى الله عليه وسلم وما فيها من العداوة والصراع مع الكفار واليهود والمنافقين في مكة والمدينة ثم تأييد الله له بالنصر والرفعة.(170/1)
الابتلاء من سنن الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته.
السلام عليكم يا أتباع من جلسنا لنستمع أخباره! ولنعرف أسراره، ولنعيش حياته عليه الصلاة والسلام في محاضرة بعنوان: (الرسول صلى الله عليه وسلم بين المعاناة والانتصار).
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110] وهذا أمرٌ مطرد في الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فإن لأهل التفسير في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:110] معنيين اثنين:
الأول: (كذبوا) أي: أنهم خلفوا ما وعدوا من الله عز وجل، فكأنه ما تحقق لهم النصر الذي سألوه الله ووعدهم به من كثرة ما وجدوا من المصائب والشدائد.
وقال بعض أهل العلم: بل قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:110] أي: كذبوا من أقوامهم تكذيباً بيناً ليس فيه استجابة ولا عودة إلى الحق، والقول الأول أولى.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم تمر به المعاناة تلو المعاناة إلى درجة أن يسأل الله نصره الذي وعده، فيقول في ليلة بدر: {اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم نصرك الذي وعدتني}.
والقضية التي وعدت البارحة أن أبسط فيها الكلام هي: مقولة لبعض العلماء، يقول: لا يبعث الله نبياً ولا رسولاً حتى يبتليه بالمصائب والفتن والمحن، إلى درجة أن يعلم هذا الرسول أن لا إله إلا الله.
ولذلك كان من أول ما نزل على الرسول عليه الصلاة والسلام: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19].
وهذه الليلة أستميحكم عذراً أن نعيش نصف المحاضرة مع معاناته عليه الصلاة والسلام، مع الأسى والفقر واليتم، مع دولة بالباطل تجابه الحق، مع القرابة وهم يقطعون الرحم، مع التهديدات، وتشويه السمعة له عليه الصلاة والسلام، مع الاتهامات والنكبات، والأعداء الكثر.(170/2)
بعض الابتلاءات التي واجهها صلى الله عليه وسلم
مكث صلى الله عليه وسلم قبل النبوة أربعين سنة يصاب ويبتلى، يمتحن ويصقل؛ ليعلم أن لا إله إلا الله.
مكث يتيماً بلا أب وبلا أم والناس حوله ينامون في أحضان الأمهات، ويستعزون برعاية الأباء؛ ليعلم أن لا إله إلا الله.
مكث صلى الله عليه وسلم فقيراً لا يجد كسرة الخبز، والطغاة يحبرون بالموائد المترفة؛ ليعلم أن لا إله إلا الله.
مكث صلى الله عليه وسلم مجابهاً مضطهداً في مكة، وأعداء الله معهم الحراسة والجيش والجلبة ليعلم أن لا إله إلا الله.
ولكن لنبدأ الرحلة من أولها، والخيط من أوله، والحديث من مبتدئه معه عليه الصلاة والسلام، لنصل سوياً إلى آخر لحظة في عمره صلى الله عليه وسلم.(170/3)
نشأته يتيماً صلى الله عليه وسلم
أولاً: حملت به أمه صلى الله عليه وسلم، ثم وهو حمل مات أبوه، حكمة بالغة وقدرة نافذة، فالرسول المهيأ لقيادة البشرية يموت أبوه قبل أن يراه ويسعد به، ولا يعيش مع أبيه، مات وأمه حامل به، فلما ولدته عليه الصلاة والسلام لم يجد أباً يضمه، ولا أباً يداعبه ويمازحه ويلاعبه، بل بقي صلى الله عليه وسلم يتيماً من الأب، وتصوروا هذا الطفل الذي ينشأ بلا أب، كيف يكون به من الأسى واللوعة ما الله به عليم، ولكن لأسرارٍ أرادها الله، ولما وصل سنه السادسة ماتت أمه، فأصبح بلا أم وبلا أب، يتيماً بين أطفال مكة، كلٌ معه أبٌ وأم إلا هو عليه الصلاة والسلام، واليتيم دائماً مضطهد، دائماً يعيش الحسرة، ويتجرع الغلظة من الناس، ويعيش الأسى كله والمصائب كلها.(170/4)
موت جده وعمه
ثم كفله جده، فسعد بجده، وظن أن جده سوف يقوم مقام الوالدين، وسوف يدافع عنه وينافح، ولكن كلما تعلق قلبه في جهة انقطعت هذه الجهة؛ ليعلم أن لا إله إلا الله.
يقول بعض أهل العلم: إن السر في أن إبراهيم أمره الله عز وجل أن يقتل إسماعيل هو أنه تعلق بإسماعيل، فأراد الله عز وجل أن ينهي هذه المحبة والخلة لتبقى بينه وبين إبراهيم؛ ليبقى إبراهيم خليلاً.
فالرسول عليه الصلاة والسلام كلما تعلق بشيء غير الله قطعه الله من هذا المتعلق به ومن هذا السبب؛ ليعلم أن لا إله إلا الله، فمات جده، فكفله عمه، واستمر عليه الصلاة والسلام مع عمه.
قال بعض أهل السير، وذكرها ابن كثير في التفسير، وأشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية:"من حكمة الله عز وجل البالغة أن جعل عمه كافراً يذب عنه وهو رسول" إذ لو أسلم لاضطهد الكفار أبا طالب، ولجعلوه في دائرة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه والاهم من جهة، وخالفهم من جهة، فولاؤه لهم بالكفر -أعني أبا طالب - جعلهم لا يعتدون على الرسول عليه الصلاة والسلام، وظل أبو طالب يذب عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهو الذي يقول:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسَّد في التراب دفينا
وهو صاحب اللامية الشهيرة الباهرة:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
إلى آخر ما قال، فلما استأنس صلى الله عليه وسلم، وركن إليه، ووجد فيه النصرة والقوة، مات عمه؛ ليعلم أن لا إله إلا الله.
فإلى من يلتفت من البشر -ولا بد للإنسان مهما عظم صبره وجلده- من قريب، أو صاحب، أو صديق يستأنس به، ويقول الشاعر:
ولا بد من شكوى إلى ذي قرابة يواسيك أو يسليك أو يتوجع(170/5)
موت زوجه خديجة
فرجع صلى الله عليه وسلم يبث همومه خديجة رضي الله عنها وأرضاها، العاقلة، الحازمة، صاحبة الكلمات الصحيحة الصادقة، ولما شكا إليها صلى الله عليه وسلم ما وجد في الغار، قالت: {كلا.
والله لا يخزيك الله أبداً -ثم أتت بالأدلة- إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتعين على نوائب الحق} فأنس إليها فماتت؛ ليعلم أن لا إله إلا الله.(170/6)
مواجهة العداوة من الأقربين
إلى من يفوض أمره؟!
إلى الله.
واسمع آيات التفويض، وهي طاقات هائلة ومبادئ راسخة يجب علينا أن نحملها، وأن نقدم جماجمنا من أجلها، ومن عرفها وحفظها يخرج من هذا المكان شجاعاً يتحدى الدهر والزمن والتاريخ.
قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:36] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]؛ والمعنى: أن الله يكفيك ويكفي من اتبعك من المؤمنين، وليس المعنى كما قال بعض المبتدعة: الله يكفيك ويكفيك المؤمنون مع الله، فهذا خطأ، بل معنى الآية: أن الله يكفيك ويكفي من اتبعك من المؤمنين، لا الذين اتبعك من المؤمنين يكفونك مع الله، فهذا معنى خاطئ.
فاتصل بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وفوض أمره إلى الله، وبدأ يدعو الناس، فقامت له القرابة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على النفس من وقع الحسام المهند
قام له أبو لهب يكذبه أمام العرب، ويقول: انتبهوا للساحر وللشاعر وللكاهن، وفي حديث معضل يذكره ابن إسحاق في السيرة: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم -يشكو إلى الله- يقول: اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، إلى من تكلني؟! إلى قريبٍ ملكته أمري، أم إلى بعيد يتجهمني} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فشكا من ظلم القريب؛ لأنه ظلم وزيادة، ولأنه قطع للقرابة.
وانظر إلى المواقف، فالله قادر على نصر رسوله عليه الصلاة والسلام، وقادر على أن يمنع عنه الأذى، ولكن هكذا يمرغ الحق أحياناً ليخرج حقاً، وهكذا يصاب الداعية ليخرج ذهباً أحمر، كما قال بشر الحافي: "دخل الإمام أحمد السجن ذهباً فخرج ذهباً أحمر" وهذا أمر معلوم.(170/7)
تعرضه لإهانات من الكفار
تعرض صلى الله عليه وسلم لإهانات من الكفار، والله عز وجل قادر على حمايته ومنعه ولكن حكمةٌ بالغة، في الصحيحين عن ابن مسعود قال: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام، وملأٌ من قريش جالسون، فلما سجد أرسلوا رجلاً منهم إلى فرث ودم وسلى وضعته ناقة، فأتوا به فوضعوه على رأسه وعلى ظهره وهو ساجد} انظر إلى الإهانة، هل سمعتم في التاريخ بإهانة مثل هذه الإهانة فرث ودم وسلى الناقة يوضع على ظهره ورأسه صلى الله عليه وسلم، ويتمايل كفار قريش ويتضاحكون من هذا المشهد، فتأتي فاطمة وهي تبكي، فتزيل السلى والدم والفرث، ويقوم صلى الله عليه وسلم فيدعو على ذاك الملأ، قال ابن مسعود في آخر الحديث: {فوالذي نفسي بيده، لقد رأيتهم صرعى في قليب بدر، وأتبع أهل القليب لعنة}.
ويخرج صلى الله عليه وسلم مرة ثانية ليطوف بالبيت، فيجتمع عليه الكفار، فيأخذون بتلابيبه، هذا يتفل عليه، وهذا يتكلم عليه، وهذا ينهره، أليس هناك حماية؟!!
أما يعلم من على العرش استوى أن رسوله هذا يهان هذه الإهانات؟!!
أليس الله يغضب لأوليائه فلماذا؟!!
ليعلم أن لا إله إلا الله، وليعلم أن الناصر هو الله، وأن النافع والضار هو الله، وأن المحيي والمميت هو الله.(170/8)
ما لقيه في الطائف
يخرج عليه الصلاة والسلام من مكة إلى الطائف، يقولون له: لا قرار لك في مكة فاخرج منها، وفي حديث في سنده نظر، وهو بشواهده يقبل التحسين، يلتفت عليه الصلاة والسلام وهو في مكانٍ يشرف على مكة والبيت، ويلتفت إلى مكة ويبكي ويقول: {والله إنك من أحب بلاد الله إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} فهذه مراتع الصبا:
وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمُ عهود الصبا منها فحنوا لذلكا
خرج يبكي عليه الصلاة والسلام، لكن إلى أين يذهب؟
لا حراسة ولا موكب، لا جنود ولاجيش، لا قريب ولا زوجة ولا ولد، خرج وحيداً وصعد إلى الطائف، ووصل جائعاً متعباً ظامئاً، فلما رأى ملأ ثقيف قال: {قولوا لا إله إلا الله تفلحوا} هذه كلمته دائماً.
وقال البردوني:
بشرى من الغيث ألقت في فم الغارِ وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرارِ
بشرى النبوة طافت كالشذى سحراً وأعلنت في الدنا ميلاد أنوارِ
وشقت الصمت والأنسام تحملها تحت السكينة من دار إلى دارِ
في كفه شعلة تهدي وفي دمه عقيدة تتحدى كل جبارِ
البدر والشمس في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنارِ
أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبارِ
أتى يقول: لا إله إلا الله، فما هو إلا الرد العنيف؟
قام الأول وقال: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كنت صادقاً.
وقال الثاني: ما وجد الله إلا أنت ليرسلك.
وقال الثالث: إن كنت نبياً فأنا أصغر من أن أتكلم على الأنبياء، وإن كنت كاذباً فأنا أكبر من أن أتحدث مع الكذابين.
فليتهم ضيفوه! لكنهم ما فعلوا، ليتهم أسقوه! لكنهم ما فعلوا وطردوه، وليتهم تركوه، بل أرسلوا الأطفال والعبيد يرمونه بالحجارة، أما يرى الله المشهد؟
أما يرى رسوله يهان هذه الإهانات، ويتلقى الحجارة على قدميه الشريفتين، ورجله تسيل بالدم؟
إن كان سركمُ ما قال حاسدنا فما لجرحٍ إذا أرضاكمُ ألمُ
هل أنت إلا أُصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيتِ
ولكن ليعلم أن لا إله إلا الله.
ونزل عليه الصلاة والسلام في وادي نخلة وكله جراح، قلبه مجروح، مبادئه مجروحة، عرضه مجروح، كل شيء في حياته يعيش الجراح.
ثم وقف يدعو في تلك الليلة، وقصتها طويلة، وهي ليست مقصودة في هذا المقام.(170/9)
تكذيبه في حادثة الإسراء والمعراج
وعاد صلى الله عليه وسلم، وأكرمه الله بليلة الإسراء والمعراج، ثم نزل صلى الله عليه وسلم يخبر الناس، فأتت الاتهامات المغرضة.
وزعوا السفهاء على مداخل مكة يقولون: انتبهوا له؛ هذا شاعر وكاهن وساحر، هذا كذاب، أي أنه قد ديست كرامته، وأحرقت أوراقه، وذكرياته، وشبابه، وتاريخه الذي يسمى فيه الصادق الأمين؛ كفروا به: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] ليعلم أن لا إله إلا الله.
ويعيش هذه اللوعة وهذا المضض، وكلما يكاد ينهار أو تنهار أعصابه؛ يتنزل عليه القرآن ويقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال:64] وقال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء:74].
ويدافع الله عن عرضه، ويدافع عن سمعه وبصره، ويدافع عن مبادئه، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1 - 5] وقال تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22] وقال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:41 - 42] وقال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5] فرد الله عليهم: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:6].
وكذلك من المفتريات والإشاعات التي تحرق الإنسان احتراقاً ولا يعيشها الإنسان إلا بجرع من الدم، قولهم كما في الآية: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103].(170/10)
السخرية منه وإشاعة انقطاع الوحي
ويستمر الدفاع، لكن بعض الناس يظن أن الله تخلى عن رسوله عليه الصلاة والسلام، ولكن: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3].
ينقطع الوحي، وتأتي عجوزٌ مشركة فتقول: ودعك ربك وقلاك وتركك، فأتاه من الهم عليه الصلاة والسلام ما ذكر في السير أنه كاد يتردى من رأس الجبل، تصور مسألة أن يبلغ بالإنسان أن يرى الموت علاجاً، كيف يكون هذا؟!!
يقول أبو الطيب في قصيدته الكافورية:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكنَّ أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن ترى صديقاً فأعيا أو عدواً مداجيا
يقول: إذا أصبح الموت علاجاً لك، فيا لها من حالةٍ ما بعدها حالة، فنزل قوله تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3] نحن معك، وإنك بأعيننا، أنت تعيش في رعاية من الله وحفظ، فعاش صلى الله عليه وسلم وعاد، وكاد أن يهلك أسفاً لما تولى الباطل عنه تماماً، قام عند الصفا يقول: {قولوا لا إله إلا الله تفلحوا} فقال أبو لهب: "تباً لك! ألهذا جمعتنا؟! " فيخسر المحاضرة، والخطبة، والدعوة، ويكذبونه، ويذب الله عن عرضه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:1 - 2].
إلى متى؟!
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110] وتسمى ساعة الصفر: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11] فالمؤمن يقول: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] والمنافق يقول: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12].
وصح في السيرة -كما مر في بعض المناسبات- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ضرب بالمعول صخرةً قال: {أريت كنوز كسرى وقيصر، وسوف يفتحها الله لي} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فتضاحك المنافقون، وهذه تقطع القلب، والكبد، الغمز والهمز، قالوا: أحدنا لا يجرؤ أن يبول من الخوف، ويعدنا قصور كسرى وقيصر.(170/11)
الفقر
يستمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويواصل المسيرة، ويعيش فقيراً: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هود:12] {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى راداً عليهم: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} [الإسراء:48] وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} [الفرقان:10].
لا يجد كسرة الخبز، لا يجد مذقة اللبن، يعيش فقيراً عليه الصلاة والسلام مملقاً لدرجة أنه يجوع جوعاً ما جاعه الناس، وفي بعض الروايات: {أنه يضع الحجرين على بطنه صلى الله عليه وسلم} وقال عمر في الصحيح: {ما شبع صلى الله عليه وسلم ثلاث ليالٍ من طعام البُر} وذكر عن عائشة وهو في الصحيح: {أنه يمر بنا الهلال تلو الهلال لا يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، قالوا: فماذا كان طعامكم؟ قالت: الأسودان -التمر والماء-} سبحان الله! هذا الرجل الذي أتى -بإذن الله- بالموائد لهذه الأمة، وفتح لها الحدائق والبساتين، وأسكنها قصور الطغاة في أنحاء العالم، لا يجد إلا الأسودين: التمر والماء، لماذا؟ ليعلم أن لا إله إلا الله.
ينام عليه الصلاة والسلام على الحصير فيؤثر في جنبه، وفي البخاري عن أنس أن عمر رضي الله عنه وأرضاه: {دخل مشربة؛ اعتزل فيها صلى الله عليه وسلم نساءه، فقام صلى الله عليه وسلم لما دخل عمر فوجد عمر الحصير قد أثر في جنبه صلى الله عليه وسلم، فدمعت عينا عمر وقال: فأدرت طرفي في البيت فلم أجد إلا قليلاً من شعير معلق، قال عمر: يا رسول الله! هذا كسرى وقيصر وهما أعداء الله في هذا النعيم، وأنت رسول الله في هذه الحالة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي شكٍ أنت يا بن الخطاب؟ أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا}.
{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} [الفرقان:10].(170/12)
إعراض الكبراء وإيذاؤهم لأصحابه
ثم يأتي صلى الله عليه وسلم للناس ليدعوهم، فلا يستجيب له الكبراء ولا المترفون إلا ما قلَّ، بل يستجيب له الضعفاء فيؤذون، يسحب بلال أمامه عليه الصلاة والسلام على الحجارة، ويصيح بلال وهو يكوى كياً على رمضاء مكة وهو يقول: [[أَحَدٌ أَحَد، أَحَدٌ أَحَد]] فلا يستطيع صلى الله عليه وسلم أن يدفع عنه؛ ليعلم أن لا إله إلا الله.
ويمر صلى الله عليه وسلم بآل ياسر، وبكاؤهم ينعقد في طبقات الأثير، ويقول لهم: {صبراً آل ياسر! فإن موعدكم الجنة} أليس هناك ربٌ ناصر؟ ليعلم أن لا إله إلا الله.
وجاء في الصحيح من حديث صهيب وغيره: {يقول الصحابة: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! ألا ترى ما نحن فيه؟! فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنهم يستعجلون، ثم أخبرهم بالميثاق الذي يحمله فيقول: والذي نفسي بيده ليتمَّن الله هذا الدين حتى يسير الراكب مِِنْ صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم قومٌ تستعجلون} يعني: هو متأكد أنه سوف ينتصر، ويرى أصحابه يبطحون في رمضاء مكة، وما أسلم معه إلا أربعة: مولى، وشيخٌ، وصبيٌ، وامرأة، والله يقول له وهو عند الصفا وما عنده إلا أربعة، والجاهلية تحاربه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
ليس لقريش أو لـ مكة أو للجزيرة، بل للعالمين كلهم، يؤذى أصحابه صلى الله عليه وسلم إيذاءً بيناً، ولا يدفع عنهم ولا يستطيع، ويحبس صلى الله عليه وسلم أساه ولوعته وحرقته في قلبه صلى الله عليه وسلم.(170/13)
موت أبنائه وبناته
يموت أبناؤه صلى الله عليه وسلم، يولد له أبناء كثير، لكن لا يبلغ أحدهم أبداً، أربعة من الأبناء يموتون في الصغر، وتعلق بـ إبراهيم، وأصبح إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنتين أحب ما يكون، يدغدغه، ويشمه، ويمازحه، ويرفعه بيديه، ويأتي إليه بعد هموم الدعوة، فيحتضن هذا الطفل، فلما كاد قلبه أن يميل لطفله قبض الله طفله، فيموت بين يديه، وتقعقع روحه كأنها في شن بين يديه صلى الله عليه وسلم، فيحتضنه ويبكي، وتسيل دموعه، وهو يعيش اللوعة، ويتجلد ويصبر، ويقول: {يحزن القلب، وتدمع العين، وما نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون}.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
ويدفن ابنه في التراب، ويعود بلا طفل، ويستمر صلى الله عليه وسلم معه أربع بنات، وبعد أيام تموت الأولى فيدفنها صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، وتموت الثانية، ثم تموت الثالثة، وتبقى الرابعة ويخبرها أنها سوف تلحقه قريباً، فتلحقه بعد ستة أشهر؛ هذا من حيث الأسرة التي عاشها صلى الله عليه وسلم، أي أن وضعه الأسري يبعث على الأسى والبكاء.
ووضعه الاجتماعي والاقتصادي يبعث على الأسى والبكاء، ووضعه كذلك في مسار الاتهامات الجارحة يبعث على الأسى والبكاء.(170/14)
صراعه مع أهل الباطل(170/15)
صراعه مع المشركين
أما صراعه فانظر: يتأخر النصر عنه فترة، يعيش ثلاثة عشرة سنة والمسلمون يعدون على الأصابع، كل صباح وهو يقول: قولوا لا إله إلا الله، والأصنام ثلاثمائة وستون صنماً حول الكعبة، والخمر يشرب عند المقام، سامراً تهجرون، وأبو جهل يبدو بطلعته اللعينة يتحدى لا إله إلا الله، وكذلك أبو لهب والوليد بن المغيرة، ويضربون بناته، ويخرجون أصحابه إلى الحبشة، ويطردونه إلى المدينة، ويطاردونه ويجعلون لمن يأتي به جائزة، ومع ذلك يتحرى متى ينتصر.(170/16)
صراعه مع اليهود والنصارى والمنافقين
يذهب إلى المدينة عليه الصلاة والسلام، ويلحقونه في الغار، وفي الطريق، ويصل إلى المدينة، أفيهدأ في المدينة؟! لا.
بل تقوم له جبهات، وتحاربه الدنيا، لكن:
في كفه شعلة تهدي وفي دمه عقيدة تتحدى كل جبار
فيخرج له اليهود والنصارى، وهذا اكتشاف جديد، وملحمة أخرى، ومسيرة ثانية، فيكذبه اليهود إلا بضعة نفر منهم، ويكذبه النصارى، ويقوم له المنافقون، وتشوه سمعته في عرضه صلى الله عليه وسلم وفي أعز ما يملك، في زوجته عائشة، في فراشه الطاهر صلى الله عليه وسلم ويتهم، ويعيش الأسى.
يقول سيد قطب: "عاش صلى الله عليه وسلم على أعصابه شهراً" ومع ذلك من الناصر؟ إنه الله، وليعلم أن لا إله إلا الله.(170/17)
معاركه بين النصر والابتلاء
يستمر صلى الله عليه وسلم ولكن وصل السيل منتهاه، وبلغ الحزام الطبيين، وحانت ساعة الانتصار، وحانت البشائر؛ لأنه قدم من التضحيات إلى درجة أنه عرف أنه لا يهدي ولا يضل، ولا ينفع ولا يضر إلا الله.
واستحق الآن هو وأصحابه أن ينتصروا، لذلك تجد بعض الناس يقول: ما للأمة الإسلامية لا تكتسح العالم؟! مالها لا تنتصر؟! أي تضحيات قدمتها الأمة الإسلامية؟! أنا قلت البارحة: أبناء الاشتراكية، وفراخ العلمانية، وأقطاب الماسونية، وأذيال الصهيونية العالمية، والصليبية المارقة، قدموا من التضحيات ما لم نقدم نحن عشر معشاره.
يقتلون بالمئات من أجل البعث، ويقولون هم: لا بد أن يبقى البعث في الأرض.
ويقتل الملايين من الشيوعية من أجل أن تبقى الشيوعية، وأنتم تعرفون ذلك، لكن ما هي تضحياتنا، نقتصر فقط أنا نجتمع بالألوف في المحاضرات، وأنا نحب سماع الخير، والكلمات الطيبة، لا.
فالنصر مرحلة تأتي بعد طريق ملؤه الأشواك والأسى والمصاعب.(170/18)
انتصار في بدر يعقبه الابتلاء في أحد
والآن تبدأ بشائر الانتصار، ينتصر صلى الله عليه وسلم في بدر، ويستهل خطبته، ويبشر أصحابه، ويقول: الحمد لله الذي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
فيفرح بالنصر، وما تتم سنة إلا ويعود -حتى لا يركن إلى النصر ولا يركن إلى قوته- فيغلب في أحد، سبحان الله! ويذبح من أصحابه سبعون، ويرى رؤيا في المنام قبل أن يخرج إلى أحد، يرى ذباب سيفه انكسر عليه الصلاة والسلام، وبقراً تنحر، وكأنه أوى إلى درع حصينة.
قال: أما ذبابة السيف فأحد قرابتي يقتل، وهو حمزة، وأما البقر التي تنحر؛ فما يقتل من المؤمنين وهم الشهداء، وأما الدرع الحصينة؛ فـ المدينة المنورة.
فما تمت فرحة الانتصار، وما أسرع الضحك من البكاء! وعاد بعد معركة أحد وهو مثخن من الجراح، وقد كسرت ثنيته عليه الصلاة والسلام، ودخلت حلقتا المغفر في رأسه، وشجت جبهته، وسالت دماؤه.
ووقف على حمزة وهو يتقطع من الغيظ، وقد قتل حمزة، وقطع أنفه، وبقر بطنه، وأكل من كبده، فقام صلى الله عليه وسلم وهو منهك في وضعٍ الله أعلم به، وقال: {والذي نفسي بيده لئن ظفرت منهم لأمثلن منهم بسبعين} فهل يقره الله، يقول تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] لا إله إلا الله! يقول: هذه ليست ملكك، وأنت فقط مرسل، وليس لك أن تتصرف إلا بإذننا، ولا تنتقم لنفسك، ولو قتلوا ما قتلوا، لماذا تنتقم؟ فيعود ويكظم غيظه.(170/19)
موقفه يوم الفتح من كفار قريش
ويدخل صلى الله عليه وسلم منتصراً فاتحاً، ويصف كفار قريش يوم الفتح، فيقول الله له قبل سنة: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح:1 - 2] فيقف موقفاً مبكياً وهو ينظر إلى كفار قريش الذين نادُّوه، والذين ذبحوا أصحابه، وأساءوا سمعته، وأخرجوه، ونكلوا بجيشه.
تصوروا لو أن أحد الأقزام من العصريين الطغاة الذين لا يساوون الغبار الذي على قدميه صلى الله عليه وسلم ماذا يمكن أن يحدث؟
فهذا الخميني يقولون في مذكراته التي كتبت بعده: قتل سبعمائة ألف من الشعب الإيراني انتقاماً؛ لأنه لطم مرة في قم.
وبعض الطغاة العصريين أدخل الألوف المؤلفة من شعبه في السجون، ثم حرقهم بالغاز عن بكرة أبيهم؛ انتقاماً منهم؛ لأنهم خرجوا مظاهرة مسالمة، معهم الحمص والفصفص ينشرونه على الناس.
والانتقام سهل، وباستطاعته صلى الله عليه وسلم -والله- أن يقتطف رءوسهم في لحظات، لماذا؟
تدرون يوم وقف على الكعبة، أخذ حلقة باب الكعبة صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: {الحمد لله الذي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده} ثم افتتح خطبتيه وتذكر في ذكرياته مع قريش، واستفاض في الأيام الأولى التي يعرفها الناس، ونكسوا رءوسهم خجلين، فقال: {ما ترون أني فاعلٌ بكم} يقول: تصوروا ماذا ترون، عنده اثنا عشر ألف مسلح بالأبواب من المهاجرين والأنصار، يمكن أن يشير إلى الزبير أن يقتطف رأس فلان فيقتطفه قبل أن يتم الإشارة، وإلى عمر وعلي وخباب وبلال ومصعب {قالوا: أخٌ كريم، وابن أخٍ كريم} ما شاء الله! أتت في آخر ساعة، في الوقت الضائع، أتت (أخٌ كريم وابن أخٍ كريم) قال: {اذهبوا فأنتم الطلقاء} عفا الله عنكم.
أليس هذا هو الانتصار الذي ما سمع التاريخ بمثله؟!(170/20)
التأييد بالوحي نصر مؤزر
ويستمر صلى الله عليه وسلم ويأتي الانتصار؛ لأنه يؤيد بوحي من السماء، أي أنه في لحظات محرجة يكاد قلبه فيها أن يتقطع فيأتيه الوحي.(170/21)
وصفه لبيت المقدس
ذكر أهل السير بأسانيد صحيحة أنه صلى الله عليه وسلم لما أسري وعرج به، قال له الوليد بن المغيرة: "يا محمد! إن كنت صادقاً أنك ذهبت البارحة إلى بيت المقدس فصف لنا بيت المقدس؟ وهذا تحدٍ سافر، ماذا يقول صلى الله عليه وسلم؟! فهو قد دخل دقائق في بيت المقدس في ظلام الليل، ما رأى أبوابه، ولا سراديبه، ولا طرقه، فوقف صلى الله عليه وسلم، وغشيه العرق صلى الله عليه وسلم، فعرض الله له بيت المقدس عند باب دار الأرقم بن أبي الأرقم في الحرم، فأخذ يصف بيت المقدس باباً باباً".(170/22)
اليهود يسألونه فيجيب
ويسأله كفار اليهود للتحدي: أخبرنا ما الروح؟ قال: أنظروني قليلاً، فينزل عليه الوحي لينجده، يقول تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85].
وفي سنن الترمذي: {أن عبد الله بن سلام قال: انجفل الناس من السوق، فانجفلت مع من انجفل، فأتيت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى وجهه، فإذا وجهه ليس بوجه كذاب، قال فسمعته يتكلم -فكلامه صلى الله عليه وسلم ليس ككلامنا- يقول: أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام}.
لو لم تكن فيه آياتٌ مبينةٌ لكان منظره ينبيك بالخبر
لكن عبد الله بن سلام من علماء اليهود -حبر- يريد أن يتحدى، فهو لا يؤمن إلا بمعجزة.
قال: يا محمد -لأنه لم يشهد في تلك الفترة أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول- قال: مالك؟ قال: أسألك عن ثلاث مسائل إن أجبتني فيها صدقتك وآمنت بك.
قال: ما هي؟ قال: ما هي أول علامات الساعة؟ والثاني: لماذا يشبه الابن أباه أو يشبه أمه؟ والثالث: ما أول ما يأكل أهل الجنة في الجنة؟ -وهذا في البخاري - فوقف صلى الله عليه وسلم، وأتاه الوحي يخبره.
وإلا فهو أمي ما قرأ ولا كتب:
كفاك باليتم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم
وهذه أقوى في المعجزة؛ لأنه لو كان يكتب لقالوا: اكتتبها، وقد قالوها، وهو لا يكتب فكيف لو كتب؟! فهو الرسول والنبي الأمي: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً} [الجمعة:2] {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
فيقول صلى الله عليه وسلم: {صلى الله عليه وسلم: أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب.
قال: صدقت.
وأما أن يشبه الابن أباه، أو يشبه أمه: فماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا أشبه الأب أو الأم.
قال: صدقت.
وأما أول ما يأكل أهل الجنة في الجنة فزيادة كبد الحوت.
قال: صدقت، آمنت بالله ثم بك}.
لكن أدخلني يا رسول الله! في هذه المشربة، وسل اليهود عني.
فأدخله في المشربة، وقال: كيف ابن سلام؟ -هذا من التحدي- قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وفقيهنا وابن فقيهنا، قال: فإنه أسلم، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قالوا: شرنا وابن شرنا، وسيئنا وابن سيئنا.(170/23)
التأييد بالآيات
ويؤيد صلى الله عليه وسلم بالآيات؛ وهذه من أعظم الانتصارات في حياته، بعد اللوعة والحسرة.(170/24)
تكثير الطعام
يأتي إلى أصحابه فينقطع عنهم الأكل في مجاعة في الصحراء، فيقول: هل أحد منكم عنده طعام؟ قالوا: لا يا رسول الله! إلا قليل في مزود.
قال: عليَّ به، فأتوا به فنثره فسمى عليه ودعا، ثم قال: كلوا، فأكلوا منه جميعاً!(170/25)
نبع الماء من بين أصابعه
وينتهي الماء عليه في الصحراء، فيقول: من عنده ماء؟ قال أحدهم: عندي شيء في إداوة.
قال: عليَّ به، فأتى فصبه على أصابعه، وأمامه صحفة رحراح، قال أنس: {والذي نفسي بيده إني رأيت الماء يثور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم كالأنهار، فأخذ يقول: أشهد أني رسول الله، أشهد أني رسول الله، أشهد أني رسول الله} فشرب الناس فسقوا، وتوضئوا، واغتسلوا، وهم أكثر من سبعمائة، أليس هذا بعجيب؟! بل هو من أعجب العجب.(170/26)
انشقاق القمر
يُتحدى ويقول له أبو جهل -ويقسم باللات والعزى- لا أسلم لك حتى تشق لي هذا القمر ليلة أربعة عشر، فينظر صلى الله عليه وسلم إلى القمر، ويقول: أئن شققته بإذن الله تؤمن؟ قال: نعم.
فدعا الله وسأله، فشق الله له القمر، فذهبت فلقة تجاه عرفة وفلقة تجاه جبل أبي قبيس، فقاموا ينفضون ثيابهم ويقولون: سحرنا محمد، سحرنا محمد، فينزل قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:1 - 5].
فيؤيد بالمعجزات، وتسمى عند أهل السنة الآيات، وتسميتها بالمعجزات تسمية متأخرة، وإنما الصحيح: الآيات التي أيد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي خارقة للعادة، وهي تربو على ألف، وقد جمعها وليد الأعظمي وغيره، حتى أربى بها الأصبهاني وغيره على ألف معجزة لرسولنا صلى الله عليه وسلم.
ومن أعظم معجزاته القرآن الذي نتلوه.(170/27)
تثبيت الله له من أعظم انتصاراته
وينتصر صلى الله عليه وسلم بالتثبيت: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء:74] وهذا التثبيت سلاح من الله عز وجل، فأحياناً يكاد الشخص ينهار فيثبته الله: {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] ويقول له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] فيسليه، ويقول: لا تهلك، نحن معك، ويقول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال:64] فإذا تأييد الله وتثبيته معه: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] وهذا أجمل من قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] لنوح، فقال لرسولنا صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48].
ثم يصدقه الناس عليه الصلاة والسلام، وتكون العاقبة له، فيدخل الناس في دين الله زرافات ووحداناً: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3].
وهذه هي النتيجة الحتمية لهذا الدين، أن ينصر الله أولياءه، لكن بعد أن يمحصوا ويبتلوا ويفتنوا، ويصلوا إلى درجة استحقاق النصر، ولا بد من هذه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].(170/28)
إرسال الجيوش ومراسلة الملوك
ومن انتصاراته صلى الله عليه وسلم: أنه أصبح يرسل الجيوش من الجزيرة لتغزو أطرافها، وأصبح يراسل الملوك من المدينة.
قال أنس في الصحيح: {كتب صلى الله عليه وسلم إلى الملوك كتباً، فقالوا: يا رسول الله إن هؤلاء الملوك لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ صلى الله عليه وسلم خاتماً مكتوباً عليه: محمد رسول الله، محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر}.
واسمع إلى إحدى الرسائل، وتصور هذه اللحظة وهو في مكة صلى الله عليه وسلم، ويوضع السلى والدم والفرث على رأسه فيكتب: {بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، أمَّا بَعْد فالسلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]}.
أبو عمار في جنيف قرأ الآية وأمامه اليهود والنصارى، فأحرجته آخر الآية فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] ثم وقف حمار الشيخ في العقبة، وآخر الآية تقطف رأسه ورأس شامير وأمثالهم: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) لأنها تخزيه أمام الناس:
والحق يخزي ظلام الكفر في بجحٍ كاللص يخشى سطوع الكوكب الساري
والمقصود أن إحدى تفوقاته صلى الله عليه وسلم أنه يراسل الملوك، وبعضهم يرحب بالرسالة ويرفعها، وبعضهم يمزقها، فيدعو عليه: {مزق الله ملكه} فيمزق ويغتال بعد ليال.
ويصبح الأبطال عنده صلى الله عليه وسلم يعقد لهم الرايات من على المنبر، خالد براية، وعكرمة براية، وعمرو بن العاص براية، والمغيرة براية، وأمثالهم كثير.(170/29)
تخرج القادة والأبطال والعلماء على يديه
ومن انتصاراته صلى الله عليه وسلم: أن يخرج علماء ربانيين عباقرة من مسجده صلى الله عليه وسلم، مسجدٌ من الطين يخرج منه أعظم جيل أليس هذا من أعظم الانتصارات؟! المفسرون والمحدثون والفقهاء والجهابذة والقادة والساسة يخرجهم صلى الله عليه وسلم من المسجد، وهذا انتصار.
وتصور أمامك وهو صلى الله عليه وسلم يودع أصحابه في آخر خطبه وكلماته، وهو ينظر إلى وجوه الصحابة وإلى الملأ الأعظم، ثم يتذكر تلك الدقائق التي عاشها في مكة يوم يطارده الكفار وليس معه إلا أربعة.(170/30)
الغنائم
ومن انتصاراته صلى الله عليه وسلم: أن يصبح عنده ميزانية ضخمة، إحدى الغزوات غنم صلى الله عليه وسلم -كما قال ابن القيم في زاد المعاد -: 24000 رأس من الغنم، و (7000) من الإبل، غير الذهب والفضة، فأين يدخلها؟ هل أخذ شيئاً لنفسه؟ هل بقي بيته الأول بعد ثورة (17) سبتمبر؟ لا.
ما تغير حاله، بيته الطين قبل الهجرة وبعد الهجرة، ثوبه ثوبه، أكله أكله، صحابته يتقاسمون، وصناديد العرب يأخذون من مائة ناقة، وهو لا يأخذ ناقة واحدة.
في الصحيحين تقول عائشة: {كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يوتر، فإذا أراد أن يسجد غمزني فكففت قدمي} قالوا من فوائد الحديث صغر بيته صلى الله عليه وسلم: أي أنه ما يقارب مترين أو أقل من ذلك، هذا بيته صلى الله عليه وسلم، يقول أحد الجهابذة:
كفاك عن كل قصر شاهقٍ عمد بيتٌ من الطين أو كهف من العلمِ
تبني الفضائل أبراجاً مشيدةً نصب الخيام التي من أروع الخيمِ
إذا ملوك الورى مدوا موائدهم على شهيٍ من الأكلات والأدمِ
مددت مائدة للروح مطعمها عذبٌ من الوحي أو نور من الكلمِ
هذا هو رسولنا عليه الصلاة والسلام، الغنائم التي لا حد لها ولا مثيل يعطيها صلى الله عليه وسلم لضعاف الإيمان، الذي تقديره في الإيمان مقبول يعطيه مائة ناقة، أما أهل الامتياز أبو بكر وعمر فما يعطيهم شيئاً، وهذا عمرو بن تغلب وحديثه في صحيح البخاري يقول: يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً وتركتني؟! فيقول صلى الله عليه وسلم: {إني أعطي بعض الناس لما جعل الله في قلوبهم من الهلع والجزع، وأدع بعض الناس لما جعل الله في قلوبهم من الخير والإيمان، منهم: عمرو بن تغلب، قال عمرو بن تغلب: كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها}.(170/31)
تأليف القلوب له
ثم من انتصاراته: أن الله يؤلف عليه القلوب ويجمع عليه العرب، والعرب لا تجمعهم امبراطورية، ولا يجمعهم سيف أو مظلة إلا مظلة (لا إله إلا الله محمد رسول الله): {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62 - 63]؛ وهذا انتصار هائل أن يرى صلى الله عليه وسلم أعداءه يأتون إليه ويقفون أمامه معتذرين.
وفي الحديث: أن أبا سفيان بن الحارث ابن عمه صلى الله عليه وسلم -وليس هو أبو سفيان بن حرب - أتى إليه صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! والله ما أجد لك إلا كما قال إخوة يوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فقال عليه الصلاة والسلام: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92].
ابن الزبعري هذا الشاعر الذي كان يقدح في الإسلام والمسلمين فرَّ إلى نجران، وفي الأخير لما رأى الجزيرة أسلمت أتى ووقف أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:
مضت العداوة وانتهت أسبابها وأتت أواصر دونها وحلومُ
فاغفر عليك من المهيمن رحمة تاجٌ يلوح وخاتم مختومُ
كأنه يقول: انس يا رسول الله الماضي.
وأتت هند تبايعه صلى الله عليه وسلم؛ وهي التي أكلت من كبد حمزة، فمدت يدها من وراء الستار لتصافحه، وما كان يصافح امرأة، قال: {ما هذه اليد التي كأنها يد سبع؟} -ما كانت تختضب، ولا تقلم أظفارها- قالت: أنا هند، فذكرها صلى الله عليه وسلم بما فعلت بـ حمزة، قالت: يا رسول الله! عفا الله عما سلف، قال: عفا الله عما سلف، فما انتقم لنفسه أبداً، بل عاش صلى الله عليه وسلم منتقماً للا إله إلا الله، غاضباً لحدود الله فحسب.(170/32)
إخراج أهل الكتاب من جزيرة العرب
ومن انتصاراته صلى الله عليه وسلم: إخراج أهل الكتاب من الجزيرة.
وهذا نصر بحد ذاته لا يتصور، واكتساح عالمي؛ لتبقى لا إله إلا الله مهيمنة، ومرتسمة، ولتبقى هذه الجزيرة مستقلة بالريادة والقيادة والإسلام، وهذه من انتصاراته عليه الصلاة والسلام.(170/33)
ظهور الإسلام
ثم تحضره سكرات الموت صلى الله عليه وسلم، وتفيض روحه، وينظر أنه قد أسند الخلافة إلى ملأ من الناس، وأن دينه قد انتشر، واطمأن على مبادئه أنها قد اتضحت، وأن الله قد أهلك أعداءه من المشركين، واليهود، والنصارى، والمنافقين، والمناوئين، والحسدة، وهذا هو الانتصار الخالد: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:4 - 5].
وانتصر عليه الصلاة والسلام، لكنه أتاه النصر بعد تلكمُ المعاناة والرحلة الطويلة، فقد عاش صلى الله عليه وسلم يدفع ثمن ذاك النصر من دمه وعرقه وجهده وماله وسمعته وأصحابه، وكل ما يملك، حتى أتاه النصر أعز ما يكون.
والنصر الرخيص يذهب سريعاً ليس له قيمة، وهذا مثل النجاح المزيف، ينجح الطالب الذي يغش في الامتحان فلا يجد للنجاح طعماً، فالغشاش إذا رأى النتيجة: ممتاز (الأول) يضحك عليه قلبه، ويقول: أنت خائن في الداخل وخائن في الظاهر لا يفرح كثيراً مثلما يفرح الطلاب، أما الطالب الذي سهر، وألهب ذاكرته، وأسهر دقائقه وثوانيه، وحصل العلم بجدارة فإنه يفرح بالأولية والامتياز فرحاً باهراً.
والذي يأخذ النصر رخيصاً يدفعه رخيصاً، ومن أخذ النصر عزيزاً لا يطلقه من يديه ويتهنأ بهذا النصر؛ وهذا ما حدث له صلى الله عليه وسلم يوم نصره الله.
فهذه رحلة في محاضرة: (الرسول صلى الله عليه وسلم بين المعاناة والانتصار) وفيها دروس لكل خَيَّر على وجه الأرض من المسلمين، ولكل تابع له صلى الله عليه وسلم حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأن العاقبة للمتقين، وأنه لا بد من القوارع، واللذعات، واللدغات، والعصرات؛ ليعلم المسلم أن لا إله إلا الله, وليحصل على النصر، وليثبت من يثبت، وينتهي من ينتهي، وليصفى نخبة رائدة تحمل لا إله إلا الله، وتكون مرشحة لحمل هذا الدين.
يقول كثير من العلماء: الذين ثبتوا في الغزوات هم أهل بدر وأحد، وهم أهل بيعة العقبة، أما مسلمة الفتح، فهل تدرون ماذا فعلت مسلمة الفتح؟
فروا يوم حنين؛ لأن الإيمان في قلوبهم ضعيف، فمسلمة الفتح مثل الطالب المنتسب؛ تجد الطالب المنتسب لا يعرف إلا رءوس الأقلام من الإجابات، أما المنتظم فيعرف ما قال الأستاذ، ويعرف المقرر، وما في المذكرات.
فلما أتت معركة حنين فر المنتسبون - (أهل حنين) - وبقي أهل بدر وأحد: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:4 - 5] {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].(170/34)
قضايا للتأمل
وأنا أختتم هذه المحاضرة بثلاث قضايا:
القضية الأولى: هذه طريق الأنبياء والرسل؛ انظروها وتأملوها ما أصعبها، وما أشدها، وما أقواها، وما أشد ضريبتها! ولكن ما أحسن حلاوتها، ونتيجتها وعاقبتها! فيا من تقدم في طريقهم انتظر شيئاً مما أصابهم، وانتظر شيئاً من نتائجهم، واعلم أن هذا الطريق طريق التضحيات، فما دام الكافر يضحي بتضحيات، فأنت مسلم أولى بأن تضحي في سبيل الحق، قل:
فإما حياة نظم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا
رضينا بك اللهم رباً وخالقاً وبالمصطفى المختار شهماً وهاديا
القضية الثانية: أن الناس عندهم إيمان نظري بلا إله إلا الله، ولكن ينقصهم الإيمان العملي، وهذا لا يأتي بالدرس على السبورة، ولا بالمذاكرة في الامتحان، ولا بقراءة فتح المجيد وفتاوى ابن تيمية لكنه يأتي بالواقع، واللدغات، والصراع، والنكبات، حتى تعي العقيدة وعياً حياً لا تنساه أبداً.
القضية الثالثة: أن علينا أن ننقل هذا الدين كما نقله صلى الله عليه وسلم، ولا ننتظر نصراً نقطفه نحن، فقد يتأخر، ولكننا يكفينا انتصاراً أننا بذلنا وتكلمنا وأعطينا وأسدينا، فإذا فعلنا ذلك فلا نقول: لماذا لا ينتصر العالم الإسلامي الآن؟ فالله عز وجل أعلم، وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً، والعلم عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وكل شيء عنده بحسبان، وكل شيء عنده بأجل مسمى ولِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ، والله هو العليم سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
هذا ما حضرني في هذه العجالة مع رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وأسأل الله عز وجل كما اجتمعتم حباً له صلى الله عليه وسلم ولتسمعوا الكلام عنه، أن يجمعنا وإياكم به صلى الله عليه وسلم في دار الكرامة، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، وأن يسقينا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبداً، وأن يثبتنا على سنته حتى نلقى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يجعلنا من أنصار دينه، ومن حملة كتابه، ومن المنتصرين لمبادئه، ومن الذابين عن حرمات دينه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.(170/35)
الأسئلة(170/36)
كتب في المعجزات النبوية
السؤال
ما هي الكتب التي تحتوي على معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم التي ذكرت في غضون المحاضرة؟
الجواب
من هذه الكتب ومن أوسعها دلائل النبوة للإمام البيهقي، وقد مدحه الذهبي في ترجمة البيهقي في كلمة لوحظت من بعض المشايخ والعلماء، ولكن قالها الذهبي، يقول: كتبه كـ الدلائل هدىً ونور وشفاءٌ لما في الصدور، مع العلم أن في الدلائل هذا أحاديث موضوعات كحديث الضب وحديث الحمار، والدلائل للأصبهاني فيه معجزات كثيرة، وكتاب الشمائل لابن كثير، وكتاب الشمائل للترمذي؛ وفيها أحاديث ضعيفة بل موضوعة، ولكن تحتوي في الجملة مع كتب الصحاح والسنن والمسانيد على معجزاته صلى الله عليه وسلم.
ومن المتأخرين: وليد الأعظمي في كتاب المعجزات المحمدية.(170/37)
عدم الابتلاء لا يدل على ضعف الإخلاص
السؤال
هل يلزم أن يكون الداعية السائر على طريق الحق والجهاد في الدعوة في الابتلاء الشديد وإلا كان ذلك نقصاً في إخلاصه ودعوته؟
الجواب
أولاً: علينا ألا نتعجل البلاء، وألا ندعو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالبلاء، ولكن نسأله العافية سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا ابتلينا فعلينا أن نصبر، ومن أحسن الأدعية:
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، والله أعلم بعباده، وعند الطبراني حديث: {إن الله تعالى يقول: إن من عبادي من لو أصححت جسمه لأفسدته، ومنهم من لو أسقمته لأفسدته، ومنهم من لو أغنيته لأفسدته، ومنهم من لو أفقرته لأفسدته، فأنا أعلم بعبادي، أصرفهم كيفما أشاء} أو كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فالمقصود أن بعض الناس لا يعيش على الابتلاء ولا يستطيع أن يصبر له، فنسأل الله لنا ولكم العافية.
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو الله بالعفو والعافية، وقد علمه العباس بن عبد المطلب: {سل الله العفو والعافية} ولا يلزم أن يبتلى الداعية، بل قد يعافى في دينه، وجسمه، وعرضه، ويستمر، ولذلك ترى في سير كثير من الأئمة أنهم ما وجدوا صعوبات، لكن ربما ابتلوا في أمور الله أعلم بها، والله أعلم بعباده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
لكن الغالب العام من الأئمة والعلماء والدعاة أنهم يبتلون، قال الشافعي لـ مالك: "أيهما أفضل يبتلى العبد أو يمكن؟ قال: لا يمكن حتى يبتلى": {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] قال المتنبي:
تريدين وجدان المعالي رخيصةً ولا بد قبل الشهدِ من إبر النحل(170/38)
حكم التمثل بأشعار الغزل في محبة الله
السؤال
ذكرت في كتاب: ثلاثون درساً للصائمين، بيتاً وهو:
وإني ليبكيني سماع كلامه فكيف بعيني لو رأت شخصه بدا
فقد قال قومٌ: إنه هنا تشبيه لصفات الله عز وجل، فحاولت على حسب علمي أن أبين لهم ولكن لم يقتنعوا، ولكن أرجو أن تبين الحق في هذه المسألة.
الجواب
أولاً: يا أخي! شكر الله لك هذا الرأي، وأنا أخبرك بأن هذا البيت قيل في شخص وما قيل في الله، وكثير من الأئمة ومن العلماء يوردون هذه الأبيات، ولا يقصدون بها التشبيه، ولله المثل الأعلى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما يخاطبون بها المخلوق، فيقول هذا لمحبوبه:
وإني ليبكيني سماع كلامه فكيف بعيني لو رأت شخصه بدا
وهذا كثير يستدل به الأئمة، وهو على هذا المنوال، مثل قول ابن تيمية وقد ذكره ابن القيم في روضة المحبين ونزهة المشتاقين لما خرج إلى الصحراء في قصة تقي الدين بن شقير، فقال: رأيت ابن تيمية، قال: "لا إله إلا الله في الخلوة، ثم قال في الصحراء:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
وهذا البيت لـ مجنون ليلى، من قصيدة يقول فيها:
وإني لأستغشي وما بي غشوةٌ لعل خيالاً منك يلقى خياليا
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
ولله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى صفات تليق بجلاله، ولا نشبهه بصفات المخلوقين: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] فليتنبه لهذا.(170/39)
واجب الشباب بعد أزمة الخليج
السؤال
ما واجب الشباب بعد انكشاف الغمة؟ وهل من كلمة إلى الشباب الذين ما زالوا في غفلتهم؟
الجواب
الأمر الأول: في الأمس كان هناك ذكر عن معنى الغمة، وهل الغمة أن تقدم الأمة أبناءها مجاهدين في سبيل الله؟! وهل الغمة أن يستشهد عالم من هذه الأمة المحمدية التي عاشت على الشهادة؟! وهل الغمة أن نواجه المستعمر والطاغية والكافر بالسلاح ونقتله؟! وهل الغمة أن تستنفر الأمة لترفع لا إله إلا الله، ولتجاهد في سبيل الله؟!
لا.
هذا ليس من الغمة، وليس من الغمة أيضاً أن نبني على جماجمنا صروح لا إله إلا الله، فعلى جماجم مصعب وحمزة وخباب وابن رواحة وزيد وجعفر بنيت معالم لا إله إلا الله، لكن الغمة أن تنحرف الأمة عن منهج الله عز وجل، وتعيش خواءً عقدياً، والأمة في معظمهما الآن تعيش خواءً عقدياً، أي أن: العقيدة الحارة التي تعلمها أصحاب صلى الله عليه وسلم لا تعيشها الأمة، وهذه أمثلة:
فالآن تجد الناس يخافون من الناس أكثر من خوفهم من رب الناس، وأنت فكر في نفسك فإنك تلاحظ ملاحظات البشر، ومراقبة البشر، فتتثبت في ألفاظك، وتتأدب في عباراتك، وإذا رآك تتكلم في بعض المسائل نظرت إلى السطح والجدران، وقلت: للجدران آذان، وإلى النافذة والهاتف، بينما تجد أحدنا يغتاب ولا يفكر في الله عز وجل، أو ينم، أو يسمع الأغنية، أو يفعل بعض المعاصي، فرقابة الناس عند بعض الناس أكثر من رقابة رب الناس عندهم.
الأمر الثاني: أنك تجد أننا ندرس حتى في الابتدائية: {واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك} ونقرأ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36] مع العلم أننا لا نطبقها إلا القليل، فيوم جاءت الحرب وكانت الأمة في الأزمة، أخذ الإنسان يخاف من ظله، وبعض الناس يموت في اليوم مرات وهو يتحرى هذا الموت متى يأتي، وقرى نائية عن موطن الحدث سترت نوافذها.
وأخذ الحيطة مطلوب، ولكن إلى درجة أن يجعل شبح الموت كأنه قيامة قامت، هذا ليس بوارد.
ثم تجد الإنسان لا يعيش مسألة رعاية الله له وحماية الله له، مثلما عاشها السلف رضوان الله عليهم، وقد ذكرت قصة ابن تيمية فقد قيل -كما ذكر ابن عبد الهادي - أنه في الإسكندرية قالوا: "الناس يريدون قتلك؟ قال: كأنهم الذبان".
وقد قال علي بن أبي طالب:
أي يوميَّ من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر
يوم لا قدر لا أرهبه وإذا ما جاء لا يغني الحذر
ثم وجد أيضاً أن كثيراً من أهل الدنيا يبذلون لدنياهم أكثر مما يبذل أهل الدين لدينهم، وأنا أعرف وأنتم تعرفون أن من عامة الناس من رجال القبائل ومن غيرهم من يقاتل على أرضه ويذبح عليها لتبقى الأرض أرضه:
فإن الماء ماء أبي وجدي وبئري ذو حفرت وذو طويتُ
ولو بلغت الأمور مبالغها، بينما تجد كثيراً من الأخيار الذين يجاهدون من أجل لا إله إلا الله يتنازلون في أول الطريق، حتى يقول أحدهم: للبيت ربٌ يحميه، والله يحمي الدين، وليس بحاجة إلينا، والله يتولى نصر دينه، وليس في حاجة لنا إلى آخر هذا الكلام، فهو يسلي نفسه، وهذا أمر معلوم.
ثم قلت في المحاضرة: إن كثيراً من الناس، من حملة المذاهب الهدامة يبذلون ويضحون أكثر مما يضحي أهل الخير لدينهم ولرفعة كلمة لا إله إلا الله في الأرض.
بل قد سمعنا من أخبارهم التي يسمونها بطولات، بل مغامرات، وسمعتموهم لما بدأت المعركة يقولون: جئنا نكتب التاريخ من جديد، مع العلم أنهم لا ينتظرون جنة وراءهم، ولا ينتظرون فوزاً ولا شهادة، ومع ذلك يقولون: جئنا نكتب التاريخ من جديد.
إذاً: المسألة مسألة مبادئ.
أما واجب الشباب بعد انكشاف الغمة، فإنني أرى أن يتحول اهتمام الشباب وعواطف الشباب إلى أمور عملية تنفعهم، فقد توجد أمور سلبية في حياة الشباب، ونضرب على ذلك أمثلة:
أنك تجد الشاب يتصل إلى الناس وقت الدعوة فقط، أما تقديم الخدمات، والعون، والوقوف معهم؛ فقليلٌ من يفعل.
تجد الشاب يعيش في الحي ولا يعرفه أهل الحي، يمرض المريض في الحي، ويحتاج المحتاج، وصاحب الغرض، والمسكين، والأرملة، وهو لا يقدم شيئاً من الخدمات، وإنما يرونه يوم الجمعة يلقي عليهم موعظة أو خطبة أو محاضرة فقط، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما ملك قلوب الناس بالخدمات التي قدمها صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثالث: يطلب من الشباب تكثيف سواد المؤمنين في وقت المحاضرات والدروس ومجامع الخير؛ لأنه انتصارٌ للا إله إلا الله محمدٌ رسول الله.
ومن أسرار صلاة الجمعة وصلاة العيد أن يجتمع المسلمون كما في حديث علي عند الترمذي: {كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج من طريقٍ إلى العيد ويعود من طريقٍ آخر} قال أهل العلم: ليرى الناس هذه الكثرة الكاثرة، ويروا الاجتماع، فأرى أن الشباب، ولو كانوا يرون المحاضر أقل منهم علماً، أو لا يستفيدون، أو يسمعون كلاماً هو تحصيل حاصل، لكن حضورهم نصرٌ لهذه المبادئ، ونصرٌ للدعوة، وتأليف لقلوب المؤمنين، وإغاظة للمنافقين.
ومن واجب الشباب كذلك: أن يقوم كلٌ بحسبه، وبطاقته، فإن بعضهم يجيد الكتابة، وبعضهم يجيد التأليف، وبعضهم يجيد الخطابة، وبعضهم يجيد التحدث، وبعضهم يجيد الدعوة العلنية، وبعضهم يجيد الدعوة الفردية، كلٌ فيما يخصه، فعلى الإنسان ألا يتقلد دوراً غير دوره، بل يبذل ما يستطيع هو بذله، ثم تتضافر الجهود كما فعل أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فليس أصحابه كلهم خطباء، وليسوا كلهم مفتين، ولا علماء، ولا ساسة، ولا قادة، ولكن كلٌ في موضعه.
أيها الإخوة الفضلاء: بقيت كلمة للنساء، وكل ما سبق من حديث يشمل النساء، فرسولهن رسولنا، ورسولنا رسولهن، والمنهج واحد، والكتاب والسنة لنا جميعاً: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195].
ولكن ربما تنفرد النساء ببعض المسائل، ومن أعظم ما تطالب به المرأة الآن أن تتحصن بالإيمان أمام هذه المغريات، وأمام هذا الزحف الكافر الذي قصد المرأة، وتآمر عليها، وجعلها طريقاً لهدم هذا الدين، ومن أعظم الفتن والمداخل على العالم الإسلامي: فتنة المرأة، بل قد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء، وكانت فتنة بني إسرائيل في النساء} وما سقط كثير من الناس ولا كثير من المبادئ إلا عن طريق النساء وعن طريق المرأة.
وهذا الذي هاجمنا به العالم الشهواني الغربي، يوم هاجمنا العالم الشرقي بالإلحاد والزندقة، هاجمنا العالم الغربي بالكأس والمرأة الفاتنة والأغنية الماجنة والموسيقى والمجلة الخليعة والفيديو الهدام، فكان من أعظم الفتن ومن أشدها فتنة النساء.
فأنا أطالب من أختي المؤمنة أن تتحصن بالإيمان، وأن تستظل بمظلة لا إله إلا الله، ويكمن ذلك في أمور:
الأمر الأول: الحجاب الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليها أن تتصور أنه عفاف وستر، وأنه كرم لها وليس حجراً عليها، وليس شيئاً من الضيق، وليس تقليلاً من قيمتها، بل جعلها الإسلام درةً في صدف، وشمساً في غمامة، وريحانة في باقة، وهذا هو من مقاصد الإسلام.
الأمر الثاني: أرى أن يكون لها بذلٌ في عالم الدعوة؛ فتنشر الرسائل والأشرطة، وتتصل بأخواتها، وتحمل هموم الدعوة في مجالسها الخاصة والعامة؛ لأن المرأة أسمع لكلام المرأة من المرأة للرجل، وهي أقرب اتصالاً بالنساء.
الأمر الثالث: أن تجعل مجالسها في ذكر الله وما يقربها من الله، وتبتعد عن جليسات السوء، وعن التشبه بأعداء الله عز وجل من الكافرات والفاسقات.
ثم أطالب المرأة أن تجدد توبة نصوحاً لله عز وجل، وأن تطلب من الله عز وجل أن يجعلها من عتقائه من النار، وأن تعرف أنها فرصة وحيدة قد لا تتكرر مرة ثانية.
وأشكركم على حسن إصغائكم، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(170/40)
من جوامع الكلم
أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وتلك معجزة من معجزاته، ومن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم قوله: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
وفي هذا الدرس شرح لهذا الحديث العظيم، واستنباط ما فيه من فوائد وأحكام.(171/1)
الألفة والاجتماع من خصائص هذه الأمة
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الإخوة الكرام: عنوان هذا الدرس: (من جوامع الكلم).
وصاحب الجوامع هو محمد عليه الصلاة والسلام، فقد آتاه الله جوامع الكلم، ولم يخلق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أفصح منه، وما نطق بالضاد أروع من محمد عليه الصلاة والسلام.
وقبل أن أدخل في هذا الدرس ألفت أنظاركم إلى أمر معهود لديكم، وهو هذا السر الذي جعله الله عز وجل في هذه الأمة الخالدة، وهو أنه جمعهم على كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، لم يجمعهم سيف، ولا كيان، ولا دستور وضعي، وإنما حبٌ في الله تبارك وتعالى.
فقد فشلت المجالس الأممية، والجمعيات العمومية، والقوانين الوضعية أن تجمع الناس، وأخفقت أن تجمع قلوبهم؛ ولذلك عرضوا مرةً من المرات الماسونية بديلاً عن الإسلام، وهي هيئة تقوم على إلغاء الفروق بين بني الإنسان، الفروق التي بين الإنسانية في الظاهر وإلا فهي الباطن يهودية، وجعلوا من البدائل: العلمنة، وهو مذهب إلحادي أذاعه أتاتورك في الدنيا؛ ليلغي الفروق بين البشر، لكنها أخفقت جميعاً، وبقي دينه عليه الصلاة والسلام مستعداً ليجمع الناس على كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
والتأليف مظهره في هذا الشهر، فنحن نستقبل فيه هذا البيت، الذي صدحت منه لا إله إلا الله، والذي انبعثت منه الرسالة الخالدة، وصلينا صلاة واحدة، وصمنا جميعاً المسلمين من جميع أنحاء العالم، فيجلس بعضنا إلى بعض في إخاء عجيب من الذي جمع مسلم اليابان مع مسلم الجزيرة، مع مسلم السودان والعراق والمغرب وتونس والجزائر والإمارات واليمن وكل بلاد الأرض؟ لقد جمعتهم لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وهذا السر يذكره أهل العلم في كتبهم، وهو لا يوجد في أي دين آخر إلا في هذا الدين، وهو الولاء والبراء، والحب والبغض، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام في سنن أبي داود أنه قال: {من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان} وفي الصحيحين: {وأن تحب المرء لا تحبه إلا لله} وفي الصحيحين: {ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه}.
يقول محمد إقبال، وهو هندي:
إن كان لي نغم الهنود ودنهم لكن هذا الصوت من عدنان
يقول: إن كنت هندياً، وجسمي ولحمي وشحمي هندياً، فأنا أحمل إيماناً أتى به محمد عليه الصلاة والسلام.
والجباه والقلوب كلها متجهة إلى الله، فله الحمد على هذه المظلة التي جمعتنا جميعاً وآخت بين قلوبنا.
أما الدرس فهو كما قلت لكم: من جوامع الكلم.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصاراً}.
وعند الدارقطني: {وفواتح الكلم، وخواتمه، واختصر لي الكلام اختصاراً} فهو معجز في كلامه، تأتي بكلمة له عليه الصلاة والسلام؛ فتعرف أنه هو الذي قال الكلمة، ولا يستطيع أحد أن يقول غير هذه الكلمة، وكلامه دون إعجاز القرآن؛ لأن للقرآن منزلة في الإعجاز لا يضاهيها كلام آخر من كلام البشر.
ويقول هتلر في مذكراته لما أراد جيشه أن يدخل موسكو قبل الثلج والهزيمة، وقد وقف خطيباً فيهم، وقد رأى الهول والدمار في العالم، وظن أنه سوف يحتل العالم يقول: اقتربت الساعة وانشق القمر.
ولا أعلم هل قالها بلغته أم بالعربية، فهو لم يجد كلمة يعبر بها أعظم من هذه الكلمة، ولكن تعالوا إلى كلامه عليه الصلاة والسلام -لا أتحدث عن معجزة القرآن- من يستطيع من الناس أن يقول: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى}؟ هل يستطيع شاعر، أو أديب، أو فصيح، أو زعيم، أو قائد أن يقولها؟ أو يقول: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة}؟(171/2)
وثيقةٌ معجزةٌ من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم
عندي في هذا الدرس وثيقة أريد أن أشرحها لكم، وهي وثيقة من محمد عليه الصلاة والسلام، كلمات معدودات ما فكر فيها ولا تأمل، إنما قالها فأعجزت أهل العلم، فهي تستحق أن تشرح في مجلدات، ويصنف لها تصنيف خاص يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: {إن الله حرم عليكم ثلاثاً، وكره لكم ثلاثاً: حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال} وهذه الألفاظ درر وجوهر!
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
أم المعاني اللواتي قد أتيت بها أرى بها الدر والياقوت متصلا
لو ذاقها مدنف قامت حشاسته ولو رآها غريبٌ داره لسلا
وفي الحديث قضايا:
أولها: التحريم والتحليل للشارع الحكيم.
الثانية: بلاغة الحديث، وفيه من أمور البلاغة أربعة أمور:
اللف والنشر، والإيجاز، والسجع، والعدد لا يقتضي الحصر.
القضية الثالثة: عقوق الأمهات، وفيها قضايا.
وما معنى: وأد البنات، ومنعاً وهات، و (كره)؟
وما هي القضايا في قيل وقال، وكلام أهل العلم وشراح الحديث فيها؟
وما المقصود بالسؤال؟
ومتى يكون صرف المال إضاعة؟ ومتى يكون حفظاً؟ ومسائل في هذا الباب ثم ننتهي.
أولاً: يقول عليه الصلاة والسلام: {إن الله حرم عليكم ثلاثاً وكره لكم ثلاثاً} الحديث، هذا لف، وقد سبق في بعض المحاضرات أن هذا يسمى لفاً عند أهل البلاغة.
واللف: أن تأتي بالمعاني وتجمعها، والنشر: أن تشرحها، ويسميها أهل الإعلام من المتأخرين: الموجز والتفصيل، يقول: كان هذا هو الموجز وإليكم الأنباء بالتفصيل.
فالرسول عليه الصلاة والسلام استخدم طريقة بلاغية بديعة تسمى: اللف والنشر، وفي القرآن يقول الله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:1 - 3] انتهى اللف، ويأتي النشر فيما بعد.
والتحريم والتحليل ليس لأحد إلا للشارع الحكيم، وليس لأحد من البشر.
فأي زعيم أو موجه أو منظر أو عالم أو فقيه أو محدث لا يملك حق التشريع في الدين، والعلماء يُحتج لأقوالهم ولا يحتج بأقوالهم، والتحليل والتحريم لله عز وجل ولرسوله عليه الصلاة والسلام: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116] فإذا رأيت رجلاً يحلل أو يحرم من غير دليل شرعي، فهو معتوه أو أحمق أو زنديق؛ لأن من الزنادقة من أتى يستهزئ بالدين، فحلل وحرم بلا برهان، فخرج بهذا التحليل والتحريم من الملة.(171/3)
التحليل والتحريم حقٌ محضٌ للشارع الحكيم
المسألة الأولى: التحريم والتحليل -كما تقدم- للشارع الحكيم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] والرسول عليه الصلاة والسلام يملك حق التحليل والتحريم، بخلاف خوارج العصر الذين يأخذون بظاهر القرآن، كصاحب الكتاب الأخضر وغيره، ويقولون: السنة لا مجال لها هنا، وليس لها مصداقية ولا مكانة، ونأخذ بالقرآن فحسب.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {يوشك رجل شبعان ريان على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: دونكم هذا القرآن ما أحل فأحلوه وما حرم فحرموه، ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه} فالسنة مثل القرآن، ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج، قال ابن تيمية: الخوارج لا يأخذون من السنة إلا بما وافق ظاهر القرآن، أما أهل السنة فيأخذون بالسنة إذا صحت حتى في العقائد، والمعتزلة لا يأخذون في العقائد بأحاديث الآحاد، بينما أهل السنة يأخذون بأحاديث الآحاد في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك.
وهذه قواعد لا بد أن تفهم، خاصة لشباب الصحوة الرائدة المقبلة إلى الله، الذين يجب عليهم -وجوباً لا استحباباً- أن يربوا أذهانهم على العلم الشرعي، لتكون هذه الصحوة منضبطة، فإن للصحوة ضوابط عشرة، وهي مجموعة في رسالة سوف تخرج اسمها: عشرة ضوابط للصحوة الإسلامية، والضابط الثالث: مصدر التلقي: الكتاب والسنة، وهذا إذا ضلت عنه الصحوة أو حادت فلن تكون صحوة موجهة، وسوف تكون مبتدعة، وفيها من الخلل العجيب والانحراف الغريب ما الله به عليم.(171/4)
بلاغة الحديث
المسألة الثانية: بلاغة الحديث، وقد سبق اللف والنشر.(171/5)
الإيجاز
وتأتي مسألة الإيجاز والاختصار.
ولو أراد أحدنا أن يتكلم عن هذه القضايا لأخذ ست محاضرات: محاضرة في عقوق الوالدين، ومحاضرة في وأد البنات، ومحاضرة في قيل وقال، ومحاضرة في كثرة السؤال، ومحاضرة في إضاعة المال، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام جمعها في كلمة، وهذه هي البلاغة والفصاحة: {ومَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] فهو يخرج من بين الصخور والجبال السود في مكة فإذا هو أفصح فصيح.
يقول كريسي موريسون الأمريكي: إن من أعظم معجزات هذا النبي الأمي أنه ما تعلم ولا قرأ ولا كتب، وبعد أربعين سنة يكون أكبر مفتٍ في الدنيا، وأكبر خطيب في المعمورة، فهذه أكبر معجزة.
إنسان عاش أربعين سنة، ما حمل قلماً ولا عرف سبورة ولا شيخاً ولا أستاذاً، ويأتيه الوحي في حراء، ثم ينطلق يتكلم للناس فإذا هو أفصح من يتكلم في المعمورة، وأفتى مفتٍ، وأخطب خطيب، وأشجع شجاع، وأقوى قائد، وأعظم سياسي في المعمورة! فهذه معجزة وحدها.
يقول شوقي:
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
يقول: عيسى عليه السلام كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، لكن أنت أحييت شعوباً، أسلم أهل الجزيرة، وقد كانوا رعاة غنم وأبل، ولم يكن عندهم ثقافة ولا حضارة ولا فنون ولا دراسة ولا شيء، وبعد خمس وعشرين سنة يدخلون حدائق الأندلس، ويؤذنون في قرطبة، ويدخلون السند، ويستشهدون في كابل، ويرفعون لا إله إلا الله في صقلية وقبرص، وهذا كله بهذا الدين.
وهذا هو السر العظيم الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام -الإيجاز في الكلمات- وهذه مفتقده عندنا مهما أوتينا من الفصاحة، وهي موهبة من الله.
ما بنى جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمة من عفاء
كلمة واحدة منه عليه الصلاة والسلام يحيي بها الله ألوفاً من الناس.(171/6)
السجع محموده ومذمومه
الأمر الثاني: السجع.
والسجع هو: اتفاق أواخر الكلم على حرف، مثل: {إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات} على التاء ثلاث مرات، ثم قال: {وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال} وهنا على اللام.
وفي هذه القضية مبحث، حيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من الأعراب فقال: {يا رسول الله! كيف تدي من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل} فالأعرابي سجع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ودى جنيناً، حيث ضربت امرأةٌ امرأةً حاملاً فأسقطت جنينها من بطنها، فأمر صلى الله عليه وسلم في هذا الحمل بدية جنين، فأتى شيخ القبيلة يعترض، ويقول: {كيف تدي من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل، فقال صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الكهان؟} فهنا غضب صلى الله عليه وسلم وقال: كيف تسجع مثل سجع الكهان.
فيقول أهل العلم: كيف غضب عليه الصلاة والسلام، بينما قد ورد عنه أنه سجع.
والقرآن فيه سجعٌ كثير: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً * فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً} [الذاريات:1 - 3] وهذا سجع.
ومسيلمة الكذاب عليه لعنة الله، عندما أتى يقول في قرآنه المخرف، الذي أوحاه له الشيطان الرجيم -وقد وذكره ابن كثير في البداية وغيره- يقول: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً يعارض بذلك سورة الذاريات، وأتى بكلام كثير، يقول: يا ضفدع بين الضفدعين، نقنقي ما تنقنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين فهذا سجع، وقد كذبه المؤمنون ولعنوه.
فما الفرق بين السجع المحمود والسجع الذي ذمه عليه الصلاة والسلام؟ يقول بعض الفضلاء: الفرق في أمور:
أولاً: ذاك تكلف والرسول عليه الصلاة والسلام ما تكلف، بل أتى سجية هكذا، مثل الهواء والماء البارد، فتكلم به فأتى على لسانه، وأما العربي فإنه تكلف، ففكر فيها ساعات ونظمها، وقد قال عمر كما في صحيح البخاري في كتاب الأدب: [[نهينا عن التكلف]] ولذلك ينهى الأئمة في دعاء الوتر أن يتكلفوا في الدعاء، فبعضهم يبقى أربعين دقيقة يدعو بالناس في القنوت أو أكثر، ويبكي ويُبكي الناس في القنوت وهو لم يبك في القرآن، يمر بسورة يوسف التي تبكي الحصى والحجارة، التي كان أبو بكر لا يقرؤها إلا ويبكي، ويبكي المسجد معه، فلا تجد الإمام يهتز عندها ولا يهتز المصلون، ويمر بسورة طه، وق، والحجرات، فلا يتأثر، فإذا أتى في الوتر أتى بسجع متكلف، ويقول: اللهم انقلنا من ظلمة اللحود التي فيها الدود، إلى سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود ويبقى على الدال نصف ساعة، وهذا التكلف وتطلب السجع في الكلام منهي عنه، حتى وجد أن بعض الأئمة يتحفظ دعاء التراويح من قبل رمضان، فيكتبه في أوراق ويحفظه، والمسألة سهلة، لماذا لا يدعو بجوامع الكلم: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، فالدين ليس فيه تكلف.
وهناك مادة في علم النفس يسمونها: التكلف، وبعضهم بتكلف حتى في الصوت، وقد سبق في بعض المناسبات أن الأمريكي دايل كارنيجي في كتاب: دع القلق وابدأ الحياة، يقول: لا تتقمص شخصية غيرك، ويقول: أنت خلقك الله شخصية مستقلة، لا تتقمص شخصية غيرك، لكن هنا أحسن، وأروع وأجود من هذا الكلام قول الرسول عليه الصلاة والسلام عند الترمذي، ولو أن في سنده نظر: {لا يكن أحدكم إمعة} أي: لا تلغي شخصيتك وتذوب، وبعض الناس من الشباب يعجب بعالم فيقلده حتى في سعاله ونحنحته، مع أنه قد خلق الله له سعالاً خاصاً، لكنه يسعل مثل سعال الشيخ، ويبكي مثل بكاء الشيخ، ويمشي مثل مشية الشيخ، وهذا تقليد مذموم.
والممدوح من التقليد أن تقلد الشيخ في الكرم والعلم والصبر والحلم، أما أن تقلده في هذه الحركات الظاهرة فهذه سذاجة وبرود، وهذا شيء ثقيل على النفس ولا يصلح.
وأعود إلى الموضوع فأقول: السجع في كلام الأعرابي جاء متكلفاً، وكلامه عليه الصلاة والسلام هنا بغير تكلف.
الأمر الثاني: أن سجع ذاك الرجل الذي ذمه عليه الصلاة والسلام أتى لغرس الباطل وصرف الحق، فالرسول عليه الصلاة والسلام أنكر عليه ذلك، ورفض عليه الصلاة والسلام هذا المبدأ؛ لأنه لا يصح، حيث أنه أتى لفرض الباطل ونسف الحق.(171/7)
العدد الوارد في الحديث لا يقتضي الحصر
جاء في الحديث: {حرم عليكم ثلاثاً وكره ثلاثاً} الحديث، وهذا لا يقتضي الحصر، فقد حرم الله عز وجل أشياء كثيرة تبلغ المئات، حرم الشرك والزنا والربا وحرم الكذب والغيبة والنميمة هنا لا يقتضي الحصر.
وهناك عدد لا مفهوم له، مثل قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة:80] الآية، فهذا لا مفهوم له، فلو استغفر عليه الصلاة والسلام فوق السبعين فلن يغفر الله لهم، لكن العدد معروف عند العرب، أي: أنك لو فعلت هذا الفعل، ووصلت إلى هذا العدد، -والمقصود ولو ما فوقه- ما فعلنا لك ما أردت.(171/8)
بيان تحريم عقوق الأمهات ومعناه
المسألة الثالثة: قال عليه الصلاة والسلام: {إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات} الحديث، ويدخل فيه عقوق الآباء، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الجنة تحت أقدام الأمهات} وقد علقه البخاري في الصحيح، ومعنى ذلك أن الجنة قريبة إذا بر العبد أمه، فهي في متناول يده وفي قربه بسبب هذا البر.
وقال أهل العلم: للأم ثلاثة أرباع الحق، وللوالد الربع وقد أخذوه من قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، لما جاءه رجل وقال: {يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك} فجعل للأم ثلاثة أرباع الحق، وللأب الربع؛ لأن الأم قامت بأمور لا يعلمها إلا الله، من البر، والصلة، والعناء، والمشقة، والأسى، واللوعة.
وورد في ترجمة ابن عمر رضي الله عنهما بسند جيد، أنه كان يطوف بالبيت في شدة حرارة الشمس، ورجلٌ من أهل اليمن يطوف بأمه، وقد تصبب العرق من وجه اليماني، وهو متعب ومرهق، فقال: [[يا بن عمر! أرأيتني جزيت أمي بما فعلتُ لها؟ -يطوف بها في حرارة الشمس وهي على ظهره- قال ابن عمر: لا والله! ولا بزفرة من زفراتها]].
وأورد الزمخشري في الكشاف، ونسبه إلى الطبراني وفي سند الحديث كلام: {أن رجلاً وفد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: مالك؟ قال: يا رسول الله! ابني ربيته، فلما كبر عقني وظلمني واضطهدني! قال: هل قلت فيه شعراً؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: ماذا قلت؟ -لأن العرب كانت تنفث همومها في الأشعار، إذا اهتم الواحد منهم أو عقه ابنه، أو طال عليه الليل، أو ضاعت ناقته، أو سقطت منه حذاؤه، نظم قصيدة، فهي أمة فصيحة رائعة، تتعامل مع الشعر، فلما أتاها الوحي كفاها الوحي- قال: هل قلت في ذلك شعراً؟ قال: نعم.
قال: ماذا قلت؟ قال:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململ
يقول: يا بني! ربيتك، وحرصت عليك، وأنشأتك، حتى إذا مرضت أنت كأني أنا المريض، فلا أنام الليل إذا ما نمت أنت.
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظةً كأنك أنت المنعم المتفضل
فدمعت عيناه عليه الصلاة والسلام، وجاء بالابن وهزه بتلابيب ثوبه، وقال: أنت ومالك لأبيك} وأصل كلمة: {أنت ومالك لأبيك} صحيحة، لكن القصة فيها كلام من باب أحاديث السير.
فعقوق الأمهات يدخل فيها تبعاً عقوق الآباء.
وما معنى عقوق الوالدين؟
قال بعض العلماء: قطع الأم والوالد من الزيارة، وقال بعضهم: ألا تنفق عليهما وهم يستحقون النفقة، وقال بعضهم: أن تعقهم حتى يبكون من العقوق، فإذا بكوا فقد بلغت درجة العقوق.
والصحيح أن عقوق الوالدين يكون بتكدير خاطرهما، وعصيانهما في غير معصية الله عز وجل، وعدم الوفاء بحقوقهما، فهذا هو العقوق، وإذا لم يرض عنك أبوك وأمك فأنت عاق، وإذا رضيت الأم والوالد فقد وجد البر وانتفى العقوق.
وهذا أمر نسبي عند بعض الناس، فقد يقول بعضهم: أمي في مدينة وأنا في مدينة، فهل هذا من العقوق؟
والجواب أن يقال: لا.
ليس هذا من العقوق؛ لأنها في مدينة وأنت في مدينة، فإن كانت راضية عنك وهي في تلك المدينة فقد بررتها، وإن كانت ساخطة عليك ولو كانت في البيت التي تسكن فيه فقد عققتها، هذا هو الصحيح.(171/9)
تحريم وأد البنات
قال عليه الصلاة والسلام: {ووأد البنات} الحديث، وهو قتل البنات وهن على قيد الحياة، وهذا مذهب للعرب، حيث كانوا في الجاهلية يصيبهم العار من أن يرزق الرجل منهم بنتاً؛ فيذبحها ويقتلها وهي صغيرة، قال تعالى: {وإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] فسوف يسألها الله، ويسأل من قتلها.(171/10)
أول من بدأ وأد البنات
وأول من قتل الموءودة قيس بن عاصم المنقري التميمي، وهو من سادات العرب، وكان حليماً كريماً، لكنه خشي العار كما زعم، فأتته ابنة فقتلها وكسر عنقها ودسها في التراب: {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59] فدسها في التراب، وقد رزقه الله الإسلام فيما بعد، وكان سيداً عجيباً، حتى يروى في السيرة أنه صلى الله عليه وسلم لما أتاه قيس بن عاصم قال: {هذا سيد أهل الوبر} وكان حليماً جد حليم، وسيداً مطاعاً، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! رق عظمي، وشاب رأسي، ودنا أجلي؛ فعظني، قال: يا قيس! إن مع القوة ضعفاً، وإن مع الغنى فقراً، وإن لكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، يا قيس! إن معك قريناً يدفن معك وأنت ميت، وتدفن معه وهو حي، وهو عملك} فبكى قيس بن عاصم، وهو المقصود بقول القائل:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من ألبسته منك نعمةً إذا زار عن شحط بلادك سلما
وما كان قيس موته موت واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
وقد كان قيس -واسمحوا لي أن أستطرد فيه- كان من أحلم العرب، أي: واسع البال، كريماً، يكظم الغيظ، ويعفو، قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم، قالوا: كيف؟ قال: كنت جالساً معه في مجالس بني تميم، وقد اجتمع شيوخ بني تميم، وقد احتبى -والحبوة: أن تلف كساء على ركبتيك وأن تجلس القرفصاء- قال: فأتت امرأة فدخلت عليه، وقالت: ابنك مقتول! -ابن قيس بن عاصم كان يلعب مع الأطفال، فرماه أحدهم بحجر فإذا دماؤه في الأرض - قالت: ابنك مقتول! قال: من قتله؟ قالت: ابن فلانة، قالوا: فو الله ما قطع قصته -كان في قصة، فحدثهم بها حتى أتمها- ولا حل حبوته، ثم قال: اغسلوا ابني وكفنوه وتعالوا به، فغسلوه وكفنوه وأتوا به، فقال: اذهبوا بمائة ناقة إلى أمه وأرضوها، فدفع الدية عن الجيران فهل بعد هذا حلم؟! وهل بعد هذا كرم؟!(171/11)
وأد المرأة المعاصرة وضروبه
وقد انتهى وأد البنات -والحمد لله- في الإسلام، لكن وأد المرأة اليوم غير وأد الجاهلية، ففي الجاهلية كانوا يذبحونها بالسكين، لكن وأد الجاهلية العصرية هو قتل لإرادة المرأة وحريتها وكرامتها وحقها، وهم يزعمون أنهم ينادون بحرية المرأة، وأنهم يحافظون على حقوق الإنسان.
الحاكمون وواشنطن حكومتهم اللامعون وما شعوا وما غربوا
فهم الذين أكلوا المرأة وشربوها في كرامتها ومروءتها، فوأد المرأة في هذا العصر أن يقطع حجابها، وأن يهاجم الحجاب، ويدعى أنه رجعية وتخلف، وما هو إلا العظمة والروعة والجمال للمرأة، وما هو إلا الستر والصون والكرامة.
ووالله! يوم كانت المرأة متحجبة كانت لها قيمة، وكانت النفوس تحبها وتقدرها، فلما تبذلت المرأة، وأدخلت بعد الحرب العالمية الثانية في أتون المصانع، وأصبحت عاملة، وأصبحت موظفة وسكرتيرة وتشارك في البرلمان، أصبحت ممجوجة، ومملولة، ومتبذلة يقول الشاعر العربي:
إذا سقط الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كُنَّ الكلاب ولغن فيه
ومن وأد المرأة: أن تمنع من إنشاء بيت إسلامي، بحجة الفاحشة الكبرى: فتح الروتاري وغيرها، وإدخال النساء تحت مظلة الإنسانية والحب الإنساني الذي ما أنزل الله به من سلطان، لتربي غير أبنائها من زوجها، وتورث الفاحشة الكبرى التي أظلمت بها الدنيا.
ومن وأد المرأة: أن تجعل المرأة في غير المكان المناسب الذي خلقت له، فقد خلقها الله أمينة على الجيل ومربية له
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم نبت إن تعاهده الحيا بالري أورق أيما إيراق
فالأم رسالة، فقد أخرجت العظماء، فهذا خالد أُمه امرأة، وسعد وطارق وحسان وابن تيمية وصلاح الدين والعظماء على مر التاريخ، فالمرأة أرادها صلى الله عليه وسلم والإسلام أن تكون جوهرة في صدر، أما أن تكون متبذلة فلا.
ومن وأد المرأة: أن هاجموها وسحقوا كرامتها أمام العالمين، مرة بمقالةٍ يستهزئون بالنقاب والحجاب ويسمونه خيمة، ومرة يقولون: تأخر المرأة وتخلف عقل المرأة، ومرة يقولون: متى يسمع صوت المرأة؟! ومرة يكتب كاتب في بعض البلاد، ويقول: المرأة إلى أين؟
نقول: المرأة إن صلحت إلى جنة النعيم، وإن فسدت فإلى نار تلظى، لكن أنت يا مغفل يا مغرور! أنت يا عميل،! أنت يا مخزي الرسالة! أنت يا ممحوق البركة إلى أين؟! وأنت تحت أي لافتة تتكلم؟ فنحن تحت قضية كبرى قضية لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكن أنت تنادي أختك، وتنادي أمك وزوجتك أن تخرج إلى الشارع!
ومن وأد المرأة: أن تحرم العلم الشرعي، فتربى على الجهل؛ لأن بعض الناس الآن يقولون: المرأة إذا أصبحت جاهلة فإنها تصبح جيدة وعاقلة، ولا تعرف السوء، وتصبح خاماً قابلاً للتوجيه، وهذا خطأ، لأن المرأة الجاهلة جاهلة، فلابد أن تعلم المرأة، ولكن أي علم؟ إنه العلم الشرعي، وبعض الناس أرسل ابنته إلى بروكسل لتطلب العلم! انظر إلى هذا العلم التي تأتي به هذه البنت في السادسة عشرة! ذهبت إلى بروكسل ومكثت أربع سنوات هناك بلا محرم، تسكن في كل فندق وبارة، وتأتي بعلم، فلا بارك الله فيها ولا في علمها إن لم تتب!
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
نحن لا نفتقر إلى تدريس المرأة هندسة التربة في دول أوروبا أو أمريكا أو الصين، وتأتينا وقد مسخت من لا إله إلا الله، وتحاربنا في عقر دارنا، لا نريدها ولا نريد علمها ولا شهادتها، نريد العلم النافع، الذي يربي امرأة تأتي بالأجيال وتوجه الجيل.
فهذا من وأد البنات، وهو وأد آخر يكتشف في هذا العصر، اكتشفه علماء الجيولوجيا من أهل الفقه الإسلامي، اكتشفوا أن هناك وأداً وحرباً، وقد يكون هناك -إن شاء الله- محاضرة اسمها: حرب على المرأة، ينقل عن كتبة العلمانية، وعن فروخهم وأذنابهم، وعن الشعراء ما قالوه في البنت المسلمة بحجابها وسترها، ويرد عليها -إن شاء الله- من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم.(171/12)
تحريم المنع والبخل وتحريم السؤال والطلب
قال صلى الله عليه وسلم: {وحرم عليكم منعاً وهات} الحديث، منع: أن تمنع ما بيدك، فالبخل حرام في الإسلام، والبخل نوعان: بخل بالعلم وبخل بالمال، والبخل بالعلم أشد وأنكى، وهو من أكبر الذنوب والخطايا، يقول سبحانه عن البخل بالعلم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160] فلم يكن عند علماء الإسلام بخل بالعلم، وقد كان علماء السلف علماء عامة، كالإمام أحمد والبخاري ويحيى بن معين وابن المديني ومسلم والترمذي وأبي حنيفة ومالك والشافعي وابن تيمية وابن القيم، فهؤلاء كانوا علماء عامة، لم يكن العالم يغلق عليه بابه فإذا أتيته تستفتيه كأنك تراجعه في معاملة، ويفتيك بالقطارة كأنه ينفق عليك من شحمه ولحمه ودمه! لقد كان علماء السنة في المسجد، والشارع، والعشة، وفي البيت والمهرجان والمقبرة، في كل مكان ينشرون علمهم كالسيل، فهذه ميزة العلماء.
وقد علقها محمد الراشد -عمر الله وقته- في كتابه الجيد المنطلق، فقد كتب فصلاً بعنوان: علماء السنة علماء عامة.
وهذا ميزة علماء السنة عن علماء البدعة؛ لأن بعض الناس الآن يقول: العالم لا بد له أن ينفصل عن المجتمع، ولا بد أن يربي الشباب تربية فردية، ولا يتصل بالعامة فقط لأن الانتقاء وارد، ونحن نقول: قد تكون هذه من الوسائل، لكن أن يحكم حكماً عاماً، ويحجز علماء الإسلام وقضاته ودعاته عن العامة فليس بصحيح، هذه نظرة تقبل النقض، وقد تصلح في بعض الفترات وبعض المناطق ولا تصلح في بعض.
الثاني: البخل بالمال، قال تعالى: {يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37] البخل شر أسود، وهو أشر الأخلاق، والعرب ما ذمت خلقاً كما ذمت البخل وكرهته، حتى أصبح عندهم مثل الكفر تماماً {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن:16].
(منعاً) أي: حرّم الله على الإنسان أن يمنع الحقوق التي عليه، والكلام على هذه يطول، وإنا أرشح أن تكون هناك محاضرة اسمها: منعاً وهات؛ لأنه لا يستطيع الإنسان أن يشرح أنواع المنع، ومتى يكون المنع واجباً، أو مستحباً، ومتى يكون محرماً، أو مكروهاً، وماذا يمنع، ومتى يمنع إلى غير ذلك.
وهات: أي: الطلب والجدوى، والإنسان شريف، واليد العليا خير من اليد السفلى، اليد العليا يد المعطي، واليد السفلى يد الآخذ، جاء في صحيح مسلم: {ومن سأل أموال الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر} وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لأن يأخذ أحدكم حباله فيذهب فيحتطب فيبيع، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لا تزال المسألة بالعبد حتى تأتي خدوشاً في وجهه يوم القيامة} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {يأتي وليس في وجهه مزعة لحم} أي: ملمساً له، والحديث صحيح، صححه ابن حجر وغيره.
فسؤال المال من غير حاجة ملحة محرم، والذين يسألون ويشحذون الناس ولهم ما يكفيهم، لا ميزان لهم عند الله ولا قدر شاب في الثلاثين يطلب الناس! اذهب يا أخي وتاجر وابذل واخدم نفسك.
وهناك ما يسمى بالبطالة عند شباب الصحوة، وأنا أستغفر الله أن أتهم هذه الصحوة المباركة بشيء، لكن يقولون: وجد في بعضهم بطالة، أي: عدم طلب الرزق [[دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه المسجد، فوجد شباباً جالسين في المسجد، فقال: ماذا تفعلون؟ قالوا: نعبد الله، قال: من يطعمكم ويسقيكم؟ قالوا: الله، قال: أدري أنه الله - عمر يدري أن الله هو الذي يطعم ويسقي- قال: لكن من يقدم لكم الطعام والشراب؟ قالوا: جيراننا، قال: انتظروني قليلاً، فذهب رضي الله عنه وأغلق عليهم الباب وأخذ درته -الدرة قطعة خشب تخرج الوساوس من الرءوس، إذا ضرب بها عمر رجلاً عرف القبلة، فالذي لا يعرف القبلة فهذه الدرة مثل البوصلة يعرفه عمر القبلة بهذه العصا.
فدخل عليهم وضربهم، وقال: اخرجوا قاتلكم الله! إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة]].
فلذلك لا يعترف الإسلام بمقولة: طلب الرزق يعطلني عن الاستقامة والعبادة وصلاة التراويح وقراءة القرآن، ولما فعل المسلمون ذلك أنتج الكافر الطائرة والثلاجة والبرادة والصاروخ، وأنتجوا السيارة وكل شيء حتى الطباشير، وأصبحنا نحن نأكل ونقول: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وهذا جيد وممتاز، لكن ماذا قدمنا نحن؟ لماذا لا ننتج مثلما أنتجوا؟ ولماذا لا نبدع كما أبدعوا؟
منهم أخذنا العود والسجارة وما عرفنا نصنع السيارة
استيقظوا بالجد يوم نمنا وبلغوا الفضاء يوم قمنا(171/13)
كراهة (قيل وقال) وبيان معناها
الكراهة قد تكون تحريماً، وقد تكون كراهة بلا تحريم.
قال عليه الصلاة والسلام: {وكره قيل وقال} قيل: هو الذي يشعب الكلام على الناس وينقل الكلام، ما همه إلا المراسلة، فهو وكالة أنباء، قال فلان، ورد عليه فلان، وسمعت أن فلاناً قال، ولكن فلاناً يعترض عليه، فهو ينقل الشائعات، ليس عنده عمل، ولا يعرف كيف يقرأ القرآن، ولا يتدبر ولا يطلب العلم، ولا يدعو إلى الله، وإنما هو فارغ، من العمل، فيجلس من الصباح يتبرع بنقل الأخبار سمعت فلاناً قال فيك اليوم، وأنا لا أريد أنه قال فيك، فماذا تقول أنت؟ قال: أقول فيه كذا، فيذهب إلى فلان ويقول: قد أخبرته بما قلت فيه، فقال فيك كذا فهل هذا عمل مسلم مؤمن؟!
إن هذا عمل الذين لا يرجون لله وقاراً، وهم الفارغون في كل زمان ومكان، وهم الذين يسمون شيوخ القمر، ويخططون في التراب، ليس لهم أصالة ولا مكانة، وليس لهم حفظ ولا وقت، ثم تضيع أوقاتهم.
إذاً: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال، وهي استحداث الأقوال وجمعها بعض الناس يتظاهر بالعلم وليس عنده علم، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {المتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور} أي: الذي يتظاهر بما ليس عنده مثل الرجل الذي له ثوب واحد، لكن له أكمام ثوبين، فيظهر للناس أن عنده كمين كأن عليه ثوبين، وهو ثوب واحد، فهذا مثل المتشبع بما لم يعط، كرجل فقير، إذا جلس في المجلس يتظاهر أمام الناس أنه غني، ويقول: أمرت أن يحول لنا شيكات على البنك اليوم! وماذا فعلت يا فلان في أراضينا في المدينة الفلانية؟ وماذا عملت في معرضنا؟ وليس عنده لا معرض ولا سيارات ولا شيء، فهو أعمى ويناقر، حشفاً وسوء كيلة.
فالذي يستحدث الأقوال وليس عنده علم، فإذا قيل له: يا شيخ! ما رأيكم في المسألة؟ قال: فيها ستة عشر قولاً! وهي ليس فيها إلا قول واحد، فإذا قيل له: أفدنا أثابك الله! قال: قال قوم كذا، وقال قوم كذا، وقال قوم كذا، فترك السائل وهو في ربكة ما بعدها ربكة، وهو لا يحفظ دليلاً لكل مسألة ولا يدري.
يقولون: أحد الحمقى كان له ابن عنده علم، وابنه هذا يريد أن يتظاهر أن أباه عالم، فقال لأبيه: إذا سألك الناس فقل: فيها قولان، وأنا سوف أفتيهم، لكن نريد أن يعرفوا أنك عالم ولست بجاهل، قال: سأفعل.
فسألوه، فقال: فيها قولان، قالوا: وما تفصيلها؟ قال: أحيلكم على ابني، فالابن يفصل، هذا يوجز وهذا يفصل، قالوا: ما رأيك في الله عز وجل؟ قال: فيه قولان، سبحان الله! {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
فهذه (قيل وقال) وهي استحداث الأقوال، وقد عرض لها ابن تيمية وقال: هي التكثر بأقوال أهل العلم ولو لم يكن لها أصل.
وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلافٌ له حظ من النظر(171/14)
كراهة كثرة السؤال
وكثرة
السؤال
وهو الذي يسأل العلماء تعنتاً، فيعنتهم بالمسائل، لا لقصد الاستفادة، وهذه توجد عند الشباب بكثرة يقول: هذا الشيخ شاب، وبادئ في العلم، وأنا سآتي له بمسألة توقفه عند حده وتخجله في المجلس! فهذا منهي عنه، وما يفعل ذلك إلا الذي في قلبه مرض، نعوذ بالله! فيقول: يا شيخ! ما رأيك في أطفال أهل الفترة؟ أو ما رأيك في أطفال المشركين؟ أو ما رأيك في دوران الأرض حول الشمس، والشمس حول الأرض؟ فهذه من المسائل التي لا يستفاد منها.
ونحن نقول له: رأينا فيك كرأي عمر في صبيغ بن عسل، حينما أتى بهذه المسائل فقال له عمر: انتظر، ثم أرسل عسب النخل فرشه بالماء، وقال: والله لا يحول بيني وبينه أحد، فضربه عمر ضربةً حتى أغمي عليه، ثم رش الرجل بالماء واستفاق، يقول: أصبحنا وأصبح الملك لله، ثم ضربه عمر ضربةً، حتى أغمي عليه، فرشه عمر، ثم قال: يا أمير المؤمنين إن كانت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد دوائي فقد شفيت والحمد لله.
فهذا العلاج لا يخرج إلا من صيدلية عمر.
فبعض الناس يأتي بمسألة يتعنت حتى يحرجك أمام الناس ويخجلك، وهذا من كثرة السؤال، قال مالك في السؤال عن الأغلوطات -أي: أغلوطات المسائل الصعبة-: ونهينا عن التكلف، فمن فعل ذلك فقد أساء وتعدى وظلم.
فقد تجد الرجل لا يعرف سجود السهو، لكنه يسأل عن مسائل ما وقعت، يقول: يا شيخ! ما رأيك في أهل القطبين، القطب الشمالي والقطب الجنوبي كيف يصلون؟ فتجيبه بجواب، فيقول: لا.
هذا خطأ، وكيف يصومون؟ فتجيبه فيقول: لا.
هذا خطأ إذاً طالما تعرف الجواب فلا تخطئنا.
وإذا قلت له: سجود السهو قبل السلام أم بعده؟ فيقول: لا أدري.
هذا الذي هو دائماً معك في كل صلاة، وأما أهل القطبين فلا يمرون بك ولا في العمر مرة، فلماذا تتشاغل بهم؟(171/15)
معنى إضاعة المال وبيان كراهة ذلك
قال: {وإضاعة المال}: والإضاعة على أنواع:
إضاعة معصية، كما يفعل بعض التجار اليوم حينما يضيعون أموالهم، قال الله: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] كالسفر للفاحشة إلى الخارج، وشرب الخمر، ودور الدعارة، والربا، ومحاربة الدين، والعهر، والخمارات، والبارات، والغناء الماجن، والمجلات الخليعة، ودعم المؤسسات الشريرة المحاربة للدين، ودعم العلمنة في الساحة، ومحاربة الإسلام بهذا المال الذي سيكون عليهم حسرة ثم يغلبون.
ومن إضاعته أيضاً: الإسراف فيه، وهذا يوجد حتى عند كثير من الملتزمين، فإن بعضهم عنده ثلاثون ثوباً، وفي كل صلاة يلبس ثوباً، وهذا من إضاعة المال، وعليه أن يقتصد، فإن الدين وسط، والإسلام لا يعرف الدروشة، فإن بعضهم يجعل الزهد في الثوب، وعنده عمارات وقصور، لكن ثوبه بخمسة وثلاثين ريالاً حتى يظهر أنه زاهد، أتزهد في الثوب ولا تزهد في الأراضي والعقارات والبنايات والمعاقل؟ هذا ليس بصحيح.
وكذلك الإسلام لا يؤيد الترفه كثيراً؛ فقد جاء في الحديث الحسن: {البذاذة من الإيمان} فالترفه منتشر، حتى أن بعض الشباب المعرض يشتري كبك -نوع من أزرار الملابس- بخمسمائة ريال، وحذاء بستمائة ريال، وعليه من الملابس ما يعادل أربعة أو خمسة آلاف وهو لا يساوي اثنا عشر ريالاً، وملابسه بستة آلاف، يقول أبو الفتح:
يا متعب الجسم كَمْ تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
استكمال الفضائل بالقرآن، والاستقامة، والتوبة النصوح، والصدق مع الله، ومجالسة الصالحين، وحمل رسالة لا إله إلا الله محمد رسول الله، والصدق مع النفس ومع الله عز وجل وأن تكون عبداً لله تبيع نفسك من الله ثم لا ترجع في البيع أبداً: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(171/16)
حقيقة البعث والنشور
الموت حقيقة لا بد منها، ولكن الموت ليس هو نهاية الإنسان، بل هناك بعث ونشور، وثواب وعقاب، ومن الناس من ينكر البعث وذلك لجهله بعظم قدرة الله عز وجل.
والشيخ تحدث عن هذا الموضوع ذاكراً بعض الأمثلة لمن ينكرون هذه الحقيقة الجلية الواضحة.(172/1)
حتمية البعث والنشور
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:77 - 83].
{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ}
يا أيها الإنسان: يا من حمل همومه وغمومه!
يا أيها الإنسان: يا من تعدى حدود الله وانتهك حرماته, وأكل نعمه, واستظل بسمائه, ووطئ أرضه!
يا أيها الإنسان: إنك سوف تُعرض على الله, ويل لك أيها الإنسان، أما فكرت بالقدوم على الله؟!
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شي
يا أيها الإنسان! {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] ما الذي خدعك حتى عصيت الله؟
ما الذي غرك حتى تجاوزت حدود الله؟
ما الذي أذهلك حتى انتهكت حرمات الله؟
يا أيها الإنسان! ألم تكن نطفة؟! ألم تكن ماء؟! ألم تكن في عالم العدم؟!
قال سبحانه: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:1 - 2] مسكين هذا الإنسان! حقير هذا الإنسان! صغير هذا الإنسان! أتى من ماء, من عالم العدم, أتى من نطفة, فلما مشى على الأرض تكبر وتجبر, ونسي الله الواحد الأحد!!
في المسند للإمام أحمد بسند جيد عن عبد الله بن جحش قال: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بصاقاً من فمه ثم وضعه في راحته, ثم أخذ يديره بأصبعه ويقول: يقول الله تبارك وتعالى: يابن آدم! خلقتك من مثل هذا ثم ربيتك، فلما تربيت جمعت ومنعت ومشيت على الأرض, وللأرض منك وئيد, ثم قلت: لن يعيدني كما أنشأني أول مرة ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]} من هذا المجرم الذي اعترض على قدرة الله؟ من هذا العاصي الذي أنكر البعث والقدوم على الله؟
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
ساعة الموت أيها العبد أضعاف سرور في ساعة الميلاد(172/2)
إنكار العاص بن وائل للبعث
هذا المجرم هو العاص بن وائل , أثمر الله ماله, وأصح جسمه, وأعلى شأنه في الدنيا, ولكن كفر بلا إله إلا الله, أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بعظم بالٍ ففته وحته ونفخه أمام المصطفى صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! أتزعم أن ربك يعيد هذه العظام بعد أن يميتها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: {يميتك الله ثم يبعثك الله ثم يدخلك الله النار} فيقول الله له: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} [يس:78] أتى يضرب لنا الأمثال, نسي مكرماتنا, ومعروفنا, وجميلنا ونعمنا, وأتى يضرب لنا الأمثال اليوم.
{وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] من الذي أنشأه من العدم؟ من الذي أغناه من الفقر؟!
من الذي أمشاه على رجليه؟
{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] فما له نسينا اليوم؟
هذا العاص بن وائل قتل في بدر كافراً بالله العظيم, أتاه أحد الفقراء من المسلمين وقد عمل له عملاً واشتغل له شغلاً فقال له الفقير: يا أبا عمرو!! أعطني أجرتي؟ قال: أتؤمن بمحمد؟ قال: نعم.
قال: أتؤمن أن الله يبعثنا يوم القيامة؟ قال: نعم.
قال: -وهو يضحك يستهزئ- فإذا بعثني ربي من قبري وعندي كنوز من الأموال فأحاسبك في ذلك اليوم وأعطيك أجرتك, فقال الله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} [مريم:77 - 80].
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79].
والله لنبعثن كما نستقيظن حفاة عراة غرلاً بهما كما بدأنا أول مرة يعيدنا قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] نخرج من قبورنا مذهولين خائفين وجلين إلا من رحم الله, ولا يأمن من مكر الله وعذابه ولعنته إلا من أمنه الله.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:101 - 104].
صح عنه صلى الله عليه وسلم: {أن الإنسان بعد أن يخرج من قبره ويقف في أرض المحشر، فمنهم من يبلغ عرقه كعبيه, ومنهم من يبلغ العرق ركبتيه, ومنهم من يبلغ حقوه, ومنهم من يبلغ حنجرته, ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً فلا يتكلم} قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28].
{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:79 - 80].
قال أهل العلم: الشجرة بذرة -كما تعرفون- أنبتها الله ورعرعها بالماء ثم يبست ثم أصبحت حطباً يوقد به في النار, وقال بعضهم: المرخ والعفار شجر في الحجاز إذا ضربت هذا بهذا وهو أخضر انقدح ناراً, فمن الذي قدح النار منه؟ ومن الذي جعل آيات الكون قائمة أمام الأعيان؟ أليس هو الذي يعيدنا يوم العرض الأكبر؟(172/3)
ضرورة التوبة قبل الموت
يا أيها الإنسان: انظر إلى السماوات بلا عمد.
يا أيها الإنسان: انظر إلى الأرض في أحسن مدد, من أجرى الهواء؟! من سير الماء؟! من جعل الطيور تتناغم بالنغمات؟! من جعل الرياح غاديات رائحات؟! من فجر النسمات؟! من خلقك في أحسن تقويم؟!
قال سبحانه: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81] سبحان الله! ما أقدر الله!
يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[والله لولا يوم القيامة لكان غير ما ترون]] لو لم يكن هناك يوم بعث ونشور لأكل الأقوياء الضعفاء, وأخذ الظلمة المظلومين, وتجبر المتجبرون في الأرض.
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل نور الدين جاء مسلماً فاحذر بأن تأتي ومالك نور
حرمت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور
متى سيفيق من لم يستفق اليوم؟!
متى يتب إلى الله من لم يتب هذه الساعات؟!
متى يحاسب نفسه من لا بد أن يحاسبها قبل أن تعرض على الله؟
عباد الله: أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه, إنه هو التواب الرحيم.(172/4)
رؤية إبراهيم عليه السلام بعث الموتى
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً, وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً, وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً, وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراًَ ونذيراً, وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
إبراهيم عليه السلام إمام التوحيد ومعلم الرسالة وأستاذ العقيدة.
إبراهيم خليل الرحمن الذي نشر عقيدة التوحيد في الأرض, مرّ يوماً من الأيام على ساحل البحر فرأى جثة حيوانٍ ميت قد ألقاه البحر بالساحل, وهذه الجثة تأتيها السباع فتأكل منها والطيور تنهش منها, فوقف عليها متعجباً وهو يقول في نفسه: كيف يعيدها الله يوم القيامة وقد أكلتها السباع والطيور؟ كيف يعيد الله هذه الجثة وقد تشتتت في بطون السباع وفي حواصل الطير؟
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة:260] فكلم ربه وناداه وسأله أن يريه كيف تقوم عملية الإحياء وعملية الموت؟! والله هو الذي يقول: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2].
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة:260] فقال الله له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة:260] أما آمنت إلى اليوم؟ أما تيقنت أن الله يبعث من في القبور؟ أما علمت أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ينشر الناس ليوم النشور؟
{قَالَ بَلَى}: بلى يا رب آمنت وأسلمت وتيقنت: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] سبحان الله!
في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {نحن أحق بالشك من إبراهيم} معنى ذلك: لو كان إبراهيم يشك لكنا نحن أضعف وأولى أن نشك في قدرة الله، ولكن إبراهيم عليه السلام لا يشك: {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] أي: لأزداد يقيناً إلى يقيني وإيماناً إلى إيماني, فليس الخبر كالمعاينة: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260].
قال الله: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة:260] أي: خذ أربعة أنواع من الطير، وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [حمام؛ ودجاج؛ وأوز؛ وطائر من عنقاء مغرب] أو كما قال, ولا يهمنا تعداد الطيور؛ لكن يهمنا الشاهد والدلالة في الآية, فأخذ أربعة من الطيور قال تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة:260] أي: قطعهن ومزقهن, فقطع رءوسها, وفصّل أرجلها, وبتّك أكتافها وأيديها, ونتف ريشها, ثم خلط الأربعة, قال الله له: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً} [البقرة:260] فأخذ كل مجموعة من هذا اللحم والعظام والريش والدم فجعله ووزعه على أربعة جبال, ثم نزل في الوادي.
قال الله: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} [البقرة:260] فلما نزل قال: تعالي أيتها الطير بإذن الله, فبعث الله الأرواح فيها, وكانت رءوس الطير بين يديه, فأقبل الريش والعظم واللحم من كل طائر يدخل إلى رأسه لا يغلط في رأسٍ غير رأسه, فلما تركبت أجسامها في رءوسها فرفرت وطارت وأصبحت تأخذ مجالها في الجو, قال إبراهيم عليه السلام: أعلم أن الله على كل شيء قدير، قال تعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260].
فيا من شك في قدرة الله: ويا من شك في البعث والنشور! ترقب يوم يبعث الله الأولين والآخرين, يوم يناديهم في يوم لا ريب فيه, يوم يسمعون الداعي لا عوج له, فاعمل لذاك اليوم، وتزين ليوم العرض على الله, والبس لباساً ليس كلباسنا اليوم؛ فوالله! لا تجزئ ألبستنا إن لم تكن من تقوى, واستعد بحسنات وبأعمال صالحات فإنك راحل!
إن بعد الحياة موتاً عظيماً يستعيذ الجدود منه الجدود
فاستعد لذاك البعث, وترقبه وكأنه في غد, واشكُ حالك إلى الله, وجدد توبة صادقة إلى الحي القيوم: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] يوم ينادي الله الخلائق وهم حفاة عراة غرلاً, وقد وضع السماوات مطويات بيمينه والأرض باليد الأخرى, فهزهن ونادى: لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟
فنسأل الله أن ينجينا وإياكم في ذاك اليوم, ونسأله أن يبيض وجوهنا ووجوهكم ذاك اليوم, ونسأل الله ألا يجعلنا من أهل الفضائح والنكبات وأهل البوار والخسار.
عباد الله! صلوا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه, فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلّى عليّ صلاة واحدة؛ صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صل وسلم على نبيك محمد, وبلغه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين, وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم اجمع كلمة المسلمين, اللهم وحد صفوفهم, اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه, اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق, أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة, ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا, ونسألك القصد في الفقر والغنى, ونسألك لذة النظر إلى وجهك, والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أصلح شباب المسلمين, اللهم ردهم إليك رداً جميلاً, اللهم كفر عنهم سيئاتهم, وأصلح بالهم, وأخرجهم من الظلمات إلى النور, واهدهم سبل السلام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(172/5)
إلى الرفيق الأعلى
إن أعظم مصيبة وقعت على الأمة الإسلامية؛ هي موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتقاله إلى الرفيق الأعلى؛ لأنه كان النور الذي تستضيء به الأمة، وهو المربي والمعلم والمجاهد والزعيم.
ولذلك فإن من قرأ سيرته وعرف أحداثها من ولادته إلى موته، سيجد العبر والعظات الكثيرة، وسيعرف عظم المصاب الذي أصيبت به الأمة.
والشيخ -حفظه الله- قد صور انتقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ربه صورة بليغة ومؤثرة، سرد فيها أهم الأحداث من حجة الوداع إلى أن مات وغسل وصلي عليه ودفن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(173/1)
قبل موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إن الحمد لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ونستهديه، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
إخوة الإيمان! يا حملة التوحيد! يا أرباب المبادئ! عنوان هذه الخطبة "إلى الرفيق الأعلى".
من الذي قال هذه الكلمة؟ من هو أول من أنشأها؟ ومتى قيلت؟
القائل: هو محمد عليه الصلاة والسلام، قالها في سكرات الموت، في آخر لحظة من لحظات الحياة يوم مات كما مات الناس، وفارق الحياة كما فارقها الناس، فهو بشر يموت كما يموت البشر، وهو في سكرات الموت شخص طرفه إلى السماء، وهو يقول: إلى الرفيق الأعلى، إلى الرفيق الأعلى، وهذه الأيام تناسب تلك الأيام التي مات فيها عليه الصلاة والسلام، فإنه مات بعد الحج.
حج بالناس فوقف محرماً في عرفة، حاسر الرأس، أشعث أغبر، فقال وهو يخاطب مائة ألف من المؤمنين: {يا أيها الناس! إنكم مسئولون عني غداً، وأنا مسئول عنكم، فما أنتم قائلون لربي غداً؟
فقالوا بصوت واحد: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، فرفع سبابته على الناقة، وقال: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد} فأنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3](173/2)
العودة إلى المدينة وبداية المرض
ولما عاد عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، أحس بدنو أجله، وبدأت وحشة الفراق وطلائع التوديع ودموع الأسى، وقف على المنبر، وقرأ قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3] فبكى أبو بكر، فقال الناس: مالك تبكي يا أبا بكر! فقال: أجل الرسول عليه الصلاة والسلام نعي إليه، الفراق قريب.
فراق ومن فارقت غير مذممٍ وأم ومن يممت خير ميمم
وما منزل اللذات عندي بمنزلٍ إذا لم أبجل عنده وأكرم(173/3)
قبل المرض
وقام عليه الصلاة والسلام ذات ليلة وسط الليل، وقد نام الناس وهجعوا، قام وسط الليل إلى أحد حيث مقبرة الشهداء، حيث يرقد هناك حمزة ومصعب والسبعون الشهيد ينامون هناك، فوصل إليهم، وسلم عليهم، وودعهم إلى لقاء قريب في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ثم عاد ونام، وفي اليوم التالي خرج إلى مقبرة بقيع الغرقد، فسلم على أهل المقبرة، وقال: {ليهنكم يا أهل القبور ما أمسيتم فيه، فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مسلماً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل} ثم عاد عليه الصلاة والسلام، وفي آخر رمضان دارسه جبريل القرآن مرتين، وكان قبلها يدارسه في كل رمضان مرة واحدة.(173/4)
بداية المرض
بدأ مرضه عليه الصلاة والسلام بصداع في الرأس -بأبي هو وأمي-
فديناك يا ليل السهاد الذي سرى بجسمك في أجسامنا أبداً يسري
ويا ليت أنَّا نحمل الضيم كله عن العلم المحبوب في البدو والحضر
عقد البخاري باباً، فقال: (باب قول الرجل: وارأساه) هل هو من الشكوى لغير الله؟ لا، إنها من التوجع، وبث الحزن للأحباب.
ولا بد من شكوى إلى ذي قرابةٍ يواسيك، أو يسليك، أو يتوجع
{دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فقالت: وارأساه يا رسول الله! كان بها صداع، فقال عليه الصلاة والسلام: بل أنا وارأساه} نزل عليه المرض ثلاثة عشر يوماً، وابتدأ عليه المرض يوم الخميس، فكان ابن عباس إذا ذكر يوم الخميس قلب الحجارة، وبكى، وقال: آه! يوم الخميس وما يوم الخميس كأنه مطعون؛ لأنها ذكرى حرجة، وأسىً ولوعة، وكان ابن عباس كلما ذكرها أثارت عليه الدموع والشجون والأسى واللوعة.(173/5)
أثناء مرضه عليه الصلاة والسلام
وتوطأ عليه صلى الله عليه وسلم الفراش ثلاثة عشر يوماً، وسمع الأذان مرة، فاستفاق.
وداعٍ دعا إذ نحن بـ الخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائراً كان في صدري
قال: {الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم} ثم قال: {اغسلوني} فغسلوه من آثار الحمى، وكان جسمه حارٌ، حار، حتى وضع ابن مسعود يده على جسمه فنزعها، وقال: {يا رسول الله! إن بك حمى، قال: نعم، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، قال ابن مسعود: ذلك بأن لك الأجر مرتين، قال: نعم، ما من مؤمن يصيبه هم ولا غم ولا نصب ولا مرض حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه} فغسلوه بالقربة الأولى، فقام فأغمي عليه فسقط، والثانية حتى غسلوه بسبع قرب، فلما علم أن صلاة الجماعة سوف تفوته، قال: {مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس، قالت عائشة: يا رسول الله! مر عمر} وأبو بكر أبوها لكنها تريد عمر لئلا يتشاءم الناس بـ أبي بكر في أول صلاة، ويقولون: وجدناك وفقدنا ذاك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس إنكن لأنتن صويحبات يوسف} فأمروا أبا بكر فقام يصلي فتلعثم بالبكاء، وهو في الصلاة.(173/6)
آخر لقاء جماهيري مع الصحابة
واستمر به المرض عليه الصلاة والسلام، وكان آخر لقاء جماهيري مع الصحابة، هكذا يعنونون له أهل السير من المحدثين: خرج عليه الصلاة والسلام إلى المنبر، وقال لـ علي بن أبي طالب، وللفضل بن العباس، وللعباس: احملاني إلى الناس، فاتكأ عليهما وهو منصوب الرأس بعمامته، فجلس على المنبر أمام الناس، نظروا إليه ونظر إليهم، واشتد البكاء، وقام بجسده الشريف يتوكأ على خشب المنبر، وقال: أيها الناس: اللهم من ضربته، أو شتمته، أو لعنته، أو آذيته، فاجعلها رحمةً عندك له.
أيها الناس: من أخذت من ماله، فليقتص من مالي، ومن ضربت جسمه، فهذا جسمي فليقتص مني اليوم قبل ألا يكون درهمٌ ولا دينار، فوقف عكاشة بن محصن الأسدي أمام الناس، فقال: يا رسول الله! ما دام أنك طلبت القصاص فأريد أن أقتص منك! قال: وما ذاك؟! قال: يوم كنا يوم بدرٍ وأنت تسوي الصفوف طعنتني بعصا كانت في يدك في خاصرتي، أريد أن أقتص منك اليوم، فقام علي بن أبي طالب فقال: أنا فيَّ القصاص.
فداً لك من يقصر عن مداكا فلا ملك إذاً إلا فداكا
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
إذا اشتبكت دموع في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى
من هو الذي يقف أمام الناس، وهو زعيم الدنيا، فيعرض جسمه للضرب وللقصاص من الرعية، فقال عليه الصلاة والسلام: لا، بل يقتص مني، فأرسلوا للعصا التي كانت معه في بدر فأتي بها، ورفعها عكاشة في يده، وارتفع صوت البكاء في المسجد! أصحابي يضرب جسم النبي عليه الصلاة والسلام في مرض الموت؟! فألقى عكاشة العصا من يده، ثم تقدم فضم الجسم الشريف، ومرغ شيبته في الجسم الطاهر، وبكى بكاءً، وهو يقول: جسمي لجسمك الفداء، ونزل عليه الصلاة والسلام والدموع من كل تحفه، في أحرج ساعة مرت بالأمة الإسلامية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويدخل بيته قبل الموت بيومين، ويشتد عليه المرض عليه الصلاة والسلام، ويوصي الناس بتبليغ دينه للناس: {بلغوا عني ولو آية نضَّر الله امرأً سمع مني مقالة، فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مُبلِّغ أوعى من سامع}.(173/7)
قبل الموت بيوم واحد
وفي اليوم الأخير أعتق عليه الصلاة والسلام مواليه، وبحث عن ماله في ميزانيته فوجد سبعة دنانير، ليس إلا هي عنده تسع نسوة، والأمة تحت يده، وجبال الدنيا تعرض له أن تُسير ذهباً وفضةً، ويموت عن سبعة دنانير، فيتصدقها في سبيل الله، ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعاً من شعير كانت عند يهودي من يهود قاتلهم الله.
انظر الخسة والحقارة! {أتى عليه الصلاة والسلام إلى اليهودي، فقال: بعني شعيراً لأهلي - سبحان الله! هذا النبي الذي عرض عليه ملك الجبال، مفاتيح الجبال أن يسيرها الله ذهباً، فيقول: لا، أشبع يوماً، وأجوع يوماً حتى ألقى الله -ثم يأتي إلى يهودي ويستدين منه ثلاثين صاعاً من شعير، فيقول لليهودي: أعطني ثلاثين صاعاً، قال اليهودي: لا أعطيك إلا برهن، قال: ما عندي ما أرهنك إياه، قال: درعك الذي عليك، قال: هذا درعي} فرهنه الدرع، وما فك الدرع إلا عليٌ بعد موته عليه الصلاة والسلام.(173/8)
الميراث وتوزيع التركة
يموت عليه الصلاة والسلام، ويبحث عن بيوته؛ فإذا هي غرفٌ لا يتجاوز طول الواحدة ثلاثة أمتار.
قال الحسن البصري: دخلت غرفته عليه الصلاة والسلام، فمددت يدي فوصلت يدي سقف الغرفة، سقفها جريد النخل.
كفاك عن كل قصرٍ شاهقٍ عمدِ بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدةً نصب الخيام التي من أروع الخيم
وما هو فراشه؟ خزف النخل، فراش واحد، إذا اشتد من الشمس والسواد غسل بالماء وصلى عليه ووسادته أدمٌ حشوها ليف، إذا نام أثرت في جنبه الشريف.
في بيته شيء من شعير من الثلاثين صاعاً معلقة في قطعة قماش عند سقف المنزل، فأين الميراث؟! يقول عليه الصلاة والسلام: {إنا نحن معشر الأنبياء لا نُورَث، ما تركناه صدقة} وزع أمواله في الناس.
أتت فاطمة إلى أبي بكر، فقالت: أعطني ميراثي من مال أبي، قال أبو بكر: لا، يقول عليه الصلاة والسلام: {لا نورث، ما تركناه صدقة} وصدق أبو بكر، وبر أبو بكر، ونصح أبو بكر، لم يوجد شيء تماماً خلفه عليه الصلاة والسلام إلا هذه البذلة، وسيف قاتل به في سبيل الله، فبحثوا في البيت فلم يجدوا شيئاً، وأتوا إليه عليه الصلاة والسلام وهو في آخر رمق من الحياة.(173/9)
ساعة التوديع ووحشة الفراق
وفي آخر ساعة كان في حضن عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وهو يذكر الله، وكانت ترقيه عليه الصلاة والسلام بيديه؛ لأنها أشرف وأبرك، فكانت تأخذ يديه وتنفث، وتقرأ المعوذات، وتمسح جسمه، وكانت يديه من شدة المرض مسفودتان منهوكتان.
دخل أخوها عبد الرحمن وفي فمه سواك من أراك، فأبدَّه صلى الله عليه وسلم نظره، وكأن عينيه تتحدثان تطلبان السواك، فعرفت عائشة، ودعت بالسواك فقضمته وسلمته إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فاستاك بيده كأشد ما يستاك في الحياة الدنيا، ثم رد السواك، أخذت تقول: عافاك الله، شافاك الله، أزال الله ضرك، فنزع يده مغضباً من يدها، وهو يقول: {بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى} أي: لا أريد الحياة، أريد أن أموت اليوم.
ومن لقاء الله قد أحبا كان له الله أشد حب
وعكسه الكاره فالله اسألِ رحمته فضلاً ولا تتكلِ
ثم يتمتم عليه الصلاة والسلام ويقول: {مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، ثم قال: لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ثم رفع طرفه، وقال: اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد}.(173/10)
سكرات الموت والانتقال
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعل الردى مما نرجيه أقرب
وصل عليه الصلاة والسلام إلى لحظة سوف نصل إليها جميعاً، ولا يبرأ منها أحد، وصل إلى درجة أن يموت كما يموت الناس، فأخذ خميصة كانت أمامه، أي: قطعة قماش- وبلها بالماء، وغطى بها وجهه الشريف، وهو يقول: {لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، لا إله إلا الله، اللهم هوِّن عليَّ سكرات الموت، لا إله الله إلا الله، اللهم خفف عليَّ سكرات الموت} ثم مات.
قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] مات، فأين ميراثه؟ وأين تركته؟ أنا وأنت، وأبي وأبيك من تركته! المساجد ملايين المساجد في العالم ملايين العلماء ملايين الشهداء ملايين الصالحين كلهم من تركته! الوحي، المسيرة، الجيل، الشعوب الإسلامية، النور، كلهم من تركته! خلف رسالة طوقت ثلاثة أرباع الكرة الأرضية!
لا يعلم في تاريخ الإنسان، ولا في حياة الشعوب مؤثراً أعظم منه عليه الصلاة والسلام!! ومع ذلك هذه تركته، كأفقر فقراء هذا العصر، بل لا يوجد في هذا العصر -في علمي- في بعض البلاد أكثر فقراً مما كان عليه صلى الله عليه وسلم! لم يشبع ثلاث ليال متوالية من خبز الشعير، فأين ميراثه؟! الرسالة الخالدة، قال عليه الصلاة والسلام: {إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر}.
أسأل الله أن يجمعنا به في دار الكرامة، وأن يلهمنا اتباع سنته، وأن يجعلنا سائرين على منهجه، وأن يعصمنا بشريعته.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(173/11)
مصيبة موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أيها الناس: يموت البشر من الزعماء والقادة والرؤساء، فتقوم الدنيا وتقعد من أجل موتهم، إما مجاملة، وإما استخذاءً، وإما جهالةً بحالهم، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام ليس كالناس، مات فكادت قلوب الصحابة تتفطر، وجعلوا أعظم المصائب مصيبة موته عليه الصلاة والسلام، وقال قائلهم:
وإذا أتتك من الأمور بليةٌ فاذكر مصابك بالنبي محمد
فأعظم مصيبة مرت بالعالم الإسلامي موته عليه الصلاة والسلام، فما وَقْع الخبر على الصحابة؟
كيف تلقوا نبأ موته صلى الله عليه وسلم؟
بينما هو الذي يسكن في قلوبهم، ويعيش في ضمائرهم، وينام في أجفانهم، وإذا به يموت.
بينما يخطب بهم يوم الجمعة، ويصلي بهم، ويعلمهم، ويهديهم، ويرشدهم، ويوجههم، وإذا هو يموت.
بينما هو يقف مع الطفل، ويحمل متاع العجوز، وتوقفه المرأة في حرارة الشمس، ويقضي حاجة الفقير فإذا هو يموت
بينما هو يطعمهم قبل أن يطعم، ويسقيهم قبل أن يشرب، ويسهر ليناموا، ويتعب ليرتاحوا، إذا هو يموت، فكيف الخبر؟
ما هو وقْعُه? وما مدى تأثيره؟(173/12)
أثر خبر موته عليه الصلاة والسلام على الصحابة
اسمع! سمع الصحابة الخبر، فاجتمعوا جميعاً حول المسجد، فاختلطت أصوات النساء بالرجال وبالأطفال من البكاء، فأصبح زعماء المعارك، وقادة ميادين المعركة، وحملة الألوية؛ يخورون كما تخور الأطفال، خالد وسعد وطلحة والزبير، الذي كل إنسان منهم تاريخ انهد تماماً!
وقف عمر، فما استطاع أن يقف على قدميه وسقط بين الرجال.
اجتمعوا حول المسجد، كأنهم غمامةٌ تدور، وفي بكاء رهيب يتسلون بالصبر.
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر
توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغلٍ عن السفر السفر
فتى كلما فاضت عيون قبيلة دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر
قام عمر، وأبو بكر كان غائباً لم يدر بالخبر إلى الآن أبو بكر في مزرعته في عوالي المدينة كان عنده مزرعة نخل يغرس هناك بمسحاته، وهو الصديق الأكبر لم يدر بالخبر! قام عمر على المنبر، فسل سيفه، وبيته صلى الله عليه وسلم مغلق على الجثمان الشريف، فقال: يا معشر الناس! من زعم منكم أن محمداً قد مات ذبحته بهذا السيف.
إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يمت، وإنما رفع إلى السماء كما رفع بعيسى، وسوف يمكث أربعين ليلة، ثم يأتي، هذا رأي عمر، وهذه وجهة نظره في الحادث، ثم نزل عمر مع الناس يجول بسيفه، ليستمع من الذي يقول: مات الرسول عليه الصلاة والسلام، فيذبحه كما يذبح الشاة، وسار الخبر إلى أبي بكر الصديق، فركب فرسه، قالوا: مات الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: الله المستعان، وكان رجلاً رشيداً عاقلاً فصيحاً حكيماً، ولذلك اختاره عليه الصلاة والسلام ليكون رجل الساعة -ساعة الصفر ليكون الخليفة بعده- فأتى وإذا بسكك المدينة مطمورة بالأوادم، وإذا الأطفال والنساء يموجون كالغمام حول المسجد؛ فسكت الناس بعصاه، ولم يتكلم بكلمة، وأخذ يستغفر ويسبح في ثبات، وشق الصفوف على فرسه، ثم نزل وهبط من على الفرس، ودخل البيت ففتحه، وأتى إلى الجثمان الشريف إلى الوجه الطاهر إلى البدن العامر؛ فكشف الغطاء عن وجه الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم بكى، وقال: [[ما أطيبك حياً، وما أطيبك ميتاً، أما الموتة التي قد كتبت عليك فقد ذقتها، ولكن والله لا تموت بعدها أبداً]] ثم قبله ودموعه تخر من على لحيته إلى جبين محمد عليه الصلاة والسلام، وهو يمسح الدموع، يمسح الدموع بيده ويقبل مكان الدموع، ثم يخرج إلى الناس، وعمر يتكلم وهو هائجٌ كالأسد، قال: اسكت يا عمر! اسكت يا عمر! اسكت يا عمر!
فدلف أبو بكر بعصاه، وتوكأ عليها، وقال: [[أيها الناس: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت]] فسقط عمر من على المنبر على وجهه، علم أنه مات! وأتوا بالماء فرشوا عمر على رأسه، فقام ودموعه تنهار على لحيته، ثم أخذ أبو بكر يتحدث، ويقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] ثم دعا بعد ذلك، وذهب بهدوء، وسكت الناس، ورجعت لهم السكينة، وهدأت الضمائر، وأخبرهم أبو بكر أن هناك رباً فوق سبع سماوات لم يمت، وأنه حيٌ قيومٌ، وأنه هو الذي يعُبد، أما الناس فيموتون ويولدون، ويغنون ويفتقرون، ويذهبون ويأتون، ومحمد عليه الصلاة والسلام من هذا البشر الذي كتب الله عليه الموت.(173/13)
غسله والصلاة عليه ودفنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال الصحابة: يا أبا بكر! نختار للرسول عليه الصلاة والسلام قبراً في ناحية من نواحي المدينة، قال أبو بكر: لا.
سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض} فادفنوه مكانه، فكشفوا الفراش الرخيص، الفراش المتقشف، رفعوا الفراش وحفروا الأرض، وكان الحافر أبو طلحة، ألحد لحداً، فلما عمقوا اللحد سمعت أصوات المساح، وبكاء النساء وراء الحجب، ثم أتوا لتغسيل الجثمان الشريف، فقال النفر منهم علي والعباس: لا ندري هل نجرد الرسول عليه الصلاة والسلام من ثيابه، أو نغسله من فوق الثياب، فألقى الله عليهم النوم فناموا قليلاً وكانوا ستة أو سبعة، فسمعوا قائلاً يقول: اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوق ثيابه، فأخذوا يغسلونه ويرشونه بالماء من فوق ثيابه.
وعند البيهقي أنه عليه الصلاة والسلام قال وهو في مرض موته: {إذا مت وغسلتموني وكفنتموني فضعوني على شفير القبر ساعة، فانتظروا ساعة، فإن ربي سوف يصلي علي} أي: إذا وضع على شفير القبر، وعلى طرف القبر، فلا يصلون عليه؛ بل ينتظرون ساعة، فإن الرحمن الرحيم الذي على العرش استوى سوف يصلي عليه.
أي عظمة! وأي تاريخ! وأي عطاء: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] هل فوق أن يصلي عليه -عليه الصلاة والسلام- ربه عطاء ? قال: {فإذا انتظرتم ساعة، فانتظروا ساعة أخرى، فإن ملائكة ربي سوف تصلي عليَّ، فإذا انتظرتم هذه الساعة، فصلوا علي زرافات ووحدانا، وليصلِّ عليَّ أحدكم في أي مكان، فإن صلاتكم سوف تبلغني، قالوا: يا رسول الله! كيف تبلغك صلاتنا وقد أرمت؟ -أي: بليت- قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} فلما وضعوه على شفير القبر بعد أن كفنوه، وأخذت روائح الطيب تعج وتضج في المدينة من جسمه الشريف، وقفوا ساعة، ثم وقفوا أخرى، ثم تقدموا يصلون بلا إمام على الصحيح من أقوال أهل العلم، أبو بكر معه فرقة، وعمر معه أناس، والنساء والأطفال والأعراب.
قال الشوكاني: " صلّى عليه صلى الله عليه وسلم ما يقارب واحداً وثلاثين ألفاً، ودفن عليه الصلاة والسلام ".
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
يا خير من دفنت القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم(173/14)
ماذا بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
وذهب ولكنه ما ذهب! أين يذهب وهو يعيش في أبصارنا وأسماعنا، وقلوبنا، وضمائرنا؟!
أين يذهب! وقد ترك لنا الحرمين والكتابين والقبلتين والبيعتين والعقبتين؟!
أين يذهب، ونحن نصلي فنتذكر قوله: {صلوا كما رأيتموني أصلي}؟!
أين يذهب، ونحن نحج فنسمع قوله معنا في كل مكان: {خذوا عني مناسككم}؟!
أين يذهب، وهو يعيش معنا في تقليم الأظافر بسنته، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، في تقصير الثوب، والخلق، والتعامل، والصدق، والأمانة، والوضوح، والبر، والعطاء، والعفاف، والزهد، والورع فأين يذهب?
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا التاريخ أنت المحرر
تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر
قال الله عَزَّ وَجَلَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].(173/15)
حقوقه علينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حقوقه علينا أربعة:
أولاً: أن نكثر من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أن نعمل بسنته في كل جزئية من جزئيات الحياة، قال عَزَّ وَجَلَ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء:65].
ثالثاً: أن ننشر دعوته للناس، فنتكلم بها في كل مجلس، وفي كل منتدى.
رابعاً: أن نحبه حباً يملك علينا أشواقنا ودموعنا وهمومنا، ويزيل عنا غمومنا، أشد حباً من حب الأقزام للأقزام، والعبيد للأصنام، والعبيد للسادة، أشد مما يحبه الثوريون الخونة لساداتهم الخونة والوطنيون الضائعون لساداتهم الضائعين، شباب الثورة العقيمة، والطليعة الوخيمة، والبعث السقيم، والعلمانية الفاشلة.
وأن نحب ذاك أعظم من حب هؤلاء لزعمائهم، زعماء الدمار والعار، والذبح والاستعباد والاستخذا، والهلاك والتبجح، أما ذاك فحقه علينا أن يسري حبه في الدم، في كل ذرة.
طه إذا ثار إنشادي فإن أبي حسان أخباره في الشعر أخباري
يا صاحب المثل العليا وهل حملت روح الرسالات إلا روح مختار
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه الأطهار الأبرار، واجمعنا بهم في دار الكرامة، اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم إلى ما تحبه وترضاه.
اللهم اهدنا سبلنا، ووفقنا لكل خير، اللهم ولي علينا خيارنا!
اللهم تقبل منا حجنا وعمرتنا وأعمالنا، وكفر عنا سيئاتنا، اللهم ألحقنا برسولنا في مقعد صدق عند مليك مقتدر، اللهم بلغنا شفاعته، وثبتنا على رسالته، واسقنا من حوضه شربةً لا نظمأ بعدها أبداً، وأرنا وجهه، وأجلسنا بجانبه، وبلِّغنا منازلنا في عليين يا رب العالمين!
اللهم رد شباب الإسلام إليك رداً جميلاً! اللهم اجعلهم حملةً للرسالة، حفاظاً للعقيدة، أمناء على المبادئ.
اللهم بلغهم ما يريدون من الخير والبر والتقوى، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(173/16)
العلماء ما لهم وما عليهم
تحدث الشيخ عن فضل العلم والعلماء، وعن حق العلماء على الأمة، وحق الأمة على العلماء، فبين أهمية العلم ورفعته، ومكانة العالم، وطاعة العلماء، وبعض آفات العلم.
وفصل القول فيما يجب للعلماء وما يجب عليهم، وذكر أن علماء بني إسرائيل لم يقوموا بالوفاء بهذه الحقوق، وكان من نتائج ذلك التحريف في شريعتهم.(174/1)
فضل العلم والعلماء
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وحياكم الله يا طلعات الإيمان، ويا أهل الفضل، ويا أهل التوحيد، ويا أهل الحب والطموح.
إن حضوركم هذا تأييد للدعوة، ونصرة للإسلام، وحضور تكريم للوافدين إليكم:
أصح وأعلى ما سمعناه في الندى من الأثر المعروف منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيا عن الغيث عن كف الأمير تميمِ
وأشكر إمام هذا المسجد الشيخ عبد الله السميعي، وأشكر جماعة المسجد، وأشكر كل من حضر وسمع وشارك بقلبه مسيرة العودة إلى الله عزوجل.
عنوان المحاضرة: العلماء مالهم وما عليهم، وما أتيت هذه الليلة لأسرد عليكم النصوص في فضل العلم والعلماء، فهي معروفة لديكم، لكني أتيتكم في هذه الساعة، وفي هذه الأيام، وفي هذا الوقت الحرج بالذات؛ لكي نقف جميعاً، يقف العلماء في صف، ونقف نحن شباب الصحوة في صف، ونرى ما هي الحقوق التي تلزمنا للعلماء فنؤديها.
دينٌ لعينك عندي ما وفيت به يا طالما كذبت عيني عيناكِ
ونقف أمام العلماء لنسألهم حقوقنا، نحن لنا حقوق وديون على العلماء، لكن بعد أن نسلمهم حقوقهم؛ نأخذ حقوقنا، ثم ننفصل في مجلس المصالحة، و {البيعان بالخيار ما لم يتفرقا} فإذا تفرقا فقد وجب البيع.
عناصر هذه المحاضرة ثلاثة:
أولها: فضل العلم والعلماء.
الثاني: ما هو حق العلماء على الأمة.
الثالث: ما هو حق الأمة على العلماء.
أما فضل العلم: فيكفي من ذلك قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: [[كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وكفى بالجهل مذلةً أن يتبرأ منه من هو فيه]].
العلم يدعيه كل إنسان، جهلة يدعون أنهم علماء، لشرف العلم، وقال ابن عبد البر: ومن أحسن الكلام ما قال علي بن أبي طالب: [[قيمة كل امرئٍ ما يحسنه]]؛ فقيمتك المعلومات التي في ذهنك إذا اتقيت الله وعملت بها، وقيمة المرء ليست بجسمه ولا بوزنه ولا بلحمه ولا بشحمه إنما هي بالفضل الذي يحمله، وبالمواثيق التي لله عليه إذا عمل بها.
يقول سبحانه وهو يستشهد على ألوهيته: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] والشاهد هنا {َ أُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18] قال ابن كثير في تفسيره: وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام، وأيُّ خصوصية أن يجعلهم الله معه ومع ملائكته يشهدون بألوهيته، فلقد ميزهم عن الناس لفضلهم ولمكانتهم.
قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] بعدما ذكر الله الآيات الكونية، والشرعية، وذكر ما للعلماء من منزلة، قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ومفهوم المخالفة في الآية: أن غير العلماء لا يخشون الله.
ووجد في العلم التجريبي التكنولوجي، والعلم الطبيعي المادي، أن أكثر الناس عودة إلى الإسلام من نبغ في هذا العلم، الذين ألفوا كتاب: الله يتجلى في عصر العلم؛ من العلماء البارزين أسلموا وأعلنوا إسلامهم، وهم جماعة من الأمريكان، وكثير منهم أعلن إسلامه مثل: كريسي موريسون، وأظن أن أليكسيس كارل صاحب كتاب: الإنسان لا يقوم وحده أعلن إسلامه؛ لأنه تعمق في حياة الإنسان.(174/2)
العالم المثالي
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
والجواب مسكوت عنه، وتقديره: أنهم لا يستوون، وأن العلماء أفضل، والله يقول: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] لا يفهم الآيات البينات، ولا يعقل مقاصد الأمور ولا تأويل الحوادث إلا أهل العلم.
ويقول سبحانه: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] ثم يقول سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
ولسنا بحاجة يا شباب الصحوة! ويا أبطال التوحيد! ويا حملة الرسالة! لسنا بحاجة إلى أناس يحفظون النصوص، ثم لا يكون لها أثر في واقعهم، وحياتهم، وسلوكهم، وأمتهم، كما سيأتي في العناصر المقبلة إن شاء الله.
حاجتنا إلى عالم يمشي قرآناً على الأرض، يقول سبحانه للرسول عليه الصلاة والسلام، وهو في أول الطريق: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] قال البخاري في صحيحه: فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، أمة متعلمة.
هل العلم في الإسلام إلا فريضة وهل أمة سادت بغير التعلم
من الذي فتح منائر العقل؟!
من الذي خاطب الضمير بالعلم إلا محمد عليه الصلاة والسلام؟!
لما ثار الفرنسيون على الكنيسة عام (1887م)؛ كان سبب ذلك: أن الكنيسة كانت تحارب العلم، كانوا إذا اكتشف مكتشف علماً ذبحوه، أو اخترع مخترع جهازاً؛ قتلوه وشنقوه، وظنوا أن كل دين سوف يحارب العلم حتى الإسلام، ففصلوا بين الإسلام وحياة الناس، وهذا خطأ، والله عزوجل يقول للرسول عليه الصلاة والسلام: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] لم يطالبه بالتزود من شيء إلا من العلم.
هو العضب المهند ليس ينبو تصيب به مضارب من أردت
وكنزٌ لا تخاف عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث كنت
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددت
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ والإِيمَان} [القصص:80] يوجد في الساحة علم بلا إيمان، عندنا دكاترة يحملون رسالة الدكتوراه، لكن لا يصلون الفجر في جماعة!! وعندنا دكاترة قطعوا أرحامهم، ودكاترة استهزءوا بالدين، ودكاترة تهجموا على شباب الصحوة والملتزمين، ودكاترة تجرءوا على اقتحام الشريعة!! أين العلم؟!! {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] وقال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].
إذا ما لم يزدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا
وإن ألقاك فهمك في مهاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
مشيت القهقرى وخبطت عشوى لعمرك لو وصلت لما رجعتا
وإذا لم يصل الأستاذ إلى اليقين، كيف يستمر؟ ولذلك يقول الناظم:
لعلك يا أستاذ ما زرت أحمدا رسول الهدى المبعوث من خير هاشمِ
فوالله لو قد زرته الدهر مرة لما كنت نهباً للقصور القشاعمِ
لما انفصل العلم عن الإيمان، صار العلم طاغوتاً يُعبد من دون الله.
نشرت جريدة الهدف قبل اجتياح الكويت في افتتاحيتها مقالاً تقول: امرأة فنزولية تلد كلباً، ووجد أنه صحيح، عقموا المرأة بمني كلب!! وهل هذا يجوز في الإسلام؟
إنه حرام بالإجماع!! لكنهم ما سألوا الإيمان، عندهم علم، فاخترعوا وتطورا وتقدموا لكن ما ضبطوه بالإيمان، والله تعالى يشترط في العالم أن يكون مؤمناً: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ} [الروم:56].(174/3)
غيث الرسالة
أيها الفضلاء! يقول عليه الصلاة والسلام، وهو يصف رسالته، ودعوته، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث}.
أي أسلوب؟! وأي فصاحة؟! وأي إبداع؟!
قال: الهدى والعلم، لماذا؟
أليس العلم هدى؟
بلى.
أليس الهدى علم؟
بلى.
لماذا فصل العلم عن الهدى؟
لأن العلم هو العلم النافع كما قال ابن تيمية، والعمل: هو العمل الصالح.
{كمثل الغيث} وقال الغيث لمعنيين:
الأول: أن الغيث صافٍ من السماء، ينزل على القلوب.
والثاني: أن الغيث فيه غوثٌ للأرواح، فرسالته عليه الصلاة والسلام كالغيث للأرواح.
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ
أنا وأنت، وأبي وأبوك، وجدي وجدك، كنا رعاة إبل وغنم، حتى أتى محمدٌ عليه الصلاة والسلام، فقال: استيقظوا فاستيقظنا، وقال: افتحوا الدنيا بلا إله إلا الله فكبرنا وفتحنا بالعلم، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولكن فجر حصائل العقول بمفاتيح العلم، فسرت في غياهب الدياجير تبني بدوراً في سماء الفضل.
وفي الصحيح عن معاوية رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} ومفهوم المخالفة، وهو ليس حجة عند الأحناف، لكن مفهوم المخالفة حجة عند الجمهور: أن من لم يرد الله به خيراً لا يفقهه في الدين.
أنت الآن تجد العلمانيين عنده شهادة دكتوراه في هندسة التربة، وعنده دكتوراه في مرض الدوسنتاريا في البقر، وعنده دكتوراه في السرطان في الحمير، لكن لا يعرف الوضوء ولا التيمم ولا المسح على الخفين، لماذا؟
لأن الله ما أراد به خيراً، فهو يفقه كل شيء إلا الإسلام، موسوعةٌ في كل شيء إلا في صحيح البخاري وصحيح مسلم والفقه والتفسير؛ لأنه يعلم علماً ظاهراً ولا يعلم علماً باطناً.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر}.
يا أيها الإخوة! ما هو ميراثه عليه الصلاة والسلام؟ أين قصوره؟ أين دوره؟
كفاك عن كل قصرٍ شاهق عمد بيتٌ من الطين أو كهفٌ من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدةً نصب الخيام التي من أروع الخيم
إذا ملوك الورى صفوا موائدهم على شهيٍ من الأكلات والأدم
صففت مائدة للروح مطعمها عذبٌ من الذكر أو هديٌ من الكلم
نقف وهذه الليلة الخالدة نحن والعلماء أمام الله، ثم أمام الناس، ثم أمام البلاد، لنسألهم هل أنقصنا من حقهم شيئاً؟
ونسأل حقنا عندهم؟ ولعل الله أن يؤلف بين الشبيبة والرواد، وبين الرواد والشبيبة ليصلح الحال.(174/4)
رفعة منزلة العلماء
والعلم من فضله يرفع الفقير، ويعلي المسكين، ويجعل المولى سيداً، فهذا عطاء بن أبي رباح مفتي الدنيا، نادى سليمان بن عبد الملك: لا يفتي في المواسم إلا عطاء بن أبي رباح؛ كان عبداً، أشلَّ، أفطس، ضعيف البنية، هزيلاً، أحنف، لكن حمل علماً! فكان الخلفاء والأمراء يأخذون طريقهم في الدور ليسألوه سؤالاً.
وكان ابن أبي الجعد مولىً عند سيده، فأعتقه، وقال له سيده: ما أعتقتك حباً فيك، لكنك لا تحسن تجارة، ولا نساجةً، ولا خشابةً، فعليك بالعلم، قال: فطلبت العلم، فاستأذن عليَّ أمير المدينة أن يزورني بعد سنة فما أذنت له.
كان مشغولاً، طرق عليه الباب أن يأذن له، فما أذن له.
لماذا رُصِدَ لـ ابن تيمية هذا الرصد العالمي الهائل، فقد ألف فيه أكثر من أربعين كتاباً من الغرب، أما الشرق فمئات الكتب، لماذا رصد له؟ ألمنصبه؟
لا.
ليس معه منصب! ما تولى ابن تيمية منصباً أبداً.
ألتجارته؟
ما عنده إلا ثوب وكسرة خبز.
ألأسرته؟
لا.
أسرته لا تستطيع تحميه.
لكن للعلم الذي حمله، وللعمل الذي قام به، والإنتاج الهائل الذي قدمه للأمة عليه رضوان الله.
تقدم شاعراً فيهم خطيباً ولولاه لما ركبوا وراءه
هذه بعض اللمحات.
يسجن الإمام أحمد من أجل فتنة القول بخلق القرآن، يأبى ذلك ويرفض فتبقى الأمة في الشوارع وتملأ سكك بغداد.
يقول الخليفة للناس: ادخلوا البيوت؟
قالوا: لا ندخل البيوت والإمام أحمد في السجن.
قال: أنصتوا؟
قالوا: لا ننصت حتى نسمع أحمد.
أخرج المعتصم جيشاً يطوقُ الطرقات، وأعلن حالة استنفار في جيشه الذي حطم به الروم، وهزم به أهل عمورية، وأحرق المدن، يريد أن يطوق هذا الهيجان الإيماني فيأبون، يقولون: نريد أن نسمع كلام أحمد أولاً.
يا عباد الله! قالوا: عباد الله حتى نسمع كلام أحمد، فيقول أحمد الكلمة فتخرج الأمة معه، وينتصر الحق، ويثبت المنهج الرباني، ويكون الرصيد العالمي للإمام أحمد أنه رجل عامة، كما سأذكر ذلك إن شاء الله.
يقول الشاطبي في الاعتصام: وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا.
فهم أهل الاجتهاد، وهم أولو الأمر، وهم أهل الريادة والقيادة العلمية، ولا عبرة بغيرهم.
وقال ابن تيمية في كتاب الفتاوى (4/ 97): وعيب المنافقين للعلماء -كالعلمانيين- بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قديم، من زمن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أهل العلم، فكانوا يقولون: هم الأبدال لأنهم أبدال الأنبياء وقائمون مقامهم.
وهناك حديثٌ في الأبدال لكني إلى الآن أتتبع طرقه ولم أرَ أنه صحيحٌ ولو أن بعض المحدثين المتأخرين يصححونه، لكن الأبدال هم أبدال الأنبياء الذين يخلفونهم في حمل الرسالة، وحمل العقيدة، وتقديمها للأمة هؤلاء هم الأبدال.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 9): فقهاء الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء؛ بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب.(174/5)
طاعة العلماء
أيها الأحباب! هذه مكانة العلماء، أن يطاعوا بأمر الله، إذا قالوا نفذ أمرهم، لكن إذا قالوا عن الكتاب والسنة لا بآرائهم، إذا اتقوا الله، إذا قالوا كلمة الحق، إذا تقدموا وأنكروا المنكر، حينها لزم على الأمة أن تطيعهم في طاعة الله.
وقال الشافعي في الرسالة: فإن من أدرك علم أحكام الله تعالى في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريب، ونورت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] متى تكون إماماً؟
بم تنال الإمامة في الدين؟
بالصبر واليقين.
من تعلم وعمل فهو الرباني، {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79].
وقال البخاري في الصحيح: باب (انحسار العلم وقلة العلماء) وذكر انقباض العلم، وقال: كيف يقبض العلم؟ وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: [[أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خشيت اندراس العلم، وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً]].
ثم أورد حديث ابن عَمْرو الصحيح: {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا}.
أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(174/6)
آفات العلم
أيها الإخوة! هذا فضل العلم، ولكن تدخل على العلماء وعلى طلبة العلم آفات وأخطر الآفات ثلاث:
الكبر، الرياء، الحسد.
عقارب طلبة العلم، وحيات العلماء ثلاث:
الكبر، والرياء، والحسد، أعاذنا الله من ذلك.
أما الرياء: فقال الرسول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {من راءى راءى الله به، ومن سَمَّعَ سَمَّعّ الله به} {أول من تسعر بهم النار ثلاثة، ومنهم: عالم تعلم العلم ليقال: عالم، وقد قيل، قال: فخذوه إلى النار}.
وهذه آفة، لا يدركها إلا الفطناء من المخلصين، وهي خطورة عظيمة تتصدى لطلبة العلم، وتقف لهم بالمرصاد.
المسألة الثانية: الكبر.
والكبر آفة عظيمة، ومن تكبر على الله وضعه، وحقيقٌ بمن حمل الكبر أن يذله الله عزوجل، وألا يجعل له قبولاً، وإنه مزرٍ مزرٍ ولكن بالعلماء أزرى وأزرى.
والعالم إذا تكبر، وقبض جبينه، وتكبر على عباد الله، وارتفع عليهم، انسلخت محبته من القلوب، وذهبت بشاشته وملاحته، وما أحبته الأرواح، وما انقاد له الناس، وأصبح مبغوضاً في أوساطهم، وهذه سنة الله في المتكبرين.
يقول أحد الشعراء في المتكبرين:
وجوههم من سواد الكبر عابسةٌ كأنما أُوردوا غصباً إلى النار
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً أهدوك من نورهم ما يتحف الساري
تروى وتشبع من سيماء طلعتهم بذكرهم ذكروك الواحد الباري
قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس عن هذه الآفات، وعن أصحاب الحديث: إن بعضهم يقدح في بعض؛ طلباً للتشفي، ويخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل، الذي استعمله القدماء في هذه الأمة للذب عن شرع الله، والله أعلم بالمقاصد.
أكثر غيبتنا الآن في الجرح والتعديل، تغتاب فلاناً فأقول: استغفر الله، فيقول: ليس قصدي أن أغتابه، إنما قصدي أن أخبر الناس به، الحاج موسى وموسى الحاج، أنت ما قصدت إلا غيبته، بل بعض الاستغفار والدعاء غيبة، كما إذا ذكر لك رجل، وقال: ما رأيك في فلان؟ فتقول: استغفر الله.
فهل تستغفر من الذنب؟! إنك تطعنه بالخنجر من الاستغفار، وهذا عيب على طريقة الذاكرين.
ومنها: الغيبة إذا ذكر لك رجل، قلت: هداه الله، وما قصدك الدعاء لكنك تقصد شيئاً فطلبت الدعاء له، وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام في منشور من الفتاوى موجود.
وذكر الغزالي في الإحياء: عن الحسن قال: (عقوبة العلماء موت القلب).
نعوذ بالله من موت القلب، وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة، إظهار التزهد وهو يريد أن يجمع الدنيا، ويستولي على المناصب، ويجمع الدنانير والدراهم، وأن يترك رسالته.
عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى ومن يشتري دنياه بالدين أعجب
وأعجب من هذين من باع دينه بدنيا سواه فهو من ذين أعجب
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176].
نزلت هذه الآيات في عالم من بني إسرائيل، وهذا قياسٌ يطرد في كل عالم ترك منهج الله، وترك الدعوة إلى الله، وأخلد إلى حطام الدنيا، وكتم علمه، ولم ينكر المنكر، ينسلخ من قداسة العلم، ومن شرعية الكلمة، فللكلمة شرعية.
لكن لا يحملها إلا العلماء، شرعية الكلمة، متى يقول، فيسمع له، إذا حمل جلباب العلم، وكأس العلم، وسيف العلم.
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر (ص:442): (وينضاف إليه مع الجهل بها -أي: بالسنن- حب الرياسة، وإيثار الغلبة في الجدل، فتزيد قسوة القلب): {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا} [المائدة:13].
أيها الفضلاء! ولكن يبقى في بعض الناس رقة، وخير وفضل، ويبقى في أهل العلم بقية؛ هم أهل الصدارة والريادة.
قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 174): (وددت لو أن جسمي قرظ بالمقاريظ، وأن الخلق كلهم أطاعوا الله عز وجل).
يقول: يا ليت جسمي قطع تقطيعاً وأن الخلق أطاعوا الله!
يا ليتني قدمت جسمي فداءً لهذه الأمة وأنهم أطاعوا الله.
قال: (فعرض قوله على بعض المتقدمين) فقال: (إن كان أراد بذلك النصيحة للخلق، وإلا فلا أدري، ثم غشي عليه) أغمي عليه من كثرة البكاء، ومن خطورة هذه الكلمة التي تدل على النصيحة وعلى الصدق.
وقد قرأت عن الإمام أحمد أنه قال: (يا ليت الله يجعلني فداءً لأمة محمد عليه الصلاة والسلام).
يقول: ليتني أفديهم، وبالفعل تقدم الإمام أحمد للسياط، وجلد، وعرض للسيف، ومع ذلك ما تزحزح من أجل رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن أجل أمة الرسول عليه الصلاة والسلام.
فتىً كلما فاضت عيون قبيلةٍ دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضر(174/7)
حق العلماء على الأمة
وحقوق العلماء على الأمة أربعة، وإليك التفصيل:(174/8)
الرد إليهم عند المسألة والتنازع
أما الرد إليهم: فأوجب الله علينا ذلك عند المسألة وعند التنازع، فقال: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
سمعت شاباً أفتاه بعض العلماء في مسألة في الجهاد، فقال: أنا لا أقبل فتوى هذا العالم.
قلت: لماذا؟
قال: لأنه لا يقبل فتوى القاعدين في شأن الجهاد، وإنما يقبل فيها فتوى المجاهدين.
قلت: يا أخي! ولماذا؟
قال: لأن هذا العالم يفتي وهو تحت المكيف، والمجاهدون يفتون وهم في الجبهة، فأنا أطلب فتوى المجاهد؛ لأنه في الجبهة، وأما فتاوى العالم القاعد تحت المكيف فأنا لا أطلب فتواه.
قلت: إن العلم لا يأتي بالمكيفات وغيرها، والفتوى ليست لقاعد ولا لمجاهد، الفتوى أوصلها الله وأسندها لأهل الذكر، وأهل الذكر إن كانوا في الجبهة سألناهم، وإن كانوا تحت المكيف سألناهم، والمكيف حلال بالإجماع وليس بحرام، والمكيف لا يدخل إلى تكييف العالم فيلغي علمه ونصوصه وإنما يبقى المكيف في الجدار، ويبقى قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، في رأس العالم {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] إما مجاهد أو غير مجاهد، قاعد أو غير قاعد، فلا علاقة لهذا بالفتوى، وإنما: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
فإذا أشكلت عليكم المسائل فعودوا إلى كبار العلماء، إلى طلبة العلم الأجلاء، إلى الدعاة الناصحين، إذا استطاعوا أن يفتوكم في ذلك، وإلا فمن هو أعلم وأعلم {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76].
يقول سبحانه: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83].
من الذين يستنبطونه؟
إنهم العلماء، لأنك تأتي بنص لعامي وعالم، فالعالم يدرك من جلالة ومقصد النص ما لا يدركه العامي:
وإن تَفُقِ الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
يقول المتنبي لـ سيف الدولة: (إذا كنت ذكياً وأنت من البشر، فإن المسك من دم الغزال، لكن ريحه مسك، يباع القليل من المسك بقناطير الذهب، ولكن كيلوات الدماء من دم الغزال لا يباع بدرهم).
وإن تَفُقِ الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
إذاًَ كيف نرد إليهم؟
إذا أشكلت علينا مشكلة، أو أتتنا أزمة، أو ألمَّ بنا حادث، هرعنا إلى العلماء، وقلنا: يا علماء الإسلام! يا أهل الحل والعقد! يا نجوم الأمة! هذه مسألة معضلة، أفتونا مأجورين فيها، فإنا نطلب فتواكم، فهذا واجبنا أن نرد إليهم.
ولقد رأيت بعض الناس يقول: أصبحت الثقة غير متبادلة، وعلينا أن نفتي أنفسنا الآن؛ لأن الموقف يتطلب شجاعة وحماساً، ولا يتطلب أن نعود إلى هؤلاء، لماذا؟
وهل الفتوى بالحماس والشجاعة؟!
أو بكبر الجسم والعضلات؟!
إنما الفتوى بالعلم، وكان الصحابة يتدافعون الفتيا خوفاً من الله، وفي أثر مرسل لا يصح مرفوعاً فيما أعلم: [[أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار]].
يقول أحد التابعين لبعض طلبة التابعين: [[والذي نفسي بيده إنكم تفتون في مسائل لو عرضت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر]] لكن ما بالك إذا كان الشاب في الخامسة عشر من عمره، يتربع، يناقش هيئة كبار العلماء في أكبر المسائل، ويقول: خالفوا الأدلة، الذي ظهرت لي بعد طول تأمّل.
كم عمرك حتى طال التأمل؟!
ومن أنت حين تقول: الذي ظهر لي بعد طول تأمل، والذي عليه ترجيحي وترجيح أصحابي، أن هذه المسألة كيت وكيت؟!
فالواجب الاحترام، وأهل العلم لهم تجربة، ولهم عقل، ولهم قدم، وسوف أبرر لماذا يكون لهم عقل وعلم، ثم نطالبهم بحقنا عليهم؟ لأن لنا عليهم حقوقاً.(174/9)
حماية أعراضهم
اعلموا -رحمكم الله- أن لحوم العلماء مسمومة، وأن عادة الله فيمن تَنَقَّصَهم معلومة، وأن أسوار من استهزأ بهم مهدومة.
هذه كلمة قالها ابن عساكر.
فمن تَنَقَّص العلماء، وتعرض لهم: أذله الله، وأخزاه، وقمعه، وأنزل به كارثة أو نازلة، وهذا أمر معلوم.
بل التعرض للعلماء تعرض للإسلام مباشرة، وانتهاك قداسة العلماء انتهاك لقداسة الإسلام.
فحذارِ حذارِ! وإنما أنبه غيركم وأما أنتم فإنكم -إن شاء الله- لديكم من العلم والتقوى، والورع والوعي، ما تدركون ذلك، لكن إياك أعني واسمعي يا جارة.
يقول بعض المفسرين في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41].
قالوا: موت العلماء، أورده الشوكاني وغيره، موت العلماء نقصان الأرض من أطرافها، وموت عالم ثلمةٌ في الإسلام، وموت العالم زلزال في الأمة، وموت العالم جرح لا يندمل إلا بعالم آخر، وكانت الأمة إذا مات عالمها، بكوا كثيراً وحزنوا، وسألوا الله أن يبدله بمثله أو بخير منه.
ومعلوم أيها الإخوة! أنَّا عرفنا من الأشخاص من كان مذهبه التنقص في العلماء، فأصابه الله بخيبة، ولم يجعل له قبولاً، وصار عرضه منتهكاً عند شباب الإسلام، ولم يحفظ الله عليه عورته؛ لأنه لم يحفظ حرمة العلماء.(174/10)
عذر العلماء إذا أخطئوا
الثالث من حقوق العلماء على الأمة عذرهم إن أخطئوا في اجتهادهم.
أولاً أيها الأحباب! ليس العلماء معصومين، لأنه من عقيدة أهل السنة ليس معصوماً إلا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أما العالم فليس معصوماً، قد يخطئ وقد يذنب، تجوز عليه الكبائر في الجملة، ولكن قد يتوب منها، وقد يأتي بمسألة يظنها صحيحة وهي خطأ، ويأتي بوجهة نظر وهي متردية لا تساوي شيئاً، لكن لا تسقط عدالته ولا تذهب كلمته.
يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح كما ورد عن عمرو بن العاص: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد} فإذا اجتهد وبحث عن الأدلة، رأى دليلين في موطن التعارض، رأى من عمومات النصوص، وحاول أن يجتهد، لكنه أخطأ، فله أجر واحد لأنه أخطأ، وإن أصاب فله أجران؛ أجر الاجتهاد وأجر الصواب.
ولـ ابن تيمية رسالة بديعة اسمها: رفع الملام عن الأئمة الأعلام وقد عذر اختلاف أهل العلم في مسائل الفروع التي يختلف فيها، وفيها يجري الاجتهاد.
ومن أعذارهم:
أولاً: أن الدليل قد يبلغ هذا العالِم ولا يبلغ العالِم الآخر؛ فقد يكون وصلك الدليل لكن لم يصلني أنا، مثل: تحريك الإصبع، فأنا -مثلاً- لا أحرك إصبعي في الصلاة وأنت تحركها، فتسألني: لماذا لا تحرك إصبعك؟
أقول: ما وصلني الدليل، فهذا تَعَذَّر عليه، ولك أجر واحد أنك اجتهدت بحسب ما وجدت، ولا تبطل صلاتك، وتبقى المسائل الفرعية مختلفٌ فيها.
ثانياً: أن يكون الدليل عندك ثابتٌ وعندي منسوخ.
تقول: هذا الحديث لماذا لا تعمل به؟
أقول: منسوخ.
فلا تحمل عليَّ، ولا تشنع ولا تغضب عليَّ، فقد اجتهدت فأخطأت.
وثالثاً: أنه قد يكون عندك الحديث صحيحٌ، وعندي ضعيف؛ والتصحيح والتضعيف -يا أيها الفضلاء- أمرٌ اجتهادي، لك أن تصحح الحديث ولي أن أضعفه بطرقي الخاصة، ولذلك تجد حديثاً يصححه ابن حجر ويضعفه -مثلاً- من بعده كـ السخاوي -مثلاً- أو الألباني، ويصحح ابن تيمية حديثاً ويضعفه ابن القيم، فلا حرج والمسألة فيها سعة، إنما الصدق، والنصيحة، والإخلاص، والجد في طلب الدليل.
ورابعاً: أنك قد تفهم من الدليل ما لا أفهم أنا، مثل قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فهم الأحناف من هذه الآية: أنها تدخل فيها الثمار والحبوب والخضروات، فقالوا: في الخضروات زكاة، حتى الجرجير عند الأحناف فيه زكاة، والخس والبقدونس.
وقال الجمهور: لا.
وإنما فيما يحصد فقط؛ لأن الله يقول: {يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] والجرجير والخس والبقدونس لا تحصد.
فماذا نفعل؟! هل نضلل الأحناف؟
لا.
بل نقول: اجتهدوا فربما أخطئوا ولهم أجر واحد، والجمهور لهم أجران، وهكذا المسائل، ومن عَبَدَ الله على مذهب أبي حنيفة نجا بإذن الله، أو على مذهب مالك، أو على مذهب أحمد، أو على مذهب الشافعي، شريطة أن يبحث طالب العلم عن الدليل في أي مذهبٍ كان، ويعمل به، ويتمسك بدليل عن المعصوم، ولا يسعه إلا ذاك.(174/11)
ربط الشباب بالعلماء
الرابع: من حقوق العلماء على الأمة: ربط الشباب بهم.
فالفوضى لا تصلح، فوضى بدون قيادة فكرية علمية لا تصلح، كلٌ يخطب، وكلٌ يعمل، وكلٌ يوجه، وكلٌ يتحمس، لا.
لا بد من علماء للمسيرة:
لا يصلح القوم فوضى لا سراةَ لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والبيت لا يبتنى إلا بأعمدةٍ ولا عماد إذا لم تُرس أوتاد
الأوتاد: العلماء، نراجعهم، وللخطيب أن يعود إلى العالم قبل صلاة الجمعة، فيقول: أترى أن أخطب في هذا الموضوع؟
أترى أن أثير هذه المسألة؟
أترى أن أورد هذا الكلام؟
يسأله لأنه أكبر منه وأعلم وأفضل، وقد يمنحك الله بركةً على لسانه، ويجري حقاً على فمه، فيكون لك الحق فتعمل به وهكذا.
وإذا وسد الأمر إلى غير أهله، إذا تقلد الأمور العلمية أناسٌ جهلة، وقادوا الأمة إلى مهاوٍ ومزالق، وهم جهلة، وقد سبق معنا: {فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا} والله المستعان!.
نطالب أهل الفضل، وأهل العلم، وأهل السنة، أن يتقدموا المسيرة، ولا يتركوا الميدان للجهلاء السفهاء، من سفهة البغاة العلمانيين:
عذرت البدن إن هي قارعتني فما بالي وبال ابن اللبون
هذا البيت لـ جرير، ومعناه يقول: أنا أعذر أن يصارعني الجمل الهائج أما ابن اللبون، ابن سنة فلا أستطيع له، أنا لا أبارزه، وهذا أمر معلوم في الفِطَر والأحوال.(174/12)
حق الأمة على العلماء
وصلنا الآن إلى حقوقنا على العلماء، وأنا أقدمها هذه الليلة إلى العلماء حفظهم الله ورعاهم بصفتي من إخواني ومن زملائي المجتمعين في هذا الجمع الحافل، أرفعها بالدعاء والثناء والسلام والتحية إلى أصحاب الفضيلة علماء الأمة نطالبهم بها، علَّ الله أن يحفظهم ويرعاهم للأمة رواد خير وفضل.
أطالبهم بأربعة مطالب، وهي متحققة إن شاء الله في الكثير أو بعضها:
الأول: عدم الكتمان، نطالبهم ألا يكتموا الحق.
الثاني: ألا يقولوا على الله إلا الحق، لا يأتي أحد بافتراء على الله، لا يحكم بغير حكم الله، لا يأتوا بحكم ويقولون: هو من عند الله وما هو من عند الله.
الثالث: أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
الرابع: أن ينزلوا إلى الناس ويكونوا علماء عامه مع الأمة، في أوساط الأمة، في مجالس الأمة، في مساجد الأمة، يقودون الشبيبة، ويوجهون الأمة إلى مرضاة الله.(174/13)
عدم كتمان العلم
أما عدم الكتمان: فهو مطلب أساسي، والكتمان مصيبة، وكبيرة من الكبائر، نعوذ بالله من ذلك، فكتمان الحق جبن، وكتمان الحق انهزام في الشخصية، وكتمان الحق فشل، وعندما تصبح هذه الظاهرة عند العالِم تنتهي الأمة فلا تصدقه، ولا تثق به، ولا تنضوي تحت لوائه، ولا تذهب معه، ولا تشيد به، وتصبح الأمة بعيدة كل البعد عنه، كيف يكتم وعنده جوهر، وعنده وثيقة، وعنده نصوص في صدره؟!
يقول الله محذراً من الكتمان: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160].
ما هي بركة العلم؟
لماذا الكتمان؟!
ولماذا الخوف؟! {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] أي: يبلغون ما أنزل الله من الكلام رضي من رضي وسخط من سخط، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط، نحن لا نداري الناس بالعلم الذي نحمله، ولا نترضى أمزجة الناس، ولا نسترضي الناس بسخط الله، فإن عند ابن حبان مرفوعاً: {من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عليه وأرضى عليه الناس}.
وهذه سنة الله، والعالم يوم يرضي الله ولو سخط الناس، لكن سترضى عنه الأمة، ويرضى عنه الناس جميعاً.
يقول سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187].
والكتمان يعني: التغطية، إغلاق المعلومات في قدر من الضغط ثم القفل عليها، ففي وقت الحاجة تضطرب الأمة، فعندما تريد منه رأياً، وحكماً، يكتم ويسكت، تسأله: تكلم؟
أفتنا؟
قال: الحكمة الحكمة، إنها حكمة مدفونة، حكمة ميتة، نريد حكمة حية، لا نريد حكمة لم يفهمها أبو بكر، ولا عمر، ولا ابن تيمية، ولا العز بن عبد السلام، الحكمة: وضع الشيء في موضعه، وليس معناها: الموت! أو إماتة الحق! لا، هذه ليست مرادفة.
يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجامٍ من نار}.
علم أن الأمة تحتاج إلى مسألة، إلى مقولة، إلى خطبة، ولكنه كتم! يسألونه فيحوص من هنا ومن هنا، يأتي من فوق ومن تحت ومن يمين ومن شمال حتى لا يصل إلى المقصود كتماناً، هذا هو الخور، والأمة ليست بحاجة إلى هذا الصنف أبداً، ولا تجد الأمة لهم مكاناً في صفوفها، ولا استعداداً لتقبل كلام هذا الصنف، وقد أثبت التاريخ ذلك.
والكتمان أصيب به بنو إسرائيل، قال سبحانه: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:37].
قيل: أهل العلم، عندهم رسائل وعندهم آيات وأحاديث ولكنهم كتموها، وما أعطوها الأمة حتى وجد من بعض العلماء من يبخل على الشباب بدرس أو محاضرة، وكأنه ينفق عليك من جيبه ومن لحمه ودمه، وإذا ألقى كلاماً قطر بالقطارة عليك، كأنه يعد عليك الكلام عداً، هذا بخل بالعلم، والبخل بالعلم حرام.(174/14)
قول الحق ولو كان مراً
المسألة الثانية: ألا يقولوا على الله إلا الحق.
{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف:169] أما أخذنا عليهم الميثاق ألا يخافوا في الله لومة لائم؟!
ألم يؤخذ عليهم أن يقولوا كلمة الحق صريحةً هادئةً حكيمةً تصل القلوب؟!
الكلمة قوية، أقوى من شعاع الشمس، وأقوى من الذرة، والأمة تحتاج إلى كلمة العالم، يقولها في وقتها وفي مكانها، حينها يشكره الله، ويثيبه الله، ويرفع منزلته، وهذا واجب طلبة العلم، والدعاة، والأخيار، أن يقولوا كلمة الحق، لكن {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] بهدوء، وبصدق، وبإخلاص، ولا يكتم على الأمة كلمات الحق، ولا يخرس ألسنتهم، ولا يعكفوا في بيوتهم، لكن يصلوا إلى الحق بحكمة وهدوء وانضباط واتزان ليبلغوا دين الله، وينصروا هدفهم الذي هو إعلاء {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
أما أن يقول العلماني كلمته، ويبرز علينا من الشاشة، ويتكلم من الصحف والمجلات، ويستهزئ بالخيرين، ويكون جريئاً متحدياً، وإذا قلنا له: لا، قالوا: عليكم بالحكمة:
إذا عير الطائي بالبخل مادرٌ وعير قساً بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت كسيفة وقال الدجى للبدر وجهك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمةٌ ويا نفس جدي إن دهرك هازل
قُلْ كلمة الحق، ولو ذهب رأسك في كلمة الحق، لماذا أتباع برجنيف تسحق جماجمهم تحت الدبابات في أفغانستان؟!
لماذا أذناب شامير -إسرائيل- في سيناء تشدخ رءوسهم تحت المجنزرات، يريدون أن يثبتوا عقيدتهم وعقيدتنا التوحيد، لكن بلا طيش، ولا تهور، ولا عجلة، لكن حمل الواثق الذي يحمل مبادءه، ويؤديها في رسوخ، وفي ثقة، وفي حكمة، ويطالب بحقه الإسلامي الشرعي الذي فرضه الله.
أنا وأنت لو اعتدي على منزلنا وعلى أرضيتنا وسيارتنا، ما رضينا، نذابح أنا وأنت، ونقاتل، لكن الإسلام يُنْتَهَك، والمنكرات تفشو، والحدود تُنْتَهَك، ومع ذلك نفسي نفسي، لكن الله تعالى يقول: {أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف:169] والله تعالى يقول للعلماء وللدعاة ولطلبة العلم: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116] لا تحللوا المحرم، ولا تحرموا المحلل.
وعجبت لكاتبٍ أديبٍ من هذه البلاد في الشرق الأوسط، جعل نفسه مفتياً، وهذا هو العجب العجاب، وأظنه لا يحفظ حديثاً من صحيح البخاري أو صحيح مسلم.
وأتحداه أن يحفظ حديثاً ويخرجه لنا، أو يحفظ مسألةً فقهيةً وينسبها إلى كتاب من كتب أهل العلم، وأتى يقرر علينا في عين العاصفة قضية القضايا وبقية القضايا، ويناقشنا في مسائل هي لهيئة كبار العلماء وليست له:
ويُقْضَى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يُسْتَشْهَدون وهم شهود
أنت لست هناك، تفرض على الأمة، أنت لست أميناً، وليس لك مكان فقه على الأمة، طهر كيانك أولاً.
وقرأت له أيضاً مقابلة نشرت في مجلة الدعوة قبل ثمان سنوات، يقول: ما رأينا النور في الجزيرة العربية منذ ثلاثة آلاف سنة، وعرضت فتواه على بعض العلماء، فقال: إن كان اعتقد ما يقول فقد ارتد عن الإسلام، وأقول له: أنت ما رأيت النور منذ ثلاثة آلاف سنة، فنقول: صدقت أما أنت فما رأيت النور، لكن نحن عشنا النور، وشربنا النور، ومشينا في النور، {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]:
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أَينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه
قد مشينا في ضياء الوحي حباً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحدوه خطاه
فكيف يكون هؤلاء متكلمون بلسان الأمة، ومتحدثون عن شريعة الأمة؟!
يفاوض على مسائل ليست له، هي لـ ابن تيمية، ابن باز وابن عثيمين ولأمثالهم من هيئة كبار العلماء والفضلاء أما له فلا، لا نقبل.
عليه أولاً: أن يتوضأ ويصلي معنا!
عليه أولاً: أن يتوب، ويعلن إسلامه، ويتخلى عن الرجس والوثنية، ثم يتكلم لنا في المعتقد والشريعة.
قال سبحانه: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً} [النساء:50].
انظر كيف يكذبون على الله، يقولون: حلال وحرام؟!
رأيت في مجلة وهو موجود في شريط: (الفتاة السعودية والعلمانيون) توثيق هذا الكلام موجود، رأيت مفتياً أتوا به على حد قول جمال: عاوز مفتي بفرخة!! ماذا يقول جمال: أطلب من المصريين أن يعطوني مفتياً وأعطيه فرخة، إذا أردت مفتياً يفتيني في مسألة أعطيته دجاجة ويفتيني فتوى على الكيف!!
ولذلك وجد من يفتي بفرخة، ووجد قرَّاء بفرخة، اففتح جمال ذات مرة مشروعاً في أسوان فأتوا بقارئ قالوا: اقرأ سورة فيها ذكر جمال، فتأمل هذا القارئ واستعرض القرآن، فوجد لفظة (جمال) في سورة النحل، يقول فيها: {لَكُم فِيهَاَ جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6] والله يذكر الإبل والبغال والخيل والحمير، ولا يذكر جمالاً، فأتى المقرئ فقال: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6] فالتفت جمال، وقال: يفتح عليك.
اكتشف لفظ (جمال) في القرآن، هذه قراءة بفرخة!!.
فهذا المفتي في إحدى المجلات النسائية قيل له: أتزور المرأة المقبرة؟
قال: نعم، يجوز لها أن تزور بمحرم.
ما شاء الله! هم في المسارح لا يشترطون المحرم، والسفر إلى بنكوك وباريس لا يشترطون أن تزور المرأة بمحرم، وتسافر في المطارات بلا محرم، لكن عند المقبرة بمحرم حتى لا يخرج عليها الموتى، هذه فتوى بفرخة، فتوى على الكيف.
{انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النساء:50].
انظر كيف يدجلون على الأمة؟ يضحكون على لحانا؟!!، هل أصبحت الأمة بقراً؟!
ما أصبح في الأمة مثقفون يفهمون الحرام والحلال!! حتى طالب ابتدائي يعرف أن بعض المسائل التي يفتيها بعض الناس خطأ، ولكن علماؤنا -إن شاء الله- منزهون عن ذلك، وهم بمنزلةٍ عاليةٍ رفيعة.
نسأل الله أن يثبتهم وأن يزيدهم توفيقاً لقول الحق لا يخشون في الله لومة لائم.(174/15)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
واجبنا عليهم وواجب الأمة أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، العالم إذا نزل ليغير المنكر نزلت الأمة معه، كان ابن تيمية يدرس بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ثم ينزل بالعصا والمقص، عنده مقص في جيبه، فينزل في الأسواق أما العصا فيقيم بها الحدود والتعزير، وأما المقص فيأتي إلى من أطال شعره على مذهب البطائحية فيقص شاربه، ويقص جمام الناس التي تخالف السنة، لأنها فرقة خالفت السنة وأصبح لهم شعار خاص، ثم يقف إلى الموازيين والمكاييل يغيرها، وإلى أصحاب الفاكهة، ويسلم على الباعة ويَعِظُهم، ويأمر من أسبل إزاره بتقصير إزاره في السوق.
فإنك شمسٌ والملوك كواكبٌ إذا طلعت لم يَبْدُ منهن كوكبُ
يقود ابن تيمية الأمة في أحلك الظروف، أتى التتار، فأتى إلى السلطان وقال له: اخرج قاتل الكفار؟
قال السلطان: هؤلاء التتار يغلبونا، قال: لا.
قاتلهم بالسياط الشرعية، والسيوف المحمدية، وأنا معك، فوالله لننتصرن، قال السلطان: قل: إن شاء الله، قال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً!
قال: أخاف أن أهزم؟
قال: إما أن تقاتل وإلا قطعنا عنك البيعة، ولا بيعة لك بعد اليوم، ومعنى ذلك: أن ابن تيمية إذا قال: لا بيعة، انتهت المسألة، انتهت الدنيا!
فنزل السلطان وقاتل مع الناس، ونصر الله المسلمين {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].
يقول سبحانه عن العلماء وطلبة العلم: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63].
يقول: أين العلماء؟ أين طلبة العلم؟ أين الدعاة؟
لماذا لا ينهوا هؤلاء السفهاء الذين قست البلاد وقحطت بسبب ذنوبهم وأخطائهم وتعدياتهم؟ أين طلبة العلم؟ أين شباب الصحوة؟
{لَوْلا يَنْهَاهُمُ} [المائدة:63] أي: هلَّا {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63] قال بعض المفسرين: لبئس ما كان يصنع الربانيون من العلماء بتركهم النهي عن المنكر والأمر بالمعروف.
وقال آخرون: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63] الذين يقولون الإثم، ويأكلون السحت، وكلا المعنيين صحيح.
وقال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] كلمة الحق ثقيلة لكن تحتاج إلى رجال، وعند ابن حبان عن أبي ذر وهو حديث صحيح، قال عليه الصلاة والسلام: {قل الحق ولو كان مراً}.
الحق مثل العلقم، الحق فيه تقديم الرءوس؛ لكن قل الحق ولو كان مراً.
{أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وسيد الشهداء: حمزة -عم الرسول عليه الصلاة والسلام- ورجل قال كلمة حق عند سلطان فقتله} هذا سيد الشهداء.
والأمة تحتاج إلى كلمة حق هادئة، بكلامٍ لين، تصل كلمة الحق ليكون فيها خير للأمة وللعباد وللبلاد ولولاة الأمر.
ذكر الذهبي عن ابن أبي ذئب؛ العالم الكبير قرين الإمام مالك، وكان محدث المدينة، جلس في المسجد، فدخل المهدي الخليفة العباسي، فقام الناس له إلا ابن أبي ذئب لم يقم، ولم يتزحزح من مكانه:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت وإذا نطقت فإنني الجوزاء
قال المهدي: يا ابن أبي ذئب! قام الناس لي ولم تقم أنت؟ قال: أردت أن أقوم لك فذكرت قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فتركت القيام لذاك اليوم.
قال المهدي: اجلس! والله ما بقيت شعرةٌ في رأسي إلا قامت.
كلام يقيم الميت، يحيي العظام بإذن الله.
أتى ابن أبي ذئب إلى أبي جعفر قبل المهدي، قال أبو جعفر: أسألك بالله يا ابن أبي ذئب هل أنا خيرٌ أم الحسن بن الحسن؟ لأن الحسن هذا يجادله، ويقاتل على الخلافة، من أولاد علي بن أبي طالب قال: اعفني يا أمير المؤمنين! قال: عزمت عليك.
قال: ورب هذا البيت إنك ظالم.
خذها أو اتركها -يقول: ظلمت الأمة، لا أقول لك: عادل وأنت ظالم- ثم ذهب.
فكان الإمام أحمد يمجد ابن أبي ذئب كثيراً، ويدعو له.
وأتى النابلسي فقال لتلاميذه: من كان عنده عشرة أسهم فليرمِ النصارى بسهمٍ، ويرمي الفاطميين بتسعة؛ وهم حُكَّامُه في القاهرة، لكنهم كانوا ملاحدة زنادقة.
قال: ويرمي الفاطميين بتسعة أسهم، فسمع السلطان فاستدعاه، وقال: يا نابلسي! سمعنا عنك فتيا خطيرة.
قال: ما هي؟ قال: سمعنا أنك تقول: من كان عنده عشرة أسهم فيرمينا بسهمٍ ويرمي النصارى بتسعة.
قال: الفتيا خطأ.
قال: ما هي؟
قال: يرميكم بتسعة ويرمي النصارى بسهم، فذبحه ذبحة ما ذُبِحَ بها أحد من الناس.
وطلعات العز بن عبد السلام يأتي إلى السلطان يأمره وينهاه، فيرفض السلطان، فيخرج العز بن عبد السلام على حمار، فتخرج الأمة وراءه من القاهرة ويقولون للسلطان: والله لا نبقى في القاهرة ولنخرجن مع العز بن عبد السلام حتى تعيده، فيخرج السلطان وراء العز بن عبد السلام يطلب منه أن يعود ويترجاه، فقال: لا أعود حتى تنفذ الشروط:
منها: أننا متى أردنا أن نبيعكم بعناكم وسلمنا ثمنكم لبيت المال؛ لأنهم موالي قطز، وقرابته موالي يباعون ويشترون في العهد الأول، وحرج بهم في السوق مرتين، يقول: من يشتري قطز؛ قطز صاحب عين جالوت؛ البطل، الشهم، الشجاع، الذي لما حضر المعركة، واحتدت السيوف، وبدأت الرماح تخطف الرءوس أخذ خوذته ووضعها تحت قدمه، وقال: وإسلاماه وإسلاماه وإسلاماه! فسمعته الأمة فثبتت ونصرهم الله، وهو بطل، مع ذلك غضب عليه العز؛ لأنه أراد أن يتخلف عن الجهاد، فقال: إما أن تجاهد أو أبيعك وأسلم ثمنك لبيت المال، فجاهد.
ويقولون: طرق عليه السلطان يريد ذبحه، فخرج مسرعاً، وقال: اللهم ارزقني الشهادة، ولكن يقول لابنه عبد اللطيف: أبوك أهون على الله من أن يرزقه الشهادة، يقول: ربما كنت مذنباً فلا يمنحني هذا الشرف العظيم والوسام الرفيع.
ودخل الأوزاعي على عبد الله بن علي عم أبي جعفر المنصور، وكان سيف ذاك مسلطاً، والسيوف على رأسه، فقال للأوزاعي: ما رأيك في الدماء التي سفكناها؟
قال: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة} قال الأوزاعي: فرأيت وزراءه -يعني: وزراء عبد الله بن علي - ضموا ثيابهم خوفاً من دمي أن يرش ثيابهم، فثبت.
وسأله عن الأموال؟
قال: إن كانت حلالاً فحساب، وإن كانت حراماً فعقاب.
قال: اخرج، فخرج وأنجاه الله.
قالوا للأوزاعي: كيف استطعت أن تتحدث؟
قال: والله ما دخلت عليه إلا تصورت عرش الرحمن بارزاً يوم القيامة، فصغر في عيني كأنه الذباب.
ودخل ابن السماك على أبي جعفر فجلس عنده؛ ابن السماك العالم، الداعية، الواعظ، فأتى الذباب يطير على أنف أبي جعفر المنصور الخليفة، فَيُطَيِّر الذباب فيعود على أنفه، فيطيره فيعود على أنفه، قال أبو جعفر يا ابن السماك! -يريد أن يهينه أمام الناس- لماذا خُلق الذباب؟
يعني: ما هو السر في خلق الله للذباب؟ قال: ليذل به أنوف الطغاة.
والنماذج تستمر، والأمة في حشد هائل تتحرى من أهل العلم أن ينهوا عن المنكر ويأمروا بالمعروف كما أمرهم الله.(174/16)
على العلماء أن يكونوا علماء عامة
الرابع: أن ينزلوا للناس، ويكونوا علماء عامة، علماء السلف علماء عامة، لا يعرف السلف عالماً في برجٍ عالٍ، تلقى الإمام أحمد في الطريق، وعلى الرصيف، وفي المسجد، وتطرق بيته فيفتح لك، ويفرش لك الفراش، ويجلس معك، ويقدم لك الماء، العالم مع الأمة في ضمائر وقلوب الأمة يعيش، بخلاف المفكرين العصريين؛ لأنهم أتونا بمسألة قالوا: لا بد من العزلة الشعورية، ولا بد أن تربي نفسك أولاً، ثم تأتي إلى الناس في لقاءات خاصة، على مذهب كانت وديكارت.
لكن علماء السنة علماء عامة، أبو بكر تجده في السوق يبيع ويشتري ويفتي، وعمر وعثمان وعلي وابن تيمية.
ابن تيمية أين وقته؟
دائماً مع الناس، ينام معهم، ويصحو معهم، ويعلمهم، ويلقنهم، ويفتيهم، ومع العامة، لأنه وجد بعض الناس يدندن بالتهويل من شأن المواعظ للعامة.
وهل الأمة إلا عامة؟!
وهل ثلاثة أرباع الأمة إلا عامة؟!
وهل القاعدة الشعبية إلا عامة؟!
تجلس معهم، تعلمهم الفاتحة، وأمور الدين، ومسلمات العقيدة.
نحن لا نحتاج إلى علم سيبويه في (حتى) يقولون: حضرته الوفاة، قال: أموت وفي نفسي شيء من (حتى) رحم الله سيبويه نفع بالنحو، لكن دقائق المسائل، وهذه الحتحتة، لا نريدها الآن، نريد العلم المؤصل المشهور، أن يعرض على الناس مبسطاً سهلاً، أما في المسألة أربعة عشر قولاً، قال ابن أبي ذئب، وقال مالك، وقال ابن تيمية، وقال الروياني، وقال الشافعي، والراجح، فالتفريع لطلبة العلم، لكن الناس يحتاجون إلى علم سهل مبسط، ويحتاجون إلى عالم يجلس معهم، ويقودهم، وإن التقصير الذي نلحظه من بعض العلماء أنهم ما نزلوا إلى الشباب.
فيا أيها العلماء! لا تلوموا الشباب إذا أخطئوا في تصرف، أو هاجوا، أو ماجوا، أو تحمسوا؛ لأنكم أنتم المسئولون في عدم ضبط وتعليم وقيادة الشباب.
ويا أيها العلماء! لا تصفوا الشباب بالتهور، ولا بالتطرف، ولا بالطيش، ولا بالعجلة؛ لأنكم أنتم أو بعضكم الذين لم تجلسوا للشباب في مجالس طويلة تتحدثون إليهم، وتربونهم، وتمسكون من جأشهم، وتربطون على قلوبهم، وتحبسون أعصابهم.
شباب الصحوة لا يقتنعون إلا بعلماء ودعاة، ومهما أتيت إليهم بالدساتير فلا يمكن أن يقفوا؛ لأنهم مقتنعون بآراء.
لكن يوم تسمع العالم يحاورهم، ويلقنهم، ويثبت أمامهم؛ حينها يشكرون له، ويهدأون وينضبطون ويسلكون معه.
فمطالبتنا الجادة: أن نتصل نحن ونتقدم إلى العلماء.
يقول أحد العلماء العصريين: إذا تقدم العلماء خطوة فعلى الشباب أن يتقدموا إليهم عشر خطوات، وهذا صحيح، علينا ألا ننتظر من العلماء أن يزورونا في بيوتنا، ويطرقون علينا الباب، إنما نحن نأتيهم، ونُقَبِّل رءوسهم، ونتواضع لهم، ولا نسميهم زنادقة، نعوذ بالله!
بعضهم سمعته -نعوذ بالله- يقول في بعض العلماء، يظن أنهم أخطئوا في فتوى، وقال: هؤلاء عملاء، ما معنى عملاء؟
تقول للعلماء ورثة الأنبياء: عملاء، وبعضهم يسميهم: مرتزقة، وهذا خطأ، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5].
هم نجوم الأرض، لكن نطرق أبوابهم، لا يطرقون هم أبوابنا، وننتظرهم نحن في الشمس ولا ينتظرونا هم، ونقف نسلم عليهم، ونأخذ بألبابهم، ونبجلهم، وندعو لهم، ولكن عليهم -أيضاً- أن يقفوا لنا، ويفتحوا أبوابهم، ويجلسوا ويتحدثوا لنا طويلاً بالمحاضرات، بالندوات، بالفتيا، بالوعظ، بالتربية، عندنا علماء آلاف كثر، وكلهم نجوم متى ما نزلوا ومتى ما صدقوا، ومتى ما أخلصوا؟!!
فنسأل الله أن يثبتهم ويزيدهم علماً، ونسأل الله أن يرزقنا حكمةً وسداداً في الرأي ورشداً.
هذا ما للعلماء علينا، وهذا مالنا على العلماء.
وللعلماء علينا أن ندعو الله لهم بظهر الغيب، ونطلب منهم أن يدعوا لنا بالثبات والسداد والفقه في الدين، وحينها تتصل المسيرة، ويصلح الحال، ويزيل الله شراً عن البلاد والعباد، وتقوم أمور الأمة على هدى من الله، وهدى من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها الأخيار! انتهت محاضرة (العلماء مالهم وما عليهم) وأشكركم على صنيعكم في حضوركم، وعلى إنصاتكم في استماعكم.
رفع الله منازلكم، وغفر ذنوبكم، وأصلح بالكم، وأحق لكم الحق، ورزقكم اتباعه، وأبطل عنكم الباطل، ورزقكم اجتنابه.
وما بقي من وقت فللأسئلة، وسلام الله وصلاته على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(174/17)
الأسئلة(174/18)
انقطاع الشيخ عائض عن المحاضرات
السؤال
ما سبب انقطاعك عن المحاضرات وخاصة بعد الأحداث الأخيرة، وكذلك ردك ولو في الشعر كما فعل العشماوي، حيث إن أكثر الناس من الشباب يتساءلون، أرجو توضيح ذلك؟
الجواب
لم يحصل انقطاع، بل هناك خمس محاضرات، منها: الفتاة السعودية والعلمانيون، وصراع مع العلمانيين، والعلمانيون في كتاب الله، وخطبة: المرأة تقود السيارة، وخطبة: من هم الأصوليون؛ رداً على كاتبٍ أديب معروف كتب في جريدة الشرق يوم الأحد قبل الماضي: يا أيها الأصوليون الصداميون! اسمعوا وعوا، فرد عليه، وهي موجودة.
على أن المنهج الحق في مثل هذه الأحداث، أن يُعرض أمر الله الشرعي، وأن يبين الحرام، وألَّا يجرح الأشخاص لأنهم أشخاص، لكن يبين الحق للناس، ولا يخشى الداعية في الله لومة لائم، يقول: هذا حق وهذا باطل، هذا حلال وهذا حرام.
أما أن يجرح الناس ليتشفى هو، فليس هذا منهجاً، قد يؤذى، قد يضرب، قد يسجن، فلا يتشفى لنفسه، إنما يطلب الحق لله عزوجل ليقيم شرع الله.
وقد دخل الإمام أحمد على المعتصم فجلده حتى أدماه، قال الإمام أحمد: والله ما خرجت من قصر المعتصم حتى دعوت الله له.
يعني أن الإمام أحمد يريد أن يثبت دين الله لا يريد أن ينتصر هو، ولا يريد أن يجرح شخص المعتصم لأنه المعتصم، لكن ليقوم دين الله في الأرض ولتسود شريعته، وهذا هو الهدف الصحيح.
فهذا هو المطلوب والمقصود فلا يغب عن أذهان الإخوة؛ لأنه قد يجد إنساناً ليس دافعه غيرة لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولا لرسوله، ولكن لأحقاد وثارات ومحن، أو دوافع طائشة، أو أسباب مادية!! لا، ليكن قصدك هو الحق، وإعلاء كلمة الله، وليكون دين الله هو الأعلى وهو الأجل، هذا هو الصحيح.(174/19)
الانطلاق في الدعوة
السؤال
كيف أستطيع أن أنطلق في الدعوة؟
الجواب
تنطلق في الدعوة بجهدك، بما عندك من علم، تحفظ مسألة؟ ادعُ للمسألة، عندك آية؟ ادع بالآية، معك حديث؟ ادع بالحديث {بلغوا عني ولو آية} {نضَّر الله امرأً سمع مني مقالةً فوعاها، فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع}.
تنشر العدل والعلم الذي معك، تفيض أنت بما عندك من الخير، لا تجلس ولا تخلص، أنا أعرف أن هنا آلافاً من الناس، لو خرجوا وقالوا كلمة الحق بعقل وبهدوء لانتهت المنكرات، وإلا فترى موقف الكثير من الشباب وللأسف سلبياً من المنكرات، تجده متحمساً في المجلس، وينتقد الدعاة، ويتكلم على كثير من العلماء، وأنهم ما أنكروا وما فعلوا، تقول له: لماذا لم تفعل؟
يجيب: أنا ما عندي قدرة، أنا أحتاج إلى أن أتعلم أكثر.
إذاً ضاعت الأمة وأنت تتعلم، هل نتحراك عشر سنوات؟
أما عندك علم؟
ألا تعرف كيف تقول لصاحب المنكر: اتق الله، ألا تستطيع أن تقول: هذا منكر؟!
ألا تستطيع أن تقول للمرأة: تحجبي يا أمة الله؟!
ألا تستطيع أن تقول لصاحب المكان الغنائي البهيت المقيت: اتق الله وأغلق مكانك، الغناء حرام، بهذه الكلمات؟! هذه ميسورة في يد كل أحد {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].(174/20)
مصطلح الصحوة
السؤال
ألا تعتقد أن كلمة: (الصحوة الإسلامية) فيها أخطاء، لأن ذلك يدل على أن الأمة كانت نائمة وهي ليست كذلك؟
الجواب
لا مشاحة في هذه التسمية، وفيها سعة والحمد لله، وليست نصاً منزلاً، وليست كلمة الصحوة بالقراءات السبع!! لا، فيها سعة، وبعضهم يسميها: العودة إلى الله، وإلا فإن أسلوب القرآن هو التوبة {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً} [النور:31] فالتوبة أسلوب القرآن، والعودة كذلك أسلوبٌ قديم، والصحوة لا بأس منها ولا بأس بها:
خذا جنب هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق(174/21)
البداية في طلب العلم
السؤال
أريد أن أطلب العلم، ولكن لا أعلم كيف أبدأ، ومن أين أبدأ، وإلى أي شيخٍ أذهب، وبأي كتابٍ أبدأ؟
الجواب
نسأل الله أن يسلك بنا وبك طريق الصواب والخير.
أنت تبدأ على بركات الله عزوجل، وإن كنت طالباً فمعك من المشايخ من يدلك إن شاء الله، وما أعلم في كل حيٍ إلا طلبة علم وأخيار بإمكانك أن تستفيد منهم.
لكن تطلب العلم كلمة كلمة، ونصاً نصاً.
قال الزهري: [[من أخذ العلم جملة ضيعه جملة]].
وقال البخاري: (إنما يؤخذ الحديث حديثاً أو حديثين) في اليوم الواحد: حديث أو حديثان.
فالعلم لا يأتي دفعة، ولا يمكن أن تتعلم العلم كله في العطلة الصيفية، بل يمكن أن تربي نفسك وتتدرج في طلب العلم، وتبدأ بصغار المسائل قبل كبارها، تبدأ بالمختصرات النافعة المبسطة المفيدة، وهناك كتيب في السوق اسمه: كيف تطلب العلم؟
يحتاج هذا السؤال إلى أن يبدأ الإنسان يحاضر كيف تطلب العلم؟ هذا يكفي فيه الكتيب الصغير، وكتاب: حلية طالب العلم للدكتور بكر أبو زيد.(174/22)
كتاب الإحياء
السؤال
ما قولك في الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي صاحب الإحياء؟
الجواب
فيه خير كثير، وفيه زهد، وفيه إخلاص وصدق، لكن نقصه ثلاثة أشياء:
الأول: العقيدة لا تأخذها من الإحياء أبداً، عقيدته مهلهلة، أشعري، أحياناً يتطاول مع الأشاعرة، وأحياناً مع المناطقة، ما ثبت على قدم.
الثاني: يأتي بالموضوعات في الإحياء؛ فهو حاطب ليلٍ في الحديث، ويقولون: مات وصحيح البخاري على صدره، يطلب الحديث في آخر عمره، وبضاعته مزجاة في الحديث.
الثالث: أنه معجب بـ الصوفية أيما عجب، ويمدحهم، ويثني عليهم، وهذا خطأ، بل نعجب بـ أهل السنة، الذين هم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
على كل حال! غفر الله لـ أبي حامد ورفع منزلته.(174/23)
التسرع في الفتيا
السؤال
كثير من الشباب يتسرعون في الفتيا، فما علاج ذلك؟
الجواب
هذه أصبحت ظاهرة، ولكنها الآن بدأت تتلاشى رويداً رويداً، بعد أن عَقَلَ الشباب، وهدءوا، وبعد نزول كثير من المشايخ إلى الساحة وإلى المساجد.
الفتيا أمرها صعب وهي زلفى إلى النار والعياذ بالله.
وما عليك إذا سُئلت عن شيء فقل: الله أعلم لا أدري، فلا أدري نصف العلم، ولا أدري نصف الجهل، {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].(174/24)
المسجد والدعوة
السؤال
كيف أجعل من المسجد مركزاً للدعوة إلى الله؟
الجواب
إن كنت إمام مسجد، أنت بنفسك تقرأ وتتحدث فيما استطعت، وتدعو العلماء، وطلبة العلم، والدعاة، ويكون لك برنامج مع أهل الحي، وتستطيع في كل أسبوعين يمران عليك أن تحضر طالب علم يتحدث للأمة، يوضح لهم أمور دينهم، ويدلهم على صراط الله المستقيم.
وأبشركم أن عندنا مئات الدعاة، ويستطيعون أن يحضروا في أي مسجد، ويستجيبوا بإذن الله.(174/25)
معنى المادة عند أهل الإلحاد
السؤال
ما رأيكم في هذه الكلمة: المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم؟
الجواب
هذه الجملة إلحادية كفرية، وليست بصحيحة، وهي تعارض الكتاب والسنة، لا تفنى، بل تفنى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
وإذا عرضها الأستاذ في الفصل، فقل له: بل تفنى، والدليل على ذلك قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] وتقوم أنت وتشطبها وتكتب بدلها الآية، لأن تلك الجملة كفر وزندقة.
والذي يأتينا بالكفر، ونقنعه ولا يقتنع، نأخذ تراباً ونملأ به فمه، لأنه يدرس الإلحاد، وما أظن عاقلاً يسمع بهذا الإلحاد ثم يصر على رأيه؛ لأنه يخالف الكتاب والسنة.
أما قولهم: ولا تستحدث من العدم، كذب، وهذا كلام إلحاديٌ شيوعي يعني: أن المادة ما خُلِقت بل خَلَقت نفسها، والله يقول: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْ} [الأنعام:102] هو الخالق سبحانه، الذي ما خلق نفسه، ولا خلقه غيره، فهو الأول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى والآخر والظاهر والباطن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].(174/26)
أخلاق العالِم
السؤال
هل إذا كان العالم أو طالب العلم، الذي يعلِّم الناس، سيء الخلق، ولسانه سليطاً، هل يؤخذ منه العلم، أم يترك لأجل سلاطة لسانه؟
الجواب
نحن لا نبرر للعلماء أخطاءهم، أي: أخطاءهم الخُلُقية.
كأن يكون العالمُ بخيلاً، يعني: يغلق عليك الباب، فتطالب أن تدخل الباب، يقول: والله لا تدخل، ويمنعك، وإذا وجدك كشر، ورفع صوته، وسبك دائماً، هذه ليست أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فالهدوء والارتياح، والبسمة، والبشاشة، من أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم.
لكن أمراض البشرية دائماً تتكرر، والإنسان ليس معصوماً:
ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
ذكر الذهبي عن شيخ من الشيوخ، يقول: كان زعراً، أي: كان حاد الخلق، شرساً، إذا هبت الريح غضب، فيقول: أتاه أحد التلاميذ وعرض له كتاباً؛ فرفض الشيخ، فلحقه التلميذ عند الباب، وضايقه كثيراً، وبعض التلاميذ عِلَّة يرى الشيخ غاضباً، وجائعاً، ومنهكاً، ويرمي بنفسه عليه، ويضايقه، وينكد عليه.
يقولون من أدب الطلب: أن تتوخى وقت المعلم ووقت راحته، ووقت هدوئه.
فأتى هذا الشيخ فغضب، فأتى بعصا -كان عندهم عصي- فضرب التلميذ، فأخطأت العصا فضربت في الكتاب فشقته.
قال الذهبي: الخطأ مشترك بينهما، يحكم الذهبي، يقول: الخطأ مشترك بينهما، (يمزح)!!
وكان الأعمش رحمه الله فيه شيء من هذا، يقولون: دعاه أحد تلاميذه يغديه في البيت، فأتى هذا التلميذ، وكان الأعمش لا يبصر الطريق كثيراً، فسقط الأعمش في حفرة بجانب بيت هذا التلميذ وهو لم يحفرها للأعمش لكن الطلاب حفروها له، قال: والله لا أدخل بيتك ولا أحدثك شهراً -هذا في السير- وعاد التلميذ وتلطف وصنع غداءً وبعد شهر دعا الأعمش، وأتى به إلى البيت وقبل الغداء أراد أن يصب عليه من البراد وكان الماء حاراً فلم يجربه قبل، فوقع الماء على يد الأعمش فسحب يده، وقال: والله لا أتغدى ولا أحدثك شهراً.
ما هذا الكلام؟ ما هذه الحدة؟!
إن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم هي: الحلم، والسعة، والتواضع.
ولذلك يوجد هذا، فعليك أن تتحمل وتصبر حتى تطلب العلم.
بعضهم بحر في العلم، لكنه حاد، يضارب على صاع تمر، فعليك أن تصبر حتى تأخذ العلم منه.
يقول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: تلطفت بـ ابن عباس فحصلت على علم كثير، وأما أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف فما تلطف فلم يحصل على علم ابن عباس.
العلم حربٌ للفتى المتعالي كالسيل حربٌ للمكان العالي
أي: أن العلم مثل السيل، إذا رأى المكان منخفضاً ذهب إليه، وأما المكان المرتفع فلا، وكذلك العلم.
عَمَّرَ الله أوقاتكم بالسعادة، وجمعنا بكم في الجنة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(174/27)
أخطاء يقع فيها الناس
إن طلب العلم الشرعي حصن من البدع والمحدثات، يجعل الإنسان يعبد الله على بصيرة وبعقيدة سليمة، ولما قل طلب العلم الشرعي، وكثر انتشار الجهل؛ كثرت البدع والأخطاء التي يقع فيها الناس في العبادات والمعاملات، وكذلك انتشرت بعض الألفاظ الشركية والأخطاء العقدية.
فلا بد أن تواجه هذه البدع بنشر العلم، والاعتصام بحبل الله، ورص صفوف أهل السنة بعيداً عن الاختلافات التي تفرق الأمة.(175/1)
أخطاء الناس إجمالاً
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
عنوان هذا الدرس: (أخطاء يقع فيها الناس) ونماذجها وعناصرها كما يلي:
- الزيارة وخطأ الناس في الزيارة.
- السؤال بوجه الله تعالى.
- الحلف بغير الله.
- الحلف بالطلاق.
- قولهم: انتقل إلى مثواه الأخير، وكلام أهل العلم في ذلك.
- وقولهم: فلان غني عن التعريف.
- وقولهم في ذلك الدعاء العامي: الله لا ينسانا ولا يقصانا.
- وموقف أهل العلم من الصفات، وتفصيل ابن تيمية لصفات الله تبارك وتعالى.
- وقولهم: المرحوم فلان، والمغفور له.
- قولهم: لقيته صدفة، وما تعليقنا على الصدفة.
- (حتمية التاريخ) وقول الصحفيين: حتمية التاريخ، وهذه من حتميات التاريخ.
- قولهم: شاءت الأقدار.
- الاستقلالية في الصفات.
- ما رأي الدين، إذا قالوا وسألوا: ما رأي الدين في ذلك.
- قولهم: اللهم اغفر لي إن شئت، وبارك الله فيك إن شاء الله.
- تقديم بعض الألفاظ على السلام، كما يقول بعض العوام: سلمتم والسلام عليكم.
- قولهم: العصمة لله تبارك وتعالى.
قول: صدق الله العظيم في باب التلاوة.
- قول الداخل للإمام لانتظاره: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153].
- رد التحية مثل قول: "أهلاً ومرحباً"، والاكتفاء بلفظ: "صباح الخير، ومساء الخير" بدل تحية الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
- قولهم بعد لفظ استووا: "استوينا لله" أو "اللهم أحسن وقوفنا بين يديك".
- قول المبتدع: "نويت أن أصلي الظهر أربع ركعات أو غيرها من الصلوات ".
- قولهم: "اللهم صلِّ على محمد، وزيادة سيدنا ".
- التأمين برفع الأيادي بعد الخطيب يوم الجمعة.
- قوله: "لا والله، وفلان" و"لولا الله ومحمد".
- سب الدهر والأيام.
- قولهم: رجال الدين.
- الدعاء بعد الفريضة برفع الأيدي، والمصافحة بعد الفريضة وجعل ذلك سنة.
- وفي الأخير: الألفاظ الشركية كقولهم: "وسوف يبين هذا بدعوة الجان ليتصرفوا بالكائنات والمخلوقات"(175/2)
نصيحة لشباب الدعوة
أيها الإخوة! هذه هي المسائل التي سوف تعرض هذه الليلة إن شاء الله، وقبل أن أبدأ بهذه المسائل أقدم نصيحة للشباب:
أولها: الحكمة في الدعوة.
ثانيها: تحصيل العلم الشرعي.
ثالثها: نبذ الخلاف والفرقة.(175/3)
الحكمة في الدعوة
أما الحكمة: فلا نعني بالحكمة إماتة الدعوة حاشا وكلا! وقد يتهم من يتكلم بالحكمة في الدعوة أنه يريد إماتة الدعوة بالحكمة؛ فالحكمة شيء وإماتة الدعوة شيء آخر.
لكن الحكمة على حد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في رسوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
فالحكمة هي: وضع الشيء في موضعه، قال سبحانه: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] والحكمة عند أهل العلم إذا أطلقت انصرفت إلى مدلولين اثنين:
المدلول الأول: وضع الشيء في موضعه، كقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269].
المدلول الثاني: السنة، قال سبحانه: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] وقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2] أي: السنة.
وقضية الحكمة: أن تنطلق من منطلق.
أي: أن تصلح أكثر أو تحصل مصلحة أكثر من المفسدة التي تشتمل عليها، قال ابن تيمية في قاعدة نقلها السعدي عنه، ليس الفطن من يعرف الخير من الشر فجل الناس يعرفون ذلك؛ لكن الفطن الذكي من يعرف خير الخيرين وشر الشرين.
ومن مسالك أهل السنة في الدعوة: أن للخاصة دعوة خاصة وللعامة دعوة عامة، ولا أعلم أن مسئولاً إذا عرضت عليه الدعوة عرضاً طيباً كعرض موسى عليه السلام وهارون لفرعون يوم قال الله لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
ولا أعلم مسئولاً يوم تعرض عليه الدعوة يكابر إلا في النادر، وليس كل ما يعلم يقال، وليس ما يقال للخاصة يقال للعامة، وليس ما يريد العبد أن ينفذه ينفذه بغض النظر عن المصالح المترتبة على ذلك، وهذا يعني ألا يستعجل مستعجل، وألا يطيل طائل، وألاَّ يتجنى متجنٍ على الدعوة؛ فرب كلمة منعت ألف كلمة، ورب خطوة ردت ألف خطوة.(175/4)
تحصيل العلم الشرعي
أما تحصيل العلم الشرعي: فأدعو إخواني للعكوف عليه؛ فهو من أعظم مطالب الدين وهو نافلة الموحدين بعد الفرائض؛ وهو من أحسن ما يتقرب به إلى الله، والعلم الشرعي هو ما قال رسوله عليه الصلاة والسلام.
والعلم -أيها الإخوة- عبادة إذا صاحبته النية، والمقصود هو تحصيل العلم الشرعي وليس تحصيل الفكر، والإنشاء وزبد الكلام.(175/5)
نبذ الخلاف والفرقة
والمسألة الثالثة: نصيحة ثالثة: نبذ الفرقة والخلاف والشجار؛ وعدم الالتجاء إلى غير مظلة محمد صلى الله عليه وسلم، والانطواء تحت مظلة غير تلك المظلة السامقة الرفيعة الجميلة الرائعة، قال عز وجل: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].(175/6)
أخطاء يقع فيها الناس
أما هذا الدرس فعنوانه كما أسلفت " أخطاء يقع فيها الناس ".(175/7)
أخطاء في الزيارة
فمما يقع الناس فيه: الزيارة وعدم التقيد بما ذكر الله في كتابه، وبما سن الرسول صلى الله عليه وسلم في الزيارة، بل أصبح في نظام الزيارة همجية وعشوائية، وكدر على الزائر والمزور.
لقد ذكر الله الزيارة في سورة النور فقال: {ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور:58] فهذه الأوقات الزيارة محضورة فيها، وهذه الثلاثة الأوقات؛ أوقات استجمام وراحة، وهي أوقات خاصة للمؤمن مع أهله وفي بيته، وليس من الحكمة أن تزوره قبل الفجر، أسمعت غبياً أو أحمقاً يطرق عليك قبل الفجر، فتفتح له بابك، وتقول له: ماذا تريد؟ فيقول: عندي مسألة أو أريد أن أتحدث معك؟! يا له من حديث ما أسوده! ومن وقت ما أعكره! هذا وقت إما قيام ليل أو وقت نوم لمن سهر من مرض أو سفر، أو وقت خاص فلا يزار فيه.
(وبعد صلاة الظهر -حين تضعون ثيابكم من الظهيرة-) حين تأتون من الأعمال منهكين، عليكم من الكلال والمشقة ما الله به عليم، فهو وقت قيلولة؛ فيطرق الطارق في مسألة وكم يتعرض الإنسان لمثل هذا الأمر، فيجب أن نتقيد بما في الكتاب والسنة، وقضية أن نفقه في الصلاة ولا نفقه في الزيارة ليس بصحيح، فزيارتنا واتصالنا وجلوسنا تؤخذ كلها من مشكاة محمد عليه الصلاة والسلام.
فالزيارة بعد الظهر ليست زيارة إلا أن تكون معدة لوليمة أو دعوة أو جدول عمل مرتب.
(ومن بعد صلاة العشاء) وهذا لا يزار فيه؛ وهو وقت أذهبه كثير من الناس في السهر المضني، والضياع وعدم التحفيز، والسهر الذي فوت على كثير منهم صلاة الفجر.
وإنني أدعو إخواني إلى أن تكون زيارتهم هذه -من باب الاقتراح ووجهات النظر الموافقة للنصوص- من بعد صلاة المغرب إلى صلاة العشاء؛ فهو وقت مستهلك وبسيط على الزائر والمزور؛ وبعض الناس إذا زار أثقل في الزيارة يزورك بعد العصر ولا يخرج إلا آخر الليل.
رأى الشافعي رجلاً زاره وكان ثقيلاً -ذكر ذلك الذهبي وغيره- فقال الشافعي: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12] وكان الأعمش يقول: إني لأسمع بالثقيل فتتمايل بي الأرض، أظن الأرض ستنخسف من جهتي.
وقال ابن الرومي في زائر زاره:
أنت يا هذا ثقيل وثقيل وثقيل أنت في المنظر إنسان وفي المخبر فيل
ونحن نقول لإخواننا: أنتم مسلمون وأحباب وعلى المقل، وطئوا على شفاف العين، لكن هناك أوقات يرتاح فيها المرء ليأتي بصفاء ذهنه، لأن العبد، وخاصة من يتلقى أمور الناس، كالأئمة والخطباء والقضاة والمسئولين وأعيان الناس دائماً عليهم من المشاكل ما الله به عليم، فإذا صار وقت راحتهم مشغولاً مع الناس؛ فلن يجدوا وقتاً للراحة، ولتكدر صفوهم وأُحرجوا حرجاً بيناً.
وأشير بحول الله -إن تذكرت- إلى مسألة سارع إليها العلماء وهي "نظام بعض العلماء في المسائل" ونظام الجيران في الحارات.(175/8)
السؤال بوجه الله
المسألة الثانية: السؤال بوجه الله: وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه {لا يسأل بوجه الله إلا الجنة} وقد أسرف كثير من الناس بالسؤال بوجه الله - (وجه الله عليك أن تأتي، وجه الله عليك أن تذهب، وجه الله عليك أن تقوم) - وهذا من عدم توقير الله في قلوبهم، ومن التعدي على حرمات الله وشعائره؛ فإنه لا يعظم حرمات الله إلا متقٍ، ولا يعظم شعائر الله إلا من في قلبه تقوى والواجب على العبد أن يقدر ربه حق قدره.
إن وجه الله أعظم من أن يذكر في هذه المسائل -في ركوب السيارة، والزيارة والطعام- فلنتق الله في ألفاظنا، ولنعلم أن هذا النص عظيم ولا يسوغ استخدامه لأي مسألة، ولا يسأل به إلا الجنة؛ فلك أن تقول: أسألك بوجهك الجنة، أما غيرها من الأمور التافهة فليس بوارد وليعلم هذا.(175/9)
الحلف بغير الله
ومنها: الحلف بغير الله، كأن يقول: بحياتي أو بشرفي أو بنجاحي وحياتي، فمن فعل ذلك؛ فقد باع حظه من الله وقد أشرك.
قال عليه الصلاة والسلام: {من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت} وقال صلى الله عليه وسلم -فيما صح عنه-: {إن الله نهاكم أن تحلفوا بآبائكم} فلا يحلف أحد إلا بالله الواحد الأحد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى العظيم؛ لئن الحلف تعظيم، قال ابن مسعود [[لئن أحلف بالله كاذباً أحب إليَّ من أن أحلف بغيره صادقاً]] لأن تحلف بالله وأنت كاذب، أحسن وأقرب من أن تحلف بغيره وأنت صادق؛ لأن الحلف بالله كذباً معصية، والحلف بغيره صدقاً شرك، والشرك أعظم المعاصي وأكبر الكبائر فاستعيذوا بالله من الشرك ظاهراً وباطناً.
ومن المسائل: الحلف بالطلاق.
وهو منتشر؛ بل جعلوه -في الولائم والمناسبات، والحضر والمنع والطلب، وفي الأمور النسبية والعلاقات فيما بينهم- أعظم من الحلف بالله؛ بل إن أحدهم لا يأذن لأخيه إذا حلف عليه.
ويطلق عليه -هذا عند بعض العلماء-: أنه أقسم بغير الله وأشرك؛ وعند بعضهم: أنه حلف وانعقد به الطلاق، وعند بعضهم: أنه صار يميناً توجب به الكفارة ولسنا هنا في تفصيل الطلاق؛ ولكن في التحذير من الحلف بالطلاق، وعدم استخدامه على اللسان ولا يفعل ذلك إلا من قلَّ فقهه في الدين، أو صغرت معلوماته في هذه المسألة الضخمة التي استخدمها كثير من الناس.(175/10)
قول: (انتقل إلى مثواه الأخير)
ومن المسائل -وأنا أذكرها باختصار- قولهم: (انتقل إلى مثواه الأخير) فإذا مات شخص قالوا: اليوم انتقل إلى مثواه الأخير، وهذه الكلمة عُرف أنها لبعض الزنادقة، من زنادقة المتصوفة بل زنادقة الفلاسفة، فكانوا يقولون: إن القبر هو آخر مثوى بل هي من الأقوال التي نشرت لـ ابن سينا.
وابن سينا هذا ضال، وقد تعرض له بعض العلماء، وتعرض له ابن تيمية فقصم ظهره في أكثر من موطن من كتابه " درء تعارض العقل والنقل "، بل قال مسائل كفَّره بها الغزالي في " تهافت الفلاسفة "، وقال عنه ابن تيمية في بعض المسائل: إن صح عنه ما يقال؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وهذا من أمثال من قال: (انتقل إلى مثواه الأخير) فأخذها بعض الصحفيين، فقالوا: فلان انتقل إلى مثواه الأخير، والقبر ليس مثوىً أخيراً؛ بل المثوى الأخير الجنة أو النار كما بين سبحانه: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] ومقصود الزنادقة أن يقولوا: إن القبر هو المستقر، ولا حياة بعد القبر، كما قال عمر الخيام:
فما أطال النوم عمراً وما قصر في الأعمار طول السهر
ثم يواصل فيقول:
لبست ثوب العمر لم أستشر وتهت فيه بين شتى الفكر
ثم يذكر في القصيدة أن القبر آخر مستقر وكذب عدو الله! فليس القبر آخر مستقر؛ بل بعد القبر حياة طويلة إما في الجنة وإما في النار، وبعد القبر حساب وصراط وميزان وتطاير صحف، وأنبياء وشفاعة وملائكة؛ وبعد القبر يوم يشيب من هوله الولدان فمن يعلم أن هذه الكلمة خاطئة؛ فليس مثواه الأخير القبر؛ فليعلم ذلك!
يقول إيليا أبو ماضي:
جئت لا أعلم من أين! ولكني أتيت!!
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!!
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت!!
كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري!!
ولماذا لست أدري؟!! لست أدري!!
فنقول له: والله لتدرينَّ إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، وكيف لا تدري!
قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2] {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8 - 9].
إذاً: كلمة (مثواه الأخير) ليست صحيحة، وأعلم أن بعض الإخوة يقول: إن بعض الناس يستخدمها ليس لهذا المقصد؛ لكن إذا اشترك مسلم في كلمة ومقصده صحيح مع مجرم مقصده سيء؛ ولم يقرنا من الكتاب والسنة على هذه الكلمة؛ تحاشيناها.
قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104] فكان الصحابة يقولون: (أَرعنا سمعك) وهذه كلمة فصيحة، واليهود يقولون: (راعناً) وهي الرعونة من السذاجة والخبل والبلادة؛ فنهى الله عنها لاشتراك الكلمتين في بعض الشبه.(175/11)
قول: (فلان غني عن التعريف)
ومن الكلمات التي نبه عنها في بعض المناسبات: (فلان غني عن التعريف) فإذا قدموا لشيخ أو محاضر أو داعية أو مسئول قالوا: (فلان علم غني عن التعريف) وهذه الكلمة خاطئة فالغني عن التعريف هو الله، فهو الذي عرف نفسه بنفسه فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1].
فالغني عن التعريف هو الله، وقد عرف نفسه فقال لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] وقال: (ِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65].
وقد ذكرت في مناسبة أن سيبويه توفي فرؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: "غفر لي" قيل: بماذا؟ قال: لما أتيت في الكتاب؛ أتيت بلفظ الجلالة (الله) فقلت: الله غني عن التعريف أي: لا يحتاج إلى التعريف، فغفر الله له.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
فيا عجباً كيف يُعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
فأنت تعلم بأنه واحد، وما منا من أحد إلا ويحتاج إلى تعريف، ملكاً أو أميراً أو عالماً أو موظفاً أو مسئولاً أو وزيراً لا بد أن يُعرف، وعند الترمذي بسند ضعيف، يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا لقي أحدكم أخاه فليسأله عن اسمه وعن نسبه؛ فإنه واصل المودة} وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه {كان إذا لقي رجل قال: من أنت؟} وفي صحيح مسلم عن ابن عباس {أن وفد عبد قيس قدم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: من القوم أو من الوفد؟ قالوا: من مضر، قال: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى} وكان عمر يقول: من؟ يسأل عن الرجل، وفي صحيح البخاري عن جابر يقول: {استأذنت على الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ قلت: أنا! قال: أنا، كأنه كرهها} يقول: من أنت؟ فـ (أنا) مجهول، فكل الناس يقول (أنا) لكن من أنت.
واستدل النووي على ذلك -بتسمية الاسم- بأن الرسول صلى الله عليه وسلم مع جبريل طرقا باب السماء فقالوا: من؟ قال: جبريل، قالوا: {ومن معك، قال: محمد، قالوا: مرحباً بك وبمن معك}.
وطرق أبو ذر على الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: {من؟ قال: أبو ذر}.
فلا بأس بالكنية، وكلنا محتاج إلى تعريف، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
ومن الأدب في الإسلام -أيها الإخوة الأحباب! - أن إذا نزل بك ضيف أو وفد أن تسألهم عن أسمائهم.
ولا تبق معهم وكأنهم صم بكم عمي فهم لا يرجعون، يتغدون ويتعشون، وينامون ولا تعرف أسماءهم.
فأقول: يا أخي! يا فلان! هذا لا يصح، هذا ليس من أسلوب التعامل وليس من أدب الإسلام، قال الأزدي:
أحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
يقول: أنا من صفتي أنني أحادث الضيف وهو على الراحلة، فكيف إذا نزل!
ومن أدب الضيافة أن تحدثه وتؤنسه، قال بعض العلماء: هذا إشراق، قيل: لما كلم موسى ربه قال: يا موسى!: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17].
وهي من المحادثة والأنس؛ وإلا فالله يعلم أنها عصا، وهو الذي خلقها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ويعلم بفرعون والعصا.(175/12)
قول: (الله لا ينسانا ولا يقصانا) ونحوها
ومن المسائل التي سمعتها من بعض الناس في دعائهم وربما تكون منتشرة في بعض النواحي لكن أخذ ما انتشر وما لم ينتشر حسباناً لانتشاره، كقولهم: (الله لا ينسانا ولا يقصانا) وهل الله ينسى، وهو القائل: {فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52] وأما ما ورد في القرآن كقوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126] وقوله: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:51] فكيف نحمل ذلك؟
النسيان هنا عند العرب: بمعنى الترك، أي: تركهم، ولا يعني أنه نسيهم ولا غفل عنهم، فقول القائل: "الله لا تنسني" أو "ربِّ لا تنساني " ليس بصحيح.
سبحان الله! خلقك وسيَّرك وأحياك وأماتك ثم ينساك؛ جلَّ الله عن النسيان!!
والنسيان صفة نقص لا تنسب له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لا تقييداً ولاإطلاقاً، وتنفى عنه؛ فهو لا ينسى تبارك وتعالى، ولا ينام ولا يصحو ولا تأخذه السِّنة ولا يحتاج إلى الطعام لا يطعم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو يُطعم، فقول الشخص: (الله لا ينسانا) أو قوله: (اللهم لا تغفل عنا) من الألفاظ التي يُنْهَى عنها.(175/13)
موقف أهل العلم من الصفات
وابن تيمية يذكر في كتابه درء تعارض العقل والنقل، وغيره من أن الصفات عند أهل السنة على أربعة أقسام:
1 - صفات نثبتها لله بإطلاق.
2 - صفات ننفيها عن الله بإطلاق.
3 - صفات نثبتها مقيدة.
4 - صفات نستفصل فيها.
- فأما الصفات التي نثبتها لله مطلقاً: فهي الصفات التي أثبتها ربنا لنفسه أو أثبتها له رسوله عليه الصلاة والسلام: مثل: الحكيم، العليم، الواحد، الأحد وأمثالها، فهذه نثبتها لله مطلقة.
وأما الصفات التي ننفيها مطلقاً: فهي ما نفاه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن نفسه ورسوله عليه الصلاة والسلام مثل: (السهو، والنسيان، والغفلة، والنوم، والحاجة، والولد، والصاحبة) فهذه ننفيها مطلقة.
- وأما الصفات التي نثبتها مقيدة: فالتي ذكرها الله في القرآن مقيدة مثل قوله تعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79] فنقول: الله يسخر ممن يسخر منه، ولا نقول: ساخر، وكقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15] فنقول: "الله يستهزئ بمن يستهزئ به" مقيدة، ولا نثبتها مطلقة، وكقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] فنقول: "الله يمكر بمن يمكر به" مقيدة؛ لا أنه يمكر دائماً، وكقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].
"فالله يخدع من يخادعه وليس يخدع مطلقاً.
وانظر إلى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:71].
ولم يقل: (فخانهم)؛ لأن الخيانة صفة نقص، سواء أطلقت أو قيدت؛ فلم يأتِ بها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فليعلم ذلك.
وهذه قاعدة تكتب بماء الذهب، وبيَّض الله وجه شيخ الإسلام يوم حررها.
- أما الصفات المستفصل فيها كصفة الجسم أو الجوهر أو التحيز فنقول: ماذا تريد بها؟ فلو قال مثلاً لنا قائل: "الله مهندس الكون" فلا نقول: لا، ولا نقول: نعم؛ وإنما نقول: ماذا تريد بكلمة (مهندس الكون)؟ فإن قصد بكلمة (مهندس الكون) أنه بنى الكون وشيده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فنقول: صدقت وأحسنت؛ لكن استخدم غير هذه العبارة، قل: الذي خلق السموات والأرض، قال عز وجل: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة:117].
وإن كان يريد بكلمة (مهندس الكون) مثلاً أنه شارك في خلق السموات والأرض -سبحانه جل عن الند والمثيل- أو قصد مشابهته بمهندس الدنيا؛ فنقول: لم تحسن في هذه العبارة لا مقصداً ولا لفظاً.(175/14)
قول: (المرحوم فلان، والمغفور له)
ومن الألفاظ التي انتشرت بين الناس وخاصة في الصحف قولهم: (المرحوم فلان، والمغفور له) فلا يعلم السر إلا الله، ولا يعلم نتائج الناس إلا الله، ولا نشهد لأحد بجنة أو نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكننا نسأل الله للطائعين الجنة، ونثني على الصالحين وندعو لهم، أما أن نقول: (المرحوم) فلا.
وما يدريك! هل هو مرحوم أم لا؟!
وما يدريك فلعل في قبره ناراً تلظي عليه؟!
فكيف تقول: مرحوم أو مغفور له؟!
وكيف نستبدل هذه العبارة؟
نقول للمسلم إذا مات: (فلان غفر الله له، وفلان رحمه الله)؛ لأن هذا من باب الإنشاء، وذاك من باب الخبر، وأجاز أهل العلم الإنشاء ولم يجيزوا الخبر، لأنك إذا قلت: (المغفور له) فإنك تخبر! والخبر عن الله من علم الغيب، ولا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله.
وأما من قال: (رحمه الله) فهو من باب الدعاء، وهو إنشاء؛ فيجوز إنشاءً ولا يجوز خبراً؛ فليعلم ذلك.
وهذا مثل قولهم: (فلان شهيد) فالله أعلم بحاله، لكننا نرجو لمن مات في سبيل الله؛ أنه مات شهيداً، لأنه لم ترد نصوص في ذلك للعلم بها وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم قيل له ذلك لما مات عثمان بن مظعون -كما في صحيح البخاري - فغضب عليه الصلاة والسلام وقال: {وأنا رسول الله! والذي نفسي بيده لا أدري ما الذي يفعل بي!} فالعلم عند الله، لكن نشهد للصالح الذي يعتاد المسجد خمس مرات في اليوم، والصادق الصائم المنيب، وبار الوالدين وواصل الرحم، فنثني عليه، ونحن شهداء الله في أرضه، ومثل هؤلاء نشهد لهم في أرضه.
وقد ذكره ابن تيمية -على العموم- في الفتاوى في مجلد مجمل اعتقاد أهل السنة وغيرها، يقول: هذا من أقوال أهل السنة تجدونه في المجلد الثالث في باب الاستثناء في الإيمان.(175/15)
قول: (لقيته صدفة)
ثم من كلامهم المشهور والمتداول بين الناس " لقيته صدفة ": وهل الصدفة واردة؟ لا.
ليس في خلق الله صدفة! قال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:49 - 50] وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22].
وكل شيء بقضاء وقدر والليالي عبر أي عبر
قال الحسن البصري لتلاميذه: [[والله لَوَضْعُ يدي هذه اليمني في اليسرى بقضاء وقدر من الله، ومن لم يؤمن بالقضاء والقدر فقد كفر]].
وقال عليه الصلاة والسلام في أركان الإيمان الستة: {وأن تؤمن بالقضاء والقدر حلوه ومره خيره وشره} وعند مسلم في الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام: {احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا؛ ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل} ومن أنكر القضاء والقدر فقد كفر، لأنه يقصد به أنه ليس لله سابق علم، وكأن الله لم يقدر في قوله أن نلتقي، بل يقول: بينما أنا في المطار لقيني صدفة! لا.
بل لقيك بقضاء وقدر؛ بل قل: قدَّر الله أن يلقاني.
وقول: (ودخلت الفصل؛ فرأيت الأستاذ صدفة) والصدفة مدخل للشيوعية؛ فإنهم دخلوا بثلاث مداخل: دخلوا بـ (لا إله والحياة مادة) وهي التي أسس عليها ماركس كتابه في الشيوعية ونحن نقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
وقبل ثلاثة أشهر كانت هناك مقالة في مجلة الدعوة أن جرباتشوف وأمثاله يعلنون خسارة الشيوعية في العالم، وأن الإلحاد كذبة، وأنه ثقافة، وأنه ليس بصحيح؛ ولذلك عزل ستة وزراء من وزرائه، ولا يريد أن يدخل في التوحيد والإيمان؛ ولكنه يقول: هذا النظام الذي قام على الإلحاد ليس بصحيح، بل هناك قوه فاعلة في العالم يسمونها (الطبيعة) ويسميها ابن سينا (العقل الفعال) ونسميها نحن (الله الذي لا إله إلا هو الذي يملك الضر والنفع، الذي بيده كل شيء) وقتل الشباب في بكين من أسبابه هذه النظرية اللعينة الخاطئة.
ودخلوا كذلك بمدخل (الصدفة) وقالوا: الكون ليس له قضاء وقدر والكون كذا، فأنت تدخل الفصل بلا قضاء ولا قدر، وتأكل بلا قضاء ولا قدر؟
ودخلوا كذلك بمدخل (الطبيعة) وقالوا: "الطبيعة تسير الأحداث" البكتيريا تأتي بالدود، وتأتي بالطيور، وتأتى بالحشرات.
فنقول: كذبتم! بديع السموات والأرض وحده لا شريك له.
وهذه المسائل التي أحببت التنبيه عليها.(175/16)
قول: (حتمية التاريخ)
ومنها: قول بعض الناس وخاصة الصحافة: "من حتمية التاريخ" وليس للتاريخ حتمية، ولا يفعل في الكون إلا الله، ولا يقضي إلا الله، "حتماً يقول التاريخ للأمة أنها أمة نامية، والرجعية رجعية، والقوية قوية" قالوا: هكذا حتمية التاريخ.
ويقولون: من حتمية التاريخ أن الدول تنهار، أي: بعد أن تصبح عالية تبدأ في الانهيار؛ لكن من الذي سبب وحكم عليها بالانهيار؟
إنه الواحد القهار الذي بيده ملكوت كل شيء {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].
إذاً: حتمية التاريخ خطأ.(175/17)
قول: الأخوة الإنسانية
وألحق في ذلك مسألة تسمعونها عند من لا يؤمنون بالله، أو عند العلمانيين يقولون: "الإنسانية، والأخوة الإنسانية" ولا يذكرون الأخوة الإسلامية، لكن الإنسانية، ويدخل فيها: رابين وجرباتشوف وبوش، وكل عدو لله يدخل في هذه المظلة؛ وأما إذا قلنا: (الأخوة الإسلامية)؛ خرج منها أعداء الله وبقي حزب الله: {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22] وقال سبحانه: {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19] وقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55] وقال: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] وقال سبحانه: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] وقال سبحانه في سورة المائدة: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].
هذه صفات المؤمنين وأما (الأخوة الإنسانية) فما سمعنا بها في آبائنا الأولين، ولا في الكتاب ولا في السنة ومعنى ذلك: أنك تدخل القطط والكلاب والحمير والخنازير، والكفرة والملحدين والمعرضين في الأخوة الإنسانية.(175/18)
قول: (شاءت الأقدار ونحوها)
ومنها قولهم: (شاءت الأقدار) وإنما أقول هذا؛ لأنه يشعر بالاستقلالية في الأقدار والصفات وسبق في بعض المناسبات أن قيل " يا رحمة الله! "، وفي حوار مع بعض العلماء ثبت أن هذه لا تطلق، وأن الصحيح عدم إطلاقها وألا نقول: (يا رحمة الله!) ولا (يا غوث الله) ولا (يا لطف الله)؛ لأن هذه تشعر بالاستقلالية في الصفة؛ بل ننادي الواحد الأحد: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا واحد، يا أحد، يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
أما هذه (شاءت الأقدار) فلا.
لأن الله قدر؛ ولأننا لو قلنا: (شاءت الأقدار) أو (أبت الأقدار) (ما سمحت الظروف) (لا بل ما سمحت الظروف) فهذا خطأ؛ بل الذي يسمح ويمنع ويقدم ويؤخر هو الله.
فقوله: (ما سمحت له الظروف) هو الصدفة، مثل (ما شاءت الأقدار)؛ وهي خطأ فليعلم ذلك.(175/19)
قول: (ما رأي الدين)
ومنها قول السائل في كثير من الأسئلة التي تعرض: ما رأي الدين؟
والدين ليس له رأي، قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4 - 5].
فالدين قال الله وقال رسوله، والدين ليس رأياً: [[جاء رجل إلى ابن عمر قال: يا ابن عمر! أرأيت لو أني طفت قبل أن أسعَ أو سعيت قبل أن أطوف، قال: اجعل أرأيت في اليمن]] قال: اترك أرأيت في اليمن وتعال.
ولذلك سموا فقهاء الأحناف أو بعضهم لما أكثروا من الرأي (ارتيائيين) أي: ارتيائي على الرأي، والرأي دائماً لا يصيب؛ لأنه إلى من يعود؟ ألآرائنا أو لرأي فلان أو علان!
ولذلك أمرنا الله عند التنازع أن نعود إلى الكتاب والسنة؛ لا لرأي أحد من الناس، ولا لرأي أحد من العلماء.
وسؤال الأخ، إذا سأل وقال: ما رأي الدين ليس بصحيح.
وهذه الكلمة يذكرها مثل مجلة المسلمون وعليها ملاحظات، وهي لم تتميز حتى الآن، ولا بد أن يسأل المحررون عليها: ماذا تريدون؟ وأين الصفاء؟ وأي قلم تكتبون به؟ وما هي مقاصدكم؟
فهم مرة يأتون بصورة من صور الإسلام فيظهرونها بصورة مشوهة، ومرة يعرضون قضية تشوه أفكار العامة، ومرة يأتون بفتاوى رخيصة لا تساوي الحبر الذي كتبت به، ويعارضون بها فتاوى أهل العلم، ومرة يأتون بقضايا تشوش على أذهان الناس، وأنصح طلبه العلم أن يحذروا كل الحذر من هذه المجلة، ومن تصيد الأخبار منها؛ يجد أن أسانيدها من الإسرائليات أحياناً.
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل
فيوردون في كثير من الأسئلة: ما رأي الدين؟ والدين ليس له رأي، إنما هو كتاب وسنة.(175/20)
قول: (اللهم اغفرلي إن شئت)
وقول القائل وعليه كثير من الملاحظات، وهذه قد أفتانا فيها محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: {لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، ولا يقل أحدكم: اللهم ارحمني إن شئت؛ بل فليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له} أي: ارحمني إن شئت، بل يعزم المسألة فإن الله يحب الملحاح في الدعاء، قال سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].(175/21)
تقديم بعض الألفاظ في السلام
ومنها: تقديم بعض الألفاظ في السلام، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كما في مسند الإمام أحمد قال: {أولى المؤمنين بالله من بدأهم بالسلام} والسنة عند المسلمين وعند أهل السنة؛ أن تبدأ بالسلام ولا تقدم كلاماً عليه -كما يفعل بعض الناس إذا التقوا في الصفوف قالوا: سلمتم والسلام عليكم.
أرحبوا يا ضيفان! الله يحييكم، قال: سلمتم.
والسلام عليكم- فهذه مخالفة للسنة، وهذه أقرب إلى عادات الجاهلية، والسنة أن يسكت المستقبلون في أماكنهم، ولا نصفهم بالبخل أبداً، فهم كرماء؛ لكن يتقيدون بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي الضيوف فإذا قالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يقولون: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته؛ ثم يقولون: ما أرادوا من الكلام: مرحباً، ألف أهلاً وسهلاً، مرحباً تراحيب السيل، يا أهلاً يا سهلاً، يا مرحباً، وقد عقد البخاري في الأدب المفرد " باب قول المضيف مرحباً " يقول: هل يقول مرحباً؟ وأضاف "باب هل يقال أهلاً" فأورد حديث أم هانئ في الصحيحين وفي المسند والمسانيد: {أنها دخلت على الرسول عليه الصلاة والسلام فسلمت، فقال من هذه؟ فقالوا: أم هانئ، فقال: مرحباً بـ أم هانئ} وقال عمر لـ عدي بن حاتم، وعليكم السلام حياك الله؛ أما أن تقول: (سلمكم) فتقدم على لفظ الرسول وعلى لفظ القرآن؛ فهذه التحيات من الجاهلية، أما الصحابة فكان الرجل إذا لقي الرجل رد عليه؛ فلا يقدم أي كلام، والتراحيب تأتي بعد التحية.(175/22)
قول: (العصمة لله)
ومنها -أيها الإخوة! وسوف تأتى- قولهم " العصمة لله " فمثلاً: تسأله مسألة فيقول لك: أخطأت والعصمة لله، وهذه المسألة خطأ، وقد نبه عليها الكثير من العلماء؛ لأن الله لا عاصم له، والمعصوم يحتاج إلى عاصم، والعصمة أمر نسبي يدخل فيها الاشتقاق، والله لا يعصمة أحد من الناس؛ فلا نقول: (العصمة لله)؛ لكن نقول: (الكمال لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والجلال والعظمة له) أما قول: (العصمة لله) فليس بصحيح هذا اللفظ، ويصح لك أن تقول: المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم؛ أما الله؛ فلا تقل: العصمة لله؛ لأن المعصوم يحتاج إلى عاصم، والله لا يعصمه أحد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(175/23)
قول: (صدق الله العظيم) بعد التلاوة
ومنها قولهم بعد التلاوة: (صدق الله العظيم) وهي بدعة لم يقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، ولم تأتِ في السنة.
ومعناها صحيح واستخدامها خطأ وبدعة، وإلا فالله يقول في سورة آل عمران: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95] والله صادق وهو أصدق الصادقين، قال سبحانه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] لكنَّ استخدامها بعد التلاوة يكون بدعة فليعلم ذلك.(175/24)
قول الداخل للإمام: (إن الله مع الصابرين)
قول الداخل للإمام: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] وذلك عند دخوله والإمام راكع، فالداخل يريد أن ينتظره الإمام حتى يدركه في الركعة، فيتنحنح -أي: يصدر صوتاً- ويقول: (إن الله مع الصابرين) فنبه عليها العلماء وحذروا من استخدامها، وهي من البدع المستحدثة، فلا تستخدم، بل كما قال صلى الله عليه وسلم: {يأتي أحدكم إلى المسجد فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، أي: تدخل بسكينة ووقار، فإن أدركت الركوع فبها ونعمت؛ وإن لم تدركه فصل ما فاتك ولا تقل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] أما أن تتنحنح لكي يسمعك، فهذا ليس بالصحيح.
وسئل أحد العلماء: هل ينتظر الإمام الداخل؟
قال: إذا لم يشق على الناس والإمام أحمد يرى ألا ينتظره، قال: يصلي صلاته العادية، أي لو تنحنح عشرين مرة، ولو كرر: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] ألف مرة.
لأن وراءك ألفاً أو مائةً أو ثلاثمائة وهم أولى من واحد متأخر لو فرط.(175/25)
رد التحية بغير السلام
ومنها: رد التحية بغير السلام: تقول: (السلام عليكم ورحمة الله) فيرد: (أهلاً ومرحباً) وهذا خطأ، ومخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي من أفعال الجاهلية، أو تقول: السلام عليكم فيقول: (حياك الله) أو (الله يحييك).
بل يكون ردك إذا سلم عليك.
وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، كما قال سبحانه: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] وقال سبحانه: {سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات:25] فالتحية ترد بمثلها أو بأحسن منها، وهي السلام.
ومنها: الاكتفاء عند بعض الناس: أي: قبل أن يسلم عليك، أحدهم يقول: صباح الخير، فتقول: صبحك الله؛ ثم ينصرف فهذا خطأ، ويلقاك في المساء فيقول: (مساء الخير) وإذا اتصلت بالهاتف، قال (ألو) وهي إنجليزية، ونحن لدينا (نعم) فمن أين (ألو) هذه؟ وما الذي أحوجنا إلى هذا الكلام؟! أنحن إنجليز أم عرب؟ فالكلام الذي نتكلم فيه بيننا؛ نتكلم به في التلفون، ونترك هذه المصطلحات المستوردة.
يقول أحد المفكرين: تعلمت من الإنجليز ثلاث كلمات، رأيتها في مذكرات علي الطنطاوي، منها: يقول: (بليز) وهي تعني: من فضلك، ومعناها عندنا بالعربي (إبليس) يقول: قال لأحد الخدم في المطعم: بليز، يطلبه ووتر أي: ماء، قال: يا إبليس! أعطني ماء ومنها من الألفاظ، (وِلْكَم) يعني: حياكم أو أهلاً، ومعناها بالعربية (ويْلَكُم) وكلمة نعود إليها، ولعلها تبحث لما فيها من الفوائد والله المستعان.
وعلى كل حال: ألفاظنا ينبغي أن تكون إسلامية.
وقد ذكر ابن تيمية -ويعرف ذلك طلبة العلم- في اقتضاء الصراط المستقيم أن من قدم غير اللغة العربية عليها لغير حاجة لها ففيه شعبة من النفاق ومثاله: أن يذهب إنسان إلى أهله في بادية أو قرية فيقول: (هلو جدمورنينج سير) ولا يوجد داعي؛ فهم بدو أو عوام أو عجائز لا يعرفون حتى العربية، ولا يعرفون: ضرب زيد عمَراً؛ فيستخدم هذا؛ قال: فهو في شعبة من النفاق وهو الصحيح؛ لأنك لا تجد هذا الصنف إلا يحب الخواجة أكثر مما يحب المسلم، ومتعلق بـ أمريكا، فهو في الخميس هنا لكن قلبه في واشنطن فلا يعجبه إلا ذلك الطراز، وصدق ابن تيمية.
لكن عند الحاجة فإنا نطلب أن يتعلم الإنسان اللغة الإنجليزية، فهي واجب على الكفاية، فالرسول صلى الله عليه وسلم: {أمر زيد بن ثابت أن يتعلم العبرية لغة اليهود فتعلمها في خمسة عشر يوماً} والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أرسل رسلاً لكل قوم، والإنجليز يخاطبون بلغتهم، والروس، وحيَّهلاً بمن تعلم اللغة وأجاد ودعا إلى الله؛ أما التعلم تكبراً وتبجحاً وتظاهراً؛ فهذا من شعب النفاق.(175/26)
قول: (استوينا لله اللهم أحسن وقوفنا)
ومنها قولهم بعد قول الإمام (استووا): (استوينا لله) وهذه ألفاظ شرعية لا بد أن تضبط ولم يقل الصحابة ذلك وراء الرسول، ولم يعلمهم (استوينا لله) فالله يعلم أنكم استويتم واعتدلتم، وأحد الأئمة يقول: أخبرني إمام وقد كان يطيل في الصلاة كثيراً، وكان إذا سوى الصفوف أخذ وقتاً طويلاً، فصلى هذا الإمام بأناس في صحراء وقال لهم: استووا، استووا، استووا، وكان تحتهم حرارة الرمضاء أي: حجارة حارة، فقال: (استووا) فرد عليه أحد الناس قائلاً: (اشتوينا) يعني: اشتوت أرجلهم من حرارة الشمس.
فعلى كل حال لا يقال استوينا؛ بل تدعو الله، وتستغفر، وتسبح، وهو أمر مطلق لا تتقيد به دائماً.
وقولهم: (الله أحسن وقوفنا بين يديك) واتخاذه شعيرة أو سنة، فإنها تصبح بدعة؛ لأن تكييفها في حالةٍ وزمنٍ تُدخلها في البدعة.(175/27)
قول: (نويت أن أصلي)
ومنها: (نويت أن أصلي كذا وكذا) والجهر في هذا الكلام بدعة كقول أحدهم " نويت أن أصلي الظهر أربعاً والعصر أربعاً "، وقد نبه على ذلك ابن القيم في زاد المعاد، في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة.(175/28)
قول: (اللهم صل على سيدنا محمد)
وقول بعضهم في التحيات في الصلاة: (اللهم صلِّ على سيدنا محمد) وكلمة " سيدنا " لم تأتِ في النصوص، وهي دخيلة، ولا يجوز أن نستخدمها في النصوص، ولا يجوز أن نستخدمها هنا، ولم يصح بها حديث في التشهد، أما كلمة (سيد) فقد استخدمها صلى الله عليه وسلم، ففي البخاري قوله في الحسن: {إن ابني هذا سيد} ومثله في البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: {قوموا إلى سيدكم} وكقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:39] والسيد كامل السؤدد، فاتضح أن استخدامها في التحيات لا يجوز.(175/29)
التأمين برفع الأيدي يوم الجمعة
ومنها: التأمين برفع الأيادي في الخطبة يوم الجمعة، مثلاً: "اللهم أصلح ولاة المسلمين " فيقولون: "آمين" ولا يصح رفع الأيدي بعد الخطيب يوم الجمعة، فليس فيه نص ولا حديث فيما أعلم، ومن عنده دليل فليأتِ به لنستجيب؛ وإلا فلا يصح هذا الأمر، وهو من البدع التي انتشرت.
فرفع المأمومين أيديهم بعد الخطيب يدعون، لا يصح إلا في مسألة واحدة: إذا استسقى الخطيب على المنبر فدعا؛ فعليهم أن يرفعوا أيديهم، أما إذا أطلق الدعاء؛ فلا يرفعون أيديهم، ويؤمن الإنسان في نفسه ولا يردد مع الإمام.
وإذا قال الإمام: فاذكروا الله يذكركم؛ قالوا: (لا إله إلا الله) أو: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] فيرتج المسجد " اللهم صلِّ على النبي"، فهذا من اللغو، بل يصلون في أنفسهم، ويؤمنون في أنفسهم؛ لأن المقصد الاستماع والإنصات {ومن قال لأخيه: "أنصت أو صه" فقد لغى ومن لغى فلا جمعة له} وهذا في سنن أبي داود ومسند أحمد.(175/30)
قول (لولا الله وفلان)
ومن المسائل: "لولا الله وفلان" وهي تدخل في الشرك اللفظي، أي: من الألفاظ الشركية (والله ومحمد) (لولا الله وأنت) فهذه ألفاظ الشرك.
بل يقال: (لولا الله وحده) (ولا أسأل إلا الله وحده) ولو قال: أنت فعلت ذلك بفضل من الله ثم بفلان " فلا بأس لأن " ثم " للتعقيب والتراخي بخلاف " الواو " فإنها للتشريك و"الفاء" للتعقيب؛ فينبغي أن يفصل بينها بثم أو استقلال اللفظ لله.(175/31)
سب الدهر
ومن الألفاظ: سب الدهر، وذم الأيام، كقول شاعر الجاهلية:
لحا الله هذا الدهر إني وجدته بصيراً بما ساء ابن آدم مولعا
وكقول أحدهم:
(قبحاً لهذا الزمان) أو (خيب الله هذا العهد) أو هذا الدهر، أو هذا الليل، أو زماننا هذا زمان قبيح، وهذا الزمن جر علينا المصائب.
فهذا لا يصح، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم ويسبني ابن آدم ويشتمني ابن آدم، أما سب ابن آدم لي: فإنه يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار كيف أشاء، وأما شتمه إياي " فإنه يزعم أن لي صاحبةً وولداً؛ وما كان لي صاحبة وولد وهو لم يتخذ صاحبة ولا ولداً -أو كما قال عليه الصلاة والسلام-}.
فسب الدهر من كلمات أهل الشرك، ونسبة الأفعال إلى الدهر لا تصح؛ فليعلم هذا حفظكم الله، فسب الدهر -أي سب الليل والنهار- لا يجوز!
والجاهليون الدهريون قالوا: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] فيعني الدهر (الليل والنهار) فلا يملك إلا الله، ولا يحيي إلا الله، ولا يشافي إلا الله.
والأيام كلها ظروف، يفعل الله فيها ما يشاء.(175/32)
قول (رجال الدين)
ومنها: قولهم: (رجال الدين) كأن يقال " ما رأي رجال الدين في هذا " أو "هذا من رجال الدين" أو " مطاوعة" أو نسبه قوم من الناس " ناس للدين وناس للدنيا " لا.
بل نحن للدين والدنيا، وليس عندنا رجال دين، ورجال الدين في الكنيسة، وهذه الكلمة أتت مترجمة من الكنيسة؛ لأنه في الكنيسة كان هناك رجال دين، وكان هناك رجال دنيا، أما نحن فنقول على حد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] فالحياة والموت وأعمالنا وتجارتنا وصلاتنا لله الواحد الأحد؛ فليس عندنا رجال دين ورجال دنيا، والذي لا يكون للدين فهو للشيطان، والذي لا يكون لله فهو لإبليس.
فنسبة رجال الدين وتخصيصها لنوع من النفر ليس بصحيح، وهذا من الكنيسة النصرانية، ولا يصح تسميتها عند المسلمين.
وكلمة " مطوع " نقول لمن قال هذا: إنها في العربية ليست مستقيمة، بل هي مستبدلة، وإلا مطيع وطائع، والطاعة لله عز وجل: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285] طائعين، فالصحيح (الطائع أو مطيع).
أما (مطوع) فلا تصح من حيث العربية، واستخدامها لنفر من الناس ليس بالصحيح ونقول -لمن قال: مطوع-: وأنت إما أن تكون مطوعاً أو عاصياً، ليس هناك إلا قسمان (عاصٍ وطائع لله) فإما أن تكون طائعاً لله أو عاصياً لأوامر الله تبارك الله رب العالمين.(175/33)
المصافحة بعد الفريضة وجعلها سنة
الدعاء بعد الفريضة برفع الأيدي والمصافحة بعد الفريضة، واتخاذها شعاراً دائماً بعد أن يسلم الإمام بدعة، وقد نبه كثيرون عليها، وقد نص ابن تيمية وابن القيم أنها من البدع المنتشرة عند المسلمين.
فأقول الدعاء بعد الفريضة وارد أما رفع الأيدي فلا، فقد صح عن معاذ {أن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: يا معاذ! والذي نفسي بيده إني أحبك! فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} أما رفع الأيدي بعد السلام مباشرة بالدعاء كما يفعل بعض الناس، فليس بصحيح وهو من البدع.
بل تدعو بدون رفع للأيدي، وتسبح كما ورد في السنة.
ومنها: اتخاذ المصافحة شعاراً، فتجد بعض الناس -وهم كثير- في الحرمين وفي بعض المساجد إذا صافح قال: (تقبل الله) وقد نص كثير من العلماء على أنه بدعة، وأنه لم يرد عن السلف؛ أما إذا كان أحد من الناس قدم من سفر ورأيته؛ فسلم عليه، أما رجل دائماً معك في كل صلاة فتقول: (السلام عليك تقبل الله، تقبل الله) فلا.
وبعضهم يسلم على ثلاثة عن يمينه وثلاثة عن يساره، وثلاثة أمامه وثلاثة خلفه؛ حتى تجد بعض الناس في الحرم يكلم الناس ويقطع عليهم ذكرهم وتسبيحهم ويشوش عليهم، وهذا من الجهل والبدع.(175/34)
ألفاظ شركية
ومن الألفاظ الشركية التي انتشرت وقد نبه عليها كثيرٌ من الأئمة والخطباء والتي قد تصل بصاحبها إلى الشرك، مثل قوله: " خذوه " أو "شلوه" -نسأل الله العافية- وهي من نسبة الأفعال والتصرف في الكون للجن وهذا شرك.
فلا يصرف إلا الله قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] فنسبة هذه الأفعال لغير الله عز وجل غير صحيح، وهذا ينبه عليها.
أو قول البعض " نعوذ بالله سبعة " وهذا أمر عجيب!
وأخبرنا أحد الإخوة: أنه نزل إلى السوق يأكل تمراً؛ فأتى عند رجل فقال: ستة مبارك ثمانية، أي: قفز عن لفظ سبعة في الكلام؛ حتى لا ينصرف إلى الجن، فقال هذا الشاب له: قل سبعة؛ فقفز الرجل على الشاب، وقال: " باسم الله، اللهم احفظني واحرسني" وهذا من اعتقادهم أنهم يضرون وينفعون، ولا ينفع إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] وهذا من الخطأ، ومن صرف الأفعال التي يؤثر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيها بالكون، والناس لا يملكون ضراً ولا نفعاً.
فهذه من الأفعال التي انتشرت بين الناس وأحببت أن أنبه عليها حتى لا يقع فيها الناس، ونسأل الله لنا ولكم الهداية والرشد والسداد.(175/35)
الإرجاء حقيقتة وخطره
ومعي قضية أختتم بها الحديث.
مسألة الإرجاء: وهي مسألة منتشرة بين كثير من الناس، وهو مذهب بدعي فـ المرجئة يقولون إن الإيمان قول واعتقاد، أما العمل فلا يدخل فيه، والناس متساوون في الإيمان، ولا يلزم الإنسان أن يفعل صالحاً إذا آمن، قال ابن تيمية في المجلد السابع: " جعل المرجئة الإسلام كالثوب البالي"، والمرجئة منتشرة بين الصفوف، خاصة أن كثيراً من الناس الذين لم يقبلوا على الله فليس عندهم توبة وليس عندهم عمل صالح، فتقول له: صلِّ، فيقول: الله غفور رحيم ويزني ويقول: الله غفور رحيم، ويقول: الله لا يؤاخذنا بأعمالنا، والله أرحم من ذلك، والله أرحم من أعمالنا!!
وأحد الناس الكبار في السن لقيته مع أحد الإخوة في مسجد من المساجد، فكان جالساً، وليس لديه عمل، دائماً في المسجد؛ لكنه لا يسبح ولا يقرأ ولا يذكر الله يعني: ينظر إلى الشارع فيوصل السيارات برأسه، يراقب الأولى ثم يأخذ الثانية ثم الثالثة، فقلت له: يا والد! حفظك الله: لو استغللت وقتك وقلت: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله) وجئت له بأحاديث؛ فقال: يكفي أن أصلي، فالله ليس بحاجة لتسبيحنا، وأنا -والله- لا أريد من الله إلا الصلاة التي أصلي له سبحان الله! وهذا حصل معي مع بعض الشباب، وكثير من الشباب الذين عندهم كثير من العلم، لكنهم يقعون في كثير من المعاصي والخطايا ويقولون: (الله غفور رحيم) أما قرأوا: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وأنه: {لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26]؟!
فمذهب الإرجاء منتشر؛ ولذلك تجده يرجو رجاءً عظيماً ويعمل عملاً سيئاً؛ فلْيُعْلَمْ هذا، فهو من الخطورة بمكان، وهو منتشر في صفوف كثير من الناس؛ حتى أخبرنا أن بعض الناس عرف في حيه أنه من أفظع الناس في الخطايا، يرتكب منها أمثال الجبال؛ فلما ذهب بعضهم إليه في البيت لينصحه، قال: اسمع، وكأنه يريد أن يقنعه بالحديث فانظر إلى هذا القحط الذي وقع في الدنيا، قال: نحن في خير والحمد لله، ولو ذهبت إلى أمريكا وفرنسا لرأيت العجائب، أما نحن -والحمد لله- فنحن في خير واستقامة، والله عز وجل ليس بحاجة إلى عملنا، وأبشرك أننا مصلحون وفي خير.
ماذا تقول لهذا؟ ألم يقرأ القرآن والسنة؟
فهو يرد عليك بكلام أهل الإرجاء.
فهي بدعة مشينة؛ وهي تحطم الدين؛ وتقطع تقوى الله رب العالمين؛ وتسد طريق السالكين إلى الله، فليحذر من الإرجاء، فإن الله قد يغضب من كلمة يقولها الشخص في مجلس، فتهوي به في النار سبعين خريفاً، أو ربما يفعل فعلة لا يرضى الله بها عنه أبداً.
بكى الحسن البصري فقالوا: مالك؟ قال: أخشى أن يطرحني في النار ثم لا يلتفت إليَّ.
فنسأل الله العافية والسلامة.(175/36)
الأسئلة(175/37)
حديث (ملعون من سأل بوجه الله)
السؤال
ما صحة هذا الحديث: {ملعون من سأل بوجه الله، ملعون من لم يجب}؟
الجواب
بحثت عن هذا الحديث مع بعض الإخوة وهو في كشف الخفاء ومزيل الإلباس وقد نسبه للطبراني وقال: سنده حسن عند بعض الأئمة، لكن في القلب من تحسينه شيء، وعلى كل حال تكلم فيه بضعف ثم قال وسنده حسن عند بعض الأئمة، والذي يظهر لي أنه ضعيف، وأن كلام العجلوني أو السخاوي -والسخاوي نص كذلك على نسبته إلى الطبراني في الكبير وحسنه- فيه نظر؛ ولكن الذي أقوله الآن أن النص لا يُطمأن إليه وقد نص بعض العلماء والأئمة أنه ضعيف.(175/38)
حكم لعن الشيطان
السؤال
ما حكم لعنة الشيطان؟
الجواب
الشيطان ملعون، ويجوز لعنه، لكن حُبذ في بعض الأحاديث ألا تلعن الشيطان لأنه ينتفض كالجبل، ولكن استعذ بالله منه، وأنا أرى أن يقال: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" لأنه أفضل، وإلا فيلعن.(175/39)
حكم قول (أنا أكبر من الله)
السؤال
ما حكم قول بعض الناس فيما يقوله في المزاح: " أنا أكبر من الله " ويريدون فيها أنه يكبر بتوفيق من الله، يعني من الله؟
الجواب
هذه العبارة لا تستخدم، ولا يجوز أن تلقى على الناس لأنه وقع بها الإيهام الذي نهى عنه أهل العلم، قال علي بن أبي طالب: [[حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله]] وقال ابن مسعود: [[إنك لست محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة]] فلا يحدث بهذه الألغاز، ويضيع بها الحياة إلا من قل حظه من العلم الشرعي، والغريب أنك تجده لا يجيد الوضوء ولا يعرف سجود السهو، ويقول: أنا أسألك عن شيء إذا رفعته بكى وإذا خليته سكت، وأسألك عن معنى " أنا أكبر من الله "، " وأسألك عن شيء إذا اقتربت منه ابتعد عنك وإذا ابتعدت عنه اقترب منك، وهذا كلام خزعبلات يليق بعجائز البربر وشيوخ القمر، أما طلبة العلم والأخيار فليس هذا حديثهم.
وكلمة " أنا أكبر من الله " موهمة، فالكبير هو الله، وما الداعي لقول هذا الكلام، فهذا قد أخطأ وضل ضلالاً مبيناً، وكذب على الله، وأنا أعرف قصده، لكن لماذا يستخدم هذه الكلمة المهينة المشوشة المسيئة.
وقوله " أنا أطهر من الكعبة " بل هو أنجس من الكلب -نعوذ بالله- فإن كان قصده هذا الكلام؛ فهو أنجس من الكلب " -إن كان يقصد ما يقول- وإن كان قالها تبجحاً؛ فهو جاهل نأتي به فنعلمه ونؤدبه، ونمر به على القاضي يحكم عليه بعشر جلدات بعد صلاة الجمعة ليذهب يتغدى مع أهله، ولذلك يقول السيوطي من يستخدم الألفاظ المجملة على القضاة أن يؤدبوه، على الناس أن ينتبهوا لهذا.
ويقول في الثاني: أنا أنجس من الكلب ويقصد بها أنه يتنجس من الكلب، فهذا حكم على نفسه، ولا نأخذ إلا حكمه على نفسه.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(175/40)
الصيام تدريب روحاني
رمضان شهر التوبة والغفران، وهو أعظم فرصة للمذنبين ليعودوا إلى الله.
وفي هذا الدرس بيان لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهدي السلف الصالح في رمضان، وبيان للأخطاء التي يرتكبها الناس في رمضان.(176/1)
وقفات مع آيات الصيام
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيرا، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم عليه من معلم جليل، ومؤيد بجبريل، ومذكور في التوراة والإنجيل، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
يا مسلمون! يا مصلون! يا صائمون! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وإن كان من شكر فإني أشكر الله تبارك وتعالى على أن أجلسني أمام الصالحين الأبرار، والنبلاء الأخيار، ثم أشكر أهل الفضل لفضلهم وهم الداعون من ثانوية الملك خالد بهذه المنطقة، مديراً وأساتذة وطلاباً.
جاءكم ضيف كريم على أنفسكم، وأتاكم حبيب طالما تشوقتم إليه، أو الكثير منكم طالما تشوق إلى هذا الضيف، وهو الصيام وشهر رمضان.
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيباً زارنا في كل عام
قد لقيناك بحب مفعمٍ كل حب في سوى المولى حرام
فاقبل اللهم ربي صومنا ثم زدنا من عطاياك الجسام
لا تعاقبنا فقد عاقبنا قلق أسهرنا جنح الظلام
أتى شهر رمضان وقد فقدناه سنة، وفي هذه السنة الله أعلم ماذا فعلنا فيها؟ ذنوباً وخطايا، ومعاصٍ وفواحش، كبائر وصغائر، تخلف عن الجماعات، وإغضاب لرب الأرض والسماوات، سيئات كثيرة، لكننا نسأل الله مغفرة، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {رمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة، والجمعة إلى الجمعة، كفارات لما بينهن ما لم تغش كبيرة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
أتى رمضان ووقف العصاة على أبواب التوبة أتى رمضان وتحركت القلوب إلى باريها أتى رمضان لتبكي العيون التي ما عرفت الدموع أتى رمضان لتلين القلوب التي كانت قاسية أتى رمضان لتجوع البطون التي طالما شبعت وما عرفت الجوع أتى رمضان لتضمأ الأكباد التي ما عرفت الضمأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183].
يا مؤمنون! يا مصلون! يا حملة الرسالة الخالدة! يا أهل المساجد! يا أهل الثلث الآخير من الليل! أنتم المؤمنون لا غيركم، الآية لا تخاطب الفنانين والفنانات، ولا الراقصين والراقصات، ولا المطبلين والمطبلات، إنما تخاطب أهل الإيمان، الذين غرسوا في قلوبهم لا إله إلا الله، والذين سجدوا لله، وتوجهوا إلى الله: يا أيها الذين آمنوا.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] فهو واجب وفريضة وليس بسنة: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] والمقصد من الصيام أن يتقي العبد ربه.
كيف يتقي العبد ربه بالصيام؟
إذا جاع انكسر وتواضع وعرف الله، فالعين لا تغض عن الحرام حتى يتقي العبد ربه، والفرج لا يحفظ إلا إذا اتقى العبد مولاه، ومتى يحفظ؟ إذا جاع.
إن الشبع وكثرة المطعومات والملبوسات، والمرطبات والمشروبات والمشهيات تجعل القلب جباراً، لا يغض طرفه، ولا يحفظ فرجه، ولا يدري ماذا يأكل، ولا يحفظ أذنه من الحرام.
{{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] فالتقوى في الصيام، يقول عليه الصلاة والسلام: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} يوم يصوم العبد تذبل روحه، وينكسر قلبه، ويتوجه إلى الله، ويصبح عبداً لله.
فيا أيها الإخوة! من منطلق هذه الآيات نأخذ دروساً من الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:183 - 184] ليست شهوراً، كم أكلنا؟ كم شربنا؟ كم تمتعنا؟
إحدى عشر شهراً ونحن نأكل أفلا نصوم شهراً واحداً؟ إحدى عشر شهراً نشرب أفلا نصوم شهراً واحداً؟ {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184]
مرحباً برمضان، شهر التوبة، وأسأل الله في هذه الليلة المباركة أن أكون وإياكم والمسلمين من عتقاء هذا الشهر، الذين اطلع الله عليهم في ليال حبيبة قريبة من ليالي الصيام، فأعتقهم من النار، ويحرَّم أجسادهم على النار، وعظامهم وعصبهم وشحمهم ودماءهم.
يا رب! عبادك بين يديك من يرحمنا إذا لم ترحمنا؟! من يغفر إذا لم تغفر لنا؟! من يقبلنا إذا رددتنا؟! من يتوب علينا إذا لم تتب علينا؟!
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقنا من النار
{شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة:185] ما هي مواصفاته وصفاته؟ {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]؟
يا أيتها الأمة التي كانت أعرابية بدوية متخلفة ساذجة، فأنزل الله عليها القرآن؛ فحكمت الدنيا!
يا أيتها الأمة التي ما عرفت الثقافة والمعرفة والنور فأنزل الله عليها القرآن ففتحت الدنيا!
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185] لك الحمد، ولك الشكر، ولك الثناء الحسن: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] لكن هنا قضايا:
أولاً: هديه صلى الله عليه وسلم في الصيام.
كيف كان يصوم؟
ثانياً: أثر الصيام في تربية النفس التلاوة الصدقة النوافل ذكر الله التفرغ للعبادة طرد الشيطان إلى غير ذلك من القضايا.
ثالثاً: الأعمال الصالحة في رمضان، بم نقضي شهر رمضان؟
وهذه المآسي التي نعيشها إن لم نوجد لها حلاً إسلامياً سوف نستمر في الخطأ، أصحيح أن رمضان يحدث في بعض الأماكن، وفي بعض الأسر والبيوت رجالاً ونساء يكون موسماً للنوم، النهار نوم والليل يقظة وسمر وسهر في غير طائل، بل في المعاصي والمخالفات، ثم يأتي الإفطار فتكون مطعومات ومشروبات ومرطبات تكفي الجماعات الهائلة ثم ترمى وتهلك وتهدر بلا حساب ولا مراقبة لله؟
تلك خطايا سوف نمر بها هذه الليلة، لكن ما هي الأعمال الصالحة التي نقضيها في شهر رمضان؟
ذلكم ما سوف نستمع إليه في هذه الليلة المباركة إن شاء الله.
المسألة الرابعة: محاذير يقع فيها كثير من الناس في رمضان.
أ- السهر الضائع أولاً.
ب- كثرة المطعومات والمشروبات والتهيؤ لهذا الإفطار والسحور بشيء الله به عليم.
ج- إدمان النوم وكثرته على حساب رقة القلب والعبادة.
د- عدم التأثر بالصيام، يدخل الشهر ويخرج ولا أثر ولا تربية ولا نزع ولا فائدة؛ فما هي فائدة الصيام؟
هـ النزول إلى المحلات والأسواق بكثرة حتى أصبحت ظاهرة عند كثير من المسلمين في رمضان؟(176/2)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان
ما هو هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان؟
أولاً: صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في الصحيحين: {يقول الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، للصائم فرحتان: إذا أفطر فرح بفطره أو بصومه، وإذا لقي ربه فرح بصومه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام ثم قال في آخر الحديث: {ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك والصوم جنة -يعني وقاءً وساتراً وحاجباً- فإذا كان يوم صوم أحدكم فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم}.
أولاً: يقول الله في الحديث القدسي: {كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي} لأن الصلاة والناس يرونك، والحج والعمرة تكونان مع الناس، والزكاة تزكي بمرأى ومسمع من الناس، لكن الصيام سر بينك وبين الله.
من يعرف -أيها الإخوة المسلمون- أنك صائم أو غير صائم إلا الله؟ بإمكانك أن تتستر بالحيطان، بإمكانك أن تختفي وراء الجدران ثم تأكل وتشرب ولا يدري بك إلا الله.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقلها إن الذي خلق الظلام يراني
والمؤمنون يتميزون عن الكفرة بالإيمان بعلم الغيب: {آلم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3] إيمانٌ بالغيب، يعبدون الله كأنهم يرونه فإن لم يروه فإنه يراهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
أحد الصالحين توفي فرئي في المنام قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ذنبي، قالوا: بماذا؟ قال: أذنت وحدي في الصحراء وأقمت ولا يراني إلا الله.
والصيام سر بينك وبين الله، ولذلك تميز الصيام عن غيره من الأعمال أنه لا يعلم بك إلا الله، وقد سمعنا وشاهدنا ونقل إلينا من كثير من أبناء المسلمين الذين يعيشون في بلاد المسلمين ممن قلت رقابتهم لله، وممن ضعف إيمانهم في قلوبهم، وممن تذكروا كل شيء إلا الله، استحيوا من الناس وما استحيوا من الله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء:108] {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة:7].
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب
وجد من شبابنا بل من كبار السن ممن قلت رقابتهم؛ من يأكل ويشرب في رمضان، لا إله إلا الله! أبعد هذا العمل خوف من الواحد الديان؟! أبعد هذا التصرف خشية للرحمن؟! أي إيمان هذا؟ وهذا لأنهم تربوا على غير القرآن، ولم يعرفوا المساجد، ولم يداوموا على الصلوات الخمس، أخذوا ثقافتهم من المجلة الخليعة، والجلسة الآثمة، والأغنية الماجنة، والجلساء السيئين، فانقطعوا عن القرآن والحديث، وانقطعوا عن الدعوة والمحاضرات والدروس، فوقعوا في براثن المعصية.(176/3)
جوده صلى الله عليه وسلم
كان هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان أنه إذا أقبل رمضان حياه وبياه وأنزله في شغاف قلبه، يقول ابن عباس في الصحيحين: {كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس} أولاً: هذه قاعدة: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس} يعني هو أجود الناس في رمضان وغير رمضان، وقد ورد في المسند أن أعرابياً سأله فقال: {لا.
وأستغفر الله} يعني: أستغفر الله من (لا) فهو لا يعرف (لا) لكنه هذه المرة قال: لا، واستغفر الله.
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
يغضي حياءً ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم
{كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة}.(176/4)
مدارسة القرآن مع جبريل
وفي رواية: {فيدارسه القرآن إذا لقيه جبريل} ويختم معه القرآن ويعيش مع آيات الواحد الديان، ويتدبر معه العبر التي أنزلها الرحمن، فيأتي صلى الله عليه وسلم كالريح المرسلة، بالعطاء، والعلم، والنفع، والفائدة، والصدقة، هذا هديه، إذن يستفاد من الحديث الصدقة، وتلاوة القرآن، ومدارسة كتاب الله عز وجل، هذا هديه صلى الله عليه وسلم.
أما لياليه فلا تسأل عنها، فهي عبادة وبكاء، ومناجاة للواحد الديان.
قلت لليل هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار
قال لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار
{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17] {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17] {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] يا من أذهب ليله بالمعاصي! يا من جعلها في السهرات والسمرات! يا من ضيعها في المخالفات والسيئات! أما خفت الله؟ أما راقبته وحاسبت نفسك قبل أن يحاسبك الله؟(176/5)
أثر الصيام في تربية النفس
القضية الثانية: أثر الصيام في تربية النفس:
من فوائد الصيام -ومن لم يستفد من صيامه في رمضان فليراجع نفسه، وليعلم أن في صيامه نظر، وليعلم أن في صيامه نقص، وليعلم أنه ما صام صياماً حقيقياً-:(176/6)
غض البصر وحفظ الفرج
أولاً: غض البصر وحفظ الفرج: فإذا لم يصم العبد عن هذه الأمور فكأنه ما صام، والصيام ليس معناه أن تصوم عن الخبز والماء والفاكهة والخضروات، ثم تفطر على أعراض المسلمين والمحرمات، لا والله.
لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايباً فصنها وقل يا عين للناس أعين
بل الصيام أن تصوم عينك عن الحرام، ويصوم لسانك عن الخنى والغيبة والنميمة والفحش، الصيام أن يصوم فرجك عن الحرام وبطنك عن أكل الحرام، وإلا فلا مدلول للصيام، دل عليه قول صلى الله عليه وسلم كما سبق في الصحيحين: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} ومعنى وجاء، أي: مانع من المحرمات أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وفي لفظ: {فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج} فهذه مدرسة الصيام، أولها: حفظ اللسان وغض البصر، وحفظ الفرج والجوارح مع الله الواحد الأحد، فمن وجد نفسه من أول يوم في رمضان أنه لم يحدث له شيء ولا تغير وأنه إذا نزل إلى الأسواق نظر إلى عورات المسلمين والمحرمات والأجنبيات فليعلم أنه لم يصم، وأنه ما دخل في الصيام، بل جاع وضمئ فقط لكنه لم يصم.(176/7)
التواضع والانكسار
والمسألة الثانية من فوائد الصيام:
التواضع وانكسار النفس، فالنفس جموحة طامحة لا تنكسر إلا بجوع، والجوع هذا مدرسة، يوم تجوع تتذكر الفقراء والمساكين، فكثير من الناس اليوم شبعان ريان في قصره وسيارته الفاخرة، ووظيفته العالية، يظن أنه ليس في الدنيا فقير، وقد سمعت عن فقير أنه ما وجد عشاء ليلة هو وثمانية من الأطفال عنده، ولم يجد الوقود الذي يعبئ به سيارته ليس له وظيفة أو دخلٌ أو منصبٌ، وهو رجل يعول عائلة، ومستأجر في بيت، فلم يجد عشاء ليلته، فذهب إلى جيرانه يطرق عليهم ليستلف منهم ما يعشي به أطفاله، ولكن كثيراً من الذين يتعاملون بالربا ويستقلون السيارات الفاخرة، والمناصب العالية، والأموال الغزيرة لا يشعرون بهذا، لكن يشعرون إذا صاموا بحرارة الجوع وحرقته ولوعته، فكيف لا يعيش الإنسان هذه الأحداث؟!
فيا أيها المسلمون! مقصدي ومقصدكم إن شاء الله أن نشعر بالجوع، وهو المحذور الذي ذكرنا من النوم في رمضان، فإن بعضهم ينام بعد الفجر إلى قريب من الظهر، ثم ينام من العصر إلى قريب المغرب، فمتى يصوم ويحس بالصيام، هل هو صوم النوم؟ كتب عليه الصوم وهو نائم في الأحلام، يرى في المنام أنه صائم، فلا يستيقظ إلا ثلاث ساعات، وبعضهم وجد أنه لا يستيقظ إلا وقت الصلاة، يصلي الفجر ثم ينام حتى صلاة الظهر فإذا سمع الأذان توضأ وأتى فنقر أربع ركعات، وليس فيها نافلة، ثم يعود مباشرة لئلا يضيع الوقت فينام إلى صلاة العصر، ثم يصلي العصر ثم لا يستيقظ إلا في صلاة المغرب، فهل هذا صوم؟
هذه كصلاة عجائز نيسابور وليس بصوم هذا، فليس المقصود في الإسلام أن يستلقي الإنسان على فراشه ثم لا يشعر بالجوع والظمأ، ولا يتلو القرآن ويعيش التلاوة، ولا يتذوق السيرة، أو يقرأ الحديث، ولا يدعو إلى الله، ويغتنم الذكر والاستغفار والتوبة، إذاً ماذا قدم؟ وماذا فعل؟(176/8)
طرد الشيطان
ثم القضية الثالثة من الفوائد: طرد الشيطان وتضيق مجاري الدم، فالدم يزيد بكثرة الطعام والشراب، ولذلك قالوا عن الصيام: إنه قرة عيون العابدين، وشرح لصدور المستقيمين، وبلسم شافٍ لقلوب الموحدين، وكهف يلجأ إليه العابدون، ويحبه القائمون العارفون، أو كما قالوا.
إذا علم ذلك فإن الطعام والشراب يكثر جريان الدم، والشيطان يجري -كما في الحديث الصحيح- من الإنسان مجرى الدم، كلما أكثر الإنسان من الأكل كلما كان شيطانه أكبر إلا أن يستغفر الله ويذكره، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الكافر يأكل في سبع معي -أمعاء- والمؤمن في معي واحد} لأن الكافر يأكل معه الشيطان والعفاريت والجن، ويحضرون مأدبته ويشاركونه هذه الضيافة الكريمة منه لإخوانه وقرنائه.
أما الصالح فإنه يسمي ويأكل وحده، ولذلك يقول بعض العلماء لما قال صلى الله عليه وسلم في صيام أيام البيض: إنما خص البيض -وهذا علم عصري يقبل الرد والقبول -يقول: إنما خصص الرسول صلى الله عليه وسلم الثلاثة الأيام البيض؛ لأن الأيام البيض يكثر جريان الدم في العبد، ولذلك المد في البحر يزيد، والجزر ينقص إذا اختفى القمر فقالوا: جريان الدم يزيد في الثلاثة الأيام البيض: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، فجعل صلى الله عليه وسلم الصيام في هذه الأيام لتضيق مجاري الطعام والدم، ليندحر الشيطان، فأخسأ ما يكون الشيطان في رمضان.
ولذلك إذا دخل رمضان فتحت الجنان- اللهم اجعلنا من أهل الجنة، اللهم اجعلنا من ورثة الجنة -وغلقت النيران -نعوذ بالله من النار وصفدت الشياطين- ومصفودة، يعني: مغلولة أياديها إلى أعناقها لا تتحرك في رمضان، لأنه حجر عليها في الطعام والشراب.(176/9)
تذكر المساكين والمحتاجين
من دروس رمضان كما أسلفت: تذكر المساكين والمحتاجين، أحد الصالحين كان ينام ثم يستيقظ في وسط الليل فقالوا: مالك لا تنام؟ قال: أتذكر المساكين واليتامى والمحتاجين، يا من نام على الفراش الوثير! غيرك ينام على الرصيف، يا من أكل الموائد الشهية! غيرك لا يجد كسرة الخبز، يا من يسكن القصور البهية! غيرك يسكن في خيمة أو في الصحراء، غطاؤه السماء ولحافه الأرض، وأقرب الناس إلى الله أنفعهم لعياله، وهناك أثر: {الناس عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله}.(176/10)
التفرغ للعبادة وقراءة القرآن
المسألة الخامسة من الفوائد: التفرغ للعبادة، إذا لم يأتِ هذا السر في الصيام أصبح الصيام ناقصاً، فمن أسرار الصيام -يا مسلمون ويا مسلمات، ويا مؤمنون ويا مؤمنات- التفرغ للعبادة، وذلك لأن الطبخ والنفخ وكثرة الاشتغال في المأكولات والمشروبات تأخذ وقتاً على الإنسان، بل بعضهم ما همه في أكثر الأوقات إلا في الأكل والشراب، بعضهم الآن له خمس وجبات يفطر في الفطور فيشاور أهله وهو على الإفطار ماذا تريدون من الغداء؟ فإذا تغدوا، عقدوا مجلساً مغلقاً للعشاء، ودار الحوار بالأغلبية عن الوجبة التي تقدم في العشاء، ثم يأتي العشاء، وفي العصر لا تسل عما يمر من شاي وقهوةٍ وباردٍ وببسي وميرندا وفواكه وغيرها، حتى أصبحت حياتنا حياة أكل وشرب، أصبحت الزيارات للأكل والشرب، لا آية، ولا حديث ولا استثمار، وما كانت هذه حياة السلف.
ونحن لا نقول للناس لا تأكلوا وتشربوا لكن نقول لهم: نظموا حياتكم وبرمجوا أوقاتكم ليكون هناك استثمار للعبادة وطائل من الحسنات ووقت لرفع الدرجات عند المولى، أما تنظر إلى الخواجة الكافر وهو في مصنعه ومعمله يهدر وهو لا يجد وقتاً، يأكل الطعام وهو واقف، وهو لا يرجو جنة ولا ثوباً ولا يخاف ناراً ولا عقاباً، فكيف يذهب الوقت سدى؟
قالوا: من فرص الصيام التفرغ للعبادة وهو صحيح، فإنك من صلاة الفجر ليس عندك ما تشتغل به، ثم يأتي الظهر وهو وقت الوجبة التي يأخذ على الناس لإعدادها وإحضارها ساعتين أو أكثر، فهذا أنت معفي عنه أيام رمضان، ثم العصر حتى تتفرغ ويتفرغ قلبك للاتصال بالحي القيوم وهي فرصة.(176/11)
هدي الإسلام في رمضان
والمسألة الثانية من فوائد الصيام:(176/12)
الإكثار من قراءة القرآن
ما هي الأعمال الصالحة يا مسلمون؟
أنا أوصيكم ونفسي أن يكون رمضان خاصاً بالقرآن، وأوصي أهل الاطلاع أن يقللوا من اطلاعهم إلا في القرآن، وقد ذكر عن الإمام مالك: أنه لما دخل رمضان امتنع عن الفتيا ومجالس العلم، وقال: هذا شهر القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185].
فأدعو نفسي وإياكم إلى أخذ هذا المصحف من أول يوم، ثم الإدمان في النظر فيه، والاستمرار في القراءة والترداد والتكرار والتدبر، علَّ الله أن يجعله بلسماً لقلوبنا، فقد روى الحاكم في المستدرك بسند حسن أنه قال عليه الصلاة والسلام: {يأتي الصيام والقرآن يوم القيامة يشفعان للعبد، يقول الصيام: يا رب! منعته طعامه وشرابه وشهوته، ويقول القرآن: يا رب! منعته نومه فشفعني فيه، فيشفعان فيه}.
فيا مسلمون! أوصي نفسي وإياكم بكثرة تدبر القرآن، وكثرة قراءته وتلاوته، وسوف أورد بعض القصص لا على أنها سنة، لكن تدل على أن بعض السلف كان يجتهد اجتهاداً عظيماً في رمضان:
الإمام الشافعي ذكر عنه الإمام الذهبي: أنه كان يختم القرآن في رمضان ستين مرة، وقد نقل هذا ابن كثير أيضاً، أنه كان يختم القرآن في رمضان ستين مرة، مرة في الليل ومرة في النهار، ونحن أمرنا في السنة أن نختمه في سبع ولا يفقهه من قرأه في أقل من ثلاث لكن لزيادة الأجر: {من قرأ القرآن فله في كل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف} والحديث عند الترمذي.
فكان السلف من أحرص الناس على قراءة القرآن.
وذكر ابن حجر أن البخاري صاحب الصحيح: كان يقرأ القرآن في رمضان ثلاثين مرة.
فأين الهمم؟ وأين أصحاب العزائم؟ فليتقربوا إلى الله في رمضان بكثرة تلاوة القرآن؛ فيختمه كثيراً ويكرره كثيراً، ويتدبره كثيراً فإنه سوف يكون شفيعاً له عند الله.
وعند ابن حبان أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، من عمل به قاده إلى الجنة، ومن أعرض عنه أخذه وقذفه على وجهه في النار} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
نشكو إلى الله حال الكثير منا، فالكثير يأتي إلى الصحف والمجلات، والجرائد والمنشورات، فيعطيها الوقت الكثير ولا يعطي كتاب الله إلا قليلاً من وقته، أهذا حال الأمة الإسلامية؟ أهذا حال مؤمنين يريدون الله والدار الآخرة؟!
إن هذا معناه -والله أعلم- أن في الأمة قسوة، وأن فيها قلة فقه، وعدم توجه إلى الله.
إذاً: أكثر ما يستغل في رمضان المصحف -القرآن- فأكثروا من ختمه، وأكثروا من تدبره وحفظه، فشهر رمضان شهر القرآن.(176/13)
المحافظة على الجماعة
المحافظة على الجماعة، ولا يعني مفهوم المخالفة أن تحافظ في رمضان، وأن تترك الجماعة في غير رمضان، لا والله.
فإن اليوم الذي تركت فيه صلاة الجماعة؛ وقع الناس في المعاصي، ويوم تركت صلاة الجماعة؛ وقع الناس في السيئات.
فالمحافظة -أيها المسلمون- على صلاة الجماعة في رمضان وغير رمضان، لكن يمتلئ العالم الإسلامي بأناس كأنهم يدجلون على الله، أو يريدون الضحك على مبادئ الله، إذا أتى رمضان ملئوا المساجد، المصحف في يده البكاء صلاة التراويح فإذا صلى العيد تاب من دخول المسجد، ولا يعرف المسجد وفي أثر: {بئس قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان} فرب رمضان هو رب شعبان، وهو الذي يراك وهو الديان أينما كنت، ينظر إليك في منامك ويقظتك وفي تقلبك في الساجدين، فالانتباه الانتباه يا أيها الإخوة.
وبعض الناس سمعت منهم أنه كان يقول: ما دام أن رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما، إذاً نصلي في رمضان ونحضر ويكفر الله ما بينهما، وهذا أخطأ خطأً بيناً، وغلط -والله- غلطاً فاحشاً، فرمضان مكفر لما بينه من الصغائر، أما ترك الجماعة فكبيرة لا يكفرها إلا التوبة إلى الله.(176/14)
كثرة الذكر والاستغفار والتهليل
ومنها: كثرة الذكر: من الاستغفار والتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، والصلاة على الرسول عليه الصلاة والسلام: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] يا مسلمون! اشغلوا ألسنتكم بذكر الله في رمضان وغير رمضان، أكثروا من التهليل، ليكن للعبد مئات من التهليل، ومئات من التسبيح، مئات من الصلاة والسلام على المصطفى عليه الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: {سيروا هذا جمدان، سبق المفردون، قالوا: يا رسول الله! وما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات} حديث صحيح، وقال عليه الصلاة والسلام لرجل سأله: {إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فدلني على شيء أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} حديث صحيح في سنن الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: {من قال: سبحان الله وبحمده؛ غرست له نخلة في الجنة} حديث صحيح في سنن الترمذي، وقال عليه الصلاة والسلام: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أحب إلي مما طلعت عليه الشمس} ووالله ثم والله لقد وجدت ألوف مؤلفة من الأمة الإسلامية ما عرفوا إلى اليوم مستقبلهم ولا مصلحتهم ولا طريقهم إلى الله، قوم جعلوا بيوتهم ثكنات للمعصية وللفاحشة وللغناء، وهذا الغناء عيب والله، وهو قلة مروءة، وقلة شهامة، حتى الأمم الكافرة والصهيونية -إسرائيل وجيش إسرائيل- لا يعرفون الأغاني الماجنة، لكن أن تربى أمة من الأمم وجيل من الأجيال على مطبلين ومغنيين ومغنيات؛ والله إنه خزي وعار، ويكفينا خيبة وهزيمة، يكفينا مغنون ومغنيات، ومطبلون ومطبلات، وفنانون وفنانات، يسمونهم نجوم لامعة، لا والله، نجومنا اللامعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي نجومنا اللامعة خالد بن الوليد وطارق وصلاح الدين ونور الدين محمود زنكي نجومنا اللامعة: ابن تيمية وأحمد ومالك والشافعي وأبو حنيفة، نجومنا اللامعة: من يتقي الله ويحافظ على الصلوات الخمس، أما أناس امتلئوا قذارة وقلة حياء يتصدرون للأجيال ليفسدوهم، ويطبلوا على أعوادهم، ويصدوهم عن المساجد، وطائرات إسرائيل تقصف بلادنا ومقدساتنا وأرضنا وكرامتنا، ما هذا العقل؟ وما هذا التمييز؟ وما هذا التصرف؟
إلى الآن لم نشعر بفائدتنا، ويظن بعض الناس إذا حدثنا في بعض المحاضرات أو الدروس وقلنا حرام، قال: هذا تنطع وتزمت، لكن انظر لبناتك وأبنائك الذين تربوا على الغناء ماذا فعلوا، ارتكبوا فيما بعد الفاحشة؛ لأنهم سمعوا من المغني أنه يحب ويرى ويعشق وأنه يموت ويذوب فتجدهم يقولون:
هل رأى الحب سكارى مثلنا
يا من هواه أعزه وأذلني كيف السبيل إلى وصالك دلني
السبيل! نار جهنم إن لم يتب إلى الله، فيكفينا قلة حياء كما قال بعض العلماء: أُحل الغناء بإجماع الفساق وسكوت العارفين، أخذوا الفتوى من فساق، وأنا لا أقصد أن من يفتي بإباحة الغناء أنه فاسق، لكن من تصدر لإغواء الآمة وإرهاق وتضييع أوقات، وصد شبابنا عن القرآن، وعن حلقات الدروس تعقد في العصر في كثير من المساجد، محاضرات ودروس تقام في الجوامع في أكثر مناطق المملكة والشعوب الإسلامية، فيأتي هذا المغني الفاجر فيأخذ عوداً ويقف أمام الملايين ليعلمهم طريق الفاحشة، يقول: من هنا الزنا، من أراد أن يزني فليتبعني، حتى يقول ابن القيم: الغناء بريد الزنا ورقية الشيطان، وما داوم أحد على الغناء إلا وقع في الزنا، والعياذ بالله.
يا أيها المسلمون! هل من عودة إلى إدخال الإسلام في البيوت؟ وإدخال القرآن والشريط الإسلامي بدل الشريط الغنائي والمسلسل المهدم والفيديو المخرب، جلسة روحية بدل جلساء السوء، كتاب إسلامي بدل المجلة الخليعة، هل من عودة؟
لا يكفي أن نصلي فقط، والصلاة لها أثر في الواقع، ولذلك تجد بعض الناس يقول: نحن على خير والحمد لله، قلنا: والغناء، والربا، والزنا، والغيبة، والنميمة، قال: انظر المساجد الناس يصلون وسددوا وقاربوا والله غفور رحيم، وأبشر بالخير، الأمة في خير وإلى خير، نعم.
لكن من أفسد الأمة؟ ومن حول طريق الأمة من أن تكون أمة صالحة مهتدية، وأن تكون أمة عابدة متجهة إلى الله تبارك وتعالى.(176/15)
الإكثار من الصدقة
من هدي الإسلام في رمضان ومن سنن رمضان: كثرة الصدقة، بالقليل والكثير، يعني تكون يمينك كالريح المرسلة، لا يشترط أن يتصدق بالألوف، بل ريال واحد ينفعك عند الله ولو بصلة، ذكر الذهبي عن أحد الصالحين أنه: ما خرج إلى الصلاة إلا تصدق بشيء، فإن لم يجد أخذ بَصلة من بيته ووضعها في يد فقير.
والله! يوم القيامة يحتاج الإنسان ولو إلى بصلة أو إلى قرش واحد أو كسرة خبز، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل إنسان في ظل صدقته يوم القيامة حتى يقضى بين الناس} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن لله ملكين يناديان كل صباح يقول أحدهم: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من تصدق من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا طيباً- فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه حتى تصبح كـ جبل أحد} يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] ويقول: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:274].
كثير من الناس يقول: الآن ليس في الناس فقر، كلهم مرتاحون والحمد لله، كل إنسان مستور في بيته وهذا خطأ، بل فيهم فقراء، وأنا عندي اثنا عشر معروضاً لاثني عشر من الذين وقعوا في أزمة مالية، أحدهم تحمل رقاباً، وآخر هو وذريته وأهله لا يجدون دخلاً لا شهرياً ولا سنوياً، طلبة أتوا من بلادهم يدرسون بأهلهم ولا يجدون سكناً ولا طعاماً ولا شراباً، وهؤلاء تحق فيهم الزكاة، فلا يقول أحد من الناس: ليس في الناس فقر، فاغتنم رمضان في الصدقة، واغتنمه في الزكاة، واغتنم أن تعتق رقبتك من النار.
أحد الصالحين - عامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير - كان يسأل عن ديته ثم يدفع ديته في رمضان حتى أعتق نفسه واشترى نفسه من الله أربع مرات، ويوم حضرته الوفاة قال: "اللهم إني اشتريت نفسي منك أربع مرات، اللهم لا تخزني يوم يقوم الأشهاد، اللهم لا تخزني يوم يقوم الأشهاد" هذا الرجل الصالح كان إذا صلى الفجر قال: "اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، قالوا: ما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد، فحضرت صلاة المغرب، فقبض الله روحه في السجود في صلاة المغرب في آخر ركعة": {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] الجنة لا تُدخل بالمؤهلات، ولا تعرف الجنة دكتوراه أو ماجستير: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:1 - 3] قالوا: تخفض أناساً كانوا مرفوعين في الدنيا، لا ينظرون إلى البشر، فتجعلهم يوطئون بأقدام الناس، لما صح عنه صلى الله عليه وسلم قال: {يحشر المتكبرون يوم القيامة على صورة الذر، يطؤهم الناس بأقدامهم} وترفع أناساً كانوا مخفوضين، ينامون على الأرصفة، فهم فقراء لكنهم أهل سجود، وخشوع، وتبتل، وإقبال على الله.
محمد إقبال ينظر إلى المساجد والوعظ، وإلى حياة الأمة الإسلامية وما وقعت فيه، قال:
أرى التفكير أدركه خمول ولم تبق العزائم في اشتعال
وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقال
ثم يقول:
وعند الناس فلسفة وفكرٌ ولكن أين تلقين الغزالي
وجلجلة الأذان بكل حيٍ ولكن أين صوتٌ من بلال
منائركم علت في كل ساحٍ ومسجدكم من العباد خالي(176/16)
صلاة التراويح
ومما يكثر في رمضان ويحافظ عليه؛ صلاة التراويح، فاجتماعك بالمسلمين فرصة لا تتعوض، ولعل الله يغفر للجمع فتكون أنت منهم وأنت مسيء فيدخلك الله في حسنات الصالحين، ولذلك يقول الداعي والإمام والقانت في رمضان: اللهم هب المسيئين منا للمحسنين، أليست فرصة أن تدخل مع المسلمين، عل الله أن يتوب على الجمع فيدخلك معهم؟!
ولذلك في الحديث الصحيح: {إن الله عز وجل يسأل ملائكته وهو أعلم: أين كنتم؟ قالوا: مررنا على عباد يسبحون ويهللون -والله أعلم- قال: هل رأوني؟ قالوا: ما رأوك ولو رأوك كانوا لك أكثر تقديساً وتسبيحاً، قالوا: ويسألونك يا رب! قال: ما يسألونني -والله أعلم؟ - قالوا: يسألونك الجنة، قال: هل رأوا الجنة؟ قالوا: ما رأوها، قال: كيف لو رأوا الجنة؟ قالوا: كانوا أكثر سؤالاً وطلباً وإلحاحاً، قال: ومما يستعيذون؟ قالوا: يستعيذون من النار، قال: هل رأوها؟ -والله أعلم- قالوا: ما رأوا النار، قال: كيف لو رأوها؟ قالوا: كانوا أكثر استعاذة واستجارة من النار، قال: أشهدكم أني غفرت لهم وأدخلتهم الجنة، فتقول الملائكة: يا رب! -وهو أعلم- فيهم فلان بن فلان ما حضر معهم إلا جالساً، لا يريد ما أرادوا، قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم وله غفرت} فاغتنم صلاة التراويح ولا تفوتك لعل الله نظر إلى عباده في مسجد من المساجد فغفر لهم جميعاً وأنت معهم.
يقول ابن القيم: "اهجم هجمة الكذابين، وادخل مع المتطفلين؛ علك أن تكون مع الصادقين" المتطفل هذا هو الذي يأتي للضيفة ولم يدع إليها، إذا رأى زواجاً وقناديل معلقة في الشوارع لبس ثوبه وأتى، يوهم أهل البيت أنه من الضيفان، ويوهم الضيفان أنه من أهل البيت، وهذا كثير في فن التطفل، فيقول ابن القيم: افعل مثل ما يفعل المتطفل، ادخل معهم وأنت لست معهم لكنك مذنب مخطئ عل الله أن يجعلك مع الصادقين.
وصلاة التراويح على الصحيح إحدى عشرة ركعة، ولا بأس بمن زاد عليها لكن صح عند مسلم عن عائشة قالت: {ما زاد رسول صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا غير رمضان على إحدى عشرة ركعة} فعلى الأئمة أن يأخذوا هذه السنة فيصلوا إحدى عشرة ركعة، ثمان ركعات وثلاث وتر، فهذه سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي رواية عن ابن عباس في صحيح البخاري: {ثلاث عشرة ركعة} جمع بينها ابن القيم فقال: بركعتي الفجر، وإلا فالأصل إحدى عشرة ركعة، لكن صلاة الليل بركعتي الفجر ثلاث عشرة ركعة.(176/17)
محاذير في رمضان
محاذير يقع فيها كثير من الناس في رمضان:(176/18)
السهر الضائع في رمضان
السهر الضائع: فإن البرنامج بعد ما يدخل رمضان يتحول إلى نوم في النهار وسهر في الليل، فيصبح الليل نهاراً والنهار ليلاً.
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل
وقد جعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الليل لباساً، والنهار معاشاً، وجعل النوم سباتاً، والليل سكناً، والنهار معاشاً ونشوراً، فلماذا نخالف سنة الله في الحياة؟
وبعد أيام سوف ترى السهر من صلاة التراويح إلى صلاة الفجر، وهو ليس بحرام والحمد لله، لكن على ماذا السهر؟
إن الحدائق سوف تكتظ بالناس، وتسمع الغناء كأنهم في عيد سبتمبر، عيد الخسارة والدمار يوم أحرق وجه الأمة وأرغم في التراب، أرغمه مثل شامير ورابين وأذنابهم وأمثالهم، وتجد كثيراً من الرحلات والجلسات التي لا ترضي المولى بل قد تغضبه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، جماعات من كثير من الشباب الذين ما اهتدوا، يتجمعون في رمضان في السهر إلى السحر، ثم قد ينامون بدون سحور النهار كله، فهذا السهر لا يرضي الله، وهو سهر في المعصية، وحبذا من أراد أن يسهر أن يكون له برنامج في السهر، يسهر مع أهله يعلمهم السنة، مع كتاب وشريط إسلامي، مع دعاة، في دروس، في تهجد، يأخذ المصحف ويصلي تارة، ويدعو تارة، ويقرأ تارة، ويستغفر تارة، فهذه -والله- فرص لا تتعوض.
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حيٍ
ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شيء
تتمنى يوم القيامة دقيقة صرفتها في الطاعة، ولكن لا تجد دقيقة.(176/19)
كثرة المطعومات والمشروبات في رمضان
ومن الظواهر في رمضان -أيها المسلمون- كثرة المطعومات والمشروبات، وهذا يخالف سر الصيام وهو التخفف من المطعومات، لكن بعض الناس يحسب الفطور والغداء والعشاء ثم يقضيه مرة واحدة، فيهيئ حتى تصبح بعض البيوت كأن فيها حرائق، يبدأ الطباخون والطباخات، والعجانون والعجانات، والفرامون والفرامات، الأحياء منهم والأموات، يبدءون بعد صلاة الظهر، هذا للإفطار، وبعضهم يبدأ من ضحى ليكون كمن أهدى بدنة في الساعة الأولى، فتجد البيت في حالة استنفار وطوارئ، ثم تعرض السفر، وهذا من الخطأ، فهذا الشخص في رمضان لم يتغير كثيراً، والإسراف الذي تعيشه الأمة ليس برشد، ولم يأخذوه من الكتاب والسنة.
توضع السفر فتوضع فيها أنواع الأطعمة والأشربة، وأنواع المأكولات وما هب ودب، وما تعرف اسمه وما لا تعرف اسمه، وهذا فيه ثلاثة محاذير:
أولاً: إغضاب لله لأن فيه تبذيراً، وقد وجد أن ما يرمى من الأكل في الزبالات والقمامات والمجامع العامة أكثر مما يؤكل.
الثاني: أن فيه إرهاق لأهل البيت، فالمرأة المسلمة تريد الخير مثلما تريد أنت، أما أن تحولها إلى مباشرة وطباخة في رمضان، لا تقرأ ولا تسبح، ولا تستغفر وتبقى من صلاة الظهر وهي عند الفرن، فهذه ليست بحياة، وهذه ليس فيها عبادة، كل يوم تبقى المرأة في مطبخها حول إنائها وقدرها وصحنها، هذا ليس بصحيح وليس منهجاً إسلامياً، فلو اكتفى بالقليل من الطعام لكان أحسن.
الثالث: أن فيه كذلك اشغال للنفس عن مطلوبها وهو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فلذا نحث المسلمين على أن يبدءوا من الآن، فيرشدوا النفقات، وأن يكتفوا بنوعين أو ثلاثة أو أربعة إذا زادوا، أما عشرون صنفاً وثلاثون وأربعون فهذا خطأ، وهذا لا يفعله حتى الكفار، وليس عندهم هذه الأصناف، فهذا تبذير وإسراف وإرهاق للأسر وإتعاب للبيوت وعليك -أيها المسلم- أن تريح أهلك فإنك راع ومسئول عن رعيتك، أما هذا الإجهاد والإرهاق، والتبذير فلا يرضي الله تبارك وتعالى.(176/20)
كثرة النوم في رمضان
ومن الظواهر: إدمان النوم، وقد سلف الحديث عنه، وهذا فيه إذهاب للوقت الذي يستخدم في طاعة الله عز وجل، وإلا فما فائدة الصيام إذا كان النهار كله نوم، فهذا ما كأنه صام، وصومه صحيح لكن لا أدري هل يكتب له أجر أو لا؟
ولا يعيش الصيام، ولا يدخل أثر الصيام إلى قلبه ولا يستفيد من الصيام، فقضية نوم النهار كله، لك أن تنام إلى قبيل الظهر إذا أردت، لكن يبقى لك من بين الظهر إلى العصر ومن العصر إلى المغرب، ليكون لك قراءة وتسبيحاً وتلاوة ومطالعة كتاب إسلامي استغفاراً ودعاء، أما كل الوقت نوم -وقد عرفنا من بعض الناس من ينام كل الوقت- حتى من بعد صلاة العصر ينام حتى يوقظه أهله للإفطار كأنه قام لصلاة الصبح، يقوم يتوضأ قبل المغرب ويبدأ يأكل، فهذا لم يصم، بل هذا صام في عالم النوم، رأى سبع بقرات سمان وسبعاً عجافاً، حتى يأتي يوم العيد ماله طعم عنده؛ لأن العيد لمن صام وقام، والعيد لمن خاف الواحد العلام، ولمن اتقى الله، وأكثر من التلاوة والاستغفار، وليس العيد لمن نام النهار وقام الليل في السهرات والضياع والفحش والبعد عن الله، هذه من الظواهر التي نشكوها صالحين وطالحين، بررة وفجرة.(176/21)
عدم التأثر بالصيام
والمسألة الرابعة: عدم التأثر بالصيام وهي التي توجد عند بعض الناس، أنه لم تتحول حياته قبل رمضان وبعد رمضان، فتجده يكذب قبل رمضان وفي رمضان، ويخون في رمضان وبعد رمضان، ويغدر في رمضان وقبل رمضان، فإذاً ما هو أثر الصيام؟
يقول كثير من أهل العلم كـ أحمد وغيره: كان الصالحون إذا دخل عليهم الصيام، أخذوا مصاحفهم وجلسوا في المساجد -هذه ميزة الصيام في الإسلام- يتعبدون الله عز وجل، ولا تتحول حياة هذه الأمة إلا بتقوى الله عز وجل والعودة إليه بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا بد للمسلمين من اليوم الأول أن يبدءوا بالتوبة -نسأل الله أن يهله علينا وعليكم بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والمثوبة والأجر- ولابد أن نسأل أنفسنا، التاجر في متجره، والأستاذ في فصله، والموظف في دائرته، والعامل في عمله، يسأل هل تغير في هذا اليوم في صدقه ووفائه، وخوفه من الله وخشيته وعبادته، وإلا فليعلم أنه سيخسر رمضان حتى ينتهي رمضان.(176/22)
الخروج إلى الأسواق
الظاهرة الخامسة: ومن الظواهر التي منيت بها الأمة الإسلامية أو المجتمع المسلم الآن: الخروج المكثف إلى الأسواق، قبل صلاة المغرب، تجد السوق يزداد سيارات ورجالاً، على المحلات كأن القيامة قامت، لو قامت القيامة كان أحسن للعمل الصالح، لكن كأن الأطعمة سوف تنتهي هذه الليلة، وينزل الناس إلى الأسواق كأن الأقلام رفعت عنهم، يأخذون ويلبسون من كل ما لذ وطاب، وكأنه سوف يأكل ما في السوق، فتزدحم الأسواق، وهذا الازدحام فيه ضرر، ويأتي بعد صلاة التراويح ما الله به عليم، اختلاط بين الرجال والنساء يغضب المولى، وضياع للأوقات، وفيه ثلاثة محاذير:
الأمر الأول: قسوة قلب.
الأمر الثاني: اختلاط الرجال بالنساء.
الأمر الثالث: ضياع للوقت الثمين: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ}
فيا مسلمون! سيطل عليكم الشهر الكريم بعد أيام فاستقبلوه برضا وتسليم وحاولوا كل المحاولة أن يكون كفارة لما سبق، واجتهدوا أن تكونوا من عتقاء الله في هذا الشهر: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:101 - 103].
يا مسلمون! فرصة والله لا تتعوض، فرصة نادرة سانحة لمن أراد الله والدار الآخرة أن يجدد توبته، فيا من عصى الله كثيراً!
ويا من تمرد على الله كثيراً!
ويا من تعدى حدود الله كثيراً!
ابدأ بالتوبة واستغفر الله وجدد توبتك إلى الله؛ وعد إلى الله علّ الله أن يجعلك من التائبين والمقبولين، فإن عطاء الله يغدو ويروح وبابه مفتوح ونواله ممنوح: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136].(176/23)
كلمة إلى الأخت المسلمة
وفي آخر هذه الكلمة والمحاضرة أتوجه بالكلام إلى المرأة المسلمة؛ علها أن تسمع هذا الكلام مباشرة أو بواسطة الشريط: أن تتقي الله في رمضان، وأن تحافظ على رمضان ألا يفوتها ويسلب منها، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وخافت ربها، وأطاعت زوجها، دخلت جنة ربها} فهنيئاً للمرأة المسلمة التي جددت توبتها في أول رمضان، وأكثرت من التلاوة والذكر، وقدمت لنفسها من الصدقات، وأطاعت زوجها في طاعة الله، وغضت بصرها، وحفظت زوجها في نفسها، وقامت بإدخال الإسلام بيتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ما معنى إدخال الإسلام البيوت؟ معناه أن تدخل الصلاة البيت، وأن تدخل القرآن والشريط والكتاب الإسلامي وذكر الله البيت، وأن تخرج المعاصي والغناء والفحش والخنا وكل ما يغضب الله من البيت، هذا هو معنى الإسلام، والمرأة المسلمة كفيلة إذا وفقها الله بهذا، فإذا صلحت أصلح الله بها أبناءها.
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم نبت إن تعاهده الحياء بالري أورق أيما إيراق
أسأل الله لنا ولكم صلاحاً، رجالاً ونساء، وتوفيقاً خالداً، حضوراً وغياباً، وأن يتغمدنا برحمته ويجزل لنا مثوبته، وأن يجعلنا من عتقائه في هذا الشهر، وألا يجعلنا من قوم دخل عليهم رمضان ولم يخافوا فيه الديان، ولم يتقربوا إلى الرحمن، ولم يستفيدوا فيه من الدروس وما اتعظوا بالعبر.
اللهم لا تجعلنا من قوم انسلخ عنهم رمضان وهم في الغضب والخسران والخذلان والحرمان، واجعلنا ممن أعتقتهم من النيران، وصفدت عنهم الشياطين وأدخلتهم الجنان، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أسدل علينا عفوك وبرك ورحمتك، واعتق رقابنا من النار، فإن أجسامنا على النار لا تقوى.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا ممن تقبلت عنهم أحسن ما عملوا وتجاوزت عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(176/24)
الأسئلة
.(176/25)
مشكلة الدوري الرياضي في رمضان
السؤال
بعض الشباب عندما يأتي رمضان يقومون بتنظيم الدوريات الرياضية، فما هو تعليقكم على ذلك؟ وما هي نصيحتك لهم؟
الجواب
الإخوة الذين ذكر الأخ السائل أنهم يقومون بذلك، لا أدري كيف صيغة القيام بذلك؟! إن كان قصدهم يعني إعطاء الأمة من هذا، فالأمة والحمد لله مكرسة جهدها في هذا الأمر، وإن كان قصدهم أنهم يذهبون أوقاتهم في الكرة أو في الدورات هذه فما أظن عاقلاً يفعل بعمره هكذا، يسلب عمره من بين يديه في هذه التراهات، الكرة عندنا نعتقدها اعتقاداً جازماً أنها وسيلة والرياضة وسيلة وليست غاية، وسيلة لأن نكون أقوياء على العبادة؛ وأن نكون دعاة ومجاهدين؛ أما أن تكون غاية فلا.
فإذا رضي لنفسه هذا المنزل فهو وذاك، لكني أوصيه كأخ وحبيب لي يجمعني أنا وإياه دين واحد، ونسير وراء رسول واحد -صلى الله عليه وسلم- ونقرأ كتاباً واحداً: أن يتقي الله في عمره ووقته، ماذا يقول للملكين في القبر؟
أين أذهبت أيامك ولياليك؟ مع المشرف الرياضي في ليلة كذا وكذا، نعم لكن رويداً رويداً، دائماً أهداف، دائماً منتخب، دائماً أجوال وحارس مرمى، أين وقت القرآن والعلم والخشية؟ هي ليست حراماً لكنها تحرم إذا تركت من أجلها الصلاة أو أخرت أو كانت حزبيات -هؤلاء ينقمون على هؤلاء- فأنا أرى أن على الأخ أن يتبصر ويتفقه: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] ويتثبت من هذه الأمور.(176/26)
ضرورة الاهتمام بقراءة القرآن
السؤال
نطلب توجيهاً للاهتمام بتصحيح قراءة القرآن والالتزام بشروطه، فما تعليقكم على ذلك؟
الجواب
صاحب السؤال دعاكم وهو ليس بسؤال وإنما أضم صوتي إلى صوته، وهي فرصة ثمينة في رمضان، أن يخصص هذا الشهر لمدارسة القرآن وتحسين قراءته.
كثير من الناس يعرف كل شيء إلا القرآن والدين، يعرف قيادة السيارة وهندستها وكل مسمار منها، لكن إذا قرأ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] لا يعرف، فيقرأ مثل: الأحمق يقول: أحفظ أشعار العرب، قالوا: اقرأ القرآن، قال: وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً، وأكيد كيداً، فمهل الكافرين أمهلهم رويداً، وهذه ثلاث سور.
ولذلك يوجد من الناس من لا يعرف يقرأ، لكن إذا حدثتهم عن السيارات والموديلات والموضات، والعمارات، والمشروبات والمطعومات، والمفروشات تجده محاضراً من الدرجة الأولى.
فيا إخوتي! تعالوا إلى المساجد، كثير من المساجد فيها طلبة علم وكثير من الأماكن والجمعيات الخيرية فيها أساتذة جديرون بأن يتعلم منهم ويقرأ عليهم، وهذه دعوة ما أظن أحداً منكم يخالفها، لأنها طيبة وصحيحة، الخير طيب والشر سيئ، النهار مضيء والليل أسود.
الأرض أرض والسماء سماء والأرض فيها الماء والأشجار(176/27)
نصيحة لمن أسرف على نفسه بالمعاصي
السؤال
إني قد أذنبت ذنوباً وجرائم كثيرة، وأنا لا أعلم ذلك، فهل لي كفارة، أفيدوني جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: أحبك الله الذي أحببتني فيه، وأشهد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في هذا المجلس أني أحبكم جميعاً في الله، وأعلم أنه ما حضر في هذا المجلس إلا رجل -إن شاء الله- يريد الله والدار الآخرة، وأسأل الله أن يجعلها كفارة له مما سلف من ذنوبه، وواجبنا وضيافتنا عليكم وضيافتكم علينا: الدعاء، أن تدعوا لنا وندعو لكم، فإنا إذا تعاونا على البر والتقوى -ومنها الدعاء- غفر الله لنا ذنوبنا.
وأما ما ذكره الأخ السائل أنه أجرم وأذنب، فمهما أذنب ولو أتى بمثل الجبال، وتاب تاب الله عليه، لو كان مثل جبل كهلان وأحد وجبال السروات وكله جبال من الخطايا والذنوب والمعاصي ثم تاب؛ تاب الله عليه، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يقول الله تبارك وتعالى: يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة} وهذا الحديث في سنن الترمذي: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] {يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم} وعند مسلم {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} وفي الصحيحين: {أن رجلاً قتل تسعة وتسعين رجلاً، فقال: دلوني على عالم، فدلوه على عابد -خرافي صوفي متخلف في غار- قال: هل لي من توبة؟ قال: ما لك توبة، -تقتل تسعة وتسعين وتتوب من أين تتوب؟ قال: نبدأ بك، نتغدى بك قبل ما تتعشى بنا، وهذه فتوى لا تصلح- فذبحه ذبح الشاة فوفى به الرقم مائة، قال: دلوني على عالم آخر، فقالوا: العالم الفلاني، فذهب اليه وقال: هل لي من توبة؟ قال: ماذا فعلت؟ -ظن الرجل أنه تخلف عن صلاة ثم صلاها في الوقت، أو ثوبه تحت الكعب، أو أتاه الشيطان فأخذ سجارة مرة من المرات، أو استمع أغنية- قال: قتلت مائة نفس فهل لي من توبة؟ قال: ومن يغلق عليك باب التوبة، باب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، قال: أتوب إلى الله وأستغفر الله، قال: اذهب إلى تلك القرية فإن فيها قوماً صالحين -بعض القرى تعينك على طاعة الله، صيام وصلاة ودعوة وبعض القرى شقية والعياذ بالله؛ عندهم الفئوس هذه معلقة للذبح على الطريقة الإسلامية، في الجمعة يتضاربون والعيد والاستسقاء، وغيبة ونميمة، وحسد وفحش، وبغضاء، وإذا رأوا إنساناً صالحاً بقوا في وجهه حتى يترك الصلاح- فقال: اذهب إلى تلك القرية فإن فيها قوماً صالحين، فذهب وفي الطريق أدركه الموت فمات، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ملائكة الرحمة يقولون: تاب وأناب وأقبل إلى الواحد الوهاب، فيدخل الجنة، وملائكة العذاب قالوا: لا ما سجد لله سجدة وما فعل شيئاً، وهو تاب الآن فقط، فقال الله عز وجل: قيسوا ما بين القريتين، ثم أوحى الله إلى تلك القرية الصالحة أن اقربي ولتلك أن تباعدي -رحمة الله- فكان أقرب إلى تلك فدخل الجنة}.
وفي الصحيحين: {أن رجلاً قال لأبنائه: إذا حضرتني الوفاة فأحرقوني فإني قد فعلت فعائل مع الله، أحرقوني بالنار ثم اسحقوني ففعلوا، فأخذته الريح في كل مكان، فجمعه الذي بدأه أول مرة، قال: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك وخفت ذنوبي، قال: يا ملائكتي! أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة}.
فيا أخي! لا تتعاظم زنيت قتلت شربت الخمر تب من الآن في هذا المجلس، وأقبل إلى الله وأبشر، يبدِّل الله سيئاتك حسنات، لا يتوب عليك فقط، بل السجلات السود تقلب لك حسنات عند الله.(176/28)
كيفية ترك سماع الغناء
السؤال
أنا مستقيم -والله أعلم- مع التقصير، والمشكلة أني لم أستطع ترك سماع الأغاني، فما هو العلاج وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا السؤال مقلوب، تقول: مستقيم، والله أعلم، في المسألة نظر، ولكنك مقصر وهذا صحيح، والدليل على تقصيرك سماعك للغناء.
إذاً: أنت من قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، أما استقامتك فيتعارض معها سماعك للغناء.
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
فلو كنت صادقاً في حبك لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ ما تعوضت بلذاذة الأوتار والعيدان عن آيات الرحمن والقرآن.
قال ابن عباس: هذا غناء أهل الجنة نسأل الله ألا يحرمنا غناء الجنة، والذي يسمع غناء الدنيا لا يسمع غناء الجنة، بل يكفيه ما سلف في الدنيا، يقولون: أخذت حسابك في الدنيا، أما من حرَّم على أذنيه سماع غناء الدنيا فيسمع غناء الجنة، وعند أحمد في المسند بسند جيد عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة جوارٍٍ يغنين: يقلن: نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنا له وكان لنا} وقد نظمها ابن القيم فقال:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاًَ تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات في الأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
ولو تذكرت القبر، ويوم ينفخ في الصور، ويبعثر ما في القبور، ويحصَّل ما في الصدور -والله- ما استمعت إلى الغناء، لكن هذا لمرض في القلوب، فنسأل الله أن يكشف هذا المرض عنك ويعافينا منه، وان يرزقنا التوبة النصوح، إنه على كل شيء قدير.(176/29)
هل يلزم من يطعم رجلاً في رمضان أن يطعمه طول الشهر
السؤال
نحن عائلة نطعم رجلاً فقيراً في رمضان، وسمعت أن من يلتزم بإطعام يطعمه رمضان كله، ويأتي علينا بعض الأيام فنكون مدعوين عند أقربائنا فلا نطعم هذا الرجل في هذا اليوم، فما حكم ذلك يا شيخ! جزاك الله خيراً؟ وأرجو أن تدعو لنا بالخير.
الجواب
جزى الله الأخت السائلة خيراً ويبدو من السؤال أنها سائلة عن كل خير، وبيض الله وجوه من يفعل ذلك يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وما ذكرتيه من إطعام المسكين، فأبشري ثم أبشري يوم يأتيك هذا يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94] وأما ما قلتي: أنه من أطعمه يوماً فيلتزم بقية الأيام فليس بصحيح، ولم يأتِ في الكتاب والسنة والله يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] يعني لا يوجب على المحسنين وجوباً، وإنما أنتم أحسنتم، فإن أطعمتموه بعض الأيام فمأجورون ومشكورون، وإن تركتموه فما على المحسنين من سبيل، ولا يجب عليكم المداومة وإنما هو تفضل منكم.(176/30)
حكم الذهب الملبوس، وحكم السوار على شكل ثعبان
السؤال
امرأة لديها ذهب فهل تزكي من الذهب أو يزكيه زوجها عنها من ماله؟ وما رأيك في لبس الأسورة التي لدى النساء ويكون في رأسها ثعبان؟
الجواب
أما مسألة زكاة الحلي، فالصحيح من أقوال أهل العلم الذي دلت عليه النصوص أن في الحلي زكاة، سواء استخدم، أو لم يستخدم لما صح عند أبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: {أن امرأة أتت الرسول صلى الله عليه وسلم وعليها سواران فقالت: أكنز هذا يا رسول الله!؟ قال: أتؤدين زكاته؟ قالت: نعم.
قال: فليس بكنز} وفي لفظ آخر: {أن امرأة دخلت وعليها سواران قال: أتؤدين زكاته؟ قالت: لا.
قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار} وكل ما عارض هذه الأحاديث فهو حديث ضعيف، وأما ما ذكرت فلزوجها أن يزكي عنها إذا تبرع من ماله، ولها أن تزكي والأمر فيه سعة، فما دام تبرع فله ذلك ويكفيها زكاتها عن نفسها.
وأما ما ذكرت من السوارة فصورة الثعبان إن كان صورة ثعبان مشخص فهذه صورة محرمة، وإن كان على الشكل ولكنه لا يقرب من الثعبان مع أنه يسمى ثعباناً، فهذا ليس به بأس، لكن الصورة الممثلة المشخصة المرسومة على صورة الأحياء محرمة، ويشملها نص: {لعن الله المصورين} {ويل للذي ذهب ليخلق كخلقي، فليخلقوا شعيرة، فليخلقوا ذرة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز أن تلبس ما فيه صور، كصور عقارب أو حيات أو أسود أو نمور ممثلة أو ثعابين، فهذا يحرم عليها.(176/31)
متى يجب عليَّ الصيام؟ وحكم لعب البلوت
السؤال
أنا شاب عمري اثنتي عشرة سنة، هل وجب علي الصيام وما العمر الذي يجب فيه الصيام، وهل للرجل لعب الورقة -البلوت- في أوقات الصيام؟
الجواب
أما ما ذكرت من عمرك أنه اثنا عشر، فلا أعرف عمراً يحدد الصيام ولكنه تقريبي، إذا بدأ الإنسان يعرف ويميز فيؤمر بالصيام، وأقرب ما يقال سن الصلاة أو قريباً منها عند العاشرة: {مروا أبناءكم للصلاة لسبع، واضربوهم لعشر، وفرقوا بينهم بالمضاجع} فالعاشرة قريبة من هذا، أن يؤمر بالصيام ويحث عليه ثم يتدرج فيه حتى يكون له عادة ويستمر على ذلك، أما اثنتا عشرة سنة فأرى أنه يصوم وأن أهله يأمرونه بالصيام.
أما ما ذكر الأخ من لعب البلوت أو الورقة ففيها تفصيل، إن عارضت صلاة أو أخرت الصلاة فهذه تحرم، وإن كان في وقت آخر فهي مكروهة على أقل أحكامها؛ لأنها تشغل وتلهي فإذا كانت على رهان كانت محرمة، إنما إذا كانت في وقت فارغ، فليست من شيم المؤمن أن يمضي وقته في هذه اللعب والضياع والخسار والحرمان والخذلان، ولا يفعل هذا مسلم يريد الله والدار الآخرة، فحياة قصيرة ستون سنة وتجعلها في ورقة وفي لعب غير مجدٍ ما أظن المسلم يفعل ذلك.(176/32)
حكم بلع الريق للصائم
السؤال
هل بلع الريق يفطر، حيث أني باستمرار يجتمع عندي الريق فلا أدري هل للريق كمية معينة تبلع أم لا؟
الإجابة: ليس للريق كمية محددة، ولا يفطرك مهما بلعت من ريقك، فالريق أمره سهل، وهذا مما تجاوز الله عنه، وعفا عنه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ولم يرد فيه شيء يدل على أنه يفطر، فالحمد لله على التيسير.(176/33)
حكم أخذ الغني للزكاة
السؤال
إذا أعطوني أقاربي زكاةً وأنا أخرج الزكاة، فهل يجوز لي أخذ هذه الزكاة؟
الجواب
ما دام أنك لست محتاجاً وأنك تزكي أموالك فلا تأخذ الزكاة، فالزكاة لا يأخذها إلا أهلها الذين عددهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة التوبة، فما دام أنك تزكي فهذا دليل على أنك غني، فلماذا تأخذ زكاة أقربائك؟
فلا يجوز لك أنك تأخذ زكاة أقربائك إلا إذا كنت فقيراً.
وزكاة الفطر لا تعطى للغني بل تعطى للفقير، وعند الناس عادة أنهم يعطون الزكاة صباح العيد، فيعطيها قريبه ويرد قريبه له، منكم وإليكم، وهذا ليس بصحيح، بل يلتمس الفقراء؛ لأن السر فيها كما قال صلى الله عليه وسلم كما في الدارقطني: {اغنوهم عن الطواف في ذاك اليوم} يعني الفقراء، فكيف نعطيهم حبنا ونأخذ حبهم؟!!(176/34)
حكم دفع الزكاة في تعمير المساجد
السؤال
هل يجوز دفع الزكاة في تعمير المساجد؟ وهل يجوز دفع الزكاة إلى الأشقاء السودانيين؟
الجواب
أما تعمير المساجد فلا تدفع فيها الزكوات؛ لأن الزكاة قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60] فهؤلاء الأصناف تدفع فيهم الزكاة، أما بناية المساجد فهي للأوقاف، وقد أفتى أهل العلم في هذه المسألة أنه لا تدفع.
أما أشقاؤنا السودانيون فلا أعرف ماذا يقصد؟
إن كان يظن أنه لا يجوز الزكاة إلا على السعوديين فهذا خطأ، بل يجوز على اليمنيين والسودانيين والسوريين وكل مسلم وليس هناك تمييز، بل تدفعها إليهم إذا تأكدت أنهم على الدين الإسلامي وهذا ظاهر منهم، لكن في بعض مدن السودان نصارى فلا تدفع لهم زكاتك إنما تتأكد من دفعها إلى المسلمين.(176/35)
امرأة جاهلة فهل تأثم على جهلها
السؤال
إني امرأة غير متعلمة ولا أعرف القرآن ومعانيه، وعندي أبناء ولكنهم مشغولون عن تعليمي، ومدرسة تحفيظ القرآن بعيدة عني، فهل أنا آثمة على ذلك؟ وهل يجوز صلاة المرأة بالمرأة في التراويح في البيت؟
الجواب
أما ما ذكرت هذه الأخت من أنها أمية فالله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] لكن هناك حد أدنى للعلم لا يعذر المسلم والمسلمة بجهله فيها، وهو ما تقوم بها عبادتها: صلاتها وصيامها، فإذا أخذتي هذا القدر فما زاد فهو نافلة فأنتِ على خير، ومادام أنكِ تشعرين بهذا وأنتِ متجهة إلى الخير، فاتقي الله ما استطعت، لكن حافظي على الصلوات وتعلمي ما يهمك من أمور الدين والسور التي تقوم بها صلاتك، وما زاد فالحرص الحرص، لكن إذا تعذر ولم تستطيعي فالله المستعان.
وعلى كل حال أنت مأجورة إذا صدقت مع الله، وحاولي أن تكثري من الذكر ما دام أنكِ لا تستطيعين القراءة من المصحف؛ فأكثري من الذكر والاستغفار والتوبة والصدقة.
أما صلاة المرأة بالمرأة فلها ذلك، فتصلي المرأة بالمرأة في البيوت، لكن توقف بعض السلف هل هذا يعتبر وارد ويسمى سنة، لكن يقولون: إذا كان الأنفع والأحسن فلها ذلك لما عند أبي داود بسند صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم: {أمر أم ورقة أن تؤم أهل دارها} وأم ورقة امرأة عاقلة قارئة، أمرها أن تؤم أهل دارها فكانت تصلي في منزلها بالنساء، فالمرأة القارئة تصلي بالنساء صلاة التراويح، وهؤلاء مشكورون ومأجورون على ذلك.(176/36)
وقت ليلة القدر والدعاء الوارد فيها
السؤال
كيف ترى ليلة القدر وما شكلها؟ وماذا يقول العبد إذا رآها؟
الجواب
ليلة القدر فيها مسائل، فقد اختلف في وقتها على أقوال، والراجح أن آكدها في ليلة سبع وعشرين، وتلتمس في أيام الوتر من العشر الأواخر: ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، ودعاء ليلة القدر كما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأت ليلة القدر ماذا تقول؟ قال: {قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني} فهذا من أحسن الأدعية، وما شابهه من دعاء وما فتح الله عليك من دعاء: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة وغير ذلك.
أما علاماتها ففي حديث صحيح صححه بعض الأئمة والأساتذة العصريين: أن السماء في صبيحة ليلة القدر تكون صافية من السحب والشمس لا شعاع لها، فتأتي بيضاء كالقرص لا شعاع لها، وهذا حديث صحيح والله أعلم.
وبعضهم يقول: تكون الليلة خضراء، لكني ما وقفت على نص صحيح في خضرة الليلة، لكن على كل حال من جعله الله من المقبولين وفق ولو كان في جزيرة في البحر، ومن كان من المحرومين لا يوفق لليلة القدر ولو كان عند الحجر الأسود من الكعبة، والقبول من الله، وهو أن تعمل وتصدق مع الله وسوف تجد القبول منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(176/37)
إذا طهرت المرأة قبل الأربعين
السؤال
إذا طهرت المرأة قبل الأربعين، فهل عليها صوم؟
الجواب
إذا طهرت المرأة قبل الأربعين وانقطع دمها فعليها أن تغتسل وتصلي وتصوم ويأتيها زوجها، ولو طهرت قبل الأربعين بيوم واحد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(176/38)
ساعة الاحتضار
ساعة الاحتضار ساعة رهيبة، ولحظات حاسمة، يعرف الإنسان ما مصيره!
ذاقها الصالحون والطالحون، العباد والفجار لكن شتان بن مشرق ومغرب!!
وفي هذا الدرس تحدث الشيخ عن وصف الموت من القرآن والسنة وعلى ألسنة الحاضرين، وأحوال الناس عند الموت، مؤمنهم وفاجرهم، وختم بذكر كيفية الاستعداد له.(177/1)
وصف الموت على ألسنة المحتضرين
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً, وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً, وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً, وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً, الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً, وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, أشرف من استظل بالسماء، وأكرم الكرماء، وأنبل من شرب الماء, وأنور من سار في الظلماء, وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:-
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
أشكركم على اجتماعكم, وأشكر أهل الفضل على فضلهم، وعلى رأسهم القائمين على هذا الجامع, والداعين لهذه المحاضرة, وإني لأعرف أن في هذا المكان من أهل العلم والفضل من هو أعلم مني وأفضل, ولكن إنما هي ذكرى وقد درج السلف الصالح على التذاكر, وأخذ الفائدة من المفضول, وما قصة الهدهد منا ببعيد, فإنه أتى إلى سليمان عليه السلام، فقال له: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} [النمل:22] فخضع له، واستفاد منه، واستمع له.
ساعة الاحتضار في حياة السلف , هي ساعاتنا التي سوف نمر بها, ما منا إلا ميت, وما منا إلا محتضر, وما منا إلا قادم على تلك الساعة, والله لنذوقنها, ووالله لنشربنها, فقد ذاقها الملوك والمملوكون, والرؤساء والمرءوسون, والأغنياء والفقراء, ذاقتها الأمم جميعاً, وأحسوا بالموت: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} [مريم:98].
وموضوعي هذا يدور على ثلاثة عناصر:
1 - القرآن يتحدث عن الموت.
2 - ذكر الموت في السنة المطهرة.
3 - الموت عند السلف الصالح وعند المعرضين الغافلين.(177/2)
عمرو بن العاص يصف الموت
حضرت الوفاة عمرو بن العاص الذي يُسمَّى (أرطبون العرب) داهية من الدهاة، ولكن لا حيلة في الموت, أبطل الموت دهاء الدهاة, وأعدم الموت قوة الأقوياء, ونسف الموت بنيان الأغنياء, فلما انقعر في سكرات الموت قال له ابنه عبد الله الزاهد العابد: [[يا أبتي! صف لي الموت، فإنك أصدق واصف للموت -فهو يذوق الموت ويشرب الموت, وهو يزاول سكرات الموت- قال: يا بني! والله لكأن جبال الدنيا على صدري, وكأني أتنفس من ثقب الإبرة]] انظر إلى الوصف: كأن جبال الدنيا على صدري، وكأني أتنفس من ثقب الإبرة.(177/3)
عمر يصف الموت
وأورد ابن رجب: أن كعب الأحبار قال له عمر رضي الله عنه وأرضاه: صف لي الموت؟
قال: يا أمير المؤمنين! ما مثل الموت إلا كرجل ضرب بغصن من شوك سدر -أو طلح- فوقعت كل شوكة في عرق، فسحب الغصن فانسحب معها كل عرق في الجسم.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:83 - 87] إنه مصرع عظيم, والله عز وجل كتب الموت على الأحياء، فقال جلّ من قائل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].(177/4)
الحسن البصري والربيع بن خثيم يصفان الموت
ولذلك كان الحسن البصري يعظ أبناءه وتلاميذه، ويقول: [[فضح الموت الدنيا، فلم يدع لذي لب فرحاً]] قال بعضهم: أعيا الأطباء علاجُ الموت.
وقال بعضهم: أتى العواد يعودون المرضى، فمات العواد، ومات المعادون.
وفي ترجمة الربيع بن خيثم الزاهد العابد: أنه مرض، قالوا: ألا ندعو لك طبيباً؟
قال: فكرت وأردت أن أدعو طبيباً؛ فإذا الطبيب والمطبوب يموتان.
هيهات تعالج قوم عاد وثمود ثم مات الطبيب والمطبوب، ومات العائد والمعاد.(177/5)
احتضار أبي بكر الصديق
وفي سيرة أبي بكر رضي الله عنه وقد صحت عنه, أن الناس حضروا إليه من الصحابة، فقالوا: يا خليفة رسول الله! -وهو في مرض الموت- ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب قد رآني, قالوا: فماذا قال؟ قال: إنه يقول: إني فعال لما يريد.
كيف أشكو إلى طبيب ما بي والذي قد أصابني من طبيب
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الانبياء:35] وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] فعلم عليه الصلاة والسلام أنه سيموت، ولكنه متهيئ منذ بعثه الله لتلك الصرعة وذاك المقعد, وتلك الضجعة.(177/6)
أبو الدرداء يصف الموت
وفي كتاب: وصايا العلماء عند الموت أن أبا الدرداء لما حضرته الوفاة، قال: [[هل من عامل لمثل هذه الصرعة؟ هل من عامل لمثل مصرع الموت؟ هل من عامل لمثل هذه الضجعة؟]] أو كما ما قال.(177/7)
القرآن يتحدث عن الموت
ولقد ذكَّرنا الله بالموت كثيراً في القرآن فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] وقال سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:61 - 62] وقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:16 - 22].
والله لقد غفل كثير من الناس وأصابهم السكار فما استفاقوا إلا في ساعة الموت, وعند الترمذي بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال: {أكثروا من ذكر هادم اللذات} وفي رواية: {فما ذكر في قليل إلا كثَّره، ولا في كثير إلا قلله} وهادم اللذات هو الموت, وهو مفكك الجماعات، وآخذ البنين والبنات, الذي أتى بالأجيال فصرعهم في الحفر المظلمات.
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر
تروح وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور
قال ابن كثير في البداية والنهاية: مر عمر بن عبد العزيز على المقابر، فقال: يا موت! ماذا فعلت بالأحبة؟ أين الأحباب؟ أين الأصدقاء؟ أين الإخوان؟ أين الأجداد؟ أين السمار؟
يا موت! ماذا فعلت بالأحبة؟ فلم يجبه الموت, قال وهو يبكي: أتدرون ماذا يقول الموت؟ قالوا: لا.
قال: إنه يقول: أكلت الحدقتين, وأتلفت العينين, وفصلت الكفين عن الساعدين, والساعدين عن العضدين, والعضدين عن الكتفين, ولو نجا من الموت أحد لنجا منه محمد صلى الله عليه وسلم, قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].(177/8)
ذكر الموت في السنة المطهرة(177/9)
موت المصطفى عليه الصلاة والسلام
مات عليه الصلاة والسلام كما يموت الإنسان, وذاق الموت كما يذوقه الإنسان, وصارع سكرات الموت كما يصارعها الإنسان:
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
حضرته الوفاة وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما حضرته الوفاء كان يتناول خميصة فيضعها على وجهه وهو في سكرات الموت، وكان عرقه يتصبب -بأبي هو وأمي- فيقول: {اللهم أعني على سكرات الموت، اللهم هوّن عليّ سكرات الموت، لا إله إلا الله إن للموت لسكرات} ثم يقول: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها ترقيه بالمعوذتين، فيأخذ يده ويجر كفه، ويقول: {بل الرفيق الأعلى} يقول: أريد الرفيق الأعلى, أريد حياة أبدية ونعيماً خالداً, ملّ من الدنيا وسئم منها, فذاق الموت عليه الصلاة والسلام بعموم قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].(177/10)
الخليفة الأول: وفاته وموقف من حياته
صح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه كما في السير أن الوفاة لما حضرته أتته ابنته عائشة الصديقة بنت الصديق المبرأة من فوق سبع سموات, الطاهرة العفيفة, جلست عند رأسه تبكي، وتقول: يا أبتاه! صدق الأول حين قال:
لعمرك ما يغني الثوى عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
ومعنى البيت ينطبق على حاتم الطائي كريم العرب, الذي لم ينفعه كرمه, لأنه لم يستعد لساعة الاحتضار في حياته, ولذلك صح عن عدي بن حاتم أنه قال: {يا رسول الله! إن أبي كان يكرم الضيف، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر، فهل ينفعه ذلك عند الله؟ قال: إن أباك طلب شيئاً فأصابه} قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
فمعنى البيت: يقول: والله لا يغني الغنى ولا المنصب ولا الجاه إذا حشرجت الصدور بالنفوس, أو حضرت سكرات الموت, فالتفت أبو بكر إلى عائشة وقال: يا بنية! لا تقولي ذلك، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:19 - 21] ولما مات بحثوا عن ميراثه -خليفة العالم الإسلامي ذهب والدنيا وفضتها تحت يديه- خلف بغلة وثوبين, قال: كفنوني في واحد وأرسلوا البغلة والثوب إلى عمر بن الخطاب الخليفة، وقولوا: [[يا عمر! اتق الله لا يصرعنك الله كمصرعي!]] ووصلت البغلة والثوب إلى عمر، فجلس يبكي ويقول: [[أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر]] إي والله! أتعب الخلفاء بعده! والله لقد أتعب الكل، فعلى كل مسئول أن يقتدي به ويمشي على مثل سيرته.
ولذلك ذكر ابن القيم وغيره من أهل العلم: أن أبا بكر كان يخرج كل صباح مع طلوع الشمس إلى خيمة في ضواحي المدينة , فيدخل على عجوز عمياء حسيرة كسيرة من الرعية, فيكنس بيتها، ويصنع طعامها، ويحلب شياهها, هذا أبو بكر الأول بعد الرسول عليه الصلاة والسلام, المجاهد الكبير خليفة الرسول عليه الصلاة والسلام وهو رجل الساعة, فإذا انتهى رجع إلى المدينة , فأخذ عمر يتفقد أبا بكر كل صباح أين يذهب؟!
وفي ذات يوم دخل عمر بعد أن خرج أبو بكر , فقال للمرأة: من أنت؟
قالت: أنا امرأة عمياء حسيرة كسيرة مات زوجي منذ زمن, وما لنا من عائل بعد الله إلا هذا الرجل الذي يدخل عليّ, قال: أعرفتيه؟ قالت: والله ما عرفته! قال: ماذا يفعل؟ قالت: يكنس البيت, ويحلب شياهنا, ويصنع لنا طعامنا, فجلس عمر يبكي، وقال: [[هذا خليفة رسول الله هذا أبو بكر]] رضي الله عنه وأرضاه.
سلام على أبي بكر في الخالدين, ورضي الله عنه في الصادقين, وجمعنا به في دار كرامة رب العالمين.
وهذا شاعركم الأول الداهية ابن عثيمين، يقول هذا -الشاعر الإسلامي الذي توفي قبل أربعين سنة تقريباً-:
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلّ الردى مما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخرب
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب
صح في التاريخ أن الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي تحدّى الغمامة والسحب أن تمطر في أرضه, بنى قصراً مشيداً في بغداد، وقال للشعراء: ادخلوا؛ ليمدحوا القصر والخليفة، ويمدحوا الدنيا، والوزارة، والمال, فدخلوا جميعاً، ثم دخل أبو العتاهية الزاهد، فقال لـ هارون في قصيدةٍ:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
قال هارون وقد ارتاح وانبسط وهش وبش: هيه, أي: زد, قال:
يجري عليك بما أردت مع الغدو مع البكور
قال: هيه, قال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
فهوى يبكي حتى أغمي عليه.(177/11)
استشهاد عمر بن الخطاب
ولما حضرت الوفاة عمر بن الخطاب برزت العظمة الحقيقة لـ عمر وأنتم تعرفون ما هي وفاة عمر، فالصحابة ما بين صدِّيق, أو شهيد.
من تلق منهم تقل لا قيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
ما أكثر من يموت من المترفين، يموت حبطاً وتخمة, شهيد الطعام والأكلات، وما أدراك ما الأكلات والمرطبات والمشهيات؟! فعندما يموت يقال فيه: كان رجلاً صالحاً أبلى بلاءً حسناً، فتح الفتوح، كان درة الزمن ووحيد العصر، على ماذا؟!!
إن السيرة سيرة الأخيار: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبيِّ وسعد وخالد
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] حجّ عمر ووقف عند الجمرات، ورفع يديه، خليفة, شاب رأسه في العدل, ونحل جسمه في الصلاة, وذاب جماله في طاعة الله, وأثر الدمع في خديه, وصادق في الليل صادق في النهار.
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
رفع يديه، وقال: [[اللهم إنها ضاعت رعيتي، ورق عظمي، ودنا أجلي، فاقبضني إليك غير مفرط ولا مفتون, اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتة في بلد رسولك]] والله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] فعاد وهو صادق, ووصل المدينة يتحرى الشهادة, يقول بعض الصحابة: [[يا أمير المؤمنين! تطلب الشهادة في المدينة , والذي يطلب الشهادة يخرج إلى الثغور! قال: هكذا سألت وأسأل الله أن يلبي لي ما سألت]].
ووصل وفي أول الليالي, رأى كأن ديكاً ينقره ثلاث نقرات, فسأل علماء تعبير الأحلام, فقالوا: يقتلك رجل من العجم, فاستودع الله نفسه, وصلّى بالناس صلاة الفجر، وطعن في المحراب, ووقع طريحاً شهيداً, في أحسن بقعة وفي أجل فريضة, وحمل على أكتاف الرجال, وهو يقول: [[أصليتُ الفجر؟ -أي: هل أكملت الصلاة؟ - قالوا: لا فأغمي عليه، قال: فلما وضعوا خده على مخدة, قال: انزعوا المخدة من تحت رأسي, ضعوا رأسي على التراب لعل الله أن يرحمني]] رحمك الله، وأكرم أشلاءك، ورفع درجتك, فقد كنت صادقاً كما قال ابن مسعود، يقول له علي - وهو يثني عليه في سكرات الموت: [[كان إسلامك نصراً, وهجرتك فتحاً, وولايتك رحمة, قال عمر: إليك عني، يا ليتني نجوت كفافاً لا لي ولا عليّ]] فرضي الله عنه وأرضاه.
إنهم أعدوا لساعة الموت من سنوات.
وقد روى البخاري في صحيحه في باب الرقاق، وقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36] قال البخاري: وقال علي بن أبي طالب: [[ارتحلت الدنيا مدبرة, وارتحلت الآخرة مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا, فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل]].
علي بن أبي طالب مدرسة من الرقاق والتوجيه والتربية, وكلماته تنفذ إلى القلوب مباشرة؛ لأنه صادق مخلص فرزق القبول, وقد صح عنه أنه أخذ لحيته بيديه في الليل وهو يبكي، ويقول: [[يا دنيا يا دنية! طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها, زادك حقير, وعمرك قصير, وسفرك طويل, آه من وحشة الزاد، وبعد السفر، ولقاء الموت]] وله مقطوعة نسبت إليه يقول:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها(177/12)
الموت عند السلف الصالح وعند المعرضين الغافلين
روى مسلم في صحيحه عن ابن شماتة المهري قال: حضرت الوفاة عمرو بن العاص فبكى بكاءً طويلاً -وهل أجدر بالبكاء من الذي صرع في سكرات الموت, متى يبكي إن كان لا يبكي لتلك الساعة؟ متى يتهيأ إذا لم يتهيأ لذاك المصرع؟ متى يندم إذا لم يندم لتلك الفترة؟ - قال: فلما بكى أتى ابنه عبد الله فأخذ يحسن ظنه بالله، ويرجيه في الله، ويقول: [[يا أبتاه! أما أسلمت؟ أما هاجرت؟ أما ولاك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاية كذا على الجيش؟ أما فتتحت مصر؟
قال: فحول وجهه إلى الحائط، ثم بكى طويلاً، ثم عاد إلى الناس, فقال: إني عشت في حياتي على طباق ثلاث, كنت في الجاهلية لا أعرف الإسلام، وكان أبغض الناس إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلو توفيت في تلك الحالة لكنت من جثا جهنم, ثم أسلمت فقدمت على الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة , قال: فلما بسط يده ليبايعني قبضت يدي، قال: ما لك يا عمرو؟ قلت: أشترط, قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي ربي ذنبي, فتبسم، وقال: {أما تدري يا عمرو أن التوبة تجب ما قبلها وأن الإسلام يهدم ما قبله} قال: فأسلمت, فوالله ما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم, والله لو جعلتموني الآن أصفه ما استطعت أن أصفه لأني ما كنت أملأ عيني منه جلالاً له وهيبة منه, فلو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة, ثم تخلفت فلعبت بي الدنيا ظهراً لبطن, فوالله ما أدري هل يؤمر بي إلى الجنة أو يؤمر بي إلى النار]].
وفي صحيح مسلم زيادة: فقال: [[لكن عندي كلمة أحاج لنفسي بها عند الله وهي: لا إله إلا الله محمد رسول الله]] ثم قبض يده، فكلما أتوا ليبسطوا يده عادت، فغسلوه وهو كذلك، وأدخلوه أكفانه هكذا, وأدخلوه قبره وهو على هيئته.(177/13)
وفاة معاذ بن جبل
وهذا مصرعٌ ذاقه كل رجل مرّ، صالح وطالح، وسوف نسمع إلى بعض الغافلين وهم في سكرات الموت.
من الصالحين الكبار معاذ بن جبل وقد أشار صاحب الإحياء إلى هذه القصة، وصاحب كتاب وصايا العلماء، والقرطبي في التذكرة، وغيرهم من أهل العلم، أنه لما حضرته الوفاة كان في السحر، فقال لابنه: اخرج با بني انظر هل طلع الفجر؟! قال: لا! فسكت قليلاً، ثم قال: اخرج فانظر هل طلع الفجر؟ قال: نعم، قال: [[اللهم إني أعوذ بك من صباح إلى النار، اللهم إنك كنت تعلم أني ما أحببت الحياة لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولا لعمارة الدور، ولا لرفع القصور -لكن لماذا تحب الحياة يا معاذ بن جبل؟ قال: كنت أحب الحياة لثلاث: لصيام الهواجر، ولقيام الليل، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر]] انظر إلى الحياة الخالدة! وحياة ليست كهذه الحياة ليست بحياة، فهذه الحياة ليست كحياة الأكل واللهوات والشهوات والمغريات والسيئات، وحياة الأغاني الماجنة، والمجلات الخليعة، والجلسات الآثمة، وحياة الفراغ القاتل، وحياة الأمنيات التي لا تنفع صاحبها، بل تكون عليه حسرة، فهذا جانب مما شهده الصالحون في سكرات الموت.(177/14)
وفاة عبد الملك بن مروان
وأما أهل الغفلة؛ فقد ذكروا عنهم الكثير مما تعرضوا له في سكرات الموت, فهذا عبد الملك بن مروان -الملك الخليفة الأموي- ذكر الذهبي عنه: أنه لما حضرته الوفاة سمع غسالاً وراء القصر، قال: يا ليتني كنت غسالاً!
يا ليت أمي لم تدلني!
يا ليتني ما توليت الخلافة!
يقول سعيد بن المسيب سيد التابعين لما سمع هذا الكلام: [[الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الموت ولا نفر إليهم]].
وقد كانت حياته حياة توصل صاحبها إلى الغرور، لما توّلى عبد الملك الخلافة وانتصر جيشه على مصعب بن الزبير في العراق.
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
دار أراد الله خرابها كيف تعمرها؟
منصب لا يوصلك إلى النجاة، كيف تريده؟
مال لا ينقذك من غضب الله ولعنته وبطشه كيف تجمعه؟
جاه لا يوصلك إلى رضوان الله ورحمته وجنته كيف ترغب فيه؟
أين هذا من حياة سعد بن أبي وقاص؟ فقد مات في البادية وهو أحد المبشرين بالجنة, أتت ابنته تبكي عند رأسه وهو في سكرات الموت, قال: [[يا بنية! لا تبكي, والله إني من أهل الجنة]] قال المعلق: صدق وهنيئاً له، فقد شهد له صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة, فانظر كم بين الرجلين؟ وكم بين المصرعين؟ وكم بين الواديين؟ ولا نشهد لأحد من المسلمين بجنة أو نار إلا من شهد له صلى الله عليه وسلم, لكنا نرجو للمحسن الثواب ونخاف على المسيء العقاب.(177/15)
وفاة معاوية بن أبي سفيان
ولما حضرت معاوية بن أبي سفيان سكرات الموت, فنزل من على كرسيه، وكشف البساط، ومرغ وجهه بالتراب، وقال: صدق الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] ثم قال: ما عندي أرجى من لا إله إلا الله محمد رسول الله, وهذه في كتاب وصايا العلماء لكن في سندها نظر، ثم قال: إذا أنا مت فكفنوني في بردة أخذتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وانظروا إلى قارورة في الديوان فيها أظفار وشعر للرسول صلى الله عليه وسلم ضعوها في عيني وأنفي.
ثم ذهب إلى الله, ولا ندري ماذا حدث؟! لكن -والله- هناك أمور تشيب منها النواصي, يوم تبيض وجوه وتسود وجوه, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] وقال: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] وقال: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان:27] وقال: {َيا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28].
ومن يستقرئ التاريخ يجد مصارع الغابرين من أهل الغفلة, وأنا لا أتحدث عن الكافر, فالكافر ملعون في بدايته، ملعون في نهايته, ملعون في حشره, ليس له نصيب في رحمة الله, لا يرجى له إلا الخلود في النار لأنه أشرك بالله, لكني أتحدث عن أهل الإسلام, ممن استقام على الطريقة وحافظ على أوامر الله, ومن غفل وأدركته المعاصي والشهوات.(177/16)
وفاة هارون الرشيد
لما حضرت هارون الرشيد الوفاة, يقولون: استعرض جيشه، ثم قال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من زال ملكه.
والواثق الذي تولى الخلافة بعد المعتصم وقد كان بطاشاً شديداً فيه جبروت, وهو الذي قتل أحمد بن نصر الخزاعي العالم الشهير, من قادات أهل السنة والجماعة ومن وجهاء العلماء وله كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة لما دخل على الواثق فأمره الواثق بالقول بخلق القرآن, فرفض وأنكر وأبى ولم يستسلم, فتقدم إليه الواثق بالحربة، فطعنه حتى ذبحه ذبح الشاة, قال بعض المؤرخين: لما نزل الدم من أحمد بن نصر الخزاعي كتب: الله الله الله , والله أعلم.
هذا الواثق لما أدركته سكرات الموت يقول السيوطي في تاريخ الخلفاء: لما أضجعوه ومات وسلّم روحه, أتى فأر فأخذ عينه فأكلها, لماذا؟ ليرى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الناس الجبابرة في الدنيا, فأر دخل على عين الواثق الذي كان إذا رأى إلى الإنسان شزراً أرعد هذا الإنسان، أخذها الفأر وأكلها.(177/17)
طاوس وأبو جعفر المنصور
دخل طاوس عالم اليمن على أبي جعفر المنصور , وأبو جعفر جبار من الجبابرة, وصنديد ذبح الملوك والوزراء والأمراء, داهية من دواهي الناس لكنه ذهب إلى الله, فأتت ذبابة ووقعت على أنف أبي جعفر، وكلما أزالها عادت عليه, فتضايق! وأتى يتفاضل على طاوس الزاهد العابد, قال: يا طاوس بن كيسان! لماذا خلق الله الذباب؟
قال طاوس: ليذل به أنوف الطغاة! فسكت, قال: ناولني الدواة -الدواة يكتب بها أبو جعفر - قال: لا والله، إن كنت تريد أن تكتب بها حقاً فما أنا بخادم لك, وإن كان باطلاً فلا أعينك على الباطل, قال: خذ من أموالنا؟ قال: لا.
مالك! حلاله حساب وحرامه عقاب, ثم قام وتركه, وهؤلاء العلماء لهم عجائب مع أولئك الغافلين المعرضين.(177/18)
ابن أبي ذئب والمهدي
على سبيل المثال: ابن أبي ذئب المحدث الكبير, دخل عليه الخليفة المهدي في المسجد النبوي وهو ابن أبي جعفر المنصور , فقام له الناس إلا ابن أبي ذئب المحدث لم يقم, قال: المهدي لماذا لا تقوم لنا كما قام الناس؟
قال: والله الذي لا إله إلا هو، أردت أن أقوم لك فتذكرت قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فتركت القيام لذاك اليوم، قال: اجلس والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت, كأنه ما سمع الآية إلا تلك الفترة, لأنه غافل, وكثير من الناس يعيش في غفلة، كيف يصحو من فيه جنون في عقله؟! كيف يصحو من يمسي على الموسيقى ويصبح عليها وما سمع القرآن, وما تلذذ بآيات الله الواحد الديان, وما أتته قوارع الرحمن؟!
كيف يصحو من لا يتعهد الصلوات الخمس؟
كيف يصحو من لا يجلس في مجالس الذكر مع طلبة العلم ومع الدعاة في حلقات الخير؟ كيف يستفيد؟ كيف يعرف طريقه؟ إنه في ظلمة وفي شك وشبهة.(177/19)
وفاة المعتصم
ذُكِرَ أن الخليفة العباسي المعتصم القائد العسكري الذي فتح عمورية بتسعين ألفاً.
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
يقول بعض المؤرخين: كان المعتصم من أقوى الناس كان يأخذ السيخ من الحديد ويكتب اسمه من قوته, حتى يقول أحد المحدثين: دخلت على المعتصم فمد ذراعه لي, وقال: أسألك بالله أن تعض يدي, -ذكرها السيوطي - قال: فعضضت يده، قال: والله ما أثرت أسناني في لحمه, لكن هذه القوة صرعها هادم اللذات, ومفرق الجماعات, وآخذ البنين والبنات, اسمعوا المتنبي ماذا يقول في الأقوياء أهل الحفر المظلمة:
أبني أبينا نحن أهل منازل أبداً غراب البين فيها ينعق
نبكي على الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
أين الأكاسرة الجبابرة الأولى كنزوا الكنوز فلا بقينا ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى ثوى فحواه لحد ضيق
خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلال مطلق
فالموت آت والنفوس نفائس والمستعز بما لديه الأحمق.
المعتصم لما حضرته الوفاة, قال: أأموت اليوم؟
قالوا: تموت اليوم - وهو شاب في الأربعين يظن أن الإنسان لا يموت إلا بعد السبعين فقال للعلماء: أأموت اليوم؟ قالوا: ثبت شرعاً أنك تموت اليوم, وهل عندك شيء؟ قال: سبحان الله! فنزل من على سريره وهو يرتعد، وقال: والله لو ظننت أني أموت اليوم ما فعلت الذي فعلت من المعاصي!! سبحان الله!
ما الفرق بين اليوم وغدٍ؟
قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] غداً قريب, وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
ولا يستفيق المغرور بالمعاصي إلا في سكرات الموت, كم يعظ الواعظ؟ وكم يتحدث العلماء؟ وكم يدعو الدعاة؟ ولا يستفيق بعض الناس إلا إذا حشرجت بنفسه صدره.
فلا إله إلا الله ما أغفل هذا الصنف! لكن الأخيار الأبرار علموا أن الطريق إلى الله تأتي بالتهيؤ لسكرات الموت.(177/20)
وفاة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز
عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد العابد الذي صح عن بعض السلف أنه قال: ليس أحد من التابعين قوله حجة إلا عمر بن عبد العزيز.
لما حضرته الوفاة، قال لامرأته فاطمة: اخرجي من غرفتي، فإني أستقبل نفراً ليسوا بإنس ولا جن, قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32] وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] اللهم اجعلنا منهم, اللهم ثبتنا بالقول الثابت, يوم تضيق بنا نفوسنا، ويشتد علينا كربنا، فلا يكون لنا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك, قال سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
أدركت كثير من الناس سكرات الموت وهم في معاصٍ كالجبال, إما دم أو زنا أو شرب خمر أو ربا أو غناء, أو تخلف عن الصلوات الخمس, أو تجاهل لرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم أو تجاهل لطلب العلم, فلا إله إلا الله ما أغفلهم!(177/21)
الحجاج بن يوسف وسعيد بن جبير
وهنا عالم وطاغية, يدخل سعيد بن جبير على الحجاج في حوار حار ساخن والحجاج يريد ذبحه, ويعرف سعيد بن جبير أنه لن يخرج إلا مقتولاً, رأسه في جهة وجثته في جهة أخرى, فيقول الحجاج: من أنت؟
قال: أنا سعيد بن جبير - الحجاج السفاك الذي يقول فيه الذهبي: نبغضه ولا نحبه، ونعتقد أن بغضه من أوثق عرى الدين.
ويقول فيه أيضاً: له حسنات غمرت في بحار سيئاته, وبعض الناس يمدح الحجاج في بعض المواسم والمحاضرات, ويقولون: كان وكان! لكنه أهان الصحابة، وعذب أبناء المهاجرين والأنصار, وقتل العلماء, فأمره إلى ربه في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى- قال لـ سعيد بن جبير -قائم الليل، صائم النهار، المحدث الكبير الذي يقول فيه الإمام أحمد: مات سعيد بن جبير وما أحد في الدنيا إلا وهو محتاج إلى علمه, وهو من رواة البخاري ومسلم - من أنت؟
قال: سعيد بن جبير , قال: بل أنت شقي بن كسير!! قال: أمي أدرى إذ سمتني -أي: أدرى منك- قال: شقيت أنت وشقيت أمك, ثم قال له: والله لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى -يقول: أدخلك النار وهو لا يستطيع- قال: لو أعلم أنك صادق لاتخذتك إلهاً, قال: عليّ بالمال -ذكر هذه القصة المباركفوري صاحب مقدمة تحفة الأحوذي - فأتوا بالمال من الذهب والفضة أكياس ملئوها ذهباً وفضة, قال سعيد بن جبير: يا حجاج! إن جمعت المال لتتقي به من عذاب شديد فنعمّا صنعت, وإن كنت جمعته رياءً وسمعة، فوالله لا يغني عنك من الله شيئاً, فرفع المال, وقال: فعليّ بالجارية والعود -الآن في ساعة الاحتضار، وذبح العلماء يغني ويطبل ويرقص- فأتت الجارية المسكينة تضرب العود عند سعيد بن جبير: -هل رأى الحب سكارى مثلنا؟!! فلما ضربت العود بكى سعيد بن جبير , قال الحجاج: أهو الطرب؟
قال: لا والله.
لكن جارية سخرت لغير ما خلقت له، وعود قطع من شجرة يستخدم في معصية الله -انظر إلى بعد النظرة، عالم يرى أن الناس لا بد أن يكونوا عباداً لله, والشجر لا بد أن تسخر في طاعة الله, عود وموسيقى تستغل في المعاصي ليس بصحيح, مطبل ومغني يتصدر الأمة ليضلها عن سبيل الله ليس بصحيح, لأن أرذل الناس وأفشلهم وأسفلهم هم المغنون والمغنيات, والراقصون والراقصات الأحياء منهم والأموات, وهذا عيب بلا شك، ولو لم يكن محرماً في الكتاب والسنة لكان عيباً، والمصيبة أن هذا المغني وهذه المغنية يتصدرون الأجيال، ويطبلون للأمم، ويضلون الشعوب, ويقودونهم إلى الهاوية- قال لـ سعيد بن جبير: خذوه إلى غير القبلة, قال سعيد بن جبير: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115].
قال: أنزلوه أرضاً, قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] قال: والله لأقتلنك قتلة ما قتلها أحد من الناس, قال: يا حجاج! والله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله بمثلها، فاختر لنفسك أي قتلة شئت! فأتوا يذبحونه؛ فقال في النفس الأخير: اللهم يا قاصم الجبابرة! اقصم الحجاج , اللهم لا تسلطه على أحد بعدي {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ) [إبراهيم:42 - 43].
فذبحه, وأتى الحجاج يخور بعدها كما يخور الثور!
أتت له -في بعض الروايات- بثرة في جسمه كالدرهم، فحكها فافتشى في جسمه, يقول الحجاج وقد مكث شهراً بعد مقتل سعيد بن جبير ثم مات, يقول: ما نمت بعد مقتل سعيد بن جبير إلا رأيت وكأني أسبح في حمام من دم, وما تلذذت بطعام ولا شراب, وأخذ يخور كما يخور الثور, وحين مات ذكر أهل التاريخ والسير: أنهم مروا على قبره، فسمعوا صياحاً في قبره وكان أخوه محمد مع المارين، فقالوا: ما هذا الصوت؟ قال: رحمك الله يا أبا محمد! ما تترك قراءة القرآن حتى في القبر! يصيح من العذاب، ويقول أخوه ويزكيه: إنه حتى وهو في القبر لم يترك قراءة القرآن!! فهو يريد أن يعتذر له، وهذا أخوه محمد غاشم وظالم مثله، وقد كان حاكماً ظالماً في اليمن.
وهناك قصة ذكرها أهل العلم: أن رجلاً مسكيناً من أهل اليمن كان يطوف بالبيت, قال طاوس: فصليت ركعتين عند المقام، فلما انتهيت من الركعتين التفت فإذا بجلبة السلاح والحراب والسيوف والرماح، فالتفت! فإذا به الحجاج بن يوسف الثقفي , قال: فجلست وسكت, وإذا بهذا الأعرابي مشى من عند الحجاج -لا يدري أنه الحجاج - فنشبت حربة أو رمح في رداء هذا الأعرابي، فوقعت على الحجاج , فأمسكه الحجاج، وقال: من أين أنت؟
قال: أنا من أهل اليمن.
قال: كيف تركت أخي؟
قال: من أخوك؟
قال: محمد بن يوسف , قال: تركته سميناً بطيناً -يقول: لا تخاف عليه أما الأكل والشرب فإنه ممتلئ لكن لا قرآن ولا قيام ليل- قال: لست أسألك عن صحته بل أسألك عن عدله, قال: تركته غشوماً ظلوماً، قال: أما تدري أني أخوه؟
قال: أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله, قال طاوس: ووالله لقد تأثرت منها وما زلت ألحظ إلى ذاك وهو يطوف أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
ولذلك لا يندم النادم إلا في سكرات الموت وفي ساعة الاحتضار.(177/22)
كيف نستعد للموت؟
المطلوب منا أن نستعد للموت بأربعة أمور:(177/23)
تذكر الموت
أولاً: أن نتذكر الموت صباح مساء! وهذه غفلة وقعنا فيها, يوم نسينا الموت وما بعد الموت, وغفلنا عن ذلك، وقعنا في المعاصي، والشهوات والشبهات، والمخالفات وإغضاب رب الأرض والسماوات, حتى أن بعض الشباب إذا ذكَّرته بالموت، قال: دعنا نعيش ونأكل ونشرب لا تكدر علينا صفو أوقاتنا، فضح الموت الدنيا فلم يدع لذي لب فرحاً.
خرج النعمان بن المنذر، ملك العراق قبل الإسلام في نزهة، فقال لـ عدي بن زيد شاعر الجاهليين وكان حكيماً: ماذا تقول هذه الشجرة يا عدي بن زيد؟
قال: تقول:
رب ركب قد أناخوا حولنا يخلطون الخمر بالماء الزلال
ثم ساروا لعب الدهر بهم وكذاك الدهر حالاً بعد حال
فرفع الخمر وأخذ يبكي، فأول الأمور: تذكر الموت، ويأتي بأمور:
- أن يكون في ذهنك كالصداع, فقد ذكروا عن ميمون بن مهران الزاهد العابد العالم أنه حفر قبراً في داره، فكان ينزل كل ليلة في القبر ثم يبكي ويقرأ القرآن ثم يخرج، ويقول: يا ميمون! ها قد عدت إلى الدنيا فاعمل صالحا!!
وجعل بعض الناس كفناً في بيته ينظر إليه دائماً, فينظر إلى مصرعه, ومنهم من كتب كتابةً يتذكر بها الموت، يقول: اذكر الموت وهادم اللذات, فتذكر الموت يأتي بهذه الدواعي.(177/24)
زيارة القبور
زيارة القبور وهذا مع غلبة الحضارة واختلاط الناس، ومع المغريات والشهوات، ومع ما وجد من مطعومات وملبوسات ومفروشات؛ نسوا الموت، وزيارة المقابر -يا أيها المسلمون- إن من أعظم ما يذكر بلقاء الله: هو الزيارة الشرعية للرجال, فتزور فتتذكر وتسلم على أهل المقابر وتدعو لهم, وتذكر كيف أخذهم هادم اللذات؟ وكيف صرعهم في الحفر المظلمات؟ وكيف أخرجهم من الدور والقصور؟ أكلوا وشربوا واستأنسوا ولبسوا وضحكوا, ركبوا السيارات الفاخرة، وتقلدوا المناصب, وسعدت بهم المواكب, ورفعوا البنود، وحفت بهم الجنود، واحتشدت عليهم الأنام, وارتفعت على رءوسهم الأعلام, ثم سلبوها جميعاً ووقعوا هناك والله المستعان.(177/25)
مجالسة الصالحين
ومما يُذّكِّر بالموت: مجالسة الصالحين, والاستئناس بزيارتهم، وطلب النفع والفائدة منهم, وأصلح الصالحين طلبة العلم الشرعي, طلبة الكتاب والسنة, فإنهم على بصيرة, وهم أصلح من العباد الذين لا يطلبون العلم، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] حضور مجالسهم ودروسهم ومحاضراتهم وندواتهم, وسماع كلامهم, وزيارتهم, والدعاء لهم, وحبهم في الله كل ذلك من العروة الوثقى، قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] يقول الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة
فإذا علم ذلك، فهذا مما يرقق ويدعو إلى الاستعداد لسكرات الموت.(177/26)
تدبر القرآن
تدبر القرآن ومعايشته، وحفظ ما يستطاع منه؛ والعمل به.
يقول أحد الصالحين: قرأت الرقائق والمواعظ فما وجدت كتدبر القرآن, والقرآن إذا صادف قلوباً واعية فإن القلب ينشرح، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} ويقول عليه الصلاة والسلام: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه}.(177/27)
قصر الأمل
يقول ابن عمر في صحيح البخاري: {أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي هذا وقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} وكان ابن عمر يقول: [[إذا أصبحت فلا تنتظر المساء, وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح, وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك]]
ووجد -على سبيل المثال- أن الحاكم بأمر الله الفاطمي عليه لعنة الله، وهو ملحد زنديق عدو للإسلام والمسلمين, فعل هذا الفاجر من الأفعال ما أظن أن فرعون لم يفعلها , من يقرأ سيرته وترجمته يجد فيها عبرة، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران:13].
هذا المجرم السفاك الزنديق الملحد عليه لعنة الله الذي فعل الفعائل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان ينزل إلى السوق فيسجد له الناس, والذي لا يسجد له قطع رأسه, أخذ القرآن ومزقه وداسه بأقدامه, ونجس محراب المسجد, فعل أفعالاً لا يفعلها إلا من بلغ درجته, فأتى عالم من علماء أهل الحديث والسنة, فأفتى فتيا.
يقول هذا العالم: من كانت عنده عشرة أسهم فليطلق واحداً من سهامه يرمي الروم أو الصليبين والنصارى ويرمي الفاطميين بتسعة أسهم -أي: يذم الحكام العبيديين الفاطميين الملاعين إلا من رحم ربك- فسمع هذا الحاكم فاستدعى العالم, قال: سمعت أنك تقول: أن من عنده عشرة أسهم فليرم النصارى بتسعة ويرمينا بسهم؟
قال: لا.
الفتيا ليست هكذا, قال: ما هي؟ قال: قلت: يرميكم بتسعة ويرمي النصارى بسهم واحد, فاستدعى يهودياً من اليهود معه سكين وقال: اسلخ جلده عن لحمه وعظمه ولا تقتله, فقال العالم: حسبنا الله ونعم الوكيل, فرفع ودحرج على وجهه, وأخذ اليهودي يسلخ جلده عن لحمه وعظمه, حتى سالت قطرات الدم.
وبعضهم قال: رؤي عليه كالظلة من السحاب أو الملائكة والله أعلم, وقد كان من الصالحين الكبار, كان مدلّى والدم يقطر من أنفه وفمه، وهو يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر, حتى وصل اليهودي وهو يسلخه إلى قلبه, فرحمه اليهودي.
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا
فرحمه اليهودي؛ فأخذ السكين وضربه في قلبه ليموت, فلما وصلت السكين قلبه، قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله! وكانت عقوبة هذا المجرم أن أخذه الله في ذلة, فسلط عليه أعداءه، فأخذوه في مكان بـ المقطم في مصر وأحاطوا به، فقطعوا يده اليمنى أولاً, ثم يده اليسرى, ثم رجله اليمنى, ثم رجله اليسرى وهو حي, ثم قطعوا لسانه وهو حي, ثم قطعوا أنفه, ثم فقئوا عينه اليمني, ثم عينه اليسرى, ثم قطعوا أذنيه حتى مات كمداً وغيظاً: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16] ذاك عرف ساعة الاحتضار، فكان يسبح ويهلل ويكبر ويحمد الله, وهذا نسي القدوم على الله فذهب إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم!!(177/28)
التوبة النصوح
يا إخوتي في الله! النتيجة من هذا الدرس هو الاستعداد للقدوم, ولا يكون ذلك إلا بالتوبة النصوح, من قال: أتذكر الموت ولم يتب فهو كاذب.
ومن قال: أعرف أني أموت وأتذكر الموت ولم يداوم على الصلوات الخمس جماعة فهو كاذب, ومن أعرض عن القرآن وتذكر الموت فهو في تذكره كاذب, فعلينا بالتوبة النصوح، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] وقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
الموت أيها الإخوة!! هو مدرسة للأحياء, ولا يستفيد من تذكره وساعة الاحتضار إلا من أعد توبة, وعملاً صالحاً.
الأعمش سليمان بن مهران رواي الكتب الستة سماه الذهبي: شيخ الإسلام, حضرته الوفاة فبكى أبناؤه، وقال: لا تبكوا فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الإمام ستين سنة, فـ الأعمش , ستون سنة ما فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام, وهو في المحراب والروضة, هذا هو الدين والإسلام, أما إذا كان الدين كلاماً منفوشاً ولا يطبق, وكلمات رنانة ولا أثر لها في الواقع فليس بعمل وليس بخشية.
سعيد بن المسيب وهو في سكرات الموت، وهو يقول: الحمد لله! ما أذن المؤذن من أربعين سنة إلا وأنا في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام.
وكان عامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير إذا صلّى رفع يديه، وقال: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة, قال له أبناؤه: وما هي الميتة الحسنة؟
قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد, فصلّى المغرب وهو في السجود الأخير، فقبض الله روحه, فهذه هي الميتة الحسنة, سأل الله فأعطاه الله ما سأله.
وأبو ريحان -بعضهم يدعي له صحبه- كان يسأل الله أن يميته وهو ساجد, فمات وهو ساجد, ولكن وجد من الناس من بات وهو يستمع الأغنية، ويردد معها في حادث انقلاب, مسجلة تشتغل على آخر صوت, وهو يردد مع المغنية وقلبه موله بالمغنية التي هدمت القيم، وتعاليم الدين، وحاربت المسلمين بأغنيتها وسموها كوكب الظلام، وهي كوكب التخلف والانحراف، تقول: هل رأى الحب سكارى مثلنا؟!! ويقول وهو في سكرات الموت وساعة الاحتضار: هل رأى الحب سكارى مثلنا؟!!!
يقول ابن القيم في الجواب الكافي: أتوا بمحتضر! فقالوا له: قل: لا إله إلا الله؟
قال: أين الطريق إلى حمام منجاب؟
قالوا: قل: لا إله إلا الله؟
قال: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فمات عليها, لأنه شب وشاب عليها، ومات عليها, ويحشر عليها.
ويروي ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين عن تاجر أنهم قالوا له: قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ قال: خمسة في ستة كم تصير؟ فكرروا عليه، فقال: خمسة في ستة كم تصير؟!!
تصير إلى الهاوية! خمسة في ستة ما أنقذتك من غضب الله، خمسة في ستة ما علمتك الطريق إلى الله، خمسة في ستة ما بيضت وجهك أمام الله! فأي مال وأي فائدة؟!
بعض الناس يتولّه في شيء يجعله عبادة, تجد أحد التجار حتى في الصلاة يتولّه في التجارة ويعد ويحسب, لا يدري هل صلّى مع الإمام في المسجد أم لا؟ خرج وقلبه مع التجارة وعبادتها ولا يدرك ذلك ثم يستيقظ في ساعة الاحتضار.
وبعضهم يتولّه مثل باغاندي رحمه الله، من تولهه بالحديث -يذكرون عنه كـ الذهبي وغيره- أنه قام ليصلي؛ فقال: الله أكبر -كان محدثاً، حدثنا فلان عن فلان حدثنا فلان عن فلان أصبحت قضيته الكبرى إلى درجة الغلو في الحديث- فلما كبّر انتظر الناس أن يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال: حدثنا الربيع بن سليمان , فهذا وصل إلى درجة من التوله, ولذلك فإن من تعلق بالله حفظه الله، ومن ضيع الله ضيعه الله, قال الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [ابراهيم:28].
فالنتيجة التوبة, والعمل الصالح في مثل تلك الساعة فلنعد, ولاننتظر.
ولا تقل الصبا فيه امتهال وفكر كم صبي قد دفنتا
إذا ما لم يفدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا
وإن ألقاك فهمك في مهاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
وهذه قصة نختتم بها الموضوع, شاب صالح من الجزائر كان يحافظ على الصلوات الخمس, وقد حدثنا بقصته أحد الإخوة من الدعاة في الجزائر معه مصحفه دائماً، أتته سكرات الموت في حادث فبقي مغمى عليه أربعة أيام يردد الفاتحة, قال: والله ما فتر لسانه من الفاتحة, كلما أنهاها أعادها من أولها, لأنه عاش على الفاتحة, ويموت ويحشر عليها، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [ابراهيم:27].
نسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت, وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا, وأن يتولانا في الدارين, وألا يجعلنا ممن صرعتهم غفلتهم, وأتاهم موتهم مضيعين, فاستحسروا وندموا ولات ساعة مندم, نعوذ بالله من الخذلان، ونعوذ بالله من الحرمان, ونعوذ بالله من الإعراض عن شرع الواحد الديان, ونعوذ بالله من الإدبار عن القرآن, وهجر الإيمان, وعدم تذكر الرحمن.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(177/29)
الأسئلة(177/30)
قصيدة في مدح الشيخ عائض
السؤال
أرجو من الشيخ عائض القرني أن يتقبل هذه الأبيات من أخٍ في الله:
يا عائض الزهد في جنبيك قد جمعا والمجد والحق في كفيك قد وضعا
هذي حروفي بلفظ الحب أنثرها على بساطك أنت النجم مرتفعا
إني أحبك بالرحمن مرتجياً لقاك في جنة الفردوس مجتمعا
يقول: وللأبيات بقية أرجو أن ألقاك حتى ألقيها على سمعك والله يحفظك؟!
الجواب
أقول لصاحب هذه الأبيات: هنا مسألتان:
الأولى: أني أشكره على أنه أجاد في الأبيات, لأن غالب الشباب الذين يكتبون يكسرون الأبيات، تأتي مكسرة الأضلاع, وهذا بحره وقافيته مستقيمة.
الثاني: ألومه وأعاتبه, لأنني -والله- لا أستحق ذلك, وأنا أعرف بنفسي وكما قال أبو العتاهية:
إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني
وإذا جاء رددت عليه بقصيدة, والشعر بالشعر ليس رباً, إذا كان يداً بيد!!(177/31)
حكم إضاعة الوقت في الملهيات
السؤال
هناك بعض الشباب يؤدون الصلوات مع الجماعة، ويصلون التراويح, ومن بعد التراويح يقضون الوقت في لعب ولهو وشرب الدخان، وإذا نصحناهم أن يقلعوا عن هذا العمل الخاطئ, قالوا: صلينا الفريضة وصلينا التراويح، فماذا نعمل؟ نلعب الورق أو نأكل أعراض المسلمين؟
الجواب
في محاضرة سابقة تعرضت لهذه الأمور، ومنها: الفراغ الذي بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر, والمسألة محددة في السؤال أنه يقول: نهرب من الغيبة إلى الورقة, فكأن هذا الرجل ليس عنده صلاح وانتهاء عن المعصية، وليس عنده فرار من هذا الذنب إلا بذنب آخر أهون منه, ما هذا الفكر؟!
أنا ذكرت كلام ابن تيمية لما مرّ بصوفي مغفل، لا قرآن عنده ولا علم؛ أعمى القلب والبصر، يقرأ في القرآن في سورة النحل قال: {فخر عليهم السقف من تحتهم} قال ابن تيمية: لا قرآن ولا عقل! لأن السقف دائماً من فوق.
فهذا صاحب الورقة، يقول: إما أغتاب الناس أو الورقة، أليس هناك حل ثالث؟ أما هناك قرآن؟ أما هناك سنة؟ أما هناك طلب علم، أو استغفار، أو نوافل، أو سماع شريط، أو قراءة كتاب إسلامي, أما أن تترك الغيبة إلى الورقة فهذا ليس بصحيح, وهؤلاء الذين يقولون هذه الأحاجي مردودة عليهم، وحجتهم داحضة عند ربهم, ولا يقبل قولهم, وعليهم أن يتوبوا ويتذكروا أنهم محاسبون على أوقاتهم، وعندنا -والله- الأمور الشرعية المشرحة للصدر المنورة للفؤاد ما يشغل بها المسلم وقته, وبعض العلماء كانوا ينامون أربع ساعات, ونُقل عن عالم أنه كان ينام ساعتين في أربع وعشرين ساعة, قالوا: ما لك؟ قال: الحاجات أكثر من الأوقات, قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].(177/32)
معنى حديث: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة)
السؤال
حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: {وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة} الحديث، هل سوء الخاتمة تكون دون أعمال قبلها، والأعمال قبلها لا تكون سبباً لحسن أو سوء الخاتمة؟
الجواب
أولاً: هذا الحديث نبه عليه ابن القيم في مسألة خطيرة، يقول: جهلها كثير من الناس, وهي أن بعض الناس يقول: إذا كان الحديث يقول: {وإن منكم لمن يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة} إلى آخر الحديث، قال: إذا كنت أتعب وأصلي وأصوم وأستغفر ثم يسبق عليّ الكتاب قال: هذا الأمر فيه شيء! قال: فقد أساءوا الظن بالله, عليهم دائرة السوء, كيف يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36].
ليس بصحيح؛ بل الحديث يفسره الرواية الصحيحة: {إن من الناس من يعمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس, حتى إذا لم يكن بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار -أي: منافق- ومنهم من يعمل بعمل أهل النار فيما يظهر للناس يظنون أنه مسيء وعنده أعمال صالحه وتوبة وعودة إلى الله فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة} وهذا من المعاني.
فالأخ لا يغتر بهذا وأمثاله, والعمل الصالح له دور عظيم في حسن الخاتمة, والعمل السيئ له دور عظيم في سوء الخاتمة, وشواهد ذلك من القرآن كثيرة منها: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وقوله: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الانبياء:101 - 102] وقوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [ابراهيم:27].(177/33)
النفس لها إقبال وإدبار
السؤال
إني أعاني من الفتور, ومن نفسي الغافلة الناسية للموت, والله يعلم ما بي من قلق وقسوة في قلبي, أرجو أن تخبرني ما هي أسباب الفتور والغفلة؟ وما أسباب الإقبال على الله، أفادك الله وبارك فيك؟
الجواب
مسألة الإقبال والإدبار قال عنها بعض السلف فيما صح عنهم: إن للنفوس إقبالاً وإدباراً، أولاً: نعترف جميعاً أن نفوسنا ليست على وتيرة واحدة في القوة والنشاط، في العبادة والكسل, فمرة تصفو نفسك, وينشرح صدرك, وتقبل على الطاعة, وتكثر من النوافل, ومرة تكل وتسأم وتمل, فإذا سئمت ومللت وكللت فألزم نفسك الفرائض, وإذا أقبلت نفسك فعليك بالنوافل.
لكن هناك أسباب للفتور, منها:
1 - الجلوس مع البطالين, قال أبو معاذ الرازي -أحد الصالحين-: لا تشتغل بالجلوس مع الفجار عن الجلوس مع الأخيار, ولا تشتغل بالجلوس مع الأخيار عن الجلوس مع الواحد الغفار.
2 - كثرة رؤية المعاصي كالنظر إلى الحرام، وسماع الغناء, وأكل للربا, وتخلف عن الصلوات جماعة, وإعراض عن القرآن.
3 - كثرة المباحات, مثل: كثرة النوم والضحك، والهزل والنشيد الذي لا ينفع, لأن بعض الناس يدمن حتى في بعض المباحات, فالنشيد على سبيل المثال تجد بعض الشباب عنده خمسون شريطاً في الأناشيد وليس عنده محاضرة أو درس إلا شريط واحد, وبعضهم مع الأناشيد على الحافلة وداخل الحافلة وتحت الحافلة , في الصباح والمساء كالصلوات الخمس, وهذا ليس بصحيح, فالمباحات يجب أن تكون بقدر, وكثرتها تقسي القلب، وتورث الفتور.
ومما يقوي الإقبال:
تدبر القرآن، كثرة النوافل، كثرة الذكر، زيارة الصالحين، حضور مجالس الخير.(177/34)
حكم ذكر مخازي الأموات
السؤال
هل يجوز ذكر مخازي الأموات وما فعلوه في حياتهم؟
الجواب
إذا كان الميت من الكفار فاذكره, كما ذكر الله مخازي فرعون في القرآن, وذكر مخازي هامان وقارون , وأمثالهم وأضرابهم فهو كافر لا حرمة له أبداً, إذا اعتقدت أنه مات كافراً ملحداً زنديقاً فاذكره ليتعظ غيره , لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
وأما من مات مسلماً فلا, وقد ورد في الحديث: {لا تذكروا الأموات إلا بخير} لكن في هذا اللفظ كلام, وكذلك في الحديث وهو حديث حسن: {لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا} فأما من مات مسلماً فلا نتعرض له, وعلمهم عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134].(177/35)
ما يقال للمحتضر
السؤال
سؤالي عما يقال للمريض الذي يحتضر؟ وهل يجوز إحضار الزهور وإهداؤها للمريض، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
المريض وعيادته على قسمين: إذا أتيت والمريض يرجى برؤه، وهو في عافية وخير، فأفرحه بالعافية, ولو أن تلبس عليه بعض الكلمات (ما شاء الله أنت في أحسن حال) لتكسبه استيقاظاً معنوياً في نفسه, ما ظننت أنك على هذه الحالة ما شاء الله أنت طيب وفيك خير
مثلاً: مريض بالزكام، تقول: ما شاء الله تبارك الله، مع العلم أنه لا يزار من الزكام ولا الرمد, لكن أما أن تقلب عليه الدعوة, ماذا مرضك؟ قال: كذا وكذا قال: ما سمعنا بأحد أصيب بهذا المرض إلا نقل إلى المقبرة تماماً!! والله يظهر الموت من عينيك: ميت (100%) لن تخرج -إن شاء الله- إلا على الجنازة!! فهذا من الحمق نسأل الله العافية, ولا يفعل هذا إلا من قل وعيه.
وأما محتضر أتيت إليه وقد مد لسانه، وأصبح في ساعة الاحتضار، وفي سكرات الموت، وفي عالم الآخرة فلا تدجل ولا تكذب عليه! تقول: ما شاء الله! تصارع الحيطان، وتهد الجدران وما رأيت أصح منك، ما شاء الله تبارك الله!!! فلا، بل هذا تذهب ترجيه بحسن الثواب وتحسن ظنه بالله, واستحب السلف ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من حديث جابر: {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه} فتذكره برحمة الله وعفوه وأنه سوف يقدم على رب غفور, لا تقل: إن الله شديد العقاب، وإني أخاف عليك مزلقاً وورطة لا تخرج منها! وهذا ليس من كلام أهل الصلاح.
وأما إهداء الزهور؛ فليست بواردة للمريض، وليست من هدي السلف وما سمعت بذلك لا في أثر من كتاب أو سنة, وماذا تغني الزهور لمن نقل من الدور والقصور إلى القبور, وأتته قاصمة الظهور؟(177/36)
آفة النسيان
السؤال
أكثر ما نعتبر في أثناء المحاضرة أو الندوة ولكن بعد ذلك ننساها فماذا نفعل لكيلا ننسى هذه المواعظ؟
الجواب
النسيان والتذكر موجود عند كثير من الناس, وقد شكا الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام, كـ حنظلة بن ربيع الأسدي في صحيح مسلم: أنه {شكا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر فقالوا: يا رسول الله! إنَّا نجلس معك فتذكرنا باليوم الآخر حتى كأنا نرى القيامة رأي العين, ثم نخرج من عندك فنعافس الأولاد والضيعات والنساء وننسى كثيراً، فيقول عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده! لو تكونون كما تكونون عندي في حلق الذكر لصافحتكم الملائكة، ولكن ساعة وساعة} فجلوسك هنا قد تتعظ وتتأثر لكن إذا خرجت نسيت بسبب مغريات الحياة وشواغلها، لكني ذكرت في إقبال القلوب دواعي من استحضرها يرق قلبه ويستحضر روحه إن شاء الله.(177/37)
هجر الوالدين
السؤال
هناك كثير ممن يهجر والديه بدون سبب، ويعتذر بانشغاله في أعمال أو نحو ذلك، فما حكم ذلك؟ وما حكم زيارة أقارب الوالدين؟
الجواب
هذه ظاهرة عند بعض الناس ولو كانوا من المستقيمين، وهي عدم أداء حقوق الوالدين، والقسوة والفضاضة مع الوالدين, وقد تجده باراً بزملائه وأصدقائه لكن مع والديه ليس محموداً، وهذا أمر مخالف لكتاب الله عز وجل، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وآراء أهل العقول, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الاسراء:23] فالله الله بالوالدين والأم لها ثلاثة أرباع الحق والوالد الربع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: {أمك ثم أمك ثم أمك، ثم قال: أبوك} فإذا عُلم هذا؛ فإني أدعو إخواني لبر الوالدين، واللين معهم في الخطاب, وهو يحتاج إلى كلام طويل، لكن هذا شيء مجمل.
وأما ما ذكره السائل من زيارة الأقارب، فالأقربون أولى بالمعروف، وأدناك أدناك, أو كما قال عليه الصلاة والسلام في قوله: {أدناك أدناك} وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
فهؤلاء يزارون ويوالون في طاعة الله وفي محبته, لكن إذا رأيت منهم إعراضاً ومعصية وقد دعوتهم وما استجابوا لك، فلا بأس أن تهجرهم من باب هجران أهل المعاصي علهم أن يتعظوا ويرتدعوا.(177/38)
الحكمة من سكرات الموت
السؤال
نسمع كثيراً عن أناس عابدين ومتقين قد شدد الله عليهم سكرات الموت, وكذلك نسمع عن أناس عاصين مذنبين قد شدد الله عليهم سكرات الموت أيضاً, فهل كل إنسان سيلاقي شدة سكرات الموت, وهل الشهيد كذلك؟
الجواب
هذا ورد في بعض الآثار، وفي حديث يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن المؤمن يموت بعرق الجبين} وقد أورده ابن حجر وغيره وسكت عنه, وعرق الجبين قالوا: إنه يتحدر عرقاً من شدة كربه لتكون كفارة, فشدة الموت عليه كفارة, وقد جعلها ابن تيمية من المكفرات العشر التي يكفر بها الذنوب والخطايا, فيشدد عليه سكرات الموت حتى تكفر خطاياه, وبعضهم يقول: إن المؤمن يموت بعرق الجبين، أي: أنه يذهب ويتعب في العبادة والسهر في طاعة الله والصيام, وكأنه عامل يجد بعرق جبينه، وأما ما ذكر الأخ فصحيح, فأما المؤمن فإنه يشدد عليه لتكون كفارة, وكأن آخر سيئاته تكفر تلك اللحظة، وأما الكافر فيشدد عليه خزياً، خزي في سكرات الموت وخزي بعدها ثم خزي في النار والعياذ بالله.(177/39)
حقيقة ضمة القبر
السؤال
ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لقد ضم القبر سعداً ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد} فكيف تكون الضمة؟ وكيف بنا ونحن لا نساوي شيئاً ولا نبذل كما بذل سعد رضي الله عنه؟
الجواب
هذا الحديث صحيح, فالقبر قد ضم سيد الأوس أبو عمرو سعد بن معاذ الشهيد الأوسي الكبير, رضي الله عنه وأرضاه، الأنصاري أبو عمرو الذي اهتز عرش الرحمن لموته, مات شهيداً وقد أصابه سهم في عزوة الخندق، فقال: [[اللهم إن كنت أبقيت بين الرسول واليهود حرباً فأبقني لها, وإن كنت أنهيت الحرب بين اليهود وبين رسولك صلى الله عليه وسلم فاقبض نفسي إليك]] فثار دمه فمات شهيداً, ولذلك بكى عليه الصلاة والسلام عليه, وذكر الذهبي: أن أبا بكر كان يقول: [[واكسر ظهراه عليك يا سعد]].
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد شهم يموت بموته بشر كثير
فلما مات اهتز عرش الرحمن له والحديث حسن, ويقبل الصحة في الشواهد, حتى يقول حسان:
وما اهتز عرش الله من موت هالك سمعنا به إلا لـ سعد أبي عمرو
ويروى أنه شيعه سبعون ألف ملك، وأنه لما وصل إلى المقبرة ضمه القبر، فقال عليه الصلاة والسلام: {لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا منها سعد} ويحمل هذا على أحد أمرين:
قيل: ضمة شوقاً, وقد قال بهذا بعض علماء السنة والله أعلم.
وقيل: ضمه يكون كفارة، ما من أحد إلا وله ذنب, فمن المكفرات ما يجده المؤمن في القبر, وقد ذكر ابن تيمية هذه من المكفرات, فيكون من المكفرات وهو لا ينجو منها أحد، فنسأل الله أن يعيننا, لكن تخفف على المؤمن وقد لا يجد لها ألماً، ونسأل الله أن يعيننا على ضمة القبر وما بعد القبر.(177/40)
حكم تمني الموت
السؤال
ما حكم تمني الموت لكي يترك هذه الدنيا، وخاصة وهو ظالم؟
الجواب
تمني الموت من حيث الأصل لا ينبغي ولا يرد, وليس بوارد من حيث الأصل، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنٌ فلعله أن يزداد إحساناً، وإما مسيء فلعله يستعتب} أي: يتوب, وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {واعلموا أنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً} وصح عنه أنه قال: {خيركم من طال عمره، وحسن عمله, وشركم من طال عمره وساء عمله} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فمن حيث الأصل لا ينبغي للمؤمن أن يتمنى الموت, يقول خباب بن الأرت: {والله لولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهانا أن نتمنى الموت لتمنيت الموت} لكن تحدث أمور وطوارئ ومواقف للمؤمن يتمنى فيها الموت, وقد ذكر صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {أنه يأتي المؤمن فيجلس على القبر ويقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر} كأن تأتي فتنة عظيمة أو يخاف على نفسه من القتل فلا يصبر, أو يخاف من الابتلاء، أو يخاف من بعض الفواحش التي قد تخرجه من الدين أو من المنكرات أو الظلم فيتمنى الموت, وعلى ذلك يحمل كلام عمر لما تمنى الموت: [[اللهم اقبضني إليك غير مفرط ولا مفتون]] وبعض كلام السلف الصالح.(177/41)
كيف ينجو المسلم من سوء الخاتمة
السؤال
إن ساعة الاحتضار ساعة وخيمة فكيف ينجو المسلم من سوء الخاتمة؟
الجواب
أولاً: على الإنسان أن يصدق مع الله, فإن الله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] من صدق مع الله صدقه الله.
أتى أعرابي وقال: {يا رسول الله! بايعني، أسلم الأعرابي فأعطاه صلى الله عليه وسلم شيئاً من المال, قال: لا أريد المال, قال: ماذا تريد؟ قال: أريد أن يأتيني سهم طائش يقع هنا ويخرج من هنا, قال: إن تصدق الله يصدقك فأتاه سهم فقتل فقال عليه الصلاة والسلام: صدقت الله فصدقك الله، صدقت الله فصدقك الله} من يحافظ على الصلوات الخمس فلن يخذله الله, من يتدبر القرآن, ويهجر المعاصي, ويجدد توبته, ويتصدق بالأفعال الصالحة كما قال أبو بكر: [[صنائع المعروف تقي مصارع السوء]] فما أظن -إن شاء الله- أن يساء إلى عبد وقد أحسن إلى الله؛ بل يجازيه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالإحسان إحساناً ويثبته.(177/42)
نصيحة حول الضحك
السؤال
إن كثيراً من الشباب -وأخص الشباب الملتزم- يكثرون من الضحك, فهل من علاج؟
الجواب
نعم.
قد وجد كثرة المزاح عند بعض الشباب، خاصة الذين في سن قبل الزواج، إن كانوا عزاباً واجتمعوا في مكان فيا سبحان الله! يكسرون الأخشاب والأبواب والنوافذ بحجة الحب وقضية أننا نمزح مزحاً مباحاً, وقضية ساعة وساعة, وقضية إن لعينك عليك حقاً, وليدك ورجلك حقاً ومن هذا القبيل!! وهذا ليس بل بصحيح, المؤمن منضبط في أموره, قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] فالمؤمن يمزح بوقار ويضحك, ولا بأس من الضحك, أما قول بعضهم: لا تضحك فإن الأمة المجاهدة لا تعرف الضحك, فإن هذا ليس بصحيح, فقد ضحك سيد الخلق صلى الله عليه وسلم, والله يقول: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43].
فالضحك وارد, وقد تبسم عليه الصلاة والسلام وتبسم الصحابة, لكن ليس الضحك الذي يقسي القلب، فقد ورد في حديث: {لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب} وهو حديث حسن من حديث أبي هريرة , حتى إن بعضهم تسمعه -وبينك وبينه أمداً بعيداً- وهو يضحك من كثرة ضحكه, وبعض الناس لا يستطيع أن يتحكم, لكن وصيتي أن يخفف من الضحك ولا يقطع، ولا بأس بالمزح أحياناً بجذب القلوب.
أما الإفراط فيه فإنه يؤدي إلى سلب الوقار، وقسوة القلب، ونسيان العلم، والقرآن، والاشتغال عن المهمات بالتوافه.
نشكركم على استجابتكم وتلبيتكم، ونسأل الله جل وعلا أن ينفعنا جميعاً بما سمعنا، ويوفقنا لما يحبه ويرضاه, وأن يجمعنا في دار كرامته إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه سلم تسليماً كثيراً.(177/43)
عالم الأحلام
ما هو المقصود بعالم الأحلام؟! وإلى كم تنقسم الرؤى؟
وهل كل ما تراه في المنام يقع؟
وإذا رأيت رؤيا ماذا تفعل؟
كل هذه الأسئلة وغيرها تحدث عنها الشيخ في هذه المادة مستعرضاً الرؤى التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم.(178/1)
أحاديث بين الصحة والضعف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
عنوان هذه المحاضرة (عالم الأحلام).
عالم الأحلام عالم آخر غير هذا العالم، وسوف آتي على مسائله إن شاء الله وعناصره والحديث عنه، ولكن قبل هذا معي مقطوعة شعرية أحيي بها الحاضرين، ومن لا يقول للمحسن: أحسنت، ولا يقول للمسيء: أسأت، فليس بمصيب، وأهل الإسلام يمدحون أهل الإسلام، والمدح فيه ثناء، وإذا كان فيه تشجيع على الخير فهو من باب قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح لـ أشج عبد القيس: {إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله}.
حَيِّ من جاء لدرس العلم في مجلس فيه منارات الأدب
تركوا الدنيا لمن يعشقها وتجافوا عن قصور وذهب
ولنا في كل سبت جلسة نلتقي فيها بسادات نجب
أقبلوا من كل حي عامر كالنجوم الزهر تزهو في الحجب
فيهمُ شيخ كبير صالح زانه الشيب وأغناه النصب
وغلام طهرت أنفاسه يتهادى مثل ليث في صبب
ونساء طاهرات مثلما يحفظ الدر بحسن المحتجب
عرضت أحاديث سبعة يطلب فيها الإجابة عن صحتها وعن ضعفها:
الحديث الأول: {التأني من الله، والعجلة من الشيطان}
هذا الحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان وأبو يعلى وهو حديث حسن.
الحديث الثاني: {التسبيح للرجال والتصفيق للنساء}
هذا الحديث رواه أحمد في المسند، وهو حديث صحيح عن جابر.
الحديث الثالث: {التائب من الذنب كمن لا ذنب له}
هذا الحديث حسن رواه ابن ماجة عن ابن مسعود، والحكيم الترمذي عن أبي سعيد.
الحديث الرابع: {الدعاء هو العبادة}
حديث صحيح رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد والأربعة وابن حبان , والحاكم وهو صحيح كما قلت.
الحديث الخامس: حديث {الدعاء مخ العبادة}
رواه الترمذي وهو ضعيف.
الحديث السادس: {الدال على الخير كفاعله}
رواه البزار والطبراني وأبو نعيم في الحلية، وابن عدي وأحمد والطحاوي وابن حبان والترمذي وهو صحيح.
الحديث السابع: {الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر}
حديث صحيح رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجة والطبراني والحاكم والبزار عن أبي هريرة وسلمان وابن عمر وهو حديث صحيح كما قلت.
العوالم خمسة:
عالم الرحم وهو: العالم الذي يعيشه الإنسان في بطن أمه.
وعالم الدنيا، وهو قسمان: اليقظة والمنام فهذه ثلاثة عوالم.
وعالم البرزخ في القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
والعالم الخامس: عالم الآخرة إما إلى جنة وإما إلى نار.
فالعالم هذا الذي أتحدث عنه هذه الليلة هو عالم الأحلام.
وما يأتي في الرؤى؟
وما موقف العلماء من الرؤيا؟
وما موقف الكتاب والسنة من الرؤيا في المنام؟
وكم أقسام الرؤى؟
ورؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ومن رأى رؤيا لا تسره ماذا يفعل؟ وما هو موقفه؟
وبعض رؤاه عليه الصلاة والسلام.
ثم من الذي يعبر الرؤيا ومن له الحق في تعبيرها؟
ثم مع أبي دلامة والأدب.
ثم رؤيا ابن سيرين وتعبيره، وابن المسيب.
ثم خليفة تعرض عليه الرؤيا.
وبعدها من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام.(178/2)
أقسام الرؤى
ما يراه الإنسان في النوم ثلاثة أقسام:
1 - من الرحمن.
2 - ومن الشيطان.
3 - وأضغاث أحلام.(178/3)
رؤيا من الرحمن
فقسم منها من الرحمن، وهي التي فيها خير وصلاح وبر وفلاح، وهي التي تدلك على طريق الجنة، كأن ترى عملاً صالحاً، أو ترى رسولك عليه الصلاة والسلام، أو ترى عالماً، أو ترى عابداً، أو ترى الجنة -نسأل الله لنا ولكم الجنة- أو ترى أنك في مسجد، أو أن تتلو كتاب الله، أو أنك في حلقة علم، أو في درس، أو في محاضرة، فهذه من الرحمن.(178/4)
رؤيا الشيطان
ورؤيا من الشيطان، وهي رؤيا الفواحش، فإنه يؤز الإنسان عليها في المنام وفي اليقظة، كرؤيا أنه يتعاطى الخمر، أو يسرق، أو يزني، أو يقتل، أو يدوس المصحف، أو يقتل أقاربه، أو يذبح أولاده، أو ما في حكمها؛ فهذه من الشيطان لا تضره، لكن سوف يأتي موقف العلم والشرع من هذه الرؤيا.(178/5)
أضغاث أحلام
وقسم من الرؤى أضغاث أحلام وهي مجريات الحياة، أي: ما جرى لك في الحياة، وهذه لا تحتاج إلى تعبير؛ لأن العين كالعدسة تعيد الشريط الذي مر في النهار على الإنسان، ولذلك بعض الناس إذا نام يرى ما يجري في الحياة كأنه في سوق أو كأنه يشرب قهوة أو ببسي أو ميراندا، أو كأنه يسوق سيارة أو كأنه يصعد جبلاً، وهذه هي مجريات الحياة، أي: هي موجودة في الحياة، لكن شريط ذهنك أعادها على عينك وأنت نائم فأبصرت ما أمامك، هذه أقسام الرؤيا.(178/6)
رؤيا الأنبياء حق
الأمر الثاني: رؤيا الأنبياء حق، لا يلبس الشيطان على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.(178/7)
رؤيا إبراهيم عليه السلام
قال تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] إبراهيم عليه الصلاة والسلام رأى في المنام أن قائلاً يقول: اذبح ابنك إسماعيل؛ فقد درج إسماعيل وأصبح حبيباً إلى القلب، يسعى في سن ليس بالكبير الذي قد تقل محبته، ولا بالصغير ولكن في سن طيب، فأصبح له مكانة عند أبيه إبراهيم عليه السلام، فأراد الله أن يمتحن إبراهيم؛ لأن الله اتخذ إبراهيم خليلاً عليه السلام، فأراد أن يعرف هل يقدم محبوب الله على محبوبه أم يقدم محبوبه على محبوب الله؟ فرأى إبراهيم في المنام قائلاً يقول: اذبح ابنك، فصحا وصلى وعاد فعاد الرائي قال: اذبح ابنك، فصحا وصلى وعاد قال: اذبح ابنك، فأتى لابنه الصغير الموحد المتعلم الخائف من الله قال: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] وهذه من أحسن الكلمات! افعل ما تؤمر، أي أنت لا تفعل ما في ذهنك لكن ما يأمرك الله به، ستجدني: ولم يقل: من الصابرين؛ ولكن قال: إن شاء الله، فأتى عليه وأجلسه -والقصة طويلة ما مررت بها إلا عرضة- فأضجعه على التراب وأخذ السكين، فكان كلما أجرى السكين على عنقه انقلبت السكين، وكلما أجراها انقلبت، حتى أتاه الوحي أن {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات:105] وشكر الله لإبراهيم إمام الموحدين، وما نذبحه نحن في منى فداء لإسماعيل عليه السلام.
فداً لك من يقصر عن فداكا فلا ملك إذاً إلا فداكا
ولو قلنا فدى لك من يساوي دعونا بالبقاء لمن قلاكا
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا(178/8)
رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم قبل معركة أحد
محمد عليه الصلاة والسلام كان يرى في المنام فتأتي مثل فلق الصبح، فقبل معركة أحد بساعات رأى في الليلة الأولى ومعركة أحد سوف تبدأ في الصباح، وهو القائد الذي يخوض المعركة بنفسه ويصلي بالناس ويجاهد ويرفع الراية ويفتي ويربي ويعلم، ويجلس مع النساء فيعلمهن، ومع الأطفال ويوزع الصدقات، فهو أفصح وأكرم وأشجع وأبر الناس وأذكاهم عليه الصلاة والسلام.
قام يوم الجمعة، فأعلن الحرب على أبي سفيان وأعلن حالة الطوارئ والتأهب في المدينة ونزل ونام تلك الليلة، فرأى أن ذباب سيفه انكسر، وكأنه يدخل يده في درع حصينة عليه الصلاة والسلام، هذه في المنام، وكأن بقراً تنحر أمامه عليه الصلاة والسلام، فخرج في الصباح قبل المعركة، وقال: {رأيت البارحة كأن ذبابة سيفي انكسرت -انكسر رأس السيف- وكأني أدخل يدي في درع حصينة، ورأيت بقراً تنحر قالوا: أول ذلك يا رسول الله، قال: أما ذبابة السيف التي انكسرت، فرجل من أهل بيتي يقتل في المعركة}؛ وكان حمزة أسد الله في أرضه الذي ما رأى التاريخ أشجع منه! كان يركب ريشة نسر حمراء على عمامته معناها عند أهل الحرب خطر ممنوع الاقتراب، وكان يدوس الكفار كما يدوس الأسد الماعز فقتل هو في أحد {قالوا: والدرع يا رسول الله قال: المدينة الدرع أن نأوي إلى المدينة وينصرنا الله قالوا: والبقر؟ قال: خير يقتل من المؤمنين شهداء} فقتل سبعون، هذه من رؤياه عليه الصلاة والسلام.(178/9)
رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أناساً وعليهم قمص
وقال صلى الله عليه وسلم: {رأيت البارحة كأن الناس عرضوا علي وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثُّدَي}.
بعض الثياب فقط إلى الثدي سبحان الله! هذا ثوب فقط من الرقبة إلى الثُّدَي، بعض الناس عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم طوابير، ورأى أن بعضهم عنده ثوب إلى ثديه وتصور المنظر، ومنها ما دون ذلك بعضهم إلى السرة، وبعضهم إلى الركبة وبعضهم دون ذلك، قال: {وعرض عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره} الحديث في صحيح البخاري {وعمر جالس بين الناس يسمع، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين} دين عمر من أكثر ما يكون فهو يجر قميصه.
وهذا ليس حكماً لجواز جر القميص؛ لأن رؤيا المنام، لا يعمل بها في الأحكام، لو أتاك شيطان في المنام، وقال: اشرب الخمر، الخمر حلال، فقل: كذبت يا عدو الله أنت شيطان.
عبد القادر الجيلاني قال عنه أهل الترجمة كـ الذهبي وابن رجب وغيرهم، قالوا: رأى في المنام صورة شيطان يقول له: أنا ربك أحللت لك الحرام قال: كذبت يا عدو الله، عرف أنه الشيطان.
{رأى عليه الصلاة والسلام في المنام أنه يشرب لبناً، فلما بقي في الكأس قليل من اللبن أعطاه عمر قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم} فعلم عمر من فضل علم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو كثير، مع أنه ما بقي في الكأس إلا الشيء القليل فكيف بعلمه عليه الصلاة والسلام؟!(178/10)
النبي صلى الله عليه وسلم يرى سوارين من ذهب
{رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن في يديه سوارين من ذهب قال: فأهمني أمرهما -أخذ يقلب في المنام الذهب- فقيل لي: انفخهما فنفختهما فطارا، فقالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: كذابان أحدهما في المشرق والثاني في اليمن} فظهر الأسود العنسي في صنعاء يدَّعي النبوة، فذبحه عباد الله الصالحون، وظهر مسيلمة الكذاب يدعي النبوة في اليمامة فداسه خالد بن الوليد بالخيل وذبحه كالدجاجة، هؤلاء من تأويلاته عليه الصلاة والسلام، وسيكون لي عودة إن شاء الله مع هذا.(178/11)
إذا رأيت رؤيا ماذا تفعل؟
أنت كثيراً ترى في المنام شيئاً لا يسرك وتتكدر منه، خاصة من ينام بعد الفجر، أو ينام ملوي العنق، أو ينام على اليد اليسرى دائماً أو نحو ذلك، فما هو موقفك من الرؤيا التي لا تسرك:(178/12)
إذا رأيت ما لا يسرك فماذا تعمل؟
أولاً: إذا رأيت مالا يسرك وما يشينك في المنام فانقلب -أولاً- على الجنب الآخر غير الجنب الذي كنت نائماً عليه، إن كنت على اليسرى فانقلب على اليمنى، وإن كنت على اليمنى فعلى اليسرى.
ثانياً: انفث عن يسارك وتعوذ من الشيطان.
ثالثاً: إن قمت -وهو الأحسن - توضأ وصل ركعتين.
رابعاً: لا تخبر بها أحداً من الناس؛ فإنها لا تضرك إن شاء الله، لا تخبر ولا تبشر أهلك في الفجر أنك رأيت ورأيت، فإنها تضرك.(178/13)
إذا رأيت ما يسرك فماذا تعمل؟
أما من رأى ما يسره فلا يخبر إلا من يحبه في الله أو من يصدق في حبه، لا يخبر كل أحد بما يسره؛ لأن في الناس حاسداً، وقد يغلبك على مرادك، وقد يحاربك ويناوئك ويبغضك من أجل الرؤيا.
أن يوسف عليه السلام رأى في المنام أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدون له، رأى وهو طفل أن الله أنزل أحد عشر نجماً من السماء والشمس والقمر يسجدون أمام يوسف، فأخبر أباه يعقوب وكان أبوه يعقوب عليه السلام يعبر الرؤيا {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:5] فيوسف لا يعرف شيئاً فيقول له: احذر لا تخبر إخوانك؛ لأنه عرف أن له مستقبلاً عند الله عز وجل في النبوة والملك، ولكنه تسرَّع فأخبر إخوانه، فجعلوها في صدورهم وبدءوا يكيدون له المكائد حتى أوقعوه في الجب وحاربوه وأوقعوه في الورطات حتى نجَّاه الله عز وجل.(178/14)
إذا رأيت أضغاث أحلام فماذا تعمل؟
أما أضغاث الأحلام هذه فلا يخبر بها الإنسان، لا يخبر الإنسان بتلاعب الشيطان به في المنام، ولا يخبر بما يجري كمثل الأطفال كلما رأى طفل في المنام شيئاً أخبر أهله في كل صباح، هذا ليس بوارد فهي أضغاث أحلام.
المسألة الخامسة: لأنني سوف أنفذ إلى حديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم وعند أحمد في المسند لأشرحه إن شاء الله.(178/15)
من الذي يعبر الرؤيا
الذي يعبر الرؤيا الرجل الصالح، العالم بالشريعة ويكون عنده تأييد إلهي في الرؤيا، وليس كل عالم يعبر الرؤيا، فقد وجد من أئمة الإسلام من لا يعرف تعبير الرؤيا، يحفظ القرآن والحديث، وعنده فقه، وتفسير، وعنده معرفة لكنه لا يعرف تفسير الرؤيا، فلا يدَّعي المدعي ويتسرع في تفسير الرؤيا على الناس، فإنه سيكسب إثماً إذا أخطأ في ذلك، إما أن تودي بهم في دواهي أو تحملهم على غير محامل الرؤيا، أو تخوفهم، أو تحلل لهم حراماً، أو توقعهم في ارتباك والله المستعان.
يعبر الرؤيا عالم بالشريعة رجل صالح عنده تأييد إلهي من الله في الرؤيا؛ لأن تعبير الرؤيا موهبة، وسوف أتلو عليكم بعض من يعبرون الرؤيا من أهل العلم.
وبعض الناس يعتمد على الدجالين والمشعوذين والكهنة في تعبير الرؤيا، وأنا أنصح بترك ذلك؛ فإنهم مردة فجرة لا يوثق بكلامهم، وهم يرجمون بتعبير الرؤيا رجماً بالغيب، وليسوا بصادقين فيما قالوا، وإنما يريدون أكل أموال الناس بالباطل، والله المستعان.
ولو عرض لك إنسان رؤيا ليست بحميدة فقل له: رأت عيناك خيراً واسكت وخير إن شاء الله، كأن يقول: رأيت أني عريان أعذب في المنام، رأيت أني أقطع بسكين، قل: رأت عيناك خيراً، إن شاء الله، فلا تخوفه بها؛ لأنك لا تدري ولا كذلك تفترض له افتراضاً ولكن قل له: رأت عيناك خيراً أو قل: خير إن شاء الله.
من يعبر الرؤيا في الإسلام كثير، وسيدهم في تعبير الرؤيا وإمامهم وحبيبهم محمد عليه الصلاة والسلام، وتعبيره للرؤيا كفلق الصبح ورؤياه كفلق الصبح.(178/16)
سعيد بن المسيب من المعبرين للرؤى
وأما ما وجد عن التابعين فكان سعيد بن المسيب يعبر الرؤيا، وكان عنده تأييد من الله في تعبير الرؤيا.
يقول الذهبي في ترجمته: كان عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي خليفة على المسلمين، فرأى في المنام أنه يبول في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام في أركانه الأربعة.
فهمه الأمر، واختلج عليه قلبه، وما يدري ما تأويلها؛ بول وفي مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام فأتى بأحد الجنود، فقال: هذا المال لك هدية واذهب إلى سعيد بن المسيب في المدينة ولا تخبره من رأى الرؤيا وقل إنك رأيت أنك تبول في المسجد، فما تأويل رؤياي في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام؟ فذهب الرجل فجلس، فقال لـ سعيد بن المسيب: رأيت كذا وكذا، قال سعيد بن المسيب: أنت ما رأيت ذلك، قال: أنا الذي رأى، قال: لا والله لست أنت، من الذي رأى؟ قال: عبد الملك قال: أدري أنه عبد الملك، كم بال مرات؟ قال: أربع مرات، قال: في الأركان، قال: نعم! قال: يموت ويتولى بعده الخلافة أربعة أبناء من صلبه، فتولى الوليد أولاً، ثم سليمان، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، وصحت رؤياه.(178/17)
ابن سيرين وتعبيره للرؤى
كان ابن سيرين إمام التابعين عالماً ذكياً فطناً محدثاً، كان إذا نزل في السوق يترك الناس أغراضهم، ويقولون: لا إله إلا الله الله أكبر! سبحان الله! من رؤية وجهه، كان وجهه يذكرك بالله.
كان جالساً مع تلاميذه، فأتى رجل، فقال: يا إمام! رأيت في المنام أني أذنت، قال: تحج ويتقبل الله منك، ثم جلس، فجاء رجل فقال: رأيت أني أؤذن في المنام، قال: تسرق أنت وتقطع يدك! ذكرها الذهبي في السير.
هذا يؤذن فيتقبل الله منه ويحج، وهذا يؤذن، فيقول: تسرق وتقطع يدك، قالوا له: كيف هذا؟ قال: هذا رجل صالح رأيت عليه الصلاح، والله يقول: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج:27] وهذا رجل عليه آثار المعصية والفساد، والله يقول: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] وبعد سنة حج هذا وتقبل الله منه، وهذا سرق وقطعت يده وعلقت بباب الإمارة في الكوفة، وهذا ثابت عنه ويعبر.
كثير من الناس في هذا العصر عنده تأييد إلهي في تعبير الرؤيا وأمر عجيب وشأن غريب وفتوحات إلهية، وذلك لصلاحهم وتقواهم وهو تأييد من الله عز وجل لهم.
كان أبو دلامة صاحب نكتة وشاعراً للخلفاء، كان ينزل على أبي جعفر المنصور بل على المهدي وهارون الرشيد يدخل عليهم ينكت فقط، فدخل على المهدي يريد مالاً، قال: يا أمير المؤمنين! رأيت البارحة أنني قبلتك على رأسك، وأنك أعطيتني ألف دينار، قال الخليفة: {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف:44] قال: لا يا أمير المؤمنين! والله لا أخرج حتى تعبر لي رؤياي بالفعل، قال: قبِّل رأسي ويكفيك هذا -يعني: بدون ألف دينار- قال: لا، هما حاجتان أسألك بالله لا تفصل بينهما؛ لأني رأيتهما في المنام.
قال: أعطيك ألف دينار ولا تقبل رأسي، قال: الحمد لله يكفي هذا، ففصلها، فأعطاه ألف دينار وخرج.
دخل أبو دلامة هذا على المهدي قال المهدي: أعندك طلب يا أبا دلامة؟
قال: عندي طلب سهل يسير -يعني: يشحذ- يطلب من الخليفة، قال: دائماً أنت تطلب، أفقرت بيت المال: قال: أسألك بالله لا ترد طلبي! قال: ما هو طلبك؟ قال: أريد كلب صيد، قال: خذ كلب صيد.
قال: وأريد معه جارية إذا صدت الصيد تطبخ لي الصيد.
قال: وجارية.
قال: وفرس أحمل عليه الصيد، قال: وفرس.
قال: وخادم إذا صدت الصيد يحمله على الفرس.
قال: وخادم.
قال: وبيت نطبخ فيه.(178/18)
الذي يرى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام
من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام؟
أولاً: صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من رآني في المنام فقد رآني} وفي لفظ: {فسوف يراني} والمعنى عند أهل السنة سوف يراه في القيامة، والمعنى: أنه رآه على حقيقته؛ فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الشيطان لا يتمثل بي} وحديث الرؤيا هذا يبلغ درجة التواتر {من رآني في المنام فقد رآني} {من رآني فسوف يراني؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي} لكن لذاك شروط:(178/19)
شروط رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام
الشرط الأول: أن تراه على صورته صلى الله عليه وسلم، التي ذكرت في الحياة، لا ترى بوذياً ولا أمريكياً، ويقول لك: الشيطان هذا الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا ليس بصحيح.
أو ترى رجلاً حليق اللحية!! أو ترى رجلاً يشرب الخمر، ويقول لك الشيطان: هذا هو الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا ليس بصحيح.
بعض الناس الآن يسألون يقولون: رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام؟ فنقول: كيف رأيته؟ قال: رأيته قصيراً أسمر لا لحية له، قلنا: ما رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم رجل ربعة، من أجمل الناس، وجهه كالبدر ليلة أربع عشرة، كث اللحية، أدعج العينين، أهدب الأشخاص، أقنى الأنف، يلمع وجهه كالضياء، نور على نور، هذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يُرَ على هذه الصورة فهو تلبيس من الشيطان.(178/20)
رؤيا النبي في المنام ليست من شروط الإيمان
إن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام لا يتوقف عليها شرط الإيمان، فليس عند أهل السنة والجماعة من شروط إيمان المؤمن أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا دلت عليه النصوص لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله، بل قد يراه حتى بعض الفجرة، فإن بعض الفجرة من السلاطين في التاريخ رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن الظلم، وينهاهم عن سفك الدماء، ويشجب فعلهم ويستنكر أفعالهم عليه الصلاة والسلام، فلا يلزم أن من رآه يكون صالحاً، لكن الغالب أن من رآه عليه الصلاة والسلام فهو رجل صالح، وهي من المبشرات، وبعضهم يراه يتكلم معه، وبعضهم يراه ويجلس معه، وبعضهم يقال لهم: مر الرسول صلى الله عليه وسلم من هنا بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، هذا في رؤيته صلى الله عليه وسلم.(178/21)
أفضل أوقات الرؤيا
وأحسن الأوقات للرؤيا: رؤيا الأسحار قبل الفجر، والرؤيا التي هي غالباً كاذبة الرؤيا بعد الفجر، نوم الصبح هذه أضغاث أحلام، مثل أحاديث الصحف ومثل الأحاديث الإسرائيلية لا يوثق بها، ونوم النهار في الظهر لا بأس به، لكن الليل أعظم أثراً خاصَّة السحر، هذا من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام.
بقي مما يذكر -الله المستعان- نذكره للدعابة لأن أهل الأدب ذكروه ولا جناح ولا ثوى.
أحدهم ذكروا عنه في كتب الأدب أنه قال لصديقه يمازحه وبينهم مهاترة يقول: رأيتك في المنام تعض رجلي -رأى صديقه في المنام يعض رجله- لو رأيت صديقك في المنام يعض رجلك، فبماذا تفسرها؟ يقول الصديق لصديقه:
رأيتك في المنام تعض رجلي فإن صدق المنام فأنت كلب
وهذا من استهتارهم، ولا بأس بإيراد هذه الملح.
قال ابن عباس: [[الأذن مجاجة، والقلب ملول، فحمضوا لنا]] أي: أعطونا من نكاتكم وطرائفكم وأشعاركم وقصصكم وأخباركم، بشرط ألاَّ يكون كذباً، ولا نجرح به عرضاً، ولا نتعدى فيه على قيم، ولا ننتهك فيه حرمة.(178/22)
رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم لأناس يعذبون وتفسيرها
قال محمد عليه الصلاة والسلام -وفي هذا الحديث اسمع إلى رؤياه في المنام يذكر هذه الرؤيا سمرة بن جندب رضي الله عنه وأرضاه- قال: {رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي} أي: رأى البارحة صلى الله عليه وسلم رجلين في المنام وهما ملكان لكن جاء بها صلى الله عليه وسلم على الظاهر مما رأى.
قال: {رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي} أخذا بيدي محمد عليه الصلاة والسلام في النوم فذهب معهما، {فأخرجاني إلى الأرض المقدسة} قيل: بيت المقدس وقيل: غيرها، لكن أرض مقدسة، وبعضهم يقول: أرض الجنة لكن هذا بعيد {فإذا رجل جالس، ورجل قائم على رأسه بيده كلوب من حديد} هذا الرجل جالس وفوقه رجل قائم، معه كلوب من حديد والكلوب هذا منحني الرأس كالمنزاع الذي ينزع به اللحم، {قال: فيدخله الواقف في شدقه} في طرف فمه {حتى يخرجه من قفاه} الله المستعان! يدخل هذا الكلوب فيجره جراً حتى يخرج من قفاه {ثم يخرجه فيدخله في شدقه الآخر، ويلتئم هذا الشدق فهو يفعل ذلك به، فقلت: ما هذا؟} فهو يجر هذا الشدق حتى يجعله في القفا، ثم يخرج المنزاع والكلوب فيدخله هنا، فيجره حتى تخرج من القفا فلا يخرج من هنا حتى يلتئم ثم يعود للأول وهكذا يلعب به ويفعل {قلت: ما هذا؟} يقول عليه الصلاة والسلام للرجلين: ما هذا {قالا: انطلق} يقولان: امش معنا وإن أمامك أخباراً وأعاجيب قال: {فانطلقت معهما، فإذا رجل مستلقٍ على قفاه} ممدود على قفاه هكذا مضطجع على قفاه، {ورجل قائم بيده فهر حجارة مدحرجة} حجارة مدورة بيد القائم، ومعنى فهر: وهو ما كبر من الحجارة على ممسك الكف، أو صخرة أكبر من ذلك على الرأس {يشدخ بها رأسه} يشدخ رأس الجالس يوقع الصخرة عليه فينشدخ رأسه، فيضخ دمه ولحمه وعصبه، {فيتدهده} أي: يتدحرج الرأس {يتدهده الحجر فيسعى فيأخذ الحجر؛ فإذا ذهب ليأخذه عاد رأسه كما كان} لا يمكنه أن يذهب ليأخذ الحجر إلا وقد صنع رأس هذا ما شاء الله وعاد كما كان {فيصنع مثل ذلك فيرضخة كذلك، فقلت: ما هذا؟} يقول: فسرا لي هذا؟ {قالا: انطلق} أمامك أخبار وأعاجيب {قال: فانطلق معهما فإذا بيت مبني على بناء التنور} بيت مبني على شكل الهرم بداخله موقد بحرارة ونار مدلهمة يأكل بعضها بعضاً {أعلاه ضيق وأسفله واسع} هذا التنور مخروطي الشكل -هرمي الشكل- أعلاه ضيق، وأدناه وأسفله واسع، وفيه نار {يوقد تحته نار فيه رجال ونساء عراة في داخل النار، فإذا أوقدت ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا} إذا أشعلت النار تقافزوا يريدون الخروج؛ لكنه ضيقِّ لا يجدون فتحة من أعلاه يخرجون منها {ولهم أصوات حتى يكادوا أن يخرجوا، فإذا أخمدت رجعوا فيها، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: انطلق فانطلقت، فإذا نهر من دم} نهر يجري لكنه دم أحمر {فيه رجل يسبح على شاطئ النهر رجل بين يديه حجارة} على الشاطئ -على الساحل- رجل يتصدى لهذا الرجل الذي يسبح {كلما رفع رأسه ألقمه حجراً في فمه، فينغمس هذا في الدم، ثم يظهر، فيلحقه حجراً فينغمس وهكذا} الحجارة تتلاحق وهذا في الدم ويرفع رأسه -أحياناً- فيقبل الرجل الذي في النهر، فإذا دنا منه ليخرج رمى في فيه حجراً، {فرجع إلى مكانه، فهو يفعل ذلك، فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقت، فإذا روضة خضراء} بستان أخضر، وروضة فيحاء كثيرة الخضرة فيها ماء {وإذا فيها شجرة عظيمة، وإذا شيخ في أصلها حوله صبيان} شجرة وسط الروضة، وشيخ جالس عند الشجرة وحوله صبيان صغار أطفال {وإذا رجل قريب منه بين يديه نار} رجل قريب من الشيخ بين يديه نار {فهو يحسها ويوقدها} هذا الرجل يوقد النار وهذا الشيخ تحت الشجرة {فصعدا بي في شجرة، فأدخلاني داراً لم أرَ داراً قط أحسن منها، فإذا بها رجال وشيوخ وشباب، وفيها نساء وصبيان، فأخرجاني منها -من الدار هذه- فصعدا بي في الشجرة، فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل! فيها شيوخ وشباب، فقلت لهما: إنكما قد طوفتماني منذ الليلة} أي: أنا كنت معكم في رحلة وقد مررت بمناظر {فأخبراني عما رأيت، قالا: نعم} أي: انتظر منا الخبر، وهما: جبريل وميكائيل عليهما السلام، وسوف يخبرانه.
كان هذا هو موجز الرؤيا، وإليكم تفسير هذه الأحلام.(178/23)
الرجل الأول: كذاب
{أما الرجل الأول الذي رأيت أنت فإنه رجل كذاب} الرجل الذي يشدخ بالكلوب أو يشرشر بالكلوب هو رجل كذاب؛ لأن الكذبة تخرج من لسانه فتبلغ الآفاق، فجزاؤه لما خرجت الكذبة منه أن يعذب بالكلوب، قال بعض العلماء: هذا يحصل لهم في الآخرة في النار، الرجل يكذب الكذبة، فتسير في الآفاق وهو سببها، جزاؤه أن يعذب بالكلوب في نار جهنم، قال الشاعر:
لي حيلة في من ينم وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة
كل رجل لك حيلة فيه إلا الكذاب.
وقال جعفر الصادق لابنه: "لا تصاحب ثلاثة: عاق الوالدين، ولا الكذاب، ولا البخيل، فإن عاق الوالدين ملعون في السماء ملعون في الأرض، وإن الكذاب يقرب لك البعيد ويبعد عليك القريب -مثل السراب يأتيك بكذبات مدلهمة- وأما البخيل: فيبيعك أحوج ما تكون إليه"
{قالا: فأما الرجل الذي رأيته فإنه رجل كذاب يكذب الكذبة فتحمل عنه في الآفاق} وبعضهم متخصص في فن الكذب، عنده شهادة في ذلك فهو يعرف صياغة الكذبات ولا تغيب عليه.
أحدهم ذهب كما في بعض المجالس إلى فلسطين ومر بـ قناة السويس وعاد إلى البلاد بحفظ الله ورعايته، قال له جماعته: حدثنا يا فلان عما رأيت! قال: رأيت في قناة السويس سفينة طولها ما بين الطائف وتبوك، وقيل في رواية: عرضها ما بين الطائف إلى تبوك، قالوا: بدِّل غير هذا، قال: لا لن أغير، فذهبوا في بيوتهم وتفكروا في هذه السفينة؛ وقناة السويس ليست بهذه السعة فتكفي السفينة؟! وعادوا إليه، وأرادوا أن يتنازل ولو في كيلو مترات، علَّ الله أن يفتح عليه، وبعض الناس كريم، وهم كذلك مزاحون فيهم فكاهة، فطرقوا الباب عليه فدخلوا، قالوا: لا نأكل عندك طعاماً حتى تلبي طلبنا، قال: تفضلوا لو طلبتموني أحد أبنائي قدمته لكم، قالوا: نسألك بالله أن تلبي طلبنا، قال: ما هو طلبكم؟ قالوا: لقد قلت السفينة من الطائف حتى تبوك وهذه لا توجد في الدنيا فنسألك بالله كرامة لنا وحشمة أن تخفف من عرضها قليلاً، قال: حشمة لكم، وأنتم من أغلى الناس، أقلل، إنها من الطائف إلى جدة وأما غيرها لو سألتموني سنتيمتراً واحداً ما أنقصت، هذه من الكذبات الكبار.
وبعضهم يكذب لكن بنكات، فعليه وزر من الإثم مثل ما كذب.
حالات يجوز فيها الكذب:
والكذب محرم بالإجماع إلا بثلاثة أمور:
الأول: أن تصلح بين اثنين، تذهب إلى هذا وتقول: يمدحك فلان، ولو أنه لم يمدحه، وتذهب إلى الثاني، وتقول: فلان يثني عليك فأنت تريد الخير، هذا الجائز لحديث عند أبي داود.
الثاني: الرجل مع امرأته، والمرأة مع الرجل في حدود، كأن يقول: هو يحبها وهي تحبه ويبني لها جبالاً من أوهام، تقول: أثث البيت يقول: في العام القادم، إن شاء الله سوف آخذ أثاثاً ما ورد في الشرق الأوسط مثله، فهذا جائز يعني على الأمان.
اكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس يغري بالأمل
أما الكذبات التي على الزوجة أو على الزوج مثل أن يزعم لها أخباراً أو تنقل له أخباراً كاذبة، فهذا لا يجوز، فالجائز هو ما كان في حدود العشرة فقط، لأنه لو لم يكن شيء من التدليس في هذا الباب لما صلحت العشرة، قد لا يحبها ولا تحبه، لكنه هو يزعم أنه يحبها حباً جماً وهي تقول ذلك.
الثالث: في مسألة الحرب، والحرب خدعة، لك أن تكذب على اليهود وعلى الروس، وهذا يدخل في علم استراتيجية الحروب، كأن تخرج الصحف ويقولون من ضمن أخبارهم: سيزور فلان ثم يصبحونهم بالقتل، أو أننا وقعنا على مذكرة هيئة الأمم ثم يعدمونها بالصواريخ، وهذه يعرفها أصحابها، ومن يقرأ كتاب اللواء الركن محمود شيت خطاب في كتابه الرسول القائد يعرف ذلك، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد حرباً ورى بغيرها كأن يريد الشمال قال: كيف طريق الجنوب؟ هل فيها مياه؟ هل هي وعرة أو سهلة؟ وإذا كان يريد الشرق، قال: كم من هنا إلى الغرب أو إلى المدينة التي في الغرب أو كذا، إلا غزوة تبوك لضخامتها ولعسرها فلم يور بغيرها.
قال: {فهو يصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة، ثم يصنع الله به ما شاء} كأنه في قبره يعذب حتى يفعل الله ما شاء، وفيه دليل على عذاب القبر، وفيه دليل على أن عصاة الموحدين قد يعذبون، وفيه دليل على أن العاصي من الموحدين لا يخلد في النار لأنه يقول: ثم يفعل الله ما يشاء، ولو كان يخلد كما قالت الخوارج ما كان قال: ثم يفعل الله ما يشاء.(178/24)
الرجل الثاني: رجل آتاه الله القرآن فنام عن الصلاة المكتوبة
{وأما الرجل الذي رأيت مستلقياً على قفاه، والذي يشدخ بالحجر وهو مستلقٍ على قفاه، فرجل آتاه الله القرآن، فنام عنه بالليل، ولم يعمل بما فيه في النهار، فهو يفعل به ما رأيت إلى يوم القيامة} رجل حفَّظه الله القرآن، ويسر الله القرآن له، فهو لا يتهجد به ولو قبل أن ينام، وهو لا يعمل به في النهار، يرتكب الكبائر، قال أهل العلم: هذا في من خالف الفرائض والواجبات وخالف المنهيات، أما من قصر في النوافل فهذا معذور، وإنما المقصود: يخل بالواجبات ويرتكب المنهيات، فالقرآن ما نفعه وما أفاده، ليس للقرآن أثر في حياته، فجزاؤه أن يشدخ رأسه حتى يلقى الله ثم يفعل الله به ما شاء؛ لأن الله أعطاه كنزاً ونوراً فما عمل به في الليل، وما صان علمه في النهار، ولعلك قد تجد قارئاً لا يصلي مع الجماعة، أو تجده مدمناً على سماع الغناء، أو يلبس الذهب والحرير، أو عاقاً لوالديه، أو قاطعاً لرحمه، أو آكلاً للربا أو نحو ذلك.(178/25)
الزناة في التنور
{قال: وأما الذي رأيت في التنور فهم الزناة} الرجل الزاني والمرأة الزانية يجمعان في تنور، كلما أرادوا أن يخرجوا هدأت النار فعادوا، ثم أشعلت عليهم حتى يقضي الله ما شاء.(178/26)
الرجل الثالث: آكل الربا
{وأما الذي رأيت في النهر -هو الذي يسبح في الدم ويخرج رأسه من النهر ثم يلقم الحجر- فهذا آكل الربا} ولا إله إلا الله ما أكثر من يأكل الربا اليوم! كثير من الناس يأكل الربا عمداً جهاراً نهاراً مثل الشمس في رابعة النهار، ويعرف حكم التحريم، لكن لا يسمع موعظة ولا خطبة ولا نصيحة ولا محاضرة ولا فتوى، ويأكله وهو يدري أن بيته بناه من ربا، وسيارته اشتراها من ربا، وأن ثوبه لبسه من ربا، وبعد ذلك يأتي في المسجد، يقول: يارب يارب، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: يقول: {يمد يده إلى السماء يا رب يارب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، فأنى يستجاب له!} وصح في صحيح مسلم من حديث جابر قوله عليه الصلاة والسلام: {لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء} وصح عنه عليه الصلاة والسلام عند الحاكم وغيره أنه قال: {الربا ثلاثة وسبعون باباً أدناها كأن يزني الرجل بأمه، وأربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه المسلم} فالربا منتشر وفاشٍ وهو خطير يدمر المجتمعات، ويفسد الأبناء والجيل، وينزع البركة ويورث الهم والاضطراب حتى يعلل بعض فلاسفة الغرب أن ما أصاب الغرب من هم واضطراب وانزعاج وعدم استقرار هو من مسألة الربا، والمسئولون عن الربا في العالم هم اليهود، وأتباعهم يحشرون معهم، فحذارِ حذارِ من الربا!(178/27)
الشيخ الذي تحت الشجرة هو إبراهيم عليه السلام
قال: {وأما الشيخ الذي رأيت في أصل الشجرة فذاك إبراهيم عليه الصلاة والسلام} الشيخ الجالس وحوله الصبيان الذرية، فهو إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء، وللمعلومية هو أشبه الناس صورة بالرسول عليه الصلاة والسلام، وهو صلى الله عليه وسلم مأمور باتباع أبيه إبراهيم صلى الله عليهما وسلم جميعاً، وعلى سائر الأنبياء والرسل.
وأما الصبيان الذين رأيت فأولاد الناس، قيل: من ولدوا على الفطرة {كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه}.(178/28)
الرجل الذي يوقد النار هو خازنها
{أما الرجل الذي رأيته يوقد النار، فذلك خازن النار وتلك النار} خازن النار اسمه مالك، ورضوان أتوقف فيه؛ لأنني لا أدري هل اسمه ثابت عند أهل السنة بهذا الاسم؟ وما أزال أبحث، أما مالك فهو اسم خازن النار، لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] فمالك خازن النار المسئول عن ملائكة النار، ولهم تخصصات عجيبة وهم كثيرون، وتسعة عشر منهم مكلفون بمهمات {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31] لكن مالكا هذا مسئول على النار أعاذنا الله وإياكم من النار.
وفي بعض القراءات {وَنَادَوْا يا مالِ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} بدل يا مالك (يا مال) بالترخيم حذف آخر الحروف، فسئل أحد العلماء قال: ما أغنى أهل النار عن الترخيم، لأنه لا يرخم إلا إنسان مبسوط متكئ ينادي: يا مال يا حار، أما أهل النار فهم في عذاب.(178/29)
ديار المؤمنين في الجنة
{وأما الدار التي دخلت أولاً فدار عامة المؤمنين} ولعلها الجنة نسأل الله الجنة، وأما الدار الأخرى فدار الشهداء، والشهداء أرفع من الصالحين، ثم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وبعضهم يبلغ درجات الشهداء بصدقه وعبادته وإخلاصه وبذله وعطائه، وأنا جبريل وهذا ميكائيل، وكأن المتكلم جبريل عليه السلام وهو حبيب رسولنا عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يتنزل عليه بالوحي، وهو الذي يدارسه القرآن في رمضان، حتى اليهود غضبوا على الرسالة وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لما علموا أن جبريل هو المتكفل بنزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم.
{قال: ثم قالا لي: ارفع رأسك؟ فرفعت؛ فإذا كهيئة السحاب، فقالا لي: وتلك دارك} دار الرسول صلى الله عليه وسلم مثل السحابة البيضاء تمشي في سماء الجنة، وكأنها الدرجة العالية أو الوسيلة، بل قيل: إن الوسيلة هي المقام المحمود، الشفاعة وهي الوسيلة إلى الله.
وقيل: الدرجة العالية الرفيعة، هذا السكن الذي يمشي في سماء الجنة، فهو يدور على الغرف، وعلى البساتين، والحدائق كالسحابة والربابة البيضاء، في نعيم ما خطر على قلب بشر، ولا رأته عين، ولا سمعت به أذن، فكيف يقارن بين نعيم الجنة ونعيم الدنيا؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
{فقلت لهما: دعاني أدخل داري} اتركاني أدخل هذه الدار، فما دامت هي داري فاتركاني أدخل الدار {فقالا لي: إنه قد بقي لك عمر لم تستكمله} بقي لك في الدنيا سنوات، فلو استكملته دخلت دارك، ثم استيقظ عليه الصلاة والسلام، هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأحمد عن سمرة بن جندب رضي الله عنه وأرضاه.(178/30)
بعض من رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة(178/31)
الرميصاء في الجنة
رأى رسول الله عليه الصلاة والسلام رؤى كثيرة خاصة في الجنة، يقول: {دخلت الجنة البارحة، فرأيت الرميصاء في الجنة} والرميصاء هي أم سُلَيم أم أنس بن مالك.(178/32)
بلال في الجنة
وقال صلى الله عليه وسلم: {سمعت دف نعليك يا بلال في الجنة! فماذا كنت تفعل؟ قال: يا رسول الله، ما أعلم لي كثير عمل، لكن ما توضأت وضوءاً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بعده ركعتين}.(178/33)
قصر عمر الأبيض في الجنة
وعن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: قال صلى الله عليه وسلم: {دخلت الجنة، فرأيت قصراً أبيض في الجنة، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لغلام من قريش، قلت: من؟ قالوا: عمر بن الخطاب، فأردت أن أدخله، فتذكرت غيرتك يا عمر، فدمعت عينا عمر، وقال: أمنك أغار يا رسول الله؟!} هذه بعض رؤاه عليه الصلاة والسلام وهي كثيرة، وقد عقد الحافظ ابن حجر في الفتح باباً في الرؤى، وتكلم بكلام عجيب، وجمع الآثار في ذلك، ومن أراد ذلك فليعد إليه.(178/34)
كتب تفسير الأحلام التي في الأسواق
تعبير المنام الكتاب الذي في السوق المنسوب لـ ابن سيرين ولا يصح، وهناك كتاب منسوب لـ ابن عباس ولا يصح، وكتاب لأحد الدكاترة المتأخرين، لكنه أقحم فيه كثيراً من النصوص الباطلة، وأتى بتعبيرات ليست بصحيحة، وكل من رأى رؤيا صالحة فليخبر من يحب، ومن رأى رؤيا سوء فعليه بما قلت في أول المحاضرة، ولا تضره ولا يخبر أحداً، وما عليك إذا أصلحت في اليقظة من حرج مما في المنام، بعض الناس تصيبه الرؤيا فيبقى مريضاً شهراً كاملاً أو شهرين، وهذا ليس بصحيح، فإنها لا تضرك إذا أحسنت مع الله، الرؤيا لا تضرك، إنما يضرك ما تفعل في النهار؛ لأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يفيق} لو طلق النائم في نومه ما أصاب طلاقه، وما كان وارداً لو حلف النائم في نومه ما كان له حلف ولا قسم، لو أعطى شيئاً من ماله ما سرت هذه العطية، لو عقد عقد بيع ما تم العقد، لو أجر أرضاً ما تم.
أحد الأعراب كان بخيلاً؛ رأى في المنام أنه يبيع الشاة، رأى في المنام أن رجلاً يساومه عن الشاة -وهو لا يملك شاة- فقال: بكم تشتري الشاة؟ قال: أشتريها بثمانية قال: لا بعشرة، قال: أشتريها بتسعة، قال: لا بعشرة، ثم استيقظ فغمض عينيه وقال: خذها بتسعة.
وذكر ابن الجوزي في كتاب الحمقى أنه قيل لأعرابي: بكم شاتك هذه؟ قال: شاتي بسبعة، وسيمت بثمانية، فإن تردها بتسعة، فخذها بعشرة، وهذا تدرج في باب البيع والشراء، وهذا ليس من باب الرؤيا.
والبخلاء أكثر الناس رؤيا، ويرون المال كثيراً في المنام، والخشابون يرون الخشب، والنجارون يرون في المنام وهم ينجرون ويرى الفأس والقدوم بيده، ويسمع هدير المكينات، مكينة النجارة والخشابة، وأهل العمارات يرون المؤسسات والإسمنت والخلطات، وأهل العلم يرون الكتب والجلوس، والفلاحون يرون المزارع والماء والأبقار والمواشي، والتجار يرون الشركات والعمولات والبضائع، ولكن مرد ذلك وتقييده بالكتاب والسنة ليكون الإنسان منضبطاً في نومه.(178/35)
آداب النوم
آداب النوم أسردها لكم باختصار:
أولاً: أن تنام مبكراً، وهذا أسعد ما يكون، فهو صحة لك وعون لك على الطاعة وعلى القيام لصلاة الفجر أو تريد صلاة من آخر الليل، وقد ذم السلف السهر، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه {كان يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها}.
ثانياً: أن تتوضأ وضوءك للصلاة، لقوله عليه الصلاة والسلام للبراء: {إذا أردت أن تنام فتوضأ وضوءك للصلاة} وحتى الإنسان الذي عليه جنابة يتوضأ وضوءه للصلاة، ولو أنه لا يصلي بهذا الوضوء ولا يقرأ به قرآناً.
ثالثاً: أن تستقبل القبلة لعموم قوله عليه الصلاة والسلام {قبلتكم أحياءً وأمواتاً} قال بعضهم: أي: تتجه بشقك الأيمن اتجاه القبلة، قال بعضهم: تجعل أرجلك اتجاه القبلة هكذا بالطول.
رابعاً: أن تجعل يدك اليمنى تحت خدك الأيمن استحباباً، كما فعل عليه الصلاة والسلام، فإنها تذكرك بضجعة القبر، والسكون في القبر والنوم في القبر.
يا طويل المنام أكثرت نوماً إن بعد الحياة نوماً طويلا
خامساً: أن تذكر الله عند النوم، وذكر الله عند النوم يأتي بآية الكرسي وقراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ثلاثاً، والفلق ثلاثاً، وسورة الناس ثلاثاً، وتسبح ثلاثاً وثلاثين، وتحمد ثلاثاً وثلاثين، وتكبر ثلاثاً وثلاثين، وتقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاثاً، وتقول: {اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت}.
سادساً: أن يحضر سواكاً ويستاك قبل النوم، لئلا تتغير رائحته، أو يقوم متغير الرائحة، ويكون سواكه قريباً منه، حتى يبعثه الله من النوم من الليل ما شاء.
سابعاً: ألا ينام في سطح بيت ليس محدوداً {فإنه نهى صلى الله عليه وسلم -كما في سنن أبي داود - أن ينام الرجل على سطح بيت ليس محدوداً} لأن سطح البيت الذي ليس عليه حائط فيه خطر؛ فبعض الناس يتحرك في المنام ويقوم بدون شعوره، وبعضهم يذهب ويطرق على أبواب الحارات ويبيع ويشترى وهو نائم، وبعضهم يأخذ ثوبه بيده ويذهب في الشوارع يدعو إلى الله عز وجل وهو نائم، فعليه ألا ينام على سطح نهى صلى الله عليه وسلم عنه.
ومن الأمكنة كذلك: ألا ينام في الطرق، فمثلاً: إذا سافر لا ينام في الطرقات؛ لأنها ممر للدواب، فالعقارب والحيات والثعابين تمر من الطرق.
ولا ينام في مجرى السيل كأن ينزل وادياً، وينام وسط الجلة ووسط المكان؛ لأن السيل سيجعلها شذر مذر يوصله البحر الأحمر أو البحر المتوسط؛ فعليه ألا يفعل ذلك ولا يعرض نفسه للخطر وقد فعل السيل بأناس؛ لأن السيل لا يستأذن.
زارنا في الظلام يطلب ستراً فافتضحنا بنوره في الظلام
ثامناً: من الآداب أن يكون له ملابس غير ملابس اليقظة، ولتكن ملابس خفيفة واسعة فضفاضة، واسعة للحركة، وأسهل للنوم، وتسمى: ملابس النوم.
تاسعاً: أن ينفض فراشه؛ لأنه لا يدري ما خلفه وما يتعلق بالفراش كالبطانية والمنشفة والشراشف ونحوها؛ لأنه قد يكون اندس فيها صديق من عقرب أو ثعبان أو حية أو نحو ذلك.
عاشراً: أن يقول إذا انقلب من النوم: {لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله}.
حادى عشر: أنه إذا استيقظ يقول: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور.
ثاني عشر: أنه إذا استطاع من الليل أن يقوم؛ فليصلِّ ركعتين لظلمة القبور؛ فهي من خير ما يكون.
ثالث عشر: أنه إذا رأى رؤيا سوء أن يعود للآداب التي ذكرت سابقاً.
رابع عشر: أن يكون له قيلولة من النهار ما يقارب ساعة، إما قبل الظهر وإما بعده، فهي قيلولة.
قالوا فيما يروى: عند العربي أن النوم أربعة أقسام: فيلولة، وقيلولة، وهيلولة، وغيلولة، الفيلولة: بعد الفجر، والهيلولة: ضحى، والقيلولة: ظهراً، والغيلولة: بعد العصر، ولك أن تنام بعد الفجر، فهو ليس محرماً لكنه مذموم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام صح عنه أنه قال: {بارك الله لأمتي في بكورها} لكن إذا غلبت من سهر أو مرض أو تعب فلك أن تنام، والنوم بعد العصر ليس فيه تحريم ولا يصح فيه حديث في النهي عنه لكن تقول العرب:
ألا إن نومات الضحى تورث الفتى خبالاً ونومات العصير جنون
قالتها العرب، ولكن آراء العرب والأتراك والهنود نجعلها مع الكتاب والسنة، فإن وافقت وإلا رمينا بها عرض الحائط.
ألا إن نومات الضحى تورث الفتى خبالاً ونومات العصير جنون
وما جن أحد ممن نام العصر، وكثير من الفضلاء ينامون من العصر إلى المغرب وما جنوا والحمد لله، ومما يذم النوم من المغرب إلى العشاء؛ لأنه قد يفوت صلاة العشاء.
هذا مما يقال في النوم، وأعدل النوم ما يكون ثمان ساعات، قال الغزالي في الإحياء من نام وعمره ستون سنة، نام ثمان ساعات في كل يوم وليلة كان نومه عشرون سنة؛ لأن الستين ثلثها عشرين دائماً خذها قاعدة، ثلث الستين عشرون وثلث أربعة وعشرين ثمان ساعات، فمن نام ثمان ساعات في أربع وعشرين ساعة فقد نام ثلث عمره، ويبقى من الثلثين أكل وشرب ولعب ولهو وصيد وسباحة وركوب خيل ومراسلة وجمع طوابع وغير ذلك، هذا في البقية، ويبقى وقت الإيمان قليل إلا المؤمن الذي حول حياته لله عز وجل.
من الناس من يكتفي بقليل من النوم وليس عليه بأس؛ بعضهم ينام ساعتين وتكفيه، وبعضهم ينام أربع ساعات، وبعضهم كثير النوم وهو مرض.
قد ينام بعضهم اثنتي عشرة ساعة، وبعضهم فتح الله عليه فينام ثماني عشرة ساعة، حتى فوت بعض الصلوات.
وسمعت أنا من رجل ينقل عن رجل آخر أنه كان في الشباب نام حتى مر به صلوات ثم استيقظ في الليل، قال: فرأى الليل فنام ظن أنها الليلة الأولى {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} [يس:52]
إذاً: على المسلم أن يوقت وقته وأن يتعود؛ لأن التعود طيب، أما أن تنام ليلة متقدماً وليلة متأخراً سوف تكون منزعجاً في النوم.
خامس عشر: أن تغلق الأبواب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: {أغلقوا الأبواب} في حديث جابر في الصحيح لئلا يدخل عليك عدو أو سارق أو حية أو عقرب أو شيطان، فتقول بسم الله وتغلق الباب.
سادس عشر: إذا كان يوجد بجانبك نار فاطفئها، خاصة المسرجة، والقناديل كذلك عليك أن تقلل من ضيائها، وتكون هناك قناديل سهارية أو تعدم الضياء مباشرة، حتى الطب يقولون: لا تنام الخلايا إلا إذا انتهى النور، تبقى الخلايا تحترق وتشتعل في أثناء النور، وبعضهم يحذر من هذا، ويصاب الإنسان بمرض في بصره إذا كان النور قوياً ونمت فيه، ولذلك جعل الله النوم في الليل وجعل الاستيقاظ في النهار، فقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} [النبأ:10] وقال: {وَالنَّوْمَ سُبَاتاً} [الفرقان:47] أي: راحة واطمئناناً، قالوا: ولا بأس بقنديل أقل من عشرين شمعة، قرأت هذا في بحث لأهل الطب يقولون ذلك للفائدة والمصلحة، ومن كان عنده ماء بجانبه أو لبن فليغطه بشيء ولو أن يعرض عليه شيئاً؛ لأنه أمر بأن يوكأ السقاء -القربة الزمزمية- توكأ وتسد، والإناء يوضع عليه شيء ليكون مستوراً من الحشرات.
وأبشركم أنه سوف ينزل بعد أسبوعين أو ثلاثة أربعة أشرطة اسمها آداب نبوية تربوية جمعها الأستاذ الفاضل الشيخ صالح أبو عراد الشهري المدرس بالكلية المتوسطة في أبها وألقيت في أربعة أشرطة هي هدية من أول رمضان، أول يوم في رمضان سوف تكون في السوق، وهذه تعيش معها مع الرسول عليه الصلاة والسلام في نومه وطعامه ولباسه وعطاسه وتثاؤبه ومزاحه وحياته صلى الله عليه وسلم، وهي للرجل وللمرأة، وللطفل وللأستاذ، وللطبيب وللمهندس، أول يوم من رمضان سوف تكون موجودة في ظرف هدية، لكن بدراهم، لأنا نريد أن نهدي لكن التسجيلات لا يهدون وهذا عيبهم -إلا من رحم ربك- وهم يتصدقون أحياناً حيث لا يراهم الناس.(178/36)
الأسئلة(178/37)
حديث الرؤيا كالطائر
السؤال
ما صحة حديث {الرؤيا كالطائر فإذا أُوِّل وقع}؟
الجواب
حديث صحيح ثابت عنه عليه الصلاة والسلام.(178/38)
حديث قضاء الوتر
السؤال
ما صحة حديث {من نام عن وتره في الليلة ونسي فليصل إذا ذكره}؟
الجواب
حديث صحيح.(178/39)
حديث من لم يوتر فليس منا
السؤال
ما صحة حديث {من لم يوتر فليس منا}؟
الجواب
حديث صحيح.(178/40)
الرؤيا الصالحة
السؤال
رأيت رؤيا صالحة لصديق لي غير ملتزم فهل أخبره بها أم لا؟
الجواب
نعم تخبره بها؛ لأنها قد تكون داعية له إلى الالتزام، وقد يكون طريقاً إلى حب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وبعض الناس يتربى على الرجاء، فإذا أخبرته بذلك أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأحب الإيمان، فأخبره بذلك، وهذه من المبشرات.(178/41)
الخرافيون وكذبهم على النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
بعض المخرفين يقول: إنه اجتمع بالرسول في اليقظة عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
كذب عدو الله! لا يجتمع به في اليقظة، ولا يخرج صلى الله عليه وسلم من قبره، فهو مدفون، في روضة في المدينة في بيته صلى الله عليه وسلم بجانب مسجده، لا يخرج من قبره إلا يوم البعث، ولكنه حي في قبره حياة الله أعلم بها، لا تأكل الأرض جسده صلى الله عليه وسلم للحديث الصحيح: {أكثروا علي من الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟! -أي بليت- قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء}.(178/42)
رؤيا أهل المعاصي للنبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
بعض الفجرة أسمعهم يقولون: إنهم يرون رؤيا صالحة ويرون الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
يمكن أنهم يرونه من باب أنه يهددهم أو يزجرهم عن المعاصي أو يدعوهم إلى الله أو نحو ذلك، ولكن لا يوثق بهم ما داموا فجرة فلا يصدقون لأن بعض الناس يستمرئ الكذب خاصة في الرؤيا، {ومن أرى عينيه ما لم تريا كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بعاقد} حديث صحيح.(178/43)
تعليم المرأة القرآن
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تقرأ القرآن بترتيل بحيث يسمعها رجل كفيف يقوم بتعليم النساء أحكام التجويد؟
الجواب
نعم، بشرط ألا تخلو به ولا يخلو بها، وتكون في مجمع من النساء ويكون أعمى، فلا بأس أن ترتل عليه القرآن وأن تجلس في المجلس الذي يعلم فيه.(178/44)
بعض المعبرين في هذا العصر
السؤال
اذكر لنا بعض المعبرين للأحلام في هذا العصر؟
الجواب
سمعت بشيخ فاضل في الرياض اسمه يوسف المطلق وهو يعبر الرؤيا بجدارة، وقد فتح الله عليه في هذا الجانب.(178/45)
رؤيا بعض ملامح الرسول
السؤال
رأيت بعض ملامح الرسول عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
لعلك إن شاء الله من أهل الخير، وزد في الطاعة، وأكثر من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.(178/46)
رؤيا ارتكاب المعاصي في المنام
السؤال
إذا رأيت في المنام أني أعمل المعاصي وأنا لا أعملها في النهار؟
الجواب
لا تخف من هذا؛ فلا تحاسب على ما لم تعمل، والنوم لا يحاسبك الله عليه؛ وقد رفع عنك القلم في تلك الفترة، فلا تخف، وعليك بالإصلاح في النهار فلن يضرك في النوم.(178/47)
أذية الجيران
السؤال
عندنا الجيران يزعجوننا في الليل فما أفعل بهم؟
الجواب
تصبر وتحتسب وعليك أن تكلمهم بالتي هي أحسن، أو ترسل لهم من يهدئ من مشاعرهم، وتكتب لهم رسالة أو تكلمهم بالهاتف كلاماً ليناً طيباً.(178/48)
النوم عن صلاة الفجر
السؤال
عندي قريب يسهر الليل وينام عن صلاة الفجر؟
الجواب
هذا من المعصية بمكان، وعليك أن تحاول أن ينام مبكراً، وأن تذكر له الآثار في نوم الفجر، وأن تدعوه وتوقظه بالتي هي أحسن، وأن تخوفه من عذاب الله عسى الله أن يهديه سواء السبيل.(178/49)
حكم النوم في الصباح
السؤال
نوم الصباح هل فيه نهي؟
الجواب
لم يصح فيه حديث، وليس بمحرم كما أسلفت لكم القول في ذلك.(178/50)
نوم النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل الرسول صلى الله عليه وسلم ينام قلبه؟
الجواب
بل صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {تنام عيناي ولا ينام قلبي} فالرسول صلى الله عليه وسلم نومه لا ينقض وضوءه بخلاف غيره، لا يأتي أحد الناس ينام ست ساعات، ونقول: توضأ، فيقول: تنام عيني ولا ينام قلبي، نقول: لا والله ينام قلبك، وعليك أن تتوضأ، وإلا فإنك قد أخطأت خطأً بيناً، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فذلك خاص به، وله خصائص صلى الله عليه وسلم مثل: أنه صلى بالناس، فقال: {يا أيها الناس! استووا واعتدلوا، فإني أراكم من رواء ظهري} فإذا جاء إمام، وقال: استووا واعتدلوا فإني أراكم من وراء ظهري، قلنا: كذبت يا عدو الله، أنت لا ترى إلا أمامك، أما خلفك فلا، فليعلم هذا.(178/51)
البيضة في المنام
السؤال
من رأى البيضة في المنام؟
الجواب
يقولون إن البيض في المنام هو النساء؛ لأن الله عز وجل يقول: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:49] ومن رأى الذهب، قالوا: فتنة، ومن رأى الماء، قالوا: علم أو رزق، ومن رأى الخضرة فنعيم، ومن رأى ثوباً عليه فهو دينه سواء كان قليلاً أو كثيراً أو أسود أو أبيض، ومن رأى أنه عريان، قالوا: عريان من الذنوب إن شاء الله، ومن رأى أنه مقيد وهذا نص عليه ابن حجر فهو ثابت بالدين إن شاء الله، وهناك رؤى كثيرة، ولكن على هذا الجانب يكفي ما ذكر.(178/52)
أضغاث أحلام
السؤال
رأيت في المنام أني أصيح على بيت؟
الجواب
يمكن أنك صحت على بيتكم قبل أن تنام.(178/53)
أهمية كتاب الكلم الطيب
السؤال
أرجو أن ترشد الناس لكتاب الكلم الطيب؟
الجواب
كتاب الكلم الطيب لـ ابن تيمية من أحسن الكتب ومثله: كتاب الوابل الصيب لـ ابن القيم رحمه الله، وكتاب الأذكار (للنووي).
وعلى كل حال! انتهت محاضرة عالم الأحلام، وأشكركم على حسن إصغائكم وجميل حضوركم، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(178/54)
الزواج الناجح
إن الزواج سنة الله التي أودعها في خلقه، وإذا أسس على تقوى الله والخوف من الله؛ فهو الزواج الناجح المبارك القائم على شروط ومواصفات وحقوق وواجبات ولطف وحب وتراحم ومساعدة واختيار حسن من الزوج والزوجة ولزوم تقوى الله.(179/1)
مقدمة الشيخ علي القرني
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان والقرآن، نحمده حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها لي ولكم إلى يوم المصير، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله إلى العالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان:
أمَّا بَعْد:
أيا مجمع الذكر فيك الإخاء وفيك المحبة والملتقى
وفيك تجمع شمل الرجال وصرت بحق لهم منتدى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم يوم أن أجبتم دعوة أخيكم في الله، السلام عليكم يوم أن اجتمعتم على ذكر الله وتقوى الله، والسلام عليكم يوم أن اجتمعتم في فرح من أفراح المؤمنين، باسمي وباسمكم جميعاً نحيي محاضرنا الكريم، ونسأل الله أن يجزل له المثوبة والأجر؛ لأنه تجشم الصعاب في سبيل تلبية طلبنا فنسأل الله الذي جمعنا وإياكم مع هذا المكان مع شيخنا أن يجمعنا قي مستقر رحمته.
أيها الإخوة الكرام:
فرحٌ بذكر الله يحيا، لأنه مفخرة ومنفعة وطاعة، وفرح بغير ذكر الله مقبرة بل مزبلة ومهزلة، فرح بلهو ومزمار ولعب ورقص وغناء مشأمة ومعصية، وفرحنا في هذه الليلة -بإذن الله- سيكون من نوع آخر، إنه فرح بذكر الله يوم ترقص القلوب طرباً بذكر الله تعالى، هذا هو فرحنا هذه الليلة، لا يسعني في هذه الليلة إلا أن أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يبارك للزوج وزوجه، وأن يبارك عليهما ويجمع بينهما على خير، ويرزقهما الذرية الصالحة، ويجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً.(179/2)
ترجمة عائض بن عبد الله القرني
الشيخ: عائض بن عبد الله القرني، ولد الشيخ عام 1379هـ، ولد في قرية آل سليمان في بلاد بلقرن، وتلقَّى تعليمه الابتدائي بقرية آل سليمان في بلاد بلقرن، ثم تلقى تعليمه الأساسي بمعهد الرياض العلمي، ثم تلقى تعليمه بالمرحلة الثانوية في معهد أبها العلمي، ثم التحق بكلية الشريعة وأصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع أبها، ثم تخرج منها بالشهادة الجامعية وعين بها محاضراً، ثم حصل على شهادة الماجستير، وكان عنوان أُُطروحته العلمية رواية المبتدع في علم الحديث، والشيخ محدث وشاعر وأديب -كما تعلمون- بدأ زهرة شبابه بالدعوة إلى الله والتحصيل العلمي، والتضلع من الكتاب والسنة، ويكفيه بذلك نبلاً أنه تتلمذ على كتب شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، ومناقب الشيخ أكثر من أن تحصى، ونسأل الله أن يوفقه لما يحبه ويرضاه.(179/3)
التذكير بالله في الأفراح
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وأقام علم الجهاد، ونشر العدل في البلاد، وهدى الله به العباد، وفتح الله به أفكار الإنسانية، وأنار به أفئدة البشرية، وزلزل الله به كيان الوثنية، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، ما فاحت الأزهار، وما تدهدهت الأنهار، وما هطلت الأمطار، ما تحركت الورق على الأشجار، وما تعاقب الليل والنهار، وعلى آله وصحبه من المهاجرين والأنصار.
أمَّا بَعْد:
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وهنيئاً لكم بمجلس الذكر، غيركم إذا اجتمعوا على غناء وطبلٍ ورقصٍ، وأنتم اجتمعتم تسبحون وتذكرون الله كثيراً، الملائكة تحفكم، والسكينة تتنزل عليكم، والله يباهي بكم في عليائه، فهنيئاً لكم.
أسأل الله أن يصرفني أنا وإياكم من هذا المكان وهو يقول لملائكته {انظروا لعبادي اجتمعوا على ذكري أشهدكم أني غفرت لهم، انصرفوا مغفور لكم}.
ثم أشكر لصاحب الدعوة، وأسأل الله أن يجعل زواجه مباركاً هنيئاً مريئاً، وأن يبني زواجه على خير وهدى، وأن يرزقه ذرية صالحة لاتشرك بالله أحداً، ذرية تعرف المسجد والمصحف، وذكر الله، ذرية تأكل الحلال وتتجنب الحرام، ذرية تجاهد في سبيل الله؛ لأن الله أخذ على نفسه أن من بدأ معه الطريق أن يثبته إلى النهاية، فمن كان زواجه على الخير، وعلى ذكر الله، وتقوى الله كان مستقبله إلى الخير حتى يلقى الله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
أفمن أسس زواجه على تقوى، وذكر، ودعوة، وعلى حب وإخاء خير ممن أسس زواجه على كبر، وكبرياء، وبطر، والله أعلم بالقلوب: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:193].
أما ما ذكره الشيخ علي بن عبد الخالق القرني من تقدمة فأبرأ إلى الله، وأعرف نفسي وأسأل الله أن يغفر لي ولكم ذنوبنا وخطايانا، وأن يسترنا وألاَّ يفضحنا على رءوس الأشهاد، وأسأله ألاَّ يؤاخذنا بتقصيرنا، فإنا والله نصبح مذنبين ونمسي مذنبين، حنانيك يا رب! إليك نشكو خطايانا وتقصيرنا.
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائى نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
لما جلسنا تحت هذه الخيمة في صلاة المغرب، تذكرت خيام الجنة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم يقول: {إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلاً} والميل أكثر من الكيلو متر فما بالكم بخيام الجنة، الخيمة الواحدة ليست من شعر، ولا ذهب، ولا من خشب، أو جص أو حديد، الخيمة من لؤلؤة مجوفة، في طرف كل خيمة أهلون وأولاد، لا يرى بعضهم بعضاً أعدها الله عز وجل لمن أحسن الكلام، وأطعم الطعام، وأفشى السلام، ووصل الأرحام، وصلى بالليل والناس نيام.
أصغر أهل الجنة ملكاً من يملك عشرة أمثال ملك الدنيا، وهو آخر الناس دخولاً الجنة، يقول الله عز وجل: {تمن يا عبدي} وهذا الحديث في صحيح مسلم وأنا أقص لكم الحديث ثم أعود لموضوع المحاضرة.
يقول عليه الصلاة والسلام: {آخر أهل الجنة دخولاً الجنة رجل ينجيه الله من النار بعد أن دخلها} وفيه دليل على أن بعض الناس ولو صلّى وصام وحج واعتمر، قد يدخل بذنوبه النار نعوذ بالله منها.
رحماك يا رب! أجسادنا لا تقوى على النار، أجسادنا ضعيفة، وعظامنا هزيلة، لا نقوى عليها، فرحماك يا رب!
لكن بعض الناس قد تكون ذنوبه كالجبال فلا تدركه الشفاعة فيتدهده في النار، وهو من عصاة الموحدين الذين لا يخلدون في النار {فيخرجه الله من النار وقبل أن يخرج، يقول: يارب! يا رب! يا رب! أخرجني من النار؛ قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، أي: حماؤها ونارها فيخرجه الله.
قيقول الله له: يا بن آدم! أئذ أخرجتك أتسال غير ذلك؟
قال: لا.
والله يارب! أعاهدك ألا أسأل غير ذلك، فيخرجه الله من النار فيجعله في قنطرة بين الجنة والنار، فينظر إلى الجنة، قال: يا رب! قربني إلى الجنة، فيقول: فإذا قربتك إلى الجنة، قال: أعاهدك ألا أسأل غير ذلك، فيقربه الله من باب الجنة فينظر إلى أنهارها، وأشجارها، وثمارها، وقصورها} والقصر الواحد كالربابة البيضاء مثل السحابة يمشي في جو الجنة.
الشجرة الواحدة يمشي فيها الراكب المجد على الفرس مائة عام لا يقطع ظلها، أما أنهارها فنهر من عسل مصفى، ونهر من لبن أبيض كالثلج، ونهر من ماء غير آسن، ونهر من خمر لذة للشاربين، قطوفها دانية، إذا جلست أتاك القطاف، وإذا اضطجعت على جنبك وصلك التمر إلى فمك، وإذا قمت يرتفع الغصن -لا إله إلا الله ما أعظم الجنة! - إذا اشتهى أهل الجنة الغناء والطرب، وهذا لمن حرم على سمعه الطرب في الدنيا، أرسل الله له ريحاً طيبة، فتهز أغصان أشجار الجنة فيجدون حلاوة الصوت، يقول ابن القيم رحمه الله لمن اشتغلوا بغناء وطرب ورقص الدنيا، وهذا الكلام موجه خصوصاً إلى من اشتغل قلبه بطرب أهل الدنيا ألا تريد طرب الجنة؟ فلم تشتهي طرب الدنيا؟!
يقول:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
{فيخرج الله هذا الرجل؛ فإذا اقترب ورأى الجنة وما فيها، قال: يارب! أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تدخلني الجنة، فيضحك ربنا تبارك وتعالى ضحكاً يليق بجلاله، كما ورد في صحيح مسلم ثم يقول الله: يا بن آدم! ما أغدرك، ما أخونك! تقول: لا تسأل وسألتني، أدخلوه الجنة، فيدخل الجنة فإذا رأى ما فيها من قصور ونعيم ودور وملك كبير، الله أعلم بذاك الملك، دار لا يمرض صاحبها، ولا يفنى شبابه، ولا تبلى ثيابه، ولا يذهب حسنه وجماله، دار ليس فيها هم ولا غم، ولا حسد أو حقد، أو دين أو مرض أو خوف ولا جوع، لا يبولون ولا يمتخطون، وجوههم كالقمر ليلة أربعة عشر، أعمارهم ثلاثاً وثلاثين سنة، الرجال والنساء
فيقول الله: تمنَّ يا عبدي! فيتمنى من القصور مئات القصور، ومئات الأشجار والأنهار، والبساتين، فيقول الله: لك ذلك ومثله، لك ذلك ومثله، لك ذلك ومثله، لك ذلك ومثله، لك ذلك ومثله، قال أبو سعيد: خمس مرات، قال أبو هريرة: والذي لا إله إلا هو لقد سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: عشر مرات، وصدق: مثل ملك الدنيا عشر مرات، فيقول العبد: -والحديث في صحيح مسلم - يقول: أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟! قال: لا.
وعدي الحق، وقولي الحق} فنسأل الله أن ينجينا وإياكم بكلمة التوحيد، لأنه ليس عندنا عمل، ولا حسنات وكلنا أهل سيئات ومقصرون، فنشكو حالنا إلى الله.
لما أتت الوفاة عمرو بن العاص وهو في سكرات الموات، فقال: لا قوي فأنتصر، ولا معذور فأعتذر، وليس عندي إلا لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أحد الصحابة توفي ويديه مضمومة، وأخذوا يغسلونه ففتحوا أصابعه فعادت، ثم أدخلوه الكفن وفتحوا أصابعه فعادت، ثم حاولوا فتح أصابعه عند القبر فعادت فدخل القبر بلا إله إلا الله محمد رسول الله.
والمقصود بهذا الكلام أن نستعد للقاء الله بالأعمال الصالحة، وأن ننظر إلى نعم الله كيف أنعم الله علينا، قبل عشرين أو ثلاثين سنة كانت أحوالنا صعبة وشديدة، ويخبرنا كبار السن كيف الفارق بين تلك الأيام التي كانوا فيها في رعب وجوع ومشقة، وبين هذه الأيام التي أنعم الله علينا نعم ظاهرة وباطنة، أتتنا نعم الدنيا من كل مكان: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] أما سترنا الله؟ أما أمننا؟ أما أشبعنا؟ أما أروانا؟ فما جزاء هذه النعمة؟ جزاؤها أن نستخدمها في طاعة الله.
يقول الله عن بعض القرى التي أعرضت عن منهجه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
بعض الناس وجد في زواج من الزواجات أنه ذبح ما يقارب من خمسين خروفاً رياء وسمعة ثم إنه ما وجد من الناس من يأكلها، ثم حملها في القلابات ووضعها في الزبالة، وطلب هذا الرجل -وكان تاجراً من التجار- أن يبني مسجداًَ، قال: لا أستطيع، قلنا: سبحان الله! تستطيع لهذه الأمور التي لا ترضي الله، أما أن تبني مسجداً؛ فيبني الله لك بيتاً في الجنة فتأبى، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة} يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الحديث القدسي: {يا بن آدم! عجباً لك! خلقتك وتعبد غيري، ورزقتك وتشكر سواي، أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي، خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد}.
يذكر أن رجلاً من بني إسرائيل، قال: يارب! أريد أن أعبدك عبادة ما عبدك بها أحداً من الناس إلا الأنبياء؛ فأمره الله أن يخرج إلى جزيرة من الجزر في وسط البحر، فأتى هذا الرجل المسكين العابد فخرج إلى جزيرة وحده لا زوجة ولا ولد ولا أهل ولا قبيلة يعبد الله خمسمائة سنة، فأنبت الله له شجرة من رمّان، وكان إذا اشتهى الأكل قطف الرمانة وأكلها، وصلى وعبد الله وذكره وسبحه وتأمل في مخلوقاته، فلما عبد الله خمسمائة سنة توفاه الله وليس له ذنوب، ما أكل مال أحد، ولا اغتاب أحد، ولا أكل الربا، ولا استمع الغناء، ولا زنى، ولا شهد شهادة الزور، فلما قبض الله روحه قال: ياعبدي! أتريد أن تدخل الجنة بعملك أم برحمتي؟
قال: أريد أن أدخل الجنة بعملي؛ لأنه توهم أن عبادة خمسمائة سنة تخوله وتؤهله لدخول الجنة.
قال الله: تريد الجنة بعملك أم برحمتي؟
قال: بعملي يا رب.
قال الله: نحاسبك بقدر النعم التي أعطيناك وبقدر عبادتك التي عبدتنا إياها، فتقدمت الملائكة بالميزان يحاسبونه فنشروا له الصحف، وعدّوا نعم الله عليه وعبادته، فوجدوا عبادته جميعاً لا تعدل إلا نعمة البصر، وبقية نعمة القلب والسمع والحياة، والتنفس والعقل، والهداية وغيرها، قال الله: خذوه إلى النار.
قال: يا رب! أسألك أن تدخلني الجنة برحمتك.
قال: أدخلوه الجنة.
إذاً مهما فعلنا، ومهما صلينا وصمنا وذكرنا الله، والله إننا مقصرون إلى أبعد نهاية، لكن أملنا في الواحد الأحد أن يغفر لنا الذنوب والخطايا.
وأنا أريد أن أعرض لكم بشرى من محمد عليه الصلاة والسلام، وأريد منا جميعاً أن نتذكر هذا الحديث كلما أدركنا اليأس أو القنوط من رحمة الله عز وجل.
يقول عليه الصلاة والسلام كما في سنن الترمذي: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي.
يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرت لك ولا أبالي.
يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة} فنسأل الله أن يغفر لنا ولكم.
عنوان هذه المحاضرة (الزواج الناجح) لأن في الحياة زواج فاشل وزواج ناجح
أما الزواج الفاشل فلا أتحدث عنه فإنه يعرف إذا بينتُ الزواج الناجح؛ لأن الزواج الناجح هو الذي ركب على تقوى الله، وعلى الخوف من الله، ويبدأ أولاً باختيار الزوجة الصالحة، وباختيار الزوج الذي يتقدم إلى هذه المرأة؛ لأنه اجتماع بكلمة الله الواحد الأحد: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].
فهي من آيات الله الواحد الأحد، يأتي بهذه المرأة الغريبة إلى هذا الرجل الغريب، فيعيشون حياة ويرزقون ذرية، فتكون المرأة أحب إليه من بعض أخواته وقريباته، ويكون هذا الرجل أحب إلى هذه المرأة من كثير من إخوانها وأقاربها وخالاتها وعماتها.
فسبحان الله! مقلب القلوب، وسبحان الذي يجمع بين القلبين.
ولكن ما الفرق بين الزواج؟ لأن الزواج فطرة بين الأمم، المسلم يتزوج، واليهودي يتزوج، والنصراني يتزوج، والشيوعي يتزوج، ولكن ما الفرق بين زواج المسلم وزواج الكافر أو الفاسق أو العاصي؟
المسلم أولاً: يبحث عن ذات الدين، يقول عليه الصلاة والسلام: {تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك}.
اليهود يتزوجون من أجل المال، فهم لا يبحثون إلا عن المرأة التي عندها مال؛ فإذا وجدها تزوجها، الأعاجم أهل فارس إذا بحثوا يبحثون عن المرأة ذات الجمال.
الروم يبحثون عن الحسب أو العرف في الجاهلية.
أما المسلمون: فيذهبون ويبحثون عن صاحبة الدين، لأن الدين كل شيء في الحياة، وصاحب الدين التقي قريب من الله، قريب من عباد الله، والفاجر عدو لله، قد قطع الحبل بينه وبين الله.
كيف تجعله صهراً لك وقد قطع الخطوط بينه وبين الله، قد أعلن محاربة الله؟
أما الرجل الذي يتقدم فاحرص على أن يكون خائفاً من الله، قيل للحسن البصري قال له أحد الناس: من ترى أن أزوج ابنتي؟
قال: زوجها من يخاف الله؛ فإنه إن رضيها أمسكها بمعروف، وإن كرهها فارقها بإحسان، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: كما عند الترمذي بسند صحيح: {إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، فإن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}.
من هو صاحب الدين؟
إنه صاحب المسجد الذي يصلي خمس صلوات في اليوم والليلة، ولا يدع صلاة الفجر، الذي يأتي إلى بيت الله متوضئاً صادقاً.
في الترمذي بسند فيه كلام، يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان} نشهد لمن شهد له صلى الله عليه وسلم أنه إذا اعتاد المسجد خمس مرات في اليوم والليلة نشهد له بالإيمان في الدنيا وفي الآخرة وأنه من أولياء الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: {أنتم شهداء الله في أرضه} إذا ماتت الجنازة استشهد عليها الملائكة، وفي يوم الآخر استشهد عباده الصالحين.
مرت بالرسول عليه الصلاة والسلام جنازتان؛ أما الأولى فكانت من أهل الخير، كان صاحبها يصلي في المسجد، وكان صادقاً مع الله متصدقاً، ذاكراً لله، عابداً من عباد الله، ولياً من أوليائه، فقال الناس: رحمك الله يا فلان! غفر الله لك يا فلان! أسكنك الله فسيح الجنات، كنت كذا وكذا؛ فقال عليه الصلاة والسلام: {وجبت وجبت وجبت} ومروا بالجنازة الأخرى وكان صاحبها فاسقاً؛ لا يعرف بيت الله، ولا يعرف المسجد، معانداً لله، وعدواً له، وبعيداً منه، قطع الحبل بينه وبين الله، فهو يعيش لكن لبطنه وفرجه، فهو من جنس الدواب والبهائم {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] ويقول الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} [الأعراف:179].
ذرأنا: أي: خلقنا؛ لكن خلقهم لجهنم، يقول موسى عليه السلام: {يا رب! كيف خلقت قوم من عبادك للنار وخلقت قوم للجنة؟
قال: يا موسى! ازرع زرعاً في الأرض؟ فزرع موسى، فقال: احصد الزرع؟ فحصده، فأبقى بقية هذا العلف والجذور - وهذه من قصص بني إسرائيل التي رويتْ عن موسى - قال الله: خذ هذا يا موسى؟ قال: هذا يارب لا خير فيه، قال: يا موسى! وكذلك من تركت للنار لا خير فيهم} {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
فلذلك كان على المسلم دائماً أن يراقب الله عزوجل، فلما مرت هذه الجنازة الشريرة التي قطع صاحبها الحبل الذي بينه وبين الله، قالوا: أراحنا الله منك يا فلان! الحمد لله الذي قبض روحه، كان شريراً، سيئ الغيرة، قطوعاً لأرحامه، عاقاً لوالديه، قال عليه الصلاة والسلام: وجبت، فقالوا: يا رسول الله! ما وجبت في الأولى وما وجبت في الثانية؟ قال: {الأولى شهدتم لها بالخير، فقلت: وجبت لها الجنة، والثانية شهدتم لها بالشر، فقلت: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه} {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] فنسأل الله أن نكون ممن شهد له المسلمون بالخير، فإن الإنسان يُعرف بعمله، وبصلاته، وبصلاحه، وبصدقه، وبغيرته، وبصلته للأرحام، وببره للوالدين، فأول ما تبحث عنه من الرجال الذي يخاف الله عزوجل، فوالله لا يقدر حميلتك ولا كريمتك ولا ابنتك ولا أختك إلا من يخاف الله، والله لا يرفع قدرها ولا يحافظ عليها إلا من يخاف الله.
قال أحد الصالحين لابنه: يا بني! لا تصاحب ثلاثة: قال من هم يا أبتاه؟
قال: لا تصاحب الفاجر؛ لأن الفاجر ملعون في السماء، ملعون في الأرض، فكيف تصاحب الملعون؟!
ولا تصاحب عاق الوالدين؛ لأن عقوق الوالدين يدخل معه قبره، ولا تصاحب الكذاب لأن الكذاب يقرب لك البعيد ويبعد عليك القريب، فأول ما نبحث عنهم من الرجال الذين يخافون الله.(179/4)
تيسير أمور الزواج
وهنا أوصي إخواني وآبائي بمسألة مهمة وهي: ألا تتأخر المرأة إذا حان زواجها، فالمرأة كالثمرة إذا حان قطافها وتأخرت عن حان القطاف فسدت، وكذلك الرجل، {إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه} ولا تتأخروا إذا وجدتم الكفء للمرأة الصالحة فلا تتأخروا، فإن أقواماً أخروا زواج بناتهم فكسبوا إثماً من الله الواحد الأحد، وهؤلاء أحد رجلين: إما جاهل لا يعرف الشريعة ولا يعرف أمر الله، وإما رجل طماع يبيع ابنته كما تباع الدابة أو الأرضية أو السيارة.
يحدثنا أحد العلماء في الرياض يقول: حضرنا إلى باب المستشفيات فوجدنا رجلاً مع ابنته وهي في مرضها، وعمرها أربعين سنة لم تتزوج، كلما تقدم لها رجل رفض أبوها، يقول: كان من أطمع الناس، صاحب دنيا لكن لم تنفعه دنياه، عنده من الدور ومكاتب العقارات والسيارات والمعارض، لكنه معروف بين الناس أنه إذا زوج ابنته لا يزوجها إلا بمئات الألوف، فكلما تقدم لها شاب رفض تزويجها؛ لأن الذين تقدموا إليها شباب فقراء، وأكثر الناس أحوالهم لا تمكنهم من دفع المهور الغالية، فكلما تقدم له رجل صالح سأل عن وظيفته؟ وسياراته؟ ومرتباته؟ فإذا أخبره بأنه دون ذلك تركه، حتى وصلت إلى سن الأربعين، ثم أصابها مرض عضال، ونقلت إلى المستشفى، فلما حضرتها سكرات الموت، وهو الانتقال إلى الواحد الأحد الذي يحكم بين الخصمين ولا حاكم إلا هو، والذي ينصف المظلوم من الظالم، فلما حضرتها سكرات الموت قالت: ياأبتاه! اقترب، فاقترب منها، فقالت: قل آمين، فقال: آمين، فقالت: قل آمين فقال: آمين.
-والله لقد حدثنا بها شيخ من الشيوخ الذين تقبل شهادتهم- فقالت: قل آمين، ثالث مرة، قالت: أحرمك الله الجنة كما أحرمتني لذة الزواج.
أربعين سنة تقف المرأة في بيت أبيها ماذا تنتظر؟!
ثم يأتي يرد هذا ويرد هذا من أجل أن تباع ابنته كما تباع الدابة، أهذا في الإسلام؟! كان السلف الصالح الواحد منهم يأخذ درهمين، أو ثلاثة، أو أربعة، ثم يمتع ابنته، وبعضهم يبني لابنته بيتاً ويسلم ابنته لزوجها مكرمة مهذبة معلمة، ثم يشكر الله أن رزقها زوجاً صالحاً؛ لأن المحرم أمرها صعب، وجود البنت في البيت صعب، الجاهليون في الجاهلية يأخذ أحدهم ابنته فيدفنها وهي حية؛ خوف العار، فلما أتى الإسلام كرمها بالزوج، وحفظها ورعاها وسترها، ثم قام بالقوامة عليها، ولهذا كيف يشترط الإنسان مهراً غالياً مع هذه التكاليف؟(179/5)
صورة من حياة السلف الصالح في تيسير الزواج
سعيد بن المسيب أحد الصالحين من علماء السلف الصالح، كان من علماء الدنيا بل هو عالم الدنيا في عصره، كان عنده ابنة حفظها كتاب الله فحفظت كتاب الله كله، كانت مفتية مثل سعيد بن المسيب، ومن أجمل النساء، تقدم لها ولي خليفة المسلمين الوليد بن عبد الملك يخطبها فرفض سعيد بن المسيب، قال: أعطيك نصف الملك، قال: والله لو تعطيني الدنيا وما فيها، الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة وتعطيني نصف جناح بعوضة! قال: ولم قال: إذا سلمت ابنتي لك أسمعتها الغناء والمعازف ونسيت كتاب الله.
إن حياة أمراء بني أمية وبني العباس معروفة، لهذا رفض ذلك، فلما أتى فقير من تلاميذه لا يملك إلا درهمين، قال له سعيد بن المسيب أين تأخرت يا فلان؟ قال: كنت عند زوجتي أمرضها، مرضتها ثم ماتت فجهزتها ودفنتها وأتيت، قال: هل لك من زوجة؟ قال: لا.
قال: هل عندك مال تتزوج به؟ قال: والله ما عندي إلا درهمين، قال: فآتي بالدرهمين، فقال له: أترضى أن أكون صهراً لك؟ فانذهل ولم يصدق، كيف يصاهر سعيد بن المسيب عالم الدنيا، قال: هات الدرهمين، فأخذها وكتب له عقد وسلمها له بعد مغرب تلك الليلة، ولم تكن وليمتهم إلا شيئاً من خبز الشعير، وشيئاً من الزبيب، قال: فلما دخلت عليها وجدتها حافظة لكتاب الله تعالى، عالمة فقيهة محدثة، تقوم الليل وتصوم النهار، فهذا هو تقوى علماء أمة محمد عليه الصلاة والسلام.
الرسول عليه الصلاة والسلام زوج فاطمة فانظروا إلى مراسيم الزواج، ومن هي فاطمة؟ يقول محمد إقبال شاعر باكستان:
هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟ من ذا يساوي في الأنام علاها
أما أبوها فهو أشرف مرسل جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي زوج لا تسل عنه سوى سيف غدا بيمينه تياها
أبوها محمد صلى الله عليه وسلم، وابنها: الحسن والحسين، زوجها: علي، فما هو مهرها؟ وكيف زفت من بيت أبيها إلى بيت زوجها؟ انظروا إلى مراسيم العرس:
يقول علي: أردت أن أحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزواج من فاطمة -الإمام المرتضى أبو الحسن الذي يضرب رءوس الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر كضرب الصرام أو كضرب رءوس الشعير، أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم- قال: فلما دخلت البيت أردت أن أحدثه بالزواج من فاطمة، فنظرت إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم فأصاب وجهي الخجل والحياء والرهبة، فما استطعت أن أتكلم بكلمة، مع من يتكلم؟ مع سيد الخلق، شفيع الناس، وجهه كان كالقمر ليلة أربعة عشر، إذا رآه الشخص أخذ يرتعش كأنه أصابته حمى، كما جاء أن أحدهم دخل على الرسول صلى الله عليه وسلم فلما رأى وجه الرسول، ورأى هيبته أخذ ينتفض ويرتعش، قال صلى الله عليه وسلم: {هون عليك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة} يقول صلى الله عليه وسلم: إن أمي كانت تأكل القديد بـ مكة، القديد: اللحم المشوي الذي يشوى في الملح ويعلق بالحبال، كأنه يقول: إن أمي كانت فقيرة وأنا فقير، أنا لست من السماء، وهو أشرف من ملائكة السماء، لكنه تواضع، ونحن نقول: صدقت أنت ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة لكنك حولت العالم، وابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة لكنك أنت من فتح من السند إلى الهند إلى أسبانيا بلا إله إلا الله، ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة لكن دعوتك سارت في أنحاء المعمورة، وأنت شفيع الناس يوم القيامة، قال علي: فلما أتى بي من الخجل والهيبة والحياء مالا يعلمه إلا الله سكت، فتبسم عليه الصلاة والسلام.
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الشراب وتلهيها عن الزاد
{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] قال يا علي: كأنك تريد فاطمة قلت: نعم يا رسول الله! قال عندك مال -وهو يدري أنه ليس عنده شيء- علي بن أبي طالب الذي ضرب رءوس الجبابرة أبوه شيخ الأباطح ليس عنده من الدنيا شيء! كان ينام على صوف الخروف، ينام عليه في الليل ويلتحف به بالنهار، قال له صلى الله عليه وسلم: أعندك مال؟ قال: ليس عندي شيء يا رسول الله! قال: تذكر، قال: والله ليس عندي درهم ولا دينار ولا تمرة، أو حبة، أو زبيبة أبداً، قال: تذكر هل عندك شيء من السلاح، قال: عندي درع لا تساوي درهمين ألبسه في المعركة قال: هاته، فذهب وهو خجول رضي الله عنه وانتزعه من بيته، وأتى به ووضعه عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا مهر فاطمة، فقال صلى الله عليه وسلم: قد قبلت، قال: وهل قبلت يا علي؟ قال: قبلت، قال صلى الله عليه وسلم: وفاطمة زوجة لك، فذهب بها إلى البيت، فقال صلى الله عليه وسلم: اصنع مأدبة عشاء.
قال: ليس عندي شيء يا رسول الله، قال: اذهبوا إلى بيوت أمهات المؤمنين، وكان عنده صلى الله عليه وسلم تسع نسوة، وكان كل امرأة في غرفة صغيرة إذا نام صلى الله عليه وسلم وصل رأسه طرف الغرفة ورجلاه في الطرف الآخر، فقال: اذهبوا والتمسوا شيئاً، فذهبوا إلى أم سلمة ووجدوا عندها بعض أقراص الخبز، ثم ذهبوا إلى عائشة فقالت: لا.
والله ما عندنا شيء، ثم ذهبوا إلى زينب فقالت: ووجدوا عندها شيئاً من الزبيب، ثم ذهبوا إلى امرأة أخرى، وكان معها شيء من لبن، فلما جمعوا من هذه الأشياء البسيطة، قال صلى الله عليه وسلم: هاتوا لأدعو عليه بالبركة، لأنه مبارك عليه الصلاة والسلام، ينفث على الطعام فيزيده الله، نفث على الشراب الذي لا يملأ كأساً فكفى ثمانمائة مقاتل، فتوضئوا، واغتسلوا، وسقوا خيولهم وغنمهم وبقرهم وإبلهم.(179/6)
بيان بركة النبي صلى الله عليه وسلم
يقول جابر: رأيته صلى الله عليه وسلم وهو يحفر خندق المدينة، يطوقه ضد اليهود والمشركين حتى لا يقتحموا المدينة، قال: فأتيته فإذا به من الجوع ما لا يعلمه إلا الله، قال: فلما رأيت الجوع بوجهه، أتيت إلى زوجتي، وقلت لزوجتي: أعندك شيء من طعام؟ قالت: عندنا عناق -ولد الماعز- ومد من شعير، قلت: اطحني الشعير وأنا أذبح هذا العناق، وأسلخها وأضعها في القدر على البرمة، وطحنت الشعير، وأقامت منه طعاماً، وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو يحفر ومعه ما يقارب من سبعمائة مقاتل، كلهم جياع، فوقع على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! أريدك بكلمة، قال: ماذا تريد؟ قال: تعال أنت واثنان معك أو ثلاثة، قال: فقام صلى الله عليه وسلم فوضع المسحاة من يده، وقال: يا أهل الخندق! إن جابر بن عبد الله صنع لكم طعاماً فحيهلا بكم.
قال جابر: فأخذني من الخجل ما قرب وما بعد، أريد النبي صلى الله عليه وسلم ومعه اثنان فقط وأتى بسبعمائة، قال: فمضيت وأنا لا أدري ماذا أفعل، قلت: لعله لم يسمعني، أو لم يفهمني صلى الله عليه وسلم، قال: فسبقت إلى زوجتي، وقلت: الويل لك، قالت: وماذاك؟ قال: قلت للرسول صلى الله عليه وسلم يأتيني باثنين أو ثلاثة، فصاح بأهل الخندق كلهم فأقبلوا، قالت: -وكانت عاقلة- الله ورسوله أعلم.
فأتى صلى الله عليه وسلم، والتفت جابر وإذا بالصحابة مئة بعد مئة، مئة بعد مئة، مئة بعد مئة، فتبسم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يدري أن قلب جابر أخذ يحترق، فقال: يا جابر! لا تنزل الطعام عن البرمة، ولا تنزل اللحم من القدر، اتركها في برمتها، قال: سمعاً وطاعة يا رسول الله! ثم أتى عليه الصلاة والسلام إلى القدر، وفيه اللحم فبصق عليه، وبصاقه بركة، فقال: بسم الله اللهم بارك! بسم الله اللهم بارك! باسم الله اللهم بارك! ثم أتى إلى هذه البرمة، فدعا بالبركة، ثم قال: يا جابر أدخل الناس عشرة عشرة، فدخل عشرة فأكلوا وقاموا، ثم عشرة ثم عشرة ثم عشرة حتى أكل جميعهم -السبعمائة- فلما قاموا وانتهوا بقي الرسول صلى الله عليه وسلم وجابر فأكلا، قال جابر: والله لقد تقدمت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بحالها ما نقص منها لقمة، فأخذ عليه الصلاة والسلام يتبسم ويقول لـ جابر وهو ينظر إليه: أشهد أني رسول الله -وأنا أقول: أشهد أنك رسول الله، وأنك صادق أمين، مبارك، وأنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة.
الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في طعام علي وفاطمة فكفى الناس بإذن الله، وأتى علي وفاطمة ينشئون بيتاً جديداً على ذكر الله.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي وسط الليل ويذهب إلى علي وفاطمة لأن غرفتهما قريبة من غرفته، فيوقظهم لصلاة الليل، جاء في صحيح البخاري أن الرسول عليه الصلاة والسلام: قام وطرق على باب علي، وقال: ألا تصليان؟ ثم عاد صلى الله عليه وسلم يصلي في الليل، فما سمع فتح الباب؛ لأن الذي يقوم من الليل يفتح الباب ويتوضأ فلم يسمع فتح الباب، فعاد صلى الله عليه وسلم فضرب الباب، فقال: ألا تصليان؟ فقام علي يعرك النوم من عينيه، ويقول: إنما نفوسنا بيد الله إن شاء قبضها وإن شاء أرسلها، فأخذ صلى الله عليه وسلم يضرب على فخذه ويقول: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54].
أتت فاطمة إليه، وقالت: يا رسول الله! طحنت بالرحى حتى تشققت يدي، وكنست البيت حتى اتسخت ثيابي، وحملت الماء حتى لوي ظهري، فهل لي من خادمة تخدمني من السبي؟ فأتى إليهما، وقال: ألا أدلكما على خير من خادم وخادمة؟! قالا: بلى.
يا رسول الله! فقال: سبحا الله ثلاثاً وثلاثين، وأحمدا الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبرا الله أربعاً وثلاثين، فذلك خير لكما من خادم وخادمة.
الأمر الثاني: على المسلم ألا يكلف رحمه وصهره من الدنيا إلا قدر طاقته: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
كيف يشق الإنسان على صهره ورحيمه فيطلب منه المهر ما يكلف عليه، فيستدين فيضطر إلى الدين، ويأخذ أموال الناس وتدخل ابنتك عليه وقد أصبح فقيراً، يبيع بعض أملاكه.
والله لقد سمعت أن بعضهم يقول: لقد كلفني الزواج ما يقارب مائتي ألف، ويبقى مديناً، ويظل يقضي دينه ما يقارب من ست أو سبع سنوات، وتبقى هي فقيرة في بيت هذا الفقير، هذا ليس من الأخلاق، وأين الرفق والرحمة؟
ما دام ربطك الله بهذا الرجل معناه: أن الله اختاره لك واختارك إليه، الدنيا تذهب وكذلك المال والذهب والفضة، ولا يبقى إلا تقوى الله عز وجل.
الثالث: ينبغي ألا يغال في الزواجات، ولا يسرف فيها، ولا يكون رياءً وسمعة؛ لأنه وجد من الزواجات أن يجمع لها الشعراء ثم يعطوهم الأموال الطائلة مقابل أشعارهم، وهذا حرام، من سلم ماله للشاعر سواء كان المتزوج أو أبو البنت أو قرابة المتزوج أو قرابة أبو البنت.
حرام أن يعطوا أموالهم لهؤلاء الشعراء لأنهم لا يتقون الله ولا يرضونه، والشعراء ليس همهم إلا مدح هذه القبيلة وسب تلك القبيلة، وهذا الصرف حرام، ولايجوز، وقد أفتى العلماء فيه مراراً وتكراراً في فتاوى شفوية ومكتوبة، وهؤلاء الشعراء الذين يأخذون هذه الأموال لا يجوز لهم أكل أموال الناس بالباطل، كيف يأخذه؟ هل فعل خيراً؟ هل قدم شيئاً لهذه الأمة؟
ما هي النتيجة والثمرة التي قدمها للناس؟ فقط أنه يمدح هذه القبيلة، وأنهم فعلوا وأنهم انتصروا، كلها حروب جاهلية، مسلم على مسلم، وقبيلة مسلمة على قبيلة مسلمة، أو يتكلم في النساء وقد سمعنا من الشعراء من يتغزل بنساء الناس في الحفل، واستقدام هؤلاء الشعراء محرم ولا ينبغي للمسلم أن يعطيهم أجرة، وإذا غلب في ذلك فليأتِ الشاعر وليس له إلا التراب، يتكلم بما شاء من القصائد، فإذا طلب منا أجرة قلنا له هذا الجبل خذ منه ما تشاء، وليس له شيء، وكذلك أخذ المغنين والمغنيات وهذا موجود في المدن، لكن نخشى أن تصل هذه إلى القرى، أو تتدهور القرى حتى تصل مثل بعض المدن، تأتي بمغنية أو بمغني وهؤلاء المغنين أو المغنيات والمطبلين والمطبلات، الأحياء منهم والأموات، فعلهم يغضب رب الأرض والسماوات، ولا يجوز أبداً.(179/7)
حكم الدف في الأفراح للنساء
يجوز للنساء في الحفل أو الأعراس أن يجتمعن وعندهن دف وهن وحدهن، فيرقصن وينشدن: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] بعضهم يحملهم على حب السنة والشريعة إلى أن يخرج من السنة، يخرج من السقف أو من العرصة، لكن الوسط هو المطلوب، النساء في الإسلام يجوز لهن في العرس أن يجتمعن على دف فينشدن ويرقصن ويغنين بشرط ألا يكن معهن أجانب من الرجال، ولا يكن معهن مغنيات، أو أشرطة غناء لمغنين ماجنين، لكن يرقصن ويغنين وحدهن فإنه لا بأس بذلك، يقول عليه الصلاة والسلام: {أعلنوا النكاح واضربوا بالدف} ويقول لـ عائشة: {هل معكن شيء من اللهو؛ فإن الأنصار يعجبهم اللهو} فلا بأس باجتماع النساء بمجلس خاص؛ لأنه فرح وليس عزاء، وكذلك لا بأس إذا اجتمع الرجال في مجلس أن ينشدوا الأشعار، يأتي الكبار منهم، ويتحدثون بالشعر حتى من شعر القبائل، ولا بأس أن يذكروا فكاهات بشرط ألا يكون فيها غيبة ولا كذب، أو يستدعى بعض طلبة العلم أو الدعاة، فيتكلمون في هذا المجلس ويعرضون الناس، لأن بعض الناس يقول: ما تنبغي المحاضرات في الزواج، والناس لابد أن يتحدثوا بحق أو بباطل، وإذا ما ذكروا الله ذكروا الشيطان، وإذا ما سبحوا الله ذكروا إبليس -والعياذ بالله- واغتابوا ونموا واستهزءوا، فشغل حفلات الزواج بذكر الله من أحسن ما يكون.
كذلك ينبغي على الرحم أن يقدر رحمه، ويحترمه، وأن يدعوه إلى تقوى الله عز وجل إذا رأى خللاً منه لابد أن يقوم البيت على منهج الله بالتي هي أحسن: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] فهذه هي الدعوة المطلوبة أن تكون مباركاً أينما كنت، وتؤثر في بيوت أصهارك بالكتاب الإسلامي، وبالكلمة الإسلامية، وبالشريط الإسلامي، علَّ الله أن يهديهم بك.(179/8)
مواصفات المرأة المسلمة
بعض الناس يقول: أنا لا أتزوج إلا من بيت يصلون الليل، ويصومون النهار، ولا ينظرون، ولا يغتابون، وهؤلاء ليسوا موجودين في الدنيا، وإنما هذه من صفات الملائكة، أما نحن بشر نصيب ونخطأ، ونعصي الله ونستغفر، أما الشروط هذه بأنهم يفعلون كذا وكذا فهذه ليست من الشروط، فالرسول صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة بنت يهودي، فدلها على طريق الاستقامة، وعلى الهداية، فهداها الله عز وجل، وتزوج بنات المشركين فهداهم الله على يده.
إذاً بعض الشروط التي يزيدها بعض الناس ليست بصحيحة، لكن الشروط الصحيحة أن يكونوا محافظين على الصلوات الخمس، ويجتنبون الحرام، وليس عندهم اختلاط ولا تبرج، فمثل هذه الأمور هي التي ترضي الله عز وجل، وهي التي مطلوب منا أن نتواصى بها.
ثم من الأمور التي يجب أن ننبه عليها: أن على الرجل أن يحسن عشرة زوجته، ويتق الله فيها، وأن يقيمها على منهج الله عز وجل، ويدلها علىطريق الجنة، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي} ويقول: {إنهن عوان عندكم - أي أسيرات - فالله الله في النساء}.
وعلى المرأة أن تحترم زوجها، فتطيعه في طاعة الله، وتحفظه بالغيب، ولا تجلس أحداً على فراشه، ولا تدخل الأجانب في غيبته، ولا تتطلع على عورات المسلمين، ولا تعرض عرضها للناظرين - والعياذ بالله - فإن من تفعل ذلك فإنها ناقصة عقل ودين، وقد سلب الإيمان من قلبها، وأهم وصف للمرأة أنها: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31].
حور حرائر ما هممن بريبة كضباء مكة صيدهن حرام
يحسبن من لين الكلام روانياً ويصدهنَّ عن الخنا الإسلام(179/9)
حقوق الزوج على المرأة
فهذا وصف المرأة المسلمة، ومن حقوق الرجل عليها أن تقتصد في النفقة، لأن بعض النساء مبذرة ومسرفة، تعدم مال زوجها وما يدخله عليها، فتعدمه بالملابس والأثاث، والأكل والشرب؛ والمطعومات والمفروشات؛ فهذه ناقصة عقل ودين، أما حافظة المال فإنها من الحافظات بالغيب بما حفظ الله.
صحيح أن لها أن تأخذ من مال زوجها ولو لم يعلم، ولو بغير علمه، لكن بالمعروف.
قالت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان: يا رسول الله! أبو سفيان رجل شحيح -بخيل- لا يعطيني وأولادي، فهل آخذ من ماله شيئاً؟ قال صلى الله عليه وسلم: {خذي من ماله وبنيك بالمعروف} أي: ما يكفيك وأولادك.
ومن حقوق الزوج: أن تقوم على خدمته بالمعروف، بالطبخ، والغسيل، وخدمة البيت؛ لأن انتشار الخادمات لا يبشر بالخير، واشتراط أبو البنت خادمة لابنته أو سائقاً -وهذا موجود في المدن كثيراً- منهي عنه، وليس من المعروف؛ لأن استقدام الخادمات وخاصة غير المسلمات لغير ضرورة ليس من الشرط، لكن يجوز استقدامهن بثلاثة شروط:
1 - أن تكون مسلمة، فلا يجوز استخدام يهودية أو نصرانية أو شيوعية أو بوذية أو هندوسية.
2 - أن تكون لضرورة في البيت، كأن تكون المرأة مريضة أو عندها عمل.
3 - ألا يراها الزوج ولا يراها الأجانب وتكون في غرفة خاصة.
هذا هو المطلوب من المرأة، وهو أن تقوم بخدمة زوجها.(179/10)
حقوق الزوجة على زوجها
ومن حقوقها عليه -كما قلت-: إحسان العشرة، والنفقة، وأن يحفظها -كذلك- بالغيب، وأن يبر أهلها، وألا يحرمها زيارة أبيها وأمها، وهذا هو المطلوب، والذي نريد أن نقوله لكم: أيها الناس! اعلموا أن هذه الحياة بزواجها وأكلها وشربها، وسياراتها ومناصبها ما هي إلا مرحلة كالحلم والنوم حتى نلقى الله عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] هذه الحياة حياة هم، وغم، وحزن، ومرض، وفقر، لا يشفى مريضها، ولا يهنئ شابها، ولا يهدأ غنيها:
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُون} [الأنبياء:101 - 103].(179/11)
الاستعداد ليوم المعاد
فيا إخوتي في الله شيوخاً وشباباً، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً! اعلموا أنكم عما قريب قادمون علىالله، لقد تزوج آباؤنا وأجدادنا، ثم ذهبوا ووسدوا التراب، وفارقوا الأصحاب، وتركوا الأحباب، وجردوا عن الثياب، كأنهم ما أكلوا مع من أكل، ولا شربوا مع من شرب، ولا تزوجوا مع من تزوج، ولا كأنهم تمتعوا.
والله لقد ذهبوا مرتهنون بأعمالهم: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94]
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
عاش نوح عليه السلام ألف سنة، فلما أتته سكرات الموت، قال الله له: كيف وجدت الحياة؟ -والله أدرى وأعلم- قال: وجدت الحياة كبيت له بابان، دخلت من هذا الباب وخرجت من هذا الباب.
آدم عبد الله ألف سنة في الجنة ثم أكل من الشجرة بعد أن نهاه الله عنها فعصى ربه، فأنزله الله من الجنة فبكى، أول ما نزل من الجنة على جبل في الهند فبكى ثلاثمائة سنة، ثم قال الله له: يا آدم! ما لك؟ قال: يارب! عبدتك ما يقارب ألف سنة، فلما عصيتك بأكل شجرة أنزلتني وأهبطتني من الجنة.
قال الله: يا آدم! وعزتي وجلالي لو عصاني أهل السماء والأرض لأنزلتهم في ديوان العاصين ولحرمتهم حتى يعودوا من التائبين.
قال: يارب! هل لي من توبة؟ قال: يا آدم! تب أتوب عليك، فقال: أستغفر الله، فتاب الله عليه، فلما قال الله: يا آدم! وعز تي وجلالي لو أن أهل السماء والأرض عصوني لكتبتهم في ديوان العاصين، أنزل جبريل -كما قال ابن الجوزي - التاج من على رأسه وبكى، وكذلك ميكائيل وإسرافيل، قالوا: وعزتك وجلالك ما عبدناك حق عبادتك.
إذا علم هذا فلنخف من معصية الله، يقول الله: مهلاً مهلاً وعزتي وجلالي لولا شيوخ ركع، وأطفال رضع، لخسفت بكم الأرض خسفاً.
وذنوبنا ومعاصينا وخطايانا وسيئاتنا لا تعد ولا تحصى، انظر ماذا فعلنا؟
كثير من الناس يشهد عند القضاة شهادة زور، وبعضهم يشتري الشاهد بآلاف الدراهم والدنانير، فيبيع دينه وذمته، ويبيع نصيبه وحظه من الله، ويقطع الحبل الذي بينه وبين الله، فلا ينظر له الله يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم، فيذهب إلى القاضي فيشهد شهادة الزور فيغضب الله وملائكته وعباده.
لو دفع للإنسان الدنيا وما فيها على أن يشهد شهادة الزور فإنه والله هو الخاسر وهو المطرود، أيضاً يوجد من الناس من يصنع لجاره المشاكل والمصائب والعناد ما لا يعلمه إلا الله.
أين الغيرة؟ أين الإسلام؟
يقول صلى الله عليه وسلم: {ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه} أي: سيجعل له حظاً من الميراث.
كان جار الرسول عليه الصلاة والسلام يهودياً، فكان صلى الله عليه وسلم إذا اشترى اللحم يعطيه منه.
وكان صلى الله عليه وسلم يزور اليهودي إذا مرض، وفي الأخير قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، هذا هو الإسلام، الجار أمره عظيم، يأتي جار يبكي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرتفع بكاءه فيقول صلى الله عليه وسلم: مالك تبكي؟ قال: يا رسول الله! أشكو إليك جاري، سبني وشتمني، إذا غبت ما حفظني، وإن حضرت هضم حقي، قال: ماذا أفعل يا رسول الله؟ قال: اصبر واحتسب، فصبر واحتسب، ثم عاد يبكي ثانية، فقال صلى الله عليه وسلم: اصبر واحتسب، فصبر واحتسب، ثم عاد يبكي، فقال صلى الله عليه وسلم: خذ متاعك وأهلك وأطفالك وانزل واجلس في طريق الناس، فأخذ متاعه وزوجته وأطفاله ونزل في طريق الناس، قالوا: مالك يا فلان؟ قال: أخرجني جاري من داري، قالوا: لعنه الله! وهكذا كلما مر شخص يسأله عنه حاله، فيعلم بما حصل له، فيسب ذاك الجار المؤذي، فسمع ذلك جاره، فقال: والله لا أعود، عد إلى بيتك، بعد أن أخذ لعنة العالمين؛ فنعوذ بالله من الخذلان!
بعض الناس الباب إلى الباب ولا يسلم بعضهم على بعض سنوات طويلة، بل الأرحام يتقاطعون، ويتشاكون، بل يتلاعنون، بل بعضهم يكادون يتقاتلون، أين الإيمان؟! أين الإسلام؟!
يوجد في القرى مساجد لا يصلي فيها إلا ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة فأين الإيمان؟!
يسمعون الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أربع شهادات، ثم لا يجيبون: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:40 - 41].
أين إيمان المؤمن؟ إذا سمع الأذان ترتاح نفسه.
هذا أحد السلف مرض مرضاً طويلاً كأنه قطعة لحم على الفراش، وكان إذا سمع: الله أكبر، قال: احملوني إلى المسجد، قالوا: عذرك الله! أنت مريض، قال وهو يكاد يتقطع: كيف أسمع: الله أكبر ولا أقوم! أسمع: حي على الصلاة حي على الفلاح ولا أقوم إلى المسجد! ولو كان في القلوب إيمان والله ما يأتيك النوم بعد أن تستمع الأذان، بل يضطرب قلبك، ويصبح مثل القدر يغلي، لأن الإيمان يجعل القلب كالقدر يغلي غلياناً.
وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خال
يقول أحد السلف: [[يا رب! إذا أمتني أمتني ميتة حسنة.
فقال له أبناؤه: ما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد]] فأعطاه الله ما تمنى؛ لأن الله يعطيك على قدر نيتك: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21].
أتته سكرات الموت، فقال: احملوني إلى المسجد، قالوا: أنت معذور، أنت في سكرات الموت، قال: سبحان الله! أسمع: حي على الصلاة، حي على الفلاح ولا أجيب!! فحمله أبناؤه على أكتافهم حتى وضعوه في الصف، فصلى صلاة المغرب فلما كان في السجدة الأخيرة قبض الله روحه، لأنه صادق مع الله، طلب الموت وهو ساجد، فأعطاه الله.
يقول أحد الصالحين وأبناؤه يبكون عنده: لا تبكوا عليَّ، قالوا: ولم؟ قال: والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الإمام ستين سنة: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109] أحد الناس لا يعرف إلا المسجد، أول ما يفتتح برنامجه اليومي صلاة الفجر، حتى يقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله -أي: في حفظ الله - فالله الله لا يطلبنكم الله بشيء من ذمته}.
وأوصيكم بترك أكل المال الحرام، كالربا، فقد انتشرت البنوك الربوية، وكيف يدعو الله وهو يأكل الربا، فيقول الله: لا لبيك ولا سعديك مطعمك حرام، ومشربك حرام، وملبسك حرام، فأنى يستجاب لك!
لا يستجيب الله للذي يأكل الحرام، حتى الحاج يحج ويتعب ويصهر في الشمس ويجوع وتفصم ركبه من السير، فيقول: لبيك اللهم لبيك، فينادي الله من السماء: لا لبيك ولا سعديك، مطعمك حرام، ومشربك حرام، وملبسك حرام، فأنى يستجاب لك!
فحذارِ حذارِ من الدخل الحرام، فإنه يفسد العبادة ويعطل الدعاء ويغضب المولى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثم أوصيكم ونفسي بالتزود من النوافل، وكثرة الذكر فأنتم قادمون على سفر، وأنتم الآن مقبلون على هذا السفر البعيد، بعضنا بقيت له أيام وبعضنا أسابيع وبعضنا أشهر وبعضنا سنوات وسوف نجتمع غداً، فاعملوا لجنة عرضها السماوات والأرض، واعلموا أننا والله مهما ارتحنا وضحكنا واسترحنا وبنينا وعمرنا وركبنا فإنها ستسلب منا سريعاً، وأنه لا يبقى إلا وجه الله.
هارون الرشيد ملك الدنيا من الشرق إلى الغرب، من الشمال إلى الجنوب، بنى قصراً من أعظم القصور في بغداد عاصمة العراق وكان اسمها دار السلام قديماً، فلما بنى هذا القصر، قال للشعراء: ادخلوا وامدحوا القصر وصاحبه، فدخلوا ومدحوا الخليفة نفسه، ثم أتى شاعر الزهد والحكمة أبو العتاهية، فقال لـ هارون الرشيد:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
قال: هيه، قال:
يسعى عليك بما اشتهيت مع الرواح أو البكور
قال: هيه، قال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
فبكى حتى سقط من على كرسيه.
إن سكرة الموت تنسيك كل لذة في الحياة.
والله إنه قد وجد من بعض الملوك وقد قرأت سيرهم، مثل: المعتضد كان عنده أربعمائة جارية، وأربع نسوة، وكان عنده من القصور في كل مكان، وكان يقول: ما تركت لذيذاً حتى أكلته، وما تركت جميلاً حتى لبسته، ولا نعمة حتى تمولتها، فلما أتته سكرات الموت كان على عرش الملك، قال: أنزلوني، فأنزلوه، فكشف البساط، ومرغ وجهه في التراب، وقال: ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانية، ياليتني ما عرفت الحياة! يا ليتني ما عرفت الملك!
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب
ولله كميت حبيب ورائح يشيعه للقبر والدمع يسكب
فيا أيها المسلمون: يا من عرف مصيره! ويا من عرف طريقه إلى الله! تزود من العبادة، وأكثر من النوافل، أكثر من التسبيح، وسع قبرك بالعمل الصالح، القبر والله لا يوسعه الدور، ولا القصور، ولا المال، ولا المنصب، ولا الوظيفة، لا يوسعه إلا العمل الصالح:
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
اللهم تولنا فيمن توليت، اللهم تب علينا، اللهم إنا نسألك من العيش أرغده، ومن العمر أسعده، ومن الوقت أتمه، ومن الزمن أعمه.
اللهم ثبتنا على لا إله إلا الله، وأمتنا على لا إله إلا الله، وأدخلنا قبورنا على لا إله إلا الله، ونجنا من النار بلا إله إلا الله، وأدخلنا الجنة بلا إله إلا الله.
اللهم إنا نسألك الأمن والأمان، والالتزام والسلام، والراحة في الأبدان والأوطان والأديان يا رب العالمين.
ربنا زدنا تقىً وعفافاً وغنى، وثبتناً وأرشدنا واصرفنا مغفوراً لنا يا رب العالمين.(179/12)
الأسئلة(179/13)
حكم اللعن وقطع الأرحام
السؤال الأول: أب لا يمر عليه يوم واحد حتى يلعن زوجته وأولاده؛ كما أنه لا يصل رحمه، فإذا نصح تمادى في غيه وسبه وشتمه، أرجو من شيخنا التوجيه في هذا؟
الجواب
أسأل الله أن يهدي هذا الأب وكل ضال من ضلال المسلمين، وأن يرده إليه رداً جميلاً، فإن الله يتوب على من تاب والهداية بيده تعالى، وليعلم هذا الأب أن اللعن من كبائر الذنوب، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة} ويقول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء}.
فحذارِ حذارِ من اللعنة؛ فإن معناها: الطرد والإبعاد من رحمة الله، فقد يلعن الولد فتصادف ساعة استجابة من الله لا يسأل فيها شيئاً إلا أعطاه، فيلعن ولده فيطرد الله هذا الولد من رحمته أبد الآبدين.
أو يلعن زوجته فيطردها الله من رحمته أبد الآبدين.
مر عليه الصلاة والسلام في غزوة، وفي الجيش امرأة معها ناقة، فقالت المرأة للناقة: لعنك الله! - تلعن الناقة - فقال صلى الله عليه وسلم: {خذي متاعك من على الناقة واتركيها لا تصحبنا ناقة ملعونة} فكيف بالزوجة؟! فيكيف بلعن الأهل والأولاد؟! كيف يأتي حسن الخلق؟! كيف ينزل الله السكينة؟! كيف تغشى الرحمة؟!
فيا أيها الأب! حذارِ حذارِ، فليس لديك كفارة إلا التوبة، أما المرأة فلا تطلق باللعنة - بعض الناس قد يتوهم أن المرأة عليها أن تذهب إلى بيت أهلها، لا.
مهما لعن فإنها لا تطلق، بل هي زوجته وما زالت، لكن تنقص البركة ويكتسب أكثر الذنوب، ويقل الله السكينة في البيت، ويدخل الشيطان والعياذ بالله.
فأنا أوصيك أولاً أن تجتنب اللعنة، وأن تستغفر، وتتصدق لعل الله أن يكفر عن سيئاتك: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
أما قوله: إنه يقطع أرحامه، فلا إله إلا الله ما أعظم قطيعة الرحم! من أعظم الذنوب والخطايا: قطيعة الرحم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
فوصيتي إليك أن تتوب وتعود إلى أرحامك ولو قطعوك، أن تصلهم ولو آذوك، أن ترحمهم وتعطيهم ولو منعوك: {أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم -والحديث عند مسلم - قال: يا رسول الله! إن لي قرابة أحسن إليهم ويسيئون إلي، وأصلهم ويقطعونني، وأرحمهم ويؤذونني، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنت كما تقول فلا يزال معك من الله ظهير -أي: نصير- وكأنما تسفهم المل} أي: كأنما تحرقهم بالرماد الحار.
فوصيتي لك أن تصل رحمك، وأنت سوف تقف أمام الله باكياً نادماً مثبوراً إن لم يتداركك الله برحمة منه.(179/14)
طريقة إحياء الزواج المشروع
السؤال الثاني: أرجو أن توضح لنا كيف يستطيع الزوج إحياء ليلته بفرحه بمثل هذه الليلة المباركة خصوصاً إذا عرف أنه لا يتيسر لكل شخص أن يجد طلاب العلم أمثالكم؟
الجواب
ولو لم يكن لصاحب هذا الزواج إلا وجود مثل هؤلاء الناس، لأنهم صفوة المجتمع، لأنه لا يحرص على مجالس الخير إلا صفوة الناس، فمجالس الشيطان يحضرونها حثالة الناس، رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه سارقاً ووراءه قوم من الناس يصيحون بالسارق، قال عمر: [[قبح الله هذه الوجوه لا ترى إلا في الشر]] لأن وجوه أهل الخير تجتمع في مجالس الذكر، ففرصة لهذا المتزوج أن يستضيف هؤلاء الأخيار، أهل الصدق مع الله، أهل السنة، وأهل الخير والفضل، فوجودهم ودعوتهم له تعادل الدنيا وما فيها، يوم ندعو نحن ويقول الناس: آمين.
تعادل الدنيا وما فيها، فليحرص الإنسان على مجالس الذكر مثل هذه؛ لأن الملائكة تحف مجالس الذكر، وتتنزل عليه السكينة، والرحمة تغشاه، والله يذكرهم فيمن عنده، فهي من أعظم الفرص، هذا نموذج للزواج الحي الإسلامي، لكن الزواج الجاهلي لا يذكر فيه اسم الله، بل يحضره الشيطان ومعه جنوده من الراقصين والمغنين والمطبلين وغيرهم من أتباعه: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] وأهل الخير ومجالسهم فيها قال الله قال الرسول، ومجالس أهل الشر قال الشيطان، وقال فلان، ويحسن بالإنسان أن يستدعي طلبة العلم وهم متواجدون في كل مكان، المعاهد العلمية، هيئة الأمر بالمعروف، والدعوة، والقضاة، كلهم فيهم خير، يجمع مجموعة من الناس، ويتحدثون بكلام طيب ولا يشترط أن يحضر مكروفون، وأن يرفع المحاضر صوته، وأن يهز يديه الاثنتين، هذا لا يشترط، بل إذا حضروا في المجلس يتكلم هذا بكلمتين وهذا بكلمة طيبة، وهذا بحديث، وهذا بآية؛ لأن الناس لا تغلق أفواههم وألسنتهم، لا بد أن يتحدثوا، والمجالس إما أن تشغل بالخير وإلا أتى الشيطان يشغلها بسوء، إما أن يتكلموا بقال الله، وإما تكلموا بالغيبة والنميمة وبغض واستهزاء يغضب الله تعالى، فإذا استطاع الأخ أن يجمع من هؤلاء فطيب وحسن.
وفكرة أخذ الكتيبات والأشرطة الإسلامية وتوزيعها وإهداؤها بين الأحبة والوفود من أحسن ما يكون؛ لأنها أصبحت وسيلة ناجحة للدعوة.(179/15)
ميراث المرأة بين الشرع والجاهلية
السؤال الثالث: كثير من القبائل يعيبون على المرأة إذا أخذت ميراثها من عند أهلها ويقطعونها، نرجو التوجيه؟
الجواب
من يفعل ذلك قطع الله حبله؛ لأنه عارض الكتاب والسنة، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كتب لها في القرآن ميراث، امرأة مخلوقة لها حق: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11] حتى يقول بعض العلماء: [[إن الله لم يترك تقسيم الفرائض لأحد من الناس بل قسمه بنفسه تبارك وتعالى]] الله من فوق سبع سماوات هو الذي قسم المواريث، لهذا السدس، ولهذا الثمن، ولهذا النصف، ولهذا الثلثين، فيأتي الناس يقولون: عيب أن تذهب المرأة إلى أهلها حتى تأخذ حقها! فيحرمون حقها من أبيها، هذا من الجاهلية: {حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] ومن يفعل ذلك فقد حارب الله، وعارض شريعة الله! وليس بعيب على المرأة أن تذهب إلى إخوانها إذا احتاجت.
ولو أخذنا على نظام الجاهلية هذه، وقلنا: لا يجوز أن تأخذ حقها من أهلها، هل كل النساء لها ولد، أو زوج يرعاها؟
كثير من النساء يرميها ولدها، وقد رأينا قضية أن بعض الأبناء ضرب أمه سبع مرات، حتى تدخل الأمن ورجال الشرطة، وسحبوا هذا الابن الفاجر وضربوه بالمداسات؛ لأنه بلغ إلى هذا المستوى، ووجد من الأزواج من إذا صارت زوجته عجوزاً وأصبحت متعته شهوانية كأنه في شريعة الغابة والبهائم وما أصبح له بها حاجة، طلقها، لأنها أصبحت عجوزاً وأحرمها ميراثها فتذهب لا تجد أهلاً، وإذا ذهبت تطلب بيتاً تسكن فيه من أهلها وإخوانها، قالوا: لكل واحد منا بيت ومزرعة وأنت ليس لك شيء وهذا عيب! فأين تذهب؟
سبحان الله! هذه شريعة لا توافق عليها حتى الأمم الكفارة، حتى اليهود والنصارى، للمرأة أشياء محددة، والحمد لله هذه الظاهرة بدأت تخف وتقل؛ لأن الناس صحوا وعادوا إلى الله، وأصبح عندهم رشد، وأصبح فيهم عقلاء، والذي يخالف هذا ففيه سفه، وأسأل الله أن يهديه سواء السبيل.(179/16)
أحوال الناس بعد سماع المحاضرة
السؤال الرابع: كثيراًَ ما يحضر أبناء المنطقة مثل هذه المحاضرات، فتجدهم قلوب خاشعة وآذان صاغية، ولكن حين مغادرتهم للمحاضرة تجدهم يعودون إلى غيهم، وتشاجرهم، وحسدهم على لا شيء، ماذا تقول لهم؟
الجواب
لا شك أن من يحضر المحاضرة ويسمع الذكر، تحف به الملائكة، وتتنزل عليه السكينة، وتغشاه الرحمة، ويكون قلبه قريباً من الله، لكن إذا خرج تعرض له شياطين الإنس والجن، نظره وأذنه ولسانه تعصي الله، ولا شك أن القلب يتغير، كما قال حنظلة لما أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: نافق حنظلة يا رسول الله! قال: ولم؟ قال: نكون معك فتحدثنا عن اليوم الآخر، فنرى الجنة والنار كأنها رأي العين، فإذا عدنا لعبنا ونسينا وغفلنا، فقال عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده لو كنتم كما تكونون عندي، لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة، ساعة وساعة، ساعة وساعة}.
ولكن لابد أن تربي نفسك تربية إسلامية، وتجتنب المعاصي، وتتوب إلى الله، وتعرف من تجالس، وتسد عن أذنك المعصية، وعن عينك التطلع إلى عورات المسلمين والنظر إلى ما حرمه الله، وعلى لسانك ما يغضب الله عز وجل؛ فهذا هو الدين، وهذا هو مفهوم قول الله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].(179/17)
الحجاب الإسلامي
السؤال الخامس: نرجو التكرم بالتحدث عن الحجاب، علماً بأن كثيراً منا يعملون في الزراعة والأعمال الزراعية؟
الجواب
الحجاب الإسلامي: أن تغطي المرأة ما ظهر من زينتها، وأعظمها: الوجه والكفين، لا كما يقول بعض الناس: إن الوجه والكفان ليس من الزينة، ولها أن تخرج الوجه والكفين وهذا خطأ، فالوجه والكفان لا بد أن تسترهما وأن تكون محتشمة، وهناك ظاهرة موجودة في بعض القرى وهي أن المرأة تظهر على حميها -أخو زوجها- وقريب زوجها، وهذا محرم في الشريعة، قال صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الحمو فقال: {الحمو الموت}.
لا يجوز لأخي الزوج أن يختلي بزوجة أخيه، وبعض الأقارب يخرجون في رحلة فيجلس الأجانب والأجنبيات يتضاحكون، ويسمرون ويمزحون وهذا خطأ ومحرم، فالواجب أن المرأة تبقى محتشمة، والمحارم لها هم سبعة في كتاب الله تعالى، ليس لها غير ذلك، أما ابن عمها، وابن خالها فليسوا بمحارم، والمحارم في الشريعة معروفون.
ثم أقول: أما ما ذكر الأخ من مزارع فلا بأس أن المرأة إذا خرجت المزرعة وكان الأجانب بعيدون أن تكشف وجهها وتحصد وتساعد زوجها على أني أنادي بتخفيف المؤونة على المرأة؛ لأنه وجد ضرر على النساء، فإن عملها في البيت وفي المزرعة، وتكليفها أكثر من طاقتها، والمرأة ضعيفة تعاني الحمل والولادة والرضاعة، والغسل والطبخ والكنس والقيام على شئون البيت، ثم تحول ذلك إلى عاملة في المزرعة، هذا فيه مشقة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فإذا نزلت المرأة فلا بأس أن تساعد زوجها وتكشف عن وجهها لترى وتبصر، بشرط أن يكون الأجانب بعيدون عنها أما إذا اقترب أجنبي أو رأت شخصاً نزل من طريق فعليها أن تستر وجهها، هذا إن شاء الله هو الأقرب إلى السنة.(179/18)
علم السلف وعلم الخلف
تهدف المحاضرة إلى بيان أفضلية علم السلف على علم الخلف، وقد ذكر الشيخ أخطاء المتأخرين باهتمامهم بالجزئيات، وابتكارهم لعلومٍ لا حاجة لها، بل بعضها مضرتها أكثر من نفعها، وكذا تعصبهم وبعض مزالقهم وألقابهم العلمية، وانتقد كل ذلك بأسلوب شيق.
ثم تحدث عن أصالة علم السلف ويسره وسهولته، ثم انتقل إلى بيان اهتمام السلف بالمقاصد والغايات، كما أثنى على واقعية علومهم وعدم تجشمهم الإجابة على المسائل الافتراضية التي لم تقع.
ثم ذكر بعض الوسائل التي تحفظ العلم، وأسهب في الكلام عن المذاهب والاختلاف والجوانب والسلبية في ذلك.(180/1)
فضل علم السلف
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
عنوان هذا الدرس: علم السلف وعلم الخلف، وانطلق هذا العنوان ليرد على مقولة صنفها الفلاسفة والمناطقة، وأهل علم الكلام، يقولون فيما نقل عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم؛ طريقة السلف أسلم، لأنهم في معتقد هؤلاء وعلى زعمهم يتوقون الدخول في المعمعات وفي المسائل المشكلات، ولا يستطيعون أن يخوضوا غمار المسائل العلمية التي تتساقط فيها عمائم الأبطال، وتتكسر فيها النصال على النصال، فهؤلاء المناطقة والفلاسفة مثل من يقول: السلف قومٌ مساكين، لا يدخلون في هذه الغمار، ولا هذه البحار، ولا يعبرون هذه المحيطات التي نعبرها نحن، فطريقتهم أسلم وطريقتنا أعلم وأحكم.
والرد عليهم بإيجاز أن يقال: طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم، وطريقتكم أغشم وأظلم وأسقم، وما وجد عند السلف إلا الأصالة والعمق واليسر، ووجد عند الخلف إن لم يكن عند السلف وجد عندهم علم (القِدْر) لأن العلم علمان:
علم قبر، وعلم قِدر؛ فعلم القبر هو الكتاب والسنة الذي يوصلك إلى مرضاة الله والدار الآخرة، ويدخلك جنةً عرضها السموات والأرض، وتجوز به الصراط، ويسقيك من الحوض قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] وقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] وقال: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] وقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وقال: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [القصص:80].
إلى غير ذلك من الآيات، فهذا علم القبر؛ علم ينجيك من عذاب القبر، وينوره لك.
وأما علم الخلف إن لم يكن متصلاً بهذا فهو علم قدر؛ فن الطبخ، وفن تقطيع البصل.
لأنها ألفت رسائل ماجستير في هذا العصر في فن الطباخة ونوقشت، ووجدت رسالة أخرى في فن الأزياء، وكيف يلبس النساء في الموضات الجديدة، والموديلات، رسالة ماجستير؛ فهذا علم الخلف، علم القدر، وعلم الصحن والملعقة والشوكة.
وأما علم السلف: فهو علم النجاة والنور والإيمان والاستقامة، وإذا أردت أن تلخصه فهو: الإيمان والحب والطموح.
ويوم وجد السلف كانت الدنيا مشرقة بنور العلم، ويوم أتى المتعمقون من الخلف أتت التشقيقات في الكلام حتى نسبوا إلى بعضهم أنه يتساءل ويسأل نفسه:
إذا خرجت سمكة من البحر، ثم صلت بالناس، ثم عادت، هل تجوز الصلاة وراء السمكة؟
هذه الافتراضات وغيرها هو ما نسمعه في هذه الجلسة.(180/2)
محاور الدرس
وهذا الدرس يدور على ست مسائل:
أولها: أصالة علم السلف؛ وهي الأصالة والعمق، وعلم الخلف؛ علم الكلام والمنطق وعلم الفلسفة.
المسألة الثانية: يُسر علم السلف، وصعوبة التحصيل عند الخلف.
المسألة الثالثة: علم السلف؛ علمٌ موجزٌ مختصرٌ غزيرٌ مبارك، وهذا في كتاب فضل علم السلف على علم الخلف لـ ابن رجب.
المسألة الرابعة: علم السلف علم مقاصد، وعلم الخلف علم وسائل.
المسألة الخامسة: علم السلف علم تطبيق وتأثر ونفع عام، وعلم الخلف علم جدلٍ وأمورٍ لا يكون لها دور في الواقع غالباً.
المسألة السادسة: علم السلف منضبط بأصول وقواعد كلية؛ وهذه من كلام ابن تيمية والشاطبي، وعلم الخلف مبعثر في جزئيات لا يكون تحت مظلة ولا قاعدة في الغالب.
قبل التفصيل سوف نعرج على أمور:(180/3)
أقوال نيرة في فضل علم السلف
سوف نسلم الليلة على ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه ليحدثنا كيف كانوا يتلقون عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونقف مع الإمام المرتضى سيف الله أبي الحسن علي بن أبي طالب، ومدرسته في الكوفة، وكيف ألقى أول دروسه في الكوفة في الرحبة؛ وهي عاصمة العراق آنذاك.
ثم قبل ذلك نستمع إلى أنس وهو يقرر لنا كيف كان الصحابة يتلقون العلم فيحفظون ويوجهون.
أما ابن عمر فهو يعترض على أهل الرأي، وينشئ مدرسة النقل، ويحارب العقل الذي يحارب النقل؛ لما يسأله السائل عند الجمرات: أرأيت لو فعلت كذا، أرأيت لو فعلت كذا، قال: اجعل (أرأيت) في اليمن.
ثم نأتي إلى الإمام أحمد ونتساءل لماذا كره الإمام أحمد تأليف الكتب؟! وتصنيف المصنفات؟! والتوسعة في الشروح؟!
حتى قال له سائل: أكتب رأي إسحاق بن راهويه وابن المبارك والأوزاعي؟
قال: لا، اكتب الحديث، وخذ من حيث أخذ القوم.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: كره الإمام أحمد تأليف الكتب.
ونتساءل معه: يا إمام أهل السنة! والجماعة، يا أبا عبد الله، يا أيها النور المشرق، يا أيها المجدد الكبير! لماذا ألفت أنت المسند وكرهت للناس أن يؤلفوا الكتب؟!!
هي وقفة مع الإمام أحمد.
أما الشاطبي فيقول في أول الموافقات: كتب المتقدمين أنفع من كتب المتأخرين، وهو يقول عن نفسه: أنا لا أقرأ في فقه المتأخرين.
حياك الله أيها الشاطبي من عقلية باهرة، توازن عقلية شيخ الإسلام ابن تيمية.
وفي الشاطبي هذا شيء عظيم؛ الشاطبي هذا صخرة الوادي:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت وإذا نطقت فإنني الجوزاء
ومن شاء أن يقرأ عمق الرجل، وأصالته وروعته وإبداعه فليقرأ الاعتصام والموافقات، كتابان اثنان.
قال رشيد رضا؛ الكاتب المتأخر، تلميذ محمد عبده؛ المتأخر المصري الإمام في التفسير قال: دخلت المكتبة في القاهرة فكم من كتب وقعت عيني عليها، فما رأيت بعد الكتاب والسنة إلا كتابين اثنين هما: الموافقات والاعتصام للشاطبي، فتذكرت قول الأول:
سامحن بالقليل من غير عذلٍ ربما أقنع القليل وأرضى
أو قول الآخر:
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل(180/4)
التعصب المذهبي والجهل بالحديث
وبعد ما انتهينا من الشاطبي، نأتي إلى التعصب المذهبي، ونسأل الذي كسر إصبع أخيه المسلم يوم أشار بها في الصلاة؛ لأنه لا يرى الإشارة بالسبابة في الصلاة؛ فكسر إصبعه: لماذا كسرت إصبعه؟!
ثم نسأل الحنابلة: لماذا يتضاربون بالأحذية في سوق بغداد من أجل التعصب المذهبي؟!
ونسأل كذلك الوزير الخادم مرجان العباسي يوم يقول: أنا مقصودي أن أقتلع المذهب الحنبلي.
ورد ابن الجوزي وابن هبيرة عليه.
ثم نسأل الذين يقولون: الرأي الصحيح ما ذهب إليه الأحناف، لكن ننتصر لمذهبنا رياضةً وتقليداً، لماذا والحق أحق أن يتبع؟
عدم معرفة بعض الفقهاء بعلم الحديث؛ أليست مصيبة!! نعاها ابن تيمية للمسلمين!
يأتي محدث فيقول في أول الكتاب، وهو في كتاب من كتبنا نحن الفقهاء، أو نحن أهل هذه البلاد: {أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم} وهو حديث موضوع.
فرحم الله ذاك العالم، هل سأل نفسه أن هذا حديث موضوع؟!
أو عالم آخر يأتي في كتاب الطهارة بأول حديث: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لـ ابن مسعود في ليلة الجن أمعك ماء؟ قال: معي نبيذٌ.
قال عليه الصلاة والسلام ثمرة طيبة وماء طهور} واستدل به هؤلاء في كتبهم، والحديث باطل من أصله، لم يكن ابن مسعود مع الرسول عليه الصلاة والسلام ليلة الجن.
ثم نأتي كذلك إلى عدم معرفة بعض المحدثين للفقه والاستنباط من الدليل، محدثٌ يروي حديثاً واحداً من أحد عشر طريقاً؛ حديث عائشة وهو في صحيح البخاري وصحيح مسلم: {كان صلى الله عليه وسلم يخرج لي رأسه من المسجد وأنا حائض، فأرجل رأسه} يُسْأَلُ هذا العالم فيقال له: هل يجوز للحائض أن تمس الرجل؟
قال: لا أدري؛ اسأل أبا حنيفة الذي يقول إنه يفهم علم الأولين وعلم الآخرين.
فذهب الرجل إلى أبي حنيفة فقال: نعم يجوز للحائض أن تمس الرجل، حدثنا الذي أرسلك عن فلان عن فلان عن عائشة أنها قالت: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج لي رأسه من المسجد فأرجله وأنا حائض} فانظر كيف خفي الاستنباط والمقايسة في المسائل على هذا المحدث، وظهر لذاك؛ مع العلم أن هذا بارع في الحديث وذاك بارع في الفقه، وهذا ليس له باع في الاستنباط وذاك ليس له باع في الحديث.
ثم مجلس مع أحد الخرافيين عند ابن تيمية في الإسكندرية ومع أخيه عبد الله وقد ادعى العلم، وسوف يندد به ابن تيمية وأخوه ويضحكان عليه في المجلس.(180/5)
أصالة علم السلف
أما أصالة علم السلف فهذا أمر كالشمس:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمدٍ وينكر الفم طعم الماء من سقم
السقيم هو الذي يقول: إن علم السلف ليس أصيلاً، والسقيم هو الذي لا يفهم علم السلف؛ أصالة علم السلف تأتي من الكتاب والسنة، يتوضأ الصحابة والتابعون ويجلسون في حلقات، ويحتبون بأيديهم على أرجلهم، ولا قلم، ولا دفتر، ولا مسطرة، ولا سبورة، ولا طباشير، ويبدءون يتساءلون قال الله وقال رسوله، ويقول مصنفهم ومؤلفهم:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فلان
ويقول الثاني من شعرائهم:
العلم ما قيل فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين(180/6)
كراهية افتراض المسائل والقول بالرأي
لا يفترضون المسائل التي لم تقع، ولكنهم يبحثون في الواقع.
وبعض الناس يسأل عن علمٍ، أو عن مسألة لم تقع، أو ربما لا تقع في مائة سنة، وهو يجهل الأمور التي تقع في كل أربع وعشرين ساعة.
جاء رجل إلى زيد بن ثابت فقال له: لو فعل رجل كذا وكذا فماذا عليه؟
قال: [[أوقعت هذه المسألة؟ قال: ما وقعت.
قال: اذهب إلى أهلك، فإذا وقعت فتعال فاسألنا فيها، لنتجشم لك الجواب]].
وبعض الناس من قلة الورع إذا عرضت عليه المسألة التي يتحرج منها، ابن عباس وابن تيمية وابن القيم طفر طفراً بالجواب أخطأ أم أصاب:
وليس بحاكم من ليس يخشى أأخطأ في الحكومة أم أصابا
قال هذا التابعي: [[لا إله إلا الله، تفتي في كل هذه المسائل؟ قال: نعم.
قال: والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتفتون في مسائل لو عرضت على عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر]].
ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يدخل الشام (سوريا) توقف في الطريق، قالوا: مالك يا أمير المؤمنين؟
قال: [[وقع طاعون في الشام فلا أدري أأدخل أم لا، أرى ألا أدخل.
قال: استفت الناس فأتى بالمهاجرين فجلسوا قال: أسمعتم من الرسول عليه الصلاة والسلام]].
هو لا يريد المشورة، هي ليست بيع غنم، ولا مساومة كشاة الأعرابي الذي عرض شاته في السوق فقيل: بكم شاتكم؟ قال: شاتي بسبعة، وأتى لي بثمانية، فإن كنت تريدها بتسعه فخذها بعشرة، وهذه المساومة لا تدخل في العلم.
فـ عمر لم يجمع المهاجرين ليقول لهم: ماذا ترون؟ ما هو رأيك يا علي! ويا عثمان! ويا أبا عبيدة؟ يريد كلاماً مفصلاً، وإلا فرأيه وعقليته أكبر من أن تحصى؛ هو عبقري على مستوى العالم، فهو الثاني في العظماء كما قال الأعداء:
والحق ما شهدت به الأعداء
[[أتى المهاجرون قالوا: ما سمعنا شيئاً، ونفضوا ثيابهم وخرجوا من المجلس.
قال: عليَّ بالأنصار فجلسوا فقال: أسمعتم شيئاً في الطاعون من الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قالوا: ما سمعنا شيئاً.
قال: قوموا، فنفضوا ثيابهم فقاموا.
قال: عليَّ بالأعراب وبقية المسلمين، فدخلوا، قال: أسمعتم شيئاً من المعصوم عليه الصلاة والسلام؟ قالوا: ما سمعنا شيئاً.
قال: قوموا]].
ولما أراد أن يدخل الشام على الصحيح، وإذا بـ عبد الرحمن بن عوف مقبلٌ كان أظلَّ جمله فتأخر يبحث عنه، فأقبل وقال: لماذا اجتمع المسلمون؟ قالوا: من أجل مسألة الطاعون.
قال: إن عندي فيها علماً، حياك الله يا ابن عوف! وحيا الله علمك.
[[قال عمر: ماذا سمعت من الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: سمعته يقول: {إذا وقع الطاعون بأرضٍ فلا تخرجوا منها، وإذا وقع في أرضٍ وأنتم خارجها فلا تدخلوا إليها} قال عمر: أنت عندنا العدل الثقة]] وهذا من أوائل التجريح والتعديل في الإسلام.(180/7)
العلم نقطة كثرها الجاهلون
كان السلف بأصالة علمهم؛ لا يبعثرون المسائل، علمهم قليل لكنه مفيد نافع، تسأله محاضرة كاملة عن سؤال فإذا انتهيت قال: نعم.
أو لا.
فإذا قلت: ما هو الدليل؟ قال: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم فعل كذا، وقال الرسول صلى الله عليه سلم كذا وكذا.
وعند السيوطي رسالة في أن العلم نقطة، قال علي رضي الله عنه وأرضاه: [[العلم نقطة كثرها الجاهلون]] العلم قليل كالجوهر والمسك:
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
الغزال دماؤه كثيرة توزن بالكيلو غرامات، لكن فيه غدة درقية يخرج منها المسك؛ فكلام الناس كدم الغزال، والمسك الذي فيه كالعلم.
ولذلك يقول حماد بن زيد: الحمد لله والشكر على كثرة العلم.
حماد بن زيد؛ من رجال البخاري ومسلم، اسمه حماد بن زيد بن درهم.
وحماد بن سلمة؛ من رجال مسلم لا من رجال البخاري.
ولذلك ترى ابن حبان ينزل نزولاً جوياً على البخاري ويقول: لماذا لا ترو عن حماد بن سلمة، والإمام أحمد يقول: لن تزيدنا الأيام في حماد بن سلمة إلا بصيرة.
ومعذرة فهذا الاستطراد لا بد منه، وهو من سير القوم!!.
اسمه: حماد بن زيد بن درهم، وحماد بن سلمة اسمه: حماد بن سلمة بن دينار.
قيل لأحد السلف: أيهما أفضل حماد بن زيد بن درهم أو حماد بن سلمة بن دينار؟
قال: الفضل بينهما كما بين جديهما في الصرف، الدينار عشرة دراهم فمن يفضل من الحمادين؟ حماد بن سلمة.
ذكر الذهبي في المجلد الثامن من سير أعلام النبلاء أن حماد بن سلمة تزوج سبعين امرأة، ولم ينجب ولداً؛ قالوا: لأنه من الأبدال والأبدال لا ينجبون.
وكان فيه تقوى من الله عزوجل، يقول الذهبي رحمه الله: كانت حياته معمورة بالطاعة، لا يحدث حديثاً واحداً حتى يقرأ مائة آية، وإذا جلس وحده جلس يسبح ويستغفر، وإذا مشى إلى المسجد لا يماشي أحداً من زملائه لئلا يشغلوه في الكلام.
قال حماد بن زيد ل أيوب بن أبي تميمة السختياني: كثر العلم.
وأيوب هذا علم في رأسه نار.
يقول الإمام مالك: ما كنت أظن في أهل العراق خيراً، حتى رأيت أيوب بن تميمة السختياني أتى يسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف.
كان أيوب بن أبي تميمة السختياني إذا نزل إلى السوق هلل الناس وكبروا حتى يرتج السوق؛ لأنه من الذين إذا رؤوا ذُكِرَ الله.
قال عنه ابن كثير والذهبي: إذا حدث بالحديث بكى فيمسح عينيه وأنفه ويقول: ما أشد الزكام؛ ليوهم الناس أنه مزكوم، قال ابن الجوزي معلقاً على القصة:
أفدي ظباء فلاةٍ ما عرفن بها مضغ الكلام ولا مزج الحواجيب
هذا البيت للمتنبي يقول: أفدى بروحي، وهو يفديهم بروحهم من لا يعرفون التكلف في الكلام ولا في العطاء.
أيوب هذا قال له حماد: كثر العلم يا أبا تميمة.
قال: لا والله ما كثر العلم، ولكن كثر الكلام وقل العلم.
قال ابن القيم في الفوائد معلقاً: فانظر إلى هذا الحبر، كيف فهم أن العلم قد قل وكثر الكلام.
أصالة علم السلف تنطلق من أمور؛ منها تحديد مسارهم في العلم، فهم ليس عندهم إلا آية وحديث؛ نحن عندنا علم سند، ومصطلح، وأصول فقه، وعلوم قرآن، وجغرافيا، وتاريخ، وتربية، وعلم نفس، فإذا خرج إنسان سُئِلَ في مسألة؟ قال: لا أدري، هل هي في كتاب عنترة بن شداد أو في كليلة ودمنة، أو في البخاري، أو في القرآن.
هذا علم الخلف؛ علم الخلف يدري أنه لا بد أن يشغل وقته وعمره في منتجات أسبانيا، ماذا تصدر من ككاو وأناناس؟ وما هي عاصمتها؟ وما هي المحاصيل فيها؟
هذا علم يبكي القلوب، كيف يصبر أهل الجغرافيا ولا يبكون في الفصل! نحن لا نزري بهم جزاهم الله خيراً فقد أفادونا وعلمونا أن عاصمة الكويت الكويت وتونس تونس، ولا نستهين بعلم أحد من البشر؛ فعلمهم مطلوب.
لكن المطلوب أن يكون المحور هو القرآن والسنة، وعلم التاريخ المتأخر علم جميل، سليمان فرنجية ما ندري متى ولد حتى أخبرونا في المذكرات، هذا اللبناني تولى الحكومة بعد صائب سلام، وولد في عام كذا وكذا، وهذا علم جليل شريف، وأخبرونا كذلك أن زنوبيا الزباء يأخذها من تدمر قبل الإسلام، فإذا مروا بالرسول صلى الله عليه وسلم مروا مرور السحاب.
الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ميلاده، هجرته من مكة إلى المدينة، بناته أربع، هذا رسول البشرية تتحدث عنه بهذا الكلام، معلم الإنسانية الذي يحتاج إلى مجلدات وجلسات ومصنفات تمر عليه فإذا أتيت إلى زنوبيا أخبرتنا بـ الأبرش ماذا فعل بها وماذا فعلت به، وحروب داحس والغبراء، وينتقلون عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي حتى يصلون إلى السلاجقة، ثم يدخل إلى هتلر والحرب العالمية، ومن يقرأ يجد بعض كتب التاريخ تتحدث في الحرب العالمية أكثر من حديثها عن الرسول صلى الله عليه وسلم وحياته.
فلا نعيب علماً حاشا وكلا، لكن العلم إذا لم يرتبط بقال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم فهو علم قِدْر أو علم طبخ (فن الطبخ) هذا أمر.(180/8)
علم الكلام هو من علم الخلف
علم الخلف في أصالته ليس كعلم السلف لأنه كثر كما قلت.
قال ابن تيمية: إن الله لن يغفل عن المأمون لما أدخل في بلاد المسلمين من علم الكلام، فنحن في غنية عن علم الكلام.
أتى التتار وهاجموا بلاد المسلمين واجتاحوها فما أتلفوا لنا كتاباً.
الآن القوميون والوطنيون والترابيون يقولون: ذهب تراثنا، في نهري دجلة والفرات.
مقصودهم حتى يقال للسنة: إنها ناقصة، وإن كتب الإسلام ذهبت.
والصحيح عند المؤرخين أنه ما ذهب علينا إلا علم الكلام، انسحق في النهر، أما كتب السنة فالحمد لله موجودة، المعاجم، والصحاح, والمسانيد، والسنن، وعلم الرجال، وعلم الفقه والتفسير كلها موجودة في المكتبات.
حتى الآن اكتشف لـ ابن تيمية تفسير في بون في ألمانيا خمس مائة مجلد، فلك الحمد يا ربي ولك الشكر {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] والذكر إذا حفظ فلا يستطيع التتار ولا الأمريكان ولا الإنجليز هَدْمَة ولا إهداره ولا إحراقه، أما القوميون فيقولون ذهب، حتى إن بعضهم يقول: ما بقي من السنة إلا العشر، يا ويلك من الله! أليس الله عزوجل قد تكفل بحفظها، وما هي المخطوطات لا زالت ترد الآن وتفد وتحقق في الأسواق لكن من يقرأ.
علم الخلف علم المنطق، وهذا ذهب به المأمون فقال: من ترجم كتاباً وزنت له وزنه ذهباً، فما أمكنه الله عزوجل بل تصدى له الإمام أحمد وأحمد بن نصر الخزاعي، وهذا المشرب الصافي الثجاج، مشرب أهل السنة والجماعة ترد بدعته، وانتصرت السنة فيما بعد، وهذا له حديث خاص يعادل درس (حرب طاحنة بين السنة والبدعة) بالأمس.
أما الفلسفة فانتشرت، وهي التي دخلت بالعقل وقدمته على النقل، فأتوا يئولون الصفات، وأدخلوا علم الكلام في التوحيد، ولذلك تجد بعض الناس يرى أن علم التوحيد هو علم الكلام، حتى صاحب الطحاوية رحمه الله رحمة واسعة لما أراد أن يدخل في التوحيد دخل بعلم الكلام.
علم التوحيد علم قال الله وقال رسوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] تكفي، ما يأتي بعلم المتأخرين ثم الردود عليهم، لا خارج العالم ولا داخله، ولا متصل ولا منفصل، ولا جوهر ولا عرض.
صحيح أن في الرد عليهم كما فعل ابن تيمية فائدة، أما تدريس أبناء المسلمين فلا يدرس علم الكلام.(180/9)
يسر علم السلف
الثانية: يُسر علم السلف.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] الآن صعبوا علينا العلم، الإنسان منا يدرس أربع عشرة سنة أو ست عشرة سنة أو عشرين سنة فإذا تخرج قال له الأستاذة والدكاترة: إن العلم لا زال بينك وبينه مراحل، أنت الآن أعطيت مفاتيح العلم؛ لكن لا بد أن تحضر الماجستير، ثم بعد الماجستير الدكتوراه، ثم تحصل بحثاً وتحققه، ثم تقابل بين المخطوطات لأنك الآن ما تحقق النص تحقيقاً كما في الأصل، وطبعة بولاق، وطبعة دار الشروق وضاعت الأمة.(180/10)
عدم التكلف والالتزام بالشرع
الصحابة يتعلمون عشر سور فيذهبون في البوادي فيحي الله بهم أمماً وشعوباً وأجيالاً.
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
أتطلبون من المختار معجزةً يكفيه شعبٌ من الأموات أحياهُ
يقول البراء بن عازب: [[أرسلني صلى الله عليه وسلم داعية إلى غدير الخضمات لأعلم الناس، وأنا أحفظ من سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] إلى سورة الناس]].
لكن الآن الطفل الذي يلعب الكرة ولا يصلي العصر في الشارع يحفظ خمسة عشر جزءاً، والسر؟ أن الإمام مالك روى في كتابه الموطأ عن ابن مسعود، قال: [[إنكم في زمانٍ كثيرٌ فقهاؤه قليلٌ خطباؤه، كثيرٌ من يعطي، قليلٌ من يسأل، وسوف يأتي زمان كثير خطباؤه قليل فقهاؤه، كثير من يسأل قليل من يعطي يحفظون حروف القرآن ويضيعون حدوده]].
الصحابة يوم أرسلهم صلى الله عليه وسلم دعاةً ومعلمين كان عندهم شيء قليل؛ لكن بارك الله فيه بالإخلاص، بقيام الليل، بكثرة الدعاء، بالابتهال.
أرسل صلى الله عليه س وسلم معاذاً إلى اليمن فكان معه كما في المسند ما يقارب مائة وثلاثين حديثاً، وأرسله وهو شاب فجعله صلى الله عليه وسلم قاضياً من القضاة الكبار، وما درسه حتى يأخذ الماجستير والدكتوراه.(180/11)
عظم المصطلحات وقلة العلم عند الخلف
الدكتوراه كلمة نمساويةمعناها (كبير التوراة) (دك) كبير، (توراة) التوراة؛ وهي لغة يهودية صهيونية عالمية، تعني أكبر الناس في التوراة، أو عالم التوراة، ثم نقلت إلى الشرق الأوسط فأصبح إذا تشرف الشيخ الذي يقرأ البخاري ومسلم لا يتشرف حتى يقول: يا دكتور، يا كبير أهل التوراة، هذه كلمة ولكن تحتاج إلى عراك ليسمى الإنسان عندنا بالأسماء الشرعية، إما حافظ، أو إمام، أو شيخ، أو مخرف على هذه التسميات كما فعل السلف الصالح يسمون العالم عالماً، وإماماً، وشيخ الإسلام، والحافظ، والعلامة، وطالب علم، وداعية، ويسمون يعقوب بن الوليد المدني صاحب الحديث الذي في الدارقطني الحديث الموضوع: {أول الوقت رحمة الله، وأوسطه عفو الله، وآخره رضوان الله} قال الإمام أحمد: في سنده يعقوب بن الوليد أحد الكذابين الكبار، وقال أبو حاتم: جبل من جبال الكذب، أول ما تسمع كلمة جبل تهتز ثم يقول: من جبال الكذب، هذا أمر بارك الله فيكم ينبغي أن ينبه إليه.
فيسر علم السلف هو الذي هدانا إلى هذا الكلام، ولذلك ترى بعض الناس يهوش ويشوش على الطلبة لفصلهم عن العامة، وهي خطة ماسونية، فإذا قيل لطالب العلم من الشريعة وأصول الدين: فلان! علِّم العوام في هذه القرية الفاتحة والوضوء والصلاة، تكبر ورفض وقال: أنا أعلمهم الوضوء! يبحثون عن أمثالهم، أنا لا أعلِّم إلا أسساً منطقية في العلم، ديكتاتورية الدعوة، من أين تنطلق! ومن أين تنبثق! وما هي الأطر التي تنصهر فيها، والبوتقة التي تنصب فيها! فهذه بارك الله فيكم خطة الماسونية، وقد قرأت مذكرات يقولون: إن من الخطط الماسونية التي قدمت إلى الشرق أن يؤتى بطلبة العلم فيعجبون بأنفسهم، أو يرفعون عن طبقة العامة، لو ذهب إنسان للغرب إلى بريطانيا وفرنسا وأمريكا أعطي رسالة ماجستير ودكتوراه، فإذا دخل عندنا هنا قالوا: حضر في بريطانيا رسالة الدكتوراه؛ سبحان الله في بريطانيا، فتأتي تسأله فلا يعرف الفاتحة، ولا يعرف {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] ولا يعرف {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ولا حديثاًَ واحداً من صحيح البخاري، وأين النظارات يا شيخ، وأين هذه الأبهة، وأين الكنبات، وأين الرحلة والتذكرة والذهاب والإياب، قال: تعلمت العلم في أمريكا وفي بريطانيا، هم بأنفسهم في منشوراتهم لا يعترفون بهذه الرسائل، فخذوها قاعدة، وهي أن الأمريكان لا يعترفون بالدكتوراه ولا بالماجستير، علماؤهم في جامعاتهم ما عندهم إلا شهادات مبدئية، ولكن هم أساطينهم.
أما عندنا فأصبح الأمر بالعكس فيقال: دكتور يعلم العجائز الفاتحة، دكتور يذهب يعلم الناس الغسل من الجنابة، لا لكن الدكتور له محاضرات خاصة، لما توفي الخليل بن أحمد الفراهيدي، وكان من أذكياء العالم، وهو من الزهاد العباد الكبار، وكان يدخل عليه ابنه وهو يقول: تن تن، تن تن، تن تن، فذهب الولد إلى أمه وقال: جُنَّ أبي، أصابه الصرع، وقد ذهب عقله، قال الخليل بن أحمد:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعلمت أنك جاهلٌ فعذرتكا
دخل المسجد وهو يفكر في مسألة قال: لأضعن كتاباً في الحساب تذهب الجارية إلى البقال فلا يظلمها بدرهم، فاصطدم بالسارية فكان الخطأ منه فمات؛ رئي في المنام قالوا ما فعل الله بك؟ قال: ما نفعني علم العروض ولو مثقال ذرة، ولكن أدخلني الجنة لأني كنت أعلم عجائز في قريتنا سورة الفاتحة.
عجائز يستدعيهن في الصباح مع إطلالة الفجر، فيبدأ يا خاله! اقرأي بسم الله الرحمن الرحيم، يا عمَّه قولي الحمد لله رب العالمين، فأدخله الله الجنة بهذا، أما علم العروض فسواءً وضع بحوراً أو لم يضع فـ أهل السنة هم أهل السنة، والسماء هي السماء، والأرض هي الأرض:
الليل ليل والنهار نهار والأرض فيها الشمس والأقمار(180/12)
علم السلف علم مقاصد وعلم غيرهم علم وسائل
هذا يسر علم السلف وصعوبة علم الخلف.
الآن تعال إذا أردت أن تدرس الحديث، تحتاج إلى أن تعرف الغريب في الحديث، مثلاً في البخاري في باب السترة يقول النبي {كمؤخرة الرحل} فتبحث عن معنى مؤخرة الرحل؟ يوماً ونصف أوثلاثة أيام، ثم تأتي إلى رجل فلا تدري هو ضعيف أم صحيح، فتبحث عنه، ثم تأتي بالحديث ثم طرق الحديث ومن رواه غيره ثم شرح الحديث، ولا بد لشارح الحديث من أصول فقه، ثم الآيات ولا بد للآيات من تفسير وعلم قرآن، وهكذا.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين: فنأتي إلى النصوص بأفكار كالة.
ويعجبني الغزالي في بعض نظراته، وأنتم كذلك يعجبكم إحياء علوم الدين، يقول: مثلاً الذي يتكلف الوسائل في العلم، يعيش دائماً مع الوسائل، مصطلح حديث دائماً، ما وصل النص أبداً ولا وصل إلى المتن، يصل إلى أبي هريرة ويرجع، يصل إلى ابن مسعود ويعود، دائماً في المعضل والمنقطع والمعلق حياته هي علم وسائل.
قال الغزالي: مثل الذي يشتغل بالوسائل عن المقاصد كمثل رجلٍ ذهب يحج إلى البيت الحرام؛ فلما أصبح في الطريق لدغته عقرب، فأخذ العقرب فقتلها قال: ليته ذهب إلى الحج وانتهى، لكن أتى إلى الصخرة فقلع كل صخرة وأخذ يقتل الحيات والعقارب، فحج الناس وعادوا فقيل مالك؟! قال: لدغتني عقرب فأنا أقتل هذه العقارب والحيات.
قال: فهذا مثل إنسان اشتغل في الوسائل، مطلوب من الوسائل إصلاح اللفظ في اللغة من النحو، ومعرفة علوم الحديث، لتصل إلى قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، البعض يبقى عشرين سنة يدرس أصول الفقه، ويشغل كل حياته ووقته فيه، ولا يصل إلى القرآن والحديث، وهذا عيب فأصول الفقه وسيلة يفهم بها الكتاب والسنة.(180/13)
علم السلف مختصر مبارك
علم السلف علم موجز مختصر غزير مبارك، وعلم الخلف كثير متشعب لا ينطوي تحت مظلة.
تعال معي إلى النص من الرسول صلى الله عليه وسلم، في مسألة ناقشها السلف الصالح أعرضها للفائدة، في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الماء من الماء} أي لا يغتسل الجنب إلا إذا أنزل منياً، فلا يجب الغسل بالماء إلا إذا أنزل ماءً، وبهذا أفتى كثير من السلف، حتى جاء الناسخ من حديث أبي هريرة {إذا جلس بين شعبها الأربع فقد وجب الغسل} وهذا نسخ اتفق عليه الناس.
أتى المتأخرون؛ فأتوا تكلموا عن الماء، ومصدر الماء، ومن أين أتى الماء؛ ولماذا نسخ هذا الحديث، ثم تكلموا في الحديث الآخر، ثم أتى صاحب المتن فكتب شرحاً وحاشية على الشرح، وأتى الثاني فاختصر الحاشية، فلما اختصره في مختصر المسألة شرحها الآخر، ثم اختصرها الذي بعده هذه الحواشي فيها خير، أنا لا أقول هذا الكلام من كيسي، يقول الشاطبي رحمه الله رحمة واسعة: أنا لا أقرأ إلا للمتقدمين -القرن الرابع، الثالث، الثاني، الأول، أما من يأخذ الفقه الآن مثل هذا القرن فإنه يسير في مسائل وارتباكات إلا في مسائل جديدة لم يخضها السلف؛ مثل مسألة الصرافة، البنوك الربويه، السفر إلى الخارج، طفل الأنبوب؛ هذه مسائل تؤخذ من الخلف أما المسائل المؤصلة التي بحثها السلف فخذها من السلف.
أقول: علم السلف علم موجز مختصر غزير، ولكن علم الخلف كثرة الكلام، تجد بعض كتب الفقه مجلد كامل وتبحث فيه فلا تجد آية ولا حديثاً، ولكن تجد قال أصحابنا الخراسانيون، وقال فلان من أصحابنا المتأخرين، ورد عليهم المتقدمون، وقال خصومنا، قال خصومنا ورددنا عليهم، هذه الكتب تحتاج إلى دليل وإلى اختصار لتكون مباركة.
وهذه الجلسة مفتوحة لطلبة العلم لمن أراد أن يناقش، أو يرد، أو يحاور؛ لأن المجلس عندنا شورى.(180/14)
علم المقاصد ثلاثة: تفسير وفقه وحديث
والمسألة الرابعة: علم السلف علم مقاصد، وعلمنا علم وسائل.
علم السلف يدور على ثلاثة فنون:
علم التفسير والفقه والحديث، ولو كان يطاع لقصير أمر، لما كان في الكليات وفي المعاهد إلا علم التفسير والفقه والحديث، لكن توضع للتفسير محاضرة، وتوضع للثقافة محاضرتان، وللتربية ثلاث، ولعلم النفس محاضرتان، ونحن لا نقول تلغى، لكن العلم هو التفسير، والحديث والفقه، فهذه ثلاثة علوم تدار حولها العلوم، فإشغال الطالب بتسع مواد أوعشر يجعله يأتي فاتر البال، كالَّ الذهن، يذاكر في الامتحانات لأجل الاختبار؛ فيبدأ يخطط تحت كل كلمة ثلاثة خطوط، وينعس فإذا أتى الصباح امتحن وسلم الورقة وخرج، فلا وصل إلى تفسير ابن كثير، ولا إلى كتب ابن تيمية، ولا إلى البخاري.
علم السلف يدور حول ثلاثة علوم؛ علم التفسير وعلم الفقه وعلم الحديث.(180/15)
البخاري وعلم المقاصد
يقول ابن حجر: العلوم أصولها: تفسيرٌ وفقهٌ وحديث، والبخاري ضرب في كل علم بسهم.
فهو يبدأ معك في التفسير، فيصدر الكتاب بآية ثم يفسر الغريب فيها ثم يأتي بالحديث، وهذا هو علم المسلمين، فحبذا أن يكون طالب العلم يومه ونهاره حول هذه الثلاثة العلوم، أو يكون له ثلاثة أيام من الدهر يوم التفسير يبحث فيه كتب التفسير، ويوم الفقه يعيش مع الفقهاء، ويوم الحديث يعيش مع المحدثين؛ لأن أصالة المسلمين في المحدثين والفقهاء والمفسرين، أما البقية فعلم وسائل تندرج تحتها، وإن قصرت فيها فتعذر، غير أنك لا تعذر حين تقصر في التفسير والفقه والحديث، هذه وصية ونصيحة وتجربة.
إن على طالب العلم أن يركز على هذه المقاصد، التوحيد يدخل في الفقه والتفسير، وهو ليس علماً مستقلاً، ما أكثر التشقيق والتقعر في مسألة التوحيد! حتى أن الذهبي كان يلوم الذين يزيدون على النصوص، ففي نصٍ رواه أحد العلماء يقول: الله ربنا مستوٍ على العرش، وزاد بعضهم وقال: بذاته، قال الذهبي: قلت: هذه من كيس عفان والسلام، من أين أتى بذاته، التوحيد يمرُّه السلف كما جاء خاصة الأسماء والصفات معتقدهم أن يثبتون روح النص، ولذلك لاموا ابن حزم الظاهري رحمه الله في أول المحلى يوم أتى إلى التوحيد فشرح، وأتى يستنبط، وأتى إلى الفرعيات فجمد على الظاهر ونفى القياس، قالوا: سال في موضع الجمود وجمد في موضع السيلان.(180/16)
علم التوحيد داخل في علم المقاصد
فعلم التوحيد يؤخذ من الحديث والفقه والتفسير، فإذا قيل لك: الرحمن هل استوى؟ فلا تقل: قال فارابي، ورد عليه ابن سينا، فهذا علم القِدر، بل قل: قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {ينزل ربنا إلى سماء الدنيا} نزولاً يليق بجلاله.
هل لربنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يد؟ تجيب بالآية وبالحديث.
هل يعجب ربنا من شيء؟ نعم، لقوله صلى الله عليه وسلم في جامع الترمذي: {يعجب ربك من العبد إذا قال: اللهم اغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت}.
كثرت الوسائل في علم الخلف وقد أسلفت هذا، وكثر الكلام حتى كثرت الكتب على طلبة العلم، وأصبح الواحد منهم في بيته من الكتب والمجلات والجرائد والمصنفات ما الله به عليم، فإذا سألت فبعضهم عرف عنوان الكتاب، ومن ألفه، ومن حققه، لكنك إذا دخلت به في الصفحات الأولى لا يعرف شيئاً.
والعلم ليس بكثرة الكتب، ولا بكثرة الرواية، بعض طلبة العلم عنده عشرات الكتب لكنه قرأها، وأخرج كنوزها، وفجر أنهارها، وأنبت أشجارها، وفهمها، وحفظها، فهو العالم حقاً.
وبعض طلبة العلم عنده مجالس ومجالس من الكتب لكنه:
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع
وهذا نشكو حالنا إلى الله من كثرة الإعياء، وكثرة ما ورد في الساعة عند المسلمين مع قلة الجودة في العطاء.(180/17)
علم السلف تطبيق وعمل
المسألة الخامسة: علم السلف تطبيق وتأثر وخشوع وخشية ونفع عام.
يطلبون العلم لوجه الله، ويطلبون العلم الواقع، ولا يشتغلون بعلمٍ لم يقع، كأن يقال مثلاً: لو قال رجلٌ لامرأته لو طرت فأنت طالق، فطارت فطلقت، أو لو سافرت امرأة من قبرص إلى إندونيسيا في الجو فوقعت في البحر، وقال لها زوجها إن وقعت في البحر فأنت طالق: على أو قال إن أتت الخالة وماتت قبل الجدة، هذه الأمور قد تقع لكن نسبية، حتى قالوا: إن بعض مسائل الفرائض ما وقعت في كل تاريخ الإسلام.
اشتغالنا بمسائل كهذه عن مسائل تهمنا في كل يوم وليلة عبث.
علم السلف كان علم تطبيق، عند الدارمي أن رجلاً أتى عمر رضي الله عنه بـ صبيغ من المبتدعة، فقال: أنت الذي تعارض الآيات، قال: أريد أن أشرب.
قال: تعال، فضربه بجريد النخل حتى أدماه، وأغمي عليه, ورش بالماء فاستفاق، فضربه حتى أدماه، فرش فلما استفاق قال: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد شفائي فقد شفيت والحمد لله، فـ عمر رضي الله عنه كان يعارض هذه المسائل التي تشغل بها الأذهان ثم لا يكون لها دور.
كان يجتمع طلبة بعد صلاة العشاء، ولو اجتمعوا على صحيح البخاري أو على صحيح مسلم أو على تفسير ابن كثير، وقرأ أحدهم، وناقشوا بهدوء دون أن يخرج النقاش إلى جدل؛ لكان من أحسن ما يكون، لكن اجتمعوا بعد صلاة العشاء فقال أحدهم: الأرض تدور.
قال الثاني: لا تدور الأرض.
ثم أخذوا في حوار، ثم تضاربوا بالأحذية، ثم خرجوا وهم متضاربون.
يأتي طالبٌ يعرف أنه لا يحفظ إلا القليل من القرآن، فيقول أهل الفترة هل هم في الجنة أم في النار؟ فتقول أنت: في الجنة.
قال: لا في النار، هو متجهز لأن يعاكسك، إن قلت: في النار، قال: في الجنة.
وإن قلت في الجنة، قال: في النار.
أطفال المشركين للعلماء فيهم ثلاثة أقوال، قال: لا أربعة أقوال، فإذا قلت: قولين، قال: ثلاثة.
فهذا معناه الجدل؛ والجدل هذا ما رغبه الصحابة أبداً، وكانوا يغضبون منه، وفيه حديث حسن: {ما ضل قومٌ بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل} أي كثرة المجادلة والمخاصمة على أشياء لا تقع في الساحة، أو على تعلق بأشخاص.
فتأتي إلى المجلس، وأحدهم يقول: فلان فيه كيت وكيت، قالوا: لا، فلان إمام حافظ علامة.
والله لا يسألنا عن الناس؛ إنما يسألنا عن أنفسنا.(180/18)
انضباط علم السلف بقواعد كلية
المسألة السادسة: علم السلف منضبط بأصول وقواعد كلية تجمع جزئيات العلم، وعلم الخلف كثرت جزئياته على حساب كلياته.
السلف يتكلمون بالمسائل وعندهم أصول لها، وقواعد تضبطها؛ وهي من اللغة ومن القرآن والسنة، أما نحن إلا ما رحم الله فنتكلم على جزئيات ليس لها أصل يجمعها ولا كليات، ولذلك فميزة علم ابن تيمية والشاطبي الكليات، والعيب عند بعض الناس من المتفقهة أن عندهم الجزئيات لكن ليس عندهم كليات، هذا أمر.
وأما علم الخلف جزئياته على حساب كلياته كثرت لكن ليس لها كلية تندرج فيها.
قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه فيما صح عنه: [[كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نجاوزهن حتى نتعلم ما فيهن من العلم والعمل، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً]] ولذلك يقول سيد قطب رحمه الله: كانوا يأخذون القرآن على أنه أحكام تكليفية، وأوامر ربانية تنفذ يوماً بيوم، ثم أخذه من بعدهم كأنه كتب سمر ومتعة وقصص، يسمر الإنسان ليرى في القرآن بعض العجائب، وسوف يمر بك في القرآن الأدب واللغة والإبداع والجمال والإشراق، ولكن مقصد القرآن أن يهديك إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ ولذلك يقول أحد أهل العلم: أخطأ من جعل القرآن كتاب طب، فليس بكتاب طب، وليس بكتاب هندسة؛ أتدرون أن أحد الناس كتب تفسيراً وقال: في القرآن دليل أن زوايا المثلث منفرجة، قالوا: من أين أخذت هذا؟ قال: من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:30 - 31] وقال الخط المستقيم هو أقرب خط يصل بين نقطتين، قالوا: من أين أخذته؟ قال: من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6].
وأخطأ من جعل القرآن كتاب جغرافيا، في القرآن تضاريس، ذكر جبال وأودية وسهول لكن لم ينزل ليكون جغرافيا.
والقرآن ليس كتاب تاريخ، فيه تاريخ، لكنه نزل ليكون كتاب هداية للناس أجمعين.
قال ابن مسعود: [[كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نجاوزهن حتى نعمل بما فيها من العلم والعمل جميعاً]].(180/19)
وسائل الحفظ
يقول ابن هبيرة الوزير رحمه الله: العلم يحفظ بثلاثة أمور:
بالتطبيق وهو العمل به؛ إذا أردت أن تحفظ حديث الأذكار فاعمل به وكذلك أحاديث الآداب والسلوك.
المسألة الثانية يحفظ بالتأليف: أن تؤلف وتحقق مسائل وتحرر وتكتب، قال يحيى بن معين: لو لم نكتب الحديث خمسين مرة ما عرفنا من أين أصله.
المسألة الثالثة: بالتدريس؛ فإذا أردت أن تثبت المعلومات في ذهنك فإذا ذهبت في الأربعاء والخميس والجمعة إلى قريتك فكن علامة الزمان في قريتك، كن ابن تيمية، تأتيهم وتعلمهم بين المغرب والعشاء، وتأخذها فرصة منَّ الله بها عليك فتفقههم في الدين، وسوف يبارك الله في علمك، وتعود وأنت في زيادة خير ونماء.
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا
فبادره وخذ بالجد فيه فإن أعطاكه الله انتفعتا
وإن أعطيت فيه طول باعٍ وقال الناس إنك قد رأستا
فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخ علمت فهل عملتا
وهذا من التطبيق الذي يثبت به العلم.
يقول علي رضي الله عنه وأرضاه فيما صح عنه: [[يا طلبة العلم! اعملوا بعلمكم؛ فإن العالم من عمل بعلمه]] ليس في العلم قليل إذا عمل به، وليس في العلم بركة وكثرة إذا لم يعمل به، فالعلم مع البركة والإخلاص والخشوع والدعاء والذكر والإنابة كثير مبارك، ولا تسمع إلى أقوال المستشرقين: إن العلم ينبغي أن يكثر؛ لأن هذا ثقافة، إنما العلم المؤصل ولو كان قليلاً فإنه مبارك.
يقول أنس: [[كان الواحد منا إذا حفظ سورة البقرة وآل عمران جَدَّ فينا]] أي نبل وشرف، وكثير من الأطفال والشباب يحفظون القرآن كاملاً، أو ثلثي القرآن، أو نصفه، وليس عنده بركة؛ لأنه لم يعمل بهذا القرآن، فبركة العلم العمل به يا أيها الأبرار الأخيار.(180/20)
تفريع المسائل على حساب الرأي
ثم مسألة تفريع المسائل على حساب الرأي.
ألقى أحد الأساتذة درساً في الحديث؛ فلما انتهى من درس الحديث كان طالب يحب الفلسفة ويحب كتبها، يذاكر دائماً في الفلسفة، وفي كتب الثقافة، لا يعرف النصوص ولا يحبها كثيراً، فلما انتهى قال: يا أستاذ أتسمح لي أن أفلسف الدرس للطلبة؟ قال: لا دعنا منك ومن فلسفتك ومن علم ابن سينا.
فانظر كيف استحب هذا الطالب أن يفلسف الدرس، والدرس لا يحتاج إلى فلسفة، الحديث حديث، والتفسير تفسير، والفقه فقه فكيف يفلسف للطلاب؟! لأنه من يعش على كتب الفلسفة والإرتيائيين يحب هذا المنحى، بعض الطلبة إذا أصبح قال: ما عنده إلا رواه البخاري، رواه مسلم، رواه أبو داود، رواه أحمد، وهل العلم إلا هؤلاء؟ وهل العلماء إلا هؤلاء؟! وهل الدعاة إلا هؤلاء؟! فيعرف هذا.
وهي مسألة: اجعل أرأيت في اليمن، يقولها ابن عمر، وجعلت منهجاً لتقديم النقل على العقل، اجعل أرأيت في اليمن.
ومسألة: قالوا فإن قالوا قلنا، كثير من المتفقهة في كتبهم يقولون: (فإن قالوا قلنا) وهذه افتراضات وتوليدات المسائل تنفع لتفتيق الذهن وإيجاد ملكة، لكنها تستهلك الوقت، وتعدم الذكاء في مسائل ينبغي أن تفهم، فعليك أن لا تسلط على ذهنك كثيراً في مسألة: فإن قالوا قلنا إلا أن تمر مروراً عابراً، ثم تجعل ذكاءك وفطنتك ولموعك وإشراقك في قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.(180/21)
كراهة تأليف الكتب عند بعض المتقدمين
صح عن الإمام أحمد أنه كره تأليف الكتب، فقد نقل عنه ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين.
فـ المسند؛ قالوا: المسند جمعه وما ألفه لأنه حديث نبوي، والتأليف من قبل النفس فما ألف شيئاً، ولذلك ما كان يزيد كلامه على النص، كان يأتي ويقول: حدثنا هشيم حدثنا فلان عن فلان عن أبي هريرة ويسوق الحديث ثم يسكت عنه.
سُئِل أن يؤلف كتاباً، قالوا: فرفض أن يؤلف شيئاً، وكان يغضب إذا رأى التلاميذ يكتبون عنده، قال: خذوا من حيث أخذنا، العلم آية وحديث، قال له أحد التلاميذ: أأكتب رأي ابن المبارك؟ قال: لا، خذ من حيث أخذ ابن المبارك.
فما أسهل هذا العلم والله، يوم تشعر أن المصحف في بيتك والحديث، ثم يكون عندك قليل من النحو واللغة ومعرفة الناسخ والمنسوخ أو مثل هذه الأمور الجزئية، وهي لطيفة لا تهول على العقل، ثم تأتي إلى الحديث والقرآن تتعامل معهما، كيف يكون عندك ملكة ويصحو عقلك على قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فصح عن الإمام أحمد أنه نهى عن تأليف الكتب وكره ذلك، لكن كلٌ يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب ذاك القبر.
والكتب من أحسن ما يقتنى في البيوت، وتأليفها من أشرف الأعمال، قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: أخطأ بعض الزهاد من العباد يوم أتوا إلى كتبهم فأمروا بإحراقها عند الموت، أو أغرقوها، أو دفنوها.
والكتب من أعظم ما يذكر، لكن كتب وكتب، بعض الكتب تستحق أن تشب بها في النار، وبعضها لا تساوي الحبر الذي كتبت به، وبعضها لو بيعت العيون، أو مقل القلوب، أو قطع القلوب وشجا الروح فيها ما وزنتها:
كتاب البخاري لو أنصفوه لما خط إلا بماء الذهب
أسانيده كنجوم السماء أمام متونٍ لها كالشهب
ذكر ابن تيمية أن أحد العلماء ألف أكثر من ألف تأليف، ولكن أيهما أشهر هو أو الإمام أحمد؟ الإمام أحمد في الجلسات، وعلى المنابر، وفي الدروس الإمام أحمد بن حنبل؛ لأن علمه أصيل.(180/22)
كتب المتقدمين خير من كتب المتأخرين
أنا ذكرت أن الشاطبي ينعى كتب المتأخرين، وأنها لا فائدة فيها في الغالب، وأن كتب المتقدمين أفيد خاصة القرن الثالث والرابع وما قبلهما.
وصدق رحمه الله، فإنه كلما تقدم العلم كان أحسن، وكلما تأخر كان أسوء، ولذلك من يؤلِّف في الغالب في هذا القرن بالفقه أضعف وأسقم من الذي يؤلِّف قبله إلا في مسائل ما وقعت فيمن قبلهم، ومن قبل فيمن قبل أضعف، وهكذا حتى تنتهي إلى التابعين ثم الصحابة؛ لحديث: {خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم} والفضل هنا فضل مطلق، وبركة مطلقة في التأليف، والعلم، والتدريس، والدعوة، والتوجيه, والزهد، والعبادة.
التعصب المذهبي تخلف ونقص، وجد في الناس من يقول: لا تهاجموا المذاهب، ونحن نقول: رحم الله أهل المذاهب، وأصحاب المذاهب، ومن سار مع المذاهب، ومن جلس مع أهل المذاهب من المسلمين، وأكل مع أهل المذاهب، وشرب معهم.
والآخرون يقولون: المذاهب لا بد أن تقصى من الساحة، وأن تجتث وتبعد، وأن يرمى بها في البحر الأحمر.
والناس كأنهم ثلاثة، طرفان ووسط:
طرف يقولون: لا نحتاج إلى المذاهب، ولا إلى كتب الفقه أبداً، نأخذ من حيث أخذ القوم من الدليل والحديث؛ وهذا فيه حقٌ وشيءٌ من النقص.
وطائفة أخرى تقول: لا بد أن يحترم كلام العلماء، وفقه العلماء، ومصنفات العلماء الفقهاء، وهذه المتون الفقهية هي الأصل؛ لأنهم عرفوا من أين يستنبطون، فلا بد أن نأخذ منهم، ونقلدهم، أما نحن فلا نستطيع أن نأخذ من حيث أخذوا؛ وهذا الكلام فيه حق ونقص.
أما حق الكلام الأول، فحقه أنه ردنا إلى النص وإلى قال الله وقال رسوله، وصدق، ف أبو حنيفة والإمام أحمد ومالك والشافعي ليسوا بأنبياء، خاتم الأنبياء هو محمد عليه الصلاة والسلام وهو المعصوم الذي أنزل عليه القرآن، لم ينزل جبريل على أبي حنيفة ولا على أحمد ولا الأوزاعي ولا مالك ولا الشافعي، فالمعصوم الذي يؤخذ منه العلم والوحي هو محمد صلى الله عليه وسلم.
فحقه أن يقال: لا بد من الدليل في المسألة، وأنت لا تتأخر يوماً من الأيام إذا سألت عالماً أن تقول: ما هو دليلك؟ الإمام أحمد أزهد منا، وأصدق منا، وأخلص منا، وفكره أثقب من أفكارنا، فهو يستنبط درراً وكنوزاً، لأن بعض الناس ينزل إلى قاع البحر فيأخذ خشباً وفحماً، وبعضهم إذا غاص أتى بدرٍ وزبرجدٍ وجوهر، فالإمام أحمد إذا غاص أتى بهذا اللموع والإشراق ومثله مالك والأوزاعي والثوري وفقهاء التابعين.
فهذا نقصه: الاستزراء بعلم السلف، فإنهم يجب أن توقر أقوالهم، لكن إذا خالف الدليل فاتركه جملةً وتفصيلاً، واضرب به عرض الحائط كما قالوا.
أما الذين يقولون: كتب الفقه لا بد أن تسيطر في الساحة، وأن يؤخذ منها، ولا يؤخذ من الدليل لأنا لا نعرف الاستنباط من الكتاب والسنة، ويحترم أقوال العلماء.
نقول: الحق احترام كلام العلماء، والنقص أن تجعلوا كتب الفقه كـ صحيح البخاري ومسلم كتب ألفها بشر، ليس عليها دليل، لكن نسألهم عن دليلهم.
يوم تضعف الأمة الإسلامية في فترة من فتراتها تنشأ هذه العصبيات والخلافيات؛ لكن في صور متعددة، مرة تعصب مذهبي، ومرة تعصب لآراء وتشتت وتناحر، ولذلك دخل التتار والناس يختلفون في مسألة رفع الأيادي، ويتضاربون في المساجد بالأحذية، هل ترفع أو لا؟
هذه فترة سقوط للأمة، فإذا ما انتصرت الأمة وتقوت وعادت إلى الكتاب والسنة تأخذ منها مباشرة، مع احترام آراء العلماء والأئمة، وكلما كثر الخلاف في الأمة: ضعفت وهزلت، وأصبحت أمةً سقيمةً مريضة، وحلُّها أن يكون السائد فيها والقائد كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أنت أخي وأنا أخوك، مصحفنا واحد، وعلمنا واحد، ورسولنا واحد، وقبل ذلك ربنا واحد تبارك وتعالى، تخالفني في فرعية وأخالفك لكن هذا لا يجعلني أحمل الضغينة عليك، نعم أنت إن أصبت فمأجور ولك أجران، وإن أخطأت أنا فلي أجرٌ واحد لأني اجتهدت.
إذاً هذا هو التعصب المذهبي الذي مرت به الأمة، ولا يقال للناس: الاختلاف رحمة، وردت هذه الكلمة عن ابن تيمية، لكن جمع الكلمة هو الأحسن، وهو الأقوى، وكلما توحدت الأمة كان أحسن، والخلاف مذموم دائماً {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118] قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] إذا علم هذا فالأمة أمة واحدة.(180/23)
أهمية علم الحديث وعلم أصول الفقه
ضعف بعض الفقهاء في علم الحديث.
لا يعفى طالب الشريعة أن لا يعرف تخريج الحديث، أو صحة الحديث، ويقول: تخصصي شريعة وأصول فقه، لأنه سيكون معلماً، وعالماً، وداعيةً، ومفتياً، فكيف يستدل بالحديث الضعيف والموضوع!! فهذا ضعف دخل فيه كثير من المتفقهة، حتى ذكر عن كثير من العلماء أنهم لا يميزون بين الحديث الضعيف والموضوع، والصحيح والحسن، ويحضرون الحديث هكذا بلا خطام ولا زمام، من أين والشريعة هي قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
فكتب الفقه يحتاج كثير منها إلى تحقيق تخريج، وحبذا لطالب الفقه أو الشريعة أن يكون له اهتمامٌ بالحديث وتخريجه، ولو اهتمام نسبي لا كاهتمام متخصصينا في تخريج الحديث.
وأيضاً مشكلة عدم معرفة بعض المحدثين الفقه والاستنباط.
وجد في المحدثين من يورد الأحاديث لكن لا يستطيع أن يستنبط، منها لأنه لا يملك قواعد وأصول فقه، فيحتاج هذا إلى قراءة بعض كتب الفقه إلى أن تتكون عنده ملكة، وأن يكون عنده كتاب ولو مختصراً في أصول الفقه يعرف كيف يستنبط الفقهاء، يعرف العموم والخصوص، والمجمل والمبين، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، ولو على وجه الإجمال، وهذه لا تأخذ منه إلا أياماً قليلة.
بعض الناس يكثر في العلم، لكنه على حساب جودة العلم، والجودة هي المطلوبة قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7] ولم يقل: أكثر عملاً.(180/24)
تفاوت الناس في العلم
شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام رحمه الله، الذين قالوا في هذه السلسلة أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام؛ عبد السلام هذا جده أبو البركات، صاحب المحرر والمنتقي قالوا عن جده: كان قمراً، وأبوه كان نجماً، وابن تيمية كان شمساً {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12].
جلس معه بعض الناس فجادلوه في مسألة، قال ابن كثير: لقيه العلماء ولكن والله الذي لا إله إلا هو إنها ذرات صادفت جبلاً، وبحيرات صغيرة صادفت بحراً عذباً؛ يعني: ابن تيمية.
أتى رجلٌ يسأله في مسألة فرد أخوه عبد الله؛ وكان عالماً، لكن العلماء عند ابن تيمية إذا حضروا انطفأت نجومهم:
فإنك شمسٌ والملوك كواكب إذا ظهرت لم يَبْدُ منهن كوكب
فأتى رجل يجادل ابن تيمية من أهل البدعة؛ عنده علم لكن علم خرافي، فسكت ابن تيمية يتبسم، مصيبة إن ذهب يجادل هذا، أين ابن تيمية وقوته العلمية، وتيقظه، وبحره، وسيلانه؟!! وإن صار يسكت، فمشكلة:
ولو أنه جهلٌ بسيطٌ عذرته ولكنه يأتي بجهلٍ مركب
هذا أحد المادحين ل ابن تيمية يقول: ليت خصوم ابن تيمية علماء يعرفون، لكنهم جهلة.(180/25)
تقسيم الخليل بن أحمد للناس تجاه العلم
قال الخليل بن أحمد: الناس أربعة:
رجلٌ يدري ويدري أنه يدري؛ فذاك عالمٌ فاسألوه.
ورجلٌ يدري ولا يدري أنه يدري؛ فذاك غافلٌ فنبهوه.
ورجلٌ لا يدري ويدري أنه لا يدري؛ فذاك جاهلٌ فعلموه، لكن داهية الدواهي الذي بُلي به ابن تيمية؛ رجلٌ لا يدري ولا يدري أنه لا يدري؛ جاهلٌ ويقول: عالم، يدخل حتى في المسائل الضيقة وهو لا يعرف شيئاً، لا يعرف أن يتوضأ.
فـ ابن تيمية تبسم لما قال له هذا الرجل ذلك الكلام، فقال أخوه عبد الله: أما أنت فأنا سوف آتي بأحاديث من صحيح البخاري، وكتب الموضوعات، وقصص عنترة، وأخلطها لك؛ فوالله الذي لا إله إلا هو ما تستطيع أن تميز بينها، فكأنه قصمه فأسكته.
علماء المذاهب كانوا يجلسون الحنبلي والمالكي والشافعي والحنفي هم متخصصون في مذاهبهم، ويسكت ابن تيمية فإذا انتهوا تكلم.
يقول للحنفي -عالم الأحناف- أنت قلت هذه المسألة وهي خطأ ومذهبك يقول: كيت وكيت وكيت، ثم يقول للمالكي كذا، ثم يقول للشافعي كذا والحنبلي، فيعودون.
والشاهد في هذا أن التزود ليس على حساب الكثرة، بعض الناس عنده علم كثير لكنه مخبوص ملبوص، ليس بمنقح وليس فيه جودة، والعلم القليل هو العلم المبارك الذي يكون مؤصلاً على دليل، أما من يحفظ القصص والقصائد والأشعار والأخبار، ثم يأتي يوردها على الناس بلا خطام ولا زمام فليس بصحيح.
كتاب الموضوعات لـ ابن الجوزي، أتى أحد الخطباء فيما سمعت فأخذ منه حديثاً، وهو يظن أن الموضوعات جمع موضوع وهو الذي يلقى للناس ما يدري أن الموضوع يعني: الحديث المكذوب، فألقى الحديث فلما انتهى؛ قال له الناس: هذا حديث باطل ذكره ابن الجوزي في الموضوعات.(180/26)
مكانة النحو من العلم
النحاة ليس لهم نصيب فيما سبق، لكن نتكلم قليلاً.
صحيح أن النحو من أشرف العلوم، وأن الإنسان إذا لم يصلح لسانه اختبل، لا ندعي أنه بالنحو سوف يكون رجلاً فصيحاً لا يلحن أبداً، فلا يسلم من اللحن أحد في الغالب، سيبويه إمام النحو، الذي صنع النحو من خيوط الحرير وجمعه من البوادي، ووضع كتاباً كالمعجزة اسمه الكتاب، كان لا يتكلم العربية بطلاقة، ولو أنه عملاق وعبقري من أذكى الناس، مات وعمره اثنان وثلاثون سنة.
من تلظي لموعه كاد يعمى كاد من شهرة اسمه لا يسمى
من تداجي يا بن الحسين أداجي أوجهاً تستحق ركلاً ولطما
سيبويه هذا لم يكن كلامه فصيحاً، يقال عن ابن رجب وابن كثير إنهما يشققان الكلام حتى يذهب عن المقصود.
وتَجد في كثيرٍ من النحاة كثيراً من الخيلاء والعجب؛ حتى دخل أحدهم يلحن ولا يدري أنه يلحن، قالوا: ماذا تريد؟ قال: رمانتان طازجتان طيبتان، ثم أخذ من هذا المثنى، قال له البائع: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] تستحق ضربتان، وصفعتان، وركلتان، أو كما قال، ذكره ابن الجوزي عن هذا.
المقصود أن التعمق والتقعر من شيم أهل الكبر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {هلك المتفيهقون} قال أهل العلم: المتفيهقون هم الذين يتكلمون بتوسعٍ ليظهرون فضلهم وعلمهم عند المجالس وليس عندهم علم، يتكلم في عوامٍ ما يعرف الواحد منهم اسمه، فيقول: إن الحال يوم ينصب حينها يكون للعامل فيه تأثير وهو الفاعل في الغالب، وإنني يوم انطلقت اليوم مع إشراقة الصباح ونداء الفجر وإطلالته ونسماته، ما يدرون هل يتكلم عربي أو فرنسي فهذا معناه العجب؛ قال ابن قتيبة: سقط نحويٌ في حفرة، فأتاه رجل ينقذه، قال: مالك؟ قال: خذ حبلاً رقيقاً، وشده شداً وثيقاً، واسحبني سحباً رفيقاً، قال الرجل: امرأتي طالق ثلاثاًَ إن أنقذتك من الحفرة، الآن تلقي محاضرات وخطب جمعة ورأسك في الحفرة، ما هذا التكلف.
فالنحو يطلب للوصول إلى المقاصد.
أيها الإخوة الفضلاء: قبل أن نأتي إلى انتهاء هذه الجلسة نحب أن نسمع الأسئلة الشفوية؛ لكن هذه الأسئلة لا بد أن تدور حول الدرس، أما في الرضاع أو في الطلاق أو في الحجاب فبعيد، ولو أن أحد الإخوة يريد أن تكون مباشرةً.(180/27)
الأسئلة(180/28)
الدعوة إلى الحجاب
السؤال
في قريته الحجاب صعب تطبيقه فماذا يفعل؟
الجواب
نقول: انصح لوجه الله، وكن طالب علم وداعية، عظ الناس في خطبة الجمعة، انشر فيهم الكتاب عن الحجاب، أدخل الشريط الإسلامي إلى البيوت، تكلم بعد الصلاة، نبه بالحكمة، إذا حضرت مناسبة تكلم في الحجاب وحكم الله فيه، فمع المواصلة، وحسن الخلق واللين؛ سوف يغير الله الحال ولو امرأة واحدة، فالإنسان إذا لم يتكلم ولم ينصح ثم يقول: حسبنا الله عليهم ونعم الوكيل، لا يصح حسبنا الله عليهم وأنت ما تكلمت، من قال لك إن الله لن يهديهم، وإن الله طبع على قلوبهم، لا والله.(180/29)
استغلال الأوقات
السؤال
هذا سؤال يقبل في كل مكان، يسرح في كل زمان خارج العالم وداخل العالم، كيف يستغل الوقت؟
الجواب
استغلال الوقت يكون بحفظ الوقت، وحفظ الوقت يكون باستغلال الوقت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] استغلال الوقت يكون مثل ابن عقيل الحنبلي كان إذا أراد أن ينام عنده رزمة من أوراق، فيكتب أفكاره، وعصارة عقله قبل أن ينام، هذا فقط الوقت الفارغ، هذا للوقت الذي ليس فيه كدٌ وتعب، ترك من هذا الوقت قبل النوم وبعد النوم سبعمائة مجلد اسمه كتاب الفنون.
استغلال الوقت أن تكون كـ الخطيب البغدادي، يذهب إلى المسجد وكتابه في يده، ويعود من المسجد وكتابه في يده، لكن سواءً كتاب، أو تسبح في أصابعك، أو تقرأ شيئاً من القرآن، لكن ذرة ودقيقة واحدة لا تفوت من عمرك.
استغلال الوقت أن يكون مثل جد ابن تيمية؛ كان يدخل المرحاض فيقول لابنه: اقرأ وارفع صوتك حتى أسمعك وأنا هناك لئلا يضيع الوقت.
استغلال الوقت يكون مثل البخاري؛ كان يقول: أنام فأتذكر الحديث فأقوم خمس مرات وست مرات فأضيء السراج في الليل وأكتب شيئاً من الحديث وأنام، فيتذكر فيضيء السراج فيكتب، ويتذكر ويضيء السراج فيكتب.
استغلال الوقت، يكون كما كان الإمام أحمد: يحمل المحبرة وعمره سبعين سنة؛ شَابَ، ودنا أجله، ورقَّ عظمه، قالوا: تحمل المحبرة وأنت في السبعين!! قال: من المحبرة إلى المقبرة هذا هو السمو:
همةٌ تنطح الثريا وعزمٌ نبويٌ يزعزع الأجبال(180/30)
كتب تتحدث عن علم الواقع
السؤال
يقول السائل: لو لم يعرف شيخ الإسلام ابن تيمية الواقع لما استطاع أن يرد على أصول مخالفيه، فأي الكتب تنصحنا بقراءتها في علم الواقع؟
الجواب
لو كان السائل معنا في الجلسة الماضية كان أجيب على هذا السؤال، الجلسة الماضية كتبٌ في الساحة الإسلامية، وتكلمنا عن الكتب التي تشير إلى الواقع، ولا بد للعالم أن يعرف الواقع، كأن يسأل عن مجلة خليعة؛ مجلة النهضة وآخر ساعة قال: ما أدري يمكن وادي في قبرص أو شجرة أو بقرة في الهند، ويقول: هو فقيه، الفقيه لا بد أن يعرف الواقع، وكذلك صاحب الواقع لا بد أن يعرف علم السلف فيجمع بين الحسنيين.
ابن تيمية قوته كما تفضل السائل الكريم في مسألتين:
مسألة علم السلف، ومعرفة علم الواقع؛ كان لا يغيب عنه شيء، يتكلم عن علوم وأشياء وجزئيات في واقعه حتى أصبح هو التاريخ.
ابن كثير رحمه الله نسي نفسه في المجلد الرابع عشر، ونسي السلطان والتاريخ والدولة وأصبح يقول: ثم دخلت سنة كذا وكذا وكان ابن تيمية في جبل كسروان، ودخلت سنة كذا وكذا وكان ابن تيمية في السجن؛ أصبح ابن تيمية هو التاريخ.
وابن تيمية يسأل عن مسائل لا يعرفها إلا المتخصصون، فيفي فيها أعظم من المتخصص، يسأل عن الإسكندر يقول: ليس ابن فيليدوس، إنه هو الأول الذي بينه وبين ذاك أربعمائة وخمسون سنة، ويسأل عن أنوشروان فينسبه إلى آل شروان وبنو شروان وأخوال شروان وأعمام شروان، وهم من آل كسرى.
فمعرفة الواقع حولته إلى أن يدعي العلم، من أحسن الكتب في علم الواقع، كتب بعض المؤلفين: كـ أبي الأعلى المودودي كما سبق، وكـ أبي الحسن الندوي وسيد قطب ومحمد قطب، وذكرت أن من الكتب التي تنفع في هذا الجانب وقد تغني كثيراً في ظلال القرآن لـ سيد قطب، أنت إذا دخلت في ظلال القرآن وجعلته في بيتك لتفهم به الواقع لا تفهم في علم السلف فليس فيه من علم السلف إلا في القليل، ولكن للواقع وربط القرآن بالأحداث التي تقع في الوقائع فإنه يغنيك كثيراً.
وعلم الواقع سهل تراه من الجلوس مع الناس، ومن الأخذ والعطاء، والذهاب والإياب، ترى علم الواقع معك، فلا يكلفك كثيراً، أما أن يأتي الإنسان ويقرأ الجريدة كأنه يقرأ صحيح البخاري بفصها وحصها ورصها من أولها إلى آخره؛ حتى يقرأ الإعلانات عن الإسمنت، والإعلانات التي إذا أضاع أحد من البدو تابعيته ومن وجدها فليسلمها إلى مخفر الشرطة، فيحفظ هذه الإعلانات، ويحققها ويخرجها، ويستنبط منها فوائد، وإذا أتى يقرأ صحيح البخاري نعس فسقطت غترته ثلاث مرات، قال هذا حدثنا حدثنا، أين جهودي وطاقتي أبقى مع حدثنا، حدثنا هو العلم، وحدثنا هو الروعة والإبداع.(180/31)
القراءة في الكتب المطولة والمختصرة
السؤال
في الكتب المطولة الموجودة في المكتبات يجد الطالب عندما يقرأها أنها مضيعة للوقت فلو كان هناك كتب مختصرة يكون فيها العلم النافع؟
الجواب
هذا السؤال كغيره سبق الإجابة عليه في المختصرات والمطولات، وفن القراءة في المختصرات وفن القراءة في المطولات.
وكما ذكرت أن الذهبي ترجم لأحد العلماء، قال: زهد الناس في كتبه لطولها، فالكتاب الطويل ثلاثون مجلداً إذا بدأ في أول مجلد فلا ينتهي من قراءة المجلد الأول حتى يكون قد نسي ما في أوله، والكتب المضبوطة المختصرة تحفظ لك العلم، والكتب المطولة تعطيك ملكةً واستشرافاً وحب مباحثه ومناقشته للعلماء، فلا بد من قراءة المطولات ولو لم تصب شيئاً من العلوم، لكن المختصرات تُهدِّفُ لك العلم، في الفقه زاد المستقنع وفي الدليل، منار السبيل، العدة شرح العمدة، الحديث: بلوغ المرام، رياض الصالحين، المنتقي للجد ابن تيمية، البيقونية في المصطلح.
أنا ذكرت كتباً هناك من عاد إلى الشريط وجدها فيه.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(180/32)
الطغاة يغرقون في البحر
إن موسى عليه السلام قد قاتل قتالاً برياً وبحرياً وميدانياً وعلمياً، كل ذلك من أجل رفع راية التوحيد وإقامة دين الله على أرضه، وقد جاهد مثله صلى الله عليه وسلم، ولقي أصحابه كثيراً من العناء وأتى بعدهم التابعون فكان لهم نصيب؛ لأن البلاء كأس لابد من شربه لمن سلك طريق الدعوة إلى الله.(181/1)
قصة المواجهة مع فرعون
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسعد الله مساءكم، مع درس في كتاب الله عز وجل عنوانه: (الطغاة يغرقون في البحر).
الطغاة يغرقون في البحر يوم أغرق الله فرعون وأتباعه وأشياعه في البحر، وهذه نماذج من نهايات الطغاة والمجرمين والعصاة، يوم ينهيهم الله عز وجل إلى نهاية وبيئة لعينة خسيسة؛ جزاء ما قدموا في حق البشرية وما اقترفوا في حق الإنسانية، وسوف نستمع في هذه الليلة إلى درس من القرآن، وهو يصف لنا فرعون يوم خرج يطارد موسى إلى البحر على موسى السلام وعلى فرعون اللعنة.
سلام الله يا مطر عليها وليس عليك يا مطر السلام
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:49 - 52] لا زال الحديث والخطاب يتحدث لبني إسرائيل ويقررهم بنعم الله تعالى عليهم كأنه يقول: أما نجيناكم من فرعون؟!
أما واعدنا موسى وأعطيناه التوراة وكلمناه لمصلحتكم؟!
أما عفونا عنكم؟
أما فرقنا بكم البحر؟
أما فعلنا وفعلنا بكم؟ فلماذا هذه الجرائم؟!
ولماذا هذه الفضائح؟ ولماذا هذه الفواحش؟
ولله المثل الأعلى.
كأنك تؤدب ابنك فتقول: أما علمتك؟ أما اشتريت لك سيارة؟ أما بنيت لك بيتاً؟ فلله المثل الأعلى، وهذا تقرير لنعم الله على بني إسرائيل.(181/2)
موسى يطلب أخاه هارون وزيراً
موسى عليه السلام يقاتل قتالاً برياً وبحرياً، ويصارع صراعاً ميدانياً وعلمياً وعملياً، يرسله الله إلى فرعون في ديوانه وإيوانه وقصره، فيجعل معه أخاه هارون وزيراً، لماذا يجعل هارون معه؟
ما هو السر وما هو السبب؟
لأن هارون أفصح منه لساناً، موسى صاحب الرسالة ولكن هارون فصيح، موسى كان (أدرم) يأكل بعض الكلمات، ولا تتضح الكلمات التي ينطقها، ولكن هو أفضل من هارون بلا شك، والعجيب أن بعض المؤرخين قالوا: هارون أكبر من موسى بسنة! ولكن نعمة الله ورعايته وولايته وعطاءه جعلت النبوة والرسالة في موسى، ثم جعل ذلك في فضله ورحمته وعطائه حتى يقول الله له: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24].
{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25] أمر كليف صعيب وكأنه يحمل الجبال على كتفيه، وهل هذا أمر سهل؟
تصور أنك راعي غنم فقير، ومعك ضأن وعصا تهش بها على غنمك، عليك ثياب صوف، تدخل على طاغية من طغاة الدنيا كحكام مصر وحرسه -كما قال أهل العلم- معه ستة وثلاثون ألفاً عند الحدائق، وعند مداخل مصر فكيف تصل إليه؟ قال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه:25 - 27] أي: يا رب أنت تدري أن لساني يتلعثم، ما هو السبب؟
قالوا: لما عرضت له التمرة والجمرة أخذ الجمرة ووضعها على لسانه فأصابت لسانه {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27 - 28] قال الحسن البصري: [[رحم الله موسى، ما سأل إلا أن تحل عقدة واحدة من لسانه!]] فقط بمجرد أن يفهموا قولي، ما قال: أكن خطيب مصر ولا أديبها ولا متكلمها، إنما ليفقهوا قولي فقط.
ثم قال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي} [طه:29] وزيراً يساعدني ويكون من أهلي؛ لأنه لو كان من غير أهلي ربما يكون حاسداً أو عدواً أو حاقداً، ثم عينه باسمه؛ لأن أهله كثير، كبار وصغار وأبناء عمومة وأقارب {هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:30 - 32]-لماذا؟ - {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً} [طه:33]-الاثنان يسبحان أكثر من الواحد- {وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} [طه:34]-هو يذكرني وأنا أذكره- {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} [طه:35].
فأتى الجواب مباشرة قال: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] لم يقل أسئلتك؛ لأنها سهلة في علم الله {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] هذه الأسئلة مجرد سؤال قال: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36].
ثم قال له وكأن الخطاب يقول: لا تنس أننا أعطيناك والأيادي التي منحناك قال: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه:37].
ثم أورد قصة فيها مذكرات حياته في الأربعين سنة يقول: وفعلنا بك كذا وكذا وكذا.
فلما أصبحا في الطريق؛ أوصاهما الله بأدب الدعوة قال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] انتبهوا من الخبيث! عليكم بالأسلوب السهل ولين الخطاب، لأنه رجل فاجر، والله يعلم في علم الغيب أنه لا يؤمن، الله كتب عليه أنه من أهل النار: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].(181/3)
الله عز وجل يؤيد موسى
موسى وهو في الطريق بعد أن بدأت فرائصه ترتعد من سيوف وخناجر ورماح وجند وجيش وأسطول فرعون وهامان وقارون، دنيا وقصور مدلهمة ونار مظلمة!! {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] والله أعلم بفرعون {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} [طه:45] أي: يستعجل بالعقوبة، نريد أن نتكلم ونسمعه الحجة لكنه لن يتركنا نتكلم {أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] أي: يزيد في العقوبة، بدل أن يجلدنا مائة سوط فسوف يجلدنا خمسمائة سوط.
قال الله -وما أحسن العبارة! -: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] لا إله إلا الله! أنتم في إيواني وعلمي وأنا معكم، أنتم في الصحراء وأنا معكم، أنتم في البحر وأنا معكم بعلمي: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] الله معك بعلمه ونصرته وإحاطته وشهوده أينما كنت.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
يا حافظ الآمال أنتت حميتني ورعيتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
{قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ثم قص عليه القصة، دخل، تكلم، انتهى الحوار وشاهدنا قصته يوم خرج.(181/4)
اللحظة الحاسمة بين موسى وبين فرعون وسحرته
الطغاة يقولون: تلقي أم نلقي؟
قال: ألقوا أنتم، ابدءوا، أنتم أهل الباطل.
قيل: كانوا اثنين وسبعين ساحراً وقيل ثمانين ألفاً، كل ساحر يأتي بالعجائب! {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه:60] قالوا: متى الموعد؟ {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} [طه:59] قيل: إنه يوم عيدهم مثل يوم الجمعة {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} [طه:59] يقول: موعدنا إذا ارتفعت الشمس، واجتمعت الجماهير، وامتلأت القصور والميادين والمحافل {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه:60] فلما أتى صف ثمانون ألف ساحر، وقام هو ووزراؤه وجيشه والناس من الشرفات من كل مكان، وأتى موسى وهارون!!
والمعركة بين اثنين وبين الدنيا كلها! لكن الله معهما {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] تصور: موسى عليه السلام راعي غنم! لكنه يحمل الإيمان والتوحيد، وقف في أطرف الناس، قالوا: تلقي أو نلقي؟ قال: ألقوا؛ فبدءوا فأتت الحبال تصور تصويرات عجيبة من الهول والضنك، تأتي وتطيش على الناس، وتمور على الناس وتدلهم، والجماهير يصعقون في كل مكان!!
موسى عليه السلام ظن أن المسألة سهلة، وليست كذلك: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67] الله يعطيه عهوداً يقول: أنا معك، لا تخف، يدخل القصر فيخاف، فيقول الله له: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] أتى في الميدان فخاف، قال: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:67 - 68] أنت المنتصر اليوم، فلما امتلأت الساحة بالحيات والعقارب التي يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، قال الله: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه:69] الآن هذا وقتك، الوقت ضائع معهم وأنت الآن مستلم الساحة.
فقال: بسم الله، فألقى عصاه على الأرض -قيل: إن أصلها من الجنة- فلما وقعت على الأرض صورها فاطر السموات والأرض صوراً عجيبة، انتفخت حتى أصبحت كبعض القصور، ثم امتلأت حتى أصبح رأسها كالجبل، ثم أتت على هذه الحيات والعقارب تأكلها وتأكل ما يأفكون.
ثم أقبلت على الجماهير فانصرعوا في كل مكان، ثم أتت إلى فرعون في المنصة فهرب.
قال الحسن: [[كان طائشاً خسيساً]] وأخذ يرفع يد الاستسلام -كما في بعض التفاسير- وقال: يا موسى، أسألك بالرحم.
الآن تذكر الرحم يا خسيس! فأوقف موسى العصا وأخذها بلسانها {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:119] ذليلين حقيرين خاسئين، وأتت الآن المصافاة، والقتال يبدأ الآن.(181/5)
موسى ومن آمن معه يهربون
جاء في الليل المظلم وقال موسى لبني إسرائيل: لا تخبروا أحداً، غداً سوف نرتحل ونهاجر من مصر؛ لأن فرعون عذبنا وسوف يقتلنا، فإنه قال للسحرة: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه:71] أسلم السحرة وسجدوا لله، ففرعون إذاًَ سوف يجزرهم جزراً، فقال موسى: الصباح الصباح، قبل أن يطلع الفجر ليكن الكل متهيئاً، كم كانوا؟
قال ابن جرير الطبري: كان بنو إسرائيل ستمائة ألف، اثنا عشر سبطاً (قبيلة) كل سبط خمسون ألفاً.
بنو إسرائيل أهل سرق ومرق إلا من آمن منهم، يحبون الخيانة، استعاروا الحلي من آل فرعون في الليل، كما يقال في المثل: (إذا كنت رايح كثر من الفضائح) فاستعارت كل جارة يهودية حلي جارتها من القبطيات المصريات، ثم مضوا مع الفجر.
قال ابن عباس: فمات كل بكر لكل مصري ولد له مولود، فاشتغلوا بدفنهم في ذاك الصباح لكي يتأخروا، ولذلك يقول تعالى في كتابه: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء:60] أي: ما أتوا إلا مع شروق الشمس، أراد فرعون أن يخرج مع الفجر من المدينة وقال: انتبهوا علينا أن نذهب وراءه! فمكثه الله ولبثه بقضاء وقدر فتأخر حتى طلعت الشمس.
قطع موسى نصف المرحلة من الطريق يريد فلسطين، وفرعون خرج من مصر بالجيش وراءه، قيل كان معه ألف ألف أي: مليون مقاتل، وأما موسى فإن معه الأطفال والنساء والبنات من بني إسرائيل -على موسى وعلى هارون السلام- فلما أصبحوا في الصحراء التفت موسى، وكان دائماً كلما مضى قليلاً يلتفت وراءه، فهو يعرف أن هذا الخبيث سوف يتابعه ولن يتركه، وفجأة وإذا بالجيش أشرف كالجبال أين يلتفت؟ هل يلتفت إلى واشنطن أو موسكو؟ أو يقدم مذكرة إلى هيئة الأمم المتحدة؟ بل يلتفت إلى الله {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] فقال: يا رب قال: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:68] هذا هو الموعد الثالث، يقول: نحن أرسلناك، إذاً نحن نضمن سلامتك فلا تخف، ولماذا تخف؟
من الذي يحمي؟
من الذي يرعى؟
من الذي يهدي؟
من الذي يسدد إلا الله، فلا تخف، فلم يخف ومشى، وبعد قليل أصبح بنو إسرائيل تصطك لحاهم؛ لأن الخوف داخلهم والعرق يتصبب قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] فتوقفوا عند البحر ونظروا وإذا بالجيش يقترب منهم قال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] يقول: أنا أسير بقوة الله، لا تخافوا فالنصر معي بإذن الله.(181/6)
انغلاق البحر لموسى
اقترب موسى من البحر فقال الله له -وكان في آخر الناس-: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63] كما قال ابن جرير ظن موسى عليه السلام أن الأمر يقبل النيابة -وذكر كثير من أهل العلم كـ أبي السعود في تفسيره وابن جرير أن موسى قال للبحر: يا أبا خالد.
فإذا أردت أن تنادي البحر فقل: يا أبا خالد- قال موسى لهارون: اضرب البحر أنت؛ لأن هارون كان في أول الناس وموسى في آخرهم، فضرب فما تحرك البحر! الضرب ضرب والعصا عصا، ولكن اليد غير اليد والعصا غير العصا، شيء الله أعلم به!
يقول المتنبي لـ سيف الدولة:
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
يقول: إذا تفوقت أنت على الناس فأنت مثلهم لك عيون كعيونهم ولك دم كدمهم وعظام كعظامهم، ولكن الله له سر في الناس! فإن المسك بعض دم الغزال المسك دم ولكن له تميز.
فقال: اضرب البحر يا هارون فضربه، قال ابن جرير: فقال البحر وتكلم بلسان أنطقه الله: من هذا الجبار الذي ضربني؟
فقال الله لموسى: اضرب البحر أنت، فتقدم واقترب وضربه.
ماذا تفعل ضربة بعصا قصيرة في بحر مدلهم مشرف لا يعرف طرفه؟ هذه عناية الله، فلما وقعت في الماء وإذا باثني عشر طريقاً مفتوحة! اثنى عشر نفقاً، كل نفق كالطود العظيم، جبل من هنا وجبل من هنا.
وقال أهل العلم: وفتحت لهم نوافذ حتى ينظرون إلى الطبيعة من قرب؛ وحتى لا تكتتم الأنفاس وينظر بعضهم لبعض.
ولماذا اثنا عشر طريقا؟ لأنهم اثنا عشر قبيلة، فهم يشربون من اثنتي عشرة عيناً من الصخرة، وهنا اثنا عشر طريقاً كل قبيلة لها شيخ، هذا الكابتن لابد أن يقودها من هذا الطريق، وهو مسئول عنها فلا تأتي قبيلة مع قبيلة أخرى.
فأتى بنو إسرائيل وإذا هي اثنا عشر طريقاً، قبيلة بنو فلان تمر من هذا الممر حتى تخرج بإذن الله، أما قبيلة بني فلان فتدخل من هنا وتخرج من ذاك المخرج حتى انتهت فأتوا فنزلوا، فلما نزلوا قال الله له: {لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى} [طه:77] قالوا: لو كان زلقاً لزلق بنو إسرائيل وتساقطوا، ولو كان ماءً غمسوا، ولو كان ثلجاً تدحرجوا، فجعله الله تراباً.
ذكر الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير أن ملك الروم كتب لـ معاوية بن أبي سفيان يسأله عن مسائل يقول: أسألك عن أرض ما رأت الشمس إلا مرة في عمرها؟
فـ معاوية تقهقر، لا يدري ما هو الجواب فأرسل لـ ابن عباس.
ابن عباس مرجع علمي {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] قال: يا ابن عباس كتب لي ملك الروم يتحداني: ما هي الأرض التي ما رأت الشمس إلا مرة في عمرها؟ قال: هي أرض البحر الذي فلقه الله لموسى ما رأت الشمس إلا ذاك اليوم.
وأجابه في مسائل كثيرة؛ أعطى الله ابن عباس فهماً؛ لأنه اتقى الله وفتح الله عليه.
مر بنو إسرائيل وأتى فرعون فرأى الطرق مفتحة ورأى أن بني إسرائيل قد مروا؛ فحاول أن يتقهقر، لأن الرجل ليس مجرباً لمثل هذه الأمور، ويعرف أن البحر بحر، وينظر إلى كتل الماء وهي كالجبال فهو لا يدري ولا يعرف آيات الله عز وجل بل يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] أتى إلى شيء جاهز فادعاه لنفسه، مثل الطفل الآن إذا رأى لعبة مع طفل الجيران قال: هذه لعبتي ويحلف اثنا عشر يميناً عليها! لجدته ولخالته، قالوا: لما قال: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] أجراها الله من فوق رأسه.
قال ابن جرير: فأتى فرس فرعون -وهذه نوردها من قصص بني إسرائيل وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج- فرأى بغلة جبريل عليه السلام، فأراد فرعون أن يكف يقول: تخلصنا، لا نذهب، انتهينا، فلنرجع، وإذا بجبريل عليه السلام يأتي ببغلة فرآها الفرس، والفرس إذا رأى البغلة رفع القلم عنه!(181/7)
قصة شبيب الخارجي
شبيب الخارجي بطل من أبطال الناس ومن أشجعهم! ذكره ابن كثير، يقولون: إنه لما قتله الحجاج شق بطنه فوجد فيه قلباً فأخذه وكان يضرب به في الأرض -ومن شاء فليراجعها في البداية - فيقفز مثل الكرة! فشق قلبه فوجد فيه قلباً آخر!
يقال: كان من أشجع الناس، هزم ألف مقاتل وهو في ستين مقاتلاً، هو خارجي واسمه شبيب، بطل شجاع؛ ولكنه مبتدع، كان يمشى على البغلة والناس والمقاتلون عن يمينه ويساره وينعس من شجاعته! من الذي ينعس في المعركة؟! أحدنا لو أخبر أنه سيموت بعد عشر سنوات ما نام الليل! ينظر في الساعة والتقويم ويسأل الجيران متى بعد عشر سنوات! لكن هذا الموت والسيوف على ذهنه وينام على البغلة ويوقظه تلميذه يقولون له: اصح، القتال.
ووغزالة امرأته كانت من أشجع الناس، هرب منها الحجاج فما بالكم بزوجها! إذا كانت المرأة يهرب منها الأبطال فكيف بالزوج؟! أتت غزالة هذه ودخلت الكوفة مع مقاتلين، فأتى الحجاج فقاتلها في طرف المدينة فدخلت واقتحمت القصر، فخرج من الباب الثاني، ودخلت في المنبر وألقت خطبة، حتى يقول الشاعر للحجاج:
أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
أسد علي: على أهل السنة وأهل الطاعة وعلى سعيد بن جبير والزهاد العباد.
أسد علي وفي الحروب نعامة إذ تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى أم كان قلبك في جناحي طائر
أذكر لكم قصة لأحد الكتاب كان يدرس في مدينة من المدن، ثم يرجع يسكن في قرية، كان بين القرية والمدينة واد ومجار للمياه والقاذورات، وهناك جسر وضعه الأتراك، عبارة عن خشبتين يظن هو أن الدراجات تمر عليه والأصل أنه يمر عليه الناس، فأتى في الصباح بدراجته، فإذا بشيخ يريد المدرسة وعليه جبة وعمامة ومسبحة وكتب قال: يا شيخ، تركب معي على الدراجة، وهو لا يعرف قيادة السيارة والدراجة إلا من قريب.
قال: الله يرضى عليك اتركني هذا اليوم.
قال: والله لتركبن معي.
وأركبه وراء ظهره على الدراجة ومشى بحفظ الله ورعايته، فلما أتى فوق الخشبتين قال: نظرت إلى المجاري مثل السيل فتلعثمت فسقطت يدي من على الدراجة! فأول من وقع في هذا النهر النجس هو الشيخ الراكب ثم وقع الأستاذ على رأسه ووقعت الدراجة من فوقهما {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40].
المقصود: أن شبيباً هذا أتى إلى نهر دجلة فرأى الجيش، فأراد أن يرجع فرأى فرسه بغلة في طرف دجلة في الناحية الأخرى فهاج الفرس وماج وركب في الجو!
قالوا: فقفز في الجو فوقع في النهر، فكان شبيب مربوطاً في الفرس، يخرج من الغائبة ومن الماء، فكلما خرج قال: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] ثم يغطس ثم يخرج ويقول: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] وفي الثالثة قال: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] ثم مات.(181/8)
إغراق الله لفرعون
فما هو الشاهد؟
الشاهد أن فرعون دخل فلما دخل وقعت الورطة! دخل الأرنب في المصيدة، فلما خرج بنو إسرائيل من البحر دخل فرعون بآل مصر وبالظلمة الذين معه {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] فلما اجتمعوا ما خرج الأول ولا بقي الآخر؛ ارتمى عليهم البحر، يقولون: إنه يقول بعد أن أصبح في الطين وهذا ثابت في سورة يونس: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] قال الله: {آلْآنَ} [يونس:91] بعض الناس لا يؤمن إلا في الشدة!
أحد الناس أهوج أحمق سفيه تجادل هو وأمه، قال: صلي على النبي، قالت: والله ما أصلي عليه -أستغفر الله- فضربها بالمحماس الذي يقلى فيه البن في رأسها، فقالت: صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم!
يقول موسى لفرعون وهو في الصحراء: قل: لا إله إلا الله؛ قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38].
قال: قل لا إله إلا الله، قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي} [الزخرف:51].
قال: قل لا إله إلا الله، قال: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات:24].
فأتى به الله فلما دسه في الطين قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] قال الله: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] انظر إلى بني إسرائيل دائماً يلاحقون موسى بالتكذيب، فلما نجا بنو إسرائيل قال موسى عليه السلام: فرعون أهلكه الله.
قالوا: والله ما أهلكه الله.
قال: أستغفر الله، بل أهلكه الله.
قالوا: ما أهلكه الله، اعطنا جثة فرعون.
فلفظ البحر جثته فرأوه فقال تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:92] فهو لا زال محنطاً، ويقولون: إنه لا يزال إلى الآن في الأهرامات.
إذا تباهى إلى الأهرام منهزم فنحن أهرامنا سلمان أو عمر
فهم يفتخرون الآن بالأهرامات التي فيها الفراعنة، ونحن مجدنا ومجد أهل مصر من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، من دخول عمرو بن العاص في ذلك اليوم المشرق الذي أطلت فيه مصر على الهداية، من الأزهر المعمور، من أهل العلم والمعرفة والدعوة لا من الفرعونية والقبطية والثقافة الخاسرة الكافرة المتزندقة التي لا تعرف الله.
يقولون: إنه لا يزال محنطاً، ونقول: سواء كان محنطاً أو غير محنط، فقد لقي عذابه {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].(181/9)
حال بني إسرائيل مع موسى
نجى بنو إسرائيل من فرعون وكانت لهم مع موسى قصص وعجائب، نذكر منها:(181/10)
بنو إسرائيل يعبدون العجل
قال لهم موسى: انتظروا هنا وأنا سأذهب وآتيكم، صام ثلاثين يوماً ثم أتمها الله بعشر -كما سوف ترد في الآيات- وذهب لموعد الله ويعطيه التوراة، فعبدوا العجل حسبنا الله ونعم الوكيل! من نجاكم؟ من نصركم؟ من قواكم؟ من أطعمكم وسقاكم؟ وهل هذه النتيجة؟!
أخذوا ذهباً فصنعوه بالنار كمثل البقرة ثم ألقوا فيه حفنة من تراب فخار الحسير، فقال السامري وهو أحد الضلال الأخساء الحقراء: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88] يقول: هذا إلهكم وإله موسى، لكن موسى نسي هذا الإله وذهب إلى إله آخر!
لا إله إلا الله! بنو إسرائيل هؤلاء عقولهم متحجرة، أذناب للعملاء، غباء وحقد وتمرد على الله، ولذلك لعنهم الله في كل كتاب، فلا يمكن أن يصلحوا أبداً، أتريد ولد الحية أن يكون لبيباً؟! أتريد ولد الذئب أن يكون حبيباً؟! لا.
تلك العصا من هذه العصية لا تلد الحية إلا حية
فاسمع إلى الآيات قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة:49] ما معنى نجيناكم؟ نجيناكم مأخوذة من النجاة، وهي الأرض البارزة التي ينجو بها الإنسان، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إذا ذكر الأنبياء: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود:58] وذكرت العرب النجاة، وهي معنوية وحسية، فالنجاة الحسية أن تنجو من العذاب والسجن والحبس والمرض، والنجاة المعنوية: أن تنجو من الفسق والمعصية أو من الاعتقادات الباطلة.
يقول حسان شاعر الإسلام -رضي الله عنه- في النجاة وهو يهجو الحارث بن هشام وهو من سادات قريش، أخ لـ أبي جهل ولكنه أسلم فيما بعد، كان كريماً يقولون: كان يكسو الكعبة سنة وقريش تجتمع فتكسوها سنة، أتى في معركة بدر فلما رأى سيوف الله تفتك بالكفار فر ببغلته، فما استقر ولا قر ولكن فر وجر، فلما وصل إلى مكة قام حسان يهجوه في قصيدة له يقول فيها:
طوبى لمعترك من الآرام قبل الأصيل كعاكف أو رامي
هو يتغزل في أول القصيدة كعادة الشعراء فيقول:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجا بفضل طمرة ولجام
يقول: ترك أحبابه وإخوانه وفر ببغلته.(181/11)
استطراد مع علي وآل البيت
يقول معاوية:
نجوت وقد بل المرادي سيفه من ابن أبي شيخ الأباطح طالب
والمعنى: أن الله نجاني يوم قتل علي بن أبي طالب؛ والسبب في ذلك -لا بأس من الاستطراد قليلاً- أن الخوارج المبتدعة كلاب النار، قالوا: نقتل ثلاثة فنريح الدنيا والناس من هؤلاء الثلاثة.
وكذبوا على الله، لا يرتاح الناس من الثلاثة خصوصاً علي بن أبي طالب؛ فإنه إمام من أخشى الناس في عهده، عالم، زاهد، نحبه ونتولاه، فاجتمعوا، فأتت الربابة -امرأة فاجرة جميلة- فقالت لـ عبد الرحمن بن ملجم: إذا قتلت علياً تزوجتك.
الرجل رصد لـ علي بن أبي طالب ونام على بطنه والسيف معه وأتى علي يوقظ الناس لصلاة الفجر فركله برجله وقال: لا تنم هذه النومة فإنها نومة أهل النار، ثم توجه علي فكبر ركعتي الفجر فقام هذا ثم ضربه بالسيف في وجهه فابتلت لحيته الشريفة بجبهته، حتى أنه لما أعطوه لبناً في مرض قبل هذه القتلة قال: [[والله لا أموت حتى تدمى هذه من هذه وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله ما كَذَبت ولا كُذِّبت]].
وذهب اثنان واحد من الخوارج إلى معاوية في الشام ليقتله، والثالث إلى عمروبن العاص في مصر، أما صاحب معاوية فرصد له فخرج معاوية -رضي الله عنه وأرضاه- فانطلق عليه الخارجي كالسهم فضربه، فما تمكنت الضربة إلا في حقوه فانقطع نسله فكووه وشفي.
وأما عمرو بن العاص فقضاء الله وقدره نام تلك الليلة وأتاه مرض، فقال لـ خارجة رئيس الشرطة: صل بالناس الفجر أنت، وكلتك ما أحسنها من وكالة!! قال: استعنا بالله، قبلنا الوكالة، فخرج لصلاة الفجر فصمد له الخارجي فقتله، فقال الخارجي: أردت عمراً وأراد الله خارجة.
فيقول معاوية بعدما سمع الخبر:
نجوت وقد بل المرادي سيفه من ابن أبي شيخ الأباطح طالب(181/12)
آل الأنبياء هم أتباعه
قال الله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْن يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة:49].
يقول: من الذي منعكم وحماكم من آل فرعون؟ وآل فرعون هم أتباعه لأن أتباع الرجل هم من كان على دينه، إذا قال المصلي: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، فمعناه من اتبع محمداً.
آل النبي هم أتباع ملته على الشريعة من عجم ومن عرب
لو لم يكن آله إلا قرابته صلى المصلي على الطاغي أبي لهب
لو كانت آله قرابته لكان من قرابته المصلى عليهم أبو لهب وأبو طالب، لكن آل الرسول كل تقي، وفي الأثر: [[آل محمد كل تقي]].
فليس الآل القرابة في النسب، لا والله، لكنهم على اتباع دينه وشرعته من العجم والعرب.
بلال من آله صلى الله عليه وسلم، وسلمان من آله، وصهيب من آله، وخباب بن الأرت من آله، ولكنَّ أبا طالب وأبا لهب ليسا من آله.
وقال بعض أهل العلم: إذا ذكر الآل والأمة -كمن قال: اللهم صلَّ على محمد وصحبه وأمته وأتباعه- فالعطف (الواو) يقتضي المغايرة، فالآل هنا هم مؤمنوا آل محمد، منهم آل الرسول عليه الصلاة والسلام وأهل البيت وسلمان على المجاز أنه من أهل البيت وإلا فهو ليس منهم، ولكنه على القرابة في الدين والحب والولاية والنصرة منهم.
لكن على الصحيح أن آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم هم آل علي وآل العباس وآل عقيل وآل جعفر، فأما آل العباس فهو العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله، أهل الدولة التي شرقت وغربت ووقفت أعلامها في سمرقند وطاشقند، الستة والثلاثون خليفة العباسيون كلهم من نسل ابن عباس، السفاح، أبو جعفر، المهدي، هارون الرشيد، الهادي، الواثق، المعتصم، المتوكل، القادر، المقتدر كل هؤلاء من نسل ابن عباس.
آل علي: علي بن أبي طالب والحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وذريته من الصالحين.
وآل عقيل: أولاد عقيل بن أبي طالب.
وآل جعفر: أولاد جعفر بن أبي طالب الذي قتل في مؤتة.
إذاً فهؤلاء هم آله، أما أبو لهب فلا يدخل، وأبو جهل بينه نسب وبين الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه ليس قرابة أو صهراً فلا يدخل أبداً؛ لأنه كفر بالله العظيم.
وهذا أمر ينبغي أن ينبه عليه.
وعند مسلم عن أبي حميد الساعدي قال: قلنا يا رسول الله! كيف نصلي عليك؟ قال: {قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم -انتبهوا لم يقل: على إبراهيم- وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم -وفي رواية صحيحة- في العالمين إنك حميد مجيد}.
يقول ابن تيمية: لم يرد في الأحاديث الجمع بين محمد وآل محمد وبين إبراهيم وآل إبراهيم، إنما جاء محمد وآل إبراهيم فقط.
رد عليه ابن حجر قال: لا، ثبت في الطبراني بسند صحيح أنه ورد في الحديث {اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد} وهذا كلام سديد، وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فلك في التحيات أن تقول هذا وتقول هذا.
ولما أتى أهل نجران النصارى يباهلون الرسول صلى الله عليه وسلم {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] على ماذا الابتهال؟ على أمور: أن عيسى روح الله، وعلى قضايا في التوحيد؛ فأتى صلى الله عليه وسلم لما أمره الله بالمباهلة جمع أهله؛ لأن المباهلة إذا باهلت رجلاً فاجمع أهل بيتك، فجمع علياً وفاطمة والحسن والحسين وأعطاهم الكساء ولفهم وقال: هؤلاء أهلي.
وأتى يباهل فرفضوا المباهلة؛ لأنهم عرفوا أنهم سوف يهلكون ويعدمون؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق، إذاً فهؤلاء أهله عليه الصلاة والسلام، وآل محمد كل تقي.(181/13)
الافتخار بالأنساب
قيل لـ سلمان من أبوك؟ قال:
أبي الإسلام لا أبَ لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
ما لي أب إلا هذا الدين، أنا متعلق بهذا الدين، ولا أعرف إلا هذا الدين، أما أهل التراب فيقولون: أبي كان يذبح الأعداء، ويسرق، ويأكل الربا ويستمع الغناء ومات.
أو أبوه كان ما كان لكن هو ليس بشيء.
إذا فخرت بأقوام لهم شرف قلنا صدقت ولكن بئسما ولدوا
وعند البخاري في الأدب المفرد: {من افتخر بتسعة آباء من الكفار فهو عاشرهم في النار} من افتخر بآبائه الجاهليين حشر معهم، لا تفتخر بإنسان ذهب قال تعال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134].
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة:49] ما معنى هذه العبارة؟ أي: تلقون منهم شدة ومشقة وكلفة، ونقف قبل هذا عند آل فرعون: آل فرعون هم من تبع فرعون على ملته، وهم يعرضون على النار غدواً وعشياً حتى هذه الساعة، استدل أهل السنة والجماعة على عذاب القبر بهذه الآية: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] نسأل الله العافية.
هذا يسميه بعض العلماء: فطور وأما الغداء ففي جهنم، لكن هذه مشهيات ومرطبات! {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فدخلوا معه.
قال: {يَسُومُونَكُمْ} [البقرة:49] السوم: هو أشد العذاب، والسوم من الخسف، والمشقة، وشدة الكلفة على من لك سلطة عليه أو قدرة.
يقول عمرو بن كلثوم في ملعقته الشهيرة:
إذا ما الملك سام الناس خسفاً أبينا أن نقر الذل فينا
يمدح قبيلته، وهذه من أفخر القصائد، هو جاهلي لم يدرك الإسلام، لكن ذهب إلى عمرو بن هند أحد الملوك، فذهب بأمه يتحاكم هو وقبيلة ثانية فقال لأمه: ادخلي عند امرأة الملك حتى أشكو عليه أن القبيلة الفلانية تقاتلنا، فأمه امرأة من أسرة قوية، والملك يظن أن من كان من غيره فهم خدم، فأتت المرأة أم الشاعر ودخلت عند زوجة السلطان.
فقالت زوجة الملك: ناوليني هذا الإناء، تريد أن تستخدمها في البيت.
فحلفت ألا تناولها؛ فضربتها كفاً على وجهها، فصاحت أمه وهو داخل خيمة الملك، فعلم أنها أهينت.
فقام عمرو بن كلثوم فقتل الملك، ثم فر إلى قبيلته ونظم قصيدته يقول في أولها -وهي من المعلقات-:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا
إلى أن يقول:
بأي مشيئة عمرو بن هند تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
إلى أن يقول:
متى كنا لأمك مقتوينا
أي متى كنا لك عبيداً ولأمك؟!
إلى أن يقول: ألا تعرفنا؟!
بأنا نورد الرايات بيضاً ونصدرهن حمراً قد روينا
إلى أن يقول:
إذا ما الملك سام الناس خسفاً أبينا أن نقر الذل فينا
وهكذا قتله وضحى به، فلذلك يقول: الخسف لا نقره.(181/14)
فرعون سام بني إسرائيل سوء العذاب
يقول ابن تيمية في مقطع له يتكلم في المجلد الأول من الفتاوى عن بعض الناس قال: إذا أسيم الخسف رضي به، وإذا وجد قوة تمرد؛ تجده ظالماً جباراً يظلم العباد، ولكن إذا أهين ذهبت كرامته ونخوته ومروءته فسبحان الله! له في خلقه شئون.
قال: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة:49] كان أهل مصر يستخدمون بني إسرائيل، اليهودي عند المصري خادم، التمييز العنصري مثل جنوب أفريقيا؛ البيض والسود، يقدمون الطعام في المطاعم، والأعمال العادية لا يقوم بها إلا بنو إسرائيل {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة:49] وليته يكفي! قالوا من باب التفسير قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [البقرة:49] وهناك في سورة إبراهيم: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [إبراهيم:6] قالوا: الواو لتعداد النعم، فلما أراد الله أن يعدد عليهم في سورة إبراهيم النعم قال: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [إبراهيم:6] بالواو، ولما أراد الله أن يفسر العذاب قال: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [البقرة:49] بدون واو.(181/15)
سبب قتل فرعون لأطفال بني إسرائيل
أعلن فرعون بعد أن رأى رؤيا: أن ناراً خرجت من بيت المقدس من فلسطين فأشعلت مملكته كلها، فذهب إلى المنجمين فقال: ما رأيكم؟ قالوا: ماذا رأيت؟ قال: رأيت كذا وكذا قالوا: يقتلك وينهي ملكك غلام من بني إسرائيل؛ فكتب مرسوماً: كلما ولد لبني إسرائيل ولد فالقبلة والسكين، على جنبه يذبح.
{وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة:49] قال الزجاج: ما أحمق فرعون! إن كان كتب الله له أن يقتله بنو إسرائيل فسوف يقتل سواء قتلهم أو لم يقتلهم، وإن لم يكتب الله عز وجل عليه ذلك فما معنى قتل الناس؟!
فأخذوا يقتلون، ولما استمر القتل وكثر أتى الوزراء إلى فرعون قالوا: يا فرعون!
قال: نعم.
قالوا: صبحك الله بالنار.
قال: آمين.
قالوا: قتلت أبناء بني إسرائيل وما أصبح عندنا خدم، ونريد أن تقتل أبناءهم سنة وتستحييهم سنة.
قال: سمعاً وطاعة؛ فأتى في سنة يذبحهم وفي سنة يتركهم، ففي السنة التي منع فيها ذبح بني إسرائيل فيه ولد هارون فسلم ونجا والحمد لله، وفي السنة الثانية ولد موسى، فلما أتت أمه نظرت إليه وعلمت أن المسألة مسألة إعدام، وكان جنود فرعون كل ليلة وكل صباح لا تخرج لتملئ الماء إلا وهم عند الباب! أتاكم مولود اليوم بشروا؟ قالوا: أتانا رجل.
قالوا: اعطونا إياه ويذبحونه.
فلما أتاها الولد نظرت إليه فإذا هو جميل بهي عليه من المحبة ما الله به عليم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] يقولون: لا يراك أحد إلا يحبك، حتى امرأة فرعون يوم رأته أحبته، ولذلك الأنبياء هكذا، أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم يرونه فيحبونه.
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
فأخذته فلفته في قماش ووضعته في تابوت وحزمت الخيط بالتابوت وأنزلته في النهر، وهي كانت تسكن على الشاطئ، فأنزلت التابوت فيأتي الجنود فتخرج التابوت وتنزله في الماء، يذهب الجنود تعيد الخيط وترضعه، تسمع صوتاً عند الباب تنزل الخيط ويبقى في الماء، سحبته لترضعه فانقطع الخيط، لا يوجد تابوت، أشرفت على الماء ما وجدت شيئاً، أين ذهب؟ مزارع مصر ممتدة على طول هذا النهر، ولربما أخذه الجنود أو أي شخص، ولكن الحفظ الإلهي والرعاية السماوية أخذته إلى بيت الطاغية الأكبر ليترعرع في بيته وفي أحضان ملكه، فلما أتى به الخدم إلى زوجة فرعون فرحت به، فوصل الخبر إلى فرعون، فأراد قتله.
فقالت له: ما لي ولك ولد -هو عقيم وهي عقيم، أراد الله عز وجل ألا يجعل لها نسلاً منه؛ لأن الكافر أبتر- ونريد أن نربيه وجلست به تترجى وتتمنى وتتوسل قال: نعم، خذيه.
قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:9] قال: قرة عين لك أم أنا فلا.
قال ابن عباس: [[والله لو قال: قرة عين لي ولك كما قالت لجعل الله موسى قرة عين له]].
قالت في سورة القصص: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:9] بدأت بنفسها ثم قالت: ولك.
نشأ هذا الطفل في حبابة وتصون؛ لأن الله يريد له أن يحول العالم، ولما كبر وشب وأصبح طفلاً ترتاح له النفوس تقدم إلى فرعون، وكان على السرير وكان له سلاسل من ذهب وجواهر على صدره فهو ملك، فاقترب منه فأعطاه كفاً مع الصباح! هذا أول الخير وأول المبشرات.
فقال: إيه صدقت الرؤيا، لأقتلنه هذا اليوم.
قالت آسية: أعرض عليك أمراً هذا لا يعرف، هذا طفل صغير وهذا لا يدري بمصلحته من مفسدته، نجمع له تمرة وجمرة، فإن أخذ التمرة فمعناه أنه عرف المصلحة فاقتله، وإن أخذ الجمرة فما يدري.
قال: أصبت.
فعرضت له جمرة وتمرة.
يقول أهل التاريخ والسير: أتى يأخذ التمر -الرجل ذكي يعرف والله يعطيه من المواهب والفطن ما الله به عليم، لأن الأنبياء ليسوا عاديين- فحرف جبريل يده إلى الجمرة، فأخذها فأوقعها في لسانه فارتتقت لسانه، فتركه فرعون.
شب وترعرع في قصة طويلة وإنما المقصود: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [البقرة:49] ولكن نجى الله موسى من هذا الذبح في عام الميلاد، وذهب إلى البستان وتربى في القصر، مغامرة مكشوفة، ولذلك يقال:
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مؤمن
موسى هو موشى بالعبرية، و (مو) معناها الماء بـ اليهودية العبرانية، و (شى) شجر، وإنما سمي موسى ماء، لأنه ولد عند الماء والشجر فيسمونه ابن الشجر أو ابن الشجرة، أو ابن الماء والشجر، ذكر ذلك أبو السعود وغيره من أهل العلم، فترعرع واستقام حاله وانظر كيف تربى في بيت فرعون، وأما موشى ذاك السامري فإنه رباه جبريل على تربية الله أعلم بها، فخرج فاسقاً مارداً وهو الذي أتى بالعجل حتى عبد بنو إسرائيل أو بعضهم العجل، نسأل الله العافية.(181/16)
فرعون قدوة لمن بعده من الطغاة
{يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة:49] قالوا: للخدمة والتمتع، كان الزنا ظاهراً مشهوراً، وكانت كل فتاة إسرائيلية عرضها مبذول على آل فرعون، نعوذ بالله من ذلك {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49] هنا معنيان:
{بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49] قيل: نعمة من الله عظيمة، فتكون الإشارة عائدة على قوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} [البقرة:49] نجيناكم بنعمة عظيمة وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم.
وقيل (بَلاءٌ) نقمة وعذاب، فمن الذبح والسوء والقتل والاستخدام: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49] والآن إذا وجدت إسرائيلياً أو يهودياً صهيونياً وقرأت عليه هذه الآيات أقر بما تقول، وهي موجودة في التوراة ولكن لا يفقهون قال تعالى:
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] قوله {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة:49] يعني أشد العذاب {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [البقرة:49].
هذا كيد الطغاة للدعاة، وهذه مجزرة ينصبها الطغاة الكفرة للدعاة المؤمنين مثل زكريا عليه السلام عندما ذبحه بنو إسرائيل.
تصوروا: في بعض الروايات أن بني إسرائيل قتلوا أربعمائة نبي، ولذلك قال الله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران:112] وفي آية أخرى {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة:61] فقتلوا أربعمائة نبي، ذبحوا يحيى بن زكريا عليهما السلام، قطعوا رأسه وأتوا إلى زكريا وهو جالس يعظهم ويدلهم على الجنة ويحذرهم من النار، فأخذوا رأس يحيى ثم ألقوه بين يديه!
وطاردوا زكريا عليه السلام حتى فر في غابة يريد أن ينجو بنفسه، فأتت شجرة فانقسمت له فدخل فيها، فأخذ الشيطان ببعض ثوبه، فعرفوه فنشروا الشجرة من أعلاها إلى أسفلها فانقسم قسمين.(181/17)
كرامات لخبيب بن عدي
في الصحيح من حديث خباب بن الأرت {قد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم ينشر بالمنشار ما بين لحمه ودمه، أو يوضع المنشار في رأسه حتى يقسم قسمين ما يصده ذلك عن دينه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وممن حدثت له من هذه المصائب خبيب بن عدي أحد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك يقول ابن كثير: إن في أمة الرسول صلى الله عليه وسلم من الصالحين من أتت لهم كرامات مثل معجزات أنبياء بني إسرائيل.
مفهوم الكلام: إن في صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الصالحين من أتت له كرامات مثل ما أتت لأنبياء بني إسرائيل.(181/18)
خبيب يأكل العنب والسحابة تظله
خبيب بن عدي -أحد الصحابة- في معركة وهو شاب في الثلاثين من عمره لكن يتوجه إلى الله، قلبه معلق بالله، أخذوه إلى مكة وأغلقوا عليه، لماذا أخذوه إلى مكة؟ لأنه قتل عظيماً من عظمائهم قيل في بدر وقيل: في غيرها.
وضعوه في مكان وكان السقف مكشوفاً في حر مكة ومنعوه الطعام والشراب، كان يجلس وحده، قيل في بعض الروايات: كانت تأتيه الغمامة فتظلله من السماء.
تقول المرأة التي سجن في بيتها: والله ما في مكة عنقود عنب ولا حبة عنب وقد كنت أدخل عليه وبين يديه أطباق العنب يأكل منها!(181/19)
خبيب في ساحة الإعدام
وفي ساعة قرروا إعدامه فخرج به كفار قريش فلما أصبحوا في الصحراء بنسائهم وأطفالهم وكبارهم وصغارهم قال: يا كفار قريش، قالوا: نعم.
قال: أريد أن أصلي ركعتين.
قالوا: صل وأسرع.
فتوضأ وصلى ثم نظر إليهم قال: [[والله الذي لا إله إلا هو لولا أن تظنوا بي جزعاً من الموت لطولت الصلاة]] ثم رفع يديه وقال: [[اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً]].
ثم رفعوه على المشنقة، هل بكى؟ لا، الأبطال لا يبكون في ساحات القتل، يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو أوصال ممزع(181/20)
سلامه على رسول الله
ثم قال: [[اللهم أبلغ رسولك ما لقينا الغداة]] يقول: اللهم أخبر رسولك ماذا فعل بي؟
ثم قال: [[السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا رسول الله]].
بالله أين مناخ العيس من حلب سهم أصاب وراميه بـ ذي سلم
من بـ العراق لقد أبعدت مرماك
يقول موسى بن عقبة: ففي تلك اللحظة كان صلى الله عليه وسلم يقول في المدينة وخبيب في مكة يقول: {وعليك السلام يا خبيب، وعليك السلام يا خبيب، وعليك السلام يا خبيب {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].(181/21)
النابلسي رحمه الله والمعز الفاطمي لعنه الله
النابلسي عالم ترجم له الذهبي وابن كثير وهو عالم كبير ومحدث، وإذا سمعت أن المحدث يعمل بالحديث فاعلم أن المحدثين واجهات الأمة، القوة تكمن في المحدثين إذا عملوا بعلمهم.
أتى المعز الفاطمي وهو من الحكام الفاطميين الملاعين الذين حكموا مصر وهم زنادقة يهود، جدهم ابن قداح يهودي، وأتوا إلى المسلمين وقالوا: جدتنا فاطمة، ونحن من نسل فاطمة، فصدقهم كثير من الناس وكتبوا لهم صكاً بالنسب وقبلوا منهم هذا؛ فعبدهم كثير من الناس.
الحاكم بأمر الله الفاطمي أتدرون ماذا يفعل؟! يخرج إلى السوق فيسجد له الناس في السوق من دون الله، كان يأتي بعبيد له ويفعل الفاحشة في الناس، يمزق المصحف ويدوسه برجليه، وهو من ذرية المعز.
قال النابلسي في حلقة عظيمة من الناس في مدينة من المدن: من كانت عنده عشرة أسهم فليرم النصارى الذين في طبرية وعكا ويافا وفي حدود البحر الأبيض بسهم واحد، وليرم الفاطميين بتسعة.(181/22)
أعوان المعز يبلغونه مقالة النابلسي
فذهب الجواسيس والعيون فأخبروا المعز وقالوا: النابلسي يقول في حلقته: من كانت عنده عشرة أسهم فليرمِ النصارى بتسعة وليرمك بسهم، والمقالة خاطئة وليست هكذا؛ بل هي مقلوبة.
قال المعز: عليَّ به.
قال له المعز: يا عدو الله -والمعز هو عدو الله وذاك ولي الله- تقول: من عنده عشرة أسهم فليرم النصارى بتسعة وليرمنا بسهم؟
قال: خطأ، الفتيا ليست هكذا بل هي مقلوبة.
قال: ما هي؟
قال: قلت: من كانت عنده عشرة أسهم فليرمكم بتسعة وليرم النصارى بسهم.(181/23)
اليهودي يسلخ جلد النابلسي
فاستتابه فما رجع عن قوله وأخذ يلعن المعز، فأول يوم استتابه ثم شهر به على بغلة وهو يضرب ويلطم، ثم جلده في اليوم الثاني، ثم أتى بيهودي في اليوم الثالث فقال: اسلخ جلده عن لحمه، لا تقتله وابق على رأسه.
فعلقه اليهودي برجليه، وتصور يهودياً يتولى مسلماً! فأخذ اليهودي سكينة ثم سلها، فلما أتى العالم هذا من وجهه أتدرون ماذا قال هذا اليهودي؟ قالوا: والله ما أنَّ النابلسي أنَّة ولا بكى بدمعة وإنما كان يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
فأخذ يسلخ جلده.(181/24)
الملائكة تظلله
وقيل: رئيت الملائكة وهي تظله بأجنحتها وقت سلخ الجلد، فلما بلغ قلبه وهو يسلخ الجلد كما تسلخ الشاة رحمه اليهودي، انظر إلى إنسان يبلغ من الدرجة أن يرحمه اليهودي!! يقول المتنبي:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا
يقول: كفى بك مصيبة إذا تمنيت الموت.
قال الذهبي: فروي أنه لما خرج الدم من قلبه كتب لا إله إلا الله على الجدار، وفي بعض الروايات: أخذ الدم يقطر منه ويكتب: الله الله الله والحساب عند الله يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين، وسوف يرى.(181/25)
سعيد بن جبير والحجاج
ومن ضمن من عذب بالقتل والذبح سعيد بن جبير وقد مر معنا، ولكننا نقر بهذه القصص من نواحي، ونعرضها في قوالب حتى تثبت الدروس التربوية في قلوب الأمة.
سعيد بن جبير يدخل على الحجاج، ما ذنب سعيد بن جبير؟
عالم ينشر العلم، ينشر الدعوة، ينشر لا إله إلا الله، لكن خرج مع من خرج في فتنة ابن الأشعث فأتى به الحجاج فأوقفه أمامه وحاسبه وكلمه كلاماً عنيفاً فما تنازل له سعيد بن جبير بقلامة الظفر!
يقول له الحجاج: من أنت؟
وهو يعرف أنه سعيد بن جبير.
قال: أنا سعيد بن جبير.
قال: بل أنت شقي بن كسير.
قال: أمي أعلم إذ سمتني.
قال: شقيت أنت وشقيت أمك.
ثم قال له: أتريد المال؟ ثم أتى بمال في أكياس فقال له: يا حجاج إن كنت أخذت المال رياءً وسمعة فسوف يكون عليك عذاباً، وإن كنت أخذته تمتنع به وتحتمي به من عذاب الله، فنعم ما فعلت.
فأتى الحجاج بجارية تضرب العود فبكى سعيد بن جبير.
قال: بكيت من الطرب، أأعجبك الغناء؟
قال: لا والله، لكن جارية سخرت في غير ما خلقت له، وعود قطع من شجرة سخر في معصية.
فقال له: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى.
قال: لو كنت أعلم أن ذاك عندك لجعلتك إلهاً من دون الله.
فقال: والله لأقتلنك قتلة ما قتلها أحد من الناس.
قال: يا حجاج اختر لنفسك أي قتلة قتلتني بها، والله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله بمثلها.
قال: ولُّوه لغير القبلة.
فقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] قال: أنزلوه أرضاً.
قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] فذبحوه.
فقال: اللهم لا تسلط الحجاج على أحد من بعدي، يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج.
وما انتهى المجلس إلا وببثرة من هذا الدمل تنشأ في يد الحجاج فيحكه فيتفشى في جسمه ويشتعل جسمه ويصبح كالثور يخور، لا ينام، لا يشرب، لا يرتاح، لا يهدأ، كل ليلة يرى في المنام أنه يسبح في دم.
يقول لوزرائه وهو يبكي: رأيت البارحة أن القيامة قامت وأن الله أوقفني عند الصراط فقتلني بكل رجل قتلته قتلة، إلا سعيد بن جبير قتلني به سبعين مرة!
ثم ما أمهله الله بعده إلا شهراً: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16] وهذا مثل كثير من المكائد التي يضعها أعداء الله لأولياء الله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة:49] قالوا: للخدمة والمنفعة.
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْر} [البقرة:50] نقف مع البحر قليلاً، في البحر أربع قضايا:
القضية الأولى: ماؤه، الثانية: ميتته، الثالثة: ركوبه، الرابعة: عظمة الله تتجلى في خلق البحر.
أما رأيت الشمس إذا أرادت أن تغيب بإذن الله على البحر؟ أما ركبت البحر ورأيت العظمة؟ هذا اليابس الذي نعيش منه لا يشكل إلا ربع هذه الكرة الأرضية بل أقل، أما رأيت البحر كيف يهيج؟ أما رأيته إذا ماج وغضب؟ هذا خلق الله يتجلى في هذا المخلوق، فلذلك ماؤه -للفائدة- سئل عنه صلى الله عليه وسلم قال: {هو الطهور ماؤه الحل ميتته} حديث صحيح.(181/26)
الأسئلة(181/27)
حال مؤمن آل فرعون
السؤال
قال الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28] فالرجل مؤمن فهل يعتبر من آل فرعون الكفرة، أرجو توضيح ذلك؟
الجواب
{ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [غافر:28] إضافة نسب لا إضافة ولاء ونصرة، لذلك ذكر الله مثل لوط عليه السلام وصالح وهود فقال: {قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ} [الشعراء:142] فأخوهم في النسب لا في الولاء والمنهج والمشرب والتشريع، فهو من آل فرعون في النسب وليس في الدين.(181/28)
الأعمال تعرض يوم الإثنين والخميس على الله
السؤال
الحديث الذي معناه: {صوموا الإثنين والخميس فإن الأعمال تعرض يوم الإثنين والخميس} هل تعرض على الله أم على الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
أولاً: الحديث صحيح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم الإثنين والخميس، فقالوا: يا رسول الله! لمَ تصوم؟ قال: {إن الأعمال تعرض على الله يوم الإثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم}.
ولكن الأعمال تعرض على الواحد الأحد، لا تعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا، ولا يحاسب العباد، ولا ينعم عليهم ولا يعذبهم، إنما بلغ الرسالة ويشفع في الآخرة.
وأما الحديث الصحيح من حديث أوس بن أوس في السنن وغيرها أن الصلاة والسلام تعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله: {أكثروا علي من الصلاة والسلام ليلة الجمعة ويوم الجمعة} فعليه الصلاة والسلام ما كور الأقدار، وما أتى الليل وعقبه النهار، وما فاحت الأزهار، وما تدفقت الأنهار، فعليه الصلاة والسلام دائماً وأبداً، قال: {أكثروا من الصلاة والسلام علي ليلة الجمعة ويوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي قالوا: كيف تعرض عليك صلاتنا يا رسول الله! وقد أرمت -أي بليت؟ - قال عليه الصلاة والسلام: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} وليس في الحديث الشهداء بل الأنبياء، فالصلاة والسلام تعرض عليه لكن لا تعرض عليه الأعمال، لأن المحاسب والمجازي وكاشف الضر هو الله، ويخطئ من يذهب إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم ويقول: اكشف مرضي، أو نجح ابني هذا شرك {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] فليتنبه إلى هذا.(181/29)
حديث: (أول رمضان رحمة)
السؤال
ما صحة الحديث الذي يقول: {أول رمضان رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار}؟
الجواب
هذا الحديث لا يصح وهو حديث ضعيف، ونبه على ضعفه المنذري في الترغيب والترهيب وهو من أحاديث فضائل الأعمال.(181/30)
الإسرائيليون اليوم من سلالة بني إسرائيل
السؤال
هل الإسرائيليون الموجودون الآن هم سلالة بني إسرائيل؟
الجواب
بنو إسرائيل هؤلاء من تلك السلالة، شامير ورابين وموشى ديان وأمثالهم وأذنابهم هم من اليهود تماماً، لا تلد الحية إلا حية، الخبيث من ذاك الصنف الخبيث.
أما موسى عليه السلام والمؤمنون -رضي الله عنهم وأرضاهم فهؤلاء نحبهم ونتولاهم وهم في موكب كريم، ومنهم كثير ممن أسلم من اليهود كـ عبد الله بن سلام وكعب الأحبار وأمثالهم.
وبعض الناس يقول: نسالم اليهود، اليهود قوم حلماء.
ونحن نقول: بل هم قوم ألداء، لا يمكن أن ينزعوا الغل من صدورهم، وهم أعداؤنا بلا شك يريدون تمزيق العالم الإسلامي، وكل خراب وإجرام وزنا وربا في العالم عامة فهو من اليهود.(181/31)
حكم الإسلام في من ينكر عذاب القبر
السؤال
ما حكم الإسلام في من أنكر عذاب القبر؟
الجواب
إن أقر بالأدلة وعلم بها فأنكر فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإن لم يصله دليل ولم يعلم فيبصر ويعذر بجهله حتى يبصر.(181/32)
كراهة الإشارة إلى النفس عند ذكر الصفات
السؤال
في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] أشرت إلى نفسك، ألا ترى أنه من التشبيه، أرجو بيان ذلك؟
الجواب
إن رأيت هذا فأنا معك ونتصالح أنا وإياك وقد يكون هذا، والأحسن للإنسان ألا يشير في الصفات إلى نفسه، لا يقول: {كنت يده التي يبطش بها، وسمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به} ويشير إلى نفسه، وقد تكون مني مع السرعة والشرح فأشرت إلى ذلك، فأنت مشكور على كل حال.(181/33)
ليس في القرآن مجاز
السؤال
هل في القرآن مجاز؟
الجواب
ليس في القرآن مجاز على الصحيح، وهو رأي لشيخ الإسلام ابن تيمية ولـ ابن القيم وللأمين الشنقيطي صاحب التفسير على أن المسألة فيها خلاف حتى عند أهل السنة، لم يجمعوا على أليس في القرآن مجاز بل فيهم من يقول: إن في القرآن مجازاً.(181/34)
رأي الشيخ في مجموعة من الشعراء
السؤال
ما رأيك في هذه الشخصيات: أبو العلاء المعري، بشار بن برد، الجاحظ، محمد عبده الإمام، عبد الله بن المقفع؟
الجواب
أبو العلاء المعري ذهب إلى الله وقد ترجم له الذهبي وابن كثير وأبو العلاء أعمى القلب والبصر، رهين المحبسين، ما تزوج، ولا كان يأكل الحيوانات مثل الدجاج، يأكل النباتات فقط، فيلسوف، يقول: عذاب وحرام أن يعذب الإنسان الدابة، كيف يذبح الشاة ويأكل منها؟!
انظر إلى العميل الخسيس! متخلف! الله يبيحها وهو يقول: لا، حرام، لا يأكل إلا بطاطس وعدس! يصبح على بطاطس ويمسي على فول! حتى أصبح عقله مملوءاً بالكفر والزندقة، وهو شاعر مجيد من الدرجة الأولى، حتى ترجم له الذهبي قال: وله تلك الأبيات المشهورة يقول فيها:
يا راقد البرق أيقظ راقد السمر لعل في القوم أعواناً على السهر
وإن سقيت بلاداً من بني مطر فاسقِ الأواهل حياً من بني مطر
ما سرت إلا وطيف منك يتبعني يمشي أمامي وتثويباً على أثري
يود أن ظلام الليل دام له وزيد فيه سواد السمع والبصر
يقول: يريد المحبوب مع حبيبه أن ظلام الليل يدوم وأنه يعطى من سواد العين؛ ولذلك ابن القيم كلما مشى صفحتين في بعض الكتب قال:
يود أن ظلام الليل دام له وزيد فيه سواد السمع والبصر
فهي له، وليته اكتفى بهذا فهو شاعر، يقول في قصيدته:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادي
وسواء صوت الشدي إذا قيس بصوت النعي في كل نادي
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
كلام عجيب! لكن ليته سكت لكنه تفوه بالكفر والنفاق والزندقة.
يقول: إذا أخطأ الإنسان وقطع يد آخر فهي بخمس مئتين دينار ذهب، فإذا سرق تقطع في ربع دينار.
قال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستعيذ بمولانا من النار
يا خسيس، تستعيذ بعدما كفرت؟! تناقض الشريعة وتقول: نستعيذ بمولانا من النار؟
فرد عليه علماء أهل السنة مثل القاضي عبد الوهاب المالكي -بيض الله وجهه- يقول في قصيدة يدمغ هذا الفاجر:
قل للمعري عار أيما عار جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عاري
لا تقدحن بنود الشرع عن شبهٍ شرائع الدين لم تقدح بأشعار
وذهب إلى الله وقد استهزأ في أبياته، ورئي في منامه كما ذكر بعض أهل العلم أن عليه حية لما دفن، فأخذ رأسها بلسانه وذنبها أخذ بفرجه، وهذا من عذاب القبر وسوف يلقى ما قدم، ولا أدري هل تاب أم لا.
أما الاستهزاء فوالله لقد ملئ ديوانه بالاستهزاء والاستهتار، وقد كان ذكياً لكن لم يكن زكياً، أكل مشمشاً -وقد كان أعمى- فوقعت قطرات على صدره فقال له رجل: أكلتم مشمشاً اليوم؟ قال: قبح الله العمى؛ عرف أنه وقع على صدره شيء.
ذكر الذهبي أنه نام على سرير قال: ارتفعت السماء قدر درهم أو ارتفعت الأرض قدر درهم، فبحث فوجد تحت فراشه درهم، وأظن أن هذه من كذبات الصنع، بعض الكذبات باستطاعتك أن تجبرها لكن بعضها لا تجبر، لكنه على كل حال زنديق إن لم يتب.
أما بشار بن برد فهو شعوبي، فيدرالي، دكتاتوري، يسعى إلى التمييز العنصري، هو ينادي دائماً بـ الشعوبية ويبغض العرب، هو شاعر وهو صاحب:
إن في بردي جسماً ناحلاً لو توكأت عليه لانهدم
يقولون: سمع هذا البيت رجل في المدينة فبقي طول الليل ينشد هذا البيت قال: ليتني أجد هذا الرجل، والله لأسافرن له، أين هو؟ قالوا: في بغداد؛ فركب دابته وتوجه إليه فاقترب منه فقال: أين بشار؟ قالوا: في هذا البيت.
فدخل عليه فوجده مفلطخاً على فراشه كالثور، قال: يا عدو الله أنت الذي تقول:
إن في بردي جسماً ناحلاً لو توكأت عليه لا نهدم؟
قال: نعم.
قال: كيف تقول هذا؟
قال: أما يقول الله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224 - 226]؟
وهو الذي يقول:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وشعره جميل لكنه شعوبي، واتهم بشيء من النفاق، ومات كما يموت التيس الأعمى في السفينة فذهب إلى الله.
أما عن الجاحظ: فهو يقود فرقة الجاحظية، وهو خطيب المعتزلة وخطيب هذه الفرقة الجاحظية وأهل البدعة، وخطيبنا نحن أهل السنة هو ابن قتيبة.
يقول ابن تيمية: خطيب أهل السنة ابن قتيبة وخطيب المبتدعة الجاحظ، له كتاب الحيوان من أحسن ما يكون، وله كتاب البيان والتبيين، ذكي؛ لكنه استخدمه في بدعة، وبدعته الله أعلم بها، لكن نسأل الله أن يعافي من مات مسلماً.
صورته مشوهة، كان جاحظ العينين، عيناه تكاد أن تخرجان من رأسه، وعنده شعر في حواجبه بكثرة، حتى أتت امرأة إلى صائغ يصنع الخواتم فقالت له: أريد أن ترسم على خاتمي الشيطان.
قال: أين الشيطان، ما رأيته؟ قالت: انتظر قليلاً، فذهبت إلى الجاحظ فقالت له: إن بائع الختم يريدك في غرض، فأتت به بيده فقالت له: مثل هذا! وهو على كل حال أجاد في الكتابة، وقد أثرت مدرسته الأدبية في كثير من الكتاب مثل المازني والرافعي تأثرا به في بعض النواحي، والشيخ علي الطنطاوي متأثر به في بعض الكتابات، فقد كون مدرسة أدبية، لكن العقائد والدين لا تؤخذ منه، وهو أديب هزلي.
الشخصية الرابعة: محمد عبده الإمام؛ الإمام لأنه لو لم يذكر السائل الإمام أخرج مطبلاً آخر، لا نتكلم عنه ولا نتكلم على الناس، علمهم عند ربي ونسأل الله أن يتوب عليهم، لكن نتكلم عن هذا الإمام محمد عبده المصري، هو بارع ذكي وتلميذ جمال الدين الأفغاني، كان يشرح القرآن فيبهر الألباب، جلس في تونس ومصر وفرنسا وباريس وكون جريدة العروة الوثقى وهي جريدة يومية، كان يسلب الألباب بكتابته، وكان إذا تكلم في القرآن يقف الناس مدهوشين منه!
الرجل الله أعلم به، لكن اتهم بأمور أما ظاهره فطيب، ومن يقرأ تفسير المنار لرشيد رضا يعلم أن الرجل فيه الخير وأنه يريد الخير لكن اتهم بالاعتزال، واتهم ببعض الانحرافات، واتهم أنه تورط مع الماسونية العالمية وربما يوجد له أعذار، ولكن بالنسبة لي لا يزال من الأشخاص الذين أتوقف فيهم، ونسأل الله ألا يحاسبنا بذنب أحد من الناس هو وجمال الدين الأفغاني {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134].
الشخصية الخامسة: عبد الله بن المقفع؛ اتهم بالزندقة وهو أديب كبير، ولكن وجد أنه يريد من الناس أن يعبدوا النار، فعلمه عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
إلى هنا وننتهي وسوف يكون للدرس بقية، أسأل الله لي ولكم قبولاً وهداية وسداداً، وأسأل الله أن يجعل ما تجشمتم به من تعب في سبيله، وما مشيتم فيه من خطوات رافعات للدرجات، درجات الحسنات مكفرات للسيئات، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.(181/35)
من آداب النبوة (1)
الأدب والتحلي بالأخلاق الحميدة من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم, بشهادة الناس والتاريخ, بل بشهادة الله سبحانه, ولأنه القدوة والأسوة صلى الله عليه وسلم, كان لزاماً على كل مسلم أن يتبعه ويسير على خطاه.
وقد سلك الشيخ للوصول إلى تلك الأخلاق والآداب أعظم طريق موصل إلى ذلك, وهو كتاب الإمام البخاري: الجامع الصحيح الذي يعد المصدر الأول لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن تكلم الشيخ عن الأدب واستخدام لفظه, اقتبس من كتاب الأدب أبواباً مهمة وتكلم عنها، وهي كالتالي: باب البر والصلة, باب من أحق الناس بحسن الصحبة, باب لا يجاهد إلا بإذن الوالدين, باب لا يسب الرجل والديه, باب عقوق الوالدين من الكبائر.(182/1)
معنى الأدب واستعمال لفظه عند الإمام البخاري وأهل العلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(182/2)
كتاب الأدب في صحيح البخاري
معنا في هذه الليلة أول الأحاديث من كتاب الأدب من صحيح الإمام البخاري حياه الله وبياه، وأنزله أحسن المثوى في دار النعيم، ورفع درجته بما رفع للأمة من سلامة في هذا الكتاب الصحيح.
يقول رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الأدب، باب البر والصلة، وقول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت:8] ثم قال: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، قال الوليد بن عيزار أخبرني، قال: سمعت أبا عمرو الشيباني، يقول: أخبرنا صاحب هذه الدار وأومأ بيده إلى دار عبد الله، قال: {سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزادني}.
أولاً: للبخاري رحمه الله تعالى كتابٌ منفصل اسمه الأدب المفرد، فيه الحديث الصحيح والحسن، وربما كان فيه الضعيف، وفيه الموقوفات على الصحابة وعلى بعض التابعين، والأدب أتى به في صحيحه غير كتابه المستقل؛ لأنه جعل كتابه الصحيح يضرب في كل غنيمة بسهم، فهو كلما انتهى من باب فتح جبهةً أخرى، ليكون كتابه -إن شاء الله- من أكبر المصادر في الإسلام.
وقد تكرر معنا في بعض الدروس، أن شيخ الإسلام ابن تيمية سئل في المجلد العاشر من الفتاوى: أي كتاب يكون أنفع في طلب علم الحديث؟ قال: لا أعلم كتاباً أنفع ولا أكثر إفادة بعد كتاب الله وصحيح البخاري.
فهذا الكتاب ثروة عظيمة عند من يعرف الثروات.(182/3)
تعريف الأدب
الأدب اختلف في تعريفه، ونحن نحاول أن نقترب من التعريف المسدد بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي التعريف سعة، وليس فيه مشاحة بين أهل العلم، قيل: الأدب استعمال ما يجمل من الأقوال والأعمال والأحوال.
وقيل هو: أن تكون رضي الخلق سهل الطبيعة.
وقيل: هو أن تكون متأدباً بأدب الله الذي أنزله على رسوله وهذا تعريف لأهل الإسلام.
وقيل: هو أن تكون على تعاليم الكتاب والسنة، وعلى ما أتى به المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو مثل الذي قبله.
وقيل الأدب: هو ألا تخرج من الدين بفسق -نعوذ بالله- ولا من المروءة بخارمٍ، ويستحق هذا التعريف أن يكون عند أهل الجرح والتعديل.
الأدب فيه الواجب وفيه المستحب، والأدب -بارك الله فيكم- صبغة يجعلها الله ويحليها من يشاء سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فالأدب ليس هو الشعر الذي تسمعونه، لا الحر ولا الحداثي، فهذا أمر آخر، لكن أهل الإسلام والحديث والتفسير والسير والفقه إذا تحدثوا عن الأدب فمعناه ما يجمل أو يحسن من الأقوال والأعمال الظاهرة والخفية، وأحسن ما يروض المسلم عليه في الأدب كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أشار القرآن إلى كثير من الآيات في الأدب، قال لقمان لابنه وهو يعظه عليه السلام: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] وهذا أدب.
لأن العجيب أن وصية لقمان عليه السلام لابنه، بدأت بالعقائد، ثم العبادات، ثم الأخلاق والأدب والسلوك، فقال: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] عقيدة، وقال: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] عبادات، ثم قال: {واقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان:19] أدب، وهذا هو الأدب الذي يريده الله عز وجل من الناس.(182/4)
نموذج لأهل الأدب الشرعي
قال ابن المبارك رحمه الله: طلبنا الأدب حيث لا مؤدبين، فهو يشكو حاله على عصره، يقول: طلبنا الأدب حيث لا مؤدبين، يقول: ما وجدنا من يؤدبنا، ونحن في الكبر أصبحنا شيوخاً، وقد اشتعلت رءوسنا شيباً، فأصبحنا نطلب الأدب، فكيف لو رآنا عبد الله بن المبارك في هذا العصر! فهو في عصر تابعي التابعين، وكان معه مؤدبون وأخيار، وعلماء وفقهاء ومحدثون وزهاد وعباد ويشكو من حاله، يقول: طلبنا الأدب حيث لا مؤدبين.
وكان عبد الله بن المبارك هذا من آدب الناس، ولا بأس أن نسرح قليلاً مع عبد الله بن المبارك وللذهبي كتاب اسمه قضِّ نهارك بأخبار ابن المبارك، يقول الذهبي في تذكرة الحفاظ: والله! إني لأحبه لما جعل الله فيه من العبادة والزهد والعلم، أو كما قال.
عبد الله بن المبارك كان من أحسن الناس أدباً، وكان يضع كلمات أدبية نثرية وشعرية في منهج الأدب، يقول من ضمن أبياته:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا عفاف وحياء وكرم
قوله للشيء لا إن قلت لا وإذا قلت نعم قال نعم
وهذا يسمى أدب الموافقة، أن يوافقك الشخص في غير معصية؛ لأن بعض الناس من قلة أدبه يحب الخلاف فيما لا فائدة فيه، إن قلت: نجلس تحت هذه الشجرة، قال: هذه أحسن، وإن قلت: ننطلق الساعة السابعة، قال: لو تأخرنا للثامنة كان أحسن، وإن قلت: ما رأيك نتكلم ربع ساعة، قال: لو كان ثلث ساعة كان أحسن، لا لشيء؛ لأن المسألة متقاربة ولكن حب الخلاف، وهو الذي ينعاه ابن المبارك على أهل عصره في القرن الثالث، فكيف لو رآنا في القرن الخامس عشر.
ابن المبارك رحمه الله رحمة واسعة، كان يترنم بأبيات في الأدب كثيراً، وكان في أكثر أبياته، يعلم الناس الزهد والسيرة والأخلاق، وهو بمجمله يسمى الأدب، خرج من مكة وترك الفتيا، وأخذ بغلته، فقال له الناس: أتترك الحرم وتخرج للجهاد؟ قال:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا(182/5)
أمثلة أخرى لأهل الأدب
وكان من أفضل الناس قولاً في الأدب الإمام الشافعي، ولذلك سجل له الإمام الذهبي أكثر من عشر نقاط تكلماً على الأدب، يقول: والله الذي لا إله إلا هو لو أنقص الماء البارد من مروءتي ما شربته -لو كان الماء البارد ينقص من المروءة ما شربته-.
وكان من أدبه أنه ما بصق عن يمينه ولا عن يساره أبداً، فكان يخفي بصاقه، قال: وما مد رجله مع الجليس من أدبه أبداً، قال: وما قاطع أحداً في كلامه حتى ينتهي.
وهذا أدب الكتاب والسنة، وإنما تعلموا الأدب من المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي نحن بحاجته أحوج إلينا من كثير من العلم.
يقول أحد أهل العلم: ينبغي أن يكون أدبك كالدقيق وعلمك كالملح، قال بعض المتأخرين: فما أصبح عندنا لا دقيق ولا ملح.
وقال عامر الشعبي: لا يطلب العلم إلا رجلان عاقلٌ وناسك، فإن طلبه عاقل بلا نسك -بلا دين- قالوا: هذا أمرٌ لا يتحصل عليه أبداً، وإن طلبه ناسكٌ بلا عقل، قالوا: هذا أحمق لا يحصل على شيء أبداً، وإنما يطلب الفهم العاقل والأديب الذي يتقي الله عز وجل، ورأس الحكمة مخافة الله، ومن لا يخاف من الله فلا أدب له أبداً.
ولذلك أخطأ كثيرٌ من أهل الأدب، كـ ابن عبد ربه وابن قتيبة في عيون الأخبار وفي العقد الفريد، يوم ذكروا أدب كسرى، وقالوا في وصف بعض الأئمة: كأن هذا الإمام أدَّبه كسرى، سبحان الله! أكسرى أصبح مؤدباً؟! أصبح الدجال مؤدباً ومسيراً للأمة ومعلماً وفقيهاً؟! لا والله، لكنه أدبه محمد عليه الصلاة والسلام، فهذه مسألة الأدب.
وممن نقل عنه الأدب معاذ رضي الله عنه وأرضاه، ذكروا عن أدبه الجم الكثير.
فقد كان من حيائه لا يعمد بصره لجليسه حياءً وأدباً وتقوى ورعاية للجليس، وهذا نحن بحاجة إليه جد الحاجة، وأحوج ما نكون إليه أن نربي أطفالنا على الأدب الذي أتى به محمدٌ عليه الصلاة والسلام، وهناك ما يقارب مائة حديث في الأدب، سوف يسوق منها البخاري ما لذ وطاب، من الثمر المستطاب، في كل فن في الطعام، والشراب، والمنام، والإياب، والذهاب، كأنها أخذت من أم الكتاب، فجزاه الله خيراً وأسبل على قبره شآبيب السحاب.(182/6)
الكلام عن قول البخاري: باب البر والصلة
هذا الإمام البخاري يقول: باب البر والصلة، وهذا فيه لف ونشر، لف العنوان ثم سوف ينشره نشراً.
ملكٌ منشدُ القريض لديه يضع الثوب في يدي بزاز
ولذلك تبويب البخاري أجلس العلماء على الركب، حتى كان يتساءل الزين بن المنير في شرحه، ماذا يريد بهذا الباب؟
ويأتي ابن بطال فيقول: يريد كذا، وابن التين، قال: لا يريد كذا، وابن حجر يأتي ويربع، ويقول: بل أراد كذا, وهذه هي العظمة، وبعض الناس يشف ويرف ويدرج حتى يصل في العظمة مكانة لا يرقى إليها، ولذلك فتح الله عليه بصدقه ولإخلاصه وعلمه في هذا الكتاب فتحاً عظيماً.
ويروى عنه أنه قال: ما رويت حديثاً حتى اغتسلت وصليت ركعتين واستخرت الله، وبعدما سوده كتبه في ضوء القمر قبل الأسحار في روضة المصطفى صلى الله عليه وسلم في المدينة.
قلت لليل هل بجوفك سر عامرٌ بالحديث والأسرار
قال لم أجد في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسمار
باب البر والصلة، إن كان على الإضافة فالجر، وإن كان على القطع فالرفع، بابٌ البر والصلة، وباب البر والصلة، قال: البر هنا لف، وترك المضاف إليه بر الوالدين، والصلة صلة الرحم.(182/7)
سبب نزول قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً)
وقول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت:8] آيات الوصاية بالوالدين في القرآن ثلاث آيات، في سورة الأحقاف، وفي سورة العنكبوت، وفي سورة لقمان، وكأن هذه الآية في سورة لقمان وابن حجر عاكس قليلاً مع بعض الشراح، وقال: هذه الآية التي في لقمان وليست التي في العنكبوت، ثم عاد وقال: ربما تكون التي في العنكبوت.
سببها: سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وخال رسول الله صلى الله عليه وسلم، مدمر إمبراطورية كسرى، دائس الظلمة بأرجله، الذي كسر إيوان العمالة والضلالة إيوان كسرى، يقول عنه مصعب ابنه، قال أبي لما أسلم: أشهد أن لا إله إلا الله -أمام أمه- وأشهد أن محمداً رسول الله، قالت أمه: أصبوت؟ ثم حلفت بلاتها وآلهتها لا آكل أكلاً، ولا أشرب شراباً حتى تعود عن دينك -والحديث في صحيح مسلم - فحاول معها, وراودها فأبت، قالت: أدينك يأمرك أن تعصيني، وأن تعقني؟ فأنزل الله عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت:8] وهناك: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15].
قال: [[يا أماه! والله الذي لا إله إلا هو، لو كان لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما عدت عن ديني]] حياك الله وبياك أيها البطل المقدام! فلما رأت الجد أكلت وشربت والحمد لله والشكر، واسم هذه الأم حمنة، وهي لم تسلم، وربك يهدي من يشاء ويضل من يشاء، سبحان الله!(182/8)
الهداية بيد الله
يأتي الله عز وجل برجال من أطراف الدنيا فيسلمون ويؤمنون، ويأبى الذين بين الركن والحطيم وعند زمزم أن يسلموا {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
أتى بـ أبي هريرة من بلاد دوس من زهران ليكون أكبر راوية في الإسلام، وأتى بـ سلمان من أرض فارس ليكون حامل رسالة نداء الأرض إلى السماء، وأتى بـ بلال من أرض الحبشة لتستفيق على أذانه الدنيا، وأتى بـ صهيب الرومي ليكون سفير الإسلام إلى الروم، وأتى بـ خباب بن الأرت ليكون موجهاً من أكبر سادات الصحابة، وأتى بـ ابن مسعود راعياً من رعاة الغنم في هذيل ليكون من أكبر علماء الدنيا ومن أذكياء العالم الذين أنصتت لهم أذن الدهر.
ولكنْ أبو طالب الذي تبجح بكبريائه ما أسلم، وأبو لهب الذي التهب رأسه بالغباء ما آمن، والوليد بن المغيرة الذي كان يكسر الذهب بالفئوس ما انقاد للرسالة، سبحان الله! {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
انتهينا من قصة سعد، وللصحابة قصص طويلة مع أمهاتهم، هؤلاء العجائز لهن نكبات ووقفات وعثرات هناك ربما ثلاثين عجوزاً وقفت في وجه الدعوة؛ لأن رأسها جف وخف ونشف لا يفهم لا إله إلا الله، دُمغ فلا تدخله لا إله إلا الله، ولا يفهم إلا بالفأس.(182/9)
ضرورة نصرة الشباب لدينهم
ذكر بعض الشراح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر بالشباب، ولذلك لما التقى في بدر المهاجرون والأنصار مع الكفار، كان أكثر جيش الرسول صلى الله عليه وسلم شباباً، ولذلك لما هَجَمَ أبو حمزة الخارجي على المدينة واقتحم أسوارها، خطب في المسجد النبوي، وقال: تعيبونني بأصحابي تزعمون أنهم شباب، والله لقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم شباباً، شبابٌ مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة إلى الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة وأطلاح سهر، وهل كان عظماء الإسلام إلا شباباً، وهل كان علماء الصحابة إلا شباباً.
ولذلك أتى الشيطان فوسوس لنا في أذهاننا، وقال: لا يتحدث متحدث حتى يبلغ الخمسين والستين وخمسة وتسعين، حتى تضيع الأمة، وتتردى الإرادة والمعطيات ومصداقيات الناس فلا يفهمون، ومعاذ أرسله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن في الثامنة عشرة، وأسامة أرسله صلى الله عليه وسلم في الثالثة عشرة، وقيل: في الخامسة عشرة، وابن عمر كان يتحدث ويقول ويفعل وهو في الخامسة عشرة.
شباب ذللوا سبل المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا
وما عرفوا الأغاني مائعات ولكن المنى كانت منونا
أو كما قال.(182/10)
قصة إسلام أم أبي هريرة
إذا علم هذا فمعنا أبو هريرة وأمه، أتت من أرض دوس، فلما دخلت أتت تسب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أماه! اتقِ الله، لا تسبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت تسب، فأخذ يبكي رضي الله عنه وأرضاه، وذهب إلى الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر؛ فدعا لها صلى الله عليه وسلم، فعاد فإذا هي تغتسل من وراء الباب لتتهيأ للإسلام، فلما طرق عليها الباب، قالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فبكى من شدة الفرح.
طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
فعاد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، والحديث في الأدب المفرد، فأخبره الخبر، قال: {يا رسول الله! ادع الله أن يحببني وأمي إلى صالح المؤمنين، ويحبب صالح المؤمنين إلي وإلى أمي؛ فدعا لهما، قال أبو هريرة: فو الله! ما رآني أحد من المؤمنين أنا وأمي إلا أحبنا} ونحن نشهد الله على أننا نحبه في ذات الله.(182/11)
الكلام عن راوي الحديث: ابن مسعود
قال: أخبرنا صاحب هذه الدار، وصاحب هذا الدار ابن مسعود، فقد كان في العراق كالسراج المنير، وكان من ألطف الناس، يقول حذيفة: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن أقربهم إلى الله وسيلة هو ابن مسعود، وقالوا: ما رأينا رجلاً أقرب دلاً ولا سمتاً ولا هيئة ولا تقوى بالرسول صلى الله عليه وسلم من ابن مسعود.
وذكروا عن الإمام أحمد أنه كان من أعجب الناس بتقواه وبزهده وورعه، وذكروا أنه أخذ هذا الورع من هشيم الراوية الكبير، وأخذه هشيم عن سفيان الثوري وأخذه عن إبراهيم النخعي، وأخذه إبراهيم النخعي عن علقمة بن قيس تلميذ ابن مسعود، وأخذه علقمة عن ابن مسعود وابن مسعود أخذه عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
سندٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
وروى النعمان عن ماء السماء كيف يروي مالك عن أنس
قال: أخبرني صاحب هذه الدار، وأومأ بيده إلى دار عبد الله، وكانت دار عبد الله التي أشار إليها، قريباً من المسجد ليقرب من الفتيا والتعليم، وكان يحدث الناس كل يوم خميس لا يزيد على ذلك، فقال له أهل العراق: وددنا يا أبا عبد الرحمن! أنك تحدثنا كل يوم.
من حسن حديثه، كأنه الثمر المستطاب، أو كأنه الشهد المصفى، أو كأنه الماء الزلال، أو كأنه الهواء العليل على القلب السقيم، قالوا: [[وددنا أنك تحدثنا كل يوم، قال: والله! إني أتخولكم بالموعظة كما كان صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا]] يتخولنا، قيل: يتحولنا وأقربها يتخولنا من التخول خالاً بعد خال.
فـ ابن مسعود لذكائه وفطنته في فقه الدعوة، كان يتكلم مع الناس وهم يشتهون حديثه؛ لأنّ بعض الدعاة يكلم الناس سرمداً ليلاً ونهاراً وصباحاً ومساءً وصيفاً وشتاءً، حتى يقول له الناس من الاستثقال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.
وهذا الأعمش قيل له: أنزلت في الثقلاء آية؟ قال: نعم.
قالوا: وما هي؟ قال قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12] وذكر عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمته، أنه قال: إذا صلى عن يمينك ثقيل فسلم تسليمةً تكفيك.
وهذه فتوى تسمع ولا يعمل بها، ولكنا على عهدة الأعمش الزاهد العابد النحرير رضي الله عنه وأرضاه ورحمه الله، فهو الذي يقول: ما فاتتني تكبيرة الإحرام في الجماعة ستين سنة، لكنه كان صاحب دعابة كـ الشعبي.
يقول: صاحب هذا الدار وأومأ بيده إلى دار عبد الله، ربما كان يتحدث في داره، وربما يتحدث في المسجد، وكان إذا قام يتحدث أخذ العصا واهتز هو والعصا سيان، فقالوا له: مالك؟ قال: أتدرون عمن أتحدث؟! أتحدث عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقام يتحدث في مسجد الكوفة؛ فرأى حية وهو يخطب الناس قد دخلت المسجد؛ فهاب الناس منها، وكان من أصغر الناس جسماً، ربما كان أصغر الحضور جميعاً، فانطلق من بين الصفوف وأخذ يضربها حتى قتلها.
وهو في أثناء طريقه سمع رجلاً يقول: يا ابن مسعود! من أين تأتي بهذه الأحاديث؟ فاقترب منه؛ فشم منه رائحة الخمر، فقال: [[أتكذب بالكتاب وتشرب الخمر؟! والله لا تفارق المسجد حتى أجلدك ثمانين]] فجلده في طريقه، قالوا: فقتل حية، وجلد مجرماً، وعاد يخطب، كان نحيل البنية، لكن بين جنبيه قلب كبير.
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم، والعقلاء أسئلتهم مفهومة، أما سؤال البلهاء فلا يعرف، ولذلك كانت أسئلة الناس عند الرسول صلى الله عليه وسلم تعلم بعقل الرجل، دل على اختصاصك بالعقل سؤالك للعاقل أو للعالم، قال أنس في صحيح البخاري: [[كان يعجبنا الرجل اللبيب أن يأتي من البادية فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع، فيخبره عليه الصلاة والسلام ونحن نسمع]] قال: اللبيب العاقل؛ لأنه يوجد رجلٌ لا يجيد الأسئلة فلا يستفيد الناس منها.
ولذلك كان من أجود الناس سؤالاً ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال: {سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل} وهذا ليس مثل سؤال الأعراب، فإن أحدهم يأتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فيربط ناقته في الوادي ويقول: {أين ناقتي يا رسول الله؟} والثاني يقول: {أفي الجنة ثريدٌ يا رسول الله؟} أي: لحم بخبز، والثالث يقول: {يا رسول الله! أيزرع هذا الزرع والنخل في الجنة؟ قال: نعم.
فيها ما تشتهي الأنفس، قال: إذاً هذا يعجب الأنصار} لأن الأنصار أهل نخل، لكن هذه الأسئلة ما كانت ترد على علماء الصحابة ومنهم ابن مسعود.(182/12)
الكلام عن حديث: (أي الأعمال أحب إلى الله)
قال: {سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أيُّ -هذه تضبط عند النحاة بأيٌ بالتنوين، وتضبط بأي ويوقف على حركة الرفع- ثم أيُّ؟ قال: ثم بر الوالدين، قال: ثم أيُّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: حدثني بهن ولو استزدته لزادني}.
أولاً: لماذا لم يورد الزكاة والصيام والحج؟ هذا سؤال.
والسؤال الثاني: لماذا لم يستزده ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه؟
والسؤال الثالث: لماذا أتى ببر الوالدين قبل الجهاد، وذاك نفعه متعدٍ لصالح الإسلام، وهذا نفعٌ خاصٌ للوالدين؟ ولو أنه متعدٍ لكان تعدياً نسبياً إضافياً.
أما لماذا لم يذكر الزكاة والصيام والحج، فإنه ذكر الأعمال المعتادة التي تلازم العبد دائماً وأبداً، فذكر عليه الصلاة والسلام هذه الأمور التي هي الأحب إلى الله، ولا يقتضي الأحب إلى الله أنه أعظم أو أجل شأناً، هذا جواب.
قال عليه الصلاة والسلام: {الصلاة على وقتها} وفي لفظ في الترمذي والحاكم بسند صحيح: {الصلاة على أول وقتها} فأنت إذا لم تأت بها في أول وقتها فقد تنازلت في الدرجات حتى تصل إلى مسألة القضاء فقط، أو أداء بتأخر.
أما الحديث الذي عند الدارقطني {أول الوقت رضوان الله، وأوسط الوقت رحمة الله، وآخر الوقت غفران الله} فهذا الحديث لا يصح، فيه يعقوب بن الوليد، قال الإمام أحمد: يعقوب بن الوليد جبل من جبال الكذب، وقال علي بن المديني: أحد الكذابين الكبار، فهذا الحديث لا يصح، ولو أن ابن حجر رحمه الله تساهل وغض طرفه، ولو أنه حافظ الدنيا لكنه أورده في بلوغ المرام، فليتنبه له.(182/13)
شرح الأدب الأول: الصلاة على وقتها
قال: {الصلاة على وقتها} وهذا في الصحيح، لكن هناك: {في أول وقتها} إلا في مسائل استثناها الأئمة بأحاديث، منها شدة الحر في صلاة الظهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم، وفي الصحيح عن أبي ذر قال: {خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأُذن لصلاة الظهر، فقال عليه الصلاة والسلام: أبرد أبرد، فقام يؤذن، قال: أبرد أبرد، فقام يؤذن، قال: أبرد فإن شدة الحر من فيح جهنم}.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله أذن لجهنم بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، ففي الصيف هو أشد ما تجدون من فيح جهنم -أي: الحرارة- ومن الزمهرير أشد ما تجدون في الشتاء} أعاذنا الله وإياكم من جهنم.
فصلاة الظهر تؤخر عن وقتها لشدة الحر، لكن استثنوا منها صورتين: وجود الغمام ولو في شدة الحر فتصلى، وإذا كان كما قال الشافعي: المصلون ذو ظل لا يكلفهم الذهاب والإياب، أي: كانوا في بيت أو في حديقة أو في غابة؛ فلهم أن يصلوا ولو في أول الوقت، وهذا إن شاء الله جيد؛ لأن العلة وجود الحر ومشقة الناس.
ومما تتأخر عن وقتها كذلك وهو أفضل، صلاة العشاء، إذا وجدت الجماعة يتأخرون معك لأحاديث كثيرة، منها: حديث عائشة في الصحيح حتى خرج صلى الله عليه وسلم على الناس وقد تأخروا في صلاة العشاء، فقال: {أما إنه لا ينتظرها أحدٌ من أهل الدنيا إلا أنتم} وقال: {وإنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي} عليه الصلاة والسلام.
وفي حديث عمر لما نام النساء والصبيان، فقالوا: يا رسول الله! نام النساء والصبيان، فخرج صلى الله عليه وسلم، وقد ابهار الليل، فهذان وقتان فليعلم ذلك.
قال: {الصلاة على وقتها} أو {في أول وقتها} وإذا أخرت الصلاة عن الوقت ورأيت الإنسان أو المسلم يؤخر الصلاة عن الوقت؛ فاعلم أن في قلبه دخن، وفي نفسه مرض، إلا من عذر عاذر.
قال المؤرخون: سبب سقوط دولة بني أمية أن الخلفاء كانوا يؤخرون الصلاة.
فهذه دولة عظيمة ضربت أطنابها في الأرض، وامتدت إلى جبل طارق، وإلى نهر السند، وإلى طاشقند، وإلى جنوب أفريقيا، سبب تزعزعها وسقوطها تأخر الصلاة، فكانوا يؤخرونها إلا عمر بن عبد العزيز، دخل عليه عروة بن الزبير، قال: حدثني فلان، عن أبي مسعود البدري {أنه صلى جبريل بالرسول صلى الله عليه وسلم في أول الوقت، ثم صلى به اليوم الثاني في آخر الوقت} الحديث.
وهو أول حديث في كتاب المواقيت في صحيح البخاري، فقام عمر بن عبد العزيز؛ فقدم الصلاة رضي الله عنه وأرضاه، ودخل أنس دمشق، وهذه رواية الزهري، قال: [[رأيت أنساً دخل دمشق؛ فصلى مع الناس، ثم خرج يبكي، وقد وضع عمامته على وجهه، قال: والله! لقد أنكرت كل شيء مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة]] قال الزهري: وهذه الصلاة، ألستم صنعتم فيها ما صنعتم؟ أما أخرتم صلاة العصر حتى تدنو الشمس من المغيب؟
والرسول عليه الصلاة والسلام في حديث حسن، قال: {تلك صلاة المنافق} أي: صلاة العصر التي يؤخرها حتى تأذن الشمس بالمغيب، ثم يقوم ينقر أربع ركعات لا يذكر الله إلا قليلاً، تأخير الصلاة عن وقتها سواء كنت في عمل، أو وظيفة، أو مكتب، أو فصل دراسي، ممنوع، إذا سُمع داعي الله عز وجل فلو تغيرت الدنيا وفلكها ومجرتها، ولو أتت الشمس من الغرب، لا بد من أمر الله!
الرسول عليه الصلاة والسلام كان يستقبل الوفود، وكان يجلس مع الناس؛ فإذا سمع الله أكبر قام وفض اجتماعه عليه الصلاة والسلام، كان يتكلم مع أهله فإذا سمع الله أكبر أسقط ما بيده، كان يقطع معهن اللحم، وكان ربما صلى الله عليه وسلم يقوم على الخدمة فإذا سمع الله أكبر قام يقول: {أرحنا بها يا بلال} وهي إراحة الهموم والغموم والأحزان والأوصاب.
فقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترقَ أبواب الجنان الثمانيا(182/14)
شرح الأدب الثاني: بر الوالدين
قال: {ثم أيٌ؟ قال: ثم بر الوالدين} وإنما قدم بر الوالدين على الجهاد لسببين:
السبب الأول: أن الجهاد يتوقف على إذن الوالدين، فإذا لم يأذن الوالدان فلا جهاد، فلا بد لمن أراد أن يجاهد أن يستأذن والديه، إلا إذا كان الجهاد فرض عين ويكون كذلك في مسائل، أما إذا كان فرض كفاية فلا بد من إذن الوالدين؛ فإن لم يأذنا فلا جهاد، فمن أعظم الأعمال القيام على خدمة الوالدين كما نص الحديث هذا وغيره, كحديث النسائي بسند صحيح، جاء رجلٌ من أهل اليمن، فقال: {يا رسول الله! أريد الجهاد، قال: أمن والديك أحدٌ حي؟ قال: أمي، قال: الزم رجلها فإن الجنة عند رجلها} هذا لفظ النسائي، فلا جهاد إلا بإذن الوالدين في فرض الكفاية.
والسبب الثاني: أن بر الوالدين أعظم؛ لأن إعطاء الحق جهدٌ ومشقة، فهم أعطوك حقاً فلا حق لمن بر والديه، فلا يتمنن على والديه، ويقول: أنا فعلت وصنعت وأتيت وذهبت، فو الله! ما فعل شيئاً إلا رد الحق، رأى ابن عمر رجلاً يطوف بأمه في حرارة الشمس على ظهره وهو يزفر، قال: [[يا بن عمر! أأديت حقها؟ قال: لا والله ولا بزفرة من زفراتها]].
قال: {ثم أيُّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله} الجهاد في سبيل الله على درجات، أعظمها أن يخرج المسلم بجواده -إذا كان له جواد- فيهراق دمه ويعقر جواده ويذهب ماله، هذا الجهاد في سبيل الله، وهو يختلف إذا كان فرض عين فهو أعظم، وفرض الكفاية يليه في المرتبة، قال: {حدثني بهن ولو استزدته لزادني} وفي لفظ: {ما تركته إلا إبقاء عليه} أي: خوفاً عليه صلى الله عليه وسلم من كثرة الحديث والمشقة، انظروا إلى لطف التلميذ بشيخه، وانظروا إلى تقدير الصحابة للمعلم عليه الصلاة والسلام، ما زاده على ثلاثة أسئلة، وهذا من عقل ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأن الأسئلة تنتهي في العادة إلى ثلاثة، والضربات إلى ثلاث، والكلام إلى ثلاث.(182/15)
بيان من هو أحق الناس بحسن الصحبة
ثم قال البخاري رحمه الله تعالى: باب من أحق الناس بحسن الصحبة؟ يتساءل من هو أقرب الناس وأحقهم بصداقتك وصحبتك وخلقك ودينك وبرك؟ قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، وهؤلاء الرجال أعلام.
من تلقَ منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
قال: حدثنا جرير، عن عمار بن القعقاع بن شبرمة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: {يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك}.
في هذا الحديث قضايا:
أولها: أيهما يقدم في البر الوالد أو الوالدة، وهذا معترك بين العلماء وفيه ما يقارب أربعة أقوال:
منهم من قال: الوالد يقدم في الأوامر، وأما اللطف والبر؛ فتقدم الوالدة.
ومنهم من قال: يقدم الوالد في أمور مثل الحضانة والوصاية والرعاية، ولكن الصحيح الذي دلت عليه النصوص أن الوالدة تقدم، وأن لها ثلاثة أرباع الحق، وللوالد ربع.
وبعضهم قال: لها ثلثان وللوالد ثلث واحد، على الأحاديث إن كان تكرر أمك أمك أمك ثلاثاً فلها ثلاثة أرباع، وإن كان مرتين فلها الثلثان وله الثلث والثلث كثير، هذا للوالد وللأم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قدم الأم ثلاث مرات.
ثم تساءل العلماء مثلما ذكر ابن حجر، عن مسألة إذا كانت الوالدة قليلة دين، وهذا مبحث آخر، أو ناقصة تدبير، قالوا: فالرشد للوالد، لكنه يرعاها ويؤدي إليها حقها، أما الأمر للوالد، ولا خلاف بين أهل العلم على أنه إذا كان الأب مسلماً والأم كافرة -والعياذ بالله- فأن الذي يطاع ويقدم هو الأب.
في سنن أبي داود أن رجلاً أتى بابنه وقال: {يا رسول الله! أسلمت وهذا ابني يريد أمه، فدعا صلى الله عليه وسلم بأمه وهي كافرة، فقال للابن: اذهب إلى أي أبويك شئت -إلى أبيك أو إلى أمك- فأدركه الحنان فذهب إلى أمه، فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم اهده} فقبل أن يصل إلى أمه رجع إلى أبيه، فهذه دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وأما مسائل الحضانة فسوف تأتي في باب مستقل، ومسائل الوصاية أمر آخر، لكن الأم تقدم بالرعاية والحق، فلها ثلاثة أرباع الحق:
قالوا: للحمل، وللولادة، وللرعاية، وللضعف، فإنها حملته وأرضعته ورعته وقامت عليه، ثم هي من أضعف الناس له، أي: من أضعف الناس لا تقوم، فحق على المسلم أن يكون ثلاثة أرباع الحق للوالدة وربعٌ واحد للوالد؛ لأن الوالد قيم؛ ولأنه قوي الإرادة؛ ولأنه ما تكلف الحمل ولا الوضع رضي الله عن سلفنا الصالح وجعلنا من المرضيين معهم، هذه مسائل هذا الحديث وليس فيها إطالة وهو شبه إرداف للحديث الذي قبله.(182/16)
شرح باب: لا يجاهد إلا بإذن الوالدين
ثم قال البخاري: باب لا يجاهد إلا بإذن الوالدين، هذه فتوى من الإمام البخاري؛ لأن أبوابه فتيا، يفتي الناس يقول: لا يجاهد إلا بإذن الأبوين.(182/17)
ترجمة رجال سند حديث: (إن الله كره لكم قيل وقال)
حدثنا مسدد شيخ البخاري اسمه مسدد بن مسرهد بن عرندل بن صرندل بن مغردل بن مشردل، ذكره الذهبي وقال: السند في رواية بقية الاسم ضعيف، قال الفضل بن دكين أحد تلاميذه: هذه رقية العقرب.
أي: الاسم هذا رقية عقرب، يكفي فقط أن تقول: بسم الله، ثم ترتقي بهذا الاسم لتذهب حمة العقرب، وهذا مزاح، قال: حدثنا يحيى، الراجح أنه يحيى بن سعيد القطان.
قال الإمام أحمد: لو أن أحداً يلزم نفسه من خشية الله للزمها يحيى بن سعيد، تلي عليه القرآن وهو على بيته فغشي عليه حتى سقط على خشب في الأرض، وكان إذا تلي عليه القرآن يقول زملاؤه للتالي: لا تتلُ حتى ننزله على الأرض، فكان ربما يغشى عليه الساعات الطوال، وكان من أعبد الناس وأزهد هم، قال الإمام أحمد: رأيت الناس فما أقدم أجلَّ من يحيى بن سعيد القطان.
عن سفيان، وسفيان هذا هو الثوري، أبو سعيد، وقيل: أبو عبد الله من أجل الناس، يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: ثلاثة من العلماء بعد الصحابة لا يسكن قلبي إلى مثلهم أبداً، الحسن البصري وسفيان الثوري، والإمام أحمد.
وقال الإمام أحمد: لا يحل قلبي بعد الصحابة والتابعين مثل سفيان الثوري.
هذا سفيان الثوري بلغ منزلة عظيمة في العبادة والعلم والزهد، وكان من أقوى الناس قولاً بالحق، وكان يتقي الله عز وجل، كان إذا أظلم عليه الليل توضأ وأخذ حذاءه وصعد الجبال يصلي حتى صلاة الفجر.
وذكر عنه صاحب حلية الأولياء أنه نزل في منى مسافراً إلى مكة؛ فأدركته صلاة العشاء؛ فصلى ومعه زملاؤه، فلما ناموا توضأ وأخذ حذاءه يصعد الجبال فصلى حتى اقترب الفجر، فسقط؛ فجرحت إصبعه، فأخذ يربط عليه، ويقول: يا دنيا يا دنية تباً لكِ.
حج مع الناس، فلما حج رأى موكب أبي جعفر المنصور، وقد دخل في عرفات ومعه حرسه وأمراء بني العباس ووزراؤهم وأغنياؤهم، فالتفت إلى السماء فقال: لقد خذلتُ العلم اليوم إذا لم آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.
فأخذ حذاءه ودخل على أبي جعفر المنصور، فقال: يا أبا جعفر! اتقِ الله في يوم لا يتقى فيه إلا الله، قال: وماذا فعلت؟ قال: جمعت الناس، وبذرت الأموال، وأخذت المواقع على المسلمين، قال أبو جعفر وكان من أقويا الدنيا وجبابرة العالم: أتريد أن أكون مثلك؟ قال: لا تكن مثلي ولا تكن مثلك، كن أقل مما تكون عليه، حج عمر بن الخطاب فما خسر في حجه إلا عشرين درهماً.
ثم خرج، فلما أظلم الليل أخذ ينام في مزدلفة، فيجمع تراباً لتكون مخدةً له، وقال: والله الذي لا إله إلا هو إن هذا العيش أحب إليّ من عيش أبي جعفر المنصور، لما أدركته الوفاة قام ستين مرة يتوضأ في الليل؛ لأنه أصيب بالدم، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء عرض ماؤه على الأطباء، فقالوا: هذا رجل لا يعيش طويلاً، فتّت الحزن كبده، من كثرة مخافة الله عز وجل.
ذكر عنه بعض زملاؤه، أنه نام عند رجل؛ فأخذ يتقلب في فراشه فلما قرب الفجر قام، فقال له هذا المضيف: ما رأيناك نمت، قال: كلما نمت تذكرت أن الله على العرش بارزٌ يحاسب الناس.
في السير أنه ذهب إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني في اليمن، فلما تعشى عنده قام وشد وسطه وصلى إلى صلاة الفجر، أخذ مطهرة من المطاهر ليتوضأ بها ليوتر بعد صلاة العشاء فتذكر إذا زلزلت الأرض زلزالها، فأخذ المطهرة بيده، وهو واقف يقرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] ويبكي حتى طلع الفجر وأذن للفجر وما أوتر.
كان من أخوف الناس لله عز وجل، حتى قال الناس: رأينا من خاف وسمعنا عمن خاف, أما سفيان الثوري فلم نرَ أخوف منه، رضي الله عنه وأرضاه.
ذكر عنه المترجمون: أنه رئي في المنام، قالوا: وما فعل الله بك؟ قال: رزقني -هذه عهدة على النقلة- جناحين أطير بهما في الجنة حيث أشاء.
وكلمني ربي كفاحاً وقال لي هنيئاً لك الخيرات يا بن سعيد
هذه من الأبيات التي حفظت عنه، ومن شاء فليعد إلى المصادر.
وكلمني ربي كفاحاً وقال لي هنيئاً لك الخيرات يا بن سعيد
فقد كنت قواماً إذا أظلم الدجا بعبرة مشتاق وقلب عميد
تزوج زوجة واحدة وله منها ولد، وكان لا يحب كثرة الذرية، قال: يشغلونني عن العبادة، فأراد الله أن يجبر قلبه، وأن يعلي حظه، فارتفع ابنه على جدار الدار في عسقلان في فلسطين؛ فسقط؛ فإذا هو ميت، فأخذ يتبسم ويحضنه بين يديه، وقال: الحمد لله الذي سرني بك مولوداً، ولم يكدرني بك فاجراً، ثم دفنه، وماتت امرأته، ثم عاد من كل شيء، حتى يوم توفي وجدت حذاؤه وثيابه فكفن في ثيابه.
بنفسي ذاك الشخص ما أحسن الربى وما أحسن المصطاف والمتربعا
قالا: حدثنا حبيب، وحدثنا محمد بن كثير، ثم ساق الحديث إلى ابن عمر، قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: {أجاهد؟ قال: لك أبوان؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد} قيل: إن هذا الرجل هو الذي أتى ووالده وأمه يبكيان عليه، فأراد أن يتمدح أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: {يا رسول الله! والله ما أتيتك إلا وأبي وأمي يبكيان، قال: عد إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما}.
وعند الطبراني كما أورد ذلك صاحب الكشاف وغيره، أن رجلاً أتى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! عقني ابني، قال: كيف؟ قال: ربيته، أسهر لينام، وأجوع ليشبع، وأظمأ ليروى، فلما شب وترعرع لوى يدي وتغمط حقي وترك خدمتي، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، قال: أقلت في ذلك شعراً؟ قال: نعم.
قال: ماذا قلت؟ قال: قلتُ:
غدوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لدغتَ به دوني فعيناي تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذا لم ترعَ حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
فأخذ صلى الله عليه وسلم الابن بتلابيب ثوبه، وقال: أنت ومالك لأبيك} زاد صاحب الكشاف، فنزل جبريل، قال: فبكت الملائكة لبكاء هذا الرجل يا رسول الله! والعهدة على من نقله، وفي الزيادة نظر.(182/18)
حديثٌ في النهي عن تسبب الرجل في سب والديه
ثم قال البخاري رحمه الله: باب لا يسب الرجل والديه، قال يسوق السند: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد.
إبراهيم بن سعد هذا من ذرية عبد الرحمن بن عوف الزهري رضي الله عنه وأرضاه، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقد رآه الإمام أحمد، وما كان الإمام أحمد يقوم لأحد، يأتيه كبار بني العباس؛ فلا يقوم، فلما أتاه هذا قام، قال له الناس: مالك يا أبا عبد الله قمت؟ قال: ألا أقوم لابن عبد الرحمن بن عوف.
عن حميد بن عبد الرحمن -هذا جده- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه؟ قيل: يا رسول الله! وكيف يلعن الرجل والديه؟! قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه}.
وهذا يسمى التسبب، أن تتسبب في جريمة: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] وهذا من قلة فقه الرجل أن يتسبب بإنكار منكر، أو بشيء من الإنكار إلى منكر أعظم، ولذلك قالوا: ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر بلا منكر، فإن بعض الناس يأمر بالمعروف فيكون أمره بالمعروف منكراً، وينهى عن المنكر بطريق المنكر، فبعض الناس ربما يصل به الإنكار إلى سب الوالدين، فيصل هذا إلى أن يعيد السب إلى والديه، فهذا من أكبر الكبائر.
كأن يأتي إنسان إلى الكفرة الذين يعبدون الأصنام، فيسب أصنامهم؛ فيسبون الله؛ لأنه منهي عنه بنص القرآن، ومثل ذلك من يسب آباء الناس وأمهاتهم، وهذا من قلة العقل والفحش -نعوذ بالله من ذلك- والمجون، وما لك وما للوالدين؟ إما أن تسب من سبك وإلا فالعفو فهو أحسن.(182/19)
تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر وبيان معنى كل منها
من تسبب في سب أو لعن والديه؛ فقد ارتكب إحدى الكبائر، نعوذ بالله من ذلك: {إن من أكبر الكبائر} فيه دليل عند أهل السنة والجماعة على أن الذنوب صغائر وكبائر،
و
السؤال
ما هي الكبائر؟ وما هي الصغائر؟ أو ما هو تعريف الكبائر؟ وما هو تعريف الصغائر؟ أو هل هناك كبائر؟ وهل هناك صغائر؟
الجواب
فيه ستة أقوال لأهل العلم من السلف الصالح، وفيه قولٌ للأشاعرة، وقولٌ للأحناف من الفقهاء، وقولٌ للمحدثين، قيل: لا كبيرة ولا صغيرة، بل كل الذنوب كبائر، ونقل هذا القول عن ابن عباس بسند صحيح أنه قال: [[كلها كبائر، والكبائر تصل إلى سبعمائة]] وقال: [[هي للسبعمائة أقرب]] وفي لفظ أنها إلى السبعين أقرب، فهل يوافق على هذا القول، وأين قول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] أليس فيه كبائر؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: {ألا أخبركم بأكبر الكبائر، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله الحديث}.
إذاً ما هو الحد الفيصل بين الكبائر والصغائر؟ قيل الكبائر هي: ما استهان بها الشخص، نعوذ بالله من ذلك، والاستهانة بالمعصية معصية أخرى، فبعض الناس يعصي بلا مبالاة، ولذلك تكبر المعصية بسبب ما يصاحبها من قرائن وسياقات، كأن يترك الصلاة أو يتهاون ويؤخر الصلاة شخصان، تقول لهذا: لماذا أخرت الصلاة؟ فيحمر وجهه، ويقول: أستغفر الله وأتوب إليه، وتقول لهذا: لماذا أخرت الصلاة؟ فيقول: وماذا حدث؟ هل قامت الحرب العالمية الثالثة؟! هل انطبقت السماء على الأرض؟! كلها صلاة، هذا الوقت وقت، وهذا الوقت وقت، فهذا يحمل كبيرة، وذاك قد يغفر له.
ولذلك ذكر ابن تيمية أن مما يكبر المعاصي الأحوال والأجناس، وذكره قوله صلى الله عليه وسلم: {ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم، قيل: من هم -يا رسول الله- خابوا وخسروا.
قال: عائل مستكبر} فقير ويتكبر، لماذا؟ لقلة الداعي، لماذا يتكبر وهو فقير؟! لو قالوا: غني كان أيسر، ولو كان عنده تجارة بسيطة فإنه لا يعذر لكنه أخف، أما فقير ليس عند شيء ويتكبر! فهذا يسمى حشف وسوء كيلة أعمى مكابر، قال: {وأشيمط زانٍ} شيخ -نعوذ بالله من ذلك- شاب رأسه وشابت لحيته ويزني! لو كان شاباً ما كان معذوراً، لكن ربما كان جموح الشباب موجوداً، لكن شيخ ويزني: {وملكٌ كذاب} فالملك ليس بحاجة إلى أن يكذب!
فهؤلاء الثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، لماذا؟ لقلة الداعي عندهم.
والقول الراجح إن شاء الله: أن الكبائر ما توعد الله عليها بعذاب في الآخرة، أو بلعنة في الدنيا أو بحد من الحدود، فهذه كبائر، وعد صلى الله عليه وسلم من الكبائر سبعاً: {عقوق الوالدين، والسحر، وقتل النفس، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات} سبع عدها صلى الله عليه وسلم، وفي الأحاديث الأخرى أنها تزيد عن السبع، وربما لو جمعت الأحاديث لبلغت عشرين أو أكثر، ومنهم من قال سبعة وسبعين.
إذاً: الكبيرة هي ما توعد الله عليه بلعنة في الدنيا، نعوذ بالله من لعنة الله، أو بعذاب في الآخرة، أو بحد من الحدود، والصغائر هي ما سوى ذلك، ولكن الصغيرة تختلف، فمن الغيبة ما تكون كبيرة الكبيرة، ومنها ما تكون كبيرة فحسب، قالوا: الغيبة بقذف، والغيبة بلا قذف، وأما الغيبة للحاجة فقد رخص فيها بعض أهل العلم، وفيها رسائل, وكلام للنووي، ورسالة للشوكاني اسمها رفع الريبة في من تجوز فيه الغيبة، وهذا حديث البخاري الذي فيه لا يسب الرجل والديه، وهذا يسمى عند المحدثين أو عند الفقهاء من التخلية قبل التحلية.(182/20)
بعض الآداب في مخاطبة الوالد والقيام له
يبدأ الآن يقول: الأمور التي لا ينبغي أن يعامل الوالدين بها، فهذا يخلي، ثم أتى بالتحلية: ما يجب من البر؟ قالوا: من بر الوالدين أن تدعوه بكنيته، أن تقول: يا أبا فلان، ولو كنت أنت ولده، وإما أن تقول: يا أبي، يا والدي، يا أبا محمد، يا أبا علي.
وكان سالم بن عبد الله ينادي أباه كما في الأدب المفرد يا أبا عبد الرحمن! وهذه كنية.
أكْنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب
كذاك أدبت حتى صار من خلقي إني وجدت ملاك الشيمة الأدب
فالكنية واردة، ومنها يقولون: أن إذا نزل أن تأخذ بركابه، لكن الآن ألا تركب في السيارة حتى يركب، وأنت تتحرى حتى يركب، وإذا دخل البيت تنتظر حتى يدخل، وإذا دخلت معه تنتظر حتى يجلس، وإذا جاء أن تقوم له وتتلقاه عند الباب بالترحاب وبالمعانقة، ومن حقوقه أيضاً أن تدعو له بظهر الغيب، وأن تستغفر له، وأن تعلن خدمته دائماً وأبداً، وألا تتعكر أو لا تتكدر مما يكلفك به إذا كان في طاعة الله عز وجل، وهذا يسمى قيام الولد للوالد.
وبالمناسبة لا بأس بقيام الولد للوالد، ففي الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يزور فاطمة فإذا جاءها ودخل بيتها قامت إليه وقبلته وأجلسته مكانها، فإذا زارته قام إليها وقبلها وأجلسها مكانه، انظر إلى لطفه عليه الصلاة والسلام.
وكان أحد العلماء جالساً؛ فدخل عالم آخر؛ فقام العالم ليستقبل ذاك، قال: لا تقم -ينهاه عن القيام- قال العالم:
قيامي والإله إليك حق وترك الحق ما لا يستقيم
وهل رجلٌ له لب وعقل يراك تجي إليه ولا يقوم
ولذلك القيام ثلاثة أقسام: قيام إليه، وقيام له، وقيام عليه، فالقيام عليه: منهي عنه، وهو أن يجلس رجل فيقوم عليه الناس على رأسه، فهذا يقول فيه عليه الصلاة والسلام: {كدتم أن تفعلوا كما فعل أهل فارس بملوكهم يقومون على رءوسهم} وقيام له: أن إذا دخل زائر تقوم له ولا بأس بذلك في وقت الحاجة، كأن يكون عالماً أو وجيهاً أو كبير سنٍّ، أما إذا كان يعذرك كأن يكون زميلاً أو ابناً أو أخاً، فلا بأس بعدم القيام.
وقيام إليه: قيام لتتلقاه عند الباب كأن يكون ضيفاً فلا بأس به، قال عليه الصلاة والسلام للأنصار لما أتى سعد بن معاذ: {قوموا إلي سيدكم} وزادوا: فأنزلوه، فمن العلماء من قال: العلة أنهم ينزلونه، ومنهم من قال: لا.
القيام من أجل احترامه وتقديره، لما قال عليه الصلاة والسلام: {قوموا إلى سيدكم}.
وسعد بن معاذ يحق له أن يقال له سيد، فهو من السادات الكبار في الإسلام، توفي وعمره اثنتان وثلاثون سنة، وفي رواية سبعٌ وثلاثون سنة، ولما توفي بآثار الجرح، قال كما قال الذهبي في أعلام النبلاء، قال: فبكى أبو بكر وقال: " واكسر ظهراه عليك يا سعد! واكسر ظهراه عليك يا سعد! واكسر ظهراه عليك يا سعد! ".
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية موت شهم يموت بموته بشر كثير
سعد الذي اهتز له عرش الرحمن، حتى قال بعض العلماء: اقتربت رواية اهتزاز العرش من درجة التواتر.
ثم قال البخاري: باب إجابة دعاء من بر والديه، نحن نتخطى هذا الحديث؛ لأنه ورد قبل خمسة دروس، وهو في الثلاثة الذين دخلوا الغار فانطبقت عليهم الصخرة ونأتي إلى الحديث الذي يليه؛ لأن البخاري يكرر الحديث، كرر حديثاً واحداً سبعاً وثلاثين مرة.
يقول أبو الحسن الندوي، العالم الهندي، الداعية الكبير، قال: وللبخاري إشراقات في تكرير أحاديثه؛ فكأنه يفتح جبهة في الرد على الخصوم، أو يروق معنى من المعاني، فهو كما قال الأول:
يزيدك وجهه حسناً إذا ما زدته نظرا
كرر العلم يا كريم المحيا وتدبره فالمكرر أحلى
قالوا تكرر قلت أحلى علمٌ من الأرواح أغلى
فإذا ذكرت محمداً قال الملا أهلاً وسهلا
فهو لا يكرر إلا الميراث والبضاعة؛ لترسخ في القلوب، ويتعلمها ويتفقهها من لا يتفقهها.(182/21)
شرح باب: عقوق الوالدين من الكبائر
قال: باب عقوق الوالدين من الكبائر، قاله ابن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم، وعن المغيرة بن شعبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعاً وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال} هل سمعتم أجمل من هذا الكلام بعد القرآن؟ من يستطيع أن يصوغ مثل هذا الكلام؟
ما بنى جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمة من عفاء
يقول عليه الصلاة والسلام: {أوتيت جوامع الكلم} أي: اختصر لي الكلام اختصاراً.
{إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات} على التاء: {ومنعاً وهات، وأود البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال}.(182/22)
تحريم عقوق الأمهات
في الحديث قضايا: {إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات} شاهد البخاري من الترجمة من الباب أن من الكبائر عقوق الأمهات، ولماذا قال: الأمهات، ولم يقل: الآباء؟ لسببين:
قيل: لمراعاة اللفظ ومراعاة السجعة؛ لأنه لو قال: إن الله حرم عليكم عقوق الوالدين لما استقامت مع التاء، ولو قال: عقوق الآباء لما استقامت، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يقيم الكلام حتى يحفظ، وهو صلى الله عليه وسلم يسجع بلا تكلف.
وقيل: لعظم حقوق الأمهات فمن عقها فقد عق والده، نسأل الله العافية.
وقيل: للتغليب، فأن الأمهات هنا يدخل فيها الآباء بالتغليب.
يقول أهل البلاغة، أو أهل الأدب: القمران، ويدخل فيها الشمس والقمر، والعمران: أبو بكر وعمر، فهذا من باب التغليب، وتقول العرب: الليلان والنهاران، لليل والنهار، تقول الخنساء:
إن الجديدين في طور اختلافهما لا يفسدان ولكن يفسد الناس
وروي البيت:-
إن النهارين في طور اختلافهما لا يفسدان ولكن يفسد الناس
إذاً فعلى التغليب.(182/23)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (منعاً وهات)
قال: {ومنعاً وهات} ما معنى منعاً؟ وما معنى هات؟ وفيها مسائل، منعاً، قال العلماء: أن تمنع ما عليك من الحقوق، أو أن تمنع حقوق السائل إذا سألك، لا تقل: لا.
نستغفر الله من " لا " ما أصعب " لا "! فـ " لا "، أحسن شيء وأقبح شيء، فـ " لا " أحسن شيء في لا إله إلا الله، وأقبح شيء عند الطلب، يقول الفرزدق وهو يمدح زين العابدين بن الحسين بن علي:
ما قال "لا" قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
يقول: لا يعرف "لا".
وفي مسند أحمد أن رجلاً جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: {يا رسول الله! أعطني مما أعطاك الله، قال: لا وأستغفر الله} أستغفر الله من " لا "؛ لأنها صعبة.
وإذا قلت في شيء نعم فأتمه فإن نعم دينٌ على الحر واجب
فأما " لا "؛ فإنها مستقبحة إلا في مواطن فهي من أفضل ما يكون، إذا قلت: لا إله إلا الله.
قال: {ومنعاً وهات} منعاً هنا، أن تمنع ما أوجب عليك من الحقوق أو سألك سائل، ولذلك أمر الإنسان باللطف عند المسألة، إذا سألك سائل أن تقول: إن شاء الله يأتينا خير، أو تعال غداً، أو إذا فتح الله، أو رزقك الله، أما لا فهي صعبة، لقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً} [الإسراء:27 - 28].
قال أهل التفسير: هي أن تقول للسائل إذا سألك: يأتي الله بالخير، إن شاء الله، أبشر، أما " لا " فهي صعبة على النفوس.
قال عليه الصلاة والسلام: {ومنعاً وهات} معنى هات هنا: السؤال بلا حاجة، قيل: هو أن يسأل من الزكاة من لا يستحقها فهذا مذموم، وهذا يقع عليه شيء من الإثم والعقاب، وقيل: هو الذي يسأل وعنده ما يغنيه، فالذي سأل وعنده ما يغنيه لا يحق له أن يقول: هات، وقيل: هو الذي يسأل وهو يستطيع العمل، ذو مِرَّةٍ قوي، صحيح البنية، يستطيع أن يكد وأن يعمل، ويقول: هات، فليس له حق.(182/24)
وأد البنات عند العرب وتحريمه في الإسلام
{ووأد البنات} وأد البنات: قتلهن وهن على قيد الحياة، أي: ما أتاهن الموت إلا بتسبب الوالد {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] وفي قراءة أبي بكر {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتِ} [التكوير:8 - 9] والجمهور يقرءون قتلتْ.
وأول من قتل البنت، وأول من وأد قيس بن عاصم المنقري سيد العرب وسيد الوبر، هو أول من بدأ بوأد البنات، رحمه الله ورضي الله عنه؛ لأنه أسلم، وكان سيد بني تميم، وكان بنو تميم ما يقارب مائة ألف لا يعودون إلا عن رأي قيس بن عاصم المنقري هذا.
كان له بيتٌ في الخلاء، وكان يغير على العرب دائماً، كان كثير الحروب؛ لأنه شجاع، فسبى العدو بنته، فتزوجها رجلٌ منهم، فلما ظفر بالأعداء، قال لابنته: أتريدين أن تعودين إلي أم تبقين؟ قالت: أريد البقاء مع زوجي، فنذر ألا تلد له بنتٌ إلا وأدها، فكان كلما أتى له بنت تركها حتى تترعرع، ثم يذهب بها، يقول: نسلم على أخوالها، فإذا مر ببئر له هناك في الصحراء، قال: أشرفي هل في البئر ماء، فإذا أشرفت ضربها من قفاها فوقعت في البئر، وهذا خطأ.
ولو أنه من أحلم العرب، لكن هذا فعل وثني إشراكي، نسأل الله أن يعفو عنه؛ لأنه أسلم وآمن وحسنت توبته، وهو الذي يقول عنه العربي الأول:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من ألبسته منك نعمة إذا زار عن شحط بلادك سلما
وما كان قيس موته موت واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
وأول من منع الوأد أو أمر بإعفائها واشترى البنات من العرب، كل بنت بمائة ناقة وأحياهن، هو صعصعة، وهو تميمي، جد الفرزدق الشاعر، الفرزدق اسمه همام بن غالب بن صعصعة، وفد على الوليد بن عبد الملك هذا الفرزدق فأراد أن يمدح الخليفة، فقال:
سروا يخبطون الليل وهي تلفهم على شعب الأكوار من كل جانب
إذا ما رأوا ناراً يقولون ليتها وقد خصرت أيديهم نار غالب
قال الوليد بن عبد الملك: اذهب إلى غالب يعطيك مالاً، والله لا أعطيك فلساً، أي: غضب لما مدح جده.
وصعصعة هذا أدرك الإسلام وأسلم والحمد لله، وله حديث في البخاري، عن أبي سعيد أنه قال: {يا صعصعة! أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في باديتك وفي غنمك فأذن وارفع صوتك؛ فإنه لا يسمع صوتك أحدٌ إلا شهد لك من جن أو إنس أو طير أو شيء}.
فهذا وأد البنات عند العرب، وأتى الإسلام -والحمد لله- بذم هذه الخصلة وتحريمها، فمنعها الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم جعلها من الكبائر.(182/25)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (قيل وقال)
{وكره لكم قيل وقال} قيل وقال فيها معاني، قال بعضهم: هي أن تحكي الأقوال دائماً، وفي صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع} إذا رأيت الإنسان يحدث بكل ما سمع؛ فسوف يقع في الكذب لا محالة، يسمع القصة فيرويها فكاهة طرفة دعابة أطروحة، أي كلمة في المجتمع يرويها وينقلها لا يمحص ولا يقف عندها؛ فسوف يكذب لا محالة.
{قيل وقال} هي أن تبدأ الرجل بالسؤال، يأتيك رجل يريد ستر الله والطعام، ويدخل في بيتك، فتبدأ معه في مناقشة كأنك تناقشه في رسالة ماجستير، من صلاة المغرب إلى الساعة الحادية عشرة والثانية عشرة، كيف حالكم؟ كم عندك من الأطفال؟ متى ولدت؟ أين بيتك؟ كم عندك من غرف؟ فكلما فتح لك ملفاً فتحت له آخر، فهذا مكروه؛ لأن فيه إملالاً للضيف وسأم، لكن هذا يدرج في مسألة عدم تكثير الكلام بالقيل والقال.
وقيل: القيل والقال، هو أن يأتي طالب العلم فيورد أقوال العلماء بلا تمحيص، أن يقول: قال الإمام أحمد كذا، وقال أبو حنيفة، وقال مالك، وقال الشافعي، ثم يترك السائل في حيص بيص، يأتي السائل فيقول: كم أتمضمض؟ فيجيبه بقوله: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ذهب الأحناف إلى أن المضمضة كذا وكذا، ولكن رد عليهم الشوافع، أما ابن حزم الظاهري فقال، ولكن مالك يرى هذا، وأما داود الظاهري فهذه ليست فتيا، يقولون: تسمى قيل وقال.
قال ابن تيمية: من أورد الأقوال؛ فإن كان أوردها تدليلاً وكانت مؤصلة فهذا مأجور، وإن كان أوردها تزوداً؛ فهذا متشبع بما لم يعط, فهو كلابس ثوبي زور، مثل رجل ليس عنده إلا ثوب واحد، فيركب يدين، يد من تحت اليد هذه، حتى تظهر كأنها يدين، فينظر الناس فيقولون: عليه ثوبان، وهو ثوب واحد، فهو لابس ثوبي زور.
كأن يأتي يسأل في مسألة فلا يعرف الأدلة ولا الأقوال، فيقول: وقال بعض العلماء، حتى يقولون: ما شاء الله، يغرف من بحر: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] فهذا تشبع بما لم يعط, وهو لابس ثوبي زور.
وقيل: قيل وقال هو: أن يتحدث بما لا ينفع في مجالسه، في الأسعار والأخبار والأمطار دائماً، أما هذا فلا بأس بها إذا كانت في حدود الحاجة، أما إذا زادت على أوقات الجد، وأخذت أوقات الذكر والقراءة والتلاوة، فهذا ليس بصحيح.(182/26)
معنى كثرة السؤال المكروهة
{وكثرة السؤال} ما معنى كثرة السؤال؟ قيل: كثرة السؤال في الأغلوطات، أن يسأل طلبة العلم والعلماء والدعاة ليغلطهم تغليطاً، فليس قصده الفائدة والله أعلم بالقصد، وإنما يأتي يتحير ويريد أن يحير هذا الطالب ويربكه؛ فيربكه الله يوم القيامة.
فهو يأتي إلى الطالب فيقول له: ابحث عن سند -مثلاً- أو رواية، وهو يعرف أنه ضعيف في هذا، ويقول: ما رأيك في هذا الحديث؟ وهو يدري بجوابه، وما دام أنه يعرف فلا داعي للسؤال، أو يغلطه في أمور، يقول مثلاً: قال الله في آية كذا وكذا، وقال كذا وكذا، فما الجمع بينهما وهو لا يستقيم على هذا فائدة، أو يسأله في بعض علم الفلك الذي ليس عند طلبة العلم شيء منه، ولا شيء من جانبه، أو علم النفس، أو مجريات الحياة.
وقيل: كثرة السؤال هي: أن يسأل الناس أموالهم دائماً، فهذا منزوع البركة -نعوذ بالله من ذلك- إلا إذا كان لحاجة.(182/27)
معنى إضاعة المال
{وإضاعة المال} قيل: التبذير به والإسراف، قال ابن حجر: من زاد على الحاجة فقد أسرف، ولكن يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فمن الناس من يحتاج إلى بيت واسع، ويحتاج إلى نفقة كثيرة، قال ابن حجر: فهذا يسامح فيه، ومن الناس من صرفته على قدره، وهذا المثل العامي الذي يقول: مد رجليك على قدر فراشك، وهذا ليس بحديث، ولا يحمل على أنه حديث، فلم يروه أبو داود ولا الترمذي ولا ابن ماجة، بل هذا مثل.
قيل: وإضاعة المال هي: إتلافه في المعاصي، فمن جعل ماله في المعصية فقد أضاعه كل الإضاعة.
وقيل: إضاعة المال هي: أن تشتري القليل بالكثير، ويسمى هذا -عند العرب- أحمقاً، فالأحمق هو: الذي لا يعرف أن يبيع ويشتري، فيشتري -مثلاً- دجاجة بثلاثمائة ريال، فهذا عند العرب أحمق.
أتى رجل اسمه حبان عند الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: {يا رسول الله! إني أخدع في البيع، كلما باعني أحد غشني، قال: إذا بايعت فقل: لا خلابة} أي: لا تخدعني فإني لا أجيد البيع والشراء، فكان يقول: يا خيابة! يا خيابة! لأنه لم يكن يجيد النطق، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا بايعت فقل لا خلابة} فالمماكسة واردة، وقالوا: من ضيع ماله في هذا، فقد ضيع ماله.(182/28)
الأسئلة(182/29)
رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام
السؤال
حديث: {من رآني في المنام فسيراني في اليقظة} ما مدى صحة هذا الحديث؟ وهل هناك ما يدل على معناه؟
الجواب
هذا الحديث اقترب من درجة التواتر، رواه البخاري ومسلم، وأبو داود وصاحب المسند وغيرها من كتب الإسلام، وهو صحيح.
وهناك ما يدل على معناه، فمن الصالحين من يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فالشيطان لا يتمثل به قطعاً: {من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي} وهذا لفظ الحديث الذي في صحيح البخاري وصحيح مسلم وعند أهل السنن والمسند بأسانيد بلغت درجة التواتر بلفظه: {من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي}.
أما معنى أنه يرى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، فنعم.
رآه الناس سلفاً وخلفاً، والشيطان لا يتمثل به عليه الصلاة السلام في المنام، وعصمه الله من ذلك، لكن بشرط أن يرى عليه الصلاة والسلام على صفته التي كان عليها، كأن يكون ربعة من الرجال، بهي المنظر، كأن وجهه القمر ليلة البدر، ويظهر أنه عليه الصلاة والسلام أبيض مشوب بحمرة، أقنى الأنف، كث اللحية، هذه أوصافه.
أما أن ترى إنساناً حليقاً نحيفاً ضعيفاً, ويقول: أنا رسول الله؛ فهذا لا يكون، ليعرف هذا الأمر، يقولون: إذا كان بوصفه في الحياة عليه الصلاة والسلام.(182/30)
الموقف الشرعي من نزار قباني
السؤال
نزار القباني ما رأيكم فيه؟ فقد ورد عنه شعر يندى له الجبين وينفطر له القلب؟
الجواب
وهل رجلٌ يؤمن بالله واليوم الآخر يرتاح لشعر نزار قباني؟! وهل شعر نزار قباني إلا وثنيات وشركيات ومعارضة لدين الله الخالد؟! وهل أظهر إلا هجوماً على لا إله إلا الله؟! وهل ما صدر عنه إلا؛ {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] وهل هذا الرجل إلا مخدوع ومغرور ومخذول؟!
فهذا رجل طالما أسرف في الخطايا، وطالما تجاوز الأدب والعقل، أما الدين فلا دين، وقد صفق له كثير من الأدباء خاصة الحداثيون، فعليه وعليهم من الله ما يستحقونه، وهؤلاء طالما فتحوا له المجالات، ورحبوا بشعره، ورددوه، وعلقوا عليه، ونشروه، وهذا ليس بعزيز على الله أن يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
فأنا أنصح الشبيبة والجيل ألا يقرأ شعره إلا قراءة المستنكر، الغاضب لدين الله عز وجل، الحامي لذمار الإسلام عل الله أن يأجره، على غضبه لحدود الله وحرماته.
وبعض الناس ولو كان فاجراً، لكن فيه مروءة، لكن هذا لا دين ولا مروءة، مثل فقير اليهود لا دين ولا دنيا، إذا تكلم في الدين هاجم الدين، ثم يهاجم المروءة والعرض، ثم يتكلم عن المرأة، ثم يخبر بسجله الأسود، وحياته السوداء في قرطاجة وأسبانيا وهولندا، نسأل الله العافية والسلامة.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(182/31)
فتنة المسيح الدجال
يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وقد حذر أمته من المسيح الدجال) فحري بالمسلم أن يعرف صفات المسيح الدجال جيداً، ويعرف حقيقته، وسبب تسميته، وأصله، وأسباب خروجه، والبلاد التي يخرج منها، وما هي دعوته، وسبب إعطاء الله له الخوارق، وما هي الكلمة المكتوبة على جبينه، وكيف يفتن الناس؟
وهل المسيح هو نفسه ابن صياد؟(183/1)
معنى كلمة مسيح ومسيخ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
السَّلامُ عَلَيَّكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
هذه المحاضرة السابعة بعد الثلاثمائة وعنوانها: "فتنة المسيح الدجال" أعاذنا الله وإياكم من فتنته، وسلمنا الله وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
والفتن ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه، وهي بقضائه وقدره تبارك وتعالى، يقول سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20] وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً) [المائدة:41] ويقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37] وذكر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن من الأولاد والأموال فتنة، وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].
المسيح الدجال في البحث عنه قضايا منها: أصله، من أي بلد هو؟
ومن أي قوم؟
ومنها: متى يخرج؟
ومنها: وصفه.
وما هي البلاد التي لا يدخلها؟
وما هو جيشه؟
وما هو زيه؟
ومن يقتله؟
وهل ذكره الله عَزَّ وَجَلَ في كتابه؟
ولماذا يخرج؟
ومن الذي ينخدع به؟
وما هي الآيات التي يخرج بها؟
كل هذه وغيرها من القضايا أتكلم عنها بإذن الله والله الموفق.
المسيح ينطق: المسيح والمسيخ: بالخاء المعجمة وبالحاء المهملة.
فالمسيح معناه: الممسوح العين.
والمسيخ: الذي مسخه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو مسخ عينه، وقيل: المسيح هو الذي يمسح الأرض، وسمي المسيح عيسى بن مريم مسيحاً؛ لأنه سوف يمسح الأرض يوم القيامة، وهو الذي يقتل المسيح الدجال.
فالمسيح عيسى بن مريم رسول من الله عَزَّ وَجَلَ حبيبنا ومن أنبياء الله عَزَّ وَجَلَ، والمسيح الدجال عدونا وبغيضنا كفانا الله فتنته، والدجال هو: الكذاب الكبير، ولا يطلق الدجال إلا على من كثر كذبه واشتهر، وجمعه: دجاجلة.
يقول أحد العلماء: ما كنت أعرف أن دجالاً يجمع على (دجاجلة) حتى جلست عند الإمام مالك، فسألته عن راوٍ في الحرة من رواة الحديث، قلت: يا إمام! كيف هو في الرواية؟ قال: دجال من الدجاجلة، أي: كان الرجل من قبل لا يعرف جمع كلمة (دجال) حتى جمعها الإمام مالك، قال: دجال من الدجاجلة، وتصغيره: دجيجيل، ولذلك يقول الذهبي راداً على أبي العلاء المعري -نسأل الله أن يكفينا فتنته- يقول أبو العلاء المعري:
في كل جيل أباطيل يدان بها فهل تفرد يوماً بالهدى جيل
فهو ينكر الرسالات، ويقول: في كل جيل، حتى أمة محمد عليه الصلاة والسلام ترى أنها مهتدية، لكن ليس هناك جيل مهتدٍ، هذا زعمه الباطل المنحرف.
وقال الذهبي راداً عليه:
نعم أبو القاسم الهادي وشيعته فزادك الله ذلاًَ يا دجيجيل
وهو تصغير دجال.
المسيح الدجال هذا أولاً: أخبر به عليه الصلاة والسلام وأنذر، وقال: {ما من نبي إلا قد أنذر قومه الدجال وإن أخوف ما أخاف عليكم فتنة المسيح الدجال} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وفي الصحيحين: {أنه كان عليه الصلاة والسلام يتعوذ من أربع: من فتنة النار، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال} وهي: خمس عند بعض أهل العلم.
ومن أعظم الفتن: فتنة المسيح الدجال؛ حتى أن نوحاً عليه السلام أنذر قومه المسيح الدجال.
السؤال
كيف ينذر نوح عليه السلام من المسيح الدجال قومه مع العلم أنه لا يخرج إلا آخر الزمان؟
الجواب
قيل أن نوحاً عليه السلام لم يعلم بذلك، وقيل: إن الله عَزَّ وَجَلَ افترض على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن ينذروا قومهم فتنة المسيح الدجال، فأنذرنا عليه الصلاة والسلام فتنته، وأخبرنا أن فتن غيره تسهل وتقل، وأنا سوف أُعرض عن هذه القضايا.
وسوف أعرض عليكم حديثاً رواه مسلم والإمام أحمد وغيرهم من الأئمة، وهذه رواية أحمد: {خرج صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القيلولة - القيلولة: بعد صلاة الظهر- فجمع الناس، قال: الصلاة جامعة، أتى ينام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما أتاه النوم فرحاً، فقال: الصلاة جامعة، الصلاة جامعة -فاجتمع الناس- قال: من منكم لقي تميماً الداري، قال بعضهم: لقيناه، قال: حدثكم بحديث الدجال، قالوا: نعم، فأخذ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدث البقية الباقية}.(183/2)
حديث تميم الداري مع المسيح الدجال
يقول تميم الداري رضي الله عنه وأرضاه - وهو من داريا قريباً من الشام ركبنا في سفينة فوقعت بنا إلى جزيرة من الجزر - قيل: قريباً من قبرص - فنزل هناك جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم معهم تميم الداري، وإذا بدابة أهلب -كثيرة الشعر- قال: وجهها كوجه الإنسان ولا ندري هل هي ذكر أم أنثى؟ فتكلمت بإذن الله! قالت: من أنتم؟ قلنا: عجباً دابة تتكلم! قالت: أعجب مني الرجل المقيد في البئر - رجل قريب منها مقيد في بئر- فاسألوه فإن عنده خبراً، فتقدموا فوجدوا المسيح الدجال مقيداً في قعر البئر، وليس فيها ماء وهو مصفود بالحديد، وهو أعور العين اليمنى، قال: فقلنا من أنت؟ قال: من أنتم؟ - ترك الجواب- قلنا: من العرب! قال: ما فعل نبي العرب أبعث؟ - أي: ينتظر مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام- قالوا: نعم بعث.
قال: كيف العرب؟ قالوا: انقسموا إلى قسمين قسم أطاعه وقسم حاربه، قال: أما إنهم لو أطاعوه لكان خيراً لهم، قال: ما فعلت نخل بيسان؟ - بلد في الشام فيها نخل- قالوا: تثمر -أي: تطلع- قال: يوشك ألا تطلع أبداً، قال: ما فعلت بحيرة طبرية؟ قالوا: لا زال فيها ماء، قال: يوشك ألا يكون فيها ماء، ثم أخبرهم أنه سوف يخرج ويطأ البلاد إلا مكة والمدينة وهذا كما في رواية مسلم.
فأخبروا الرسول عليه الصلاة والسلام فتهلل وجهه وفرح بأمرين:
الأول: لما علم الصحابة به، فأراد أن يخبر الناس تأكيداً لهذا الخبر حتى يتقوا فتنته.
الثاني: أنه لا يدخل مكة والمدينة وهذا سوف يأتي بحثه معنا -إن شاء الله - وسوف أتكلم عن ذلك، وبعد ذلك أعرض الأحاديث في الباب.(183/3)
أصل المسيح الدجال ولماذا لم يذكره الله تعالى في القرآن؟
ما هو أصل المسيح الدجال؟
أصله عند أهل العلم من اليهود عليهم لعنة الله، واليهود هم شر خليقة على وجه الأرض، ولا يأتي الفساد والإجرام إلا منهم، وفي رواية عن أبي سعيد الخدري كما في مسلم أنه من اليهود.
- هل هو موجود في عهد النبي عليه الصلاة والسلام؟
نعم كما سلف معنا أنه موجود من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ولا زال إلى الآن، فيخرج متى أذن الله عَزَّ وَجَلَ له بالخروج.
وهل ذكره الله في القرآن؟
الصحيح عند أهل العلم: أن الله لم يذكره باسمه، ذكر الله عَزَّ وَجَلَ الدابة، وذكر يأجوج ومأجوج، ولكن لم يذكر المسيح الدجال.
قال أهل العلم -وهو أحد الشافعية- عن سبب عدم ذكر الله له في القرآن: إن الله يذكر الآيات المتقدمة ولا يذكر الآيات القادمة -هذا فهم خاطئ- فإن الله ذكر الدابة وهي مستقبلية وقادمة، وكذلك يأجوج ومأجوج.
وقال عالم آخر: بل أشار الله إليه في القرآن في قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:158] قالوا: هو المسيح الدجال، وعند الترمذي: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام قرأ قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) [الأنعام:158] قال: الدابة، والمسيح الدجال، ويأجوج ومأجوج}.
وقال عالم آخر من الشافعية أيضاً: بل أشار الله عَزَّ وَجَلَ إلى خلق المسيح الدجال في قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] قال: الناس هنا المسيح الدجال! وهذا ليس بيقين، والآية ليس فيها دليل تنصيص على أنه المسيح الدجال، وهذا أمر لا يعرف إذا لم يشر إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبرنا به وحذرنا من فتنته، وذكر لنا معالم لخروجه عليه لعنة الله ووقانا الله شره.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {يخرج عند فتح المسلمين القسطنطينية} والقسطنطينية فتحت وهي استانبول وسوف يخرج بعدها، وأيام الله عَزَّ وَجَلَ تعادل من أيامنا الألوف، وقد أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أنه خرج هو والساعة كهاتين، ونحن في القرن الخامس عشر، ولا زلنا في هذا الفارق البسيط بين الأصبع الوسطى والسبابة، فإنه ولو فتحت القسطنطينية قديماً، فهو قريب أن يخرج - أعاذنا الله من شره- وقد حاول فتحها يزيد بن معاوية وغزاها، والذي فتحها هو محمد الفاتح الخليفة التركي، غزا الصليبيين فافتتحها فتحاً عظيماً، وهي من حسناته التي تكتب له -إن شاء الله- وهو من خيرة خلفاء الدولة العثمانية.(183/4)
سبب خروج المسيح الدجال
يغضب غضبة ثم يخرج على الناس، فيمشي في البلاد أربعين ليلة، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع وبقية أيامه كأيام الدنيا، فيطوف البقاع كلها، إلا مكة والمدينة لا يدخلها أبداً، فإذا اقترب من مكة رجفت مكة رجفة تخرج له الفسقة والمنافقون ويقترب من المدينة، يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {والذي نفسي بيده ما من نقب من أنقاب المدينة إلا عليه ملك معه سيف مصلت} يمنع ويحمي المدينة بإذن الله، فترجف رجفة فيخرج له المنافقون والفجرة فيفتنهم.
وهنا اعتراض صح عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيحين أنه قال: {رأيت البارحة - يعني في المنام - عيسى بن مريم عليه السلام، يطوف بين رجلين بالبيت كأنه يخرج من ديماس -يعني يقطر رأسه دهناً- وسطٌ ربعة، أحمر، ثم رأيت رجلاً بعده أشبه الناس بـ ابن قطن -وهو رجل مات في الجاهلية- أعور العين اليمنى، جعد الشعر - أي: ملفوف الشعر- قلت: من هذا؟ قال: المسيح الدجال}
والسؤال عند أهل العلم: كيف رآه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند البيت وفي الحديث أنه لا يدخل مكة؟
و
الجواب
أولاً: هذه رؤيا منام وليست في اليقظة، وليست كل رؤيا في المنام تحققت في اليقظة.
الأمر الثاني: أنه محرم عليه أن يدخل مكة يوم يخرج على الناس في الفتنة، أما قبلها فقد يدخل، وهذا جواب سديد.(183/5)
البلاد التي يخرج منها الدجال
من أين يخرج؟
الصحيح عند العلماء: أنه يخرج من خراسان وهي: في بلاد إيران وقيل عند مسلم: {بل يخرج من أصبهان} وأظنها قريبة من خراسان.
خذا جنب هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق
فـ خراسان كـ أصبهان قريبتان من بعضهما، ويخرج معه سبعون ألفاً من اليهود، وهم جيشه، عليهم الطيالسة أخزاهم الله، والطيالسة هي: الثياب بالقبع التي على الرأس، أي: الثوب بالطربوش -مثل: ثياب المغاربة- يخرجون معه يناصرونه ويذبون عنه.(183/6)
دعوة المسيح الدجال
ما هي دعوته؟
فيدعي أولاً: الإيمان والصلاح، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الألوهية، فيعبث بالناس ويفتنهم فتنة عظيمة، لأن الله عَزَّ وَجَلَ أجرى على يديه مخاريق، وليست كرامات من كرامات المؤمنين، ولا معجزات من معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ومنها: أنه يأتي إلى الخربة فيأمرها أن تخرج كنوزها، فيتبعه الذهب والفضة كأعاسيب النحل.
ومنها: أنه يأتي بجنة ونار يعرضها للناس، فجنته نارٌ وناره جنة.
ومنها: أنه يأتي إلى الشاة الحائل، فيقول لصاحبها: أتريد أن أحلبها؟ قال: نعم، قال: فتؤمن بي؟ قال: إن فعلت آمنت، فيحلبها فيؤمن به.
ويأتي إلى الرجل يقول له: أأحيي أباك؟ قال: نعم فيحييه بإذن الله.
فهو فتنة عظيمة ما بعدها فتنة، لكنِ المؤمنون لا يفتتنون به، فهم على بصيرة من الله، وسوف أذكر بإذن الله الأمور التي تحجب فتنة المسيح الدجال، أعاذنا الله من فتنته.
فتنه كثيرة يأتيه رجل من المؤمنين أقرب الناس درجة لرسولنا عليه الصلاة والسلام في الجنة، وهو من خيرة الشهداء، رجل من الموحدين المؤمنين يخرج إلى المسيح الدجال، فيقول المسيح: أتؤمن بي؟ قال: لا.
فيقطعه بالسيف قطعتين، ثم يحييه بإذن الله، فإذا هو أمامه، قال له: أتؤمن بي؟ قال: أكفر بك، فيريد أن يقتله فلا يستطيع، فيأخذه بيده ورجليه فيقذف به، فيظن أنه ألقاه في النار وإنما أُلقي في الجنة، وهذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين.
أما الذي يقتل المسيح الدجال فهو عيسى عليه السلام، وعيسى ينزل عند المنارة الشرقية في دمشق ينزله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في آخر وقت من الزمن، فيأتي وإذا المهدي عليه السلام -من ذرية الرسول عليه الصلاة والسلام- الذي يظهره الله في الأرض يملؤها عدلاً وسلاماً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، فيصلي المسيح عيسى بن مريم وراء المهدي، ويحكم بشريعة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم يطارد هذا المجرم، ويقتله عند باب لد في فلسطين وينهي الله فتنته.
والمسيح الدجال من الآيات الكبرى لقيام الساعة، ثم تقوم الساعة، وكان عليه الصلاة والسلام في كل صلاة يستعيذ بالله من فتنته، وهو سيد الخلق المعصوم، فكيف بنا ضعاف الإيمان المتعرضين للفتن صباح مساء.(183/7)
سبب إعطاء الله للمسيح الدجال الخوارق
السؤال عند أهل العلم: لماذا يعطيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذه الآيات والمخاريق وهو مجرم؟ وكيف يسلطه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو دجال كافر؟
الجواب
يقول أهل العلم: هذه إنما هي مخاريق ولا حقيقة لها، وأما آيات الأنبياء فهي حق لسببين اثنين:
أولاً: آيات الأنبياء يتوصل بها إلى إقامة الحق.
ثانياً: أنه لا معارض لها، فيصدقها الناس وتستمر ولا معارض لها.
أما هذه فهي دجل وتمويه ظاهره كذب، وباطنه نفاق وخديعة، فهذا الفارق بين الاثنين.(183/8)
المسيح أعور العين اليمنى
يقال: كيف يكون مطموس العين اليمنى مع العلم أنه أتى في بعض الروايات العين اليسرى؟ وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عينه اليسرى كالعنبة الطافية.
قال القاضي عياض - رحمه الله - الجمع بين ذلك أن يقال عينه اليمنى هي العوراء، وأما عينه الصحيحة فتبقى لها بريق، وصفها عليه الصلاة والسلام كالنخامة في الجدار، ووصفها كالكوكب الدري، تلمع لمعاناً، ويظهر أنه ولد صحيحاً، ثم دخلته العاهة وهي دليل على أنه لو كان إلهاً كان أزال العاهة عن جسمه، وأزال الخلل عن خلقته، ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له وحده، حتى يقول له الذي يخاصمه: لو كنت إلهاً أزلت العيب الذي فيك، لو كنت إلها ما كنت أعور والله ليس بأعور! تبارك الله رب العالمين، بل الكمال المطلق له: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
والعور هذا في عينيه فيه مصالح ومقاصد:
أولاً: ليتميز به بين الناس.
ثانياً: لينفصل عن الألوهية فيكذب.
ثالثاً: أنه دخله العيب، ولا يستطيع إزاحة العيب عن جسمه.(183/9)
المسيح مكتوب على جبينه كفر
مكتوب كما في الصحيح على جبينه كافر، وفي رواية مسلم يتهجاها الراوي يقول: (ك- ف- ر) أي: كفر.
يقرؤها القارئ وغير القارئ من المؤمنين، وأما المنافق والفاجر فلا يستطيع قراءتها، ولو كان يحمل الدكتوراه، فهي قراءةٌ خاصةٌ وحدسٌ خاص، ولله أسرار سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
يأتي الأمي وهو موحد مؤمن، فيقرأ على جبينه كفر، أو كافر، ويأتي هذا المتعلم الزنديق الملحد فلا يستطيع أن يقرأها، إنها حكمة بالغة وقدرة نافذة، فما تغني النذر، وليس كل العلم هو العلم التلقيني، أو العلم التجريبي، إن العلم المتلقى ليس كل شيء، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد:19] وقال الله في قوم تعلموا العلم ولم ينفعهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].(183/10)
الأكلة التي يفتن بها المسيح الدجال الناس
جلس عليه الصلاة والسلام بين الصحابة فذكر لهم فتنة المسيح الدجال، وأخبرهم أن معه ثريد يفتن به الناس، ثريد أي: لحم ومرق وخبز، وهذه أكلة شهية عند العرب، أحسن ما ينغمس العرب في هذه الأكلة، ويقولون: الطوائف من الناس لهم أكلات، وهذه بين الشعوب معروفة مثل: أهل إفريقيا مغرمون بالبطاطس، ومثل: أناس يغرمون بالفول، وقريش مغرمة بالسخينة، حتى يقول كعب بن مالك:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغلب الغلاب
يقول كعب: سخينة هؤلاء أهل الحساء -دقيق وسمن- وأهل الشربة يزعمون أنهم سوف يغلبون الله، لأنهم حاربوا الله في بدر، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: {كيف قلت يا كعب؟} يقول أعد علي البيت، كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب الشعر الحسن، ويحب الدعابة، والفكاهة ويدخل إلى النفوس، قال: {كيف قلت يا كعب؟} قال: قلت يا رسول:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها فليغلبن مغلب الغلاب
قال: {إن الله شكر لك بيتك يا كعب!} سبحان الله! {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر:10] وبعض الأبيات يشكرها الله وهي من أحسن ما يكون، وبعض الأبيات يدخل الله أصحابها النار، فمما يُشكر قول حسان وهي أشرف بيت قالته العرب:
وبيوم بدرٍ إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
هل هناك أشرف من هذا البيت؟
يقول: قيادتنا العسكرية يوم بدر جبريل ومحمد، وعند أهل السنة: أن القائد الأعلى رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، وأن جبريل كان في قيادته، لأنه نزل جبريل بألف من الملائكة على الأقل، ثم شارك في المعركة، وهذا يسميه بعض العصريين (الكمندوز) ونحن نتحرز من هذا الإطلاق ونتوقر أمام هذا، لأن الألفاظ الشرعية نلقيها كما كانت، أنا سمعت خطيباً في شريط يقول: واتصل عليه الصلاة والسلام اتصالاً فورياً بالملأ الأعلى، ويطلب منه أنه -عاوز ألف جندي- قال: فأرسل الله له على الفور جبريل وهو قائد فرقة (ثمانية وثلاثين) المتخصصة في النسف والإبادة والتدمير، مقصوده: أن جبريل عليه السلام دائماً يدمر القرى، قال: فنزل واشترك معه في المعركة.
فلا بأس أن نستخدم أسلوباً عصرياً جذاباً، مثلما فعل صاحب كتاب الرحيق المختوم الذي نال الجائزة العالمية في كتابته عن سيرة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل قوله: أبو بكر يعلن سياسة حكومته الجديدة بعد توليه الحكم بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجتمع بكبار مستشاريه قبل معركة بدر، الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلن الحرب على المنبر على أبي سفيان، الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقطع خط القافلة ويضرب حصاراً اقتصادياً على مكة.
هذا أسلوب عصري جميل، أما بعض البياض إذا زاد أصبح برصاً ولا يقبل، فالألفاظ الشرعية نحفظها مكانها.
الشاهد: أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مع المسيح الدجال ثريد يفتن به الناس، فمن أكل من ثريده فتنه، قال الأعرابي: {يا رسول الله كيف يفتنه؟ قال: يؤكله من ثريده، ويقول: أنا ربك، قال بدوي أعرابي: والله يا رسول الله لآكلن من ثريده حتى أشبع، ثم أقول: آمنت بالله وكفرت بك، فتبسم عليه الصلاة والسلام} أي: من يملك عقله في ذاك الوقت، ويظن ذلك الرجل أنه على الظاهر، كذلك يأكل ثم يحلف بالله أنه لا يؤمن به، وهم أهل دواهي، ولذلك كان يتحمل لهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جفاهم.
ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث يحسنه بعض الناس: {من بدا جفا، ومن تتبع الصيد غفل، ومن دخل على السلطان افتتن} وهذا ليس من حديثنا في شيء، ولكن عرجنا عليه تعريجاً.
نشير إلى التنوفة وهي قفر ومن بالسفح يعرف من عنينا(183/11)
صفة الدجال ونسبه
وصف الجسم: أنه أفحج أي: يمشي كأنه مختون، متباعد الرجلين، كبير البطن من كثرة ما يأكل من الحرام، وقصير القامة، وجعد الشعر أي: ملفوف الشعر، أعور العين اليمنى، وأما اليسرى فبادية ظاهرة كأنها عنبة طافية، ويقول أهل العلم: ليس له ذرية، وقد ولد من نسل يهودي كما ذكر سابقاً.(183/12)
المسيح الدجال هل هو ابن صياد؟
والقضية الأخيرة: هل هو ابن صياد، أو غير ابن صياد؟
كان بعض السلف كـ ابن عمر وغيره يرون أنه ابن صياد.
وابن صياد رجل من اليهود في المدينة لقيه عليه الصلاة والسلام وخرج إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدما أخبره الله أنه موجود، وهذا رجل مفتون من اليهود، وأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرجل اليهودي هذا غلام صغير وراء النخلة، فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشي هويناً ويقول للصحابة: انتظروا -يريد أن يقبض عليه- فأتى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يختفي، يقول الراوي: كأني برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد أن يصيد مثل: من يصيد الحمامة معه بندقية، قال: كان يختفي في ظل النخل ليقبض عليه، وإذا بأم هذا المجرم اليهودية تنظر إليه، قالت: محمد، محمد، أي: انتبه، فقام: فلحقه عليه الصلاة والسلام قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خبأت لك خبيئة ما هي؟ قال: الدخ، قال: كذبت}.
خبأت لك، أي: كتمت في قلبي الدخان، الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم كلمة في صدره وهي: الدخان، قال: هل تعرفها؟ قال: الدخ.
عرف شيئاً منها ولم يعرف الآخر!
قال عمر يا رسول الله: دعني أضرب عنقه -كان عمر جاهزاً دائماً لضرب الأعناق- قال: {إن يكنه فلن تسلط عليه}.
يقول: إن كان هو الدجال فلن تسلط عليه، فإنه لا يقتل الدجال إلا عيسى عليه السلام، فإنه يقتله بحربة معه، يأتي به ويطارده إلى باب لد فيذبحه هناك، وأما عمر فلن يسلط عليه، رضي الله عن عمر وأرضاه.
وابن صياد حير كثير من الصحابة؛ لأنه فجأة خرجت له عين طافية وهو شاب، وأصبح أعور العين اليمنى، فاحتاروا فيه.
الأمر الثاني: أنه يهودي.
يقول أبو سعيد الخدري: خرجت مع ابن صياد إلى مكة للعمرة، فقال: كم لقينا منكم يا أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آذيتموني حتى قلتم أني أنا المسيح الدجال! أما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام أن المسيح الدجال كافر وأنا مسلم؟! قال أبو سعيد: نعم.
فقال: أما يقول أنه لا يولد له وعندي أولاد، قال أبو سعيد: نعم.
فقال: أما يقول أنه لا يدخل مكة وأنا أدخل مكة الآن معكم، قال: نعم.
فقال أبو سعيد: اطمأننت أنه ليس المسيح الدجال، ثم قال لي: والله إني أدري أين مكان المسيح الدجال؟ وما هو وصفه، وأين هو الآن؟! قلت: تباً لك سائر هذا اليوم، أردت أن أطمئن إليك فأتيت بهذا، ثم قال: خذ الماء اشرب - أتى بماء من قربة لـ أبي سعيد الصحابي - قال: فخفت أن أتناول الماء من يده، لما سمعت كلامه فقلت الجو حار - وهذا من التعريض في الكلام، أي: لا أستطيع أن أشرب، ولكنه لا يريد أن يشرب من يده، أخزاه الله، هذا ابن صياد - والظاهر والله أعلم أنه غير المسيح الدجال.
والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر بدجاجلة ثلاثين كذابين، وأكبر الدجاجلة المسيح الدجال فهو قائدهم وأكبرهم، وأخبر أنهم سوف يأتون بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعي كل منهم النبوة وآخرهم الرجل الذي ادعى النبوة قبل ما يقارب سنة ونصف، أو سنتين ذلك الصيني الذي كان في أمريكا في ولاية" أريزونا " عليه غضب الله ولا يزال يظهر الآن منهم حتى يتم العدد ثلاثين، ثم يأتي المسيح الدجال، وفتنته فتنة لكل مفتون.(183/13)
أحاديث الفتن(183/14)
حديث حذيفة الذي فيه ذكر فتنة الدجال
كان الصحابة يعملون بالتخصصات فكان حذيفة تخصصه السؤال في الفتن، وأبو ذر دائماً يسأل عن أحاديث الزهد والعبادة في الغالب، وجابر أحاديث الحج، وأحاديث الفرائض عند زيد بن ثابت.
يقول حذيفة: {كان الناس يسألون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني} وهذا مبدأ جميل أن تعرف الشر وتعرف الباطل.
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه
ومن ميزة رسالة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه عرف الشر، يقول العلماء: إن السر الذي جعل الله عَزَّ وَجَلَّ يكتب لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعيش أربعين سنة بين الجاهليين ليعرف الجاهلية، لم يكن ملكاً حتى يعترضون عليه، فالله عَزَّ وَجَلَّ أخبرهم أنه بشر يعيش آلامهم وآمالهم وطموحاتهم، ويأكل مما يأكلون، ويشرب مما يشربون، ويمشي في الأسواق، ويبيع ويشتري، ويتزوج النساء قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] ليعرف واقعهم، أما إن كان ملكاً فسيقولون: لا نستطيع أن نفعل كفعلك لأنك ملك ونحن بشر، إذا صلى قالوا: لا نستطيع، فجعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بشراً.
الشاهد في ذلك: قال الله عَزَّ وَجَلَ: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] ومعرفة الشر قضية مهمة، وهي من معرفة الواقع، ولذلك يقول أحد المستشرقين: في كتاب" ماذا قالوا عن الرسول محمد؟ " صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: أنا لا أعجب من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكون نبياً فقبله أنبياء، ولا رسولاً فقبله رسل، لكن أعجب من هذا الرجل يعيش أربعين سنة بين البدو- يقصد أهل مكة - ثم ينبري بعد الأربعين، فإذا هو أخطب خطيب، وأفصح فصيح، وأقوى قائد، وأحنك سياسي وأفتى مفتٍ، هذا هو العجب، لكن نقول: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4].
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
قال حذيفة: ذُكر الدجال عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {لأنا لفتنة بعضكم أخوف عندي من فتنة الدجال، ولن ينجو أحد مما قبلها إلا نجا منها، وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة إلا لفتنة الدجال} أي: أن الفتن تهون إلا فتنة هذا الدجال -عياذاً بالله- هذا الحديث قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح، والمقصد أنه أكبر فتنة، وأن من نجا من الفتن قبله ينجو من فتنته بإذن الله.
ومن الفتن: اختلاط الحق بالباطل حتى لا يدري الإنسان أي شيء يتبع، فتجده مرة في طائفة، ومرة في طائفة، ومرة في مبدأ، ومرة في قضية، هذا من الفتن العظيمة {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة:41] وهو الرجل المفتون في دينه الذي يبيع دينه كل يوم وأخبر عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {أنه تأتي فتن يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا} وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام: {أنه سوف تأتي فتن يمر الرجل فيها بصاحب القبر فيقول: يا ليتني كنت مكانك!} من كثرة الفتن التي تعم، حتى لا يعرف الإنسان كيف يتصرف، وماذا يقول، ومن يتبع؛ من كثرة من يدعو إلى الحق وهو ليس بمحق، ومن كثرة من ينادي بأن منهجه هو الصواب ومنهج غيره الخطأ، وعلى المسلم في ذلك أن يلتزم بالكتاب والسنة , وأن يتبع الرسول عليه الصلاة والسلام، وسوف يأتي كلام في هذا في كتاب الفتن إن شاء الله.(183/15)
وجود فتنة أكبر من فتنة الدجال
وعن هشام بن عامر الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {ما بين خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أكبر من فتنة الدجال} رواه مسلم بأطول من هذا، فهي الفتنة العظيمة التي تعوذ منها المتعوذون، أعاذنا الله وإياكم من فتنته.
إذا خرج الدجال تكون الأيام -كما قلت- يوماً كسنة، ويوماً كشهر، ويوماً كأسبوع {فسأل الصحابة الرسول عليه الصلاة والسلام: كيف نصلي في اليوم الذي كسنة؟ قال: اقدروا له قدره} أي: قدروا الأوقات، فاليوم الذي كالسنة لا تكفيه خمس صلوات؛ لأنك تصلي الفجر وتمكث ستة أشهر، ثم تصلي الظهر، وتمكث ثلاثة أشهر ثم تصلي العصر- قال: اقدروا قدره.
أخذ من هذا بعض العلماء: على أن أهل القطبين يقدرون قدر الصلوات، لأن في القطب الآن يكون عندهم النهار ساعتين، والليل عندهم اثنتان وعشرون ساعة أحياناً، فماذا يفعلون؟ يكفيهم في النهار فقط صلاة، قال: اقدروا قدره، وأحياناً عندهم إذا أذن المغرب بعد ساعة وربع، يؤذن لصلاة الفجر، فأين تذهب العشاء؟ يقدرون قدرها، لأن أهل الفتوى يقولون لأهل القطبين على قولين:
- يصلون على صلاة أهل مكة.
- ومنهم من قال: أقرب البقاع إليهم، والصحيح يقدرون قدرها في الساعات كالأيام العادية في بلد متوسط معتدل.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما كانت فتنة ولن تكون حتى تقوم الساعة أكبر من فتنة الدجال} قال الحافظ ابن كثير في النهاية تفرد به أحمد وإسناده جيد وصححه الحاكم.
وهنا الحديث الطويل الذي أوردته عند مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: والله لقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {ليكونن قبل يوم القيامة المسيح الدجال وكذابون ثلاثون} هؤلاء الثلاثون يدعون النبوة، وفي عهده عليه الصلاة والسلام خرج أناس منهم مسيلمة الكذاب، وبعده الأسود العنسي وطليحة بن خويلد ورجع طليحة إلى الإيمان.(183/16)
جنود المسيح الدجال
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: {حدثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن الدجال يخرج من أرض المشرق، يقال لها خراسان يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرَّقة أو المطْرقة} أي: وجوههم ملفوفة في آنافهم.
يقول بعض العلماء في هذا الحديث: هم مثل أهل الصين وأهل كوريا تجد أنوفهم من جنس وجوههم ليس فيها بروز كأنها الحبحب، والشعب الآري دائماً أشبه الناس بهذا الذي وصفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا خرج جيشه خرج من هذا الصنف، حتى إن بعض المتأخرين من العلماء في يأجوج ومأجوج قالوا: هم أهل كوريا والصين واعترض عليه باعتراضات كثيرة، فالله أعلم.
لكن في التاريخ الآن هناك قبائل في الصين اسمها يأجوج ومأجوج، حتى بلغة الصين، وهي موجودة يقول: أصلها من عهد كونفشيوس وهو مؤسس مذهب إلحادي، وهو روحاني منحرف، ويتبعه الصينيون الآن، ويريد بعض الشيوعيين أن يعود إلى كونفشيوس ومبادئه، ومن أجلها وقعت المقتلة في الساحة الكبرى في بكين -كما تعرفون- قبل ما يقارب سنة، أو سنة ونصف، والشاهد: أنهم من تلك الجهة يخرجون معه -أعاذنا الله من فتنته وفتنتهم- ويقاتلون معه، وهذا الحديث إسناده صحيح.(183/17)
محاولة الدجال دخول المدينة
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {يأتي المسيح الدجال من قبل المشرق وهمته المدينة حتى ينزل دائر أحد - يعني: قريباً من جبل أحد - ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام} وهناك يهلك، يريد أن يقترب ولكن ينزل في حرة قريباً من المدينة والملائكة تجتمع عليه فتطرده بإذن الله، فيحاول أن يدخل من كل جهة، لكن لا يستطيع لأنها محصنة بالملائكة لشرفها، ولوجود الرسول عليه الصلاة والسلام.
والعجيب من المعجزات يقولون: أن المسيح يصعد على جبل أحد ويقول: هذا قصر محمد، هذا قصر محمد الأبيض، أي: المسجد، وكان في عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طين لكن انظر المعجزة الآن -كما تعرفون- يبنى ويبيض ويصبح أبيض كالقصر، فيقول: هذا قصر محمد، يعني مسجده عليه الصلاة والسلام.
بنفسي تلك الأرض ما أحسن الربى وما أحسن المصطاف والمتربعا
ذاك المسجد منه انطلقت الرسالة، والنور، والهداية، والإيمان، والعدل، والسلام، والحب، والرحمة، والحنان.
ذاك المسجد خرج منه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
ذاك المسجد خرج منه الشعر الصادق، والأدب الناصع، والكلمة الحية، والأدب الجم.
ذاك المسجد خرجت منه حضارة الإنسان، حضارة الروح التي أهداها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام للناس.
وفي قصيدة مترجمة لـ محمد إقبال يقول أبو الحسن الندوي: محمد إقبال ما زار المدينة، ولكنه توهم أنه مشى في الليل، فوصل إلى قبر الرسول عليه الصلاة والسلام، فأهدى له قصيدة، وإن شاء الله ستكون هناك محاضرة في كلية الشريعة بعنوان" محمد إقبال شاعر الحب والطموح" نتكلم عنه وعن شعره الإسلامي، وعن أثره في الأدب، إنما يقول:
وصلت إلى المدينة، فقال لي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أين أتيت يا محمد إقبال؟ وهذا شعر ترجم بالعربية، لو كان نظمه هو لكان أحسن كان يبكي بشعره الهنود، فشعره قوم دولة باكستان والتي فيها ثمانين مليوناً بإذن الله، ثم بجهود محمد إقبال، وهو الذي أتى بـ محمد علي جناح ويسميه الباكستانيون جنة، محمد علي جنة هذا أول رئيس لهم، فالمقصود: أنه يقول: أتيتك يا رسول الله! فقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أين أتيت؟ قال: أتيت من الهند، قال: هندي وتأتي إلي، ماذا أتى بك؟! قال: أنا جسمي هندي وقلبي عربي -يترجمها العربي- يقول:
إن كان لي نغم الهنود ودنهم لكن ذاك الصوت من عدنان
قال: ماذا جاء بك؟ قال: يا رسول الله أبحث عن أصحابك الذين رفعوا الرسالة في العالم ما وجدتهم -يقول: أين هم الدعاة الذين يبعثون لا إله إلا الله ويرفعونها- قال: أما أتوكم في الهند؟ قال: أتونا لكن ماتوا، ثم ما أصبحت السفينة ترسل لنا أحداً في الهند - يقول: الجزيرة ما أصبحت تخرج لنا دعاة، خرج من الجزيرة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وخرج من الجزيرة خالد وسعد وخرج من الجزيرة علماء الإسلام، وأمة الإسلام أين هم؟ - الآن لم يبق إلا أناس عاديون، أصبح يخرج منها بعضهم مطربين فنانين، ولكن ما أصبحت تخرج تلك العملة، أين هم يا رسول الله؟ فقال: فتأسف الرسول عليه الصلاة والسلام وتحسر قال: ثم وقفت باكياً، وقلت له وأنا أناجي ربي عند الرسول عليه الصلاة والسلام في قصيدتي المشهورة: يارب!
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
يا ربي أين الأمة؟ أتيت إلى الجزيرة فما وجدت الأمة، وجدت أناساً يبنون فللاً، وجدت أناساً يركبون سيارات فاخرة، ووجدت الناس عندهم قصور، ووجد الناس يلعبون البلوت والكيرم، وأناساً يصلون، لكن العالم يا رسول الله يفتقر إلى هذه الأمة لينشروا الدين، فأعدهم يا رب، قال: يارب!
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
محمد إقبال دخل أسبانيا، فأتى الحمراء فبكى.
قال له الأسبان: مالك تبكي؟ قال: أجدادي هم الذين بنوا هذا المسجد، دعوني أتكلم مع أجدادي، فتقدم إلى مقبرة، يقولون: بها الناصر وعبد الرحمن الداخل خلفاء الإسلام هناك قال: السلام عليكم، تركنا إرسال وفود من شبابنا إليكم، فأتت الماجنة الحمراء تغني على قبوركم، أي: الفرنجة تغني.
مر بـ السويس في مصر فأرسل رسالة إلى فاروق مصر رسالة من السفينة يقول: يا فاروق مصر إنك لن تكون كـ الفاروق عمر حتى تحمل درة عمر، يقول: يا فاروق مصر لا تسم نفسك فاروقاً، فلن تكون كـ الفاروق عمر حتى تحمل درة عمر.
الشاهد: أن المدينة لا يدخلها - بإذن الله - وأن النور سطع منها، وأنها تراثنا، وسمونا، وسؤددنا من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
يقول ابن تيمية وهو يذكر بعض العلماء: كانوا إذا اقتربوا من المدينة، يأتيهم شوق إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعضهم كان يبكي، والإمام مالك أثر عنه أنه قال: والله لا أركب دابةً في المدينة، قيل له: ولم؟ قال: تراب مدفون فيه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، لا أركب دابةً وأطأ ثراه بدابة، وهذا من ورع مالك.
وذكروا عن علماء العراق ومحدثيهم أنهم كانوا إذا اقتربوا من المدينة مشوا حفاة احتراماً وتوقيراً لرسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
ولغلاة الصوفية عجائب في باب زيارة الرسول عليه الصلاة والسلام هناك، ويأتون بخزعبلات لا يصدقها العقل، قرأت لأحدهم يقول: أتيت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام عند الروضة فاقتربت من القبر فقلت: يا رسول الله أنا فلان بن فلان -يعرف ببطاقته الشخصية- جئت من بلد كذا وكذا، وأنا يا رسول الله:
في حالة البعد نفسي كنت أرسلها تقبل الأرض عنكم وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
قال: فانشق القبر ومد يده، فسلم علي، هذه أكبر كذبة في التاريخ، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينشق عنه القبر، ولم يسلم على أحد، وهو حي في قبره حياة الله أعلم بها، ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أكثروا عليّ من الصلاة والسلام ليلة الجمعة ويوم الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليّ، قالوا: كيف تعرض عليك صلاتنا يا رسول الله وقد أرمت؟ - أي بليت- قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} ولهم أخبار في ذلك لكن حتى لا يتلبس على الإنسان بهذا، ونسأل الله أن يغفر في بعض المواقف وبعض ما يجري من الناس.
حدثنا بعض المشايخ يقول: كنا عند الروضة نسلم عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السلام الشرعي، فأتى رجل عجوز فسلم، قال: يا رسول الله! ما أريد أطول الكلام الشفاعة والسلام - يعني أنه مستعجل فيقول: يا رسول الله! عندي كلام كثير وأنا سوف أختصر لك الطلب، أريد شفاعة يوم القيامة، نسأل الله أن يغفر لنا.
وقد ذكر أهل العلم في ذلك حتى في كتب السنن كلاماً عجيباً لمثل هؤلاء منهم ابن الجوزي يقول: أتى حاج أعرابي فخرج لرمي الجمرة يوم العاشر -جمرة العقبة- ونزل إلى الحرم، ثم تعلق بأستار الكعبة قال: اللهم اغفر لي قبل أن يزدحم عليك الحجاج.(183/18)
اليهود الذين يتبعون الدجال
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم التيجان} فلا ينشر البلاء، والربا، والزنا، والزلازل، والفتن، إلا اليهود.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {من سمع بالدجال فلينأى منه؛ فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فلا يزال به لما معه من الشبه حتى يتبعه} أي: أن أسلم السبل عند أهل العلم هو تجنبه، فإن سمعت أنه وصل إلى بلد فابتعد عنها إلى بلد آخر سريعاً، فلا بد أن يكون قبله تغطية إعلامية، ولا ندري هل يأتي ووسائل الإعلام متحركة فتخبر بوصوله؟ أم يأتي في وقت قد انتهت هذه الوسائل -الله أعلم بذلك- لكن من سمع به فلينأى عنه.
وعن جابر رضي الله عنه قال: {أشرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على فلق من أفلاق الحرة -الحرة: الحجارة السوداء في المدينة - ونحن معه، وقال: نعمت الأرض المدينة إذا خرج الدجال كان على كل نقب من أنقابها ملك لا يدخلها، فإذا كان كذلك رجفت المدينة بأهلها ثلاث رجفات لا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه -وأكثر من يخرج إليه النساء- وذلك يوم التخليص}.
أي: النساء يخرجن بكثرة لكثرة الشبه في النساء، ولضعف عقول النساء، ولضعف إيمانهن في الغالب، وذلك يوم تنفي المدينة الخبث، كما ينفي الكير خبث الحديد، يكون معه سبعون ألفاً من اليهود على كل رجل منهم ساج وسيف محلى، فتضرب رقبته بهذه الضراب الذي عند مجتمع السيول، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما كانت فتنة ولا تكون حتى تقوم الساعة أكبر من فتنة الدجال، وما من نبي إلا قد حذر أمته، ولأخبرنكم بشيء ما أخبر به نبي أمته قبلي، ثم وضع يده على عينه، ثم قال: أشهد أن الله - عَزَّ وَجَلَ - ليس بأعور} هذا الحديث صحيح بمجموع طرقه، وأورده الطبراني في الأوسط وغيره من أهل العلم، وصححه الحاكم، والمقصود قوله عليه الصلاة والسلام: {أشهد أن الله ليس بأعور} معناه: أن هذا يدعي أنه إله والله عَزَّ وَجَلَ لا يكون أعور تبارك وتعالى، بل له الكمال المطلق تقدس الله عن المثيل، وعن الشبيه، وعن الضد والند.(183/19)
تحذير الأنبياء أمتهم من الدجال
وعن سفينة مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسبب تسميته سفينة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطاه متاعاً يحمل فحمل، فزاده الصحابة متاعاً، ثم زادوه، ثم زادوه فحملها من قوته، قال صلى الله عليه وسلم: {احمل إنما أنت سفينة} يتبسم له، فسموه سفينة، وله كرامة حيث نزل في البحر فانكسرت السفينة فركب خشباً منها فهبت به الريح إلى الساحل، فنزل إلى الساحل فإذا الأسد (أبو حيدرة) على الساحل ينتظره فقد فر من الموت وفي الموت وقع، فكان الماء أسهل، وتعرفون الأسد أنه ملك الحيوانات حتى سماه الله في القرآن ولم يهدد بحيوان آخر يقول: {فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:49 - 51] وقسورة: هو الأسد، له مائة اسم، اسمه طلحة، وحمزة، وقسورة، وحيدرة، وأسامة، وهزبر، والليث.
وسامحوني أن أستطرد في قضية ذكرها صاحب كتاب" كليلة ودمنة " يصفها للناس حتى يمتثلوا ويعتبروا بها من التجربة، وإلا يمكن أنها لم تقع، يقول: قام الأسد في الصباح، وكان ملك الحيوانات، فقال: اذهبوا والتمسوا لي رزقاً، أي: غداء وعشاء، فذهبوا فأتوا بظبي وأرنب وغزال، فوضعوها أمامه ميتة، قال: من يقسم بيننا؟ فأتى الذئب -الذئب عجول دائماً (أبو حصين) ليس عنده فكر، فالثعلب أذكى منه، الذئب فارس ولكنه عجول- قال: أنا أقسم، قال: كيف؟ قال: أما الغزال فلك؛ لأنه كبير، وأما الظبي فلي، وأما الأرنب فلأبي معاوية (الثعلب) لأنها صديقة له دائماً، ولذلك تجد هذا الثعلب ما يهوي إلا على الأرانب والدجاج فقط، فغضب الأسد فأتى فخلع رأس الذئب بيده في الأرض، وقال: من يقسم بيننا؟ قال الثعلب: أنا يا أستاذ، قال: تفضل، قال: أما الأرنب ففطور لك، وأما الظبي فغداء لك، وأما الغزال فعشاء، قال: من علمك هذه الحكمة؟ قال: رأس الذئب!!
يقصدون بهذا أنك إذا أخطأ رجل أمامك تستفيد من خطئه، يقول المتنبي:
مصائب قوم عند قوم فوائد
أي: أن تستفيد فهذا هو المقصود وهو درس تربوي، لكن جعلوه في صيغة حيوان؛ لأنه أصلاً في كتاب" كليلة ودمنة " طلب ملك من الملوك أن يكتب له هذا الحكيم، فخاف أن يكتب ويتكلم على أسرة الملك، فتكلم على الحيوانات، أي: (إياك أعني واسمعي يا جارة) حتى يعرف هو.
فنزل سفينة وإذا الأسد أمامه، والبحر من ورائه قال: يا أسد! أنا من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام فدعني، قال: فطأطأ الأسد له، ثم شم ثيابه، ثم تركه، وهي في ترجمة سفينة في كتب السيرة رضي الله عنه وأرضاه.
وعلى سبيل الاستطراد صلة بن أشيم وقعت له قصة حيث كان في خراسان يغزو، وقيل: في جهة كابول، وكان من العباد الكبار، فترك الجيش نائمين، فقام يتوضأ، ودخل غابة من شجر يصلي، وفي أثناء الصلاة أتى أسد -يقول أحد تلاميذه- فرقيت شجرة ألتمس ماذا يفعل صلة، قال: فأتى الأسد فطاف به فو الله ما تغير ولا استعجل في صلاته ولا تحرك من مكانه، ثم سلم من ركعتين، وقال: أيها الأسد إن كنت أمرت بقتلي فكلني وإلا فاتركني أصلي، قال: فزأر، ثم أرخى ذنبه وسحبه وذهب.
أي أمة سخر الله لها الحيوانات!! وأعود لـ محمد إقبال، يقول في إفريقيا: إن عقبة بن نافع لما مر بـ إفريقيا - وهذا صحيح في كتب التاريخ - خرجت عليه الحيات، والثعابين مع الجيش في إفريقيا في الغابات والأسود فوقف عقبة بن نافع رضي الله عنه وأرضاه يريد أن يفتح إفريقيا كلها قال: أيها الحيات، والعقارب، والثعابين، والسباع، والأسود نحن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، جئنا نفتح الدنيا بلا إله إلا الله فادخلي جحورك بإذن الله فدخلت، يقول محمد إقبال:
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولنا الأزهارا
قال سفينة مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {ألا إنه لم يكن نبي قبلي إلا قد حذر الدجال أمته، هو أعور عينه اليسرى، بعينه اليمنى ظفرة غليظة، مكتوب بين عينيه كافر} وفي رواية كما قلت: تتهجى ك - ف - ر، أي: منفصلة: {يخرج معه واديان أحدهما جنة والآخر نار، فناره جنة، وجنته نار، ومعه ملكان من الملائكة يشبهان نبيين من الأنبياء لو شئت سميتهما بأسمائهما وأسماء آبائهما، واحد منهما عن يمينه والآخر عن شماله، وذلك فتنة، فيقول الدجال: ألست بربكم؟ ألست أحيي وأميت؟ فيقول له أحد الملكين: كذبت، ما يسمعه أحد من الناس إلا صاحبه، فيقول له: صدقت؟ فيسمعه الناس، فيظنون أنما يصدق الدجال -هذا الملك يصدق الملك في تكذيب الدجال- فيظنه صدق الدجال، وذلك فتنة، ثم يسير حتى يأتي المدينة فلا يؤذن له فيها، فيقول: هذه قرية ذلك الرجل، ثم يسير حتى يأتي الشام فيهلكه الله - عَزَّ وَجَلَ - عند عقبة وفيق} والحديث سنده صحيح ووثق رجاله النسائي وله شواهد عند أهل العلم.
وقد اختلف أهل العلم أيهما أفضل المدينة أم مكة؟
فقال الإمام مالك: المدينة أفضل من مكة، والصحيح: أن مكة أفضل، وأن الصلاة في الحرم بمائة ألف صلاة فيما سواه، وأن الصلاة في مسجده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بألف صلاه فيما سواه، إلا في الحرم المكي، ولكن المدينة لها ميزة في آخر الزمان كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يأرز الإيمان إليها كما تأرز الحية إلى جحرها} وهذه بلاغة لا يدركها إلا أصحابه عليه الصلاة والسلام، وصف (يأرز) والحية لها جحر، فشبه الإيمان بها؛ لأن الإيمان في آخر الزمان يأرز إلى المدينة والمدينة تنفي خبثها وينصع طيبها، ولا يرتاح المنافقون في المدينة وتتشوش أفكارهم.
والحقيقة أن المدينة فيها لأواء ولكنه لا يصبر على لأوائها إلا مؤمن، وهم الذين يحبون السكنى هناك، ولكن تجب الطاعة في أي مكان فإن الأرض لا تقدس أحداً، ولو كنت وراء البحر.(183/20)
بعض صفات الدجال الواردة في الأحاديث
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {إن الدجال أعور العين اليسرى، عليه ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه كافر قال وكفر} أي: جمة وظفرة، رأسه لا يحلق، هذه من علاماته، والحديث صحيح.
وعن سعد بن أبي وقاص -خال الرسول عليه الصلاة والسلام- ومدكدك امبراطورية فارس، وهو صاحب قادسية لا إله إلا الله، والتي حضرها وكان مريضاً رضي الله عنه وأرضاه كان مصدوراً، وكان في بطنه جراح، فجعلوا له وسادة على القصر، وأشرف على المعركة يديرها هناك حتى نصر الله أولياءه نصراً ما سمع التاريخ بمثله، ودخل إيوان كسرى فكبر فانصدع الإيوان، وهو صاحب الفتح العظيم، كان يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هذا خالي فليرني كل امرؤ خاله} أي: يتحدى.
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنه لم يكن نبي إلا وصف الدجال لأمته، ولأصفنه وصفاً لم يصفه أحد كان قبلي: إنه أعور، وإن الله - عَزَّ وَجَلَ - ليس بأعور} حديث صحيح وقد سبق له شواهد.
وقال عليه الصلاة والسلام من حديث عمران بن حصين: {لقد أكل ومشى في الأسواق - يعني الدجال-} والذي يظهر بهذا الحديث أنه وجد في عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو في أول عهده، وكان يمشي في الأسواق، ثم قيده الله لفتنته في البئر التي ذكرت في الجزيرة في البحر، وسوف يخرج منها نعوذ بالله من فتنته.
وكثير من الأمم يعترفون به، وحتى في علم اليهود والنصارى الصليبيين يعترفون بهذا، ولكنهم لا يقفون منه موقفنا، لأنه يهودي فاليهود يتعصبون له، ويرون أنه من الفاتحين لهم، وأنه يعيد شيئاً من دولتهم، ولكن سوف يُدْحَر هو وإياهم بإذن الله.
هذا الحديث حديث عمران: {لقد أكل الطعام ومشى في الأسواق} أخرجه الإمام أحمد والطبراني ورجاله ثقات إلا رجل اختلف فيه وفي إسناد أحمد يقول: علي بن زيد وحديثه حسن وبقية رجاله رجال الصحيح.
وبقي حديثان: حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {رأيت عند الكعبة مما يلي وجهها رجلاً آدم -يعني: يميل إلى السمرة- سبط الرأس -أي: مسترسل الشعر- على رجلين، يقطر رأسه من الدهن، فقلت: من هذا؟ قالوا: المسيح بن مريم عليه السلام، ورأيت وراءه رجل أعور العين اليمنى جعد الرأس أشبه من رأيت به ابن قطن -وابن قطن يقولون: رجل مات في الجاهلية، وقيل: يهودي، والصحيح أنه رجل مات في الجاهلية يعرفه الناس كان أعور- فقلت: من هذا؟ قالوا: المسيح الدجال}.
وفي الصحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {إني قد حدثتكم عن الدجال حتى خشيت ألا تعقلوا، إن المسيح الدجال رجل قصير أفحج -كما قلت متباعد الرجلين- جعد، أعور مطموس العين ليس بناتئة ولا حجراء -ناتئة يعني: ليست خارجة جداً! ولا حجراء ليست بغائرة- فإن ألبس عليكم أمره، فإن ربكم تعالى ليس بأعور، وإنكم لن تروا ربكم تعالى حتى تموتوا}.
نسأل الله أن يرينا وجهه الكريم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:21 - 25].(183/21)
طريقة الاعتصام من فتنة المسيح الدجال
مسألة: كيف يُعصم من فتنة المسيح الدجال؟
يُعْصمُ منها أولاً: باتباع رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، فسنته سفينة نوح من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها هلك: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
ثانياً: كثرة الدعاء: {يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، يا مصرف القلوب والأبصار صرف قلوبنا إلى طاعتك} الثبات، الدعاء من الله - عَزَّ وَجَلَ - ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هداها.
ثالثاً: بكثرة النوافل والعبادة، والاتجاه إلى الله، والصدق مع الله.
رابعاً: بطلب العلم النافع الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم.
خامساً: بالدعوة إلى سبيل الله، فإن الداعي محصن:
أول تحصين: ألا يكون مدعواً، فإذا كنت داعياً لم تكن مدعواً، فأولاً: أن تحصن نفسك فيحصنك الله عَزَّ وَجَلَ، ولذلك يقال في بعض الآثار: إن الله عَزَّ وَجَلَ يدخل المؤمنين يوم القيامة الجنة، فيترك الذين كانوا يدعون من دعاة الأمة المحمدية، فيقولون: يا ربنا أدخلت الناس وتركتنا، قال: أنتم كبعض ملائكتي اشفعوا في الناس.
توفي منصور بن المعتمر وكان واعظاً كبيراً فرئي في المنام قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، وشفعني فيما شئت.
فنسأل الله أن ينفعنا وإياكم، فالدعوة إلى سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي مما يتقى به فتنة المسيح الدجال، أعاذنا الله من فتنته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(183/22)
الأسئلة(183/23)
صلاة الاستسقاء
السؤال
أرجو أن تذكر متى ستكون صلاة الاستسقاء؟
الجواب
صلاة الاستسقاء تكون بإذن الله يوم الإثنين بإذنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأذكركم ونفسي بالخروج لها خاشعين متبتلين، داعين علّ الله أن يرحمنا، ونحن بحاجة ماسة إلى رحمة الله عَزَّ وَجَلَ.
وسبب عدم نزول القطر إنما هو ذنوب العباد، وصدوفهم عن منهج الله، وبما وقع في الأرض من فساد وارتكاب للمحرمات، ونحن نسأل الله عَزَّ وَجَلَ أن يغفر لنا ولكم وأن يتوب علينا وعليكم، وأن يسقينا وإياكم الغيث ولا يجعلنا من القانطين، وكان عليه الصلاة والسلام يخرج في الاستسقاء، متبذلاً، خاشعاً، باكياً، نادماً مستغفراً، متواضعاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
متبذلاً: لابساً ثياب البذلة لا متزيناً؛ لأنه ليس من السنة أن تتزين للاستسقاء كالعيد , لأنك تعرض نفسك وفقرك على الله عَزَّ وَجَلَ وهذا لا يناسب، فتخرج متبذلاً.
وورد في حديث صحيح أن سليمان عليه السلام خرج يستسقي بالناس، فرأى نملة رفعت قدميها ويديها تدعو الله عَزَّ وَجَلَ فبكى سليمان، وقال: عودوا فقد سقيتم بدعاء غيركم.
وعند أبي يعلى بسند فيه نظر أن الله - عَزَّ وَجَلَ - يقول: وعزتي وجلالي لولا شيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع، لخسفت بكم الأرض خسفاً.
فبرحمة الله عَزَّ وَجَلَ وبسبب من لا ذنب له من الأطفال، والحيوانات، والعجماوات، والديدان، والصالحين، فينا يرحمنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وذكر أهل العلم: أن موسى عليه السلام خرج ببني إسرائيل يستسقي بهم، فأوحى الله إليه أن يا موسى عد ببني إسرائيل لأرمينهم بالحجارة من السماء، قالوا: والسبب في ذلك أنهم استحلوا الربا، واستحلوا الزنا، ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، فوصيتي لنفسي ولكم: أن نخرج ذاك اليوم بكثرة استغفار وتوبة، وتوجه إلى الله بالدعاء؛ علَّ الله عَزَّ وَجَلَ أن يرحمنا وإياكم وأن يغيثنا.(183/24)
المعجزة لا تكون إلا للأنبياء
السؤال
ذكرت أن سفينة كان له معجزة في البحر، فهل المعجزة لغير الأنبياء؟
الجواب
قد يكون سبق لسان، لكن حتى لفظ المعجزة لا أظن أن إطلاقها شرعي في الكتاب والسنة على الأنبياء، إنما تسمى آية للنبي عليه الصلاة والسلام، وهي الأفصح عربياً وشرعياً نقول: من آياته عليه الصلاة والسلام، وأما المعجزة فلا تكون لغير الأنبياء إنما تسمى كرامة للأولياء، وشرط الكرامة شرطان:
- أن تكون من رجل صالح يعمل بالكتاب والسنة.
- أن يرفع بها دين الله، أو ينصر بها دين الله(183/25)
مصير المسيح الدجال بعد قتله
السؤال
ما هو مصير المسيح الدجال بعد أن يقتله عيسى عليه السلام، هل يحاسبه الله بعد ذلك ويدخله النار؟
الجواب
نعم يدخل النار خالداً مخلداً؛ لأنه كافر.(183/26)
ضعف حديث: (امرؤ القيس قائد الشعراء إلى النار)
السؤال
ما مدى صحة هذا الحديث: {امرؤ القيس يجر لواء الشعراء في النار}؟
الجواب
هو بلفظ: {امرؤ القيس قائد الشعراء إلى النار} ولكن لا يصح هذا الحديث، وليس بثابت عنه عليه الصلاة والسلام، وامرؤ القيس مات كافراً مشركاً، وقد كان ابن ملك من ملوك كندة، وكانوا يسكنون نجد، وهو شاعر يسمى (أمير الشعراء) في الجاهلية، وكان شعره جميلاً، ومن شعره:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
وذهب إلى ملك الروم ليستنجد به على من قتل أباه في نجد، فلما ذهب إلى ملك الروم أوشت الحاشية بـ امرئ القيس عند الملك وأوغروا عليه صدره، فأهدى له حلة -بدلة من حرير- وديباج مسمومة سماً، فلبسها ففشا في جسمه المرض، ونزل في أنقرة عاصمة تركيا ولما أتاه الموت انتفخ جسمه، فقال:
كم خطبة مسحنفرة وطعنة مثعنجرة
وجفنة متحيرة حلت بأرض أنقرة
أو كما قال.
ثم قال بيتين يبكي نفسه ينظر لحمامة في النخل في أنقرة:
أجارتنا إنا مقيمان هاهنا وكل غريب للغريب نسيب
ولكنه ذهب مشركاً ورحل إلى حيث ألقت رحلها أم قعشم، وكان الصحابة يستلذون شعره كثيراً، وكانوا يختلفون أيهما أشعر، فيقال: إن علياً رضي الله عنه قال: أشعر الناس امرؤ القيس إذا شرب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وفلان إذا ركب، ويقول عمر: بل أشعر الناس من يقول: ومن ومن ومن، يقصد به زهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي الذي يقول:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن كان ذا فضلٍ فيبخل بفضله على قومه يستغن عنه ويذمم(183/27)
علاقة الجساسة بالمسيح الدجال
السؤال
ما علاقة حديث الجساسة بالأعور الدجال؟
الجواب
لأن الدابة التي رأوها عليها شعر اسمها الجساسة، فنسب العلماء الحديث كله لهذه الدابة، التي رآها تميم الداري وإخوانه رضي الله عنهم.(183/28)
معنى قوله تعالى (ورفع أبويه على العرش)
السؤال
ما معنى أن يوسف عليه السلام يجلس والديه على العرش كما ورد في القرآن {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف:100]؟
الجواب
معنى العرش: كرسي الملك، كان يوسف عليه السلام ملك مصر، فلما دخل يعقوب وأم يوسف أجلسهم معه على الكرسي، وهذا من الرفعة لهم، وخروا له سجداً يعني من التقدير والاحترام وليس سجود عبادة، وهذا في شرع من قبلنا، وهذا تأويل رؤياه من قيل: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] فالشمس والقمر أبوه وأمه، وأحد عشر إخوانه، فدخلوا عليه كلهم الشمس والقمر والإخوان، فسجدوا أمامه قال: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف:100] وسورة يوسف من أجمل ما في القصص، فسبحان من أنزل هذا الكتاب!(183/29)
الحكمة في أنه لا يقتل المسيح الدجال إلا عيسى
السؤال
لماذا لا يقتل المسيح الدجال إلا عيسى عليه السلام؟
الجواب
حكمة من الله بالغة مثل: أن نصلي المغرب ثلاثاً والعشاء أربعاً فهذه من الله عَزَّ وَجَلَ لا تدخلها العقول، فقد أراد الله ألا يقتله إلا المسيح عيسى، والمسيح عيسى حبيبنا والمسيح الدجال عدونا.(183/30)
حفظ عشر آيات من سورة الكهف تعصم من فتنة الدجال
السؤال
لم تذكر مما يعصم من فتنة الدجال حفظ آيات من أول سورة الكهف؟
الجواب
صدقت.
وفي الصحيح من حديث أبي الدرداء: {من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من فتنة الدجال} وفي لفظ {من آخرها} لكن يصحح أهل العلم عشر آيات من أولها، تحفظها وتقرؤها تعصم -إن شاء الله- من فتنة المسيح الدجال.(183/31)
سببت تسمية المسيح
السؤال
لماذا سمي المسيح الدجال؟ ولماذا سمي المسيح بن مريم؟
الجواب
قيل: إن المسيح بن مريم كذلك يطوي الدنيا مع المسيح الدجال، وهذا من مسح الأرض، وقيل: المسيح الدجال سمي مسيحاً؛ لأنه مسحت عينه، عليه غضب الله وقد فعل.(183/32)
قضاء الصلاة الفائتة التي قبل التوبة
السؤال
كنت لا أصلي، وتركت الصلاة فترة، ثم تاب الله عليّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فأصبحت أصلي، هل أقضي ما فات؟
الجواب
أن تتوب ولا تقضي ما مر، ما دام تركته فأنت في تلك الفترة كنت مقصراً ومعرضاً ولا تطالب بالقضاء، ولكن تسدد وتتوب وتكثر من النوافل وتعمل الصالحات؛ عل الله أن يتوب علينا وعليك.(183/33)
نظام الساعات
السؤال
نحن نتعامل مع نظام الساعات ولا نجد وقتاً نستغله في حفظ القرآن، أو في عمل يعود علينا وعلى أوقاتنا وعلى حياتنا بالخير؟
الجواب
إن نظام الساعات نظام سلبي، ولم يثبت جدارته في التعليم، وقد تذمر منه كثير حتى من القائمين عليه، ومن طلبة العلم، ولأنه يفرق وقت الشباب، فيصبح وقتاً مضطرباً لا ينضبط للراحة، ولا ينضبط للقراءة، ولا ينضبط للاطلاع، ويكون وقتاً ضائعاً، وقد جُرب الوقتان في كثير من المؤسسات العلمية، فَوُجِد أن الوقت الذي تفعله بعض المؤسسات وهو الآن المعهود من الصباح إلى الظهر، هو أحسن وأسلم وأجدى، ولكن ما دام أنك في هذا، فنسأل الله أن يعينك، لكن عليك أن تعرف أن هذه الساعات من عمرك، وحبذا أن تجعل عملاً مؤقتاً، أو مبرمجاً من الصباح لهذه الأعمال يكون لديك، وهذا يفعله حتى أعداء الله الكفار، ويذكرها مثل صاحب" دع القلق " يقول: لا بد أن تبدأ ببطاقات تسجلها في الصباح ماذا تفعل؟ يعني: كيف تستغل كل ساعة؟ حتى تؤدي عملك - إن شاء الله - على أكمل وجه، لأن الحياة أو الأوقات لا تعود إذا ذهبت.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني(183/34)
إحياء المسيح الدجال للموتى
السؤال
ذكرت أن المسيح الدجال يحيي الموتى -بإذن الله- وأظن أنه لا يحيي الميت نفسه، بل يصور شيطاناً يشبه الميت؟
الجواب
لا أظن هذا، ولا مر عليّ في النصوص، بل مر عليّ أنه يحيي الميت نفسه، وهذا من الفتن.(183/35)
زيادة الإيمان
السؤال
أنا قليل الإيمان فادع لي؟
الجواب
نسأل الله أن يثبتنا وإياك، ويزيدنا وإياكم {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) [محمد:17] ومما يزيد الهدى العمل الصالح، لأن أهل العلم وأهل السنة يقولون: الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، يزيد بقراءة القرآن وبالنوافل، والاستغفار وحضور مجالس الخير، والدعاء، والصدقة، والحج والعمرة.(183/36)
فتنة النظر
السؤال
أعاني من فتنة النظر إذا دخلت المستشفيات!
الجواب
عليك أن تغض نظرك، لك الأولى وليست لك الثانية: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] والنظر سهم من سهام إبليس، مسموم من كف بصره أبدله الله إيماناً يجد حلاوته في صدره.(183/37)
شعر الغزل
السؤال
هل في الشعر الإسلامي غزل؟ وما ميزة الغزل في الشعر الإسلامي؟
الجواب
لا يسمى غزلاً إسلامياً بل يسمى غزلاً آخر، ولا يمكن أن يسمى مباحاً، ولا تقل غزلاً إسلامياً، فالإسلام بريء من هذه الكلمة، إنما لك أن تقول: مباح؛ لأن على ذلك القاعدة تسمى مثلاً -نعوذ بالله-: غناء إسلامي، وموسيقى إسلامية، حتى يأتون بالمحرمات وينسبونها إلى الإسلام، أما أن يكون هناك غزل مباح مثل: أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استمع لـ كعب بن زهير الشاعر المشهور بين يديه، وهو يعتذر بالقصيدة يقول:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
وسمعها عليه الصلاة والسلام قال: {من سعاد؟ قال: امرأتي، قال: ما بانت إذن} فكان يستمع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستمع إلى حسان وقال له: {إذا لم يكن فحشاً، أو تشبيباً بامرأة معروفة} فكان يقول: ويستمع له صلى الله عليه وسلم، والبوصيري الذي مدح الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له أبيات جميلة استفتح بها قصيدته التي هي البردة، ولو أنه سلمها من الشركيات والخرافات في آخرها وكانت من أجمل القصائد ولا يزال ثلثها من أجمل القصائد يقول:
أمن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعاً جرى من مقلةٍ بدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمةٍ وأومض البرق في الظلماء من إضم
ففي الختام أيها الإخوة:
نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية والحفظ والرعاية، وأن يقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(183/38)
قراءة في السيرة
إن الله امتن على هذه الأمة برسول منهم، من أشرفهم نسباً، وأحسنهم خلقاً، اختاره الله للرسالة، وتعهده من ولادته بالرعاية، فحري بالمسلم أن يتعرف على سيرته حتى يقتدي به.
وفي هذه المادة جوانب من حياته صلى الله عليه وسلم: نسبه، ومولده، ورضاعته، ومسيرة حياته في البادية، وسفره إلى الشام، وحادثة تحكيمه صلى الله عليه وسلم في إعادة بناء الكعبة، ومعجزاته، ودعوة الناس سراً وما وجده النبي صلى الله عليه وسلم من البلاء، ثم مرحلة الجهر بالدعوة، وإسلام بعض الصحابة وحياتهم في الإسلام كبلال وعمر وعمار وابن مسعود وحمزة وغيرهم.(184/1)
نسب النبي صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أولاً: نهنئكم بقدوم هذا الشهر الكريم أهلّه الله علينا وعليكم باليُمن والمسرات, وغفر لنا الذنوب والخطيئات, وجعلنا من عتقائه من النار.
ثانياً: سوف نستصحب في كل ليلة قبل صلاة العشاء طيلة هذا الشهر المبارك -إن شاء الله- رسول الهدى عليه الصلاة والسلام في سيرته العطرة الكريمة, فنبدؤها بالدرس الأول في نسبه صلى الله عليه وسلم.
وعنوان هذه الدروس: "قراءة في السيرة النبوية".
النسب الشريف: محمد صلى الله عليه وسلم، السيد الأكرم الذي شَّرف الله الناس بوجوده, هو محمد بن عبد الله، أمه آمنة بنت وهب، هاشمي قرشي من أفضل العرب نسباً.
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
تدوول عليه الصلاة والسلام في الآباء والأجداد, وولد كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {ولدت من نكاح لا من سفاح} فلم يأتِ في نسبه -والحمد لله- لا في الجاهلية ولا قبلها زناً، وإنما أتى عن أب وجد إلى أن وصل عليه الصلاة والسلام إلى الدنيا, هذا نسبه فأبوه عبد الله يأتي خبره وأمه كذلك.
كان عبد الله بن عبد المطلب من أحب ولد أبيه إليه, هذا والد الرسول عليه الصلاة والسلام, أحب أبناء عبد المطلب , وكان لـ عبد المطلب عشرة من البنين، أقربهم إلى قلبه عبد الله والد الرسول عليه الصلاة والسلام, فقربه منه , وأحبه, وزوجه وهو في الثامنة عشرة من عمره.
آمنة بنت وهب بن عبد مناف , وهي أفضل نساء قريش نسباً وموضعاً, ولما دخل عليها كان في وجه والد الرسول صلى الله عليه وسلم نور, فلما أفضى إليها ذهب هذا النور, قالوا: هذا النور هو الرسول صلى الله عليه وسلم, وقع في بطن أمه, وحملت به، وأثناء الحمل توفي أبوه عليه الصلاة والسلام, فهو لم يرَ أباه في الحياة, وما سعد بتقبيل أبيه، ولا بمزاحه وملاعبته, بل ولد يتيماً في الحياة صلى الله عليه وسلم, علَّه أن يتحمل هذه الحياة ومصائب الحياة, وينهج نهجاً فريداً يعتمد فيه بعد الله على نفسه, فنشأ عصامياً عليه الصلاة والسلام, يقوم بجهده، ويقوم بعرق جبينه, لأن الله أراد أن يرشحه لمهمة هداية العالم.
وسوف تسمعون العجائب في سيرته العطرة عليه الصلاة والسلام، فإن سيرته تضوع بها المجالس, وما أوجد الله أبر ولا أشرف منه صلى الله عليه وسلم.
قال: ولما دخل عليها حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يلبث أبوه أن توفي بعد الحمل بشهرين, ودفن في المدينة عند أخوال عبد المطلب من بني النجار، فإنه كان ذهب بتجارة إلى الشام -أي: عبد الله - فأدركته منيته وهو بـ المدينة وهو راجع, ولما تمت مدة حمل آمنة وضعت ولدها، فاستبشر العالم بهذا المولود الكريم, يقول أحمد شوقي:
ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء
فلما ولد هذا المولود الكريم الذي ما وقع على الأرض أشرف من رأسه, ولا أحسن من دمه! ولا أروع من قلبه! بث في أرجاء العالم روح الآداب, وتمم بنفسه مكارم الأخلاق.(184/2)
مولده صلى الله عليه وسلم
كان مولده صلى الله عليه وسلم صبيحة يوم الإثنين، وسُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الإثنين كما في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة قال: {ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، وأوحي إليّ فيه} فأحب الأيام إلى قلوبنا يوم الإثنين الذي ولد فيه رسولنا صلى الله عليه وسلم, وصيامه سنة, وهو من أفضل الأيام التي تُصام.
ولد في تاسع ربيع الأول، الموافق ليوم العشرين من إبريل سنة (571) من الميلاد, وهو يوافق السنة الأولى من حادثة الفيل, وكانت ولادته في دار أبي طالب بشعب بني هاشم, ولما وُلِدَ أرسلت أمه لجده عبد المطلب تبشره, فأقبل مسروراً وسماه: محمداً، سبحان من وفقه! فهذا الاسم لا يُعرف عند العرب, العرب تعرف حرباً وصخراً وحمزة وطلحة هذه أسماء العرب, لكن لما بشَّر عبد المطلب سيد قريش, وهو سيد الأبطح , هذا عبد المطلب كان عظيماً, كانت له سجادة لا يجلس فيها إلا هو , تفرش له تحت ميزاب الكعبة في العصر, وممنوع أن يقترب من هذه السجادة أحد، لو أتى ملك الدنيا لا يجلس عليها إلا عبد المطلب سيد قريش, فيجلس عبد المطلب، ويأتي أبناؤه العشرة حوله, وكانوا تسعة بعد موت ابنه والد الرسول صلى الله عليه وسلم, ثم يجلس أشراف مكة , ثم يجلس شعراؤها, ثم أشراف العرب, وهذه السجادة لا يجلس عليها إلا عبد المطلب , قالوا: ففرشوها ذات صباح فأتى عبد المطلب فجلس، فأتى صلى الله عليه وسلم وهو طفل يحبو، فجلس فأزاله الناس -الخدم- فرفض، فأتى فجلس مرة ثانية, فأزالوه, فلما جلس عبد المطلب زحف هو بنفسه وجلس, قال: والبيت ذي الحجب والنصب والشهب إن ابني هذا له سبب من السبب.
هذا ابنك تدري أنه سيحول الكرة الأرضية من الكفر إلى الإيمان؟
من هو المصلح الذي فجَّر الطاقة في الأرض مثل محمد صلى الله عليه وسلم؟
من هو الرجل الذي يمكن أن يكون أنملة أو ظفراً في كفه صلى الله عليه وسلم أو غباراً على قدمه؟
لا ندري بأحد, قال: فلما ولد سماه محمداً, يقول حسان:
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
يقول: الله هو المحمود سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا محمد، فالله شق له من اسمه، وذكروه بالتسمية عليه الصلاة والسلام.
من أشرف أسمائه: اسم محمد, واسمه: العاقب والحاشر والماحي, وله أسماء أخر عليه الصلاة والسلام، وكنيته: أبو القاسم, فهذا اسمه صلى الله عليه وسلم، وسماه: محمداً ولم يكن هذا الاسم شائعاً قبل عند العرب, ولكن الله يريد أن يحقق ما قدره.
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] , يقول أحد الكتاب العصريين: فتش في جوانحك، وابحث في خفاياك، أما شرحنا لك صدرك؟
أما كان صدرك ضيقاً فشرحناه بلا إله إلا الله محمد رسول الله؟
بلى والله! انشرح صدره عليه الصلاة والسلام, وأصبح صدره مشروحاً.
وقال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] ليس أحد في العالم أشهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول مجاهد في تفسير قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال: [[لا أذكر إلا ذكرت معي]] ويقول الأستاذ علي الطنطاوي: ألا يكفي من شهرته صلى الله عليه وسلم أن منائر مليار مسلم اليوم كلما أذن المؤذن في باكستان أو الهند أو العراق أو المغرب أو السودان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً رسول الله, هذا هو الذكر، فذكره صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم.
وذكره الله في القرآن في أربعة مواضع باسمه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144] وقال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40] وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:2].
قال: وذكر في الكتب التي جاءت بها الأنبياء؛ كالتوراة والإنجيل بهذا الاسم, وسماه عيسى عليه الصلاة: أحمد, ومن أسمائه أحمد أيضاً, ويسمونه أحمد ولكن اشتهر عند العرب: محمد, فألهم جده أن يسميه بذلك إنفاذاً لأمره.
وكانت حاضنته أم أيمن بركة الحبشية هي التي تولَّت رعايته وحضانته, وتربيته وملاعبته صلى الله عليه وسلم وهو طفل, وكان إذا عرته من الملابس لتغسله بكى وضم جسمه عليه الصلاة والسلام.
وهذه أم أيمن استمر بها الحال حتى بعث صلى الله عليه وسلم نبياً، وكان لها ماعز ترعاها, فكان يأتيها في العوالي يزورها من باب حفظ العهد, وأتاها مرة وقد تغيَّب عليها كثيراً، فغضبت وتعتبت، وقالت: هجرتنا ولا تزورنا؟ وعتبت عليه صلى الله عليه وسلم, لأنه أصبح مشغولاً بالعالم, مشغولاً بقضايا الساعة، باليهود والنصارى والمنافقين والعرب، بالجهاد والاقتصاد، بالإدارة والسياسة والتعليم، ولكن وجد فراغاً فزار أم أيمن ووجدها ترعى غنماً لها ما يقارب مائة ماعز, فعتبت عليه، فأخذ يتبسم صلى الله عليه وسلم وما قال شيئاً, والله يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].(184/3)
الرضاع ومسيرة الحياة
وأول من أرضعته ثويبة أمة عمه أبي لهب , هذه ثويبة بشَّرت أبا لهب -لا بشَّره الله إلا بالخزي وقد فعل- فقالت له: ولد لأخيك عبد الله ابن سموه محمداً, قال: أنت عتيقة, فما كان جزاؤه عند الله؟
جعل الله له سُبحَانَهُ وَتَعَالى عيناً من ماء، وهذا في صحيح البخاري، كلما أتى يوم الإثنين تفجَّرت، فشرب منها في نار جهنم جزاء عتقها, كلما أتى يوم الإثنين تفجرت من راحة أبي لهب عين يشرب منها، لأنه أعتق ثويبة , لكنه كفر بلا إله إلا الله, وأخذ التراب وحثا به على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم, وهو الذي قال: تباً لك ألهذا دعوتنا؟ فأنزل الله: {تَبَّتْ يَدَا أبي لهب وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:1 - 2].
وكان من عادة العرب أن يلتمسوا المراضع لمواليدهم في البوادي, ليكون أنجب للولد, وحتى يكون أفصح، وأفصح من يتكلم بالضاد هو رسولنا عليه الصلاة والسلام, ما تلعثم في كلمة, ولا توقف في خطاب وحديث: {أنا أفصح العرب بيد أني من قريش} ليس بصحيح لكن معناه صحيح, فليس هناك رجل أفصح منه صلى الله عليه وسلم, يرتجل الخطبة, ويتكلم في الجماهير, تكلم في الحج في مائة ألف, قالوا: فأوصل الله كلامه حتى بلغ كل أذن والناس في الخيام, وكان إذا صعد المنبر سمع للقلوب حنين من البكاء, حتى يقول شوقي:
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاء
هذا هو رسولنا عليه الصلاة والسلام, وكانوا يقولون: إن المربى في المدن يكون كليل الذهن، فاتر العزيمة, وهذا أمر ملحوظ، أبناء المدنية إذا ما فتحوا أذهانهم بالعلم والتربية الصحيحة يأتون بلداء أغبياء, ليسو كأبناء القرى, وأحد المؤرخين له كتاب عصري، يقول: إن عظماء العالم والمكتشفين حتى في الغرب كلهم من أبناء القرى, وحتى المشاهير, ليسوا في المدن, والمدن تحبس من قدرة الإنسان وتجعله -إن لم يرحمه ربك- جباناً، والآن انظر إلى ابن المدينة وابن القرية, هذا في الجملة، فترى ابن المدينة بعد صلاة المغرب وهو طفل لا ينزل, ويتخوف من كل شيء, وابن القرية الليل أخوه وهو أخو الليل.
فالمقصود: ذهب به صلى الله عليه وسلم إلى بني سعد في الطائف , وكانوا من جيران الطائف، وأنتم تعرفون الآن مكان بني سعد, فأخذته حليمة السعدية -مرضعة الرسول صلى الله عليه وسلم- وكان لها ناقة عجفاء، ركبت عليها وأخذت هذا الطفل، من هذا الطفل؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم, أخذته على الناقة وهو ما زال طفلاً -وجلسنا بإذن الله، ثم بدعوته في هذا المكان- أخذته على الناقة عليه الصلاة والسلام وكانت ناقتها عجفاء, فلما ركب صلى الله عليه وسلم الناقة، مشت الناقة على أحسن ما يكون, فلما وصل إلى الديار, قالت: كانت ديارنا ممحلة قحطاء لا عشب فيها ولا لبن ولا ماء, فلما نزل, وصل الغيث بإذن الله, قال: فنبت النبات، وسار الزهر، وحلبوا من اللبن, وذلك فضل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى, فجاءت نسوة من بني سعد بن بكر يطلبن أطفالاً ليرضعنهم, فكان الرضيع المحمود من نصيب حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية واسم زوجها أبو كبشة , وهو الذي كانت قريش تنسب له رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يريدون الاستهزاء به، يقولون: هذا ابن أبي كبشة, وقد فعلها أبو سفيان اقترف في عرضه عليه الصلاة والسلام, عند هرقل لما أرسل صلى الله عليه وسلم بعد النبوة -انظر هذا التطور- يصبح صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة عاصمة الإسلام يرسل رسائل يتهدد ملوك الأرض, الإمبراطوري المجرم الدكتاتور هرقل يتهدده صلى الله عليه وسلم، ويروعه فيما بعد بأصحابه, بناصيته وينزله في الأرض، وتحكم دولته بلا إله إلا الله محمد رسول الله, اسمع الرسالة من الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا من أوائل أحاديث البخاري: {بسم الله الرحمن الرحيم, من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم, السلام على من اتبع الهدى, أمَّا بَعْد: فأسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فعليك إثم الأريسيين} {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].
وصلت الرسالة عند هرقل , وأقامت له الدنيا وأقعدتها, لأن الخطاب مهدده, بعد الرسالة وهي ثلاثة أسطر فيها خاتم رسول الله: (محمد سطر, ورسول سطر, والله سطر) بعدها جيش جرار يزحف من الجزيرة يحطم تلك الإمبراطورية الظالمة, ماذا فعل هرقل؟
جمع القساوسة, والبطارقة، والوزراء، والحجاب, واجتمعوا ثم دعا أبا سفيان , وكان أبو سفيان عدواً للرسول صلى الله عليه وسلم آنذاك، وكان مشركاً, لكن كان يبيع ويشتري في الشام , فدعاه وسأله عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقارب عشرة أسئلة وهي في أول صحيح البخاري , وفي الأخير قال: أخرجوه, فأخرجوه؛ فإذا اللغط قد كثر, قال أبو سفيان: لقد أمِرَ أمرُ ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر -يقول: هذا الذي عندنا نستهزئ به في مكة أصبحت الدنيا تشتغل به, وأصبح حديث الناس في المجالس وحديث الساعة، نعم.
قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1 - 5].
ودرت البركات على أهل ذاك البيت، كما ذكر الشوكاني عن بعضهم:
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا
ويقول المتنبي في أحد العظماء:
وكذا الكريم إذا أقام ببلدة سال النضار بها وقام الماء
يقول: الكريم إذا نزل في مكان يسيل الذهب, ويحيي الماء الأرض, وهذا أشرف من يقال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام, وكانت مدته للرضاعة صلى الله عليه وسلم التي رضع فيها وبقي في البادية تربو على أربع سنوات عليه الصلاة والسلام.(184/4)
حادثة شق الصدر
شق صدره صلى الله عليه وسلم وهو في البادية, يرعى هو وأخوه من الرضاعة ابن حليمة الآخر البهم, أي: أنه طفل لا يستطيع أن يرعى الغنم, لكن هذا الذي يرعى البهم يرعى الملوك ويرعى الدول, وأصحابه بعد خمسة وعشرين سنة من بعثته حكموا اثنتين وعشرين دولة من دول العالم, ثم بعد ثلاثين سنة دخلوا قرطبة مهللين مكبرين وطاشقند، وتركستان، ونهر الجنج، ووقفوا على مشارف السند يرفعون: لا إله إلا الله محمد رسول الله, هذا هو الذي يرعى الغنم.
خرج في الصباح يرعى, وحصل له وهو بينهم حادثة مهمة، وهي شق صدره وإخراج حظ الشيطان منه, كل منا فيه مرارة سوداء هي موطن للشيطان, إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخرجت المرارة السوداء, أي: أجريت له عملية عليه الصلاة والسلام على أيدي الملائكة، وقطعت هذه المرارة السوداء فلا يأمره الشيطان ولا يقربه أبداً, فأحدث هذا عند حليمة خوفاً فردته إلى أمه، وحدثتها قائلة: بينما هو وإخوته في بهم لنا خلف بيوتنا, إذ أتى أخوه يعدو، وقال لي ولأبيه: ذاك أخي القرشي -يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم- قد أخذه رجلان -الملكان- عليهما ثياب بيض -والملائكة دائماً لا تلبس إلا البياض {البسوا البياض وكفنوا فيها موتاكم} - فأضجعاه فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه منتقعاً لونه خائفاً عليه الصلاة والسلام مرتعداً من هذا الحادث؛ لأنهم بطحوه في الأرض وشقوا صدره صلى الله عليه وسلم, وما وجد ألماً كأنه أغمي عليه, فلما شق صدره أخذوا -والحديث أصله عند مسلم في الصحيح - المرارة السوداء فقطعوها, وأخذوا قلبه فغسلوه بماء زمزم في طست من ذهب, ثم ردوا صدره, ولا زال وهو في ستين من عمره يرى الصحابة أثر الشق, وأثر هذه العملية في صدره صلى الله عليه وسلم.
قال: فالتزمته والتزمه أبوه وقلنا له: ما لك يا بني؟ قال: أتاني رجلان عليهما ثياب بيض, فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ -يتأكد الملك من الرسول, أهذا هو المقصود الذي أرسلنا الله إليه؟ قال: نعم.
فأقبلا يبتدراني فأضجعاني، فشقا بطني فالتمسا فيها شيئاً فأخذاه وطرحاه ولا أدري ما هو.
إذاً المسألة مقصودة من زمان, حتى وهو حمل في بطن أمه.
وعيسى عليه السلام كان يكلم النصارى به قبل مئات السنوات، يخبرهم أنه سوف يبعث في العالم، وسوف يكون خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام, وسوف ينقذ به الله الأمة من الضلالة، هذا هو صلى الله عليه وسلم.(184/5)
حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أمه
اليتم يتدحرج معه صلى الله عليه وسلم, مات أبوه وأمه به حاملة, فلما نزل في الأرض ماتت أمه, فكفله جده, فمات جده, فكفله عمه, فمات عمه فالتفت إلى خديجة فماتت خديجة , لماذا؟ يقول بعض العلماء: حتى ينفصل صلى الله عليه وسلم عن كل ما سوى الله وتكون صلته بالواحد الأحد: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فهذه صلة الرسول صلى الله عليه وسلم بالله تبارك وتعالى.
ثم إن أمه أخذته من حليمة وتوجهت به إلى المدينة لزيارة أخوال جده بني النجار وكانوا يحبونه لما هاجر صلى الله عليه وسلم, لأنهم أخوال جده, خرجوا من كل قبيلة من الأنصار كانوا ما يقارب ثمان قبائل خرجت كل قبيلة بالسيوف والرماح يعرضون ويرفعون السيوف ويقولون:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع
فكان يبتسم ويحييهم وهو على الناقة صلى الله عليه وسلم, ويريدون أن يأخذوا زمام الناقة حتى يتشرفوا بضيافته, فيقول: {دعوها فإنها مأمورة} اتركوها حتى تنيخ هي في مكان يناسبها.
فسبحان الله! أراد أن يجبر خواطر أخوال أبيه فتركت الناقة كل بيت في الأنصار، وذهبت إلى بني النجار, فخرجت جواري الأنصار تقول:
نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار
فنزل عليه الصلاة والسلام يحيهم، ونزل عند أبي أيوب الأنصاري، وبينما أمه عائدة أدركتها منيتها في الطريق فماتت بـ الأبواء , وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا مر ب الأبواء يستأذن ربه أن يزور قبر أمه؛ لأنها ماتت فأذن له -وقد ثبت كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة - قال: {استأذنت ربي أن أزور أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي} فزارها صلى الله عليه وسلم وبكى وأبكى.
كنز بحلوان عند الله نطلبه خير الودائع من خير المؤدين(184/6)
كفالة عبد المطلب النبي صلى الله عليه وسلم
فحضنته أم أيمن بعد أن ماتت أمه، وكفَّله جده عبد المطلب سيد قريش الذي لا يتكلم أحد إذا كان موجوداً, وإذا أراد أحد من قريش أن يتكلم يستأذنه في الحديث, وهو الذي قابل أبرهة الأشرم يوم هجم على مكة عام الفيل, وكان سيداً مطاعاً كهالة القمر, والرسول في الحروب كان إذا فر أصحابه لا يفر هو صلى الله عليه وسلم، كان يأخذ السيف، ويقول:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
والبردوني شاعر اليمن يحيي الرسول صلى الله عليه وسلم في قصيدةٍ له، ويقول:
في كفه شعلة تهدي وفي دمه عقيدة تتحدى كل جبار
نحن اليمانين يا طه تطير بنا إلى روابي العلا أرواح أنصار
إذا تذكرت عماراً وسيرته فافخر بنا إننا أحفاد عمار
هذا رسولنا صلى الله عليه وسلم كان يمتدح بجده هذا في المعارك, وهو الذي قابل أبرهة وهو مرتفع على سرير، وقد أراد اجتياح مكة، وقتل الأطفال واحتلال البيت, فنزلوا -وتعرفون قصة أصحاب الفيل- لقيه عبد المطلب وعندما أقبل عبد المطلب رأى عليه هالة كالقمر فنزل أبرهة إلى الأرض إكراماً لـ عبد المطلب , ثم قام هو وإياه وأجلسه بجانبه على الكرسي, قال: ماذا تريد؟ ظن أنه يشفع في البيت، وأنه يشفع في الحرم, قال: أريد الإبل، عندي مائة ناقة أخذتها أنت وجيشك, قال: ظننت أنك عاقل، وظننت أنك سوف تسألني حماية البيت وتسألني الإبل؟ قال عبد المطلب: أما الإبل فأنا ربها، وأما البيت فله رب يحميه, فأعطاه الإبل فأخذ عبد المطلب الإبل وأدخلها مسارحها, ثم أتى إلى البيت فلزم باب الكعبة وقال:
لاهم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك
انظر إلى الفصاحة! يقول: يا رب! الرجل يعدون على بيته فيحمي بيته، ويغضب على بيته، أما أنت فبيتك هذا لا نستطيع أن نمنعه, لأن معه جيشاً جراراً وهو من القوة العالمية الموجودة، أبرهة الأشرم , قائد الكتائب والذي معه أحابيش, لا يخافون الموت, ومعه من طوابير اليمنيين وطوابير العرب ما الله به عليم، لا تقف قريش ولا قبائل العرب تجاهه, بل سحق القبائل في طريقه, فأتى عبد المطلب قال:
لاهم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك
وأخذ يبكي، ثم أخذ الأطفال والنساء وقال: اخرجوا على الجبال فإنه سوف تأتي أمور, كأنه متوقع, وهذا من فضل الله عز وجل أن تأتي الغارات والناس قد أخرجوا من الملاجئ, فخرجوا فلما أصبحوا في رءوس الجبال, رفع أصحاب قريش أكفهم إلى الله, والله يذكرهم بعد ما كذبوا: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57] أما حميناهم من الهجوم الكاسح من أبرهة؟ أما أطعمناهم؟ لماذا لا تقولون: لا إله إلا الله؟ {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4] لكن ما قدروا نعمة الله.
وفي الضحى أرسل الله عز وجل طيراً أبابيل، قال ابن عباس: خرجت من البحر, يقول: القواعد التي أتى منها هذا الهجوم لا ندري من أين أتت؟ وقال بعضهم كـ أبي: لا.
أتت من السماء, وقال بعضهم: لا.
بل أتت من المشرق.
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس
والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إذا أراد زلزلهم أو أرسل عليهم ريحاً أو حريقاً، لكن انظر هذا الجيش العرمرم الذي يحمل السيوف، ويحمل كل ما جادت به قرائحه في تلك اللحظة, أرسل الله عليه طيراً أبابيل, يقولون: مكتوب على كل قذيفة اسم من ترميه من الجنود، فلان بن فلان! إذا كانت للضابط لا ترمي الجندي, الحبشي لا ترمي اليمني, كل واحد موسم, وكانت صغيرة مثل الحمص, قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم, أسمعت ما فعلنا بأصحاب الفيل في الغارة؟
هذا مولده صلى الله عليه وسلم كان في عام الفيل {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:2 - 4] ولأهل العلم مبحث, هل كل واحدة ألقت قذيفتها فقط وعادت أم لا؟ والصحيح أن كل واحدة ألقت حبة ورجعت, أي: من كثرتها ظللت مكة , ثم ألقت حمولتها مرة واحدة, فقتلتهم شر قتلة.(184/7)
زيارة النبي صلى الله عليه وسلم قبر أبيه مع أمه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: ثم إن أمه أخذته منها -أي: من حليمة السعدية - وتوجهت به إلى المدينة لزيارة أخوال جده بني النجار, وبينما هي عائدة أدركتها منيتها في الطريق، فماتت في الأبواء , فحضنته أم أيمن وكفله جده عبد المطلب , ورق له رقة لم تعهد له في ولده؛ عندما كان يظهر عليه من أن له شأناً عظيماً عليه الصلاة والسلام, فإنه من صغره صلى الله عليه وسلم تبين فيه علامات تدل على أن هناك له شأن عليه الصلاة والسلام, وسوف يكون له خبر، وما أعظم من خبره صلى الله عليه وسلم {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1 - 2] والنبأ العظيم هو مبعثه صلى الله عليه وسلم, وكان يكرمه غاية الإكرام, ولكن لم يلبث عبد المطلب أن توفي بعد ثمان سنوات من عمر الرسول صلى الله عليه وسلم.(184/8)
كفالة أبي طالب النبي صلى الله عليه وسلم
لقد كفل النبي صلى الله عليه وسلم شقيق أبيه، أبو طالب , الذي مات مشركاً, وحاول عليه الصلاة والسلام أن يهديه إلى الله عز وجل, ولكن سبق الكتاب، قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} القصص:56].
وأبو طالب كان يدافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم, وهو صاحب القصيدة المشهورة في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم والتي يقول فيها:
وأبيض يستسقىالغمام بوجهه ثمال اليتامي عصمة للأرامل
فكان له رحيماً، وعليه غيوراً, ويذكر في السيرة أن أبا طالب لما أتاه كفار قريش، وقالوا: يا أبا طالب! إن ابن أخيك سب آلهتنا، وشتمنا، وسفَّه أحلامنا, فإن كان ابن أخيك مطبوباً -أي: مسحوراً- داويناه, وإن كان يريد ملكاً ملَّكناه, وإن كان يريد مالاً جمعنا له مالاً, وإن كان يريد زوجة زوجناه بأحسن فتاة في مكة , فقال أبو طالب للرسول عليه الصلاة والسلام هذا الكلام, قال: {يا عم! والذي نفسي بيده، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه} قال: وكان أبو طالب مقلاً من المال, فبارك الله له في قليله, وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في مدة كفالة عمه مثال القناعة والبعد عن السفاسف التي يشتغل بها الأطفال عادة, كما روت ذلك أم أيمن حاضنته, لأنه صلى الله عليه وسلم كان مرشحاً لهداية الناس لرب العالمين, وبالفعل تم هذا, ولم تأخذ عليه الصلاة والسلام صبوة ولا انحراف في خلقه ولا في سلوكه, فكان إذا أقبل وقت الأكل، جاء الأولاد يختطفونه وهو قانع بما سييسره الله له.(184/9)
السفر إلى الشام
هذا أول سفر يخرج فيه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى خارج مكة , ولما بلغ سنه اثنتي عشر سنة أراد عمه وكفيله السفر بتجارة إلى الشام فاستعظم الرسول صلى الله عليه وسلم فراقه, فرقَّ له وأخذه معه, يقول: دمعت عينا الرسول صلى الله عليه وسلم لما أراد أبو طالب أن يسافر، لأنه ما زال طفلاً وليس له من يرق عليه من مكة إلا أبو طالب , وخاف أن يفقده, وهناك قصيدة ل أبي ريشة منها:
يا عم لا تدعني هنا وحدي مالي سواك من مفضال
فتلقاه بالدموع وسارت بهم الخيل في شعاب التلال
فأخذه معه في هذه الرحلة وهي الأولى, ولم يمكثوا فيها إلا قليلاً، وقد أشرف على رجال القافلة وهم بقرب بصرى، وهي قرية في الشام وقيل: في أطراف العراق , وبحيرا الراهب نصراني له صومعة, فسألهم عما رآه في كتبهم -وهذه القصة نبَّه الذهبي على أن بلالاً لم يكن في القافلة؛ لأن بعض أصحاب السير يقولون: كان بلال مع الرسول صلى الله عليه وسلم, والصحيح أنه لم يكن معه, لأن بلالاً آنذاك ربما لم يكن قد قدم من الحبشة - فسألهم عما رآه في كتبهم المقدسة, من بعثة نبي من العرب في هذا الزمن, لأنهم كانوا يقرءون في التوراة والإنجيل خبره عليه الصلاة والسلام, فقالوا: إنه لم يظهر الآن, وهذه العبارة كثيراً ما كان يلهج بها أهل الكتاب من يهود ونصارى قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] وكان اليهود يخبرون بصفات الرسول عليه الصلاة والسلام, وأنه أحمر أو أبيض مشوب بحمرة، أقنى الأنف، ربعة من الرجال، وأنه سوف يخرج إلى أرض ذات حرتين, يقصدون المدينة , فلما خرج صلى الله عليه وسلم ورأوا أوصافه كانوا يتوقعون، وكان يتمنون أن يكون من اليهود, فلما كان من العرب حسدوه, لأن أكثر الأنبياء من اليهود, حسدوه عليه الصلاة والسلام وكذَّبوه, وما أسلم منهم إلا أربعة أو خمسة، والبقية كفروا حسداً وبغياً من عند أنفسهم.(184/10)
حرب الفجار
سميت حرب الفجار بهذا الاسم لكثرة ما وقع فيها من فجور, ولكثرة ما استحل فيها من المحارم, وهي وقعت بين قبيلتين من العرب بين قريش وكنانة من جهة، وبين قيس, وكان موقعها قريباً من سوق عكاظ , ويأتي سببها, وقد حضرها عليه الصلاة والسلام وذلك قبل أن يبعث.
ولما بلغ عليه الصلاة والسلام سنة عشرين حضر حرب الفجار، وهذه الحرب كانت بين كنانة ومعها قريش، وبين قيس, وسببها: أنه كان 1000200>للنعمان بن منذر ملك العرب بـ الحيرة تجارة يرسلها كل عام إلى سوق عكاظ لتباع له, هذا النعمان بن المنذر ملك من العرب؛ لكنه يتبع كسرى, فكسرى كان يتملك حتى على العرب, ذلك المجرم الدكتاتور الإمبراطور الفاجر، كان يحكم العرب قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم, فما الذي حررنا؟
ومن الذي أعتق رقابنا بإذن الله؟ من الذي رفع رءوسنا؟
إنه هذا الدين ثم رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام.
هذا النعمان كان له يومان: يوم عفو ويوم قتل, فمن أتاه في العفو عفا عنه وأكرمه وأعطاه جائزة, ومن أتاه في يوم غضبه قتله, والنابغة الذبياني يُروى أنه نال من عرض النعمان بن المنذر، فوشي به إلى النعمان فأقسم النعمان أن يذبح النابغة هذا, فقال فيه قصيدة من أبدع ما يقال, يقول فيها:
أبيت اللعن أنك لمتني وتلك التي أهتم منها وأنصب
فبت كأن العائدات فرشن لي فراشاً به يغلو فراشي ويقشب
ثم يقول:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
فعفا عنه، هذا النعمان كان له تجارة يرسلها إلى سوق عكاظ , وكان يرسلها في أمان رجل ذي منعة وشرفٍ في قومه ليجيزها, فجلس يوماً وعنده البراض الكناني وهو فاجر من فجار العرب وخليع وماجن, وكان فاتكاً خليعاً، خلعه قومه لكثرة شره, وكان عند النعمان، عروة بن عتبة الرحال , قال: من يجيز لي تجارتي هذه حتى يبلغها سوق عكاظ؟ فقال البراض: أنا أجيزها على بني كنانة, فقال النعمان: إنما أريد من يجيزها على الناس كلهم, فقال عروة بن عتبة الرحال: أبيت اللعن -هذه كلمة تستخدم بين يدي الملوك, أي: أعوذ بالله أن أبوء بلعنة الملك- أكلبٌ خليع يجيزها لك؟ يقصد عروة بن عتبة الرحال: البراض - أنا أجيزها على الشيح والقيصوم من أهل نجد وتهامة , فقال البراض: أو تجيزها على كنانة يا عروة بن عتبة الرحال؟
قال: وعلى الناس كلهم, فأسرَّها في نفسه وتربص به, فلما خرج عروة بن عتبة الرحال ذبحه البراض , فاختصمت العرب، وأتت بين دائرة وتواعدوا, قريش وكنانة في صف وقيس في صف, واجتمعوا في سوق عكاظ، ثم تواعدوا العام المقبل أن يجتمعوا, فاجتمعوا في مكان, وقد خرجت قريش يقودها حرب بن أمية والد أبي سفيان , وكان الرسول صلى الله عليه وسلم عمره عشرين سنة, حضر معهم ومع كنانة ومع أعمامه, لأن أباه قد توفي كما سلف, فلما حضر صلى الله عليه وسلم كان يعطي الأسهم لأعمامه، فاقتتلت العرب مقتلة ما سمع التاريخ بمثلها, وفي الأخير اصطلحوا وأديوا قتلاهم, وانتهى إلى هذا الحد، وقد حضرها صلى الله عليه وسلم، وهي من أشأم الحروب في حياة العرب.(184/11)
حلف الفضول
بعد أن انتهت المعركة, اجتمعت قريش في دار عبد الله بن جدعان التميمي وهو من قريش, وعبد الله بن جدعان أمره عجيب، كان فقيراً, ولم يدرك الإسلام, كان فقيراً لا يملك شيئاً, ذهب إلى عرفة يرعى غنماً له, فوجد كنوزاً من الذهب والفضة, فادخرها وكان يطعم العرب من أجل أن يقال: كريم, وقد قيل في صحيح مسلم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سألته عائشة تقول: {يا رسول الله! عبد الله بن جدعان كان يطعم الجائع، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، هل ينفعه ذلك عند الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا يا عائشة إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين} ما مرت به لحظة قال فيها: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين, ومات كافراً, ولما قتل أبو جهل في بدر كان رأسه مقطوعاً وما عرفوا جثته, قال صلى الله عليه وسلم: {التمسوا جثته -بقية الجسم- قالوا: يا رسول الله! هل له علامة؟ قال: نعم.
جرح في ركبة أبي جهل تصارعت أنا وإياه ونحن شباب على مائدة عبد الله بن جدعان فصرعته على الأرض، ففيه جرح} وكان قريباً من سنه صلى الله عليه وسلم، لكن انظر! هذا كان محرر العالم، وذاك كان فرعون هذه الأمة, فأتوا به فوجدوا الجرح في ركبته.
هذا عبد الله بن جدعان مدحته العرب بأحسن المدائح, ويقول فيه أمية بن أبي الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباء
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء
فاجتمعوا في بيت عبد الله بن جدعان التميمي، وكان صلى الله عليه وسلم قد حضر معهم الاجتماع, وهذا من أحسن الاجتماعات في الجاهلية, وكان المتحالفون هم: بنو هاشم، وبنو المطلب بن عبد مناف، وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة, تحالفوا وتعاقدوا على ألا يجدوا بـ مكة مظلوماً إلا رفعوا الظلم عنه, والسبب في ذلك: أن تاجراً من تجار اليمن أتى فاستلب تجارته أهل مكة وسرقها رجل منهم، فأتى إلى الناس، قال: من يجيرني يا أيها الناس؟ فما أجاروه, قال: سلبت تجارتي من يعطيني الدين؟ فرفضوا أن يعطوه, فقام عبد الله بن جدعان ومن معه، وقالوا: نحن نجيرك، ثم اجتمعوا في حلف الفضول في بيت عبد الله بن جدعان , وكتبوا بينهم عهداً أنَّ من وجدوه مظلوماً أن يرفعوا عنه الظلم وأن يردوا مظلمته، وكان هذا من أحسن العقود التي شهدها صلى الله عليه وسلم, قال: {لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت} يقول: تلك الليلة التي حضرت فيها، وحضرت هذا الميثاق، ما أريد أن لي بذلك حمر النعم, وهذا يسمى حلف الفضول عند العرب, وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم مبعوث بمكارم الأخلاق، وهذا منها، وقد أقر دين الإسلام كثيراً منها, وأما قوله صلى الله عليه وسلم: {بعثت بمكارم الأخلاق} فحديث فيه نظر, وفي سنده كلام.(184/12)
رحلته إلى الشام المرة الثانية
ولما بلغ سنه صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة سافر إلى الشام للمرة الثانية, وذلك أن خديجة بنت خويلد الأسدية كانت تاجرة, وكان عندها مال، وتوفي عنها زوجها, وكان عمرها أربعين سنة, فالتمست شاباً في مكة يستطيع أن يقوم بالتجارة، وأن يبيع ويشتري لها ويكون أميناً، فما وجدت إلا الرسول عليه الصلاة والسلام, وكانوا يسمونه الصادق الأمين, وكانت ودائعهم عند الرسول عليه الصلاة والسلام, ولذلك يقول الوليد بن المغيرة لما اجتمعوا في ليلة سمر، لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بلا إله إلا الله محمد رسول الله, قال كفار قريش: تعالوا نبحث لنا عن عيب وعن عار نلحقه بهذا الرسول، حتى يتسامع العرب أن فيه كذا وكذا، فلا يقبلون دعوته, فاجتمعوا وقالوا: ساحر, قال الوليد: لا يصلح هذا, قالوا: نرى أنه مجنون, قال: لا يصلح, قالوا: خائن, قال: كيف كنا نستأمنه وهو في الخامسة والعشرين من عمره، فلما ظهر الشيب في صدغيه -أي: أصبح في الأربعين- نقول: خائن؟ والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يرد عليهم: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22] بل كان أصدق الناس وأعظمهم أمانة، وكانت الودائع عنده صلى الله عليه وسلم.
فاستأجرته خديجة، فذهب صلى الله عليه وسلم في التجارة، فكانت من أحسن السفرات, التي سافروا فيها للتجارة في تلك الفترة, لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم, وهذه بركته صلى الله عليه وسلم, وربحوا ربحاً عظيماً، ثم لما أتى عرضت خديجة نفسها على هذا السيد الكريم صلى الله عليه وسلم، فتزوجها، وكان الذي خطب الخطبة أبو طالب سيد قريش -وحضر أبو طالب فقال: الحمد الله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وضئضيء معد، وعنصر مضر، وجعلنا حفظة بيته, وسواس حرمه، وجعله لنا بيتاً محجوجاً، وحرماً آمناً، وجعلنا حكاماً على الناس -فقريش سادة في الجاهلية، وسادة في الإسلام- ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يعدل به رجل شرفاً ونبلاً وفضلاً -يقول: ائتوني برجل يعادله من شباب مكة فلا تجدون- وإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مستردة، يقول: إذا كان قليل المال فالمعذرة، فإن المال لا يثبت بل ينتهي والمال عارية والمال يذهب, ولا تبقى إلا الرسالة.
والرسول صلى الله عليه وسلم بقي فقيراً حتى مات, أتباعه فتحوا ثلاثة أرباع الدنيا، وبقي صلى الله عليه وسلم فقيراً حتى مات, تصور مثلاً: عبد الملك بن مروان بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بسنوات تولى الخلافة، وكان يحكم اثنتين وعشرين دولة عربية وغير عربية, أي: أن الجامعة العربية الآن ودولها كانت جزءاً من حكومة عبد الملك بن مروان الذي هو من التابعين للرسول صلى الله عليه وسلم, ومع ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتاه مرض الموت كان له حصير من خصف, ووردت رواية: أن ملكاً آتاه، قيل: جبريل وقيل: غيره، معه مفاتيح جبال الدنيا ذهباً, فقال: يا محمد! خذ هذه مفاتيح جبال الدنيا ذهباً, قال: {بل الرفيق الأعلى, بل الرفيق الأعلى, بل الرفيق الأعلى من الجنة} فقالت: عائشة خيرت واخترت يا رسول الله- ثم أخبر بالمهر وقال كذا, وعلى ذلك تم الأمر وكانت خديجة متزوجة قبله بـ أبي هالة، توفي عنها ولها منه ولد اسمه هند بن أبي هالة وهو ربيب المصطفى صلى الله عليه وسلم, ولما تزوج خديجة كانت عاقلة، وكانت من أفصح النساء, وهي التي شدت من قلبه صلى الله عليه وسلم, وواسته في الأزمات, وكان يشكو إليها جراحه وآلامه ولوعته وحرقته, وما وجده من نكال وعذاب, حتى يوم أتى من غار حراء يرتجف صلى الله عليه وسلم, فقال: {خشيت على نفسي قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق} ونزل جبريل مرة, فقالت: من هذا؟ قال: {هذا جبريل يقرئك السلام، ويبشرك ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب} والبيت في الجنة من قصب، من لؤلؤ مجوف لا صخب فيه ولا نصب, وكان صلى الله عليه وسلم إذا التجأ إلى شيء قطع الله هذا الشيء، ليلتجئ إلى الله, مات أبوه وهو في بطن أمه ماتت وهو طفل, فالتجأ إلى جده فمات جده, فالتجأ إلى عمه فمات عمه, فالتجأ إلى خديجة فماتت خديجة , لتبقى صلته بالواحد الأحد.(184/13)
بناء البيت
ما زلنا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والذكريات الأولى قبل البعثة، وما زلنا في سن شبابه صلى الله عليه وسلم.
قال: ولما بلغ سنه عليه الصلاة والسلام خمساً وثلاثين سنة جاء سيل جارف، فصدع جدارن الكعبة, هدمها من كل ناحية، وهي كانت رضيمة من الحجارة قامة الإنسان فقط, وبناء إبراهيم كان زائداً اختصروا النباء لأنهم قلَّت بهم النفقة.
فما استطاعت قريش أن تبني على المكان الذي بنيت عليه الكعبة، فاختصروا الكعبة اختصاراً مشيناً, فلما هدمت الكعبة وقع الحجر الأسود بعيداً, والحجر الأسود نزل من الجنة أبيض كاللبن, فسودته خطايا بني آدم, ولا يستلمه مسلم بصدق إلا أنطقه الله بلسان يوم القيامة، كما في الأثر الصحيح، وله عينان يشهد لمن استلمه بحق يوم العرض الأكبر, وهو خرج من ياقوتة بيضاء من الجنة, وتجده أملس, ولعلكم يوم تقبلونه تجدون فيه ضروب ثلاثة, هذه الضروب الثلاثة، ضربها أبو جناب القرمطي عليه لعنة الله, كان عنده دبوس من حديد، وأتى بالحرس وقتل الحُجاج في الحرم وقال:
أنا بالله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا
ثم أخذ الحجر الأسود فضربه ثلاث ضربات بالدبوس، كالفأس, فشج الحجر الأسود, ثم اقتلع الحجر الأسود وحمله إلى القطيف , جهة الأحساء وبقي وجلس هناك فترة, والعجيب أنه لما حمله، كان الجمل الأول يموت, فأعطاه جملاً ثانياً فمات في الطريق, إلى أن مات سبعمائة جمل, ولما ردوه كفاه جمل واحد حتى رجع.
المقصود: هدمت الكعبة، فأتوا يبنونها, فلما أتوا إلى الحجر الأسود، أتت بنو هاشم أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم, فسلوا السيوف في الصباح، وقالوا: والله لا يرفع الحجر الأسود إلى مكانه إلا بنو هاشم, من هي أشرف أسرة في الكرة الأرضية؟
بنو هاشم, لا يوجد أشرف منهم في العرب, لا العرب ولا العجم ولا الترك ولا البربر, فأتوا جميعهم وكانوا ما يقارب مائة رجل، فتعاقدوا على ألاَّ يرفع الحجر الأسود إلا هم, فأتى بنو أمية بنو العمومة وهم ما يقارب مائة رجل، وقالوا: لا يرفع الحجر إلا نحن, وأتت بنو زهرة وبنو سهم حتى اجتمعت الأسر، كلها في طرف الحرم, تعاقدوا وتعاهدوا لا يرفع الحجر إلا هم, وفي الأخير أتى بنو هاشم بصحفة رحراح، من أعواد فملئوها دم ناقة، قالوا: ضعوا أيمانكم نتعاهد ونتعاقد على الموت، لا يرفع الحجر إلا نحن, لأن المسألة فيها خطورة؛ لأن هذا يسمى مصيراً ومستقبلاً, فقام أمية بن المغيرة عم خالد بن الوليد وكان شيخاً في الثمانين, وقال: يا معشر قريش! خفضوا أصواتكم, فخفضوا أصواتهم, قال: ضعوا سيوفكم, فوضعوها, قال: أترضون أن نحتكم إلى أول من يدخل من باب بني شيبة؟ قالوا: رضينا, قال: أول من يدخل من الناس نحتكم إليه, وما هي إلا لحظات، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليهم, والرسالة لم تنزل عليه آنذاك, وكان عمره آنذاك خمساً وثلاثين سنة, وكان أجمل الناس! كان وجهه كالقمر!
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
فشق الصفوف، والسيوف على الأرض، والناس تقطر عيونهم دماً أحمراً ينتظرون الموت, فقال: ماذا؟ فأخبروه الخبر, فأخذ رداءه الشريف عليه الصلاة والسلام، ووضعه في الأرض، وأخذ الحجر الأسود فوضعه على الرداء, وقال: ليقم بنو هاشم بهذا الطرف, وبنو زهرة هنا, وبنو أمية وبنو تميم وبنو كعب حتى عدَّد بطون مكة , فقام واحد من كل أسرة، فرفعوا الحجر حتى حاذوا به مكانه، فأخذه صلى الله عليه وسلم فرده مكانه, لأن الله لا يريد أن يرد الحجر الأسود إلا باليد الشريفة التي لم تلطخ بدم ولم تسرق ولم تخن, فوضعه عليه الصلاة والسلام, وتم البناء, وهذه قصة الحجر، قال سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:96 - 97].(184/14)
معيشته عليه السلام قبل البعثة
لم يرث عليه الصلاة والسلام من أبيه ميراثاً لا درهماً ولا ديناراً, مات أبوه فقيراً, وكان صلى الله عليه وسلم فقيراً محوجاً, لا يملك الثوب إلا في السنة, كان عليه من السنة إلى السنة ثوب واحد, ومع ذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يظهر جسمه كالديباج يقول أنس: {صافحت الرسول صلى الله عليه وسلم، فوالله ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كفه, وشممت عرقه صلى الله عليه وسلم، فوالله ما شممت مسكاً ولا عبيراً أحسن وأزكى من رائحته عليه الصلاة والسلام}.
كفله عمه أبو طالب وكان أبو طالب عنده أطفال كثير, وكان فقيراً, فأخذ صلى الله عليه وسلم يرعى الغنم لـ ابن أبي معيط على حفنة من تمر, وما من نبي إلا رعى الغنم, وهذه من حكمة الله أن يرعى الغنم, قال أهل العلم: في رعاية الغنم مسائل منها:
1 - أن رعاية الغنم تكسب الإنسان رقة وانكساراً وتواضعاً, فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعاً.
2 - ومنها: أنها تعلمه سياسة الناس، وتدبير شئون الناس, ولذلك دبَّر صلى الله عليه وسلم شئون الناس.
3 - ومنها: أنها من أحسن الكسب، فليست كالتجارة التي قد يدخلها الحلف أو الربا.
فامتن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بهذا بعد أن أغناه، قال: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8] وكان صلى الله عليه وسلم يخبر دائماً أنه رعى الغنم, وما من نبي إلا رعى الغنم, ولما بعث صلى الله عليه وسلم أتاه وفود العرب, وكان كثير من الصحابة يقومون على رأسه بالسيوف المصلتة، فأتاه ملك من الملوك؛ فأخذ يهتز هذا الملك ويرتعش من هيبة الرسول صلى الله عليه وسلم, قال: {هوِّن عليك، فإني ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة , وكنت أرعى الغنم قبل النبوة} يقول: لا تخف, وهذا من شدة تواضعه عليه الصلاة والسلام ورحمته.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن السيرة الأولى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ولولا الله عز وجل ثم مبعثه عليه الصلاة والسلام كانت أنوف الأمة في التراب، وما كانت تعرف حضارة ولا مستقبلاً ولا رقياً ولا ازدهاراً وما كان لها تاريخ.
تاريخنا من رسول الله مبدؤه وما عداه فلا ذكر ولا شان
ويقول أحدهم:
في كفه شعلة تهدي وفي دمه عقيدة تتحدى كل جبار(184/15)
سيرته عليه الصلاة والسلام في قومه قبل البعثة
هذه سيرته صلى الله عليه وسلم, ولما أخذته حليمة السعدية وكان طفلاً، كانت تدخله في الخيمة في الليل, وكانوا في بادية بني سعد في نواحي الطائف , فكان يخرج وينظر إلى النجوم متفكراً عليه الصلاة والسلام, من أبدع النجوم؟ من خلقها؟ من سوَّاها؟ من رفعها؟
ويقول كما في صحيح مسلم: {إني لأعرف حجراً في مكة كان يسلم عليّ بالنبوة قبل أن أبعث} كان يمر يرعى الغنم، فإذا مر بحجر في الطريق, قال الحجر: السلام عليك يا رسول الله, هذا قبل أن يبعث عليه الصلاة والسلام, إلى غير ذلك من أخباره العظيمة.
بل جعل ابن تيمية من أعظم دلائل نبوته: أنه عاش ثلاثاً وستين سنة ما كذب كذبة، ولا خان خيانة، ولا فحش ولا بدرت منه بادرة, بل كان على السداد حتى لقي الله عز وجل.
هذه قطاف من سيرته صلى الله عليه وسلم, وأزيد مسألة وهي أنه ما شرب الخمر في مستقبل حياته أبداً, لم يشرب كأساً واحداً, وكفار قريش كانوا يشربون كلهم الخمر, وكانوا يعاقرون الخمر عند الحجر الأسود, أما هو فعصمه الله من شرب الخمر، ولا سجد لصنم أبداً, ويقول صلى الله عليه وسلم وهو يذكر حياته وذكرياته الأولى، يذكر ذلك لزملائه ولأصحابه بعد أن بعث بالرسالة يقول: كان في بيت آل فلان عرس -وهو يرعى الغنم، وهو شاب صلى الله عليه وسلم - قال: فسمعنا طرباً -معناه: حفلة شعبية, زيراً -وكمنجة ووتر وعود وأهل مكة كانوا أهل طرب- قال: فقال لي أحد الرعاة: أمسك عليك غنمك، وتذهب لتسمع وتحضر، ثم تمسك غنمي وأذهب وأسمع وأحضر, قال صلى الله عليه وسلم: لا بأس, فأمسك الرجل غنم الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب صلى الله عليه وسلم فلما اقترب ألقى الله عليه النوم في الطريق فما استفاق إلا من حرارة الشمس وما سمع صوتاً ولا حضرها؛ لأن الله أراد أن يسدده ليكون رسولاً للعالم، ولذلك ما وجدوا فيه مدخلاً بل تكلموا بكلام ليس له أساس من الصحة, فزاده الله عز وجل بذلك شرفاً ومكانة.(184/16)
ما أكرمه الله به قبل النبوة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: أول ما منحه الله، ما حصل له من البركات على آل حليمة الذي كان مسترضعاً فيهم, فلقد كان قبل حلوله بناديهم مجدبين, فلما صار بينهم نزل عليهم الغيث، بأمر الله وبإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى, فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى هو الذي ينزل الغيث ويكشف ما بالناس, وهو الذي يقدر سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ولكن قد يرحم الله كثيراً من الناس ببعض الناس, فلبركته عليه الصلاة والسلام رحم أهل البادية الذين سكن معهم صلى الله عليه وسلم كما سلف معنا, وأغاثهم الله عز وجل, فأصبحوا في نعيم مقيم, يقول البوصيري:
وإذا سخر الإله سعيداً لأناس فإنهم سعداء
البوصيري مصري له منظومات لكن لاحظ عليه العلماء المبالغة في مدحه عليه الصلاة والسلام, وله نهج البردة التي يقول فيها من ضمن أبياتها:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
إن لم تكن في قيامي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
وهذا شرك, يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم, ويقول: ما لي من ألوذ به يا رسول الله إلا بك, وهذا خطأ وشرك في المعتقد, بل الذي يلاذ به الله عز وجل, ويعاذ به تبارك وتعالى، ولا يلاذ ولا يعاذ بغيره تبارك وتعالى, والرسول عليه الصلاة والسلام لا يكشف ضراً ولا يجلب نفعاً، ولا يحيي ولا يميت ولا يشفي ولا يرزق ولا يبتلي، إنما هو فقط يبلغ الرسالة، وإلا فهو بشر عليه الصلاة والسلام, فلينتبه الناس لهذه المسألة، وهي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر، وأن مهمته تبليغ الرسالة، وقد بلغها على أكمل وجه صلى الله عليه وسلم.
ثم شرح الله صدره، وبعض المفسرين يقولون في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] يقول بعضهم: أما شققنا صدرك وأخرجنا منه المرارة السوداء؟ لأن المرارة السوداء التي كانت في قلبه صلى الله عليه وسلم أخرجت, فكان صلى الله عليه وسلم يرعى البهم في الصباح وعمره ما يقارب ثمان سنوات، أو أقل من ذلك, ومعه أخوه من الرضاعة ابن حليمة السعدية المرضعة, فلما رعوا البهم بجانب ديارهم وخيمهم في بادية بني سعد المعروفة تجاه الطائف , وإذا بملكين اثنين ينزلان من السماء، فيأخذان الرسول عليه الصلاة والسلام فيبطحانه على ظهره ويشقان صدره شقاً, ثم أخرجا المرارة السوداء، وغسلا قلبه صلى الله عليه وسلم.
قال أهل العلم: غسلاه بماء زمزم في طست من ذهب, فيقول بعض المفسرين: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) يقول الله عز وجل: أما شرحنا لك صدرك في هذه المرة؟
والصحيح عند جمهور المفسرين: أي: جعلناه مشروحاً واسعاً, فأزال الله همه وغمه.
ولذلك تجده صلى الله عليه وسلم في المعارك وقد كسرت رباعيته, وشج رأسه عليه الصلاة والسلام, وقتل سبعون من الصحابة وهو يتبسم, وفي الغار وقد أحاط به المشركون من كل جهة وهو يتبسم, وقتل كثير من أقاربه وهو يتبسم عليه الصلاة والسلام, ثم كان عليه الصلاة والسلام على كثرة المصائب مشروح الصدر, يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] وقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] وأول ما دعا موسى عليه السلام أن قال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} طه 25] وهي من أحسن الدعوات.
فشرح الله صدره، وأخرج حظ الشيطان منه, ثم إن الله عز وجل منّ عليه أن جعل شيطانه يسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: {ما منكم من أحد إلا ومعه قرين قد وكل به، قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: حتى أنا، لكن أعانني الله عليه فأسلم} فشيطانه أسلم ولا يأمره إلا بخير, أما نحن فكل واحد منا معه قرين يأمره بالشر إلا من عصم ربك, والله جعل لنا هذا ابتلاء ليرى إيماننا ويرى سُبحَانَهُ وَتَعَالى عملنا الصالح, وأحسن ما يستدفع به الشيطان الوضوء وذكر الله، وقراءة القرآن، والدعاء، والمعوذات، وآية الكرسي، فهذه يستدفع بها الشيطان نعوذ بالله منه.
ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام سخر الله له الغمامة في سفره إلى الشام فاستظل بها, ونزلت القافلة إلى السوق وترك الرسول عليه الصلاة والسلام يرعى الإبل وهو في الشام , وعمره ما يقارب خمساً وثلاثين سنة، فأتت غمامة فظللته عليه الصلاة والسلام, وهذه من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم.
ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يمر فتسلم عليه الأشجار والأحجار بالنبوة قبل أن يبعثه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.(184/17)
تبشير التوراة بالرسول صلى الله عليه وسلم
أنزل الله التوراة على موسى عليه السلام, والله كتبها بيده, والعجيب أن التوراة كتبها بيده سُبحَانَهُ وَتَعَالى, والقرآن كتبه الكتبة, والإنجيل كتبه الكتبة, أما التوراة فكتبها الله عز وجل بيده, ولذلك لما التقى موسى عليه السلام وأبونا آدم في السماء السابعة، وقيل: في السادسة, وقيل: غير ذلك, فسلّم موسى على آدم, وبينهم آلاف السنوات وهذا ابنه, موسى لم يبعث إلا بعد آلاف السنوات, بعد أن رفع الله موسى كما ثبت في الصحيحين, قال: {أنت أبونا آدم؟ قال: نعم.
قال: خيبتنا -موسى كان جريئاً, حتى يقول ابن تيمية: كان جريئاً وشجاعاً, حتى لما كلمه الله عز وجل يقول: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]- قال: خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، وأهبطتنا إلى الأرض -لماذا تأكل الشجرة, نهاك الله أن تأكل الشجرة فأكلتها, فنزلت فنزلنا, ولو جلست في الجنة لجلسنا في الجنة كلنا, لكن أنت السبب الأول في نزولنا- قال آدم عليه السلام: من أنت؟ قال: موسى, قال: موسى بني إسرائيل؟ -لأنه يقرأ سيرته- قال: نعم.
قال: أنت الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه، بكم وجدت الله كتب علي ذلك -يقول كم رأيت في التوراة كتب عليَّ أن آكل من الشجرة- قال: بأربعين سنة, قال: أفتلومني على شيء قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فيقول عليه الصلاة والسلام: فحجّ آدم موسى, فحجّ آدم موسى, فحجّ آدم موسى} أي: غلبه, فسكت موسى عليه السلام.
فلما أنزل الله التوراة على موسى قال المؤلف: كانت محتوية على الشرائع التي تناسب أهل ذاك الزمن, نوه بذكر كثير من الأنبياء الذين علم الله أنه سيرسلهم, ومما جاء به في التوراة تبشيراً برسولنا الكريم خطاباً لسيدنا موسى عليه السلام, وخطاب التوراة مترجم إلى العربية يقول وهذا يعرفه بنو إسرائيل جميعاً, حتى اليهود الآن الذين في فلسطين يعرفون هذا الكلام: " سوف أقيم لهم نبياً مثلك, من بين إخوتهم، وأجعل كلامي في فمه, ويكلمهم بكل شيء آمره به ومن لم يطع كلامه الذي يتكلم به باسمي, فأنا الذي أنتقم منه, فأما النبي الذي يجترئ علي بالكبرياء ويتكلم باسمي بما لم آمره به أو باسم آلهة أخرى فليقتل, وإذا أحببت أن تميز بين النبي الصادق والكاذب, فهذه علامتك، إن ما قاله ذلك النبي باسم الرب ولم يحدث فهو كاذب يريد تعظيم نفسه ولذلك لا تخشاه.
هذا كلام من التوراة يخبر بالرسول عليه الصلاة والسلام.
والعجيب أن الكتب التي أنزلها الله عز وجل لا تسمو إلى بلاغة أو إعجاز القرآن, إذا قرئ علينا في الصلاة كأنه أول مرة تسمعه, ويقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأنس وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الاسراء:88] وعرف اليهود أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يبعث, ولكنهم أخذهم الحسد لأنه عربي, وهم يريدون أن يكون من اليهود.
كان رجل في المدينة قبل أن يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان اليهود أهل النخل في خيبر , فكان يجمع اليهود كلهم -هذا عالم من علمائهم- ويقول: يا معشر اليهود! النبي سوف يبعث في هذه الأيام، وسوف يبعث من عندنا, قالوا: ما علامته؟ قال: ربعة من الرجال، أبيض مشوب بحمرة، يخرج من بين حرتين, لا يقرأ ولا يكتب, فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة فخرج من بين الحرتين, أبيض ربعة لا يقرأ ولا يكتب, فيقول اليهود لعالمهم الذي كان يقص عليهم بعد صلاة العصر: أهذا هو الرسول؟ قال: لا.
فأنزل الله عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
ويقول عبد الله بن سلام: {كنت أقرأ وصف الرسول عليه الصلاة والسلام في التوراة -هذا يهودي من علمائهم- قال: فلما نزل صلى الله عليه وسلم المدينة جهة قباء -المسجد المعروف عند قباء - قال: فنزلت السوق فتركت نخلي وأتيت من مزرعتي، وإذا بالناس قد اجتمعوا على الرسول صلى الله عليه وسلم, قال: فزاحمت حتى أشرفت، فرأيت وجهه، فإذا هو كأنه القمر في ليلة أربعة عشر, قال: فعرفت أنه ليس بوجه كذاب, قال: فاقتربت منه وإذا هو يقول: يا أيها الناس! أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخوا الجنة بسلام, فقلت له: من أنت؟ قال: أنا رسول, قلت: من أرسلك؟ قال: الله, قلت: ألك علامات؟ قال: سل ما بدا لك, قال: أسألك عن ثلاث مسائل -هذا عبد الله بن سلام وهو عالم من علماء اليهود- إن أجبتني عنها فأنت صادق يتحداه!! قال: ما هي؟
قال:
أولاً: ما أول علامات الساعة؟
ثانياً: ما هو أول شيء يأكله أهل الجنة؟
ثالثاً: لماذا يشبه الولد أباه أو يشبه أمه؟
قال عليه الصلاة والسلام: أما أول علامات الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب قال: صدقت.
قال: وأما أول ما يأكل أهل الجنة في الجنة فزيادة كبد الحوت، قال: صدقت.
وقال: وأما لماذا يشبه الولد أباه أو أمه، فماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة رقيق أصفر، فإذا علا أحدهما الآخر أشبه أباه أو أمه, قال: صدقت! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله, ثم قال: يا رسول الله! قال: نعم.
قال: أنا من أحبار اليهود ومن علمائهم, وقرأت أوصافك في التوراة, فأدخلني هذه المشربة -المشربة غرفة دائماً تأتي وراء الغرف الكبرى- فأدخله عليه الصلاة والسلام وأغلق عليه الباب -باب خشب- وقال: ادع اليهود واسألهم عني وسوف تسمع, ثم أخبرهم أني أسلمت, فدعا صلى الله عليه وسلم عشرة من علماء اليهود الكبار الذين يحفظون التوراة، فأجلسهم أمامه, وعبد الله بن سلام وراء الباب, قال: كيف عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: حبرنا وابن حبرنا، وعالمنا وابن عالمنا، وفقيهنا وابن فقيهنا, ففتح صلى الله عليه وسلم الباب له, وقال: أرأيتم إن أسلم؟ قال: أعاذه الله من ذلك, قال عبد الله بن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله, قالوا: شرنا وابن شرنا، وسيئنا وابن سيئنا، وخبيثنا وابن خبيثنا} , وهذه لا تقبل نعوذ بالله من الخذلان, هؤلاء اليهود يعرفون مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام, ولكنهم غضبوا لأنه عربي.
ولذلك لا يقبلونا الآن غضباً؛ لأن دعوته غطت ثلاثة أرباع الكرة الأرضية عليه الصلاة والسلام, والمستقبل لدعوته وهم الآن شرقوا بها, ويموتون من ذكره صلى الله عليه وسلم, يقول سبحانه في مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46].
يقول: لو زاد من عنده على كلامنا لقطعنا منه الوتين, قالوا: العرق الذي فيه الحياة, قال: لصرعناه أو لقتلناه وقيل: لذبحناه, يقول: ليس له أن يتكلم بكلمة إلا منا: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].(184/18)
عصمة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم
ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام مكث بين أعدائه من المشركين واليهود ثلاثاً وعشرين سنة يدعوهم إلى الله، ومع ذلك عصمه الله منهم، وأنزل عليه تطميناً لخاطره في سورة المائدة: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
كان إذا أراد أن ينام صلى الله عليه وسلم في الليل جعل حارساً على الباب من الصحابة؛ معه سيف ورمح وخنجر يحرسه حتى الصباح, لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خطير واغتياله سهل, والله عز وجل حماه في فترة طويلة، فخاف صلى الله عليه وسلم أن يعتدى عليه من قبل اليهود والمنافقين, قالت عائشة: {سافر صلى الله عليه وسلم مرة من المرات فنام صلى الله عليه وسلم في الصحراء ومعه خيمة, قال: ليت رجلاً صالحاً يحرسنا هذه الليلة, قالت: فإذا به يسمع صوت سلاح فقال صلى الله عليه وسلم: من؟ قال: سعد بن أبي وقاص -الذي دمر إمبراطورية كسرى وقيصر, هذا الذي فتح فارس الذي قتل الدكتاتور رستم , يقول صلى الله عليه وسلم إذا رأى سعد بن أبي وقاص: هذا خالي فليرني كلٌ خاله- فقال صلى الله عليه وسلم: من؟ قال: سعد بن أبي وقاص , قال: رحمك الله, فحرس النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الصباح أنزل الله عز وجل: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)} يقول: لا تخف لا تأخذ حراسة، فلن يعتدي عليك أحد, فترك صلى الله عليه وسلم الحراسة، فكان يمشي وحده بلا سلاح ولا حرس, وقد تعرض لإحدى عشرة محاولة اغتيال ونجاه الله, وأنا أذكر بعضها:
رجل من قريش اسمه فضالة أخذ خنجراً كخافية النسر وسمّه حتى أصبح الخنجر أزرق, قال: {فلما أصبح صلى الله عليه وسلم يطوف جعلت الخنجر تحت إبطي، قلت: فسوف أتركه فإذا قبل الحجر طعنته, قال: فاقتربت منه، فكلما أردت أن أطعنه إذا كالبرق بين عيني, قال: ثم التفت وأنا بجانبه، قال: يا فضالة! ماذا تقول؟ قلت: أستغفر الله وأحمد الله وأدعو الله, قال: قل أعوذ بالله من الشيطان, فقلت: أعوذ بالله من الشيطان, قال: فأخذ يده فوضعها على صدري، فوالله ما رفعها حتى كان أحب الناس إلى قلبي}.
وقال عثمان بن أبي شيبة: {خرجت مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن قتل آباءنا في بدر فلما أهويت لأقتله حماه الله، قال: ثم التفت إلي صلى الله عليه وسلم ودعا لي وعفا عني فكان أحب الناس إلي}.
ومن محاولات الاغتيال: أن رجلين من العرب عامر بن الطفيل سيد العرب, كان عنده ألف مقاتل, وأربد بن قيس ذهب إلى المدينة , فقال عامر بن الطفيل لـ أربد: سوف أشغل الرسول عنك وأحدثه، فإذا أشغلته فاقتله من ورائه, فلما وصلا إلى المدينة , قال للرسول: اخرج معنا إلى الصحراء نريدك, فخرج معهم صلى الله عليه وسلم, وليس لديه سلاح ولا أخبر أحداً من الصحابة, فلما أصبح وحده معهم, قام عامر بن الطفيل يحدث الرسول صلى الله عليه وسلم, ويشير بعينه إلى أربد , ومع أربد سيف يقول: اقتله, فتوقف أربد , فأشار له فتوقف, وأشار له فتوقف, ثم ترك عامر الرسول صلى الله عليه وسلم ومشى هو وأربد , فقال عامر لـ أربد: والله لا أصحبك بعد اليوم، ولا رأيت أجبن منك في العرب, قال: ولِمَ؟ قال: أشغلت الرجل عنك وما قتلته؟ قال: والله ما هممت ولا رفعت سيفي لأقتله إلا وجدتك بيني وبينه أفقتلك؟ فالتفت صلى الله عليه وسلم وعرف أنهما خائنان لما مضى, قال: {اللهم سلّط عليهم ما شئت} فأما عامر بن الطفيل فسلط الله عليه غدة نزلت كثدي المرأة في حلقه, وهو في بيت عجوز من بني سلول، قال: غدة كغدة البعير في بيت امرأة من بني سلول! يقول: أنا أكرم العرب أموت في بيت هذه العجوز, فركب على الفرس فمات, وأما أربد بن قيس فقد أنزل الله عليه صاعقة فأحرقته وأحرقت جمله وسط السوق.
يا غارة الله جدي السير مسرعة في أخذ هذا الفتى يا غارة الله
يقول سبحانه يرد على الرسول صلى الله عليه وسلم: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى:24] ومعنى الآية: هل تفتري علينا الكذب؟ فإذا شاء الله ختم على قلبك فلا تستطيع تتكلم, فمن الذي جعلك تتكلم؟ هذا المصحف الذي بين أيدينا أتى به عليه الصلاة والسلام, وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، لا تعلَّم ولا دخل مدرسة، ولا يعرف أن يكتب اسمه عليه الصلاة والسلام {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} [الجمعة:2] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:48 - 49].
ثم إن الله بشَّر به عليه الصلاة والسلام في الكتب السابقة، وعرفه الناس عليه الصلاة والسلام قبل مبعثه, ومن أوصافه صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أجل والله! إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن, اسمع إلى كلام التوراة " يا أيها النبي! إنا أرسلناك شاهدا ومبشراً ونذيراً -وهذه جملة في القرآن- وحرزاً للأميين -أي: حرزاً لنا, الأميين الذين لم يقرءوا ولم يكتبوا, نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب- أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة -ما كان يرفع صوته صلى الله عليه وسلم ولا كان يصيح، وإذا أراد أن يلتفت لا يلتفت برأسه فقط، بل يلتفت بجسمه كله, ولا يشير بأصبعه ويشير بيده كلها, وكان عليه الصلاة والسلام لا يتثاءب أبداً منذ أن ولدته أمه إلى أن مات ما تثاءب, لأن التثاؤب من الشيطان, ولم يحتلم أبداً, وكان إذا قام يقول: {استووا استووا اعتدلوا إني أراكم من وراء ظهري} فكان يرى الصفوف من وارء ظهره, وكان صلى الله عليه وسلم إذا نام تنام عيناه ولا ينام قلبه, ويرى أحياناً أنه يدخل الجنة، وأحياناً يتكلم مع الملائكة عليه الصلاة والسلام، وله صفات كثيرة عليه الصلاة والسلام, كان العرق الذي يتصبب منه أحسن من المسك, وكانت الأنصار تأخذه في قوارير, ويأخذون منه قطرات يغسلون به المرضى فيتشافون بإذن الله.(184/19)
لمحة من أخلاق النبي الكريم
كان صلى الله عليه وسلم ينزل الأسواق, لكن ما كان يرفع صوته, ومرة من المرات نزل فأتى إلى زاهر وهو بدوي, كان زاهر هذا يأتي بالعسل والسمن للرسول صلى الله عليه وسلم يشتريه منه, فوجد زاهراً يبيع، فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم من وراء زاهر، فاحتضنه من وراءه وأمسكه بقوة -وكانت قوته صلى الله عليه وسلم تعادل قوة ثلاثين رجل صلى الله عليه وسلم, ولذلك يقول أحد الأنصار: رأينا صخرة في الخندق اجتمع عليها نفر منا ما استطعنا لها, فأتى صلى الله عليه وسلم فرفع عن ساعديه فحملها، فوالله ما أنسى ذراع يديه وهو يحمل الصخرة حتى رماها بعيداً- فلما أمسكه قال: من يشتري العبد؟ يقولها صلى الله عليه وسلم وسط السوق, فأخذ زاهر يقول: اتركني اتركني لا يدري من هو هذا العربي الذي أمسكه, قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {من يشتري العبد؟ من يشتري العبد؟} فالتفت فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذ يتمحك بظهره بصدر الرسول صلى الله عليه وسلم للبركة, ثم قال: إذاً يا رسول الله تجدني كاسداً، قال: {لكنك عند الله لست بكاسد.
وقريش يقولون: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] يقولون: لماذا يتكسب يبيع ويشتري؟
لو كان رسول صدق لجلس في البيت, فالله أخبرهم أنه يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، وأنه بشر يعرف آلامهم وآمالهم, ويعيش حوائجهم عليه الصلاة والسلام, ويجوع كما يجوعون, ويشبع كما يشبعون.
قال: ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر, كل من أساء في حقه صلى الله عليه وسلم عفا عنه وغفر, لما دخل مكة وفتح عليه الصلاة والسلام مكة , أخذ بحلق باب الكعبة قال: {الحمد لله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده} ثم قال لقريش الذين آذوه وقتلوا أصحابه وقاتلوه: {ما ترون أني فاعل بكم؟} يقول: ماذا تتصورون وماذا تتوقعون أني سوف أفعل؟
أنا الآن منتصر, السيف في يدي, أنتم لا تملكون شيئاً مجردين من السلاح, وكان حراسته على الحرم اثني عشر ألف مقاتل من الصحابة- فأخذوا يتباكون، يقول أحد الصحابة: سمعت بكاء الأطفال والنساء والرجال, أي: يقولون: أنقذنا, فقام أبو سفيان فقال: أخ كريم وابن أخ كريم, يقولون: افعل ما بدا لك, نحن أسأنا وأخطأنا, قال صلى الله عليه وسلم: {عفا الله عنكم, وغفر الله لكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء} فأخذ أبو سفيان يبكي عند الباب، ويقول: [[لا إله إلا الله ما أرحمك! ولا إله إلا الله ما أحلمك! ولا إله إلا الله ما أبرك! ولا إله إلا الله ما أوصلك!]] عليه الصلاة والسلام.
والله يقول له: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون:96] وقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
{جاء بدوي أعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم برد نجراني غليظ الحاشية -جبة- فمشى صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فأدركه الأعرابي فسحبه سحبة شديدة حتى أثر البرد في عنقه, فالتفت صلى الله عليه وسلم إليه يتبسم صلى الله عليه وسلم, قال الأعرابي: أعطني من مال الله الذي عندك لا من مال أبيك ولا مال أمك -أعوذ بالله من الخطأ- قال صلى الله عليه وسلم: أعطوه, فأعطوه, ثم أسلم هذا الأعرابي, فقال صلى الله عليه وسلم: لو تركته وما فعل لارتد وارتد قومه معه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
واعلم حفظك الله أنه صلى الله عليه وسلم، تميز بآيات عديدة منها: معجزات ظاهرة سوف تأتي معنا:
ومنها: معجزات خُلقية وخَلقية.
ومنها: أن العالم شهد بنبوته منهم من آمن ومنهم من كفر.
ومنها: أن الله أتم له نوره وجعل العاقبة له, وجعل الدائرة على أعدائه.(184/20)
تبشير الإنجيل ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم
قال: المؤلف رحمه الله تعالى (بابٌ في تبشير الإنجيل بالرسول صلى الله عليه وسلم) أي: أن ذكره صلى الله عليه وسلم كان في الكتب السالفة، ومر معنا أنه وجد ذكره صلى الله عليه وسلم في التوراة، وقد بشر به موسى قومه بني إسرائيل.
نسمع الآن إلى عيسى عليه السلام يبشر كذلك بني إسرائيل بالرسول عليه الصلاة والسلام، قال: بشر عيسى عليه السلام قومه في الإنجيل بالفار قليط، ومعناه قريب من اسم محمد أو أحمد، وهذه في لغتهم في الإنجيل، ولا يوجد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين عيسى نبي، بل عيسى قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم خُتم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهو خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، قال: فكان يدعى في الإنجيل بالفار قليط، ومعناه قريب من محمد أو أحمد.
ويصدقه القرآن في قول الله تعالى في سورة الصف: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أحمد} [الصف:6] وهو رسولنا عليه الصلاة والسلام، واسمه: أحمد ومحمد والعاقب والماحي والحاشر، أما اسم طه فلم يثبت عند أهل السنة أن اسمه صلى الله عليه وسلم طه، إنما قاله بعض الناس.
وهنا وقفة لطيفة في الآية: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ} [الصف:5] ولما أتى عند عيسى قال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الصف:6] فلماذا قال موسى: يا قوم؟ ولماذا قال عيسى: يا بني إسرائيل؟
قال بعض أهل العلم: لأن موسى من بني إسرائيل، فأبوه من اليهود، أما عيسى فليس له أب، فما ينتسب إليهم، ما قال: يا قوم، إنما قال: يا بني إسرائيل، فناداهم كأنه بعيدٌ عنهم عليه السلام، قال الله: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [الصف:6] التوراة التي أتى بها موسى عليه السلام، والتوراة كان فيها الأحكام والحدود، والإنجيل كان فيه الرقائق والمواعظ: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أحمد} [الصف:6] قيل: بينه وبين عيسى عليه والسلام خمسمائة سنة، وقيل: أربعمائة سنة، وقيل: ما يقارب ذلك.
وقد وصف المسيح هذا بالفارقليط، بأوصاف لا تنطبق إلا على نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال عيسى عليه السلام يصف الرسول صلى الله عليه وسلم لقومه: إنه يوبخ العالم على خطيئته، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي؛ فيوبخ الناس على خطاياهم، وعلى معاصيهم، وإعراضهم عن الله، وأنه يعلمهم جميع الحق؛ لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع، ومصداق ذلك في القرآن: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4].
فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يأتِ بالشريعة من نفسه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46] إنما أتى بوحي ينشره في الناس صلى الله عليه وسلم، ويتكلم بوحي من الله، ولا يمكن أن يفرض للناس ما لم يتنزل عليه، ومن علامة ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده ثقافة، ولم يكن يقرأ ولا يكتب، إنما أنزل الله عليه هذا الوحي فبلغه للناس عليه الصلاة والسلام.
وقد ورد في إنجيل برنابا، الذي ظهر منذ زمن قريب وأخفته حجب الجهالة، ذكر اسم الرسول عليه الصلاة والسلام صراحة، فورد في إنجيل برنابا اسمه محمد، وورد أن اسمه أحمد وهو رسولنا عليه الصلاة والسلام، واليهود والنصارى يعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق، وأنه رسول من الله، وأنه نبي، لكن منعهم الحسد والبغي والغرور أن يؤمنوا به.(184/21)
حركة الأفكار قبل البعثة
قال المؤلف: بابٌ في حركة الأفكار قبل البعثة، وهذا يسهل لك فهم الحركة العظيمة من الأحبار والرهبان قبيل بعثته عليه الصلاة والسلام؛ فإن اليهود كانوا يستفتحون في المدينة على العرب، وكان اليهود مجاورين للعرب من الأوس والخزرج في المدينة، وكان اليهود يقرءون التوراة ويرون خبر الرسول عليه الصلاة والسلام، فكانوا يستفتحون على الذين كفروا، أي: يستفتحون على المشركين.
يقولون: غداً سوف يظهر النبي يقاتلكم ونقاتلكم معه وسوف نكون معه، لماذا يقول هذا اليهود؟
لأنهم ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يكون من اليهود لا من العرب، وكانوا يقولون: صفته كذا، ربعة أبيض مشوباً بحمرة، أمي لا يقرأ ولا يكتب، يخرج بين النخل، يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، أوتي قوة ثلاثين، تنام عيناه ولا ينام قلبه، لا يتثاءب ولا يحتلم، وهذه أوصاف الرسول عليه الصلاة والسلام.
والأوس والخزرج من العرب ولم يكن عندهم كتاب، كانوا ينتظرون، فلما بعث عليه الصلاة والسلام فوجئ اليهود أنه بعث من العرب؛ فكفروا، قالوا: لا.
ليس هذا بالرسول، قال الأوس والخزرج: هذا الذي أخبرتمونا به، هذه أوصافه، قالوا: لا.
ليس هو، قال الله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
وكان في صفاته عليه الصلاة والسلام عند اليهود في التوراة أنه كلما أغضبته كلما زاد حلماً، كلما رفعت صوتك على الرسول صلى الله عليه وسلم كلما ازداد حلماً.
فلما أتى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاء تاجر من تجارهم اسمه زيد بن سنعة، رأى أوصاف الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فأراد أن يختبر حلمه، هل هو صحيح أم لا؟ فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا أبا القاسم! أنا رجل من تجار اليهود، وعندي مالٌ كثير، وأريد أن تأخذ من مالي تستعين به على غزواتك وعلى حوائجك، قال عليه الصلاة والسلام: لا بأس، فأخذ منه صلى الله عليه وسلم مالاً إلى الحول إلى سنة.
وبعد شهر أتى اليهودي والرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد في صلاة العصر يصلي بالناس، والصحابة قد اجتمعوا، فقال اليهودي التاجر: يا محمد! أعطني مالي الذي عندك، قال صلى الله عليه وسلم: أنت أعطيتني إلى حول -إلى سنة- قال: إنكم مطل يا بني عبد المطلب، أي: أنكم تماطلون الدائن، أنتم لا توفون، فتبسم عليه الصلاة والسلام، قال: أعطني مالي ولا تتبسم، فتبسم أكثر، فقام عمر -قال الرواي: تتدحرج عيناه رضي الله عنه من الغضب يريد اليهودي- فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم عمر وقال: سوف أعطيك إن شاء الله، فأخذ اليهودي يرفع صوته وأخذ صلى الله عليه وسلم يتبسم، وأخذ يد اليهودي معه، وذهب به إلى بيته فقضاه، فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، ما من علامة في التوراة كانت مكتوبة إلا وجدتها فيك، إلا هذه العلامة فأردت أن أبتليك وأمتحنك فوجدتها فيك، فأشهد أنك رسولٌ من عند الله، وهذه صفاته عليه الصلاة والسلام.
ثم لما بعث عليه الصلاة والسلام من العرب منعهم الحسد أن يؤمنوا به، وكان أمية بن أبي الصلت المتنصر العربي، كثيراً ما يقول: إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا، أمية بن أبي الصلت ثقفي من أهل الطائف وشاعر، وكان يقرأ التوراة والإنجيل، وهو الوحيد الذي يقرأ في الطائف، كانوا يجتمعون فيكتب لهم الرسائل، ويخبرهم أنه سوف يبعث نبي، وكان هو يعرض بنفسه، يقول: هو الذي سوف يبعث؛ لأنه يقول: ليس هناك رجلاً مثقفاً في الجزيرة العربية إلا هو، أي: أكاديمي، أما البقية فليس عندهم ثقافة، الرسول صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، لكن أمية بن أبي الصلت، يقرأ وشاعر ويكتب، وذاك الوقت لو وجد في العرب من يقرأ ويكتب وشاعر فهو الكامل عندهم، وهو صاحب القصائد العجيبة التي يذكر الله فيها، يروي قصة موسى عند فرعون في قصيدة قديمة عربية، يقول: أن موسى ذهب إلى فرعون، فقال:
فقولا له هل أنت سويت هذه بلا عمد حتى استقلت كما هيا
يقول: إن الله أرسل موسى إلى فرعون، فقال الله لموسى: قل له يا موسى: أأنت سويت السماء بلا عمد؟
وله قصيدة يحيي فيها ملك اليمن سيف بن ذي يزن، يقول:
اجلس بـ غمدان ذاك القصر في وله في قصر غمدان حالاً دونه حال
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعاد بعد أبوالا
لأن العرب كانوا يهنئون سيف بن ذي يزن في اليمن ويحيونه؛ لأنه طرد أبرهة الأشرم، وطرد الأحباش الذين احتلوا اليمن، فهذا أمية بن أبي الصلت، يقول عمرو بن الشريد أحد الصحابة وهو سُلمي، كان يحفظ الشعر، قال: {أركبني صلى الله عليه وسلم وراءه على الدابة، فقال لي صلى الله عليه وسلم: تحفظ لـ أمية بن أبي الصلت شعراً، قلت: نعم يا رسول الله، قال: أنشدني، قال: فأنشدته بيتاً، قال: زدني، قال: فأنشدته ثانية، قال: هيه، فأنشدته ثالثاً، قال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت، فقال صلى الله عليه وسلم: آمن لسانه وكفر قلبه}.
هذا أمية بن أبي الصلت لما بعث صلى الله عليه وسلم كفر؛ لأنه أسقط في يديه، لكن الله يقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] أصلاً ليست بالانتخابات، الله أعلم بالقلوب، والله أعلم بمن هو المهيأ لقيادة العالم وإصلاح البشر، هذه مهمة صعبة، فاختار الله الرسول عليه الصلاة والسلام، وترك هذا؛ فكفر هذا.(184/22)
سلمان الفارسي والبحث على الهداية
وحدث سلمان الفارسي رضي الله عنه عن نفسه: أنه كان في أرض فارس، وكان أبوه ملك النار، يوقد النار لأهل فارس ويعبدونها من دون الله، ويسجدون لها، فأتى يوماً من الأيام، فأرسله أبوه ليوقد النار، ومع صلاة المغرب يوقد المجوس النار، يقول محمد إقبال يحيي الرسول صلى الله عليه وسلم:
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
يقول: من الذي أطفأ نار المجوس إلا أنت يا رسول الله.
فذهب سلمان بعد أن أرسله أبوه قبل الغروب، قال: أوقد النار حتى يعبدها الناس، فمر في أثناء الطريق براهب نصراني عنده علم من التوراة، فأجلس سلمان وقال: عبادة النار شرك من دون الله عز وجل، وأرى أن تترك عبادة النار، فترك إيقاد النار؛ فخاف أبوه عليه؛ فقيده في البيت وربطه، وقال: لا تخرج من هذا البيت أبداً، فاحتال سلمان وهرب وترك الحبال، وذهب إلى نصراني يعبد الله فجلس معه يتعبد، فلما حان الأجل من هذا النصراني، قال له سلمان الفارسي: يا فلان! حانت منك الوفاة، وتعرف أنني يتيم، وأني تركت أهلي، فبمن توصيني؟
قال: أوصيك بفلان، رجل في مدينة من مدن العراق، قال: فذهبت إليه؛ فخدمته، فكان من أسوأ الناس، يأخذ أموال الناس سرقة، ويزعم أنه يتصدق ولا يتصدق، قال: فأخبرت الناس به، فأتوا عليه؛ فهدموا صومعته وضربوه، وأخذوا قسيساً مكانه ووضعوه، فذهبت إلى القسيس هذا فوجدت فيه خيراً كثيراً، فلما حضرته الوفاة، قلت له: إلى من أذهب؟ قال: لا أجد رجلاً من القساوسة الآن في الدنيا، لكن سوف يبعث رسول قريب من أرض العرب من مكة، فإذا بعث فاذهب إليه، وله ثلاث علامات:
العلامة الأولى: أن فيه خاتم النبوة عند كتفيه كزر الحمامة، قيل: بيضة الحمامة أو كذا.
العلامة الثانية: أنه يقبل الهدية ويأكلها ولا يأكل الصدقة.
العلامة الثالثة: يخرج بين حرتين.
قال سلمان: فسمعت بمبعث الرسول عليه الصلاة والسلام، فجمعت ما عندي من مواشي، وما عندي من غنم وإبل، وجعلتها أجرة لأهل السفينة يحملونني في البحر فحملوه، فلما وصل إلى ساحل البحر نزل وذهب إلى المدينة، فأخذه اليهود الذين كان معهم في القافلة، وقالوا: هو عبد لنا وهو حر، لكن الخونة فعلوا ذلك، فأخذوه؛ فأنزلوه يشتغل في النخل ويعمل معهم، وفجأة سمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة إلى المدينة، قال: فأخذت رطباً معي من النخلة، وأتيت به وتركت سيدي، وأتيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا أصحابه حوله، قلت: يا رسول الله! هذا صدقة لكم، قال: فردها صلى الله عليه وسلم، وقال لأصحابه: كلوا هذه صدقة، فأكلوا ولم يأكل صلى الله عليه وسلم.
قال: وفي الليلة الثانية، أتيت بعذق رطب، وقلت: هذا هدية لك يا رسول الله.
قال: فأكل مع أصحابه، قلت: هذه ثانية، قال: وحضرته وهو يشيع جنازة فجلس، فأتيت من وراء ظهره؛ فعرف أنني أريد أن أنظر إلى العلامة؛ فرفع الكساء، فوجدتها كزر الحمامة، وهو خاتم النبوة، قال: وبعث بين حرتين كما في الحديث، فأسلم سلمان الفارسي بهذه العلامات، هذا بعد مبعثه عليه الصلاة والسلام.(184/23)
مراسلة النبي صلى الله عليه وسلم لملوك الأرض
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم راسل ملوك الأرض، فأما النصارى منهم فأجابوا بهدوء، ولو أن بعضهم لم يسلم، ولذلك تجد النصارى أقرب قلوباً للمسلمين من اليهود، وتجد أن اليهود والشيوعية في معسكر واحد عداء للإسلام والمسلمين، أما النصارى فقد يكون عندهم احترام إنساني في مسألة الدين، وهم لا يريدون أن يتورطوا في مسألة التصادم بين الإسلام والدين.
يونس خالص وهو أحد قادة المجاهدين دخل البيت الأبيض على ريغان، -والقصة معروفة، وموجودة ومنشورة- فيقول لـ ريغان: أسلم تسلم، إني أدعوك إلى الإسلام، فيقول ريغان: أنا أحترم الأديان السماوية، هم لا يريدون أن يستثيروا غضب مليار مسلم، ثم إنهم يعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق، لكن لا يتبعونه، بزعم أنهم يؤمنون بعيسى عليه السلام، وهذا والعياذ بالله كفر بالرسول صلى الله عليه وسلم وبعيسى؛ لأن بعد رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم انتهت الرسائل {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] أي: انتهت بعد مبعثه كل رسالة.(184/24)
رسالته صلى الله عليه وسلم إلى كسرى
أرسل صلى الله عليه وسلم رسائل، منها: إلى كسرى وكان وثنياًلم يكن عنده كتاب، ولا يدري ما الرسول هذا، وكان يستعبد العرب، وكان له ملك يراجعه يملك العرب النعمان بن المنذر في الحيرة في العراق، كان يملك العرب ويأخذ أموالهم، ويأخذ منهم المكوس ويدفعها لكسرى، فلما بعث صلى الله عليه وسلم أرسل رسالة إلى كسرى؛ فمزقها، قال صلى الله عليه وسلم: {مزق كتابي، مزق الله ملكه}.
ثم إن المجرم كسرى، أرسل إلى الوالي في اليمن قال: أرسل جنديين من عندك لسحب هذا المدعي النبوة من مكة حتى تأتوني به وأحاسبه في المدائن، فأرسل لـ باذان أمير اليمن، أرسل جنديين حليقين -أي: لحاهم على الصفر- فوصلا إلى المدينة، فحياه بتحية الجاهلية، قال صلى الله عليه وسلم: من أمركما بهذا؟ أي: بحلق اللحية، قالا: ربنا أمرنا بذلك، يعنون: كسرى؛ لأن الدولة كانت تصدر مرسوماً أنهم كلهم يحلقون، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {اغربا عني إن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي} ثم قالا: نريد أن تذهب معنا، أي: أن الأمر سهل، الرسول صلى الله عليه وسلم مرسل من الله رب العالمين، يذهب معهم إلى كسرى، قال: أين؟ قالوا: تذهب معنا إلى ربنا، يقصدون: كسرى، قال: {إن ربي عدا على ربك البارحة فقتله} يقول صلى الله عليه وسلم أي: أنه اغتيل البارحة، ووجدوا في الليلة نفسها أن ابن كسرى اعتدى على أبيه في ظلام الليل؛ فذبحه على الفراش، وانتهت المناورة هذه.
وبعد سنوات اكتسحه سعد بن أبي وقاص، ودمر رستم الدكتاتور وأمثاله، ودمر إيوان كسرى، وافتتح -والحمد لله- جنوب العراق وشمالها في قادسية لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وأما الملوك الآخرين الذين عندهم علم من التوراة والإنجيل، فبعضهم على ثلاثة أنواع:(184/25)
رسالته صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس
بعضهم هادن الرسول صلى الله عليه وسلم مهادنة، فـ المقوقس ملك مصر أهدى للرسول صلى الله عليه وسلم جاريتين، وأهدى بعض البغال والمواشي، حتى يكون هناك تعايش سلمي، لا يريد أن يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن يستثير حفيظته.
والثاني: لا يريد كذلك أن يكذب بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يدري أنه صادق، ولا يريد أن يسلم؛ لأنه لو أسلم ذهب ملكه فاحتار في المسألة، فرأى الحل الوسط أن يهدي له هدية، فأهداه فوصلت.(184/26)
رسالته صلى الله عليه وسلم إلى هرقل
وأما هرقل عظيم الروم، فإن الإسلام دخل قلبه، فلما دخل قلبه جمع الناس، وقال: ما رأيكم نسلم وندخل مع هذا الرسول؟ فقال قومه: ماذا تريد منا؟
قال: نريد أن ندخل في دين الله وأن نسلم للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أغلق عليهم حوشاً كبيراً فحاصوا كحيصة حمر الوحش من الغضب، وكان هو مرتفع على قبة، وكادوا يقتلونه، وتمزقوا يريدون أن يخرجوا من الأبواب، فإذا الأبواب مغلقة، قال: عودوا فعادوا، قال: إنما أردت أن أمتحن صلابتكم على دينكم، وأمتحن جدارتكم، ولا أريد أن أسلم، وهو أراد أن يسلم، لكن ما فعل.
ونص رسالته صلى الله عليه وسلم إليه: {بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى هرقل عظيم الروم، أمَّا بَعْد: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64]}.
هؤلاء الملوك استمروا حتى عزلهم صلى الله عليه وسلم بحكم الإسلام، وأرسل جيوشه وكتائبه، ففتحت مشارق الدنيا ومغاربها مهللة مكبرة.
وأما ما سمع من الهواتف والكهان قبيل زمنه عليه الصلاة والسلام، فلا يدخل تحته حصر فهي كثيرة، وكانوا يسمعون الهاتف من الليل يهتف، قريش طاردت الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة، وقالت: من يجد الرسول فله مائة ناقة، فلحقه سراقة بن مالك، ولا تدري قريش أين يذهب صلى الله عليه وسلم، هل ذهب المشرق أم المغرب، أو الشمال أو الجنوب؟ لم يعلموا أنه ذهب باتجاه المدينة؛ لأنكم تعرفون اتجاه المدينة عن مكة، والرسول صلى الله عليه وسلم خالفهم ونزل تجاه الجنوب في غار ثور؛ لأنه يعرف أنهم سوف يبحثون عنه في خط المدينة، فنزل في غار ثور فلحقوا به وطوقوا الغار ولم يدخلوه بإذن الله وأعمى الله أبصارهم ونجاه.
فلما أصبح في الطريق لم تدرِ قريش أين ذهب، فلما اقترب من المدينة وإذا هاتف يهتف في مكة من الجن وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلاَّ خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم تروحا فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيا لقُصيَّ ما زوى الله عنكمُ به من فخار لا تُجاذى وسؤددِ
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها فإنكم إن تسألوا الشاة تشهدِ
هذا شعر الجن، فعرفت قريش أنه ذهب إلى المدينة.
وهذا القصة: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم نزل عند هذه المرأة أم معبد الخزاعية -وكانت في خيمة- وزوجها يرعى الغنم وهي عجوز كبيرة، فقال لها صلى الله عليه وسلم: أعندك شاة حلوب؟
قالت: ما عندي من حلوب، قال: وما هذه الشاة؟
قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال صلى الله عليه وسلم: هل لي أن أحلبها؟ قالت: إن وجدت بها حليباً فاحلبها، فأتى صلى الله عليه وسلم بإناء رحراح، ثم قال: بسم الله، تبارك الله، ثم حلب فملأ الإناء، فأعطاها فشربت العجوز حتى رويت، ثم حلب فملأ الإناء، فأعطاه أبا بكر فشرب، ثم حلب فملأ الإناء فشرب صلى الله عليه وسلم.
قالت: من أنت؟ فأخبرها، قالت: ثم بقيت مذهولة ومشى صلى الله عليه وسلم فأتى زوجها فأخبرته الخبر وهي مذهلة، أتاها من الدهش ما لا يعلمه إلا الله، فأخبرت زوجها، قال زوجها: لعله الرجل الذي تطارده قريش، ويقول: إنه رسول الله، وبعد أن استقرت الرسالة أتت هي وزوجها بغنم هدية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلموا فكساهم صلى الله عليه وسلم، وأعطاهم من المال ما الله به عليم، هذا من ضمن ما ورد من الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم.(184/27)
بدء الوحي
بدء الوحي، هو الانطلاقة الكبرى لتحرير الأمة، والخروج من الظلمات إلى النور، النور الآن يهبط على الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الأربعين من عمره صلى الله عليه وسلم، كنا فيما مضى نتحدث عن سن ما قبل الأربعين، سن الشباب العشرين، والخمسة والعشرين والخمسة والثلاثين، الآن وصل الأربعين صلى الله عليه وسلم، اكتمل رشده وأشده: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف:15].
فالرسول صلى الله عليه وسلم بلغ الأشد وهذه سن الأشد عند العرب، يقول الشاعر العربي سحيم بن وثيل:
وماذا يبتغي الشعراء مني وقد جاوزت حد الأربعين
أنا ابن جلا وطلاَّع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
فسن الأربعين هي اكتمال القوة الجسيمة والعقلية، فلما بلغ الأربعين صلى الله عليه وسلم كان يخرج من مكة يأخذ معه طعام ويجلس في غار حراء، وهو غار مرتفع يتعبد فيه، هل كان يصلي مثل صلاتنا التي علمنا إياها هو؟ قالوا: لا.
يتجه إلى القبلة، ويتأمل في الكون، وينظر في النجوم وفي الليل، ويبقى الليالي الطويلة هناك، ثم يعود يتزود ويعود لمثلها.
وبينما هو في الغار إذ جاء جبريل في صورة رجل، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، ولا أتاه سابق إنذار ولا إخبار، إنما كان يمر صلى الله عليه وسلم أحياناً بالحجر، فيقول الحجر: السلام عليك يا رسول الله، فيخاف صلى الله عليه وسلم، ويمر بالشجر، فتقول الشجرة: السلام عليك يا رسول الله فيخاف، فدخل عليه جبريل، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو جالس، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ -وهو أمي- يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمََ} [العنكبوت:48 - 49] وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} [الجمعة:2] وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
قال: اقرأ -مرة ثانية- قال: ما أنا بقارئ، فأخذه جبريل هكذا، والرسول صلى الله عليه وسلم مقابله، فجعل صدره على صدره، ثم أمسكه بقوة، وقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأنسانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق:1 - 3] فاندفع يقرأ صلى الله عليه وسلم معه، فنزل صلى الله عليه وسلم مرتعداً خائفاً من هذه المفاجأة، من أين أتى هذا؟ ثم نظر إلى جبريل فما وجده، فنزل ودخل على خديجة وهو يرتعد، قال: {زملوني زملوني} حمى، فزملته، وقال: {لقد خشيت على نفسي قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق}.
تقول: لا.
صفاتك أنت لا تخزى، أنت سوف يكون لك مستقبل، قال بعض أهل العلم: انظروا إلى هذه العاقلة كيف استدلت بحسن أفعاله على حسن مستقبله! فلما جلس إذا بجبريل يأتيه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:1 - 2] {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1 - 5].
ثم ذهبت به خديجة إلى ورقة بن نوفل، وهو شيخ كبير في مكة من قريش، كان يقرأ الكتاب، تعلم الإنجيل، ويعرف اللغة العبرانية لغة اليهود، قالت خديجة: اسمع من ابن أخيك واسأله ماله، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسأله، فأخبره صلى الله عليه وسلم بما رأى وما وجد، قال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني جذعاً، إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي هم؟!
قال ورقة: نعم، ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
ثم مالبث ورقة أن مات، واستمر الوحي، وأخرج صلى الله عليه وسلم من مكة، وأتاه من القصص ما سوف يمر معنا، قصص تشيب الرءوس.
في كفه شعلة تهدي وفي فمه عقيدة تتحدى كل جبار
وبين جنبيه وعدٌ ما سمعت به وعد التحية من بر وإصرار
ولما بلغ عليه السلام سنة الكمال وهي أربعون سنة، أرسله الله للعالمين بشيراً ونذيراً ليخرجهم من ظلمات الجهالة إلى نور العلم، وكان ذلك في أول فبراير سنة (610) من الميلاد، كما أوضحه المرحوم محمود باشا الفلكي، تبينت بعد دقة البحث أن ذلك كان في (17) رمضان سنة (13) قبل الهجرة، وذلك يوافق يوليو سنة (610) وأول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وذلك لما جرت عادة الله مع خلقه أن يتدرج بهم حتى يصلوا إلى درجات الكمال.(184/28)
فترة انقطاع الوحي
قال المؤلف رحمه الله: "باب فترة الوحي" بعد أن أنزل على الرسول عليه الصلاة والسلام الوحي لأول مرة في غار حراء، وهي سورة العلق، فتر الوحي عنه عليه الصلاة والسلام، لم ينزل من السماء شيء ولم يأته جبريل، قيل: هذه الفترة كانت أربعين ليلة، لم يجد صلى الله عليه وسلم فيها وحياً ولم ينزل عليه قرآن، فأتاه من الخوف ما الله به عليم، وحزن صلى الله عليه وسلم واغتم؛ لأنه كان يطمع أن يكون -كما نزل عليه الوحي- رسول هذا العالم، وأن ينزل عليه الله هذا النور، وأن يأتيه هذا الوحي وهذا العلم، كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:113].
فلما وصل إلى هذه المرتبة فتر الوحي عنه عليه الصلاة والسلام، فاهتم هماً لا يعلمه إلا الله، حتى يذكر في بعض الروايات أنه كان يشرف صلى الله عليه وسلم من كثرة الهم من رأس بعض الجبال ليتردى، يريد أن يرمي بنفسه عليه الصلاة والسلام بعد هذه المأساة العظيمة، وبعد هذا الانقطاع الهائل من الوحي، وكانت تمر به عجوز، فتسأل، تقول: هل نزل عليه وحي؟
فيقولون: لم ينزل وحي، قالت: قلاه ربه، تركه شيطانه.
تقول: الشيطان الذي كان ينزل عليه تركه، وتعالى الله عما يقول هؤلاء علواً كبيراً، وتكرم عليه الصلاة والسلام عن هذه العبارة، قالت: تركه شيطانه، فأنزل الله عز وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3] هذا قسم بالضحى، وبالليل إذا أظلم، أن الله ما ودعك وما تركك ولا هجرك ولا قلاك ولا أبعدك، وأنك ما زلت حبيباً وخليلاً وقريباً ومكرماً، وبينما الرسول صلى الله عليه وسلم يسير، سمع هاتفاً يهتف، فالتفت، فإذا الملك بين السماء والأرض وإذا هو يخاطبه على كرسي، وأنزل الله عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر:1 - 2].
هذه هي فترة الوحي أربعون ليلة، انقطع الوحي فيها، والسبب في ذلك: ليشتاق الرسول عليه الصلاة والسلام للوحي، وأن يكون أكثر اشتياقاً له؛ ولذلك يقول بعض الفضلاء والحكماء: إذا أردت من أخ أن يتحبب إليك فحاول أن تبتعد عنه قليلاً، فإنه سوف يتعلق بك أكثر، فإن بعض الناس إذا تعلقت به حاول أن يبتعد عنك، فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى -وله المثل الأعلى- أراد أن يشوق رسوله عليه الصلاة والسلام إلى الوحي، ففتر الوحي أربعين ليلة ثم اتصل، أما قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] فإنه لما رجع عليه الصلاة والسلام -هذه غير رجعة الغار- رجع وهو ينتفض ويرتعد عليه الصلاة والسلام ويقول: {دثروني دثروني} مثل: {زملوني زملوني} أي: ألحفوني، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:1 - 4] قيل: معنى ثيابك فطهر أي: طهرها من النجاسات وهذا شرطٌ في الصلاة، وقيل: من الأدناس والأوضار، وقيل: طهِّر عرضك من كل ما يصم العرض {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] قيل: الرجز الصنم لا تعبده، وقيل: الرجز العذاب، يقول: كلما يستوجب عذاب الله وغضب الله فاهجره واتركه، هذا هو الرجز، فاهجر: اترك (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) يقول: لا تعط الناس عطية، وأنت تطمع أن يردوا عليك عطية أكثر منها؛ لأن هذا منٌ واستكثار من عطايا الناس، هذا توجيه الله له.(184/29)
مرحلة الدعوة سراً
قام صلى الله عليه وسلم يدعو ولا يستطيع أن يجهر بالدعوة، كان إذا لقي الرجل وحده، تكلم معه بينه وبينه، ويستكتمه الخبر، وبدأ صلى الله عليه وسلم بالفقراء أولاً والعبيد الموالي، فكان يأتي إلى خباب بن الأرت، وكان خباب حداداً عنده كير، ينفخ عليه في الفحم وينتثر الرماد على وجوه الناس، ولا يأتي خباب أحد، فيأتي صلى الله عليه وسلم إلى خباب، فيجلس معه في الصباح وفي المساء، ويدعوه إلى لا إله إلا الله.
فأتى ذات مرة سيد خباب، قال: ماذا يفعل محمد يوم يأتيك؟ قال: يأتيني يتحدث معي، وهو يدعوه إلى لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الأخير اجتمعت قريش، وقالوا: أتدرون لماذا يذهب محمد إلى خباب؟ قالوا: لا ندري، قالوا: يتعلم منه القرآن؛ لأن خباباً أعجمي وعنده علم من الكتاب، فمحمد يأتي في الصباح وفي المساء يأخذ العلم والقرآن من هذا، ويخبرنا به في الحرم في المساء، والقصة كلها رد الله عليه بآية: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:4 - 5] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103].
يقول: هذا القرآن أليس بعربي؟ وخباب أليس بعجمي؟
لا يعرف النطق بالعربية، كيف يتعلم منه القرآن والقرآن أفصح ما تكلم به الناس، لا تستطيع قريش أن تنسج مثل القرآن، ولا تنظم مثل القرآن، فكيف يأتي خباب العجمي المولى الحداد ويخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا؟
ثم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلقى الرجل فيستكتمه الخبر حتى انتشر الخبر، يقول: كل سر جاوز الاثنين شاع، يأتي صلى الله عليه وسلم وما أسلم معه إلا أربعة: أبو بكر من الشيوخ، وعلي وكان دون العاشرة، وأبوه أبو طالب لم يسلم ورفض، وأسلمت خديجة زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم، وزيد بن حارثة، شيخٌ وصبيٌ ومولى وامرأة.
كان صلى الله عليه وسلم يأتي في غرفة صغيرة، فيقرأ عليهم، فإذا رفع صوته قليلاً بكى أبو بكر حتى يسمع بكاؤه من وراء الحائط؛ لأن هذا القرآن شيء مذهل، وخاصة أنهم يفهمون القرآن، فالعرب ليسوا مثلنا، أمزجتنا نحن قد فسدت لا نفهم القرآن، لكن تصور إذا قرأ صلى الله عليه وسلم القرآن: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:1 - 3] كان أبو بكر يغلبه البكاء، فكان إذا رفع صلى الله عليه وسلم صوته، أتى كفار قريش فاستمعوا من وراء الحائط وآذوه، وإذا خفض صوته ما سمع منه أبو بكر ولا المصلون وراءه، فقال سبحانه: {ولا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110].
قال: لا تجهر؛ فيؤذيك الناس، ولا تخافت بصوتك؛ فلا يسمع منك أصحابك، ولتكن قراءتك وسطاً حتى يسمعك أصحابك، واستمر صلى الله عليه وسلم يدعو، فدعا بلالاً إلى الله عز وجل فاستجاب له، حتى يقول هرقل عظيم الروم، وهو يسأل أبا سفيان وكان في تجارة بعد أن التقى به، قال: أأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟
الذي يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم هم السادة أم الضعفاء؟
قال: بل ضعفاء الناس، قال: هم أتباع الرسل، والله عز وجل يقول: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16].
وهذه من سنن الله في الكون إلا ما ندر، تجد المترفين أبعد الناس عن وعي الكتاب والسنة، حتى تجد قلب أحدهم مثل الحجر، لا يستمع إلى كتاب ولا سنة، وقد يمر به الوقت وهو لا يسمع إلا خطبة الجمعة، وتجده في آخر الصفوف لا يستمع إلى درس، ولا محاضرة، ولا يتدبر القرآن، ولا يعيش سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما وقته في مسلسل، أو أغنية، أو تمثيلية، أو لعب بلوت، أو سكار، أو كمنجة، أو ما يطلبه المستمعون، فتجد أن قلبه كالحجر تماماً.
فالله عز وجل ذكر هذه القاعدة، قال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] ولذلك تجد أن عامة الناس وفقراءهم ومساكينهم هم الذين يملئون الجنة؛ لأن الجنة كما وصفها الله، يقول: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:1 - 3].
قال أهل العلم: تخفض أناساً كانوا مرفوعين في الدنيا، أي: أن الدنيا كانت تشير إليهم، لا يأتي لهم ثمن، وترفع أناساً كانوا مخفوضين في الدنيا في الغرف العالية، نسأل الله من فضله.
فتجد أن مساكين الناس هم أكثر الناس قرباً من الله، وحرصاً على الدروس، واحتفاءً بالدعاة، وأكثر الناس احتراماً لطلبة العلم، ولصوقاً بالعلماء، وأكثر الناس مسألة عن أمور الدين، وأكثر الناس حباً لرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم ترك أبا جهل وأبا لهب والوليد بن المغيرة، ولو أنه كان يحاول أن يكون بينه وبينهم خيط ممدود أو يصل الحوار معهم، لكن كانوا متكبرين متجبرين ولم يكونوا يتكلمون معه، ولا يسلمون عليه، ولا يردون التحية، ويرسلون له الصبيان يضربونه ويرمونه بالحجارة، بل كان أبو لهب -عمه- يأخذ التراب، ويحثو به على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: احذروا -أيها العرب- هذا الساحر! احذروا هذا الكاهن! احذروا هذا الشاعر!
كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينزل إلى الحرم في السحر، فكان أبو لهب يرسل امرأته أم جميل فتأتي بالشوك فتضعه في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا خرج صلى الله عليه وسلم أصابه الشوك، ومسح الدم من قدميه، وهو يقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.
لقد وجد من الإساءات واللدغات، ومن الأسى واللوعة ما لم يجده أحد، ومع ذلك يقول:: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} فينزل ملك الجبال، فيقول: يا رسول الله! ائذن لي أن أطبق عليهم الأخشبين، إنما هم جثث وطواغيت، لا يساوي الإنسان منهم شيئاً، وفي علم الله يفنيهم بكلمة (كن) فيقول صلى الله عليه وسلم: {لا، إني أرجو من الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا} وفي الأخير يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أبي لهب وَتَبّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5] قالوا: من نار تتلظى جزاء ما فعلت.
واستمر عليه الصلاة والسلام يدعو فاستجاب له الفقراء، فوجدوا من النكال ما لا يعلمه إلى الله، انظر إلى الموالي الآن، دعوته عليه الصلاة والسلام تحرر الإنسان، فالذي يريد الكرامة ينتهج دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يلغي العبودية للبشر، أن يأتي بشر مثلك يتسلط عليك، أو تعبده من دون الله، أو تستخذي له، هذا مرفوض في الإسلام، لا.
إنما هو الحوار، أن تكون رجلاً وهو رجل، أن تكون محترماً، بأن تكون لك كرامة وإنسانية، هذا ما يريده الرسول صلى الله عليه وسلم.
فلما سمع الموالي بدعوته صلى الله عليه وسلم، دخلوا في دين الله، أتى آل ياسر وهم أسرة موالي، منهم عمار بن ياسر؛ فدخلوا في دين الله، فأخذهم أبو جهل وعذبهم، فقال صلى الله عليه وسلم وهو يمر بهم: {صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة} ومر صلى الله عليه وسلم على بلال وهو يسحب في رمضاء مكة، في شدة الحرارة وقت الظهيرة على الصخور السود، ويسحب على ظهره وبطنه، فيقول: أحدٌ أحد، أحدٌ أحد، يقولها بلال، حتى انتصر بإذن الله، هذه كلها من أوائل العقبات التي واجهها صلى الله عليه وسلم وهو في مكة.
ولكن أعظم شيء في دعوته صلى الله عليه وسلم، ومما حبب الناس إلى دعوته، أنها تجعل للإنسان احتراماً وقيمة؛ لأن بلالاً كان كالحيوان عند قريش لم يكن له احترام، كان مولى أسود، يقولون: ليس له حق في التعايش ولا تسمع كلمته، ولا يقبل رأيه، فرفض صلى الله عليه وسلم هذا كله.
وقد وجد ذلك أيام الخلافة الراشدة، فهذا عمر بن الخطاب يقوم يوم الجمعة، فيقول: [[أيها الناس! ما رأيكم لو قلت عن الطريق هكذا]] أي: ملت، فيقوم أعرابي من آخر المسجد بدوي، فيسل سيفه، فيقول: [[والله الذي لا إله إلا هو يا أمير المؤمنين لو رأيناك قلت عن الطريق هكذا، لقلنا بالسيوف هكذا]] ماذا يفعل عمر؟ تدمع عيناه! ويقول: [[الحمد الله الذي جعل في رعيتي من لو قلت عن الطريق هكذا، لقال بالسيف هكذا]] فالرسول عليه الصلاة والسلام أتى بهذا المنهج، وهو تقدير الرأي واحترام الإنسان؛ فدخل الناس في دين الله عز وجل زرافات ووحدانا.
كان أبي بن خلف مجرماً من العتاة الكبار وهو من سادات مكة، نزل والرسول عليه الصلاة والسلام يطوف، فجمع كفار قريش فاجتمعوا عليه، فبصق أُبي -عليه لعنة الله- في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذها صلى الله عليه وسلم وأسرها في نفسه، ثم وقف عند المقام فدعا عليهم.
فأما السبعون الذين دعا عليهم فقتلوا جميعاً في بدر، يقول أحدهم بعدما أسلم: والله ما زلت أعلم أنهم سوف تصيبهم قارعة بعد أن دعا عليهم صلى الله عليه وسلم عند المقام، السبعون جميعاً ذبحوا على الكفر في بدر، هذه شلة أبي جهل، وأما أُبيّ بن خلف فإن الله أراد أن يخزيه، ولم يقتل في بدر فر وشرد ببغلته في أول المعركة فتوعده عليه الصلاة والسلام، فذهب إلى مكة فقال: أين أقاربي؟ فقالوا: قتلوا جميعاً في بدر، فأخذ يعلف فرسه، يأخذ صاع البر ويعطي فرسه، ويقول: كُلْ سوف أقتل عليك محمداً، ويأخذ السيف ويملؤه سماً شهراً كاملاً حتى أصبحت سلة السيف زرقاء من السم.
فوصل الخبر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسول الله! يقول أبي بن خلف سوف يقتلك، قال: أنا أقتله إن شاء الله، يقول المتنبي:
وما كنت قرناً غالباً لقرينه ولكنه التوحيد للشرك هازم
حضر أبي بن خلف معركة أحد، فقال لكفار قريش: ما رأيكم أن تعفوني من المعركة وأنا أقتل لكم محمداً، قالوا: ما دام أنك تقتله فلا تقاتل معنا، فترك المعركة، وجلس في وادٍ وحده، فلما انتهت المعركة، انتهت بقتل سبعين من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرماة خالفوا أمره، وانتهت وقد كسرت رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم هذه، ودخل المغفر في رأسه؛ لأنه لم يكن يفر في المعركة، كان هو في الصف الأول دائماً، وانتهت والدم يغشى وجهه الشريف عليه الصلاة والسلام وبه من التعب والإعياء ما الله به عليم، ثم مر ووجد حمزة مقتولاً، وقد بقرت بطنه، فغضب وتغير عليه الصلاة والسلام، وقال: {والذي نفسي بيده، لئن ظفرت بهم لأمثلن منهم بسبعين} فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] فتأثر صلى الله عليه وسلم، وفي تلك اللحظة يقول للصحابة صلى الله عليه وسلم: {صفوا ورائي لأثني على ربي}.
يقول أحد المفكرين: لله درك! في هذه الضربات الأليمة التي وصلتك في عرضك وجسمك وأصحابك وقرابتك، ومع ذلك تقول: أثني على الله، ثم صلى بهم العصر، فلما سلم وإذا بـ أُبي بن خلف ذلك المجرم يقبل على فرس، يقول بعض الرواة: كأن الجبل أقبل معه، الفرس قوي والرجل شجاع، وأقبل ومعه سيف وقد تغطى بدرع كله من تحت الثوب، حتى لم يترك إلا مقدار الدرهم في نحره، فأقبل ومعه السيف يريد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقام الأنصار بالسيوف يريدون أن يتناولونه، قال صلى الله عليه وسلم: دعوه، عليَّ بحربة، فأعطوه حربة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: بسم الله، والله يقول: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
يقول: أنت لم تسدد الرمية إنما أنت أطلقتها، لكن الله رمى.
رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يصب
قال: باسم الله، قال: فأرسلها فتركت كل جسمه، ودخلت في هذا المكان، فوقع رأس الحربة في نحره، فرجع هو على فرسه إلى كفار قريش: قالوا: مالك؟ قال: قتلني محمد، قالوا: ما قتلك إنما هي قطرة دم في نحرك، قال: دعوني، ثم أقسم بالله لو أن ما بي هذه الطعنة بأهل سوق ذي المجاز لماتوا عن بكرة أبيهم، يقول: لو أن هذه الطعنة أصابت العرب في سوق ذي المجاز، لماتوا فأقبلوا يدفئونه بالنار فأخذ يخور كالثور ثم مات مع الغروب، وصدق صلى الله عليه وسلم حين قال: {أقتله إن شاء الله}.
وخرج أبو بكر وإذا الرسول صلى الله عليه وسلم قد اجتمع عليه كفار قريش عند الحجر الأسود، يقولون: لا تطف، ويقول: بل أطوف، انظر هذه الشراسة، قبيلة تتحدى الرسول صلى الله عليه وسلم في شخصه، حتى يبكي ويشكو إلى الله، يقول: {إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي سخطك، أو يحل عليّ غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك} فينجده الله عز وجل.
يأتي أبو بكر والناس قد تواطئوا عند الحجر يريدون ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: [[أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟]] فمالوا على أبي بكر فضربوه حتى أغمي عليه، فلما رفعوه وأفاق، قال: كيف حال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بخير، قال: لا أهدأ ولا أرتاح حتى أراه، فأتوا بالرسول صلى الله عليه وسلم فدخل على أبي بكر الصديق، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33].
من الذي جاء بالصدق؟
محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن الذي صدق به؟
أبو بكر، وما اسم أبي بكر؟
اسمه الصديق، وهذا المسجد اسمه مسجد أبي بكر الصديق، وهو واحد من آلاف المساجد في العالم الإسلامي في الكرة الأرضية باسم هذا الرجل الذي تولى الخلافة رضي الله عنه وأرضاه وتركها، لكن ما تركها عفوياً، لما أتته الوفاة، قال: [[والله ما أخذت من مال المسلمين قليلاً ولا كثيراً، إذا حضرت الوفاة فخذوا هذين الثوبين وهذه البغلة، واذهبوا بها إلى عمر وقولوا: هذا الذي بقي من مال المسلمين، واتقِ الله يا عمر، لا يصرعنك الله مصرعاً كمصرعي]].
ووصلت هذه الرسالة إلى عمر فبكى حتى جلس، وقال: [[أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر]].
هذا طراز أبي بكر وعمر، نحن قدمنا للعالم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وأحمد ومالك وابن تيمية وابن القيم؛ فدخلوا في دين الله أفواجاً، فلما قدمنا لهم الحجاج وأبا مسلم الخراساني والحاكم بأمر الله الفاطمي والخميني وصدام حسين رفضوا الإسلام؛ لأنهم يظنون أن هؤلاء يمثلون الإسلام في هذه الفترة، فعلينا أن نعود أصلاً إلى رسالته صلى الله عليه وسلم، وإلى سيرته العطرة.
واستمر صلى الله عليه وسلم يدعو، وقام كثيرٌ من بيوت قريش، فما من بيت إلا ودخله الإسلام، ومنهم الشباب سعد بن أبي وقاص، خال الرسول عليه الصلاة والسلام، سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما أراد عمر أن يفتح إمبراطورية كسرى، وأن يدمرها ويسحقها على رأس هذا المجرم كسرى أنوشروان.
لقد حكم هو وأسرته ألف سنة، أراد عمر أن يفسد هذه الإمبراطورية ويخزيها ويسحقها، ماذا فعل؟ قال: أريد قائداً، وجهز عمر جيشاً، فبات الصحابة في الليل يريدون أن يختاروا قائداً، وفي الصباح رشَّح عمر نفسه، قال: أنا قائد الجيش، قال: علي بن أبي طالب: لا يا أمير المؤمنين، لا أرى أن تذهب أنت، أرى أن تبقى في عاصمة الإسلام، قال للصحابة: ما رأيكم؟
قالوا: صدق علي، قال: التمسوا لي رجلاً يقود الجيش، قالوا: دعنا يا أمير المؤمنين نفكر، فدخلوا في الخيام والبيوت يفكرون وقليلاً وإذا عبد الرحمن بن عوف يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، وجدت الأسد في براثنه، قال عمر: من هو؟ قال: سعد بن أبي وقاص، قال: صدقت، فولاَّه.
هذا سعد رضي الله عنه، الذي قاد المعركة الفاصلة قادسية الإسلام، ليست قادسية صدام الكذب والخيانة، وقلة الأمانة، وقلة الحياء والفشل والخزي والعار إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
هذا سعد بن أبي وقاص الذي رفعنا، ونحن الآن بدون سعد وعمر وأبي بكر، وبدون صلاح الدين لا نساوي صفراً، لأننا عندما تركنا مسيرة سعد وصلاح الدين ونور الدين وأمثالهم قتلتنا جولد مائير وأخزت جيوشنا وطردت شبابنا، وضربت مطاراتنا، وهي عجوز في السبعين من عمرها، فنحن في التراب حتى نعود إلى صلاح الدين ونور الدين وعمر وعمر بن عبد العزيز.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
أما العروبة، والمظلة العربية، والأخوة العربية، والدم العربي:
وحدويون والبلاد شظايا كل جزء من جسمها أجزاء
ناصريون نصرهم أين ولَّى حين داست على الجباه اليهود
هذه هي الناصرية، وهذه هي العروبة والقومية، قومية أيلول، وقومية الكويت، وقومية حماه، وقومية بعاث وداحس والغبراء.
سعد بن أبي وقاص أسلم وهو شاب، فقالت أمه: لماذا تسلم؟
صبأت عن دينك ودين آبائك وأجدادك، وهكذا يطارد الإنسان المهتدي، الآن بعض الشباب إذا اهتدى وكان في بيته طاغوتاً، أي: أب منحرف أو أم منحرفة، تقول: أصبحت مطوعاً، لماذا تقصر الثوب واللحية؟ تتبع من؟ أتيت لنا بدين جديد، نشأنا أنا وأبوك وجدك نستمع الغناء والحمد لله ليس بحرام -تفتيه- والمسلسل، ونصلي ونصوم ونعبد الله، ونختلط مع الرجال وليس في قلوبنا شيء، والحجاب هذا بدعة، وشددت علينا بهذا الدين، وهذا ما واجهه سعد بن أبي وقاص، كما يواجهه البشر دائماً، يقول: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23].
فقالت أمه: والله لا آكل ولا أشرب حتى تعود عن دينك؟ قال: يا أماه! ديني حق، وأخبرها، قالت: والله لا آكل ولا أشرب حتى تعود عن دينك، قال: يا أماه! قالت: نعم.
قال: [[والذي لا إله إلا هو، لو كان لك ألف نفس، فخرجت نفساً نفساً ما عدت عن ديني]] فلما قال ذلك، أنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإنسانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:8].
وأنا أنبه الشاب والأخوة جميعاً، أن بعض الأخوة يتصور مسألة أنه إذا وجد أباه عاصياً أو أمه عاصية، يرى أنه لا يجوز له أن يطيعهما، أو أن يواليهما أو ينفق عليهما أو أن يزورهما، وهذا خطأ، الأب ولو كان مشركاً، ولو كان طاغوتاً، ولو كان على مذهب ماركس، فعليك أن تزروه، وأن تنفق عليه، وأن تصاحبه بالمعروف، لكن لا تحبه ولا تواله، وبعض الناس تجده يعصي أباه، وإذا قلت له: لماذا تعصي أباك؟
قال: لا يصلي في المسجد، فنقول له: لا يعفيك هذا في الإسلام، يقول سبحانه تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فمعروف الوالدين لا بد ولو كانا كافرين.(184/30)
عقيدة الولاء والبراء عند الصحابة
هاجرت امرأة إلى المدينة تزور بنتها أسماء بنت أبي بكر، فأتت فنزلت -انظر مسألة الولاء والبراء عند الصحابة، دين فصل الوالد عن أبيه، دين جعل الإنسان قبل أن يعانق أباه يذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: أتأذن لي أن أسلم على أبي؟ أتأذن لي أن أصاحب أبي؟ أتأذن لي يا رسول الله أن أضيف أمي؟
فأتت فنزلت عند بنتها وهي امرأة مشركة، وبنتها أسماء بنت أبي بكر مسلمة مؤمنة، فنزلت فأقسمت ألا تُدخلها من الباب، حتى تستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا من يخبر صلى الله عليه وسلم أنها استقبلتها أو ضيفتها أو أهدتها، لكن الإيمان القوي العميق، قالت: اجلسي عند الباب حتى أستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن أذن لك أدخلتك وضيفتك، وإن لم يأذن فو الله لا تدخلين الباب، فذهبت؛ فاستأذنت الرسول صلى الله عليه وسلم، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: {نعم! صلي أمك} والحديث أصله في صحيح البخاري.
ويأتي أبو سفيان وهو يحارب الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل فجأة في المدينة، يريد أن يسلم على بنته زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان صهره، فأتى إلى رملة أم حبيبة في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم في غرفة، فدخل عليها، فلما دخل أراد أن يجلس على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم فطوت عنه الفراش، قال: لمه؟ وهو أبوها، قالت: أنت مشرك نجس، والرسول صلى الله عليه وسلم نبي طاهر، هذه لا إله إلا الله التي فصلت هذا عن هذا.
وهذا أبو عبيدة من العشرة المبشرين بالجنة، يقول عمر: [[تمنوا أيها الناس]] فتمنى كل إنسان، قال عمر: [[أما أنا فأتمنى من الله لو أن لي ملء هذا البيت رجالاً من أمثال أبي عبيدة]] وهو قائد الجيوش في الشام، الذي فتح الشام، أبو عبيدة يلتقي في بدر مع أبيه وهو مشرك، فيميل عنه أبو عبيدة لا يريد أن يقاتله، ثم في المرة الثانية يميل عنه، ثم في الثالثة يأخذه أبو عبيدة فيضرب رأسه فإذا رأسه في أرض وجثته في أرض، فيمدحه الله من فوق سبع سماوات: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} [المجادلة:22].
هذا هو الدين الذي يفصل بين الوالد وولده، ورسالته عليه الصلاة والسلام اسمها: رسالة المفاصلة بين معسكر الكفر ومعسكر الإيمان.(184/31)