الذباب إذا وقع في الطعام
المسألة الثالثة عشرة: الذباب إذا وقع على الطعام: يأنف كثير من الناس وخاصة من المتكبرين أو من أهل النعم الوفيرة أن يأكلوا طعاماً أو يشربوا شراباً وقع فيه ذباب، حتى يقول شاعرهم:
إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كن الكلاب ولغن فيه
فيقول: أنا ما آكل طعاماً ولا أشرب شراباً وقع الذباب فيه، أما الإسلام فيقول: لا؛ كيف تهدر النعم التي أنعم بها الله تعالى عليك، والله عز وجل إنما أعطاك هذه النعم رزقاً لك، لتستعين بها على طاعته، ولتقدر بها هذه النعمة، فكلما رأيت شراباً سفكته، من لبن، أو سمن، أو عسل؛ لأن فيه ذباباً، ليس هذا منطق لا عند العقلاء ولا عند العلماء.
فالرسول عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري، وفي سنن أبي داود، قال: {إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه، ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء}.
يقول الأستاذ عبد المجيد الزنداني وهو يتكلم عن هذه المسألة، وقد سمعه كثير منكم إن هذا الداء والدواء سرٌ اكتشفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تحدث به، وهو من الأسرار العجيبة في هذا الدين، وتكفي في هذه النظرية لأهل الطب الكافر الملحد أن يؤمنوا ويدخلوا في دين الله أفواجاً، واكتشفوا هذه النظرية بعد خمسة عشر قرناً، ووجدوا أن الداء هو الذي يقع من الذباب سابقاً في الطعام أو في الشراب، فالدواء هذا يطفئ الداء الذي فيه -والحديث صحيح بلا شك- سواء في لبن أو سمن أو عسل أو في غيره، ويصدق العبد بهذا، ويمتثل أمر الله عز وجل.(141/20)
الطعام عند حضور الصلاة
المسألة الرابعة عشرة: الطعام عند حضور الصلاة: ما هو الحل إذا حضرت الصلاة وحضر الطعام؟
من السنة إذا أَذَّن المؤذن أن ينتظر قليلاً، ليفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمتوضئ من مدخله، لا يؤذن ثم يقيم مباشرة، لكن يؤذن ثم يقف لحظات حتى يأتي المسلمون، الدليل على ذلك حديث جابر عند الترمذي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ بلال: {إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر، واجعل بين أذانك وإقامتك بمقدار ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والداخل من دخوله} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، هذا الحديث رواه الترمذي وفي سنده عبد المنعم بن نعيم البصري وهو متروك، فضعف به الحديث.
وأما إذا حضرت الصلاة فابدأ بالطعام قبل الصلاة، بشرط ألا يكون هذا من الحيل المذمومة، يجعل الإنسان قدره في وقت الأذان، فإذا سمع الله أكبر، أنزل القدر وحول، وقال: الله المستعان حبسنا عن الصلاة التي تعادل أجر الجماعة سبعاً وعشرين مرة، لكن الطعام حضر، والله يعلم السر وأخفى، يعلم أنه وقَّت ليكون حاجباً له عن الصلاة، هذا لا يجوز وهذه حيلٌ باطلة وتلاعب: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].
لكن إذا حضر في بعض الأوقات فلقول أنس: [[إذا قدم الطعام فابدءوا به قبل أن تصلوا المغرب]] هذه رواية الصحيح؛ لأن الصحابة أو كثيرٌ منهم كانوا يأكلون قبل صلاة المغرب.
وهناك أمور في الدرس كقصص سليمان وعمرو بن معدي كرب، أقول: هذه ليست في صحيح البخاري وليست في صحيح مسلم، وليست من كلام الله عز وجل، ولا من كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والعهدة على أصحابها كـ ابن كثير وابن عبد ربه وابن قتيبة كما أوردوها، وهذا ليس فيه حلال ولا حرام، ولا عقائد ولا شرائع، وإنما تورد كما أوردها أهل العلم استئناساً، وقد أورد ابن الجوزي كثيراً منها، كما في الحمقى والمغفلين، وأورد ابن قتيبة أكثر من هذه -لكن أعرضت عنها- في عيون الأخبار وابن كثير في البداية والنهاية، ومن قرأ عرف هذه، لكن هذه تسمى عند أهل العلم من السير ومن اللطائف والأخبار التي هي كزهر الربيع تشم ولا تعك؛ لأنه لا ينبني عليها شيء.
ونحن لو ذهبنا نتقصى بعد كل قصة وردت، ووراء كل حدث وقع في الدنيا لما بقيت لنا ولا قصة واحدة، كمعركة بدر الآن، عدد المقاتلين، وعدد الحضور، والقتلى، وهيئة المعركة ليست في البخاري ولا في مسلم، لكن في السير لابن إسحاق وابن هشام وغيره، فلو ذهبنا نضعف كل رواية لما طلع لنا إلا ما يقارب عشرة أحاديث فما تصورنا المعركة تصوراً تاماً.
والإمام أحمد يقول: ثلاثة علوم لا أساس لها، المغازي والفتن والملاحم، وقيل: التفسير بدل الملاحم؛ لأنها المغازي.
والأخ الثاني يقول: إنني ذكرت أنه يتوضأ من لحم الإبل، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكرت أنا أنه أتى من بني سلمة وهو يلوك لحم جمل ثم دخل في الصلاة؟ أقول: أما الحديث فلا بد أن يُتأكد منه، وأنا مر بي ومر بكثير من الإخوة وهو في السنن، وإما أن يكون في سنده شيء، وإما أن يكون نسخ ترك الوضوء منها، وأمر صلى الله عليه وسلم بالوضوء من لحمها عليه الصلاة والسلام.(141/21)
حمد الله عز وجل بعد الطعام والشراب
بقى بعض المسائل: منها حمد الله عز وجل عقب الطعام والشراب: صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أنس أنه قال: {إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها} يرضى عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقيل: يغفر له، ويكفي أنه يرضى عنه، فإذا أكل المسلم أو شرب فليقل الحمد لله رب العالمين، وليحمد الله عز وجل {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] ولفظ الحمد، يقول كما في أبي داود والترمذي بسند حسن: {الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين} وهناك رواية في البخاري: {الحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغن عنه هو ربنا} رواه البخاري وأبو داود والترمذي، إذا علم هذا فاحفظ أي حديث من هذه الأحاديث، ولكن المهم أن تحمد الله عز وجل دائماً، ليوزعك الله شكر نعمته، ويجعلك ممن يستغلون النعم في مرضاته تبارك وتعالى، وليوفقك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى القيام بشكرها وأدائها.(141/22)
فضل إطعام الطعام
المسألة السادسة وقد مرت: فضل إطعام الطعام: والإطعام لوجه الله عز وجل، لا يكون رياءً ولا سمعة، لأن أكثر إطعام الناس إلا من رحم الله رئاء الناس، والصيت والذكر في الدنيا، وأول ما تسعر النار يوم القيامة بثلاثة، منهم: المطعم الجواد الكريم في الدنيا، الذي أطعم ليقال كريم، وقد قيل، فيأخذونه فيجرونه على وجهه في النار.
وأكرم العرب حاتم الطائي ما نفعه ذلك عند الله شيئاً؛ لأنه طلب الذكر والصيت في الدنيا، فأفلس وهو من أهل النار نعوذ بالله من النار، قال عدي بن حاتم: {يا رسول الله! إن أبي كان يحمل الكَلَّ، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، فهل ينفعه ذلك عند الله؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: إن أباك طلب شيئاً فأصابه} أي: طلب الذكر في الدنيا فأصاب الذكر، ولذلك يذكر وهو جاهلي حتى اليوم، فلا له إلا الذكر والسمعة والصيت، وأما الأجر والمثوبة فليس له شيء.
وعبد الله بن جدعان كان في الجاهلية من أهل مكة يقري الضيوف، وما يأتي حاج إلا ويزوده إلى أهله، ويسمى زاد الراكب، فلما توفي قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: {يا رسول الله! إن ابن جدعان كان يقري الضيوف، فهل ينفعه ذلك عند الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: لا.
إن ابن جدعان ما قال مرة من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين} فهذا لا ينفعه أبداً؛ لأنه قصد الرياء والسمعة.(141/23)
الأسئلة(141/24)
توجيه الذبيحة إلى القبلة
السؤال
هل من السنة إذا أراد الإنسان أن يذبح الذبيحة لا بد أن يتجه بها نحو القبلة؟
الجواب
الذي أعرفه أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما في الترمذي: {البيت قبلتكم أحياءً وأمواتاً} وإنه إذا كان الذبح لله عز وجل فإنه يستقبل به بيته، لكن لا يحضرني الحديث ولا الدليل في هذا، ولا بد من البحث.(141/25)
البدء باليمين في المجلس
السؤال
ما هي السنة في هذه المسألة، أن يقدم الشراب إلى الضيف ثم يدفعه إلى من هو عن يمينه، لحديث أنه أُتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب فشرب ثم دفعه إلى أعرابي عن يمينه، والذي كان عن يساره هو أبو بكر، فهل من السنة أن يبتدئ بمن هو عن يمين المجلس؟
الجواب
هذه مسألة كثيرة الوقوع في الناس، وهي هل السنة أن إذا دخلت تقدم مثلاً الطعام أو الشراب مثلاً أو شيئاً من الشاي أو القهوة أو الطيب أن تبدأ باليمين أو تبدأ بأكبر أهل المجلس، ثم يكون الناس عن يمينه هم اليمين، السنة في هذا كما دلت عليها الأحاديث، أن تبدأ بيمين المجلس الذي هو كبير المجلس، إما أن يكون كبيراً في السن، أو رجلاً له جلالة في الإسلام، أو سلطاناً أو رجلاً وجيهاً أو شيخاً كبيراً أو طالب علم فتبدأ به، ثم تبدأ من عن يمينه، أما أن تأتي دائماً بميمنة المجلس، وتقول: التيامن، فما تبدأ وتصل شيوخ الناس حتى تنتهي من أطفال الحارة، وقد أعطيتهم القهوة والشاهي، هذا ليس من السنة.
بل كان الرسول عليه الصلاة والسلام جالساً في وسط الصحابة، فأتي له بلبن وبشراب -هنا قصتان- فأعطوه صلى الله عليه وسلم وهو وسطهم، ولو كان عليه الصلاة والسلام في عهده يعطى الميمنة لأعطوا أبا بكر؛ لأنه عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن بدءوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر عن يساره، والأعرابي عن يمينه، فلما شرب صلى الله عليه وسلم سلمه الأعرابي؛ لأن السنة ميمنة الرجل الضيف، فقال عليه الصلاة والسلام: {الشربة لك، فهل تأذن لـ أبي بكر} من أجل جلالة أبي بكر في الإسلام، قال: لا والله، فأخذها.
وأما حديث أنس فإنه يقول: {قدم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبن، وكان عن يساره الأشياخ -أي: أبو بكر وعمر والأشياخ أشياخ الإسلام من المهاجرين والأنصار- وعن يمينه غلام -قيل: هو ابن عباس، وهذا الظاهر- فشرب عليه الصلاة والسلام، ثم قال لـ ابن عباس: الشربة لك فهل تأذن للأشياخ، قال: والله لا أوثر بسؤري منك أحداً- يقول: لا أوثر بفضلتك التي دفعت إلى بما فيها من البركة أحداً من الناس فدفعه صلى الله عليه وسلم إليه}
إذاً يبدأ بوسط المجلس أو بالمكان الذي فيه الصدر.
دخل بعض الناس من الوجهاء والنبلاء، في القرن الثاني اسمه حجاج بن أرطأة فجلس عند الأحذية، فقالوا: تقدم في وسط المجلس، قال: أنا صدر أينما جلست، قيل: هذا من العجب، ولذلك كانوا يبدءون به، فالمقصود أن أكبر من جلس في المجلس يبدأ به، لا أكبرهم سناً لكن قدراً، كالسلطان وغيره الذين ذكرنا، هذه السنة في هذا إن شاء الله.
وفي الختام نتوجه إلى الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه، وألا يجعل في أعمالنا رياءً ولا سمعة، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(141/26)
فن تأليف الأرواح
كتب الله على ابن آدم أنه خطاء، ولذلك فالإنسان لا يخلو من العيوب والذنوب، لكن المصيبة هي الإصرار على الخطأ، فعلى الإنسان إذا أخطأ أن يتدارك خطأه بالتوبة والعودة.
وعلى الداعية أن يكون حليماً يتسع صدره للناس ولا يضيق بكلامهم، وفي السلف الصالح نماذج ممن أسيء إليه فلم يغضب، بل وقابل الإساءة بالإحسان.(142/1)
كلمة للشيخ عبد الله بن حميد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
إخوتي في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أشكر لأصحاب الفضيلة وإخوتي الأساتذة وأحبابي الحضور حضورهم ومشاركتهم، وهذا الدرس بعنوان: (فن تأليف الأرواح).
وفن تأليف الأرواح نأخذه من محمد صلى الله عليه وسلم، بسندٍ صحيح من ميراثه، نتذاكره هذه الليلة ونتعلمه ونتربى عليه، في ليلة 22/ 10/1412هـ مساء السبت بجامع أبي بكر الصديق بـ أبها.
اللهم ألف الشتات، وأحي القلوب الموات.
اللهم اجمع الكلمة، ووحد الصف وبارك في المسيرة، وانفع بالأسباب.
اللهم لُم شعثنا، وارحم غربتنا، وفك كربتنا، وحقق على الحق وحدتنا، وأظهر على الباطل قوتنا.
اللهم صل حبالنا بحبلك، وسد حاجتنا من فضلك، اللهم اعصمنا من الزلل، وأنقذنا من الخطل، واحرسنا من الحادث الجلل، اللهم ثبت منا الأقدام، وسدد منا السهام، وارفع منا الأعلام، وانصر بنا الإسلام.
اللهم نجنا من الكوارث واحمنا من الحوادث، وأصلح النيات والبواعث.
اللهم انزع من قلوبنا الغل على الإخوان، والضغينة على الجيران، والحسد للأقران.
اللهم اغسل قلوبنا بماء اليقين، واسق أرواحنا من كوثر الدين، وأثلج صدورنا بسكينة المؤمنين.
اللهم سلمنا وسلم منا، وعافنا واعف عنا.
يا لطيف! نسألك اللطف والتخفيف، والمنزل الشريف، والعطاء المنيف، والقلب العفيف.
وقفنا ببابك هذا المساء ولسنا من الذنب بالأبرياء
وقفنا ببابك يا من له تسيل الدموع ويهفو الدعاء
فيا ربِّ هيئ لنا منة من الغيث ما يحتوي كل داء
أيها الإخوة! قبل أن أشرع بعونٍ من الله أقف وإياكم مع ضيفٍ كريم أمنا في هذا المسجد المبارك وهو الشيخ الداعية عبد الله بن محمد بن حميد الزميل والأخ الوفي، لنقف معه وقفة ثم نواصل معكم المحاضرة فليتفضل.
الحمد لله القائل: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:110] الحمد لله على ما قضى وقدر، ونعوذ بالله السميع العليم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على رسول الله القائل: {ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه} صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله! أنا أعلم أنني متطفل على هذا المكان الذي لا يستحقه إلا شيخنا الداعية فضيلة الشيخ/ عائض بن عبد الله القرني، الذي كلنا شوقٌ إلى سماع توجيهاته الكريمة، وكلماته المحببة إلى النفوس، ولكن أشكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أولاً على أن هيأ لي هذه الفرصة الطيبة المباركة، التي انتهز فيها لحظات يسيرة أرجو منكم أن تتحملوني فيها، ثم أشكر شيخي وأخي وزميلي الشيخ/ عائض إمام هذا المسجد حفظه الله على إتاحته لي هذه الفرصة الثمينة، التي كان لابد لي من الوقوف فيها والجلوس أمامكم إثر ما حصل من اختلاف في وجهات النظر بيني وبين شيخي، كان لابد من الجلوس أمامكم حتى تزول الشكوك التي ساورت بعض النفوس ولها الحق في ذلك، وليعلم من يستمع إلى كلامي بأنه مهما حصل من اختلاف في وجهات النظر بين الأحبة والإخوان فإن ذلك لا يفسد للود قضية، فنحن والله الذي لا إله إلا هو إخوة متحابون في الله عز وجل، تجمعنا رابطة الإيمان والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] ولكن الواحد منا لضعفه البشري يعتريه ما يعتري البشر من الضعف والوسوسة والنزغات، وقد تغلبه العاطفة أو يجمح به الهوى أو تغلبه حظوظ النفس، فيحكم على قضية من القضايا دون استشارة ولا استخارة ولا روية، ثم بعد ذلك يتندم حيث لا ينفع الندم.
ولعل ما حصل وما سمعتموه وقرأتموه من خلافٍ بيني وبين شيخي قد أثار استغرابكم وأعقب حزازة في نفوسكم، ولكن لا أقول إلا أن ذلك جرى بقضاء الله تعالى ومشيئته: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الإنسان:30] فما كان ينبغي أن يحصل ما حصل ولكنها المشيئة الربانية، ولعل في ذلك خيراً لي وله ولكم حتى نتجنب الاستعجال وما لا ينبغي أن يقال نتجنب العبارات التي لا تستساغ عند العقلاء، وخشية من كثرة البلبلة وانتشار الشائعات وبمثل ما انتشرت به قالة السوء بين الناس، وهذا في الواقع ليس في مصلحة الدعوة إلى الله عز وجل، فأبشركم وأطمئنكم وما وقفت في هذا المكان إلا بعد أن اعتذرت إلى شيخي حفظه الله، وذهبت إليه في بيته واعتذرت منه فقبل العذر جزاه الله خيراً، وهكذا دأب علمائنا ومشايخنا حفظهم الله.
فلقد اعتذرت إليه فعذرني وأكرمني بالصفح وقابلني بالحب، وهذا دأبه حفظه الله ووفقه وثبته على الحق، فإن الذهب الخالص لا تزيده النار إلا جودة ولمعاناً وبريقاً، وهو يعلم إجلالي وحبي له في الله عز وجل وأنتم كذلك، وأعلم أنه لا يحب الثناء والمدح، ولكن الحقيقة تفرض نفسها فما عرفته إلا شيخاً جليلاً وداعيةً إلى الله عز وجل مؤثراً بحديثه أيما تأثير
وما حسنٌ أن يمدح المرء نفسه ولكن أخلاقاً تذم وتمدح
وما عرفت عنه إلا الحلم والعلم الجم والتواضع وحسن الخلق وكرم النفس وصفاء السريرة وطيبة القلب، والعفو عن الإساءة.
فيا رب هب لي منك حلماً فإنني أرى الحلم لم يندم عليه حليم
وقد قيل: من اعتذر إليه أخوه المسلم فليقبل عذره ما لم يعلم كذبه، وأنا أشهد هذا الجمع المبارك وأنا صادق فيما أقول أنني قد اعتذرت لشيخي حفظه الله فقبل العذر وعاد الصفاء والوئام بيننا ولله الحمد، وما مثله في الحلم إلا كمثل أشج عبد القيس حينما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة}.
ومثلكم أيها الإخوة! من يقيل العثرة ويتجاوز عن الهفوة؛ فإن الكريم إذا قدر غفر، وإذا أوثق أعتق، وإذا أسر أطلق.
ومن يك ذا عذرٍ إليك وحاجةٍ فعذري إقراري بأن ليس لي عذر
وقال آخر:
قيل لي قد أساء فيك فلانٌ وقعود الفتى على الضيم عار
قلت قد جاءنا فأحدث عذراً دية الذنب عندنا الاعتذار
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: {كل بني آدم خطاءٌ وخير الخطائين التوابون} فليس العبرة -أيها الإخوة- أن يخطأ الإنسان فإن من طبيعة البشر أن يخطئ، لكن العبرة في أن يتراجع إلى الحق، فإن الرجوع إلى الحق فضيلة، وفقنا الله وإياكم إلى الصواب، وجنبنا الزلل فيما نقول وفيما نعلم، ولسنا بدعاً فيما حصل من خلاف فإن سلف هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم وعلى جلالة قدرهم وعلو منزلتهم وكعبهم في العلم والفضل حصل بينهم من الاختلافات ومن المنازعات.
سامح أخاك إذا خلط منه الإصابة بالغلط
وتغاض عن تعنيفه إن زل يوماً أو سقط
واذكر صنيعك عنده شكر الصنيعة أو غمط
واعلم بأنك إن أردت مهذباً رمت الشطط
من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
فأشكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أولاً، ثم أشكر فضيلة أخي وشيخي الشيخ/ عائض بن عبد الله القرني وأناته وحلمه وكريم فضله بعد فضل الله عز وجل، وأشكر كذلك شكراً جماً الإخوة الأكارم الذين عز عليهم أن يحصل نزاع أو خصامٌ بين الأحبة في الله عز وجل، ثم أشكركم على حسن إصغائكم.
ومعي بهذه المناسبة الكريمة أبياتٌ شعرية نظمتها وصغتها بحرارة مشاعري ونبضات قلبي، لعلها تكون شافعة لي عند شيخي حفظه الله، فتمحو ما بدر مني من هفوة أو عبارة غير مؤدبةٍ أو زللٍ، وهي والله تعبر عن قليلٍ من كثيرٍ مما أكنه لفضيلة الشيخ حفظه الله من محبةٍ وإجلال، وعنوان الأبيات: رسالة محبة واعتذار.
سلامٌ كما فاحت زهور عواطر يفيض به من منبع الحب خاطر
يفوقه كالودق من بين مزنه ويسمو به من طيب الغيث ماطر
عليك سلام الله يا شيخ عائض! ورحمته ما دام سمعٌ وناظر
وإني على الود القديم محافظٌ وهذا مقالي والشهود الضمائر
ومعذرةً مما أسأت بحقكم فأنت وربَّ البيت بالفضل عامر
أبى الله إلا أن تكون نفوسنا معرضة للزيغ والله غافر
لنا قدرة في الصبر إن جل حادثٌ ألم بنا إلا النوى والتهاجر
كلانا بحب الدين قد قام داعياً ولم تثننا عما نريد المحاذر
وعادة رب الجود والنصر شأنه وعادة أهل الدين منا التغافر
وعقباهم محمودة ومردهم إلى الله والزلفى لهم والبشائر
ألا إن نصر الله للدين واقع ولله أنصارٌ وللحق ناصر
ويا أيها الغادي بشكٍ وحيرةٍ وغمٍ وهمٍ تحتويه المخاطر
تمهل رعاك الله لا تظلمنني فمن رام عذراً أمكنته المعاذر
أسأت إلى شيخي بقولٍ نشرته فعذراً له إن أعجلتني البوادر
ولله ما أزكاه إذ زرت بيته أُرجي قبول الصفح والدمع قاطر
فقابلني بالبشر يشرق وجهه بنور الهدى والحب نعم المؤازر
وودعني بالحب ما في فؤاده من البغض أوضارٌ سعى وهو طاهر
وليس عجيباً صفحه ووفاؤه فمعدنه الإيمان والصدق ظاهر
وما زال يسمو بالمعالي لأنه لكالعلم الهادي يُرى وهو زاهر
إمامٌ له في الفضل سبق ورتبة وبالعلم إلمامٌ وللحق ناصر
ولله در الشيخ إن قام واعظاً فمن غيض ما يلقيه والبحر زاخر
فكم من قلوبٍ هزها بحديثه وكم من دموعٍ أسبلتها المحاجر
إذا شئت علماً فالزم البحر زاخراً وإن شئت شعراً فالمزون البواكر
وقام بأمر الله للدين داعياً كذلك من يدعو إلى الله ظافر
حليمٌ إذا ما كان للحلم موضعٌ كريم بذكراه تطيب المحاضر
وما أنا إلا نبتةٌ من غراسه أسير على درب الهدى وهو آمر
فجازاه ربي عن محبيه جنةً وتوفيقه فالبر بالصفح غامر
رعى الله إخواناً رعوا عهد ودنا وشق عليهم أن يكون تهاجر
وشكراً لهم شكراً عظيماً مكرراً على الصلح ما أثنى على الله شاكر
وصلى على المختار ما طر شارقٌ وما ازدان نجمٌ أو تحرك طائر
وأصحابه والآل ما قال قائلٌ سلامٌ كما فاحت زهورٌ عواطر
أسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى رب العرش أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يسلل سخائم قلوبنا، وأن يجعلنا إخوةً متحابين فيه عز وجل، وأن يبصرنا بالحق ويهدينا إليه ويثبتنا على الإسلام والإيمان حتى نلقاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.(142/2)
قبول اعتذار الشيخ عبد الله
كلام الشيخ عائض:
نحن يا من قد تناهى قد رضينا وسكبنا الود صفواً والتقينا
وتعانقنا وسارت بسمة كضياء المجتبى من طور سينا
من المقاصد الشرعية أن يظهر هذا الأنموذج أمام الناس وأن يتحدث به وأن يعلن الوفاق كما أعلن الخلاف، ولسنا ملأ من الملائكة، ولسنا أكرم من جيل محمد عليه الصلاة والسلام، اختلفوا وتنازعوا وتشاجروا، ثم تعانقوا وقال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] بل كما قال عامر الشعبي: [[والله لقد التقوا بالسيوف في الجمل وفي صفين، ثم قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]]].
وما حصل بيني وبين الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد مما أثاره بعض الناس حسبنا الله عليهم، وكثير من الناس يتصيد ويريد العثرة ويفرح بالزلة ويريد الفرقة، وفي لقاءٍ صحفي عابر أخذنا فيه على غرة، وما أخذنا للأمر عدته، وما نظرنا إلى أبعاده، وهذا درسٌ لنا أن نتأمل وأن نفكر وأن نتدبر وألا نتسرع وأن نحسب للكلمة موضعها، وهذه هي تجربة الحياة، ولا حليم إلا ذو تجربة ولا حكيم إلا ذو عثرة، فحصل ما حصل بقضاءٍ من الله وقدر، والتقيت مع الحبيب الزميل والقلب عامرٌ بالود والحب ويزداد مع الأيام، وأشهد الله وملائكته وحملة عرشه أني أحبه وأحبكم فيه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فأسأل الله أن ينفعني بهذا الحب، وكما سمعتم قصيدة فضيلته التي دبجها، ومن الحسن أن يرد على الشعر بشعر، فإنه ليس برباً إذا كان مثلاً بمثل يداً بيد، هاء وهاء، وقال الشوكاني: يقبح بطالب العلم أن يرد على الشعر بنثر، فإنها خدشة في وجه طالب العلم، فأحببت أن أرد على القصيدة بقصيدة ولا تقولوا هذا من المدح المفترى، بل هو إن شاء الله من الخير المنتظر لهذا الجيل وهذه القلوب العامرة التي تآخت تحت مظلة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5] ولها مقاصد شرعية أحتسب الأجر فيها إن شاء الله، فرددت وأجبت على قصيدته على البحر وعلى الروي وعلى القافية:
أتتك بثوب الوصل والجفن فاتر محجبة تومي إليك المحاجر
دموعٌ وأحلام وليلٌ مسهد يراقب فيها الأنجم الزهر سامر
لعتبٍ جرى بين الأحبة وانجلى ليرضى به شهمٌ ويغضب خاسر
قوافي في آل الحميد عذبةٌ وأبيات شعري في الكرام مفاخر
لبيتٍ عزيز بالجلال مؤثل صحائف تملى بالندى ومآثر
إذا بذلوا قيل الغيوث البواكر وإن غضبوا قيل الليوث الهواصر
وما لكم غير الأسرَّة مجلسٌ ولا لكم غير السيوف مخاصر
أغني كما غنى زهير بشعره وبيت العلى والأريحيات سائر
وهل ينبت الخطِّيَّ إلا وشيجُه وهل تحمل الأمجاد إلا المنابر
قرأت سطوراً من بنانك دبجت فدتك أيا بن الأكرمين الدفاتر
وقال حسودٌ رد صاعاً لأهله بصاعين إن البعض فيك تآمروا
فقلت لهم هذي يميني تناولت شمالي ففي جسمي تمور الخناجر
حبيب الصبا وابن الريادة والنهى رضيع الوفا نعم الصديق المعاشر
وهل يهدم الحساد وداً وصحبةً لها من عرى الإسلام فينا أواصر
لك العتب فاعتب إنما أنت صاحبي فقلبي رعاك الله بالحب عامر
أنا أنت أمتعني بشخصك دائماً فشخصك يا نجل الشريعة طاهر
فزر واستزر سر الوداد زيارة فنعم أخو العليا مزورٌ وزائر
ألا قاتل الله المفرق بيننا وأورده بئس الردى وهو عاثر
أذكره حاميم والحب والوفا فيأبى كأن الرمح بالموت شاجر
لقد مهد الإسلام للصلح موضعاً ولو نهلت منا السيوف البواتر
فهذا علي شام طلحة ثاوياً فقبله والهول أحمر فاغر
ونال أبو ذر بلالاً بأمه فأفرشه الخدين والرأس حاسر
وفي ذا يقول البحتري مدبجاً يهيم على بيت القصيدة شاعرُ
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت مناظر
فبلغ سلامي والديك كليهما فإن سلامي للمحبين عاطر
وقم منشداً في كل حفلٍ وندوةٍ أتتك بثوب الوصل والجفن فاتر(142/3)
معاملة الصالحين لمن أساء إليهم
أيها الإخوة الأحباب! كما قلت لكم ومن وحي هذه الجلسة وهذا اللقاء الأخوي جعلت عنوان المحاضرة والدرس (فن تأليف الأرواح) وقد ذكر الله في محكم كتابه أصول هذا الفن، وذكرها رسوله عليه الصلاة والسلام بكلامه وعمله وأخلاقه الشريفة المنيفة صلى الله عليه وسلم، فقال المولى سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]
قال أهل العلم: ثلاث منازل للظالمين والمقتصدين والسابقين بالخيرات.
فدرجة أولى من أسيء إليه فليكظم، وهذه درجة المقصرين من أمثالنا من المسلمين، أن يكظم غيظه ولا يتشفى في المجالس، ولا يتعرض للأعراض.
فإن زاد وأحسن: والعافين الناس، فليذهب إلى من أساء إليه ويقول: عفا الله عنك، وهذه درجة ثانية.
فإن زاد وأحسن فليذهب بهديةٍ وبزيارة إلى من أساء إليه ويقبل رأسه.
وقال أهل السير: قام خادمٌ على هارون الرشيد بماء حار يسكب عليه فسقط الإبريق بالماء على رأس الخليفة أمير المؤمنين وحاكم الدنيا، فكاد الماء الحار أن يمتلغ رأسه، فغضب الخليفة والتفت إلى الخادم، فقال المولى وكان ذكياً: والكاظمين الغيظ، قال: كظمت، قال: والعافين عن الناس، قال: عفوت عنك، قال: والله يحب المحسنين، قال: أعتقتك لوجه الله.
وهذه مواقف الريادة التي تحصل بين المؤمنين والمتآخين، وفي معركة الجمل خرجت عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم وخرج الصحابة بالسيوف، وخرج علي معه بعض الصحابة من أهل بدر بالسيوف يلتقون، فقيل لـ عامر الشعبي: الله أكبر! يلتقي الصحابة ولا يفر بعضهم من بعض؟! قال: أهل الجنة التقوا فاستحيا بعضهم من بعض، فلما قتل طلحة في المعركة وكان في الصف المضاد المعاكس لـ علي، نزل علي وترك السيف وأتى إلى طلحة وهو مقتول وهم من -العشرة المبشرين بالجنة- فنفض التراب عن لحية طلحة وقبله ودموع علي تهراق، وقال: [[يعز عليَّ يا أبا محمد! -والله- أن أراك مجندلاً على التراب، ولكن أسأل الله أن يجعلني وإياك ممن قال فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]]] فانظر إلى الصفا وإلى العمق، وانظر إلى الروعة وهم يقتتلون والدماء تسيل وهذا يحتضن هذا ويسلم عليه، ويذكره أنه سوف يجلس معه في جنات ونهر في مقعد صدق عند ملك مقتدر.
ابن السماك الواعظ، مر به صاحبٌ له عتب عليه فقال لـ ابن السماك: غداً نتحاسب، يقول: غداً ألتقي معك في موعد أحاسبك وتحاسبني، وألومك وتلومني، ونعرف من هو المخطئ منا، فقال ابن السماك: " لا والله غداً نتغافر، ولا نتحاسب" فالمؤمنون لا يتحاسبون ولا يقول أحدهم للآخر: أنت كتبت فيَّ كذا وكذا وقلت في المجلس عني كذا وكذا، وسمعت أنك تغتابني، لا.
بل يقول: غفر الله لك، فغداً نتغافر.(142/4)
قمة العفو
ومما يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {أيكم يفعل كما يفعل أبو ضمضم؟ قالوا: ما فعل يا رسول الله؟ قال: قام البارحة فصلى بالليل، وقال: اللهم إنه ليس لي مالٌ أتصدق به في سبيلك ولا جسمٌ أجاهد به في ذاتك، ولكني أتصدق بعرضي على المسلمين، اللهم من شتمني أو سبني أو اغتابني فاجعلها له كفارة} فهذا هو التصدق بالأعراض.
ولابد على الدعاة وطلبة العلم أن يبذلوا أعراضهم كما بذلها محمد عليه الصلاة والسلام، فإنه بذل عرضه وماله ودمه ووقته لهذه الدعوة الخالدة، فعسى الله أن يجعل دماءنا وأنفسنا وأعراضنا وأموالنا وأبناءنا وأهلنا فداءً لـ (لا إله إلا الله)؛ لترتفع لا إله إلا الله وحدها ولتبقى الأعراض والدماء فداءً لها.
وذكر الغزالي صاحب الإحياء: " أن الحسن البصري رحمه الله جاءه رجل، فقال: يا أبا سعيد! اغتابك فلان، قال: تعال، فلما أتى إليه أعطاه طبقاً من رطب، وقال: اذهب إليه، وقل: أعطيتنا حسناتك وأعطيناك رطبنا، فذهب بالرطب إليه ".
والمقصود من هذا: أن الدنيا أمرها قليل، وأن بعض الناس يتصدق بحسناته فلا عليك مهما نالك حاسدٌ أو ناقم أو مخالفٌ أو منحرف فاعتبر ذلك في ميزان حسناتك، وأنه رفعة لك، وقرأت في سيرة موسى عليه السلام الذي كلمه الله بلا ترجمان قال: يا رب! أريد منك مسألة، قال: ما هي يا موسى؟ قال: أسألك أن تكف ألسنة الخلق عني، -تكلموا فيه وفي عرضه، حتى تكلموا في بعض أموره الخاصة ومعاشرته للنساء، وقالوا: أنه آدر لا يستطيع أن يأتي النساء وأمورٌ كثيرة: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69]- فقال الله عز وجل: يا موسى! وعزتي وجلالي ما اتخذت ذلك لنفسي، إني أخلقهم وأرزقهم وإنهم يسبونني ويشتمونني.
سبحان الله! الله الرحمن الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد يسب من الناس! هذا المخلوق الحقير يخرج نطفة من بطن أمه ثم يسب الله ويشتمه.
وفي البخاري: {شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وسبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما سبه إياي فإنه يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار كيف أشاء، وأما شتمه إياي فإنه يقول: إني اتخذت صاحبة وولداً، وأنا الله لم يكن لي صاحبة ولا ولد} وعند أحمد في كتاب الزهد: {يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: عجباً لك يا بن آدم! خلقتك وتعبد غيري! ورزقتك وتشكر سواي! أتحبب إليك بالنعم وأنا غنيٌ عنك وتببغض إليَّ بالمعاصي وأنت فقيرٌ إليَّ! خيري إليك نازل، وشرك إليَّ صاعد}.
فما دام أن الواحد الأحد يسبه بعض الأشرار من خلقه ويشتمونه فكيف بنا نحن ونحن أهل التقصير؟!
إذا علم هذا فإن في المثل العليا التي حملها أصحابه عليه الصلاة والسلام، وتراضوا مع أنهم اختلفوا، وأتت بينهم نفرة في أيامٍ من حياتهم، ولكنهم عادوا في صفاء وعناء وزيارة وحب، لأن المبدأ الذي يحملونه مبدأٌ واحد، ليس مبادئ متعددة: لا إله إلا الله محمد رسول الله.(142/5)
السب والشتم لا يضر إلا صاحبه
في سيرة أبي بكر أن رجلاً قال لـ أبي بكر: والله يا أبا بكر! لأسبنك سباً يدخل معك قبرك، قال أبو بكر: بل يدخل معك قبرك ولا يدخل معي، وصدق، فإن المسبوب لا يدخل معه السب بل يدخل السب مع الساب لا مع المسبوب.
فيظن هذا الجاهل أنه إذا سب أبو بكر الصديق المطهر فسوف يدخل سبه مع أبي بكر الصديق، في القبر، فقال أبو بكر: لا.
-فلم يرد عليه السب- وقال: بل يدخل معك أنت قبرك، أما أنا فلن يدخل قبري، وهذا هو الصحيح، فإن الكلمة العوراء الآثمة الجارحة تدخل مع الجارح الساب الشاتم، ولا تدخل مع المسبوب لحكمة الواحد الأحد.
وقال رجل لـ عمرو بن العاص: والله لأتفرغن لك -يريد أن يتهدده، يعني أتفرغ لك بالسب، والقتال والخصام- قال: إذاً تقع في الشغل.
يقول: إذاً لن تكون فارغاً، بل يشغلك الله بي، أما أنا فلن أتفرغ لك ولن أشغل نفسي بك، إنما أنت إذا أشغلت نفسك بي فقد أوقعت نفسك بالخصام والسباب وقد أوقعت نفسك في كارثة.
ويروي أهل الحديث أن عامراً الشعبي الذي قيل عنه أنه أشبه عمر بن الخطاب في جمعه للعلم، وكان من علماء التابعين، وقد قال عنه الحسن البصري: " قديم السلم، كثير الحلم، جم العلم، قام إليه رجل فقال: كذبت يا عامر! فقال عامر: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك.
أي: إن كنت صادقاً أني كاذب فغفر الله لي، لأني أخطأت، وإن كنت كاذباً أني لست بصادق فغفر الله لك، وهذا هو الحق، فماذا يقول الرجل بعد هذا؟ لأن من استطاع أن ينهي الخصام، وأن يجعل للصلح موضعاً، وألا يستعدي الناس خاصةً أهل الفضل والمنزلة والصدارة والمكانة؛ كان محسناً على نفسه وعلى الإسلام والمسلمين.
وفي سيرة سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم جميعاً أن رجلاً زاحمه في منى، فالتفت الرجل إلى سالم وهو علامة التابعين وقال له: إني لأظنك رجل سوء، قال: [[ما عرفني إلا أنت]] يقول: قد أكون رجل سوء، وما عرفني إلا أنت، لأنه في نفسه يعتقد أن نفسه نفس سوء، فإن المؤمن يشعر بالتقصير ويلوم نفسه ويبكتها، والفاجر والمنافق يزكي نفسه أمام الناس، حتى رأيت أن سعيد بن المسيب يقوم وسط الليل ويقول لنفسه: [[قومي يا مأوى كل شر، قومي يا مأوى كل شر]] لأن النفس أمارة بالسوء، فيقول: إني لأظنك رجل سوء، قال: ما عرفني إلا أنت، وسكت ومر.
وقام رجلٌ في الحرم -وهذه ثابتة بأسانيد صحيحة- أمام ابن عباس، حبر الأمة وترجمان القرآن فسبه أمام الناس، وابن عباس ينكس رأسه، فهذا أعرابي جلف يسب علامة الدنيا فرفع ابن عباس رأسه وقال: [[أتسبني وفيَّ ثلاث خصال، قال الناس: ما هي يا بن عباس؟ قال: والله ما نزل القطر بأرضٍ إلا سررت وحمدت الله على ذلك، وليس لي بها ناقة ولا شاة]] يقول: ما سمعت بقطر المطر ينزل بأي أرض إلا وسررت به وهذا هو الإيمان، تسمع في الجنوب أو الشمال بمطر فتفرح، وهذه خصال المؤمنين.
[[قالوا: والثانية؟ قال: ولا سمعت بقاضٍ عادل إلا دعوت له بظهر الغيب وليس لي عنده قضية]] لكن يفرح أن يكون قضاة المسلمين عدولاً.
[[قالوا: والثالثة؟ قال: ولا فهمت آيةً من كتاب الله إلا تمنيت أن المسلمين يفهمونها كما أفهمها]].
وهذه المثل العليا التي حملها أصحابه عليه الصلاة والسلام، وهو الذي رباهم أصلاً على سمع وبصر، وإلا فهم أمةٌ أمية خرجوا من الصحراء، لكن بناهم شيئاً فشيئاً ورصع مجدهم، واعتنى بهم صلى الله عليه وسلم حتى أخرجهم مثلاً أعلى وقدوات حسنة للناس.
وقالوا في المثل: من أين لك بأخيك كله؟! يقول: أتريد مهذباً كله؟ لا.
خذ بعضه، خذ نصفه، خذ ثلثين، خذ ثلثه، يقول: من أين لك بأخ كله؟ وأنا أسأل نفسي وإخواني: هل تجدون في المجتمع المسلم مهما بلغ هذا الشخص من الرقي والمثل العليا وحسن الخلق أن يكون كامل لا حيف فيه ولا نقص؟ هذا لا يكون: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21] تجد هذا كريماً لكنه غضوب، وتجد هذا حليماً لكنه بخيل، وتجد هذا طيباً لكنه عجول، وهي مواقف لأن الله وزع المناقب والمثالب على الناس.(142/6)
من عدت معايبه فهو على خير
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
إذا عددت معايب الإنسان فاعلم أنه صالح، ولكن بعض الناس لا تستطيع أن تعد المعايب فهي عنده بالمئات، لكن بعض الناس لخيره تقول: ليس فيه إلا كذا وهذا خير، من غلبت محاسنه مساوئه فهو العدل في الإسلام، ومن غلبت مساوئه محاسنه فهو المنحرف أو غير المستوي في منهج الله عز وجل، لأن الله يزن الناس يوم القيامة بميزان آية الأحقاف، يقول سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16] فبين الله في الآية أن لهم مساوئ، وأن لهم خطايا وذنوب، وأنه يتجاوز عنهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكنهم كما يقول الحديث: {إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث} بعض الناس ماؤه قليل أي شيء يؤثر فيه، حتى القطرة تؤثر فيه، ولكن بعضهم لمحاسنه ومناقبه بلغ قلتين: خمسمائة رطل، فمهما وضعت فيه لا يتغير أبداً لكرمه وبذله وعطائه، وعلمه وسخائه، وفضله ودعوته، وخيره وصلاحه وصدق نيته فقد تأتيه لفحات من لفحات الشيطان، لكنه بلغ القلتين.(142/7)
ضرورة الموازنة بين الحسنات والسيئات
ويقول ابن تيمية ونقلها ابن القيم في مدارج السالكين -أنا أروي بالمعنى، لكن بعض الألفاظ أتذكرها- يقول: أما موسى عليه السلام فإنه أتى بالألواح فيها كلام الله عز وجل فألقاها، لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لامه وعاتبه، وقال: {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ} [الأعراف:150] فألقاها في الأرض، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:150] فهذا خطأ آخر، لأن أخاه كان نبياً مثله، ومع ذلك جره بلحيته أمام الناس، ومع ذلك عفا الله عنه، قال ابن القيم:
وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
وفي حديث رواه البيهقي بسندٍ يحسنه الكثير من أهل العلم قال: {أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم} قال ابن القيم: "إلا الحدود"، وهذه اللفظة تثبت في بعض الروايات من لفظه عليه الصلاة والسلام، فإن الناس متساوون في الحدود، لكن مقصودي في المسائل التي ليس فيها حدود، أن صاحب العثرة تقال عثرته من أهل الهيئات وهم الذين لهم قدم صدق في الإسلام والدعوة، وفي الخير والكرم والصدارة، وفي التوجيه والتأثير.
وأضرب على ذلك مثلاً: أستاذٌ يدرس مجموعة من الطلاب، وفيهم طالبٌ دينٌ خيرٌ وقورٌ شهم محافظ مواظب متأدب وغاب يوماً من الأيام، فعلى هذا الأستاذ أن يغفر له غيابه وزلته، لأنه من ذوي الهيئات، وله من الحسنات ما تشفع له، لكن طالب آخر متخلفٌ منحرف عن الجادة متلاعب مشاغب غاب يوماً من الأيام، فأيُّ حسنات تشفع له؟ ما هو إلا عثرات في عثرات، فالمجتمع مثل ذلك، لذلك أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم.
فوجوه الناس وأهل الخير والفضل، إذا بدرت منهم بادرة فعلينا أن نتحملها جميعاً، وعلينا أن ننظر إلى سجل حسناتهم وإلى دواوين كرمهم ومنازلهم عند الله وخلقه، يقول بشار بن برد:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
يقول: إذا أصبحت تعاتب الناس دوماً وتلومهم فمن الذي تصاحبه منهم، ومن هو الأخ الذي ترافقه؟!
ويقول في بيته الثاني:
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
يقول: لابد أن تجد ماءً معكراً، لكن اشرب، وما حيلة المضطر إلا ركوبها، وصاحب أخاك وتحمل منه الزلة.
كان ابن المبارك إذا ذكر له أصحابه قال: من مثل فلان فيه كذا وكذا من المحاسن ويسكت عن المساوئ، وما من أحدٍ من المسلمين إلا له حسنة، فاذكره بالحسنة في المجالس.
وليتنا -أيها الإخوة الكرام- نتذكر حسنات الناس، فما أعلم أحداً من المسلمين مهما قصر إلا له حسنات، ولو لم يكن من حسناته إلا أنه يصلي، أو أنه يحب الله ورسوله.
المصطفى المعصوم عليه الصلاة والسلام يؤتى له بشارب خمرٍ وقد تكرر جلده أكثر من مرة، فيقول أحد الصحابة للشارب: {أخزاه الله! ما أكثر ما يؤتى به! قال صلى الله عليه وسلم: لا تقل ذلك لا تكن عوناً للشيطان على أخيك، فوالذي نفسي بيده ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله} فأثبت له أصل الحب وهي حسنة، فلماذا لا نذكر للناس محاسنهم، فإنك لا تجد أحداً شريراً مائة بالمائة، إلا رجل كفر بالله، أو تعدى على حدود الله أو أعلن الفجور أو خلع ثوب الحياء، أو عادى الأولياء والأخيار والصالحين ونبذ الإسلام ظهرياً.(142/8)
نماذج خيرة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
مرت نماذج خيرة في حياته صلى الله عليه وسلم، كما فعل أبو ذر مع بلال لما عيره بأمه ثم ندم ووضع خده على التراب وقال: [[والله لا أرفع خدي حتى تطأه بقدمك، فوطئه بقدمه ثم قام فتعانقا]].
وأتى الأنصار كما سلف في خطبة بعنوان (وألف بين قلوبهم) وكادوا يقتتلون فخرج إليهم صلى الله عليه وسلم- بعد الإسلام الأوس والخزرج كادوا يقتتلون لإحن الجاهلية- وقد سلوا السيوف، قال: {أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم} فبكوا وأسقطوا السيوف من أيديهم وتعانقوا، فأنزل الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
وذكر أهل التاريخ بسندٍ صحيح، أن الصحابة خرجوا في غزوة بني المصطلق -المهاجرون والأنصار مع الرسول صلى الله عليه وسلم- وكان لـ عمر أجير اسمه جهجاه، فقام فاختصم مع رجل من الأنصار اسمه سنان بن وبرة، فتراكلا بأقدامهما وتناوشا بأيديهما فقال أجير عمر: يا للمهاجرين! يدعوهم بالسيوف، يعني: انصروني وأغيثوني- وقال الأنصاري: يا للأنصار! فبلغت هذه الكلمة رأس الكفر والنفاق وحربة الردة عبد الله بن أبي بن سلول، فقال: صدق الأول (سمن كلبك يأكلك) لو أنا صرفناهم عن دارنا ما فعلوا هذا، لكن نحن الذين فعلوا بهم ذلك -يقصد المهاجرين- ثم قال أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
وبلغت الكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره زيد بن الأرقم وصدَّق الله قيله، فأمر صلى الله عليه وسلم الناسَ بالرحيل حتى لا يتحدث أهل النفاق في القضية؛ لأنهم يحبون الشائعات، فهم أناس في المجتمع لا هم لهم إلا أن يحيوا الشائعات والعثرات والزلات، فيصنفون فيها مصنفات ويزيدون فيها ويتشاغلون بها ويملئون بها الأسماع، فنسأل الله أن يكفينا شرهم، وأن يجعل بيننا وبينهم سداً منيعاً، وأن يحمي هذا الدين منهم، فإنهم يلغون في الأعراض كما يلغ الكلب في الماء.
فقام الرسول صلى الله عليه وسلم بين الصحابة ثم أمرهم بالرحيل لئلا يتحدثوا في المسألة، يريد أن يشغلهم بشيء، ولذلك من الحلول التي تكافح بها الشائعات وحل ما يحصل بين الأحبة؛ أن تشغل الناس بالجد والعلم والمسائل العلمية، وتطرح عليهم قضايا الأمة الكبرى، لأن لدينا قضايا أعظم من الخلافات فيما بيننا وأعظم من هذه والمهاترات.
وهي قضايا نشر الإسلام ومحاربة اليهودية والعلمانية والشيوعية والنصرانية، وقضايا تأليف هذه الأمة المقدسة الخالدة التي جعلها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أمةً وسطاً محبوبة شاهدة تؤمن بالكتاب والسنة.
فأتى صلى الله عليه وسلم إلى أسيد بن حضير فأخبره الخبر فقال: يا رسول الله! والله إن شئت لنمنعنه من دخول المدينة، فإنك الأعز وهو الأذل، فقال عمر: {يا رسول الله! ائذن لي أن أقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمر! لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه} وهذا هو المنهج، أراد أن يتصرف لكن عنده منهج، فلا يخالف المنهج، عنده منهج دعوي يريد به مصلحة هذه الدعوة، وما عليه أن يتحدث فيه، وما عليه من دمه ونفسه وزوجته وأهله، لأنه يريد مصلحة الدعوة أن تستمر وأن يستفيد الناس ويسمعوا ويتعظوا وأن يهتدي على يديه بشرٌ كثير.(142/9)
عفو الرسول صلى الله عليه وسلم
أما قضية الانتقام الشخصي وقضية أن يقوم الإنسان ويغضب لنفسه فليست عنده صلى الله عليه وسلم، فأتى ابنه الصالح الناصح عبد الله بن عبد الله بن أُبي فقال: {يا رسول الله! سمعت أنك تريد قتل أبي، فإنك إن أرسلت رجلاً ليقتل أبي، والله لا تطمئن نفسي أن أرى قاتل أبي يمشي على وجه الأرض حتى أقتله، لكن يا رسول الله! ائذن لي أن أذهب الآن وآتيك برأسه، والله -يا رسول الله- إن شئت لأقتلنه، فإنك الأعز وهو الأذل}.
انظر إلى الإسلام كيف فصل بين الولد وأبيه الذي هو من صلبه ودمه وعروقه، بلا إله إلا الله محمد رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: {بل نصبر على أبيك ونحسن صحبته ما بقي معنا} فهذه هي الحياة وهي الدعوة وهو المنهج الرباني حتى يقول له ربه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ويقول له الله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
فيأتي الناس ويعودون من الغزوة، فيأتي ابنه عبد الله فيسل السيف في مضيق عند مدخل المدينة فدخلت الكتائب المقدسة، وجيوشه عليه الصلاة والسلام وأصحابه ومحبوه، وأتى عبد الله بن أبي على فرس فاعترضه ابنه بالسيف أمام وجهه، وقال: [[والذي لا إله إلا هو! لا تدخل المدينة حتى يأذن لك الرسول صلى الله عليه وسلم فإنك الأذل وهو الأعز]] فذهب رسول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره، قال: أذنت له فدخل.
ومع ذلك عندما مات هذا الشقي يأتي صلى الله عليه وسلم بقميصه فيكفن عبد الله بن أبي بن سلول به.
قال الناس: {ما لك يا رسول الله! كفنته بقميصك؟ قال: إنه أهدى قميصاً للعباس عمي، فأردت أن أكافئه بهذا القميص} وقام صلى الله عليه وسلم يريد أن يصلي عليه -وهو منافق- فوقف عمر أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه القبلة وجعل ظهره إلى الجنازة -أمام المعصوم صلى الله عليه وسلم وأمام المعلم الكبير، الذي لا ينطق عن الهوى والذي قوله حجة، وانظر كيف أحدنا يتقدم على عالم، فكيف تتصور أنك تقف أمام رسول الله يريد أن يكبر فتقول: لا.
ممنوع، لا تكبر- قال صلى الله عليه وسلم: تأخر يا عمر! يريد إما يميناً أو يساراً، قال: يا رسول الله! تصلي عليه وهو الذي فعل كذا يوم كذا وكذا؟ قال: يا عمر! اترك هذا، قال: يا رسول الله! تصلي عليه وقد قال كذا وكذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: {يا عمر! والذي نفسي بيده لو علمت أني لو استغفرت له أكثر من سبعين مرة لغفر الله له لاستغفرت له} لأن الله يقول: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80].
وهذا يسمى عند أهل التفسير (عدد لا مفهوم له) فلو كان العدد له مفهوم لكان استغفر صلى الله عليه وسلم إحدى وسبعين مرة، كما تقول (ألف مرحباً) فإنه عدد لا مفهوم له، أي: أكثر من ألف.
ثم دفنه صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل بالوحي: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] أي: لا تصل على أحد منهم مرة ثانية ولا تدع لهم ولا تقف على قبره ولا تترحم ولا تستغفر له.
ويأتيه متخلفون من المنافقين الذي أساءوا وتركوا الغزوة وخالفوا أمره وعصوا الله، فيقول أحدهم: يا رسول الله! أنا مريض، قال: صدقت، وهو ليس مريض البدن بل مريض القلب! والثاني يقول: امرأتي مرضت في الغزوة، قال: صدقت، والثالث يقول: يا رسول الله فقير ما استطعت أن أشتري جملاً، قال: صدقت، فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43] فقوله: (عفا الله عنك) مقدمة قبل أن يلاحقه بالعتاب، لئلا يخاف: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43] من الذي فوضك وأذن لك أن تأذن لهم؟ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43].
فماذا أحدث عليه الصلاة والسلام بهذا الخلق؟ جمع القلوب بدعوته فأتاه الذين قتل آباءهم، وإخوانهم في الشرك، فيقول أحدهم: [[والذي لا إله إلا هو إنك أحب إليّ من نفسي]] وقال الثاني: [[والله ما ملأت عيني منه إجلالاً له، والله لو سألتموني أن أصفه ما استطعت أن أصفه لكم]].(142/10)
تعامل الصحابة مع بعضهم
وقد ذكرت ما فعل معاوية وعبد الله بن الزبير، فقد كانت لهما مزرعتان في المدينة، مزرعة لـ معاوية، وكان ملك الدنيا يحكم ما يقارب عشرين دولة في دمشق وابن الزبير راعي من رعيته له مزرعة.
فأتى وبينهم حزازات وإحن قديمة، فأتى عمال معاوية فدخلوا في مزرعة ابن الزبير، فكتب ابن الزبير وكان حاداً غضوباً رضي الله عنه على شجاعته وعبادته:
[[بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن الزبير إلى معاوية بن هند آكلة الأكباد -يعيره بيوم أحد يوم أكلت أمه كبد حمزة - أمَّا بَعْد:
فقد دخل عمالك مزرعتي، فوالذي لا إله إلا هو إن لم تمنعهم ليكونن لي ولك شأن]] وما هو الشأن؟! معاوية عنده تسعون ألف مقاتل في دمشق، حضر بهم صفين والمعارك وأنت ليس عندك أحد! بل قال بعضهم أنه قال: [[من عبد الله بن الزبير بن حواري الرسول وابن ذات النطاقين، إلى معاوية بن هند آكلة الأكباد]].
فأتى الرسول معاوية فقرأ الرسالة وكان حليماً يضرب به المثل في الحلم -يقول أهل العلم: تعلم عمر بن عبد العزيز الحلم من معاوية - فاستدعى ابنه يزيد، وكان متهوراً -وهذا يقوله الذهبي وغيره- فعرض عليه الرسالة، قال: ماذا ترى أن نجيبه، قال: أرى أن ترسل له جيشاً أوله في المدينة وآخره عندك في دمشق يأتون برأسه -وباستطاعته أن يفعل- قال: لا.
بل خير من ذلك وأقرب رحماً، لأن بينهم رحماً.
فكتب بسم الله الرحمن الرحيم من معاوية بن أبي سفيان إلى عبد الله بن الزبير بن حواري الرسول وابن ذات النطاقين، السلام عليك ورحمة الله وبركاته وبعد فلو كانت الدنيا بيني وبينك ثم سألتها لسلمتها لك، فإذا أتاك كتابي هذا فضم مزرعتي إلى مزرعتك وعمالي إلى عمالك فهي لك، والسلام.
وصلت الرسالة ابن الزبير، فقرأها ابن الزبير فبلها بالدموع، وذهب إلى معاوية في دمشق وقبَّل رأسه، وقال: لا أعدمك الله الذي أنزلك هذا المنزل من قريش.
هذا العقل والتصرف وهذه الحكمة والإرادة القوية، لكننا نريد أن نصل إلى هذه المستويات فنعثر ونصل إلى درجة فنهبط، فنحاول ونكرر ونفعل كما تفعل النملة في محاولات، ولعلها المحاولة الواحدة بعد المائة أو الواحدة بعد الألف، ومن يدري فإننا في عصر تدريب وفي عصر تلق وتربية.
أسأل الله أن يزيدنا وإياكم توفيقاً وهدايةً ورشداً.(142/11)
كيفية الأخوة الصادقة
أحد الإخوة كتب رسالة أثابه الله على ما كتب وسدد خطاه، وهو يشكر على المحاضرة السابقة التي كانت في السبت الماضي بعنوان (جسور المحبة) وقال: أثارتني هذه المحاضرة وسرتني كثيراً، وأنقل لك من كتاب خواطر في زمن المحنة، في هذا الموضوع، يقول الكاتب: عجبت لإخُوة في الله تنهار محبتهم بسبب سوء تفاهم! لماذا يبخل الأخ بقليلٍ من التسامح، وقد عاش مع أخيه ساعاتٍ مليئة بالحب والإخلاص والعطاء الأخوي الذي يتجاوز عطاءات المادة إلى عطاءات الروح؟ لماذا ننسى ما بيننا من وشائج وأواصر أقامها دين الإسلام، ورسول الإسلام عليه الصلاة والسلام؟
إذا كنت تبحث عن أخطائي لتبرر بها غضبك فأين حبك لي الذي كنت تتشدق به؟ لماذا لا تفتح باب التسامح في وجهي؟ لماذا لا تتبسم في وجهي؟ لماذا لا تزورني؟ لماذا لا تغفر زلتي؟ لماذا لا تدعو لي بظهر الغيب؟ عجبت لمن يدعي الحب في الله كيف لا يغفر زلات إخوانه! عجبت لودٍ ينقلب جفاءً! ولاحترامٍ ينقلب احتقاراً! ولأخوةٍ في الله تنقلب إلى علاقاتٍ سطحية!
أيها الإخوة! أقول لكم نحن نختلف عن سائر الأمم، لم نجتمع على حب وطن فقط، فليست الوطنية هي التي جمعتنا، فإن أوطاننا بلاد المسلمين، ولم نجتمع على دم فإن الدم دعوةٌ أرضية لم ينزلها الله في كتابه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ولم نجتمع على لغة فإن اللغات شتى بل اجتمعنا على عقيدة ومبدأ أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهذا المبدأ العظيم جعلنا نتآخى، يقول أبو تمام:
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذبٌ تحدر من غمامٍ واحد
أو يفترق نسبٌ يؤلف بينناً دينٌ أقمناه مقام الوالد(142/12)
تصورات رائعة
كلما حصلت جفوة أو حصل تجافٍ أو هجر عدنا إلى الدين، وتصورنا ونحن نصلي الصلوات الخمس، ونحن نتجه إلى قبلة واحدة، ونتبع رسولاً واحداً صلى الله عليه وسلم، ونعبد رباً واحداً، ومعنا كتاب واحد وسنة واحدة، فلله الحمد، فتصوروا أيها الإخوة! أن ما يجري بين الأحبة لا يفسد للود قضية، بل أحياناً من حكم الله عز وجل أن يوجد هذا بين الناس، فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112] فإنه بمشيئته تحدث، وفيها من المصالح العظيمة ما الله به عليم حتى يقول المتنبي:
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
ولعلنا نكره شيئاً فيه خير كثير، ونحب شيئاً فيه شر كثير، ولله الحكمة البالغة.
لا تدبر لك أمراً فؤلوا التدبير هلكى
وارض بالله حكيماً نحن أولى بك منكا
فإذا رضيت بالله متصرفاً في شئونك الخاصة والعامة صرفك كما أراد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا تكره من أمر الله شيئاً، ورب ضارة نافعة، أحياناً تحصل أمور يكون فيها مصالح عظيمة، لا يدركها البشر بعقولهم ولا بتخطيطهم ولا بتصريفهم، منها أمور تكون قوة للإنسان ورفعة ومنزلة وحماية، وكفارة ودرجة، وهو كان يظن أنها نقمة، وأنها ضربة وكارثة، فلله الحكمة البالغة، فرضينا بحكمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولابد للعبد أن يقول كلما أصبح: {رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً} وفي سنن أبي داود بسندٍ صحيح أنه قال: {رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً كان على الله حقاً أن يرضيه}.(142/13)
نبذ الخلافات الشخصية
فأسأل الله أن يرضيني وإياكم، وأسأل الله أن يجمع بيننا وبينكم في دار الكرامة، واعلموا أيها الإخوة! والله يعلم ذلك وسوف يحاسبنا على ما نقول: أنه ليس بيننا وبين أحدٍ من الناس شجارٌ لأسباب دنيوية، ولا لذواتنا ولا لأنفسنا، فإن العبد عليه أن يسعى لمصلحة هذا الدين ولمصلحة الأمة والبلاد والعباد، وأن يسعى لجمع الصف ونبذ الفرقة ودرء الفتن عن الأمة وعن البلاد حتى تكون الأمة تحت مظلة: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! نسألك أن تنصر جنود الإسلام وأن تسحق عبدة الأصنام وأن تكرمنا بحماية البيت الحرام.
اللهم اجمع كلمة المجاهدين وأيد عبادك الصالحين ورد كيد الكائدين، واقمع حسد الحاسدين.
اللهم ارفع لواء التوحيد واقمع كل كافرٍ عنيد، اللهم ارحمنا رحمة واسعة تسع ذنوبناً واسترنا ستراً يحجب عيوبنا يا أرحم الراحمين.(142/14)
رسالة للمجاهدين الأفغان
عباد الله! أمامي رسالة مؤثرة صادقة أرسلها أخ محب من أبناء الجزيرة الإسلامية المقدسة، من سكان الحرمين إلى المجاهدين الأفغان، ووصلتني بعد صلاة المغرب وأنا أحب أن أقرأها عليكم علها أن تصل المجاهدين الأفغان، وكما دعى ولاة الأمر هنا أولئك المجاهدين إلى جمع الصف وتوحيد الكلمة، فإني أذكِّر أولئك بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
يقول الأخ: رسالة إلى إخواني المجاهدين الأفغان قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] إلى مجاهدي أفغانستان المسلمة إلى من رفعوا رءوس جميع المسلمين في شتى بقاع المعمورة عالياً إلى من أحيوا الجهاد الإسلامي المقدس إلى كتائب محمد صلى الله عليه وسلم إلى الذين نرى فيهم صدق الأنصار، وشجاعة المهاجرين، إلى من داسوا رءوس الإلحاد وكسروا جماجم الوثنية العصرية إلى من حطموا أسطورة الشيوعية بدمائهم الزكية إلى طليعة الأمة المحمدية: إنني أناديكم من فوق ثرى الجزيرة العربية من جوار مقدساتنا الإسلامية من مهبط الوحي من أرض الرسالة من قلعة القداسات بل أصرخ بأعلى صوتي من جوار قبر الإمام العظيم والمجاهد الفذ الزعيم وصفوة الخلق الكريم؛ محمد عليه الصلاة والسلام.
وأناشدكم الله جلت قدرته بأن تنبذوا خلافاتكم مهما كانت، وألا تتركوا لعملاء اليهودية العالمية والخونة فرصةً ليهددوا أمنكم، ويهدموا ما بنيتم خلال عشرات السنوات، فقد ضحيتم بالألوف المؤلفة من الشهداء، وأسلتم الدماء وقدمتم الجماجم وجعلتم الأرض لهباً لترتفع لا إله إلا الله، وأنتم الآن على أبواب النصر الكامل على أعدائكم وأعدائنا وأعداء الأمة.
إخواني! عليكم جميعاً قادةً وساسةً، وعلماء ودعاة وجنداً الاعتصام بحبل الله، وأن تلوذوا بعروة الله الوثقى، وألا تخيبوا أمل كل المسلمين وأمهات المسلمين ونساء المسلمين وأبناء المسلمين وعلماء المسلمين ودعاة المسلمين؛ لا تخيبوا أملهم فيكم، ولا تظهروا عدوكم عليكم بأنفسكم {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] نسأل الله لكم الثبات والاتفاق، والاجتماع وتوحيد الصف.
هذه رسالة أشكر الأخ الذي أرسلها، وباسمكم جميعاً وباسم أبناء هذه البلاد المقدسة أشارك في إرسالي وأطلب من الإخوة مندوبي المجاهدين الأفغان في مكاتبهم أن يأخذوا هذه الرسالة وهذا الدرس والمحاضرة، وأن يقيموا الحجة على أولئك القادة، وأن يسألوهم أن يتقوا الله في الأمة الإسلامية وفي الملايين المملينة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وألا يعودوا فيقتتلوا ويسدد بعضهم السهام إلى نحر أخيه، ويقتل بعضهم بعضاً فإنها دعوى جاهلية يريد الشيطان وأعوانه استغلالها.
إن الإخوة المندوبين هنا عليهم مهمة أن ينقلوا هذه الرسالة في أقرب وقت، وأن يحملوا رسالة من حضر هذا المجلس وطلبة العلم في هذه البلاد، وفي كل البلاد الإسلامية علماءً وقادةً، ودعاةً وطلبة علم إلى أولئك بأن يتقوا الله في الأمة، وأن يناشدونهم أن يحفظوا هذه المسيرة وهذه النتائج الطيبة المرضية.(142/15)
الأسئلة(142/16)
مشاركة شعرية
السؤال
أحد الإخوة رمز لاسمه بـ (ي.
ش) كتب بيتين على روي القصيدتين وعلى قافيتهما وعلى بحريهما يقول:
سلامٌ على الشيخين زاكٍ وعاطر يفوح ببيت الله والحب غامر
فقد أسعدا بالوصل خير فضيلة وجمعا بحب الصالحين أفاخر
الجواب
أثابه الله، وعند الأدباء مسألة معارضة القصائد، حتى إن بعض القصائد يذكرون عنها أنها عورضت ثمانين مرة على نفس البحر والراوية والقافية، وهذه قد توجد كثيراً وقد ذكر مثلها أبو الفرج وابن عبد ربه والذهبي وابن كثير، فلا بأس أن ينشأ على هذا، لكن فيما يصلح بين الناس ويؤاخي بين القلوب ويوحد بين الصف، لأنا بحاجة ماسة إليها.(142/17)
نصيحة لمن ينشر الخلافات
السؤال
هناك بعض الصحف التي تستغل كثيراً من بعض المواقف للإيقاع بين الأحبة والإخوة، فلماذا لا توجهوا كلمة تنصحوا بها أهل هذه الصحف أن يتقوا الله ويبتعدوا عن هذا الأسلوب الذي لا يخدم الأمة في مآلها ولا في عاجلها؟
الجواب
أشكرك على هذا السؤال، وكان في ذهني هذا وإني أقول: إن بعض الصحف وبعض الصحفيين يستغلون بعض الدورات وتجدهم يريدون المقابلة ولكن لهم بعض المقاصد والنوايا، ولا يدركها العبد، فأحياناً قد يتصل بك على عجلة ويأخذ منك كلمة ويختلس منك عبارة ويريد منك إثارة، ثم تضخم وتشاع وتكبر، ويكون لها أعظم الأثر في الناس، وقد جربت هذا، ولكن لا حليم إلا ذو تجربة، في مثل جريدة البلاد، وقد أخطأت كثيراً فيما فعلت، خاصة في صفحة (ماذا تقول لهؤلاء؟) ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما كنت قبلت المقابلة.
وحتى جريدة المسلمون فإنها أخذت المقابلة على أنها تنشر كاملة، لكنها أخذت كلمات طفيفة في بعض الزوايا فضخمتها بالخطوط العريضة، ودبجتها وأبرزتها وصغَّرت بعض الكلمات التي تحتاج إلى عرض وبسط، ثم أخذت تعرض المسألة بأسلوب المقصود منه الإثارة، وقد رأيت في بعض الصحف يقولون -مثلاً-: الشيخ فلان لا يرى في التصوير بأساً، ثم تبحث في المقابلة فلا تجد في الكلام ما يدل على ذلك.
أو يقولون: الشيخ يطالب بحقوق للمرأة الشيخ يعترض على الشيخ الفلاني المذكور الشيخ ينقم أسلوب الداعية المذكور، فلانٌ يرى أن فلاناً مخطئ، وهذا يدل على أن هناك نوايا لم نكن نعتقدها ولا نظن بها، ولم نكن نظن أن مسلماً يريد هذه أو يريد في فترة من الفترات أن يوجد في النفوس شيئاً، فعسى أن تكون تجربة وأن يكون درساً، وكل شيء تستفيد منه فهو عبرة لك وفي مصلحتك.
نسأل الله أن يهدي وأن يصلح وأن يسدد.(142/18)
التفريق في المحبة بين الناس
السؤال
هل نفهم من كلامك في المحاضرة -في درس (فن تأليف الأرواح) - أن نحب المسلمين جميعاً مستقيمهم وفاسقهم، سنيهم ومبتدعهم ولا نبغض أحداً منهم، وأنت تعلم أن منهج السلف الصالح أنهم يهجرون المبتدع والضال، فأخشى أن يُتخذ كلامك ذريعة للناس؟
الجواب
لا.
هناك أسس في الولاء والبراء عند أهل السنة والجماعة بينت في مناسبات ومحاضرات ودروس، وبينها أهل العلم في كتبهم.
فإن الولاء والبراء النسبي واردٌ، والحب والبغض النسبي وارد وقد تكلم عنه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أن تحب الإنسان بقدر ما فيه من طاعة، وتبغضه بقدر ما فيه من معصية، وتحبه بقدر ما فيه من سنة وتبغضه بقدر ما فيه من بدعة وهكذا.
أما الحب المطلق العام الكامل فهذا لا يكون؛ لإنه ليس هناك أحدٌ كامل، لكن بقدر هذا وهذا فقد جعل الله لكل شيءٍ قدراً، فتهجر العاصي حتى يتوب من معصيته، كما فعل صلى الله عليه وسلم مع العصاة، وتهجر المبتدع حتى يتوب من بدعته، أما أن تهجر دائماً وتوالي وتحب دائماً وتترك أهل المعاصي وتجعلهم كالمؤمنين فهذا غير المنهج الذي بنيت عليه عقيدة السلف الصالح.
لكن الأمور الدنيوية -أيها الإخوة- التي يتذرع بها الناس في الهجران لا يحل لهم ذلك إلا ثلاثة أيام، ففي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يحل لامرئٍ مسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام}.(142/19)
توبة شاب من هجر أخيه المسلم
السؤال
لي أخ في الله زاد هجري له على سنة، وذلك بسبب الشيطان وبعض الواشين، وأشهد الله ثم أشهدكم أني قد ندمت على هجري وسوف أزوره إن شاء الله؟
الجواب
أثابك الله وأكرمك، وجمع الله القلوب وأزال الله ما في النفوس، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال -وهذا لفظ أحمد في المسند - {إن الشيطان قد أيئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب} فلا تجد أحداً في جزيرة العرب يسجد لوثن ولا صنم: {ولكن في التحريش بينهم} وأما التحريش فسوف يستمر إلى قيام الساعة.
وهناك أناس جاهزون متبرعون، فكل صباح ينقلون الكلمات -مراسلون- وسوف يحاسبهم الله، فتجده من الصباح: قال فلان وقال علان، وسمعنا أن فلاناً يقول في فلان كذا وكذا، وهل صحيح أن فلاناً يقول كذا، وهل سمعتم ما قيل عن فلان، وهل بلغكم، فهؤلاء هم الذين يسعون بالعداوة والشنعاء والبغضاء بين المؤمنين لا خلاق لهم عند الله يوم القيامة، فالذين يفسدون الود والقلوب سوف يتعرضون لمقت المولى وغضبه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهم كما قال صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة نمام} وفي لفظٍ: قتات، فجعل الله عز وجل عقوبته ألا يدخل الجنة بسبب إفساده بين الناس.(142/20)
مجتمع الصحابة ومجتمعنا
السؤال
قارنت بين مجتمعنا ومجتمع الصحابة المزكى من الله ومن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقلت هم اختلفوا ونحن اختلفنا، مع العلم بأن ذلك الخلاف بينهم غير الاختلاف بيننا.
فبماذا ترد؟
الجواب
لا.
الخلاف بينهم مثل الخلاف بيننا، فهم ليسوا رسلاً، ولا أنبياء ولا معصومين، فهم اختلفوا في بعض القضايا مثلما اختلفنا نحن، وأنا قرأت تراجمهم حتى إن بعضهم بلغه كلمة عن فلان فهجره وغضب عليه، مثلما يحدث بيننا، فقد تبلغنا كلمة عن أخ أو أحد فنغضب عليه، بل إن بعضهم غضب لأجل أمر.
فقضية أنك ترفعهم إلى درجة العصمة لا.
لكن أقول هم أفضل منا، وليس بيننا وبينهم نسبة ولا تناسب ولا مفاضلة، فقد زكاهم الله من فوق سبع سموات وهم صفوة الخلق، وهم الرعيل الأول المفضل.
ولكن مع ذلك حصل منهم ما حصل، وأتى بينهم من الكلمات، وبعضهم اعتدى على بعض، وبعضهم حمل السلاح على بعض، وبعضهم هجر بعض، ومع ذلك قال الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] فقضية أن نتنكر لوقائع التاريخ وقضايا السير ليس بصحيح، بل إن الله عز وجل عاتب رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن على بعض القضايا، وعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة على أشياء، ولامهم صلى الله عليه وسلم على بعض الأمور، لأنهم بشر يخطئون.
هذا ما أريد أن أقوله لكم -أيها الإخوة- في هذا المجلس.(142/21)
عاص يريد التوبة
السؤال
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني
وعندي من الخطايا والذنوب ما لا يعلمه إلا الله، ومع ذلك لا يعلمون ذلك، فماذا أفعل؟
الجواب
أولاً: لا يشترط أن تخبر الناس بذلك، والمطلوب من المسلم أن يحسن ظن إخوانه به، وأن يحمد الله عز وجل على ستر الله، وأن يستمر دعاء ربه ومولاه أن يوفقه.
ثانياً: أن الذي يصلح بينك وبين الناس وينشر عنك الذكر الحسن والثناء الطيب هو الله، وذلك بأن تصلح ما بينك وبينه، فإنك إن أصلحت ما بينك وبينه نشر الله لك الحب والقبول والثناء الحسن، وإذا أفسدت ما بينك وبينه نشر الله لك البغض والشنعاء واللعنة والمقت، حتى يقول بعضهم:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
إذا صح منك الود فالكل هينٌ وكل الذي فوق التراب تراب
إلى آخر ما قال.
وعند ابن حبان {من أرضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضا الله رضي الله عنه وأرضى عنه الناس}.
وقضية أخرى أنه ليس هناك أحدٌ معصوم يسلم من الذنب إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام، فكلٌ له ذنب وكلٌ له خطأ وكلٌ له سيئة، لكن تب بينك وبين الله.
ثالثاً: ثم إنه لا يشترط -أيها الإخوة- أن الإنسان إذا عصى الله أن يقول للناس: لا تظنوا بي خيراً، بل إني عاص، فهذا ليس من منهج أهل السنة، بل يجب أن يستتر بستر الله ويفرح بحفظه، ويحمد الله عز وجل على أن أوجد له خيراً.
رابعاً: أنه قد يكون لك خير لا تدري أنت عنه، قد اطلع الله عليه وعلى سريرتك أنها خيرة، فنشر لك القبول والحب، وأنت لا تدري فبعض الناس يبلغ به سوء الظن بنفسه إلى درجة أن يحطم نفسه، ولا ينظر لنفسه إلا نظرة سوداوية من الوسوسة حتى تقول لأحدهم: أنت فيك خير، قال: لا.
ليس في خير لو تعلم ما عندي لما زكيتني، أقول: أراك تصلي الصلوات الخمس، قال: لا.
ولو، أراك تقرأ القرآن، قال: لا.
ولو، أراك تحب الله ورسوله، قال: لا.
ولو، فيسحق نفسه سحقاً ويحطمها تحطيماً.
وهذا ليس مطلوباً في الإسلام، لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور:21] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] انظر كيف يفترون على الله الكذب في آيات كثيرة، فأخبرنا سبحانه أنا أهل نقصٍ وتقصير، أما البيت الذي بدأ به الأخ فهو لـ أبي العتاهية وهو من أجود أبياته وهو ضمن أبيات يقول فيها:
إلهي لا تعذبني فإني مقرٌ بالذي قد كان مني
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني
وكم من زلةٍ لي في البرايا وأنت عليَّ ذو فضلٍ ومنِّ
إذا فكرت في ندمي عليها عضضت أناملي وقرعت سني
إلى أبياتٍ كثيرة، ويقول عبد الله بن محمد الأندلسي في قصيدته (أربِحِ البضاعة):
يا من سترت مثالبي ومعايبي وحلمت عن سقطي وعن طغياني
والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام عليَّ من يلقاني
وأبو نواس يقول:
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ فبمن يلوذ ويستجير المجرم
ما لي سواك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم
ولما حضرت الشافعي الوفاة سالت دموعه فأنشد وقال:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا ربي لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وهذا أمرٌ عظيم، فإن الإنسان إذا ذكر رحمة الله وحلمه وكرمه تصاغر ما عنده من الذنوب، وإذا ذكر أخذ الله وبطشه وعذابه تقالَّ ما عنده من الحسنات، فالمؤمن يعيش بين الرجاء والخوف، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:1 - 3] والرجاء والخوف عند أهل السنة جناحان للطائر لا يطير إلا بهما، فأنت بين الخوف والرجاء.
نسأل الله أن يحفظنا وإياكم، وأن يجمع كلمتنا وأن يوحد صفوفنا، وأن يجمعنا بكم في دار الكرامة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(142/22)
كيف ربى الرسول أصحابه؟
النبي صلى الله عليه وسلم مربي الأجيال، مخرج الأبطال، يا ترى كيف ربى الصحابة؟
على أي شيء رباهم؟ ما هو الهدف الذي جعلهم يعيشون من أجله أو يموتون من أجله؟
كيف كانت تربيته عليه الصلاة والسلام لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة؟
كل هذا ستعرفه في هذا الدرس إن شاء الله.(143/1)
وقفة مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة.
اللهم صل وسلم على محمد ما تضوع مسك وفاح، وما ترنم حمام وناح، وما شدا بلبل وصاح.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أنا من الأزد أنصار الرسول ولي وسيلة الحب إني من محبيه
دمي ودمعي مدادٌ في مدائحه وفيض قلبي يعفورٌ يناديه
أبي معاذ أناغي ورق دوحته حسان جدي سأبني في قوافيه
أنا الليلة لا أتكلم عن سياسي بل أعظم من الساسة، ولا عن اقتصادي بل أعظم من الاقتصاديين، ولا عن عالم بل أعظم من العلماء، ولا أتكلم عن زعيم بل أعظم من الزعماء، ولا عن أديب بل أعظم من الأدباء.
المصلحون أصابعٌ جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الأنواء
وإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحماء
فصلى الله وسلم على بطل الصحوة الرائدة، وأستاذ الصحوة الخالدة، وموجهها ومعلمها؛ فما اجتمعنا إلا على رسالته، ولا تآخينا إلا على منهجه، ولا تصافينا إلا على مبادئه الخالدة.
شكر الله لمن شاد هذا المسجد، وشكر الله لإمامه، وشكر الله لمن قدم المحاضرة، وشكر الله لكم حضوركم، ورفع منازلكم، وجمعنا بكم في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.
تعالوا معنا ننظر كيف ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، كيف أخرجهم من النار.
يوم أتى زعماء الطين والتراب فسحقوا شعوبهم ليربوا منهم عبيداً وأرقاء وعمالاً وطبقات خافضةً مستعبدةً وجيوشاً مجندة، ربى محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه على الحب.
يوم أتى استالين ولينين وهتلر يسحقون البشر ويعذبونهم ويحرقونهم.
قالوا هم البشر الأعلى وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا
أتى محمد عليه الصلاة والسلام ليخرج من الأمة العربية البائسة الأمية أمةً ماجدةً رائدةً خالدةً: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الجمعة:2].
يا قوميون: أين مدكم قبل الإسلام؟ أين تاريخكم قبل الرسالة الخالدة؟ طنطنتم في الصحف والمجلات، ودندنتم في الإذاعات بأن لكم مجداً قبل الإسلام، أمجد عنترة الإرهابي! أم مجد حاتم المشرف على الوثنية! أم مجد عبس وذبيان وداحس والغبراء!، لا.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمةٍ جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
فأمدها مدداً وأعلى شانها وأزال شانئها وأصلح بالها
كما ذكر أخي وزميلي المقدم: أن هذه الصحوة العارمة الرائدة تحتاج إلى موجه وإلى أستاذ وإلى بطل، وموجهها وأستاذها وبطلها محمد عليه الصلاة والسلام هو لا يزال يقود الركب بسنته حتى يسلم الأمة ويدخلها من باب الجنة عليه الصلاة والسلام، وإن هذه الصحوة رفعت الرءوس، فلك الحمد يا رب، ظن المستعمر أنه سوف يسحق شبابنا، وسوف يغريهم، وسوف يهاجمهم بالمرأة والكأس، فأبى الله إلا أن يتم نوره، ورد كيد المستعمر في نحره، وأقبلت وجوه الصحوة تسجد لله ويقول لسان حالها:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
أصول هذه المحاضرة خمسة أصول:
أولها: تربيته عليه الصلاة والسلام لأصحابه على الحب لله ولرسوله، حباً يقطع من أجله الجسم ويمزق من أجله شغاف الروح.
الأصل الثاني: تربيتهم على الشجاعة والإقدام، يقتحمون الأسوار ويسلمون أرواحهم للسيوف تمزقها لتدخل جنة عرضها السموات والأرض.
الأصل الثالث: الصراحة والوضوح، يأتي الطارف من الرعية والبدوي الأعرابي فيتكلم في حوار ساخن حار مع عمر وهو على المنبر ويقاطعه في الخطبة، ويستمع الجمهور لهذا الراعي مع هذا الفرد من الرعية بتربية محمد عليه الصلاة والسلام.
الأصل الرابع: اللين والرفق الذي سلكه محمد عليه الصلاة والسلام يوم قدم دعوته في أطباق الحب وعلى رياحين المودة وعلى باقة من الإخلاص والالتزام.
أما الأصل الخامس: فهو تربيته على الطموح وعلو الهمة، ولا يرضى أحدهم بالدنيا وقصورها وذهبها وسياراتها من أجل أن يبيع ولو طرفة عين شيئاً من مبادئه.(143/2)
الصحابة يتربون على حب الله وحب نبيه صلى الله عليه وسلم
فأما الأصل الأول: فإنه أعظم الأصول؛ أتى عليه الصلاة والسلام فأتى اليهود يتعاطسون عنده، يقولون: نحن نحب الله ولكن لا نتبعك، فكذب الله حبهم وأبطل دعواهم، وقال لهم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب:21].(143/3)
عمر بن الخطاب وحب النبي صلى الله عليه وسلم
أتى عليه الصلاة والسلام فلقنهم حب الله عز وجل، وحبه صلى الله عليه وسلم، يقول في حوار مكشوف وعمر يقول له: {يا رسول الله! والله إنك أحب إلي من مالي ومن أهلي ومن ولدي إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال: فوالله -يا رسول الله- إنك أحب إلي حتى من نفسي}.
وفي سنن الترمذي بسند حسنه بعض أهل العلم: أن عمر لما أراد العمرة، قال له صلى الله عليه وسلم: {لا تنسنا من دعائك يا أخي}.
قائد عظيم وزعيم عملاق يقول لأحد تلاميذه: أخي، قال عمر -معلقاً-: كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما عليها، وذهب عمر إلى العمرة، لكن كأنه ترك قلبه مع الرسول عليه الصلاة والسلام وأشواقه وأحاسيسه وإشراقه.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
هذا هو الحب، والحب أثبت أصالته في المعركة، من الذي دفع أنس بن النضر أن يهب بسيفه من المدينة إلى أحد؟ فيقول له سعد بن معاذ: [[عد، عد يا أنس، قال: إليك عني يا سعد، والله الذي لا إله إلا هو، إني لأجد ريح الجنة من دون أحد]] ويموت ويضرب بثمانين ضربة، أليس هذا حباً صادقاً؟! بل وضوح والله، بل فداء معناه الحب لله ولرسوله.(143/4)
حنظلة غسيل الملائكة ومحبة الله ورسوله
من الذي دفع حنظلة الغسيل- وحديثه صحيح- أن يترك زوجته في أول ليلة وهو عروس ويهب وعليه جنابة، فيقتل نفسه في سبيل الله، ويقدم دمه علامة على الحب، حتى يقول عليه الصلاة والسلام وهو يلتفت إلى السماء ويشيح بوجهه: {والذي نفسي بيده! إني لأرى الملائكة تغسل حنظلة بين السماء والأرض} أليس حباً هذا؟! بل والله من أعظم الحب وأرقى الحب.(143/5)
عبد الله الأنصاري وحب الشهادة
ويأتي ابن عمرو - عبد الله الأنصاري والد جابر - فيتكفن بعد أن يغتسل ويتطيب ويكسر غمد سيفه على ركبته ويلتفت، ويقول: [[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]].
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود
ويذهب فيقتل، فيبكي ابنه جابر، فيقول صلى الله عليه وسلم: {ابك أو تبك، والذي نفسي بيده! ما زالت الملائكة تظل أباك بأجنحتها حتى رفعته، والذي نفسي بيده لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان، قال: تمنّ -واسمع إلى الأمنية والطموح وعلو الهمة- قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمنّ قال: أتمنى أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك، فقال الله: فإني أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبدا}.
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الذي باع الحياة رخيصةً ورأى رضاك أعز شيء فاشترى؟(143/6)
عبد الله بن جحش وعلامة حبه لله تعالى
هم أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام رباهم على الحب، فيأتي عبد الله بن جحش أول من سمي بالأمير يوم أحد، فيقول: [[يا رب اللهم إنك تعلم أني أحبك - وهذا مهر البيعة- اللهم إن كنت تعلم ذلك فلاق بيني وبين عدو لك شديد حرده، قوي بأسه، فيقتلني فيك -ما قال: أقتله- فيبقر بطني ويجدع أنفي ويفقع عيني ويقطع أذني، فإذا قلت لي: يا عبدي لِمَ فُعِل بك هذا؟ فأقول: فيك يا رب]].
هل قتل أتباع استالين ولينين وهتلر على ذلك، كذب الأعداء الأخساء، كذب الدجاجلة، والله ما قادوا الشعوب إلا بالحديد والنار، أما رسولنا عليه الصلاة والسلام فقاد القلوب إلى الحي القيوم وهي تقيه من جراحات الأسهم وتحوطه بسياج من النور في أحد حتى تقع الأسهم فيها، وأحدهم يقول: نفسي لنفسك الفداء يا رسول الله.
أولاً: حب الله عز وجل وحب رسوله عليه الصلاة والسلام حباً صادقاً أكثر من الزوجة والأهل والمال والولد، ولذلك أحباب الله يسارعون إلى محاب الله، وفي حديث عند الطبراني من قوله عليه الصلاة والسلام: {يضحك ربك إلى ثلاثة -ولله ضحك يليق بجلاله لا نكيفه ولا نمثله ولا نشبهه ولا نعطله- أحد الثلاثة رجل حمله الحب سافر في قافلة وتعب في السفر، فلما نزل أصحابه قبل الفجر ناموا على الأرض، وأما هو فما نام، قام إلى الماء البارد فتوضأ واستقبل القبلة يبكي ويدعو ويناجي الواحد الأحد، فيقول الله لملائكته: يا ملائكتي! انظروا لعبدي هذا ترك فراشه الوثير ولحافه الدفيء وقام إلى الماء البارد يتوضأ ويدعو ويتملقني، أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة} أليس بحب؟ بل أعلى من كل حب.
في مذكرات لبعض الدعاة: أن شاباً مسلماً من بلاد الجزيرة العربية سافر إلى بلاد الإنجليز إلى لندن وهناك أعلن توحيده وأعلن صموده وأعلن إيمانه، لأنه خرج من بلاد الحرمين، من جزيرة التحدي للزنادقة وللملحدين، من جزيرة الإبداع والسمو والجمال والروعة والصفاء، وهناك سكن في بيت إنجليزي مع عجوز اضطر لذلك اضطراراً، وكان يقوم مع صلاة الفجر في البرد القارس المثلج إلى صنبور الماء فيتوضأ، وتلاحظه عجوز إنجليزية في البيت كل صباح، فتقول له: أمجنون أنت؟ قال: لا.
قالت: وكيف تقوم في هذه الساعة لتتوضأ؟ قال: ديني يأمرني بذلك، قالت: ألا تتأخر؟ قال: لو تأخرت لما قبل الله مني، فهزت رأسها وقالت: هذه إرادة تكسر الحديد.
من الذي أتى بهذه الإرادة وزرعها في القلوب؟ إنه محمد عليه الصلاة والسلام.
والفيافي حالمات بالمنى عجباً من قلبك الفذ الكبير
وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاليمه لا تزال كالفجر لامحة لمن أراد أن يستفيد من تعاليمه.(143/7)
الصحابة يتربون على الشجاعة والإقدام
أما الأصل الثاني: فتربيتهم على الشجاعة والإقدام، الحياة ليست عبودية لأهل المادة، والحياة ليست -كما نقل إلينا من الغرب وربي عليها شبابنا- مستقبلاً وتأمين المستقبل، والخوف على المستقبل، من الذي يؤمن المستقبل إلا الله الواحد الأحد! من الذي يحفظ المستقبل إلا الله!
يقولون للشاب في الثلاثين: أَمن مستقبلك، فإذا مستقبله زوجة وسيارة وفلة، يصبح فيقول: أصبحنا وأصبحت الفلة لله! وأمسينا وأمست السيارة لله! يفكر في الفلة وهو ساجد، وفي الزوجة وهو راكع، وفي السيارة وهو على جنبه، أي طموح وأي شجاعة هذه! ويسعى من أجل الفلة، ويحيا من أجلها، ويسميها مستقبلاً وهذا ليس مستقبلاً، بل هو مستقلب، لأن المستقبل أن تكون مؤمناً بالله وأن تهيئ لك مكاناً في جنةٍ عرضها السماوات والأرض.(143/8)
شجاعة ابن تيمية أمام ابن قطلوبك
ابن قطلوبك وما أدراك من ابن قطلوبك سلطان لا يعرف الفاتحة دخل عليه ابن تيمية، فأمره ونهاه وهز أكتافه بقال الله وقال رسوله، فقال ابن قطلوبك: يـ ابن تيمية يزعم الناس أنك تريد ملكنا وملك آبائنا وأجدادنا، فيضحك ابن تيمية، ويقول: ملكك وملك آبائك وأجدادك؟! قال: نعم.
قال: والله، لا يساوي ملكك وملك آبائك وأجدادك عندي فلساً، إني أريد جنةً عرضها السماوات والأرض.
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
فأتى عليه الصلاة والسلام يربي الصحابة على الشجاعة والإقدام، وعلى أن أعظم ما يمكن أن يدفعوه أن يقدموا أرواحهم في سبيل الله.
قال الأستاذ المربي العظيم -نور الله ضريحه، وسقاه الله شآبيب الرضوان- قال: في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:111] قال في كلام ما معناه: أنزل الله صكاً من السماء أتى به جبريل وأملاه محمد، ونص المعاهدة (إن الله اشترى الآية) فتقدم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام بالثمن، ما هو الثمن؟ الأرواح، والسلعة؟ الجنة، فتبايعوا، فقال ابن رواحة: {يا رسول الله! ماذا تريد منا؟
قال: أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأطفالكم وأموالكم، قال: فما لنا إن فعلنا ذلك؟ قال: لكم الجنة، قال ابن رواحة: ربح البيع، والله لا نقيل ولا نستقيل ثم قام من المجلس} فقال ابن القيم: والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تفرقا، فقد وجب البيع.
أليس هذا أرقى علوم التربية عند ابن القيم؟ أما كان بالأولى أن تدرَّس كتب ابن القيم في الجامعات والمؤسسات والمدارس والندوات والأمسيات، ولا تدرس خزعبلات ديكارت وكانت، وكل عميل متزندق ملحد! إنها {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
أحد الحاقدين من القبوريين المبتدعة النبهاني، يقول: كتب ابن تيمية وابن القيم ما لقيت رواجاً في الأوساط لسوء نيات أصحابها، فتصدى له الألوسي، وقال: كذبت يا عدو الله، أما كتب ابن تيمية وابن القيم فهي الذهب الإبريز، والعسل المصفى، أما كتبك وكتب أشياخك فتصلح لأن تكون مخابئ الأحذية ومخالي يوضع فيها الشعير للحمير.
هذا هو الأصل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
والشاهد: تربيته صلى الله عليه وسلم أصحابه على الشجاعة، ليس كـ النصرانية يقولون: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، احتقار العبيد سلوك البربر! والتربية عنده صلى الله عليه وسلم شجاعة في موضع الشجاعة، وحلم في موضع الحلم، وحزم في موضع الحزم، وخلق في موضع الخلق.(143/9)
شجاعة حبيب بن زيد أمام مسيلمة الكذاب
يرسل صلى الله عليه وسلم حبيب بن زيد - وهو شاب- إلى الدجال الأفاك الأثيم الكذاب مسيلمة في اليمامة، فيأتيه ويدخل عليه قصره - معتزاً بقوة الله تعالى متجرداً من قوة الأرض- فيقول له مسيلمة: من أنت؟ فيقول: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم أشهد، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: لا أسمع شيئاً، فأعاد عليه الكلام، فأعاد عليه الكلام، فأمر جنوده أن يقطعوه إرباً إرباً قطعةً قطعةً، فأخذوا يقطعون منه قطعة فتتدحرج في الدم إلى الأرض، فيعيد الكلام له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم أشهد، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: لا أسمع شيئاً حتى قتل ونحر شهيداً وارتفعت روحه إلى الله.
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * {وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].(143/10)
شجاعة خالد بن الوليد وإقدامه
خالد بن الوليد يقتحم الصفوف يوم مؤتة يُقتل القواد الثلاثة، تقطع يد جعفر، من علمه أن تقطع يده؟ محمد عليه الصلاة والسلام؛ يأخذ الراية باليسرى، فتقطع يسراه، يحتضن الراية وتمزق وتكسر في صدره، ويقول وهو يتبسم:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
عليَّ إن لاقيتها ضرابها
أما الاستخذاء والخوف من الزلازل والبراكين، لو وقع بركان في الفلبين فإن بعض المنافقين يخافون وهم هنا {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] لأنهم ما أعدوا إيماناً وما حملوا رسالة، يريدون ألا ترتفع عليهم الأسعار، ولا تنقطع منهم الأمطار، ولا تذبل عليهم الأشجار، ولا يغلى عليهم الخس والجرجير، لأن مستواهم هكذا وطموحهم هكذا وحياتهم هكذا: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
يأتي خالد بن الوليد بعدما قتل القواد الثلاثة، وخالد سيف الله سله على المشركين، فيقول: ناولوني السيوف، يعني: أعطوني السيوف لأريكم هذا الشغل الذي يبيض وجوه المؤمنين، أبو سليمان، فأخذ -بيض الله وجهه- السيف الهندي فكسره على رءوس الأعداء، ثم أخذ الثاني -هذه القصة يرويها ابن كثير - فكسره حتى كسر تسعة سيوف، ثم ما ثبتت في يده إلا صفيحة يمانية، قال ابن كثير: قتل بيده ذاك اليوم وحده خمسة آلاف.
تسعون معركة مرت محجلةً من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
وما أتت بقعة إلا سمعت بها الله أكبر تدوي في نواحيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
جنود إسرائيل في بعض المعارك مع العرب يحملونهم بالسلاسل في الطائرات ويدخلونهم بالسياط والأمر العسكري، يفرون؛ لأنهم يقاتلون بلا مبادئ ولا شجاعة ولا طموح، وبعض الجيوش العربية دخلت إسرائيل، فقالوا لأحد قاداتهم: صلوا الظهر، قال: الصلاة إذا رجعنا إلى بلادنا، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، فترك جزمته وفر هارباً.
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار(143/11)
شجاعة عمير بن الحمام في معركة بدر
فمحمد عليه الصلاة والسلام لقن أصحابه الشجاعة والإقدام، عمير بن الحمام يأتي عليه الصلاة والسلام فيخطب قبل المعركة في ساعة الصفر في بدر ساعة الخطر خطر ممنوع الاقتراب، فيقول: {يا أهل بدر: إن الله اطلع عليكم، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، والذي نفسي بيده، ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء فتدخلون الجنة، قال عمير بن الحمام وهو يأكل تمرات: يا رسول الله! ما بيننا وبين الجنة إلا أن يقتلنا هؤلاء فندخل الجنة قال: إي والذي نفسي بيده، فيلقي التمرات، ويقول: والذي نفسي بيده إنها لحياة طويلة إذا بقيت إلى أن آكل هذه التمرات، ثم يقاتل حتى يقتل}.
وليست على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما(143/12)
الصحابة تربوا على الصراحة والوضوح
وربى عليه الصلاة والسلام أصحابه على الصراحة والوضوح، وهو الأصل الثالث من أصول التربية، ليس هناك ألغاز ولا مجاملات ولا نفاق ولا تقية، بل وضوح وصفاء أبناء الصحراء يعيشون بصفاء الصحراء، لا مجاملة ولا تستر، وإنما وضوح، كلمة صادقة إلى قلب صادق.(143/13)
عمر وقوته في الحق
يأتي عليه الصلاة والسلام كما سبق معنا، فيقول عمر: إنك أحب إلي من كل شيء يا رسول الله إلا من نفسي.
ألم يصدق؟! هل جامل؟ بعضنا اليوم يقول لأخيه وهو يكرهه: والله إني لأحبك، وهو يتمنى أن يمزق وأن يقطع وأن يموت، لكن الصحابة كانوا لا يعرفون المجاملة إنه دين الوضوح.(143/14)
صحابي أتى زوجته في نهار رمضان
يأتي رجل فيقول -والحديث في الصحيحين -: {يا رسول الله! هلكت؟ قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على أهلي وأنا صائم، قال: أعتق رقبة، قال: ما أملك إلا رقبتي -وضوح وصراحة- قال: صم شهرين متتابعين، قال: وهل أوقعني فيما أوقعني إلا الصيام -يعني: ما استطعت أن أكمل يوماً حتى وقعت فأصوم شهرين- قال: أطعم ستين مسكيناً، قال: على أفقر مني -يعني: وأنا فقير لا أستطيع أن أطعم نفسي فكيف أطعم ستين- قال: اجلس، فجلس، فأتى مكتل من تمر، أو من طعام -الله أعلم به- فقال عليه الصلاة والسلام: خذه ووزعه على الفقراء في المدينة -أو كما قال- قال: على أفقر مني يا رسول الله؟ والله ما بين لابتيها رجل أفقر مني، قال: خذه وأطعمه أهلك}.
أليس وضوحاً وصراحة؟ لا مجاملة، لا استخذاء، لا معاكسة، لا تستر؛ إنما هو صدق واضح يوصله إلى رضوان الله عز وجل: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148].
رد عليه الصلاة والسلام أصحابه إلى أن يتكلموا بما في قلوبهم، وجعل من خالف قوله فعله منافقاً، والله أعلم بما في القلوب: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:11] أما المؤمن فقلبه ولسانه سواء.(143/15)
الوضوح عند رجل يشترط على النبي أن يسمح له بالزنا
يأتيه رجل، فيقول عليه الصلاة والسلام له: {أسلم، قال: أسلم يا رسول الله! ولكن أشترط شرطاً -وضوح وصراحة- قال: ما هو؟ قال: أن تبيح لي الزنا، فإني لا أستطيع أن أصبر، فقام الصحابة يريدون أن يبطحوه أرضاً، قال: دعوه، ثم قربه ووضع يده -الحبيبة اللطيفة الشريفة- على صدر هذا الرجل، قال: أترضى الزنا لأمك؟ قال: لا.
قال: أترضاه لأختك؟ قال: لا.
قال: أترضاه لابنتك؟ قال: لا.
قال: أترضاه لعمتك؟ قال: لا.
قال: أترضاه لخالتك؟ قال: لا.
قال: أفترضى للناس مالا ترضاه لنفسك! قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، أتوب إلى الله حتى من الزنا}.
تربية خالدة! وعلم رائع جميل! وما أحسنه إذا أخذ في ميزان التطبيق والعمل من محمد عليه الصلاة والسلام.(143/16)
اللين والرفق في تربية النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة
اللين والرفق:
أتى عليه الصلاة والسلام بمدرسة اللين والرفق: {ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه} يرسل الله عز وجل موسى وهارون إلى فرعون، فيقول لهما وهما في الطريق: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه:44] اللين عجيب.
تخذني خليلاً أو تخذ لك صاحباً خليلاً فإني مبتغٍ صاحباً مثلي
عزيز المنال لا ينال مودتي من الناس إلا مسلم كامل العقل
ولا يلبث الأخدان أن يتفرقوا إذا لم يؤلف روح شكل إلى شكل
وقال ابن المبارك:
إذا صاحبت قوماً أهل ودٍ فكن لهم كذي الرحم الشفيق
ولا تأخذ بزلة كل قومٍ فتبقى في الزمان بلا رفيق
بسمةٌ وحنوٌ ومعانقةٌ وبشاشةٌ تشترى بها القلوب، دايل كارنيجي الأمريكي مؤلف دع القلق وابدأ الحياة ومؤلف كتاب كيف تكسب الأصدقاء أتى بأمور في الإسلام، لكن ما درى الخواجة العميل أن هذه الأمور في تربيتنا، فأتى بعض المربين من عندنا فنقلوا من كتابه ولم ينقلوا من صحيح البخاري ولا من صحيح مسلم.
سبحان الله! ما هذا الغباء؟! تأخذون من الأجنبي ولا تأخذون من الحبيب القريب عليه الصلاة والسلام حتى يقولون: كيف تكسب الأصدقاء؟ كما قال دايل كارنيجي في صفحة (72) عليك أن تتبسم وأن تستمع لصديقك وأن تلين له جانبك لتكسبه صديقاً.
سبحان الله! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {تبسمك في وجه أخيك صدقة} ويقول عند الترمذي: {ألا أنبئكم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ قالوا: بلى، قال: أحاسنكم أخلاقاً} {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].(143/17)
لين النبي مع الأعرابي الذي بال في المسجد
تعالوا إلى نماذج من اللين: يأتي عليه الصلاة والسلام فيصلي بالناس، فيأتي أعرابي من الصحراء، فيصلي معه، وفي التحيات يدعو الأعرابي ويرفع صوته ويقول - انظر إلى قلة الفقه في الدين-: {اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً} فيسلم عليه الصلاة والسلام، ولينه في تصرفاته وفي كلماته شيء عجيب، فقال-ولم يجبهه بهذا-: {من قال منكم كذا وكذا؟} وهو يدري أنه الأعرابي، لكن يريد أن تأتي من الأعرابي، فسكت الناس، قال: {من قال منكم كذا وكذا؟} فرفع الأعرابي يده يتحرى جائزة، قال: أنا يا رسول الله، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: {لقد حجرت واسعاً إن رحمة الله وسعت كل شيء} {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] فقط! {اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً} ومن أنت حتى تحجر على الأمة رحمة الله، فلا يدخل فيها إلا اثنان؟ هذا خطأ، فما يلبث الأعرابي إلا أن يكمل طريقه ومشواره، فيذهب في طرف المسجد، فيبول؛ تضيق به الدنيا إلا مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، فيقوم الصحابة يريدون أن يلقنوه درساً من التعليم لا ينساه أبد الدهر، فيقول- صلى الله عليه وسلم-: دعوه اتركوه، ويجلسهم عليه الصلاة والسلام ويستدعي الأعرابي فيجلسه بجانبه؛ الأمر أسهل من ذلك.
يقول ابن تيمية: ليس الذكي الذي يعرف الخير من الشر، لكن الذكي الفطن الذي يعرف خير الخيرين من شر الشرين.
أمر عجيب! فيجلسه، ويقول: عليَّ بذنوب من ماء، فيأتون بذنوب من ماء، فيصبونه على بول الأعرابي انتهت المشكلة، ويمسح كتف الأعرابي ويتبسم له، ويقول: {إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من الأذى والقذر، إنما هي للتسبيح والتكبير والتحميد والتهليل} فيقوم الأعرابي ويتوضأ ويصبح مسلماً، ويخبرهم- صلى الله عليه وسلم- أنهم لو ضربوه ارتد فدخل النار.(143/18)
لين النبي مع الأعرابي الذي طلبه مالاً
أعرابي آخر يأتي وفي رأسه أمور الله أعلم بها؛ وساوس، فيجر الرسول- صلى الله عليه وسلم- من بردته، وكان عليه برد غليظ الحاشية نجراني، فيؤثر في جانبه وفي كتفه وفي عنق الرسول عليه الصلاة والسلام، فيلتفت إليه صلى الله عليه وسلم، فيقول الأعرابي بكلمة أقبح من الفعل: {أعطني يا محمد من مال الله الذي عندك لا من مال أبيك ولا أمك} وما الداعي لهذا الكلام؟ ولماذا هذا الجرح؟ ولماذا هذه الجفوة؟ ولو ألقي هذا الكلام على أحد العملاء وزعماء الضلالة والإلحاد لما رئي إلا بطون أرجلهم من على رءوس الناس.
فقام قال صلى الله عليه وسلم وتبسم إليه وضحك إليه، فقام الصحابة يريدون أن يلقنوه درساً، فقال- صلى الله عليه وسلم: دعوه ثم أخذه بيده فأعطاه من مال الله زبيباً وحباً وثياباً، فمن أراد الزبيب وجده، والحب أخذه، ومن أراد الإيمان واليقين والقرآن وطريق الله المستقيم كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وجده، وبعد أن أعطاه- قال: أحسنت إليك قال: نعم.
فجزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خير الجزاء، قال: إذا خرجت فقل لأصحابي ذلك، فإنهم وجدوا في أنفسهم، فيخرج به صلى الله عليه وسلم، ويسأله أمامهم، قال: نعم، جزاك الله من أهل وعشيرةٍ خير الجزاء، فيتبسم صلى الله عليه وسلم، ويقول: {أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الأعرابي؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: مثلنا كرجلٍ كانت له دابة فرت منه فلحقها، فلما رآها الناس فرت لحقوها، فما زادت إلا فراراً، قال الرجل: يا أيها الناس! خلوا بيني وبين دابتي فأنا أعرف بها، فأخذ شيئاً من خضار الأرض وخشاش الأرض، فأشار للدابة فأتت وأكلت فأمسكها وقيدها، ولو تركتكم وهذا الأعرابي لضربتموه، ثم ارتد فدخل النار}.
عاد الأعرابي إلى قومه، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا عن بكرة أبيهم.
إنها الدعوة الرائدة! إنه الرفق واللين! وإن هذا الأصل الرابع من أعظم أصول التربية.
إن الجفاء والغلظة لا تكسبك إلا بغضاً وحقداً، وإن الرفق واللين يكسبك القلوب ويشتري لك الأرواح، قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: {والله ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي}.
ما أحسن البسمة! فيها السحر الحلال، قيل لأحد العلماء: ما هو السحر الحلال؟ قال: تبسمك في وجوه الرجال.
وفرق بين المتكبر الجافي الغليظ الذي لا يتبسم، وإذا تبسم كأنه يقطر عليك بالقطارة، أو كأنه ينفق عليك من دمه، أو كأنه يمن عليك بهذه البسمة، فلذلك يقول الشاعر في القسمين: الجافي الغليظ والمتبسم البشوش، يقول:
وجوههم من سواد الكبر عابسةٌ كأنما أوردوا غصباً إلى النار
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار
ليسوا كقومٍ إذا لاقيتهم عرضاً أعطوك من نورهم ما يتحف الساري
تروى وتشبع من سيماء طلعتهم بوصفهم ذكروك الواحد الباري
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري(143/19)
لين النبي مع معاوية بن الحكم
هديه عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي: أنه دخل المسجد، فدخل في الصلاة مع الصحابة وراء الرسول عليه الصلاة والسلام، فعطس رجل في الصلاة، فقال معاوية -وهو لا يعرف الحكم-: رحمك الله! فضرب الصحابة على أفخاذهم ينبهونه، قال: ويل أمي ماذا فعلت؟! يريدونه أن يسكت، فلما سلَّم عليه الصلاة والسلام- يقول معاوية فدعاني -بأبي هو وأمي- ما رأيت معلماً أحسن منه! ولا أعلم منه! ولا أرحم منه! ما نهرني ولا سبني ولا شتمني وضع يده على كتفي وقال: {إن هذه الصلاة لا تصلح للكلام، وإنما هي لقراءة القرآن والذكر والتسبيح} وأي إبداع بعد هذا الإبداع؟ وأي لين بعد هذا اللين؟
إنه أصل من أصول التربية اللين والرفق في حياته عليه الصلاة والسلام.(143/20)
الطموح وعلو الهمة يتربى عليهما الصحابة
أما الأصل الخامس: فالطموح وعلو الهمة:
الطموح يا شباب الصحوة، الطموح يا شيوخ التوحيد، الطموح يا جنود الإسلام، إن محمداً صلى الله عليه وسلم ربانا لنكون مؤمنين، وإن تلكم التربية الغربية التي طمت وعمت علينا، فأخرجت من الطفل الذي كان مؤهلاً ليكون كـ ابن عباس في شبابه، أو كـ ابن الزبير طفلاً هوايته في جمع الصحف والمجلات، جمع الصحف والمراسلة، أو جمع الطوابع! لا قرآن لا صلاة لا جهاد لا دعوة لا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، بل جمع طوابع ومراسلة وصيد حمام، ومطاردة دجاج وأرانب، أهذه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؟ ربوه على ذلك، لا يعرف إلا الدراجة، وصيد الحمام والدجاج، وأكل السمك والمراسلة، ثم إذا ارتقى وانتكس ولم يعرف طريق محمد عليه الصلاة والسلام، أخذ عوداً، لم يزد الأمة إلا خيبةً وندامةً، فغنى فصفقوا له، وقالوا: أنت كوكب، فصدقهم، فألقوا معه مقابلة قالوا: كيف شققت طريقك في الحياة؟ قال: بدأت من الصفر - أنت تحت الصفر أنت تنزل تحت، فكيف تبدأ من الصفر؟! - قال: بدأت من الصفر، فصبرت واحتسبت، وثابرت وسهرت الليل.
سهرتَ الليل بسورة طه والأنفال والأعراف؟ سهرت الليل بمدارسة صحيح البخاري وصحيح مسلم؟ تسهر الليل على (هل رأى الحب سكارى مثلنا) أو:
يا من هواه أعزه وأذلني كيف السبيل إلى وصالك دلني
جهنم هي الوسيلة، ولذلك سموه نجماً وليس بنجم قيل لـ أبي علي الروذباري: ترك بعض الصوفية الصلاة، فقلنا لهم: صلوا، قالوا: وصلنا، يعني: وصلوا إلى درجة، قال: صدقوا وصلوا، ولكن إلى سقر، وما أدراك ما سقر؟!(143/21)
تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على علو الهمة
إن الرسول صلى الله عليه وسلم ربى أصحابه على أصل خامس -علو الهمة- يقول له الصحابة: يا رسول الله! شيء من المال، قال: لا.
الجنة، إما أن تبايع في نصرة هذا الدين ولك الجنة وإما أن تترك، لم يمنِّ أبا بكر بالخلافة، وما قال لـ عمر: سوف تكون الثاني، ولا لـ عثمان: سوف تكون الثالث، ولا علي أنت الرابع، ولا قال لـ خالد: أنت سوف تكون قائداً عسكرياً، إنما قال لهم: لكم الجنة هذا خير لكم، إن صدقتم مع الله فالجنة، أما من الدنيا فما عندي شيء، وما معي إلا بيت من الطين، وحصير من الخزف، وسقف من الخشب، وعصا وشملة.
كفاك عن كل قصرٍ شاهقٍ عمدٍ بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدةً نصب الخيام التي من أروع الخيم
إذا ملوك الورى صفوا موائدهم على شهيٍ من الأكلات والأدم
صففت مائدةً للروح مطعمها عذب من الوحي أو هديٌ من الكلم(143/22)
علو الهمة عند أبي بكر
علو الهمة، ولذلك تربى أبو بكر على علو الهمة، يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري في كتاب الجهاد: {إن للجنة أبواباً ثمانية، فمن كان من أهل الصلاة، دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد، دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة، دعي من باب الصدقة} إلى آخر تلك الأبواب فيسكت الناس، لكن أبا بكر لا يسكت، ضعيف لكن قلبه حارٌ متوقدٌ في همة عالية.
همة همة تنطح الثريا وعزم نبوي يدكدك الجبالا
{قال: يا رسول الله! ألا يدعى أحد من أبواب الجنة الثمانية، أو من الأبواب الثمانية، فيقول عليه الصلاة والسلام: نعم.
وأرجو أن تكون منهم، أنت}.
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
دائماً في المرتبة الأولى؛ همته عالية، لا يعرف إلا أن يكون دائماً متفوقاً؛ في الذكر، في الصلاة، في الجهاد، في الصيام، في الدعوة، في الأمر بالمعروف في النهي عن المنكر، يضرب في كل غنيمة بسهم.(143/23)
الهمة عند ربيعة بن مالك
ويأتي ربيعة بن مالك كما في صحيح مسلم، النبي صلى الله عليه وسلم يستدعي ربيعة ليعطيه من المال، فيريد أن يعطي ربيعة مالاً، قال: يا رسول الله! لا أريد المال، قال: ماذا تريد؟ قال: كلمة بيني وبينك أناجيك، فناجاه في أذنه، وقال: أريد مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك، قال: {فأعني على نفسك بكثرة السجود} أخذ الناس الثياب وأخذ هو رضا الواحد الأحد وأحسن الثواب، أخذ الناس العقار والدار، وأخذ هو رضوان الواحد الغفار، أخذ الناس الدراهم والدنانير، وأخذ هو مغفرة الواحد في دار المصير.
أيها الإخوة! هذه همة عالية ربى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، والذي يعيش بلا همة، ولا رسالة في الحياة ليس بحي: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:21].
أحياتك تتركز على وظيفة فحسب، أو على بطن، أو على فرج، أو على فلة، أو على سيارة، لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام- يريد ذلك، أراد صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يكونوا للجنة، يقول عند ابن ماجة بسند جيد: {ألا من مشمر إلى الجنة؟ فإن الجنة والذي نفسي بيده، نورٌ يتلألأ وقصر مشيد وزهرة وخلود} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، قال الصحابة: نحن المشمرون يا رسول الله! قال: قولوا إن شاء الله.(143/24)
همة عالية عند أحد الصحابة
ولذلك يقول أحد الصحابة: {يا رسول الله! أين ألقاك غداً؟ -يعني يوم الزحام يوم العرض الأكبر- قال: عند مواطن ثلاثة إما عند تطاير الصحف، أو عند الصراط، أو عند الميزان} يعني: الأمر يقين وهو يسعى بهمته العالية إلى هذا الموقف.(143/25)
همة عمرو بن سالم
يقول نعيم بن مالك بن ثعلبة في معركة أحد، والرسول عليه الصلاة والسلام يتكلم على المنبر للناس: {أترون أن نقاتلهم في أحد، أو هنا؟ قالوا: هنا، فقام هذا الشاب وقال: يا رسول الله! لا تمنعني دخول الجنة، فوالله لأدخلن الجنة، قال: بماذا تدخل الجنة؟ -يعني: ما هي المؤهلات؟ - قال: بخصلتين بأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف، قال: إن تصدق الله يصدقك، وأتت المعركة وقتل في سبيل الله ومسح عليه الصلاة والسلام التراب عن وجهه وهو شهيد، وهو يقول: صدقت الله فصدقك الله، صدقت الله فصدقك الله، صدقت الله فصدقك الله}.
علو الهمة، ما أرادوا حطام الدنيا، ووجدوا أن ملاذ الدنيا وسمنها وعسلها ولحمها ومراكبها لا تساوي دقيقة من جهادهم الذي بذلوه في رفع لا إله إلا الله محمد رسول الله، أفيأخذون هذا الجزاء على هذا البذل؟ لا.
فوفروا جزاءهم عند الواحد الأحد.
يقول عمر على المنبر: [[والله إني لأعلمكم بأحسن الطعام، وألين اللباس، وأوسع الدور، ولكن أخشى أن يقال لي يوم القيامة:
{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20]]] ولذلك عمر في برد مرقع.
يقول محمود غنيم:
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
إذاً: ربى عليه الصلاة والسلام أصحابه على الهمة، وهذا مطلب أساسي في هذه الصحوة الرائدة الخالدة المتجهة إلى الله.
إن من أسباب الصحوة هذه علو الهمة، جربوا المبادئ الهدامة، ذاقوا الأطعمة البائسة الحقيرة، صنفوا في كل مكان، فما وجدوا إلا الطريق إلى الله.
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58].(143/26)
شباب الصحوة همتهم عالية
شباب الصحوة همة عالية وطموح فياض، أتى الشاب ففكر في نفسه هل يبيع روحه وأيامه ولياليه بسهرة مع مجلة خليعة، أو فيديو مهدم، أو أغنية ماجنة، أو سيجارة، أو مخدرات، أو جلسة لاهية؟ لا.
الحياة أعظم.
هل يبيع حياته مع كأس وامرأة؟ لا.
الحياة أعظم، هل يبيع حياته سبهللاً؟ لا اهتمام لا تحصيل لا تثقيف ولا فقه في الدين؟ لا.
الحياة أعظم {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
تصور إنساناً يجمع مائة شريط غنائي في الجنس، وفيديو مهدم في بيته، ومجلات يتوسدها كمخلاة الشعير عند رأسه يقرأها صباح مساء أيُّ همة عنده؟! شاب لا يصلي الفجر في جماعة، أيُّ همة عنده؟! شاب لا يراود نفسه على حفظ القرآن والتزود من علم الكتاب والسنة والتحصن بالعلم (قال الله وقال رسوله) أي همة عنده؟! إنه قد جهل الأصل الخامس من أصول التربية التي علم الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه.
إنها علو الهمة.
همة عالية، قال الذهبي - وأنا أوردها والعهدة على الذهبي في ترجمة خالد وكلكم يعرف خالداً أبا سليمان سيف الله المسلول: أتي له بقارورة من سم قبل معركة اليرموك قبل اشتداد المعركة، فقال له الروم: إنكم تزعمون أنكم متوكلون على الله، فإن كنت صادقاً فاشرب هذه القارورة فإنها مملوءة سماً، قال: باسم الله، توكلت على الله، حسبي الله ونعم الوكيل، ثم فتح القارورة فشربها، فما أصابه شيء: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].(143/27)
الهمة العالية عند المجاهدين الأفغان
ومن الهمم العالية التي أوجدها بعض دعاة الصحوة ورواد الصحوة جهاد الأفغان، فهم قوم بسطاء، لكنهم عمالقة في اليقين والتوكل على الله، خرجوا إلى المستعمر الأحمر الذي أتى بطائراته بصواريخه وبدباباته وقصف الأرض، وأشعل السماء، هدم المساجد وقتل الأطفال، أزهق الأنفس وسحق النساء، عذب الشيوخ وحمل أكبادهم على النار، قال لهم الناس: تعالوا إلى هيئة الأمم واشكوا حالكم، قالوا: آمنا بالله وكفرنا بـ هيئة الأمم، قالوا: إلى جنيف، قالوا: آمنا بالله وكفرنا بـ جنيف، وخرجوا على المستعمر بالكلاشنكوف يكبرون ويهللون، فسحقوه وأذلوه أمام العالم وأرغموه على الخروج.
يا أمة المجد والأرواح أثمان في شدة الرعب ما هانوا وما لانوا
كم ملحد ماجن ظن الحقوق له زفوا له الموت مراً وهو مجان
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ
هي من الهمة التي يريدها عليه الصلاة والسلام ألا يستخذي المسلم للمستعمر، وألا يعبد بطنه، وألا يعبد فرجه، وألا يعبد مغرياته وشهواته {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش} لأنه ما عرف الحياة، ما عرف أن الرزق بيد الله، وأن المعطي هو الله، وأن المانع هو الله، وأن المحيي والمميت هو الله، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].
ألا إن ريادة هذه الصحوة أن نعود إلى تربية محمد عليه الصلاة والسلام، التربية من الكتاب والسنة، علم النفس من الكتاب والسنة، الثقافة من الكتاب والسنة، نحن نصدر ولا نستورد، نحن نعطي ولا نأخذ، عندنا ثراء، نحن أغنياء بما عندنا من أصالة، وإن الفاشل والمنهزم الذي يذهب إلى كانت وديكارت ولينين واستالين ليأخذ سلعته ويبيع دينه، يقول لسان حالهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:14 - 18] ما عرفوا التربية، ما عرفوا الأصالة والعمق.
فقل للعيون الرمد للشمس أعينٌ تراها بحق في مغيب ومطلع
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأهوائها لا تستفيق ولا تعي(143/28)
تلخيص لما مضى
ألخص ما أقول: أصول التربية عند الرسول عليه الصلاة والسلام، أو من أصول التربية في حياته خمسة:
أولها: تربية أصحابه على حب الله عز وجل وعلى حب الرسول عليه الصلاة والسلام حباً منقطع النظير أشهى من الماء البارد والعسل المصفى.
الثاني: الشجاعة والإقدام، شجاعة تكسر أسوار الحديد المادي، وشجاعة تقتحم كل حجاب من حجب الشهوة والمادة.
الأصل الثالث: الصراحة والوضوح، صراحة تنبني على انطلاق الكلمة المعبرة من القلب الصادق الذي لا يعرف النفاق، ولا المجاملة ولا الالتواء، عند ذلك يقول عمر على المنبر: [[يا أيها الناس! لو رأيتموني اعوججت فما أنتم صانعون؟ فيسكت الناس ويقوم أعرابي -وقيل: إن عمر قال: يا أيها الناس! لو رأيتموني ملت عن الطريق هكذا، فماذا تصنعون؟ فسكتوا- وقام أعرابي وسل سيفاً من آخر المسجد، قال: يا أمير المؤمنين والله الذي لا إله إلا هو، لو رأيناك ملت عن الطريق المستقيم هكذا، لقلنا بالسيوف هكذا، قال عمر: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من لو قال هكذا، لقالوا بالسيوف هكذا]].
أليست صراحة ووضوحاً؟ بلى.
الأصل الرابع: لين ورفق يدخل الدعوة إلى قلوب الناس، لا عنف ولا قتل، لا إرهاب ولا تمزيق للأعراض، لا جرح للنفوس، لا مرارة، بل حب ينساب كالنور إلى الأرواح، أو كالماء البارد.
الأصل الخامس: طموح وعلو همة يرقى بها الإنسان ليعيش في الحياة سيداً وعبداً لله لا لغيره، فهذه العبودية التي تكون في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].
فالصلاة والسلام على محمد ما ذكره الذاكرون، وما غفل عنه الغافلون، وما أتى إليه أتباعه يطلبون الهدي من سنته، فنسأل الله أن يثبتنا على منهجه، وعلى سيرته، وأن يفقهنا في دينه، وأن يجمع قلوبنا على تربيته الخالدة الرائدة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(143/29)
الأسئلة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراًَ.
أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
هذه بعض الأسئلة نعرض منها ما يسره الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.(143/30)
نصيحة حول سيرة النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ماذا تنصحون حول سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وماذا تنصحوننا به من الكتب الجيدة في السيرة؟
الجواب
ننصحك بالعمل بسنته عليه الصلاة والسلام، فهو المقصود من السيرة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] وضوابط حبه صلى الله عليه وسلم سبق فيها محاضرة، وهو شريط إسلامي اسمه ضوابط محبة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن أجمل جملاً علَّ الله أن ينفع بها.
الأمر الأول: من ضوابط محبته صلى الله عليه وسلم: العمل بسنته، فمن لم يعمل بسنته، فلا يحبه وهو دجال في دعواه.
الأمر الثاني: عدم الاعتراض على السنة، أو الاستهزاء، أو السخرية، لأنه قد يخرج إلى الكفر.
الأمر الثالث: كثرة الصلاة والسلام عليه- صلى الله عليه وسلم-.
الأمر الرابع: نشر سنته في الناس، وتعليم الناس سنته عليه الصلاة والسلام.
هذه ضوابط أربعة، وربما يوجد في الشريط ثلاثة غيرها تدخل فيها ضمناً، وأما الكتب فأعظم كتاب صراحةً تحدث في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام بعد كتاب الله- عز وجل- كتاب زاد المعاد لـ ابن القيم وأنا أرشحه لأمور:
(لجودة تحقيقه، ولتحري صاحبه، ولإمامة مصنفه) ثم ما فيه من خير كثير.
وكتب السيرة عموماً ومن أحسنها كتاب ابن كثير في السيرة لكنه طويل، وكذلك كتاب الرحيق المختوم في سيرة النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، وعموماً كل كتب الحديث الصحيحة والحسنة تروي لنا سيرة محمد عليه الصلاة والسلام.(143/31)
كتب ترشد إلى محبة النبي
السؤال
هل هناك كتب ترشد إلى محبة الرسول عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
نعم.
أحسن كتاب كتاب الله- عز وجل- يدلك على محبة محمد- صلى الله عليه وسلم- وهناك كتاب جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم لـ ابن القيم، ومثله من الكتب وكتاب الأذكار للنووي، والوابل الصيب لـ ابن القيم، والمجلد العاشر والحادي عشر من الفتاوى لابن تيمية هذه من أحسن ما كتب في هذا الموضوع.(143/32)
تكرر المعاصي على الشخص وعدم الصبر عنها
السؤال
رجل يشكو من تكرر المعصية عليه ومن عدم صبره عن المعصية؟!
الجواب
وهذا السؤال تكرر كثيراً من الإخوة، أقول: اعتصم بالله عز وجل واصدق مع الله أن ينجيك من مزالق الفتن: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وأوصيك بأمور: أولها: بكثرة الدعاء خاصة في أدبار الصلاة وفي السجود وفي آخر الليل دعاء حاراً صادقاً أن يثبتك الله حتى تلقاه، وإن كان لك والدة كما قال الإمام أحمد لبعض الناس، فاطلب منها الدعاء.
الأمر الثاني: الصلوات الخمس جماعة بخضوع وخشوع وتبتل.
الأمر الثالث: تدبر القرآن.
الأمر الرابع: الانتهاء عن المعاصي وكف الجوارح عن المخالفات.
الأمر الخامس: رفقة الصالحين والجلوس مع الصالحين ومقاطعة الفجار -والعياذ بالله- والمعرضين.(143/33)
علم النفس وعلم الاجتماع
السؤال
إني طالب في بعض الكليات يدرسوننا علم النفس على أسس غربية، وعلى أسس مفكري الغرب، ويدرسوننا أصول التربية الإسلامية عنوان الكتاب مادة إسلامية، ولكن مضمونه مادة غربية، فما رأيك في ذلك؟
الجواب
يوجد في بعض المؤسسات العلمية -وقد مر بنا وبعض الإخوة يعرفون ذلك- أنه لما أتينا إلى علم الاجتماع درسونا سقراط بقراط، طاق، وطرباق وضعنا حتى انتهت الدراسة، وما بدأنا بمحمد ولا بـ أبي بكر ولا عمر ولا بـ عثمان ولا بـ علي والتاريخ زنوبيا الزباء في تدمر، وهذا يوجد أحياناً قد يوجد من بعض الناس دكتور يؤلف مادة فينسى الإسلام ويأتي إلى تدمر وإلى زنوبيا الزباء وبختنصر وحمورابي وسقراط وبقراط وينسى مجد الإسلام وعظمته وتاريخه.
تاريخنا من رسول الله مبدؤه وما عداه فلا ذكر ولا شان
حتى يقول بعض الشباب من أهل الدعابة والنكت لأستاذ التربية: يا شيخ! ألا ينقض الوضوء القراءة في هذا الكتاب؟! يعني: إذا كنت على وضوء فقرأت في هذا الكتاب تحتاج تجدد وضوءك، مثلما سأل سائل أحد العلماء عندنا في أبها جاءنا عالم رفيع فسأله أحد السائلين: النظر إلى الحداثي -يعني أهل الحداثة الشعراء- ينقض الوضوء؟ قال: لا.
ينقض الإيمان، وهو حدث أكبر ليس أصغر، حدثهم حدث أكبر.(143/34)
المعوقات في طريق الدعوة
السؤال
ما هي المعوقات في طريق الدعاة؟
الجواب
هناك كتاب اسمه العوائق لكن عليه ملاحظات، أنا ما قلتها لكن بعض طلبة العلم الجادين، وعلى كل حال لا تنجلي الطريق إلا بالكتاب والسنة، ولا يأتي الإنسان في بعض المزالق إلا لقلة علمه، أو فقهه، أو حكمته، فكلما تنور الإنسان بالكتاب والسنة بانت له العوائق {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
من العوائق: تشتت الكلمة والفرقة، حزبية ممقوتة ضيقة أضيق من خناق الحمار، يموت فيها الشاب وهو حي يرزق بعينيه وأذنيه وقلبه، لكن لا يعرف الطريق، يضيق على نفسه بكتب محددة وأساتذة محدَّدين، وجلسات محددة، ونحن لا نثرب على الناس، لكن الإسلام أوسع وأعمق وأكبر، والإسلام قرآن وسنة، الإسلام هذا الجمهور العظيم الهائل الذي تعيش معه، كلهم إخوانك وأصحابك وأحبابك يسيرون معك في طريق إلى الله، فلا تضيق الطريق على نفسك وتحمل على أخيك وتكرهه بل صاف الجميع، واعمل مع الجميع، وعاونهم، وساعدهم؛ فلكل مسلم منك حظ ونصيب.
بـ الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
ومن العوائق: قلة العلم، جاهل يدعو كيف يدعو؟! ومن العوائق الحدة والعجلة والطيش والعنف يريد أن يأتي الدعوة بالتكسير، يريد أن يأتي بالهراوي والمشاعيب ويقود عباد الله إلى الجنة، ولو كان هاك أحد يستطيع لجعل الله ذلك للأنبياء، لكن أتوا بكتاب وببسمة وبسنة وبتعاليم ربانية، فقادوا القلوب بالحب إلى الجنة.
ومن العوائق: عدم معرفة الأولويات، وعدم التدرج في الدعوة، يرسل- صلى الله عليه وسلم- معاذاً، فيقول له: {ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إلا إله الله، وأني رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة} الحديث.(143/35)
المسجد هو منطلق الدعوة
السؤال
ذكرت في محاضرتك في الجنادرية أن المسجد هو منطلق الدعوة من بعد صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، فكيف تعلق على ذلك؟
الجواب
تحديد الأخ أظنه وهماً، هذه الكلمة أنا قلت: منطلق الدعوة من المسجد وشاركني الشيخ أبو بكر الجزائري والدكتور/ التويجري تلك الليلة، لكن أما زيادة أني قلت: من المغرب إلى العشاء، فهذه من الإسرائيليات بسند منقطع وليأت بدليل، بل المسجد في الصباح والمساء وقبل الظهر وبعد الظهر وفي كل وقت، ولا يفهم أني أحجر الدعوة فقط في المسجد، فإذا حجرناها في المسجد، فمن يدعو أهل النوادي والمقاهي، وأهل الملاهي والشواطئ؟ من يقتحم أسوار أهل الخمارات والبارات؟! لكن قصدي أن نبدأ الدعوة منطلقة من المسجد كما فعل عليه الصلاة والسلام من أنوار المسجد بتخطيط المسجد، وتنسيقه، بروعته وحرارته، ثم ننتقل، أما أن أقول: تعكُف في المسجد فقط، إذا فهم ذلك، فإني أستغفر الله من فهمه، وأسأل الله أن يتوب عليه، وأما زيادته فقد وهم.(143/36)
بعض الشعر
السؤال
أسمعنا من شعرك؟
الجواب
أسمعكم أبياتاً، لأن أمامي كماً هائلاً من جنود هذه الصحوة الذين أعلنوا توجههم إلى الله، فكانت المناسبة أن آتي بقصيدة بين الأصالة والحداثة، وهي بنت أيام؛ حتى العقيقة ما عققت لها، وما سميتها إلا من قريب على كل حال، ومنها:
يا أمة المجد قومي مزقي الحجبا وأشعلي في ليالي دهرك الشهبا
أتذكرين صلاح الدين سفسطةً من غير بذلٍ صلاح الدين قد ذهبا
لأن بعض الناس عظامي؛ تراه معرضاً مطبلاً مغنياً معرضاً عن الله عز وجل منحرفاً، فإذا خابرته، أو عاندته، أو ناخيته، فال: جدي صلاح الدين، منا عمر، منا طارق، منا حسان.
إذا فخرت بآباء لهم شرف نعم صدقت ولكن بئسما ولدوا
هذه قصيدة وشرح والأخ يطلب قصيدة بلا شرح.
لا تذكرنَّ صلاح الدين سفسطةً من غير بذلٍ صلاح الدين قد ذهبا
قبر العظيم إذا ما زاره ذنبٌ رغا وأزبد لا حييت يا ذنبا
لو أسمعوا عمر الفاروق نسبتهم وأخبروه الرزايا أنكر النسبا
أبواب أجدادنا منحوتة ذهباً وذي هياكلنا قد أصبحت خشبا
من زمزم قد سقينا الناس قاطبةً وجيلنا اليوم من أعدائنا شربا
لكن أبشر هذا الكون أجمعه أنا صحونا وسرنا للعلا عجبا
في فتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غابتها غضبا
عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنبا
أيها الإخوة! أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(143/37)
خطر على الأمة
الخمر أم الخبائث، وهي سبب دمار الأمة، ولها أضرار عظيمة على الفرد والمجتمع، ولشربها أسباب، والخمر إنما حرمها الله جل وعلا لضررها، فلكي تعرف أضرارها، وتعرف أسباب شربها وكيفية معالجة وإبعاد الشباب عن هذه الخبيثة.
تصفح هذه المادة.(144/1)
الخمر أم الخبائث
الحمد لله القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90 - 91].
والصلاة والسلام على رسول الله القائل: {إن على الله عهداً أن من شرب مسكراً في الدنيا أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة، قيل: يا رسول الله! وما ردغة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار، أو قيح أهل النار} رواه مسلم.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله! إن من أعظم الجرائم وأكبر المشاكل التي تفشت في مجتمعاتنا، وعرضت ديننا وقيمنا وأمننا وأموالنا للضياع وللسفك وللانسلاخ وللتهرب؛ هو ما فشا في مجتمعاتنا من تعاطي المخدرات، إنها مصيبة نكراء، وجريمة شنعاء؛ فتكت بشبابنا، وأذهبت أموالنا، وزعزعت أمننا وسكينتنا، فنشكو حالنا إلى الله تبارك وتعالى.
وقد تحدث الله عزوجل عن المفسدين في الأرض، وتعرض لجرائمهم، وبين أحكامهم، فقال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:33 - 34].
ولقد كانت الخمر عند العرب في الجاهلية تسمى أم الخبائث، فلا يشربها عقلاؤهم، ولا يتعاطاها رؤساؤهم، وقد حرَّمها كثيرٌ منهم على نفسه، منهم حاتم الطائي وزيد بن عمرو بن نفيل وهرم بن سنان، وكانت تسمى عندهم السفيهة، والمؤذية، والقبيحة، والمكروهة، فلما أتى الإسلام حرَّمها الله تبارك وتعالى في كتابه، وحرَّمها رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال: {ما أسكر قليله فكثيره حرام}.
وقال عليه الصلاة والسلام: {إن على الله عهداً أن من شرب مسكراً في الدنيا أن يسقيه الله من ردغة الخبال، فقالوا: يا رسول الله! وما ردغة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار، أو قيح أهل النار} يجمعه الله فيسقي به من تعاطاها في الدنيا.
وفي الأثر: {من جلس على مائدة يدار عليها خمر، فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم}.
وأضرارها وبيلة، ويكفي ما نسمع ونرى وما ينقل إلينا من تلك الأضرار الوخيمة، والعواقب الأليمة التي تفشت في مجتمعاتنا من مجازر ومذابح يتعرض لها رجال الأمن من هؤلاء العصابات الفاجرة المجرمة، التي سعت بالإفساد في الأرض، وزعزعت أمن الدولة والأمة، وآذت السكان، وأرهبت أهل البيوت في بيوتهم، وعرضت الأنساب إلى الاختلاط، والأعراض للجريمة، والدماء للسفك، والأموال للهدر، والشباب للضياع.(144/2)
أضرار شرب الخمر
اسمعوا إلى أضرار شرب الخمر، فإن من أعظم تلك الأضرار:(144/3)
الخمر محاربة لله
أنها محاربة لله تبارك وتعالى، ومعصية ظاهرة له، ومن فعلها أو تناول شيئاً منها، أو روَّج لها، أو ذكرها بإحسان، أو سكت عن مروِّج لها؛ فقد بارز الله بالمعصية، واستوجب لعنة الله وغضبه وسخطه ومكره، قال تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] فهي عداوة صريحة لله تبارك وتعالى في أرضه.
ومما عصي به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الأرض أم الخبائث؛ -الخمر المسكر- فإن الإنسان إذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، وإذا افترى قتل، وزنى، وسرق، واغتصب، وفعل كل خبيثة وفاحشة.(144/4)
الخمر ذهاب للعقل
ومن أضرارها أيضاً أن فيها إذهاباً للعقل الذي هو أعظم هبات الله للإنسان، فإذا أذهب هذه المنة، والنعمة، فقد تردى في الحضيض، وباء بالغضب واللعنة، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن العقل: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وقال أهل النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] وقال عز من قائل: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة:269] أي: أهل العقول، فالذي أذهب عقله هو في مستوى البهيمة، ومستوى الحمار أو الثور، لا يدرك ولا يعرف شيئاً، قلَّت قيمته، وخفَّ وزنه، فلا رجولة فيه، ولا حياء، ولا مروءة، ولا دين ولا خير، أذهب الله بهاءه، ونزع الله رداءه من على جنبيه، وهتك ستره، وفضحه على عيون الناس.(144/5)
الخمر إهدار للدماء والأعراض
ومن أضرارها: أنها تهديد وإهدار للدماء والأعراض والأموال؛ فأما الدماء فإننا نسمع بين الحين والآخر، تلك الجرائم التي تحدثها تلك العصابات؛ من قتلٍ رهيبٍ، وسفك للدماء، واقتحام للبيوت الآمنة الساكنة التي استظلت بلا إله إلا الله.
ونسمع قضايا الإعدام دائماً وأبداً، تعرض لهؤلاء المجرمين كما حكم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم؛ لأنهم أفسدوا في أرضه.
وأما الأعراض؛ فإن أكبر جريمة بعد شرب الخمر هي جريمة الزنا، ولا تأتي في الغالب إلا بعد أن يذهب العقل بالخمر، حتى حمل بعضهم -لما سكر وشرب الخمر- أن تعدى بالجريمة الفحشاء التي لا تذكر على أمه التي ولدته، فنفذ فيه حكم الله، وهذا أقلَّ ما يفعل به، ارتكب جريمة تقشعر منها جلود اليهود والنصارى والبوذيين، لا تفعلها الكلاب ولا الحمير، ولكنه لما سكر وذهب عقله فعل تلك الجريمة الشنعاء.
وفي الخمر أيضاً إزهاق للأموال، فإنها تؤدي إلى الميسر والقمار، وإلى إتلاف الآلاف والملايين في غضب الله، وسخطه، ولعنته.(144/6)
الخمر سبب لضياع شباب الأمة
ومن أضرارها: أنها ضياع لشباب الأمة، وإهدار لقوتها ومستقبلها، فما ضاع أكثر شبابنا إلا في نت هذه الخبيثة المخبثة دخلوا السجون، وامتلأت بهم بعد أن دعاهم الله إلى المساجد، ودعاهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى حِلَق الذكر والعلم، وإلى أن يرفعوا من أنفسهم ومن كيانهم ومستقبلهم: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] فدخلوا بالعشرات بل بالمئات، والإحصائيات التي سمعنا بها رهيبة، حيث امتلأت بهم السجون، وشكلوا مؤسسات كبرى، وفصولاً طويلة عريضة، كلهم من فلذات أكبادنا، ومن شباب أمتنا، أذهبوا عقولهم بعد أن أذهبوا دينهم.(144/7)
الخمر سبب لأمراض فتاكة
ومن الأضرار كذلك: الأضرار الصحية التي تعرضت لها الأمة؛ فإن من أعظم ما فتك بالناس المخدرات وشهد بها أهلها ومنتجوها، ومروّجوها، ومصنّعوها، ومورّدوها، انتشر عندهم وانتشر عندنا بطريق الإرسال مع هذه المخدرات مرض الإيدز، وأمراض الالتهاب الرئوي، وسوء الهضم، والتشنج والسهاد، والقلق، والسهر، والارتباك، والمرض النفسي، والانهيار العصبي، والغم، والهم، والحزن، واللعنة في الدنيا والآخرة إلى غير ذلك مما ذكره أهل الطب، بل أربوا على مائة مرض في ذكر أمراضها، فمن أعظمها: الإيدز والسرطان الذي يصاب به كثير من الناس، حتى قال بعض أطباء الأمريكان: كل أربعة في عشرة من الأمريكان مهددون بمرض الإيدز بسبب المخدرات.
ويقول دايل كارنيجي؛ صاحب كتاب دع القلق وابدأ الحياة: إن الأمريكان قد حفروا لأنفسهم قبوراً يردونها؛ لأنهم ما عرفوا الله نصف ساعة في اليوم.
ثم قال: والسبب الرئيسي في ذلك أنهم تعاطوا المخدرات فأذهبوا عقولهم.
ويقول أليكسس كارل الأمريكي في كتابه الإنسان ذلك المجهول: إن من أكبر ما أدى بـ أوروبا إلى الانهيار والتحطم الروحي، هو تلك المخدرات التي انتشرت في مجتمعاتها.(144/8)
أنها سبب لضعف الأمة اقتصادياً وعسكرياً
ومن أضرارها كذلك: أنها ضربة للأمة في قوتها واقتصادها في قوتها العسكرية وفي تصنيعها واقتصادها، ولذلك ذكر أهل التاريخ أنه في القرن السادس عشر الميلادي اقتتل الصينيون واليابانيون فانهزم الصينيون، وحُقِّق في سبب الهزيمة؛ فإذا الأفيون كان قد انتشر انتشاراً رهيباً في الجيش الصيني مما اضطره إلى أن يترك المعركة وينسحب ويستسلم، فيسحق وتؤخذ أرضه.
وهذا أمر معروف عند العرب، فإنهم كانوا في الجاهلية يسمون الأفيون عطر منشم؛ إذا شمه الجيش، وأروح رائحته، انهزم في المعركة وولى الأدبار، ولذلك يقول زهير في ميميته وهو يمدح هرم بن سنان:
تداركتما عبساً وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فهذه أضرارها؛ بل هي قليل من كثير.
إن معنى تعاطي المخدرات والترويج لها: أن نعيش في إرهاق بين عصابات إرهابية، لا نهنأ بنوم ولا براحة ولا بطعام ولا شراب ولا سكينة.
إن معناه: أن شبابنا بالعشرات وبالمئات إلى النار، وقبلها إلى الدمار والعار.
إن معنى ذلك: أن يُخرج الناس من المساجد فيصبحون شللاً من الإجرام، وشللاً من الانحراف إلا من رحم الله.
إن معنى ذلك: أن تذهب قوة الأمة ومالها واقتصادها، وتتعرض هذه الأمة خاصة في مثل هذه البلاد التي وزعت الهداية على الناس، ووزعت النور على البشرية، إلى ضربة قاصمة.
ولذلك وجد في استطلاعاتٍ قرئت ونشرت، أن أعظم من وزَّع هذه المخدرات، وسهل عبورها إلى دول الإسلام والشرق الأوسط هي إسرائيل عدوة الإنسانية - الصهيونية العالمية - لتضرب الأمة في صميمها وكيانها وفي شرفها ومروءتها.(144/9)
أسباب انحراف شباب المسلمين
ما هي الأسباب التي أدت بشبابنا ومجتمعاتنا إلى هذا التهتك والتهور والانحلال -إلا من رحم الله- وتعاطي المخدرات والترويج لها؟(144/10)
ضعف مراقبة الله
ومن لا يراقب الله يضيعه الله، ومن لا يحفظه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يجعله عبرة للمعتبرين، قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:23 - 24] وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] فلما ضعفت مراقبة الله في قلوب كثير من الناس بما فيهم الشباب؛ سهل عليهم تعاطي المخدرات، فمقتهم الله، ووقعوا في لعنة الله وغضبه.
ولذلك فإن أعظم ما يوصى به في هذا الجانب هو قوله صلى الله عليه وسلم: {احفظ الله يحفظك} فمن لا يحفظ الله لا يحفظه الله، ولو توضئوا وصلوا كل يوم خمس مرات، لحفظهم الله ورعاهم، ولكن تركوا الصلاة، فأوردهم الله موارد الهلاك.
ولذلك جاء في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء؛ فإنه من طلبه من ذمته بشيء أدركه، ومن أدركه أهلكه}.
فلما تركوا صلاة الفجر في جماعة؛ ابتلاهم الله بالكبائر، وأخذهم من حيث لا يشعرون، فأوقعهم في الرذيلة، وأوقعهم في القبح جزاءً نكالاً.(144/11)
سوء التربية
والسبب الثاني: سوء التربية.
فإن الأب هو المسئول الأول في إصلاح الشاب وهدايته وتوجيهه، والشاب الذي ينشأ على الأغنية الماجنة لا يُستبعد أن يتناول كأس الخمر، ويتناول الأفيون، ويتعاطى الحشيش، ويروج المخدرات، كيف وقد تربى على الأغنية الماجنة والجريمة والفحش، ولم يترب على سورة (طه) و (الواقعة) و (ق) وما سمع حديثاً من صحيح البخاري ولا مسلم، فتربى على الجريمة حتى تناولها.
فالأب هو المسئول الأول، والأم كذلك مشتركة في المسئولية، فعليهم أن يتقوا الله في أبنائهم.(144/12)
الفراغ
لما فرغت قلوبهم من طاعة الله وذكره ومحبته؛ دخل عليهم الشيطان، فوسوس في قلوبهم، وزرع حب الجريمة، وتعاطوا المخدرات وتناولوها وسهلت عليهم، فسقطوا من عين الله تبارك وتعالى.
يقول ابن تيمية: إن القلب إذا لم يمتلئ من محبة الله امتلأ من محبة الشيطان، فقاده الشيطان كما تقاد الدابة حتى يورده موارد البوار.(144/13)
قرناء السوء
إن قرناء السوء، والعصابات البائرة الفاجرة الفاسدة التي مكرت بشبابنا، وصورت لهم أن الدين وحلقات العلم وندوات الخير تخلف وتزمت وتأخر، ولقد رأينا إنتاجهم على الصعيد الآخر، ورأينا ماذا فعلوا بالأمة، والشعب، وكيان الناس والوطن، لقد أوردوه موارد الهلاك، ولذلك يظنون أن التطور والتقدم أن يترك المسجد، ولا يقرأ في المصحف، ولا يسمع الحديث، ولا يجلس في حلق الخير.
مرَّ أحد المستهترين بأحد طلبة العلم وهو يقرأ في صحيح البخاري، فقال له ضاحكاً مستهتراً: الناس صعدوا على سطح القمر وأنت تقرأ في هذا الكتاب؟! فرد عليه هذا وقال: أنت ما قرأت في الكتاب ولا صعدت على سطح القمر.
إنهم ما قدموا شيئاً، إنما قلدوا أوروبا في الميوعة والأنوثة وفي التدني والسخف والسفه، لكنهم ما صنعوا لنا طائرة ولا ثلاجة، ولا قدموا لنا خدمات كما فعلت أوروبا، ضاعوا من الدين والدنيا، كفقراء اليهود لا ديناً ولا دنيا: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143].(144/14)
التقليد الأعمى
ومن أسباب انتشار المخدرات أيضاً -وهو من الأسباب العتيدة- التقليد الأعمى؛ فإن كثيراً من الشباب لسوء فهمهم للإسلام، ولقلة علمهم وفقههم في دين الله تراه ينظر إلى أوروبا نظر المعجب، الذي بهرته هذه الحضارة؛ لأنه مغلوب في نفسه وروحه وكيانه، حتى يفتخر بعضهم في المجالس أنه سافر إلى أمريكا ولندن وباريس، وأنه عاش ودرس هناك، وهذا -والله- ليس بشرف، وإنما يحلُّ لنا السفر إلى أوروبا للضرورة كما يحل لنا لحم الميتة عند الضرورة.(144/15)
حكم السفر إلى بلاد الكفر
قال أهل العلم: لا يسافر لبلد الكفر إلا لعلاجٍ لا يوجد في بلاد المسلمين، أو دراسةٍ دنيوية لا تتحصل هنا، أو دعوة لينشر دين الله، فهل ذهب الكثير من هؤلاء للدعوة؟!! هل ذكروا لا إله إلا الله في شوارع لندن وباريس؟!! هل رفعوا علم محمد صلى الله عليه وسلم؟!! هل نشروا القيم والأخلاق؟!! لقد ذهبوا هناك فأصبحوا أذل وأخس وأحقر من أبناء تلك الأمم.
وما ذهبوا إلى العلاج؛ فإن في بلادنا ما يشفي ويكفي، وما ذهبوا لطلب العلم، فإنهم ما قدموا وما أنتجوا لنا شيئاً، فإن كان عذرهم إحدى هذه الثلاث فصدقوا ونجحوا وأفلحوا وعذروا، وأما غيرها فإن هذا التقليد هو الذي أوردهم الموارد.(144/16)
تعاطي عقاقير تفسد النسل
ومن الأسباب أيضاً: تعاطي بعض العقاقير عن طريق الخطأ، أو عن طريق التلبيس وادعاء أنها صحية، ونافعة، وأنها تقوي شهوة الجنس، وكذبوا لعمر الله! بل أثبت أهل الطب من المسلمين أنها سبب لفساد النسل وتهديده، وفساد شهوة الجنس.
فهذه بعض الأسباب التي أحدثت هذا الإرباك والاضطراب.
فنسأل الذي بيده مفاتيح القلوب أن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن ينقذنا من هذه الأزمات، وأن يتوب على شبابنا، وأن يهيئ لهم القبول، وأن يحبب لهم طريق المسجد، ولا يعرضهم إلى طريق الخمارة ولا طريق المفسدين والمرجفين في الأرض.
ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يردنا إليه رداً جميلاً، فنعتني بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فنعيش كما أرادنا الله خير أمة أخرجت للناس؛ نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله، ولا نقلد الضالين الضائعين المنحرفين؛ بل نأخذ عن الأمم أحسن ما عندهم مما لا يتعارض مع ديننا، ونرد القشور مما يعارض ديننا وأخلاقنا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.(144/17)
علاج الانحراف
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، ومحجة الله وحجته على العالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله! هذه هي الأسباب، وتلك هي الأضرار، فما هو العلاج إذن؟
وما هو البلسم الشافي والدواء الكافي من هذه الأزمات والصعوبات والأمراض الوبيئة التي أحدثت بنا هذا الحدث وهزتنا هذا الهز العنيف؟
إن العلاج يكمن في أمور:(144/18)
العودة إلى الله
أولها وأعظمها وأشرفها: العودة إلى الحي القيوم ومراقبته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وتقواه؛ فإنها النجاح في الدنيا والآخرة، ولو اتقى هؤلاء الله عزوجل لعصمهم، قال سعيد بن المسيب وقد ذكر له رجل شرب الخمر: ما سبب شربه الخمر وكان معنا؟ قال: [[ترك طاعة الله، فسقط من عين الله، فرفع الله ستره عنه]] وإذا أراد الله أن يرفع كنفه عن العبد خلاه ونفسه، ولم يستدركه بطاعة، ولم يلهمه رشده، فتردى على وجهه في النار.
فأعظم العلاج: أن نعود بشبابنا وأمتنا إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فقد جربت الأمم الكافرة، وتعاطت هذه الأمور، فلما سقطت على وجهها في الهاوية، وحلت بها الكارثة، ووقع الشلل في مجتمعها، والاضطراب في كيانها، وأصبح الانتحار عندهم بالعشرات؛ تذكروا في الأخير أنهم أخطئوا في الطريق، وحاولوا الآن العودة إلى الله، يقول كريسي موريسون: الآن عرفت الله لما رأيت أوروبا تزحف إلى النار.
عرف الله لما رأى تلك الشعوب تزحف إلى الهاوية.(144/19)
تربية الشباب على منهج الله
من العلاج هو: تربية شبابنا وأطفالنا على منهج لا إله إلا الله، وإدخال الإسلام حقيقة لا اسماً ولا تلبساً فقط، وليس أن نزعم أننا مسلمون، وأننا إذا خفضنا رءوسنا ورفعناها في المسجد أن هذا هو الإسلام، فإنما الإسلام أن يكون المهيمن في بيتك هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يكون العظيم في بيتك وطريقك ومسجدك هو إلى الله، وألا تتحاكم إلى أحد إلا الله، وأن تحكم شريعة الله في أطفالك وزوجتك وأهلك وجيرانك، وإن لم تفعل فإنك من الخاسرين.(144/20)
توجيههم إلى العلم الشرعي
ومن العلاج: أن نأتي بالعلم النافع، وهو العلم الشرعي الذي تحتاج إليه القلوب والأرواح، فنملأ به قلوب الناس، ونقود الناس إليه، وننشره، ولا نستبدل الطيب بالخبيث من تلك العلوم السخيفة التي ليست علوماً في الحقيقة، يقول ابن تيمية: كل علم وفد إلى المسلمين، فإن كان خيراً فإن عندنا من الخير ما يغنينا عنه، وإن كان شراً فلسنا بحاجة إلى الشر.
وبعض الناس يظن أن تلك العلوم المستوردة علم، وهي جهل في الحقيقة؛ لأنها صدت عن الكتاب والسنة.
فمن العلاج أن نأتي بالشباب ونجلسهم في ندوات العلم، ونحبب إليهم سماع الكتاب والسنة، ودروس الفقه، ودروس التفسير، ودروس الأصول؛ لتتجه قلوبهم إلى الله الحي القيوم، ويملأها بالنور والإيمان.
ومن العلاج أيضاً: أن نقضي على فراغهم، ولا نترك لهم دقيقة واحدة إلا في عمل خير: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] فمن كانت وجهته علمية فليذهب إلى مؤسسات العلم التي انتشرت والحمد لله، وسهل فيها طلب العلم، فليبذل جهده في المذاكرة، وفي التحصيل العلمي، وفي رفع مستواه في المعرفة والتفقه في دين الله.
وإن كان له تميزٌ وتخصصٌ وتأهلٌ آخر: فليذهب به إلى تميزه من تجارة نافعة، ومن كسب محمود، ومن عسكرية طيبة شريفة؛ يحمي دينه وأمته في هذا السبيل.
فلا علاج إلا أن يقضى على فراغ هذه الأمة وفراغ شبابها بأن يؤهلوا في مؤهلاتهم وتخصصاتهم.(144/21)
حفظهم من قرناء السوء
من العلاج أيضاً: أن نحفظ أبناءنا من قرناء السوء؛ فإن بعض الآباء من الذين قلَّ دينهم وفقههم في دين الله؛ يذهب ابنه الساعات الطوال ثم لا يسأله أين ذهب ومع من ركب أو جلس، أو أين نام وقعد، فتأخذه شياطين الإنس؛ فيسلخون دينه وعقله، ويحببون له الجرائم، فيصبح فرداً من أفراد إرهابيين، من أفراد التفرنج في الأمة، وأفراد الفساد في الأرض، ثم يطبق في شأنه حكم الله؛ فإذا هو فضيحة على أسرته وأمته في الدنيا والآخرة.(144/22)
محاربة المفسدين
ومن العلاج أيضاً: ألا نسمح لأي مروجٍ، أو مهرجٍ، أو مفسد، بل نأخذ على يده، ونخبر به، ولا نتستر عليه إذا كان مجاهراً؛ فإن التستر على المجاهر مساعدة له، ومطعم المأكول كالآكل، ولقد قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] يقول عليه الصلاة والسلام: {كلا والله -أي: لا تستقيم أمورنا، ولا يصلح حالنا- حتى نأخذ على يد السفيه ونقصره على الحق قصراً} وإلا فوالله إنه الضياع، وإنه -والله- التهتك والسخف، وليست السعادة أن نجمع الأموال، ولا أن نبني القصور، فإن قصور أوروبا وأمريكا أطول من قصورنا، وفللهم أعظم من فللنا، وسياراتهم أفخر من سياراتنا، وقد قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً} [الزخرف:33 - 35] أي ذهباً أحمر: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35].
فسعادتنا في عودتنا إلى الله، وسعادتنا في حمل رسالة لا إله إلا الله، وسعادتنا في عبوديتنا لله.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
فيا شباب أمة محمد صلى الله عليه وسلم! ويا شباب الإسلام! عودةً إلى الله عودةً إلى المسجد عودةً إلى المصحف عودةً إلى حلقات العلم عودةً إلى تذكر الطريق إلى الله وتذكر الموت ولقاء الله عزوجل.
شباب الدين للإسلام عودوا فأنتم مجده وبكم يسود
وأنتم سر نهضته قديماً وأنتم فجره الباهي الجديد
أسأل الله لنا ولكم عودة صادقة إليه.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].(144/23)
احذروا البدع!
صرخة تعلوا: احذروا البدع, لأنها تشويه للإسلام, وجرح لوجه هذه الرسالة من خلال هذا الكلام تحدث الشيخ عن ذلك مستعرضاً ذكر أسباب انتشار البدع وخطرها وأضرارها، وبعض صورها ونماذج منها، وأرشد إلى بعض الوسائل التي تكافح بها البدع.
وألمح إلى أهمية الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والتدرج في الأساليب.(145/1)
تمام الشريعة وكمالها
الحمد لله رب العالمين, ولا عدوان إلا على الظالمين, والصلاة والسلام على إمام المتقين, وقدوة الناس أجمعين, وعلى آله وصحبه والتابعين, أمَّا بَعْد:
أيها الإخوة النبلاء! عنوان هذه المحاضرة "احذروا البدع".
البدع تشويه للإسلام, وجرح لوجه هذه الرسالة التي أتى بها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام, وهي علامة على تخلف الأمة, وعدم معرفتها لميراث نبيها صلى الله عليه وسلم, والبدع طريق للكافر للدخول لخدش الدين وتشويه معالمه.
ولهذه المحاضرة عناصر:
1 - الأسباب التي أدت إلى انتشار البدع في الأمة الإسلامية.
2 - أضرار البدع وأخطارها.
3 - من صور البدع ونماذج من البدع الموجودة في العالم الإسلامي.
4 - الوسائل التي تكافح وتحارب بها البدع.
وقف عليه الصلاة والسلام في عرفات في حجة الوداع -وهي الوحيدة التي حجها عليه الصلاة والسلام- فأنزل الله قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] معنى الآية: تم الدين, وكمل وانتهى التشريع, فليس لأحد من الناس ولا من البشر أن يشرع أو أن يقترح في دين الله, ولا أن يستحسن من جيبه ولا من كيسه شيئاً, فالشريعة توقيفية, قال الله وقال الرسول عليه الصلاة والسلام, وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها, لا يزيغ عنها إلا هالك} فانتهى الأمر, وهي بيضاء كالشمس، مسلوكة مدروسة.
يخطب أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه في أول خطبة فيقول: [[يا أيها الناس! إني متبع ولست بمبتدع]] هذه مؤهلات الخليفة, فأول شيء يفعله أبو بكر أنه يعلن سياسة حكومته, وهذا أسلوب عصري, يستخدمه مثل صاحب الرحيق المختوم المباركفوري وأمثاله, أول بند: إني متبع ولست بمبتدع, فأنا إذا قرأت عليكم دستوراً فإنما هو من القرآن والسنة.
شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق سبات
بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات
ويقول عليه الصلاة والسلام: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} رواه مسلم , فمن عمل عملاً ليس عليه أمرنا, ولا أتاه بيان من الله ولا نور, ولا هداية, ولا عليه أثر من دليل فهو مردود يضرب به وجه صاحبه, ولو كان شيخ المشايخ, ولو كان مفتي الدنيا؛ لأنه لا يطلب إلا من هناك, من عند محمد عليه الصلاة والسلام.
يقول مالك: "ما منا إلا رادٌ ومردود عليه, إلا صاحب هذا القبر " عليه الصلاة والسلام, وصح عنه عليه الصلاة والسلام في لفظ آخر أنه قال: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} وكلمة أحدث توحي أنه عمل حدثاً في الدين, وأنه أتى بشيء مر, وأتى ببشاعة وبوقاحة، ولذلك يسمون الحدث الأصغر والحدث الأكبر, ويسمون أهل الحداثة: حداثة؛ لأن حدثهم أكبر.
هؤلاء الحداثيون حدثهم أكبر والنظر إليهم ينقض الوضوء, وهذه ليست فتوى, ومن نظر إليهم فعليه أن يتعوذ من الشيطان الرجيم, فسمَّوهم أهل الحداثة لأنهم محدثون في الدين, وحدثهم أعظم من الجنابة, لأن الجنابة تغسل بالماء ولكن هم لا يغسلون.
تلطخ ما تدنس منك حتى كأنك في حياتك ما طهرتا
وتشفق للمصر على الخطايا وترحمه ونفسك ما رحمتا
مشيت القهقرى وخبطت عشوى لعمرك لو وصلت لما رجعتا
والله لو رأيت نور محمد ما رجعت, ولا استهزأت, ولا سخرت, ولا نكصت, ولا عدت, ولا تقهقرت لكنك -للأسف- ما رأيت نور محمد.
ويقول عليه الصلاة والسلام: {وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة} فكل من استحدث في هذا الدين فهو مبتدع.(145/2)
أسباب انتشار البدع
أيها الإخوة: العالم الإسلامي اليوم عددهم مليار (ألف مليون) لكنهم كما قال الشاعر:
عدد الحصى والرمل في تعدادهم فإذا حسبت وجدتهم أصفارا
من كل مفتون على قيثارة كل وجدت بفنه بيطارا
أو كاذب خدع الشعوب بدجله عاش السنين بعمره ثرثارا
بدع, وخرافات, وهوايات, وأطروحات، قد يكون علمانياً ويصلي, وصوفياً مشركاً قبورياً ويصلي ويدعي أنه مسلم.
إن طلبة العلم والعلماء, والقيادات العلمية في العالم الإسلامي هي المسئولة, وهي مقصرة كل التقصير في عدم توضيح الحق للناس.
من أسباب انتشار البدع:
- الجهل.
- اتباع الهوى.
- اتباع المتشابه.
- اعتقاد العصمة في غير المعصوم.
- الاستحسان.(145/3)
الجهل
الجهل داء عضال, وما دخل المستعمر وأهل القبور والدهريون على الدين إلا من باب الجهل, إن النصارى الضالين أهل الكهوف والمغارات الذين لا علم لهم ولا كتاب ولا سنة مثل غلاة الصوفية , فأشبه الناس بالنصارى الصوفية , وأشبه الناس باليهود كسلاً وخمولاً طالب العلم الذي تعلم العلم وما علّم وما عمل، فتجد بعضهم عنده شهادات معلقة ومبروزة في بيته, لكن ليس عليه من العلم أثر, قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13].
أما عباد المسلمين الجهلة والضلال فأشبه الناس بالنصارى، قال الله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] فالجهل طريق للبدع.
ولذلك لا تنتشر البدع إلا في المناطق التي يكثر فيها الجهل, فتجدها في القرى أكثر منها في المدن, وفي البوادي أكثر من القرى؛ لأنها تروج على الجهلة؛ ولأن البدعة مزخرفة, وظاهر المبتدع أنه يحب الرسول عليه الصلاة والسلام ويدعو إليه, وأنه يريد أن ينتشر دينه, وباطنها من قِبله العذاب.
يقول أحد البطائحية من غلاة الصوفية لشيخ الإسلام ابن تيمية: يا ابن تيمية! حسبنا الله، نأتي إليك فَتَبْطُل كراماتنا ونذهب إلى التتار فتنجح كراماتنا -التتار الكفرة هم الذين داهموا العالم الإسلامي بقيادة هولاكو وجنكيز خان -فهو يقول: نحن نأتي إليك فلا تصلح كراماتنا معك, ولكن إذا ذهبنا إلى التتار كان لكرامتنا وقع ونجاح, قال ابن تيمية: مثلنا ومثلك ومثل التتار كمثل فرس أبلق, والتتار خيولهم سود ونحن خيولنا بيض, وخيلك أنت أبلق, فإذا دخل الخيل الأبلق -الأبلق هو الذي ليس بأسود ولا أبيض- بين البيض أصبح أسوداً, وإذا دخل بين السود أصبح أبيضاً, فأنت إذا ذهبت إليهم وعندك شيء من الإسلام أصبح فيك بياض, وإذا أتيت إلينا وفينا نور كثير من السنة أصبحت أسوداً, وهذا مثل لمن يروج على الجهلة وهم أهل البدع والخرافات.(145/4)
اتباع الهوى
قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23] فاتباع الهوى: كشيخ ضال مبتدع، يحب أن تقبل كفه, فمن الصعب انتزاع المشيخة منه.
فالرياسة الدينية أغلى من الذهب والفضة, فإذا وصل الشيخ إلى هذه المرتبة ثم فهم الحق لا يعود أبداً إلى الحق, وتجد بعض أتباعه يعودون إلى السنة ولكنه لا يعود, تصبح يده مثل الحجر الأسود! بل وجد منهم من تقبل قدمه في الأرض, ومنهم من إذا مشى أُخذ من آثار ترابه ووضع في الماء واغتسل به, ووالله! لقد حدثنا أحد الدعاة أن صوفياً غالياً في بعض البلاد الإسلامية ركب سيارة، فلما مر من بين أتباعه لحقوا آثار عجلات السيارة, يأخذون التراب يتمسحون به! أي إسلام وتوحيد؟ وأي دجل وخرافة؟ ثم بعضهم يقول: عالم إسلامي.
لكنه عالم إسلامي تجد فيه الهزيمة والفشل إلا أن يرحمنا ربنا مع هذه اليقظة والعودة إلى الله عز وجل.(145/5)
اتباع المتشابه
أهل البدع يأخذون أدلة من القرآن, ولكن لم يظهر وجه الدلالة منها فيتعلقون بالمتشابه منها, فهم كالقراد -والقراد حيوان صغير يتعلق بالخيط الصغير ويفعل من نفسه كأنه جمل- فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران:7] فأهل البدع يتعلقون بالمتشابه, والأحاديث الموضوعة, ورؤى المنام, وما أكثر رؤى المنام عند أهل البدع! يقول الشيخ: رأيت البارحة ويقول متبوعه: رأيتك يا شيخ وأنت مع الرسول صلى الله عليه وسلم! والثالث يقول: حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لي: اتبع الشيخ فإنه على بصيرة!
وهذه الخزعبلات من الرؤى لا نبطلها ولا نقرها بإطلاق, فالرؤى مبشرات, لكن لا يؤخذ منها أحكام لا تحليل ولا تحريم, وإنما هي مبشرات يراها الرجل الصالح, أو تُرى له أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فهؤلاء يتعلقون بالمتشابه، كأن تكون الآية تحتمل معانٍ, فيأخذ بالمعنى الضعيف في الآية, أو للآية مؤدى باللفظ فيتعلق بهذا المؤدى ويقول: هذا دليلي, فهم يتعلقون بالمتشابه، وهم بهذا ينشرون البدع في العالم الإسلامي.(145/6)
اعتقاد العصمة في غير معصوم
وهل بلية العالم الإسلامي إلا من مشايخ الطرقية القبوريين الدهريين, المعرضين عن الله, فيكور عمامة لا يحملها حمار, ومسبحة طولها متران, ثم يأتي فيتصدر المجالس بالجهل, وليس عنده من العلم شيء.
يقول عبد الله بن تيمية أحد علماء السنة -أخو شيخ الإسلام - يقول لأحدهم وقد تكلم يرد على ابن تيمية قال: اسكت والله لو أتيت لك بقصص من الخزعبلات, وأحاديث من صحيح البخاري وموضوعات، لما استطعت أن تفرق بين هذه وهذه!
ولذلك هم من أجهل الناس, ولا يفتحون باب الفتيا, ولا يدرسون, وإنما هي مواعظ عامة, ورقائق, وتخويفات, ومراسيم, ونشيد وتقبيل ورقص وأكل وشرب
وقالوا سكرنا بحب الإله وما أسكر القوم إلا القصع
يرقص أحدهم على الطبل والأغنية والنشيد ثم يقع مغمىً عليه, فتوقظه وتقول له: ما لك؟ قال: سكرت بحب الإله.
فيقول الشاعر:
وقالوا سكرنا بحب الإله وما أسكر القوم إلا القصع
أي: الثريد؛ لأنهم كما يقولون: من أكثر الناس أكلاً, وهم أكثر الناس فتكاً، إذا أكل يأكل ما يقارب أربعة أنفار, فاحذر أن تدعوه إلا أن تكون متهيئاً له, تراه يلبس مرقعاً ولكن يأكل ستة كيلو! فيقولون: هم مشهورون بهذا, ومشهورون بالرقص, ويقولون: إنهم لا يقومون الليل وإنما يتبعون الرقص، يرقص أحدهم ثلاث ساعات.
ومن نشيدهم في الرقص، يقول لـ ابن الفارض - في مجلس الرقص:
من لقلب حل جرعاء الحمى ضاع مني هل له رد علي
فاسألوا سكان وادي سنمٍ فهو ما بين كداء وكدي
وإذا الحسن همى فاسجد له فسجود الشكر فرضٌ يا أخي
ومع تعبداتهم الباطلة المحرفة التي تبلغ الزندقة، فيستتاب صاحبها, فإن تاب وإلا قتل, أنهم ينظرون إلى الأمرد والفتاة الجميلة, ويتفكرون فيهما! فإذا قلت لهم: لا تنظر, غض بصرك, قال: نتفكر في خلق الله!
قال تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30] وقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} [التوبة:31] وهم من أكثر الناس جمعاً للأموال, والله عز وجل لما ذكر المنحرفين الذين يكنزون الذهب والفضة ذكر معهم الأحبار والرهبان؛ لأنهم من أكثر الناس جمعاً للأموال, يقول أحدهم: عندنا صدقة, وزكاة, وفقراء, ثم يجمع من الذهب والفضة ما الله به عليم، والعامة يعتقدون أنه معصوم.
يقول أحدهم وهو في بعض البلاد -وأنا لا أسميها- وقد جلس معه شباب فقال: من شيخكم؟ قالوا: فلان, فقال: حسبنا الله! هذا قبوري, قالوا: لا تسبه، فإنه يسمعك!! وبينهم وبين الشيخ خمسمائة ميل- قال: كيف يسمعني؟ قال: له أولياء, وهو يسمع ما نقول فيه وإذا حركنا أيدينا هنا رآها الشيخ هناك قال: ويقولون لنا: ألقوا العمائم, فيلقون العمائم في الجلسة, فيقال: كلٌ يرفع عمامته لأن الشيخ الآن يحضر تحت العمائم, ترفعون عمائمكم وبركة الشيخ تحل!
فأحد المشايخ -جزاه الله خيراً- وضع عمامته سريعاً, ثم كشفها وقالوا: ما لك؟ قال: أريد أن أرى الشيخ مباشرة, فقيل له: لا.
قم يا مبتدع, فأخرجوه من المسجد, سبحان الله! لقد أصبح هو المبتدع.
وهذا من اعتقاد العصمة في غير معصوم, فكلامه عندهم مثل القرآن, وعندهم في الحرم أوراد ترونها قبل صلاة المغرب، فتجده قبل أن يأكل التمر يخرج ورده, فإذا قلت له: اقرأ القرآن, قال: لا.
ورد الشيخ أفضل في هذه الساعة, وكلامه ملعثم، يقول: يا دهر الدهارير! يا حي يا حي يا حي! يا هو يا هو يا هو!! وهذا نباح كلاب, وصياح دجاج, وليس بذكر, هؤلاء جزاؤهم عند الشافعي أن يضربوا بالجريد والنعال ضرباً مبرحاً, حتى يعرف العقيدة الصحيحة, ويخرج من المسجد ويؤدب.
وهذه الكتب موجودة وتنشر نشراً عظيماً بين الجهلة، حتى إنه وجد بعض الجهلة الذين هم في الأصل سنة, يشترونها ويقرؤنها وما دروا ولا علموا لأن طلبة العلم مقصرون في تعليمهم, وفي تثقيفهم.(145/7)
الاستحسان بالهوى
البدعة في ظاهرها حسنة, وقد يروج لها مثل بدعة المولد, يقول أحدهم: سبحان الله تنكرون علينا بدعة المولد، لأننا أحببنا الرسول عليه الصلاة والسلام؟ أحُبنا للرسول عليه الصلاة والسلام يجعلكم تنكرون علينا؟ نجتمع في يوم ميلاده, والناس يحتفلون بمواليد الزعماء والناس والسادة, ونحن أحب الناس إلينا هو, فنجتمع فنذكره ونمدحه، ونصلي ونسلم عليه صلى الله عليه وسلم، فتنكرون علينا هذا؟!
يقول سبحانه: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] والبدعة مزينة في عين صاحبها.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم
وهذا شأن المبتدع, فإنه دائماً كلما بينت له قال: سبحان الله! تمنعني أن أذكر الله, فهو جالس في الحرم ويقول: يا لطيف يا لطيف يا لطيف يا لطيف!! قال: أوصاني الشيخ أن أقولها سبعة آلاف مرة, قلنا: قل: سبحان الله.
قال: تمنعني أن أقول: يا لطيف! أليس اللطيف هو الله؟ يقول: يا حي يا حي يا حي! قلنا: يا أخي! ادع دعاءً شرعياً أتى من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: الحي من هو؟ تقول: الله, فهم يلزمونك بشيء مستحسن في الظاهر, ولهم نسب من التهريج والترويج في هذه المداخل.(145/8)
أضرار البدع(145/9)
طمس السنة
لا توجد بدعة إلا وينزع من السنة مثلها، فهي عدوة للسنة, ولا يوجد بلد ولا قرية ولا مدينة توجد فيها البدعة إلا طمس من السنة بمثلها, قال عمر بن عبد العزيز -وقد ورد هذا الأثر في سنن أبي داود باب السنة: [[واعلم أنها ما وقعت بدعة إلا رفع من السنة بمثل ما وقع من البدعة]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه في كتابه العظيم الذي استملحه ابن كثير كثيراً وغيره من العلماء.
فالبدعة طمس للسنة ومحاربة للدين، ومنها اتهام الدين بالنقص, فالمبتدع في الظاهر يقول: الدين كامل لكن لا يقر ذلك بعمله, يقول سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] لكنه بعمله ومن داخله يرى أن الدين ناقص, فيكمله بهذه الزيادات, وهذا اتهام خطير للإسلام أنه ناقص, وأنه محتاج لهؤلاء الدراويش أن يكملوه أو يزيدوا فيه وينظموه.(145/10)
تشويه جمال الإسلام
الإسلام جميل, وبديع, ورائع, لكن هؤلاء الدراويش شوهوه -والله- وقبحوه حتى يظن المستعمر والخواجة والوثني والبلشفي الأحمر أن هذه صورة الدين.
أخبرنا بعض الإخوة أنه يعرض في القنوات على مستوى أمريكا صورة الإسلام, ويأتون بصور دراويش الصوفية , أتعلم ماذا يفعلون؟ يترك أحدهم ثوبه ستة أشهر لا يغتسل, حتى ينتثر القمل من على أذنيه, وإذا قلت له، قال: البذاذة من الإيمان، والتواضع، والدنيا فانية، ويتباكى بين يديك! ويصلي أحدهم في اليوم سبعمائة ركعة وهو ناعس, وإذا جاء الظهر صلّى وهو جالس.
يقول الخطابي -وقد ذكرت هذا كثيراً في كتاب العزلة -: أحدهم أخذ لاصقاً فوضعه على عينه اليسرى ثم أغلق عينه, فقيل له: ما لك؟ قال: إسراف أن أنظر إلى الدنيا بعينين, عجباً لهذا المتخلف! فالله تعالى يقول: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] ويقول ابن الجوزي في كتابه صفة الصفوة: أحدهم يقول لتلاميذه: أين أنتم مني؟ والله! ما أكلت الرطب أربعين سنة! والرطب: البلح الذي يباع في الأسواق، الذي هو أحلى من العسل، وقد أكله محمد صلى الله عليه وسلم, وأكل العسل, واللحم، وهم لا يأكلون الرطب لأنهم جهلة, أي أنهم حرموا أشياء أباحها الله عز وجل: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] فهذا تشويه للإسلام.
ومنها: أنهم يأتون في أعياد الميلاد وبعد التراويح في رمضان, فيرقصون حلقاً في المسجد, فتسلط عليهم الكاميرات وتنقل لبلاد الكفار, فانظر شعور الأمريكي إذا نظر إلى هذا! وهو ممزق الثوب وهو يرقص مثل المجنون, وبعد ساعة يقع مرمياً على الأرض, ويرش بالماء, ويقول: هو هو هو!! حي حي حي!! فهل يحب بعدها أن يدخل الإسلام؟ وهل له رغبة أن يدخل في هذا الدين؟ وهل يفكر في يوم من الأيام أن يكون مثل هذا الإنسان؟
وفَد وفد من اليمن، فقالوا للإمام مالك: يا أبا عبد الله! عندنا قوم يرقصون ويغنون ثم يقعون ويغمى عليهم, ويقولون: هو من حب الله.
قال الإمام مالك: أصبيان هم؟ قالوا: لا.
قال: أمجانين هم؟ قالوا: لا.
قالوا: فضحك مالك! يعني أنه لم يجد جواباً, ثم قام إلى غرفته فقال تلاميذه لهؤلاء: حسبنا الله عليكم أضحكتم إمامنا ما ضحك من سنوات, كان الإمام مالك صاحب هيبة يتبسم فقط ولا يضحك, لكن أحوجه الأمر والحدث أن يضحك.
فهذا تشويه لجمال الإسلام, حتى إن بعضهم رفض أن يدخل في الدين عندما رأى هذه الصور.
وهؤلاء المبتدعة ليس عندهم باب الجهاد في كتبهم, حتى إن أبا حامد محمد بن محمد الطوسي الغزالي صاحب الإحياء ليس عنده كتاب الجهاد, وكلها مرابطة ومؤانسة ومكاشفة.
والفناء والشهود والحال والمقام، فلا يعرفون الجهاد, وبعضهم خذل عن الجهاد الأفغاني, يقولون: لا تجاهدوا الآن وجاهد قلبك.
اسمع معاني تفسير القرآن عندهم، قال: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] اذهب يا لساني إلى قلبي فقل: يا طاغية! إنك طغوت فعد إلى الله, فلساني موسى, وقلبي فرعون, فهذه هي الخرافة.
ومن معاني تفسيراتهم: آلم , قال: ألف: ألَّف الله محمداً فبعثه, ولام: لام الله المشركين, والميم: معاوية ما أنصف, فهم يشتركون مع بعض الفرق في بعض التفاسير.
ومنهم من يقول: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] قال أحد علمائهم ومشايخهم وليس عنده علم: لا إله إلا الله -عندما قرأ الآية- أين الذي يريد الله؟! وذلك لأن الله يقول للصحابة: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} والذين يريدون الآخرة هم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام, لكن هذا الشيخ الضال يقول: ليس هناك من الصحابة من يريد الله, أما أنا فأعبد الله وحده، ولا أعبده للجنة.
ويقولون من ضمن مفترياتهم: نحن نعبد الله حباً له, ولا نطلب الجنة، حتى يقول أحدهم:
وحقك لو أدخلتني النار قلت للـ ذين بها قد كنت ممن أُحبه
وأفنيت جسمي في علوم كثيرة وما امنيتي إلا رضاه وقربه
أما قلتم من كان فينا مجاهداً سيحمد مثواه ويعذب شربه
يقول: يا ربِّ! لو أدخلتني النار فأنا أحبك، ولا أريد الجنة, وهذا يرد عليه بقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران:133] ويقول للصحابة: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح:29] فالفضل الجنة, والرضوان رضوان الله.
فهذه العقائد والمعاني والأفعال من ضمن مفترياتهم التي شوهوا بها الإسلام.
والإسلام تشوه من اثنين:
1 - من جاحد.
2 - ومن جامد.
فالجامد مثل بعض الناس تجده واقفاً على ما قبل ستين سنة, لا يتزحزح خطوة, تقول له: نريد أن نستفيد من هذه الوسائل لخدمة الدين, قال: هذا حرام.
يا شيخ! ما رأيك في التكلم في المكرفون حتى يستمع الناس وينتفعوا خارج المسجد؟
قال: في التكلم في المكرفونات نظر, لأن الذي صنعها كافر, وأخشى إذا دخل إلى المسجد أن يكون فيه شبهة.
والمسجل -يا شيخ- ما رأيك إذا سجلت المحاضرات وتنتقل الأشرطة للملايين والآلاف؟
قال: الشريط صنعه كافر والمسجل كذلك, والصحابة منهم أبو بكر وعمر ما كانوا يسجلون محاضراتهم قلنا: اكتشفت الآن.
قال: الأحوط تركها.
فهذا جامد دائماً, وإلا فلو أخذناه بالقياس لقلنا: لا تركب السيارة؛ فإن عمر ما ركب السيارة, ولا تكتب بالقلم, فالقلم ما كان عند الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا تلبس النظارة لأن الذي صنع النظارة ياباني، وهو كافر لا يصلي, ثم قس على ذلك من الأمور الكثيرة.
والجاحد: رجل تربى في بلاد الإسلام ثم جحد عقيدته فأخذ يسب الدين, فهو عربي ويصلي ويصوم ويعتمر ويحج لكن في قلبه ظغينة على الإسلام, لأن الإسلام عنده ظاهر, ولكنه ماركة مسجلة من لينين واستالين أي: جاء متعوباً عليه من هناك, ظاهره مسلم ولكن باطنه -والعياذ بالله- زنديق.(145/11)
إضلال عامة الأمة
إضلال عامة الأمة: وقد سبق هذا في الجهل, والعوام مساكين إذا لم يجدوا علماء يوجهونهم الوجهة الصحيحة، ضلوا ضلالاً بيناً.(145/12)
من صور البدع(145/13)
بدعة المولد
إن استحداث بدعة مولد الرسول عليه الصلاة والسلام، ما أنزل الله بها من سلطان, وليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة, ولم يفعلها أحد من أصحابه رضي الله عنهم, ولا التابعون ولا السلف الصالح {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} انظر لقوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [فاطر:8] ثم تجدهم يتبعون ما تشابه من الكتاب, فيتعلقون بحديث عند مسلم سئل فيه عليه الصلاة والسلام وهو من حديث أبي قتادة عن صيام يوم الإثنين, قال: {ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه وأوحي إليّ فيه} قالوا: فما دام أنه صاحب مناسبات؛ إذاً فنحن نكرم الرسول عليه الصلاة والسلام بحفل مولد يدور كل سنة, قلنا: لا.
لا يريد محمد صلى الله عليه وسلم هذه البدع، ولا نوه بها, فأنت عاديت الرسول عليه الصلاة والسلام.
يا مدعي حب طه لا تخالفه الخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهوينا
خذها جميعاً تجد فوزاً تفوز به أو فاطرحها وخذ لبس الشياطينا
هذه هي البدع!(145/14)
الأذان في القبر للميت
في كثير من المناطق حتى في الجزيرة العربية ينزل بعض الناس إلى القبر فيؤذنون في قبر الميت, ويقولون: الأذان أمان له من العذاب, وبعد ما ينتهون من الدفن تحدث عجائب ومراسيم وأشياء تضحك، يقفون على القبر فيقول أحدهم: يا جماعة الخير! ماذا تشهدون له؟ قالوا: نشهد بخير, قال: شهدتم؟ قالوا: شهدنا, قال: اللهم فاشهد! اللهم فاشهد! اللهم فاشهد.
فهل هذا بيع جمل أم بقرة؟! هل تشهد على الله عز وجل أن هذا يقبله ولا يعذبه؟ سبحان الله!
يقول ابن الجوزي: حج أحد الحمقى البدو, فلما انتهى من منى ورمى الجمرات نفر يوم جمرة العقبة, ووصل إلى البيت قبل الحجاج ودخل مسرعاً وتعلق بأستار الكعبة، قال: اللهم اغفر لي قبل أن يزدحم عليك الناس! سبحان الله! لا تختلف عليه الحاجات, ولا تتعدد عليه النغمات, ولا اختلاف اللهجات، يعطي كل سائل مسألته, ولا ينقص مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.
وبعضهم يوسد الميت فيلقنه الكلمات, وتلقينه الكلمات حديث ضعيف, والأحاديث الضعيفة يقوم عليها كثير من البدع ولا تكفي وحدها في التشريع.(145/15)
رفع الصوت بالذكر الجماعي بعد الصلوات
أهل البدع إذا انتهوا من الصلاة رفعوا أصواتهم: سبحان والله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وهذا موجود بكثرة في كثير من البلاد الإسلامية, يرفعون وراء الإمام, وبعض البلاد جعلت مكان الذكر نصف حزب من القرآن يقرءونه بعد كل صلاة.(145/16)
بدع أخرى
ومن بدعهم أيضاً وهي في بلاد معروفة، إذا دخل الخطيب؛ قام المؤذن فقرأ: قل هو الله أحد، وقال: صلوا على النبي صلوا على النبي فيصلون عليه -عليه الصلاة والسلام- وإذا نزل الخطيب قرأ: قل هو الله أحد.
ومن بدعهم أيضاً أنهم يقرءون دعاء الوسيلة بصوت مرتفع في المكرفونات, فيقول: {اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة} الحديث, ويصلي بصوت مرتفع.
ومن بدعهم أيضاً أنهم يقولون: حي على خير العمل حي على خير العمل وهي لم ينزل الله بها من سلطان، ولم تثبت، وآثارها واهية، وهي خلاف السنة.
ومن بدعهم أيضاً: السلام بمصافحة الأيمن والأيسر، وإدامة ذلك بعد كل صلاة، وتجدونه في الحرم, وفي كل مكان.
فإذا انتهيت من الصلاة سّلم عليك، وقال: تقبل الله, وبعضهم يتبرع فيسلم عن يمينه ويساره وأمامه وخلفه, ومن داوم عليها فقد ابتدع, وسئل عنها شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: بدعة, ولكن من فعلها نادراً فلا بأس، مثل رجل قدم من سفر ووجدته في الحرم، أو في المسجد فسلم عليه, أو رجل لك منه فترة.
أما أنها تتخذ عادة كلما سلّم المسلم صافحوه, فهذه من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان.(145/17)
وسائل محاربة البدع
ما هي الوسائل التي ننتصر بها على هذه البدع التي غزتنا في عقر دارنا, وضيعت عقيدتنا وإيماننا, وضيعت معالم سنة نبينا عليه الصلاة والسلام؟
إنها أربع وسائل:
1 - نشر السنة.
2 - التشهير بالمبتدعة والتحذير منهم.
3 - هجر المبتدع.
4 - الرد على المبتدعة بالتأليف والمواعظ والدروس والمحاضرات.(145/18)
نشر السنة
إن علينا أن ننشر السنة بأقوالنا وأعمالنا, ونظهرها للناس دونما خجل؛ لأنك أنت حامل لواء الرسول عليه الصلاة والسلام, فتظهر السنة في كل مكان, وما أتت المخالفات إلا يوم أن طمست السنة, وما أتى الذكر البدعي إلا يوم لم يوجد من يحدث بالذكر الشرعي, وما أتى مشايخ الطرقية والقبوريون إلا يوم ترك مشايخ السنة التصدر والتوجيه والتعليم وقيادة الأمة وتوجيه الشباب.
خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري
وهذا تماماً مثلما يفعل الإنسان، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36] فإذا خلت الساحة من الأبرار تولاها الأشرار.(145/19)
التشهير بالمبتدعة والتحذير منهم
إن من شهر ببدعته شهرنا به, ومن أشهر بدعته لا بد أن نخبر به على رءوس الأشهاد, فإذا ما شهر بدعته ورددنا عليه, قال: اتقوا الله! ولا تثيروا الخلاف, آداب النصيحة ألا تعرفونها؟! لا بد أن تنصحوننا بيننا وبينكم, لا تفضحوننا على رءوس الأشهاد, عجيب أمرك! تنشر بدعك في الصحف، وتلقيها في التلفاز على الشاشة, وتعرضها يوم الجمعة على المنابر, وتطالبنا أن ندس نصيحتنا, وهذا منهج العلمانية , فـ العلمانية تؤيد أهل التصوف والابتداع تأييداً باهراً, وبينهم حلف ابتداعي بالداخل, وبينهم وثيقة ولو لم تكتب, حتى أنك تجدهم إذا كتبوا وسبوا السنة أو تعرضوا للسنة أُيِّدوا, فإذا رد عليهم قالوا: لا تثيروا الخلاف الرد بالحكمة!! قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] وقالوا: أين الحكمة؟ ولا بد من احترام هؤلاء المشايخ!!
كيف يردون علينا ويشهرون بنا، ونرد عليهم بحكمة؟ أهذه هي الحكمة؟
لا.
بل بد من التشهير بهم والتحدث بأخطائهم وزلاتهم حتى يتجنبها الناس.
أحمد بن أبي دؤاد صاحب القول بخلق القرآن، ووزير المعتصم , وهو قاضي صاحب مروءة وكرم وشهامة, لكن الله أعمى قلبه عن السنة, فعادى الإمام أحمد، ومن عجيب أمره أنه كان ينفق في الجلسة الواحدة ألف ألف درهم, ويفك الرقاب, ويصلح بين القبائل, حتى يقول أبو تمام في بيتين فيه من أعجب ما قيل:
لقد أنست محاسن كل حسن محاسن أحمد بن أبي دؤاد
وما سافرت في الآفاق إلا ومن جدواه راحلتي وزادي
فوقف الإمام أحمد في صلاة العيد, فسمع واعظاً يحذر من أحمد بن أبي دؤاد ويخبر ببدعته ويخبر أنه خالف السنة, فتبسم الإمام أحمد وقال: "ما أحسن هؤلاء الوعاظ للعامة" يعني أن الإمام أحمد يؤيده ويشيد به ويحترمه ويقره على ما فعل لأنه شهَّر به.(145/20)
هجر المبتدع
كان السلف يهجرون المبتدع حتى يتوب, فمن ابتدع بدعة عليك أن تهجره, فقد رأى سفيان الثوري ثور بن زيد وهو أحد رواة البخاري وهو صادق في الرواية لكن فيه بدعة, فسلم ثور بن زيد على سفيان الثوري بيده فرد سفيان يده وقال: السنة السنة الدين الدين! أي: لا أسلم عليك, أأسلم عليك وقد ابتدعت في دين الله؟ لا.
لو كانت أمور الدنيا لكانت سهلة, لو كانت مسألة أراضي أو سيارات أو اختلاف في عقار أو شيكات لكان الأمر سهلاً, لكنك مبتدع، إن مددت يدي إلى يدك, فمعناها إقرار وتأييد لك وسكوت عن منكرك.
فمنهج أهل السنة هجر المبتدعة بالسلام والكلام والزيارة والمصافحة, بعد أن يعلموا ويذكروا وينبهوا ويوصوا وينصحوا, فإذا لم يستجيبوا فالهجر.
وهجر أهل المعاصي ومنهم أهل البدع من منهج أهل السنة والجماعة , كما فعل عليه الصلاة والسلام مع كعب بن مالك ومن تخلف عن غزوة تبوك من إخوانه.(145/21)
الرد على المبتدعة بالتأليف
كتابة الرسائل المفيدة لكن بدون التجريح الشديد, بشرط أن تتصل بهم قبل أن تؤلف, وتكتب, وتحاورهم وتنصحهم فإن عادوا كان بها ونعمت، وإلا فألف مثلما ألفوا, واكتب مثلما كتبوا, ولكن بالأدلة, وبعض أهل السنة قد يخطئ؛ فيرد على المبتدع فيظلمه, فينسى مناقبه, أو يزيد من تضخيم الباطل أو البدعة التي ابتدعها فيضخم خطأه, وهذا لأن الإنسان ظلوم جهول, وبعض الرادين من أهل السنة قد يتشفى في رده, وقد يفتري عليه الأباطيل والكذب وهذا حرام, بل ردّ عليه بمنهج علمي، قال تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] وقال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64].
والرد على المبتدعة يكون بذكره في المواعظ العامة, وهذا ليس من باب إثارة الخلاف, ولا من باب المحاربة إو إثارة النزعات والنعرات, ولا يخاف من هذا بل هو إسعاد للعباد والبلاد لأنه نشر للأمن والرخاء.
ويكون الرد أيضاً بالدروس والجلسات الخاصة حتى تنتشر وتشتهر السنة.
ولا ينجو -أيها الإخوة- إلا من كان على ما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه, ووصيتي لنفسي ولكم بالدعوة إلى سبيل ربنا.
ومن أعظم وسائل الدعوة أن ننشر السنة, وأن نقضي على البدعة, وأن نكون سفراء خير ورسل حق إلى بلادنا, وأن ننقل إليهم السنة الصحيحة التي أتى بها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام بالحكمة, ولكن من الآداب ألا ننازعهم أول الطريق, فإنك إذا دخلت مباشرة على أهل البدع ثم صدمتهم وسببتهم لا يستجيبون لك.
لكن أرى أن الحكمة أن تجادلهم بالتي هي أحسن، أو تأخذ من أتباعهم, ولا تذهب إلى الشيخ أو المسئول أو الرئيس، وإنما تبدأ بأعضائهم وأفرادهم واحداً واحداً حتى تفتت تجمعاتهم، وتضعف كيانهم، ثم تبدأ تدعو من منطق قوة بالتي هي أحسن.
وأرى ألا تبدأ بالمسائل الخلافية, وأرى أن تعرض إليهم المنهج السديد، وتقول: يا شيخ! ماذا ترى في هذا المنهج؟ فإنه سوف يسلم لك , وسوف يسمع أتباعه أنه سلم لك, فعلى ذلك أرشده إلى هذا المنهج السديد, ثم سوف يظهر للناس فيما بعد أن منهجهم كان خطأ.
نسأله سبحانه أن يتغدمنا وإياكم بواسع رحمته وفضله وبره وكرمه, ونطلب منكم أن تلحوا بالدعاء للمسلمين بالنصر والتأييد والتمكين في الأرض، ولأنفسكم ولإخواننا ولإخوانكم جميعاً، عسى الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يتجاوز عنا وعنكم سيئها.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(145/22)
صلاة الجنازة
إن الإسلام قد اعتنى بالمسلم من أول ولادته حتى دفنه في قبره، وقد جعل الإسلام أحكاماً تحفظ حق الميت وحق من بعده، فالميت المسلم يغسل ويكفن ويصلى عليه.
وفي هذه المادة الحديث عن هذه الأحكام والمسائل المتعلقة بأحكام الميت والجنائز.(146/1)
عذاب القبر ونعيمه
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
نجتمع هنا لنتفقه في دين الله عز وجل، ولنتعلم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، علَّ قلوبنا أن تلين، وعلنا أن نرحم من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
ولا زلنا في كتاب الجنائز من صحيح الإمام البخاري رحمه الله، والقضايا المهمة التي سوف يتكلم عنها في هذه الليلة هي:
الصلاة على الميت، وأثر الإسلام في مراعاة المسلم حتى بعد موته، وملاحقته حتى في قبره بالدعاء والترحم والصلاة، وطلب المدد من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى له.
القضية الثانية: متابعة الجنائز والمشي معها وتشييعها وحكم ذلك وفضله.
القضية الثالثة: وهي الداهية وهي الكبرى، معتقد أهل السنة والجماعة في نعيم القبر وعذابه، نسأل الله أن ينعمنا وإياكم في القبور، ونعوذ به من عذابها.
ونعيم القبر من معتقد أهل السنة والجماعة، ومن لا يؤمن بذلك لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً ولا ينظر إليه ولا يزكيه يوم القيامة وله عذاب عظيم، والذين خالفوا في ذلك المعتزلة والخوارج وكأمثال بشر المريسي فقالوا: لا عذاب هناك، وإنما العذاب في الآخرة، وقال بعض المعتزلة: بل العذاب على الكفار، وأما المؤمنون فلا يعذبون في قبورهم، ودلت النصوص -كتاباً وسنة- على خلاف ما قالوا كتاباً وسنة، بل القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.
والقبر هو الواعظ والشاهد الكبير الذي يشاهده كل كبير وصغير، وكل ملك ومملوك، وكل غني وفقير، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة:101] روي عن الحسن قال: [[مرة في الدنيا ومرة في عذاب القبر]] وأخرج هذه الرواية الطبري، وقال غيره: بل مرة في القبر ومرة في جهنم، وقال عز من قائل: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
والبرزخ: هو حياة القبر، والحياة البرزخية هي التي تفصل بين الحياة الأخرى والحياة الدنيا وهي حياة القبر، إما نعيماً وإما عذاباً.
والموت فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءه
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام:93] قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: هذا دليل على عذاب القبر.
فنعوذ بالله من عذاب القبر.
وأما النصوص فقد تضافرت منه صلى الله عليه وسلم على ذلك، ففي صحيح البخاري: {أن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه الناس سمع قرع نعالهم} وعند البزار ورواية عند أبي داود: {سمع خفق نعالهم}.
فلذلك فقد بوب له البخاري باب: الميت يسمع خفق النعال، قال عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه لأهله: [[إذا مت فلا تتبعوني بنائحة ولا نار]] وقال لابنه عبد الله: [[قف عند قبري مقدار ما تذبح الجزور وتوزع]] والجزور: هي البدنة أو الناقة توزع، أي بهذا المقدار؛ ليستأنس به في قبره، وذكر ابن القيم في كتاب الروح أحاديث كثيرة في هذا الباب بما يكفي ويشفي.(146/2)
قصص لقبور يعذب أصحابها
منها: قصص وقعت لكثير من الأئمة، ومنهم عبد الحق الإشبيلي الأندلسي صاحب الأحكام، قال: حدثنا عالم من علماء الأندلس قال: كنت واقفاً عند قبر ومعي فرس فاقتطعت الفرس من رباطها وذهبت، فأخذتها وأعدتها إلى المكان، فكلما أتت إلى المكان وضعت رأسها وسمعت كأنها تسمع شيئاً ثم ذهبت، قال: فعلمت أن صاحب القبر يعذب.
ومر عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: {مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير -وفي لفظ: بكثير- أما أحدها: فكان لا يستنزه من بوله -أي: لا يتنظف من البول- وأما الآخر: فكان يمشي بين الناس بالنميمة، ثم دعا عليه الصلاة والسلام بجريدة نخل رطبة فشقها نصفين على القبرين، وقال: أرجو أن يخفف عنهما العذاب ما لم تيبسا}.
وسوف تأتي هذه القضايا، وإنما الذي نستفيده من مقاصد هذا الدرس: مراعاة الإسلام لهذا المسلم من يوم يضع رأسه على الأرض، ومن يوم تأتي به أمه إلى أن يموت.
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
ومن أحسن من كتب في هذا الموضوع ابن القيم رحمه الله في كتاب تحفة المودود في أحكام المولود وبين ما هي عناية الإسلام بهذا المسلم من يوم أن يأتي طفلاً على الأرض إلى أن يشب ويترعرع ثم إلى أن يلقى الله، ونحن مأمورون بالدعاء للمسلمين بظهر الغيب، وأن نتناسى ما بيننا وبينهم من أحقاد.(146/3)
من أسرار الصلاة على الجنائز
ومن الأسرار في صلاة الجنائز أمور:
السر الأول: أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يشفع هؤلاء المسلمين في هذا الميت، في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليه أربعون مسلماً لا يشركون بالله شيئاً شفعهم الله فيه}.
أي: قبل شفاعتهم ورحم هذا الميت.
السر الثاني: أننا نظهر التضامن حتى في الموت مع المسلم والإخاء بتلك الرابطة التي ربط بها محمد صلى الله عليه وسلم بيننا، فماذا كنا قبل الإسلام؟! وكيف كان تآخينا وتعاوننا قبل هذا الدين؟! قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
السر الثالث: المسامحة والمعافاة، فأنت إذا وقفت على قبر المسلم أو على جنازته تصلي عليه وبينك وبينه حزازات، أو حقد، غفرت له وعفوت عنه وسامحته، وهذا بعد أن ترى مشهده وتراه معروضاً أمامك، ولذلك ذكر أهل السير أن علياً رضي الله عنه لما جرى بينه وبين الصحابة ما يجري بين البشر في معركة الجمل، وقتل طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وهما من العشرة المبشرين بالجنة، فقال علي: [[بشر قاتل الزبير بالنار، وبشر قاتل طلحة بالنار]] ثم نزل علي إلى طلحة فمسح التراب عن وجهه، وقال: يعز علي يا أبا محمد! أن أراك مجندلاً على التراب، ولكن أسأل الله أن يجعلني وإياك ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
السر الرابع في الصلاة على الجنائز: إظهار شعائر الإسلام ضد أعداء الإسلام من الصهيونية، التي هي نبتة اليهودية والنصرانية والشيوعية وكل مغرض لهذا الدين، فنظهر أننا متآخون في الحياة وفي الموت، ونظهر أننا لا نسلم أخانا ولا نتركه؛ بل ندعو له حتى يلقى الله.
السر الخامس: أن نتذكر بالصلاة عليه قدومنا عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ورجوعنا إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلَّ الردى مما نرجيه أقرب
نشاهد ذا عين اليقين حقيقة عليه مضى طفل وكهل وأشيب
فهذا من أعظم الواعظ، ولذلك في سيرة عثمان رضي الله عنه أنه كان إذا رأى القبر بكى حتى يغشى عليه ويرش بالماء، فيقال له: مالك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار؛ فإذا أفلح العبد في القبر فقد أفلح}.(146/4)
اتباع الجنائز
من المسائل التي معنا في هذه الليلة: فضل اتباع الجنائز.
قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا يونس: قال ابن شهاب: حدثني عبد الرحمن الأعرج: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن كان له قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين}.(146/5)
ترجمة لسند حديث اتباع الجنائز
هذا السند منه: أحمد بن شبيب من شيوخ البخاري المقلين في الرواية، وأبوه كذلك روى عنه وليس بمكثر عنه، ويونس هو يونس بن عبيد؛ أحد العباد الأخيار بـ البصرة، ومن فقهاء المسلمين، والذي قال فيه الحسن: [[إني لأحبه هو وأبا أيوب وفلان ثالث]].
ويونس هذا كان يصوم الدهر على اختلاف في حكم صيام الدهر وسوف يرد، وكان يبيع حتى باع تجارة بأربعين ألفاً -يبيع في البز- وتبين أن فيها ثوباً مغشوشاً فذهب إلى التاجر ورد التجارة كلها، قال ذاك: قد سامحتك وعفوت عنك، قال: لا والله إلا أن تعود لأنها بيعة لا يبارك الله فيها دخلها غش فأقلني فأقاله، والربح له، ولكنه خاف من الله، لأن الدين النصيحة.
وابن شهاب هو الزهري؛ الإمام العلم الكبير الذي مر معنا في أكثر من حديث.(146/6)
ترجمة لأبي هريرة
وأبو هريرة حافظ الأمة رضي الله عنه؛ بل ما جاء من تاريخ حياته صلى الله عليه وسلم ولا يأتي إلى قيام الساعة أحفظ منه للحديث النبوي، كان يحفظ الحديث كما يحفظ الفاتحة، ولا يخرم حرفاً واحداً أبداً، عاش حياته السعيدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأيامه المباركة، وهو من دوس من زهران، هاجر من هناك، ولما وصل إلى المدينة كان عنده مولى له، فضاع منه المولى، فقدم على الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:
أيا ليلة من طولها وعنائها على أنها من دارة الكفر نجت
يقول: إنني أمضيت ليلة طويلة، والعرب كانوا إذا قدموا على الملوك والسلاطين امتدحوا بطول سراهم وأنهم تعبوا ووجدوا مشقة، فـ أبو هريرة يروي قصته للرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: إنني كلفت نفسي وأتلفت راحلتي حتى ألقاك، على حد قول المتنبي لما أتى إلى كافور:
قطعت المرورى والشناخيب دونه وجبت هجيراً يترك الماء صاديا
وصل أبو هريرة إلى المدينة في صلاة المغرب، وكان أمير المدينة سباع بن عرفطة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى خيبر غازياً، فتقدم أبو هريرة وكان عنده فهم عن الإسلام، فأسلم على يد الطفيل بن عمرو الدوسي، فـ أبو هريرة حسنة من حسنات ذاك الداعية الكبير الطفيل بن عمرو الدوسي، قال أبو هريرة: فصليت المغرب فقرأ بنا الإمام: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] قال: فقلت في نفسي: ويل لفلان -رجل من زهران- له مكيالان، يستوفي بواحد ويبخس بآخر، يعني: هذا الكبير للطوارئ إذا أراد أن يأخذ من الناس، والصغير للإنفاق في البيع، قال: فلما صليت اليوم الثاني لحقت الرسول صلى الله عليه وسلم في خيبر فأسلم أبو هريرة وعاد إلى المدينة، فأخذ كلما سمع حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفلت منه؛ لأنه لا يستقر في ذهنه، فشكا للرسول صلى الله عليه وسلم، فهم أمة عربية لا يكتبون ولا يحسنون الحساب، وليس لديهم دفاتر ولا سجلات ولا آلات، وإنما يسمعون الكلام، فإن قر واستقر فبها ونعمت، وإن ذهب فإلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فقال: {يا رسول الله! أنا لا أجيد ولا أحفظ ولا أعي شيئاً مما تقول، فقال عليه الصلاة والسلام: ابسط رداءك، فبسط جبة له، وأخذ صلى الله عليه وسلم بيديه ودعا وأخذ يضعها في الجبة، قال: ضمها عليك، فضمها عليه قال: فوالله ما نسيت حرفاً منذ ضممتها إلى اليوم} بل هو حافظ الأمة وكان يسرد الحديث كالفاتحة لا يخرم منه حرفاً، حتى قال بعض التابعين: [[رأينا أبا هريرة لا يقدم الفاء على الواو ولا الواو على الفاء، كأنه يقرأ من صحيفة]].(146/7)
معاناة أبي هريرة في طلب العلم
استمر به عمره المبارك في العلم، وحصل في أول إسلامه جوع على عهد الصحابة والصدر الأول، قال: صليت مرة من المرات صلاة المغرب في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبي من الجوع ما لا يعلمه إلا الله، قال: والله لقد كنت أصرع بين المنبر وبين بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما بي إلا الجوع، فيأتي الرجل فيجعل رجله على رأسي ويقرأ علي شيئاً من القرآن يظن أني صرعت -يظن أن به جاناً- وما بي إلا الجوع، قال: فصليت المغرب معه صلى الله عليه وسلم، ثم تعرضت لـ أبي بكر عله أن يضيفني لكنه لا يستطيع أن يقول: عشني الليلة أو أريد أن أذهب معك، قال: فسألته عن آيات آخر سورة آل عمران، وأنا أعرفها كما يعرفها، قال: فقرأ عليه عشر آيات وهو واقف، ثم ذهب، قال: فتصديت لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسألته عن نفس الآيات العشر، قال: فقرأها علي حتى ختم ثم ذهب.
قال: فلما خرج صلى الله عليه وسلم تعرضت له، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أتكلم، وعرف عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أعطاه من المعجزات وأعطاه من قوة الإلهام وأعطاه من قوة البصيرة ونفاذ القدرة ما لم يعط غيره من الناس، قال: فضحك صلى الله عليه وسلم وأخذ بأصابعي هكذا وشبكها بين أصابعه، قال: ثم جرني معه إلى البيت عليه الصلاة والسلام، قال: وكانت تلك الليلة ليلة أم سلمة، فدخلت معه صلى الله عليه وسلم فقال: هل من عشاء؟ قالت: نعم فقربت لنا عشاءً فأخذ صلى الله عليه وسلم يقربه منه، ويباسطه صلى الله عليه وسلم ويكلمه حتى يهنأ ويمرأ على حد قول الأول:
أباسط ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب
وما الجود للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
فلما انتهى قام وما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم لأن هذا هو جواب السؤال الذي ورد على الرسول صلى الله عليه وسلم.
حمل عليه رضي الله عنه بعض أعداء الإسلام، مثل أبي رية في كتابه، ومثل المستشرق المجري جولد زيهر في كتب لهم، وإنما أعرضها لأن كثيراً من طلبة العلم لا يعرف هذا، ورد عليه علماء الإسلام، وردوا على هذه الفرية، بل هو رضي الله عنه حافظ تقي أمين عابد زاهد ممن نتولاه ونحبه ونشهد له بالخير.
يقول ابن كثير عنه: كان من العباد الكبار، والزهاد المرموقين، وكان يسبح في اليوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة، قالوا: لماذا؟ قال: لأن ديتي اثنا عشر ألف درهم رضي الله عنه.
وكان فيه دعابة، فهو خفيف الروح، يسري على القلوب كالماء الزلال، فيحبب نفسه عند أطفال المدينة، وعند أهلها، وهذه من المآخذ التي أخذها أبو رية على أبو هريرة، أنه كان يأتي والأطفال يلعبون بعد صلاة المغرب فيقع بينهم فيفرون ثم يتحرك ويقوم، ولما تولى إمارة المدينة بعد مروان بن الحكم، أراد أن يهضم نفسه، فأخذ حزمة من الحطب ودخل السوق، وقال: افسحوا للأمير؛ أي: وسعوا للأمير طريقاً، يريد أن يهضم نفسه بتقوى الله عز وجل.
توفي رضي الله عنه على فراشه بعد أن ترك علماً جماً، فهذا عرض سريع لسيرة أبي هريرة، وإنما نسوقها لأغراض تربوية، ولنستأنس بسيرهم، ولنعطر ونضوع مجالسنا بأخبارهم.(146/8)
جزاء من صلى على الجنازة وتبعها
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين}.
القيراط عملة عند العرب تعرفها، قيل: أقل من الدرهم، وقيل: أكثر، والصحيح أنها أقل، فالرسول صلى الله عليه وسلم قرب لهم هذا بتسمية القيراط، وإلا فإن القيراط هنا مثل جبل أحد من الأجر العظيم يحصل للمؤمن إذا تبع الجنازة حتى يصلي عليها، وإذا مكث حتى يصلى عليها وتدفن فله قيراطان، يعني: أن من تبع الجنازة ولم يصل عليها فله أجر عند الله، لكنه لا يحصل على القيراط إنما يحصل عليه إذا صلى على الميت، ويحصل على القيراطين إذا تبعه حتى يدفن.(146/9)
من سنن الجنائز
وأما السنن في الجنازة فإنها كثيرة.
فمن السنة في الجنازة: أن يسرع بها، يقول عليه الصلاة والسلام: {أسرعوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم -أو أكتافكم-} ولذلك كان يقول عليه الصلاة والسلام: {إن الجنازة تصيح بصوت يسمعه كل من خلق الله إلا الثقلين، إذا كانت شقية تقول: يا ويلها أين تذهبون بها}.
نعوذ بالله من ذلك!
فالسنة في الجنازة أن يسعى بها وأن يهرول بها، ولذلك خرج بعض الصحابة على بعض التابعين وهم يمشون رويداً رويداً، قالوا: مالكم؟ قالوا: نمشي بسكينة، قالوا: هرولوا بها؛ فإنا كنا نسرع بها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.(146/10)
وقت دفن الجنازة
وهناك مسألة وهي: هل يجوز الدفن بالليل أم لا؟ لأنه ورد في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: {زجر صلى الله عليه وسلم عن الدفن بالليل} أي: نهى عليه الصلاة والسلام أن تدفن الجنازة بالليل، ومنع عليه الصلاة والسلام دفن الجنازة بالليل، وأصل هذا الحديث له روايات في أبي داود وفي بقية السنن، فهل يجوز أن تدفن الجنازة -جنازة المسلم- بالليل، فإذا مات في أول الليل، فهل يحبس إلى الصباح ثم يدفن؟
الصحيح أنه يجوز أن يدفن بالليل، دل على ذلك أحاديث منها: حديث أبي هريرة في البخاري: {توفي رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفناه من الليل، فأخبرناه عنه، فقلنا: يا رسول الله! توفي رجل البارحة فدفناه من الليل}.
فكيف نجيب على حديث جابر؟
يجيب عليه بعض أهل العلم كـ ابن حجر وغيرهم، يقول: إنما زجر الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا؛ لأنها حادثة عين، كان هناك رجل دفن بالليل، فلم يحسن كفنه في الليل، وما اعتنوا بكفنه، فضموه ودفنوه بالليل، فزجر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدفن الميت بالليل حتى يرى كفنه ويحسن، فإذا أحسن كفنه فلا عليه، سواء بليل أو نهار، وهذا الذي يدل عليه حديث أبي هريرة أنه لا بأس أن يدفن الميت ليلاً، وهذا لا شك فيه، بل هو الصحيح، على أن بعض أهل العلم ذهب إلى حديث جابر ورجح أنه لا بد من النهار.
وذكرنا الإسراع بها وأنه من السنة، وأن المسلم عليه أن يحضر هذه الجنائز وأن يتقي الله عز وجل، قال عطاء: [[حضور الجنازة خير عندنا من صلاة النافلة]].
وفيها الاتعاظ العظيم، وتذكر الرحيل والقدوم على الله عز وجل.(146/11)
من سنن المشي مع الجنازة
الذي يشيع الجنازة أين يمشي؟ هل يمشي بجانبها أم وراءها، أم أمامها؟ فيه خلاف بين أهل العلم، والصحيح الذي دلت عليه النصوص أن من كان لا يحمل الجنازة وليس راكباً على دابة أو سيارة، فعليه أن يمشي أمام الجنازة، للحديث المتفق عليه عن ابن عمر، قال: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة}.
فكان عليه الصلاة والسلام يمشي أمام الجنازة.
فالسنة أن المسلم إذا لم يكن يحمل الجنازة مع الناس وليس براكب على سيارة أو دابة، أن يمشي أمام الجنازة إلى المقبرة، والسر في ذلك والله أعلم كما استشفه بعض العلماء، يقولون: من باب كأنهم شافعون فيه، أو كأنهم قدموا بين يديه يشفعون ويدعون ويترحمون قبل أن يصل إلى المقبرة، وهذا من الأسرار التي تعرض للفائدة.
ومن السنة كذلك ألا تتبع الجنازة بنار ولا بنائحة، وقد زجر عليه الصلاة والسلام أن تتبع الجنازة بنار، لأن هذا علامة شؤم، وإيذاء للميت أن يتبع بنار، أو ما شابه ذلك، وهذا لحديث عمرو بن العاص في صحيح مسلم: {ولا تتبعوني بنار ولا نائحة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك}.
وأما النواح فقد علمتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة، ولعن صلى الله عليه وسلم النائحات، وقال للنساء: {ارجعن مأزورات غير مأجورات} وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة، فهذا من السنن في المشي مع الجنازة.
ومن السنن: ألا يرفع الصوت بالذكر لأنه بدعة، وبعض الأماكن والمناطق إذا ساروا بالميت، قالوا: لا إله إلا الله، ورددوا كلهم بصوت جميعاً، وهذا لم ترد فيه سنة ولا حديث عن المعصوم عليه الصلاة والسلام بل هو بدعة، والأولى للمسلم أن يتمسك بالسنة حتى يرد النص: {ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.(146/12)
حكم نقل الميت إلى بلده
مسألة: نقل الميت من مكان إلى مكان، مثلاً توفي في بلد غير بلده، هل ينقل أو لا؟ إن نقل فلا بأس بذلك، لكن الأولى والأفضل والمسنون الذي وردت فيه الأحاديث أن الأفضلية أن يدفن في المكان الذي توفي فيه، فأورد في الطبراني حديثاً وقال: فيه ضعف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من مات في بلد غير بلده كتب الله أثره من ذاك البلد أو من موضعه إلى ذاك البلد الذي توفي فيه} فالأفضل للمؤمن أن يدفن في البلد الذي مات فيه، وهو الأولى والأحسن ولو كان بعيداً عن قريته أو عن مدينته ولو كان في بلاد الكفار، بل قال بعض أهل العلم: هو أفضل أن يدفن في بلاد الكفار، واستحب ذلك كثير من الصحابة كما في ترجمة أبي أيوب الأنصاري، فإنه دفن على أسوار القسطنطينية، وكان أبو أيوب شيخاً من الأنصار، وهو الذي أنزل الرسول صلى الله عليه وسلم ضيفاً عنده في المدينة، وقد بلغ به الكبر عتياً وهو يجاهد في سبيل الله، فذهب فقاتل ومات رضي الله عنه وهو في الغزوة، وقال لـ يزيد بن معاوية قبل أن يتوفى: اذهب بي إلى آخر ديار المسلمين واجعلني في حدود بلد الروم ليبعثني الله من بين قوم كفار، فهو شاهد له يوم القيامة أن يخرج من قبره وهو مؤمن بين أمة كافرة لا تعرف الله عز وجل.
إذاً القول الأول: أنه يستحب المشي أمام الجنازة.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يستحب المشي وراء الجنازة للاعتبار.
وأقول: إذا وردت النصوص فالحكمة فيما جاءت به النصوص، وابن عمر يقول: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة}.
على أن الأمر فيه سعة، وليس هناك إثم إذا مشى وراءها، فهي من باب الأولى والأفضل، فلو مشى خلفها فهذا ليس به بأس، بل ثبت أن كثيراً من الصحابة مشوا خلف الجنازة رضوان الله عليهم وأرضاهم.
وأقول: إن النور إن كان للحاجة فلا بأس به، لأن من عادة أهل الجاهلية أنهم كانوا يوقدون ناراً في سرج ويذهبون وراء الميت وكأنه كان ناراً، أو نوراًَ، أو كان مشهوراً، ولذلك تقول الخنساء في أخيها:
وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
فهم يشهرون بالميت وينوحون عليه ويذهبون بالنار معه لشهرته في الحياة، وقد كذبوا في ذلك.(146/13)
حكم القيام للجنازة
ورد عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد المتفق عليه أنه قال: {إذا مرت بكم الجنازة فقوموا حتى تخلفكم} فمن السنة أنه إذا مرت الجنازة أن يقوم العبد المسلم؛ سواء رافقها أو شيعها أو صلى عليها أو حضر دفنها أو لم يذهب إليها، فعليه أن يقوم ليتعظ ولحكمة علمها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
{مر بجنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام لها، فقالوا: يا رسول الله! إنها جنازة يهودي، قال: أليست بنفس} ولذلك يقام حتى على جنازة الذمي اتعاظاً واعتباراً وادكاراً.
والسنة كذلك أن المسلم إذا ذهب مع الجنازة ألا يجلس حتى توضع في القبر؛ هذه هي السنة، مع العلم أنه ورد عن علي رضي الله عنه {أنه مرت به جنازة وهو بـ الكوفة فلم يقم، فقال له بعض الصحابة: لماذا لا تقم؟ قال: كنا نقوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ترك ذلك} ولكن يبقى هذا لصحة الأحاديث فيه، ولضعف المعارض لهذه الأحاديث الصحيحة.(146/14)
الصلاة على الميت
وأما مسألة الصلاة على الميت فسوف أوردها إجمالاً ثم تفصيلاً؛ حيث إن من السنة أن يصلى على الميت، والشهداء لا يصلى عليهم لأن الله سبحانه وتعلى زكاهم وقبل منهم، لأن مقصود الصلاة الشفاعة عند الله عز وجل، والترجي والشهداء قد أصبحوا بمنزلة عالية.
قال جابر: {دفن صلى الله عليه وسلم شهداء أحد وكفنهم في ثيابهم، ودفن الاثنين والثلاثة في قبر واحد، ولم يصل عليهم، ولما دفنهم صلى الله عليه وسلم قال: أنا شهيد عليكم أنكم شهداء عند الله}.
وكان صلى الله عليه وسلم يؤتى بالجماعة من الناس وهم شهداء وهم قتلى فيقول: {أين الأحباب منهم في الدنيا} يسأل صلى الله عليه وسلم: أين المتآخون والمتصادقون، فيجعل الأخ مع أخيه، والصديق مع صديقه، والصاحب مع صاحبه، ويقول: {أيهم أكثر أخذاً للقرآن فيشار إليه إلى أحد فيجعله من تجاه القبلة كالإمام عليهم} وهذا فيه أن الشهيد لا يصلى عليه.
وأما حديث عقبة بن عامر في مسلم: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد}.
فالصحيح أنها ليست بصلاة، وإنما هو دعاء، وذلك بعد ثمان سنوات من موتهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة ذهب إلى المقبرة ودعا لهم في الليل وترحم عليهم، ثم رجع وتوفي بعدها بأيام صلى الله عليه وسلم، فهذا إنما هو زيارة ودعاء لهم، وليست صلاة، فهذا يجمع بينه وبين الحديث الذي قد يرد عليكم، وقد أورده ابن كثير في التفسير وغيرهم من أهل العلم، فليعلم هذا.(146/15)
صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة
أما الصلاة على عم الرسول صلى الله عليه وسلم حمزة فليس بصحيح، بل الصحيح: أنه لم يصل على الشهداء، وإنما سلم عليهم ودعا لهم قبل أن يتوفى، فما صلى عليه الصلاة والسلام على الشهداء لا على حمزة ولا غيره رضوان الله عليهم جميعاً، وإنما دعا لهم صلى الله عليه وسلم.(146/16)
كيفية الصلاة على الجنازة
أما هيئة الصلاة على الإجمال فهي: أن يكبر المكبر ويرفع يديه، فإن رفع اليدين سنة، واستدل أهل العلم على سنية رفع اليدين ولو أنه لم يرد دليل يخصصها، ولم يرد دليل على أنها تقاس بالصلاة، بقول ابن عمر: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع} فأخذوا عند التكبير أن ترفع الأيدي على الجنازة إذا كبر المكبر المصلي.
فيكبر التكبيرة الأولى ثم يقرأ بالفاتحة، وهذا دل عليه حديث النسائي عن سهل بن حنيف قال: {من السنة أن يصلى على الجنازة فيكبر التكبيرة الأولى ثم يقرأ الفاتحة، ثم يكبر الثانية فيصلى على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يكبر للثالثة ثم يدعو للميت، ثم ما ذكر شيئاً بعد الثالثة}.
فالسنة أن يكبر التكبيرة الأولى ثم تقرأ الفاتحة، والثانية أن يصلى على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأفضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم الصلاة الإبراهيمية: {اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد} ثم يكبر للثالثة ويدعى للميت.
وحفظ من دعائه حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: {صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فاقتربت منه حتى مست ثيابه ثيابي، وسمعته يدعو لرجل من الأنصار ميت وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خير من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه 000}.
الحديث، قال: فوددت والله أنني أنا الميت.
وحفظ من دعائه صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة الصحيح أنه قال: {اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده} إلى أدعية كثيرة، والدعاء مطلق، والأحسن أن يتقيد بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، ومن دعا بالرحمة والغفران للميت، فلا بأس به على ما فتح الله له.
وأما المولود فيدعى له كما هو تعليق البخاري عن الحسن البصري قال: [[اللهم اجعله فرطاً وذخراً وأجراً لوالديه]].
هذا في الدعاء، ثم يكبر الرابعة ثم يقف ثم يسلم، ومن السنة كذلك كما في سنن أبي داود: أنه يسلم تسليمتين، فمن سلم تسليمتين فلا شيء في ذلك؛ بل هو سنة، ولكن الأغلب تسليمة واحدة، وقد أخذ الجمهور بتسليمة واحدة، وأخذ الأحناف بتسليمتين.
وهل يكبر ثلاثاً أم أكثر؟ ورد عن أنس رضي الله عنه أنه كبر ثلاث تكبيرات، ويكبر خمساً كما ورد عن زيد بن أرقم في صحيح مسلم: {أنه كبر خمس تكبيرات، وقال: فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم}.
وفي السنن: [[أن علياً رضي الله عنه صلى على سهل بن حنيف فكبر عليه ست تكبيرات، وقال: هو من أهل بدر]].
هذه الصلاة على الميت على وجه الإجمال، ولكل سنة من هذه السنن أو الشعائر حديث ودليل يدل عليها.(146/17)
أدلة رفع اليدين في التكبير
الأصل أن يحمل المسكوت على المنطوق، وقد ذكر ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه عند التكبير، فأخذ أهل العلم كالإمام أحمد بحديث ابن عمر حتى في صلاة الجنائز، فما دام أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر يرفع يديه؛ كتكبيرة الإحرام والتكبيرة من الركوع والتكبير من الرفع وصلاة العيدين وهذه الصلوات، عرفنا أن المسكوت يحمل على المنطوق، وليس هناك دليل صريح فيما أعلم على رفع اليدين عند الجنازة.(146/18)
حكم دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة
لا بأس بدعاء الاستفتاح قبل الفاتحة لأنه ورد في الصلاة، وصلاة الجنازة تأخذ حكم الصلاة إلا فيما خصه الدليل، وهناك قاعدة ذكرها أهل العلم منهم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتاب الأحكام، يقول: قاعدة: النافلة تأخذ حكم الفريضة إلا ما خصه الدليل، فلا بأس أن يستفتح وإن خشي أن يفوته الإمام بالتكبير فليبدأ بالفاتحة.(146/19)
حكم نقل القبر
السنة ألا ينقل القبر وأن يبقى إلا لحاجة، كأن يتضرر الميت أو يتضرر الحي من بقاء القبر في هذا المكان، فـ جابر رضي الله عنه كما في الصحيح نقل قبر أبيه لما أجرى معاوية العين من وراء جبل أحد إلى المدينة، فطلب منهم أن ينقلوا الشهداء؛ لأن العين تمر عليهم، قال جابر: [[فنقلت أبي بعد ست وأربعين سنة فوجدته ما تغير منه شيء، وكان ريحه كريح المسك]] أبو جابر هذا هو عبد الله بن عمرو بن حرام، الذي كلمه الله كفاحاً بلا ترجمان، وقد قتل يوم أحد، يقول جابر: {قتل أبي فرأيته مغطى أمام الرسول صلى الله عليه وسلم فاقتربت منه فأخذت أرفع الثوب وأبكي فما نهاني صلى الله عليه وسلم، والناس ينهونني}.
حتى جاءت عمتي -أخت هذا المقتول- فقالت: يا رسول الله! أخي في الجنة فأصبر وأحتسب؟ أم هو غير ذلك فسوف ترى ماذا أصنع؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أهبلت؟! أجننت؟! أهي جنة واحدة؟ والله إنها لجنان كثيرة وإن عبد الله في الفردوس الأعلى، قال جابر: فلما وصلنا المدينة حملنا أبي والشهداء على الجمال، فدخلت بهم الجمال مع الغروب إلى المدينة ليدفنوا في المدينة، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعيدوا الشهداء يدفنوا في مضاجعهم فأعادوهم.
وفي يوم أحد وقف النبي صلى الله عليه وسلم وهو متأثر لأنها شبه هزيمة، قتل سبعون من أصحابه، وقتل عمه وشج صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته، وأتاه من الكلل والإعياء ما لا يعلمه إلا الله، فقام صلى الله عليه وسلم فقال: {صفوا ورائي لأثني على ربي} ما أحسنها من كلمة في هذه الأزمة وفي هذا الموقف، فصف الصحابة بعده -هذا من السيرة استطراداً مع هذه القضية- فلما صف صلى الله عليه وسلم يثني على الله عز وجل، وإذا بـ أبي بن خلف؛ ذاك الفاجر المجرم الذي لم يقاتل في المعركة، وكان من كفار قريش، وإنما كان يترصد ويريد أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فاعتزل المعركة وأتى بسيف يقولون: سمه بالسم شهراً كاملاً حتى أصبح السيف أزرق، وعلف فرسه من البر، وقال: أقتل محمداً على هذا، فلما أخبر صلى الله عليه وسلم، قال: أنا أقتله إن شاء الله، فلما وقف صلى الله عليه وسلم يدعو نزل ذاك بفرسه من الجبل، يقول بعض الصحابة: ظننا أن الجبل أقبل معه، من قوة الرجل وقوة الفرس ما قاتل من أول النهار، وإنما أراد أن ينهك صلى الله عليه وسلم من كثرة المقاتلة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقاتل من الصباح إلى العصر، وهو جائع وعاطش ومرهق، فيأتي هذا فيستغل هذه الفرصة ويستغل نقطة الضعف.
فيتحرك الصحابة يريدون أن يباغتوا هذا، وبينهم من هو أشجع منه بمئات المرات كـ الزبير وعلي وكغيره من الصحابة، فأشار صلى الله عليه وسلم أن اتركوه، فلما قارب صلى الله عليه وسلم إنهاء الدعاء، قال: ناولوني حربة، فناولوه حربة صلى الله عليه وسلم فهزها، ثم قال: بسم الله، فأطلقها، وذاك الرجل قد تدجج تحت ثيابه بدرعين اثنين، حتى يقولون: ما ترك من جسمه شيئاً لأنه كان حذراً من مثل هذه الضربة، وترك موضعاً كالدرهم.
فلما قال صلى الله عليه وسلم: باسم الله.
أرسلها فوقعت في ذاك الموضع، فسقط صريعاً على وجهه ثم حمله الكفار، وقالوا: لا بأس عليك، وقالوا: ما خرج من الدم إلا كالدمعة الواحدة، فقال وهو يحلف بلاته وعزاه: لو أن ما بي بأهل ذي المجاز -وهي سوق عظيمة عند العرب- لماتوا عن بكرة أبيهم، فقربوه من النار، يريدون أن يسروه بالنار حتى لا تأتي الطيور عليه بالجراثيم، فمات عند النار وسوف يدخل النار إن شاء الله.
قال جابر: فلما دخلنا المدينة قال عليه الصلاة والسلام: {يا جابر! أتدري ماذا فعل الله بأبيك وإخوانه الشهداء؟ قال: لا.
يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده لقد كلمهم كفاحاً -يعني: مباشرة بلا ترجمان ولا ستار- وقال: تمنوا عليَّ، قالوا: نتمنى أن تعيدنا في الدنيا لنقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمنوا، قالوا: نتمنى أن ترضى عنا فإنا قد رضينا عنك، قال: فإني أحللت عليكم رضواني ولا أسخط عليكم أبداً، فجعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر ترد الجنة، فتأكل من أشجارها، وتشرب من مائها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش حتى يرث الله الأرض ومن عليها}.
وهذا حديث صحيح، وأنزل الله مصداق ذلك: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].(146/20)
حكم الصلاة على الغريق
يصلى على الغريق الذي شرق بالماء أو غرق وهو من الشهداء عند الله عز وجل، إنما الذي لا يصلى عليه هو شهيد المعركة، أما الذي أصابه حريق أو أصابه حادث سيارة، أو وقع من مكان عال فتلف، فيصلى عليه.(146/21)
حكم الصلاة على صاحب الدَّين والمنافق
الصلاة على من عليه دين باهظ، هل يصلي عليه الإمام والمسلمون أم لا؟
يقول أبو قتادة في الصحيح: {تقدم صلى الله عليه وسلم ليصلي على رجل من الأنصار، فقال: أعليه دين؟ فقالوا: عليه ديناران يا رسول الله! فتأخر صلى الله عليه وسلم، وقال: صلوا على صاحبكم، قال أبو قتادة: أنا أحملها عنه يا رسول الله! -أي: أقضيها عنه- قال: فتقدم صلى الله عليه وسلم فصلى، ثم لقي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة فقال: ما فعل دين صاحبك؟ قال: قضيته يا رسول الله! قال: الآن بردت جلدته}.
قال: أبو هريرة في الصحيح: {كان صلى الله عليه وسلم لا يصلي على من مات وعليه دين حتى فتح الله الفتوح} فكان يصلي ولا يسأل من عليه دين أو ليس عليه دين.
والصحيح: أنه يصلى على المسلم ولا يسأل هل عليه دين أم لا؟ لأنه لو توقف الصلاة على الذي ليس عليه دين ما بقي من الناس أحد لا يصلى عليه، ومن الذي يموت -إلا القليل النادر- وليس عليه دين، بل يصلى عليه ويترحم، وهو من الذين يقبل الله عنهم إذا كان مسلماً أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم، ومن أخذ الدين من الناس يريد قضاءه قضى الله عنه، وإن أخذه يريد إتلاف أموال الناس أتلفه الله.
أما الصلاة على المنافق: فمن اشتهر نفاقه بين المسلمين وأصبح منافقاً له علامات، مثل: التكاسل عن الصلوات، أو بغض القرآن وآيات الله عز وجل، والحديث النبوي، ومجالس الخير، وأهل الالتزام والعلم والصلاح والاستقامة، فهذا لا يصلى عليه: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] وعقد البخاري باباً في ذلك.
أما صاحب البدعة فإنه لا يصلى عليه زجراً له، أفتى بذلك سفيان الثوري وفعلها مع كثير من المبتدعة، مع العلم أنه لو كانت بدعته خفية أو خفيفة وهو متلبس بها وليس على المسلمين ضرر فيها فالأولى أن يصلى عليه، لكن كثير من الأئمة تركوا الصلاة عليه زجراً له ولغيره من المبتدعة.
أما المنافق فلا يصلى عليه زجراً له وتأديباً وأداءً للواجب، لأن الواجب في حقنا ألا يصلى عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم لما صلى على عبد الله بن أبي بن سلول أنزل الله عليه: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84].
قال عمر رضي الله عنه: {وقف صلى الله عليه وسلم يصلي على عبد الله بن أبي فوقفت أمامه -وقف عمر أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكبر- فقلت: يا رسول الله! أنسيت ماذا فعل بنا يوم كذا وكذا؟ أنسيت ماذا قال يوم كذا وكذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: غفر الله له، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]} فما كان عليه الصلاة والسلام يصلي على أحد منهم بعذ ذلك وتركهم وما كان يقوم على قبورهم ولا يدعو لهم.
والعجيب أن عبد الله بن أبي أخرجه صلى الله عليه وسلم من قبره بعد أن توفي، وأتى ابنه عبد الله الرجل الصالح وقال: يا رسول الله! إن أبي كما علمت أساء إليك وأساء إلى الإسلام، وإني أخاف عليه من العذاب، وأريد أن تكفنه في ثوبك الذي يلي جسمك، وأبوه كافر لا يغفر الله له أبداً وهو خالد مخلد في النار؛ لأنه منافق كافر، فمن رحمته صلى الله عليه وسلم وإكرامه لهذا الشاب الصالح أن أعطاه ثوبه، حتى قال الإمام البخاري: باب: هل يخرج الميت بعد أن يدفن.
فأخرجه صلى الله عليه وسلم ووضع عليه رجليه ونفث في ثوبه صلى الله عليه وسلم، ثم خلع ثوبه الذي يلي جسمه رحمة منه وكفنه فيه، فقال الصحابة: يا رسول الله! تكفنه بثوبك!! قال: وماذا يغني عنه ثوبي -يعني ماذا ينفعه ثوبي لا يغني عنه شيئاً- لكن إكراماً لابنه؛ لأن ابنه كان له المواقف المشرفة في الإسلام.
ففي غزوة المريسيع لما تضارب رجل أنصاري ومهاجري قال عبد الله بن أبي: صدق الأول حين قال: جوع كلبك يتبعك، وسمن كلبك يأكلك، أشبعناهم -أي: المهاجرين- وآويناهم، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، يعني: أنهم هم الأعزة والصحابة المهاجرون هم الأذلة، فسمع الرسول صلى الله عليه وسلم المقالة فسكت وأخبر بها عبد الله بن عبد الله بن أبي، فلما سمع ذلك وقف عند مدخل المدينة -وكان لها سور- فدخل صلى الله عليه وسلم ودخل المهاجرون والأنصار، فلما أتى أبوه ليدخل قال: والله لا تدخل، قال: ولم؟ قال: حتى يأذن لك رسول الله، قال: ولم؟ قال: لأنك الأذل ورسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز، فأنت ذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عزيز، فأخبر صلى الله عليه وسلم قال: أذنت له فليدخل، ثم أتى عبد الله إلى الرسول وقال: يا رسول الله! إن أبي فعل ما فعل، وسمعت أنك تريد أن تقتله، فوالله لا أرضى أن أعيش وأنا أرى قاتل أبي يمشي على الأرض، لكن دعني حتى آتي برأسه الآن قتيلاً، فقال صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به ونصبر حتى يلقى الله.(146/22)
حكم الصلاة على الميت في القبر
أما الصلاة على الميت في قبره فقد قلنا: إنه يُصلى على الميت في القبر إلى شهر، إلا أن الأولى أن يصلى عليه في خارج القبر، فإذا لم يصل عليه خارج القبر تجوز الصلاة عليه وهو في قبره لمدة شهر، قال ابن عباس كما في البخاري: {مر عليه الصلاة والسلام على قبر منبوذ فصفنا وصلينا وراءه} أي: أنه قبر منفرد عن المقابر.
ويتساءل ابن حجر فيقول: إلى متى يصلى على الميت؟
ولأهل العلم ثلاثة أقوال في ذلك:
الأول: أنه يصلى عليه مطلقاً متى شئت فاذهب وصلِّ عليه، وهذا قول ضعيف، لأن معنى ذلك أن نجعل المقابر مساجد؛ دائماً نصلي عليها ويمر الناس ويصلون صلاة الجنازة.
القول الثاني: أن يصلى عليه ما لم يبل جسمه أو نعلم أنه بلي جسمه، وهذا من علم الغيب، لكن أوردته لأنه ورد.
القول الثالث أنه: يصلى عليه إلى شهر وهذا هو الصحيح.(146/23)
هل يوضع على القبور شيء؟
وهنا مسألة: وهو أنه جاء في الحديث الذي مر معنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بقبرين يعذبان، فقال: {إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير} فشق جريدة نخل وغرزها في القبرين، وهنا يرد سؤال وهو: هل يفهم من الحديث أن لنا أن نفعل ذلك؟ أو للرجل الصالح إذا ذهب إلى مقبرة هل يغرز عصاً خضراء ليرحم بها صاحب القبر؟
جاء عن بردة بن الحصيب أنه أخذ عصاً ووضعها على القبرين، وقال: [[إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك]].
ورد أهل العلم من السلف وقالوا: هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم لأمرين:
الأمر الأول: أن الله جعل فيه من البركة والتوفيق والصلاح والخير ما لم يجعل في غيره، فهي خاصة به.
الأمر الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم علم أنهما يعذبان، أما غيره فقد يمر برجل في روضة من رياض الجنة، ويقول: إنه ليعذب وما يعذب في كبير، أو يمر برجل فاجر كافر من اليهود، ويقول: أرجو أن يرفع الله عنه العذاب ما لم ييبس، أو شيوعي من الشيوعية العالمية، ولهذا فإن القول بخصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بهذا هو الصحيح.(146/24)
الصلاة على الغائب
الصلاة على الغائب كالصلاة على الحاضر، قال أهل العلم: بشرط إذا لم يصل عليه في بلده، لكن الصحيح أن يصلى عليه سواء صلي عليه في بلده أو لم يصل، بشرط أن يكون له بلاءً حسناً في الإسلام، كأن يكون رجلاً مشهوراً بالخير، أو رجلاً اشتهر عنه نصرة الدين والإسلام ورفع راية لا إله إلا الله، أو عالماً من العلماء، أو مجاهداً من المجاهدين، أو على هذا النحو، فهذا يصلى عليه لهذه الأسباب، أما لو كلما مات أحد في مدينة وأتى الخبر نصلي عليه، لكنا صلينا بعد كل صلاة على جنازة، وهذا ليس بوارد، إنما الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي لثلاثة أسباب كما قلنا:
لأنه في بلد ما صلي فيه عليه، ولأنه فيه تأليف لملوك العرب أن يسلموا، لأنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم مقالة من الناس اتهموا فيها النجاشي أنه لم يسلم فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه أسلم وآمن وقال: قوموا صلوا على أخيكم -وهو النجاشي - فهذا هو الكلام الوارد.(146/25)
الصلاة على أهل الكبائر
الصلاة على أهل الكبائر: هل يصلى على أهل الكبائر إذا ماتوا أم لا؟
رجل زنى فرجم حتى مات، هل يصلى عليه أم لا؟ رجل سرق ولما أقيم عليه الحد مات، شرب الخمر فجلد فمات من آثار الجلد، ورجل قتل نفساً فقتل إعداماً هل يصلى عليه أم لا؟
هذه لأهل العلم فيها آراء ولكنها تجتمع على قولين:
القول الأول: أنه لا يصلي إمام المسلمين عليه ويصلي عليه بقية الناس ردعاً وتأديباً لغيرهم، لأنه لو صلى عليهم لتوهم الناس أنهم محسنون، وهم مسيئون، فلا يصلي الإمام عليهم وإنما يصلي عليهم بقية الناس لأنهم لا زالوا مسلمين، وهم مسلمون عند أهل السنة والجماعة، أما عند المعتزلة والخوارج فيقولوا: ليسوا بمسلمين بل كفار، لكن نحن ندين الله عز وجل أنهم لا زالوا في دائرة الإسلام، وأننا نخاف عليهم العذاب ولا نقنطهم من رحمة الله، وهم تحت رحمة الله عز وجل إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.
والقول الثاني: أنه لا يصلى عليهم مطلقاً، وهذا الرأي فيه إجحاف، بل صلى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض من أتى هذا الأمر، فصلى على ماعز، وعلى الغامدية التي زنت في عهده صلى الله عليه وسلم ورجمت حتى ماتت.
فأهل الكبائر يصلي عليهم الإمام بعض الأوقات إذا علم أنه ليس هناك ضرر ولا يمكن أن يتجرأ الناس على المعاصي، وإن رأى أن من الحكمة ترك الصلاة عليهم فلا يصلي ولكن لابد أن يصلي عليهم المسلمون؛ لأنهم مسلمون ولأنهم ما خرجوا عن دائرة التوحيد ولعل الله أن يرحمهم، وعلمهم عند الله عز وجل يحاسبهم بما فعلوا.
ولعل قائلاً يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على ماعز لأنه تاب من المعصية، نقول: هذا وارد ولقد استشكله بعض أهل العلم كما صرح بذلك الصنعاني صاحب سبل السلام، لكن الصحيح: أن أهل الكبائر سواء تابوا أو لم يتوبوا هم في دائر الإسلام، فمن أصر على كبيرة هل يخرج من الإسلام؟
هي مسألة إسلام وغير إسلام، وأنا لا أتكلم في مسألة لماذا صلى عليه الصلاة والسلام أو لم يصل؟ لكن من المقويات عند بعض أهل العلم أن ماعزاً صلى عليه صلى الله عليه وسلم لأنه تاب، وكذلك الغامدية، فنقول كما قلنا سابقاً: أنه إذا رأى الإمام أن المصلحة أن يصلي عليه فليصلِّ، وإذا رأى أن من المصلحة ألا يصلي عليه فلا يصلي، لكن لا بد أن يصلي عليه نفر من الناس.(146/26)
الصلاة على من قتل نفسه وعلى السقط
هنا مسألة: من قتل نفسه، هل يصلى عليه أم لا؟
في السنن عن سمرة بن جندب، قال: {أتي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه} بمشاقص أي: نحر نفسه بالسكاكين، فلما مات أُتي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يصل عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا في قاتل النفس خاصة، فكأن الظاهر: أن قاتل نفسه لا يصلى عليه؛ لأنه استعجل، ولأنه أعدم نفسه فارتكب أمراً أكبر من الكبائر وهو إزهاق روحه، وقيل: هذا من الإمام كما في أهل الكبائر ويأخذ حكم أهل الكبائر، فيصلي عليه المسلمون، وكأن الصحيح هذا القول الأخير، ولكن الإمام لا يصلي عليه زجراً له.
هل السقط يصلى عليه أم لا؟ يعني: جنين سقط من بطن أمه هل يصلى عليه أم لا؟
لأهل العلم آراء في تلك وإنما أعرضها للمعرفة وللاستبيان وهي ثلاثة آراء:
منهم من قال: لا يصلى على السقط أبداً.
ومنهم من قال: يصلى عليه مطلقاً.
والصحيح التفصيل: أنه يصلى عليه إذا نفخ فيه الروح، فإذا سقط وكان مسلماً حكماً كما يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في تعليقاته على الفتح؛ لأن أبويه مسلمان وهو مسلم حكماً؛ لأنه مولود على الفطرة أو أنه أتى على الفطرة في بلاد الإسلام، فهذا يصلى عليه لحديث المغيرة بن شعبة عند أحمد وأبي داود والنسائي بسند حسن قال: {والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالرحمة والمغفرة}.(146/27)
موقف الإمام عند الجنازة
مسألة وهي: أين يقف الإمام على الرجل الميت أو على المرأة؟
من السنة أن يقف الإمام عند رأس الرجل وعلى وسط المرأة، وهذا دل عليه الحديث الصحيح: وهو أن جابراً أو سمرة بن جندب قال: {أتي صلى الله عليه وسلم بامرأة ماتت بجماع -قالوا: بولادة في بطنها- فصلى عليها وقام وسطها} فالإمام إذا أتي بالجنازة إن كان رجلاً وقف عند رأسه، وإن كانت امرأة وقف على وسطها، وإن كان هناك رجالاً ونساء دفعة واحدة فليصلِّ عليهم مرة وليجعل الرجال مما يليه، ثم الأطفال ثم النساء في الأخير، ويصلى على المجموعة بصلاة واحدة جميعاً -مهما كثروا في العدد- لفعله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان إذا أتي بمجموعة من الناس صلى عليهم صلى الله عليه وسلم، وإنما المقصود أن يقف على وسط المرأة قيل: الحكمة ليستر الإمام المرأة، وقيل: ليعرف الناس أن هذه امرأة ميتة فيغيرون الدعاء ولا يدعون بدعاء الرجل.(146/28)
الأسئلة(146/29)
وقت نفخ الروح في الجنين
السؤال
بعد كم ينفخ الروح في الجنين؟
الجواب
يقول صلى الله عليه وسلم: {يجمع خلق أحدكم أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم ينفخ فيه الروح} فينفح فيه الروح بعد مائة وعشرين يوماً وهو أربعة أشهر وهو الصحيح.
والشيخ عبد العزيز بن باز ذكر هذا كما في الفتاوى لكنه لم يذكر الحديث؛ لأنه أحاله على حديث ابن مسعود المعلوم.(146/30)
حكم إخراج الجنين الميت من بطن أمة المتوفاة
السؤال
هل يشق عن بطن الحامل الميتة لإخراج الجنين؟
الجواب
لا يشق وإنما يدفن معها وقد نص على هذا البخاري في بابه، وسوف تأتي هذه المسائل وهي من المسائل التي ليس لها باب يخصها، فهذه يصلى عليه وعليها صلاة واحدة ويدفنا معاً.(146/31)
حكم إخراج الجنين الحي من بطن أمه المتوفاة
السؤال
إذا كان الجنين حياً هل يخرج من بطن أمه إذا ماتت؟
الجواب
عمل السلف على ما ذكر، أما هذا فمن كلام أهل الطب، يعني: فلا أعرف في المسألة جديد، هل يشق البطن ثم يخرج الطفل ليربى، لكن أعرف أن القرون المفضلة والأدلة منه صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة ومن الأمة بالإجماع: أنه يدفن معها، لأنهم ما كانوا يعرفون عملية، وهذه المسألة تعرض على اللجنة الدائمة للإفتاء ليروا ما الحل في مثل هذه المسألة، وهي من المسائل الجديدة التي وجدت عند المسلمين.(146/32)
من هو الذي لا يصلي على صاحب الكبيرة
السؤال
من المقصود بالإمام الذي لا يصلي على فاعل الكبيرة؟
الجواب
أنا لا أقصد إمام المسجد، المقصود هو: الإمام المسئول عن المسلمين، إمام المسلمين الذي يقف موقف الرسول صلى الله عليه وسلم أو من ينوب عنه، فإن كان من عادته أن يصلي على الناس كالقاضي أو رئيس المحاكم إن كان من عادته أن يصلي على الأموات فليترك على أهل الكبائر تأديباً لهم.(146/33)
من أحكام الدفن
بقي من هذه المسائل في هذه الجلسة مسألة توجيه الميت إلى القبلة في القبر، وسوف يأتي الكلام على الدفن -إن شاء الله- لكن قبل هذا كيف يدخل الميت إلى قبره؟
يدخل الميت إلى قبره من جهة رجليه -أي آخر القبر- لحديث عند أبي داود عن أبي إسحاق السبيعي قال: رأيت عبد الله بن زيد أدخل رجل القبر من جهة رجليه وقال: هذه السنة، فيدخل من أرجل القبر مما يلي أرجل الميت.
ويوجه الميت إلى القبلة لقوله عليه الصلاة والسلام في الكعبة: {قبلتكم أحياءً وأمواتاً} فيوجه على جهته اليمنى ويستقبل به القبلة ليكون مواجهاً ظاهراً وباطناً: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115].
لكن إذا علمت القبلة في مثل هذا الحال فعليه أن يوجه به إلى القبلة ليكون على الفطرة وليكون على منهج رسول الله عليه الصلاة والسلام.
والمريض من الأولى أن يوجه به إلى جهة القبلة عند سكرات الموت، مع العلم أن الأئمة مختلفون في هذا، فـ سعيد بن المسيب رحمه الله لا يرى التوجيه إلى القبلة لأنه يقول: إن لم يكن موجهاً عليها في الحياة فلا ينفعه عند الوفاة.
لكن الصحيح: أن يوجه عند سكرات الموت إلى القبلة؛ لأنها قبلتنا أحياءً وأمواتاً، ولأنه مقدم على الله عز وجل، وعلَّ الله أن يتداركه برحمته.
وبعض الناس يقوم عند القبر فيعظ الناس عن الموت أو عن ما بعده أو عن نعيم القبر وعذابه فهل هذا وارد؟
الصحيح: أنه وارد وأنه سنة، والبخاري عقد باباً في كتاب الجنائز: باب: الوعظ على المقبرة، وأتى بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دفنت زينب كما في حديث علي والبراء وعظهم وبكى صلى الله عليه وسلم ثم قال: {لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً} وكان الأئمة والسلف الصالح يعظون الناس على المقبرة، والذي يحذر منه عند المقبرة كثرة الضحك أو المزاح أو الكلام الذي لا يمت إلى طاعة الله ولا إلى تقواه وهذا من سوء الأدب إن لم يكن من قلة الدين نعوذ بالله من ذلك.(146/34)
الأفضل في الدفن
والأفضل في الصلاة على الميت أن يصلى عليه خارج المسجد، وأما الصلاة في المسجد فللضرورة كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على سهيل وسهل ابنا البيضاء في المسجد.
أما بالنسبة لوضع شيء من الريحان أو غيره مع الميت فهذا لا بأس بها فيما أعلم، وتجدون في صحيح البخاري باب: وضع الإذخر وغيره مع الميت؛ لأنها وضعت لفائدة ولمصلحة، وهذه فيها رائحة طيبة، وفي الصحيحين أن العباس قال لرسول الله لما حرم قطع أشجار مكة وقال: {إلا الإذخر فإنه لبيوتهم ولقبورهم} يعني: يضعونه في القبور، فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الكلام، وكثير من الصحابة الشهداء ما وجدوا لهم إلا أشياءً بسيطة كفنوا بها ثم كملوا فكملوا بالإذخر وببعض الشجر عليهم، فلا بأس بالريحان أن يوضع في القبر.
ولا يدفن الميت وهو واقف بل السنة أن يدفن على جنبه، أما الضرورات فلها أحكام خاصة، لكن السنة عند المسلمين أن يدفن على جنبه مستقبلاً القبلة أما أن يدفن وهو واقف فليس بوارد.(146/35)
حكم بناء المساجد على القبور
أما المساجد التي على القبور، فقد قال عليه الصلاة والسلام: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا} وقال: {اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد}.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبور وأن يصلى عليها، فليعلم هذا.
ومن السنن في القبر: ألا يرفع أكثر من شبر، ولا يجصص، ولا يبني أو يجلس عليه، ففي صحيح مسلم قال أبو الهياج الأسدي: قال لي علي رضي الله عنه: {ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: بلى، قال: ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها} فلا يرفع، ولا بأس بكتابة اسم الميت على القبر، ليعرف وليزوره الزائر ويدعو له، أو وضع خشبة ليعرف بها لا للتبرك ولا لأنه لا يعذب حتى لا تجف الخشبة وقد جفت، فليعلم هذا.
وفي ختام هذه الجلسة أتوجه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال وأن يتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون، اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(146/36)
من أحسن القصص
إن سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام مليئة بالمعجزات، وهو أكثر الأنبياء تأييداً بالمعجزات، وقد أمده الله بها، واستخدمها النبي صلى الله عليه وسلم في نصرة هذا الدين وفي الوقوف مع أصحابه وفي وقت الشدة وحاجتهم إليه، وقد ذكر الشيخ حفظه الله تعالى نماذج وأمثلة على هذه المعجزات وهذه المواقف.(147/1)
من معجزاته صلى الله عليه وسلم
الحمدلله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الناس أجمعين، أمابعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسعد الله أوقاتكم باليُمن والمسرات، معنا هذه الليلة حبيبنا ورسولنا، وصفوة خلق الله، معنا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، نعيش مع معلم البشرية وهادي الإنسانية ومزعزع كيان الوثنية، في ساعة أحلى ساعات العمر، وأغلى ساعات الحياة، يقول الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] وعنوان هذا الدرس (من أحسن القصص).
دخل عمر رضي الله عنه المسجد، فوجد رجلاً يقص على الناس من الخزعبلات، وأخبار الماضين والماضيات، التي لا تعتمد على أسانيد ولا على ثقات، فقال: عمر من الرجل؟ قالوا: رجل يا أمير المؤمنين من الناس، قال: وماذا يفعل؟ قالوا: يقص علينا قصصاً، قال: عمن؟ قالوا: عن قوم لا نعرفهم، فعاد رضي الله عنه وأرضاه وأخذ درته، والدرة عصى يحملها عمر دائماً للطوارئ، يؤدب بها ويخرج بها الشياطين من الرءوس، فأتى رضي الله عنه وأرضاه فضرب الرجل وأنزله، وقال سبحان الله، يقول الله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] وأنت تقص على الناس هذه القصص، فقال أهل العلم: حق على من قص على الناس أن يعتني بالأحاديث الصحيحة، وألا يقص عليهم إلا ما ينفعهم في الدنيا والآخرة.(147/2)
قوته البدنية صلى الله عليه وسلم
من هذا المنطلق جمعت أحاديث صحيحة إن شاء الله، لقصص محمد صلى الله عليه وسلم، لمعجزاته ولما آتاه الله من آيات باهرة، وهو صلى الله عليه وسلم معجز في شخصه، ومعجز في القرآن التي أتى به، ومعجز في حالاته كلها، بل حتى في جسمه فهو عند بعض العلماء معجز، أوتي قوة ثلاثين من الرجال، فهو مهيأ ليقود العالم، كان صلى الله عليه وسلم يدور في ساعة واحدة على تسع نسوة من نسائه ويغتسل غسلاً واحداً، أتى في الخندق فما استطاع الصحابة وهم عشرات أن يدهدهوا صخرة فأتى فحملها، كان يقف في المعركة عليه الصلاة والسلام فلا يفر وإنما يبقى صامداً إلى آخر لحظة من لحظات المعركة، ومن خصائصه أنه ما كان يتثائب، لأن التثائب من الشيطان ومن خصائصه أنه ما احتلم؛ لأن الاحتلام من الشيطان، والشيطان لا يلعب على الرسول عليه الصلاة والسلام أبداً، عاش عليه الصلاة والسلام وأيده الله في المعجزات، عاش يتيماً عاش إلى الأربعين ما قرأ كتب ما درس ولا تعلم الخطابة وما درس الفتيا وما درس أصول السياسة وما تعلم الإدارة، وما تعلم أي علم أبداً فبعد أربعين سنة يخرجه الله عز وجل فإذا هو أفضل خطيب، وأعظم مفتي، وأشجع قائد: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
إن البرية يوم مبعث أحمدا نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
عاش في المجتمع أشبه شيء بالبداوة، ومع ذلك كان من أجمل الناس، وجهه كالقمر ليلة أربعة عشر، إذا جلس الجالس أمامه كأنه يجلس أمام الشمس أو القمر، ولذلك إذا صافحه مصافح أثرت أصابع المصافح في جسم الرسول عليه الصلاة والسلام، قال أنس فيما صح عنه رضي الله: {مسست كف الرسول عليه الصلاة والسلام فو الله ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كفه، وشممت رائحة الرسول عليه الصلاة والسلام فو الله ما شممت مسكاً ولا عبيراً أحلى من مسكه عليه الصلاة والسلام}.
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا(147/3)
طيب رائحته صلى الله عليه وسلم
يمر من السكة فيعرف الناس أنه مر من هذا المكان بطيبه، عرقه الذي يتصبب من على جبينه الطاهر كاللؤلؤ، يوضع في القوارير، أخذته أم سليم فكانت تداوي به المرضى فيشفون بإذن الله، يخرج في الصباح الباكر بعد صلاة الفجر عليه الصلاة والسلام فيهمل يده للناس فهذا يأخذ يده فيمسح بها على وجهه، فهذا أعرابي يقول: أخذت يد الرسول عليه الصلاة والسلام فأطلقت زرري فوضعتها على صدري، فوالله ما زال بردها إلى الآن كالثلج على صدري، تأتي الجارية بالماء فيضع يده في الماء للبركة التي وضعها الله فيه، إنه محمد عليه الصلاة والسلام، وبعد ذلك يقول أهل التصوف: أنتم لا تحبون الرسول عليه الصلاة والسلام.(147/4)
إنشقاق القمر
ومن معجزاته:
انشقاق والحديث القمر وإسناده واضح كنجوم السماء.
خرج على كفار قريش وكفار قريش يعرفونه يتيماً وصادقاً أميناً، ما حفظوا عليه كذبة، ولا خان خيانة ولا غدر مرة، خرج عليهم بعد صلاة العشاء، فقال: يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، فقال أبو جهل: من أين أتيت قال: أرسلني الله، قال أما وجد الله إلا أنت يرسلك؟! ثم حلف بلاته وعزّاه، لا نؤمن لك حتى تشق لنا هذا القمر، فقال عليه الصلاة والسلام: لئن دعوت الله وشق لي القمر، أتؤمنون؟ قالوا: نؤمن.
فرفع يديه وسأل الله أن يشق له القمر، فشق الله له القمر ليلة أربعة عشر، أما فلقة فذهبت تجاه عرفات في مكة، وفلقة أخرى ذهبت تجاه جبل أبي قبيس، فقام كفار قريش من الحرم جميعاً رجالاً ونساءً وأطفالاً ينفضون رجالهم ويولون وتتساقط بهم أبواب الحرم ويقولون: سحرنا محمد، سحرنا محمد، سحرنا محمد، فأنزل الله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:1 - 3] ولقد جاء هم من الأنباء ما فيه مزدجر: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:5] ولذلك يوردهم الله يوم القيامة إلى النار، والله يستهزئ بهم، وصفة الاستهزاء نثبتها لله على وجه يليق بجلاله بقيد هو: أنه يستهزئ بمن يستهزئ به قال تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15] فيقول الله لهم يوم القيامة للنار: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] أفهذه النار سحر كما كنتم تقولون في الدنيا سحرنا محمد، فيدخلهم النار، كان عليه الصلاة والسلام قد هيأه الله وهو في السنتين ونحوها ليصلح الدنيا، فكان في قلبه همة لذلك فجده عبد المطلب سيد مكة كان له فراش لا يجلس عليه إلا هو، فكان يجعل الفراش في ظل الكعبة قبل صلاة العصر -ولا يعرفون الصلاة- فيأبى محمد عليه الصلاة والسلام إلا الجلوس على الفراش، وعمره أربع سنوات، كلما أخروه زحف وجلس على الفراش، فيتبسم عبد المطلب ويقول:
والبيت ذي النصب، والشفق والحجب، إن لابني هذا سبب من السبب.
يحلف بالشرك يقول أنه سيكون له أثر في العالم، نعم:
تقدم شاعراً فيهم خطيباً ولولاه لما ركبوا وراءه
إنشقاق القمر معجزة من معجزاته عليه الصلاة والسلام رآه ذلك أهل الهند، ورآه تجار مكة الذين كانوا في الشام والعراق، قال لهم كفار مكة: أرأيتم في الأفق شيئاً قالوا: قبل ثلاث ليال انشق القمر ورأيناه يوم انشق، وأرخ علماء الهند تاريخ انشقاق القمر على قصر هناك من قصور ملوكهم، فأرخوا كتابة تاريخهم يوم انشق له عليه الصلاة والسلام.(147/5)
معجزة الهجرة
خرج عليه الصلاة والسلام من مكة يريد أن يفر إلى المدينة؛ لأن المشركين حاصروه، وطوقوا البيت بخمسين شاباً كل شاب معه سيف يقطر دماً وحسداً، وبغياً وعناداً، فأتى الوحي من الله أن اخرج، قال لجبريل: كيف أخرج؟ قال: اخرج والله معك، وانثر على رءوسهم التراب، فخرج عليه الصلاة والسلام فلما خرج وإذا الخمسون شاباً حول البيت، فأخذ حفنة من التراب فذرها على رءوسهم وقال صلى الله عليه وسلم: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] فألقى الله عليهم النعاس فسقطت من أيديهم السيوف وما قاموا إلا عندما طلعت الشمس كل يحتحت التراب من على رأسه، وما وجدوه في البيت فخرجوا يجوبون مكة، فحدث لهم حادث قد يكون في غار ثور، فخرجوا إلى الغار مسرعين وطوقوا الغار وأرادوا دخوله، وفي السير أن الله سخر العنكبوت فبنت عشها على فم الغار، وجعل الحمامة تبني عشها وتبيض عليه، فأراد الكفار أن يدخلوا من فم الغار فوجدوا العش وبيت العنكبوت فقالوا هذا غار ما دُخل:
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطم
فيقول أبو بكر وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار: {يا رسول الله! والذي نفسي بيده، لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا، فتبسم عليه الصلاة والسلام تبسم الزعيم الواثق الذي بإمكانه أن يقود العالم وقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما} قال أحمد شوقي:
وإذا العناية لا حظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطم
ولذلك يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] فما حزن عليه الصلاة والسلام من لثقته بالله، خرج صلى الله عليه وسلم فلحقه سراقة قال أبو بكر: يا رسول الله! سراقة أقبل شاهراً سيفه ورمحه ادع الله عليه يا رسول الله! فتبسم وقال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقرأ القرآن على سراقة فساخت به الفرس فوقع على الأرض فقال: سراقة للفرس صه، وهذه الكلمة تقال عند العرب إذا عثر الفرس يعني قم واستيقظ، فقام الفرس وركب وأقبل، فدعا عليه فساخ به الفرس فتعثر على وجهه، فقال: يا محمد! أريد الأمان منك لا تقتلني (فر من الموت وفي الموت وقع) أراد أن يقتل فطلب النجاة والسلامة.
فاشترط عليه الصلاة والسلام أن لا يخبر أحداً من الناس، وأعطاه كتاب أمان، ثم تبسم عليه الصلاة والسلام تبسم الواثق من نصر الله له، وقال: يا سراقة! كيف بك إذا طوقت بسواري كسرى؟ وفي بعض الألفاظ وقيصر؟ فضحك سراقة فقال: أنت فار وصاحبك من مكة تطارد وتملك ملوك كسرى وقيصر، إنها همة بإذن الله تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء، فأعطاه الأمان ورجع، فقال كفار قريش لـ سراقة ما وراءك، قال: أما طريق المدينة فقد كشفتها لكم فلا تبحثوا.
أتى سراقة ففتح عمر رضي الله عنه أرض كسرى وقيصر، ودك عروش الخيانة والظلم، والجهالة والعمالة والطاغوت، وداسها هو وسعد بن أبي وقاص بأقدامهم في الأرض ثم أتوا بسواري كسرى وقيصر؛ من ذهب ومرجان ولؤلؤ فأخذها عمر، وقال لـ سراقة: تعال ولبسه عمر فبكى سراقة، قال عمر: مالك تبكي؟ -يومٌ نصر الله فيه الإسلام والمسلمين وأنت تبكي- فقال سراقة: والذي نفسي بيده! لقد قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم طاردته: كيف بك يا سراقة إذا سورت بسواري كسرى أو قيصر، فبكى عمر وبكى الصحابة: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15].
خرج عليه الصلاة والسلام ومر بعجوز خزاعية في خيمة معها عنز مكسورة في جانب الخيمة، فقال لها: هل من لبن؟ قالت: غنمنا خلوف وأبونا مع الغنم، قال: علي بهذه العنز وائذني لي أن أحلبها، فضحكت وقالت: عنز مكسور حائل ما تحلب، قال: أحلبها، فأخذ عليه الصلاة والسلام كوباً عظيماً هائلاً فقال: باسم الله فحلب فحلبت فملأ الإناء فأعطاه أبا بكر فشربه، ثم ملأه فأعطاه العجوز فشربت، ثم ملأه فشرب عليه الصلاة والسلام ثم ملأه ثم جعله عند العجوز فاندهشت.
قالت: ما هذا الكلام الذي تقول، فتبسم عليه الصلاة والسلام ثم خرج، يقول شاعر الجن يخبر أهل مكة لأنهم تلك الليلة لا يدرون أين ذهب، وجعلوا عليه حصاراً عالمياً، وغلقوا المنافذ وأعلنوا حالة الطوارئ في مكة ولكن طريق المدينة لم يبحثوا فيه، فيقول الجان من أعلى جبل أبي قبيس ينشد، وفي الجن شعراء وخطباء:
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلا خيمتي
أم معبد الخزاعية:
هما نزلا بالبر وارتحلا به فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيا لقُصي ما زوى الله عنكمُ به من فخار لا تُجازى وسؤددِ
وذهب صلى الله عليه وسلم ووصل إلى المدينة وأتت معجزاته في المدينة تترا.(147/6)
فائدة عرض المعجزات
فائدة عرض المعجزات أمور أعظمها ثلاث فوائد:
الأول: يزداد إيمانك: وأكثر ما يزداد الإيمان إذا تليت معجزات محمد صلى الله عليه وسلم، فإنك تزداد إيماناً ويقيناً ورسوخاً كلما سمعت أخباره.
الثاني: أنك تحبه حباً عظيماً يدخل إلى الروح ويمس شغاف القلب.
نسينا في ودادك كل غال فأنت اليوم أغلى ما لدينا
في البخاري يقول عمر: {يا رسول الله! والذي نفسي بيده! إنك أحب إلي من أهلي ومالي إلا من نفسي قال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال: والذي نفسي بيده! إنك أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي، قال: الآن يا عمر} أي اكتمل إيمانك وتم يقينك أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
الثالث: أن تعلم قدرة الله الواحد الأحد فالمعجزات من قدرة الله.(147/7)
أمثلة من معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للناس والجمادات(147/8)
موقفه من الأعرابي
يصل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ويصعد يوم الجمعة يخطب، والسماء صافية والشمس لامعة ترسل أشعتها كالنار من شدة الحر، لا ربيع لا غمام، ثم يأتي أعرابي من نحو باب القضاء، والناس في قحط لا يعلمه إلا الله، قال أنس: {والله ما في السماء من سحاب ولا قزعة، فيقول الأعرابي: يا رسول الله! -يقطع الخطبة عليه- ضاع العيال، وضاع المال، وتقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فرفع يديه وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، قال أنس والله ما نزل من على المنبر وما هي إلا لحظات، حتى ثارت من على سلع غمامة كالترس حتى احتدمت في سماء المدينة فوق المسجد ثم ثارت كالجبال} {} [يس:82] فثارت حتى سدت المدينة وأظلمت، فبرق البارق ورعد الرعد، وأمطرت السماء حتى سال الماء على وجه المصطفى عليه الصلاة والسلام، فالماء يخر على جبينه الطاهر، فيكمل خطبته ويتبسم ويصلي ويقول: أشهد أني رسول الله، ونقول له: نشهد أنك رسول الله، ونشهد أنك صادق، ونشهد أنك ناصح، ونشهد أنك أتيت تنقذ العالم، ونشهد أن الذي لا يتبعك في ضلال مبين.
ويصعد بعد جمعة والسماء لا زالت تهدر بالماء، والأرض تسيل، ويأتي ذاك الأعرابي أو غيره في الجمعة المقبلة والرسول صلى الله عليه وسلم يواصل في خطبة أخرى في موضوع آخر، وكانت خطبته تسكب الإيمان، كأنه يجري بكوب من الماء في قلوب الموحدين أو كأنه يغرس شجراً:
ما بنى جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمة من عفاء
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
ففي أثناء خطبته يرفع الأعرابي صوته يا رسول الله! فيتوقف صلى الله عليه وسلم، ويسكت المسجد، ثم يتجهون بأبصارهم إلى الأعرابي وهو يقول: يا رسول الله! جاع العيال وضاع المال - من شدة المطر- وتقطعت السبل، فادع الله أن يرفع عنا الغيث، فيتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل اللهم ارفع الغيث؛ لأنها ليست من الحكمة وهذا رحمة من الله، قال: {اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر}.
قال العلماء من الصحابة: والله ما يشير إلى جهة إلا وينصب المطر في تلك الجهة، يقول بيده كذا، اللهم حوالينا فنتيجة المطر إلى حيث أشار النبي صلى الله عليه وسلم فيخرجون من المدينة والمدينة كأنها في مثل الجوبة، تصل الشمس في المدينة ولكن ما حولها غيث وصيب نافع، ومطر غزير لكن المدينة شمس، فيخرج من المسجد ويقول: أشهد أني رسول الله: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15].(147/9)
موقفه من عامر بن الطفيل
يأتي عامر بن الطفيل هذا خسيس مجرم، سيد قبائل بني عامر بن صعصعة، يقود ألف مقاتل، كل رجل منهم يمكن أن يذبح نفسه بنفسه في طاعة هذا المجرم الأمير، وكان يسمى ملاعب الأسنة.
فأتى هذا لـ أربد بن قيس أو لبيد بن ربيعة قال: ما رأيك نقتل محمداً أنا وإياك، قال: نقتله، قال: نذهب أنا وإياك فإذا وصلنا إلى المدينة أخرجناه من المدينة -يعني: الرسول- فإذا أصبح معنا في الصحراء فسوف أشغله بالحديث واقتل الرجل، فأخذا سيفين حادين ماضيين فسما السيفين حتى أصبحا سماً زعافاً، وخرجا إلى المدينة، فلما وصلا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قالا: يا رسول الله! نريدك في أمر فاخرج معنا بأمر مهم، فخرج بردائه لا سيف ولا عصى ولا حرس لكن عين الله ترقبه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
دعها سماوية تجري على قدرٍ لا تفسدنها برأي منك منكوس
فيخرج إلى الصحراء فيقول عامر بن الطفيل تعال يا محمد اقرب مني، فاقترب عليه الصلاة والسلام، فأخذ عامر يحدثه ويشير إلى أربد وأربد هذا شاب من أشجع شباب العرب، سل السيف وراء الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله يريد ضربه صلى الله عليه وسلم ويشير عامر بعينه لـ أربد يقول اضرب فيتوقف، فيحدثه ويشير فلا يفعل، فيحدثه فيشير إليه فلا يفعل حتى طال النهار، وبالأخير ودع الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لـ أربد لا تصحبني أنت أجبن الناس، لا تزال جباناً حتى تموت شغلت الرجل عنك وما قتلته، قال: دعني من هذا ما رفعت السيف -ويحلف يميناً- إلا رأيت كالبرق يخطف بصري، ورأيت كأنك بيني وبينه أفأقتلك؟ فلما خرجا من عنده علم صلى الله عليه وسلم الاتهام والريبة، فرفع يديه إلى السماء وقال: {اللهم اكفنيهم بما شئت} فأما عامر ما وصل إلى قرية من القرى حتى نزلت غدة كبيرة كغدة البعير فغطت بطنه، فأخذ يخور كأنه الثور المنحور وهو بعيد عن أهله وقبيلته، يقول: غدة كغدة البعير في بيت امرأة سلولية يقول: أموت في بيت عجوز؟ فيركبونه على الفرس فيموت، أما أربد فخرج بناقته إلى السوق فيرسل الله عليه صاعقةً من السماء:
يا غارة الله جدي السير مسرعة في أخذ هذا الفتى يا غارة الله
فتحرقه وتحرق وجمله ورحله فيصبح في خبر كان:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار(147/10)
موقفه من ابن عمه
ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بخنجر في الليل يريد ذبحه، فيمنعه الله ويحميه ويرى هذا كأن هناك شواظاً من نار في رأسه، فيعود يولول إلى أهله ويصيح، فيقول عليه الصلاة والسلام: {اللهم سلط عليه كلباً من كلابك} من احتقار هذا المجرم، فيخرج ويأتيه الناس فيقولون: يا فلان! قال: مالكم؟ قالوا: سمعنا محمداً يدعو عليك يقول: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك، فيولول ويقول: ما دعا دعوة إلا أصاب، فخرج إلى الشام فكانوا إذا أرادوا أن يناموا ومعهم هذا المجرم دخل بين السرية وبين القافلة، قالوا: مالك؟ قال: دعا عليَّ محمد وأخاف أن يسري عليَّ كلب في الليل، وبينما وصلوا إلى وادي حوران في الشام، ناموا فنام وسطهم فأتى الأسد (كلب من كلاب الله) الهزبر الذي له عند العرب تسعة وتسعون اسماً، سيد الحيوانات، فلما أتى وسط الليل أتى يشمشمه لأنه مرسل من الله على المواصفات، فكان يشم الرجل فيرى أنه ليس فريسته فيعرض عنه، فيأتي الآخر فيعرض عنه حتى وصل إلى هذا فالتقم رأسه لقمة واحدة.(147/11)
معاملته للجذع
أما الرسول عليه الصلاة والسلام مع الجمادات فله قصص منها ما روى البخاري عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: لامرأة من الأنصار: مري ابنك النجار أن يصنع لي منبراً، فصنع له منبراً يخطب عليه في الناس، فلما أتى المنبر الجديد ترك عليه الصلاة والسلام ذاك الجذع القديم، فسمع صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الجمعة حنين ذاك الجذع كصوت العشار وهي صوت الناقة التي يفوت ولدها، وبعضهم يقول: كبكاء الأطفال، فينزل عليه الصلاة والسلام من على الخطبة فيقطعها ويجعل يده على العود فيسكته حتى يسكت.
قال الحسن البصري: [[يا عجباً! جذع من خشب يحن للرسول عليه الصلاة والسلام وأنتم لا تحنون]].(147/12)
وقوفه مع أصحابه في وقت الشدة
أما تكثير الطعام والشراب فحدث ولا حرج.(147/13)
وقوفه مع جابر في سداد دينه
قال جابر p>>: { استدنت من اليهود ديناً عظيماً، فأتوا يطلبونني الدين فما وجدت لهم سداداً، فأتيت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقلت: يا رسول الله! اليهود لهم ديون عليَّ وما عندي مال، قال أعندك تمر؟ قلت: يا رسول الله! عندي تمر قليل -والديون آلاف مؤلفة- قال: اجمع لي تمرك وآتيك قال: فجمعت التمر على فراش من خصف النخل، فجمع القليل من التمر فأتى صلى الله عليه وسلم فدار بالتمر وسمى ودعا الله، وقال: يا جابر! ادع اليهود وليأخذوا أثمان ديونهم من هذا التمر، قال: فدعوتهم فجاءوا بجمالهم وحميرهم، فأخذوا حتى انتهوا وقضيت الدين، ثم نظرت فكأنه ما نقص تمرة واحدة.
قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم والله لقد أخذوا جميعاً، وما كأنه نقص تمرة واحدة فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: أشهد أني رسول الله، أخبر عمر بن الخطاب، قال: فذهبت إلى عمر ثم أخبرته، فدمعت عيناه}.(147/14)
وقوفه مع جابر في إطعام أهل الخندق
ومن أعظم الآيات التي تدل المؤمن على الإيمان وتزيده يقيناً مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة حين كان يحفر في الخندق مع سبعمائة، وبهم من الجوع ما لا يعلمه إلا الله، يضع الحجرين عليه الصلاة والسلام على بطنه، فأتى جابر فرأى الجوع في وجه المصطفى عليه الصلاة والسلام فأتى إلى امرأته في البيت فقال: أعندك طعام؟ قالت: عندي ما يقارب مُد شعير وعندنا هذه العناق، عناق لا تكفي إلا ثلاثة لأن ولد الماعز صغيرة.
فذبح جابر العناق، وقال لامرأته: اطحني هذا الشعير واصنعيه لنا طعاماً، ثم وضع جابر هذه العناق الصغيرة في قدر صغير من فخار، وقامت امرأته: تصنع الطعام، فقالت له امرأته: اذهب وادع النبي صلى الله عليه وسلم واثنين معه أو ثلاثة، قال: أفعل.
فأتى إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام في الخندق وقال: يارسول! الله تعال أنت واثنين أو ثلاثة معك، فقام عليه الصلاة والسلام فقال: يا أهل الخندق! إن جابر بن عبد الله صنع لكم طعاماً فحي هلاً بكم جميعاً، وهم سبعمائة، أما جابر فأسقط ما في يده ونظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما أدري هل علم النبي صلى الله عليه وسلم بما أقول أم لا؟
فذهب قبل النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق ودخل إلى امرأته يضرب على رأسه، تقول: مالك؟ قال: قلت لرسول صلى الله عليه وسلم تأتي أنت واثنين أو ثلاثة، فنادى في أهل الخندق سبعمائة أو أكثر، وقال: يا أهل الخندق! إن جابر بن عبد الله صنع لكم طعاماً فحي هلاً بكم، فأقبلوا جميعاً، قالت: رسول الله أعلم بما يقول -وكانت عاقلة- فأتى صلى الله عليه وسلم ينظر إلى جابر وإلى امرأته ويتبسم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أن في البيت تغيرات وخوفاً، فيقول صلى الله عليه وسلم: يا جابر! لا تنزل اللحم من على البرمة ولا تنزلوا طعامكم، ثم يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم على البرمة فينفث بريقه الطاهر الطيب المبارك -بأبي هو وأمي- ثم يأتي إلى الطعام فينفث فيه ويسمي ثم يقول: يا جابر! ادع الناس عشرة عشرة، فيدخل الناس عشرة عشرة فيأكلون أكلاً ذريعاً، أكل الجائع في عام القحط.
فلما انتهوا دعا النبي صلى الله عليه وسلم جابراً وجلس معه فقال جابر: جلست معه والله ما نقص منها لقمة واحدة، فيقول صلى الله عليه وسلم: أشهد أني رسول الله، يا جابر! كُل أنت وأهل بيتك ثم تصدق على جيرانكم من هذا الطعام.
قال: فتصدقنا على جيراننا في المدينة، فأمسوا على لحم، ومرق وطعام {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15].
في الغزوة يخرج عليه الصلاة والسلام فينتهي الماء فيقولون: عطشنا يا رسول الله! وهم ما يقارب ألفاً وخمسمائة مقاتل، وعند جابر ألف وأربعمائة عندهم خيول وإبل وبقر فيقول: هل أحد منكم عنده ماء فيأتي أعرابي بإداوة صغيرة فيها ماء، فيأتي صلى الله عليه وسلم بصحفة كبيرة، فيقول: صب عليَّ، فيسكب على أصابعه فيدعو الله فيثور من على أصابعه كالنهر، يقول أنس: يثور من أصابعه كالغيل، فتمتلئ الصحفة وتنثر في الأرض، فيأتي هذا فيملأ قربته ويذهب، ويأتي هذا ويسقي فرسه، ويشرب هذا، ويغتسل هذا، حتى ملئوا كل المخيم والجيش ماءً، فيقول: صلى الله عليه وسلم: أشهد أني رسول الله، فنقول له: نشهد أنك رسول الله {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15].
إنها العلامات التي أتى بها عليه الصلاة والسلام وعند مسلم عن جابر قال: {ذهبت مع الرسول عليه الصلاة والسلام في سفر، والذهاب معه هي أغلى لحظات المسلم أن يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأراد أن يقضي حاجته في الصحراء قال: يا جابر! تعال، فقام جابر معه، فذهبا إلى الصحراء بعيداً عن الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: يا جابر! اذهب إلى تلك الشجرة وقل لها يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعالي، فيذهب إلى الشجرة فيقول لها: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعالي -ومن أراد أن يتوسع في هذه فليراجع المجلد الثامن لـ ابن تيمية - فتأتي وتشق الأرض شقاً مع جابر، فتقف عند المصطفى فلما وقفت قال له: اذهب إلى تلك وقل لها تعالي، فيذهب جابر ويقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: تعالي، فتأتي فيقضي النبي صلى الله عليه وسلم حاجته، ثم يقول: يا جابر! قل لهما اذهبا، فتذهب كل شجرة إلى مكانها حتى تعودا، يقول جابر وهو يروي الحديث للصحابة: والذي أعطاني بصري وأخذه لقد رأيتها تشق الأرض شقاً}.
{أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] نشهد أنك رسول الله، وأنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة.(147/15)
مقتل عدو الله أبي بن خلف
يقف عليه الصلاة والسلام في أحد فيقولون: يا رسول الله! يقول: ماذا؟ قالوا: أحد المشركين من قريش اسمه أبي بن خلف أقسم أن يقتلك، قال: أنا أقتله إن شاء الله، لأن هذا أبي بن خلف قال لكفار قريش: يا قريش! اعفوني من القتال يوم أحد وأنا أقتل لكم محمداً أي: سامحوني من القتال حتى أكون قوياً.
فأخذ سيفاً ورمحاً وخنجراً فسمها جميعاً، فما انتهت المعركة وأثخن صلى الله عليه وسلم بالجراح، وأصبح فاتراً من كثرة ما قاتل هو والصحابة أتى هذا ينحدر على فرسه من الجبل والنبي عليه الصلاة والسلام يصلي بالمسلمين صلاة العصر، فلما سلم بعد الجراح بعد ما قتل من أصحابه سبعون منهم حمزة عمه، ومنهم كثير من أحبابه وأقاربه، وكسرت رباعيته، وشج وجهه الشريف، ودخل المغفر في وجهه، وبه من التعب والإعياء ما لا يعلمه إلا الله، فلما سلم من صلاة العصر وإذا بهذا المجرم أقبل قوياً كأنه السيل على فرس، أقبل من الجبل يريد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقام الصحابة يريدون أن يعترضوه، والصحابة من أشجع الناس؛ مهاجرين وأنصاراً، قال صلى الله عليه وسلم: دعوه أنا أقتله إن شاء الله، قال: ناولوني حربة، فناولوه الحربة، ذاك يعلم أن الصحابة سوف يرمونه بالحراب أو بشيء فجعل على جسمه درعين تحت الثياب، وما ترك إلا كالدرهم كل جسمه مغطى، فاقترب من الرسول صلى الله عليه وسلم فهز صلى الله عليه وسلم الحربة وقال: باسم الله، ثم أرسلها فوقعت مركوزة هنا، فوقع عند رجل فرسه، فحمله الكفار يسحبونه قالوا: ماعليك إنما هي قطرة دم، فحلف لهم أن ما به لو كان بأهل سوق المجاز لماتوا جميعاً، ثم ذهب وبعد ليلة مات، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام.
وهذه قصة ليست من معجزاته لكن تبين موقف الصحابة وكثرة إيمانهم، ومن أراد أن يتصور الإسلام وعمقه وأصالته فليقرأ سيرة الصحابة، وهي أعظم في الإيمان من الأحكام تربي العقيدة، وتراجم الصحابة توسع مدارك المسلم لمعرفة الدين.(147/16)
موقفه في غزوة الخندق
يأتي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة بعد أن حفر الخندق، وهبت ريح شديدة وأظلم الليل وتحزب الأحزاب حول المدينة، فيقول: {من يأتيني بخبر القوم -يعني: الكفار- وله الجنة؟ فسكت الناس} لأنهم في جوع وخوف وقتل، والليلة مظلمة حتى يقول حذيفة والله إني أمد يدي فما أراها.
قال عليه الصلاة والسلام: {من يذهب إلى الكفار وأضمن له الجنة؟ فسكتوا جميعاً، فقال عليه الصلاة والسلام: أين حذيفة؟ وهو وسط الناس جائع في قتال وخوف قلت: سمعاً وطاعة لبيك يا رسول الله! قال: اذهب إلى القوم}.
قال: فذهبت مرة أحبو ومرة أمشي، حتى نزلت من عند الخندق فأتيت إلى القوم وهم في شر ليلة، الرياح ما تركت لهم قدراً إلا أكفأته ولا خيمة إلا اقتلعتها، ورأيت أبا سفيان وحوله قادات المشركين، فسمعت أبا سفيان يقول: يا أيها الناس! إني لا آمن من محمد أن يرسل عليناً -جاسوساً- في هذه الليلة الظلماء، فليتفقد منكم كل واحد منكم من بجانبه قال حذيفة: فأسرعت قبل أن يسرعا بي، قلت: لمن بجانبي من أنت قال فلان؟ قلت من أنت؟ قال: فلان، قلت: اسكتا، سكتا إلى غير رجعة، فلما سكتا رجع حذيفة في الليل فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فضمن له الجنة.
وفي الصباح ينزل عليه الصلاة والسلام وإذا بصخرة من أعظم الصخرات داخل الخندق لا تدهدهت ولا تكسرت ولا اقتلعت، فأخذ صلى الله عليه وسلم المعول بيده ونزل، والمنافقون يتضاحكون ويتغامزون حول الخندق -انظر إلى النفاق أعوذ بالله منه، في الدرك الأسفل من النار- يقولون: محمد يمنينا بملك كسرى وقيصر والواحد منا ما يستطيع أن يبول بين النخل من الخوف: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12].
فنزل عليه الصلاة والسلام فضرب ضربة فبرق بارق في الجو، وانكسرت الصخرة وقال: لقد أُريت قصور كسرى وسوف يفتحها الله علي، صدقت: بعد خمس وعشرين سنة أو أقل فتحها الله.
ثم ضرب ضربة أخرى وقال: وقصور قيصر، لقد أُريت الكنزين الفضة والذهب أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ثم تمتلك أمته قصور كسرى وقيصر بعد سنوات، {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15].
وقد تركت ما بقي من وقت لأسئلة مهمة دائماً تمر، وأعد الأخوة أن هذه الأسئلة سوف تنقح وتنقى وتأمل الإجابة لها وتعرض في دروس مقبلة إن شاء الله.
لكن أكتفي بهذه المحاضرة بعنوان من أحسن القصص، ونستمع إلى أسئلة مهمة تمر كثيراً بطلبة العلم وبالنساء.
وإن من نعمة الله عزوجل أن اهتم كثير من الناس بإحضار زوجاتهم وأخواتهم وقريباتهم؛ ليستمعوا ذكر الله وقول الله، ويحضروا مجلساً من مجالس الإيمان لعل الله أن يرزقهم توبة من الواحد الأحد.(147/17)
الأسئلة(147/18)
الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
السؤال الأول: ما هي أوقات النهي التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وهل يجوز لنا أن نصلي في أوقات النهي؟
الجواب
أوقات النهي ذكرها عليه الصلاة والسلام في أحاديث منها ما هو في الصحيح عن أبي سعيد وعن أبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس}.
ومنها ما رواه البخاري عن ابن عباس {قال: شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عمر بن الخطاب أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس} فهذان وقتان.
وعند مسلم عن عقبة بن عامر قال: {ثلاثة أوقات نهانا صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا، إذا قام قائم الظهيرة تزول الشمس، وإذا بزغت الشمس حتى ترتفع، وإذا تضيفت الشمس للغروب حتى تغيب} فهذه ثلاثة أوقات مع وقتين تصبح خمسة أوقات منهي عن الصلاة لمن تعمدها وأرادها إلا ذوات الأسباب، فذوات الأسباب تصلى في هذه الأوقات، مثل تحية المسجد ولو دخلت المسجد في وقت نهي وما قصدك الصلاة وقصدك تنتظر الصلاة أو تقرأ القرآن أو في مجلس ذكر لا تجلس حتى تصلي ركعتين.
لما روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} ويدخل فيها الجنازة، كذلك الكسوف، وأدخل ابن تيمية ركعتي الوضوء، إذا توضأ المسلم بعد العصر أو بعد الفجر فله أن يصلي ركعتين وتسمى ركعتا الوضوء، واستدل شيخ الإسلام على ذلك بحديث بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {سمعت دف نعليك في الجنة يا بلال فما كنت تصنع؟ قال: يا رسول الله! ما توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت ركعتين} فـ ابن تيمية يجعل من ذوات الأسباب ركعتي للوضوء.(147/19)
وقت الجمعة
السؤال الثاني: هل ينهى عن الصلاة وقت الزوال يوم الجمعة كسائر الأيام؟
الجواب
نعم.
يوم الجمعة لا تكره الصلاة فيه، فيه وقت الزوال، لما روى الحاكم والشافعي أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {إلا يوم الجمعة} وهذه زيادة ضعيفة، لكن العمل يؤيد هذه الرواية، فيذكر ابن تيمية وابن القيم أن للمسلم أن يصلي حتى يدخل الخطيب؛ لأن الصحابة فعلوا ذلك والسلف الصالح، ومنها كذلك في الحرم، فلك أن تطوف وأن تصلي في أي وقت أردت لما روى الخمسة، وصححه الحاكم وابن حبان عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداًَ طاف في هذا البيت وصلى في أية ساعة شاء من ليل أو نهار} وهذا رأي الجمهور، إلا عمر رضي الله عنه وعائشة، فكان عمر لا يرى أن تصلى ركعة الطواف إلا بعد طلوع الشمس أو بعد الغروب إذا طاف بعد العصر أو بعد الفجر، والصحيح ما أسلفت وعليه أهل العلم، هذه الأوقات التي لا يقصد بها الصلاة.
أما ركعتا بعد العصر التي ذكرها بعض العلماء، واستدلوا بما روى أحمد: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلاها فسئل عن ذلك، فقال: شغلني وفد عبد القيس عن ركعتي بعد الظهر} والنبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل شيئاً داوم عليه، فليس لأحد غيره أن يداوم عليهما ولا يصليهما، وكان عمر يضرب الناس على الركعتين بعد العصر، التي يظنها بعض الناس سنة، وهذا رأي لـ ابن حزم، وبعض العلماء العصريين.(147/20)
قضاء الوتر
السؤال الثالث: من فاته الوتر متى يقضيه؟
الجواب
من فاته الوتر وطلع عليه الفجر فلا يصلي إلا ركعتي الفجر ثم يصلي الفريضة، ويؤخر الوتر إلى النهار فيصليه شفعاً ولأهل العلم رأيان وقولان في هذه المسألة: منهم من قال: يصليه في النهار وتراً على هيئته، واستدلوا بما رواه الخمسة عنه عليه الصلاة والسلام: {من فاته وتره من الليل فذكره فليصله متى ذكره} وفي لفظ: {من نام عن وتر أو نسيه فليصله متى ذكره}
قالوا: يصليه في هيئته والرأي الصحيح هو الثاني: أن تصليه شفعاً لما روى مسلم عن عائشة قالت: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر من الليل إحدى عشرة ركعة، فإذا فاته الوتر من الليل لمرض أو سفر صلّى من النهار اثنتي عشرة ركعة} والتنظير العقلي يؤيد هذا الرأي الثاني؛ لأن وتر النهار صلاة المغرب، فلا يجمع وتران في يوم، يكفي صلاة المغرب وعليه فيقضي الوتر شفعاً فإن كان وترك ثلاث ركعات فصلِّ في النهار أربعاً، وإن كانت خمساً فصلِّ ستاً، وهكذا.(147/21)
مواصفات الزواج الإسلامي
السؤال الرابع: ما هي مواصفات الزواج الإسلامي؟
الجواب
يكثر هذا السؤال بسبب أنه وجد هناك زواج ووجدت أمور دخلت في الزواجات منها الشرعة، ونقل بعض الثقات أنها بيعت بعض الشرع للنساء بخمسة وعشرين ألف ريال، وبعضها بعشرين، أو خمسة عشر ألف، وهناك منصة تجلس عليها المرأة كأنها تلقي محاضرة أو خطبة جمعة، وذلك في وقت الزواج، وهناك بدعة يدخل عليها الزوج والنساء معها إلا من رحم ربك، وبعض الناس يدخل الزوج وأقاربه في مقابلة مشكوفة وفي لقاء حار ساخن مع نساء العالمين، فيدخل ليرى زوجته وهي أمامه، فينظر إليها، وتنظر إليه (انظرونا نقتبس من نوركم) إنهم من نور رب العالمين إذا اتبعوا سنة سيد المرسلين وخاتم النبيين وخير الخلق أجمعين، وبعضهم يزيد الطين بلة، فيلقط له ولها صورة حية، وهي صورة ميتة، فقد أمات قلبه وأمات قلبها، وبعض السيئين يدخل بكاميرا من النساء أو من الرجال فيلقطون للعرائس صورة تذهب في المجالس والأندية فتكون فضيحة في الدنيا والآخرة، ولقد قال بعض الناس: فوجئ رجل من الرجال بصورته وصورة زوجته في مجلس من المجالس، فاكتشف أنها أخذت يوم الزواج.
والزواج الإسلامي هو الذي يؤسس على التقوى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109] الدف للنساء جائز بشرط ألا يخالطهم رجل، والدف معناه الآلة التي تضرب من جانب واحد، فللنساء أن يضربن ويرقصن وينشدن نشيداً ولكن لا يجوز لهن أن يستدعين مغنياً فاجراً له عود وكمنجة وناي، مثل المغنين المتطورين المركبين، فهؤلاء من عملاء الشيطان، ولا مغنية ماجنة ومركبة ومتعلمة للغناء لا يجوز، ولا يجوز للرجل أن يدفع أجرة للدقاقين والدقاقات، والرقاصين والرقاصات، والمغنين والمغنيات؛ لأنهم يغضبون رب الأرض والسماوات، إذا وجد فلا بأس أن يفرح النساء، وينشدن نشيداً ويقمن برقص في مكان لا يراهن فيه رجل، فليس بذلك بأس، قال عليه الصلاة والسلام لـ عائشة: {هل معكم شيء من اللهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو}.
وصح في أحاديث أن النساء ضربن بالدف في عهده عليه الصلاة والسلام، وعند أبي داود: {أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف}.
لأن هناك من يتشدد وكأنه يريد أن يقوم الزواج فيخرجه كذلك، لكن لا ضرر ولا ضرار، لأن بعض الناس يريد أن يتباكى النساء في الزواج، لا.
حتى المحاضرات التي تعرض يوم الزواج يجب أن يكون فيها شيء من المرح، ما يأتي ويذكر لهم عذاب القبر وهم في زواج، فيتباكون، أو يذكر لهم حوادث السيارات، أو الخسف والنسف والإبادة، أو حرب لبنان أو الاشتباك في الفلبين، أو كيف قتل المسلمون في كل مكان.
قال أحد العلماء في خطبة: استدعوا رجلاً أبله أحمق من القراء يقرأ وقت الزواج، فقام فافتتح القراءة وهم في وقت فرح وزواج وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] فقام العريس صاحب الزواج فقال: يخرب بيتك، نحن الآن في زواج أو في طلاق، ولذلك كان من الحكمة أن يخاطب الناس بقدر ما يناسب حياتهم.
وخطيب مشهور سمعته يتكلم في محاضرة يقول: استدعوا مقرئاً عند الموت، فقال: كم الأجرة - وهذه من البدع والخزعبلات - قالوا: فلسين أو ثلاثة، وهذه الأجرة ما تساوي شيئاً للمقرئ وقد أتى من مسافة طويلة يريد مبلغاً من المال، فحضر وهو مكسوف البال غضبان على الميت وعلى أهل الميت، لكن مجبور أن يقرأ، فلما وصلوا إلى القبر قالوا: تفضل يا شيخ اقرأ وهم ما أعطوه إلا فلسات بسيطة فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32] قالوا له: قاتلك الله مالك؟ قال هذه: بفلسين فلما أتوا بالجنيهات قرأ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55].
والشاهد أن المحاضر أو الداعية إذا حضر لا بأس أن يدخل شيئاً من الأشعار والأخبار، ولا بأس أن يتمازح الناس في الزواج، ولكن لا يخرجون إلى المعصية.
ولا يكون الزواج إسلامياً إلا بأمور منها: تخفيف المهر، ومنها أن يرحب بالرجل الدين الذي يحب الله ورسوله، ومنها ألا يسرف في الأكل وألا يستحضر المغنين والمغنيات، ومنها أن تبطل العادات الجاهلية والخلطة وأمثالها التي ما أنزل الله بها من سلطان.(147/22)
عورة الرجل
السؤال الخامس: عورة الرجل ومواصفاتها وحدها؟
الجواب
عورة الرجل من السرة إلى الركبة للحديث الصحيح الذي رواه جرهد قال: قال صلى الله عليه وسلم: {الفخذ عورة}.
قال البخاري في الصحيح: حديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط، وحديث أنس معناه أن {رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرى في زقاق خيبر في المدينة فظهرت فخذه صلى الله عليه وسلم فرآها أنس}.
قال أهل الأصول: تعارض فعل وقول، قوله (الفخذ عورة) قول، وإذا تعارض القول والفعل قدم القول.
وحديث علي في الصحيح أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: {غطِ فخذك فإن الفخذ عورة، ولا تنظر لفخذ حي ولا ميت}.
فعلى من يلعب الرياضة أو يزاولها أو السباحة، أو أي نشاط رياضي أن يغطي من سرته إلى ركبته، ولا يجوز أن يلعب مع من يكشف فخذه، ولا يسبح معه، ولا ينظر إليه، لأنه ما غطى عورته وهو منكر من الفعل، وفاحشة من التصرف.(147/23)
حجاب المرأة المسلمة
السؤال السادس: قال بعض الناس: إن حجاب المرأة لا يدخل فيه الوجه ولا الكفان؟
الجواب
نعم.
قاله بعضهم وكتب في ذلك رسائل.
الصحيح: خلاف ما ذهبوا إليه؛ لأن حديث أسماء الذي استدلوا به حديث ضعيف من ثلاثة أوجه:
الأول: فيه انقطاع.
الثاني: فيه رجل ضعيف، وبعضهم يقول: ضعيفان، الثالث: إرسال.
فلا يستدل به.
الثالث: أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59].
الثالث: في صحيح البخاري عن عائشة في قصة صفوان بن معطل قالت: {وكان يعرفني قبل أن ينزل الحجاب}.
فبعد ما نزل دللت على أنه ما يعرفها لأن وجهها مستور.
الدليل الرابع: وهو عقلي؛ أن جمال المرأة وحسنها في وجهها وما تشبث الشعراء ولا مدحوا ولا وصفوا ولا تغزلوا إلا بالوجه، هل سمعتم أن شاعراً مدح أرجل المرأة أو أظافرها دخل رجل فقال:
حلفت لنا ألا تخون عهودنا فكأنها حلفت لنا ألا تفي
والله ما كلمتها لو أنها كالبدر أو كالشمس أو كـ المكتفي
المكتفي خليفة، يقول: والله وما كلمتها لو كان وجهها كوجه الخليفة -أحمق هذا- فإنه ما ذكر إلا بالوجه.
وبالمناسبة: أحد الشعراء الماجنين مر ببائعة عراقية تبيع البراقع، والبراقع هذه هي أخطر من ترك الحجاب، ولا يجوز لبسها مطلقاً، وليس هناك دليل ينص على ذلك.
وقد انتشرت الآن هذه البراقع وعيناها سحريتان جميلتان كأنها من أجمل نساء العالم وهي إذا رئيت تخوف في المنام، حتى ربما لو كشفت عن وجهها قلت: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب، وعلى بطون الأودية ومنابت الشجر) ولكن هذا تدليس؛ تركب البرقع فتخرج العينان بالسواد فتقتل الفجرة المعرضين عن كتاب الله، وعن المساجد وتسبب إحراجاً عظيماً وفتكاً هائلاً في الأمة، هذه البراقع أتت بها عراقية في المدينة وأهل المدينة لا يعرفون البراقع، فأتت تبيع لأهل المدينة فما شروها، فكسدت تجارتها، فقالت لجارتها: ماذا أفعل بالبراقع؟ فقالت: ويلك قاتلك الله خذي شاعراً وأعطيه درهمين يمدح البراقع:
فأتت بشاعر عيار ماجن قالت: خذ امدح البراقع قال:
قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسك متعبد
يعني: سعيد بن المسيب سيد التابعين:
والشاعر كذب على الله وكذب على الإسلام يقول سعيد بن المسيب عالم التابعين كان عمره سبعين سنة إحدى عيناه ذهبت من كثرة البكاء من خشية الله، يقول الشاعر أنه خرج إلى المسجد فرأى امرأة عليها برقع أسود ففتنته عن الصلاة فترك المسجد وهام بها:
قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسك متعبد
قد كان يمم للصلاة بجهده حتى وقفت له بباب المسجد
فنشروا هذين البيتين فبيعت البراقع كلها بعد صلاة العصر، حتى كانت كل جارية تقول هي المقصودة بالبيتين فأخبر سعيد بن المسيب فتبسم واستغفر الله مائة مرة، وقال: والله ما حدث من ذلك من شيء، ثم قال: فالله خير حافظاً وهو أرحم الرحمين.
يقول: هو الذي يعلم الأسرار ويعلم الخوافي:
كأن رقيباً منك يرعى خواطري وآخر يرعى مسمعي وجناني
وهذا هو الحجاب الشرعي، والبراقع لا تدخل في الحجاب الشرعي.(147/24)
المدة التي يقصر فيها
السؤال السابع: ما هي المدة الزمنية للقصر؟
الجواب
الضوابط في هذا أقرب لضبط الناس، أن من جزم أن يقيم أكثر من أربعة أيام في بلد فليتم صلاته، ومن رأى أن يقيم أقل من أربعة أيام فليقصر صلاته، هذا تقسيم، ومن لا يدري متى يرتحل اليوم أو غداً، فيقصر أبداً مهما أقام.
واستدلوا على ذلك في الأربعة أيام في حديث أحمد في عمرة القضاء، أن النبي صلى الله عليه وسلم: {قصر ثلاثة أيام وارتحل في اليوم الرابع} ولا ندري ماذا يفعل في اليوم الرابع فهذا الأحوط والأقرب.(147/25)
ضابط الغسل
السؤال الثامن: المذي إذا أصاب هل يغتسل منه؟
الجواب
المذي لا يغتسل منه وهو نجس فيتوضأ منه، أما المني فيغتسل منه، من أصابه المذي وهو يخرج مع تذكر الجماع والشهوة فعليه الوضوء ويغسل ذكره وأنثييه لحديث علي قال: {كنت رجلاً مذاءً فأمرت المقداد أن يسأل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: فيه الوضوء}.
أما المني ففيه الغسل سواء بجماع أو احتلام أو عادة سرية وهي محرمة، فلا بد في الجماع من الغسل أما الاحتلام فيشترط فيه أن يجد بللاً لأن بعض الناس قد يحتلم ولا يجد بللاً ثم يصحو فليس عليه غسل.
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ أم سليم في الصحيح: {إذا رأت الماء} فقيده صلى الله عليه وسلم بالماء وحمل بعض أهل العلم حديث {الماء من الماء} على الاحتلام، قالوا: الغسل لا يكون إلا إذا وجد بللاً، أما إذا احتلم ولم يجد بللاً في ثيابه فليس عليه شيء، ومن قام ووجد عليه بللاً فعليه أن يغتسل.(147/26)
حكم قراءة القرآن للمحدث حدثاً أصغر أو أكبر
السؤال التاسع: هل تشترط الطهارة لتلاوة القرآن؟
الجواب
أولاً: الجنب لا يقرأ شيئاً من القرآن لا نظراً ولا غيباً، لقول علي: {كان صلى الله عليه وسلم يقرؤنا القرآن ما لم يكن جنباً} رواه أبو داود وأحمد والترمذي وغيره، وصححه بعض أهل العلم، وله لفظ عند النسائي {كان لا يحجزه شيء عن القرآن إلا الجنابة}.
وأما المحدث حدثاً أصغر فله أن يقرأ القرآن غيباً ولا يمس المصحف لعموم قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79].
ولحديث أبي بكر بن حزم في الموطأ عند مالك وهو مرسل لكنه صحيح بطرق أخرى كتب لهم صلى الله عليه وسلم: {ولا يمس القرآن إلا طاهر}.(147/27)
دخول الحائض المسجد
السؤال العاشر: دخول الحائض إلى المسجد؟
الجواب
لا يجوز للحائض أن تدخل المسجد لقول عائشة كما في صحيح البخاري {كنت أرجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض} يخرج رأسه من المسجد -وهي في بيتها- فتمشط رأسه صلى الله عليه وسلم.
فلو كان يجوز لها الدخول لدخلت المسجد معه، ولحديث أبي داود عن علي وهو حديث حسن قوله عليه الصلاة والسلام: {إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب}
ولحديث ابن عباس: {أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف غير أنه خفف عن الحائض} لأنها لا يجوز لها الدخول.
ولحديث أم عطية عند البخاري: {أمر النساء أن يخرجن إلى المصلى وتعتزل الحائض المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين}.
فالحائض إذا أرادت أن تحضر محاضرة أو درساً لها أن تجلس خارج المسجد أو في السيارة أو في مكان مهيأ أما المسجد فلا.(147/28)
حكم نقض الشعر لغسل الجنابة
السؤال الحادي عشر: هل تنقض المرأة رأسها عند الغسل من الجنابة؟
الجواب
الصحيح لا تنقض شعرها من الغسل للجنابة، وإنما تنقضه من الحيض؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام: {أمر عائشة أن تنقض رأسها لما اغتسلت في الحج وأما الجنابة فلا} لقول عائشة: {كانت إحدانا تصيبها الجنابة فلا يأمرها صلى الله عليه وسلم بنقض رأسها} أو كما قالت.
فالمرأة إذا أصابتها جنابة لا يجب عليها أن تنقض شعر رأسها، تغتسل وتحرك أصول الشعر وترويه بالماء وتفيض عليه، وتنقضه من الحيض إذا طهرت.(147/29)
حكم الحلف بغير الله
السؤال الثاني عشر: الحلف بغير الله ما حكمه؟
الجواب
الحلف بغير الله مثل الحلف بالأب وبالأمانة، وبالشرف، وبالدين، أو نحوه فهذا شرك، يقول عليه الصلاة والسلام: {إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم} ويقول عليه الصلاة السلام: {فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت} فلا يجوز لأحد أن يحلف بغير الله، والحلف تعظيم، والتعظيم لله الواحد الأحد.
أما الله فله أن يقسم بما شاء من خلقه، والنجم، والضحى، والليل، والشمس ونحوها.(147/30)
حكم الصلاة في البيت بدون عذر
السؤال الثالث عشر: الصلاة في البيت بلا عذر؟
الجواب
صلاة الرجل في البيت بغير عذر دليل كبير على النفاق، أحكم على من صلّى في بيته بلا عذر وترك المسجد بالنفاق، وأشهد عليه يوم العرض الأكبر بالنفاق، ولو أنه يروى حديث عند الترمذي ولكن في سنده أبو السمح: {من رأيتموه يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان} لكن هذا الحديث فيه نظر، ويكفي الأحاديث التي أوجبها الجماعة، وهي أربعة عشر حديثاً، كحديث: {لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون العشاء معنا فأحرق عليهم بيوتهم بالنار} صحيح، وكحديث {من سمع النداء ولم يأت فلا صلاة له إلا من عذر} صحيح رواه عبد الحق وابن ماجة والحاكم، وحديث: {لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد} وغالب العلماء يقولون: موقوف على علي، وقال عبد الحق الإشبيلي: هو مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
وحديث الأعمى عند مسلم: {أتسمع حي على الصلاة حي على الفلاح قال: نعم.
قال: فأجب فإني لا أجد لك رخصة} وحديث ابن مسعود عند مسلم: {وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق} أشهد على من تخلف عن الجماعة بالنفاق وهذا منافق نفاقاً عملياً يستوجب غضب الله وسخطه ومعناه أنه سوف يتدرج في ذلك إلى أن يذهب دينه والعياذ بالله.(147/31)
صلاة النساء في البيت جماعة
السؤال الرابع عشر: صلاة النساء جماعة في البيت هل هي ورادة أم لا؟
الجواب
يجوز للنساء في البيت أن يقدمن للصلاة بهن قارئة عابدة، كما فعل النبي يوم أجاز أم ورقة وهو عند أبي داود وحديث صحيح: {استأذنت النبي أن تؤم بأهل دارها فأذن لها}.
فتصلي المرأة بالنساء في دارها ومعنى دارها: قريباتها من بناتها وعماتها، ومن تمن عليهن من المسلمات تصلي بهن جماعة في البيت، لها ذلك.(147/32)
حكم الخضاب للرجال
السؤال الخامس عشر: الخضاب للرجال؟
الجواب
الخضاب على أقسام: خضاب اللحية وخضاب اليدين والرجلين، تجد بعض الناس يستخدم الحناء في يديه ورجليه، وهذا محرم على الرجال إلا لضرورة من مرض أو دواء طبي يشير به طبيب، أو جرب أنه لمرض، أما لغير ذلك فلا يجوز، وعند أبي داود قال النووي: في السند مجهولان: {أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين مخضوبين -أي: الحنا في يديهما- فعزرهما وأمر بهما أن يخرجا إلى غزير الخضمات من المدينة}.
وفيه تشبه والنبي قال: {من تشبه بقوم فهو منهم}.
وفي حديث صحيح: {لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال}.
فلا يجوز أن يخضب رجليه أو يديه بالحناء أو الخضاب إلا لضرورة، وأما خضاب اللحية فالصحيح أن السواد محرم لصحة الرواية التي فيها: {وجنبوه السواد} وعند أبي داود بسند يحسنه كثير من العلماء: {أنه وصف أقواماً يأتون في آخر الزمان عوارضهم أو لحاهم كحواصل الحمام -سود- لا يريحون رائحة الجنة}.
فالخضاب بالسواد ليس بجائز، ثم أن فيه تمويهاً وتلبيساً، فإن الرجل الكبير المسن يموه ويدلس على الناس بسنه، يأتي رجل عمره تسعون سنة أو ثمانون أو مائة فيخطب امرأة تظنه في الثلاثين أو في الأربعين، ثم يموت بعد شهرين وخمسة عشر يوماً فتخسره، فلو علمت أنه سوف يموت ما تزوجته، أو أنه كبير بالسن، أو يتزوج ويمسي في الأنين طوال الليل:
قالوا أنينك طول الليل يسهرنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا
هذا فيه تمويه، صاحب الثمانين يتزوج امرأة عمرها ثمانين وهكذا، ولو أن هذا ليس حكماً؛ لكن يجوز للكبير أن يتزوج الصغيرة والكبيرة أن تتزوج الصغير، أمر الله عز وجل سعة لكن ورد عن بعض الفقهاء قالوا: فيه تمويه على المسلمين.(147/33)
حكم لبس الذهب للرجال
السؤال السادس عشر: لبس الساعة والقلم المذهب للرجال؟
الجواب
كثير من الناس ومن الشباب -هداهم الله- يلبسون الكبكات بذهب أو عليها ذهب، أو النظارات أو الساعات أو الأقلام؛ فهذا إذا ظهر فيه الذهب وتبين نسبة الذهب فهذا محرم على الرجال؛ لقوله عليه الصلاة والسلام، وقد أخذ الذهب والحرير من حديث علي: {إن هذين حلال لنساء أمتي حرام على ذكورها} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فالذهب على الرجال محرم استعماله، والشرب والأكل فيه، أو قلماً أو ساعة أو نظارة أو كبكاً أو ما يشابه ذلك، فليتنبه المتنبه، وهذه موجودة في كثير من الساعات والأقلام، وهذه مخالفة لأمر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، بعضهم يأخذ خاتم ذهب ودبلة ذهب، وهذا يكتوي بكية من نار، ويحمل النار في الدنيا والآخرة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(147/34)
الدعاة أمام الشائعات
أمر الله تعالى بالتثبت في تلقي الأخبار، حتى لا يصاب أحد ولايتهم بما لم يقله أو يفعله.
وكثيراً ما أدت العجلة في إصدار الأحكام إلى الندم بعد وقوع الحكم، وقد ندم كثير من الأخيار على أحكام أصدروها على أناس، وكانت المعلومات التي بنوا عليه أحكامهم خاطئة.(148/1)
الشائعة في الميزان
إن الحمد لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ونتوب إليه، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهد َأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السَّلامُ عَلَيَّكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، وبعد ففي هذا اليوم الأغر الثامن والعشرين من الشهر الثاني من عام (1412هـ) وعنوان هذا الدرس: الدعاة أمام الشائعات.
وقد كثرت الشائعات في هذا الزمن لاتصاله واتصال أطرافه بعضها ببعض.
والحقيقة أن هذه المحاضرة مكتوبة بنصها وفصها لم أغادر شيئاً منها، ولعل الأفكار تستوحى من الأسطر بعد توفيق الله عَزَّ وَجَلَ، وقد رأيت ذلك من المهمة بمكان أن تكتب المحاضرة؛ للمحافظة على روح الفكرة، والابتعاد عن التكرار والإعادة، وإيجاد منهجية رتيبة أحاول من خلالها أن نبتعد عن الاستطراد، أو عن الالتفات، أو التوسع في العبارة، ولو أن للارتجال ميزته، وبهجته، وروعته، ولكن للكتابة رتبتها، ونوعيتها، ومنهجيتها.(148/2)
قدم الشائعة
الشائعة -أيها الفضلاء- قديمه، عرفها الجاهليون قبل الإسلام وتناقلوها، وعاشها بعض الناس، وذكر أهل الأدب كـ ابن قتيبة وغيره أن النعمان بن المنذر -الملك الجاهلي الغساني- وشي إليه بـ النابغة الذبياني الشاعر، وأخبروا هذا الملك أن ذاك الشاعر تعرض لحرمه، وتغزل في زوجته، فغضب الملك، وتهدده بالقتل، وأهدر دمه في قبائل العرب، فضاقت الأرض بما رحبت بذاك الشاعر، وأخذ يمضي في الليل وينام في النهار، ورأى أن الحل السليم أن يفد إلى الملك، وأن يطرح نفسه عليه، لكن بقصيدة رائعة بديعة يعتذر فيها، والحقيقة أنها من أمهات الشعر العربي، ومن أحسن ما يقال فيه، فوفد عليه وجلس بين يديه، وقال له:
أتاني أبيت اللعن؛ وكلمة أبيت اللعن: تحية يحيي بها الجاهليون بعضهم بعضاً، كان يقول السوقي للملك: أبيت اللعن؛ يعني: أعوذ بالله أن أستوجب لعنة أو شيئاً يوجب عليَّ لعنة الملك.
فقال:
أتاني أبيت اللعن أنك لُمتني وتلك التي منهنَّ قد كنت أنصبُ
يقول: سمعت أنك تهددني لتقطع رأسي، وهذه خوفتني.
فبت كأن العائدات فرشن لي فراشاً به يعلو فراشي ويقشب
حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني وشاية لمبلغك الواشي أغش وأكذب
ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمّه على شعث أيَّ الرجال مهذب
فإنك شمسٌ والملوك كواكبٌ إذا طلعت لم يبدو منهن كوكب
فرضي عنه، وفي المجلس الآخر اعتذر بقصيدة أخرى ليبرئ قلب ذاك الملك عليه تماماً، وهي رائعة، وأوردها صاحب أضواء البيان الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، في أول التفسير، وهي مما يستملح بها في مجالس الدرس، يقول:
كليني لهمٍ يا أميمة ناصب وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
يصف معاناته في أثناء لصوق الشائعة به، وما يعيشه من آلام وأسىً ولوعة.
كليني لهمٍ يا أميمة ناصبي وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ وليس الذي يرعى النجوم بآيب
وصدرٍ أراح الليل عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانب
حلفت يميناً غير ذي مثنويةٍ ولا علم إلا حسن ظنٍ بصاحب
فرضي عنه أيضاً.(148/3)
الواجب مع الشائعة
الأصل في بيان الواجب أمام الشائعات والأخبار المزعومة قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] وقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] قال ابن كثير رحمه الله: يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق؛ ليحتاط له، لئلا يحكم بقوله، فيكون في نفس الأمر كاذباً مخطئاً، فيكون الحاكم بقوله قد فعل ما نهى الله عزوجل عنه، وهذا من اتباع سبيل المفسدين.
وكثيراً ما أدت العجلة في إصدار الأحكام إلى الندم بعد وقوع الحكم، وكثيراً ما ندم بعض الأخيار من أحكامٍ أصدروها على بعض الناس على معلومات خاطئة وصلتهم، وقد وقع هذا كثيراً حتى في صفوف أهل الصحوة، وأهل الالتزام؛ حيث إن بعضهم يحكم على بعض بأخبارٍ ملفقةٍ لا أساس لها من الصحة.
لقد كثر -أيها الفضلاء- بين الشباب النقل عن الثقات المزعومين، وهم يبهمون أسماءهم، فيقول أحدهم: حدثني الثقة عن فلان عن فلان عن فلان ثم يروي لك خبراً، وإذا بحثت عن هذا السند على قانون الجرح والتعديل وجدته إما سنداً منقطعاً، أو معضلاً، أو مرسلاً، أو معلقاً، أو وجد الخبر من أحاديث بني إسرائيل.
وتجد المبالغات في النقل، فكثيراً ما حدثونا أن فلاناً من المشايخ يحفظ الكتب الستة؛ يعني: الصحيحين والسنن الأربعة، فلما بحثنا وجالسنا كثيراً من الذين ذكر عنهم ذلك، فما وجدناهم يحفظونها.
وبعضهم يزعم لك أن فلاناً يحفظ كتاباً بأسره، وأنه يحفظ الألوف المؤلفة من الأحاديث، فإذا جلست معه وشافهته لن تجد تلك المعلومات إلا خاطئة.
ومن ذلك أن كثيراً من الناس سامحهم الله ينقلون الخبر فيبترونه، أو يزيدون فيه، أو ينقصون منه، أو يؤولونه عن مقصد صاحبه؛ فيأتي الخبر مقلوباً لا أساس له من الصحة، ولا صدق، ولا أثر.
ومنها: أن أحدهم يعادي صاحبه وزميله لمجرد كلمة بلغته عن ذلك لم يتأكد من صحتها، أو من مقصد صاحبها؛ فيقع فيما نهى الله عزوجل، وتقع العداوات بين الأقران، بما فيهم الدعاة الفضلاء بسبب هذه الشائعات التي تنتشر.
وكان حقاً على المسلمين خاصة الدعاة التحري أمام الشائعات، والتريث في إصدار الأحكام، وأقرب قصةٍ مثلاً قتل واغتيال الشيخ جميل الرحمن رحمه الله في أفغانستان؛ فما أن اغتيل، ومرَّ على اغتياله ليلة واحدة إلا وأتى بعض الناس فقالوا: فلانٌ مسئول عن اغتياله وهو الذي قتله، قلنا: ما هو دليلك؟ فأتى بعمومات لا تغني، إنما هي من الظن: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس:36].
وأنا هنا لست بصدد أن أبرئ، أو أتهم أحداً من الناس، وإنما أضرب بهذه القصة مثلاً في تعجل بعض الناس حتى في مثل هذه القضية الكبرى؛ قضية قتل قائد من قادات المجاهدين، ثم يعزى دمه ويلحق قتله بأحد القادة الفضلاء الآخرين، فقل لي بالله ما هو مستند هؤلاء؟ وما هو دليلهم؟ وما هو برهانهم؟ في نسبة هذا الجرم العظيم الذي ورد في الحديث القدسي، وأحياناً يرد من كلامه عليه الصلاة والسلام، وقد صححه كثير من أهل العلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل امرئٍ مسلمٍ لكبهم الله جميعاً على وجوههم في النار} وفي الحديث الذي يصححه الشيخ الألباني: {لزوال الدنيا بأسرها أهون عند الله من قتل امرئٍ مسلم} والرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن نظر إلى الكعبة وهو يودعها فقال: {ما أشد حرمتك، وما أعظمك، ووالذي نفسي بيده إن المسلم أشد حرمة منكِ} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وإلصاق التهم دون تثبت شائع من قديم، فلما قتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه، قتله الثوار المتمردون المخطئون المسيئون كل الإساءة، قال بعض المتعجلين، الذين يأخذون الأخبار من الشائعات: الذي قتله علي بن أبي طالب! لا إله إلا الله أبو الحسن يقتل عثمان، فوقف على المنبر أمام الناس وقال: [[أيها الناس: بلغني أن أناساً يقولون: قتلت عثمان، لعن الله من قتل عثمان، ومن شارك في قتل عثمان]]
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني وشاية لمبلغك الواشي أغش وأكذب
وقس على ذلك من أمثالها كثير، وهي الأحكام المخطئة التي تعتمد على مجرد سماع الخبر، في اتهام بعض الجهات وبعض الأشخاص ولم نسألهم عن دليلهم في ذلك، وإنما يتعلقون بشبه وإيحاءات بعيدة، روي عنه عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس أنه قال لرجل: {أترى هذه -يعني: الشمس في النهار - قال: نعم.
قال: على مثلها فاشهد أو دع} رواه ابن عدي بسند ضعيف، وصححه الحاكم فأخطأ، والحديث ضعيف ولكن معناه صحيح لأصول الإسلام الثابتة في الكتاب والسنة؛ ولذلك ذكرته يصيغة التمريض، فإن أهل العلم إذا ذكروا أثراً ضعيفاً قالوا: يروى، ويذكر، فيعفون أنفسهم من مغبة مطالبتهم بسند، أو بالحكم على هذا الحديث.
والله عزوجل -كما سلف- يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] لا تقف أي: لا تقل، ولا تتحدث بما ليس لك به علم، ثم ذكر الله أن العبد سوف يحاسب على كلماته، وعلى أحكامه، تصرفاته فقال: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
قال الشاعر: وهي أبيات من قصيدة عظيمة، نسبت لـ ابن المبارك، يقول في بعض أبياتها:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا عفافٍ وحياءٍِ وكرم
قوله للشيء لا إن قلت لا وإذا قلت نعم قال نعم
وانسب القول إذا ما قلته فعظيم منك إيراد التهم
وسوف يأتي خبر هذا البيت وشرحه إن شاء الله.
وأنا أقترح على إخواني الشباب خاصة لأنهم أهل المشاركة والتأثير، وأهل الكلمة المسموعة أن يعودوا فيما يطرأ عليهم إلى العلماء فيصدرون عن رأيهم، ويعودون عن مشورتهم.
وحبذا لو كان في كل مدينة دعاة بارزون، يعود إليهم الشباب وطلبة العلم فيسألونهم عن الأحكام، أو عما يقولون، أو عن موضوعات الخطب والمحاضرات وهو الأسلم.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {بئس مطية الرجل زعموا} وهذا في صحيح البخاري في كتاب الأدب؛ والمعنى: أن من جعل وسيلته زعموا دلَّ على أنه لا يتثبت، وأنه مظنة أن يكذب، وأن يخطئ في الأحكام.
واسأل كثيراً من الناس عن أحكامهم، تجدهم يبنونها على زعومات لا حقيقة لها، والحقيقة أن زعم في الغالب تنبئ عن الكذب {بئس مطية الرجل زعموا} والله يقول في القرآن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7] يريد أن يبكتهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مع العلم أنه ليس هناك إجماع عند أهل اللغة على أن زعموا تشير إلى الكذب، لا، بل إن سيبويه في الكتاب الذي هو في النحو كان ينقل كثيراً ويقول: وزعم الخليل؛ يقصد شيخه الخليل بن أحمد، ومعناه قال وصدق، ولكن الغالب أنها تدل على الكذب.
ودائماً أسانيد الناس: زعموا، وسمعنا، ويقولون، وقالوا، ونحو ذلك من الألفاظ التي هي صيغ تمريض، وقد كره الله للناس قيل وقال، وهي دلالة على كثرة النقل بلا روية، ولا تؤده، ولا تثبت، وعند مسلم في الصحيح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع} إذا رأيت الرجل يحدث بكل قصة يسمعها، وكل مقالة تنمى إلى أذنه؛ فاعلم أنه سوف يكذب لا محالة، قال الإمام مالك [[لا يكون المرء إماماً إذا حدث بكل ما سمع]] وقال الإمام مالك رحمه الله أيضاً: [[ليس كل ما يُعلم يقال]].
فإنك تعلم معلومات ولكنك لا تستطيع أن تقولها.
وفي صحيح البخاري أيضاً: أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: [[حفظت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاءين اثنين: أما الأول فبثثته في الناس -أي: علماً- وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم -وفي بعض الألفاظ: الحلقوم-]] أي: قطع رأسه، قال بعض الشراح كـ ابن حجر وغيره: ربما كانت من الأحاديث التي في خلفاء بني أمية التي أخبر بها عليه الصلاة والسلام، كالأحاديث التي حسنها الحافظ ابن حجر في الوليد بن يزيد الفاسق، وبعض الأحاديث في أشخاصٍ بعينهم، فلو حدث ها أبو هريرة لذهب رأسه إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، ولا يسعه الكتمان عن علمٍ يحتاج إليه الناس، لكن يسعه أن يكتم علماً لا يحتاج له الناس، وليس كل علمٍ تطالب أن تبثه في الناس، أو لا واجب عليك أن تشرحه في الناس، لا، وإنما العلم الذي تحتاجه الأمة هو الذي ورد التهديد في كتمانه؛ لقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160] وقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران:187].
والإفراط في حسن الظن بالناس يصل بصاحبه إلى قبول خبر كل أحد، ولذلك عدّوا الحاكم صاحب المستدرك متساهلاً وكذلك ابن حبان والترمذي؛ فإنهم قبلوا أخباراً واهية، أذكر أن الحاكم قبل أحاديث موضوعة في المستدرك وجعلها صحيحة لحسن ظنه، وحسن الظن المفرط بالرواة وبالنقلة وبالناس يودي بصاحبه إلى أن يقبل الكذب، والله المستعان!
أحاديث لا نورٌ عليها ولا سند تناقلها بعض العجائز في البلد
وهذه مثل وكالة العجائز أنهم يقولون، وقلنا، وسمعنا، فإذا حققت تجد أصلاً لن تعود إليه.(148/4)
مسائل تهم الناس والشباب حول الشائعات
أذكر هنا بعض النقاط التي تهم الناس عامة، والشباب خاصة:(148/5)
قبول خبر الواحد الثقة
أولى المسائل: لا يعني الحرص على التثبت والحيطة في قبول الخبر أن نرد خبر الواحد مطلقاً، لا، فإن أهل السنة يقبلون خبر الواحد الثقة في العقائد والعبادات والأصول والفروع خلافاً للمبتدعة كـ المعتزلة وأهل الكلام؛ فإنهم لا يقبلون خبر الواحد في العقائد.
والصحيح قبول خبر الواحد، ففي الصحيحين: {أن ضماد بن ثعلبة أرسله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قومه في ثقيف والطائف}.
وفي البخاري ومسلم: {أن رجلاً ذهب إلى أناس يصلون وقد تحولت القبلة فأخبرهم بأن القبلة تحولت فتحولوا} وهذا من قبول خبر الواحد، وللشيخ الألباني رسالة طيبة في هذا، وجوب قبول خبر الآحاد، وهي ممتازة جداً، وقد ذكر صاحب الطحاوية في شرحه أن معتقد أهل السنة قبول خبر الواحد الثقة.(148/6)
تجنب التهويل في نقل الأخبار
ثانية المسائل: أن الواجب على المسلم أن يتجنب التهويل في نقل الأخبار فلا يزيد من كيسه شيئاً، كما يقول الحافظ الذهبي وهو ينقل عن بعض الناس إذا زاد كلمة، قال: هذه من كيس فلان والسلام، يعني: ليست من الحديث، وبعضهم يهول الأخبار، ويبالغ، ويزيد، ويدبج حتى يخرج الخبر عن أصله.
والمبالغة في ذلك لها رد فعل؛ فإنه قد تصاب النفوس بالإحباط فتكون النتيجة عكسية، بعد أن تعرف الشيء على حقيقته، كمن بالغ في وصف عالم من العلماء مثلاً وقال: ما رأينا أورع ولا أصدق ولا أزهد منه، يقوم الليل كله، ويحفظ الكتب الستة، وكأن القرآن أمام عينيه، وهو علامة الزمان، فإذا وجدت العالم وجالسته وشافهته؛ اختفت الصورة التي في ذهنك عن الصورة التي أمامك فأصبت بالإحباط، وأنت لو لم يبالغ لك في هذا العالم كنت سلمت بما رأيت من الخير فيه، لكن بالصورة الخيالية على المثالية ينعكس الحكم في ذهنك، وهذه تضخيم أخبار الأذهان على ما في الأعيان.
وهذه تسمى خيبة الأمل، فيقولون في الأخبار: أصيب بخيبة أمل؛ لأنه كان يتأمل شيئاً فلما وجده ورآه وجده أقل مما أمله، ويروى في السير أن جرير بن عبد الله البجلي، وفد على رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحدث عنه كثيراً فلما رآه قال: {يا جرير! ما حُدث لي عن أحد إلاَّ وجدته أقلَّ مما ذكر لي، إلا أنت فكنت أعظم مما ذكر لي} وقال بعض أهل السير: ويعزى هذا لبعض الكتبة العصريين، كل من تُحدث عنه في التراجم والسير والتاريخ فاعلم أنه أقلَّ مما تحدث عنه مهما كان، إلا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنه أعظم مما تقرأ وتسمع، ويروى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد التقى ابن الشجري النحوي والزمخشري؛ وهما نحويان في مجلس فقال ابن الشجري للزمخشري: والله ما مثلك أيها الزمخشري إلا كما قال الأول:
كانت محادثة الركبان تخبرنا عن جعفر بن فلاح أروع الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت أذني بأحسن مما قد رأى بصري
يقول: أنت أعظم مما سمعنا عنك في خبر طويل.
ومقصودي من هذا أن المبالغة تصيب الناس بالإحباط.
ومثال آخر: المبالغة في ذكر مكاسب الجهاد الأفغاني إلى درجة التهويل، فكانت النتيجة عكسية بعد أن اشرأبت النفوس وعلقت آمالها بهذا الجهاد، وأصبحت آمال المسلمين تتعلق به، ونحن من أنصار الجهاد الأفغاني، ونسأل الله أن ينصرهم على عدوهم، وأن يثبت أقدامهم، لكن المبالغة إلى حد الإفراط دخلت في هذه الأخبار على بعض النفوس التي تنال من هذا الجهاد، فيقال: هذا جهادكم الذي بالغتم فيه بالأمس وقلتم عنه كذا وكذا، ويتناسى بعض الناس كل حسنة للجهاد بسبب الإحباط، مع العلم أنه لو نقلت الصورة كما هي، ما وقع الناس في هذا الإرباك.
ومثل ذلك المبالغة في الكرامات: فهذا ينشق له القبر بعد أن يقتل يصافح والده؛ فأين السند الصحيح لهذه القصة؟
وأيضاً المبالغة في مكاسب الصحوة، وإنجازاتها حتى كأن الناس كلهم عادوا إلى الله، فيقول لك أحدهم: رأيت المنطقة، أو القرية، أو المدينة الفلانية، فما رأيت واحداً منهم غير ملتزم، بل كلهم ملتزمون، وهذه مبالغة لأنها تخالف أصول الكتاب والسنة، والله يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ويقول: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] ويقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]:
وقليل من الخفاء الترجي وكثيرٌ من الأباة الخفاء
سامحن بالقليل من غير عذل ربما أقنع القليل وأرضى
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل
وقال السموءل:
تعيرنا أنا قليلٌ عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل
فالنطف العذاب: أي: الغدران العذبة الماء هي أقل ماءً من البحار الآسنة المتكدرة، فكيف يلغى هذا المفهوم في الكتاب والسنة وفي كلام العقلاء، ويقول: الناس كلهم مهتدون وليس فيهم عاصٍ، وهذا ليس بصحيح.
أذكر على سبيل المثال: أنَّا كنا في صالة انتظار ننتظر رحلة من الرحلات، ونظرت وإذا أكثر الناس غير ملتزمين بالسنة، قليل من أراهم يعدون على الأصابع من مئات في الصالة، وكل هؤلاء مخالفون للسنة لا أقول غير مسلمين -مسلمون كلهم يصلون ويصومون- ولكن ليسوا على سنة محمد عليه الصلاة والسلام التي بعث بها، والتي رضي الله بها للناس، وتفاجئ مثلاً في مجمعٍ عام في زواج أو لقاءٍ أو حفل أن القليل ملتزم، وأن الكثير غير ملتزم بالسنة، فأين مصداقية هذا من الأخبار المهولة المبالغ فيها؟!(148/7)
الحيطة من قصص الواقع
ثالثة المسائل: المطالبة بأخذ الحيطة من قصص الواقع التي تضخم ويزاد فيها، ويجعل لها أذيال وأجنحة، والعادة أن قصص التائبين في هذا الزمان مبالغٌ فيها، وقد سمعت كثيراً منها وأعتقد أنه لو رأينا الحقيقة لما كانت كما سمعنا، وغالباً أن قصص التائبين هذه تكون بعد حادثة انقلاب سيارات، فيقولون: فانقلبت به سيارة، فنقل إلى المستشفى، فتاب إلى الله، فبقي يبكي الليل والنهار حتى كأنه داود عليه السلام حينما تاب، وبعضهم قال: فسمع شريطاً فأخذ يبكي ويبكي، فوعظناه يكفي يا أخي، فقال: أنا مذنب، ثم صلى فبكى ثم بكى بعد الصلاة، ثم أتى لينام فبكى، وسمعت كثيراً من هذا وأنتم سمعتم، وهذا ليس بوارد.(148/8)
التأكد من صاحب الخبر نفسه
رابعة المسائل: لماذا لا يتصل بالأشخاص الذين نقل عنهم الخبر مباشرة؟ بمعنى: إذا سمعت كلمة من أخٍ فلا تعجل بالحكم عليه من جرائها، بل حاول أن تسأله: هل قلت أنت هذه الكلمة؟ هل ثبتت عنك حقيقة؟ وما مقصودك بها؟
سمعت عالماً من العلماء المشاهير الذين لا زالوا أحياء يقول: أنا من عادتي إذا سمعت الكلمة أن أتصل بالهاتف مباشرة بذاك الشخص الذي نقلت عنه الكلمة، فأقول: هل صحيح أنها قيلت عنك؟ هل ثبت عنك هذا؟ ماذا تقصد؟ حتى أرد على بصيرة، أو انصحه، وكثير من الأشخاص يعيشون في حي واحد تبلغ أحدهم عن الآخر كلمة فلا يسأل عنها، وإنما يسارع بالحكم عليه، وبإمكانك أن تزوره، وتسأله هل ثبت عنك هذا أم لا؟ لتكون على بصيرة، هذا هو التثبت.(148/9)
التثبت قبل الندم
خامسة المسائل: الأصل في التثبت كما قلت قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] وقرأت: (فتثبتوا) وكلتا القراءتين صحيحتان.
قرأ ابن مسعود (فتثبتوا) وغيره من علماء التابعين، وقرأ الجمهور (فتبينوا)؛ والتبين والتثبت بينهما اشتراك نسبي في المعنى.
وفي الآية أن الفاسق هو الكاذب، وقيل: هو الذي لا يستحي من الله، وقيل: هو الذي يختلق الأمور، وقيل: هو المبالغ على سبيل الافتراء.
أما سبب الآية: فقد ذكر المفسرون كـ ابن جرير وابن كثير والقرطبي، أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل الوليد بن عقبة ليأخذ صدقات بني المصطلق، وكان بين الوليد هذا وبين بني المصطلق بعض الأمور، فسمع بنو المصطلق أن الوليد سوف يقدم فتهيئوا لاستقباله؛ لأنه من عند الرسول عليه الصلاة والسلام على حد المثل الذي يقول: (من أجل عين تكرم ألف عين) من أجل كرامة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خرجوا لاستقباله صفوفاً، فلما رأى الاستقبال أمامه، ظن أنهم يريدون البطش به، لإحن كانت بينه وبينهم، فرجع إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: وجدتهم يا رسول الله! لا يصلون، ورفضوا إعطاء الزكاة، وأرادوا قتلي فنجاني الله.
فنزل جبريل بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات:6] ولم يقل: (يا أيها النبي) لأن الشرع سوف يستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ ولأن هذا القرآن يخاطب به الأفراد والشعوب والقرون قرناً بعد قرن، ولأنه دستور خالد، قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
فأرسل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجنة استشارية تستكشف الوضع، وتدرس ماذا تم في هذا اللقاء، فوجدوا أن هذا أخطأ وفسق في الخبر، وفيه دليل على أن الفاسق لا يكفر ولا يخرج من الملة، والفاسق كالكاذب وشارب الخمر والزاني، فإنه يبقى مسلماً، لا نحكم عليه بالكفر ما لم يأت بمكفر.(148/10)
الدليل والبرهان فيما يقول
سادسة المسائل: ليسأل كلٌ منا نفسه، ما هو الدليل على ما يذكر؟ إذا أردت أن تذكر قصة، وأردت أن لا تحرج نفسك أمام الناس، وأمام الفضلاء في أي مجلس، فلا تذكر قصة إلا ومعك الوثائق والبراهين والأدلة، قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في هذا المبدأ: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] يقول: ائتونا بالعلم والدليل على ما تذكرون، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد العاشر: وليعتصم طالب العلم في كل مسألة بدليل، ويقاس على ذلك مسائل الواقع، والمسائل الدعوية والاجتماعية؛ فإنه لا يحل لك أن تذكر مسألة إلا بدليلها.
فالواجب علينا جميعاً أن نطالب أنفسنا وغيرنا بالأدلة والبراهين على ما نذكر ونقول، ومن حقوقك أنت، أن تسأل من حدثك ما هو دليلك على هذا؟ وما هو مستندك؟ ولا يجوز له أن يقول: ولماذا تسأل عن الدليل؟ ولماذا تسأل عن المستند؟ قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] والبرهان: الدليل.(148/11)
عرض الشائعة على الكتاب والسنة ثم العقل
سابعة المسائل: كل شائعة لا بد أن تعرض على العقل، وإن كانت شرعية فلا بد من عرضها على الكتاب والسنة.
كشائعة مثلاً قد نشرت في بعض الصحف قديماً أن ميتاً خرج من قبره بعد ثلاث ليالٍ، وأكفانه على جنبه ومشى بين الناس، وصدق العوام بها، ولم يبحثوا عن أصلها، أو من أتى بها من الناس، وكشائعة مثلاً أن بعض الناس لما دفنوا شارب الدخان تحول عن القبلة، قالوا: غسلناه، فلما وضعناه في القبر حول الله وجهه، وجعل ظهره إلى القبلة فتحول عن القبلة، مع العلم أن آكل الربا والزاني وشارب الخمر أعظم إثماً من شارب الدخان، ولم ينقلوا عنهم أنهم حولوا عن القبلة، فانظر جرم هذا وجرم ذاك، وخطأ هذا وخطأ ذاك، وما وقع تحويل وجه هذا عن هذا إلا في شارب الدخان، والكتاب والسنة لا يدل على ذلك، ولا ينفيه صراحة لكن الأقرب أن نتوقف، ولا بد أن ننزل أهل الذنوب منازلهم، وأن نستقرء الأخبار؛ فإن من علامات القصة الموضوعة والحديث الموضوع أن يضخم الأجر على عمل بسيط، أو يضخم الإثم على جرم بسيط، وقد ذكرها السباعي في السنة ومكانتها في التشريع.
وأما الشائعات فالواجب عرضها على الكتاب والسنة: فمثلاً الأحاديث الباطلة الموضوعة التي فيها طوام ودواهي، فإنها تخالف أصول الكتاب والسنة، فمثلاً: الأثر الموضوع المكذوب على الرسول عليه الصلاة والسلام: {من قال: لا إله إلا الله بني له سبعون قصراً في الجنة} وغير هذا الأثر كثير، وأحسن من جمع في هذا الباب صاحب اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني وكشف الخفاء للعجلوني وتمييز الطيب من الخبيث لـ ابن الديبع الشيباني، وغيرها من الكتب.
ويذكر أن الإمام أحمد ويحيى بن معين كانا جالسين في المسجد - يحيى بن معين أعظم مجرح ومعدل في أمة الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يقول بعضهم: لا نعلم منذ خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أكثر من رجل كتب في الرجال، أو جرح في الرجال، أو عدل في الرجال مثل يحيى بن معين، هذا دواؤه، وهذا طبه، وهذا علاجه.
ويقول ابن حجر: أعظم من يحفظ الأحاديث في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإمام أحمد، صلى في مسجد -فقام أحد الوعاظ شحاذ يشحذ الناس- لكن يريد أن يقدم للشحاذة بموعظة مثلما يفعل الناس دبلجة، أي: فن ابتزاز الأموال من أيدي الناس؛ وهذا الفن مدروس من قديم، أن يأتي فيبكي أمامك ويتباكى، ويخبرك بالإسلام والدين، ثم بعد ذلك يلطخ خطبته بمسألة الشحاذة.
فقال: حدثنا أحمد بن حنبل - سبحان الله- لا يعرف الإمام أحمد، والإمام أحمد يفضحه في الصف الأول؛ إمام مليار مسلم الذي يحفظ ألف ألف حديث، إمام أهل السنة والجماعة، دامغة الدنيا، قال: حدثنا أحمد بن حنبل وحدثنا يحيى بن معين عن فلان عن فلان، ووضع سنداً من عنده أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: من قال لا إله إلا الله خلق الله له طائراً في الجنة منقاره من ذهب، ونونيته من زبرجد، وله جناحان من فضة، أو كما قال، يطير في الجنة من شجرة إلى شجرة، أو نحو هذا، ثم انتهى.
فقال الإمام أحمد: تعال-فظن أن الإمام أحمد يريد أن يعطيه نقوداً- فاقترب منه فقال أحمد بن حنبل: أنا أحمد بن حنبل وهذا يحيى بن معين ما حدثناك بهذا، وهذا الحديث باطل كذب، فانظر إلى شجاعة هذا الكذاب، قال: سبحان الله! كأنه ما في الدنيا إلا أنتم أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، قد حدثت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل وسبعة عشر يحيى بن معين.(148/12)
الحذر من الظن
ثامنة المسائل: الحذر من الظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، يقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن قوم: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32] وأكثر معلومات الناس ظن، لأن المصادر التي نتلقاها في الأربع والعشرين ساعة من سبيل الظن، وليست من سبيل اليقين، ولا يوثق بأخبارها؛ لأنها ليست مرشحة لتعطي الأخبار الصحيحة المعقولة، وقال عز من قائل: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس:36] وصدق من قائل، هذه قواعد قرآنية، والعلم هو تيقن المعلوم، فطالب العلم عليه الحكم آكد أن لا يتبع الظن، وما تهواه نفسه، لأننا كثيراً ما نسمع من أحدهم قوله: أظنه كذا، ولعلَّ ويمكن، ويركب احتمالات في أمور عقدية، وأمور قد يأثم بها، وأمور يشيعها في الناس هو المسئول الأول ولا دليل له ولا برهان.(148/13)
إسناد الحديث إلى أهله
تاسعة المسائل: على المتحدث أن يسند الحديث إلى أهله، خاصة الأخيار -وكلكم أخيار- وخاصة من يحمل أمانة الكلمة أن يسند كل خبر إلى قائله، فمثلاً يقول: حدثني فلان بن فلان بكذا وكذا؛ لأن الرواية عن المجاهيل مظنة الكذب، وإذا ذكر المتحدث الزمان والمكان كان أحسن وأجمل وآكد، مثل أن تقول: حدثني فلان بن فلان في مدينة كذا يوم الثلاثاء الماضي ومعنا فلان بن فلان، لكي يصدقك الناس، أما إذا قلت: يقولون: وقال لي أحد الثقات، فكم من الثقات! أصبح الناس كلهم ثقات، فإذا بحثت وجدته ليس بثقة.
وتجد الرجل يقوم قيام الليل، ويصوم في النهار، ويكذب في الحديث، وبعض الوضاعين من أهل الجنة؛ لأنهم تعمدوا الوضع لكن خيل إليهم، وفي تذكرة الحفاظ للذهبي، أتى رجل لـ أبي حاتم وهو يجرح ويعدل فيقول: حدثنا فلان عن يحيى بن معين أنه قال: إني لأتحدث عن أناس قد وضعوا رواحلهم في الجنة من مائة سنة، فبكى عبد الرحمن بن أبي حاتم حتى أسقط الكتاب من يده، يعني: إنهم وهموا في الأخبار لأنهم عباد اشتغلوا بالعبادة عن حفظ الأحاديث، فساء حفظهم فدخلت عليه الموضوعات، ولذلك قيس بن الربيع مثلاً عابد لكنه ضعيف، ورشدين بن سعد عابد لكنه ضعيف في الرواية، حتى يقول الصنعاني في حديث {أحلت لنا ميتتان ودمان} قال:
ولا يصح رفع ذاك فاعلم إذ فيه رشدين بن سعد قد رمي
وغيرها من الأحاديث الكثيرة.
فالمطالب هو إسناد الأحاديث إلى قائليها، وأن تعزوها حتى تعفى من المسئولية إذا أسندتها قال لي الأديب الفلاني، أو المفكر، أو فلان بن فلان، فبذلك تأمن من مغبة نسبة الكذب إليك، وإذا لم تسند خبرك، فإنك سوف تكون ملوماً أمام الناس أنك الذي يفتعل الأخبار، وينشئ الافتراءات، ويخادع الناس ببهارج من القول لا أساس لها.(148/14)
الذب عن المسلمين والدعاة
العاشرة من المسائل: أيها الفضلاء! إن المطلوب من المسلمين عموماً، ومن الدعاة خصوصاً ذب بعضهم عن عرض بعض وفي الحديث: {ومن ذب عن عرض أخيه المسلم ذب الله عن وجهه النار يوم القيامة} ولا يجوز للمسلم أن يقف متفرجاً وأعراض إخوانه المسلمين تنتهك، وأشخاصهم تجرح.
وإذا رأيت الساكت في مجلس من المجالس التي تنتهك فيه أعراض العلماء والمشايخ والدعاة، والفضلاء والصالحين، من أمثالكم، فاعلم أنه أحد رجلين:
إما جبانٌ خوار، سلب الله الغيرة من قلبه.
أو منافق يعجبه التشفي في أعراض المسلمين.
وكثيراً ما يخبرنا بعض الشباب بكلام وقع في أعراض العلماء، والفضلاء، والصالحين، وقد حضروا هذا الكلام وسمعوه، أنا رأيت بأم عيني، ما حدثني أحد، رأيت فلماً لرجل في ناد من النوادي، شاب لا يظهر عليه الالتزام، ظهر أنه معرض عن الله، يقلد المشايخ بالصوت والحركة، ومعه حضور من أمثاله، ظهرت عليهم علامات عدم الالتزام، وعلامات عدم الانسياق لشرع الله عَزَّ وَجَلَ، رأيت هذا الفيلم في المنطقة الشرقية، وهو يتكلم بلسان ولهجة وحركة وصوت سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ويُسأل سؤالاً مضحكاً، فيجيب بصوت الشيخ بجواب مضحك فيضحك الحضور ويصفقون له، ثم يقلد الأستاذ علي الطنطاوي فيضحك الحضور ويصفقون له، رأيتها أنا ومعي مجموعة من الدعاة، ثم يقلد الشيخ اللحيدان فيضحك الحضور، ثم يقلد عبد الله فرح الغامدي فيضحك الحضور ويصفقون له ثم ينتقل ويقلد إمام الحرم الشيخ ابن سُبيّل فيضحكون، ويقلد كثيراً من المؤذنين، باستخفاف وجراءة على شرع الله عَزَّ وَجَلَ، حتى إنه يلفق فتاوى قالها العلماء؛ يقول من ضمنها: امرأة سألت عبد الله فرح الغامدي (ك-هـ-ي-ع-ل) تسأل: ما حكم ذبح الضفادع وأكلها؟ قال: الحمد لله، وبدأ الجواب.
فمن هم الفضلاء إلا هؤلاء، وهل سمعتم الآن ولا نبالغ في أحد أفضل من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وهل سمعتم عالماً من المسلمين الآن يرشح إلى أن يكون شيخاً للإسلام كهذا الرجل، الموفق المسدد، الذي يدور الكتاب في ذهنه، والكتب الستة، والأحاديث ثم يوليها اهتماماً، ويستنبط، ويفتي العالم الإسلامي، ويقفون على فتياه على نور من الله عزوجل، ثم يأتي هذا الذي يلعب بصلاته، ومبادئه، ومشيته، وسنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيتهجم على هؤلاء، هذا مما وقع، ومثله كثير، وكثيراً والله ما يسمع الإنسان اتصالات وشباب يأتون، ويقولون: سمعنا فلاناً ينال من فلان من المشايخ ويقول فيه كذا وكذا بفرىً عظيمة، حتى يقول بعضهم: إن بعضهم يفتي ويحرم ما أحل الله ويحلل ما حرم الله، ويقول: فلان يحل الفروج المحرمة، ويحل سفك الدماء، ونعوذ بالله من أن يفعل ذلك مسلم فضلاً عن هؤلاء الأخيار.
وكثيراً ما يخبرنا بعض الشباب بكلام وقع في أعراض العلماء الفضلاء والصالحين، وقد حضروا هذا الكلام وسمعوه، فنقول لهم: فماذا كان موقفكم؟ قالوا: السكوت، وهذا لا يجوز لهم في شرع الله عزوجل؛ لأنهم خذلوا إخوانهم، وسكتوا عن منكر.(148/15)
عدم نشر ما يجرح المسلم
المسألة الحادية عشرة: الواجب على المسلم إذا سمع جرحاً في أخيه المسلم أن لا ينشره، ولا يوشيه، ولا يفشيه، فيكون مشاركاً بفعله هذا في انتهاك أعراض المسلمين، ومناصرة المنافقين، بل عليه أن يطوي هذه الأخبار، ويجعلها قيد الكتمان، ويعتبر بقوله عليه الصلاة والسلام: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}.
وبعض الناس قد يشارك من حيث لا يعلم في نشر الرذيلة في المجتمع، أو في نشر الجرح في الفضلاء، فيقول: قال فلان حسبنا الله عليه في فلان كذا وكذا، وهو بهذا ينشر الجرح ويشيعه: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلم المفسد من المصلح، وبعض الناس يتشفى حتى يقول لك في معرض الغيبة: إنا لله، فيظهر التوجع، ويظهر الحسرة، فتقول: ما شاء الله، ما أشفقه على عباد الله، ثم يقول: هدى الله فلان بن فلان فعل كذا وكذا، غفر الله له، الله يرده إلى صوابه!(148/16)
الشائعات عن الملتزمين مستمرة
المسألة الثانية عشرة: يشاع الآن، وسوف يشاع عن الملتزمين بشرع الله عزوجل، والمستقيمين على دينه أنهم متطرفون، فنقول لهم: ما معنى: التطرف؟ وما هي صور التطرف عند هؤلاء الشباب؟ ومن الذي يحق له أن يحكم عليهم بالتطرف؟ هل هو من حقوق من ليس من أهل الشريعة؟ ولا من حملة الكتاب والسنة؟ وهل يحق لبعض الناس ممن قلَّ تصورهم للشريعة وقلَّ عملهم بطاعة الله عَزَّ وَجَلَ، هل يحق لهم أن يحكموا على هؤلاء بالتطرف؟! ومفهوم كلامهم أن العصاة هم الوسط، ويجعلون الوسط التساهل في الالتزام بالسنة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم التشاغل بالدعوة، وعدم الغضب لله عَزَّ وَجَلَ، بل يرون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جرحٌ للمشاعر -فيقول: لا تجرح مشاعرنا- ويثير المشاكل وهو من التدخل في شئون الغير، ويرى هؤلاء أن اتباع السنة والتقيد بها تشديد وتزمت، بما في ذلك اللحى؛ كأن اللحى جريمة! وهي اتباع لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والثياب القصيرة، وغير ذلك من صور الالتزام بالسنة، حتى إني رأيت بعض الشباب؛ إذا سألت أحدهم لماذا لا تعفي لحيتك؟ قال: حرجاً من إخواني وأهلي في البيت، فإنهم يؤذنونني إذا أطلقت لحيتي!!
لقد أصبحت الأمة الإسلامية في زمنٍ العامل فيه بالسنة في غربة، وهو المجروح، وهو الذي تنصب عليه السهام، بينما أصبح المخالف للسنة كأنه الوسط، المعتدل فكراً ومنهجاً!!!(148/17)
التحليل والتحريم من خصائص الله ورسوله
المسألة الثالثة عشرة: يقال عن الملتزمين: إنهم يحرمون كل شيء، حتى سمعت من بعضهم مشافهةً من رجل له قَدْرَة، يقول: صليت مع خطيب جمعة، فقال: الربا حرام، والغناء حرام، والصور حرام، والدخان حرام، وكل شيء حرام.
هل يقول هذا؟ إن كان أحد الناس يعني معتوه، أو جاهل، أو مرفوع عنه القلم قال هذا، لكن هل يستطيع خطيب أن يقول هذا ويسكت المصلون عنه؟! لا لأن عندنا فضلاء، وطلبة علم، والشعب مسلم، ومثقف، وواعٍ، فلا يمكن أن يقول خطيب في مسجد فيه خمسمائة رجل هذا الكلام ويسكت الناس، وعلى الأقل أن ثمانين في المائة منهم يعرفون أن كل شيء ليس بحرام، فسيوقفونه بعد الصلاة ولو عشرة منهم ويحاسبونه على الكلمة، لكن معنى هذه الفرية: أن تأخذ تصوراً أن هؤلاء الشباب والدعاة والخطباء يحرمون كل شيء، فتقول: حسبنا الله عليهم.
فبالله عليكم، هل يعتقل أن الدعاة يعتقدون تحريم كل شيء، والله يقول: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:11] وكثيراً ما تجد بعض الناس له تخصص غير شرعي، كأن يكون تخصصه طب، أو أدب مجرد، أو هندسة، أو أي فنٍ آخر، يلوم أهل الشريعة ويقول: هم متطرفون، مع العلم أن المنهج الشرعي أن كلاً يحترم تخصصه، فهم الذين يفتون الناس، وهم الذين يدرسون معتقد أهل السنة والجماعة، وهم الذين يخبرون بضوابط التكفير، وهم الذين يصدر الناس عن رأيهم، ويعلم هؤلاء الملتزمون من الدعاة وغيرهم أنه لا يحل لأحدهم أن يحرم إلا ما حرم الله ورسوله، وهذه كلمة ابن تيمية، لا يحل لأحد أن يحرم إلا ما حرم الله ورسوله ولا يحل إلا ما أحله الله ورسوله، ولا يوجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا يكره إلى ما كره الله ورسوله، ولا يستحب إلا ما استحبه الله ورسوله؛ ولذلك يلام بعض الناس أن يقف على المنبر ويقول: يجب عليكم كذا وكذا، وهذا من كيسه وقد لا يوجبه الكتاب والسنة، فلا بد من تقييد الألفاظ، ولا بد من الوقوف مع مدلولات الكلمات.(148/18)
كتّاب يسخرون من الدعاة
المسألة الرابعة عشرة: نشرت جريدة الحياة عن بعض الكتبة وهو يعرض ببعض الدعاة وشباب الصحوة ويقول: إنهم يروون أن طائرة (إف 15) تسقط بقراءة آية الكرسي، وأن هناك دعاء يفجر الدبابة، فأقول: أسألكم بالله هل سمعتم داعية ممن يوثق بعقله وعلمه ورأيه يرى هذا الرأي، ويقول مثل هذا القول؟!!
ولقد رأيت غالب شباب الصحوة في الداخل والخارج، ولا يقولون هذا، يقولون: هذه أدعية لها أثر، أما أنهم يقولون القضية المعينة هذه من قرأ آية الكرسي أسقط طائرة إف 15 فلا، نعم إن الكرامات موجودة لكن لماذا يضحك عليهم بهذا الأسلوب الساخر، الساذج، المكشوف، السافر، ولا يتعرض إلا لهم دائماً، ولا تضخم إلا أخطاؤهم، بينما تجد أهل الفن، وأهل الغناء والتطبيل والضياع؛ معفوون من هذه، بل يلمعون، أما هؤلاء إذا أخطأ أحدهم خطأً صغيراً ضخم، وكبر، حتى يكون كارثة!!!
وجدت كثيراً من الشباب الملتزمين، أهل التخصصات العلمية كأهل الطب والهندسة والتكنولوجيا، وقد زرت -أقولها للحقيقة وأنقلها هكذا حتى نكون على روية- إحدى عشر ولاية في أمريكا فوجدت غالب الدعاة والملتزمين ممن يدرسون هذه العلوم هم أئمة مساجد، وهم المؤذنون في تلك البلاد، فهل عندهم تطرف؟! وهل كانوا قال أحد منهم: تقرأ آية الكرسي فتسقط الطائرة إف 15 على أنَّا نؤمن بكرامات الأولياء، وأن الله قد يسقط الطائرة بالدعاء، لكن في مثل هذا الأسلوب السافر، الساخر، لا نرضاه أبداً، ونقول: اتقوا الله أيها الكتبة في أنفسكم، فإن الله يقول: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب}.(148/19)
ضرورة التثبت فيما ينقل عن العلماء
المسألة الخامسة عشرة: ينسبون إلى بعض العلماء أنه حرم كذا، وأحل كذا، دون أن يتثبت من قوله، فيقع كثير من الناس في الخطأ على اعتقاد أن العالم الفلاني أفتى بكذا وكذا، فالرجاء التثبت والتحري، وأخذ الحيطة في مثل هذا الأمر المهم، والاتصال بالعلماء مباشرة، فإنه ينتشر بين الناس أن فلاناً من المشايخ أفتى بحلِّ كذا وكذا، بينما لو سألت من نشر هذا الخبر، ومتى سمعته؟ وهل سمعته من الشيخ؟ وهل سألته؟ وهل قرأت هذا في كتاب أو سمعته في شريط؟ لقال: لا أدري، سمعت هذا، أو قيل لي، فاتقوا الله أيها الناس في التثبت في الفتاوى! لأنها دين، وأخذ الحيطة في مثل هذا واجب، ويترتب على ذلك تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله، ونحو ذلك من الترتيبات واللوازم الخطيرة.(148/20)
الفراغ يورد الشائعات والقيل والقال
المسألة السادسة عشرة: الفراغ لدى الشباب يورد الشائعات، والقيل والقال، وما فرغ عبدٌ إلا سها ولهى:
فراغ قاتل وهموم نفسٍ وقيلٌ يملأ الدنيا وقال
ونقلٌ ليس تضبطه صحيحاً وأخبار بلا سند طِوالُ
وكان السلف يسمون من يجلس فارغاً (عاطلاً) ويسمونه (بطالاً) وسماه العصر الحاضر (بطالة) وقالوا: مشكلة البطالة، ودرسوا أزمتهم، وما هي الحلول المقترحة لأزمة البطالة، التي هي عبء على المجتمع، والشعوب، الآن كثيرٌ من الناس يعيش في بطالة، وتورث المهاترات، والنقولات الواهيات، والشائعات.
والخطير أن يوجد بين صفوف الشباب بطالة وعطالة، فلا تجدهم يشتغلون بعمل، أو بقراءة، أو بأمر مثمر، فيعود مجلسهم إلى قيل وقال.
ولماذا لا يجتمع شبابنا على جدول عمل مرتب من ذي قبل؟ يرتبون لهم جدول عمل، يجلسون عليه ويجتمعون؛ حتى يحفظ الوقت فيما ينفع؛ كقراءة القرآن، أو قراءة كتاب علمي، أو ذكرٍ، أو مشكلة تحل وتدرس، أو غير ذلك من المسائل.
فلماذا تهدر الأوقات هكذا؟ والعبد يحسب عليه وقته ودقائقه وثوانيه؟(148/21)
الفوضى في الزيارات
المسألة السابعة عشرة: الزيارات وعدم ترتيبها.
فإن هذا أمرٌ محرج، وديننا أسمى من أن يكون مسئولاً عن هذه الفوضى في الزيارات، أو الفوضى في النظام على سبيل المثل.
كم نبه للباعة وقيل لهم وكتب لهم، واتصل بالجهات المختصة، ألا تبيعوا بعد الأذان الثاني، إذا دخل الخطيب، ثم يخالفون الأمر، ويخالفون التوجيه والإرشاد، فينقلون صورة لغير المسلمين أن هذا دين فوضى، والله عزوجل ذكر النظام في كتابه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مثل نظام الزيارات وقد أشير في القرآن إلى ثلاثة أوقات محرجة في الزيارة منها: {قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ * وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} [النور:57 - 58] تضيق به الأوقات فما يراعي وقتك، إنما هو يريد أن ينهي عمله، أو ينهي غرضه، فإذا انتهى من أشغاله زارك في أي وقت، بغض النظر عن راحتك وهدوئك، أو استقرارك، أو مزاجك، فيطرق عليك بابك في ذلك الوقت.
{وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور:58] يعني: لا يزورك عصراً ولا مغرباً وإنما بعد صلاة العشاء، وأنا أعرف من الشباب من يزور بعد الحادية عشر ليلاً يطرق عليك الباب، يقول: أنا لا أريد أن أدخل لكن مسألة واحدة فتوى، فيسألك عن المسح على الخفين بعد الحادية عشرة! يعني: ضاقت بك الدنيا، اتركها يومين ثلاثة، أو مسح الوجه بعد الدعاء هل هو وارد أو لا؟ أو سند حديث.
فالواجب علينا الرتابة: وأنا أقترح أن الوقت المناسب عند المسلمين الآن من المغرب إلى العشاء، وقد نبه على هذا الوقت، ووضعت عند بعض الفضلاء لوائح تشير إلى هذا، أن وقت الزيارة من المغرب إلى العشاء؛ لأنه وقتٌ مستهلك، ووقت ذاهب، فيزاور الأحبة فيه، وأما غيره فإنه محرج صراحة، وحتى الاتصال بالهاتف أن يكون هناك وقتاً منظماً، فبعد الحادية عشرة لا تتصل لأحد، بل قبلها بكثير، وفي أوقات الأذان إذا أذن المؤذن فلا تتصل، أحياناً يتصل بك والأذان يؤذن فتترك متابعة المؤذن حتى تجيب على الهاتف، أو إذا دنت الإقامة وأنت إمام مسجد شغلك إلى الإقامة فأخرك عن الصلاة، فتحري الأوقات حتى باختلاف نسب الأوقات بين المدن أمر مطلوب خاصة بين أهل الوعي حتى ننقل صورة النظام للناس.(148/22)
الكلام أكثر من العمل
المسألة الثامنة عشرة: من قصورنا جميعاً أن نسمع ونتحدث أكثر من أن نعمل، كلامنا أكثر من عملنا، محاضراتنا أكثر من فعلنا، ندواتنا، ودروسنا، أكثر من تأثيرنا بالعمل البناء بالناس، أمة تتحدث، أمة عندها ترف في الكلام، أمة تحب الكلمة والقيل والقال.
وعلى سبيل المثال: كم يحضر المحاضرة العامة من شباب، لكن كم يدعو إلى الله من هؤلاء؟
بعض المحاضرات يحضرها أكثر من عشرة آلاف، وهذا ليس مبالغة بل هو الحق، ومن حضر شهد بذلك، وليت من العشرة آلاف عشر العدد يعملون لله، وأنا لا أقول: العشرة الآلاف لا يعملون لله! فإنهم يعملون لله في الصلوات، وفي الحج، والعمرة ورمضان، وفي بعض الحقوق، ولكني أقصد حق الدعوة، وحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحق محمد عليه الصلاة والسلام على الأمة، وحق إيصال الكلمة إلى الناس، وحق التأثير، والمشاركة، ليت العشر من العشرة آلاف يعملون لله في الدعوة، يعني: ألفاً، لو عمل ألف في مدينة من المدن بالحكمة والموعظة الحسنة، واللين، وإيصال الفكرة للناس، واقتحام الحواجز التي وضعها بعض الناس بينهم وبين الناس؛ لعم الخير، وكان الشر في إدبار، وكان النفع العميم ينتشر هنا وهناك.
إن مسئوليتنا -أيها الإخوة- أن نعمل، مسئولية ضخمة، ولننظر إلى هذا الحضور، فلو أخذنا العشر ممن حضر هذه الليلة وتبنى فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمشاركة في مثل هذا الموسم، موسم الاصطياف، وذهب إلى المنتزهات يحمل الشريط الإسلامي، والكتيب بأدب ولينٍ وحكمة، ولا يجرح المشاعر، ولا يغضب القلوب، ولا ينفر النفوس، وعرض فكرته للناس، والله الذي لا إله إلا هو لقد قيل: عن بعض من يحمل الفكرة الباطلة من العلمانيين والحداثيين، بل من النصارى واليهود؛ إنهم يضحون لدينهم، ويبذلون لدعوتهم، وينفقون أموالهم في سبيل مبادئهم الباطلة أكثر مما يفعله كثير من المسلمين.
والله يقول في هؤلاء المنحرفين، وإنفاق أموالهم: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
واقرأ تراجم بعض الذين أقاموا بعض الفكر في العالم، مثل فكرة الشيوعية.
فقد سجن لينين ست سنوات ويضرب بالحديد ووراء الأسلاك وفي الزنزانة حتى أثبت فكرته.
كارل ماركس سجن ثلاث مرات في بلجيكا، وفي فرنسا وفي إنجلترا، ثم اعتنق فكرته مليار شيوعي في الصين والاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا وفي بولندا هذه الدول الشرقية اعتنقت فكرته، وقد سحب هو في أثناء مطر، وقد ذكرت هذا لكم في قصة طويلة أو في محاضرة الشيوعية إلى الهاوية.
وكثير من الناس، اقرأ مثلاً مذكرة ميشيل عفلق وكم تعرض، وحردان التكريتي، كل هؤلاء الأوثان والأصنام خدموا فكرتهم عجباً.
أنا حدثتكم أن أحد المجاهدين يقول: فتاة فرنسية عمرها ما يقارب الثلاثين سنة، تجوب جبال أفغانستان، معها جهاز، وفراش على ظهرها، وتنام في الثلوج، ومع البعوض، وفي المستنقعات؛ من أجل أن تبشر بدين المسيح المحرف.
طيب الآن ما هو تأثيرنا في الناس؟ ما هو دور هذا الكم الهائل الذي يحضر هذه المحاضرة؟ ماذا يقولون غداً لمحمدٍ عليه الصلاة والسلام؟ إذا قال: هل بلغتم دعوتي؟ أنا قلت لكم في الحياة الدنيا: {بلغوا عني ولو آية} قراكم فيها خرافة، وقد يتخلف فيها الناس عن صلاة الجماعة، وقد لا يطبق فيها الحجاب، وقد يوجد فيها قطيعة الرحم، أذية الجيران، والغيبة، والنميمة، والحسد، وأكل الربا، فماذا فعلتم؟
إذا قيل أنتم قد علمتم فما الذي عملتم وكلٌ في الكتاب مرتب
وماذا كسبتم في شبابٍ وصحة ٍوفي عمر أنفاسكم فيه تكتب
فيا ليت شعري ما نقول، وما الذي نجيب به إذ ذاك والأمر أصعب
إلى الله نشكو قسوةً في قلوبنا وفي كل يومٍ واعظ الموت يندب
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب:39].
اسمع الآيات الهائلة، في ميراث الأمة التي توجه مصير هذه الأمة، وعقولها، وأفكارها، ودماءها؛ أن تتحرك بدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام.
ثم يلتفت عليه الصلاة والسلام ويدعو ربه، ويبتهل إلى مولاه ويقول: {نضر الله امرأً سمع مني مقالةً فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع} وفي لفظ ابن حبان: {رحم الله امرأً سمع مني مقالةً فوعاها فأداها كما سمعها} نضرة ورحمة وعفوٌ من الله لمن سمع مقالة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن منا لا يحفظ الفاتحة من هذا الحضور؟! من منا لا يعرف الوضوء؟! من منا لا يعرف صفة الصلاة؟! ولكن الكثير في المناطق يجهلونها، من منا أنفق من ماله في الشهر اشتراكاً شهريا ًمن ماله الذي يصرف في البطون والجيوب وفي شراء السيارة الفخمة، والفلل البهية، والفرش الوفيرة ثم نذهب إلى الله ونتركها ولا تذهب معنا أبداً، والله يقول: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] من منا أنفق من راتبه قدراً لإيصال دعوة محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للناس؟!
ألا إنه يقول عليه الصلاة والسلام: {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم} أنا أعتقد اعتقاداً جازماً، وقد قاله كثير من العلماء أن من أدخل شريطاً إسلامياً في بيت من بيوت المسلمين فاهتدى أهل البيت أنهم في ميزان حسناته، وأنه هو السبب الأول في هدايتهم، وأنه هو المأجور، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من دل على خيرٍ فله مثل أجر فاعله} ويقول: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة} فهنيئاً للباذلين، وهنيئاً لمن دعا إلى نهج الله، وهنيئاً للمؤثرين، وهنيئاً لمن شارك بوقته، أو تدبيره، أو تخطيطه، أو ماله، أو رأيه، أو علمه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].(148/23)
دور المرأة في الدعوة
ثم هناك أمر -أيها المسلمون- وهو ما هو دور المرأة في الدعوة؟ وهل عليها واجب شرعي أن تكون داعية؟ وهل يلزمها أن تبلغ دين الله عزوجل؟
الجواب
يجب عليها في حدود طاقتها، وهي مسئولة أن تبلغ بقدر جهدها وعلمها، وهي مشاركة للرجل في الحياة، وهي نصف المجتمع، والله عزوجل ذكر الصالحين والصالحات، فقال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195].
والمرأة الصالحة يجب عليها أن تبلغ دين الله في بنات جنسها؛ بكلمتها، وباتصالها، وبزيارتها، وبالكتيب، وبالشريط الإسلامي، وبأي مستوى من مستويات التأثير؛ لأنا نرى قصوراً في جانب تثقيف المرأة، وتفقيهها ودعوتها، وآن للمرأة العاقلة والفاهمة والتي آتاها الله قدراً من العلم، أن تبذل علمها، وأن تبتغي إلى الله عَزَّ وَجَلَ، ولها أجرها عند ربها.
والله أسأل أن يتقبل مني ومنكم صالح العمل، وأن يتجاوز عنا وعنكم الزلل، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل.(148/24)
الأسئلة(148/25)
شريط للشيخ ناصر العمر
السؤال
أحد الأخوة يقول: حبذا لو نبهتم الإخوة على شريط للشيخ ناصر العمر بعنوان مشروع مقترح؛ لأنه شريط مفيد جداً؟
الجواب
نعم، الشيخ الدكتور ناصر العمر؛ من أحسن من يتكلم في هذه الموضوعات وفي غيرها، ومثله يحرص على السماع له، وقد فتح عليه من الله عَزَّ وَجَلَ في كثير من القضايا؛ منها شريط مشروع مقترح، وهو يهم طلبة العلم، وشباب الصحوة، والدعاة؛ حتى يعملوا وينفعوا أمتهم على بصيرة.
فأنا أدعوكم لسماع هذا الشريط، وإهدائه على من ترون من المسلمين.(148/26)
شائعة بخصوص الشيخ علي الطنطاوي
السؤال
سمعنا أن الشيخ علي الطنطاوي لا زال حياً؟
الجواب
أبشركم أنه لا زال حياً، وهو لا زال على قيد الحياة، وقد تمر ببعض الأشخاص في الحياة أمور وأخبار أنهم ماتوا وهم أحياء.
يقول أحد الفضلاء: كنت جالساً في الحرم -هو من المفكرين- قال: فأتاني أحد الشباب، فقال: أنت لم تمت؟ قال: لا.
قال: حدثني فلان أنك مت، قال: لا لم أمت، قال: والله هو قال لي وهو لا يكذب.
قال: والله إن مت فلا أدري، لكني أنا موجود انظر لي هنا.
وهذا مثل قصة جحا: أتاه رجل، يستعير حماره ليركبه، فقال جحا: الحمار ليس موجود أخذه فلان قبل أن تأتي، قال: صدقت.
فنهق الحمار من البيت، فقال: أسمع الحمار نهق وأنت تقول: ليس عندك، قال: سبحان الله تصدق الحمار ولا تصدقني!!
المتنبي مات كثيراً في حياته، وهو ما مات إلا مرة، لكن أماتوه كثيراً فيقول في قصيدة له يشكو ذلك، يقول:
بم التعلل لا أهلٌ ولا وطنٌ ولا نديمٌ ولا خِلٌّ ولا سكنُ
تحملوا حملتكم كل ناجيةٍ فكل بينٍ علي آثاركم ظعنوا
ما في هوادجكم من مهجتي عوض إن مت شوقاً وما فيها لنا ثمن
سهرت بعد رحيلي وحشة لكم ثم استمر مريري وارعوى الوسنُ
لا تلق دهرك إلا غير مكترث ما دام يصحب فيه روحك البدن
فما يديم سروراً ما سررت به ولا يرد عليك الغائب الحزن
ما كلُّ ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
رأيتكم لا يصون العرض جاركمُ ولا يدرُّ على مرعاكمُ اللبن
كم قد قتلت وكم قد مت عندكمُ ثم انتفضت فزال القبر والكفن
وهؤلاء المحسودون في العالم دائماً يموتون، ويقال عنهم: صادفوا مشكلة، وتعرضوا لضربة قاصمة، وحد من نشاطهم، وأوقفوا عند حدهم، فـ المتنبي يقول: كم مت وأنا لم أمت إلا مرة! وكذا الجبان يقولون يموت مرات في اليوم، والشجاع لا يموت إلا مرة، حتى يقول العقاد في قصيدته، ويسلم على سعد زغلول، يقول فيها:
وفي كل يوم يولد المرء ذو الحجا وفي كل يومٍ ذو الجهالة يُلحدُ
يقول: الجاهل، الغبي، المعرض عن الله عَزَّ وَجَلَ، يموت دائماً، أما الشجاع فإنه يولد دائماً، والموت واحد.
وأسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية والسداد والخير والنفع العميم، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(148/27)
الشباب واهتمامات العصر
من أخطر مشكلات العصر التي تواجه الشباب مشكلة الإلحاد والزندقة ومرض الشهوات وتخدير الهمم وتنويم العزائم, وإحباط المساعي، ولكل منها أساليب يجب التنبه لها والحذر منها.
وينبغي أن نتغلب على كل العوائق التي وضعها أعداء الله ضد المسلمين، وأن نهتم بالغايات، وأن نضع كل أمرٍ في مكانه الذي وضع له، فلا تجعل الوسيلة كالغاية.(149/1)
الرياضة وسيلة لا غاية
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً, وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمر منيراً, وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً, والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً, وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة, وأدى الأمانة, ونصح الأمة, وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وأشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
التحايا راسيات كالجبال والوفا أسرع من ريح الشمال
جئتكم بالحب صباً وافداً أنثر الأشواق في نادي الهلال
هذا النادي أسلم عليه خاصاً وعاماً، فسلام الله عليه وعلى أهله ورحمة الله وبركاته.
وعلى رأسهم الأمير الماجد/ عبد الله بن سعد , الذي يريد أن يرفع مع وسيلته في الرياضة لا إله إلا الله, وليس هذا بغريب عليه؛ فهو من أبناء هذه الجزيرة التي سجدت لله واعترفت بلا إله إلا الله، جزيرة قدرها الإسلام، وماؤها الإسلام، وهواؤها الإسلام، جزيرة فيها صخرة يتحطم عليها رأس كل ملحد ورعديد وزنديق، جزيرة تعلن تفوقها ورسالتها وعبقريتها وإبداعها وروعتها في نشر لا إله إلا الله، جزيرة هبط فيها الوحي، وسرى في هواها محمد صلى الله عليه وسلم.
يا رب! أليست هذه الجزيرة التي سبحت بحمدك وقدستك؟
يا رب! أليست هذه الجزيرة التي سار على ثراها محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟!
يا رب! أليست هذه الجزيرة التي قدمت الشهداء والعلماء والأدباء؟!
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
الله أكبر! كم لهذه الجزيرة من همم ومجد! الله أكبر! كم لها من تاريخ وعلو! الله أكبر! كم لها من حضارة وصدارة.
نحن صانعو الفن والجمال والحب، نحن أهل الأيمان والحب والطموح، لا يعرف الناس الحب إلا من جعبتنا وكيسنا ومدرستنا، ولا يدرسون الإيمان إلا في مدارسنا , ولا يغذون بالحب إلا من شجرتنا، فليس بغريب أن يأتي نادي الهلال ليكون هلالاً في سماء المجد والمكرمات، ليحمل مع الرياضة رسالة عظيمة، فالرياضة نعتقد اعتقاداً جازماً أنها وسيلة وليست غاية، فغايتنا في الدنيا أن تسلم المعمورة للا إله إلا الله، لقد ملّت الدنيا والمعمورة الأطروحات التي طرحت على ساحتها من نابليون صاحب الدمار والعار والشنار، وأطروحات هتلر الذي أحرق البشرية بقنابله، وأطروحات تيتو الذي حزب الناس ضد الناس.
نحن نريد أطروحات محمد عليه الصلاة والسلام {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الانبياء:107] رحمة مهداة ونعمة مسداة.
تعال يا من حاله في وبال ونفسه محبوسة في عقال
يا راقداً لم يستفق عندما أذن في صبح الليالي بلال
روض النبي المصطفى وارفٌ أزهاره فاحت بريا الجمال
ميراثه فينا جميل الحلى وأنتم أحفاده يا رجال
الموضوع هذه الليلة: "الشباب وأزمات العصر" وهو يدور على أربعة عناصر:
العنصر الأول: مدرسة الإلحاد والزندقة.
وهي مدرسة شيخها وأستاذها وعميدها فرعون عليه لعنة الله إلى أن يرث الله ومن عليها.
العنصر الثاني: مرض الشهوات، الذي أصيب به كثير من شباب الإسلام.
العنصر الثالث: تخدير الهمم وتنويم العزائم، ونجاح الاستشراق في ذلك.
العنصر الرابع: الحرب المعنوية وإحباط المساعي.(149/2)
مدرسة الإلحاد والزندقة
إن الأزمة الأولى هي: مدرسة الإلحاد والزندقة, والإلحاد مركب قديم وليس بحديث، وليس من صنع ماركس ولا لينين ولا هرتزل بل هو قديم قبله فرعون, وقبل فرعون شيخه وجده إبليس، يقول موسى, وهو رسول التوحيد، ورسول لا إله إلا الله: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] لقد علم أن لا إله إلا الله، وعلم أن الذي رفع السماء وبسط الأرض هو الله:
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
والنحل قل للنحل يا طير البوادي من ذا الذي بالشهد قد حلاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
سبحان الله! السماء تشهد أن لا إله إلا الله، والأرض تشهد أن لا إله إلا الله، والماء والهواء، وكل ذرة على وجه الأرض, ولكن مدرسة الإلحاد أبت ذلك، ومن عتوها وفجورها أنها تريد أن تدخل إلى الجزيرة العربية، تريد مركب الأدب يوم أخفقت في مركب الاقتصاد.
قبل أربعين سنة كان ماركس ولينين , أهل الحديد والنار, أعداء الشعوب، ظلمة الإنسان وأكلة الإنسان.
قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا
أرادوا أن يلحد الإنسان وقالوا: لا إله والحياة مادة، فلما أخفقوا في الاقتصاد أتوا بمركب الأدب, وحرام أن تلحد هذه الجزيرة , أو أن يلحد صحفي واحد فيها أو شاعر أو أديب.
إن صحفنا ونوادينا لا بد أن تكون إسلامية، وقصاصنا إسلاميون، لأننا نفضل أن نموت ويحيا الإسلام، نغذيه بدمائنا, ونبني مجده على جماجمنا, فهو السراج والكنز والمصير والقوة والشرف والعمق والأصالة, ويوم نتخلى عن الإسلام نتخلى عن الأصالة والعمق والشرف, ونخسر أوراقنا في الساحة.
إن مركب الإلحاد حاول بشتى الوسائل التشكيك في المعتقد، بكتابة الكتب الرخيصة التي تشكك في الرسالة، وفي الله عز وجل، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم, سبحان الله! {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص:5] سبحان الله! لا إله إلا هو: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] والله إن القلوب لتتفطر, وإن الجبين ليندى, وإن القلب ليرجف؛ يوم يذكر الإلحاد, كل شيء ربما نتفاوض معه، إلا مسألة الإلحاد, إنهم يريدون أن يلحد صحفي، أو أديب، أو شاعر، أو رياضي في جزيرة العرب.
أما علمتم يا أعداء الله! أن هذه الجزيرة حُمِل على أكتاف أبنائها لا إله إلا الله؟ وبعد خمس وعشرين سنة من الإسلام مات أبناؤها على ضفاف نهر اللوار والسند والهند وسمرقند وأسبانيا والأندلس المفقود، أتريدون إدخال الإلحاد هنا؟ أما بحثتم عن بلد غير هذا؟ أما هذه فإنها بلاد محمد عليه الصلاة والسلام.
ومرض التشكيك والإلحاد ورد كذلك في بعض المسرحيات التي تستهتر وتستهزئ بشخص الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم, وايم الله، وتالله، وبالله ما طرق العالم أعظم من الرسول عليه الصلاة والسلام، أيريدون معجزة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؟!
يقول شاعر وادي النيل:
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه
كنا قبل لا إله إلا الله رعاة غنم وإبل؛ لا حضارة ولا ثقافة ولا معرفة ولا رقي، فلما جاء الرسول وبعث فينا وبث فينا الروح, فأصبحنا نتكلم بكلام الله, ونمسي أولياء لله على كتاب الله, نحيا لله ونموت على لا إله إلا الله.
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا
من الذي جعل عمير بن الحمام يأتي في معركة بدر وهو يأكل التمر، فيقول عليه الصلاة والسلام قبل المعركة وهو يعلن ساعة الصفر: {يا أهل بدر , إن الله اطلع عليكم فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، والله ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء.
فيقول عمير بن الحمام وهو يأكل التمرات: يا رسول الله, ما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء.
قال: نعم.
فأخذ غمد سيفه فكسره على ركبته، ورمى بالتمرات، وقال: لا إله إلا الله، اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى.
ثم رمى بالدرع في الأرض وقاتل حتى قتل}.
أيفعل جنود نابليون وهتلر وتيتو وغاندي هذا الفعل؟!
كذبوا لعمر الله، والله ما يستميتون إلا على إحراق البشر، وأخذهم وامتهانهم.
لكن أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام يريدون الله وما عند الله.(149/3)
مرض الشهوات
والأزمة الثانية التي تعرض لها شبابنا هي: الشهوات, وقى الله شبابنا المحن، وحماهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
يا رب رحماك! أسلمت لك الجزيرة، وآمنت بك، لا نقولها والله تعصباً، فـ كابل هي قطعة منا, ثراها من ثرانا، وترابها من ترابنا، والهند وأسبانيا وتونس والعراق، وكل أرض في الأرض وكل سماء في السماء, لكن قلبنا هنا، ومصيرنا هنا، وكعبتنا هنا، وقبر رسولنا هنا, فاللهم احفظ علينا إسلامنا وإيماننا.
أزمة الشهوات قدمها الاستشراق والحزب الرأسمالي الغربي -حزب وارسو - إلى الشرق وأبناء المسلمين في كأس الخمر، وفي امرأة زانية وأغنية رخيصة ومجلة خليعة، هذه الأربع هدموا بها قممنا وشموخنا وعزتنا.
يوم كان العربي ينام على الثرى, وسيفه مصلوت, يستفيق الصباح فيقول: لا إله إلا الله, الحمد الله الذي أحيانا بعد موتنا وإليه النشور.
وينام على ذكر الله؛ أصبح اليوم ينام على العزف والناي والأغنية الرخيصة, عجباً! بعد أن كان ينام على القرآن ينام اليوم على الأغنية.
من فعل هذا؟ إنه الاستشراق، إنه مؤتمر بلغراد الذي يقول لأبنائه وأعضائه: لقد خسرنا الساحة مع المسلمين يوم أن قاتلناهم بالصواريخ والطائرات والقنابل, وبقي معنا حرب واحدة هي حرب الكأس والمرأة والأغنية والمجلة.(149/4)
كأس الخمر
لقد نجحوا نجاحاً باهراً يوم أن قدموا كأس الخمر ليضل به كثير من الناس، وإذا ذهب العقل ذهب المجد والعرض والشرف والسؤدد والنبل في الحياة الدنيا وفي الآخرة, وإذا ذهب العقل فلا تسل عن صاحبه، وإذا ذهب العقل فقد وصل الإنسان إلى مستوى البهائم والببغاوات والعجماوات.(149/5)
المرأة الفاتنة
قدموا المرأة الفاتنة إلى الشرق الأوسط، كوكب الشرق تعزف في الجماهير وتغني فيهم وهم يصفقون لكوكب الشرق، ويرددون كلمات كوكب الشرق, وطائرات إسرائيل غطت علينا شعاع الشمس.
قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا
مهلاً فديت أبا تمام تسألني كيف احتفت بالعدا حيفا أو النقب
إذا تبدت لنا الميراج تقصفنا سعت لتسقطها الصيحات والخطب
شجباً ونكراً وتنديداً بغارتها الله كم نددوا يوماً وكم شجبوا
كيف انهزمنا وما هذي بعادتنا سيخبر السيف عنا والقنا السلب
لأن من يرقص مع كوكب الشرق لا يصارع طائرات إسرائيل.
والمرأة المنتفضة في فلسطين -ونسأل الله أن تكون انتفاضتها إسلامية- من المسئول عنها؟ إنهم شباب الجزيرة العربية، يرفع الجهاد من هنا، وتخرج الكتائب من هنا، ويسال الدم من هنا.
فالمرأة تقول: وامعتصماه، والطفل يقول: وإسلاماه.
حضر قطز -وهو مولى- معركة عين جالوت، فأراد المسلمون الانهزام فخلع خوذته وداس بها الأرض, وزأر كالأسد وقال: وإسلاماه, فتحرك المسلمون وعادوا إلى المعركة، فقتلوا التتار في لحظة.
وقفت امرأة في سوق عمورية , غريبة مسلمة تشهد أن لا إله إلا الله وتصلي الصلوات الخمس، وتخاف الله, فأتى إليها رومي فضربها على وجهها، فقالت: وامعتصماه.
تنادي الخليفة العباسي في بغداد.
فضحك الرومي وقال لها: انتظري الخليفة المعتصم حتى يأتيك على فرسه الأبلق وينصرك، فذهب رجل مسلم فأخبر المعتصم , فانتفض في قصره وقال: والله لا يغشى رأسي ماء من جنابة حتى أذهب إليها وأنصرها بإذن الله، فخرج بجيش مسلم موحد، جيش يقوم الليل ويردد الأذكار، يقول أبو تمام:
تسعون ألفاً كأساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
وقد جاء المنجمون إلى المعتصم وقالوا: لا تقاتل هذا الشهر؛ لأن الأنجم السبعة والشهب السبعة تشهد أنك ستهزم في المعركة، فقال: كفرت بكم وبعلمكم، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله, توكلت على الله، حسبي الله ونعم الوكيل، فخرج فدكدك المدن واحدة واحدة، فلما انتصر قال أبو تمام للمنجمين: يا خرافيون يا متخلفون، يا من يعيش على الفكر العفن، أما انتصر؟
أين الرواية أم أين الدراية ما صاغوه من زخرف فيها ومن لعب
بهارج وأحاديث منمقة ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
فالنصر في شهب الأرماح لامعة بين الخميسين لا في السبعة الشهب
وعاد وانتصر لأنه حمل لا إله إلا الله.(149/6)
المجلة الخليعة
ويتمثل مرض الشهوات في المجلة الخليعة.
إن المجلة الخليعة أخذت وقت القرآن، ووقت الحديث النبوي، ووقت الكتاب الإسلامي، والشريط الإسلامي، وهذا معناه أن الإسلام ينسحب تدريجياً من الساحة, والمجلة الخليعة يوم تنتشر هذا الانتشار؛ معناه أن مرض الجنس العدوى الجنسية سوف تنتشر بين الشباب، والتأخير عن صلاة الجماعة، وعن التلهف لتاريخ الإسلام، والتكاتف لحماية مقدسات الإسلام، وعن كعبة المسلمين، ومسرى الرسول عليه الصلاة والسلام، إن من صالحنا أولاً ومن صالح بلادنا وأمتنا أن نعود إلى القرآن لينقذنا الله عز وجل.
يا أيها الفضلاء! ويا أيها النبلاء! إن هذا ليس بجديد عليكم, إن مسألة المجلة الخليعة لا بد أن يوجد لها بديل، أقولها بصراحة وأنا بين يدي مسئولين وأمراء وعلماء وطلبة علم يتفهمون القضية ويحرصون على خير الإسلام والمسلمين، نصبوا أنفسهم للمسئولية، وألقوا على عواتقهم تبعة لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويوم توجد المجلة الخليعة وأمثالها؛ معناه أن هذا القرآن يؤخذ وقته, ولا يحب ولا يقرأ, وأمة لا تقرأ القرآن عفى عليها الزمن، وأمة لا تتصرف بالقرآن ليست بأمة.
كنا نقاتل الناس والقرآن في يد والسيف في اليد الأخرى، فسلوا عنا الشعوب, لقد فتحناها بالقرآن وبالسيف.(149/7)
الأغنية الماجنة
مهما ترخص مترخص فإن الأغنية التي تحبب الوله والغرام والعشق؛ تهدم صرح الإسلام، يقول المغنون والمغنيات، وأنا لا أثرب على أحد، ولا أذكر أسماءً ولا هيئاتٍ، ولكني أعرض حقائق.
يقولون: هم أهل الحب والفن والجمال! لا.
بل نحن أهل الحب والفن والجمال، حبهم ليس حباً، وفنهم ليس فناً، وجمالهم ليس جمالاً، وهذه مقالة قد عرض لها أبو الحسن الندوي الداعية الكبير وغيره من أساطين دعاة الإسلام، فما هو الحب حتى نعرف الحب؟
الحب يعرفه القرآن: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111].
فالذي دفع هؤلاء هو الحب، وقال تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] قال ابن القيم: " ليس العجب من قوله (يحبونه) فالإنسان مجبول على حب من أحسن إليه".
إنسان يعطيك عشرة ريال أو يلبسك ثوبًا ربما أحببته, لكن الذي غمرك بالنعم ظاهراً وباطناً أليس هو الله؟ فليس العجيب أن تحب الله؛ لأنه أحسن إليك، لكن العجيب أن يحبك الله عز وجل.
الحب يصوره عبد الله بن عمرو الأنصاري أحد المجاهدين، يوم نزل في المعركة يوم أحد، فالتفت إلى السماء وقد تكفن في أكفانه، وأخذ طيباً وكسر غمد سيفه على ركبته، وقال: [[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى, اللهم إني أحب لقاءك فلا تردني من لقائك اليوم]].
سبحان الله!
وحضرت المعركة, فعلم الله أنه صادق، وأنه مخلص، وقتل في المعركة.
فقال عليه الصلاة والسلام لابنه جابر: {أتدري ماذا فعل الله بأبيك؟ -اسمع إلى كلمات الصدق والحرارة, وإلى الكلمات البديعات الرائعات- قلت: لا والله يا رسول الله.
قال: والذي نفسي بيده لقد كلمه الله كفاحاً -بغير حجاب وبلا ترجمان- فقال: تمنّ يا عبدي.
ويأتي هذا الرجل ويقول: يا رب, أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية.
قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمنّ، قال: أتمنى أن ترضى عني؛ فإني قد رضيت عنك} أليس هذا حباً؟ إنه والله لمن أعظم الحب.
أتى البراء بن مالك -أحد الصحابة- في معركة تستر , فلبس أكفانه وقال: [[يا رب, أقسم عليك أن تنصرنا وأن تجعلني أول شهيد فإني أحبك]].
فحضر المعركة فقتل وانتصر الإسلام، فهذا هو الحب.
يقول شوقي أمير الشعراء: الحياة هي الحب، والحب هو الحياة.
لكن لمن يريد أن يكون محبوباً وحبيبا، ويكون محبوبه الله تبارك وتعالى, وإلا فسوف ينتهي حبه، أما الحديث الذي وضعه الوضاعون المخرفون: {من أحب فعف فكتم فمات فهو شهيد} قال ابن القيم: لو كان سنده كالشمس لكان باطلاً كذباً موضوعاً.
أرجل يحب كأساً، وامرأة أجنبية محرمة يكون شهيداً؟ أي شهيد؟ أشهادة تيتو ونابليون وهتلر، شهداء الفن والمسارح والدعارة، شهداء الليالي الحمراء، أما شهداء محمد صلى الله عليه وسلم الذين يستشهدون من أجل لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.(149/8)
تخدير الهمم وتنويم العزائم
الأزمة الثالثة التي يتعرض لها شباب الإسلام؛ وهي مطروحة في الساحة وموجودة: تخدير الهمم وتنويم العزائم.
وهذه تروجها الصهيونية العالمية ممثلة في اليهود.
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
ألإسرائيل تعلو راية في حمى المهد وظل الحرم
أو ما كنت إذا الموت اعتدى موجة من لهب أو من دم
رُب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
إسرائيل صنفت مع الصهيونية العالمية وهي جزء منها، وهي تنشر مع هيئة الإذاعة البريطانية في حرب التفريق بين الخط المستقيم، خط العلماء والدعاة وطلبة العلم, والخط الآخر وقالوا: إنهم متطرفون.
لقد وجد المتطرفون في الساحة لكن ليس بهذه الصورة التي صنفتها إسرائيل، وليس بهذا الانتشار الذي أرادته إسرائيل وأعوانها, وجد التطرف من فجر الإسلام يوم أن قام الخارجي يعترض على الرسول عليه الصلاة والسلام, هذا هو التطرف، لكن أن تجعل الصحوة الإسلامية والدعوة إلى الله تطرفاً, فليس هذا بصحيح.
ونسأل أعداء الإسلام هؤلاء: ما هو التطرف؟
المحافظة على صلاة الجماعة تطرف!
قراءة القرآن وحفظه تطرف!
هجر الغناء وعدم إضاعة الوقت تطرف!
الدعاء وحب الصالحين تطرف!
الدعوة وتفهيم الناس وتوعيتهم تطرف!
لا والله ليس هذا تطرفاً, لكن هذا هو فعل أعداء الإسلام.
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
وهذا ما انتهجه أعداء الإسلام وأذناب أعداء الإسلام, من جعل رجال دين ورجال دنيا, وهذا غير موجود في الإسلام, هذا من الكنيسة يوم جعلت هناك رجال دين همهم الكنيسة لا يخرجون منها وينزوون فيها، لكن الإسلام يقول لك: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
فحياتنا وموتنا وليلنا ونهارنا لله رب العالمين، ويوم يوجد في أوساطنا أناس يسمون برجال الدين؛ حينها يكون هناك خصام نكد بين الناس، فنحن هنا وفي غير هذه البلاد من بلاد الإسلام، وكل من أشرقت عليه شمس لا إله إلا الله، كلنا نحمل لا إله إلا الله، ملكنا وأميرنا، ومسئولنا وعاملنا، وقاضينا، وكل واحد فينا يحمل لا إله إلا الله، لا نعفى من المسئولية، ولو اختلفت مشاربنا أو سائلنا أو أساليبنا، فمظلتنا لا إله إلا الله، يقول أبو تمام في الإسلام:
إن كيد ما مطرف الفؤاد فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الغمام فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلِّفُ بيننا دينٌ أقمناه مقام الوالد
من أتى بـ بلال الحبشي ليجلسه بجانب أبي بكر القرشي؟
من جاء بـ صهيب الرومي ليعانق عمر بن الخطاب الكعبي؟
من أتى بـ سلمان الفارسي ليكون أخاً لـ علي؟
إنه الإسلام, وإلا فقبل الإسلام كان أبو طالب وأبو لهب وأبو جهل ينظرون لـ بلال على أنه رقيق يباع كما تباع الدابة، لكن لما أتى محمد عليه الصلاة والسلام أعلن حقوق الإنسان، وكذب من قال إنهم يحفظون حقوق الإنسان, لم يحفظ حقوق الإنسان إلا محمد صلى الله عليه وسلم.
يموت أحد الأمريكان في غابة من غابات أفريقيا فيحتجون له, ويقيمون الدنيا ويقعدونها، ويجتمع مجلس الأمن، وتنعقد هيئة الأمم , وأما شعب أفغانستان وفلسطين فيدمر ويدكدك ولا احتجاج ولا اجتماع.
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر
وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر
فهذه الأمة هي التي أعلنت حقوق الإنسان، وأعلنها محمد عليه الصلاة والسلام، والشاهد من ذلك أن الحرب التي تتعرض لها هذه البلاد هي حرب شعواء, يتعرض لها دعاتها وعلماؤها ومسئولوها؛ حرب لا تزال تنزف حتى يتنبهوا إلى الخطر من الذي أنتجه؟ ومن الذي عرضه في الساحة؟ ومن المسئول عنه؟ هذه تساؤلات لا بد من الإجابة عليها.(149/9)
الحرب المعنوية وإحباط المساعي
العنصر الرابع من أزمات الشباب: الحرب المعنوية وإحباط المساعي.(149/10)
تعظيم المستعمر الكافر
الحرب المعنوية تتمثل في رؤية المستعمر برؤية عالية، فالإنسان الآن يتشرف أن يسافر إلى أمريكا , ونحن لا نقول: إن السفر حرام, فقد تكون له دواعٍ, لكنا نقول: لا تنظر إلى المستعمر هذا النظر الذي هالك وأعجبك وأدهشك وأذهلك، فأنت تسافر من أرض الحضارة.
من بلادي يطلب العلم ولا يطلب العلم من الغرب الغبي
وبها مهبط وحي الله بل أرسل الله بها خير نبي
هذه البلاد هي بلاد الأصالة, فلا يخطئ الإنسان بأن يرى المستعمر قوياً؛ بيده الصاروخ والقنبلة والطائرة؛ لأنهم كما قال الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].(149/11)
إحباط الكلمات الغير مسئولة
والإحباط الذي أصيب به ديننا إحباط الكلمات الغير مسئوله: الرجعية، التخلف، الدول النامية، العالم الثالث، كلها من السموم التي ألقيت في الساحة، حتى ننظر إلى أولئك أنهم متحضرون ومتطورون, يقول الأمريكي كريسي مرسون , في كتاب الإنسان لا يقوم وحده: أيها المسلمون! قدمنا لكم الطائرة والثلاجة والسخانة والبرادة، وما قدمتم لنا الإسلام.
إنهم يريدون الإسلام, إنهم بحاجة إلى الإسلام, إنهم يعيشون في ظلم, لقد طرحت أوراقهم وأحرقت في الساحة، لقد جربوا الرأسمالية فما أنتجوا شيئاً, وجربوا الشيوعية والاشتراكية , وهي تحت مظلة الشيوعية، وجربوا كل حل وكل شيء فما وجدوا خيراً لهم من الإسلام، وعاد أذكياؤهم وأساطينهم إلى الإسلام, في حين يذهب بلداؤنا وأغبياؤنا ليعلنوا عمق أولئك وأصالتهم.
أيطلب الشفاء من مريض؟!
أيطلب الطعام من جائع؟!
أيطلب الماء من ضامئ؟!
إن الخسارة كل الخسارة يوم أن نحتقر ما عندنا، إننا أمة نسير على أصول، أمة أصيلة وعميقة, يجمعنا جميعاً من الشرق إلى الغرب كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، قبلتنا واحدة، ونصلي في أوقات مرتبة، غنينا وفقيرنا سواء, ليس عندنا ألوان ولا تمييز عنصري، أما تلك البلاد فهي:
في بلد أفكاره منكوسة تثقله بصائر مطموسة
يقدسون الكلب والخنزيرا ويبصرون غيرهم حقيرا
ما عرفوا الله بطرف ساعة وما أعدوا لقيام الساعة
فهم قطيع كشويهات الغنم هزل وجد وضياع ونغم
من ضرب العمال في بولندا ومن أتى بالرق في يوغندا
من دمر البيوت في نجزاكي من ضرب اليونان بالأتراك
من الذي ناصر إسرائيلا حتى تصب عنفها الوبيلا
استيقظوا بالجد يوم نمنا وبلغوا الفضاء يوم قمنا
منهم أخذنا العود والسيجارة وما عرفنا ننتج السيارة
يذهب الرجل منا إلى هناك فينظر إلى المستعمر كأنه روح القدس, ويأتي إلى عالم من علمائنا وهو يشرح الروض المربع، فيقول: يا شيخ! الناس صعدوا إلى سطح القمر، وأنت تشرح الروض المربع، فقال له الشيخ: وأنت ما صعدت إلى سطح القمر ولا جلست معنا تقرأ الروض المربع.
ليته يوم أخفق في الصعود إلى سطح القمر درس معنا الروض المربع , لكنه من المذبذبين, لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
فيا أخي! أنت لن تصنع لنا صاروخاً ولا طائرة, ولا ثلاجة ولا برادة، فاجلس معنا، واقرأ في فتح الباري ورياض الصالحين وبلوغ المرام، أما أن تبقى لا داخل الحلبة ولا خارجها، فهذه قسمة ضيزى يتركها العقلاء.(149/12)
ضرورة استخدام الإحباط للمستعمر
إن الإخفاق والإحباط والحرب المعنوية أمر لا بد للمستعمر منه, وهو أمر يدرس ويوضع في الساحة, فمن الذي جعل أباريَّة يتهجم على السنة ويقول: هذه أحاديث لا يصدقها العقل؟ ومن الذي جعل فلاناً من الناس يقول: إن الإسلام لا يواكب العصر؟ ومن الذي جعل الثالث يقول: أؤمن بالقرآن وأما السنة فأطرحها؟ سبحان الله! {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].(149/13)
الاشتغال بالتوافه عن الأصول
تلك بعض أدوائنا وأزماتنا, وأشير إلى البعض الآخر باختصار:
أزمة الاشتغال بالتوافه عن الأصول، أو إشغال الوقت في غير ما خلق له الإنسان، ونحن نؤمن بالوسائل لكن لا نجعلها غايات، فالرياضة في الإسلام وسيلة وليست غاية، ولا مبدأ يوالى ويعادى عليه, ويحب ويبغض من أجله، إنما الذي يوالى ويعادى عليه هو الإسلام, فنحن هنا نعتبر الرياضة وسيلة, هذا هو رأي الإسلام، ويوم أن تجعل غاية معنى هذا أننا حطمنا رسالتها، وألغينا فاعليتها في الأرض؛ لأنها يوم أن تصبح غاية فسوف يوالي هذا هذا؛ لأنه من ناديه، ويلبس لونه ويسير في مسيرته, ويعادي ذاك ولو كان أخاه لأبيه وأمه.
فالمقصود أنها وسيلة ليس إلا، وهي الغاية لنربي أجسادنا على رفع لا إله إلا الله؛ لأننا أمة ينتظر منا أن نفتح العالم كل العالم، ليس الجزيرة فحسب بل العالم كله يتوجه إلى الكعبة خمس مرات في اليوم والليلة.
واسمحوا لي إن أكثرت من الشعر فهذا نادي الشعر والحب والأدب:-
يا أمة كم علقوا بكيانها خيط الخيال
وهي البريئة خدرها فيض عميم من جلال
شاهت وجوه الحاقدين بكف خسف من رمال
موت أتاتورك الدعي كموت تيتو أو جمال
يا أمة في عمرها لم تحي إلا بالجهاد
كفرت بمجلس أمن من نصب المنايا للعباد
القاتلو الإنسان خابوا مالهم إلا الرماد
جثث البرايا منهمو في كل رابية وواد
فالمقصود أن غايتنا من الرياضة أن نرفع لا إله إلا الله، كان ابن تيمية يصعد وينزل في جبل كسروان عصراً, فقالوا له: ما لك؟ قال: إنني أتقوى على الجهاد في سبيل الله، أما أن نقوي أجسادنا ثم بعد ذلك لا تكون هناك نتيجة ولا غاية فهذا ليس بصحيح.
من غاياتنا أن نتقوى على طاعة الله عز وجل, ومن غاياتنا أن ندخل بالرياضة إلى بلاد العالم وإلى قلوب الناس إذا حملنا الرسالة؛ لأن الناس إذا خرج أحد منا ومن أنديتنا ومنتخباتنا إلى العالم, قالوا: هذا خرج من بلاد مهبط الوحي، من الجزيرة، من مكان يستقبله كل يوم وليلة ألف مليون (مليار) مسلم, فإذا رأى الشاب علم أنه يحمل رسالة فما هي رسالتنا إلى الناس؟ رسالتنا ليست رياضة، رسالتنا لا إله إلا الله محمد رسول الله، لننقذ العالم وندخل بهذه الوسيلة ليعلم بنا العالم، ويجلس معنا ويستمع إلينا.
إن العالم ينتظر من أبنائنا وشبابنا وينظر إليهم نظرة الطموح والإيمان والحب، فهذا محمد إقبال شاعر الباكستان , أتى إلى هذه البلاد وطاف بالبيت العتيق, ورأى شباب الإسلام فما رأى كالذي سمع, كان يتصور أنه يجد شباب الجزيرة قوماً همهم حمل لا إله إلا الله، قوماً يتمنى الواحد منهم أن يموت في سبيل الله، قوماً يتلمظ الواحد منهم كالأسد متى يشرق دين الله تعالى على الأرض كلها، فبكى وأبكى وسجل قصيدته (تاجك مكة) يقول فيها وهي مترجمة:
نحن الذين استيقظت بأذانهم دنيا الخليقة من تهاويل الكرى
حتى هوت صور المعابد سجداً لجلال من خلق الوجود وصورا
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
فمن الذي أطفأ نار المجوس إلا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, يوم انطلقوا من الصحراء, ليس عندهم طائرات ولا دبابات ولا قنابل ولا صواريخ، يدخل ربعي بن عامر -أحد جنود الإسلام في الثلاثين من عمره- على رستم القائد الفارسي المجرم، فيقول له رستم وهو يضحك استهزاءً به, يوم أن رأى فرسه الهزيل وثيابه الممزقة ورمحه المثلم، قال له: يا ربعي , جئتم تفتحون الدنيا بهذا الفرس المعقور والرمح المثلم والثياب الممزقة.
فيقول ربعي كلمة كالقذيفة بل أقوى من القذيفة قال: [[إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]] وبدأت المعركة, وكان جيش كسرى مائتين وثمانين ألفاً، وكان جيش المسلمين ثلاثين ألفاً، وبعد ثلاثة أيام أخفق الإلحاد والزندقة والتبعية والتخلف وارتفعت لا إله إلا الله، وأصبح الشهداء يقدمون دماءهم إلى الله.
يقول سعد وهو يرى قصر كسرى الذي حكم فيه ألف سنة: الله أكبر, فانصدع القصر، فبكى سعد وقال: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِين * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِين} [الدخان:25 - 29].(149/14)
تضييع الأوقات
من الأزمات التي أشير إليها باختصار: تضييع الوقت.
الوقت غالٍ لكن عند غير المسلمين في الجملة, يقول صاحب كتاب دع القلق وابدأ الحياة: الأمريكان يقرءون أكثر من اثنتي عشرة ساعة في أربع وعشرين ساعة.
ويقول موشي ديان وزير الحرب الهالك الملعون: العرب قوم لا يقرءون.
فمن يقرأ إذا لم نقرأ نحن؟
ومن يطالع إذا لم نطالع نحن؟
أمه أصيبت بالملل والسأم, يقرأ أحدنا ساعة ثم يقول: إن لعينك عليك حقاً, ولنفسك عليك حقاً, ولأهلك عليك حقاً.
يشعر المسلم بالإجهاض والانهزامية يوم أن يقف أمام تراث من تراث المسلمين, فما لذلك الخواجة يركب الطائرة وهو يقرأ، وفي القطار يقرأ، وهو منتظر في صالة المغادرة يقرأ، فلماذا يقرأ؟
أيريد جنة أم يخشى ناراً؟
لا, ولكن لأنه يعرف قيمة الوقت، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم} [المؤمنون:115 - 116].
أمة تقدر الوقت، أمة تحسب للدقيقة حسابها، أمة ترى أن الليل والنهار يطويان العمر، فحينما نعرف قيمة الوقت يا شباب الإسلام, يا أبناء لا إله إلا الله, يا أحفاد من رفع لا إله إلا الله، إذا عرفنا قيمة الوقت أنتجنا، وعلمنا، وطالعنا، لنكون نحن في مقدمة الأمم، وفي المنزلة الأولى، نحن كما قال أبو فراس الحمداني:
ونحن أناسٌ لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر
إما أن نكون قادة العالم وعلماءه وأدباءه، وإلا فشهادة في سبيل الله، هذه أغلى الأماني التي يبحث عنها المسلم، أما حياة التبعية، وأن نعيش على هامش الأحداث، وأن يذهب الوقت سُدىً؛ لا مطالعة ولا ذكر ولا قراءة، فهذا ليس بصحيح، وأعظم ما يحفظ هي الصلوات الخمس, ويوم تترك الصلوات الخمس, فاعرف أنه الدمار والعار والشنار في الدنيا والآخرة، ويوم أن نتنازل عن الصلوات الخمس فهو الكفر البواح، ويوم نخل بالصلوات الخمس فاعرف أن رسالتنا قد أحرقت ورقتها في الساحة، وقد انتهت أصالتنا وعمقنا وانتصارنا وإرادتنا.
وما كل شيء يقرأ بل لا بد أن يكون المقروء شيئاً طيباً مثمراً مفيداً، والحمد لله مساجدنا ترحب بمصاحفها وآياتها البينات، ولكن نشترط على الجميع شرط أن يكونوا مؤمنين كما أسلفت، ليتقي الله إذا كتب في صحيفة، أن ينظر إلى نظر الله إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى, وليعلم أن الله يسأله يوم القيامة فيمَ كتب؟ ولماذا كتب؟ وعمن كتب؟ وليعلم أن هذه البلاد كما أسلفت بلاد قداسة، فليتق الله في هذه البلاد؛ فإنها بلاد لا إله إلا الله، أديباً رياضياً، شاعراً، قصصياً، لا نتفاوض معه حتى يؤمن بالله الذي لا إله إلا هو، وأما أن نجعل الدين في جهة, والأدب في جهة, والرياضة في جهة، فليس بصحيح، فهذه أمة مترابطة الأطراف، لابد أن تكون أمة رسالة وأمة معتقد، وأدبنا بالذات, ونسأل الله أن لايستغل مركب الإلحاد الرمزية المغرقة في الرمز، فإن سألنا أصحابها قالوا: إن وراءها أسرار لا تفقهونها أنتم، سبحان الله أنفقه شعر امرؤ القيس والمتنبي وأبي تمام ولا نفقه شعركم، أنعرف عمق إقبال وشوقي وهؤلاء القمم ولا نعرف شعركم، ما هو الشعر الرمزي المغرق في الرمزية الذي تفهمونه ولا نفهمه، فشعر وأدب وكلمة لا تفهمها الأمة ليس بأدب ولا شعر وكلام ولا عمق ولا أصالة، يا أمة الحب والطموح، يا أمة الرسالة الخالدة، أنا عرضت هذه الكلمة عرضاً مختصراً, ويكون في الأسئلة أجوبة على ما سوف يرد.
التحايا راسيات كالجبال والوفا أسرع من ريح الشمال
جئتكم بالحب صباً وافداً أنثر الأشواق في نادي الهلال
سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين, وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(149/15)
الأسئلة(149/16)
مشاركة الصالحين في النوادي
السؤال
هل تنصحون الشباب الصالحين أن يرتادوا هذه النوادي وأن يشاركوا فيها؟ وما واجبهم نحو ذلك؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أشهدكم أني أحبكم في الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ونسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كما جمعنا هنا أن يجمعنا في الجنة، في أرض الرحمة والغفران والسماح والعفو، أما بالنسبة للسؤال الذي تقدم به الأخ وهو قضية هل ينصح الشباب بدخول النوادي؟ فما من شك أنهم ينصحون، والأعمال بالنيات، وتختلف نية من أراد أن يدخل هنا، فإن أراد إصلاحاً وخير لهذه البلاد، ولمسار هذه البلاد، وهذا الوطن الغالي فمعناه أنه سوف يجعل رسالته الإسلام وحمل لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأبناء هذه النوادي أعضاءه ومنتخبه هم إخواننا وأحبابنا وأصدقاؤنا، لا يفرق بيننا وبينهم شيء, وليس بغريب أن نزورهم ويزوروننا, وأن يستقبلوننا ونستقبلهم بحفاوة وإكرام, فعلى من دخل أن يدخل بقصد أن يحمِّل الشباب رسالة، وأن يجعل الرياضة وسيلة لا غاية؛ لنكون مؤمنين منطلقين من أسس ومبادئ, نحمل مبادئ أصيلة وأهدافاً جليلة، وأخلاقاً جميلة، هي أهدافنا ومبادؤنا وأخلاقنا.
السؤال
فضيلة الشيخ: لماذا أهمل طلبة العلم هذه الأندية وتهاونوا بالمشاركة فيها, فهل لكم من كلمة حول هذا؟
الجواب
أولاً: لا يطلب من الناس جميعاً أن يكونوا علماء, ولو طلب منهم أن يكونوا علماء لتعطلت مصالح الناس, ولا يطلب منهم جميعاً أن يكونوا صناعين أو نجارين، أو خبازين، فحينها تتعطل الحياة، والله عز وجل قال: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60].
ومن حكمة الله عز وجل أن يجعل للإنسان طاقات, فهذا الشاب يمكن أن يجدي في هذا النادي وأن يقدم شيئاً وذاك يصلح للمسجد أن يكون خطيباً، وذاك يصلح أن يكون مفتياً، وذاك معلم في الفصل، وكل يعرف طاقاته وإمكانياته.
أما تأخر الشباب عن الأندية فما أعلم له إلا بعض الأسباب التي ربما أوافق عليها أو أنازع فيها, منها: بعضهم يشعر بالحرج في بعض مسائل قد تقع في بعض الأندية، وقد سمعت من أمثالهم يوم طرح هذا السؤال نخشى أن تؤخر الصلوات في بعض الأندية إذا حضرت المباراة، أو أن بعض اللباس قد لا يكون لباس شرعياً، أو أن هناك تحزبات وولاء وبراء عند الأندية تحدث الضغينة بين أبناء هذا البلد الواحد وهذا الوطن الواحد الذي يتحاب أبناؤه في لا إله إلا الله, هذه قد تكون مبررات لكن طرحت في الساحة، وسمعت هذا وسمع غيركم كثيراً ولعل القائمين على النادي يسمعون هذا.(149/17)
الجهاد الأفغاني
السؤال
فضيلة الشيخ: هل من كلمة لكم حول المجاهدين في أفغانستان لا سيما وأن إدارة النادي قد رأت أن تحدث الإخوة بجمع التبرعات لكي تصل إليهم بإذن الله -جل وعلا- وستكون التبرعات التي ستجمع هذه الليلة، وفي مباراة النادي يوم الخميس القادم، ستكون بإذن الله للمجاهدين في أفغانستان وللمتضررين من الفيضانات في السودان وللمجاهدين أصحاب الانتفاضة في فلسطين؟
الجواب
شكر الله لإدارة هذا النادي على هذه الخطوة الجميلة، المجاهدون الأفغان هم المجاهدون الأفغان، وأكبر تعريف للأعلام أن يسموا بأسمائهم:
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يعدو بي الأغر
قالت الصغرى أتعرفن الفتى قالت الوسطى نعم هذا عمر
قالت الكبرى وقد تيمتها قد عرفناه وهل يخفى القمر
المجاهدون الأفغان قوم التحفوا السماء، وافترشوا الأرض, ونازلوا الملحد الرعديد بطائراته وصواريخه ودباباته؛ ليقال له: ها نحن مسلمون نقاتلك بالأسلحة البدائية, فاجمع كيدك وشركاءك وتعال إلى الساحة لتنتصر.
المجاهدون الأفغان حطموا تلك القاعدة التي تقول: لا تغلب أمريكا ولا روسيا , أميثاق من السماء؟! أعهد نزل به جبريل عليه السلام؟! لا.
بل تغلب مرة وألف مرة؛ لأن من يحمل لا إله إلا الله محمد رسول الله, والذي يريد الموت ليدخل الجنة ذاك المنتصر, المجاهدون الأفغان الكلام عنهم طويل، ولي مقطوعة في المجاهدين أعرضها في هذه الجلسة:-
مروا بقلبي فقد أصغى له البانُ لي في حمى الحب أصحاب وجيران
نعم لك الله ما قد تبت من وله أما لكم صاحبي صبرٌ وسلوان
دع ذا وهات قواف منك صادقة لأمة مجدها بالأمس فينان
يا أمة النصر والأرواح أثمان في شدة الرعب ما هانوا وما لانوا
هم الرعود ولكن لا خفوت لهم خسف ونسف وتدمير وبركان
كم ملحد ماجن ظن الحقوق له زفوا له الموت مراً وهو مجان
وبلشفي أتى كالعير منتخياً رأى المنايا فأضحى وهو جعلان
ردوه كالقرد لو بيعت سلامته بشعبه لشراها وهو جذلان
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ
وأنا أهيب مع إدارة النادي بالجمع الكريم الحافل إلى التبرع للمجاهدين، فكأنك بدراهمك تقتل شيوعياً -إن شاء الله- أو تنقذ مسلما سودانياً جزاكم الله خيراً, وتقبل الله منكم أحسن ما تقبل من عباده الصالحين.(149/18)
قصيدة أمريكا التي رأيت والبازية
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد، نرجو منك التكرم بإلقاء أرجوزتكم التي قلتموها في رحلتكم إلى أمريكا، فهل تجيب الرجاء؟ ونرجو أن تسمعنا شيئاً من قصيدتك المسماة بالبازية، التي هي في والدنا وشيخنا الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز؟
الجواب
رحلة أمريكا كانت في مؤتمر الشباب العربي المسلم في أكلاهوما، وهذه حضرها ما يقارب خمسة آلاف شاب من أمثالكم، ومن أمثال طلعاتكم، كلهم -إن شاء الله- يحملون رسالة إلى الأمم لينشروا الإسلام في بقاع الأرض، وهذا الأرجوزة هي أشبه بأرجوزة هزلية فيها دعابة، وإلا فالجدية قد ذكرت بعض الأبيات منها أذكر مقطعين من الجدية ثم آتي بالهزلية:
ما زرت أمريكا فليـ ست في الورى أهل المزار
بل جئت أنظر كيف ند خل بالكتائب والشعار
لنحرر الإنسان من رق المذلة والصغار
وقرارنا فتح مجيد نحن أصحاب القرار
ورأيت أمريكا التي نسجوا لها أغلى وسام
قد زادني مرأى الضلا ل هوىً إلى البيت الحرام
وتطاولت تلك السنون فصار يومي مثل عام
أما الأرجوزة فهي كما تسمعون:
يقول عائض هو القرني أحمد ربي وهو لي ولي
مصلياً على رسول الله مذكراً بالله كل لاهي
قد جئت من أبها صباحاً باكراً مشارك لحفلكم وشاكراً
وحملتنا في السما طيارة تطفح تارة وتهوي تارة
قائدها أظنه أمريكي تراه في هيئته كالديك
يا سائل الأخبار عن أمريكا اسمع رعاك الله من يفتيكا
فهذي أخبار هذه النشره مسافة السير ثلاث عشره
من الرياض عفشنا ربطنا وفي نيويورك ضحى هبطنا
أنزلنا في سرعة وحطنا وقد قصدنا بعده واشنطنا
ثم ركبنا بعدها سياره مستقبلين جهة السفاره
منزلنا في القصر أعني ريديسون يا كم لقينا من قبيح وحسن
ومعنا في صحبنا العجلان أكرم به مع العلا جذلان
وصالح المنصور من بريدة يشبه سعداً وأبا عبيدة
والشهم عبد القادر بن طاشي ذو القلم السيال في انتعاش
فهوا أبونا في مقام الترجمة لأننا صرنا صخوراً معجمه
وبعدها زرنا مباني الكنجرس فلم نجد مستقبلاً ولا حرس
بها ملايين حوت من الكتب في كل فن إنه هو العجب
في بلد أفكاره مطموسه تثقله بصائر منكوسه
يقدسون الكلب والخنزيرا ويبصرون غيرهم حقيرا
ما عرفوا الله بطرف ساعه وما أعدوا لقيام الساعه
فهم قطيع كشويهات الغنم هزل وجد وضياع ونغم
فواحش قد أظلمت منها السما والأرض منها أوشكت أن تقصما
من ضرب العمال في بولندا ومن أتى بالرق من يوغندا
من دمر البيوت في نزاكي من ضرب اليونان بالأتراك
من الذي ناصر إسرائيلا حتى تصب عنفها الوبيلا
استيقظوا بالجد يوم نمنا وبلغوا الفضاء يوم قمنا
منهم أخذنا العود والسجاره وما عرفنا ننتج السياره
أما قصيدة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز فكلكم يعرف سماحته وهو علم لا يعرف ونحبه ونتقرب إلى الله بحبه، والعلماء يحبون في الله -عز وجل- خاصة أن الله أكسب هذا الرجل من المحاسن والفضائل ما هو جدير بالحب، وقد سبقت من شعراء في العالم الإسلامي بمدحه منهم المجذوب يوم يقول:
روى عنك أهل الفضل كل فضيلةٍ فقلنا حديث الحب ضربٌ من الوهمِ
فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سمعنابه في العلم والأدب الجمِ
فلما أَرَ بازاً قط من قبل شيخنا يصيد فلا يؤذي المصيد ولايدمي
وأما تقي الدين عالم المغرب فيقول:
خليلي عوجا بي لنغتنم الأجرا على آل باز إنهم بالثنا أحرى
وزهدك في الدنيا لو أن ابن أدهم رآه رأى فيه المشقة والعسرا
والبازية قلت فيها:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً (لك الله) قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي
يادمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل السافي
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم مابين منتعل منهم ومن حافي
مجالس اللغو ذكراهم وروضتهم أكل اللحوم كأكل الألطف العافي
وأنت جالست أهل العلم فانتظمت لك المعالي ولم تولع بإرجافِ
بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الطل في إسراقه الضافي
تشفي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم دراً غير أصدافي
إلى آخر القصيدة.(149/19)
التوبة والاستقامة
السؤال
فضيلة الشيخ: استقمت ثم انتكست ثم استقمت مرة أخرى ولكني فقدت حلاوة الإيمان التي وجدتها من قبل، وإن الشيطان -أعاذنا الله منه- يوسوس عليّ؛ لكي أرجع إلى الفساد وجلساء السوء, ويقول لي: إنه ختم على قلبك وإنك منافق تخادع الله.
وأريدك أن تخبرني بالأعمال التي تجعلني أجد حلاوة الإيمان وتذهب القسوة من قلبي، كما أريد أن تدعو لي ولإخوتي بالثبات؟ وسؤال مماثل أيضا نود أن نسمع من فضيلتك بعض نماذج لشباب كانوا مضربَ مثلٍ في التوبة والرجوع إلى الله؟
الجواب
السائل الأول يسأل أنه يستغفر ثم ينتكس، ثم يستغفر ثم ينتكس، وباب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، ومن قال لك ومن أخبرك: أنك تحرم التوبة فقد افترى على الله -عز وجل- والله -عز وجل- كما صح في صحيح مسلم من الحديث القدسي: {يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم} والله يقول في محكم كتابه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
يارب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة وما سقطنا لأن الحافظ الله
الله الله يا شباب الإسلام في مراقبة الواحد القهار، الله الله في العودة إليه، فإنه يعلم السر وأخفى, باب التوبة لا يزال مفتوحاً, وعند الترمذي بسند حسن: {يابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة}.
وعند ابن حبان حديث عائشة أن عبد الله بن حريب: {قال: يا رسول الله إني رجل مقراف للذنوب قال: تُب إلى الله واستغفره، قال: فأعود، قال: تُب إلى الله واستغفره، قال: فأعود، قال: تُب إلى الله واستغفره، قال: إلى متى يا رسول الله؟ قال: حتى يكون الشيطان هو المدحور}.
إنك لن تزال تخطيء لكن العجيب أن تتوب، أما الذي يهلك نفسه بالخطايا ثم لا يعرف لله قدراً ولا قيمة ولا مراقبة: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} [نوح:13 - 16] فيا إخوتي في الله! الله الله في محاسبة النفس والعودة إلى الواحد الأحد ليحمي علينا -سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- أبصارنا وأسماعنا ومجدنا وأصالتنا وكرمنا، وأسجل هذه الليلة وصية الرسول عليه الصلاة والسلام يوم دفعها ساخنة قوية لـ ابن عباس: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة}.
أما الأخ الذي سأل أن يعطى له نماذج، فأنا آخذ له على عجالة قطوفاً من رياض السنة.
سامحن بالقليل من غير عذل ربما أقنع القليل وأرضى
يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: {كان رجل فيمن كان قبلكم -من بني إسرائيل- أسرف على نفسه بالخطايا, فلما حضرته الوفاة؛ أمر أبناءه أن يجمعوا له حطباً وأن يحرقوه بالنار} كان موحداً مؤمناً بالله، لكن أسرف بالخطايا والمعصية والذنوب {ثم قال: فإذا أنا مت فأحرقوني بالنار واسحقوني وذروني علّ الله ألا يجدني} سبحان الله! الله لا يجده: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2].
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79].
سحقوه بعد أن أحرقوه, فأخذته الريح في كل مكان، فجمعه الذي أنشأه أول مرة: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ثم أصبح أمامه رجلاً والحديث في الصحيحين، قال: {يا عبدي ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك وخفت ذنوبي، قال: يا ملائكتي أشهدكم أني غفرت له، وأدخلته الجنة} فلا إله إلا الله كم من المغفرة، ولا إله إلا الله كم من الرحمة، ولا إله إلا الله كم من العطاء.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار
هذه وصية لكل مسلم, وهي معلومة باليقين والإجماع أن من تاب تاب الله عليه.
تأتي المرأة وقد زنت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فتقول: طهرني يا رسول الله! فيطهرها بالحجارة حتى تموت، فيسبها أحد الصحابة، فيقول عليه الصلاة والسلام: {لا تسبها والله إني أراها تنغمس في أنهار الجنة}.
سبحان الله! يا للعطاء ويا للرحمة ويا للفيض، ويا للجلال ويا لسعة رحمة الله, من يغفر الذنب إلا الله, من يستر العيب إلا الله, من يجازي على السيئة الحسنة إلا الله، لكن من يعرف قدر الله إلا عباد الله: {يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم} اللهم إنا نستغفرك من هذا المكان فاغفر لنا يارب العالمين.(149/20)
التوفيق بين الدعوة والمشاركة في الأندية
السؤال
فضيلة الشيخ: أنا أدعو إلى الله ولاعب في أحد الأندية، فكيف أوفق بين اللعب والدعوة؟
الجواب
للدعوة وقت وللعب وقت هذا أبو الطيب المتنبي أحمد بن الحسين يقول:
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
قد جعل الله لكل شيء قدراً، والدعوة لها وقت، تعرفه أنت ويعرفه الناس, وللعب وقت لكن بحدوده؛ أن لا يتعارض مع الفرائض ولا تؤخر له فريضة أو لا تعطل أمراً أهم، وأنت تدخل إلى النادي تدخل وفي ضميرك الدعوة إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقدوتك محمد عليه الصلاة والسلام.
حضر سوق عكاظ وخطب الناس ودعاهم، وحضر ناديهم في عكاظ وتكلم في النادي بخطبة ما سمع الدهر بمثلها، وما أنصت الزمان لخطبة تقرع قرعها، أو تنزل نزولها، محمد عليه الصلاة والسلام أتاه رجل بدين في جسمه، فأتى ينازله بوسائله ويطرح أوراقه معه في ساحة الدعوة, فيقول: لا أؤمن لك حتى تصارعني، أقوى أقوياء العرب, أكبر مصارع في العرب.
فقام له صلى الله عليه وسلم قال: إن صرعتك أتؤمن، قال: نعم، الرسول صلى الله عليه وسلم مستعد إذا كان هذا يخدم لا إله إلا الله وينفع لا إله إلا الله، ويعلي لا إله إلا الله، فله صلى الله عليه وسلم دور في هذا, فقام فأخذ هذا المصارع فحمله على الأرض حملاً ثم أوقعه على الأرض.
وقام الرجل غضباناً متحمساً لينازل رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- فصرعه مره ثانية، فقام ثالثة فأنزله الأرض فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل الإسلام لا يحتاج إلى شعر، لا يحتاج إلى فن ولا جمال لم يقل ذلك، أتى بالمنبر ونصبه في المسجد وقال: {يا حسان اهجهم وروح القدس معك}.
الرسول صلى الله عليه وسلم، استمع إلى الحبيب إلى القلوب يقول لـ أنجشه: {أُحْدُ لنا} فلما صدح صوته بلا وتر ولا ناي ولا موسيقا عزفت قلوب النساء، فقال: {رويدا يا أنجشه بالقوارير}.
الرسول صلى الله عليه وسلم حي العاطفة، قوي الإحساس، يتعامل مع كل من وضعته معه، ولذلك شكل من الصحابة جبهة أو جداراً لا يخترقهم الصوت، الإداري يضعه في الإدارة، الشاعر يضعه في الأدب، السياسي في السياسية، الاقتصادي في الاقتصاد، الفرضي في الفرائض، الداعية في الدعوة، هذا تصنيفه عليه الصلاة والسلام.
والذي أريد أن أقوله: لا تتحرج يوم تعلم أن في دخولك إلى نادٍ أو مكان دعوة وخدمة للإسلام، فإن الدعوة إذا مسكت المساجد، فالناس ما أتوا إلا يصلون، لكن أن نقوم على رءوس الناس والشيوخ والشيوبة صلوا صلوا فما جاء بهم إلا الصلاة, لكن قطيع الناس وشباب الأمة، وأجيال الأمة، الذين في الأندية، من يقف أمامهم داعيةً لبيباً كما فعل موسى عليه السلام، موسى يستعد أن ينازل كل من ينازله, لكن فرق بين المدعو هنا والمدعو هناك, فرعون شيخ الطغاة وأستاذ الضلال، وهنا مسلمون مصلون من إخواننا وأحبائنا، موسى ينازله في الديوان فيقول في الأرض، فيقول في الأرض، فيقول في البحر، فيقول في البحر، فنحن ندخل معهم, فيرحبون بنا فنعرض لهم دعوتنا ورسالتنا لنكون جميعاً حملة خير ورسل هداية.(149/21)
الواجب نحو المجلات الخليعة
السؤال
صاحب الفضيلة: ما هو واجبنا نحو المجلات الخليعة، وما تعليقكم على القرار النجيب الذي صدر من المجلس الأعلى للإعلام بمنع دخول ما يقارب ثلاثين مجلة من المجلات الهابطة الرخيصة؟
الجواب
هذا القرار قرار عصامي، يعني قرار إسلامي وهو يرفع الرأس ويشكر أصحابه, وندعو لهم في أدبار الصلوات: أن الله يهديهم ويسددهم، وليس بغريب على المسئولين أن يفعلوا ذلك، فهي رسالتهم ومهمتهم وتكليفهم أمام الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه المجلات التي كثرت في الساحة وقد أفسدت كثيرًا وأبطلت من الهمم والمساعي ما الله به عليم، والآن وقد أتى وقت سحبها فإلى غير رجعه:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
وعندنا من كتبنا وصحفنا ومجلاتنا الإسلامية ما تغطي الساحة والحمد لله.
أما نصيحتي نحو هذا: أن تقوم بواجب الداعية المسلم؛ الذي يريد الخير له ولبلاده ولشعبه ولأمته؛ حينها يسعدك الله في الدنيا والآخرة، ولتعلم أن هذا من الفساد الذي لا يرضاه الله عز وجل, فواجبك أن تنهى عنها وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والحمد لله على ما فعل حمد اً كثيراً.(149/22)
نصيحة لأصحاب الصحافة الرياضية
السؤال
فضيلة الشيخ: هل من كلمة إلى المعنيين بالصحافة الرياضية، حيث قد يبدر من بعضهم أحياناً شيء من الإسفاف تجاه البعض الآخر؟
الجواب
إن شاء الله أنهم على وعي تام، وعلى خلق نبيل ومروءة, وإن حدث هذا فهو من نقص البشر وذنوب العباد، ونصيحتي لهم في صفحتهم الرياضية، أن يدخلوا الإيمان أكثر، وأن يصوروا الغايات, وأن يفصلوا بين الغاية والوسيلة, وألا يجعلوا هنا ولاءً وبراءً على هذه الأمور أو خصاماً نكداً بين هذا وهذا، لأننا نسعى إلى غاية ولنا وسائل, فقضية أن نفرق بين هذا وهذا، هذا ليس بمنهج صحيح، والكلام الجارح لا يثمر شيئاً في عالم الرياضة، ولا عالم الدعوة ولا عالم العلم، إن الكلمة اللينة الحبيبة يوم يبعثها الكاتب والصحفي والأديب يحي الله بها قلوب الناس, وهو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحيا الشعوب والهمم والقلوب.
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
مقطوعة رباعية في الثناء عليه صلى الله عليه وسلم، والعجب يتملك كل مسلم حينما يقف أمام عظمته صلى الله عليه وسلم:
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام ولا علينا
ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلَّى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا
وفي أبها كان يشرفنا من أمثالكم، من الرياضي ومن غير الرياضي، ضيوف فجعلناها لهم قصيدة دائمة العضوية, تصلح لأي زمان ومكان هذه القصيدة نقول فيها:
ضيوف الخير قد شرفتمونا بلقياكم ربوع الجو طابا
فـ أبها من زيارتكم تباهت بثوب الخلد أطلقت الضبابا
كأن إشبيلية نقلت بـ أبها فأحيت في ضمائرنا الطلابا
وسار شذا العبير بكل وادٍ فعانق في تسربه الضبابا
وتبدو الشمس من خدر خجول وإن شاءت تكنفت السحابا
تطالعنا وراء الغيم تيهاً وإن شاءت تكنفت السحاب
فيا عصر الشبيبة دمت عصراً ويا عصر الصبا حي الشبابا
فإني سوف أذكرك اعتباراً إذا ضمر القنا والرأس شابا
وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(149/23)
هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة
إن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا في كتابه الكريم باتباع نبيه والاقتداء به في كل شيء: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) [الحشر:7] ومن ذلك الاقتداء به في أهم أمر من أمور الدين وهو الصلاة.
فقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) لذلك كان لزاماً علينا معرفة هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وهذا هو ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله في هذا الدرس.(150/1)
ضرورة معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على طريقة المحدثين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70].
موضوع هذا الدرس (هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة).
وقد سلف معنا في الأسبوع الماضي (وصف النار من صحيح الأخبار) وعلاقة هذا الموضوع بذاك، أنه لا ينجي المؤمن إلا الأعمال الصالحة، وأعظمها ورأسها وعمودها الصلاة، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام، عند البخاري أنه قال: {صلوا كما رأيتموني أصلي}.
إذاً كان لزاماً علينا أن نتعلم كيف كان هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة، واعلموا أني مستعين بالله في إيراد هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة قولاً وعملاً، على منهج المحدثين لأنهم أصوب الناس، وأعظم علماً وعملاً، وأخلصهم قلوباً، وأصدقهم إيماناً.
يقول ابن تيمية عن المناطقة والمحدثين: أما أهل الحديث فهم بمنزلة صحابة محمد عليه الصلاة والسلام، وأما أهل المنطق وأهل الفلسفة فهم بمنزلة المنافقين على عهده صلى الله عليه وسلم، وقال غيره كالإمام أحمد: إن لم يكن أهل الحديث هم الطائفة المنصورة فلا أدري من هم.
أهل الحديث همُ أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا(150/2)
موضوعات الدرس
وسوف يكون الحديث هذه الليلة في إحدى وعشرين مسألة:
1 - عظم الصلاة وفضلها.
2 - صلاة الجماعة.
3 - استقبال القبلة.
4 - التكبير.
5 - وضع اليدين على الصدر.
6 - الاستفتاح.
7 - قراءة الفاتحة.
8 - قراءة ما تيسر بعدها.
9 - الركوع.
10 - الرفع من الركوع.
11 - السجود.
12 - الجلوس بين السجدتين.
13 - التشهد الأول.
14 - جلسة الاستراحة.
15 - الإشارة بالسبابة.
16 - الدعاء في السجود.
17 - الدعاء قبل السلام.
18 - السكتات في الصلاة.
19 - السلام من الصلاة.
20 - الذكر بعد السلام.
21 - السنن الرواتب.
نسأل الله السداد والإصابة والإخلاص، وأبرأ إلى الله من الحول والقوة، وأسأله أن ينفعنا وإياكم بما نسمع وبما نقول.(150/3)
عظم الصلاة وفضلها
أما عظم الصلاة وفضلها، فقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال فقال: {الصلاة على وقتها} وعند الترمذي بسندٍ صحيح: {الصلاة في أول وقتها} وقال سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
قال شيخ الإسلام عند شرح هذه الآية في الأجزاء الأخيرة من الفتاوى: أخطأ عامة المفسرين في تفسير هذه الآية {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45] وقال: للصلاة فائدتان ومنفعتان، أحدها: أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، والثاني: أن في الصلاة يقام ذكر الله فيها، وذكر الله في الصلاة أعظم من نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر، وبعضهم يقول: ولذكر الله أكبر من كل شيء، لكن لا صلة في الآية ولا مناسبة.
وهذا صحيح، وهو من فهمه رحمه الله، أي: أن ذكرك لله في الصلاة أعظم من نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر، أي فائدة أن تذكر الله عز وجل في الصلاة أعظم لك أثراً من نفع الصلاة في نهيها عن الفحشاء والمنكر.
يقول: وأما حديث: {من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلا بعداً} فحديثٌ باطل لا يصح، بل من صلى وارتكب الفواحش أقرب إلى الله ممن ارتكب الفواحش ولم يصلِّ.
وأما في السنة فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الصلوات الخمس، والعمرة إلى العمرة، والجمعة إلى الجمعة، كفارات لما بينهن ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله} وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {بين المسلم والكافر ترك الصلاة} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر}.
قال ابن تيمية رحمه الله: لم يأتِ عنه صلى الله عليه وسلم تفريقٌ بين من تركها عامداً أو متهاوناً، لأن بعض الفقهاء -كما يدرس في بعض المدارس- يقولون: من تركها تهاوناً فهذا يستتاب، وأما من تركها عامداً فيقتل.
والمتهاون عندهم شيء، والعامد شيء، وهذا خطأ، فليس هناك متهاون ولا عامد، من ترك الصلاة فقد كفر، ما نقول: هل تركتها تهاوناً؟ ولا نسأله عن قلبه؟ ما تركها إلا بعد ما كفر بالله العظيم، فنمسح بالسيف على رأسه، هذا هو الصحيح، أما التفريق بين من تركها تهاوناً أو تكاسلاً أو عمداً فليس له أصل، لا من عند الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا الصحابة، ولا أئمة المسلمين، فليعلم ذلك، وإنما هو تقسيمٌ استحدثه بعض الفقهاء.(150/4)
صلاة الجماعة
صلاة الجماعة شرطٌ عند ابن تيمية، وواجبٌ عند فقهاء المحدثين، وسنةٌ عند مالك وأبي حنيفة والشافعي، والصحيحُ أنها واجبة إلا لعذر، لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] فهذا في صلاة الخوف، فكيف بصلاة الأمن؟! وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] وقول الرسول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناسٍ لا يشهدون الصلاة معنا، فأحرِّق عليهم بيوتهم بالنار} وعند أحمد بسندٍ جيد: {والذي نفسي بيده لولا ما في البيوت من النساء والذرية} فمنعه عليه الصلاة والسلام من إحراق بيوتهم ما فيها من النساء والذرية.
وجاء عند ابن ماجة والحاكم وأحمد وصححه عبد الحق الإشبيلي وابن تيمية، أنه صلى الله عليه وسلم قال: {من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر} وجاء عند مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الأعمى: {أتسمع حي على الصلاة حي على الفلاح؟ قال: نعم، قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة} أما حديث {لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد} فالصحيح عند كثيرٍ من المحدثين أنه موقوفٌ على علي رضي الله عنه وأرضاه.
وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبعٍ وعشرين} وفي رواية {بخمسٍ وعشرين}.
إذاً: صلاة الجماعة واجبة، يعزر من تركها بلا عذر، يؤخذ على يديه من قبل السلطان والإمام ومن القضاة، ويهجر ولا يزار ولا يجلس معه حتى يصلي في المسجد، وإذا سمعتم فتوى رخيصة تقول: صلاة الجماعة سنة، وللإنسان أن يصلي في بيته، فهذا -والعياذ بالله- بابٌ يفتح للمنافقين.
قال ابن مسعود كما في صحيح مسلم: [[ولقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافقٌ معلوم النفاق]] فكان الصحابة يرون من يتخلف عن صلاة الجماعة منافقاً معلوم النفاق.
وروى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان.
قال سبحانه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} [التوبة:18]} وهذا الحديث ضعيف، في سنده دراج بن أبي السمح عن أبي الهيثم، وروايته عن أبي الهيثم ضعيفة.(150/5)
استقبال القبلة
جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته: {إذا أردت الصلاة فتوضأ وأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة} قال سبحانه: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] قال الشافعي: من كان في الحرم فعليه أن يستقبل الكعبة، ومن كان في مكة فعليه أن يستقبل الحرم، ومن كان في الآفاق فعليه أن يستقبل مكة.
وهذا شيءٌ عجيب وفقهٌ طيب، يقبل ولا يعارض النصوص.
فاستقبال القبلة شرط إلا في صلاة النافلة على الراحلة في السفر، فتستقبل القبلة عند التكبير ثم لا يهمك أين توجهت بك راحلتك.
واستقبال القبلة يسقط إذا اجتهد العبد فصلى إلى غير القبلة، ثم بانَ له أنه صلى إلى غير القبلة، كأن يصلي في ظلمة، أو في صحراء، أو في سفر، لقول عقبة بن عامر: {صلينا مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما أصبح الصباح رأينا أنا صلينا إلى غير القبلة، فأنزل الله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] فلم نعد الصلاة} وهذا حديثٌ صحيح.
فاستقبال القبلة وارد مع القدرة، إلا من كان مريضاً لا يستطيع استقبال القبلة فهذا معذور، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وقال عليه الصلاة والسلام: {إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم}.(150/6)
تكبيرة الإحرام
التكبير عند أهل العلم هو الوارد وهو السنة، ولم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية الصلاة إلا (الله أكبر) لم يقل: الله أكبر كبيراً، ولم يقل: كبرتُ لله، ولم يبدأ بكلمة أخرى غير التكبير، فلم يقل الحمد لله، ولا سبحان الله، ولا لا إله إلا الله، وإنما قال الراوي: {ثم كبر} وكان يقول: الله أكبر، وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يجزئ إلا (الله أكبر) وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجزئك أن تقول أي ذكر، كأن تقول: سبحان الله، أو الحمد لله، لا إله إلا الله، أو أستغفر الله فإذا قلت ذلك انعقدت صلاتك، بل زاد في روايةٍ -رحمه الله- أن قال: لو كبر بالعجمية لأجزأه ذلك، كأن يقول: اشكمدرت، ونحوها.
وهذا مخالفٌ للنصوص، وقد نص المحدثون على أنه لا يصح هذا القول، وأنه مجانبٌ للصواب، ولا يجوز الأخذ به، وذلك لعموم أمره صلى الله عليه وسلم بالتكبير، وكان إذا كبر صلى الله عليه وسلم رفع يديه وقال: {الله أكبر} ولم يكن يضم أصابعه أو يفرجها، وإنما كان يجعلها على هيئتها وعادتها.
وأما رفع اليدين، فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي حميد {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفعهما إلى فروع أذنيه أو حذو منكبيه} وجاء عند البخاري ومسلم من حديث وائل بن حجر {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفعهما إلى فروع أذنيه} فكيف نجمع بينهما؟
قال بعض العلماء: أما أواخر الكفين فعند المنكبين؛ لحديث أبي حميد، وأما أطراف الأصابع فعند فروع الأذنين؛ لحديث وائل بن حجر.
فمن جعلها عند فروع الأذنين أجزأه، ومن جعلهما حذو منكبيه أجزأه، ومن رفعهما بين الأذنين والمنكبين أجزأه كذلك.
وهنا مسألة ذكرها ابن قدامة، وهي: هل تكبر مع الرفع؟ أو بعد الرفع؟ أو قبل الرفع؟ أصوبها أن تكبر مع رفع اليدين، وإن رفعت قبل التكبير جاز، وإن رفعت بعد التكبير جاز، ولكن مع التكبير هو الأصوب والأحسن، وهو هديه عليه الصلاة والسلام.(150/7)
كيفية وضع اليدين على الصدر
جاء من حديث وائل بن حجر: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر وضع يديه على صدره} ولفظه عند ابن خزيمة بسندٍ صحيح: {يضع اليمنى على اليسرى على صدره} وأصله في البخاري، ولكن ليس في البخاري بلفظ: أنه كان يضع اليمنى على اليسرى على صدره، وأما حديث علي عند أبي داود: [[من السنة وضع اليمنى على اليسرى تحت السرة]] فهو حديثٌ ضعيف، وهو رواية للحنابلة عملوا بها، والصحيح أنه ضعيف، والأصل أن توضع على الصدر، ولا ترفع رفعاً كما يفعل بعض الناس؛ لأن بعض الناس يحملهم التشدد في السنة إلى أن يخرجوا من السنة، حتى يقول ابن تيمية: بعض الناس هربوا من طرفٍ مجانب للسنة، فخرجوا من الطرف الآخر، المرجئة خافوا من مذهب الخوارج، فذهبوا فخرجوا من مذهب السنة إلى الإرجاء، والخوارج خافوا من مذهب المرجئة، فخرجوا من السنة وأهل السنة توسطوا، فلا تجعل يديك فوق الصدر ولا تحته، ولكن اجعلهما على الصدر، وسنة محمد صلى الله عليه وسلم هي الأصل.(150/8)
الاستفتاح
صح عنه صلى الله عليه وسلم في الاستفتاح أحاديث، ومن استفتح بشيءٍ منها صحت صلاته، منها: حديث أبي هريرة في الصحيحين قال: {يا رسول الله! سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟} وفي رواية أخرى: {يا رسول الله! بأبي أنت وأمي} أي: فديتك بأبي وأمي، وهو يستحق أن نفديه عليه الصلاة والسلام، وهو أسلوبٌ يستخدمه الصحابة للمصطفى عليه الصلاة والسلام، وقد قالها عمر لـ أبي بكر، كان يقول له: فداك أبي وأمي، والجاهليون كان يقول أحدهم للزعيم أو للسلطان: أبيت اللعن، أي أعوذُ أن أستجلب أمراً يوجب اللعن، أو أن أكرهك أو أغضبك، فاستبدلها المسلمون بكلمةٍ أطيب فقالوا: فديتك بأبي وأمي، وكان الجاهليون يقول أحدهم: عمت صباحاً، فاستبدلناها بقولنا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يقول النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني وتلك التي منهن قد كنتُ أنصبُ
فإنك شمسُ والملوك كواكبٌ إذا ظهرت لم يبد منهن كوكبُ
قال أبو هريرة: {فديتك يا رسول الله بأبي وأمي، ماذا تقول في سكوتك بين التكبير والقراءة؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد} وهذا هو أصح حديث في الاستفتاح، ويستفتح به المحدثون.
ويرى ابن تيمية وابن القيم أن أحسن استفتاح: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك؛ لأنه جمع تنزيهاً وتوحيداً وتسبيحاً وتحميداً.
ومن استفتح بهذا أو بذاك فقد أصاب، والأول جاء في الصحيحين، وأما الثاني فقد رواه مسلم بسندٍ منقطع، قاله الدارقطني وغيره، وقد وصله الدارقطني بسندٍ موصول، وهو صحيح.
وجاء عند مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا استفتح الصلاة قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرتُ وأنا أول المسلمين} قال أهل العلم: قال عليه الصلاة والسلام وأنا أول المسلمين، لأنه أول المسلمين، وأما نحن فنقول: وأنا من المسلمين.
وقد أورد ابن القيم في زاد المعاد استفتاحات أخرى، لكن هذه ثلاثة استفتاحات، حديث أبي هريرة في الصحيحين، وحديث عمر في مسلم، وحديث علي: {وجهت وجهيَ للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين} والرابع أورده ابن القيم في صلاة الليل، قال: {كان يسبح عشراً، ويحمدُ عشراً، ويكبر عشراً، ويهلل عشراً، ويستغفر عشراً} إلخ.
ومن صلى بلا استفتاح صحت صلاته، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: {أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه} فالاستعاذة واردة في حديث أبي سعيد الصحيح، وقالوا: النفث هو الشعر، والنفخ هو الكبر، والهمز هو الموتة، أي: الجنون قاله أبو عمر أحد الرواة.(150/9)
قراءة الفاتحة
صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال للأعرابي: {واقرأ ما تيسر معك من القرآن} أخذ بهذا الجمهور وقالوا: لا يجزئ إلا قراءة الفاتحة، وقال الأحناف: لو قرأ بأي شيءٍ من القرآن لأجزأه ذلك، والصحيح أنه لابد من الفاتحة، لحديث عبادة بن الصامت في الصحيحين: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {صلاةٌ لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداجٌ خداجٌ خداج} أي باطلة، وعند ابن حبان مصححاً وأبي داود والترمذي، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال للصحابة: {لعلكم تقرءون خلف إمامكم.
قالوا: نعم، قال: لا تقرءوا إلا بأم الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} وهل تقرأ وراء الإمام في الجهرية؟
لأهل العلم ثلاثة أقوال: القول الأول: لابد من قراءتها في السرية والجهرية وهو قول جمهور المحدثين.
القول الثاني: تُقرأ في السرية ولا تُقرأ في الجهرية خلف الإمام، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية.
القول الثالث: يكفيك قراءة الإمام في السرية والجهرية، وهو مذهب الأحناف.
والقول الأول هو الصحيح، أنك تقرأ بها في السرية والجهرية، فلا تسقط عنك الفاتحة على الصحيح، ولو قرأ الإمام، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} ولقوله: {فاقرءوا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب}.(150/10)
قراءة ما تيسر بعدها
وما تيسر من القرآن إما آية أو سورة أو الجمع بين سورتين، أو الأخذ من سور متفرقة من القرآن وقد توقفوا في هذا، وقد فعله بلال، وأقره عليه الصلاة والسلام في حديثٍ يقبل التحسين، كما ذكره الذهبي، أنه قال: {كلٌ كثيرٌ طيب} وكان يفعله خالد بن الوليد يوم صلَّى بالناس في غزوة، فقد قرأ بعض الآيات من سورة وبعضها من سورة وبعضها من سورة، وهذا خلاف الأولى لكنه صحيح مجزئ.
وهل لك أن تقدم بعض السور على بعض؟ كأن تقرأ -مثلاً- في الأولى (عمَّ) وفي الثانية (تبارك)؟ قالوا: هذا من تنكيس القرآن، وقد كرهه الأحناف، والصحيح عند المحدثين أنه جائز، وقد روى البخاري في الصحيح عن عمر أنه قرأ في الركعة الأولى سورة يوسف وقرأ في الثانية سورة يونس، وقد قال البخاري: من عاد إليه وجد ذلك.
فهو مجزئ، بشرط أن تكون الأولى أطول من الثانية.(150/11)
الركوع
قبل هذا اعلموا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرفع يديه في أربعة مواطن في الصلاة:
الأول: عند تكبيرة الإحرام.
الثاني: عند الركوع.
الثالث: عند الرفع من الركوع.
لحديث ابن عمر في الصحيحين {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه} هذه ثلاثة مواطن.
الموطن الرابع جاء عند أبي داود، وهو عند القيام من التشهد الأول للركعة الثالثة، فهي أربعة مواطن.
والأحناف قالوا برفعٍ واحد وهو عند تكبيرة الإحرام، ولذلك صلى أبو حنيفة إماماً بـ ابن المبارك المحدث، فكبر أبو حنيفة فكبر ابن المبارك ورفع يديه، فكبر ليركع فرفع ابن المبارك يديه، ولم يرفع أبو حنيفة، فلما سلم قال أبو حنيفة لـ ابن المبارك: خفتُ أن تطير بجانبي من كثرة ما رفعت يدك.
فقال ابن المبارك: لو أردت أن أطير لطرتُ في الأولى.
قال علي بن المديني: شيخ البخاري المحدث الكبير: من لم يرفع يديه عند الركوع والرفع منه، فقد أزرى بالصحابة.
وقال المروزي: رفع اليدين ثابتٌ عن الأئمة مجمعٌ عليه.
وكأن المروزي ما التفت إلى خلاف أبي حنيفة، والأمر ليس مجمعاً عليه؛ لأن أبا حنيفة يقول: الرفع عند تكبيرة الإحرام فقط.
فكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد الركوع قال: الله أكبر ثم ركع، فهصر ظهره، كما جاء في حديث أبي حميد في الصحيحين، برأسه عليه الصلاة والسلام، حتى لو وضع إناءٌ من ماء ما سقط منه شيء.
وكان يجعل يديه كالقابض على ركبتيه، ويقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، وورد عند أحمد -وقد ضعفها أحمد - زيادة (وبحمده) والصحيح أنها زيادة صحيحة، فقد صححها بعض المتأخرين.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: {سبوحٌ قدوس، رب الملائكة والروح} في الركوع والسجود، وكان يقول في الركوع والسجود كما في الحديث الصحيح عن عائشة: {سبحانك اللهم وبحمدك، رب اغفرلي} يتأول القرآن، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إني نهيت أن أقرأ القرآن وأنا راكع، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمنٌ أن يستجاب لكم} وهذا أمر معلوم، لكن لابد أن يتدارس وأن يتفقه فيه، ولعل الله أن ينفع من سمعه، لأن في بعض البيوت من لا يحسن الصلاة، وبعض العجائز تصلي جالسة، وبعض الناس لا يعرف الصلاة إلا تقليداً، من فاتته الصلاة فقد فاته الإسلام.
وهل يقول: سبحان ربي العظيم مرة واحدة؟
قال بعض الفقهاء: يجزئ مرة واحدة، وقال بعضهم: لا يجزئ إلا ثلاثاً.
والصحيح أنه يقولها المصلي ما استطاع، أو ما يقارب العشر مرات لحديث حذيفة: {كان يقولها صلى الله عليه وسلم عشر مرات} وصلى أنس وراء عمر بن عبد العزيز، فكان يقول (سبحان ربي العظيم) عشراً، فقال أنس: [[ما صليت وراء أحدٍ أشبه صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا]] يعني عمر بن عبد العزيز.(150/12)
الرفع من الركوع
أما الرفع فكان صلى الله عليه وسلم يقول: (سمع الله لمن حمده) ويرفع يديه، ثم يقول: (ربنا ولك الحمد).
قال ابن القيم: وردت (ربنا ولك الحمد) ووردت (اللهم ربنا لك الحمد) ولم ترد (ربنا لك الحمد).
والصحيح أنها وردت، وقد رد المحدثون على ابن القيم رحمه الله وقالوا: بل وردت أربع صيغ، ربنا ولك الحمد، ربنا لك الحمد، اللهم ربنا ولك الحمد، اللهم ربنا لك الحمد، فمن قال واحدةً منها فقد أصاب.
وقد ذكرنا أن من البدع المخالفة قول بعضهم: من قال: (ربنا ولك الحمد والشكر) فاعترض بعض المعترضين وقالوا: سبحان الله! كيف يعترض على أن نقول لله الشكر؟ أما أنعم الله علينا؟! كيف لا نشكر الله؟! ونقول: هذا رجلٌ جاهلٌ عارض الشرعية برأيه، والشريعة لم تأت بالآراء، قال علي رضي الله عنه: [[لو كان الدين بالرأي، لكان باطنٌ الخف أولى بالمسح من ظاهره]] إذاً الدين نقل، الدين من المعصوم صلى الله عليه وسلم: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} أقول: صحيح أن الله هو الذي أنعم علينا، والشكر هو لله تعالى، لكن لماذا تأتي بكلمة ما أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم؟ من الذي علمنا السنة إلا محمد عليه الصلاة والسلام!
إذاً قف حيث وقف القوم، وسر حيث ساروا، مع سيد القوم صلى الله عليه وسلم.
أما المأموم فإذا سمع الإمام يقول: (سمع الله لمن حمده) قال: (ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يوماً يقولها، فقال: {من قال هذا؟ فقال أحد الصحابة: أنا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: لقد رأيتها ابتدرها ثلاثون من الملائكة يكتبونها} وفي بعض الروايات أنها عضلت ببضعة عشر ما استطاعوا رفعها {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} [فاطر:10].
إذا رفع المسلمُ من الركوع فهل يعيد يديه إلى صدره، أم يرسلها، أم ماذا؟ وقد نشر في بعض الصحف الإسلامية والجرائد كلام لعالمين محدثين كبيرين، أحدهما يقول: لا يضم يده اليمنى على اليسرى لأنه مخالف للأصول، ويسميها بدعةً حجازية، والعالم الآخر الجليل يقول: الضم بعد الركوع سنة، وذلك إلحاقاً بهيئة القيام بالفاتحة، لأن لكل هيئةٍ هيئةً منه صلى الله عليه وسلم، فالأقرب أن يجعل اليمنى على اليسرى، وقد أصاب من قال هذا القول الأخير، فالأحسن أن يضم يده اليمنى على اليسرى على صدره، إلحاقاً بهيئة القيام بالفاتحة التي فعلها عليه الصلاة والسلام.(150/13)
السجود
أما السجود فكان عليه الصلاة والسلام، إذا أراد أن يسجد لم يرفع يديه، بل يقول: الله أكبر، ويبدأ بركبتيه ثم يديه، ثم ما ولي من جسمه، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيحين -: {أمرتُ أن أسجد على سبعة أعظم، على الجبهة وأشار إلى أنفه، وعلى اليدين، وعلى الركبتين، وعلى الرجلين} فهذه سبعة أعظم لابد من السجود عليها، قال بعض العلماء -وأصاب-: لو سجد على أنفه ولم يسجد على جبهته، فقد أخطأ وما سجد، ولو سجد على جبهته ولم يسجد على أنفه فقد أجزأته صلاته، والكامل والأولى أن يسجد على الأنف والجبهة لفعله عليه الصلاة والسلام.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سجد أمكن يديه من الأرض، وجافى يديه عن عضديه، واستقبل بأطراف أصابعه القبلة، وبعض الناس يجافي ولا يستقبل بيديه ولا رجليه القبلة، وهذا أخطأ، فقد كان صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي حميد: {يستقبل بأطراف أصابعه القبلة} وهو في الصحيحين.
وجاء عن البراء بن عازب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {ضع يديك وارفع مرفقيك} أي لا تفترش المرفقين، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفترش الرجل يديه كافتراش السبع.
قال الصنعاني في سبل السلام: نهينا عن هيئات، منها: هيئة الغراب، وهو نقر الصلاة كالغراب، ومنها: الالتفات كالتفات الثعلب، ومنها: البروك كبروك البعير، ومنها: تحريك اليدين بعد السلام كأذناب خيلٍ شمس، ومنها: افتراش اليدين كافتراش الكلب أو السبع، فلا يفترشها المسلم، بل يفعل كما فعل عليه الصلاة والسلام.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سجد قال: {سبحان ربي الأعلى وبحمده، رب اغفر لي} ودعا، وربما قال: {سبوحٌ قدوس رب الملائكة والروح} وربما قال: {سبحانك اللهم وبحمدك، رب اغفر لي} وكان يدعو كثيراً في السجود، كما في حديث عائشة عند مسلم، هذه أحواله صلى الله عليه وسلم في السجود التي نقلت إلينا، وقد جاء عند النسائي من حديث أبي ذر الغفاري بسندٍ جيد: {أن الحسن امتطى على ظهر الرسول عليه الصلاة والسلام} وهذا يستدل به بعض المحدثين على أنه يجوز أن يطول بعض السجود على بعض {فارتقى الحسن فطول عليه الصلاة والسلام في السجود، فلما سلم سألوه فقال: إن ابني ارتحلني فخشيت أن أرفع فأؤذيه، فمكثتُ حتى نزل} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وأيهما أفضل النزول على الركبتين أم على اليدين؟ يقول: ابن القيم رحمه الله في حديث أبي هريرة، الذي هو حسن على الصحيح ولو أن بعض أهل العلم اتهم السند: {إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليقدم يديه قبل ركبتيه} قال ابن القيم: في الحديث قلب في قوله: {وليقدم يديه قبل ركبتيه} ولكن قد جاء عند الحاكم من حديث وائل بن حجر، وقد ذكره شعيب الأرنؤوط: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم ربما قدم يديه قبل ركبته} فما موقفنا من ذلك؟ الأصوب أن تقدم الركبتين قبل اليدين، لحديث وائل وغيره من الأحاديث، والأصل في ذلك أن يبدأ الإنسان بالأقرب فالأقرب إلى الأرض، وأما حديث الحاكم فسنده صحيح، وربما فعله صلى الله عليه وسلم مرة من المرات، لكن تقديم اليدين قبل الركبتين فيه نكارة في الهيئة، وليس بصحيح.
إذاً نقول: الصحيح والذي تطمئن إليه النفس هو تقديم الركبتين على اليدين عند النزول، وهو فعل الرسول عليه الصلاة والسلام غالباً، أما ما ورد عند الحاكم فهو نادر.
وقول ابن القيم أنه لم يقل به أحد من أهل العلم.
غير صحيح بل قال به الأوزاعي والبغوي، وجمٌ غفيرٌ من المحدثين، وكان ابن عمر رضي الله عنه يقدم يديه قبل ركبتيه.
فالخلاف في المسألة مشهور بين العلماء.
خلاصة المسألة: أن الأصوب والأولى تقديم الركبتين، ومن بدأ بيديه فقد أجزأته صلاته، وما ارتكب أمراً محرماً، والمسألة أسهل من ذلك، أن يختلف فيها المحدثون كثيراً، أو يكثر فيها الخلاف، كالجهر بالبسملة، وضم اليدين بعد الركوع، هذه من المسائل التي يتنازع فيها الأئمة، والأمر كما يقول ابن تيمية في أصول الفقه: ما ينبغي أن يعنف على المخالف فيها.
فالمسألة أوسع من ذلك.(150/14)
الجلوس بين السجدتين
أما الجلوس بين السجدتين فقد كان عليه الصلاة والسلام يقول: الله أكبر، ويجلس، وقال للمسيء في صلاته: {ثم اجلس حتى تطمئن جالساً} وما أعرف أنه يصح في الدعاء بين السجدتين إلا حديثان اثنان: الأول حديث حذيفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: {رب اغفر لي رب اغفر لي رب اغفر لي} والثاني: حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، كان يقول: {رب اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني} وفي بعض الألفاظ {واجبرني} ولا أعلم ألفاظاً أخرى صحت.
وبعضهم يقول: اغفر لي ولوالدي والمسلمين أجمعين، هذا لا بأس به لكنه لم يرد في هذا الموضع، وبعضهم يقول: رب اغفر لي، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، هذا الدعاء يكون خارج الصلاة، أما داخل الصلاة فلم يصح إلا حديثان اثنان: حديث ابن عباس وحديث حذيفة.
أما الإشارة بالسبابة، بين السجدتين، فقد قال بها بعض العلماء المتأخرين؛ وذلك إلحاقاً لها بالتشهد.
وقال بعض العلماء من أهل الحديث الأثريين: الإشارة بالسبابة بين السجدتين روايةٌ شاذة، لأن الإشارة بالسبابة عند الدعاء في التشهد، أو عند التشهد في التحيات فقط.
والذي أرى -والله أعلم- أن الإشارة بالسبابة بين السجدتين غير صحيحة، ومن أشار فله ذلك، ولكن السنة أن يمد أصابعه ويستقبل بها القبلة، ويقول: رب اغفر لي رب اغفر لي رب اغفر لي لحديث حذيفة، أو رب اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني، أو واجبرني، لحديث ابن عباس الصحيح.
والبغوي يرى أنها سنة، وقد ذكرها في الجزء الأول من حديث وائل بن حجر وهذا هو الكلام الذي أتى به الألباني وغيره من أهل العلم، لكن قال العلماء: السنة ما نقلت إلا في هذا النقل من حديث وائل، بينما الأحاديث العامة الواردة في صفة صلاته عليه الصلاة والسلام لم ترد بهذا.
على كل حال أقول: الذي يظهر لي حسب ما راجعتُ وما رأيتُ أن الإشارة بين السجدتين غير صحيحة، وهذا هو الأقرب -إن شاء الله- للأحاديث، كحديث أبي حميد الساعدي، وحديث أبي هريرة، ولكن لا يعنف على من أشار، وكما قال بعض العلماء: إن الإشارة منه صلى الله عليه وسلم عند التشهد، ولا تشهد بين السجدتين.
الأمر الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يشير بأصبعه في التشهد، وجاء عند الترمذي بسند حسن عن سعد أنه كان يشير في التشهد بأصبعين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أحدٌ يا سعد} ولو لم يكن فيها خلاف ما أوردتها.(150/15)
التشهد الأول
كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يتشهد التشهد الأول المعلوم لديكم، وهو: (التحيات لله والصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).
بعض المحدثين يكتفي بهذا القدر، وبعضهم يرى الصلاة الإبراهيمية في التشهد الأول، والأحسن أن يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم باختصار، فيقول: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم ينهض.
وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم كان في التشهد الأول مسرعاً مستعجلاً كأنه كان على الرضف، ثم يقوم ناهضاً وكان عليه الصلاة والسلام يشير بأصبعه في التشهد.
وهل يحرك إصبعه عند الإشارة بها في التشهد أو لا يحركها؟
لأهل العلم في ذلك ثلاثة أقوال:
القول الأول: يشير بها ولا يحركها في التحيات جميعاً.
القول الثاني: يحركها عند التشهد.
القول الثالث: بعضهم يحركها عند الدعاء، والأقرب أنه يحركها عند التشهد لأنها علامة الوحدانية، لحديث سعد أنه كان يشير بالإصبعين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أحد يا سعد} وكان صلى الله عليه وسلم إذا تشهد أشار بأصبعه.
وأما قول الفقهاء لا يحركها روايةٌ منكرة، ليست بصحيحة، بل قال المحدثون: يشير بها إذا أراد أن يتشهد ويحركها، كما كان يفعل عليه الصلاة والسلام، وينظر إليها.
والأمر أهون من أن يختلف عليها، فإن البعض قد يعنف على الآخر ويقول: لابد أن تحركها كل التحيات.
والأمر أهون من ذلك، وهذه المسائل خلافية لا ينازع ولا يعنف عليها.(150/16)
جلسة الاستراحة
جاء في حديث مالك بن الحويرث في الصحيح: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في وترٍ من صلاته، لا ينهض حتى يستوي جالساً} فما موقفنا من جلسة الاستراحة؟ هل هي سنة أم لا؟
وقد سألتُ سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذه المسألة، وذلك لأن ابن القيم تحدث عنها بكلام طيب، وهي أن للعلماء فيها ثلاثة أقوال: منهم من قال ببدعيتها، وقد أخطأ، ومنهم من قال: إنها سنة في كل صلاة، ومنهم من قال: تفعل أحياناً.
قال الشيخ ابن باز: تفعل أحياناً.
وهذا هو الأقرب، فتفعلها أحياناً، وتتركها أحياناً، ولا تلزم الناس أن يفعلوها.
وقد جاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينهض للثانية أو الرابعة، جلس جلسةً خفيفة ثم نهض أما من قال ببدعيتها فهو المبتدع، ومن قال: تفعل في كل صلاة، فليس بصحيح ولكن الأقرب والأوسط أن تفعل أحياناً لهذا الحديث، وهو خلاصة جلسة الاستراحة.
وأنا أعرف أن بعض المحدثين يقولون بفعلها دائماً، ونقول لهم: افعلوا ما شئتم.
خذا جنب هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريقُ
والأمر أوسع من ذلك.(150/17)
الدعاء في السجود
ومعنا حديث ابن عباس الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {إني نهيت أن أقرأ القرآن وأنا راكع، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمنٌ أن يستجاب لكم} أي: حريٌ وقريبٌ أن يستجاب لكم وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، فاجتهدوا في الدعاء، فقمنٌ أن يستجاب لكم}.(150/18)
الدعاء قبل السلام
وهذه المسألة قد بحثها بعض العلماء وقالوا: هل تدعو بما ورد أم لك أن تدعو بما شئت؟ هل لك أن تقول قبل السلام -مثلاً-: اللهم اغفر لي ولوالدي وللمسلمين أجمعين، اللهم ارزقني رزقاً حلالاً، ونجح أبنائي في الدارسة واغفر لهم، أم أنه لابد أن تتقيد بالدعاء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس، وسهل وأبي هريرة وعائشة: {اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وعذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات} وغيرها من الأدعية؟
قال بعضهم: لك أن تدعو بما شئت.
وهذا هو الصحيح إن شاء الله، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين، في حديث ابن مسعود: {ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فليدعُ} قالوا: أعجبه: أي أقربه وأحسنه، ولحديث أبي هريرة في الصحيح {أن رجلاً أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فسأله الرسول عليه الصلاة والسلام بم يدعو، فقال: أسأل الله الجنة، وأستعيذ به من النار، أما دندنتك ودندنة معاذ فلا أحسنها.
فقال: حولهما ندندن} يعني حول هذا الكلام ندور.
فأقره عليه الصلاة والسلام على ذلك، ولو قلنا: إنه لابد أن يقيد بالألفاظ التي أتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لأفسدنا صلاة الناس، لأن أكثر الناس يدعون بأدعية من عند أنفسهم لم ترد نصاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وورد في الحديث الصحيح: أن ذا الخويصرة الأعرابي أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فصلى معه، فلما انتهى من الصلاة وأراد أن يسلم، قال ذو الخويصرة: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، ثم سلم، فقال صلى الله عليه وسلم: من الداعي آنفاً؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يعرفه غالباً، لكن لم يكن يتعمد أن يشهر بالناس، بل كان يوري، فقال: أنا يا رسول الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لقد حجرت واسعاً} أي: إن رحمة الله وسعت كل شيء، ثم قام هذا الأعرابي فما لبث أن بال في المسجد!! في قصة طويلة.
فالمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر عليه تحجيره للرحمة، ولم ينكر عليه الدعاء من حيث هو، ما قال له: لقد استحدثت دعاءً وإنما قال: تحجرت رحمة الله، وكان السلف يدعون في صلاتهم بأمور لم تأتِ عن الرسول صلى الله عليه وسلم كأن يدعو الإنسان بتسهيل أموره، أو برزقٍ حلالٍ أو مباح على كل حال، فليتخير من الدعاء أعجبه إليه فليدعُ وحولهما ندندن، هذا هو الأصل في المسألة، إلا بقطيعة رحم والعياذ بالله، أو بتعدٍ في الدعاء، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث سعد: {إن أقواماً يعتدون في الدعاء والوضوء} فلا يعتد الإنسان في الدعاء، كقول بعضهم: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة.
ولا بقطعية رحم، كأن يقول: اللهم عذب فلاناً من أقاربه، ولا بإثم كأن يقول: اللهم دمر المسلمين، أو افعل بهم، نعوذ بالله من ذلك.(150/19)
السكتات في الصلاة
هناك سكتةٌ صحت عند البخاري ومسلم، وهي في حديث أبي هريرة: {بأبي أنت وأمي يا رسول الله؛ أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة} هذه هي أصح السكتات.
السكتة الثانية: قبل الركوع.
فقد جاء عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: {حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين: إذا استفتح القراءة قبل أن يقرأ، وقبل أن يركع إذا انتهى من القراءة} قال بعض المحدثين، ومنهم الشيخ الألباني: هذا حديث مضطرب، وبعض المحدثين يحسنه، والأقرب أنه حديثٌ حسن، فالسكتات إذاً سكتتان.
أما السكتة الثالثة التي ناقش عليها الفقهاء، ولم ترد في الحديث، فهي التي ذكرها ابن القيم في زاد المعاد، وهي بعد أن ينتهي الإمام من قراءة الفاتحة، فيسكت سكتة خفيفة حتى يقرأ المأموم الفاتحة.
والصحيح أن هذه ما ورد فيها نص من المعصوم عليه الصلاة والسلام، وإن سكت الإمام فهو الأقرب، وذلك ليقرأ المأموم سورة الفاتحة، لكني ما أعرف حديثاً صحيحاً ينص على أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يسكت بعد قوله: ولا الضالين آمين، حتى يقرأ المأموم الفاتحة، ومن يعرف في ذلك دليلاً فليخبرنا به، وليفدنا به لنستفيد جميعاً، إنما المعروف الذي ناقش عليه العلماء هو في بداية الصلاة، وفي نهاية القراءة قبل الركوع، وابن القيم لما قال: لعله يسكت ليقرأ المأموم؛ لم يأت بحديثٍ في ذلك.
وأما السكتة الثانية، التي قبل الركوع وبعد الانتهاء من القراءة، فهي سكتةٌ سهلة لترداد النفس.(150/20)
السلام من الصلاة
كان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا انتهى من الصلاة أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وقد قال بعض الفقهاء لا يقول وبركاته، ولكن قد صح عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: وبركاته، وربما قال: السلام عليكم ورحمة الله فحسب، وربما قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته مرةً ويتركها مرة.
وهي زيادةٌ صحيحة ثابتة، قال بها المحدثون.
وربما اكتفى صلى الله عليه وسلم بتسليمةٍ واحدة، لكن الذي أعلم أن ذلك في النوافل وقيام الليل، وقد صلى بعض المشايخ ببعض الناس -كما سمعنا من بعض العلماء- في فريضة، فسلم تسليمةً واحدة ثم سكت، فلاموه، قال: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سلم تسليمة واحدة، لكن الذي نعرفه أن هذا في النافلة، ولا ينبغي التلبيس على الناس في مثل هذه الأمور التي ما عرفوها، وقد قال المحدثون: الواحب تسليمة واحدة، والثانية سنة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم، عند أبي داود بسندٍ صحيح: {مفتاحها الوضوء وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم} فلا بد من تسليمة وجوباً، والثانية سنة.(150/21)
الذكر بعد السلام
لم يكن من هديه عليه الصلاة والسلام إذا سلم أن يقول بعد السلام مباشرة: الله أكبر، مع أنه قد قال بهذا بعض المشايخ، وكتب لي بعضهم رسالة يعنفني، وهو أجل وأعلم مني وأفضل، لكن كلٌ يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب ذاك القبر عليه الصلاة والسلام، فإنه المعصوم، ولا يمكن أن نسمع لقول أحد إلا من يأتينا بآية أو حديث.
يقول هذا الشيخ الفاضل العلامة: يقال بعد السلام: الله أكبر.
والصحيح -إن شاء الله- أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم قال: أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله وهو مستقبل القبلة، ثم يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
ثم يلتفت إلى الناس عن يمينه وربما يلتفت عن يساره، قال ابن مسعود: [[لا يجعل أحدكم حظاً للشيطان من صلاته، يرى أنه لا يلتفت إلا على اليمين، لقد رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يلتفت كثيراً -أو كما قال- عن يساره]] ويقول أنس بن مالك: [[أكثر ما كان يلتفت الرسول صلى الله عليه وسلم عن يمينه]] فإذا قابل الناس أتى بالدعاء المأثور والأذكار، ومنها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، اللهم لا مانع إلا لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
وحديث أبي هريرة الصحيح المعروف {وتسبح ثلاثاً وثلاثين، وتكبر ثلاثاً وثلاثين، وتحمد ثلاثين وثلاثين} وأما قوله: {وتكبر أربعاً وثلاثين} فقد جاء عند الترمذي عن علي، لما علمه النبي صلى الله عليه وسلم هو وفاطمة الذكر عند النوم.
أمَّا بَعْد الصلاة فيقول: لا إله إلا الله، تتمة المائة، أما قراءة آية الكرسي بعد الذكر فقد أوردها ابن القيم، وقد روى النسائي في السنن الكبرى بسندٍ فيه ضعف، عن أبي أمامة أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت}.
قال ابن القيم وقد تكلم عن ضعف الحديث: ورأيت شيخنا ابن تيمية يقرأ آية الكرسي.
وقد سألت سماحة الشيخ الوالد ابن باز، فقال: يقرأ آية الكرسي بعد كل صلاة.
وأما ضعف الحديث فهو من فضائل الأعمال، وقد ذكره ابن تيمية في المجلد الثامن عشر من الفتاوى، قال الإمام أحمد: إذا أتى الحديث في الحلال والحرام تشددنا، وإذا أتى في الحلال تساهلنا.
والتساهل في الحديث الضعيف يكون بثلاثة شروط:
الأول: ألا تعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله.
الثاني: ألا يكون شديد الضعف.
الثالث: أن تؤيده قواعد وأصول الإسلام.
فهذا الحديث تؤيده قواعد؛ لأن آية الكرسي من الذكر، ومن فضائل الأعمال، وليس بضعيف شديد الضعف، إن شاء الله.
وقراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] بعد كل صلاة، رواه الطبراني كما أورده ابن حجر في بلوغ المرام، ولكنه حديثٌ ضعيف، ومن قرأها فلا بأس إن شاء الله.(150/22)
رفع اليدين في الدعاء بعد الصلاة
وقد أثيرت هذه المسألة كثيراً، ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم أن يرفع يديه في الدعاء بعد الصلاة، فلم يفعله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الأخيار، قال ابن القيم: من داوم على ذلك فقد ابتدع، و {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} بل كان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الدعاء بعد الصلاة، فقد جاء في سنن أبي داود بسندٍ صحيح: {يا معاذ إني لأحبك، لا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} قال ابن تيمية: الدبر قبل السلام، ودبر الشيء منه، ودبر الحمار فيه.
وقال ابن حجر في الفتح: أخطأ ابن تيمية لما قال: دبر الصلاة قبل السلام، بل الصحيح أنه بعد السلام.
والحق مع ابن حجر، والله أعلم.
ولو أن محبة ابن تيمية أكثر من ابن حجر!! لماذا؟ أولاً: حب من الله لمنزلته في الإسلام.
الأمر الثاني: أن ابن تيمية سلفي العقيدة، وابن حجر كان يؤول بعض الصفات، ويجب أن ننزل الناس منازلهم، فنترحم على ابن تيمية ونترحم على ابن حجر، ونسأل الله أن يجمعنا ب ابن تيمية وبـ ابن حجر في دار الكرامة، لكن الحق -إن شاء الله- في هذه المسألة مع ابن حجر؛ لأن الدبر خارج الصلاة، ومن دعا قبل السلام فقد أصاب، ومن دعا بعد السلام فقد أصاب، والمسألة سهلة.
وقد انتقد ابن حجر على ابن تيمية ثلاث مسائل فأصاب فيها:
منها هذه المسألة والمسألة الثانية: يقول ابن تيمية: لم يؤاخِ الرسول صلى الله عليه وسلم بين الصحابة إلا في المدينة.
وقد آخى بين بعضهم في حديثٍ صحيح في مكة.
المسألة الثالثة: قال ابن تيمية: لم يأتِ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال في التشهد: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنما كان يقول: اللهم صلِّ على محمد يقول: وبارك على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وإذا قال وعلى آل محمد ما يأتي بالأخرى.
قال ابن حجر: بل أتت في الطبراني، وساق الأحاديث بالأسانيد الصحيحة، فصح كلامه.
وربما أتى المفضول بشيءٍ أعظم مما يأتي به الفاضل، وذهب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بالكمال، وإنما تأتي هذه الأمور من العلماء ليظهر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بها كماله عز وجل.
ولا تتعجبوا أن يختلف بعض طلبة العلم من المبتدئين من أمثالنا والمقصرين، فقد اختلف الأئمة، كالإمام مالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة، ولـ ابن تيمية رسالة اسمها: رفع الملام عن الأئمة الأعلام.
وقد اعتذر فيها للأئمة الأربعة لما اختلفوا في بعض المسائل ولغيرهم، وأتى من الأعذار أن بعضهم بلغه الحديث وبعضهم لم يبلغه، وبعضهم يكون الحديث عنده منسوخاً، وبعضهم يكون عنده ثابتاً، وبعضهم يصح عندهم الحديث وبعضهم لا يصح، وبعضهم يفهم غير الفهم الذي فهمه ذاك، وغيرها من الأعذار.
فأقول: قد يكون كثير منكم من يخالف في المسائل التي ذهبت إليها، فلا يعنف أحد على أحد، وله أن يذهب إلى ما رأى وربما يكون قوله هو الأصوب، وقد قيل لـ ابن تيمية: لماذا لم تؤلف في الفرعيات؟ فقال: الفروع سهلة، وأي رجلٍ عمل بما قاله بعض أهل العلم فقد أصاب.
ولكن الأصول هي المهمة، وهي العقائد.(150/23)
الأسئلة(150/24)
حكم هجر العاصي
السؤال
ما حكم من التزم فترة ثم انتكس، وصار يترك الصلاة ويحلق اللحية، ويستمع إلى الغناء، ولا يحضر مجالس الذكر، وإذا وعظته لم يسمع الكلام؟ هل يجوز مصاحبته إذا كان يسمع لي في بعض الأحيان أم يجب هجره، وأرجو أن توضح كيف أهجره؟
الجواب
أولاً: يا أخي! عليك أن ترى ما هي الحكمة في هذا الرجل، إن كان ما وصلته البينة والدعوة، وما وصلته النصيحة، وما أظهرت له الأحكام، فإني أوصيك أن تبين له، وتدعوه بالتي هي أحسن، فإذا أقمت عليه الحجة وانتكس فاهجره، والرسول عليه الصلاة والسلام ما كان يهجر أهل المعاصي حتى يرى أنهم وصلتهم البينة، فإذا وصلتهم البينة هجرهم، وإلا فهو ما هجر الكفار في أول الطريق حتى دعاهم إلى الله، فما دام أنك قد دعوته وبينت له، ونصحته ووعظته فأعرض، فأرى أن تهجره ليرتدع، وقد قال ابن تيمية في باب الهجر: المسلم يكون حكيماً في مثل هذه الأمور، فإذا رأى أن الهجر أفضل هجر، وإذا رأى أن التأليف أفضل ألف.
ولذلك بعض المذنبين لم يهجرهم صلى الله عليه وسلم، كمن يكون عنده شوكة وقدرة، فإن بعض الناس الوجهاء إذا هجرته ما يبالي بك، سواء هجرته أو لم تهجره، فلو تحببت إليه وتألفت لنفعته، وبعض المعرضين يخاف إذا هجرته، كأن يكون لك هيمنة أو مكانة عنده، فهذا تهجره، وتعجبني كلمة لـ ابن تيمية أذكرها كثيراً، يقول: ليس الذكي هو الذي يعرف الخير من الشر، بل الذكي الفطن هو الذي يعرف خير الخيرين وشر الشرين.
فوصيتي لك إن كنت قد بلغته وأسمعته فتهجره ليرتدع، لكن مع ذلك تتواصل معه بالنصائح والوسائل والأشرطة الإسلامية والكتب، علّ الله أن يهديه.(150/25)
ما الحكم إذا كان الزوج لا يصلي
السؤال
ذكر أن له أختاً متدينة وهي تحت زوجٍ لا يصلي، وإن صلّى صلى بعض الأحيان في المسجد، وأكثر الأوقات ينقرها نقراً كنقر الغراب، يقول: ماذا يفعل، وأبوه لا يوافقه على أخذ أخته من زوجها، مع أنها تحب زوجها وتحب أن تمكث معه؟
الجواب
أقول: أنت أديت ما عليك: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] وأرى أن تهجر هذا الزوج، حتى يرتدع، وتهجر هذه الزوجة حتى تقوم بما أمرها الله به ما دام أن زوجها لا يصلي فكيف تبقى معه؟! هي أخطأت وشاركته في الإثم، وكذلك عليك ألا تيئس من روح الله، وأن تدعو لهم، بالهداية، هذا ما أراه في هذه المسألة.(150/26)
حكم ذكر النوادر والفكاهات في المسجد
السؤال
إنك تذكر في بعض المجالس أنت وغيرك من بعض طلبة العلم، بعض النوادر والفكاهات لتضحك الناس، فهل هذا وارد؟ مع أننا نخاف إذا أكثرنا الضحك أن تخرج الملائكة من المسجد، وهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف يضحكون في مجالسهم؟
الجواب
أنا أقصد من هذا تشويقاً وتسهيلاً للنفوس، وتغييراً لجو المجلس، فإن كنت مصيباً فالحمد لله، وإن كنت أخطأت فأستغفر الله، وأسأل الله أن يغفر لي ولكم، وقد ورد حديث لـ جابر بن سمرة بسند صحيح {أن الصحابة كان يجلسون مع الرسول عليه الصلاة والسلام في المسجد بعد الفجر، فيتحدثون في أخبار الجاهلية فيضحكون، وهو يتبسم عليه الصلاة والسلام} فأنا لا أرى بأساً بالفكاهة المقتصدة، بشرط ألا يكثر منها وألا تكون كذباً، وألا يكون فيها فحش أو مجون أو بلاء، هذا ما أراه.
وقد خففت منه والحمد لله، بعد ما أرسل لي بعض العلماء وطلبة العلم رسائل في هذا الجانب، ورأينا أنه يؤلف بعض الشباب المعرضين، وكاتب الرسالة قد لا يحتاج إلى تأليف، لكن بعض الناس ما يمكن أن يترك مجلس المسرحية، والمسلسل، والأغنية، والمجلة، وملعب الكرة، والحديقة، ويجلس في مجلسي، وأنا آتيه بجدٍ صارم من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، فجعلنا شيئاً من هذا، وهذا منهج سلكه بعض أهل العلم، فقد سئل عالم في مثل هذا فقال: نظرت إلى الأخذ بالعزائم والرخص، فوجدت أن الأخذ بالرخص لأنها أرفق بالناس، والله المستعان.
وأدلكم على كتاب: القصاص والمذكرين، قال ابن الجوزي في آخره: ولا بأس للمذكر والواعظ أن يأتي ببعض الطرائف والنكت ليشوق النفوس.
وابن الجوزي ليس برسول، لكنه عالم يؤخذ من كلامه ويرد.(150/27)
ما الحكم إذا كان لك جار لا يصلي
السؤال
لي جارٌ لا يحضر صلاة الجماعة في المسجد، ولقد نصحته فلم ينتصح، فما هي الوسيلة التي أعملها معه؟
الجواب
ما دام أنك نصحته وأقمت عليه الحجة فأرى أن تهجره، وألا تستجيب دعوته، وألا تزوره إلا لفائدة الدعوة، وألا تستزيره.
جارٌ لا يصلي بلا عذر في المسجد، فكيف تؤاخيه وتشاربه وتؤاكله؟! لأن الصلاة في المسجد واجبة، وتركها علامة للنفاق.(150/28)
حكم تخطي الرقاب
السؤال
هل يجوز أن يأتي الرجل متأخراً إلى المسجد ثم يتخطى الصفوف؟
الجواب
تخطي الصفوف بدون أن ترى مكاناً ليس بوارد وهو من الإثم، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل يتخطى الصفوف: {اجلس فقد آنيت وآذيت} أي تأخرت وآذيت الناس، لكن قال الحنابلة كما في زاد المستقنع قالوا: إلا أن يجد فرجة لا يصل إليها إلا بأن يتخطى الصفوف فله ذلك، لكن الأحسن يا أخي إن كنت تريد الصف الأول فأتِ مبكراً، أما أن تتخطى الصفوف فلا يجوز لك، لا في الجمعة، ولا في الدروس، ولا في غيرها.
وبعض الناس تجده في الأخير، يدافع ويناطح ويصارع حتى يصل إلى الصف الأول، ليكتسب أجر الصف الأول، وهو قد ضيع من الأجور واكتسب من السيئات ما الله به عليم، وهذا مثل ما تفعل بعض النساء، تذهب مع السائق لتصلي التراويح، فيقال لها: حنانيك، خففي على نفسك، ضيعتِ من الفرائض والواجبات أعظم من هذه النافلة، تخرج متزينةً متجملةً متعطرةً متبرجةً، تخلو بأجنبي، ثم تركب معه في السيارة، وتذهب لتصلي معه صلاة التراويح وهي نافلة!! وقد ورد في السنن {أيما امرأة استعطرت ثم مرت على قوم ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا} يعني زانية.
على كل حال، على الإخوة ألا يتخطوا الصفوف، ولا يؤذوا المسلمين، وجلوسهم في الأخير من الرفق بالمسلمين أحسن لهم مع إيذاء المسلمين، ولو كان في الصف الأول.(150/29)
حكم سنة الفجر
السؤال
بعض الناس من أهل القرى يصلون أكثر من ركعتين بعد أذان الفجر، فما نصيحتكم؟
الجواب
السنة إذا طلع الفجر ألا تصلي إلا ركعتين، فقد جاء في الحديث: {إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر} أورده عبد الرزاق في المصنف، وذكره ابن حجر في بلوغ المرام، فالسنة إذا طلع الفجر ألا تصلي إلا ركعتين ثم الفريضة، أما قول ابن حجر: يصلي ركعتين تحية المسجد، وركعتين سنة.
فقد خالف المحدثين في ذلك، وأخذ بالظاهر، وهذا خلاف السنة، فالسنة أن تصلي ركعتين فحسب، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] في الركعة الأولى بعد الفاتحة، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في الركعة الثانية بعد الفاتحة، هذا هو الصحيح.(150/30)
حكم من فاتته ركعتا الفجر
السؤال
من فاتته الركعتان اللتان قبل الفجر، فماذا يفعل؟
الجواب
لأهل العلم قولان:
قالت المالكية: يصليها بعد طلوع الشمس، لحديث الترمذي {من فاتته الركعتان فليصلهما بعد أن تطلع الشمس} وهو حديثٌ ضعيف لا يستدل به، والرأي الصحيح، أن يصليها بعد صلاة الفجر مباشرة، لحديث قيس بن عمر ويسمى قيس بن فهد قال: {صليتُ مع الرسول صلى الله عليه وسلم ولم أصل قبل صلاة الفجر ركعتين، فلما صلَّى قمتُ لأقضي الركعتين، فرآني وقد لاث به الناس، فقال لي: {آلصبح أربعاً؟ قلت: يا رسول الله! إني ما صليت الركعتين قبل الفجر، قال: فنعم إذاً} فأقره على قضائها بعد الفجر.
وقد أورد الشيخ الألباني رحمه الله في إرواء الغليل، أن رجلاً من العوام دخل في عهد سعيد بن المسيب إمام التابعين، إلى المسجد بعد أذان الفجر، فكان يصلي ركعتين ويسلم، ثم يزيد ركعتين وهكذا، فقال له سعيد بن المسيب: اتق الله، خالفت السنة.
فقال الرجل: لا يعذبني الله لأني أصلي له.
يريد أن يعارض برأيه، فقال ابن المسيب: لا يعذبك الله لأنك تصلي، ولكن والله ليعذبنك الله لأنك خالفت السنة!! الأمر ليس مزايدة، ولا مناهبة، الأمر سنة، ركعتان فقط.(150/31)
خطر الاستهزاء بالعلماء والدعاة
السؤال
ما رأيكم فيمن كذب العلماء، واستهزأ بهم، ولم يعترف بهم؟
الجواب
هذ الأمر يوجد عند بعض الناس الذين في قلوبهم نفاق، وهؤلاء من أهل الشبهات والشهوات، يتهجم على العلماء وطلبة العلم! وقد يصل ببعضهم إن كان يقصد الدين والكتاب والسنة إلى الكفر: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فمثل هذا يصل به إلى درجة الكفر، إذا استهزأ بالعلماء بسبب أنهم يحملون الشريعة والكتاب والسنة.
وأنا أقول لهؤلاء المستهزئين المستهترين: اتقوا الله، ويلكم من الله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين} [البقرة:14 - 16].
فوصيتي باحترام العلماء والمشايخ ومعرفة قدرهم، وأنت يا مستهزئ اعلم أنك لا تزال في الحضيض، حتى تعرف قدر العلماء وطلبة العلم، وهم ليسوا بمعصومين، وربما أخطئوا وأذنبوا، فأحسن من ذلك أن تناصحهم أو تكتب إليهم أو تسألهم، ولحوم العلماء مسمومة.
غفر الله لي ولكم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(150/32)
قذيفة العصر
سورة (العصر) اشتملت على السبيل الذي من تمسك به نجا ومن تركه هلك، وهي على قصرها تحمل في طياتها معانٍ عظيمة لمن تدبرها.
وفي هذا الدرس المبارك يقف الشيخ حفظه الله وقفات بديعة مع هذه السورة العظيمة.(151/1)
إعجاز القرآن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عنوان هذه الدرس "قذيفة العصر"، ويعلم الله لقد فكرت اليوم في سورة العصر, وفي معالمها وأحكامها وأضوائها وإشراقاتها, وأردت أن يكون حديثها هو هذه الليلة, ونورها نور هذه الليلة، حتى قرأها فضيلة الشيخ أحمد الحواش في صلاة المغرب, فتواردت الأفكار واتسقت الخواطر على أن تكون هذه السورة هي درسنا هذه الليلة, وهي كلام الواحد الأحد الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] الكلام الذي لم يبلَ على كثرة الترداد, ويزداد عمقاً وأصالة وإبداعاً وإشراقاً, يقول شوقي عن هذا الكلام:
آياته كلما طال المدىجدد يزينهن جلال العتق والقدم
أتى على سفر التوراة فانهزمت فلم يفدها زمان السبق والقدم
ولم تقم منه للإنجيل قائمة كأنه الطيف زار الجفن في الحلم
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن كلامه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن كلامه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
فما هي هذه السورة؟
وما مضمونها؟
وماذا تريد؟
بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] فهذان سطران أعجزا البشرية.
وقد تحدى الله الناس أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن, قال أهل العلم: كسورة العصر أو الكوثر, لكنهم ما استطاعوا، جرّب ذلك بعض الملاحدة والفلاسفة والزنادقة والمعطلة فباءوا بالفشل.
فمن ذلك الكندي الطبيب الفيلسوف: قرأ قوله تعالى في أول سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] , فقال: أنا أستطيع أن أنظم مثل هذا, فدخل بيته وأغلق بابه وأخذ القلم والقرطاس وجلس يكتب فأيبس الله يمينه, فما رفعها إلى فمه مرة ثانية, لأن هذا الكلام لا يمكن أن يأتي به البشر، فكلام البشر كالبشر, وفضل كلام الله على كلام البشر كالبون الذي بين الخالق والمخلوق, فتعالى الله علواً كبيراً أن ينال كلام الناس كلامه, أو أن يكون هناك تناسب أو نسبة بين كلامه وبين كلام الناس.(151/2)
تفسير قوله تعالى: (والعصر)
{وَالْعَصْرِ} [العصر:1] الواو للقسم، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه, وليس للمخلوق أن يقسم إلا بالخالق, فالله أقسم بالليل وما أدراك ما الليل إذا سجى، وأقسم بالضحى, والفجر, والقارعة والطامة والصاخة, وأقسم بالشمس والقمر, وأقسم بالنفس, وأقسم بكثير من الآيات الكونية, وأجاب عن القسم.
والله عز وجل أقسم ليقرر كثيراً من المسائل في عقول الذين لم يصدقوه إلا بالقسم.
يقول الأصمعي -وقد ذكرها ابن قتيبة وابن عبد ربه في العقد الفريد -: "سافرت وأنا في طريق الحج, فسمعت قارئاً يقرأ قول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23] قال: فبكى الأعرابي فقال: من الذي أحوج الجليل حتى يقسم؟ " يقول: من الذي في هذه البشرية وهذه البرية أحوج الله حتى يحلف، ألا يرضون إلا بقسم؟! ولا يصدقون إلا بيمين؟! من الذي أحوجه حتى حلف سُبحَانَهُ وَتَعَالى؟
إنهم البشر.
إنها العقول التي ما استفاقت على الوحي, وما عرفت طريقها إلى الله، إنها العقول التي عبدت الحجر والوثن.
إن جدي وجدك قبل الوحي كانوا يجمعون التمر ويسجدون له، فإذا جاعوا أكلوه, جدي وجدك قبل الرسالة كان يبول الثعلب على أصنامهم ويسجدون للصنم.
أتى واحد منهم إلى صنم في جهينة ليسجد له, فخرج ثعلب من وراء الصنم فهربت ناقته وسقط من على الناقة, قال:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ففرقنا سعد فما نحن من سعد
وأتى آخر من أجدادنا الوثنيين قبل الإسلام, فوجد ثعلباً يبول على حجر وهو يعبد هذا الحجر, قال:
أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب
فلما أتى عليه الصلاة والسلام أخرجني وأخرجك، وأخرج أبي وأباك، وأخرج جدي وجدك, كانت أنوفنا في التراب حتى أتى من الغار بـ (اقرأ).
اقرأ فأنت أبو التعليم رائده من بحر علمك كل الناس يغترف
إن لم تصغ منك أقلام معارفها فالظلم ديدنها والزور والتلف
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الأمي الذي لم يحمل قلماً ولا طبشورة ولا وقف عند سبورة, ولا عرف جامعة ولا كلية: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
كانت الأمة ميتة فنفخ الله فيها هذا القرآن فأصبحت مبصرة, فمن يتصور أننا قبل الإسلام في جزيرة العرب نصيد الضباب ونرعى الإبل والبقر والغنم، وبعد خمس وعشرين سنة نتكلم على منبر قرطبة , ونؤذن في منائر إشبيلية , ونسجد لله في الحمراء , ونصلي في سيبيريا ونفتتح الهند والسند , من يصدق؟!
وهذا إنما كان بالوحي.(151/3)
حكم القسم بغير الله
{والعصر} [العصر:1] أقسم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, وليس لأحد -عند أهل العلم- أن يقسم بغيره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولو أن الجاهليين أقسموا بغيره، وقد قال زهير:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم
ولكنه وثني, لكن اسمع إلى الذين تربوا في الإسلام ولم يعرفوا أدب الشريعة, يقول المتنبي:
فومن أحب لأعصينك في الهوى قسماً به وبحسنه وبهائه
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه
فهو يقسم بمحبوبته!
فهذه العقول إذا ما توجهت للوحي ولم تعرف القبلة, أصبح معبودها هواها: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23] انظر إليه كيف بلغ به الحال أن يقسم بمحبوبته، وهذا واقع.
وهذا مجنون ليلى عند المقام في البيت العتيق يقول:
أتوب إليك يا رحمن مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوب
وأما من هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوب
فهو عند المقام ويقول: من كل شيء أتوب, أما ليلى هذه فلا تحدثني فيها, وأتوب من كل ذنب إلا من زيارة ليلى وحب ليلى , وذلك لأنه لم يتوجه للوحي, ولم يعرف طريقه للقيامة.
وجميل بثينة طلب منه قادة التابعين أن يجاهد في سبيل الله ليبيع دمه من الله, على العقد الذي أتى به جبريل، قال:
يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد
قال: لا أريد إلا النساء, ولا أريد إلا الغزل, فتجد كثيراً من الناس لما انتكسوا وارتكسوا لم يعرفوا إلا الغناء والوله والضياع والعبث, فما عرفوا طريقاً, وما سددوا هدفاً.
{والعصر} [العصر:1] أقسم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وله أن يقسم بما يريد, والمقسِم هو ويقسم بشيء، وجواب القسم سوف يأتي.(151/4)
معنى العصر
له عند أهل العلم معنيان:
1 - قيل: هو الزمن, فإنه يسمى عصراً, فالزمن هذا الذي نعيشه نحن وعاشه آباؤنا وأجدادنا من ملة آدم عليه السلام، وهو العصر.
2 - وقيل: هو وقت العصر المعروف، أي: وقت صلاة العصر في النهار, وهو العشي من آخر النهار.
والظاهر أن الأول أولى, فإن هذا جزء من ذاك.(151/5)
أهمية الوقت
وقد أقسم الله به لعظمته, فإنه عمرك, وحياتك, وهو دقائقك وثوانيك, وهذا الزمن عظيم والله عز وجل يحاسب الناس يوم القيامة على الزمن والعمر فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:112 - 116].
والصلتان السعدي الشاعر المصقع ذكر له الجاحظ في كتاب الحيوان أبياتاً في الزمن والعصر, يقول:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كرّ الغداة ومرّ العشي
فهو يقول: أخذ الملوك والمملوكين والرؤساء والمرءوسين هذا الصباح وهذا العشي.
أشاب الصغير وأفنى الكبير كرّ الغداة ومرّ العشي
إذا ليلة هرمت يومها أتى بعد ذلك يوم فتي
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجات من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
فهل سألتم أهل القبور: هل أكملوا حوائجهم في الدنيا؟
منهم من دعا لوليمة فمات قبل أن يحضر ضيوفه, ومنهم من عقد على امرأة ولم يبن بها, ومنهم من دخل في دراسة ولم يكملها, ومنهم من عمر عمارة ولم يسكنها، فماتت معهم أغراضهم في نفوسهم.
وقد قرأت هذا اليوم لخليفة عباسي اسمه الظاهر , كان سفاكاً ذبح من العلماء والوزراء وفعل ما الله به عليم, ومات وعمره ست وأربعون سنة، أصابه خوانيق في حنجرته, فأخذ يصيح ويخور مثل الثور ويقول:
يا كوكباً ما كان أقصر عمره وكذا تكون كواكب الأسحار
فهو يقول: ما أقصر عمري!
والخليفة المعتصم لما حضرته الوفاة تقلب وبكى وقال:"والله لو أعلم أن عمري قصير ما فعلت ما فعلت من الذنوب والخطايا".
فبعض الناس يظن أن الموت لا يدرك الشباب, فالله يقرر الزمن لأهله, فيقول: {والعصر} [العصر:1] فهذا الزمن الذي نعيشه هو حياتنا وهو على أحد ضربين: حياة السعداء وهي في طاعة الله, وحياة الأشقياء وهي في معصية الله, ويقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ}.
فتجد أكثر الناس منكوبين في الوقت, يجلسون الجلسات الطويلة لا استغفار أو قرآن, ولا ذكر أو توبة, ولا علم أو مدارسة, فيمر هذا الوقت ويحاسبون عليه عند الواحد الأحد, بل بعضهم جعل الوقت حرباً لله عز وجل, فهذا هو العصر, وهو الزمن الذي نعيشه.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني
وعند الترمذي بسند صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع -وذكر منها-: وعمره فيما أبلاه} فيسأله الله: أما أمهلتك؟ أما خولتك؟ أما تركتك؟ فيقول: بلى يا رب, فيقول: ماذا فعلت؟ فيسأله عن العمر, وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] ومعناه عند أهل التفسير: أو لم نتركم زمناً يمكنكم أن تتذكروا فيه فما تذكرتم؟!
وأما النذير, فقال ابن عباس: "الشيب" وما أحسن هذا من تفسير! وغيره قال هذا.
فإن هذا الشيب خطر وإنذار رهيب، فإذا شاب رأسك وشابت لحيتك؛ فاعلم أنه نذير لك بالقدوم على الله:
ويقبح بالفتى فعل التصابي وأقبح منه شيخ قد تفتى
أي: يقبح بالشاب أن يلهو, وأقبح منه شيخ كبير يلهو, ولذلك تجد بعض الشيوخ الكبار في الستين والسبعين كالسفيه والطفل, برنامجه اليومي كبرنامج الطفل تماماً, تجده في المنتديات العامة والمقاهي والأرصفة.
يتحدث بكلام فارغ، وقد أصبحت رجله في حفرة القبر.
قال سفيان الثوري: "حق على من بلغ ستين سنة أن يلبس كفناً" ويقول صلى الله عليه وسلم: {أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين} فالستون والسبعون معترك المنايا, فأكثر من يموت هم أصحاب الستين إلى السبعين وقليل من يجوزها أو يتعداها: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً} [الأحقاف:15] فلما بلغ الأربعين عاد, ولا يعني ذلك ألا يعود الإنسان حتى يبلغ الأربعين, فيسيئ ويعصي ويقول: حتى أبلغ الأربعين ثم أتوب، فإن كثيراً من الناس لم يبلغوا الأربعين, بل عليه من سن التمييز أن يبدأ مع الله عز وجل, حاداً لحدوده محترماً لحرماته, عامراً بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عمره وحياته.
فالوقت هو النعمة التي تذهب من الناس كثيراً ولا يفكرون فيها إلا في سكرات الموت.
وهذا الشيب -على ذكره- عجيب, يقول أبو العتاهية:
بكيت على الشباب بدمع عيني فلم يغن البكاء ولا النحيب
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
قالوا: ما فعل المشيب يا أبا العتاهية؟
قال: أحنى ظهري, وأذهب عني لذة الشراب والطعام, وملذة المنام.
فصاحب الثمانين والسبعين لا يتلذذ لا بطعام ولا بشراب ولا بمنام, وهو أمر معلوم من سير الناس.
{والعصر} [العصر:1] يقسم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالعصر, فيحلف بالزمن على شيء سوف يخبرهم به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, والله عز وجل يقسم بالأمور التي تتعلق بما بعدها.
فمثلاً: الضحى لما كان فيه لطف مع رسوله صلى الله عليه وسلم ورحمة, اختار وقت الضحى لأن فيه شيئاً من السداية والرعاية, وكذلك الفجر فيه تبلج الحق فأقسم به, ومثله تنزل الملك على الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي فيقسم بالنجم, فاسمع جواب القسم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:1 - 8] قالوا: فالنجم يدنو ويتدلى ويهوي, والملك يدنو ويتدلى ويهوي, فسبحان الذي أنزل كتابه, وأبدع كلامه وجعله معجزاً.(151/6)
بيان جواب القسم: (إن الإنسان لفي خسر)
{والعصر} [العصر:1]: وجواب القسم: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2] والإنسان هنا هو الكافر, فكل إنسان مجرد عن الإيمان في خسر وخسارة في الدنيا والآخرة, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] قال ابن عباس: [[إن الله عز وجل أخذ على نفسه أن من عمل بهذا الكتاب ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة]].
وأما من أعرض عن هذا الكتاب فضلالة في الدنيا وشقاوة في الآخرة, وكل من انحرف عن منهج الله فهو خاسر.(151/7)
حقيقة النعمة
ولك أن تسألني سؤالاً: الآن نرى كثيراً من الناس ضلالاً عن منهج الله، وهم يعيشون في نعيم ورغد عيش وقصور ومناصب وبساتين وحدائق وأموال وأولاد, فأين الشقاوة والضلال؟
أقول لك: أما حج عليه الصلاة والسلام وخطب يوم عرفة على ناقته؟ أما كان فقيراً في غالب أيامه؟ ومع ذلك أنزل الله عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليه في يوم عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] يقول بعض الفضلاء: "يا سبحان الله! يقول الله للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] مع العلم أنه كان يربط الحجرين على بطنه فأي نعمة هذه؟!
ويقول: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] مع العلم أنه كان يسكن بيتاً من طين طوله ثلاثة أمتار في مترين.
{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] وكان ينام على خصيف من نخل.
{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] وما شبع من خبز الشعير ثلاث ليال متتابعة.
{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير, فأين النعمة؟!
فالنعمة ليست هي التي يتصورها الناس: نعمة البقر والحمير والثيران, أو نعمة الأكل والشرب, فهذا يحصل عليه الوثني الأفريقي والأحمر النصراني والأشقر البلشفي, لكن النعمة غير ذلك, فالنعمة هي أن تعرف الله.
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه
قد مشينا في ضياء الوحي حباً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحدونا خطاه
ويقول تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
أسأل سؤالاً: ما هو أثر هذه النعمة على مجتمعنا؟ أما سكنا القصور؟! أما عندنا سيارات فاخرة؟ أما عندنا حدائق وبساتين ومناصب فماذا قدمنا بالنسبة لمن كان قبلنا؟
شيخ الإسلام ابن تيمية لا زوجة له ولا ولد ولا قصر ولا منصب ولا سيارة, بل كان عنده غرفة بجانب جامع بني أمية, وقد ألف أكثر من سبعمائة مجلد, ورد على أكثر من عشر طوائف, ونازل الإلحاد فدمغه في الأرض, فأقام منهجاً ربانياً على كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, فأين أثر هذه النعمة في حياته؟
هل وجد الكهرباء ليكتب عليها؟ هل كان يجد من وسائل العصر التي تخدمه في الكتابة؟
بل كان يشعل السراج ويكتب عليه حتى ينطفئ.
والإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والجماعة , الذي نجتمع الآن على سماع حديثه في المسند , كان يحفظ ألف ألف حديث بالمقطوعات والموقوفات والآثار وكلام الصحابة, يقول عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: "نزل سوق بغداد وعلى كتفه حزمة من الحطب, فأتى الفتح بن خوقان وهو وزير عباسي, فأسرع الإمام أحمد فقال الفتح: أنا -يا أبا عبد الله - أحمل عنك حزمة الحطب, قال الإمام أحمد: لا.
نحن قوم مساكين لولا ستر الله افتضحنا".
يقول ابنه عبد الله: بقيت حذاء أبي معه سبع عشرة سنة وكان يرقعها دائماً, ومع ذلك مات وعنده ثوب وحذاء واحد، ولكن في أصقاع الدنيا أحمد بن حنبل، وفي سمع الدنيا أحمد بن حنبل، وفي ذاكرة الدنيا أحمد بن حنبل، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
إذاً: فما هي النعمة؟!
النعمة هي طاعة المولى, قال ابن تيمية: الكرامة لزوم الاستقامة، والنعمة هي أن تعرف منهجك في الحياة، فتصلي الصلوات الخمس جماعة, والنعمة ألا تكون غاوياً ولا شقياً ولا منحرفاًَ.
أما قضية هذه الدنيا فإن الله أعطى البر منها والفاجر, وأعطاها من يحب ومن لا يحب, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن أعدائه: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].
يقول ابن بطوطة صاحب الرحلة: " ذهبت وراء خراسان فوقفت في تربة هناك فأخبرني أهل خراسان أنه دفن في تلك التربة ألف ملك من ملوك الدنيا" فهؤلاء ألف ملك، كنا نظن نحن أننا من ابتدأ التاريخ وكأن الصفر من عندنا, قال: "فوجد حجراً مكتوباً عليه هناك:
وسلاطينهم سَلِ الطينَ عنهم والرءوس العظام صارت عظاما
يقول: سل وتكلم مع الطين, يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم:45 - 47] يقول: لا تظنوا أنكم أول من سكن الديار بل سكنها قبلكم أمم.
وسلاطينهم سَلِ الطينَ عنهم والرءوس العظام صارت عظاما
وهؤلاء الذين كان الواحد منهم لا يتكلم مع البشر, ولا يسلم عليهم, ولا ينظر إليهم، أصبح رأسه عظاماً.
وهذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين أبو الحسن الزاهد الولي قدموا له كوباً من خزف ليشرب فيه, فنظر رضي الله عنه وأرضاه إليه فبكى, فقالوا: ما لك تبكي يا أبا الحسن؟ قال: [[آلله! كم كان في هذا الإناء من طرف كحيل ومن خد أسيل]] يمكن أن يكون هذا الخزف من تراب ورفات الناس الذين ماتوا، مزجت به وأصبحنا نشرب منه, كما يقول أبو العلاء:
خفف الوطء ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجساد
رب لحد قد صار لحداً مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد
صاحِ! هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
فلذلك يظن بعض الذين يعملون المنكر الآن, ويجاهرون الله بالمعاصي, ويحاربونه بالانحراف أنهم أول من أتى في فجر هذا التاريخ.
والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا يعجزه أحد, فإن الله عز وجل ذكر كل أمة ثم قال: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40] فمن الذي اعترض على قضاء الله؟ ومن الذي استطاع أن يقف أمام الله؟!
هذا نمرود بن كنعان قتله الله ببعوضة, وأذلته أمام الله, وهذا النمرود ربّى نسرين وأطعمها اللحم وقال: أقتل عليها إله إبراهيم, وصعد على النسرين فكان يضرب بالأسهم في السماء ليقتل الله, فأرسل الله عليه بعوضة دخلت في أنفه, فأخذت تأكل من دماغه، فإذا هشهشت بأجنحتها كالعصفور؛ ارتج دماغه فلا يهدأ حتى يضرب الخدم رأسه, فضرب أحد الخدم رأسه فأخرج نخاعه من أنفه فمات, فانظر إلى هذا المصير.
وفرعون أين مات؟
لقد مات في ماء كان يتحدى به, فكان يقف يوم العيد -يوم النيروز- بين قومه الجهلة الفسقه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] ويقول للخونة الأذيال الأذناب كما حكى الله عنه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]؟ فيصفقون له ويعظمونه ويقدسونه.
وعند قوله تعالى حاكياً قول فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] قال أحد العلماء: فأجراها الله من فوق رأسه في سكرات الموت: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27] لكن من يرجع إلى الله؟ إنه الذي يعرف آياته ويعيش عبره ويستفيد من عظاته.(151/8)
بيان معنى الخسارة والإيمان
قال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] الخسر هنا ليس خسارة المال -فإذا خسرت المال في صفقة عوضت في صفقة أخرى- ولا خسران الولد, فإن الله عز وجل إذا أخذ الصفي فاحتسبته من الولد والقريب عوضك عنه الجنة كما في صحيح البخاري , ولا خسارة المنصب فإن الدنيا تذهب وتأتي, لكن الخسارة خسارة الدين.
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما فاته منها فليس بضائر
فكل شيء أمره سهل إلا الدين, ويمكن أن تعوض الخسارة إلا في ميثاق: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فإنه إذا ذهب منك خسرت خسارة ما بعدها خسارة.
{إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2] فالكافر خاسر أبداً مهما جمع وحاز ومهما تولى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:3] فهذا جواب القسم: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2] ثم استثنى سُبحَانَهُ وَتَعَالى منه, يقول أهل النحو: المستثنى في العادة أقل من المستثنى منه, فهل الناجون المؤمنون أقل من الكفار؟
الجواب
نعم.
فإن الله تعالى يقول: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] وأقل الناس من شكر.
وأقل أهل الدنيا الآن المسلمون, وأقل المسلمين أهل السنة، والقليل في أهل السنة المخلصون.
فقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] , وقد خرج عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى السوق فسمع رجلاً يقول: [[اللهم اجعلني من عبادك القليل, فقال عمر: ما هذا الدعاء؟ قال الأعرابي: يا أمير المؤمنين! يقول الله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] فسألت الله أن يجعلني من هذا القليل, قال: كل الناس أفقه منك يا عمر]].
{إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:2] فالإيمان برسالة محمد عليه الصلاة والسلام هو الميثاق الذي أتى به, وهو الفتح العظيم الذي نزل عليه في الغار عليه الصلاة والسلام, يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] وهو الإيمان الذي ذهب به الصحابة بأيديهم ففتح الله لهم الدنيا, فلما ذهبنا نحن والدنيا في أيدينا ما فتحت لنا بل أغلقت أمامنا الأبواب, وسلبت ديارنا وكرامتنا وأرضنا ومجدنا وسؤددنا وأصبحنا في مؤخرة الركب:
كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه(151/9)
من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم
فمن ذا الذي يريد معجزة من الرسول صلى الله عليه وسلم أكبر من أن يأتي برعاة البقر والإبل فيجلسهم مجلس كسرى وقيصر، يتكلمون بالقرآن ويحكمون بالعدل وينشرون الحق؟!
أتطلبون معجزة أكبر من أن يأتي صلى الله عليه وسلم بثلة كانت تعبد الصنم فيوزعهم على ثلاثة أرباع الكرة الأرضية؟!
فهذا ربعي بن عامر أحد أصحابه صلى الله عليه وسلم يدخل على رستم قائد فارس -وقد تكررت هذه لكن تكرر للفائدة- فيقول رستم وهو يضحك من لباس هذا الأعرابي, لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتى إلى الصحابة لم يفصل لهم ثياباً, أو يهد لهم بشوتاً, ولم يوزع لهم سيارات, أو يفتح دور الرعاية, ولم تكن عندهم مستشفيات, ولا صوامع غلال, نعم.
هم بحاجة إلى هذه الأمور, لكنه صلى الله عليه وسلم أتى ففتح أولاً قلوبهم بالقرآن والسنة, كان يسكن في بيت من الطين، لكن من بيت الطين هذا حول ثلاثة أرباع الكرة الأرضية إلى لا إله إلا الله محمد رسول الله, مات وما في بيته إلا سبعة دنانير وزعت صدقة, وما ترك إلا البغلة والسيف (ذو الفقار) ومع ذلك لا زال في الخافقين.
فبعث صلى الله عليه وسلم أصحابه في مشارق الأرض ومغاربها يهللون ويكبرون, فيقول رستم وهو يضحك على ربعي: جئتم تفتحون الدنيا يا ربعي؟
لأن الصحابة يقولون نفتح الدنيا وصدقوا.
وهذا عقبة بن نافع خرج بفرسه وثلة من الصحابة في أفريقيا , فكان يكبر وكانت الوحوش تدخل جحورها وبيوتها من تكبيره.
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
كنا نقدم للسيوف صدورنا لم نخش يوماً غاشماً جبارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولنا الأزهارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
ثم يقول:
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا
فهذا عقبة أتدرون ماذا فعل؟
فتح القيروان وخطب الجمعة وذهب، ووصل في الجمعة الثانية إلى المحيط الأطلنطي , فوقف بفرسه ليس عنده زورق أو غواصة أو سفينة أو باخرة وليس عنده طائرة! فقال وهو على فرسه: "والله -يا بحر- لو أعلم أن وراءك أرضاً لخضت بفرسي هذا البحر حتى أرفع لا إله إلا الله محمد رسول الله".
قال رستم: جئتم تفتحون الدنيا بهذا الفرس المعقور والرمح المثلم؟!
فيقول ربعي -اسمع الكلام الذي ليس مثل كلامنا بارد ميت، قال كلاماً كأنه من الوحي-: [[نعم.
إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد, ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]] فبدأت المعركة فانتصروا ودخلوا ديوان قيصر وحكموه بالقرآن والسنة.(151/10)
مفهوم الإيمان عند السلف
إن هؤلاء الذين أتوا بالإيمان الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم, والإيمان سهل إنما عقدته الثقافة العصرية الحديثة, حتى أصبح معقداً, لأن الشباب والأطفال في سن الفهم وسن حفظ القرآن والسنة أُشغلوا بدرس وزرع وخاط وأكل وشرب, وطه والطبلة كان لطه طبلة يضرب عليها, فلمّا بلغوا سن الفهم لم يحفظوا من المتون شيئاً وليس عندهم إلا طه والطبلة, والرسول صلى الله عليه وسلم في هذا السن لقن أصحابه وغرس في قلوبهم عقيدة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فكانت تسري في دمائهم قوية كالبركان, صادقة كالفجر, واضحة كالشمس.
فالإسلام سهل والإيمان بسيط يُتعَلم ولو في دقائق, كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض الدين عرضاً موجزاً, أتاه ضمام بن ثعلبة , قال: {يا رسول الله! إني سائلك ومشدد عليك في المسألة -والحديث في الصحيحين - قال: سل ما بدا لك -وضمام هذا إعرابي من الطائف أقبل بناقة فعقلها في طرف المسجد وتخطى الصفوف بسرعة- قال: من رفع السماء؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله}.
وهذا الأعرابي يعرف أن الله هو الذي رفع السماء: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] لكنه يأتي بمقدمات حتى يصل إلى نتيجة, وهذا أدب الحوار, ولذلك قال أنس: [[ما رأينا وافداً مباركاً كـ ضمام بن ثعلبة]]؟
فمن أدب الحوار أن تبدأ مع من تحاوره أو تجادله بقضايا مسلمة تشترك أنت وإياه في الإيمان بها, فقال: {من رفع السماء؟ قال: الله, قال: من بسط الأرض؟ قال: الله, قال: من نصب الجبال؟ قال: الله, قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال آلله أرسلك إلينا رسولاً؟ فاتكأ عليه الصلاة والسلام وقال: اللهم نعم} كان يخاف أن يقول من نفسه هل أنت رسول، أو أنت رأيت أنك تأتينا وتقول: أنك مرسل، أو أنك تريد أن تملك العرب أو ماذا تريد {ثم قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم -فسأله عن أركان الإسلام كلها فلما انتهى- قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص, أنا ضمام بن ثعلبة -هذه هي البطاقة الشخصية- أخو بني سعد بن بكر , ثم ولّى وفك عقال الناقة وركبها, فقال عليه الصلاة والسلام: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا}.
هذا هو الدين والإسلام؛ فالإيمان يعرض في دقائق, ويفهمه الناس ويخرج هؤلاء الأعراب علماء للناس, يعلمونهم أمور الدين, يقول عمر: [[نهينا عن التكلف]].
{إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:2 - 3] والإيمان عند أهل السنة: "قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان".
والمرجئة قالوا: "اعتقاد بالجنان وقول باللسان".
والكرامية قالوا: "قول باللسان فحسب".
وأخطأت المرجئة وأخطأت الكرامية وأصاب أهل السنة.
فالإيمان اعتقاد بالجنان: أي أن تعتقد وحدانية الواحد الأحد، وأن تصدق بما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام, وإلا فالذي يصلي ولا يؤمن بالله منافق, لا تعذره صلاته، وإنما يرفع السيف عنه في الدنيا وهو في الآخرة خالد مخلد في النار, في الدرك الأسفل من النار: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] لأنهم أظهروا شيئاً وأبطنوا شيئاً آخر, فهذا الاعتقاد بالجنان.(151/11)
أول واجب على المكلف
النطق باللسان هو أول ما يجب على المكلف، أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله}.
وهذا أبو المعالي الجويني إمام الحرمين يقول: "أول واجب على المكلف النظر والاستدلال في الكون " وهذا أورده ابن حجر في فتح الباري , فرد سماحة الشيخ ابن باز في الحاشية, وقال: "لا.
أول واجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداَ رسول الله".
وهذه هي الكلمة التي طلبها محمد صلى الله عليه وسلم من عمه, ومن الناس جميعاً, وهي كلمة التوحيد التي تنجي صاحبها إذا قالها مخلصاً وعمل بمقتضاها.
لكن بعض الناس يظن أن الإيمان أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله, ثم ينتهك الحدود ويحارب أولياء الله, ويعطل شرع الله, ويكون حجر عثرة في طريق هذا الدين, فأين هو من لا إله إلا الله؟
من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح
وكثير من الناس يقولها ولكن لم يصدقوا في قولها ولم يقولوها مخلصين, ولم يعملوا بمقتضاها.(151/12)
ضرورة الإتيان بعمل الجوارح
وعمل بالأركان: وأن تعمل بجوارحك الفرائض: {من ترك الصلاة فقد كفر} والمرجئة يقولون: تارك الصلاة لا يكفر, فيكفي الإنسان أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله ويعتقدها وإن صلى أو تركها فسيان, والرسول صلى الله عليه وسلم يرد عليهم ويقول في الصحيح: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} , ويقول: {بين المسلم والكافر ترك الصلاة}.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] لأنه -لاحظ- لا بد مع الإيمان من عمل الصالحات, والإيمان بلا عمل الصالحات هو الإيمان المجرد الذي لا ينفع, وهذه هي العواطف المجنحة التي نسمعها من الناس صباح مساء.
فإذا طلبت من جارك أن يصلي في المسجد, يقول: الله يعلم أني أحبه وأني أحب رسوله لكن لا أستطيع أن أصلي صلاة الفجر في المسجد, فما هذه المحبة المدعاة؟
وما هذا الكذب الزائف؟!
وما هذا البرود السامج؟!
يقول تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] , ويقول: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] , فكأن المعنى: يا كذبة! يا مردة! يامن ادعيتم أنه يحبكم فلم يعذبكم؟ فأنتم تخالفون ويعذبكم بهذه النكبات والويلات, فبنو إسرائيل ضرب الله عليهم الذلة عبر التاريخ, وما تسودوا إلا علينا! وما تصدروا إلا علينا! لأننا قل قدرنا -نحن- عن الدين وعن التمسك به فعزوا علينا, وإلا فانظر إلى تاريخهم: كانوا مشردين مضطهدين في سويسرا وبلجيكا وفرنسا وإنجلترا وألمانيا , كانوا يؤتى بهم بالعشرات في الأفران يربطون مع الخنازير, يذبحون دبحاً لأن الله يقول: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران:112] ولكنهم صادفوا قوماً لم يحملوا ميراث نبيهم عليه الصلاة والسلام.
لهم شموخ المثنى ظاهراً ولهم هوى إلى بابك الخرمي ينتسب
فسادوا وسيطروا عليهم وأخذوا زمام المبادرة.(151/13)
شروط العمل الصالح
لا بد مع الإيمان من العمل الصالح، والعمل الصالح لا بد فيه من شرطين اثنين:
1 - أن يكون صاحبه مخلصاً قاصداً بعمله وجه الله يقول تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] ويقول: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وقال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] , وقال سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] ويقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وعند مسلم: {من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه}.
2 - الشرط الثاني: أن يكون على سنة النبي صلى الله عليه وسلم, فهو الإمام العظيم الذي لا يجوز للأمة أن تخالف نهجه, وحرام عليها أن تأخذ إماماً غيره, أو شيخاً في الطريق سواه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31] {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا دخل النار} فيجب اتباع سنته عليه الصلاة والسلام وهديه:
فهو يصلي ويقول: {صلوا كما رأيتموني أصلي}.
ويحج ويقول: {خذوا عني مناسككم}.
فأنت تقلم أظفارك وهو معك بسنته, وتقص شاربك وهو معك بسنته, في حياتك وليلك ونهارك وهو يتابعك بسنته, لكن متى؟
إذا رضيته إماماً: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] وعمل الصالحات دأب عباد الله الصالحين, ولا ينزل العبد في درجات الجنة إلا بالعمل الصالح, وهنا مسألة -يا أيها الأحباب- بحثها ابن القيم رحمه الله وغيره من العلماء, وهي الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام {لا يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا إن يتغمدني الله برحمته} وظاهر الحديث أنه لا يدخل داخلٌ جنة الله عز وجل إلا برحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مهما كان عند هذا العامل من العمل.
إذاً: فالعمل ليس له دخل في دخول الجنة, ولا يدخل الناس الجنة بسبب أعمالهم، فهذا ظاهر الحديث.
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] وظاهر الآية أن الجنة يرثها عباد الله بأعمالهم, فكيف نجمع بين الحديث الذي يقول: {لا يدخل الجنة أحد بعمله} وبين الآية التي تقول: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]؟
الجواب أن يقال: أما دخول الجنة فبرحمة الله أرحم الراحمين, وأما نزول المنازل داخل الجنة وتبوّء الدرجات فبالأعمال، هذا هو الصحيح, الدخول أولاً برحمة أرحم الراحمين, أما التنزل في الدرجات وأخذ المنازل وتبوء المقاعد إنما يكون بالأعمال الصالحة وهذا هو الصحيح إن شاء الله الذي لا يعدل عنه إلى غيره.(151/14)
تفسير قوله تعالى: (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)
من ميزة هذه الأمة أنها تتواصى, وأنها لا تدفن الأخطاء وتقول: كل شيء على ما يرام, ولا تجامل, ولا تحابي في دين الله.
إذا رأينا الخطأ مثل الجبل وقلنا: كل شيء جيد وحسن؛ فإن هذا يعتبر خيانة, وعند ابن حبان عن أبي ذر قال: {أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أقول الحق وإن كان مراً} فالحق مر وأحياناً يذهب الرءوس, ويزهق النفوس, ويسيل الدماء لأنه مر.
يقول أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري شيخ الإسلام الهروي: قدمت رأسي للسيف خمس مرات, كانوا يضعون السيف تحت أذني من أجل ألا أهاجم أو أسب المذاهب الأخرى فما رجعت.
وذلك لأنه يريد أن يقول الحق.
فقل الحق ولو كان مراً، وهذا هو الذي جعل ابن تيمية مصفداً في الحديد في قلعة دمشق والإسكندرية , وفي كل مكان لأنه يقول الحق, أما الذي لا يقول الحق فإنه لا يؤذى.
فقول الحق والتواصي به صعب, ولا بد أن يقال ولكن بلين.
ومن صفات هذه الأمة أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وهو من التواصي, وعند البخاري عن جرير بن عبد الله البجلي قال: {بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وشرط عليّ والنصح لكل مسلم} وعند مسلم: {الدين النصيحة, الدين النصيحة, الدين النصيحة, قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم}.
والتواصي ألاَّ نسكت على الأخطاء, لأن الشر يعم والخير يخص: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116].
فسُبحَانَهُ وَتَعَالى يقول: فهلاّ كان منكم عصابة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟
ويقول لوط لقومه: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] , ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وأَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:165] فما نجى الله إلا من أمر ونهى, وقد وصف عليه الصلاة والسلام من يأمر وينهى الأمة بالسفينة التي لو ترك فيها الأشرار لخرقوها، وكذلك سفينة الأمة إذا تركت للسفهاء والأنذال والمحرومين والمخذولين خرقوا شرع محمد صلى الله عليه وسلم وتحطمت وخسرنا هذا الدين بسبب أننا سكتنا.
والساكت عن الحق شيطان أخرس, والناطق بالباطل شيطان ناطق, والناطق بالحق على لسانه ملك يؤيده, وهؤلاء أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] وهو البلاغ الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام كما عند أبي داود: {بلغوا عني ولو آية} , وقال: {نضَّر الله امرأً سمع مني مقالة فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع}.
وأكثر الناس الآن محبوسون في الشعير, هذه الأكياس التي تباع للغنم وتوزع في السيارات فيتضاربون عليها، فأكثرهم الآن محبوس في كيس شعير, أو قطعة أرض, أو في غنم أو تيوس, أو محبوس من أجل عادة أو طريق بينه وبين جاره, وهذه التضحيات وعالم الضحيات من أجل البطون والقدور, وهم شهداء الشعير الذين إذا ماتوا شهدت لهم أكياس الشعير يوم العرض الأكبر, بأنهم قدموا منهجهم من أجل أكياس الشعير, وصدق فيهم محمد إقبال إذ يقول:
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ولذلك بعض الناس الآن تعال وخذ متراً من أرضه, والله لا تستطيع، ويسيل دمك في الأرض, ويقاتلك بمسدسه الأسباني رقم تسعة، لأن الأرض أرضه.
فإن الماء ماء أبي وجدي وبئري ذو حفرت وذو طويت
لكن يُستهزئ بالدين, يقول: للدين رب يحميه, مثل عبد المطلب أتى أبرهة ليحطم الكعبة فقال: رد لي إبلي أما البيت فله رب يحميه, فإبلي لي وأنا رب الإبل.
فالناس يقولون الشعير شعيرنا, والدين لربنا, والمساجد لله، والذي يستهزئ بالرسول صلى الله عليه وسلم كل يلقى عمله عند الله, والذي يستهزئ بالقرآن الله يحاسبه ولا نتدخل فيه, والذي يسب الإسلام في الصحف الصباحية ويستهزئ بالدين في الملاحق الرياضية, فالله سبحانه الحسيب وهناك جنة ونار, أما الشعير شعيرنا, والأرض أرضنا والدنيا دنيانا, فلماذا لا تغضب لدين الله عز وجل كغضبك على هذه الأمور؟ هذا الفارق بيننا وبين الصحابة, فالصحابة غضبوا من أجل (لا إله إلا الله) ونحن نغضب من أجل الشعير, هم قدموا مهجهم من أجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] , ونحن قدمنا مهجنا من أجل الماء والطين, فالفارق بيننا واضح.
وأكثر القتلى الآن بل ما سمعنا أن أحداً قتل من أجل لا إله إلا الله! من أجل هذه الكلمة قتل من الأنصار (80%).
وهذا حنظلة الذي غسلته الملائكة -أنا لا أريد أن أذكر أباه لأنه فاسق مجرم- أتى من مكة يحرض ابنه على الارتداد عن الدين, فأخذ ابنه كفاً من التراب ولطخ به وجه أبيه وقال: اخرج يا فاسق!
لم يعد أباً له بل انقطعت هذه الأبوة وانقطع هذا النسل, الدم الضال انقطع، العرق الآثم المشئوم انفصل, أصبح حنظلة شيئاً آخر؛ فقد رباه محمد صلى الله عليه وسلم في المسجد, تزوج حنظلة وعمره عشرون وقيل أقل, بنى بزوجته وفي الصباح سمع الهتاف الخالد في أحد والملائكة تتنزل, وكان أبو سفيان يحشد الكفر ليجتاح عاصمة الإسلام, يخرج الرسول ويعلن الحرب على أبي سفيان من على المنبر, فسمع حنظلة الصياح.
وقاتلت معنا الأملاك في أحد تحت العجاجة ما حادوا وما انكشفوا
فخرج وهو لم يغتسل من الجنابة, لبس ثيابه لأن الأمر أسرع, كيف يغتسل والرسول أصبح يقود المعركة؟! الدقيقة تؤخر، فالرءوس أصبحت تقطع في سبيل الله, فأخذ سيفه بدون غمد, وذهب سريعاً إلى أحد , فقاتل وقتل قبل صلاة الظهر, والتفت عليه الصلاة والسلام إلى السماء فأشاح بوجهه وقال: {والذي نفسي بيده! لقد رأيت حنظلة بين السماء والأرض تغسله الملائكة بماء المزن في صحاف الذهب, سلوا أهله لِمَ تغسله الملائكة؟ قالت امرأته: خرج جنباً ولم يغتسل} فغسلته الملائكة قبل أن يدخل الجنة.
أملاك ربي بماء المزن قد غسلوا جثمان حنظلة والروح تختطف
وكلم الله من أوس شهيدهم من غير ترجمة زيحت له السجف
وهذا شهيد آخر مات من أجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أتى في الصباح فلبس أكفانه, فهذا لا يريد خط الرجعة، لأن الذي يلبس أكفانه هذا لا يريد أن يعود مرة ثانية, ترك ثيابه في البيت ولبس أكفانه وتتطيب واغتسل وأخذ السيف؛ لأنه رأى في المنام أنه أول قتيل في المعركة, فلما حضر المعركة قال: [[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]] فقتل, فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده! ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعته} وهو عبد الله بن عمرو الأنصاري والد جابر , فـ جابر هذا حافظ الحديث ولد هذا الذي قتل, يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {يا جابر! والذي نفسي بيده لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان -مباشرة- فقال: تمن, قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية, قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون, فتمن, قال: أتمنى أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك, قال: فإني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً} فهؤلاء هم الشهداء, وهذا هو موكب الأمة, وهو جيل محمد صلى الله عليه وسلم.
فتجد الآن أعداء الله يقدمون من التضحيات أكثر مما يقدم أولياء الله عز وجل, كم قتل من العرب من أجل البعث! وكم قتل من العرب من أجل مذهب ماركس؟
ألوف مؤلفة من أجل أن يبقى مذهب لينين -"لا إله والحياة مادة"- في الأرض, والوطنيون حزب الطليعة والصاعقة.
ناصريون نصرهم أين ولى يوم داست على الجباه اليهود
ويقول الآخر:
وَحدَوِيوُّن وهذا يقول: المظلة العربية الدم العربي الأخوة العربية.
وحدويون والبلاد شظايا كل جزء من لحمها أشلاء
ماركسيون والجماهير جوعى فلماذا لا يشبع الفقراء
لو قرأنا التاريخ ما ضاعت القدس وضاعت من قبلها الحمراء(151/15)
بيان معنى الحق والصبر
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] ما هو الحق؟ وما هو الصبر؟ وهل بينهما عموم وخصوص؟ أوليس الحق صبراً والصبر حقاً.
أما الحق فهو الذي أتى به رسولنا صلى الله عليه وسلم, فالكتاب والسنة هما الحق, وتواصوا به أي: تعلموه وعلموه الناس, وتواصوا به: تفقهوا به, وعلم بعضهم بعضاً هذا الحق, فالحق كله ما أتى به صلى الله عليه وسلم, وكل ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو الحق, وأما ما سوى ما أتى به صلى الله عليه وسلم لا يخلو من أمرين:
إما حق, فهو في شرعه عليه الصلاة والسلام.
وإما باطل فلا نريده.
وأي أمر لا يعرف أنه حق أو باطل حتى يعرض على الكتاب والسنة, قال مالك رحمه الله: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام" , وإنما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: الحق لتكون كلمة جامعة لكل خير, ورشد وهدى, فكل ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم حق, فلا يجوز للإنسان أن يوجب على الناس شيئاً إلا ما أوجب الله ورسوله, ولا أن يستحب لهم إلا ما استحبه الله ورسوله, ولا يجوز أن يحرم عليهم إلا ما حرم الله ورسوله, ولا أن يكره لهم إلا ما كره الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ولا أن يبيح لهم إلا ما أباح الله ورسوله, فلا بد من هذه القضايا الخمس.
فكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يحتج به, ولا يحتج له, وكلام غير الله ورسوله عليه الصلاة والسلام يحتج له ولا يحتج به, فهذه قواعد يقررها شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم، وهي قواعد تكتب بماء الذهب وتحفظ, فهذا هو الحق: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:3].
والحق لا يحمل إلا بصبر, والحق لا يبلغ إلا بصبر, والصبر لا بد له من حق, فاجتمعت الرسالة التي هي حق مع وسيلتها وهو الصبر, حتى تبلغ للناس.
إذاً: من هم المبلغون؟ إنهم المؤمنون الذين عملوا الصالحات, وماذا يبلغون؟ يبلغون الحق , بأي وسيلة؟ بالصبر.
والصبر ثلاثة أقسام:
صبر على طاعته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وصبر عن المعاصي.
وصبر على المصائب.
فأما الصبر على الطاعات فهو أشرفها وهو القول الصحيح الذي يختاره كثير من أهل العلم كالشيخين: ابن تيمية وابن القيم , فالصبر على الطاعات أشرف من الصبر عن المعاصي, وأشرف من الصبر على المصائب, ويجعل ابن تيمية المقصود من الدين إقامة الشعائر والفرائض, فإن من صلى وشرب الخمر خير ممن ترك الخمر ولم يصلِ, مع العلم أن العبد الطائع لله هو الذي يصلي ولا يشرب الخمر, لأن الخمر من الكبائر وحق على الله أن من شرب الخمر ولم يتب منها أن يسقيه الله من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار والعياذ بالله.
والصبر على الطاعات: أن تؤديها في أوقاتها بخشوعها وفرائضها وسننها, كالصبر على الصلاة, فهي تحتاج إلى صبر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153].
والصبر عن المعاصي: أن تكف عنها, واصبر عنها وما صبرك إلا بالله, طلباً في ثواب الله وخوفاً من عقابه, لأن بعض الناس يكف عن المعاصي حفظاً لجاهه, أو خوفاً من السلطة, وهذا ليس مأجوراً.
والصبر على المصائب: هي أن تصبر على قضاء الله وقدره فيما يصيبك, وتقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون".
فهذه بعض معالم سورة: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يغفر لنا ولكم, وأن يرحمنا وإياكم, وأن يتولانا وإياكم, وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل, وأن يخرجنا وإياكم من الظلمات إلى النور, وأن يوفقنا إلى اتباع سنة محمد عليه الصلاة والسلام, وأن يثبتنا على الإيمان حتى نلقاه, ولا يجعل فينا شقياً ولا محروماً, وأن يتولانا وإياكم ولاية عامة وخاصة.(151/16)
الأسئلة(151/17)
حكم النوم عن صلاة الفجر والعصر
السؤال
لي جار لا يصلي الفجر ولا العصر مع الجماعة, فنصحته, فأجاب بأنه ينام في هذين الوقتين، فما حكم ذلك؟
الجواب
سبحان الله! اختار الفجر والعصر والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من صلى البردين دخل الجنة} والبردان: الفجر والعصر, وإنما سماهما صلى الله عليه وسلم "البردين" لأنهما يأتيان في وقت براد, واختار صلى الله عليه وسلم لهما جزاءً الجنة لأنهما في وقت مشقة, فإن العصر يأتي بعد العمل والكسب والكدح, والفجر يأتي بعد النوم, ولا يحافظ عليهما إلا مؤمن, يقول عليه الصلاة والسلام: {من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله} يعني: فقد أهله وماله, وكأنما احترق بيته بأهله وفقد ماله.
أما النوم فإنه عذر إذا وقع نادراً, وأما إذا صار عادة وتعمد ووضع في موضع الصلوات فليس بعذر لصاحبه, وهذا يدل على تفريطه, فما دام يعرف أنه سوف ينام عن الصلاة, وأن من عادته أن ينام عنها فهو مسيء, وصلاة الجماعة واجبة عند أهل العلم, دلَّ على ذلك أكثر من أربعة عشر دليلاً من الكتاب والسنة منها: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] ومنها: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] وهذا في صلاة الخوف ففي صلاة الحضر الجماعة أولى.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: {من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر} رواه ابن ماجة وأحمد والحاكم وصححه عبد الحق الإشبيلي وابن تيمية وهو حديث صحيح.
ومنها أن الرسول لم يرخص للأعمى وقال: {أتسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؟ قال: نعم, قال: فأجب فإني لا أجد لك رخصة} فوصيتي لك يا أخي! يا من ينام عن الفجر والعصر! أن تتقي الله وأن تُعِدَّ للقاء الله, وأن تعلم أنه سوف يكون هنالك نوم طويل, إما في روضة من رياض الجنة، وإما في حفرة من حفر النار.
فما أطال النوم عمراً وما قصر في الأعمار طول السهر(151/18)
حكم حلق اللحية
السؤال
ما حكم حلق اللحية؟
الجواب
حلق اللحية محرم بإجماع أهل العلم, وممن نقل هذه الأقوال ابن حزم في المحلى وجعل مع تحريم حلق اللحية تعزيراً, وفيه أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بإعفائها وقص الشارب ومخالفة المجوس, فمن حلقها فقد ارتكب محرماً وكبيرة من الكبائر, ووجب أن يعفيها وأن يخاف الله عز وجل.(151/19)
الهروي عمله خير من علمه
السؤال
هل شيخ الإسلام الهروي هذا هو الهروي الصوفي الذي رد عليه ابن القيم رحمه الله في كتاب مدارج السالكين في أبيات قالها؟
الجواب
كتاب مدارج السالكين إنما هو شرح لكتاب الهروي شيخ الإسلام , الذي يسمى منازل السائرين , وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول عن الهروي رحمه الله: عمله خير من علمه, فإنه فيه تصوف وهو يميل إلى الشافعية والحنابلة في الفرعيات, ولكنه إمام شجاع عضلة من العضل, يخاف منه السلاطين الظلمة, فعمله خير من علمه, وهو الذي عرض على السيف, لكن رد عليه ابن القيم في أبيات يقول:
ما وحد الواحد من واحد توحيد من وحده لاحد
فمن هذه الأبيات رد عليه, لأن فيها خبط وعدم وضوح.
والهروي من ذرية أبي أيوب الأنصاري , ومن أهل القرن الخامس، لكن يخاف الجدار ولا يخاف قلب أبي إسماعيل الهروي , وكان يهد الجيوش وله صوت جهور، إذا وعظ انتفضت قلوب السلاطين.
قيل أنه أتى مرة حساده في هرات في شمال أفغانستان , وأرادوا أن يشوا به للسلطان حتى يذبحه, فأتوا بصنم ووضعوه تحت سجادة الهروي في المسجد, وذهبوا للسلطان وقالوا: يا أيها الأمير! أبو إسماعيل يعبد الأصنام من دون الله, قال: سبحان الله! قالوا: والله! إنه يعبد صنماً من نحاس تحت سجادته, فأرسل الجنود يأخذوا الصنم لتعلم أننا صادقون؟
فأرسلَ الجنود فرفعوا السجادة فوجدوا الصنم من النحاس, وهذا السلطان هو محمود بن سبكتكين , جيشه مليون -ألف ألف- مقاتل, وهذا الملك هو الذي دمر بلاد الهند وأخذ الأصنام وأحرقها في النار, وهو الذي مدحه محمد إقبال إذ يقول فيه:
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا
فاستدعاه محمود والوزراء والأمراء حوله, وسل السيف, وقال: متى يدخل عليّ وأجد فيه أنه فعل هذا فاذبحوه, قال: يا أبا إسماعيل! أتعبد الأصنام من دون الله؟ قال: ماذا؟ قال: وجدنا هذا الصنم من النحاس تحت سجادتك، فرفع صوته أمام السلطان وقال: سبحانك هذا بهتان عظيم! فأخذ السلطان يرتعد, وقال: تعالوا بالوشاة فجلدهم, وحبسهم, وأكرم أبا إسماعيل وأطلقه, وقد عرضه على السيف مرات, ولكن يقول هو: "ما فصل رأسي عن كتفي إلا ليقطع في سبيل الله" يعني باع نفسه من الله, فكان قوياً في ذات الله, لكن علمه تلقاه من مدرسة الشمال فأصبح فيه بعض الأخطاء نبه عليها ابن القيم رحمه الله, وهو صاحب هذه الأبيات المقصودة.
وأبو إسماعيل الهروي دخل على نظام الملك فقال له:
بسيفك أدرك المظلوم ثاره ومن جدواك شاد الملك داره
وقبلك هنئ الوزراء حتى نهضت بها فهنئت الوزاره
ثم أخذ يعظه حتى بكى!(151/20)
حكم تقبيل المصحف
السؤال
ما حكم تقبيل القرآن الكريم بعد القراءة؟
الجواب
سئل الإمام أحمد عن هذا فرآه, وقال: قبّله عكرمة بن أبي جهل , وكان يقبّله ويبكي ويقول: [[كلام ربي كلام ربي]] ولا أعلم فيه حديثاً مرفوعاً إليه عليه الصلاة والسلام, لكن أسأل الله أن من قبّل على جهة التعظيم والاحترام أن يثيبه ويأجره.(151/21)
السنة في إكمال الصفوف
السؤال
هناك كثير من الأخوات المسلمات إذا حضرن الدروس والمحاضرات وأقيمت الصلاة يتوزعن في أنحاء المسجد, فلا يقمن في صف, بل صف في أول المسجد وصف في آخر المسجد وصف في طرفه، فما حكم هذا؟
الجواب
إن كان هذا يحدث فهذا خلاف السنة, وعلى النساء أن يصففن صفوفاً وراء بعضها, يكملن الصف الأول فالثاني فالثالث, كصفوف الرجال تماماً, لعموم النصوص في ذلك.(151/22)
حكم الإسبال
السؤال
ما حكم الإسبال؟
الجواب
حكم الإسبال محرم, فمن أسبل لخيلاء لا ينظر الله إليه, ومن أسبل لغير خيلاء فما أسفل من الكعبين ففي النار.(151/23)
حال حديث: (من لم يؤمن بالقدر خيره وشره)
السؤال
ما صحة هذا الحديث: {من لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار}؟
الجواب
لا أعرف هذا اللفظ, والله أعلم, لكن هناك ألفاظ في القضاء والقدر, مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {وأن تؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره حلوه ومره} وقول ابن عمر: [[فوالله لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما تقبل منه حتى يؤمن بالقضاء والقدر]].
ويقول الشيخ حافظ حكمي رحمه الله:
وكل شيء بقضاء وقدر والكل في أم الكتاب مستطر(151/24)
حكم إظهار الزينة للحمو
السؤال
هل يجوز لزوجتي أن تكشف على أخي؟
الجواب
لا.
أخوك حمو لها, ولا يجوز الكشف على الحمو, والحمو الموت, ومحرم عليها أن تكشف عليه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {الحمو الموت} لأنه أجنبي.(151/25)
حكم الغناء
السؤال
ما حكم الغناء؟
الجواب
الغناء محرم بالإجماع، وقد نقل الإجماع الشوكاني في نيل الأوطار , والآجري في كتاب الشريعة.(151/26)
حكم شرب الدخان
السؤال
الإخوة المدخنون لا يستطيعون ترك الدخان، فما حكم ذلك؟
الجواب
لا.
من خاف النار ترك الدخان, ومن أطاع الرحمن ترك الدخان, ومن اتبع سيد ولد عدنان ترك الدخان.
أيها الإخوة أشكركم على إصغائكم, وإنصاتكم, وأسأل الله أن يجمعنا بكم في دار الكرامة.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(151/27)
موقف أهل السنة من الجبرية والقدرية
الجبرية والقدرية فرقتان من فرق الضلال على طرفي نقيض، وينبغي الحذر من شبهاتهما وضلالهما.
وفي هذا الدرس يبين الشيخ بعض شبهاتهما ويفندها، ويبين موقف أهل السنة، وذلك من خلال حديث محاجة آدم وموسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم.(152/1)
حديث محاجة آدم وموسى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
معنا في هذا الدرس مناظرة بين الوالد والولد، بين الأب والابن، بين آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام، وقد التقيا فحصل بينهما مناظرة ومحاجة، نقلها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم إلينا، ففي صحيح البخاري وصحيح مسلم وموطأ الإمام مالك وسنن أبي داود والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم بألفاظ متباينة متعددة، مفادها: قال عليه الصلاة والسلام: {تحاج آدم وموسى، فقال موسى عليه السلام: أنت آدم أبونا، وخلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسكنك جنته، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة -هذا كلام موسى عليه السلام - فقال آدم عليه السلام: أنت موسى بن عمران نبي بني اسرائيل، كتب الله لك التوراة بيده، واصطفاك وكلمك وقربك نبياً، أتلومني على أمر قد كتبه الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين عاماً؟ قال عليه الصلاة والسلام: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى} هذه في رواية، وفي ألفاظ مختلفة أن آدم عليه السلام تكلم مع موسى ومدحه بمدح أكثر، وأن موسى مدح آدم بمدح أكثر، وهذه هي قصة الحديث.
وفي هذا الحديث مسائل سوف نعرج عليها بإذن الله، ولكن قبل ذلك نقول: ما هو بسط هذه القصة؟
الرسول عليه الصلاة والسلام يخبرنا بهذا الحديث الذي هو أصل في باب القضاء والقدر، يقول: التقى آدم أبو البشر مع موسى عليه السلام وموسى رجل جريء، كان شجاعاً مقداماً، لا يكل ولا يمل، كل سؤال في رأسه لابد أن يعرضه ويناقشه على بساط البحث، فما هاب من أبيه ووالده، بل جلس معه، ولكن انظر كيف تلطف معه بالخطاب، فهو لم يقل لماذا أخرجتنا؟ أو لماذا خيبتنا؟ أو لماذا طردتنا؟ ولكن بدأ معه بالمدح والثناء، فقال: أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده -هذا مدح- ونفخ فيك من روحه- وهذا مدح- وأسكنك جنته- وهذا مدح- فلماذا أخرجتنا من الجنة؟ هذا عتاب، فرد كذلك آدم عليه السلام بعبارة طيبة للابن وكأنه يستهديه يقول: أنت من؟ قال: أنا موسى، قال: نبي بني إسرائيل، قال: نعم.
لم يقل لماذا تلومني؟ وإنما قال: أنت موسى الذي كلمك الله عز وجل، وقربك نبياً، وكتب لك التوراة بيده، بكم وجدت الله كتب عليَّ قبل أن يخلقني؟ قال: بأربعين عاماً، قال: فلماذا تلومني على أمر قد كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين عاماً؟ فسكت موسى وانقطع، قال: عليه الصلاة والسلام فحج آدم موسى، أي غلبه.
وفي هذا الحديث سبع عشرة مسألة، أولها: أين وقعت هذه المحاجة (المناظرة) وما هو مكانها وزمانها، وعلى بساط من؟ وعلى إشراف من وقعت هذه المحاضرة وكيف التقيا؟ فذاك أبو البشر من أول البشرية، وهذا في منتصف عقد التاريخ، موسى عليه السلام من أبناء أبناء الأبناء فكيف التقيا؟ وذاك قد مات منذ آلاف السنين، وهذا شب وترعرع في بني إسرائيل، فأين كان اللقاء وما هو الظرف الذي عاش فيه؟ وكيف وقعت هذه المناظرة؟ هذه مسألة.
المسألة الثانية: لماذا خص موسى بالمحاجة من بين الأنبياء؟ لماذا لم يتبرع رسول الهدى بهذه المناظرة، أو عيسى أو إبراهيم عليهم الصلاة والسلام جميعاً، وإنما انتدب لها موسى من بين الأنبياء؟ هذه مسألة.
الثالثة: كيف الجمع بين قول آدم عليه السلام لموسى: كتبها الله عليً قبل أن يخلقني بأربعين.
وفي صحيح مسلم أن عليه الصلاة والسلام يقول: {كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة} وهنا يقول: أربعين عاماً، وبين خمسين ألف سنة وبين أربعين عاماً فرق لا يخفى، فكيف الجمع؟
المسألة الرابعة: ما هي هذه المصيبة التي شكى منها موسى عليه السلام، هل موسى يلوم آدم عليه السلام على الإخراج من الجنة، أم يلومه على الأكل من الشجرة، أم يلومه على الكسب (أنه فعل ذنباً) أو يلومه على القضاء والقدر أم ماذا؟.
الخامسة: قوله صلى الله عليه وسلم: {فحج آدم موسى} هل هي بالرفع آدمُ، أو آدمَ بالنصب؛ لأن السجزي الحافظ المحدث كان يقول: {فحج آدمَ موسى} وكان هذا الراوي مع أنه من المحدثين الكبار، لكن كان فيه قدر، فيستدل بهذا الحديث أنه لا قدر، وأن الحق مع موسى عليه السلام وهم يجعلون موسى في هذا الحديث قدرياً ويجعلون آدم عليه السلام جبرياً، فالمعتزلة يستدلون بموسى والجبرية يستدلون بآدم عليه السلام.
المسألة السادسة: في الحديث رد على القدرية وليس فيه دليل للجبرية، وسوف يأتي مذهب القدرية والجبرية ومذهب أهل السنة والجماعة في كتاب القضاء والقدر.
المسألة السابعة: القدر يحتج به في المصائب، ولا يحتج به في المعايب، هذه قاعدة أتى بها شيخ الإسلام رحمه الله.
المسألة الثامنة: هل للمذنب أن يحتج بالقدر، كمن زنا أو سرق أو شرب الخمر؟ هل له أن يقول: كيف تلومني على شيء قد كتبه الله علي قبل أن يخلق السموات والأرض، فإذا قلنا له: أتحتج بالقضاء والقدر؟ قال: نعم، آدم احتج عند موسى بالقضاء والقدر؟ هذه مسألة.
المسالة التاسعة: غلبة آدم لموسى؛ لماذا غلب آدم موسى؟ ما هي الأمور والحجج والبراهين التي جعلت آدم يغلب موسى عليهما الصلاة والسلام.
العاشرة: ردت القدرية هذا الحديث وأبطلته بردين وسوف أذكرهما.
الحادية عشر: آدم عليه السلام معذور بأمرين وسوف أذكرهما إن شاء الله.
الثانية عشر: الأدب في الحوار.
الثالثة عشر: الجنة التي أخرج منها آدم هل هي جنة الخلد أو جنة غير جنة الخلد؟
الرابعة عشر: يقول آدم لموسى: (أعطاك كل شيء) عموم يراد به الخصوص، وهذا سوف يأتي.
الخامسة عشر: مناظرة العالم لمن هو أعلم منه، والابن يناظر أباه.
السادسة عشر: إثبات القدر وخلق أفعال العباد وللبخاري كتاب يسمى خلق أفعال العباد أو أفعال العباد.
السابعة عشر: سيرة موسى في القرآن ومناظرته مع الطغاة والمجرمين في الدنيا.
هذه مسائل هذا الحديث لكن قبل أن نبدأ بالعنصر الأول بهذا نأخذ العنصر الأخير وهو: سيرة موسى عليه الصلاة والسلام.(152/2)
سيرة موسى في القرآن ومناظرته مع الطغاة
يختار الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لكل حقبة من حقب التاريخ والزمن نبياً يناسب تلك الحقبة، فكل أمة تبرع في فن من الفنون يأتي الله عز وجل بنبي يبرع في هذا الفن.
الأمة العربية أجادت في الفصاحة، فأتى الله تعالى بأفصح من نطق الضاد وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وأمة عيسى عليه السلام أجادوا في الطب، وفي المداواة والمعالجة، فأتى الله بعيسى وجعل معجزته الطب، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه بإذن الله، ومداواة المرضى، وموسى عليه الصلاة والسلام برع قومه في السحر والمناظرة، فأتى به وجعل عصاه تلقف ما يأفكون، فكان انتصاره من هذا الباب.
موسى عليه الصلاة السلام، له دلائل في القرآن أولها الشجاعة، فإنه كان قوي الجسم والإرادة، من قوة جسمه أن أهل التفسير والسير والتاريخ ذكروا أنه لطم فرعون طاغية الدنيا وهو طفل صغير، لطم فرعون الذي يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] يأتي عند سريره فيقوم على فرعون فيضرب وجهه بكفه، وهذه شجاعة.
الأمر الثاني: يرد ماء مدين فيأخذ الصخرة التي لا يحملها إلا النفر من الناس.
الثالثة: أنه ينازل في الميدان بعصاه، ويقاتل السحرة وكانوا ثلاثين ألفاً.
الرابعة: يعبر البحر بالجيش ويقاتل فيما بعد حيث يقول له بني إسرائيل: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24].
ومن ميزه عليه السلام: الحياء، فكان حيياً كما قال عليه الصلاة والسلام، ولذلك فمنشأ الأمانة الحياء، تقول ابنة الرجل الصالح، قيل: إنه شعيب وقيل غيره: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] قوي يصلح للاستئجار، ومع القوة أمانة فليس كل قوي أمين، وليس كل أمين قوي، لكن من جمعهما فهو الفاضل، ولذلك فإن ابن تيمية له لطائف في هذا الباب، يقول: لما تولى أبو بكر وكان رجلاً ليناً صلح معه خالد لأنه كان قوياً، ولما تولى عمر كان قوياً فلم يصلح في قيادته خالد، وإنما صلح أبو عبيدة لأنه كان ليناً.
فالقيادة العسكرية كانت لـ خالد في عهد أبي بكر، ولذلك أبو بكر ما كان يسمع في خالد شيئاً، يقوم على المنبر وعمر يقول: اعزل خالداً، اعزل خالداً، فيقول: والله لا أغمد سيفاً سله رسول الله أو سله الله على المشركين؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {خالد سيف من سيوف الله سله على المشركين}.
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
قد كنت أعدا أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
ولما تولى عمر كان أول مرسوم أصدره عزل خالد، فصلح معه أبو عبيدة رضي الله عنه وأرضاه، فذاك أمين لين، وأبو بكر أمين لين، وعمر قوي أمين، وخالد قوي أمين، فسبحان من مازج بين الأجناس والأشخاص والهيئات! وموسى جمع الأمانة والقوة، يذكر المفسرون أن ابنة شعيب لما أتت كانت تمشي على استحياء، حيث أتت إلى رجل غريب، وقد تولى إلى شجرة، سقى لهما ثم لم يتكلم معهما كثيراً، وهي مع أنها تكلمت أكثر منه في القرآن قالت: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] لكن بإيجاز ما قالت: لا نسقي إلا بعد صلاة الظهر إذا ذهب الناس بمواشيهم، لأن طول الكلام معناه شيء من الريبة، وما قالت: أبونا رجل صالح جالس في البيت أرسلني وأختي لكي نسقي الغنم، لكن قالت: وأبونا شيخ كبير، أما هو فسكت وما تكلم، فمال إلى الشجرة، فلما أتت تمشي على استحياء {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25].
فأتى معها، فلما مشى قال أهل العلم: كان يمشي أمامها، وهي تمشي وراءه، وهو يقول: دُليني على الطريق، فتقول: يميناً ويساراً حتى وصل إلى أبيها، لهذا كان عليه الصلاة والسلام قوياً أميناً.
والمسألة الثانية: أن صراعه كان صراع مناظرة ومقاتلة، فهو تصارع مع فرعون بالحجة، فعندما دخل على بساط فرعون بادره فرعون بالكلام، والأصل أن يتكلم موسى لأن الوافد هو الذي يتكلم، لكن الخائن الخبيث المجرم بدأ بالكلام، وهذا من قلة الأدب، حتى يقول الحسن البصري: ما أطيش وما أخف عقل فرعون! الواجب أن يتأكد ويتأنى إذ وفد عليه وفد، والأصل أن الأبيات إذا دخل دارك تنظر ماذا يتكلم؟ لكن فرعون قفز من سريره، وقال: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] لكن موسى عليه السلام أدبه الله بأمور وسوف نعرض إليها سريعاً، وقصة العصا معروفة، وكذلك قصة الإرسال معروفة، لكن لما وصل على البساط هو وهارون، وقد كان طلب أن يأتي معه هارون؛ لأنه أفصح منه، كما قال: {رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص:34].
وموسى عليه السلام متخوف من أمور:
منها: أنه سيذهب إلى طاغية، ومنها: أنه قتل نفساً منهم، ومنها أن الرجل ليس بفصيح، حيث أن موسى لم يكن خطيباً مفوهاً، ولم يكن محاضراً من الدرجة الأولى، وإنما يقول: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27 - 28] يقول: يا رب! احلل عقدة من لساني عله أن يفقه شيئاً مما أقوله، لكن مع ذلك بعد أن أحل الله العقدة، لازالت اللكنة في اللسان، فذهب معه هارون وقد قال بعض المؤرخين: إنه أكبر من موسى بسنة، لكن الله فضل الله هذا على هذا، فمشيا فلما رأى القصر ورأى أبهة السلطان والصولجان والهيلمان والقوة، التجأ موسى إلى الله وقال: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] كأنه يعلم الله بفرعون، والله يعلم فهو الذي خلقه، لكن الخوف، قال: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] أنا معكما رقيب، لا يتحرك حركة إلا وأنا وراءه فتكلما معه ولا تخافا، لكن مع ذلك لا يأخذكم الغرور والعجب، إذ علمتم أني وراءكم، وذلك كما لو قلت لابنك ولله المثل الأعلى: اذهب وأنا معك، فلا يذهب هذا الولد يطرق باب الجيران أو يضارب أبناء الناس ويقول: أبي فلان بن فلان! ولله المثل الأعلى، فذهبا فقال الله لهما حتى لا يغترا: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
لكن الرجل كان طاغية، أغلق الله قلبه، وطبع على فؤاده، ومن يدري لعل الله أن يهديه، ويشرح صدره، ومن قال لك: إن الناس قد ختم الله على قلوبهم، ولذلك من الأخطاء أن يتحدث الداعية إلى بعض المذنبين أو المجرمين ويقول: هذا لا يهديه الله ولو هدى الناس جميعاً، نعوذ بالله ومن جعل الهداية لناس دون ناس! ومن أخبرك بسابق علم الله في الناس! بل بعض الناس كان مهتدياً ثم ضل، وبعضهم كان ضالاً ثم اهتدى {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] قيل لـ ابن عباس: ما هو القول اللين؟ قال: يمنياه بالشباب: قال: أي قولا: سوف يرد الله عليك شبابك، ويبقي عليك ملكك وثروتك وعزك وسلطانك {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] فلما دخلا البساط، بدأ المجرم يتكلم {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] يسأل عن الربوبية، لا يسأل الخبيث عن الألوهية، هو ينكر بالظاهر، ولكن في الباطن يعلم أن الله هو الخالق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكنه يضحك على الناس، الذين يصفقون له: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] ثم يقول حجة أخرى ساخرة: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف:52] يقول: أنا أفضل وأسرتي وموكبي أم موسى هذا الذي هو راعي غنم؟ {الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] أي لا يفصح، فليس له لسان ولا كلام فصيح، وأنا فصيح وخطيب، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] أي: حتى قومه كانوا فاسقين، فقد كان فيهم خفة وطيش وعدم تعقل، ويتبعون الهوى، فأيدوه، فلما دخل سأل عن الربوبية، وإلا فقد رد عليه في آية أخرى قال: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] أي: مقطوع الحجة.
فبدأ فقال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] فكيف يكون الرد؟ الرد في غير القرآن، أن يقول له: ربنا الله، لكن هو ينكر الله {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] إن كنت أنت أعطيت كل شيء خلقه ثم هديت فأنت رب، وأما هاتان الصفتان فلا تنطبقان إلا على الواحد الأحد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فلما حاص وانقطعت حجته سأله مسألة أخرى، ومواقف موسى كثيرة في القرآن سوف أتعرض لبعضها إن شاء الله.(152/3)
مكان المحاجة بين آدم وموسى
المسألة الأولى: أين وقعت المحاجة؟
اختلف أهل العلم في مكان هذه المحاجة، وذكر ابن حجر هذه الأقوال في المجلد الحادي عشر من الفتح، وابن تيمية كذلك في المجلد الحادي عشر من الفتاوى ولم يتعرض للمكان، لأن ابن تيمية شيخ الإسلام يريد دلالة الألفاظ، أما التي لا ينبني عليها كثير فائدة فلا يتبعها رحمه الله؛ لأنه لايهمنا أن تقع المناظرة في السماء الأولى أو الثانية أو في الثالثة، أو في السابعة، أو في الأرض، أو في القبر، لا يهمنا ولا يتركب عليها كثير علم، ولا كبير فائدة، هذه مسألة.
ومن الأقوال أنهم قالوا: وقعت المحاجة والمناظرة في السماء التي فيها آدم عليه السلام، وآدم في السماء الأولى، فقد جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه في حديث الإسراء والمعراج أنه في السماء الأولى، فقالوا: المناظرة وقعت في السماء الأولى، وموسى في السماء السادسة، والابن يجب أن ينتقل إلى الأب وهو آدم، وأيضاً أن السائل موسى هو يحتاج أن يسأل، فلابد أن ينزل هو إلى من يجيبه لا العكس، هذا قول.
وقال البعض: لا.
بل وقعت عند موسى في السادسة، لأنه أرفع، فكأن آدم عليه السلام ارتحل حتى وصل فجلس مع موسى فتناظرا هناك، لكن نقول للفريقين: ليس هناك دليل أنها في السادسة أو في الأولى وهذا تنظير عقلي، وعلم الغيب لا يثبت بهذا التخمين، ولا يثبت ذلك إلا بأدلة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لكننا نعلم أن هذه المناظرة وقعت في حياة البرزخ بهيئة الله أعلم بها.
وذكر بعضهم أنها وقعت في المنام، ذكر ذلك ابن حجر عن بعض أهل العلم، وقد أسرف وأخطأ كثيراً من قال: هذا مثل ضربه الله وإلا فإن الحادثة لم تقع، يا سبحان الله! الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا بأنهم تحاجوا ونحن نقول: لا.
لم يتحاجوا! مثل بعض الناس يقولون: إن الله عز وجل يقول: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [الزمر:13] قالوا: لم يكن هناك أصحاب قرية، لكن الله ضرب مثلاً، وهكذا يقولون في أصحاب الكهف وغيرها من الوقائع، وهذا فيه إدخال للشك والريبة، نعوذ بالله من ذلك.
فالمحاجة وقعت على الصحيح في السماء؛ لكن الله أعلم في أي سماء وقعت، وقلنا في السماء؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في السماوات، ومر عليه الصلاة والسلام عليهم جميعاً وكلم بعضهم، وأكثر من تكلم معه موسى، ولذلك ورد في حديث يقبل التصحيح: {أن موسى لما تجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فقالت له الملائكة: مالك تبكي؟ قال: نبي بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي!} قال ابن تيمية: هذا من المنافسة وليس من الحسد.
وموسى دائماً جريء في الحق، ولذلك من جرأته أن طلب من الله عز وجل وهو خائف على بساط القدس، وفي مقام التزكية فيقول: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] سبحان الله! مطلب عظيم، فيقول الله عز وجل: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] وقد كان أول مرة لما سمع الصوت ولىّ هارباً وترك عصاه وحذاءه، ولكن لما آنسه الله تدرج في الخطاب حتى قرب، وبعدها يقول: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143].
ومن جرأته أنه أتى بالألواح فلما أتى إلى بني اسرائيل وقد عبدوا العجل ألقى الألواح من يده، فلذلك يقول ابن تيمية: إن الله عز وجل غفر له وعفا عنه بأمور لوكانت من غيره لكانت كبيرة، مثل إلقاء الألواح وفيها كلام الله عز وجل، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [الأعراف:154] أتى مغضباً وأتى إلى أخيه وهو نبي من الأنبياء فأخذ بلحيته يجرجره أمام بني إسرائيل {قَالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] يقول ابن القيم في مدارج السالكين:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
يقول: أتى موسى عليه السلام بذنب لكن محاسن موسى وهي آلاف المحاسن شفعته، لكن المنافقين إذا أتى أحدهم بكلمة لعنه الله وأخزاه، فمثلاً أحدهم يقول للناس: إن هذا لا يقصد بصدقته إلا الرياء والسمعة، فينزل الرد مباشرة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79] وأحدهم يقول: يا رسول الله! ائذن لي ولا تفتني فإني إذا رأيت نساء الروم فتتنت، فيرد الله عليه: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49] لا يعفو ولا يسامحه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لأنه خبيث.
أما الصادق فإن الله يعفو عنه، ولذلك كان في عمر شبه بموسى عليه السلام؛ في الحديبية يعترض على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: [[يا رسول الله! كيف تقبل الدنية في ديننا؟ كيف نصالحهم ونحن أهل الحق وأهل السيف والقتال وكفار قريش على الضلال والباطل هذه قسمة ضيزى]] أو كما قال، وأبو بكر ما تكلم، فالرسول عفا عنه وسكت، ويأتي صلى الله عليه وسلم ليصلي بالناس على عبد الله بن أبي في صلاة الجنازة فيقفز عمر ويأخذ برداء المصطفى سيد البشرية، وخيرة الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية، يقول: يا رسول الله تصلي على ابن أبي، أما علمت أنه فعل كذا وكذا، أما علمت ماذا فعل يوم كذا وكذا؟ والرسول عليه الصلاة والسلام يعلم هذا، بل يرى.
وتأتي سودة، فيقول: قد عرفناك يا سودة، يقول عمر: أي: استتري حتى لا تعفرين، فيتدخل حتى في نساء الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {أما أنت يا أبا بكر! ففيك شبه بإبراهيم وعيسى عليهما السلام، وأنت يا عمر! ففيك شبه بنوح وموسى عليهما السلام} فأشبه الناس بموسى عمر، وأشبه الناس بإبراهيم أبو بكر عليهما السلام ورضي الله عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
إذاً وقعت المحاجة في السماء، وبدأ الحوار بين الابن وأباه، بدأ بالحوار: موسى عليه السلام.(152/4)
أسباب اختصاص موسى بالمحاجة من بين سائر الأنبياء
المسألة الثانية: لماذا خص موسى بالمحاجة من بين الأنبياء؟ لماذا تقدم موسى وتبرع أن يحاج عن البشرية وعن الذرية مع أبيه وأبينا عليه السلام بهذا؟
قيل أولاً: لأن موسى صاحب مناظرة ومحاجة، فحياته دائماً الصراع بين التوحيد والشرك، وبين الضلال والهدى، وبين الرشد والغي، ولذلك يقول بعض علماء الإسلام: كاد القرآن أن يكون لموسى، لا تقرأ في السورة قليلاً إلا وتسمع: ولقد أرسلنا موسى، ثم يذكر محاوراته ومجادلاته لأهل الباطل، فلما تربى على هذا رشح إلى أن يناظر آدم عليه السلام، وقيل لأنه بعث بالفرائض الشديدة والتكاليف، ولأنه صاحب شريعة، فهو الذي ناظر آدم عليه السلام.(152/5)
الجمع بين أربعين عاماً وخمسين ألف سنة
المسألة الثالثة: كيف الجمع بين أربعين عاماً وخمسين ألف سنة، يقول آدم عليه السلام لموسى: {كيف تلومني على شيء قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة} بينما يقول صلى الله عليه وسلم: {إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة} فكيف نجمع بين هذا وهذا؟
قال أبو الفرج ابن الجوزي: الجمع بينهما أن يقال: إن الله عز وجل كتب المقادير وكتب القضاء في أزمان متفاوتة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، بعضها كتبها قبل أن يخلق الخلق بأربعين عاماً وبعضها بمائة عام، وبعضها بخمسين ألف سنة فهي في أزمان متعددة، لكن أطولها أجلاً خمسين ألف سنة، وبعضها كتبها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في اللوح المحفوظ، وكتاب آخر: إن رحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سبقت غضبه، لكن السؤال الثاني: كيف عرف موسى أن المدة أربعون عاماً أين هذه الكتابة التي يقول آدم لموسى؟ أين وجدها؟ هل قرأ موسى اللوح المحفوظ؟ هل اطلع على الغيب؟
نعم.
أطلعه الله على شيء من علم الغيب في التوراة، التوراة كتبها الله بيده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، خطاً وكتابةً تليق بجلاله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فقول آدم: يا موسى! أنت في هذا المستوى من الفهم والعقل والفضل وتلومني على شيء أنت وجدته في التوراة، بكم وجدت الله كتب علي هذا؟ قال: بأربعين عاماً، فسكت موسى.(152/6)
موضوع محاجة آدم وموسى
المسألة الرابعة: ما هي هذه المصيبة التي شكى منها موسى عليه السلام، هل يقول موسى لآدم عليه السلام: لماذا أخرجتنا من الجنة؟ وهذا قضاء وقدر أم يقول له: لماذا أكلت من الشجرة؟ وهذا قضاء وقدر، وهل موسى خفي عليه أن الله عز وجل كتب عليه أن يجعله خليفة في الأرض: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] فقبل أن يخلقه قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] فهو في الجنة لكن أنزله إلى الدنيا، فالله في سابق علمه قد كتب أن ينزل آدم إلى الدنيا، فكيف يأتي موسى ويقول: كيف تأكل من الشجرة؟ كيف تخرج من الجنة؟
لا.
هذا ليس بصحيح ولا وارد عند أهل السنة، وإنما الصحيح أنه عاتبه، كأنه يقول: يا أبانا سامحك الله، وغفر لك، كنا في الجنة في راحة، وكنا في نعيم ثم أنزلتنا إلى الدنيا، فهو لا يلومه على الأكل من الشجرة؛ لأن الله كتبه عليه، ولا يلومه على الذنب؛ لأن الله قدر الذنب عليه، وسوف يأتي هذا في كلام بعد إنما يلومه على المصيبة، كأن تأتي إلى أحد الناس قد أسرع في سيارة وولدك معه، فوقع الحادث ومات ابنك، فلا تقل: لماذا مات ابني؟ لأن الله كتب عليه الموت، لكن تقول: يا فلان جزاك الله خيراً، كيف تسرع وأنت معروف بالخلق الطيب؟ أما تعرف أن السرعة تضر أهلها؟ أما تعرف أن السرعة مصيبة؟ كيف تقع منك هذه المخالفة؟ فهذه وجهة نظر موسى عليه السلام، وليس ذاك النظر البدعي، الذي هو رد للقضاء والقدر، فحاشا موسى أن يرد القضاء والقدر، فهو يعلم بأن الله كتب مقادير كل شيء، وهو نبي كامل.(152/7)
من هو المحجوج؟
المسألة الخامسة: فحج آدم موسى، بالرفع: (آدمُ) أهل السنة يقرءون {فحج آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى} بالرفع، أي أن الغلبة كانت لآدم على موسى، وأن المغلوب في هذه المناظرة هو موسى، لكن أهل البدعة يقولون: {فحج آدمَ موسى، فحج آدمَ موسى، فحج آدمَ موسى} أي أن آدم مفعول به محجوج مغلوب، وأن موسى غالب، فيريدون الاستدلال على ألا قضاء ولا قدر، وهم القدرية والأصل عنهم أنهم ينكرون الحديث، ومنهم المعتزلة أو القدرية، الذين نفوا القدر، وأن الله عز وجل خلق الأمور هكذا بلا سابق قضاء ولا تقدير وأنها تحدث بالصدفة، نجاحك -مثلاً- صدفة، ليس بقضاء وقدر، وفرقة: القدرية نشأت واستمر مريرها، وهي من أخطر الفرق على الإسلام، وفي أول حديث من صحيح مسلم أن يحيى بن يعمر وصاحبه وفدا إلى المدينة قالا: فوجدنا ابن عمر رضي الله عنهما، قال: فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن ميسرته والآخر عن ميمنته، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! إن عندنا قوماً في العراق يقولون: إن الأمر أُنُف -معنى أُنُف أي أن الأمر مستقبل لم يكتب الله علم المقادير ولا القضاء- فما حكم هؤلاء؟ أو كما قال، قال ابن عمر: أخبرهم أنهم براء مني وأني منهم بريء، والذي نفسي بيده لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً وفضة ما قبل الله منه عملاً حتى يؤمن بالقضاء والقدر ثم أتى بحديث جبريل الطويل وفي آخره: وأن تؤمن بالقدرخيره وشره، هذا الشاهد.
والقدرية يقولون: لا قضاء ولا قدر، وكذبوا لعمر الله وخسروا وأخطئوا خطأً بيناً وغلطوا غلطاً فاحشاً، وقابلتهم فرقة أخرى هي: الجبرية وهم يقولون: العبد مجبور على المعصية، أي: يقولون للزاني: سامحك الله أنت مصيب؛ لأن الله كتب عليك وأنت مجبور وأنت نفذت أمر الله، ويقولون لشارب الخمر: أنت نفذت أمر الله فلست بملام فأنت مجبور على هذا العمل، فأخطأ هؤلاء وهؤلاء، وتوسط أهل السنة وهداهم الله لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
قال أهل السنة: للعبد مشيئة، ولله مشيئة، ومشيئة العبد داخلة تحت مشيئة الله عز وجل، والله عز وجل كتب كل شيء الطاعات والمعاصي، لكن لا يجبر الله أحداً على المعصية، ولذلك يقول ابن تيمية: بعض الناس من أهل البدعة، قدري في الطاعة جبري في المعصية، تقول: لماذا لا تصلي مع الناس صلاة الفجر؟ قال: كتب الله عليَّ ألا أصلي صلاة الفجر، فإذا قلت له: لماذا شربت الخمر يا بعيد؟ فيقول: كتب الله علي أن أشرب الخمر، فقال: هو قدري في الطاعة لأنه ينفي القدر، وجبري في المعصية لأنه يقول بالجبر، والقدرية يستدلون بفعل موسى عليه السلام، فيقولون: إن موسى ينفي ويعارض القدر، وكذبوا.
والجبرية يقولون: آدم يقول أنا مجبور على هذا الفعل فيستدلون بالجبر وسوف يأتي موقف أهل السنة من ذلك بإذن الله.(152/8)
الرد على القدرية والجبرية
المسألة السادسة في الحديث: كيفية نرد على القدرية بهذا الحديث؟
نقول: آدم عليه السلام يقول: كتب الله عليّ هذا قبل أن يخلقني بأربعين عاماً فهو أمر مقدر، إذاً فنقول للقدرية الذين نفوا القدر: إن الله كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض، فكل شيء عنده بقدر قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:49 - 50] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:22 - 23] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] يعني من يؤمن بالقضاء والقدر يهد قلبه {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:11] {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] فالخلق: هو خلق الله في هذا الكون، والأمر: التدبير والتصريف.
إذاً: فنرد على القدرية بأن تقول: إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلقنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وليس فيه دليل للجبرية الذين يقولون: إن الله عز وجل يجبر العبد على المعاصي، فقالوا: أجبر الله آدم أن يأكل من الشجرة، وأجبره على أن يعصيه ويخرج من الجنة، فنقول: كذبتم وضللتم وخالفتم الصواب، بل آدم عليه السلام ما أجبره الله أن يأكل من الشجرة، فقد علم الله في علم الغيب أنه يأكل من الشجرة، لكنه لم يخبره، ولا ألزمه، لكنه ألزم نفسه، وهذا هو الكسب من العبد لذلك هنا أمران: فإنه قضاء وكسب، فمثلاً: من ترك الصلاة، ففي علم الله أنه يترك الصلاة، ولكن هو الذي كسب ترك الصلاة قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].
فلا يستدل أحد بالقضاء والقدر على المعصية، فمن استدل على المعصية بالقضاء والقدر فهو جبري مخالف مبتدع ضال اتبع هواه، وهو خاسر فاجر، نعوذ بالله من ذلك، وسوف يأتي عذر آدم عليه السلام.(152/9)
جواز الاحتجاج بالقدر في المصائب لا في المعايب
المسألة السابعة: القدر يحتج به في المصائب لا في المعايب، من القواعد المجيدة والجيدة، أن القدر يحتج به في المصائب ولا يحتج به في المعايب؛ فإذا أصبت بمصيبة كأن يسقط ابنك من على السقف فتكسر ومات، فلا يصح أن يقول لك الناس: لماذا سقط ابنك؟ أو تقول: يا رب! كيف تسقط ابني ولا تسقط أبناء الجيران، أو كيف ترسب ابني وتنجح أبناء فلان، أو مثلاً أصابك عمى -نسأل الله أن يعافينا وإياكم وأن يمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا- فلا تقل: لماذا أصابني العمى؟ لكن تقول: قدَّرَ الله وما شاء فعل، فهذه مصائب وقعت، يجوز فيها الاحتجاج بالقدر لكن لا يستدل به في المعايب، مثل إنسان يشرب الخمر فإذا قلت: كيف شربت الخمر؟ قال: كتب الله عليّ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة أن أشرب الخمر في وادي فلان عند آل فلان بعد صلاة كذا وكذا! فهذا من الحمق، أو مثل إنسان يسرق، فتقول: كيف تسرق؟ قال: كتب الله عليَّ! أو إنسان يضرب أبناء الناس، يتصدى لهم في كل حي وحارة، ويقول: كتب الله عليَّ قبل أن يخلق السموات والأرض أن أضرب أبناء الجيران، فنقول له: لا.
هذا لا يصح.
وهذا عمر بن الخطاب وفد إليه سارق، فقال: لماذا سرقت؟ قال: سرقت بقضاء وقدر، قال عمر: سبحان الله! عليّ بالسكين، يظن أنها تنطلي على أبي حفص، أعطي القوس باريها، فلما أتى بالسكين وقطع يده، قال السارق: كيف تقطع يدي والله كتب عليّ أن أسرق، قال: نعم، سرقت بقضاء وقدر ونحن نقطع يدك بقضاء وقدر.
فقطع عمر يد السارق تنفيذاً للأمر الشرعي، وفعل ذاك أمر كوني، ولا يعارض الأمر الكوني بالقضاء الشرعي لأن عمر رضي الله عنه وأرضاه كأنه يقول: أنت تعرف أن هذا حق وهذا باطل، هذا رشد وهذا ضلال، هذا ثواب وهذا خطأ، وإلا لماذا نحن نأتي فنحب الظل ونكره الشمس؟ في منافعنا الدنيوية نحرص على ما ينفعنا، والإنسان منا يكد ويكدح في النهار، حتى يحصل معاشه، وإذا قلت له: اجلس في بيتك بارك الله فيك وسوف يأتيك رزقك قال: لا.
لابد أن العبد يكد ويشتغل ويجد وسوف يأتيه رزقه إن شاء الله، لكن إذا أتت الصلاة فلا يتحرك إلى المسجد، ويستدل بالقضاء والقدر، لماذا لا يستدل بالقضاء والقدر في المعاش؟ وفي أمر المعيشة وتدبير أحواله، وأغراضه ويستدل بها في الطاعة؟ فنلزمه بمثل ما ألزم نفسه.
إذاً القدر يحتج به في المصائب لا في المعايب، لكن هنا مسألة قد يستشكلها البعض، وهي: أن احتجاج آدم عليه السلام كان في المعايب؛ فأكل الشجرة من المعايب، وليس من المصائب، أليس والخروج من الجنة من المعايب والذنب، لأنه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سماه ذنباً، ولم يسمعه مصيبة فقال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] فلم يقل: أبتلاه الله بمصيبة، وإنما قال: فعصى، سماه عاصياً، أليس في هذا دليل على أن آدم عليه السلام استدل بالقضاء والقدر في المعايب ولم يستدل به في المصائب، نقول: لا، يقول ابن القيم في كتاب شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل.
القضاء والقدر يستدل به في مسألتين:
المسألة الأولى: في المصائب.
كلما أصابتك مصيبة فقل: قدر الله وما شاء فعل، ويستدل به في المعايب في صورة واحدة وهي: فمثلاً إذا تبت أنت، كنت في شبابك مسرفاً على نفسك ثم تاب الله عليك وهداك، فرءاك الناس وأنت خطيباً، ومتكلماً واعظاً، فيقولون لك: أنسيت فعائلك طول الدهر؟ أنسيت صنائعك؟ أمثلك يدعو الناس؟! فتقول: نعم قدر الله عليّ في شبابي أن أفعل، ولكن هداني الله، وهذا من باب استدلال آدم عليه السلام لموسى، يقول لموسى: أتاب الله علي الآن أم لا؟ قال: نعم تاب عليك، قال: فلماذا تلومني على أمر قد كتبه الله علي وتاب الله علي منه، وموسى عليه السلام يعلم أن الله تاب على آدم، لأن الله سبحانه يقول: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] وقال: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] فذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه تاب عليهما، فأنت يصح لك أن تحتج بالقضاء والقدر بعد أن تتوب من الذنب، أما قبل أن يتوب الإنسان فلا يجوز له أن يحتج بالقضاء والقدر.
كمثل إنسان يترك المساجد ويهجر بيوت الله، ويعصي الله عز وجل، ويتمرد على حدوده، ويقول: قضاء وقدر! نقول: كذبت لعمر الله، بل أخطأت على الله عز وجل وتجاوزت حدوده.(152/10)
جواز احتجاج المذنب بالقدر في بعض الصور
المسألة الثامنة: هل للمذنب أن يحتج بالقدر؟ قد ذكرت أن ابن القيم ذكر صورة واحدة وهي أن تحتج بالقضاء والقدر إذا تبت من المعصية كما مثلت من قبل.
ومسألة أخرى يجوز أن تحتج بها في القضاء والقدر، وهي: أن تبين أن كل شيء بقضاء وقدر، فمثلاً: أخطأت فتقول: هذا كتبه الله علي.
لكن لا تجعله حجة ولكنك تجعله إيماناً بالقضاء والقدر، فليعرف هذا، فإنه أصل عظيم وأصل من أصول أهل السنة والجماعة.(152/11)
أسباب غلبة آدم لموسى
المسألة التاسعة: لماذا غلب آدم موسى؟ ما هو السبب الذي جعل آدم يغلب موسى؟
غلبه بالحجة بسببين اثنين، وهما أصلين عظيمين، وبرهانين كبيرين.
أولهما: أن آدم تاب، فما هي الفائدة إذاً أن يحاجه موسى وقد تاب، وانتهى الأمر، وتاب الله عليه وغفر الله له، وأسكنه الجنة وجعل العائد من ذريته في الجنة، فلماذا يلومه؟ إنسان كان مسرفاً على نفسه ثم أعلن توبته، وأصبح من عباد الله، هل تأتي وتقول له: لماذا كنت فاجراً قبل سنوات؟ لماذا كنت عاصياً العام الأول؟ لماذا كنت تترك الصلاة؟ هذا ليس بصحيح، فقد تاب وانتهى الأمر.
والسبب الثاني: أنه قضاء وقدر والله كتب عليه القضاء والقدر، فلماذا يلومه على شيء كتبه الله عليه، ولكن موسى عليه السلام يلومه على الكسب، وعلى فعله وهو إخراج الذرية بسبب هذه المصيبة.(152/12)
القدرية وردهم لحديث محاجة آدم وموسى
المسألة العاشرة: ردت القدرية الحديث بأمرين:
أولهما: قال القدرية المعتزلة: إن هذا الحديث لا يصح، ولذلك يأتي أحدهم، أظنه العلاف أو الجبائي، ويمسح الحديث من كتب الحديث بيده، نعوذ بالله.
ولذلك رئي أحدهم في المنام -كما ذكر الذهبي - كأن الله حول صورته صورة كلب وهو يمسح هذا الحديث، كيف يمسح هذا الوحي! {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4 - 5].
ولذلك يقول الجهم بن صفوان: لو كان لي من الأمر شيء لمحوت آية في القرآن، قالوا: وما هي؟ قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]
وذكر ابن تيمية: أن الجهمية في عهد المأمون كتبوا على الكعبة (ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم والآية هي: (وهو السميع البصير) انظر إلى الهوى، فيأتي هذا الخبيث الفاجر ويمسح الحديث؛ لأنه يعارض مبدأه، سبحان الله! لا يؤمن بالحديث؛ لأنه صاحب هوى ومبتدع ضال، فاعتقدوا أنه يهدم مبدأهم ومنهجهم الفكري الضال هدماً، وقالوا: سبب رد الحديث أمور:
أولاً: هذا الحديث ليس بصحيح، قلنا لهم: لماذا؟ قالوا: موسى أعقل وأفضل وأعلم بالله عز وجل من أن يلوم آدم على أمر قد تاب منه، ثم يقولون: وموسى عليه السلام قتل نفساً فتاب منها فقبل الله توبته، فكيف يلوم ذاك على أكل الشجرة وهو قد قتل نفساً، فهو لا يلوم أبداً، وهذا هو الفقه الأعوج فهم يردون الحديث بالهوى.
ويقولون: ثانياً: لأن أهل الجرائم والمخالفات يستدلون بالحديث، يقول هؤلاء القدرية: لو وافقنا على قبول الحديث، كان كل واحد أردنا أن نقيم الحد عليه، يقول: لا، هذا بقضاء وقدر، نأتي بالسارق نقطع يده، فيقول: لا تقطعوا يدي، هذا قضاء وقدر، نأتي بالزاني الثيب نرجمه فيقول: قضاء وقدر، ولذلك قالوا: الحديث مردود -رد الله وجوههم في النار- نعوذ بالله من الهوى، ونسأل الله أن يتوب على من تاب منهم وعلى كل المسلمين.(152/13)
أعذار آدم عليه السلام
المسألة الحادية عشرة: آدم عليه السلام معذور بأمرين:
أولاً: لأن في المسألة أمرين: كسب وقضاء وقدر، فأما القضاء والقدر، فقد عذره الله عز وجل؛ لأن الله كتب عليه، وأما الكسب فلأنه تاب منه، وقال: ربنا إنا ظلمنا أنفسنا، فكيف تلوم إنساناً تاب من المعصية، ورجع وعاد.
ثانياً: اللوم كان بعد التوبة، فلا لوم بعد التوبة، إذاً فغلب آدم موسى وحجه، ودفع ما قال وانتصر عليه، وبقيت الصلة والقربى بينهما وكان النصر في هذا الحديث للوالد على ولده، وعرف موسى أن الحق مع آدم عليه السلام.(152/14)
الأدب في الحوار
ومن المسائل الأدب في الحوار، ذكر ذلك ابن حجر والقاضي عياض وقال: فيه أدب الحوار، فإنه ما شنع عليه ولا لامه، ولا سبه ولا شتمه، وإنما تلطف فقال: أنت أبونا الذي خلقك الله بيده، كما قال تعالى: (لما خلقت بيدي) فالله صوره من طين بيده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى تصويراً يليق بجلاله، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، كل هذا من الفضل، قال: ثم لامه: أنت خيبتنا وأنزلتنا إلى الدنيا، فأذنبنا، وأخطأنا وأسرفنا، وكأنه يقول: أنا قتلت نفساً، وفعلت وفعلت، وفعل بنو إسرائيل هذه المصائب والجرائم وكلها بعد أن نزلنا من الدنيا، فكيف يا أبانا فعلت بنا هذا الفعل؟ فآدم يتلطف معه ويقول: أنت موسى.
أي: ليت الخطاب جاء من غيرك، كأنك تقول أنت الولد الذكي أو الرجل الكريم، ولذلك يقول عمر كما في البخاري لـ عثمان لما تأخر عن صلاة الجمعة: وتأتي في هذا الوقت! لأن عثمان من مشاهير الإسلام ومن السابقين ومن العشرة المبشرين بالجنة فكيف يتأخر! أي ليت التأخر من غيرك؛ فإنه لو كان الخطاب من موسى ما كان قال آدم ذلك، فقال: أنت موسى الذي اصطفاك برسالاته، وكلمك، وكتب التوراة لك بيده، كيف تلومني على هذا؟!(152/15)
الحِكم الربانية في خروج آدم من الجنة
قال ابن حجر: وفيه تعريض من آدم لموسى كأنه يقول: يا موسى ما حصلت لك هذه الكرامات إلا بعد أن نزلت أنا من الجنة، وإلا لو كنا بقينا في الجنة ما كان لك هذه الكرامات، والمراتب العالية، هل لو بقي آدم في الجنة كان هناك فرعون، ولما أرسل الله موسى إليه، ولما ضرب البحر بعصاه، ولا كان معه الحية والثعبان.
فكأنه يقول: اتق الله عز وجل، واحمد الله على هذا الفضل، فبسبب نزولي من الجنة إلى الدنيا حصلت لك هذه المقامات العلية وإلا لو بقيت أنا في الجنة كنت أنت بقيت من سائر الناس، ولما كان هناك ابتلاء، ولذلك فلله الحكم البالغة، كيف أنزل آدم؟ لكن الظاهر أن نزول آدم من الجنة كان مصيبة، وإننا نسترجع منها، ونقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كلما ذكرناها قلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ لأنها مصيبة وسبب كونها مصيبة لأمور:
أولاً: لو كنا في الجنة ما كان علينا تكاليف، لا صيام ولا صلاة ولا حج ولا عمرة ولا زكاة، وكنا مرتاحين.
الأمر الثاني: ما كان علينا مصائب وآلام وأحزان، فهذا مشلول وهذا مبتلى بالعمى، وهذا بالصمم، والمستشفيات مليئة، وحوادث السيارات، والأزمات، وغلاء الأسعار، وتخريب البيوت، والدمار والبراكين والحروب، وضرب الطائرات والصواريخ، كل هذه المصائب ما كانت توجد، وكنا في أمن وسكينة في الجنة.
والأمر الثالث: لو كنا في الجنة، ما كان انقطع نعيمنا أبداً، لكن هناك نعيم أراده الله عز وجل لنا:
أولاها: أن الله عز وجل لما أنزل هذا الخلق منهم الأنبياء والرسل ومنهم الشهداء والصالحون، ومنهم الأخيار والذاكرون، ومنهم الصوام والقوام، ومنهم العباد والدعاة، ومنهم المجاهدون والمستبسلون، فهذا فضل من الله عز وجل.
ثم الفضل الآخر أن الله عز وجل جعل منازل الجنة بهذه المنازل، ثم الأمر الآخر: أن الله امتحننا بالعبودية فصدقنا، فإنك إذا أتيت تعطي ابنك الجائزة بعد أن بذل وجد في الامتحان؛ كان في نفسك اطمئنان أنك أعطيته بحق، وهو يفرح لأنه أدى وعمل، وأما الطفل الصغير الذي لا يعرف ألف ولا باء ولا تاء ولا جيم ولا ثاء، فتأتي تعطيه الجائزة هو سيأخذها وهو يدري أنه ليس هناك جدارة، وأنت في نفسك لست فرحاناً بهذه الجائزة التي أعطيته، وذلك لأنه يكسر نوافذ الناس بالحجارة، أو يؤذي الناس بصوته، لكن مادام قد أعطيته هذا الفضل فقد استحق الفضل هذا، فهو من أرباب الفضل.
فالأدب في الحوار كان وارداً، وكان سمتاً حسناً، ولذلك لما قرأ صلى الله عليه وسلم سورة الكهف أخذ يسافر بروحه وبكيانه مع موسى والخضر وهما في سفر عجيب وفي حوار غريب، فلما انتهى القصص، قال الخضر عليه السلام: هذا فراق بيني وبينك، قال صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يستمر في الحوار، يقول: {يرحم الله موسى ليته صبر حتى يقص علينا من خبرهما} كأنه صلى الله عليه وسلم يقول: استعجل موسى، وليته صبر قليلاً حتى نسمع كثيراً من الأخبار العجيبة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعيش الأنس والمتعة، ويعيش التربية والأدب، ويعيش التفقه مع القرآن، كان يقرأ القرآن -كما يقول سيد قطب - على خلاف ما نقرأه الآن، الواحد منا إلا من رحم الله إذا قرأ سورة القصص، يفكر: متى ينتهي منها ويمر بقصة موسى عشرين مرة، وهي قصة معروفة يعرفها حتى الأطفال، ولكن في قراءتها متعة ما بعدها متعة، وسلوى ما بعدها سلوى، ولذلك يتنقل بك القرآن في حدائق غناء وقصص عجيبة، وهو كتاب السماء، وهو كتاب الأعاجيب، مرة يقص عليك قصة يوسف وأنت تعيش معه في الجب وفي القصر، ثم في السجن، ومع الأبناء ومع الإخوة، وفي الرؤية، فما تنتهي من السورة حتى امتلأت علماً ويقيناً وإيماناً، ومرة يمر بك في الحدائق الغَنَّاء فيصف لك الأشجار السامقة، والتلال الوامقة، والنجوم اللامعة، والشمس الساطعة، وخرير الماء، وزقزقة العصافير، ويتركك من هذا المشهد، وينتقل بك إلى يوم القيامة، فإذا الأهوال: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:1 - 5] وبينما أنت في ذلك الرعب ينتقل بك في ساحة الجهاد وإذا السيوف تلمع، وإذا الرماح تأخذ الأنفس والأرواح.
ولذلك يقول أبو العلاء المودودي في كتاب كيف تقرأ القرآن وهو كتاب من أحسن ما كتب، يقول: العجيب في القرآن أنه ليس كأي كتاب من كتب البشر، نحن الآن البحوث التي تقدم في الكلية، أو في أي مؤسسات علمية، يأتي أولاً قال: البحث فيه ثلاثة أبواب، والباب فيه أربعة فصول، والفصل فيه مطالب، والمطلب فيه فقرات، وهنا فهرس، ومقدمة الباحث، وكلام المشرف، والتعقيب، والحاشية، لكن القرآن لا يسلك هذا المسلك، يسلك بك مسلكاً عجيباً يتحدث لك في الكون، وبينما تقول سوف يستمر في الكون ينتقل بك إلى الطلاق، وأنت في الطلاق ومصارعة الزوج مع زوجته والمشاكل العائلية، وإذا بك في الحديقة وهو يتكلم لك عن الأزواج البهيجة، في الورود والزهور والماء، وبينما أنت كذلك وإذا به يدخل بك على الملوك، ويأمرهم بالعدل {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:26].
ومن أسرار القرآن أنه لا يدعوك إلى فن من الفنون التي أتى بها البشر، هو ليس كتاب هندسة، وقد سبق هذا الكلام، ولذلك بعض الناس يقول في القرآن هندسة، فنقول له من أين الهندسة؟ قال: فيه دليل على أن الخط المستقيم أقرب خط بين نقطتين، قلنا: من أين؟ قال: من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] هذا ورد في تفسير موجود، ويقول: الخط المثلث دائماً زواياه منفرجة، قلنا: من أين؟ قال: من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة المرسلات: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:30 - 31] فهذا ليس بصحيح.
وقال آخرون: القرآن كتاب جغرافيا، لأنه ذكر التضاريس، وذكر المناخات والمحيطات وهذا ليس بصحيح، وقال آخرون: القرآن كتاب طب، من أين؟ نعم هو يذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لمحات لكن القرآن كتاب هداية، يهدي البشر، ويحكم الدنيا بحكم الله، ويقود الإنسان إلى الله، الذي لا يعرف السر هذا فسوف لا يهتدي بالقرآن الكريم كثيراً.
القرآن كتاب هداية، وليس كتاب تاريخ ولا جغرافيا ولا هندسة ولا طب، وما أخبرنا متى ولد فرعون وكم عند فرعون من الأبناء والبنات، ولا متى توفي، إنما أخبرنا أنه مجرم، وأنه ضل، وأخبرنا أن موسى مهتد، وأنه دعاه إلى الله، ولا أخبرنا متى انتقل صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، ومتى وصل إلى المدينة بحفظ الله ورعايته في الساعة كذا من يوم كذا في تاريخ كذا، ومن الذي كان على كبار مستقبليه، وكيف استقبل بحفاوة وتكريم، لا، ولم يخبرنا عن قارة آسيا ولا إفريقيا ولا أمريكا الشمالية والجنوبية، ولا استراليا.
ولم يخبرنا عن المناخ كذلك، أن الرياح تنخفض في المنخفضات وترتفع في المرتفعات، وأنها إذا هبت في وقت البرودة فهي باردة، وإذا هبت في وقت الحر فهي حارة، لا، إنما أخبرنا أنه يريد أن يقود الإنسان إلى الله.(152/16)
مذهب أهل السنة في الجنة التي أخرج منها آدم
المسألة الثالثة عشرة: الجنة التي أخرج منها آدم جنة الخلد، وهذه مسألة خلافية بين أهل السنة، حتى يقول بعضهم: هذه الجنة في الدنيا وليست جنة الخلد؛ لأن من يدخل الجنة لا يخرج منها، هذا شيء؛ ولأنه كيف أخرج آدم من الجنة، هل سقط من السماء وما أخبرنا الله كيف سقط، ولا الوسيلة التي نزل منها، ولكن الصحيح أنه كان في جنة الخلد، لعدة أمور:
أولاً: قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا} [طه: 123] فدليل على أنه هبط من علو وقال: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [طه:118 - 120] وهذا دليل على الذين قالوا: إن جنة الخلد ليست في السماء، لكن قالوا: الشيطان كيف يدخل الجنة؟ الشيطان لا يدخل الجنة، ولذلك يأتي بعض الخرافيين يقول: الشيطان لما أراد أن يدخل الجنة احتال بحيلة، قلنا: ما هي الحيلة؟ قال: ابتلعته حية، ثم دخلت الحية الجنة، يعني كأن الله عز وجل بغفلة عن هذا، وهو يخادع من؟! رب السماوات والأرض، الذي خلق الجنة وخلق الناس، وكأن علم الله لا يدرك أن في باطن الحية شيطاناً، ورد هذا في بعض كتب التفسير، والصحيح أنه وسوس، وأنه ابتلى به العبد حتى في السماء، لما خلق الله آدم كان الشيطان موجوداً ذاك الوقت، وما أعلم دليلاً على أن الشيطان لم يكن في الجنة، لكن هناك دليل على أن الشيطان لا يدخل الجنة فيما بعد، فالجنة التي أخرج منها هي جنة الخلد، التي نسأل الله عز وجل أن يعيدنا إليها:
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو
من هو العدو؟ إنه الشيطان، يقول ابن القيم: يا عبد الله، عد إلى جنتك الأولى التي كان فيها أبوك، فمن يشابه أبه فما ظلم، فأنت إذا أذنبت فتب حتى تعود إلى الجنة، لأنها دارك الأولى.
ومما يجب على المسلم أن يعتقده في القضاء والقدر: أن يؤمن بالقضاء والقدر، ويفعل الأسباب، فإن القضاء والقدر لا ينافي فعل الأسباب، فمن نفى القضاء والقدر فقد نفى أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، وقد ابتدع في دين الله، ومن عطل الأسباب فقد تخاذل وأصابه الوهن والكسل والعياذ بالله.
إذاً فنحن مأمورون أن نفعل الأسباب، ونؤمن بالقضاء والقدر، يقول رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن ناقته قال: يارسول الله أأعقل ناقتي أم أتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل، فنحن أهل سبب وأهل إيمان بالقضاء والقدر، فمن أراد أن ينجح فليسأل الله تعالى النجاح وليثابر على المذاكرة؛ فإن الله عز وجل سوف يوفقه ويهديه سواء السبيل، فالأسباب لا يعطلها القضاء والقدر.
وبعض الناس يبلغ بهم التواكل إلى إيمانهم بالقضاء والقدر، فيقولون كل شيء بقضاء وقدر، فلا نحرص على شيء ولا نفعل شيئاً، وبعضهم يحرص على الأسباب، ولذلك ذكروا عن بعض الحمقى، قيل جحا وقيل غيره، كان يريد أن يشتري حماراً من السوق، فقيل له: أين تريد؟ قال: أريد أن أشتري حماراً، قالوا: قل إن شاء الله، قال: لماذا أقول إن شاء الله؟ الدراهم موجودة والحمار موجود في السوق، فذهب فضاعت منه الدراهم، فعاد إلى بيته قالوا: أين الحمار؟ قال: ضاعت الدراهم إن شاء الله!
فالآن تذكر (إن شاء الله عز وجل) فالآن أبطل القضاء والقدر، وبعض الناس من أهل التصوف أبطلوا الأسباب، فبعضهم يخرج في الصحراء، قيل له: خذ خبزاً، قال: لا.
الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الرزاق العليم، فيذهب فإذا توسط الصحراء بحث وبحث ودعا الله أن ينزل له خبزاً من السماء، ثم يموت، لأنه ترك الأسباب.
وقد ذكر ابن تيمية عن هؤلاء المتواكلين الصوفية عجائب لا يعلمها إلا الله عز وجل، لكن نحن أهل الإسلام وأهل السنة -نسأل الله أن يجعلنا منهم- مأمورون أن نؤمن بالقضاء والقدر، ونؤمن بتعاطي الأسباب، وسمعت أنا شخصاً -نسأل الله أن يهديه- يقول لزميله وهو يذاكر، قال: ذاكر والله لن تنجح إلا بالمذاكرة، لأن ذاك كان يدعو بعد الصلاة، قال: ضيعت الوقت يا أخي تعال ذاكر، قال: أنا أدعو الله بالنجاح، قال: النجاح أن تذاكر لا أن ترفع يديك بعد الصلاة، نعوذ بالله، وهذا فجور وفسق، إن فعله بجهل فيُعَلَّم، وإن كان علم فإنه فاجر فاسق، فنحن مأمورون بكثرة الدعاء وببذل الأسباب، وإذا بلغت الأمور مبالغها، وقد اجتهدنا فلا لوم، المعاتبة تأتيك والأسف إذا لم تفعل شيئاً ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: {احرص على ما ينفعك} انظر ما أحسن اللفظ: {احرص على ما ينفعك} من أمور الدنيا والدين {واستعن بالله ولا تعجز} لأن العجز مخالفة الأسباب أو تركها {فإن أصابك شيء؛ فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، لكن قل: قدر وما شاء فعل} فهذا معنى قدر الله وما شاء فعل، هذا مكانها، وهذا موضعها، إنسان يذاكر لينجح، فلما ذاكر وسهر وبذل ولخص وراجع، وشرح وأدمن القراءة، كتب الله عليه أن يرسب؛ فله أن يقول: قدر الله وما شاء فعل، فنقول: صدقت وأحسنت وآجرك الله على هذه المصيبة، لكن إنسان نام وكتبه ليست موجودة ولا يدري ما هو المقرر، ودائماً يسأل الناس قبل دخول القاعة، ويقول: النجاح على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ثم رسب، فيقول له الناس: ما لك؟ فيقول: قدر الله وما شاء فعل، كلامه صحيح لكنه ملام، لأن كسبه ليس معه، فلم نلم الأول لأنه كسب وكسبه معه، فكسبه يدافع عنه، وهذا نلومه لأنه ليس له كسب.(152/17)
بيان معنى قوله: (وأعطاك كل شيء)
المسألة الرابعة عشرو:
من المسائل التي وردت معنا يقول آدم عليه السلام لموسى: {وأعطاك كل شيء} هنا يمدح آدم موسى فيقول: {أعطاك كل شيء} يقول ابن حجر: هذا عام يريد به الخصوص، ونحن نعرف أن الله عز وجل لم يعط موسى كل شيء، ما أعطاه فضلاً مثل محمد عليه الصلاة والسلام، ولا أعطاه الشفاعة الكبرى، ولا ختم به الرسل، ولكن المعنى: أعطاك كل شيء مما تقبله أنت أو مما أعطاك، مثل قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للملكة بلقيس كما في سورة النمل قال: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23] مع العلم أنها لم تؤت من هذه الوسائل العصرية، لا التلفون ولا طائرة، ولا صاروخ ولا سيارة، ولا أوتيت حتى من ملك سليمان، ليس عندها من الجن من يصنعون لها جفان كالجواب، وقدور راسيات، وما آتاها الطير، وما كان لها الريح، وما سخر لها بعض الأمور، لكن هذا عام أريد به الخصوص، يعني مما تقبل، أو مما يقبل الملك أو يقبله الملك.
مثل ذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] الريح هذه هل دمرت كل شيء؟ لا، ما دمرت السماء الأرض، ولا دمرت الهواء، وإنما قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] وبعدها يدل على أنه لم يرد به كل شيء، قال: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] بقيت المساكن، فدمرت ما يقبل التدمير.
ولك في العموم أن تقول: جاء الناس ما بقي منهم أحد، من كثرتهم وقد بقي منهم ألوف مؤلفة، أو تقول: ذهب الناس للحج جميعاً وما بقي أحد وقد بقي منهم ألوف مؤلفة، فهذا إذا رأيته في القرآن فهو من العام الذي أريد به الخصوص، وقد يراد بالخصوص العموم في سور أخرى، وهذا مكانها في كتب أصول الفقه.(152/18)
مراجعة الفاضل من هو أفضل منه
المسألة الخامسة عشرة:
مناظرة العالم لمن هو أعلم منه، والابن أباه، على المسلم أن يتواضع وأن يقبل الحق من أي أحد، وللتلميذ أن يسأل الشيخ، يقف التلميذ ويقول للشيخ: كيف تفعل كذا وكذا؟ ولذلك يقول أحد الصوفية: لا يفلح التلميذ إذا قال لشيخه: لماذا هذا الأمر؟ قال الذهبي معلقاً عليه: والله يفلح ثم يفلح والدين عند الصوفية ألا ترفع أذنك ولا رأسك ولا عينك، وكل ما يقال لك تأخذه، ولذلك تطمس عندهم الذاكرة، وهذا دين النصرانية فهم يؤمنون بأن الواحد ثلاثة، وإذا قلت: لماذا؟ قالوا: أنت لا تصلح في الكنيسة، أنت نجس! مع أن الطفل الذي عمره ثلاث سنوات يعرف أن الثلاثة ثلاثة، لكن هم يقولون: الواحد ثلاثة، إذا قلت: لماذا الواحد ثلاثة؟ قالوا: أنت لا تصلح للنصرانية، بينما الله عز وجل ذكر لنا العقل في القرآن قال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وقال: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] يقول: أي إنسان يريد أن يجادلك في مسألة، قل: هل عندك دليل؟ عليك بالدليل حتى ولو كان من كان، ولو كان شيخ الإسلام ابن تيمية، إذا جاء بمسألة؛ لك أن تمسك بتلابيب ثوبه بلطف، وتقول: يا شيخ الإسلام يا ابن تيمية! ما هو دليلك في هذه المسألة؟ هل عندك دليل من المعصوم صلى الله عليه وسلم، فأي إنسان لا يمكن أن يشرع في الدين، إذا قال لك أحد: هذه المسألة الصحيح فيها كذا وكذا، فتقول: لماذا الصحيح فيها؟ قال: لأن فلاناً فعله، وهل فلان مشرع، هؤلاء يحتج لأقوالهم ولا يحتج بأقوالهم، هم بحاجة إلى أن نبحث لهم عن أدلة من الكتاب والسنة، ولسنا بحاجة إلى أن نجعل أقوالهم أدلة ,ولذلك الهدهد جاء من اليمن، ووقف عند سليمان الملك، سليمان العظمة والعزة عليه السلام، الذي يقول: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35].
لذلك نسب إلى الحجاج نسأل الله العافية، يقول: أظن، سليمان كان فيه حسد، قالوا: استغفر الله، قال: نعم، يقول: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] نعوذ بالله وعليه من الله ما يستحقه، بل سليمان أراد الملك ليسخره في طاعة الله عز وجل، فلما أتى الهدهد قال: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} [النمل:22] يقول: عندي علم، وعندي شيء أنت ما أدركته، فتواضع له سليمان عليه السلام.
إذاً: فالعالم يباحث ويسأل، وإذا رأيت الأستاذ والمدرس والمعلم في الفصل يلغي الأسئلة، ويلغي الحوار فاعرف أنه لأحد سببين:
إما أنه فاشل ليس عنده من العلم شيء، فلا يريد أن يفضح نفسه بين الناس، أو أنه دكتاتوري ظالم، يريد أن يفرض سيطرته في الفصل ويلغي عقول الناس، يقول لخمسين تلميذاً أو ستين أو مائة بعد أن يلغي إرادتهم تماماً: هذا الحق الموجود، فإذا رفع أصبعه قال: اسكت، خذ هذا وفي الامتحان تجيب بهذا.
وإلا فالرسول عليه الصلاة والسلام أعلم الناس وأهداهم وأفقههم وأخشاهم، سأله الصحابة وأجاب، وسأل الأمم أنبياءهم بلا تعنت وأجابوا، وسأل التلاميذ علماء الإسلام فأجابوا، فالسؤال للتعليم وارد.(152/19)
إثبات القدر وخلق أفعال العباد
المسألة السادسة عشرة:
إثبات القدر، وخلق أفعال العباد، فأفعالنا مخلوقة، فمثلاً: إذا وضعت يدي هكذا، فهذا الشيء قد كتبه الله قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، أخذ الحسن البصري أصبعه فوضعها في راحته، قال: والذي لا إله إلا هو لقد كتب الله وضع أصبعي هذه على يدي قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كل شيء وقع في الكون من ذرة أو حركة أو سكنة أو لفظة أو لمحة أو ضوء، أو مسار أو أي شيء فهو بقضاء وقدر {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].
لذلك بوّب البخاري بـ خلق أفعال العباد، وأتى فيه رحمه الله بمسائل وهو من أهل السنة وأئمتهم.
وفي الختام نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لطاعته وأن يفقهنا في دينه، وسلام على آدم يوم وقف في موقف الحوار، وسلام على موسى يوم ناقش أباه وجلى الأمر على جلية، وسلام على أنبياء الله المرسلين وعلى عباده الصالحين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، ووفقنا لكل خير، وخذ بأيدينا إلى كل رشد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(152/20)
مع الذاكرين
إن الذكر أفضل العبادة بعد الفرائض، وهو شبه إجماع بين أهل العلم، وما ذاك إلا لعظمته، ولأنه هو الحبل المتين بين العبد وربه، وفي هذا الدرس بيان فضل الذكر في القرآن والسنة، وأخبار الذاكرين، وفوائد الذكر، والفرق بين الذكر الشرعي والذكر البدعي.(153/1)
وقفات مع الذكر والذاكرين
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
درس هذا اليوم بإذن الله وقدرته عنوانه: (مع الذاكرين).
وعناصر هذا الدرس أذكرها، ثم أزف لكم بشرى التائبين.
فضل الذكر في القرآن، ثم فضله في السنة، وأخبار الذاكرين، وهديه صلى الله عليه وسلم في الذكر، وأقسام الذكر، ومن هم الذاكرون الله كثيراً، مناسبات الذكر وفوائده وأوقاته، وآخرها الذكر الشرعي والذكر البدعي.(153/2)
الوقفة الأولى: فضل الذكر في القرآن الكريم
إن العودة إلى الله حسنة جميلة ولكنها في رمضان أحسن وأحسن، والتوبة النصوح واجبة على كل مسلم ومسلمة، لكنها في رمضان أوجب وأوجب، وهنيئاً لمن تاب في هذا الشهر وعاد إلى الله، وراجع حسابه مع ربه وعلم أنه سوف يلقاه.
وأزف لكم بشرى أن كثيراً من شباب الإسلام في هذه الأيام المنصرمة من أول رمضان قد عادوا إلى الله وأعلنوا توبتهم وراجعوا حسابهم مع الله، والله يقول لهم في محكم كتابه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
كان منبر الرسول عليه الصلاة والسلام ثلاث درجات من خشب وفي رمضان {رقى عليه الصلاة والسلام المنبر في المدينة، رقى الدرجة الأولى، فقال: آمين، ثم رقى الثانية، فقال: آمين، ثم رقى الثالثة، فقال: آمين.
قالوا: يا رسول الله! ما معنى آمين؟ قال: جاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصل عليك، قلت: آمين، ثم قال لي: يا محمد! رغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة، قل: آمين، قال: قلت: آمين.
ثم قال لي: يا محمد! رغم أنف من دخل عليه رمضان وخرج ولم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين} رغم أنفه، أي: ألصق بالرغام، والرغام هو دقيق التراب، أي: خسئ وخاب وخسر وبعد عن الله عز وجل يوم أدركته هذه الفرصة الذهبية الهائلة، التي لا تتكرر إلا قليلاً، ثم فوتها وضيعها.
إخوتي في الله: أعظم درس في رمضان أن يتوب العبد مع أهله وأسرته وبيته، ويعيش عيشة إسلامية، والذين لم يهتدوا إلى الطريق فإنهم مساكين، وكذلك الذين ما عرفوا ذكر الله، ولا كتابه ولا الطريق إليه.
من هنا كان حقاً على المسلم أن يذكر إخوانه في هذا الشهر بدرس عظيم، طالما ذكَّرَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو درس الذكر: ذكر الله تبارك وتعالى.
أما فضل الذكر فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد العاشر من فتاويه: أفضل العبادات بعد الفرائض الذكر، وهو شبه إجماع بين أهل العلم.
شبه إجماع أن أفضل النوافل بعد الفرائض ذكر الله تبارك وتعالى، ولكن ننصت نحن وإياكم إلى قضايا لننفذ إلى مسائل.
طريقان موصلتان إلى رضوان الله تبارك وتعالى: طريقة الفكر، وطريقة الذكر.
التفكر في آلائه ونعمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والذكر لأسمائه وصفاته وذكره الشرعي، قال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].
الصالحون إذا اجتمعوا ذكروا الله، والفجرة إذا اجتمعوا تذاكروا ما يقربهم من الشيطان، ذكر الصالحين تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل، وذكر المعرضين غناء ومجون وسفه وغيبة ونميمة وفحش.
يقول الأول:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
يقول: يا رب! قلوبنا إذا مرضت تداوت بذكرك فصحت، أما قلوب اللاغين فتمرض من كثرة اللغو فلا تحيا ولا تصح أبداً.
قال سبحانه: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] والقلوب مهما علقتها بلذائذ الدنيا فلن تطمئن أبداً، تعلق بعض الناس بالمناصب، وبعضهم بالقصور، وبعضهم بالأموال، وبعضهم بالأولاد، ولكن لم تصح قلوبهم ولا طابت، وما انشرحت صدورهم أبداً؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) [طه:124 - 126] ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41 - 42].(153/3)
الوقفة الثانية: معنى قوله تعالى: (اذكروا الله ذكراً كثيراً)
وهنا كلام لأهل العلم، في معنى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41] متى يكون الإنسان من الذاكرين الله كثيراً؟
يقول ابن الصلاح: من ذكر الله في الصباح وفي المساء بالأذكار الشرعية المأثورة عن معلم الخير، فهو من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [[ذكر الله كثيراً أن تذكره في الليل والنهار، وفي الحل والترحال، وفي السراء والضراء]].
وقال ابن تيمية: من داوم على الأذكار الشرعية التي علمها معلم الخير عليه الصلاة والسلام وذكرها، كذكر دخول المسجد والخروج منه، ودخول الخلاء والخروج منه، والاستيقاظ والنوم والبدء بالطعام والانتهاء منه، ولبس الثوب وغيرها فهو من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
وقال بعض العلماء: ذكر الله كثيراً ألا يجف لسانك من ذكره.
والدليل على ذلك حديث عبد الله بن بسر في الترمذي وأحمد بسند صحيح، قال: {جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله}
قالوا لأحد الصالحين وهو في سكرات الموت: اذكر الله.
قال: ما نسيته لأذكره.
وكان الجنيد بن محمد رحمه الله -وهو من أولياء الله الصالحين- في سكرات الموت يقرأ القرآن، قالوا: أنت مشغول بالموت عن القرآن، قال: ومن أحوج الناس إلى العمل الصالح إلا أنا.
وقال سبحانه في كتابه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].
يقول أحد الصالحين: والله إني أعلم متى يذكرني ربي، قالوا: متى يذكرك ربك؟ قال: إذا ذكرته.
يقول سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].
هل تذكرونا مثل ذكرانا لكم رب ذكرى قربت من نزحا
واذكروا صباً إذا هادى بكم شرب الدمع وعاف النزحا
أيها الإخوة الأبرار: ذكر الله في الكتاب على أضرب، إذا ذكر الذكر مطلقاً فمعناه التسبيح والتهليل والتحميد، ويذكر مقيداً ويبين القيد الذي ذكره الله معه.(153/4)
الوقفة الثالثة: فضل الذكر في السنة
اسمع إليه عليه الصلاة والسلام وهو يتحدث عن فضل الذاكرين، يا شيخاً كبيراً شابت لحيته وشاب رأسه ورق عظمه! ألا أدلك على أحسن الأعمال؟ عليك بذكر الله.
يا شاباً قوي البنية بهي الصورة ألا أدلك على عمل يكفل لك أحسن الأعمال! عليك بذكر الله، لن تجد أبداً أفضل من الذكر، في صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال للصحابة: {سيروا هذا جمدان - جمدان جبل في خليص، لا يزال يبيت ويصبح ويمسي مع أهل خليص، جبل رآه عليه الصلاة والسلام كبير- فقال للصحابة: سيروا هذا جمدان سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات} والمفرد قالوا: هو الذي قطع صفته بالعمل الصالح، وقيل المفرد: هو الذي امتاز بالعمل، أي: امتاز بالذكر من بين إخوانه، وتجد الناس في المجالس كلٌ يذكر ما يحب.
يقول الغزالي صاحب الإحياء، محمد بن محمد أبو حامد: إذا دخل مجموعة في مجلس تكلم كل واحد منهم عما يحب، أو بما يحب، فالنجار إذا دخل في المجلس تجده يتكلم في الخشب وفي الأبواب، وكيف ركبت، وكيف صرفت، وكيف أخرجها النجار وصقلها.
أما الحداد فيتكلم في الحديد وفي تركيبه، وأما البناء فيتكلم في روعة البناء، وأما النقاش فيتكلم في الطلاء وفي نقشه من أصفر وأحمر وأبيض، وأما صاحب القماش والبزاز فيتحدث في الأقمشة.
ولكن أولياء الله يذكرون الله ويتحدثون فيما يقربهم من الله، والذاكرون هم أقرب الناس إلى الله تبارك وتعالى.
يقولون: إن يوسف عليه السلام -وناقل هذه القصة ابن رجب في جامع العلوم والحكم - نزل الجب يوم أنزله إخوانه، وكان غلاماً صبياً، أنزلوه في الجب وهو البئر، وقيل: فيه صخرة وبقية ما حول الصخرة ماء، فنزل على الصخرة في الليل، لا رفيق ولا صاحب إلا الله، ولا مؤنس إلا الله، فأخذ يذكر الله حتى يقول: كانت الحيتان تهدأ في البحر ولا يهدأ هو من التسبيح، وكانت الضفادع تسكن من النقنقة، ولا يسكن هو من ذكر الله، فالله حفظه؛ لأنه حفظ الله.
ويقول سبحانه عن يونس بن متّى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144].
والمسبحون هم: الذين يجري ذكر الله على ألسنتهم في الضراء والسراء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح عند الترمذي وغيره: {ألا أدلكم على أفضل أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورِق، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله} أعظم من نوافل الجهاد، وأعظم من نوافل الصدقة، ونوافل الصيام؛ ذكر الله تبارك وتعالى دائماً.(153/5)
الوقفة الرابعة: من أخبار الذاكرين
أما أخبار الذاكرين في ذلك: فورد أن خالد بن معدان كان يذكر الله في اليوم أربعين ألف مرة.
وأما يوسف بن أسباط، فقالوا: كان يذكر الله مائة ألف، ويسبح الله ويهلله ويكبره.
فهؤلاء قوم قضوا أنفاسهم مع الله، ولا إله إلا الله كم نتكلم ونتحدث ونلغو، وكم نلهو، فأي نصيب جعلناه لذكر الله؟! وأي وقت صرفناه للذكر؟!
يقول عليه الصلاة والسلام عن الذكر والذاكرين في صحيح البخاري عن أبي موسى: {مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، كمثل الحي والميت}.
فالذين لا يذكرون الله فإن كانوا يأكلون ويشربون، ويغنون ويزمرون، ويطبلون ويسرحون ويمرحون فهم أموات، كما قال الله: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:21] الميت حقيقة هو: الذي لم يعش مع القرآن والإيمان والمسجد وطاعة الله عز وجل، وما استنار بنور محمد عليه الصلاة والسلام، والذي لم يعرف معنى الحياة، قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
والظلمات هي: ظلمات المعصية والشهوة، والبعد عن الله تبارك وتعالى، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم في الصحيح: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس} وفي رواية: {أو غربت} الدنيا سهلة، ذهبها رخيص، وفضتها رخيصة، ويوم توزن بالأعمال لصالحة لا قيمة لها، لأن قول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلى محمد عليه الصلاة والسلام مما طلعت عليه الشمس أو غربت.
وعند الترمذي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة} انظروا كم يفوتنا من النخلات، لا إله إلا الله! لو غرسنا بهذا الذكر عند الله في دار الرضوان كنا من الفائزين؟!
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها(153/6)
الوقفة الخامسة: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الذكر
يقول ابن القيم رحمه الله: كان الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر الله دائماً، نفسه ذكر، وكلامه ذكر، وأفعاله ذكر، يذكر ربه في الليل والنهار، قلبه معلق مع الله وهو مع الناس، وهو يتبسم، وهو يقاتل، وهو يفتي، وهو يعظ، وهو يأكل، وهو يشرب، وهو ينام، وكل حياته عليه الصلاة والسلام ذكرٌ لله تعالى، قال الله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
كان دائماً مع الله، وله ميزة وخصيصة عليه الصلاة والسلام أنه إذا نام لا ينام قلبه، أما نحن فقلوبنا تنام إذا نمنا، ولذلك لا ينتقض وضوءه صلى الله عليه وسلم إذا نام، وفي الصحيح أنه قام لصلاة الفجر؛ فقدم له الماء فقال: {يا عائشة إنها تنام عيناي ولا ينام قلبي} فهذه من خصائصه عليه الصلاة والسلام أنه حيٌ سواء نام أم لم ينم.
نامت الأعين إلا مقلة تذرف الدمع وترعى مضجعك
فهو عليه الصلاة والسلام ذاكر لله دائماً وأبداً، فحري بالمسلم أن يقتدي به، وهذا الشهر هو شهر مدرسة وتربية، ومن لم يذكر الله في هذا الشهر ويراجع حسابه مع الله فمتى يذكر الله؟!
من لم يجعل له من شهر رمضان وقوداً للتوبة والعودة إلى الله، والندم والأسف على ما مر من أيام انتهت وانقضت، وساعات تمزقت مع العابثين واللاهين، وليال أغلى من الذهب والفضة ذهبت مع المعرضين، وأوقات أحلى من العسل فاتت وذهبت فمتى يتوب ويندم؟: {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام:31] {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] التفريط لا يدركه العبد إلا إذا قدم على الله:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني(153/7)
الوقفة السادسة: أقسام الذكر
أقسام الذكر ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ذكر بالقلب واللسان، وهو أرفع الذكر وأعظمه، فالذكر أن تذكر الله بقلبك ولسانك، تسبح باللسان وأنت تتفكر في معنى التسبيح، تستغفر باللسان وأنت تتفكر في معنى الاستغفار، وتصلي على الرسول عليه الصلاة والسلام بلسانك وأنت تعيش بقلبك معنى الصلاة، فهذا أرفعها.
القسم الثاني: ذكر الله بالقلب بلا لسان: من الناس من لا يحرك لسانه، لكن قلبه يذكر الله.
القسم الثالث: ذكر الله باللسان بغير القلب، وهذا مأجور عليه العبد، ولو أنه لا يصل إلى درجة ذكر القلب، ولا ذكر القلب باللسان، لكن يؤجر عليه، والدليل على ذلك ما رواه الترمذي بسند صحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {يقول الله تبارك وتعالى: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه} وقوله عليه الصلاة والسلام عند الترمذي عن ابن بسر: {لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} فدل على أن ذكر اللسان بغير قلب يؤجر عليه العبد.
أبو مسلم الخولاني، أحد التابعين الكبار، يقولون: كانت لسانه لا تفتر من ذكر الله، دخل على الأسود العنسي مدعي النبوة عليه لعنة الله في صنعاء اليمن، أحد الثلاثين الكذابين الذين زعموا أنهم أنبياء- فدخل أبو مسلم الخولاني على الأسود العنسي فكذبه، فقال له الأسود: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم.
قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: لا أسمع شيئاً، فجمع له حطباً، وأوقد ناراً، وأُتي بهذا الرجل الصالح فألقوه في النار؛ فجعلها الله برداً وسلاماً عليه، فلما قدم على أبي بكر، عانقه أبو بكر وعمر، وقالوا: مرحباً بمن فُعل به كما فعل بإبراهيم الخليل عليه السلام.
هذا العبد يقولون: إنه كان لا يفتر أبداً من ذكر الله صباح مساء، وكان لا ينام إلا قليلاً من كثرة ذكره لربه تبارك وتعالى.
ومن أقسام الذكر: طلب العلم ومدارسته؛ بل هو أعظمها عند أهل العلم، فجلوسك في معرفة الصلاة ومعرفة الصيام، ومعرفة البيع والشراء، ومعرفة أبواب الفقه، والتفسير والحديث، من أعظم أنواع الذكر عند الله عز وجل، وهي مجالس الجنة ومجالس الإيمان.
أما الذاكرون الله كثيراً، فقد سبق عرض ذلك، وهم: الذين يذكرون الله في كل لحظة، ولا يفتئون يذكرون الله دائماً وأبداً، وأقول لكم كما يقول السلف: من حافظ على الأذكار الشرعية الواردة عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام، فهو من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.(153/8)
الوقفة السابعة: كتب في الذكر
وهناك كتب في الذكر أنصح بها، منها: الوابل الصيب لـ ابن القيم، ومنها: الكلم الطيب لـ ابن تيمية، ومنها: الأذكار للإمام النووي، وعدة الحصن الحصين وحبذا أن يكون معه تحفة الذاكرين للشوكاني؛ لأنه خرجه وحققه، فهذه الكتب تدلك على أبواب الذكر، ونقولاته ومناسبته وفوائده.
وهي من أحسن ما يرشح لقراءة هذا الموضوع.(153/9)
الوقفة الثامنة: مناسبات الذكر
لكل ذكر مناسبة، فمن عبوديتك لله؛ أن تقوم بهذا الذكر في هذه المناسبة، فمثلاً بعد الصلوات سن لك رسول الهدى عليه الصلاة والسلام ذكراً وهو تسبيح الله ثلاثاً وثلاثين، وتحميده ثلاثاً وثلاثين، وتكبيره ثلاثاً وثلاثين، والتهليل خاتمة المائة، وآية الكرسي، وقل هو الله أحد، والمعوذات، كذلك التهليل الوارد بعد الصلاة، وأنا لا أستقصي كل ذكر.
لكن أقول: ذكر المناسبة عليك أن تتقيد به، لا تأتي بذكر في غير موضعه، صحيح أنك تؤجر عليه، لكنه خلاف الأولى.
مثل: إنسان ترك التسبيح ثلاثاً وثلاثين بعد الصلاة، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله مائة مرة، نقول: أنت مأجور، لكن خلاف الأولى، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يسبح في هذا الموضع فسبح أنت، ومن الأمر المسنون عنه عليه الصلاة والسلام قوله: {سبحان ربي العظيم في الركوع} فيأتي رجلٌ فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله في الركوع، أو لا إله إلا الله، هذا أمر آخر مقيد، وهذه عبادة، وكذلك في السجود والتحيات وبين السجدتين، فهذا ذكر المناسبات، منه ما هو واجب، ومنه ما هو سنة، ومنه ما هو الأولى أن تفعله، ففي الصلاة واجب ما ورد فيه فلا تتعداه، وفي غيرها هو الأولى والأحسن والأطيب وصعود الجبال وحمل الأثقال ذكرها: لا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول أبو موسى والحديث في الصحيح: {كنا نصعد ثنية، وكان الناس يرفعون أصواتهم بالتكبير ويقول - أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه: وأنا أقول في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله، فأتاني عليه الصلاة والسلام، وقال: يا عبد الله بن قيس! ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: لا حول ولا قوة إلا بالله} فلا حول ولا وقوة إلا بالله تناسب صعود الجبال، وحمل الأثقال، وكرب الأهوال.
ويناسب التفكر في آيات الله، وفي خلقك وبديع صنع الله؛ سبحان الله؛ لأنه للتسبيح وللتعجب من خلقه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ويناسب ذكر المعصية والخطيئة والذنب؛ استغفر الله وأتوب إليه.
وذكر الرسول عليه الصلاة والسلام: الصلاة والسلام عليه، صلى الله عليه وسلم دائماً وأبداً، إلى غير ذلك من المناسبات التي ذكرها معلم الخير عليه الصلاة والسلام.
والبدء بالطعام: بسم الله.
والرفع من الطعام: الحمد لله.
ودخول المسجد له ذكر والخروج من المسجد له ذكر وهكذا.(153/10)
الوقفة التاسعة: فوائد الذكر
عدّ بعض العلماء فوائد الذكر فأوصلوها إلى ما تقارب المائة فائدة:
منها: أنه يطرد الشيطان، ويرضي الرحمن، ويؤنس الجليس، ويعظم الأجر، ويزيل الخطايا والذنوب، ويوجد بهاءً في الوجه، ويشرح الصدر، ويوجد أنساً بين العبد وبين الله، ويكفر الخطايا ويتحف الجليس، ويحفظ العمر.
ومنها: أنه يقود إلى أشرف الطاعات.
ومنها: أنه يمنع من السيئات والخطايا كالغيبة والنميمة.
ومنها: أنه يرد القلب إلى مولاه؛ فيراجع حسابه مع الله، ويتوب ويندم.
ومنها: أنه يكافئ كثيراً من الأعمال الصالحة بل يزيد عليها.
ومنها: أن الملائكة تذكر الذاكر.
ومنها وهو أعظمها: أن الله يذكر من ذكره، لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].
ومنها: أن الذاكر لا يزال في رعاية من الله وفي معية خاصة.
ومنها: أن الذاكر لا يأتيه وساوس ولا واردات ولا هواجس.
ومنها: أنه ينفي القلق والهم والغم والحزن وتكدير الحياة والعيش.
ومنها: أنه يمد في العمر، ويزيد فيه، ويبارك في ساعاته.
ومنها: أنه يثلج صدر المؤمن.
ومنها: أنه قوة على أعمال أخرى، فيفتح للمؤمن أعمالاً أخرى من الذكر إلى غيرها من الفوائد.
يقول ابن القيم: ومن أعظمها أنه ينفي النفاق عنك.
فالمنافق لا يذكر الله، والله عز وجل ذكر المنافقين، فقال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] ولا يداوم على ذكر الله منافق، فلا تجد المنافق يذكر الله في السوق، أو السيارة أو الطائرة أو المجلس، لا يفعل ذلك إلا مؤمن، وأنت جرب بنفسك، إذا أردت أن ترى هل أنت مؤمن أو منافق فاسأل نفسك، هل أذكر الله دائماً وأبداً؟ هل أذكر الله وأنا مع الناس، في الجلوس والخروج في السوق، والطائرة والسيارة، إن كنت تفعل ذلك فأبشر ثم أبشر بالإيمان.
فإن أعظم علامة للمؤمنين أنهم يذكرون الله كثيراً، حتى في القتال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].(153/11)
الوقفة العاشرة: أفضل أوقات الذكر
ما هي أوقات الذكر؟ وما هي أحسن أوقات الذكر؟
أحسن أوقات الذكر المطلق من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، ومن بعد العصر إلى غروب الشمس قال تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17 - 18] بالغدو والآصال، قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، هذه أحسن أوقات الذكر.
وكان عليه الصلاة والسلام يذكر ربه من بعد الفجر إلى طلوع الشمس، وفي حديث حسنه بعض أهل العلم وبعضهم يصححه، وبعضهم يضعفه: {من صلى الفجر في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كان كعدل حجة وعمرة تامة تامة تامة} والأقرب أنه حديث حسن، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك.
يقولون: كان ابن تيمية يجلس في مصلاه يذكر الله حتى يرتفع النهار، فيقول: هذه غدوتي ولو لم أتغد لسقطت قواي، فهذه من أحسن أوقات الذكر من بعد الفجر إلى طلوع الشمس، وهو وقت تفتح القلوب، وتفتح الأزهار، وتغريد الأطيار، وهطول البركات من الواحد الغفار، وهو وقت تنزل الأرزاق والفتوحات الربانية من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فعليك أن تكون في هذه الساعة من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
وبعد العصر إلى غروب الشمس، أو بعد الغروب بسويعات أو بساعة أو بنصف ساعة أو ما يشابهها ترفع كفيك، خاصة وأنك في هذه الأيام صائم، هنيئاً لك الصوم، صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {للصائم دعوة لا ترد} وأنت منكسر البال، ومنكسر البطن بالجوع، ومنكسر الإرادة ترفع كفيك إلى الله عز وجل تدعوه يجيب الله دعوتك.
والثلاثة الذين يجيب الله دعوتهم لا شك في ذلك كما في حديث أبي داود: {المظلوم، والوالد، والصائم} فكن من الذاكرين الله كثيراً والداعين خاصة قبل الإفطار، فإن لك دعوة مستجابة يجيب الله دعوتك فيها؛ فاغتنمها حفظك الله.(153/12)
الوقفة الحادية عشرة: الذكر الشرعي والذكر البدعي
هناك ذكرٌ شرعي عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام، وذكرٌ بدعي، ونحن أمه توقيفية، أمة تقف عند الوحي، تتلقى أوامرها من الله، من الكتاب والسنة، ولا تبتدع، لقوله صلى الله عليه وسلم: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} [[]].
فالذكر الشرعي هو ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، مثل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله إلى غيرها.
أما الذكر البدعي فهو: الذي أحدثه المبتدعة، وما أنزل الله به من سلطان، مثل أنهم يقولون: أعظم الذكر الاسم الأعظم، ويجعلون الاسم الأعظم الضمير (هو) يقول: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] ويقول: {إِلَّا هُوَ} [البقرة:163] قالوا: (هو) هو الذكر الأعظم.
فيأتي هؤلاء المبتدعة فيجلسون في الزوايا يقولون: هو هو هو، بدل أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، يقف أحدهم من صلاة العصر إلى المغرب يقول: هو هو هو هو.
قال أهل السنة: هذا ليس بذكر بل هذا نباح كلاب.
وابن عربي يقول: والدرجة الثانية في أعظم الذكر الاسم المجرد: الله الله الله الله.
قال ابن تيمية: لم يأتِ به نص عنه عليه الصلاة والسلام، وليس في ترداده وحده مجرداً أثر إليه عليه الصلاة والسلام، فتجد بعضهم يقول: هو، وبعضهم يقول: الله الله الله الله، وبعضهم يأتي بالاسم مجرداً بلا طلب، فتجده يقول: يا لطيف! يا لطيف! وهو قد يؤجر إذا قصد به أن يدعو الله عز وجل لكن يبين دعاءه، ولا يبقى على هذا؛ لأنه ليس من الأدعية المأثورة أن تنادي بالاسم فحسب، كرجل يأتي عند الباب، ويطرق عليك بابك، يا محمد! يا محمد! فتقول: نعم، فيقول: يا محمد! وتقول: نعم، فيقول: يا محمد! يا محمد! حتى أن بعض المبتدعة ورد أنه أتى إلى المقدسات، فكان يردد يا لطيف! من العشاء إلى الفجر، قيل له: أليس عندك ذكر غير هذا؟ قال: أوصاني أحد المشايخ أن أقول يا لطيف! سبعة آلاف مرة عند قبر الرسول عليه الصلاة والسلام وهذه بدعة مركبة، كونها عند القبر وهذا أيضاً ذكر غير شرعي.
ومن المبتدعة كذلك من يذكر الله بغير أسمائه المأثورة الثابتة التي قال فيها: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] ومن الإلحاد في الأسماء أن تسمي الله بغير اسمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، مثلما ذكر الغزالي، أبو حامد صاحب الإحياء: يسمون الله يا دهر الدهارير! فلذلك يدعو أحدهم فيقول: يا دهر الدهارير افتح علي، وهي ليست من أسمائه سبحانه، أو يا موجود! وهي ليست من أسمائه، أو اشتقاق ما لم ينزل الله به سلطاناً، يا يقظان! فهذه كلها إلحاد في أسمائه.
إنما يذكر بالأسماء والصفات التي وردت في الكتاب والسنة، يا كريم! يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! يا بديع السماوات والأرض! إلى غيرها مما ثبتت عنه عليه الصلاة والسلام، أو وردت في الكتاب والسنة.
هذا -أيها الإخوة- الذكر الشرعي والذكر البدعي، وهو آخر عناصر هذا الدرس، وأنا لا أحب الإطالة؛ لأنه سوف تكون هناك سلسلة من الدروس كل يوم إن شاء الله ينبني بعضها على بعض، وما حصل فيه كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولمن أراد الله به خيراً نفعته كلمة، والذي لا يريد الله به خيراً لا تنفعه محاضرات الدنيا ولا كتب الدنيا، وإنما يزيد بالسماع ضلالاً إلى ضلاله، وإعراضاً إلى إعراضه، وبعض الناس يفتح الله عليه بكلمة، ويستفيد بموعظة أو آية أو حديث، فيكون موفقاً في الدنيا والآخرة، وبعضهم لو تناطحت جبال الدنيا أمام عينيه، ما زاده إلا إعراضاً وعتواً.
التفت عليه الصلاة والسلام إلى السماء، والحديث عند أحمد، وقال: {هذا أوان انتزاع العلم -أي: انتزاع العلم من الصدور- قال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول الله كيف ينتزع منا العلم؟! والله لنحفظن القرآن أبناءنا، ويحفظه أبناؤنا أبناءهم، قال عليه الصلاة والسلام: ثكلتك أمك يا زياد! كنت أظنك أفقه رجل في المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى ما انتفعوا بها} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
أيها الإخوة: أسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يجعل ما سمعنا حجة لنا لا حجة علينا، لنكون عاملين مؤدين صادقين مع الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(153/13)
علماء الغرب يقولون
إن لله في هذا الكون آيات باهرات عظيمات، تهدي من تفكر فيها وأراد الهداية إلى صراط مستقيم.
من هذه الآيات الغيث الذي يحيي الأرض بعد موتها، ويحيي القلوب الميتة، فهو غيث الأرض بما تنتفع به من ماء، وهو غيث للقلوب بما تنتفع به من معرفة عظمة الله وقدرته على الإحياء.
وإن الإيمان القائم على التفكر في الكون والنظر في أسراره لا يخشى عليه من عاديات البث المباشر ولا غيرها من الوسائل الهدامة.
وهاهم علماء الغرب يشهدون بأنه لا حياة سعيدة إلا بالإيمان.(154/1)
قضايا من آية: (وهو الذي ينزل الغيث)
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
قف في الحياة تر الجمال تبسما والطل من ثغر الخمائل قد همى
وشدت مطوقة الغروس ورجعت وترعرع الفنن الجميل وقد نما
والمؤمن اطلع الحياة بهيبة أهلاً بمن حاز الجمال مسلما
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28] تحققت هذه الآية، وعشناها حدثاً خالداً، ورأينا آثار الله قبل أيام.
عشنا القحط والجدب والفقر، كانت أرضنا وجبالنا وحدائقنا مغبره قاحلة ميته، فعدنا إلى الله في صلاة استسقاء وكنا صائمين، وكم في الجموع من صائم صادق، وكم فيهم من مخلص توجه بدعائه إلى الحي القيوم، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] فما كانت إلا الاستجابة من الذي خزائنه لا تنفذ وغناه لا ينتهي، ليقرر لنا أموراً عجيبة في المعتقد وفي الحياة، وفي الآخرة، يقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28].(154/2)
النعمة والإحسان من الله
أولها: ذكر الضمير ولم يذكر لفظ الجلالة، فكأنه هو المعروف بالإحسان، وهو على ما كان قبل الزمان والمكان، وهو الذي قدم الإحسان للإنسان قبل أن يكون إنساناً، وبعد أن كان الإنسان، وبعد أن يموت الإنسان، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [الشورى:28].
ثم قال سبحانه: {يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [الشورى:28] والتشديد هنا للمبالغة، وهي للمبالغة في الإنزال، وكأن الناس يتحرون شيئاً ينزل فنزل عليهم بعد لأواء.
ثم قال: (الغيث) ولم يقل المطر لأن الغيث له سر عجيب، يغيث به الله البلاد والعباد، ولو قال المطر لاحتمل أن يكون عذاباً وتدميراً، فغالب ذكر المطر في القرآن عذاب وتدمير وخسف وإبادة، قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [الشعراء:173] ولكن قال: الغيث ليغيث الله به البلاد والعباد، قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى:28] لقد تراجعت كثير من النفوس وشكت في قدرة الباري.
ولقد أخفقت كثير من الأرواح التي تربت على الفلسفة الغربية المادية التي لا تؤمن بالله، ولقد ظن دعاة المادة الذين يعبدون المادة ويلتجئون إلى غير الله، أن لا إله ولا قدرة ولا رحمة ولا عناية، ويستهتر بعضهم فيقول: كم من صلاة وكم من دعاء وما نزل الغيث! ولكن الله أسكت منطوقهم وفضح شريحتهم، وأبطل إرادتهم بالغيث الذي نزل هنيئاً مريئاً في أيام متعددة، فقد صلينا وبعد ساعات نزل الغيث، والله يقول: {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى:28] من بعد أن ظنوا أن لا رحمة، اتجهت العجماوات والببغاوات، والحشرات والكائنات إلى الله، وهذا أمر معلوم بالفطر.
والله يقول في حديث قدسي يرويه أبو يعلى: {وعزتي وجلالي لولا شيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع؛ لخسفت بكم الأرض خسفاً ولمنعتكم القطر من السماء} ولكن عناية الله ورحمته وحلمه عن كل مجرم وعاص أنه نظر سبحانه إلى هذه العجماوات والحيوانات، وإلى الأطفال والشيوخ الركع السجود، وإلى حملة القرآن والدعاة، والصالحين، فأغاث الله البلاد والعباد.
قال تعالى: {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى:28] ما أحسن التعبير! وما أجمل العبارة! وصل الماء إلى بيوتنا قبل نزول الغيث.
لكن ما حل المشكلة وما قام بالأمن القلبي وما نزلت علينا السكينة بشيء كنزول الغيث، نعم امتلأت خزاناتنا من الماء الذي وصل إلينا من البحر، وصهاريجنا وبيوتنا، لكن حدائقنا يابسة، وأزهارنا قاحلة وجبالنا ميتة، فلما قال: {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى:28] عاشت الأرض وترعرعت واهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:6].
اهتزت: لبست حلة وتراقصت على القطر.
وربت: أخرجت أزهارها وثمارها وأشجارها، وغرد البلبل وسار الطير وأنشد الصداح الأناشيد على أفنان الشجر؛ شاكراً المولى تبارك وتعالى.
وفي نزول الغيث يقول سبحانه: {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28] وعبارة (الولي الحميد) جُعلت هنا لعبرة، فالولي: الذي ولايته عامة وخاصة، فأما نحن فولايته لنا خاصة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لماذا؟ لأننا حملنا الإيمان، واسلمنا لله، وأتبعنا رسول الله.
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
وفي نزول الغيث دروس: أولها: أن إجابة الدعاء معجزة وكرامة، وأن هناك صلة بين هذا المخلوق الضعيف والله القوي الباقي تبارك وتعالى، وهو درس من دروس التوحيد، عاشه عليه الصلاة والسلام حقيقة أمام أكثر من ألف من أصحابه ونقلتها لنا كتب العلم، فمن كان في شك فليشك , ومن كان في ريبة فليرتب.
أما نحن فنقول: قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23] عاش الصحابة في عهده عليه الصلاة والسلام قحطاً وفقراً وجوعاً وجدباً، أتوا يصلون الجمعة والشمس تقطع الظهور لا غمام ولا سحاب ولا قزعة، دخلوا المسجد في حرارة الصيف المحرقة، فالرمضاء تلتهب وتكاد تأكل الناس، والسموم محرقة للوجوه.
وتقدم عليه الصلاة والسلام إلى المنبر، لم يكن عنده سابق حدث بما سوف يجري في الخطبة، كانت خطبته عن الإيمان، وكان يتكلم بها كالسيل بما فتح الله عليه.
وفي أثناء الخطبة دخل أعرابي المسجد فقاطع الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، صاح الأعرابي وقد بلغ به اللأواء إلى أن يصيح، قال: يا رسول الله! فسكت عليه الصلاة والسلام والتفت الناس إلى الأعرابي، قال: {يا رسول الله! جاع العيال، وضاع المال، وتقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا -ولم يتلعثم عليه الصلاة والسلام، ولم يفكر وقطع خطبته والتفت إلى الحي القيوم- فرفع يديه في لحظة وأخذ يقول: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، يقول أنس -راوي القصة- والله ما في السماء من سحاب ولا قزعة، فالشمس بيضاء محرقة، فثارت سحابة كالترس} قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
فأتت من وراء سلع بـ المدينة ثم توسطت سماء المدينة وثارت كالجبال، والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينزل من على المنبر ولم ينته من كلامه، ثم أزبدت وأرعدت وأمطرت، وإذا الماء ينهمر على وجهه الشريف الذي هو كالبدر، ويتقاطر الماء على لحيته ويتصبب فيتبسم، قطعه التبسم عن الكلام.
ما رأي دعاة الإلحاد في هذه القضية؟ أي تحليل علمي على هذه الحادثة؟
ما هو مدلولها، أصدفة يدخل الأعرابي وصدفة تقطع الخطبة، وصدفة ترتفع اليد، وصدفة تأتي سحابة كالترس من وراء الجبل ثم تمطر في لحظة وتسيل المدينة؟!
فتبسم عليه الصلاة والسلام:
طفح السرور عليَّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
ويقول: أشهد أني رسول الله، ونقول له: نشهد نحن الملايين أنك رسول الله، ونشهد أن رسالتك الخالدة التاريخية أثبتت قوتها وصدقها ونبوغها وروعتها وجلالها وجمالها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(154/3)
متى يغيث الله
القضية الثانية في نزول الغيث: أن فيه آية؛ لأن الله يغيث القلوب متى أرادت القلوب غوث الله، أرض قاحلة وقلوب قاسية، فإذا طلبت القلوب مولاها باللين لينها الله، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] ثم قال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:17].
أيها المسلمون: إن الله كما أحيا الأرض يحيي القلوب، فيا من أراد حياة القلوب! ليست حياة القلوب إلا عند محمد عليه الصلاة والسلام وهذه المادة المخدرة، مادة الطاقة التي يملكها القلب ليكون حياً حرام على أي منهج إلا منهج الإسلام.
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه
قد مضينا في ضياء الوحي حباً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحدوه خطاه
قد شربنا من كئوس الوحي حباً وارتوينا وكتبنا في العلى بالاسم تمجيد الإله
إذاً: غوث القلوب بالإيمان والوحي، ومن أراد أن يغيث قلبه فليبادر إلى الإيمان وذكر الواحد الديان والرسالة الخالدة، فوالله! ليس له من دون الله مغيث، ولو جمع لذائذ الدنيا وطاقات الدنيا وانفصل عن الإيمان ما كان إلا موتاً إلى موت وخيبة إلى خيبة.(154/4)
إحياء الموتى
القضية الثالثة: في نزول الغيث عبرة، وهي أن الله يحيي الموتى ويردهم إليه، قال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] والله ذكر هذه القضية في كثير من آيات القرآن، كلما ذكر نزول الغيث وإحياء النبات وترعرع الأزهار والنبات والأشجار، أخبرنا أنه يعيد الموتى إليه كما أعاد هذا الشجر بعد أن مات، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:10 - 11] كذلك الخروج من المقابر، كذلك تخرجون أيها البشر إذا متم؛ تخرجون كما تخرج النباتات.
هل تصور أحدكم حديقة مر بها وقد مات شجرها واختفى زهرها وذبل وردها، حديقة ظن أنها لا تعود لها الحياة أبداً، هاجرت منها الطيور وفارقها الهدهد وهجرها الحمام، لا ماء ولا رواء ولا خضرة ولا حياة، أصبحت الأشجار تهوي بها الريح في غبار تشمئز منه النفوس، واليوم عد إلى الحديقة وانظر إليها، عادت كما كانت عليه ولبست حلة، واهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج:6] وهي أعظم قضية، قضية الإيمان.
أعظم آية في نزول الغيث أن الله هو الحق، فالقلوب ما اتجهت يوم أتى هذا الجدب إلى الشرق أو الغرب بل اتجهت إلى الله.
خرج سليمان عليه السلام يستسقي بالناس، وإذا بنملة رفعت أرجلها تقول: يا رب اسقنا، يا رب لا تحرمنا القطر بعصاة بني آدم، نملة ونحلة ويرقة وورقة، كلها تلتجئ إلى الله، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:6].
وهي القضية الثانية الكبرى، مع ذلك الله حق ويحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير، وأن نعتبر بهذا، فإنه دليل قاطع وحجة باهرة على إحياء الموتى بعد أن يموتوا، والله قادر على ذلك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يقول في ملحد زنديق اعترض على هذه القضية، قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79].
فهذه قضايا في نزول الغيث.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28] وارتاحت قلوبنا وعادت لنا الحياة، واخضوضرت أوراق الأشجار، وسرى النسيم وعادت الأطيار المهاجرة، ونزل الأمن والسكينة، وعاد الصالحون في توجه عظيم إلى الله، يشهدون أن الدين حق وأن الله حق وأن الرسول عليه الصلاة والسلام حق.
إنه -والله- سر من أسرار هذا الدين العظيم الذي وصل هذه الأمة الربانية بربها، تستسقي في الصباح وينزل الغيث في المساء إجابة لدعوتها ودعوة الصادقين من أبنائها.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله الجليل العظيم لي ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(154/5)
من آيات الله سبحانه وتعالى
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
الورد والزهر والشجر والأطيار يشهد أن لا إله إلا الله.
وفي كل شيء له آيه تدل على أنه الواحد
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] حتى يتبين لهم أن الرسالة صحيحة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام صادق، وأن مبادئنا خالدة، وأن تعاليمنا سماوية ربانية، إنه الإيمان.(154/6)
حال الناس في العالم
إن العالم شرقيه وغربيه الآن يكفر بنظرية الإلحاد، ويدوسها بالحذاء، فـ أوزبيكان، أذربيجان ولايات روسيا أكثرها تعود إلى الله وترفع على مراكزها ومساجدها لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويدوسون (لا إله والحياة مادة)؛ لأنها كلمة لعينة، ولأنها نغمة خاطئة، وسوف أورد كلام علمائهم من نقولات كتبهم عن الإيمان.
هم الآن يعودون إلى الإيمان، وبعض الناس من المسلمين يخرجون من الإيمان، بحثوا عن كل لذيذة فوجدوا الحياة بلا إيمان لعنةً وغضباً وسحقاً وتهافتاً، تطوروا في الصناعة والمادة، فهم سيروا الضوء وطوروا الذرة ولكن امتلأت مستشفياتهم بالقلق والهموم والغموم، والتشنج والانتحار وانتشر السلب والنهب، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] وقال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] والأمن حرمه الذين لا يعيشون الإيمان: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينا
والهداية ليست إلا لأهل الإيمان، يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس:9].(154/7)
من وعود الله للمؤمنين
ومن وعود الله للمؤمنين ألا يسلط عليهم كافراً، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141].
ومن وعوده لهم أنه يدافع عنهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38].
ومن وعوده أن العزة لهم، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8].(154/8)
علماء الغرب يعرفون الله
ولكن اسمعوا إلى كلام أساطينهم وعلمائهم الذين وصلوا إلى درجة من العلم، فدلهم هذا العلم على الله، ولكن ما وجدوا من يخبرهم بالإسلام، ولا من يوصل لهم الإيمان.
كما يقول كريسي موريسون في كتابه: (الإنسان لا يقوم وحده):
يا أبناء لا إله إلا الله! قدمنا لكم الثلاجة والبرادة والطائرة والصاروخ، وما قدمتم لنا الإيمان.
وهذا أستاذ الفلسفة في جامعة هارفارد، اسمه وليم جيمس يقول:
إن أعظم دواء للقلق أدركته ولا شك هو الإيمان، لكن نقول له: لو ذقت أنت حلاوة الإيمان التي نعيشها نحن، لآمنت ولصدقت ولرأيت السعادة والنور، عنده حد وقدر نسبي من الإيمان والتصديق فكيف لو رأى الإيمان، ما كان ينبغي أن تفتح مستشفيات لمرضى النفس، ولا أرق ولا هموم ولا غموم، لكن لما انحرف الجيل عن المسجد والقرآن والذكر والأوراد وعبادة الواحد الديان، امتلأت المستشفيات النفسية بالمرضى، بمرض القلق والأرق والتشنج، فحلنا وقضيتنا وعلاجنا ودواؤنا الإيمان.
يهددننا الناس والعالم بالبث المباشر، وكثير من الناس يرد منهم حلولاً، منهم من يقول: بتطوير شاشتنا لترد على شاشاتهم، ومنهم من يقول: بالتشويش على رادارهم وهذا لا يستطاع، ولكن نحن نقول: نملأ قلوب جيلنا وأمتنا بالإيمان فإذا تحصنا بالإيمان فلن يغلبونا أبداً.
لا تحدثني عن البث المباشر والعربسات وأقمار المقامر
أنا بثي دعوة قدسية تطفئ الشمس وتخزي كل كافر
والمذيعون علي والبرا وأبو بكر وعمار بن ياسر
ويقول الفيلسوف فرنسيس بيكون، وهو مشهور، وهو الذي ترجم له الزركلي في الأعلام وغيره يقول:
إن قليلاً من العلم قد يبعدك عن الله وكثيره يقربك من الله.
وهذا القرآن يصدقه، والحكمة ضالة المؤمن، يقول: أنا ببحوثي واكتشافاتي دلني العلم على الله، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] لكن ربما تعرض لي سائل يقول: الواقع يكذب نظرية بيكون لأنا نجد من يحمل الماجستير والدكتوراه والشهادات العالية، ولا يصلى في المسجد ويهجر القرآن، ويفجر ويتناول المسكر، فأي نظرية صادقة.
نقول: نحن نتحدث عن علم القلوب لا عن علم الجيوب، ونتحدث عن علم القبر لا عن علم القِدر، لأن هناك علماً اسمه علم القبر وهناك علم القدر.
فعلم القبر الذي يدلك على الله، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9] وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] وقال تعالى: {وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ} [الروم:56].
فهذا العلم هو الذي يرفعك ويقربك إلى الله، أما علم البطن والفرج والجيب والمرتب، فهو الذي أنتجته شهادات مزورة، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِين * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:175 - 176] وهذا علم لا ينفع صاحبه وهو ردى وعمى عليه.
وهذا مثل ما حصل لـ سخروف، قبل أن يموت، فقد نشرت الشرق الأوسط قبل موته بشهر في موسكو مقالته عن الإيمان، وهي وثيقة تشهد الله على أنفسهم أنهم يعلمون أن لا إله إلا الله في أنفسهم.
ويقول هنري كورد صاحب شركة عالمية أمريكية: أعتقد أن الله تعالى لم يتخلَ عني في تلك الفترات من حياتي، فكان يساعدني على تصريف أموري، ولولا الله لانهارت أموري.
وقد ذكر الله هذا في القرآن، قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] إذا تقطعت بهم الحيل والأزمات واشتد الحبل؛ عادوا إلى الله ورجعوا إليه.
ويقول الطبيب النفساني كريميونت في كتابه: الرجل الحديث يبحث عن الروح:
جاءنا كثير من المرضي من الشعوب المتحضرة، وأكثر المرضى في القلوب من الشعوب المتحضرة، أهل القرى قليل مرضهم، المعقدون صناعياً هم أكثر الناس مرضاً؛ لأن علمهم ما دلهم على الله، قال: وكلما وجدت مشكلة وجدت أصلها؛ افتقارهم إلى الإيمان بالله العظيم الكريم، ليتهم يؤمنون، قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق:20].
شبابنا في قضية الإيمان متردد في أن يقدم أو يحجم، قال تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا} [النور:50] أم كأن الرسالة ارتابت في أذهانهم، أم كأن الأغنية الماجنة خير من التلاوة السعيدة، والمجلة الساقطة أحسن من الكتاب الإسلامي، والجلسة الحمراء خير من مجالس العلم، أم هداية استالين أعظم من هداية محمد عليه الصلاة والسلام، أم النار خير من الجنة، فما لهم لا يدركون هذا ويتفكرون.
ويقول المهاتما غاندي، وما أدراك ما غاندي! إنه عدونا، قتل مليون مسلم وتسبب في عقم مليون امرأة مسلمة في الهند، وهو يقدس في بعض بلاد العلمنة التي لا تعرف المناهج الربانية، يقول: بغير الصلاة كان يتحتم عليَّ أن أصبح معتوهاً أبله منذ مدة طويلة.
وهذا مع أن صلاته خاطئة، فكيف لو عرف صلاتنا؟!
كيف لو ذاق سجودنا؟!
كيف لو عرف مساجدنا؟!
كيف لو عاش هذه اللحظات الإيمانية؟!
لكن يعطيهم الله بقدر هذه المعرفة القلبية ما يؤنسهم، وهذا جزاء الكافر إذا ركن إلى غير الله في الحياة، فجزاؤه وقتي في الدنيا ولكن لا ثواب له عند الله.
ويقول ألكسس كاريل صاحب كتاب الإنسان ذلك المجهول وأنصح بقراءة هذا الكتاب، وقد نقل عنه سيد في كتاب الظلال أكثر كتابه هذا، نثره في الظلال من أوله إلى آخره، يقول:
لعل الصلاة من أعظم الموارد الحرارية للإنسان، إنها كمعدن الراديوم مصدر للإشعاع، ومولد ذاتي للنشاط.
ربنا قد عدنا إليك ورجعنا وتبنا، وعرفنا أن سر خلودنا وعظمتنا في الإيمان، اللهم فزدنا إيماناً وتوحيداً ومتابعة وفقهاً وهداية وعلماً.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله بها عليه عشراً} اللهم صلِّ وسلم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه الكرام البررة يا رب العالمين.
اللهم إنا نشكرك شكراً جزيلاً، نشكرك على هذا الغيث، ونشكرك على هذا الماء، ونشكرك على هذا الرزق، نشكرك على هذه الحياة، فبالأمس استسقينا فسقيتنا واستنصرنا فنصرتنا وافتقرنا فأغنيتنا واستهدينا فهديتنا، اللهم إنا نسألك ثباتاً على هذا الرزق الطيب والهداية والرشد والسداد حتى نلقاك مؤمنين.
والحمد لله رب العالمين.(154/9)
صفات المفلحين
تكلم الشيخ في هذا الدرس عن سورة البقرة وفضلها، وتطرق للكلام عن معجزة القرآن الخالدة، وذكر أمثلة على ذلك، ثم فسر الآيتين الأوليتين من سورة البقرة، مبيناً صفات المتقين المذكورة في أول السورة.(155/1)
فضائل سورة البقرة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته:
نقرأ في هذه الليلة المباركة أوائل سورة البقرة؛ تلكم السورة العظيمة، التي هي أكبر سورة في القرآن.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:1 - 5].
نقل القرطبي وغيره أن في سورة البقرة ألف أمر وألف نهي وألف خبر.
وسورة البقرة لا تقرأ في بيت إلا ذهب منه الشيطان وطرد منه ودحر.
وسورة البقرة وآل عمران كما صح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة في مسلم وغيره أنه قال: {اقرءوا الزهراوين، البقرة وآل عمران، فإنهما تأتيان كغمامتين أو غيايتين، أو كفرقان من طير صواف تظلان صاحبهما يوم القيامة}.
وكان الرجل من الصحابة -كما قال أنس وصح ذلك عنه-: [[إذا حفظ سورة البقرة، وفي لفظ: إذا حفظ البقرة وآل عمران جد فينا]] أي: أصبح سيداً عظيماً مقدماً إماماً.
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يؤمر على أصحابه أميراً في سرية سألهم: أيكم أكثر أخذاً للقرآن؟ فيخبرونه، فقال له رجل لما قال له صلى الله عليه وسلم {ماذا تحفظ؟ قال: أحفظ سورة كذا وكذا وسورة البقرة.
قال صلى الله عليه وسلم: أتحفظ سورة البقرة؟ قال: إي والله يا رسول الله.
قال: اذهب فأنت أميرهم}
ولذلك شرف المسلم بشرف ما يحمل من قرآن ويعمل به، لأن العمل بهذا القرآن هو حفظ للقرآن، وليس حفظه في الصدور وتضييعه في العمل.
ولما أتى عليه الصلاة والسلام إلى الشهداء في معركة أحد -رضي الله عنهم وأرضاهم، وأنزلهم فسيح جناته، وجمعنا بهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر- قال وهو يجمع الاثنين والثلاثة والأربعة في قبر واحد: {أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟} فإذا أشاروا إلى رجل قدمه تجاه القبلة لشرف القرآن الذي في صدره، وأتى صلى الله عليه وسلم ليدفن رجلاً من الأنصار فقال: {رحمك الله، إنك كنت أواهاً تالياً لكتاب الله} وهذا شرف عظيم.
وقد جاء في الترمذي بسند حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان}.
ووجد أن بعض الصالحين تأذى من مشاكلة الجان في داره، فأوصاه العلماء بقراءة سورة البقرة، فلما قرأها ذهبوا بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فهم لا يلجئون إلى بيت فيه سورة البقرة، إنما يأتون إلى بيت فيه الغناء الماجن، والمجلة الخليعة، والكلمة النابية، والفاحشة والمعاصي، أما بيوت أهل القرآن فحرام على الجان أن يدخلوها، والسحرة يغاظون إذا قرأت سورة البقرة، والكهنة يموتون من سورة البقرة، والمشعوذون يغضبون إذا قرأت عليهم سورة البقرة؛ لأنهم من حزب إبليس وحزبه في النار.
يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين فإنهما يأتيان يوم القيامة كغيايتين} الغياية والغمامة والغبابة قطعتان من كُبريات السحب، يوم يشتد الحر، وتتطاير الصحف، ويدنو الكرب من النفوس، وتدنو الشمس من الرءوس، ولا ظل إلا من أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فيأتي الذي يتلو سورة البقرة وآل عمران، سواء في المصحف أو غيباً، ويتلوها دائماً وأبداً، يأتي وعليه سحابتان بإذن الله الواحد الأحد، فتغطيه في الموقف، حتى يقضي الله بين الناس.
أو تأتيان كفرقان من طير صواف كل آية بطير، تظلانه من الكرب ومن حرارة الشمس حتى يقضي الله بين الناس، ولا ظل هناك إلا بالعمل، فالمتحابون بجلال الله يستظلون بعرشه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن الله عز وجل يقول يوم القيامة: {أين المتحابون في جلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس} فأنت في ظل صدقتك، فأكثر من الصدقة أو أقلل، فمنهم من تأتي صدقته كالكهف، ومنهم من تأتي كالجبل، ومنهم من تأتي كالغمامة فأنت ما بررت إلا بنفسك، وما نفعت إلا نفسك، وإن أسأت فعليها وما ربك بظلام للعبيد.(155/2)
القرآن معجزة لرسولنا صلى الله عليه وسلم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {الم} ما هي هذه الحروف؟ ما المراد بها؟ ما هذه القذائف التي تتقدم سورة البقرة؟
إنه نبأ عجيب! ذكر سيد قطب -رحمه الله- في الظلال: أن أول سورة البقرة نسف وإبادة لبني إسرائيل.
فكثيراً ما تقرأ فيها: (يا بني إسرائيل، يا بني إسرائيل، يا بني إسرائيل).
افتتح الله عز وجل هذه السورة بقوله: {الم} ثم سكت الخطاب، ووقفنا عند هذه الآية، ما معنى هذا الكلام؟ هل شعراء العرب يدركون: {الم}؟ هل خطباء العرب يدركون: {الم}؟ هل علماء الإسلام يدركون: {الم}؟ سبحان من أعجز بكتابه وأسكت به الخطباء وأصمت به الشعراء!
العرب أفصح أمة، وشعراؤها أفصح شعراء، ولكل نبي معجزة من جنس ما برع فيه أمته.
فموسى عليه السلام أتى والسحر قد بلغ ذروته؛ فأعطاه الله العصا فتلقفت ما صنعوا في لحظة.
وعيسى عليه السلام بعث في أمة بلغت الذروة في الطب وتكنولوجيا الطب؛ فجعله الله يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنه سبحانه؛ ولذلك يقول أحمد شوقي للرسول عليه الصلاة والسلام في نهج البردة:
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
يقول: إن كان عيسى عليه السلام قد أحيا رجلاً بإذن الله، فأنت قد أحييت ملايين من الأمة الإسلامية، التي ضاعت في التاريخ، وضاعت في الصحراء والبيداء: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
كان الكفار يستمعون للرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقرأ، حتى أتى الطفيل بن عمرو فقال: ما زال بي كفار مكة حتى وضعت القطن في أذني -والرواية في صحيح مسلم - أخذ القطن فوضعه في أذنه اليمنى واليسرى لئلا يسمع الخطاب.
أتدرون ما هي الحرب الدعائية الإعلامية والشائعات ضد الرسول عليه الصلاة والسلام؟ كانوا يقولون: ساحر كاهن، شاعر.
كان إذا جاء وافد يدخل مكة لقوه في الطريق وضيفوه وقالوا له: انتبه عندنا ساحر في الحرم، احذر أن يسحرك!
قال الطفيل: فما زالوا بي حتى وضعت القطن في أذني، ثم نزلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ حول الكعبة، فلما افتتح قراءته قلت لنفسي: يا عجباً! أنا رجل شاعر ورجل أديب؛ فلماذا لا أسمع كلامه؟ فإن أعجبني فبها ونعمت، وإلا عرفت أنه سحر.
قال: فما زالت نفسي تراودني حتى ألقيت القطن من أذني -هذا أول الخير- فسمعته يقرأ قرآناً وقع والله في قلبي.
فذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
وهذا جبير بن مطعم من سادات مكة، الذين كانوا يكسون الكعبة سنة وكفار قريش يكسونها سنة، حلف ألَّا يستمع إلى آية واحدة، يقول له الصحابة: تعال فاستمع، فإن أعجبك وإلا فاترك؛ فحلف وأقسم بلاته وعزاه ومناته ألا يستمع إلى آية واحدة! وبتوفيق الله أراد الله أن ينجيه من النار، فمر والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم بالمسلمين ولم يدخل لئلا يستمع، بل وقف خارج الحرم، وفجأة سكتت الأصوات، وارتفع صوته صلى الله عليه وسلم في صلاة المغرب يدوي في الحرم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور:1 - 5].
وأخذ يواصل حتى بلغ آخر السورة؛ عشرون سؤالاً لو وقعت على ملحد وله بقية من قضاء وقدر عند الله أن يؤمن لآمن! {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَات وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور:29 - 43].
هل يقف القلب أمام هذه الآيات؟ يقول: كاد قلبي أن يطير فترك ناقته ودخل الحرم مباشرة وقطع الصفوف، فلما سلم الرسول عليه الصلاة والسلام وضع يمينه في يمينه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
أهذا قول ساحر؟! أهذا قول كاهن؟! أهذا قول شاعر؟!
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:5 - 6].
وهناك يذهب عليه الصلاة والسلام إلى الرقيق وإلى أهل الكير (الحدادين) صهيب وبلال وخباب بن الأرت وأمثالهم، فيخبرهم بالقرآن فيسلمون، فيقول كفار مكة: لا يعلمه القرآن إلا خباب وخباب أعجمي وصهيب أعجمي، وجاء في بعض الروايات: {أفيعلم الأعجمي العربي؟} يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103].
دخل طبيب العرب الكندي، وكان فيلسوفاً، وفي ذهنه شوشرة ووسواس، لا ينزل وسوسته إلا درة عمر بن الخطاب، لو أدركه عمر لأعطاه سبع درات ثم لا يجد بعدها ألماً أبداً في رأسه، دخل بيتاً وقال: أريد أن أؤلف كتاباً مثل بلاغة القرآن.
قال له علماء المسلمين: اتق الله، خف الله.
قال: لا، أنا أريد من بلاغتي أن أؤلف كتاباً مثل القرآن.
فدخل وأخذ القلم والورقة، ثم فتح القرآن ونظر إليه فوقع نظره على أول سورة المائدة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] فانذهل! وقال: نادى، وأمر، واستثنى، ونهى، ومدح، ووصف، وختم في آية! ثم بقي مبهوتاً، فشلَّ الله في جلسته نصفه، فأصبحت يده ورجله مشلولة، وخرج وفيه هرج ومرج: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16].
وأبو العلاء المعري المارق كان ذكياً من أذكياء العالم ولم يكن زكياً، كان عنده ذكاء ولم يكن عنده إيمان، أتى يعترض على القرآن، فتوفاه الله تعالى، قيل: رئي قبره في المعرة، ولما فتح لغرض من الأغراض وجد عليه حية! أما فم الحية فعلى لسانه، وأما ذنبها فقد أمسكت فرجه بين رجليه؛ لأنه ألحد في الكتاب، وحاول أن يعارض كتاب رب الأرض والسماء.(155/3)
المعنى المقصود من الحروف المقطعة
اختلف أهل العلم في هذه الحروف والله أعلم بمراده منها، فقال بعضهم من فرق المبتدعة: (أ) ألَّفَ الله محمداً فبعثه نبياً، (ل) لام الله المشركين، (م) مقت الله معاوية أهذا كلام؟! إن هؤلاء سفهاء، ولابد أن يؤدبوا تأديباً بالغاً يردعهم وأمثالهم.
وقال بعضهم: {الر} لو جمعت لأصبحت حروفاً وكلمات مفيدة.
ونسب هذا القول إلى ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {الر} وقال: {حم} وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {نْ} فمن يجمع هذه؟ إنها تجتمع في اسم (الرحمن) فقال ابن عباس: تجتمع كلمات.
ولكن الصحيح أن الله تبارك وتعالى أعلم بمراده من هذه الحروف، وأن معناها ومقصودها كأن الخطاب يقول: يا أيها العرب! يا فصحاء الدنيا! يا من تطاول على الناس بالفصاحة! تعالوا هذه الحروف، وهذه المادة، وهذا الخام، ركبوا مثل هذا القرآن.
وهذا تحد -ولله المثل الأعلى- مثل أن يأتي البناء المجيد الذي يجيد بناء القصور فيقول لك: هذا الأسمنت، وهذا الحديد، وهذا الماء فابن كما بنينا، وهذا تحد للعرب.
يقول أحد المفكرين: الكلام مثل التراب، نحن نصنع من التراب الفخار والأواني الفخارية التي نأكل فيها، والله خلق من هذا التراب الإنسان.
فالله إذا تكلم بكلامه كان كلامه كفضل الإنسان على التراب وعلى الأواني الفخارية هذه.
يقول الله للعرب: هذه الحروف أمام أيديكم فابنوا مثل القرآن، وانسجوا على منوال القرآن ولذلك اعترفوا جميعاً، فهذا الوليد بن المغيرة، الذي كان شيخ مكة، وكان يسمى ريحانة قريش، لكنه أصبح ريحانة مقطوفة في النار، وثمرته في الجنة: خالد بن الوليد بن المغيرة {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} خالد بن الوليد الذي خاض مائة معركة في سبيل الله:
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
وما مررت بأصقاع مررت بها الله أكبر يدوي في نواحيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
فهذا خالد بن الوليد، وكان أبوه أبلغ بليغ في الناس، قال له كفار مكة: قل كلمة، قل إنه سحر.
قال: لا أستطيع، أنا سمعت القرآن فليس بسحر.
قالوا: قل هو شعر.
قال: لا أستطيع، قالوا: قل هو كهانة.
قال: لا أستطيع، لكن سوف أذهب وأستمع.
فلما ذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال: يا محمد! قال: نعم.
قال: اسمع مني كلمات.
قال: أسمع.
قال: ما سمعنا برجل من العرب أدخل على قومه من الخيبة والعار مثل ما أدخلت على قريش -انظر إلى السفاهة والجنون والحمق- إن كنت تريد زوجة اخترنا لك أجمل فتاة في مكة وزوجناك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك، وإن كنت تريد مالاً أعطيناك ثم أخذ ينسب ويحسب من هذا الكلام.
فقال له صلى الله عليه وسلم: انتهيت؟ وفي لفظ أنه ناداه: يا أبا هشام! انتهيت؟ قال: نعم.
قال: اسمع فلما انتهى انطلق عليه الصلاة والسلام يقذف عليه بالقذائف من سورة فصلت {حم} حتى بلغ قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] فقام على ركبه ووضع يده على فم المصطفى عليه الصلاة والسلام، وقال: أسألك بالله والرحم اسكت.
فسكت عليه الصلاة والسلام، فقام فنفض رداءه وأتى إلى كفار قريش وهم ينتظرونه، وإذا بوجهه قد تغير، فيقول كفار قريش: جاءكم الوليد بوجه غير الوجه الذي ذهب به.
فلما جلس قالوا: ماذا سمعت؟ قال: سمعت السحر ووالله ما هو بسحر، وسمعت الكهانة وليس بكهانة، وعرفت الشعر وليس بشعر، والله إن أعلاه لمغدق، وإن أسفله لمورق، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه يعلو ولا يعلى عليه.
فحلفوا له وأقسموا ألا تقوم حتى تقول في القرآن شيئاً تقدحه فيه، فسكت ثم التفت فبسر بوجهه وقطب جبينه، ثم عبس بوجهه، ثم أرسل عينيه شزراً، ثم فكر ثم قال: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24] يقول: سوف أوافقكم وأقول إنه سحر.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى -اسمع إلى الرد-: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر:11] يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: اتركني وهذا المارد الفاجر، خلقته فرداً فقيراً مسكيناً والآن يتعلى عليَّ! {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} [المدثر:11 - 12] كان من أغنى الناس، كان الذهب يقسم عنده بالفئوس! {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً} [المدثر:12 - 13] كان عنده عشرة أبناء خالد وتسعة معه، وكان إذا أتى إلى المحافل جعل خمسة عن يمينه وخمسة عن يساره، وألبسهم الديباج والحرير، ونصب التيجان من الذهب على رءوسهم، قال الله: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً} [المدثر:12 - 13]-يشهدون معه النوادي- {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر:14 - 17] صعوداً: جبل في جنهم -نعوذ بالله من جهنم- يصعد الصاعد فيه أربعين وقيل سبعين خريفاً، فإذا انتهى بتعبه وأصبح في أعلاه انزلق إلى أسفله، ثم يصعد هكذا، أبد الدهر.
{سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:17 - 26] ثم تكلم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن النار نعوذ بالله من النار.(155/4)
تحدي الله سبحانه وتعالى بهذا القرآن للعرب
إذاً: الله أعلم بمراده، ولكن من مقاصد هذه الحروف: يا أمة الفصاحة! يا أمة الضاد! يا من أصدع خطباؤها آذان الدنيا! ويا من أسمع خطباؤهم منابر التاريخ! تعالوا وانسجوا مثل هذا القرآن: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] فلو أتى مليون كاتب ومليون مملٍ ومسطر وصحفي على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله.
وقد تحداهم الله بمثل القرآن فلم يستطيعوا، وتحداهم بعشر سور فلم يستطيعوا، وتحداهم بسورة من مثله فلم يستطيعوا ولذلك أعلنوا إخفاقهم وفشلهم، فبدأ الله يتحداهم في أول كل سورة، يقول: {حم} {نْ} فهو يتحداهم بهذه الحروف، هذه حروفكم التي تتكلمون بها، لكن اسمعوا بعدها وأتوا بمثلها.
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
فلم يستطيعوا، ولذلك بهتوا فمعجزته عليه الصلاة والسلام في القرآن، يقول أحمد شوقي:
آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جمال العتق والقدم
ويقول غيره:
أتى على سفر التوراة فانهدمت فلم يفدها زمان السبق والقدم
ولم تقم منه للإنجيل قائمة كأنه الطيف زار الجفن في الحلم
وقال: بعض الخرافيين: ينتهي العالم عام (1400هـ) حسبوا الحروف في القرآن، وأعطوا كل حرف رقماً حسابياً، وإعطاء الحروف رقماً حسابياً موجود في حساب العرب، ونسب إلى بعض العلماء أنه قال: إذا أتى (1400هـ) ولم تقم القيامة فأحرقوا كتبي.
فأتى (1400) ونحن الآن في (1409هـ)! وبعضهم يقول: يؤلف منها وينتهي العالم عام (1400هـ) وأتى (1400هـ) وما انتهى العالم، وكان اليهود في بني قريظة وبني قينقاع يجمعونها في القرآن ويحسبون متى تقوم القيامة ومتى عمر الأمة، ولكن ما استطاعوا أن يحسبوا ولا ينسبوا.
أما مقاصدها: فهي تدل على إعجاز هذا الكتاب العظيم، فسبحان من أنزله!(155/5)
تفسير قوله تعالى: (ذلك الكتاب)
الآن ينتقل إلى الغيبة، ويتحدث عن كتاب غائب، أي كتاب؟ إنه ذلك الكتاب؛ ولذلك إذا مدحت الرجل قلت: ذلك الرجل، وذلك البطل، فالبعد فيه عظمة، فقال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} ولم يقل: القرآن؛ لأنه هو الكتاب، أي: كأن غيره ليس بكتاب، وسيبويه لما ألف كتاباً في النحو سماه الكتاب، وأنت إذا أردت أن تمدح الرجل قلت: الرجل رجل.
وهو رجل وكل الناس الذكور رجال، لكن في الناس رجل ورجيل.
أتى رجل إلى الأحنف بن قيس فقال: عندي حويجة بسيطة (سهلة).
قال: التمس رجيلاً، أما أنا فرجل للمعضلات.
يقول: لا تأتني بالصغائر هذه وتشغل وقتي بها، ولكن التمس لها رجيلاً صغيراً على قدرها، أما أنا فرجل للمعضلات.
وقد صدق، فهو رجل المعضلات، حتى يقول عامر الشعبي: سبحان من ساوى في الدية بين الناس! فلو قتل طفل صغير ذكر فديته ودية الأحنف بن قيس بعقله وحلمه سواء! فالناس في الديات سواء، ولكنهم في العقول يختلفون.
ودعونا نستطرد قليلاً في الأحنف بن قيس يقال: اختلفت قبائل اليمن وقبائل العراق في المسجد حتى سل بعضهم السيوف على بعض، فقام أمير الكوفة فأسكتهم فما سكتوا، وما بقي إلا وقت يسير ويسيل الدم وتضرب الرءوس وتنزل عن أكتافها، فتنة لا يعلمها إلا الله! فقال الأمير لأحد المسلمين: اذهب إلى الأحنف بن قيس وتعال به، فإنهم إذا رأوه سكتوا.
قال: فذهبت إلى الأحنف فطرقت عليه الباب -وأنا لا أعرفه لكنهم دلوني عليه- فخرج لي رجل أشل (على نصف فقط) أحنف (نحيف) مفلفل الشعر، ضعيفاً هزيلاً، وهو محتزم بسلب (بخيط من سلب) فأدخلني فقلت: أين الأحنف -وهو الأحنف -؟ قال: اجلس افطر وسيأتيك الآن.
قلت: الناس سوف يقتتلون في المسجد.
قال: ما عليك، اجلس.
فأجلسني وأتى بخبز وزيت وملح وماء، ثم أتى يأكل، فما استطعت أن آكل معه من خوفي على الناس، فقلت: أين الأحنف؟ قال: الذي يحدثك.
فأتاني من البهت ما الله به عليم!! فقلت: أأنت الأحنف وتأكل هذا؟ قال: زيت من زيت الشام، وماء من ماء دجلة، وخبز من خبز العراق وتقول: لا آكله! هذه نعمة من نعم الله.
فلما انتهى غسل يده ثم أخذ عصاً معه، فلما دخل المسجد سلم على الناس وأخذ يهلل ويكبر، فسكت الناس وأخذوا يدخلون سيوفهم في أغمادها، فصعد المنبر فألقى كلمة ما سمعت بأفصح منها؛ فأصلح بين القبيلتين وصلحوا! قال أحد الناس: من هذا؟ قال الأمير: هذا الأحنف بن قيس الذي إذا غضب غضب له عشرة آلاف سيف لا يسألونه فيم غضب.
في بني تميم عشرة آلاف، إذا غضب الأحنف بن قيس غضبوا ولا يسألون ما سبب الغضب، ويقاتلون معه.
تكلم الأحنف بن قيس على معاوية في مجلسه، وهو خليفة -رضي الله عنه وأرضاه- قال: يا معاوية! إن السيوف التي قاتلناك بها في أغمادها، وإن القلوب التي أبغضناك بها إنها لفي صدورنا، والله إن عدت عدنا.
فدخل معاوية فقالت ابنته: من هذا البدوي الجافي الذي يتكلم عليك أمام الناس وتسكت له؟ قال: هذا مولى زبراء - زبراء خادمته- الأحنف بن قيس الذي إذا غضب غضب معه عشرة آلاف سيف لا يدرون فيم غضب.
فالمقصود من قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} أي: لعظمة هذا الكتاب، وسيبويه سمى كتابه في النحو الكتاب، ولما توفي رئي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي.
قالوا: بماذا؟ قال: لما أتيت إلى لفظ الجلالة في النحو قلت: لفظ الجلالة أعرف المعارف فلا يُعرَّف.
لفظ "الله" لم يعرفه مثل الأسماء، بل قال: لفظ الجلالة أعرف المعارف فلا يُعرَّف، فأدخله الله الجنة.(155/6)
أصل كلمة (الكتاب)
والكتاب ورد في القرآن مشتقاً ومصدراً، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] أي: فرض وألزمتم به، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216] حتى يقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة:180] أي: ألزمتم ووجب عليكم، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:24] أي: إيجابه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وقال جلت قدرته: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] أي: فرضنا وأوجبنا، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105] أي: قضينا وقدرنا، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] أي: قضاء وقدر -في مغانم بدر - وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29] هذه بلقيس كانت في أرض سبأ عند سد مأرب فألقي إليها كتاب كريم من سليمان، لماذا سمي كريماً؟ قالوا: لأن عليه الخاتم.
والملوك لا يقرءون إلا كتباً مختمة، أما الكتب العادية التي من الناس فلا يقرءونها، فلما أراد سليمان أن يكتب كتاباً؛ قال له وزراؤه ومستشاروه: اكتب لها واختم فإنهم لا يقبلون كتاباً إلا مختماً.
وفي صحيح البخاري عن أنس: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى هرقل عظيم الروم، فقال الصحابة: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختماً؛ فاتخذ عليه الصلاة والسلام خاتماً فيه (محمد) سطر و (رسول) سطر و (الله) سطر، فختم به فقرئ عند هرقل}.
قال الله: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29] أي: مختم، انظر ما أطول الكتاب! نص الكتاب: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30 - 31] هذا هو كل الكتاب.
ولذلك العظماء يوجزون في الكلمات، فـ خالد بن الوليد له أقصر كتاب في التاريخ، فقد نزل رضي الله عنه بالجيش في اليرموك فاجتمعت عليه كتائب الروم من كل جهة، حتى يقول أحد الجيش: الملتجأ إلى أجى وسلمى (وأجى وسلمى جبلان في حائل، وهما اللذان تنزل فيهم قبائل شمر، وهي قبائل حاتم الطائي المسماة قبائل طي) فدمعت عينا خالد وقال: إلى الله الملتجا.
وينظر خالد إلى اليمين فإذا هي كتائب، وينظر وراءه فإذا هي كتائب، وأصبح داخل هذه المستعمرة المتحركة من الجيوش التي هي كالبحور! مائتان وثمانون ألف رومي، وهو فيما يقارب ثلاثين ألفاً من الصحابة ومن المسلمين، فماذا فعل؟
أرسل في الليل رسالة إلى عياض بن غنم، وكان بطلاً عنده جيوش وقبائل العرب كلها، لو نادى فيهم لأجابوه، قال في الرسالة: (بسم الله الرحمن الرحيم من خالد إلى عياض إياك أريد والسلام).
وهذا كان أخطر كتاب، فلما قرأه عياض بن غنم قام وسط الليل فنادى في قبائل العرب وجيوشها وكتائبها، فما أصبح الصباح إلا وقد ترس بطوق آخر وسوار على الروم من الخارج! وأراد الروم أن يخلصوا من هذا السوار، وبكل صعوبة رجعوا إلى مواقعهم، وبدأت المعركة، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
يا من يرى خالداً بالبرد معتجراً تحت العجاجة مثل الأغطف الغادي
وما نصر إلا بفضل الله، ثم بإيمانه ويقينه وصدقه وإخلاصه.
ولما توفي خالد بن الوليد قامت المدينة في رنة من البكاء، وشاركهم في البكاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فأتى رجل وقال لـ عمر: يا أمير المؤمنين! أسكت النساء فإنهن يبكين على خالد.
قال: ثكلتك أمك! دعهن يبكين، على مثل أبي سليمان فلتبكِ البواكي.
وللفائدة: كتاب سليمان كتبه ثم أعطاه للهدهد؛ لأن الهدهد هو الذي أتى بالخبر، فحمله فوصل في وقت القائلة، وهي ليست في دوام في ذلك الوقت بل في إيوانها نائمة، وأتاها وقت القائلة بعد صلاة الظهر، فدخل من ثقب في القصر، ثم ألقى الكتاب على صدرها -وهذا ثابت في التفاسير- فاستيقظت وذهلت، لو كان أتى بالكتاب رجل لكان أسهل، ولو أتى به وفد أو حمام زاجل جهاراً نهاراً لكان أسهل، لكن الحراسة مطوقة، والجنود على الأبواب والمنافذ، فمن أين يدخل الكتاب؟
فانذهلت وجمعت جنودها في قصة ليس هذا مجال بسطها.
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] والكتاب في الأصل من مادة كتب، وهو تجميع الشيء إلى الشيء، وسميت الكتيبة في المعركة كتيبة؛ لأنه يتجمع جنودها في جماعة فسموا كتيبة، قال المتنبي:
ألا أيها المال الذي قد أباده تعز فهذا فعله بالكتائب
يقول للمال: اتق الله يا أيها المال واصبر، إذا كان قد أبادك فإنه يبيد الكتائب في المعركة - سيف الدولة - كما يبيد المال.
ويقول النابغة الذبياني، وهي من أحسن القصائد التي يمدح بها النعمان بن المنذر:
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم عصائب طير تهتدي بعصائب
إلى أن يقول: كتائب بكتائب في قصيدة طويلة.
فالكتائب هي الجيوش إذا جمعت، ومنه أخذ الكتاب؛ لأنه يجمع الكلمات بعضها مع بعض.(155/7)
تفسير قوله تعالى: (لا ريب فيه)
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] ما معنى" لا ريب"؟
تدل كلمة " لا ريب" على أحد ثلاثة معانٍ:
1 - لا ريب بمعنى: لا شك.
2 - بمعنى: لا تهمة.
3 - بمعنى: لا حاجة.
لكن معناه هنا: لا شك.
فهذا الكتاب لا يشك فيه إلا ظالم فاجر، ولا يوسوس فيه إلا ملحد، ولا يخرص فيه بالظن إلا زنديق.
وقيل: التهمة؛ ولذلك يقول جميل بثينة:
قالت بثينة يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب
تقول: إنك سببت لي التهمة فيقول: وكلنا متهمون ببعض، وقال هذا البيت وهو من الشواهد في اللغة، ومثل هذه الأبيات في الحب تصرف إلى المخلوق، ولو صرفوا قلوبهم للواحد الأحد لكان أعظم وأعظم.
يقول مجنون ليلى في قصيدة له من أحسن القصائد، لكنه صرفها إلى المخلوق، يقول فيها:
وإني لأستغشي وما بي غشوة لعل خيالاً منك يلقى خياليا
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
فأخذها ابن تيمية، فكان يخلو بنفسه يذكر الله تعالى؛ فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: {رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فكان ابن تيمية يخلو بنفسه، قال تقي الدين بن شقير: رأيته في صحراء ما معه إلا الله، وقد خلا بنفسه وقال: لا إله إلا الله ثم دمعت عيناه وقال:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
وقد سئل ابن تيمية: كيف يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] كيف يأمرهم بالذكر وقت الأزمات؟ وهم في مصافة العدو وفي محاربة الكافر ويأمرهم الله بالذكر؟!
قال ابن تيمية: العرب تتشرف بذكر المحبوب وقت الأزمات، فأراد الله أن يخبرهم أن أعظم محبوب هو الله.
ولذلك يقول عنترة الوثني الجاهلي:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
فالله أرشدهم إلى أعظم طريقة وهي ذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الأزمات.
وقيل: (لا ريب) لا حاجة.
قال كعب بن مالك شاعر الإسلام مع حسان:
قضينا من تهامة كل ريب وخيبر ثم أغمدنا السيوفا
يقول: كل حاجة قضيناها من تهامة ومن نجد، يقول:
تخيرها ولو نطقت لقالت قواطعهن دوساً أو ثقيفا
يقول: انتهينا من الحاجات بالسيوف، ففتحنا نجد بالإسلام وفتحنا تهامة، وسألنا سيوفنا: ماذا تريدين؟ قالت: نريد دوساً وثقيفاً؛ فباغتوا دوساً وثقيفاً فانتصروا عليهم.
إذاً: (لا ريب فيه) أي: لا شك فيه، وهذا الكتاب هو الذي لا ريب فيه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] فمن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن عمل به كان على صراط مستقيم من اتبعه وعمل بما فيه قاده إلى الجنة، ومن أدبر عنه وأعرض أخذه بقفاه حتى يقذفه في النار.
القرآن لا يترك أحداً إما مسلم متدبر خاشع يأخذه حتى يدخله الجنة، جاء في بعض الروايات أن القرآن يقول لصاحبه: والله لا أفارقك حتى أدخلك الجنة.
ويقول للفاجر: والله لا أفارقك حتى أكبك على وجهك في النار.
فنعوذ بالله.
ومنهم من يتوسد القرآن، يعرض عن أحكامه، ويترك الصلاة، ويعق الوالدين، ويزني ويسرق ويشرب الخمر، فهذا يقذفه على وجهه في النار: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:125 - 126].(155/8)
تفسير قوله تعالى: (هدى للمتقين)
كلمة "هدى" مصدر، أي: يهديهم هدى، وأعظم ما يهتدى به هو القرآن.(155/9)
أقسام الهداية
الهداية على قسمين:
1 - هداية الدلالة: وهي للرسول عليه الصلاة والسلام، ولكل داعية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
2 - هداية التوفيق: وهي من الواحد الأحد: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].(155/10)
اختصاص المتقين بالهداية
لماذا لم يقل: (هدى للمسلمين)؟ لأن المسلمين درجات: منهم من يتحمل الكبائر، فلا تكون له هداية تامة عامة، ومنهم من يأتي بالمعاصي دائماً وأبداً فلا تكون هدايته كاملة شاملة، فقال: (للمتقين)؛ لأنهم أعظم من اهتدى بالقرآن، وهم الذين وازنوا القرآن على أنفسهم وأنفسهم على القرآن، فعملوا بأوامره وانتهوا عن نواهيه، وآمنوا بمحكمه وردوا متشابهه إلى الله الواحد الأحد.(155/11)
تعريف التقوى
قيل: التقوى هي: أن تخاف الله على نور من الله ترجو رحمة الله، وأن تعمل الحسنة على نور من الله تريد ثواب الله، وأن تتقيَ السيئة على نور من الله تخشى عقاب الله.
وقيل: التقوى هي: العمل بالمأمور وترك المحذور وتصديق الخبر.
وقيل: التقوى هي: العمل بالطاعات وترك السيئات -وهذا سهلة-.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
وقال ابن مسعود: التقوى أن يُذكر الله تعالى فلا يُنسى، وأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُشكر فلا يُكفر.
وقيل: التقوى: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وغضبه وناره وقاية، فإذا فعلت ذلك فقد اتقيت.
قال عمر لـ أبي بن كعب: [[صف لي التقوى.
قال: يا أمير المؤمنين! أمررت بأرض فيها شوك؟ قال: نعم.
قال: فماذا فعلت؟ قال: تحفزت وشمرت.
قال: فكذلك التقوى]].
ونحن نشكو حالنا إلى الله عز وجل، إذا لم نتق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فنحن مثل من يمشى على شوك على خطورة من اللسان والسمع والبصر والقلب، قال الشاعر:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
فسبحانه من كريم جواد!(155/12)
أسباب دوافع التقوى
للتقوى دوافع:
أولها: استحضار عظمة الله الواحد الأحد.
ثانيها: القيام بالفرائض، فمن نقض الفرائض أو ترك شيئاً منها فهو أفجر فاجر، ولو حلف لك خمساً وعشرين يميناً على المصحف أنه متق؛ فلا تصدقه إذا ترك فريضة واحدة.
من يخن الله فلا تثق به، ومن لم يخف الله فخف منه، ومن لم يجعل بينه وبين الله حبلاً من الإسلام فلا تجعل بينك وبينه حبلاً، فإن من خان في أحكام الله أجدر أن يخون معك، وهذا مشاهد في الناس.
ويا حسرة على شباب الإسلام الذين يسافرون إلى الأمم الغربية، فيأتي أحدهم ويقول: ما رأينا أصدق منهم، وما رأينا أخلص منهم، وما رأينا أوفى منهم!
إنهم يعجبون بالكافر لأنهم ما عاشوا حياة الصحابة، حياة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع(155/13)
صفات المتقين
من هم المتقون؟
أولياء الله عز وجل ليس لهم لباس خاص، ولا مجالس خاصة، ولا شعار خاص، وليس لهم شيخ خاص، ولا طائفة خاصة، ولا جماعة خاصة: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] هذا هو أحسن تعريف للأولياء.(155/14)
الإيمان بالغيب
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] ما هو الغيب؟
كل ما استتر عنك فهو غيب، فهم يؤمنون ويصدقون بما أخبرهم به محمد صلى الله عليه وسلم؛ أن هناك جنة وناراً، وحساباً وعقاباً وثواباً، وأن هناك ميزاناً وصراطاً، وأن هناك نعيماً مقيماً أو عذاباً أليماً، وأن هناك رباً سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، إلهاً حكيماً قادراً عليماً بصيراً سميعاً، مستوياً على عرشه، إنما يقول للشيء كن فيكون، له الملك وله الأمر، كل يوم هو في شأن
ولذلك هذا هو -والله- الإيمان، فبشرى لكم يوم آمنتم ولم تروا الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوم أسلمتم وآمنتم بالله ولم تروا ربكم، فاعبدوا الله كأنكم ترونه فإن لم تكونوا ترونه فإنه يراكم.
كان رجل أعرابي يصلي في الصحراء، فمر به رجل ملحد فقال له: لمن تصلي؟ قال: لله الواحد الأحد.
قال: هل رأيته؟ قال: يا عجباً منك! البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وليل داج، وبحار تزخر، ونجوم تزهر، وسماء تمطر ألا تدل على السميع البصير؟!
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
وأسماء الله تعالى وصفاته من الغيب واستواؤه على عرشه من الغيب والجنة والنار من الغيب وما يحدث في العرصات، وما يحدث في القبر من منكر ونكير ومن عذاب ونعيم من الغيب فأنتم تؤمنون بالغيب، آمنتم بالغيب وصدقتم، فلكم النعيم وأنتم المفلحون إن شاء الله.
وبدأ الله تعالى بالغيب لأنها أعظم قضية؛ ولذلك ما ألحد من ألحد إلا يوم أن كفر بالغيب، فهم يقولون: لا إله والحياة مادة، وكل ما هو مشاهد وملموس نؤمن به وما وراء العيون لا نؤمن به وقد افتروا على الله: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:65 - 66]
فالإيمان بالغيب هو أعظم قضية تواجه الإنسان، ومن لم يؤمن بالغيب لم يسلم، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً، ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.(155/15)
إقامة الصلاة
قال الله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة:3] فذكر من صفاتهم إقامة الصلاة، والله عز وجل إذا ذكر المؤمنين ذكر أنهم يقيمون الصلاة، وإذا ذكر المنافقين ذكر أنهم يصلون ولم يذكر أنهم يقيمون الصلاة وهذا فارق ينتبه له، قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:1 - 7] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة النساء: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] فلم يقل: وإذا أقاموا الصلاة وإنما قال: (وإذا قاموا إلى الصلاة).
والناس قسمان: قسم يقيم الصلاة وقسم يصلي، فالذي يصلي بلا إقامة صلاة؛ لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، والذي يقيم الصلاة تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
تقول: ما للإنسان يصلي ولكنه يتناول المخدرات؟ ما له يصلي ويزني؟ ما له يصلي ويشرب الخمر؟ ما له يصلي ويسرق؟ لأنه صلى ولكنه ما أقام الصلاة.
وإقامة الصلاة تكون بدوام خشوعها وخضوعها ووضوئها وإخلاصها وركوعها وسجودها وأذكارها وروحها، فيعصمهم الله تعالى بالصلاة من الفحشاء والمنكر، وأول ما تبدأ بصلاة الفجر، يقول عليه الصلاة والسلام: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه من ذمته بشيء أدركه، ومن أدركه كبه على وجهه في النار}.
وفضل الصلاة عظيم، وهي تحتاج إلى محاضرات، ولكن نحن نقف على مقاصد الآيات، وإلا فليس هناك أحكام والحمد لله، وسوف يمر معنا الصلاة، والصيام، والحيض، والقصاص، والوصية، والدين، في سورة البقرة -إن شاء الله- فنتوسع هناك، أما هنا فآيات ورقائق وترغيب وترهيب.(155/16)
الإنفاق في سبيل الله
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في صفتهم: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3] ما قال: وما رزقناهم ينفقون، ولكن قال: (مما رزقناهم) أي: بعض ما رزقناهم، فهم ينفقون من بعض ما رزقناهم، ولو قال: وما رزقناهم ينفقون؛ لكان هذا شاقاً على الناس، ولا يستطيع الإنسان أن ينفق ماله كله، لكن قال: (مما رزقناهم) أي: شيئاً مما رزقناهم ينفقونه، فهؤلاء من الذين يدركهم الفلاح إن شاء الله.
لكن الله تعالى يقول: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] فكيف تؤثر على نفسك ولا تترك لنفسك شيئاً؟ وهنا يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3] فهذه الآية تقول لك: أنفق من بعض ما رزقك الله، وتلك الآية يمدح الله فيها من أنفق كل شيء وجلس وحيداً فكيف نجمع بينهما؟!
قال بعض أهل العلم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] هذا لمن وثق برزق الله وبما عند الله، ومن أصبح التوكل عنده كتوكل أبي بكر الصديق؛ فله أن ينفق ماله كله، وأما مثل أحوالنا ممن لم يصل توكله إلى درجة عالية فينفق بعض ماله.
فـ أبو بكر أنفق ماله كله في الإسلام، فما رد الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ لأنه يعرف توكله، وبعض الصحابة أتوا بمالهم فقال لهم عليه الصلاة والسلام: {أمسك عليك بعض مالك} وأخذ منه صلى الله عليه وسلم القليل وترك له الكثير؛ لأنه يعرف توكله.
فمن بلغ القمة في التوكل فليس عليه أن ينفق ماله، ومن نقص توكله فلينفق شيئاً من ماله، قال تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3]
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
وقد بلغ كثير من الصحابة في الإنفاق مبلغاً عظيماً، منهم أبو بكر وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عن الجميع.
فأما أبو بكر فأعطى الإسلام كل ما عنده، أعطى الإسلام ماله ودمه وجهده ووقته؛ فعوضه الله أن جعله أكبر صديق بعد الأنبياء والمرسلين.
وأما عثمان فحفر بئر رومة للمسلمين فسقاه الله من سلسبيل الجنة، وجهز جيش تبوك فقال له صلى الله عليه وسلم: {غفر الله لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض}
وأما ابن عوف فأنفق ما يقارب سبعمائة جمل في لحظة واحدة، بأقتابها وأحلاسها وطعامها وزبيبها في سبيل الله خالصة مبرأة، فأخذها الفقراء وقالوا: سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة.
لا ينكتون الأرض عند سؤالهم لتطلُّب الحاجات بالعيدان
بل يشرقون وجوههم فترى لها عند السؤال كأحسن الألوان
وإذا الغريب أقام وسط رحالهم ردوه رب صواهل وقيان
وإذا دعا الداعي ليوم كريهة سدوا شعاع الشمس بالفرسان
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3] و (من) هذا تبعيضية، فكأنه قال: من بعض ما رزقناهم ينفقون، فالمطلوب من الإنسان أن ينفق، وإذا أمسك الشيء فإنما أتلفه، وإذا أنفق الشيء فإنما أمسكه.
أنت عبد المال إن أمسكته وإذا أنفقته فالمال لك
وقد ذكر العلماء كثيراً من قصص الكرماء والبخلاء، وأدوى داء هو البخل: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38] {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96].
والناس في الإنفاق على ثلاثة أقسام:
قسم يريد به الرياء والسمعة: فليس له حظ ولا نصيب في الآخرة، وهو أول من تسعر به النار.
وقسم ينفقه كرماً وحياءً: فله أجر ومثوبة، وقد يكون عادة.
وقسم ينفقه بقصد ونية وإخلاص: فهو المأجور العابد بماله لله الواحد الأحد.
وممن أتلفوا أموالهم فطلبوا الصيت: حاتم الطائي، كان من أكرم الناس، فعوضه الله بالصيت لأنه أراد الصيت، بالكرم حتى في مجالسنا اليوم دائماً يذكر اسم حاتم الطائي.
ومنهم: ابن جدعان كريم مكة، كان فقيراً صعلوكاً يرعى الغنم في عرفات، فاكتشف قدوراً من ذهب، فذهب بها وأطعم الناس فأصبح من أكرم الناس ورزقه الله الصيت.
أين الرجلان؟ أفي الجنة أم في النار؟
روي فيهما حديثان في صحيح مسلم، أما حاتم الطائي فقال ابنه عدي: {يا رسول الله! أبي كان يكرم الضيف، ويحمل الكل، فهل ينفعه ذلك عند الله؟ قال: لا.
إن أباك طلب شيئاً فأصابه} أبوك طلب الدنيا والصيت والسمعة فله الصيت والدنيا والسمعة: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
وأما ابن جدعان فتقول عائشة: {يا رسول الله! ابن جدعان كان كريماً وكان مقرياً، فهل ينفعه ذلك عند الله؟ قال: لا.
إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين}.
وكان له خادم ينادي في الصباح من رأس جبل أبي قبيس ويقول: من أراد لباب البر بنسير العسل فليأت مأدبة ابن جدعان.
فيهب الناس بأطفالهم ونسائهم فيأكلون، فإذا أتت الظهيرة نادى خادمه من على جبل أبي قبيس: من أراد الثريد فليأت مائدة ابن جدعان فيأتون؛ حتى يقول عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر: {ائتوني بـ أبي جهل قالوا: يا رسول الله! ما عرفنا جثته، إنه مقطوع الرأس -أصبح رأسه مقطوعاً كالشاة، رأسه في واد وجثته في واد آخر- فقال: تعرفونه بجرح في ساقه أو في ركبته، تصارعت أنا وإياه ونحن شباب على مائدة ابن جدعان فصرعته.
فأتوا على ساقه فكشفوا فوجدوا الجرح، فسحبوا جثته إلى الرسول عليه الصلاة والسلام}.
وكان ابن جدعان يقول للفقراء: لا يسألني أحد؛ لأنه لا يريد أن يذهب ماء وجهه أمامه، يقول: لا تسألني، قف أمامي وأنا سوف أعرف فيقول أمية بن أبي الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباء
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء
ولذلك قال ابن تيمية: الدعاء ثناء والثناء دعاء؛ لأن العبد عندها يقول: لا إله إلا الله يريد شيئاً، والعبد لا يقول: يا قدوس! يا أحد! يا صمد! إلا لأنه يريد شيئاً.
وأما أجواد الإسلام فاختلف فيهم، ولا بأس أن نذكرهم في باب الإنفاق، فقد ذكر الذهبي أجواد العرب في الإنفاق، وذكر أنه اختلف في الحرم جلاس وسمار في عهد التابعين من هو أكرم العرب آنذاك من المسلمين؟
فقال قائل: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وقال ثان بل هو: قيس بن سعد بن عبادة، وقال ثالث: بل أكرم العرب عرابة الأوسي.
فقال رجل منهم: كل منكم يذهب إلى الذي يرى أنه أكرم العرب فيأتي بزي مزرٍ وزي فقير، ثم يسأله ويأتي إلينا بما أعطاه ذاك الكريم، ونرى أي العطايا أكثر.
فذهب الذي يريد عبد الله بن جعفر في زي فقير، فتعرض له فوجده قد خرج من المدينة يريد دمشق في الشام، ومعه فرس وعنده سيف وحلي الفرس، فقال: أنا رجل فقير منقطع أريد منك مالاً.
فقال عبد الله بن جعفر: لو أتيتني وأنا في المدينة لأعطيتك وأكثرت لك، ولكن خذ الفرس وخذ السيف، أما أنا فسوف يعرفني الناس ويركبونني.
قال: لا.
قال: والله لتأخذنه؛ فأخذ الفرس والسيف وترك الرجل تحت شجرة.
وأما صاحب قيس فأتى إليه وطرق عليه الباب، فخرجت الجارية وقالت: ماذا تريد؟ قال: أنا رجل فقير أريد قيساً.
قالت: هو نائم، ولكن خذ ألف دينار ولا توقظ سيدي ودعه ينام.
فذهب ومعه ألف دينار، تقارب عشرة آلاف درهم.
وذهب الذي يريد عرابة الأوسي، فوجده خارجاً من بيته يريد الصلاة، وهو أعمى وله عبدان قد اتكأ بيمينه على واحد واعتمد على الآخر، فقال له: أنا رجل منقطع؟ فقال عرابة الأوسي: والله ما عندي في بيتي شيء؛ لقد أذهبته النفقات، وليس عندي إلا هذان العبدان فخذهما لك.
فقلت: أنت أعمى! قال: خذهما.
فأخذتهما، وأصبح يتلمس من عماه إلى المسجد حتى دخل المسجد.
فعادوا، فقال الذي حكم في القصة: أما قيس بن سعد فهو كريم، ومن كرمه أن الجارية تعطي ألف دينار فكيف إذا استيقظ هو، ولكن لا بأس.
وأما عبد الله بن جعفر فسوف يعرفه الناس ويحملونه، وهو كريم لأنه ترك نفسه في الصحراء وحده.
أما أكرمهم فهو عرابة الأوسي؛ لأنه أعمى وقد أنفق أمواله وما بقي عنده إلا هذان العبدان، فأعطاك وأخذ يتلمس إلى المسجد، ثم يقول فيه القائل:
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
رأيت عرابة الأوسي يسمو إلى العلياء منقطع القرين
وهو أوسي من الأنصار، رضي الله عنه وعن آبائه وعن كل رجل من الأنصار، فإننا نتقرب إلى الله بحبهم.(155/17)
تفسير قوله تعالى: (أولئك على هدىً من ربهم)
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] من هم؟ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3] {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] فقال: (على هدى) ولم يقل: في هدى؛ لأن (على) هنا أبلغ، أي: على طريق من الهدى وعلى واضحة وجادة، ولو قال: في هدى؛ لشمل أن بعضهم في هدى وبعضهم في ضلال، ولو قال: إلى هدى؛ لما وصلوا إلى الهدى؛ لأن الذي يمشي إلى الشيء ما كأنه وصله، فأنت تقول: مشيت إلى السارية أو إلى الكعبة، فكأنك ما وصلت، فلو قال: إلى هدى، لاحتمل أنهم يهتدون أو لا يهتدون، ولكنه قال: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً} [البقرة:5] أي: وصلوا إلى الهدى، وتكنفتهم الهدى فكلامهم هدى، وفعلهم هدى، وحركاتهم هدى، وكل شيء يصدر منهم هدى.
والذي لا يفعل هذه الأمور فالهدى عنده قليل فإذا كتب في صحيفة تراه ضالاً، وإذا ألقى قصيدة فهو ضال، وإذا باع واشترى فهو ضال، وإذا تكلم فهو ضال؛ لأنه ليس له نور، ومن أين يأتي النور إلا من الله؟! {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] فالناس لا يعطون النور، والعلم وحده لا يعطيك النور، والثقافة وحدها لا تعطيك النور، إنما يعطيك النور الذي أنزل النور والذي خلق النور: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يقول: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] لأنه على ظلمة، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى في المنافقين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} [الحديد:13] يقول: ليس عندكم نور، ولذلك يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة:9] لم يقل في الآية: يخادعون الله وهو يخادعهم؛ لأنه لو خادعهم لم تأت نتيجة الخداع؛ بل قال: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] أي: أوقع بهم الخداع وكيف يخدعهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى؟ قيل: يضيء للمنافقين نوراً يوم القيامة.
ثم انطفا نور المنافقينا ووقفوا إذ ذاك حائرينا
لأنهم بالوحي ما استضاءوا فكذبوا فذا لهم جزاء
يضاء لهم النور فيرون الصراط، ويرون جهنم في ظلمة لا يعلمها إلا الله، فإذا توسطوا على الصراط انطفأ النور فعثروا فوقعوا على وجوههم فهذا هو الخداع: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة:9] لأنهم يصلون مع الناس وهم لا يريدون الصلاة، ويقرءون القرآن وهم لا يريدون القرآن، فظاهرهم فيه الرحمة وباطنهم من قبلهم العذاب، وهم من أجوف الناس: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] والخشبة داخلها خواء، ويقول: (مسندة) لأنها لا تعتمد على نفسها لكنك تسندها على الجدار، فهؤلاء هم المنافقون، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة:17] ولم يقل: ذهب بإضاءتهم، مع أن الأصل في غير القرآن أن يقال: فلما أضاءت ما حولهم ذهب الله بإضاءتهم.
لكن ترك الفعل وأتى بالمصدر من نوع آخر فقال: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة:17] قالوا: لأنه لو قال: ذهب بإضاءتهم؛ لاحتمل أنه بقي لهم جذوة أو شيء من النور، لكنه لم يبق لهم شيء فقال: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17].
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] أي: أنهم يعيشون في هدى وفي اطمئنان، ولذلك لا يحفظك على الهدى إلا هذا العمل، لا تظن أن لك حافظاً غير الله فإنه لا يمكن أن يعصمك من الفواحش إلا الله أما غيره سُبحَانَهُ وَتَعَالى فلا يستطيع؛ لأن الله عز وجل يقول ليوسف لما كان مهتدياً: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] أي: لما كان مهتدياً صرفنا عنه السوء والفحشاء، فلا يصرف عنك السوء والفحشاء إلا الله.
والله تعالى قال: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] ولم يقل: (هدى) ويسكت؛ لأن (هدى) كثيرة، وهي مشتقة، فمنهم من يهديه الشيطان: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس:35] يقول: الذي يهديك إلى الصواب خير من الصنم الذي لا يهدي إلى الحق إلا أن يهدى هو.
وبعض الناس يهدي إلى الضلالة، فلذلك: الهدى من الله؛ لأن بعضهم يقول: أنه مهتد وهو ضال، أي هداه إبليس، وقد قيل لـ ابن عمر: [[إن المختار بن عبيد الله الثقفي -هذا الدجال الكاذب الخائن الساحر، الذي ادعى النبوة- يزعم أنه يوحى إليه.
فقال ابن عمر: صدق، إنه وحي من الشيطان {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] وليس وحياً من الرحمن]].
فقال الله عز وجل: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] ولم يقل: من الله لماذا؟ ليذكرهم النعمة، نعمة الهداية والفطرة والحياة، أي: من ربهم الذي رباهم، لأنهم مقرون بالله، وقد سبق أن قرر التوحيد، فأتى هنا بلفظ (الرب) والله إذا ذكر الجميل ذكر الربوبية، وإذا ذكر التفرد ذكر الألوهية سُبحَانَهُ وَتَعَالى.(155/18)
تفسير قوله تعالى: (وأولئك هم المفلحون)
قال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] لماذا يكثر من الضمائر؟ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى في المنافقين: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} [المنافقون:4] فأتى بالضمير (هم) وأتى بـ (العدو) معرفة، والجملة إذا ظرفت بمعرفتين -المبتدأ معرفة والخبر معرفة- أفادت الحصر، وقال هنا: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] فأعاد اسم الإشارة، وأعاد الضمير، وأعاد التعريف بأل.
والفلاح ذكر في القرآن على أقسام، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] وهذه الرحمة للإنصات، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] فذكرهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى بالفلاح في عدة سور، وذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى الفلاح بعد الذكر وبعد الصبر والجهاد والنفقة.
والفلاح في اللغة يسمى السحور، ومعناه: السعود والنجاة، وبمعنى: الذهاب إلى الشيء، ومعناه هنا: أنهم سعداء في الدنيا والآخرة: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] أي: أفلحوا ونجحوا وأصلحوا ظاهراً وباطناً، وأمنيتنا ورجاؤنا وسؤالنا إلى الواحد الأحد، الذي لا تخيب عنده المسائل، ولا تعطل عنده الرسائل، ولا يسد حجابه، ولا تغلق أبوابه؛ أن يجعلنا من المفلحين، ومن المقيمين للصلاة، ومن الذين يؤمنون بالغيب ومما رزقهم الله ينفقون والحمد لله رب العالمين.(155/19)
الأسئلة(155/20)
حكم المزاح
السؤال
نحن شباب فينا خير -إن شاء الله- لكن يكثر فينا المزاح.
فما تنصحنا؟
الجواب
المزاح لا بأس به في أمور إذا لم تكذب فيه، وإذا لم يكن فيه فحش وبذاءة، وإذا لم تكثر منه، فحاول ألا تكذب ولا تكثر منه ولا تفحش فيه، وما عليك منه إن شاء الله، وأكثر من الاستغفار والصدقة.(155/21)
نصيحة لمن له جار لا يصلي
السؤال
بجوار بيتي مسجد أصلي فيه أنا ووالدي، وهناك جار لنا وللمسجد لم يصلِّ معنا.
فماذا أعمل؟
الجواب
انصحه وادعه وحاول معه، فإذا لم يستجب لك وليس عنده عذر فحاول أن تجفوه وأن تعلن له الهجر، حتى يرى أنك غضبت من انتهاكه حرمات الله وحدوده وتضييع فرائضه، ولا تزره بعد أن تنصحه كثيراً ولا تجلس معه.(155/22)
حكم رفع الصوت بالقراءة لمن فاتته الركعتان الجهريتان
السؤال
لاحظت ظاهرة وهي أن بعض المأمومين إذا فاته شيء من الصلاة الجهرية قام ليتمها رافعاً صوته.
فما هو الواجب؟
الجواب
هذه رواية لبعض أهل العلم وعليها دليل، فلا بأس أن يرفع صوته في الجهرية إذا سبقه الإمام، وإن أسر فما عليه، والمسألة اجتهادية.(155/23)
الفرق بين الصدقة والنفقة
السؤال
ما هو الفرق بين الصدقة والنفقة؟
الجواب
كلاهما واحد، وليس بينهما فرق.(155/24)
حكم حجز المكان في المسجد
السؤال
ما رأيك في الذي يحجز المكان بكتاب أو غيره، ثم يذهب إلى بيته ثم يعود ويشغل المكان على الناس؟
الجواب
أما إذا كان هذا الإنسان له مكانة في الإسلام، كأن يكون عالماً جليلاً، أو سلطاناً عادلاً، أو رجلاً من الأخيار الصلحاء كبار السن أهل الشيخوخة؛ فلا بأس أن يحجز له المكان ليبقى في المقدمة، لقوله صلى الله عليه وسلم: {ليليني منكم أولو الأحلام والنهى}.
أما هؤلاء الذين يأتون ويسدون الأماكن على الناس، ويذهبون وينامون في بيوتهم، ويلعبون الكرة، ويأخذون الصفوف الأولى فلا يصح هذا، بل تخرج كتبهم ونظاراتهم وعمائمهم وأحذيتهم وسراويلهم من المسجد، وتحتل مباشرة بالكتائب الإسلامية!(155/25)
توضيح لحكم الأغاني
السؤال
قرأت في جريدة تقول أنت فيها: إن الذي خرب البيوت المسلمة بعض الأغاني؛ فكأنه يفهم منك أن بعضها حلال! أرجوا التوضيح.
الجواب
لا.
كل الأغاني حرام، وتتأكد من هذا، وقد يكون وقع هذا لكن الأغاني حرام والله المستعان.(155/26)
حكم مسابقة الإمام
السؤال
ما حكم مسابقة الإمام في الصلاة؟
الجواب
مسابقة الإمام ليست بجائزة، وهي تبطل الصلاة لمن تعمدها، وعليكم بالمتابعة لا بالمسابقة ولا بالتأخر ولا بالموافقة، فهناك أربع صور: المسابقة، والموافقة، والتخلف، وكلها لا تجوز، والمتابعة هي التي ينبغي أن تكون، وهي السنة، كما قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار؟}.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.(155/27)
الخطر الأحمر
إن مما عمَّت به البلوى في هذه الأيام، وفي هذا العصر آفة عظيمة، وهي المخدرات والخمر، فيا ترى ما هي الأسباب التي جعلت الكثير من المسلمين يقعون في هذه الآفة العظيمة؟
وما هو سبب انتشارها بين المسلمين؟
وما هو السبب الذي جعل الصحابة رضوان الله عليهم يبتعدون عن مثل هذه الأشياء؟
وما هي الوسائل التي تجنبنا مثل هذه الأشياء؟
وما هو الحل لمن وقع في هذه الآفة؟
أهو الحبس والسوط؟ أم ماذا؟(156/1)
أخطار المخدرات
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض، ولم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله وسلم على محمد حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المؤيد بجبريل، المعلم الجليل، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
سلام الله أرفعه إليكم بأشواقي لكم في خير لقيا
وأرفع من رُبى أبها سلاماً لأهل الفضل من سكان صبيا
إن هذا الاجتماع يعلن أن البقاء للإسلام، وأن المستقبل للإسلام، وأن البناء لهذا الدين الذي أنزله الله على البشرية، قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
المخدرات، وما أدراك ما المخدرات؟ اسم مرعب، مخيف مزعج، وما أتت المخدرات وما وجدت إلا ومعها قرائن من المعاصي والسيئات والمخالفات {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُور}) [النور:40].
هذه المخدرات تدخل في مظلة الخمر، وهي بنات عم الخمر، ومن سلالته وفصيلته.
تلك العصا من هذه العصية لا تلد الحية إلا حية
قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90 - 91].
لماذا انتشرت المخدرات؟ لماذا كثر المروجون؟ لماذا ضاع كثير من الشباب؟ لماذا أُودِع كثير من فتيان الإسلام السجون؟ لماذا يوضع أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي في السجن على جريمة المخدرات؟ لماذا يؤخذ أبناء صلاح الدين وطارق بن زياد وعقبة بن نافع، ويوضعون في السجون بجريمة المخدرات؟ ما هي الأسباب؟ أأتت عفوية؟ أم ماذا؟ لا.
والله، إذاً ما هو السر؟ وما هو السبب؟ كيف يؤخذ شبابنا في المخدرات والمخالفات والمعاصي والمغريات التي اطلع عليها رب الأرض والسماوات؟!(156/2)
أسباب الوقوع في المخدرات وانتشارها(156/3)
من أسباب الوقوع في المخدرات: ضعف الإيمان
انقطاع الحبل بين الإنسان والواحد الديان، ونسيان الرحمن إذا خلا الإنسان بين الحيطان وفي الظلام وهذه هي قلة المراقبة، أو عدم الوصول إلى درجة الإحسان.
إن درجة الإحسان التي صحت عنه صلى الله عليه وسلم، والتي أتى بها في الحديث الصحيح هي: {أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه، فإنه يراك}.
يقول الشيخ/ حافظ الحكمي رحمه الله في الإحسان:
وهو رسوخ القلب في العرفان حتى يكون الغيب كالعيان
وهذه الدرجة نالها أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، ولذلك انتهوا عن الخمر والزنا، والربا، وعن الغناء، والفواحش، أما نحن فوجدت فينا يوم ضعف الإيمان.
أين إيماننا من إيمان أبي بكر الصديق؟! الذي دخل مزرعة رجل من الأنصار، فرأى طائراً يطير من شجرة إلى شجرة، فبكى، وقال: [[يا ليتني كنت طائراً، طوبى لك أيها الطائر! ترد الشجر، وتشرب الماء، ثم تموت لا حساب ولا عذاب]] يا ليتني كنت طائراً! هذا وهو أبو بكر الصديق!
أيضاً أين درجة إيماننا من إيمان عمر رضي الله عنه؟! يوم يقول: [[والله الذي لا إله إلا هو، لو عثرت بغلة في ضفاف دجلة -في العراق - لخشيت أن يسألني الله عنها: لِمَ لم تسوِّ لها الطريق يا عمر؟]].
يقف على المنبر، وتقرقر بطنه من الجوع، فيقول لبطنه: [[قرقر، أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].
ومما نسب لـ أبي الحسن علي بن أبي طالب أنه قال -وهذا يدل على من زيادة، وعمق الإيمان، ومعرفة الرحمن-: [[والله لو كشف الله لي الغطاء فرأيت الجنة والنار، ما زاد على ما عندي من إيمان مثقال ذرة]].
يأتي أعرابي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فيقول: {يا رسول الله! أين ألقاك غداً يوم القيامة؟ أين ألقاك يوم الزحام؟} أعرابي علم علم اليقين أن القيامة سوف تقوم، وأنها لا محالة، ولذلك ينادينا الله، ويسمي يوم القيامة غداً، كأنه غداً القريب.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18].
ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
يقول الله لبني إسرائيل أهل المخدرات، وأهل الخمر والمسكرات، وأهل السيئات والمعاصي والمخالفات، الذين أغضبوا رب الأرض والسماوات، يقول: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13].
ويقول عن علمائهم: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5].
ويقول عن عالمهم: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176].
يقول الأعرابي: {يا رسول الله! أين ألقاك غداً يوم الزحام؟ قال: تلقاني في أحد مواطن ثلاثة -كأن الأعرابي يتصور يوم القيامة-: إما عند الصراط، وإما عند الحوض، وإما عند الميزان}.
اللهم سلم سلم، يا شباب الإسلام! يا فتيان هذا الدين! يا حملة الرسالة الخالدة! هل جلس واحدٌ منا، فتفكر في ذلك اليوم؟ وهول ذلك اليوم؟ وشدته ورعبه؟ يقول عمر بن عبد العزيز الخليفة رضي الله عنه وأرضاه: [[والله الذي لا إله إلا هو، إنه لتمر بي الليلة، فأفكر في قيام الساعة منذ أن يبدأ الله في الحساب إلى أن يدخل الجنة قومٌ ويدخل النار قومٌ، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] وإذا بأذان الفجر]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.
نور الدين محمود -السلطان العظيم الصالح الزاهد التركي- جمع مهرجاناً يقارب ألف ألف (مليون) من الجيش، فخرج عليه أحد الزهاد، فقال:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل: نور الدين جاء مسلماً فاحذر بأن تأتي ومالك نور
حرمت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور
من يصدق أن بعض كبار السن في مجتمعاتنا يعاقرون الخمر، يوم يقوم المتهجدون لربهم في ظلام الليل، يوم ينزل الحي القيوم إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، يوم ينادي بصوت: هل من سائل فأعطيه؟! هل من مستغفرٍ فأغفر له؟! هل من داع فأجيبه؟! هؤلاء الذين أتاهم النذير من الشيب، ألم يعلموا بقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] فيعاقرون الخمر والقات والدخان ولعب الورقة والبلوت وكل ما يشغلهم عن الله!
يا إنسان! هل خلقت لهذه الأمور؟! إنما أوجدك الله لترفع لا إله إلا الله، وإذا بك تأتي هذه الأمور، فما هو السبب؟ وما هو السبب في وجود العطالة والبطالة في مجتمعاتنا؟ شيوخ كبار لا يذكرون الله، ولا يتنفلون، ولا يسبحون، ولا يقرءون القرآن، جلسات من الغيبة والزور، وجلسات من الفحش على المخدرات والقات؛ والمخدرات والقات سيئات تغضب الواحد الأحد، وهي مما يدمي قلوب الموحدين، لكن السبب ضعف وقلة الإيمان.
عبد الله بن أنيس - أحد الصحابة - يأتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام -والحديث صحيح- فيرسله صلى الله عليه وسلم، ليقتل خالد بن سفيان الهذلي، فيقول: {يا رسول الله! فإذا قتلته، فما لي! قال: لك الجنة -وهو صادق، والرسول صلى الله عليه وسلم صادق، فوافق صدقه صدق المصطفى عليه الصلاة والسلام- فذهب فقتل المجرم، وأتى برأسه، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال لـ عبد الله بن أنيس -الشاب-: أفلح الوجه، قال: ووجهك يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله بن أنيس:! خذ هذه العصا، فتوكأْ بها في الجنة، فإن المتوكئين بالجنة بالعصي قليل، فأخذها، وأصبح بها وأمسى، فلما مات، أمر أن تدفن معه} لأنه علم أن من أخبره صادق، وأن من علمه صادق، وأن رسالته صادقة، قال تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
يقول ابن القيم: "أنزل الله كتاباً عقداً من السماء - صكاً - أملاه بنفسه تبارك وتعالى، وأتى به جبريل، والطرف الأول محمد، والطرف الثاني المؤمنون، والسلعة الجنة، والثمن أرواح المؤمنين, فأُنزل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] فلما أتى به صلى الله عليه وسلم -يقول ابن القيم في أثناء كلامه- فبايعه الصحابة على دفع الأرواح والأنفس، وقاموا من المجلس والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تفرقا، فقد وجب البيع".
فلماذا وجدت المخدرات في أبناء الصحابة، أبناء الذين حملوا الرسالة؟ إنه ضعف الإيمان، وسبب ضعف الإيمان: قلة التربية، كيف قلة التربية؟
ثلاثة يسألون يوم القيامة عن تربية أبناء المسلمين، من هم؟
المسئول الأول: الأب في البيت، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] {كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته} أبٌ ما أدْخَل الإيمان في قلب ابنه، أبٌ ما غرس لا إله إلا الله في نفس ولده، أبٌ ما راقب ابنه في الصلوات، ولا في الأوقات والجلسات، ولا فيما يقدم له ولا فيما يؤخذ منه، ومن يصاحب، ومن لا يصاحب أبٌ عاطل في البيت، أحضر الخبز والماء، وأحضر الخضروات والفاكهة، وألبس ابنه أحسن الثياب؛ ولكنه ما منحه الإيمان والعمل الصالح.
والمسئول الثاني: أستاذ يدرس أبناء المسلمين لا يحمل إيماناً ولا رسالة، فخرَّج طلبة، إذا سألت الطالب منهم: ما هوايتك في الحياة؟ قال: هوايتي جمع الطوابع والمراسلة، وصيد الحمام والدجاج والأرانب.
أبناء خالد بن الوليد الذي خاض مائة معركة، وتكسرت الرماح في يده، ليرفع لا إله إلا الله، أبناء عقبة بن نافع الذي وقف على المحيط الأطلنطي وقال للبحر: [[والله لو أعلم أن وراءك أرضاً، لخضتك بفرسي؛ لأرفع لا إله إلا الله في تلك الأرض]].
يرجعون إلى أن تكون أمنياتهم جمع الطوابع والمراسلة، وضرب العود والغناء، والنجوم اللامعة في الفن، وهي نجوم مظلمة، قال تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
أستاذ يأتي إلى الفصل يلقي المادة، لكنه بلا إيمان، إما أنه يريد راتباً أو شهرةً أو يقضي وقتاً، فيقدم مادته باردة لقلوب باردة، فتموت القلوب، فتخرج ميتة، وتقع في المعاصي.
والله أمر بإحياء القلوب، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
يقول شوقي للرسول عليه الصلاة والسلام:
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
بإذن الله.
يقول: إن كان عيسى يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، فأنت أحييت قلوباً كانت ميتة.
هذا كله بسبب ضعف الإيمان، نحن نتحدث في الدنيا، ولكن الآخرة ليس لها وقت عندنا؛ ولذلك وقع كثير من الشباب في المعاصي والمخدارت.(156/4)
من اسباب الوقوع في المخدرات: قلة الطاعات
الأمر الثاني: قلة الطاعات، وقد تدخل تبعياً في مسألة ضعف الإيمان، لكن لها انفصال من جانب آخر، والحق أن نقول: اللاطاعات، فنحن ليس عندنا نصيب للقبر، ولا أعمال صالحة، إلا من رحم ربك، تصور كيف نعيش مع القرآن؟ وكم يأخذ القرآن من أوقاتنا؟، وكيف نتدبر ونعمل بالقرآن؟ والله عز وجل جعل السعادة في القرآن، ويوم أعرضنا عن القرآن وقعنا فيما وقعنا فيه من غضب الواحد الديان، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88].
وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].
وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
أنا أعرف قطاعاً هائلاً من شباب الإسلام حتى من الملتزمين من لا يقرأ في اليوم إلا صفحات من القرآن ببرودة ووسوسة وذهول وشرود، ولكنه يقرأ من المجلات والجرائد، والنشرات والصحف والكتب ما الله به عليم.
يا أمة القرآن: يا أمة أرسلها الله بالقرآن لتزرع الإيمان في النفوس! يا أمة جعلها الله رائدة بهذا الكتاب العظيم! ما لنا نعرض عن القرآن؟! مالنا نريد كتاباً آخر؟! أين القرآن.
أتهجرون كتاباً بين أظهركم لو كلم الذكر جلموداً لأحياه
وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كما قال صاحب هذه المنظومة:
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون لقياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
أما قلة الطاعات، فتتصور في قلة النوافل، يقول الذهبي في سيرة الإمام أحمد: كان ورده في اليوم في غير الفرائض ثلاثمائة ركعة، ولذلك قال الله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
وكان عبد الغني المقدسي -صاحب الكمال في معرفة الرجال - يصلي ثلاثمائة ركعة لماذا؟، لأنه صلى الله عليه وسلم يقول فيما صح عنه: {إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة}.
يقول الصحابي للرسول صلى الله عليه وسلم: أريد الجنة، قال: {أعني على نفسك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة}.
ومن قلة الطاعات: قلة الاستغفار، وقلة الذكر.
ماذا تنتظر من أشرطة ماجت في السوق في الغناء الماجن؟ ومجالس هراء، وجلسات تغضب المولى، وخرجات ورحلات ونزهات ليس فيها من الطاعة لا قليل ولا كثير، فماذا ينتظر منها؟ ينتظر قسوة القلوب، وعمى النفوس، وغياب مراقبة الواحد الأحد.
يقول الأندلسي لابنه:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى العصيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني(156/5)
من أسباب الوقوع في المخدرات: الفراغ
فراغ يعيشه قطاع هائل منا، بطالة وعطالة ومادة ومال وثراء وقلة إيمان، وتصور إنساناً يجتمع له الشباب والصحة والفراغ والمال، ماذا يكون حاله؟!
إن الشباب والفراغ والجِدَة مفسدة للمرء أي مفسدة
فإذا اجتمعت هذه الأمور فهي عمىً على عمى، وقضية الفراغ محسوبة على الأمة، وما أتى الفراغ إلا يوم أتى نقص الإيمان، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الحياة والوقت: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] تعالى الله أن يخلقنا عبثاً، وتعالى الله أن يضيع ليلنا ونهارنا سدى، وتعالى الله أن يجعلنا هملاً، ولكن فعلها كثير من الشباب.
شاب يقول لزميله - وهو يحاوره-: والله ما فتحت المصحف ستة أشهر! كيف تعيش؟ وكيف تحيا؟ وكيف تستنير؟ وكيف ترى طريقك؟ وبم تدخل القبر؟ وكيف يُنَوَّر لك قبرُك وأنت لا تقرأ القرآن؟ من أين تأتيك الهداية؟ من التمس الهداية في غير القرآن، أضله الله، ومن التمس النور من غير القرآن؛ أعماه الله، ومن التمس السداد من غير القرآن؛ أغلق الله أمامه الأبواب، ومن طلب الغنى من غير القرآن؛ أفقره الله.
يقول صلى الله عليه وسلم عند مسلم وغيره: {اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا سورة البقرة وآل عمران، اقرءوا الزهراوين سورة البقرة وآل عمران، فإنهما تأتيان كغمامتين، أو غيابتين، أو كفرقان من طير صواف تظلان صاحبهما يوم القيامة}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه}.
ويقول عليه الصلاة والسلام: {سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها، فأدخلته الجنة: سورة الملك (تبارك)} فمن ذا يحفظها؟ ومن يتدبرها؟ ومن يعيش معها؟ إذاً الفراغ هو السبب في أننا وقعنا في المعاصي.
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ}
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجات من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: -وذكر عمره فيما أفناه-} فيم صرفت عمرك؟ دقائقك، وثوانيك، ليلك، ونهارك؟ أين ذهبت؟
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان
ومن هو المسئول الثالث عن الشاب؟ إنه الداعية المسلم، الأب والأستاذ والداعية، وهذا أمر نطرحه بين يدي أصحاب الفضيلة العلماء، والقضاة، وكتبة العدل، والأساتذة، والمشايخ، أن ينقذوا شباب المسلمين، أن ينزلوا إلى الساحة، ويتركوا الصوامع العاجية، والحواشي المظلمة، ويقودوا الشباب، ويعلموهم، ويدخلوا الإيمان في قلوبهم، ويجلسوا في المساجد والحلقات والدور والبيوت، وهذا لا يخفىعليهم، ولكنه لا بأس بالتذكير، فإنه مما علم أن هذه المنطقة وغيرها، وهذه بالذات من أكثر المناطق وجوداً للعلماء وأصحاب الفضيلة منهم نستفيد لابد أن منهم الشباب، ويوم ينزلون لتوجيه المسيرة، ويوم يرتقون المنابر، ويخرجون إلى المساجد، ويتصدرون الحلقات يكتب الله على يديهم الفتح المبين لهذه الأمة، أمة والله لا تصلح بـ (أرأيتَ) و (أرأيتَ) هذه اجعلوها في اليمن.
جاء رجل إلى ابن عمر، فقال: [[أرأيتَ إن فعلتُ وفعلتُ، قال: اجعل أرأيتَ في اليمن]] أمة -والله- لا تصلح إلا بالعلماء، ولا يستقيم شبابها إلا بالعلماء، هناك صحوة لكن تحتاج إلى علماء، تحتاج إلى قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.(156/6)
مفاسد الخمر
ومن مفاسد الخمر: أفقر الله مقتنيها إن لم يتب، وأعدم صحته، وأذهب عقله ذلك العقل العزيز الكريم.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران:190] أي: لأولي العقول.
يقول المتنبي:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان
قال ابن الوردي:
اهجر الخمرة إن كنت فتى كيف يسعى في جنونٍ مَن عَقَل؟!
وهي قصيدة وعظية ينادي بها الشباب- وقد خمسها أحد العلماء، وهي تعرف باسم: (اعتزل ذكر الأغاني والغزل) فهل صحا شبابنا؟! وهل عاد شبابنا؟! وهل وعى شبابنا أن مسألة العود والكمنجة قد انتهى وقتها؟! وقد أظلم عليها، وقد قامت عليها اللعنة، أما تكفي الأمة خيبة وخسارة وفشلاً أننا بقينا على العود والوتر والناي وطائرات إسرائيل يحجز شعاع الشمس.
قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا
إذا تبدت لنا الميراج تقصفنا سعت لتسقطها الصيحات والخطب
ظنوا القنابل أبواقاً مزخرفةً والقاذفات هي الأترنج والعنب
أمة مخدرة، أم كلثوم -كوكب الغرب أو الشرق أو الظلام- تغني الشباب، وكأس الخمر يقدم للأمة والحبوب المخدرة والدخان والقات والكمنجة، ثم التصفيق، ونقصف من مليون صهيوني أحفاد القردة والخنازير.
أين أبناء خالد؟ أين أبناء علي؟ أين أبناء طارق وصلاح الدين؟ ولذلك وصلنا إلى هذا المستوى الذي لا نحسد عليه، فيقول ابن الوردي للشباب:
اعتزل ذكر الأغاني والغزلْ وقل الفصل وجانب من هزلْ
عارضه الطوسي وخمَّس قصيدته، فقال:
أيها اللاهي بلا أدنى وجلْ
اتق الله الذي عز وجل
واستمع قولاً به ضرب المثل
اعتزل ذكر الأغاني والغزل
وقل الفصل وجانب من هزل
قال ابن الوردي:
إن أهنا عيشة قضيتها ذهبت لذاتها والإثم حل
فقال الطوسي:
كم أطعت النفس إذ أغويتها
وعلى فعل الخنا ربيتها
كم ليال لاهياً أنهيتها
إن أهنا عيشة قضيتها
ذهبت لذاتها والإثم حل
ثم يقول:
اهجر الخمرة إن كنت فتىً كيف يسعى في جنونٍ منْ عقل؟!
ويسافر بعض الناس في العطل الصيفية للفساد، وللزنى، ولشرب الخمر، وللدعارات وغضب المولى، فلماذا؟ إنه بسبب عدم الإيمان، ووجود ظلام دامس في القلب نخره النفاق، فدخلت فيه الزندقة، حتى ابتعد عن الله؛ والقلب إذا ابتعد عن الله، تقطعت به الحبال.
استمع لما قاله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عن الخمر وبنات عمها من المخدرات، والمخدرات رضعت مع الخمر، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وكذلك قريبتها القات، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل مفتر حرام} فإذا قال أهل القات: إنه لا يسكر.
قلنا: يفتر وهم متفقون معنا في أنه يفتر، فهو حرام، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل مفتر حرام} وفيها ذهاب للمال وللأوقات، وذهاب للعقول، وذهاب للمصالح العامة والخاصة.
قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه وعند أحمد والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر: {من شرب الخمر في الدنيا، لم يشربها في الآخرة إن لم يتب} فمن شرب الخمر -ويلحقها المخدرات- لم يشربها في الآخرة، إن لم يتب، كيف؟ أفي الجنة خمر؟ نعم.
فيها نهر من خمر لذة للشاربين- أسقانا الله من ذاك الخمر الذي لا غول فيه ولا هيام ولا مرض ولا علة- وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لعن الله الخمر وشاربها وساقيها، وعاصرها ومعتصرها، وبائعها ومبتاعها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها} رواه أبو داود والحاكم بسند صحيح.
ملعون من يفعل ذلك، من يروج المخدرات، ومن يريد أن تشيع في الساحة، ومن يسعى في انتشارها بين شباب المسلمين فإنه ملعون، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما أسكر كثيره؛ فقليله حرام}.
وصح عنه أنه قال: {كل مفتر حرام}.
وصح عنه أنه قال: {كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام}.
وعند الطبراني بسند فيه نظر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من شرب خمراً خرج نور الإيمان من قلبه} من شرب خمراً خرج نور الإيمان من قلبه ونور القرآن ونور الإسلام.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث أنه قال: {كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا، فمات وهو يدمنها ولم يتب منها، فلن يشربها في الآخرة}.
وعنه صلى الله عليه وسلم عند الطبراني بسند حسن: {من شرب مسكراً لم يقبل الله له صلاة أربعين يوماً} صلاة أربعين يوماً لا يقبلها الله لمن شرب مسكراً، أو تناول مخدراً، أو ما في حكم ذلك.
وقال عليه الصلاة والسلام: {من شرب الخمر، أتى عطشاناً في يوم القيامة} رواه أحمد بسند حسن عن قيس بن سعد.
ولكن الآن ما هو الحل لهذه المعاصي؟
وكم من المرات خرجنا نستسقي فلم ينزل إلا بعض الفطرات اليسيرة، والعلة معروفة: الذنوب وخطايا، خرجنا لصلاة الاستسقاء ونسينا أن الربا منتشر، خرجنا لصلاة الاستسقاء والزنا عام، والغناء يُرَوَّجُ له، والفنانون يملئون الساحة، والراقصون والراقصات، والمغنون والمغنيات، والمطبلون والمطبلات، خرجنا لصلاة الاستسقاء والمجلة الخليعة تحمل الصورة الداعرة للمرأة الفاسدة وهي تملأ الحوانيت والبقالات والأسواق، خرجنا والقرآن يُهْجَر إلا في بيوت من رحم ربك، خرجنا والقطيعة والعقوق وكل ما سألت عنه من المعاصي موجود.
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
صلينا وفينا بقية باقية خرجت خائفة وجلة، فأتانا قليل من الغيث، قحطت البلدان، وغضب الرحمن، وجفت المياه من الأنهار، وغاضت الآبار، وماتت الأشجار، وذبلت الأزهار، وغضب رب الأرض والسماء الواحد القهار، فأين التوبة؟، وأين العودة؟، وأين مراجعة النفس؟ هذه كلها بسبب ذنوبنا التي سددنا بها طريق القبول والرزق من الواحد الأحد.
فما الحلول لنا من معاصينا؟(156/7)
أسباب النجاة من المعاصي
هناك أسباب كثيرة، منها:(156/8)
من أسباب النجاة من المعاصي: التوبة النصوح
يا شباب الإسلام والله لا مخرج لنا إلا أن نتوب صباحاًَ ومساءً وكلنا مذنبون.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت من الرق فاعتقنا من النار
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
شربوا الخمر أو زنوا أو قتلوا أو عقوا فتابوا، فلا طريق ولا مخرج إلا بالتوبة، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
التوبة النصوح، قال تعالى في الحديث القدسي: {يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة} حديث صحيح.(156/9)
من أسباب النجاة من المعاصي: مصاحبة الصالحين
ومفهوم المخالفة من الكلام: اعتزال جلساء السوء، فإنه ما أفسد كثيراً من شبابنا إلا جلساء السوء، وعصابات الإجرام والانحلال، وشلل البغي والعدوان، يأخذون ابنك من بين يديك وأنت تنظر بحجة الرحلة، وبحجة النزهة، والأخوة والصحبة، فيفسدون عقله وقلبه، ويخرجون منه الإيمان ويدخلون النفاق، ويخرجون مراقبة الواحد الديان، ويدخلون عمالة الشيطان، فيصبح الابن ممسوخاً، لا دين، ولا حياء، ولا صلاة، ولا حب، ولا استقبال، ولا دعاء، ولا خشوع، والعياذ بالله.
جلساء السوء هم جلساء العذاب والفرقة والغضب، ولذلك يقول علي فيما صح عنه: [[تزودوا بالإخوان، فإنهم ذخر في الدنيا والآخرة]].
قالوا: في الدنيا صحيح، لكن في الآخرة قال: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فوصف الله المتقين بأنهم ينفعون إخوانهم بالخلة يوم القيامة، وقال عن الفجرة: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101] فعلم أن الصديق لو كان ينفعهم، وكانوا مسلمين نفعهم ذاك اليوم.
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {المرء يحشر مع من أحب} فكيف رضينا لأبنائنا وإخواننا بجلساء السوء؟! كيف لم يشعر الوالد أن ابنه سرق من بين يديه؟! سرقة المال سهلة، قد يعاد، لكن أن يُسْرَق ابنك من بين يديك، كيف يُسْرَق؟! يُسْرَق من جلسائه في الفصل وفي الشارع، وجلسائه في المقهى يأخذونه مصلياً ويعود متنكراً، يأخذونه عابداً فيعيدونه فاجراً، يأخذونه مستحياً ويعيدونه ممسوخاً، فهذه هي بسبب ذنوب جلساء السوء التي من آثارها المخدرات وانتشارها في مجتمعنا المسلم.(156/10)
من أسباب النجاة من المعاصي: القضاء على الفراغ
بماذا يقضى على الفراغ؟ يقضى عليه بالطاعات، وبعمل الصالحات، وبالمحاضرات والندوات والدروس، وبمطالعة الكتب المفيدة، وبالشريط الإسلامي ومن العجيب أن تسمع أن أحد الشباب يكتب في الأسئلة: أنا أعيش فراغاً، وأزمةً روحية - سبحان الله! - أما عرفت طريقك؟! كيف لا تعرف هو يقضي هذه الدقائق والثواني؟
أحد علماء المسلمين كان ينام أربع ساعات، قيل له: لو زدت في ساعات النوم، قال: الحاجات أكثر من الأوقات.
ولهذا بعض الصالحين مر برجل نائم، فقال: أتنام الليل كله؟ قال: نعم.
قال: اُصْحُ، والله لتنام في القبر نومةً ما أطول منها.
فما أطال النوم عمراً وما قصر في الأعمار طول السهر
فمن البلايا الفراغ الحادث في شبابنا، تجد شاباً لا يقرأ كتاباً، ولا يسبح، ولا يتدبر القرآن، ولا يحضر درساً، فيأتي الشيطان إليه من باب الفراغ، فيخيم على عقله، ويسلب إيمانه، ثم يضيع هذا الشاب.(156/11)
من أسباب النجاة من المعاصي: كثرة الدعاء والذكر
ومن الحلول كذلك التي تقترح في هذا الجانب: كثرة الدعاء والذكر والابتهال إلى الواحد الأحد.
يوم أن ضيعنا الذكر وقعنا فيما وقعنا فيه.
كان السلف الصالح إذا جلسوا بعد صلاة الفجر جلسوا يسبحون إلى طلوع الشمس، هذا زادهم الروحي.
يقول ابن تيمية: هذا غدائي، ولو لم أتغدَّ لسقطت قواي.
فيا إخوتي في الله: هل من ذكر؟! هل من دعاء؟! هل من تبتل إلى الله؟! يقول تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] وهل من عودة صادقة إلى الحي القيوم؟! عل الله أن يشرح صدورنا وصدوركم للإيمان.
هذا بعض ما يقال في كيفية النجاة من هذه المخدرات.(156/12)
الحل لمن وقع في المخدرات
ولكن بقيت مسألة هامة وسوف أطرحها بين أيديكم، وقد طرحتها بين يدي كثير من الناس من الوجهاء وأهل الحل والعقل، وهذه المسألة تقول: ما هو حل الشباب الذين وقعوا في المخدرات؟ أهو الحبس؟ أم السجن؟ أم السوط؟ أم السيف؟ أم ماذا؟ والحل هو: أن يوصل الإيمان إلى قلوبهم، السوط والسجن والسيف ليس حلاً.
قد يدخل السجن، ولكنه يعود، وقد عاد بعضهم أربع مرات، وقد رأينا بعضهم في السجون قد عاد مرات كثيرة في المخدرات، تولع لها؛ لأنه يضرب ويسجن ويحبس، ثم يخرج وقلبه قلبه، وما زاد إيمانه، فالحل: أن يدخل الإيمان في قلوب هؤلاء، وأن يعلموا طريق الجنة، وأن يحذروا من طريق النار، وأن يكون الله أهيب إليهم من كل أحد، وأن تكبر منزلة الإيمان في قلوبهم، وهذا حل مقترح يعرض عليهم.
وقضية الأوامر لا تكفي وحدها للناس، قضية السوط، وقضية افعل واترك؛ لا تكفي، ولم يستخدمها عليه الصلاة والسلام، متى حرمت الخمر؟ حرمت في المدينة، ولم تحرم في مكة لأن القرآن نزل والناس على أول استقامة والرسول صلى الله عليه وسلم يربيهم بالإيمان، ويغرس شجرة الإيمان، ويزرع في قلوبهم لا إله إلا الله، لو قال: "اتركوا الخمر" لقالوا: لا.
ولو قال: "لا تزنوا" لقالوا: لا.
ولو قال: "لا تسرقوا" لقالوا: لا.
لأنه ليس هناك إيمان، لكن لما هاجر إلى المدينة، وامتلأت قلوبهم بالإيمان، وامتلأت عقولهم بالقرآن أنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90 - 91].
قال أنس: [[لما نزلت هذه الآية كنت أطوف على بعض الصحابة وهم يشربون الخمر، قال: فلما نزلت هذه الآية قام الصحابة فسكبوا الخمر في السكك حتى سالت بها سكك المدينة، وهم يقولون: انتهينا، انتهينا، انتهينا]].
هذا هو الإيمان، لما أتى الأمر ائتمروا، ولما أتى النهي انتهوا؛ لأن قلوبهم أصبحت مضيئة بالإيمان، أما أن يربى الناس على فراغ، وعلى الأغاني، وعلى كلام لا ينفع، وعلى جلساء سوء، وعلى معاصي، ويقال لهم: لا تتناولوا المخدرات، لا تأخذوا القات! فهذا بعيد.
فقد يختفون وراء الجدران ويأكلونها، ويتسترون بالحيطان ويزاولونها، لأن رقابة الله لم تكن في نفوسهم.
فيا إخوتي في الله!
أولاً: لله الحمد والشكر على أن جعل من بين هؤلاء الشباب الذين نتحدث عنهم شباباً كهذه الوجوه، شباباً حافظوا على الصلوات الخمس، شباباً توضئوا بالماء البارد، وحملوا القرآن، وعرفوا السنة، وتلألأت على وجوههم بسمات الخير.
شباب ذللوا سبل المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا
وما عرفوا الأغاني مائعات ولكن العلا صيغت لحونا
اللهم لك الحمد، ولك الشكر، ولك الرضا على أن أخرجت هؤلاء الشباب ليقولوا للعالمين: ها قد عدنا من جديد، نحن أبناء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ها قد أتينا إلى الساحة، وقد أعلنا بطاقتنا وهويتنا وجنسيتنا أننا مسلمون، وأننا نحمل لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولماذا وجد مثل هؤلاء الشباب؟، لأن الناس جربوا الباطل، وجربوا كل لذة، فما وجدوا ألذ من التقوى، وجربوا كل شراب، فما وجدوا أحسن من التقوى، وجربوا كل لباس، فما وجدوا أحسن من التقوى، وسكنوا ناطحات السحاب، فإذا هي لعنة بلا إيمان، وركبوا السيارات الفاخرة، فإذا هي لعنة بلا إيمان، وأكلوا الموائد الشهية، فإذا هي لعنة بلا إيمان، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] لم يجدوا الإيمان، فكانت عليهم لعنات، فأتى الناس الآن يدخلون الإيمان، لأنهم وجدوا الإيمان حلاً لمشكلاتهم.
اللهم كما زينت الإيمان في قلوب أصحاب رسولك صلى الله عليه وسلم فزينه في قلوبنا، وثمره وبارك فيه، اهدنا وسددنا وخذ بأيدينا، وتولنا في الدارين.
إخوتي في الله: أسأل الله لي ولكم استقامةً وهدايةً ورشداً، اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.
وأنا أقترح أن يكون عنوان هذا الدرس " الخطر الأحمر"؛ لأن المخدرات دخلت جزءاً في هذا الكلام، وسوف نستمع إلى بعض الأسئلة، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(156/13)
الأسئلة
.(156/14)
حكم بيع الدخان
السؤال
هذا سائل يتساءل عن الدخان ويقول: إن أبي يبيع الدخان، وقد قلت له: يا أبي! إن الدخان حرام بيعه وماله، ونحن لا نريد مالاً حراماً، فما رأيك؟
الجواب
الحمد لله، الأخ سأل وأفتى نفسه، فأراحنا أثابه الله، هو سأل أن أباه يبيع دخاناً، فقال له: الدخان بيعه وتداوله حرام، فصدق، فإن من آخر ما استقرت عليه الفتوى من أهل العلم أن الدخان حرام، وأنه يدخل في الخبائث، ويدخل في عموم قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ولمضرته وما أنتج عنه من دمار في الصحة وضياع للأموال والأوقات وسوء رائحة، وما ينتجه من أمراض تناسلية وعضوية، تؤثر على النتاج وعلى غير ذلك حَرُم هذا الأمر، فأصبت يوم ذكرت تحريمه، وعلى والدك أن يتوب إلى الله عز وجل وأن يترك التعامل به، وإلا فكسبه حرام خبيث، والتعامل به سعي خبيث حرام نسأل الله أن يهديه سواء السبيل.(156/15)
حكم الجلوس مع المدخن وآكل القات
السؤال
هل يجوز الجلوس مع المدخن وآكل القات؟ وتعرفت على رجل، ولكني اكتشفت أنه يخزن القات، هل أهجره؟
الجواب
من هدي أهل السنة هجر أهل المعاصي، وقد دلت عليها نصوص كثيرة في السنة عنه صلى الله عليه وسلم وعن الأئمة من بعده، وعلى ذلك فشارب الدخان في أثناء شربه ومزاولته، وآكل القات في أثناء أكله يهجرون، ولا يجلس معهم إلا بقصد أن تبلغهم الدعوة وتنكر عليهم، ثم تذهب، فهجرهم متعين عليك، وهذا الرجل الذي اكتشفت أنه يأكل القات عليك أن تنصحه، فإن انتصح فبها ونعمت، وإلا فاهجره، فهجر أهل المعاصي من سننه صلى الله عليه وسلم دل عليه حديث كعب بن مالك في الصحيحين على هجر أهل المعاصي، وبوب بعض أهل العلم من أهل الحديث، باب: هل يهجر أهل المعاصي ليرتدعوا، أو كما قال.(156/16)
حكم الجلوس في المقاهي
السؤال
فضيلة الشيخ! ما حكم الجلوس في المقاهي الرجاء التفصيل؟
الجواب هذا سؤال يأخذ حكم السؤال الأول، والمقاهي هذه تعود بين الناس أنهم يجلسونها، أقصد المقاهي التي فيها شيشة ودخان وأمثالها للسفلة من الناس، وللمتبذرين والأراذل الذين ما عندهم دين ولا حياء؛ لأن بعض الناس قد يكون عاصياً مركباً:
قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب
فإنني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركبُ
ولذلك بعض الناس قد يكون فاجراً، لكن عنده حميةً لأسرته، أو لعشيرته، أو لمروءته، فيقول: كيف أكون أنا من الأسرة، أو العشيرة وأجلس في المقهى مع المتبذلين الأراذل، لكن بعض الناس ينسلخ من الحياء، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت، فهؤلاء الجلوس معهم لا يجوز إلا بقصد الدعوة، أن تدعوهم وتوجههم فلا بأس، أما أن تجلس معهم فإنك إذاً مثلهم، قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] وقال بعض أهل العلم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] قالوا: هي مجالس الباطل، ومن مجالس الباطل: المقاهي.(156/17)
نصيحة لمن يشربون الخمر
السؤال
وهذا سائل يقول: قرب بيتنا أناس يشربون الخمر، وأنا أخاف إن نصحتهم أن يضربونني، فماذا أفعل؟ هل أذهب فأخبر الشرطة أم أنكر عليهم؟ أرجو الإجابة على هذا السؤال؟
الجواب
قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ويقول عليه الصلاة والسلام: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} وهؤلاء الذين يشربون الخمر بجوار بيتك عليك أن تنصحهم بجهدك وطاقتك، إما برسالة أو بكلمة، فإن لم تستطع فأنكر بقلبك، أما الإخبار بهم فإن كانوا مجاهرين وأفسدوا في البلد، فلا بأس، وإن كانوا متسترين على معصيتهم فلا أرى أن تخبر عنهم، ولا أن تشهر بهم لحديث الحاكم: {إذا ابتليتم بهذه القاذورات، فاستتروا بستر الله} وحديث آخر، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم {أن رجلاً أخبر عن رجل زنى، قال: لو سترته بطرف ثوبك لكان خيراً لك} فإن كانوا متسترين بالمعصية، فلا تخبر عنهم، وإن كانوا مجاهرين أفسدوا في البلد، فأخبر عنهم، وأما أنك تخشى أن يضربوك فقد أصبت، لا تتقدم إليهم، لأن بعض الناس من العصاة يضرب الناهي والآمر ضرباً مبرحاً حتى لا يدري أين الشرق من الغرب.(156/18)
كيفية دعوة متعاطي القات
السؤال
كيف توجه صاحب القات غير المتعلم للإقلاع عنه، وكيف أرشده إلى طريقةٍ يسلكها تحول بينه وبين تعاطي القات؟
الجواب
ليس هناك شيء مقترح ومرشح إلا الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن على مستواه، وهذا موكولة إلى القضاة وطلبة العلم والدعاة، وما يدخل من ضمنهم من الأساتذة، أن يجلسوا مع هؤلاء العوام ويخبرونهم بالحكم والدلائل التي فيها عموم في القرآن والسنة، ثم الممارسة معهم حتى يهتدوا، وهذه طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلم أن بعض العوام لم يهتد إلى التوبة بسبب أنهم يأتيهم دعاة على مستوىً عالٍ من الكلام والفهم، فيلقون عليهم كلمات لا يفهمونها، أو دعاة فيهم جفوة وغلظة، فلا يتقبلون منهم، هذا المقترح هو الذي يظهر لي.(156/19)
حكم الشَّمَّة
السؤال
وهذا سؤال عن أكل الشمة وما حكمها؟
الجواب
هذه أتأملها وأحيلها على بعض المشايخ من أهل المنطقة، وكانت قبل فترة قد أثيرت من قبل بعض طلبة العلم، فتحتاج إلى شيء من التأمل، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ} [النحل:116] أنا سمعت وقرأت في بعض الرسائل لبعض العلماء أنها محرمة، لكن ما أعرف وجهة التحريم، هل هو لإسكارها؟ فما أعرف أنها تسكر، أو لضياع المال فلا يكفي ضياع المال للتحريم فقط، فالمقصود: أنها تحتاج إلى تأمل ومحاورة مع بعض المشايخ إن شاء الله.(156/20)
حكم طلب فسخ العقد من الزوج الذي يشرب الخمر أو المخدرات
السؤال
امرأة زوجها يشرب الخمر أو المخدرات، فهل يحق لها طلب فسخ عقد النكاح علماً أنها قد نصحته كثيراً ولكنه لم يستجب، فما رأي فضيلتك؟
الجواب
الزوج الذي يشرب الخمر قد ارتكب كبيرة من الكبائر وأمراً محرماً، ولكن لا يوجب هذا فسخ العقد بينه وبين زوجته , ولا إنهاء الزوجية، وإنما أوجب أهل العلم إنهاء الزوجية وحرموا استمرار الزواج بترك الصلاة؛ لأنه كفر لقوله صلى الله عليه وسلم: {بين المسلم والكافر ترك الصلاة}
و {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} أما الكبائر فلا توجب الكفر، وعليها أن تناصحه إلا إذا استحل الخمر، فقال: الخمر حلال، فيصبح كافراً، وينتهي العقد، أما إذا شربها ويعلم أنها محرمة، فإنها تنصحه ولكن لا ينفسخ العقد، وإن حاولت أن تفادي نفسها، فلا بأس من باب المفاداة.(156/21)
نبذة تعريفية عن شيخ الإسلام ابن تيمية
السؤال
وهذا يطلب من الشيخ أن يحدثه عن الإمام الفاضل ابن تيمية؟
الجواب
مرحباً بك وبـ ابن تيمية، وبيض الله وجه ابن تيمية يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
بنفسي تلك الأرض ما أحسن الربى وما أحسن المصطاف والمتربعا
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
هو أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، قال الذهبي فيما ينسب له: كان جده - عبد السلام صاحب المنتقى - قمراً وأبوه نجماً، وابن تيمية شمساً فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة.
ولد عام 666هـ،- وهذا الكلام ليس ترجمة وإنما نبذة عنه، سقط رأسه في الأرض وملأ الله قلبه بالإيمان، وغرس الله في قلبه لا إله إلا الله، كان يسجد وعمره ثمان سنوات ويبكي وهو في السجود، ويقول: "يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني" نشأ تقياً ذكياً زكياً، فأما التقوى فلا تسل؛ ليله ونهاره مع الله تبارك وتعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وزكياً زكَّى نفسه بالطاعة، وعبقرياً عبقرية فياضة، يقول - وهو يتحدث بنعمة الله-: إني لأقرأ الكتاب الواحد المجلد فينتقش في ذهني مرة واحدة، وكان فيما ذكر عنه أن اثنين من الأكراد، أو من التركمان وقعت بينهم مشكلة بلغتهم تسابوا وتضاربوا في السوق، وابن تيمية حاضر، فاستدعاهم القاضي، فقال لهم: هل لكم شهود؟ قال أحدهم: ابن تيمية حضرنا، فاستدعى ابن تيمية قال: هل سمعت؟ قال: أنا سمعت كلاماً ما أفهم معناه بلغتهم، قال: أعده علينا، فأعاد كلام الرجلين.
ثبت عن تقي الدين بن دقيق العيد أنه رأى ابن تيمية، فرأى عيناه كأنهما لسانان ناطقان تكاد تتحدثان، أي: بقي قليل وتقول عينه: باسم الله.
يقول البردوني:
من تلظي لموعه كاد يعمى كاد من شهرة اسمه لا يسمى
فقال ابن دقيق العيد: ما أظن أن الله يخلق مثلك! -أستغفر الله- بل يخلق أكثر، ولكن هكذا اندهش الرجل، حتى يقول الذهبي: لو حلفت بين الركن والمقام أن عيني ما رأت مثله لصدقت وما حنثت.
كان إذا خطب يغلق عينيه، فيستفيد الناس جميعاً: المفسر والأصولي والعرضي والنحوي والصرفي، وغير ذلك من أصناف الناس، أما ليله، فيقول: تركته لله، فكان يقوم من نصف الليل يتهجد إلى صلاة الفجر، أما نهاره فمن طلوع الفجر بعد الصلاة إلى ارتفاع الشمس ضحى يذكر الله، دخل المواعظ، وارتقى المنابر، ورد على الملاحدة والزنادقة، وقاتل التتار، حتى أخذ السيف، وقال: والله لننتصرن اليوم، قالوا: قل إن شاء الله، قال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، فانتصروا بإذن الله، حتى سالت الدماء على ثيابه رضي الله عنه ورحمه الله رحمةً واسعةً، ماذا أقول؟ حتى أعجز الكثر من الكتبة الكتابة عنه، وكتب عنه بعض الفرنسيين والإنجليز والأمريكان وهي موجودة في الساحة، شخصية نادرة فياضة، ترك من المؤلفات ما يربوا على ثلاثمائة مؤلف، وفتاويه يقولون: لو جمعت كلها كانت ثلاثمائة مجلد، يكتب في اليوم الكراريس، كتب في} الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كررايس هائلة، كان دائماً لا يترك الذكر، قالوا: كيف؟ قال: أنا قلبي كالسمكة إذا خرجت من الماء ماتت، وأنا قلبي إذا ترك الذكر مات.
ممن ترجموا عنه: ابن عبد الهادي، والذهبي وكذلك ابن كثير، وغيره كثير وكثير، رحم الله ابن تيمية، نحن نعجز عن الترجمة عنه، ولكن أسكنه الله فسيح الجنات، قال جولد زيهر - المستشرق المجري من المجر، هاجم الحديث- يقول: وضع ابن تيمية ألغاماً في الأرض فجَّر بعضها محمد بن عبد الوهاب، وبقي بعضها لم يفجر حتى الآن.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(156/22)
الفاروق في القرن العشرين
عمر أسلم بسورة (طه) وكان أصدق من الشمس في ضحاها, وأوضح من القمر إذا تلاها, وأشهر من النهار إذا جلاها, وتولى الخلافة فأعلاها, وقاد الأمة ورعاها.
عمر مواقف ودروس خالدة بكاء ونحيب تفقد واستطلاع أتعب الخلفاء بعده قائد لقي الله خالياً من المظالم فهل سيوجد مثله في هذا القرن؟! هذا مضمون هذه المادة.(157/1)
عمر الفاروق لفحات ونفحات
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين, ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين, وقدوة الناس أجمعين, وعلى آله وصحبه والتابعين.
عنوان هذه المحاضرة: (عمر في القرن العشرين) ورقمها (304) وإنه موقف صعب يوم نتكلم هذه الليلة عن عمر الفاروق!!
من أين نبدأ مع أبي حفص؟! وإلى أين ننتهي؟! وماذا نقول هذه الليلة؟!
وهل نمدحه فهو أغنى عن المدح؟ وكما قال الأعرابي لما رأى القمر وسط الليل: "والله يا قمر! إن قلت: رفعك الله! فقد رفعك الله، وإن قلت: جملك الله! فقد جملك الله، وإن قلت: زينك الله! فقد زينك الله".
عمر التاريخ، وعمر المجد، وعمر العدالة، عمر المنهج الرباني الذي أنزله سُبحَانَهُ وَتَعَالى على قلب أولئك البشر من الناس، فخرجوا أمةً جديدةً للعالم، فنشروا العدل في ربوع الدنيا:
والله ما ادكرت روحي لسيرته إلا تمنيت في ديناي لقياه
ولا تذكرته إلا وخالجني شوق أبو حفص فحواه ومعناه
تبكي عليه الملايين التي فقدت بموته عزة الإسلام إذ تاهوا
الطفل من بعده يبكي عدالته يقول هل مات ذاك الغيث أماه
والناس حيرى يتامى في جنازته تساءلوا من يقيم العدل إلاه
مضى إلى الله والآلاف تندبه ابن الشريعة حياها وحياه
نعم أحييك من قلبٍ يقطعه شوقي إليك فهل واسيت فقداه
عمر أسلم بسورة طه، وكان أصدق من الشمس في ضحاها، وأوضح من القمر إذا تلاها، وأشهر من النهار إذا جلَّاها، تولى الخلافة فأعلاها، وقاد الأمة ورعاها.
من أين أبدأ يا أبا حفص ولي قلب له في حبكم أسرارُ
يا أيها الفاروق تاريخ الورى زورٌ وفي تاريخكم أنوار
السلام عليك يا عمر بن الخطاب , يوم أسلمت! والسلام عليك يوم هاجرت! والسلام عليك يوم توليت الخلافة! والسلام عليك يوم أن مت شهيداً ويوم تبعث حياً في الخالدين!
لا أترجم له، فهو أغنى عن الترجمة، وهو أكبر من الكلام، وهو أعلى من المدح.
لقبه الفاروق، لقَّبه بذلك أهل الكتاب، لأن الله فرَّق به بين الحق والباطل.(157/2)
إسلام عمر
أسلم وعمره سبع وعشرون سنة، ورضع (لا إله إلا الله) وحمل (إياك نعبد وإياك نستعين) وسجد لله، وعفَّر جبينه للخالق، ثم مضى إلى الله، وسوف نعيش معه هذه الليلة ليعلم كل إنسان إذا أراد أن يكون إنساناً مسلماً أن عمر ينبغي أن يكرر حتى في القرن العشرين، وينبغي أن يكون جامعةً للعدل وللحب وللإيمان وللطموح.
قال ابن كثير: " أسلم وعمره سبعٌ وعشرون سنة، وشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها.
وهو أول من دعي أمير المؤمنين في الإسلام، وأول من كتب التاريخ، وأول من جمع الناس على التراويح، وهو أول من عس بـ المدينة بدرته في ظلام الليل، يتفقد الأرامل والمساكين، ويتفقد أحوال المساكين، لا ينام الليل والناس ينامون، ولا يشبع والناس يجوعون، ولا يهدأ حتى يرتاح الناس ويهدءون ".
تقول زوجته عاتكة بنت زيد: [[يا عمر , ألا تنام الليل؟
قال: لو نمت في الليل لضاعت نفسي، ولو نمت في النهار لضاعت رعيتي]].
نامت الأعين إلا مقلةً تذرف الدمع وترعى مضجعك(157/3)
تواضع عمر
وكان متواضعاً لله, وحمل الدرة وأدب بها، عنده عصا اسمها: "الدرة" يخرج بها الشياطين من الرءوس، وكان يؤدب بها أمراء الأقاليم، وكان يحكم اثنتين وعشرين دولة من الدول الإسلامية اليوم يحكمها من المدينة، وكان إذا سمع بصيته كسرى وقيصر ارتعدوا على كراسيهم كما يقول محمود غنيم شاعر وادي النيل:
مالي وللنجم يرعاني وأرعاه أمسى كلانا يعاف الغمض جفناه
لي فيك يا ليل آهات أرددها أواه لو أدت المحزون أواه
كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يملكنا شعبٌ ملكناه
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدمٌ له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
قال ابن كثير: "وكان عمر خشن العيش، وكان قليل الضحك، لا يمازح أحداً، وكان منقوشاً على خاتمه (كفى بالموت واعظاً يا عمر).
يقول المتنبي:
أرى كلنا يبغي الحياة بجهده حريصاً عليها مستهاماً بها حبا
وحب الجبان النفس أورده البقا وحب الشجاع الحق أورده الحربا
وكان يقول عليه الصلاة والسلام: {أشد أمتي في دين الله عمر} كان عمر يبكي على المنبر ويقول: [[لا يحل لي من مال الله إلا حلتان: حلة للشتاء وحلة للصيف]] وصعد عام الرمادة ليتكلم إلى الجماهير وليخطب، فقرقر بطنه من الجوع، أمعاؤه لم تجد لحماً، لم تجد خبزاً، وهو يملك الملايين المملينة من الذهب والفضة، لكنه يخاف من نارٍ تلظى، فقال لبطنه: [[يا بطن! قرقر أو لا تقرقر! والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].
قال معاوية رضي الله عنه: [[أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته الدنيا وما أرادها، وأما نحن فتقلبنا في الدنيا ظهراً لبطن]].
وقال عمر وقد قيل له: لو أكلت طيباً؟ قال: [[ما لي وللدنيا! إني تركت صاحبي -أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر - على جادة، ولا أريد أن أخالفهما عن تلك الجادة]].
لبست رخيص الصوف خوفاً لعله ستلبس في أخراك من سندسٍ خضر(157/4)
لباس عمر
كان لباسه جبة صوف، بين كتفيه أربع رقاع، وأنفق في حجته التي قاد فيها المسلمين ستة عشر ديناراً فحسب، وكان يأكل خبز الشعير، ويأتدم بالزيت، وربما قدم له الملح مقشوراً، وقال: [[والله إني أعلم الناس بنسيل العسل، وبلباب البر، وبأجود اللحم، ولكن أخشى أن أجمع هذا وهذا، ثم آتي إلى الله، فيقول الله لي: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الاحقاف:20]]].
قل للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
حسبي وحسب القوافي حين أرويها أني إلى ساحة الفاروق أهديها
يا رب هب لي بياناً أستعين به على قضاء حقوقٍ نام راعيها
قال أنس بن مالك: [[سمعت عمر وراء الحائط وهو على الخلافة يبكي ويضرب رجله بعصا، ويقول: والله يا عمر! إن لم تتق الله ليعذبنك الله عذاباً أليماً]] ومن مآثره أنه لم يأكل اللحم والسمن عام الرمادة، وهو عام القحط، وأقسم ألَّا يأكل سميناً ولا سمناً حتى يكشف الله البلوى عن المسلمين.
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان:12 - 14].(157/5)
عظم المسئولية عند عمر
خرج عمر من المدينة -والقصة يرويها ابن كثير - عن طلحة بن عبيد الله قال: [[خرجت وراء عمر فدخل بيتاً -وروى ابن القيم هذه القصة لـ أبي بكر، ولكن يرويها ابن كثير لـ عمر - قال: فدخل عمر على عجوزٍ عمياء حسيرة، فلما خرج دخلت أنا, فوجدت المرأة العمياء الحسيرة, فقلت: من أنتِ يا أمة الله؟
قالت: أنا امرأة عجوزٌ حسيرة عمياء في هذا البيت, قال: ومن هذا الرجل الذي يأتيكِ؟ قالت: لا أعرفه, وهو عمر، قال طلحة: وماذا يفعل إذا أتى؟ قالت: يكنس بيتي، ويحلب شاتي، ويغسل ثوبي، ويصنع الفطور لي، فبكى طلحة حتى جلس، ثم قال: أتعبت الخلفاء بعدك يا عمر]].
إنه التاريخ.
أيا عمر الفاروق تدعوك لهفةٌ يباشر مكواها الفؤاد فينضج
متى تستعيد الأرض ثوب جمالها فتصبح في أثوابها تتبرج
وعمر قصته طويلة، وعمر درسٌ لكل مسئول يريد أن يلقى الله، وقد عدل في رعيته، وعمر شرفٌ للأمة.
يقول مايكل هارف -وهو أمريكي لماحٌ ذكي- في كتابه الأوائل أو العظماء المائة: إن الواحد والخمسين هو عمر بن الخطاب، وأنا أنقل من كتابه في صفحة (164) يقول: إنما مآثر عمر مؤثرة حقاً، فقد كانت شخصية رئيسية في انتشار الإسلام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدون فتوحاته السريعة من المشكوك به أن ينتشر الإسلام بهذا الشكل الذي هو عليه الآن، ثم أتى هذا الكاتب بعدائه المرير، يقول: سوف يلومني الناس، ويقصد: الأمريكان أرغم الله أنوفهم، يلومونه أنه جعله العظيم الواحد والخمسين، وهو عظيم على رغم أنوفهم جميعاً شاءوا أم أبوا؛ لأنه من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وسوف تبقى عظمته على رأي الموافق والمخالف.
يقول ابن عوف رضي الله عنه وأرضاه: [[قال لي عمر في ليلة من الليالي! انطلق معي يا عبد الرحمن -وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم- قال: فانطلقت معه، فاقترب من خيمة، فسمع بكاء طفل وأمه في المخاض في الولادة، فلما وضعته بكى الطفل، فاقترب عمر، فقال: يا أمة الله! من أنتِ؟ قالت: أنا امرأة من المسلمين، الله حسيب عمر ما جعل لنا نفقة، فبكى عمر حتى جلس، ثم قال: يـ ابن عوف! إلى بيت المال، قال: فذهبت معه؛ فحمل شحماً وبراً وزبيباً على كتفه، قلت: يا أمير المؤمنين! أنا أحمل عنك، قال: لا.
أنت لا تحمل عني أوزاري يوم القيامة، قال: ثم ذهب وذهبت معه، فدخل طرف الخيمة، وصنع عشاءً للمرأة ولصبيها، وأخذ يوقد النار, وكان الدخان يتخلل من بين لحيته الكثة، فقدم الطعام، فقالت المرأة: والله إنك خير من عمر بن الخطاب]] وهو عمر بشحمه ولحمه، وهو عمر بإيمانه وصموده، وهو عمر بعظمته وجلالته وقداسته في الإسلام.
بكاء الطفل أسهر مقلتيكا ينادي حسرة يشكو إليكا
سهرت لجوعه وبكيت خوفاً من الديان بل خوفاً عليكا
يقول الشاعر: أنت تبكي خوفاً من الديان، لكنَّ بكاءك في الحقيقة خوفاً على نفسك من يومٍ يخسر فيه الظالمون، ويتردى فيه الطغاة، ويخسر ويندم فيه المستبدون ولا يبقى إلا العدول.
وقال: [[أسلم مولى عمر: دعاني عمر ليلة, قال: هيا انطلق بنا يا أسلم؟ قال: فانطلقت معه إلى امرأة في خيمة -عام الرمادة- وإذا هي قد نصبت قدراً ليس فيه إلا الماء على النار تريد أن تلهي أطفالها حتى يناموا.
قال عمر: يا أمة الله! ما هذا القدر؟ قالت: - وهي لا تعرف أنه عمر - ماء في القدر، قال: أما لكم طعام؟ قالت: لا.
ليس لنا طعام، قال: فما هذا الماء؟ قالت: ألهي أطفالي حتى يناموا.
فذرفت عينا عمر، ثم رجع إلى بيت المال؛ فأخذ شيئاً من طعام، وفرض لهم نفقة، وأعطاهم العشاء بعد أن أصلحه، ثم عاد فصلى بالناس صلاة الفجر، قال: فما سمعنا ماذا يقول من كثرة بكائه]] وهذا مصداق قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41].
الذين إن مكناهم وسلَّمناهم مقاليد الأمور عاشوا هموم وأحزان ودموع الأمة.
الذين إن مكناهم في الأرض قاموا بالعدل، فرعوا الضعيف والمسكين، وأطعموا الجائع.
الذين إن مكناهم في الأرض، سهروا من أجل راحة الشعوب، ومن أجل بطون الشعوب، ومن أجل دموع الشعوب، ومن أجل فلذات قلوب الشعوب، ومن أجل أكباد الشعوب.
الذين إن مكناهم في الأرض، حملوا لا إله إلا الله {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:26].
وهذا ميزان الله في الأرض أنزله على محمد عليه الصلاة والسلام.
يقول الأستاذ الأديب علي الطنطاوي شكر الله سعيه في مقالة له مبكية بعنوان (نحن المسلمين) يقول: " اسألوا كل سماءٍ في السماء عنا, واسألوا كل أرض في الأرض عنا، من الذي نشر العدل؟
من الذي أعلن مبادئه على المنائر كل يوم خمس مرات؟
من الذي صلى على ضفاف دجلة والفرات؟ من الذي فتح السند والهند بلا إله إلا الله؟
من الذي كتب على الأرض بدمه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؟
سيقول المجد: نحن المسلمين، وهي مقالةٌ يجدر بكم أن تعودوا إليها، هي من مآثرنا، ولا يعرف التاريخ إلا نحن، ونحن الذين تنزلت علينا آيات الله، ونحن الذين انطلقت من بلادهم كتائب الحق.
أما عملاء الوثنية، أما أعداء الله، أما شراذمة البشر فلا يجوز لهم أن يتصدروا لقيادة العالم، ولا أن يجلسوا على منبر التاريخ ".
يقول أبو العلاء المعري:
إذا عير الطائي بالبخل مادرٌ وعير قساً بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت كسيفة وقال الدجى للبدر وجهك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل
يقول محمد إقبال في قصيدة له: يا رب! أي أمة غير أمتي العربية -يقولها بلغته: لكن سوف تسمعون ترجمتها شعراً- يقول: يا رب! أي أمة غير أمتي العربية يوم سجدت لك على الصحراء ثم رفعت اسمك على النجوم؟!
أي أمةٍ ينبغي أن تصدر وأن توقر وأن تقدس؟!
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولنا الأزهارا
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا
ندعو جهاراً لا إله سوى الذي خلق الوجود وقدَّر الأقدارا
كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا(157/6)
عمر يطارد بعيراً
هذا عنوان لأحد المفكرين، كان عمر رضي الله عنه يجمع إبل الصدقة، ويأخذ القطران بيده في حرارة الشمس، ويلبس ثوباً قديماً فيطلي الإبل حتى لا تجرب، لا يوكِّل أحداً من الناس أن يطليها بالقطران، وفي أثناء ما كان يطلي الإبل رضي الله عنه انطلق بعير ناداً خارجاً شارداً، فانطلق عمر وراءه مسرعاً، وكان الصحابة في بيوتهم في القيلولة في حرارة الشمس، يتظللون من الشمس، ولم يعلموا أن أمير المؤمنين يطلي الإبل في المدينة، فانطلق عمر وراء البعير وخرج علي من النافذة.
يا الله! من الذي يطارد البعير أعمر؟!
فأوقفه، وقال: [[يا أمير المؤمنين! إلى أين؟ قال: ند بعير فأنا أطلبه، قال: أنا أكفيك مؤنته وآتي به، قال: لا والله، الله يسألني عن البعير يوم القيامة ولا يسألك]].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر!
عفاءٌ على دنيا رحلت لغيرها فليس بها للصالحين معرج
كأنك لما مت ماتت قبائلٌ أأنت امرؤ أم أنت جيشٌ مدجج
وعاد بالبعير وهو يلهث من الظمأ والجوع والتعب وربطه, وقال: الآن أنا أرضيت نفسي، الآن أرضى نفسه، لأن الله إذا جمع الأولين والآخرين يوم القيامة وند البعير، يقول: يا عمر! ضاع البعير من إبل صدقة المسلمين وتركته.(157/7)
عمر وجابر والطعام رضي الله عنهما
وهذا عنوان آخر عصري، خرج جابر يشتري لحماً! ولما اشتراه شواه ووضعه في كيس، ولما أقبل عمر أخفى اللحم تحت إبطه، لأن عمر كان يحاسب الناس، وكان كثير الأسئلة، وكان يستوقف الأمة، من يشتري؟
من أين اشتريت؟
أين ذهبت؟
كالأب الحاني، فقال لـ جابر: ما هذا الذي تحت إبطك؟
قال: لحمٌ، قال: لحم؟
أتجدون ما تشترون اللحم -عام الرمادة- وهو ما أكل اللحم, قال: لحمٌ اشتهيته فاشتريته يا أمير المؤمنين! قال: أكلما اشتهيت اشتريت؟ والله إني أعلمكم بأحسن اللحم، لكن والله ما وجدت ما أشتري به اللحم، يعيش الفقر.
قد كنت نجماً في ذرا العلياء يا منصف الموتى من الأحياء
وبنيت صرح العدل يا علم الهدى ورفعت رأس الدين للجوزاء(157/8)
عمر والأعرابي على المنبر
عمر يستقل المنبر يوم الجمعة ليتكلم للناس، ليخطب في الناس، وليختبر ذكاء الأمة، وحرارتها, وصراحتها فتوقف عمر وبكى، ثم مسح دموعه وقال: [[أيها الناس! ما رأيكم لو رأيتموني اعوججت عن الطريق هكذا -وأشار بيده, يقول: ما رأيكم لو رأيتموني انحرفت عن الطريق في العدالة، في تطبيق حكم الله، في تنفيذ الشريعة ماذا ترون؟ - فسكت الناس، وقام أعرابي بدوي من آخر المسجد فسل سيفه، وقال: والله -يا أمير المؤمنين- لو رأيناك اعوججت عن الطريق هكذا لقلنا بالسيوف هكذا، فدمعت عينا عمر، وقال: الحمد لله الذي جعل في رعيتي من لو اعوججت عن الطريق هكذا، قال بالسيف هكذا]].
إنه الحق وإنها إرادة الله عز وجل بهذا الدين، وإنه العدل الذي أقام هذه الدولة الإسلامية، الذي كان خليفتها من بغداد هارون الرشيد يتحدى السحاب، السحابة يقول لها: أمطري فتتحداه وتخرج, قال: أمطري حيث شئت؛ فإن خراجك سوف يأتيني.
ملكوا الدنيا بلا إله إلا الله، وعمروا الأرض بإياك نعبد وإياك نستعين، وفتحوا العقل بمنائر ومفاتيح التوحيد.(157/9)
سلمان وعمر رضي الله عنهما على المنبر
يتكلم عمر للناس، ويقول: اسمعوا وعوا، قبل الجمعة يوم الخميس حين وزع عليهم ثوباً ثوباً، عندما أتته ثياب من اليمن اشتراها، فلما وصلت الثياب أعطى المسلمين, كل مسلمٍ ثوباً، وأخذ هو ثوباً واحداً، لكن عمر كان طويلاً, عملاقاً، كبير البنية، ما كفاه ثوبٌ واحد! فقال لابنه عبد الله: أعطني ثوبك مع ثوبي؛ لأني رجل طويل، ثوبك الذي هو حصتك مع المسلمين ألبسني إياه.
فقال عبد الله: خذ ثوبي, فلبس ثوبين -تغير الشكل، كيف يلبس ثوبين والمسلمون لبسوا من ثوب واحد- فبدأ الخطبة، وقال: أيها الناس! اسمعوا وعوا، فقام سلمان من وسط المسجد، وقال: والله لا نسمع ولا نطيع، فتوقف واضطرب المسجد، وقال: ما لك يا سلمان؟
قال: تلبس ثوبين وتلبسنا ثوباً ثوباً ونسمع ونطيع.
قال عمر: يا عبد الله! قم أجب سلمان، فقام عبد الله يبرر لـ سلمان، وقال: هذا ثوبي الذي هو قسمي مع المسلمين أعطيته أبي، فبكى سلمان، وقال: الآن قل نسمع, وأمر نطع، فاندفع عمر يتكلم.
إن هؤلاء الأقزام الذين يدعون الديمقراطية في بلادهم شرقاً وغرباً كذبوا، لم يأخذوا إلا جزئية من المائة من الديمقراطية، بل من شورى الإسلام، رعاية الفرد، رعاية أموال الشعوب، الكفالة الاجتماعية، العدالة، رفع الظلم عن الناس.(157/10)
عمر ومحمد بن عمرو بن العاص
كان عمرو بن العاص أميراً على مصر , الداهية الدهياء، تولى إمارة مصر لـ عمر، وابنه محمد كان يسابق مع المصريين في الخيل، فتسابق هو ومصري من القبط، فسبقه القبطي بفرسه، فنزل الأمير محمد بعصاه، فضرب ابن القبطي، وقال: خذها وأنا ابن الأكرمين!! كيف فرسك يسبق فرسي وفرسي فرس أمير، وفرسك فرس فقير؟ ينبغي أن يتخلف فرسك.
فرفع القبطي عريضة إلى عمر بن الخطاب إلى القيادة العليا، وذهبت الرسالة, وأتى القبطي بلحمه وشحمه إلى المدينة , وبكى أمام عمر، قال: ضربني ابن أميرك في مصر، قال: عليَّ به وعليَّ بأبيه، ودخلوا عليه والصحابة مجتمعون, وقام عمر بالدرة، وقال: [[والله لا يحول بيني وبين هذا الأمير وبين ابنه أحد]] ثم أخذ محمداً فطرحه أرضاً، ثم أتى بـ عمرو فطرحه على ابنه فضربهم بالدرة ظهراً لبطن، وهو يقول: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!]] من أين لكم هذه التعاليم؟ من كسرى وقيصر؟ من فرعون؟ من النمرود بن كنعان؟
أليس للإنسان كرامة؟! أليس له صوت؟! أليس له حرية؟! (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!) أخذوها درساً أمام الناس، وعاد وقال للمصري: أرضيت أم لا؟
قال: رضيت يا أمير المؤمنين! فأرضاه بمال، وذهب المصري يتبسم فرحاً بهذا الإمام العظيم.(157/11)
عمر والهرمزان
ناطح عمر دولة فارس الكافرة، يريد إسقاطها وأسقطها الله، وقد أسقطها الله بيد عمر.
رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يصب
أرسل جيشاً عرمرماً هناك، وحاصرها من كل جهة، يريد إسقاطها، وبعد أن أسقطت أرسل أهل فارس مفوضاً ومندوباً اسمه الهرمزان يتكلم مع عمر في الأسارى وفي شئون المفقودين واللاجئين والفقراء، وهذا الهرمزان كان من أعيانهم، كان من وزرائهم كان ذكياً، وأصابه الله بالرعب؛ لأنه يريد أن يتكلم مع عمر، وهو يسمع صيت عمر يدكدك الدنيا ويهز المعمورة، فكان يتساءل الهرمزان!! كيف يقابل عمر؟ بأي لسان يقابله؟ وكيف يجلس معه؟
وصل إلى المدينة، وكان مع الهرمزان حاشية, وقال أهل العلم: كان يلبس حريراً وعليه تاج وكان مرصعاً بالديباج في يده، كان كافراً لا يعترف بأحكام الإسلام، فقال للناس وللمسلمين: أين قصر الخليفة؟
قالوا: لا قصر له، قال: دلوني على بيته، قالوا: تعال، فأتوا إلى بيته؛ فإذا هو مبنيٌ من طين في طرف المدينة، قال: هذا بيته؟!
قالوا: نعم هذا بيته، فطرق الباب فخرج ابن عمر، قال: أين أبوك؟
قال: خرج وأظنه نائماً في المسجد، التمسه في المسجد، قال: أليس له حرس؟ قال: لا حرس له، فذهب إلى المسجد والناس حوله ينظرون إلى الديباج والحرير الذي يلمع مع الشمس، لأن المسلمين ما رأوا تلك الحضارة البراقة، حضارة المادة، حضارة البطون، عرفوا حضارة القلوب، وحضارة الأرواح، ولكن هذا الديباج، وهذا الذهب والحرير ما رأوه.
فذهبوا إلى المسجد فما وجدوه، فخرجوا معه فوجدوه تحت شجرة قد نام، وعصاه الدرة عند رأسه، وقد توسد ذراعه، فقال الهرمزان: أهذا عمر؟
قالوا: هذا عمر.
قال: أهذا الخليفة؟
أهذا الذي أسقط دولة فارس؟
قالوا: هذا الذي أسقط دولة فارس، فقال وهو ينتفض: "حكمت فعدلت فأمنت فنمت".
قال حافظ إبراهيم لله دره، شاعر مصر:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عطلاً وهو راعيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردةٍ كاد طول العهد يبليها
فقال قولة حقٍ أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهمُ فنمت نومَ قريرِ العين هانيها
من لجسم شفه طول النوى ولعينٍ شفها طول السهر
جسدٌ لفف في أكفانه رحمة الله على ذاك الجسد(157/12)
عمر يفتح بيت المقدس
بيت المقدس الذي يشكو إلى الله ماذا فعل به المسلمون؟!
بيت المقدس الذي ما وجد من ينقذه كـ عمر أو كـ المعتصم، أو صلاح الدين؟!
يقول أبو ريشة:
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
يجيش عمر جيوشه وتحاصر فلسطين، أربعة جيوش وأربعة أمراء، يقودهم أبو عبيدة، يسمى: أمير الأمراء، وكان مركزهم في الشام.(157/13)
طلب النصارى أن يفتح عمر بيت المقدس
ولما رأى النصارى -أهل الصليب- ألَّا حيلة لهم ولا قوة بقتال المسلمين، كتبوا رسالة إلى عمر وقالوا: نريد أن تفتح أنت بيت المقدس، أن تأتي أنت لاستلام المفاتيح، ووافق عمر، وانطلق عمر من المدينة فشاوره علي، قال: نرى أن يصحبك منا وفد -أي: حرس موكب- قال: لا.
من لم يصحبه الله فلا يصحبه أحد!
يقول: الله رفيقي {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
قالوا: يا أمير المؤمنين! إنك تفد على قومٍ كثر من الصليبين، ونريد أن تكون لك شارة، قال: لا شارة لمن لا تقوى له، ثم قال قولته المشهورة: [[نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام, ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]] وأتى بمولاه، وقال: تذهب معي؟ قال: معك يا أمير المؤمنين! فأخذ عمر الجمل، وقال لمولاه: تركب أنت عقبة وأنا أركب عقبة، أنت وقتاً وأنا وقتاً.
قال: يا أمير المؤمنين! لا يصلح هذا، أنت أمير المؤمنين، قال: أما تتعب أنت كالناس؟ أي: أنت ألست كالبشر؟ قال بلى، قال: والله لتركبن عقبة، وأنا أركب عقبة فركب المولى وقاد عمر، فإذا انتهى ركب عمر، وقاد المولى الجمل، واقتربوا من مشارف بيت المقدس، وخرج الأمراء يستقبلون عمر: عمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة وأبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان، والسادة والجحافل، وطوابير الجيوش تصطف كأنها الجبال، هذا جيش عمر، فأتى عمرو بن العاص قال: يا أمير المؤمنين! خيبتنا أتيت بهذا الزي، قال: [[اسكت نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]].
قال: يا أمير المؤمنين! ألا نهيئ لك من يحرسك؟ قال: لا.
فشق الصفوف، وسلم على أبي عبيدة، وقال لـ أبي عبيدة: تعال يا أبا عبيدة أبكي أنا وإياك على عهودنا التي خلفناها, أو التي خلفنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
-أي: تعال أبكي أنا وأنت التقصير، تعال أنا وأنت نتذكر الأيام التي عشناها مع الرسول صلى الله عليه وسلم- فلما انتهى استمر في الطريق، وخرج النصارى عن بكرة أبيهم في بيت المقدس، على شرفات المنازل، خرج الأطفال، خرجت النساء والرجال، خرجت الدنيا لترى من هو هذا الإنسان، هل هو بشر يمشي على الأرض؟ من هو صاحب هذا الصيت الذي دوخ الدنيا؟
من هو هذا الذي يفتح الدنيا وهو في المدينة؟
من هو هذا الرجل الذي أدخل الله رعبه في قلوب الملوك؟(157/14)
عمر يستلم مفاتيح بيت المقدس
وقليلاً قليلاً وإذا بالجمل يقدم، وعليه عمر، ولما اقتربوا من بيت المقدس قال عمر: انتهت عقبتي أنزل واركب أنت، قال: يا أمير المؤمنين! وصلنا، قال: والله لتركبن، قال: يا أمير المؤمنين! الناس ينظرون، يظنون أني أنا الخليفة، قال: ولو ظنوا ذلك، فنزل رضي الله عنه وركب الخادم، وأتى عمر ولما اقترب من المدينة -وعودوا إلى ابن كثير وابن جرير واسمعوا ماذا قالوا- فأخذ عمر يرفع ثيابه من الطين خوف أن تتبلل ثيابه وهو يقود الجمل، فقال النصارى: من هذا؟ أمبشرٌ بقدوم الخليفة؟ -يعني: هذا الجمل وصاحبه أتى يبشر اقتراب الخليفة؟ - قالوا: هذا هو الخليفة.
قالوا: هل هو الذي على الجمل؟
قالوا: كلا.
هو الذي يمشي على الأرض ويقود الجمل، فضج الناس بالبكاء، وفتح بيت المقدس، والتقى بالصحابة هناك، وقال لـ بلال: أذن؟ قال: يا أمير المؤمنين! ما أذنت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: عزمت عليك أن تؤذن هذا اليوم، فرفع نداء الحق، ورفع صوته الخالد يؤذن، فبكى عمر وبكى الناس.
تلك المكارم لاقعبان من لبن وهكذا السيف لا سيف ابن ذي يزن
وهكذا يفعل الأبطال إن غضبوا وهكذا يعصف التوحيد بالوثن(157/15)
حال القدس بعد عمر
ماذا فعلنا بعد عمر؟
ماذا فعلنا مع فلسطين وبيت المقدس؟
ماذا فعلنا بقداسة الإسلام، وبلاد الإسلام؟ ماذا فعلنا مع الأندلس (الفردوس المفقود)؟
ماذا فعلنا برسالتنا التي ائتمننا الله عليها لننشرها في الأرض؟
ماذا فعلنا؟!
ماذا فعلنا شجبنا بالكلام ولم نحمل سلاحاً ولم نركب على سفن
نشكو على مجلس الأمن الدعي وهل أشقى العروبة إلا مجلس المحن
من أشقى الناس إلا مجلس الأمن؟! ومن الذي سلب إرادة المسلمين إلا مجلس الأمن؟!
ويقول شاعرٌ من الشعراء العرب، أتى يزور دمشق ويزور قبر صلاح الدين، ثم ذهب إلى حمص ليزور قبر خالد بن الوليد:
دمشق يا كنز أحلامي ومروحتي أشكو العروبة أم أشكو لكِ العربا
أدمت سياط حزيران ظهورهم فقبَّلوها وباسوا كف من ضربا
وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا
متى كان لإسرائيل أن تسكن في العالم الإسلامي وتبقى فيه؟
هل إذا كان عمر أو صلاح الدين أو طارق أو الأفذاذ أو خالد أو سعد أتبقى إسرائيل؟
ألإسرائيل تعلو راية في حمى المهد وظل الحرم
أو ما كنت إذا البغي اعتدى موجة من لهبٍ أو من دم
أمتي هل لك بين الأمم منبرٌ للسيف أو للقلم
لا.
لو وجد مثل عمر ما بقيت إسرائيل على وجه الأرض.
رفيق صلاح هل لك عودةٌ فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ
نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصر
وليمون يافا يابس في حقوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمر
إنه تاريخنا وأنا لم آتِ بشيءٍ من عندي هذه الليلة، أنا أتيت لأقرأ التاريخ، وأعيد فقط كلام أهل العلم، وأتشرف بأن أذكر عمر على منبر محمد صلى الله عليه وسلم، ونواصل مع عمر، والحديث مع عمر لا ينقطع أبداً.(157/16)
من حِكَم عمر
كان رضي الله عنه وأرضاه حكيماً، كان يتكلم بالكلمة فتقع كفلق الصبح.
فمن حكمه يقول: [[لست بالخب ولا الخب يخدعني]].
يقول: أنا لست مكاراً خداعاً ولكن لا يخدعني أحد، أنا لا ألعب على الناس، ولكن لا يلعب الناس عليَّ.
قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة من قومٍ نشئوا في الإسلام لا يعرفون الجاهلية]] معنى ذلك: أن تتعلم الجاهلية، أن تعرف واقعك، أن تقرأ المذاهب الهدامة الكفرية، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
وكان يقول الكلمة فتنطق السكينة, حتى يقول ابن عمر: [[كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر]].(157/17)
عمر والعباس والميزاب
وهذه قصة يذكرها الذهبي وغيره، خرج يصلي الجمعة رضي الله عنه وأرضاه، ولبس ثوبه المعهود الذي يغسله يوم الجمعة, ثوبه الوحيد، كان ينام في الفراش حتى يجف ثوبه مع حرارة الشمس، ثم يغتسل ويلبس الثوب، فخرج بالثوب يخطب الناس على المنبر، وفي أثناء الطريق مر من تحت ميزاب العباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم, فسال عليه دم من دم دجاج، فوقع على ثوب عمر، فغضب عمر ومد يده وكان عملاقاً رهيباً قوياً فاقتلع الميزاب حتى أوقعه في الأرض، وعاد فغسل ثيابه، ثم أتى فصلى بالناس، وقال للعباس: [[أتؤذي الناس بهذا الميزاب، ما هذا الدم؟
قال: دم دجاجة ذبحتها قبل الصلاة -يا أمير المؤمنين- فسال، قال: قد قلعت ميزابك في الأرض، قال: يا أمير المؤمنين! والله ما وضع ذاك الميزاب إلا الرسول صلى الله عليه وسلم بيده، قال: أسألك بالله أهو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي وضعه؟ قال: إي والذي نفسي بيده! فذرفت عيناه دمعاً، وقال: والذي نفسي بيده! لأبركن لك أمام الناس في الأرض وتصعد أنت على ظهري، وتأخذ الميزاب وترده مكانه كرامة للرسول صلى الله عليه وسلم]].
سقى الله ذاك اللحد دمع غمامة إذا راعها برق الشمال استهلت
على خير مدفونٍ وشهم ممزقٍ سعادتنا من بعده قد تولت(157/18)
عمر وآية: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ)
صلى بالناس، وقرأ سورة الصافات، واستمر يقرأ حتى وصل قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] فانقطعت قراءته باكياً، قال ابن كثير: كان يعاد شهراً كاملاً إذا سمع الآية من القرآن، إذا تأثر بالآية مرض في البيت شهراً وعاده الناس.
إنه يفهم معنى القرآن، إنه أمة تعيش القرآن، كان قرآناً يمشي على الأرض.
أمة بعثها الله من الصحراء, كانت قبل الإسلام لا تعرف إلا البقر والإبل والغنم، كانت تعبد الوثن والصنم، فلما رزقها الله هذا الدين خرجت للعالم بل لكل العالم.
صلت في قرطبة، وبنت الحمراء، وخطبت في الفسطاط، وبنت المسجد الأموي، وانتشرت في بقاع الأرض تعلن العدل والحب والسلام، أمة لم يكن لها تاريخ قبل الإسلام.
يقول أحد الشعراء وأنتم تعرفونه عبد الهادي حرب وهو سوري مسلم يقول:
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز وكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
أي: لما رأى الله الأمة العربية المسلمة، كانت أمة لا تسجد إلا لله.
كانت أمة تتمرد على الدهر.
كانت أمة أقوى من الزمن.
كانت أمة أفصح من الفجر.
يدخل ربعي بن عامر وهو يحمل: لا إله إلا الله على رستم قائد فارس في البلاط الملكي الفارسي المجرم الكافر، فيقول رستم لـ ربعي: من أنت؟
قال: أنا مسلم.
قال: ماذا جاء بكم؟
قال: جئنا نفتح الدين بلا إله إلا الله.
قال: جئتني على فرس معقور وثياب ممزقة، ورمح مثلم تفتح لي الدنيا؟!!
قال: نعم.
[[إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]] وبدأت المعركة، وانتصر الإسلام، واكتسح ثلاثة أرباع المعمورة، ودخل كل بيت، وأذنت المآذن، وأصبح العالم الإسلامي مليار، لكن المليار ينقصهم ذرات من إيمان عمر!!
لكن المليار يحتاجون إلى حقن من حقن عمر.
لكن المليار يحتاجون إلى دم من دم عمر يجري في شرايينهم.
عدد الحصى والرمل في تعدادهم فإذا حسبت وجدتهم أصفارا
من كل مفتونٍ على قيثارة كلٌ رأيت بفنه بيطارا
أو كاذب خدع الشعوب بدجله عاش الزمان بعمره ثرثارا
أو عالمٍ لو مالقوه بدرهم رد النصوص وكذب الأخبارا
نحن نحتاج إلى جرعة، وإلى حقنة، وإلى بلسم من بلاسم عمر.(157/19)
عمر وخولة بنت ثعلبة
هذه خولة التي أنزل الله فيها قرآناً، امرأة مسلمة، لكن كما يقول أحد المفكرين: نحن الأمة التي لما توضأت أنزل الله فيها قرآناً يتكلم في شئونها، دستور من السماء {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:1 - 3].
أتت تشكو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم زوجها في طرف البيت وعائشة في طرف البيت الآخر.
زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم في الطرف، وخولة مع الرسول صلى الله عليه وسلم في طرف، والبيت لا يتجاوز مسافته ثلاثة أمتار، قالت عائشة: [[والله ما سمعت ماذا قالت للرسول صلى الله عليه وسلم؟ ووالله ما سمعت ماذا قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الله سمع من فوق سبع سموات]] وانتهى المجلس بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين هذه المرأة المؤمنة ونزل القرآن {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] سمع الله ماذا دار في الحوار، وماذا قلت لها وقالت لك.
أرسلت خولة إلى عمر تقول: أريدك، وكانت عجوزاً في عهد عمر، تقول: أريد أن أتكلم مع عمر، فشغل عمر وما أتى إليها، والواجب أن تأتي هي إلى عمر رضي الله عنه، لأن عمر يتكلم للدنيا، عمر مشغول بالمعمورة، عمر يسوس دولة، فتأخر عنها، فغضبت وخرج عمر رضي الله عنه للصلاة، قالت: يا عمر! قف ووقف في الشمس، قالت: كنا نسميك في الجاهلية عميراً - تتكلم من غضب- قال: نعم.
قالت: فلما أسلمت سميناك عمر، قال: نعم، قالت: ثم سميناك أمير المؤمنين، قال: نعم.
فماذا تريدين يا خالة! فتكلمت معه واقترب منها حتى قضى حاجتها.
قال أحد الصحابة: تتكلم عليك هذا الكلام وتوقفك هذا الموقف وتقف لها؟
قال: [[كيف لا أسمع كلامها وقد سمع الله كلامها من فوق سبع سماوات]].
يا إماماً صدق الله فما زاده إلا سناءً وعُلا
كل قلبٍ يا أبا حفص غدا يتراءى فيك مجداً أجملا(157/20)
فاروق الإسلام وفاروق مصر
وتستمر أعطيات هذا الإمام، ويكتب محمد إقبال قصيدة لـ فاروق مصر , كان في مصر رجلٌ اسمه فاروق لكنه نكرة محذوف منه (ال) وعمر معرفة دخلت عليه (ال) فزادته تعريفاً.
فاروق مصر كان عنده ناي وطبل، وفاروق الإسلام عمر كان عنده قرآن وذكر.
فاروق مصر كان عميلاً مرتزقاً، وفاروق الإسلام كان متحرراً زعيماً فاتحاً.
فاروق مصر كان يجيد اللعب مع الحمام والبلوت والكيرم، وفاروق الإسلام كان يجيد ضرب رءوس أعداء الله وفتح المدن والقلاع بلا إله إلا الله.
فاروق مصر كان يجبي الجبايات, ويأخذ الرشا, ويسحب الأموال، وفاورق الإسلام كان يدفع من دموعه، ويجوع قبل أن يجوع الناس، ويظمأ قبل أن يظمأ الناس.
فمر محمد إقبال بـ قناة السويس وتوقف هناك، يريد أوروبا كان يدرس الفلسفة في بون في ألمانيا، ودرَّس الفلسفة هناك، وله قصيدة اسمها (بحثت عنك يا رسول الله في ألمانيا) يقول:
أين أنت يا رسول الله؟ أنت سكنت بون، وهو صلى الله عليه وسلم لم يسكن هناك، ويدري إقبال، لكن يقول: وجدت في ألمانيا الطائرات، والشاحنات، والقاطرات، والسيارات ولكني ما وجدت من أنزلت عليه الآيات البينات محمد صلى الله عليه وسلم.
فمر وتوقف في قناة السويس، وأرسل رسالة إلى فاروق مصر يقول: إنك لن تكون كـ الفاروق عمر حتى تحمل درة كدرة عمر.
يقول: لا تظن أن الأسماء تخدعنا، لا تضحك على عقولنا، سميت نفسك فاروقاً لتتسمى بـ عمر , إن كنت صادقاً فخذ درة واحكم بالعدل واحكم بالشريعة، وانزل إلى الميدان وانظر إلى الأمة، أما أن تلعب على الأجيال وتضحك علينا بالتسمية، فهذه لعبة قد ذقناها وجربناها.
ووصلت الرسالة إلى هناك، وبعدها كتب محمد إقبال فيها قصيدة.(157/21)
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في المنام
يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {عرض عليَّ الناس البارحة - أي: رآهم عليه الصلاة والسلام في المنام- وعليهم قمص -أي: ثياب- منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض عليَّ عمر بن الخطاب عليه قميص يجره، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين}.
دينه أسبغ عليه، دينه غطاه، دينه من أعمق الأديان وأصدقها ومن أرجحها عند الله.
يقول صلى الله عليه وسلم في الصحيح أيضاً: {رأيت البارحة في المنام كأني أشرب لبناً في كأس، فبقي فيه فضلة، فدفعته إلى عمر بن الخطاب} وفي الرواية الأخرى يقول: {رأيت كأني أشرب لبناً فشربت حتى رأيت الري في أظفاري -أي: أن بقية اللبن يدخل في الأظفار من كثرة ما شرب صلى الله عليه وسلم- ثم دفعت فضله إلى عمر بن الخطاب.
قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم} فهو من أعلم الناس وكان يتفجر علماً، والله أعطاه سُبحَانَهُ وَتَعَالى من لدنه علماً وفتح عليه فتوحاً لأنه صدق مع الله.
أتى صلى الله عليه وسلم -وكان سهلاً قريباً من الناس، قريباً إلى القلوب- فجلس مع نساء المدينة وهو معصوم, يتكلم معهن، وكن يتمازحن في مجلسه، وإذا بـ عمر قد أقبل من ورائه بمسافة، فسمعت النساء صوت عمر أقبل، فهربن واختفين وراء الأستار ووراء الحجر، فدخل عمر وقال: يا عدوات أنفسكن! الرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن توقرنه، وخفتن مني، أو كما قال.
قالت امرأة: أنت فظ غليظ والرسول صلى الله عليه وسلم سهل رحيم، فقال صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم من الحوار: {هيه يا ابن الخطاب والله ما سلكت فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجك}.
قد كنت أعدا أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
نعم، كان عدواً للإسلام، لكن لما أسلم؛ اجتاح كل عدو للإسلام، كان قبل الإسلام في كفة الكفر، فلما أسلم؛ انتصر بإذن الله الإسلام انتصاراً خالداً ليس بعده انتصار.
لما أسلم جرد السيف ونزل في بطحاء مكة -كان المهاجر إذا هاجر المدينة اختفى، وخرج خلسة- أما هو فقد قال: [[يا معشر قريش! إني مهاجر الآن إلى المدينة، فمن أراد أن تثكله أمه فليلقني في بطن الوادي]] فما لقيه أحد.
حتى وضعت يميني لا أنازعها في كف ذي نقماتٍ قوله القيل
ويستمر عمر رضي الله عنه وأرضاه، وأكثر ما يميز عمر الزهد في الدنيا، والانقطاع عنها إلى الله.(157/22)
اغتيال رهيب وشهادة عظمى
هذا آخر المطاف مع أبي حفص!!
يحج آخر حجة، ويأتي يرمي الجمار، وكان من أطول الناس، يقول بعض المؤرخين: كان أطول الحجاج على الإطلاق.
يقولون عنه: إذا مشى كأنه يمشى على فرسه، وكان إذا ركب الفرس تخط قدماه في الأرض، وسمعت أحد المتحدثين بالنكت والطرائف، يقول: أتى حلاق يحلق رأس عمر عند الجمرات، فعطس عمر فأغمي على الحلاق ورش بالماء.
وسمعت أنا خطيباً آخر يقول: لما دفن عمر أتاه الملكان في القبر يحاسبانه، قال: فخرج عليهم عمر فجلس، وقال: من ربكما؟ ومن نبيكما؟ وما دينكما؟ قبل أن يتكلم، وهذا يحتاج إلى نقل وسمع؛ لأنه من علم الغيب.
عمر رضي الله عنه وأرضاه لم يكن يتبسم، كان صارماً قوياً في ذات الله عز وجل.
كان إذا جاءه الرجل ينتفض أمامه، ملوك العرب يتكلمون معه وهم ينتفضون خوفاً، مؤيد بروحٍ من الله.
أتى يحج ولما آتى يرمي الجمار كان أصلع، قليل الشعر في الرأس، فأتى رجل من أهل اليمن بنبلة وهي من الخذف الذي يرمى به الجمار، فنبل أمير المؤمنين في رأسه فسال الدم، قال عمر: [[هذه شهادتي، هذا قتلي]] معنى ذلك: أني سوف أقتل، فلما انتهى من الجمرات التفت إلى القبلة وقال: [[اللهم إنها ضاعت رعيتي، ورق عظمي، ودنا أجلي، اللهم فاقبضني إليك غير مفرطٍ ولا مفتون، اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتةً في بلد رسولك]].(157/23)
وصول عمر إلى المدينة بعد أن قضى مناسك الحج
وارتحل إلى المدينة ونام قبل أن يقتل بليلة، فرأى في المنام أن ديكاً ينقره ثلاث نقرات، فسأل أسماء بنت عميس الخثعمية -إحدى الصحابيات المؤمنات تفسر الرؤيا- قال: ما تفسير هذه الرؤيا؟ قالت: يقتلك رجلٌ من العجم بثلاث طعنات وتموت، فخرج على الناس يوم الجمعة, وهذا هو اللقاء الأخير في البرلمان مع المسلمين, هذا الوداع، كان الخطاب كما يقول بعض المؤرخين المتأخرين، يقول: خطاباً مكشوفاً صريحاً، فتكلم للناس، وكان يبكي من أول الخطبة، ويقول: [[ألا من مظلمة؟ ألا من مظلوم؟ إن ظلمت أحداً في عرضه فليقتص من عرضي، وإن أخذت من مال أحد فليأخذ من مالي، وإن ضربت أحدكم فليضرب جسمي، هذا عرضي، وهذا جسمي، وهذا مالي]].
ماذا رد عليه الناس؟! تلعثم المسجد بالبكاء، وقال: [[إني سألت أسماء بنت عميس عن رؤيا رأيتها فأخبرتني أني سوف أقتل فوليي عليكم الله، فأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه]] ثم نزل، وصلى الفجر يوم السبت صباحاً، وأتاه أبو لؤلؤة المجوسي.
مولى المغيرة لا غادتك غادية من رحمة الله ما سالت غواديها
مزقت في حومة الإسلام ذا مثل راعي الرعية قاصيها ودانيها(157/24)
أبو لؤلؤة المجوسي يغتال أمير المؤمنين
وأتى يصلي فلما قرأ سورة يوسف وقبل أن يركع قال: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] وبكى وبكى الناس, ثم ركع وتقدم المجرم عليه غضب الله، وكان يحمل خنجراً ذا حدين مسمومين، فطعن عمر ثلاث طعنات, ست ضربات، فهوى على الأرض وهو يقول: [[حسبي الله لا إله إلا الله, عليه توكلت وهو رب العرش العظيم]] ولما سمع ورأى ابن عوف هذا تقدم فأكمل الصلاة، وانكشف وجه عمر للناس، وهو يقول: [[الله المستعان! إنا لله وإنا إليه راجعون]] {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157] ثم قال: من قتلني؟ يسأل وهو في الرمق الأخير، قالوا: قتلك أبو لؤلؤة المجوسي، قال: [[الحمد لله الذي جعل قتلي على يد رجلٍ ما سجد لله سجدة]] ثم حملوه وكانت دماؤه تثعب على أكتاف الرجال، يقول أنس: [[والله إنا ظننا أن القيامة قامت يوم مات عمر]] وخرجوا وقد اغبرت الدنيا وتغير وجهها, وتغير كيان العدالة، وضربت الأمة في أعز ما تملك، في رَجُلِها وزعيمها وأستاذها، في شيخها ومعلمها، ذهبوا به والبكاء يملأ شوارع المدينة، اختلط بكاء الرجال والنساء والأطفال، وشيعوه إلى بيته وهو لا يزال حياً، وقد صلى ركعةً واحدة من الفجر وبقيت الركعة الثانية، ودخلوا به في البيت، وقدم ابنه عبد الله المخدة لرأس عمر، فوضع رأسه على المخدة, قال: يا عبد الله! انزع المخدة من تحت رأسي، ضع رأسي على التراب لعل الله يرحمني، فوضع رأسه على التراب مباشرة، قال: أدخلوا علي أطفال المدينة، فأدخلوا عليه الأطفال؛ فكان يقبلهم ويمسح رءوسهم ويودعهم الوداع الأخير.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تناديكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا(157/25)
عمر يودع الوفود الداخلة عليه في مرضه الأخير
ثم قال: أدخلوا عليَّ الشباب، فأدخلوا عليه الشباب فسلم عليهم ودعا لهم، ولما انتهى الشباب خرج شابٌ, كان مطيلاً لإزاره.
يقول أهل العلم: أمير المؤمنين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في سكرات الموت، قال: عليَّ بالشاب -فأتى- قال: [[يا ابن أخي! ارفع إزارك, فإنه أتقى لربك, وأنقى لثوبك -فقال الشاب: جزاك الله عن الإسلام خيراً، قال: بل جزى الإسلام عني خيراً]] ثم قال: عليَّ بعلماء الصحابة، فلما دخل ابن عباس وضع يده على كتف عمر، وكان دم عمر يثعب في الأرض، فبكى ابن عباس طويلاً، ثم قال: [[يا أمير المؤمنين! أسلمت فكان إسلامك نصراً، وهاجرت فكانت هجرتك فتحاً، وتوليت فكانت ولايتك رحمة، فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك]] فبكى عمر، وقال: [[يـ ابن عباس! ليتني نجوت كفافاً لا لي ولا عليَّ]].
ثم دخل علي بن أبي طالب وكان أفصح الناس، فسلم وقبّل جبين عمر فكانت دموع عمر تهل كالمطر من خوف لقاء الله، وقال: ماذا أقول لله غداً؟
وكان يقول: [[يا ليتني شجرةً تعضد]] يا ليتني ما عرفت الحياة، فدخل علي وقال: [[ما عليك يا أمير المؤمنين، والله لطالما سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك]] ثم قال عمر: هل صليتُ الفجر؟ قالوا: لا.
بقيت عليك ركعة، قال: الله المستعان، فقام فأكمل الركعة، ثم قال: اسقوني لبناً، فسقوه اللبن فخرج اللبن من بين أمعائه مع الكبد، فقال: لا قرار لي، وأوصى بالخلافة ثم ودع الناس، ولما قرب الغروب قبضت روحه.
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر
توفيت الآمال بعد محمدٍ وأصبح في شغلٍ عن السفر السفر
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر
إذا ورقات العز جذت غصونها ففي أي غصن يوجد الورق النضر
ذهب إلى الله، ولكن بقي عدله، وبقيت سيرته، وبقي حبه في القلوب.
ذهب إلى الله وبقيت رسالته، وهي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
بقي عمر في عيوننا وفي تاريخنا، بقي عمر في ضمائرنا وفي مجدنا، وعلى منابرنا.
بقي عمر في أكبادنا، وفي شعوبنا، وعلى أعلامنا.
بقي عمر تاريخاً وشرفاً لنا حتى نلقى الله.
نسأل الله أن يجمعنا بـ عمر.
نسأل الله أن يرفع منزلته، وأن يرينا وجهه، وأن يعظم أجره جزاء ما قدم للإسلام.
أشجاك آي الهدى والذكر أبكاكا وجنة الخلد والفردوس مأواكا(157/26)
دروس من سيرة الفاروق
هذا هو عمر بن الخطاب، وفي سيرته دروس:
أولاً: أن العظيم من عظم الله.
ثانياً: العدل محكمة يحتكم إليها من يريد الله والدار الآخرة ويسوسها كتاب الله والسنة.
ثالثاً: من زهد في الدنيا أعطاه الله ما تمنى.
رابعاً: يبقي الله أثر الصالحين، ويجعلهم أئمة {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71] {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
خامساً: نحن الذين علم الناس العدل، ونحن أهل العدل، حين نعود إلى العدل وسيرة العدل، ونحن الذين فتحوا الدنيا بلا إله إلا الله، ومعلمي البشرية عقيدة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثل ما فعلوا
لكن متى؟ يوم نعود إلى تاريخنا، يوم نعود لسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وسيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين.
سادساً: عمر يتكرر, وعمر يعيش معنا في القرن العشرين بسيرته وبتعاليمه.
سابعاً: يعترف الأعداء بسيرة عمر، كما ذكرت لكم مايكل هارف وغيره كثير من علماء العرب، وليم جيمس يعترف به، ودايل كارنيجي وغيره، وكريسي موريسون، ومؤرخوهم يطبقون، بل أُلّف عن عمر من الفرنسيين والإنجليز والأمريكان أكثر من ستة وخمسين كتاباً، وبعضهم درس علم الاجتماع في حياة عمر، وبعضهم درس العدل في حياة عمر، وبعضهم درس موضوع العمران في دولة عمر، وبعضهم درس أساسيات الأخلاق في حكومة عمر، أو ميزانية عمر، أو تصريف عمر للشورى، إلى غير ذلك مما درسوا.
استرشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن قومٌ لنا ماضٍ تركناه
تركنا ماضينا وكنا في الصف الأول, فلما تبلدنا وتخلينا عن سيرة عمر وعن سيرة أمثاله، تخلينا فأصبحنا تصرفنا الأيادي وتستهزئ بنا الشعوب، وتلعب بنا الأمم.
ثامناً: شباب الصحوة هم جيل عمر بن الخطاب، وهم حملة رسالة عمر، وهم سوف يكررون سيرة عمر، في زهده وسلوكه وتواضعه إذا أحبوه رضي الله عنه وأرضاه.
تاسعاً: الحب بيننا وبين عمر نسب أسسه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو نسب التقوى فأحببناه، ولهذا عسى الله ألا يحرمنا محبته.
عاشراً: مدرسة الإسلام المعطاءة التي سوف تكرر نماذج مثل عمر، متى ما استعدوا أن يتعلموا من القرآن والسنة؟
متى ما استعدوا أن يجلسوا في حلق الذكر؟
متى كان عندهم تهيؤ أن يعرفوا سيرة أجدادهم، وسيرة خلفائهم، وسيرة أئمتهم وزعمائهم، متى كان عند الأمة وعي أن تعرف أن العظماء هنا.
من بلادي يطلب العلم ولا يطلب العلم من الغرب الغبي
وبها مهبط وحي الله بل أرسل الله بها خير نبي
قل هو الرحمن آمنا به واتبعنا هادياً من يثرب
متى نكون سادة؟
يوم نعرف أنا كنا سادة.
متى نكون أئمة؟
يوم نعرف أنا كنا أئمة للناس.(157/27)
الأسئلة(157/28)
هذا الفاروق فما بال معلمه؟!
السؤال
إذا كان هذا عمر الفاروق، فما بالك بمعلم عمر وقدوة عمر، وأستاذ عمر محمد صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
ما بالي؟! وماذا أفعل؟! وهل لم يسبق حديث قبل هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
وهل يشك مسلم أن عمر ليس إلا قطرة من بحر الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس إلا ورقةً في شجرته، وليس إلا إصبعاً في يده؟!
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
عمر تلميذ من جامعة محمد صلى الله عليه وسلم.
عمر شعرة في دستور محمد صلى الله عليه وسلم.
عمر كلمة من المنظومة التي وضعها صلى الله عليه وسلم للدنيا، لولا الله ثم الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا عمر هذه الليلة، ولم يكن لـ عمر تاريخ، ولم يكن لـ عمر إيمان، ولم يكن لـ عمر عدل ولا منبر.
أتظن أني أتيت الليلة أقارن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعمر؟
أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله.
الرسول عليه الصلاة والسلام إمام, والملايين كلها ليست إلا قطرات في بحره الذي لا ينضب صلى الله عليه وسلم.
إنه المعلم بأبي هو وأمي الذي يستعد أن ينتج بمنهجه آلاف الآلاف من أمثال عمر رضي الله عنه وأرضاه.
فإنك شمسٌ والملوك كواكبٌ إذا طلعت لم يبد منهن كوكب(157/29)
لماذا يكرهون الفاروق؟!
السؤال
لماذا يحقد كثير من غير المسلمين على عمر؟
الجواب
يحقدون على عمر؛ لأنه الذي نكسهم من على عروشهم؛ ولأن جيوشه دكدكت امبراطورية الخيانة والعمالة، إمبراطورية فارس وإمبراطورية الروم.
لأن الذي قاد الخونة والمستبدين كالشياه من على منابر الظلم والعدوان وأنزلهم هو عمر.
لأن الذي فضح سيرة المجرمين في الشرق والغرب هو عمر، ولأنه الذي أسس منبر العدالة ومنبر التآخي ومنبر التحدث بالوعي والفهم والعدل وكرامة الإنسان وحقوق الإنسان، هو عمر.
لأن الذي أعطى للإنسان قيمته هو عمر، فلذلك يكرهون عمر، ولو أتيت لهم بدرويش ربما أحبوه، لكن هذا العظيم الذي أدخل الضعف في قلوبهم وطاردهم بجيوشه حتى تكلم مع الناس، وناقش أمور الناس، وأعطى حقوق الناس.
عمر يقول: [[والله لو عثرت بغلة على ضفاف دجلة لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة لم لم تصلح لها الطريق؟]].
أتظن أن سيرة العظماء تذهب سدى.
يقول صاحب " دع القلق وابدأ الحياة ": " كن عصياً على النقد، ثم يقول: قيمتك نقدك، ونقدك يساوي قيمتك ", ويقول الشاعر العربي:
إن العرانين تلقاها محسدة ولا ترى للئام الناس حسادا
على ماذا يحسد اللئيم الدرويش؟
على ماذا يحسد الضائع المنفلت من حبل الله؟
يقول أحد المحسودين:
وشكوت من ظلم الوشاة ولم تجد ذا سؤددٍ إلا أصيب بحسد
لا زلت يا سبط الكرام محسداً والتافه المسكين غير محسد
ويقول أبو تمام:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب نفح العود
نعم، الفرنجة والصليبيون والمسيحيون والزنادقة والمرتزقة يكرهون عمر، لأن سيرة عمر فضيحة على رءوسهم، وقنبلة ذرية تفضح مخططاتهم، وتكرارها وإعادتها فضيحة لكفرة الشرق والغرب فيحقدون على عمر رضي الله عنه وأرضاه، يقول الشاعر:
إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
إذا كان العدل ذنب عمر، والحرية ذنب عمر، والإيمان ذنب عمر، وفتح الدنيا ذنب عمر، فكيف نعتذر لـ عمر؟(157/30)
فرق بين أبي بكر وعمر
السؤال
رأى أحد الشباب النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ورأى أبا بكر وعمر ووصف كل واحدٍ منهم، قال: إنه رأى أبا بكر ضعيفاً، ورأى عمر قوياً أو كبير الهيئة، شكله يبث الرهبة، فهل هذا صحيح؟
الجواب
صحيح ما رأى، أبو بكر كان نحيف الجسم، ولكن في قلبه همة، وأنا أعدكم أنه سوف يكون هناك محاضرة عن أبي بكر وهو أعظم من عمر رضي الله عنهم جميعاً، ولكن لكلٍ خاصية ولكلٍ ميزة، ولكلٍ فضل عند الأمة، وكان أبو بكر نحيفاً وفي قلبه همة تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء، أما عمر فكان قوياً.
وسمعت بل قرأت في بعض التواريخ أن أحد الفجرة من الزنادقة وراء نهر سيحون ونهر جيحون -أعوذ بالله- كان عنده فرسان من بغضه للإسلام، سمى أحد الفرسين عمر والثاني أبا بكر، فاستمر به الحال, وفي الصباح رفسه أحد الفرسين فمات.
قال أحد العلماء: انظروا لن يرفسه إلا من سماه عمر، فبحثوا فوجدوه الفرس الذي سماه عمر وعمر كبير قوي الجسم، وكان يقول بعض المؤرخين: كان يشرب الخمر قبل الإسلام، وكان أحمر، وورد في سيرته أنه رأى عفريتاً في ظلام الليل، فقال عمر: أتصارعني؟ فصرعه عمر وجلس على صدره، قال الجان: (والله لقد علم الجن أني من أقواهم) يعني: أنه أقواهم.
فـ عمر قوي بلا شك، وهو كبير البنية، وما أعلم في الصحابة مثله إلا خالد بن الوليد، قالوا: جسمه وجسم خالد متقاربان، وابن تيمية يقول: لم يصلح خالد في دولة عمر.
أول ما تولى عمر عزل خالداً , أول مرسوم عزل خالد - قال: لأنهما قويان، وتحتاج الدولة إلى وزير سهل، مع حاكمٍ قوي، فصلح أبو عبيدة مع عمر؛ لأن أبا عبيدة لين وعمر قوي، وصلح خالد مع أبي بكر كان قائده، لأن خالداً قوي، وأبا بكر لين، فلما عزله قال خالد: قاتلت قبل هذا لله، وأقاتل اليوم لله، وما قاتلت لـ عمر.
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله يشعلها وخالد في سبيل الله يذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها(157/31)
زهد عمر ودعوى التصوف
السؤال
ألا يفهم من سيرة عمر في زهده ولبسه للصوف أن هناك دعوة للتصوف المرفوض، الذي يحتج به كثير من الناس أرجو توضيح ذلك؟
الجواب
لا.
ليس فيه دعوة للتصوف، عمر زاهد وكان يأكل الطيب أحياناً، وهو على منهج النبوة، وأنا وإياك لا نعرف بجانب عمر في الإسلام شيئاً, نحن أصفار، عمر منه نتعلم، ومنه نتلقن، وعلى مائدته نتتلمذ، فهو أعرف بمنهجه، وأعرف بما يقربه إلى الله ولم يحرم الطيبات، أما المذموم فهو تحريم الطيبات، وفرض هذا على الأمة ابتداع ما أنزل الله به من سلطان.(157/32)
التأسي بعمر
السؤال
كيف نصبح كـ عمر؟
الجواب
يوم يكون عندنا نية أن نقلد عمر، وأن نتهيأ لسلوك طريق عمر، بل نتبع معلم عمر عليه الصلاة والسلام، لكن لا تتعب نفسك لن نصل أنا وإياك إلى عمر مهما كان, ولو أطبقت السماء على الأرض، لأن هذه منزلة اختص الله بها بعض الناس، الله خصص عمر لهذه المنزلة، نعم سوف نقرب وسوف نكون في ركبه، وسوف نحبه، وسوف نتشبه به متى ما أردنا وكانت عندنا النية الجازمة إذا كان باستطاعتنا ذلك.
نستطيع أن نصل إلى عمر بأن نربي أجيالنا وطلابنا على سيرة عمر لا على سيرة هتلر، أو نيكسون ولا على سيرة أعداء الله عز وجل وأعداء الشعوب الخونة المرتزقة، نربيهم على سيرة عمر وعلي وخالد وسعد وطارق وصلاح الدين، هؤلاء هم الأبرار الأخيار، وهؤلاء شموس الدنيا.(157/33)
دواوين من الشعر
السؤال
دلني على دواوين شعر يمكن أن تشير عليَّ بها؟
الجواب
أدلك على كتيب اسمه شكوى وجواب، شكوى لـ محمد إقبال، يشكو حال المسلمين بعد أن تخلفوا عن قيادة حضارة الإنسانية، ومنها يقول:
حديث الروح للأرواح يسري وتدركه القلوب بلا عناء
هتفت به فطار بلا جناح وفض أنينه صدر الفضاء
ومعدنه رخامي ولكن سرت في لفظه لغة السماء
وأدلك على مختارات البارودي وهي أربع مجلدات، وديوان أبي الطيب المتنبي، وهو أحسن من قال شعراً في العربية أبو الطيب أحمد بن حسين المتنبي.(157/34)
كتب ألفت في عمر
السؤال
هل من الممكن أن تدلنا على أحسن كتاب تم تأليفه عن عمر بن الخطاب؟
الجواب
هناك مناقب عمر بن الخطاب لـ ابن الجوزي , من أحسن ما كتب في مناقب عمر.
وهناك سيرة لـ عمر لكنها فكرية، وفيها شيءٌ وخيرٌ طيب اسمه (صور من حياة عمر) للشيخ والأستاذ/ علي الطنطاوي، و (بين يدي عمر) لـ خالد محمد خالد، لكن عليه ملاحظات منها: عدم اعتنائه بالنقل، وهناك أيضاً بعض المعاني التي رسبت في ذهنه غفر الله له، ولعله قد تاب وأظن هذا من المادية الجدلية في شبابه.
وهناك كتاب اسمه (عبقرية عمر) لـ عباس محمود العقاد، لكن يلاحظ على العقاد أمور منها: المقارنة بين سياسة عمر ونابليون في بعض المواصفات، وهذا ليس بوارد.
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
وبعض المواقف التي لا يؤيد فيها العقاد في بعض ما اقترح.(157/35)
تخلي عمر عن الدنيا وما فيها
السؤال
هل عمر بن الخطاب أثناء وفاته كانت مؤثرة عليه؟
الجواب
عمر كان يتمنى لقاء الله، وحصلت له الشهادة وهو مرتاح، لكنهم يقولون: إنه تأثر من لقاء الله عز وجل ومن محاسبة الله عز وجل، وكلما خاف الإنسان من الله كثر بكاؤه وخوفه، وهو ما خاف على أملاكه، لأنه ما خلَّف شيئاً، عنده بيت من طين, وعنده بغلة ردوها إلى بيت مال المسلمين، وثوب كفن به، لا يوجد لديه شيء، أراد الشهادة وحصلت له.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، وشكر الله لكم استماعكم.
وسلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته.(157/36)
في ظلال إياك نعبد وإياك نستعين
لقد أنزل الله سبحانه وتعالى علينا الكتاب الكريم, لنستظل تحت وارف ظله, وجعله لنا نوراً وهداية, وأمرنا بتدبره.
وقوله تعالى: (إياك نعبد وإيك نستعين) هو ملخص رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الدرس معنى العبادة الواردة فيها، وأنواع العبادة، وأخبار العباد الذين استظلوا بظلها، ومعنى الاستعانة وأقسامها.(158/1)
شرح قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه, حمداً يوافي نعماءه, والصلاة والسلام على معلم الخير وهادي البشر, الذي أتى بالكتاب المبين, والقرآن العظيم, والحبل المتين, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
ومع كتاب الله تبارك وتعالى, ومع هذه النعمة التي من الله بها على الأمة الإسلامية, يقول شوقي:
آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ
أتى على سفر التوراة فانهدمت فلم يفدها زمان السبق والقدم
ولم تقم منه للإنجيل قائمة كأنه الطيف زار الجفن في الحلم
أمَّا بَعْد:
فكنا مع الفاتحة، ولا نزال معها أبداًَ إن شاء الله, يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:1 - 7] وصلنا في هذا الدرس إلى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
وهذا الدرس اسمه "في ظلال إياك نعبد وإياك نستعين" وهذه الكلمة هي ملخص لرسالته عليه الصلاة والسلام, لما أنزل الله الكتب السماوية: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن, جمعها في المفصل, ثم جمعها في الفاتحة, ثم جمعها في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وفي هذه الآية ثمان قضايا:
الأولى: إياك بالتشديد أو بالتخفيف, وما الفرق بين إياك , واياك.
الثانية: لماذا قدم الضمير فقال: إياك نعبد ولم يقل: نعبد إياك؟
الثالثة: لماذا جمع نعبد ولم يقل: أعبد؟
الرابعة: ما معنى العبادة؟ وما أقسامها؟ وما أقسام العباد؟
الخامسة: أنواع العبادة.
السادسة: أخبار العباد، في رحلة شائقة مع العباد الذاكرين, والصائمين والمصلين, والقائمين الليل من السلف الصالح.
السابعة: الاستعانة بقسميها الاثنين.
الثامنة: الناس في العبادة والاستعانة أقسام, سوف أذكرها إن شاء الله.(158/2)
(إياك) بالتشديد والتخفيف والفرق بينهما
فتقرأ (إيّاك) بالتشديد, ومن قرأها (إِيَاك) فقد أخطأ خطأً بيناً, وقد ذهب بعض القراء إلى أنها تقرأ (إِيَاك) بالتخفيف وليس (إِيّاك) وهذا خطأ؛ لأن (إياك) هي الشمس, فمن أسماء الشمس: إياك, فإذا نطقها القارئ (إياك) فمعناها: الشمس نعبد, وهو خطأ في القراءة, بل لا بد من التشديد فتقول: إيّاك نعبد وإيّاك نستعين, بالتشديد.
وتغيير الحركات تقلب المعاني, ومن لم يتنبه إليها فإنها توصله إلى تغيير الألفاظ, بل وقع في تغيير بعض الكلمات أن أودت ببعض الرءوس, فبعض السلاطين كتب في كلمة له فقلبت الحركات والسكنات فأعدمت رءوس وأنفس؛ لأنها أزيلت حركات وسكنات, أما (إيّاك) فهي القراءة المطلوبة، التفت الخطاب هنا من الغائب إلى الحاضر, يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين) خطاب للغائب, (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) خطاب للغائب, (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) خطاب للغائب, (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) خطاب للحاضر المشاهد, وهو للتعظيم، وكأن المصلي يوم وجه وجهه إلى الله عز وجل كأنه يكلم ربه, ويناجيه, وهو الصحيح, وفي الحديث الصحيح: {إن أحدكم إذا قام يصلي فإنه يناجي ربه، فلا يبصقن أمامه} فأنت يوم تقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تناجي ربك، وتخاطب مولاك جل وعلا.(158/3)
لماذا قدم الضمير فقال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ولم يقل: نعبد إيّاك؟
أما لماذا قدم الضمير فقال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ولم يقل: نعبد إيّاك؟ فللحصر والاهتمام, تقول: إيّاك أريد, ولا تقول: أريد إيّاك, فإذا قلت: إيّاك أريد فكأنك تنبهه أي: انتبه فإني أريدك أنت لا أريد غيرك, و (إيّاك أريد) وهي أبلغ عند أهل اللغة من: أريد إيّاك, وأقصر كتاب في التاريخ, كتبه خالد بن الوليد سيف الله المسلول, لـ عياض بن غنم وهو قائد آخر, يوم اجتمع على خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه أهل الباطل بالجيوش فضاقت على خالد بن الوليد بما رحبت, لكنه لجأ واستعان بالواحد الأحد.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
فلما طوقته الجيوش أرسل لـ عياض بن غنم رسالة هي أقصر رسالة في التاريخ قال: (بسم الله الرحمن الرحيم, من خالد إلى عياض إيّاك أريد والسلام) يقول: أدرك الموقف, فهو موقف خطير, من خالد إلى عياض إيّاك أريد والسلام, وهو يوم قصّر الخطاب, معناه انتبه وأدرك وإلا لن تدرك, فنحن في مأزق, فهذا أقصر خطاب.
وتقديم قدم (إيّاك) في الآية يقيد الاختصاص, أي: إيّاك نعبد وحدك, وإن قلت: نعبد إيّاك فربما يحتمل أن يكون مع الله معبود غيره, سبحان الله عما يشركون, لكنك إن قلت: إيّاك وحدك نعبد, إيّاك وحدك نستعين, وإيّاك وحدك ندعو, فهو للحصر والاهتمام.(158/4)
لماذا جمع (نعبد) ولم يقل: أعبد؟
إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يحب اجتماع الناس, ويحذر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من الفرقة, ويد الله مع الجماعة, قال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] وأمرنا بصلاة الجماعة, وهوّن عليه الصلاة والسلام من شأن صلاة المنفرد وحده, وذكر أن صلاة الجماعة تفوق على صلاة المنفرد بسبع وعشرين, والصلاة خلف الصف قال فيها صلى الله عليه وسلم: {لا صلاة لمنفرد خلف الصف}.
فقول المصلين: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي: جميعاً كلنا لك عبيد, أما إذا قلت: إيّاك أعبد, كأن فيها أنانية وانحياز, وكأن فيها انفراد, {وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية} وإذا خلا العبد خلا به الشيطان وذم عليه الصلاة والسلام في الإنفراد، وفي حديث في سنده نظر: {يا ثوبان إيّاك والكفور -أي: السكن في القرى- فإن ساكن الكفور كساكن القبور} , قال الإمام أحمد: [[الكفور هي القرى, لأن فيها وحشة, وبعد عن مجالس الخير والذكر, وعن العون على الطاعة]] ولذلك تجد البدو غالباً من أجهل الناس في الأحكام, قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:97].
فإذا عُلم هذا فالله يحب الجمع, ولذلك كانت صلاة الجمعة ويوم عرفة من أفضل المواسم للدعاء وذلك لاجتماع الناس, وفي الحديث: {ما رئي الشيطان في يوم أغيظ ولا أدحر من يوم عرفة} , وابن القيم يقرر أن القلوب إذا اجتمعت كان ذلك سبباً من أسباب استجابة الدعاء, فاغتنم اجتماع الناس, ويكفي هذا الشعار: إيّاك نعبد أي: كلنا يا ربنا, قال أبو تمام في اجتماع المسلمين:
إن كيد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالدِ
وصح من حديث جابر قال: {كنا إذا نزلنا في غزوة تفرقنا تحت الشجر وتركنا أكبر شجرة للرسول صلى الله عليه وسلم, فأنذرنا عليه الصلاة والسلام وقال: ما لكم! اجتمعوا فكنا نجتمع حتى لو طرح البساط علينا لكفانا}.
وفي حديث أنه عليه الصلاة والسلام دخل المسجد فوجدهم حلقاً, حلقة هنا, وحلقة هنا, وحلقة هناك, قال: {ما لي أراكم عضين -أو عزين- اجتمعوا} فجمعهم عليه الصلاة والسلام، وخرج أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الذي مزقت همته وعزيمته والعمل الصالح بخنجر الغدر.
مولى المغيرة لا جادتك غادية من رحمة الله ما جادت غواديها
مزقت كل إهاب حشوه همم في ذمة الله قاصيها ودانيها
قل للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
فدخل المسجد فوجدهم فرقاً، فجمعهم وراء أبي بن كعب سيد القراء.
وأقف قليلاً مع سيد القراء, وقد ذكرته في مناسبات لكن لا بأس بذكره هنا:
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره كما المسك ما كررته يتضوعُ
أبي بن كعب يقول عنه أهل التراجم: كان أبيض اللحية, أبيض الرأس من الشيب, أبيض الوجه, أبيض الثياب, أبيض القلب, {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] , سبب بياض لحيته ورأسه أن الحمى اشتعلت في جسمه ثلاثين سنة, لكنه لم يتعطل عن جهاد ولا فريضة ولا عن حج, كان إذا اقترب منه الشخص وجد الحرارة, وكان لا ينام من الليل إلا القليل؛ لأن من بعد صلاة العشاء كانت تزوره الحمى, والحمى فيها حياء تستحي لا تزوره إلا في الليل, كما يقول المتنبي:
وزائرتي كأن بها حياءً فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي
فكان يسهر إلى الفجر, وكان عمر ينتبه له إذا ورد, وقال له أحد أهل العراق: من هذا الذي تنظر إليه إذا تكلمت يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: ثكلتك أمك, هذا سيد القراء أبي بن كعب.
فجمعهم عمر وراءه في صلاة التراويح, فلما مر عمر وهو يقرأ بهم وهم يتباكون وقد استقاموا على العصي من طول قيامه, تبسم عمر وقال: [[نعمة البدعة هذه]] يعني البدعة اللغوية وليست البدعة الشرعية, فإن لها أصلاً في السنة, فإن الذي سنها هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي السير أن عمر مر وأبي يقرأ في التراويح, فسمع أبياً وقد ارتفع صوته بالبكاء في سورة الصافات: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24 - 26] وكان عمر في جولة, فلماذا كان عمر يتجول؟ أيرتاح من صلاة التراويح؟ لا والله! لكنه كان يتفقد الأرامل والمساكين والأيتام والخصومة, ويرى حال المدينة ,كيف تنام العاصمة؟ أتنام على هدوء وسكون؟ أم هي قلقة؟! فلما سمع رمى العصا من يديه وانطرح على الأرض يبكي, وحُمِلَ على أكتاف الرجال وبقي شهراً مريضاً من هذه الآية رضي الله عنه وأرضاه.
فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ولم يقل: إياك أعبد؛ لأن هذه فيها أنانية وانفراد, والله يحب الجمع، ويد الله مع الجماعة.(158/5)
ما معنى العبادة؟
العبادة تطلق على معنيين:
1 - معنى العبادة اللغوي:
وهي التذلل والخضوع والطاعة, يقال: طريق معبد أي: طريق مذلل, فتعبد: خضع وذل, وإنما سمي العبد عبداً؛ لأنه خضع وذل, قال الشاعر:
أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حرا
قال ابن تيمية: المأسور من أسره هواه، فهذا المقيد والمكبل, وليس المأسور الذي سجن في السجن، إن المأسور الذي قيده هواه من حب الشهوة والمعصية والجريمة, هذا هو المأسور الذي وضع الغل والحديد في يديه.
إذاً العبادة معناها في اللغة: التذلل والخضوع والطاعة.
2 - معنى العبادة في الشرع:
تطلق على معنيين في القرآن: على الدعاء وعلى مجرد العبادة, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] أي: عن دعائي, وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] هذا هو المعنى الأول للعبادة أنها بمعنى الدعاء.
والعبادة تشمل الدعاء وغيره من أنواع العبادات, وعند الترمذي: {الدعاء مخ العبادة} وهو حديث ضعيف، في سنده دراج أبو السمح , يروي عن أبي الهيثم , وأحاديثه ضعيفة عن أبي الهيثم , وإنما الصحيح: {الدعاء هو العبادة} وهذا عند الحاكم في المستدرك , فإذا رأيت الإنسان يكثر الدعاء, فاعلم أنه قريب من الله, وأن إيمانه كثير.
قالوا عن إبراهيم عليه السلام في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75] قالوا: كان كثير الدعاء, وقالوا: كان يقول: أواه من ذنوبي أواه من خطئي أواه من تقصيري وإسرافي وقيل: كان يدعو الله دائماً: قائماً وقاعداً.
دخل رجل على قيس بن سعد بن عبادة بن دليم , وهذا السند, سند الكرماء عند العرب, فـ قيس من أكرم العرب, وسعد من أكرم العرب, وعبادة من أكرم العرب, ودليم من أكرم العرب, ولم يجتمع في العرب أربعة من أكرم الناس إلا هؤلاء الأربعة.
سندٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمود
يذكر ابن كثير: أن رجلاً دخل على قيس فوجد أصبعه السبابة لا تفتر, قال: تعشيت عنده, وسامرت معه, فلما أردت الانصراف سألته: ما حال أصعبك؟ قال: أدعو بها الله دائماً.
ولذلك هداه الله سواء السبيل وكان من الموفقين في حياته.
والذي يكثر من الدعاء لن يهلك أبداً, قال عمر: [[لن يهلك مع الدعاء أحد]] وقال أحد علماء الجزائر أيام الثورة في الجزائر: "رأيت عمر بن الخطاب في المنام فقلت: ما هي النجاة يا أبا حفص؟ فرفع يديه هكذا -أي: الدعاء-, وفي الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: {أفضل العبادة انتظار الفرج} فلا تزال تدعو الله حتى يفرج الله كربتك.
وفي الحديث الصحيح: {لا يقولن أحدكم: دعوت فلم يستحيب لي} أو كما قال صلى الله عليه وسلم, ولا يجوز لك في الدعاء أن تقول: اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت اللهم أصلحني إن شئت هذا خطأ, بل قل: اللهم ارحمني, يقول عليه الصلاة والسلام وهو حديث صحيح: {لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت, فإن الله لا مكره له، لكن ليعزم المسألة} , لكن يجوز لك في المواعيد أن تقول: آتيك غداً إن شاء الله, قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24] سوف ألقاك إن شاء الله, سوف أتصل بك إن شاء الله، أما في الدعاء فاعزم المسألة ولا تتردد، فإن الله لا مكره له.(158/6)
أنواع العبادة
وهي تدور على أنواع كثيرة, لكن أكثر ما يذكر في القرآن والسنة أربعة أنواع: الصلاة, والصيام, والصدقة, والتلاوة.
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص كما في الصحيحين وكان عبد الله قد شدد على نفسه رضي الله عنه وأرضاه, فكان يقوم الليل كله, ويصوم النهار سرداً, فشكاه أبوه إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ فأرسل غليه، ثم نازله عليها حتى قال: اختم القرآن في سبع, وصم من كل شهر ثلاثة أيام, قال: أستطيع أكثر من ذلك, قال: صم يوماً وأفطر يوماً فهو صيام الدهر, وهو صيام داود عليه السلام}.
قال ابن القيم في طريق الهجرتين كلاماً معناه أن للجنة أبواباً ثمانية، والعباد يختلفون بجهدهم وطاقاتهم, منهم من يستطيع الذكر, ومنهم من يقدر على الصيام, ومنهم من يفلح في الصدقة {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] فأنت أعرف بنفسك, وأفضل الناس من ضرب في كل غنيمة بسهم, مع الصائمين ومع المصلين ومع الذاكرين ومع المجاهدين ومع المتصدقين، قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
أما أنواع العبادة فهي كثيرة منها الفرائض ومنها النوافل, وهي تصل إلى السبعين, بل في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة , يقول عليه الصلاة والسلام: {خمس عشرة خصلة أعلاها منيحة العنز, ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها, وتصديق موعودها إلا أدخله الله الجنة} قال الراوي في البخاري: فعددنا فما وصلنا إلا إلى خمس، منها تبسمك في وجه أخيك, وإماطة الأذى عن الطريق, والكلمة الطيبة إذا نويت بها ما عند الله دخلت بها الجنة, فأعمال الخير كالأنفاس, وأفضل الأعمال بعد الفرائض ذكر الله عز وجل, وهو شبه إجماع كما قال ابن تيمية في المجلد العاشر من فتاويه.(158/7)
أخبار العباد
هذا الدرس سوف يكون أقرب إلى الآيات والأحاديث والسيرة منه إلى بعض الخلافيات, وإذا كان الأمر كذلك, فإن سير الصالحين أحسن ما يؤخذ في هذا الباب, وأنا أدل نفسي وإخوتي على مطالعة أخبار الصالحين كـ الأسود ومسروق وأحمد ومالك وابن المبارك , وهؤلاء الملأ بعد الصحابة كانوا في انقطاع مع الله عز وجل ومتبتلين له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأنا إذا ذكرت نماذج فإني ألزم نفسي وإياكم أن تجعلوها على السنة, فإن وافقت فبها ونعمت, وإن خالفت فاعلموا أنه اجتهاد من أصحابها الذين يريدون الخير.
1 - الأسود بن يزيد:
أما الأسود بن يزيد فهو عابد عراقي, عالم, صام حتى اخضر جلده, ودخل عليه العلماء ووعظوه، قال: أصوم قبل أن يحال بيني وبين الصيام وأخاف من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:54] من يصوم عني إذا لم أصم؟! ومن يصلي عني إذا لم أصل؟! أي: إذا مات.
2 - محمد بن واسع:
ومنهم محمد بن واسع الأزدي كان من أعظم عباد الله عز وجل, قربوا له متكأً ليتكئ, فقالوا: اتكئ, قال: لا يتكئ إلا الآمن، وأنا خائف لأني ما جزت الصراط إلى الآن.
محمد بن واسع حضر معركة كابول مع قتيبة بن مسلم حاصر كابول التي ضاعت عندما ضاعت لا إله إلا الله, فلما طوقوا المدينة بمائة ألف, قال قتيبة بن مسلم وقد صفت الصفوف, وهبت رياح النصر, وتنزلت الملائكة من السماء، قال لجنوده: اذهبوا وابحثوا عن محمد بن واسع، أين هو؟ وماذا يفعل في هذه الساعة؟ فذهبوا إليه فوجدوه وقد صلّى صلاة الضحى وقد اتكأ على رمحه, ورفع سبابته إلى السماء؛ يدعو الله الواحد الأحد بالنصر, فرجعوا إلى قتيبة , فأخبروه، فدمعت عيناه, وقال: [[والذي نفسي بيده لأصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف سيف شهير, ومن مائة ألف شاب طرير]] ثم فتح الله عليهم بنصره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وبتأييده, ثم بدعاء هذا الرجل الصالح, فلما أتت الغنائم سلموا لـ قتيبة رأساً كرأس الثور من الذهب, فقال لوزرائه: أترون أحداً من الناس يسلم إليه هذا الذهب فيقول: لا؟ قالوا: لا نرى أحداً يسلم إليه هذا فيقول: لا! قال: والله لأُرينكم أناساً من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، الذهب والفضة أرخص عندهم من التراب, فدعوا محمد بن واسع فأتوا إليه وهو يصلي في خيمته, قالوا: ما لك تصلي في وقتٍ الناس فيه مشغولون بالنصر؟ قال: إن شغل النصر الشكر, فدعوه إلى قتيبة فأتى إلى قتيبة فقال قتيبة: خذ هذا, فأخذه, فتغير وجه قتيبة فقال لأحد جنوده: اذهب وراءه وانظر أين يضعه, ثم قال قتيبة اللهم لا تخيب ظني فيه, فمر فقير من المساكين يسأل فأعطاه محمد بن واسع كل هذا الذهب, فأعيد الفقير إلى قتيبة، وقال: أترون أنني أريتكم أن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من عند الذهب والفضة أرخص من التراب!
3 - مسروق:
ومنهم مسروق , أتى رجل إلى الإمام أحمد من طلبة العلم والحديث, فجهز له الإمام ماءً ليقوم الليل! قبل السحر فلم يقم, فقال له الإمام أحمد: لم لم تقم؟ قال: أنا مسافر, قال: طالب علم ولا يكون له ورد في الليل! سبحان الله! حج مسروق فما نام إلا ساجداً, مسروق بن الأجدع عراقي, من تلاميذ ابن مسعود الكبار, حج من يوم ذهب من العراق إلى أن رجع, كان إذا أتاه النوم توضأ واستقبل القبلة ونام وهو ساجد.
وما عرف في العبادة مثله، منقطع النظير, حتى كانت ابنته تبكي بجانبه، وتقول: يا أبتاه هل قتلت أحداً؟ هل أخذت مال أحد؟ وهو يصلي ويبكي في الليل, فيلتفت ويقول: قتلت نفسي.
4 - أحمد بن حنبل:
ومنهم أحمد بن حنبل صح عنه بأسانيد, أنه كان يصلي في كل يوم ثلاثمائة ركعة, قال ابنه عبد الله: فلما جلد كان يصلي مائة وخمسين ركعة.
5 - ابن المبارك:
ومنهم ابن المبارك سئل كما في سير أعلام النبلاء: قال له رجل: ما رأيك أن أصوم يوماً وأفطر يوماً؟ قال: أنت تضيع نصف عمرك, صم الأيام كلها.
ولكن السنة تحكم على هذا والقصد أوْلى, لكن انظر إلى همة هذا الرجل كان يصوم الدهر، ويقول للرجل: كيف تضيع نصف عمرك؟ تفطر يوماً وتصوم يوماً, صم الأيام كلها, هذا من العباد.
6 - عبد الغني المقدسي:
ومنهم عبد الغني المقدسي كان يصلي في اليوم ثلاثمائة ركعة وهو يبكي, وكان كلما صلّى ركعتين رجع إلى الماء ليتوضأ فتتقاطر لحيته ويداه بالماء, قالوا: ما لك وأنت على وضوء؟ قال: أنا لا يطيب قلبي ولا ينشرح صدري إلا عندما أرى قطرات الماء تنسكب من على لحيتي, فهو يحب العبادة.
سجنه السلطان في القدس وهو محدث الدنيا صاحب الكمال في معرفة الرجال B>>.
سجن في القدس مع المساجين وكانوا من اليهود والنصارى فلما كان بعد صلاة العشاء, قام فتوضأ فقام يصلي من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر وهو يبكي, فلما أتى الصباح وقف اليهود والنصارى من المحبوسين مدهوشين مذهولين, فطرقوا الباب على الحارس, قال: ما لكم؟ قالوا: نريد أن نسلم, فذهب بهم إلى السلطان، فقالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, قال: ما لكم؟ قالوا: مرت بنا ليلة رأينا كأن القيامة قامت, قال: ولم؟ قالوا: حبس معنا عبد الغني المقدسي , فقام يصلي ويبكي فذكرنا لقاء الله فوقع الإسلام في قلوبنا, وهو ما تكلم بكلمة لكن بفعله.
حضر السلاطين في مجلسه فقام يقرأ الحديث فقطعه البكاء, فأخذ المسجد يبكي, وبكى كثير من سلاطين الأكراد أسرة صلاح الدين الأيوبي , ونور الدين محمود , هؤلاء حضروا درسه, وكان درساً عاطراً هائلاً ما سمع في التاريخ بمثله.
هذا من أخبار العباد, أو شيء من أخبارهم على قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).(158/8)
أقسام الاستعانة
هي قسمان: قسم جائز, وقسم محرم, فاستعانتك بالشخص هي على قسمين: قسم يحرم أن تستعين بالمخلوق لأنه ناقص وقاصر، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] فمثلاً إذا استعنت بالرجل تقول: استعين بك على أن تشافي ابني لأنه مريض, فقد أشركت بالله العظيم, وإذا قلت: أستعين بك على أن ترزقني, أو على أن تغفر ذنبي, أو على أن تنزل علينا الغيث فهذا هو الشرك, وهذا لا يتقبل الله عمل من فعل ذلك.
وأما الاستعانة بما يستطيع عليه المخلوق فجائز, مثل قولك: أستعين بك أن تفتح لي هذا الباب, أو على أن تخيط لي هذا الثوب, أو على أن تبني هذا الجدار فلا بأس فيما يستطيعه المخلوق, أما ما لا يملكه إلا الخالق فمن استعان بالمخلوق فيه فقد أشرك بالله العظيم.
ومن مثل ذلك, من يذهب إلى القبور فيستعين بالمقبورين, ويقدم لهم حوائجهم, ويشكو عليهم, فقد أشرك بالله العظيم, لأنهم لا يملكون ضراً ولا نفعاً, ولا موتاًَ ولا حياةً ولا نشوراً.
أما الاستعانة بالله عز وجل ففي كل الأمور, وهو المستعان سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, في كثير من القصص كما قال في قصة يعقوب: {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18].(158/9)
أقسام الناس في العبادة والاستعانة
أما الناس في العبادة والاستعانة فهم أقسام:
القسم الأول: قسم يعبد الله ويستعين به فهؤلاء المؤمنون الكُمَّل.
القسم الثاني: قسم يعبد الله ويستعين بغيره فهؤلاء فيهم نقص وفيهم معصية وذنب.
القسم الثالث: قسم يعبد غير الله, ويستعين بالله, فهؤلاء المشركون.
القسم الرابع: قسم يعبد غير الله, ويستعين بغير الله فهؤلاء كفرة ملاحدة, هذا أمر التقسيم وأحسنها من يعبد الله ويستعين به, فالله حصر الكلمتين لتبقى هاتان الكلمتان مبدأين للمؤمن, العبادة لله والاستعانة بالله, (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).(158/10)
شرح قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)
وفي هذه الآية مسائل:
الأولى: الفرق بين اِهدنا وأهدنا, بعض الناس يقول: أهدنا والقراءة الصحيحة: اهْدِنا.
الثانية: الهداية وأقسامها.
الثالثة: ما هي أسباب الهداية.
الرابعة: معنى الصراط.
الخامسة: ما معنى المستقيم؟
السادسة: معنى الصراط المستقيم: معنى الجملة كلها.
السابعة: مقتضى الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم.(158/11)
الفرق بين اهدنا وأهدنا
أما أهدنا فمن قرأها فقد أخطأ, ومعنى (أهدنا) أي: أعطنا هذا الشيء هديةً، مثل: (أهدني) هذا الثوب, فتقول: أهدنا أي: أعطنا أو امنحنا أو هب لنا الصراط المستقيم, وهذا ليس هو المقصود, يصح لك أن تقول: أهدني هذا الثوب، لكن لا تقول: اهدني هذا الثوب, لأن معنى اِهدني بالكسر، أي: دلني, فتقول: اهدني الطريق اهدني الشارع اهدني السبيل أي: دلني.
فالكسر هي القراءة الصحيحة, وكثير من العوام يقرءون: أهدنا الصراط المستقيم, وهؤلاء أخطئوا، حيث أن معناها: أعطني, وهب لي، وامنحني, وهو ليس مراداً في هذه الآية، بل المراد: اِهْدِنا أي: دلنا وأرشدنا وسددنا ووفقنا (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور, قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].(158/12)
أقسام الهداية
والهداية قسمان:
1 - هداية الدلالة: وهي للرسول عليه الصلاة والسلام, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] أي: تدل الناس على الصراط المستقيم, يعني تبين للناس الصراط المستقيم, فهذه الهداية لا بأس بها, ولا بأس أن تقول: فلان يَهدي فلاناً أي: يدله ويرشده ويعلمه, وفلان هادٍ مهدي, أي: يهدي الناس إلى الطريق المستقيم, وقد هداه الله عز وجل.
2 - هداية التوفيق وهي خاصة بالواحد الأحد، فلا يهدي إلا الله، قال سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] أبو طالب أراد عليه الصلاة والسلام أن يدله بهداية الدلالة, ولكن هداية التوفيق لم تمنح له, ما منحه الله هداية التوفيق, فقال الله لرسوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
بلال اهتدى بهداية الدلالة, وهداية التوفيق, فهداية التوفيق منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
إن ولدك قد تحرص عليه فتعلمه وتدرسه وتقوده وتنصحه فلا يهتدي, فأنت تدله لكنه لا يهتدي؛ لأنه لم يمنح هداية التوفيق, قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].
فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى جعل الهداية قسمين: دلالة وتوفيق, فالدلالة للبشر, والتوفيق له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] فهو الذي بيديه مفاتيح القلوب قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].
وأما أقسام الهداية في مسألة السلوك والأخلاق والعبادة, فأقسامها لا يعلمها إلا الله, وكل درجة والأخرى ما بين السماء والأرض, وفيها درجة واحدة ليست إلا لعبد, ولا تنبغي لأحدٍ إلا للرسول عليه الصلاة والسلام.
ما معنى قولك في الصلاة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وقد هداك الله؟ أما هداك الله يوم أن أصبحت تصلي؟! أما هداك الله يوم أن أصبحت مسلماً؟! فما معنى قولك: اهدنا الصراط المستقيم؟ كيف تطلب الهداية وأنت مهتدٍ؟
الجواب
قال بعض الناس: إنه تعبدي, وليس فيه فائدة, وقد أخطئوا خطأً بيناً, بل الصحيح: أن معنى الآية زدني هداية إلى هدايتي, فإنك لا تزال تزاد كل دقيقة, وكل لحظة وكل يوم هداية حتى تبلغ ما كتب الله لك من الهداية, ومن استمر على النوافل والعبادة؛ والأذكار؛ زاده الله هدى, وزاده بصيرة وتوفيقاً وفتحاً, فمعنى اهْدِنا أي: زدنا هداية إلى الهداية, ولكنك لا تصل إلى درجة محمد صلى الله عليه وسلم ولا الأنبياء, وهي درجة واحدة يصل إليها صلى الله عليه وسلم والناس خلفه وبعده.(158/13)
أسباب الهداية
فمن أسبابها:
1 - صدق اللجوء إلى الله الواحد الأحد: أن تصدق في قربك وقبولك ومحبتك لله؛ فيهديك الله, قال تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) وقال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا).
2 - قراءة القرآن الكريم بتدبر: فمن لم يهتدِ به فلا هداه الله, يتدبره ويعيه ويحفظ ما يستطيع منه, ويعمل به, وهذا من أهم أسباب الهداية العظيمة.
3 - مطالعة سنة المصطفى مطالعة مكثفة.
4 - التدبر في آيات الله الكونية والشرعية: بالتدبر في السماء والأرض, في الآيات الشرعية والكونية, وسوف يمر معنا شيء من هذا إن شاء الله في غضون آيات القرآن.(158/14)
معنى الصراط المستقيم
معنى الصراط: هو الطريق.
ومعنى المستقيم: هو الممتد الذي لا اعوجاج فيه, بعض الناس -كما سلف معنا- يأخذون قواعد هندسية من الصراط المستقيم, يقول: أقرب خط بين نقطتين الخط المستقيم, قلنا: والدليل؟! قالوا: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) , هذا لا يشير القرآن إليه.
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي: الطريق الذي لا اعوجاج فيه, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1] أي: مستقيماً, وهو الصراط الذي أنعم الله به على النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
وأما معنى الصراط المستقيم فقد قيل: الصراط المستقيم الإسلام, وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم, وقيل: القرآن, والصحيح: أنها تشمل كل هذا، والهداية للصراط المستقيم أن يهديك الله للإسلام, وفيه القرآن, والرسول عليه الصلاة والسلام, والسنة, فهذه كلها هي الصراط المستقيم.(158/15)
اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم
من علامة اهتدائك للصراط المستقيم, أن تخالف أصحاب الجحيم, لكن من هم أصحاب الجحيم؟ إنهم اليهود والنصارى وغيرهم, ولذلك لما ذكر الله الصراط المستقيم, ثم ذكر الذين أنعم عليهم، قال: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) فمن شابههم في زيه أو كلامه أو حركاته أو سكناته, فكأنه لم يهتد اهتداءً تاماً, ومن حاول أن يقلدهم في سنته, وسيرته وذاته, فكأنه لم يهتد اهتداءً كاملاً, ومن أعجب بهم وأحبهم ووالاهم فكأنه لم يهتد اهتداءً كاملاً, فعلامة المهتدي أن يخالف أصحاب الجحيم, هذا معنى الصراط المستقيم ومخالفة أصحاب الجحيم, وأحسن من كتب عنها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم " وذكر أنهم يخالفون في أمور منها:
أعيادهم فلا نشابههم في الأعياد، ومنها: زيهم الذي امتازوا به عن الناس, مثل أن يلبسوا لباساً خاصاً بهم فحرام تقليدهم والتشبه بهم.
وعند أحمد وأبي داود بسند صحيح عنه صلى الله عليه وسلم، قال: {من تشبه بقوم فهو منهم} ويدخل في ذلك التشبه بهم في كلامهم, ومن أحب لغتهم فإن فيه علامة النفاق, وفيها أثر لا يصح, ولكن قال ابن تيمية إن من ينطق لغتهم دائماً ويحبها ويقدمها على العربية فهو من علامة نفاقه وهذا واقع في المجتمع, تجد بعض الناس يحب أن يتكلم الإنجليزية ولو في داخل أبها , ليظهر على نفسه التطور, ويجافي اللغة العربية, وهذا من علامة النفاق, لأنه أحبهم وأحب لغتهم, ومن أحب شيئاً أولع به.
أحب بني السودان من أجل حبها ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
حتى بني كلب وهم أخوالها أحبهم لأنه يحبها! فمن أحب شيئاً أحب ما يتبع هذا الشيء, ولذلك من يحب الله فإنه يحب المسجد والقرآن والرسول عليه الصلاة والسلام.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة:6 - 7] الصراط: مفعول به, الصراط.
صفة للصراط, صراط: بدل من هم المستقيم, صراط الذين أنعمت عليهم, من الذين أنعم الله عليهم؟ كل من اهتدى فقد أنعم الله عليه, وكل مسلم أنعم الله عليه, ولكنهم يختلفون لأن المسلمين على ثلاثة أقسام:
الأول: ظالم لنفسه: وهو مرتكب للكبائر.
الثاني: مقتصد: وهو الذي يكتفي بالفرائض ولا يزيد عليها, وينتهي عن الكبائر, ولكنه قد يأتي ببعض المكروهات.
الثالث: سابق بالخيرات: وهو الذي يأتي بالفرائض والنوافل, ويترك الذنوب والحرام والمكروه.
فالثلاثة هؤلاء أنعم الله عليهم كلهم, لكن ليس المقتصد كالسابق, ولا الظالم كالمقتصد, بل هم درجات عند الله، فإذا علم هذا فدرجات المسلمين ثلاث درجات:
- فهل الظالم لنفسه من الذين أنعم الله عليهم؟ نعم, من الذين أنعم الله عليهم بالإسلام جملة, ولم يخرجهم من نعمة الإسلام.
لكن الخوارج قالوا: من ارتكب كبيرة فقد خرج من الدائرة, إذا زنى فقد خرج عندهم, إذا سرق, أو شرب الخمر, أو تناول بعض الكبائر, فإنه خرج! والصحيح أنه: لا يزال في دائرة الإسلام, وهو من الذين أنعم الله عليهم, لكن نعمته قليلة جداً, وضوءه ينطفئ, ونوره يذهب, لولا أن يتداركه الله برحمته, ولو أنه إذا زنى يرتفع عنه الإيمان؛ حتى يصبح كالظلة على رأسه, وإذا سرق يرتفع عنه الإيمان, {لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن, ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن, ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن} يرتفع الإيمان عنه في وقت شرب الخمر, أو الزنا, أو السرقة, حتى يصبح كالظلة على رأسه, فإذا رجع من المعصية رجع عليه الإيمان.
- أما المقتصد: فهم أكثر الناس، يتوب ويستغفر ولكنه لا يسلم من الخطايا والصغائر.
- أما السابق بالخيرات:
لاتعرضن بذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فالسابق بالخيرات كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].(158/16)
مواقف من الذين أنعم الله عليهم
المنعم عليهم هم الذين أنعم الله عليهم بالهداية لا بالمال, والنعمة في القرآن قسمان: نَعْمة ونِعمة.
فالنّعمَة: يشترك فيها المؤمن والكافر, فمثلاً: القصر نعمة يسكنه الخواجة والمسلم, والسيارة يركبها الخواجة والمسلم, الثوب يلبسه هذا وهذا! التفاح يأكله هذا وهذا , فهي دنيا يعطيها الله من يشاء, أما الإيمان فلا يعطيه الله إلا من يحب.
دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه حظيرة فيها إبل الصدقة, وإذا بإبل الصدقة كأنها الجوخ الأحمر من النعمة والسمن وضخامة الأجسام, فقال مولاه أسلم: صدق الله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] قال عمر: [[كذبت قاتلك الله! ليست هذه الرحمة, فضل الله أن تعمل بنور من الله, ترجو ثواب الله, وأن تكف عن المعصية على نور من الله تخاف عقاب الله]] أو كما قال, هذه هي النعمة.
ليست السعادة في جمع الأموال, وسكن الدور, ورفع القصور, وأخذ المرطبات والمشهيات والأكلات والسيارات, لا والله!!
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقا غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
قال معاوية بن أبي سفيان لأحد العباد: [[تدري ما هي السعادة؟ قال: لا, قال: رجل لا يعرفنا ولا نعرفه, أحسن عبادة ربه, له زوجة تطيعه, وله دابة تحمله, وله بيت يسكن فيه]].
وقال معاوية: [[أكلت كل لذيذ, وشربت كل مشروب -يعني من الحلال- ولبست كل لباس فما وجدت كالتقوى]].
وقيل لـ هارون الرشيد وقيل غيره: كيف وجدت الحياة؟ قال: وجدتها كبيت له بابان, دخلت من هذا وخرجت من هذا, وقيل للإمام أحمد: كيف وجدت الشباب؟ قال: والله ما وصفت الشباب إلا بشيء كان في كمي ثم سقط مني.
وذكروا عن عابد من بني إسرائيل أنه عبد الله أربعين سنة, لا يفتر من صلاة ولا ذكر ولا دعاء, ثم أتاه زيغ من الشيطان فانحرف, فبقي في المعصية أربعين سنة, ثم نظر إلى صورته في المرآة فإذا هو قد أصبح شيبة كبيراً في السن؛ فصاح وقال: يا رب عبدتك أربعين, وعصيتك أربعين, هل إذا عدت إليك تقبلني؟ فناداه الله: أطعتنا فقربناك, وعصيتنا فأمهلناك, فإذا عدت إلينا أحببناك, فقال: أشهدك يا رب إني عدت إليك.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أوْلى بذا كرما قد شبت في الرق فاعتقني من النارِ
تولى هشام بن عبد الملك الخلافة فأتي له بكل مطعوم ومشروب وملذوذ, كانت الجواري على رأسه, وكان له الخدم والحاشية والوزراء, فقال: والله من يوم أن توليتُ الخلافة ما مرّ بي يوم وسلمت من الهم والغم فيه, وقرر ذات يوم أن يختفي في حديقة قصره لينظر هل يأتيه خبر يزعجه من الصباح إلى المساء, وبينما هو في البستان إذا بسهم قد أتى وعليه ريش وفيه دم, فرفع السهم والريش وإذا رجل قد قتل وضرب السهم داخل الحديقة, قال: ولا يوم واحد!! -أي: لا أسلم ولو يوماً واحداً- ومن أراد أن يبحث عن هذه الأخبار فليبحث عنها في كتاب التذكرة لـ عبد الحق الإشبيلي ليرى العجب العجاب.
قال إبراهيم بن أدهم: والله لو يعلم الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليه بالسيوف, أتت سكرات الموت عبد الملك بن مروان , فبكى وأبكى الناس, ونزل فسمع غسالاً يغسل -والغسال في واد حول قصر عبد الملك لا يعلم أن عبد الملك بن مروان مات, ومن أخبره؟ لم يقرأ الصحف ولا سمع الأخبار- والغسال هذا ينشد من راحته واطمئنانه, يعبد الله، له ما يكفيه وليس له هم ولا غم ولا ديون ولا رعية ولا مسئولية, فأخذ يستمر في النشيد, فسمع عبد الملك بن مروان ذلك فقال: يا ليتني كنت غسالاً, قال سعيد بن المسيب لما سمع هذه الكلمة: الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا في سكرات الموت ولا نفر إليهم.
وقال المعتصم لما حضرته الوفاة: -ذكرها عبد الحق الإشبيلي - أنزلوني من على السرير, هل أموت اليوم؟ قالوا: نعم تموت, ثبت شرعاً أنه يموت, شهد عليه أربعة بالموت, فظن أنه سوف يأتيه خبر قبل أن يموت, قال: أنا شاب أأموت اليوم؟! قالوا: نعم تموت, قال: والله لو كنت لو أعلم أني أموت هذا اليوم ما فعلت ما فعلته من أمور, قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
دخل سالم بن عبد الله الحرم، فلقيه هشام بن عبد الملك فقال: يا سالم أتريد مالاً؟ أتريد حاجة؟ قال: أما تستحي من الله؟ قال: ولم؟ قال: تقول هذا الكلام وأنا في بيت الله؟ فلما خرج من الحرم عرض له هشام قال: أتريد حاجة؟ قال: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا, قال: أما الدنيا فوالله ما سألتها من الذي يملكها فكيف أسألها منك! ومما يقول محمد إقبال:
ومما زادني شرفاً وفخراً كدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
هذا هو الشرف, أن تكون عبداً لله, لأن الذي لا يكون عبداً لله، يكون عبداً لوظيفته ومنصبه، وحذائه وسياراته، ودرهمه وديناره.
ذكر ابن كثير أهمية جانب الاعتزاز بالله عز وجل والركون إليه والرضا به والتشرف بخدمته، يقول: طاوس بن كيسان العالم النحرير, والمحدث الكبير, اليمني, كان مولىً من الموالي لكن رفعه الله بالتقوى والعلم والعمل الصالح، يقول: أتيت الحرم لأعتمر فطفت وصليت ركعتين, ثم جلست عند المقام أنظر إلى المعتمرين والطائفين والركع السجود, قال: وبينما أنا جالس في المقام، وإذا بجلبة السلاح والحراب والسيوف والرماح, فالتفت فإذا هو الحجاج بن يوسف!! فقال: فجلس ينتظر معه خدمه وحواشيه، قال: وإذا بأعرابي أتى من اليمن يطوف وعليه إحرام -وهذا الأعرابي لا يملك من الدنيا شيئاً, لكنه يملك قلباً فيه توحيد وعمل صالح وذكر وعبادة- فهذا الأعرابي بعد أن طاف أراد أن يدخل الصفوف، فتعلقت حربة من حراب الحجاج في قميصه فوقعت على الحجاج , فمسكه الحجاج , قال الحجاج: من أين أنت؟ -وطاوس يروي القصة- قال: من أهل اليمن -وعرف الأعرابي الحجاج , وظن الحجاج أنه لم يعرفه- قال: كيف تركت أخي محمداً؟ -أخوه محمد بن يوسف هو ظالم غاشم مثل الحجاج , لكن أقل منه بدرجة, قال تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40]- قال: كيف تركت أخي محمداً وأهل اليمن؟ قال: تركته سميناً بطيناً, -يظن أنه سوف يقول: إنه يقوم الليل ويصوم النهار, قال: لست أسألك عن صحته لكن أسالك عن عدله؟ قال: تركته غشوماً ظلوماً, قال: أما تدري أني أنا الحجاج؟! قال: أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله؟! قال طاوس: والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت من هذه الكلمة, قال: فأطلقه الحجاج ولم يقل له شيئاً, فبقيت أنظر إليه بين المعتمرين وهو يطوف ويدعو: أي: إن كان أنت أخوه تحميه وتمنعه وتدافع عنه فـ {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38].(158/17)
أصناف الذين أنعم الله عليهم
يقول الله سبحانه: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6] لكن من هم الذين أنعم الله عليهم؟ ذكر الله في القرآن الذين أنعم الله عليهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، حيث قال: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69].
توفي عثمان بن مظعون فقبله عليه الصلاة والسلام ودمعت عيناه على خد عثمان، وبعد فترة توفيت زينب ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم, فقال لها وهو يودعها ويعانقها: {الحقي بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69]}.
الذين أنعم الله عليهم في الحياة أربعة أصناف:
الأول: النبيون وفيهم الرسل.
الثاني: الصديقون, درجة أبي بكر الصديق , وهي أعظم الولاية وأعظم من الشهيد, يموت على فراشه، لكنه صدّيق ظاهره وباطنه سيان, أمين صادق محتسب يحفظ أنفاسه مع الله, أصبح عبداً لله، حركاته وسكناته وسمعه وبصره لله, ذاك أبو بكر الصديق.
الثالث: الشهداء كـ عمر بن الخطاب وكـ أبي وحمزة وكـ علي وعثمان.
الرابع: الصالحين, كل صالح إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهم أولياء الله، يعرفهم الله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63].
ففي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فيها النعمة هنا: الإيمان والعمل الصالح, وهو أحسن ما عرفت به, وقيل: هي أن تعمل الطاعة على نور من الله ترجو رحمة الله, وأن تترك المعصية على نور من الله تخاف عذابه, وقيل النعمة: هي جعل المقصود الواحد المعبود، وعدم التأسف على المفقود إذا بقي الموجود، وهو فيه تكلف, والأحسن أن يقال النعمة: هي التقوى والإيمان والعمل.(158/18)
شرح قوله تعالى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)
غير هنا: استثناء, يعني نستثني الذين غضب الله عليهم, والذين أضلهم, (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) وفيها مسائل:
الأولى: من هم المغضوب عليهم؟
الثانية: لماذا غضب الله عليهم؟
الثالثة: ما هي آثار غضبه سُبحَانَهُ وَتَعَالى عليهم؟
الرابعة: من هم الضالون؟
الخامسة: ولماذا ضلوا؟
السادسة: ما هي آثار الضلال؟
السابعة: لماذا ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى الجنسين ولم يذكر غيرهما؟
الثامنة: مشابهة بعض هذه الأمة لليهود والنصارى.(158/19)
من هم المغضوب عليهم
هم اليهود عليهم لعنة الله, وسموا مغضوباً عليهم؛ لأن من علمته شيئاً ثم خالفك غضبت عليه, ومن لم يتعلم منك شيئاً وعمل بجهلٍ فقد ضل, ومن خالف الشيء بعد أن يعرفه مغضوب عليه, ومن يعمل المعصية بدون أن يعرف الشيء فهو ضال, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن اليهود: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران:112] غضب الله على اليهود ولعنهم, وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] وقال سبحانه: {ثُمَ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] وقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] وقال سبحانه تعالى عن علمائهم: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] وقال سبحانه عن عالمهم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175] وقال سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176] وقال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] وقال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] وقال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181].
فالمغضوب عليهم هم اليهود, وسبب الغضب؛ لأنهم تعلموا ولم يعملوا, والتلميذ إذا أعطيته الواجب فلم يصنعه غضبت عليه, وتأتي إلى رجل آخر لم يحضر الدرس ولكنه خالفك، تقول: أنت ضال, فاليهود علموا فلم يعملوا, والنصارى عملوا بلا علم, وسوف يقع كما قال ابن تيمية من طوائف هذه الأمة من طلبة العلم من يعمل بلا علم وهو ضال, كعباد غلاة الصوفية يتعبدون بلا علم فهم ضُلال وفسقة، ومن يتعلم ثم لا يصلي ولا يصوم ولا يقرأ فهو مغضوب عليه, قال سفيان بن عيينة::"من فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى, ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود".
المغضوب عليهم هم اليهود, قال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {لتتبعن سَنن -أو سُنن- من كان قبلكم حذو القذة بالقذة, حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه, قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: فمن؟} وفي لفظ: {فمن الناس إلا هم}.(158/20)
لماذا غضب الله عليهم؟
لأنهم بدلوا الكلام وحرفوه عن مواضعه, ولم يعملوا به, فعطلوا الشرائع والحدود وغيروا, ولذلك وقع التغيير في الأمة في طائفتين:
1 - طائفة غيرت الأحكام, وهم كثير ممن ولاهم الله الأمر, فغيروا أحكام الله عز وجل ولم ينفذوها.
2 - وطائفة غيرت في الألفاظ, وأولت المعاني وهم المبتدعة من أشاعرة ومعتزلة وجهمية ويدخل فيهم المعطلة.
فهؤلاء من الذين غيروا, وأولئك غيروا, فغضب الله عليهم بهذا.(158/21)
ما هي آثار غضبه سبحانه وتعالى؟
1 - قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) قالوا: من ترك شيئاً من الواجب المأمور متعمداً فقد استحق اللعنة, نعوذ بالله من ذلك.
2 - قال سبحانه: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) قست القلوب بسبب ترك المأمور وارتكاب المحذور.
3 - قال سبحانه: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) وهذا يقع في طوائف الأمة, فتجد بعض العلماء يحرف الفتيا ليرضي بعض الناس أو ليأخذ شيئاً من المال أو الوجاهة أو الصدارة, أو ليوافق طائفة من الطوائف فجزاؤهم اللعنة.
4 - قال سبحانه: (وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) قالوا: من لم يعمل بالواجب من علمه أنساه الله علمه, فلا يحفظ ولا يفهم, وأكثر ما ينسي العبد المعاصي, قال الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يؤتى لعاصي(158/22)
من هم الضالون؟
الضالون هم النصارى, قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] عبدوا الله بالجهل فضلوا وأضلوا, والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {إن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً ينزعه من العلماء ولكن بقبض العلماء, فإذا لم يبقِ عالماً؛ اتخذ الناس رءوساً جهالاً, فُسِئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا} وهؤلاء كالنصارى.
ولِمَ ضلوا؟ لأنهم لم يتعلموا، بل عبدوا الله بلا علم, وبعض الناس الآن يهون من شأن العلم والحديث والفقه والتفسير؛ فيقع في الضلال فهذا فيه شبه من النصارى.(158/23)
آثار الضلال
قالوا: من آثار الضلال: البدع الكبرى, فبدع النصارى بدع عملية وبدع اليهود اعتقادية, قال ابن تيمية - في كلام ما-: بدع اليهود بدع اعتقادية وبدع النصارى بدع عملية ولو أنهم يشتركون, لكن هؤلاء أكثر ما يقعون في العمل, كـ غلاة الصوفية , وأما غلاة الجهمية والمعطلة ففيهم شبه باليهود, وغلاة الصوفية فيهم شبه بالنصارى, والرافضة أخذوا من هؤلاء وهؤلاء, ثم مزجوها فصارت ظلمات بعضها فوق بعض.(158/24)
لماذا ذكر الله الجنسين ولم يذكر غيرهما؟
لأنهما أغلب جنسين في العالم، وغيرهما يندرج فيهما, وهما أهل كتابين, ولأن الله أرسل إليهما رسولين, ولأن الله أنزل عليهما كتابين، فذكرهما ولم يذكر غيرهما.(158/25)
مشابهة بعض هذه الأمة لليهود
هذا مجال كبير وطويل، وأحسن من كتب فيه ابن تيمية في كتابه: " اقتضاء الصراط المستقيم " وإنما أشير إلى أسس فيه, وإلى دلالات من المشابهة وإلا فالمجال لا يحتمل ذلك.(158/26)
أوجه قراءة آمين ومعناها
قرئت: أمين, وهي قراءة ضعيفة, وقرئت: آمين.(158/27)
معنى آمين وفضلها
آمين معناها: اللهم استجب.
فضلها: صح عنه صلى الله عليه وسلم عليه وسلم أنه قال: {إذا قال المسلم: آمين, وقالت الملائكة: آمين, فوافقت هذه هذه غفر له ما تقدم من ذنبه} , أي: وإذا قال الإمام: ولا الضآلين, قالت الملائكة: آمين فإذا وافقت أنت تأمين الملائكة غفر الله لك ما تقدم من ذنبك.
قال بلال -في بعض الآثار ولكن في سنده نظر-: يا رسول الله لا تسبقني بآمين, وقيل: إن أحد المؤذنين قالها لـ عمر , قال: يا عمر يا أمير المؤمنين لا تسبقني بآمين, أي: أنا أرتب الصفوف فلا تبدأ الفاتحة ليقول الناس: آمين وأنا لم أدرك, ففضلها عظيم، خاصة إذا وافقت تأمين الملائكة.(158/28)
حكم قول الإمام والمأموم: (آمين)
من السنة أن الإمام إذا قال: ولا الضالين, أن يقول: آمين, وبعض أهل العلم قالوا: يبدأ الإمام فيقول: آمين ثم يأتي الناس بعده فيقولون آمين, وهذا فيه ضعف -أي: أن يقول الإمام: ولا الضآلين, آمين فإذا سكت الإمام قال الناس: آمين, ويصبح هذا التركيب على آمين, فكأنه يقول: آمين اللهم استجب, وهم يقولون: اللهم استجب, وليس بصحيح- بل إذا قال: ولا الضالين, يقول مع الناس: آمين, وقد قال صلى الله عليه وسلم: آمين.
فلا بد أن يقولها المأموم والإمام سيان.(158/29)
الأسئلة
وقبل أن ننتهي هنا سؤال طريف:(158/30)
قصيدة الأنباري في رثاء ابن بقية
السؤال
علوٌ في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزا
من قائل هذه القصيدة ما هي القصة التي ذكرت فيها؟
الجواب
ذكر ابن خلكان وغيره من المؤرخين أن هذه من أجل القصائد في باب المراثي, وسببها أن ابن بقية أحد الوزراء العباسيين كان كريماً جواداً, بنى كثيراً من المساجد, وأعطى طلبة العلم وكان يضيف المساكين, فغضب عليه أحد السلاطين واسمه: عضد الدولة , فأتى بهذا الوزير فأنزله من قصره, ثم أعطاه الفيلة فرصعته فهوت عليه حتى مات, ثم نصبه على خشبة عند مدخل باب الطاق في بغداد عند نهر دجلة , فسمع العلماء بالخبر فساءهم كثيراً وحزنوا وبكوا ومروا يسلمون ويرون جثمانه, فوجدوه منصوباً في الصباح!! وجعل قبره على الخشبة, فقال أبو الحسن الأنباري -أحد الأدباء والعلماء الكبار- للوزير:
علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
يقول: كنت عالياً في الحياة, واليوم كذلك أنت عالياً في الموت, لم يدفنوك من علوك؟ يعتذر له وهذا من أحسن ما يقال:
علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلات
يقول: كأن الناس لما اقتربوا منك يسلمون عليك, كأنهم يريدون منك صلة مثلما كنت في الحياة.
كأنك واقف فيهم خطيباً وهم وقفوا قياماً للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاءً كمدها إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن يواروا فيه تلك المكرمات
يقول: بطن الأرض لا تتحمل مكرماتك.
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا عن الأكفان ثوب السافيات
عليك نفائح الرحمن تترى برحمات غوادٍ رائحات
وهي من أجل ما قيل وهي من أعظم المراثي وهي طويلة.
نكتفي بهذا وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم وتسليماً كثيراً.(158/31)
الطريق إلى الهداية
إن الطريق إلى الهداية هي الطريق إلى الله عز وجل, وهي مطلب عظيم لا يناله إلا أهل التوفيق والسداد, والعبادة، وهي أعظم الطرق المؤدية إلى الله عز وجل.
ومن النماذج الساطعة في البحث عن الهداية: سلمان الفارسي رضي الله عنه، في قصة تنقله من عابد إلى عابد إلى أن لقي الرسول صلى الله عليه وسلم وآمن به.
وممن بحثوا عن الهداية ونالوها: معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي كان كثير الملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(159/1)
الطريق إلى الله تعالى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] اللهم صلِّ وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
حسبي وحسب المعاني حين أهديها أني إلى ساحة الأبرار أهديها
يا رب هب لي بياناً أستعين به على حقوق العلا قد نام راعيها
الطريق إلى الله عز وجل هو طريق الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والله تبارك وتعالى ما خلق الخلق إلا ليعرفهم الطريق إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57] والله تبارك وتعالى ما أرسل الرسل، ولا أنزل الكتب، ولا شرع الشرائع، ولا جعل يوم القيامة، ولا نصب الميزان ومد الصراط إلا ليعرّف بنفسه تبارك وتعالى.
وقد عَرَّف بنفسه تبارك وتعالى يوم كلمه موسى عليه السلام فقال تبارك وتعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:14 - 15] فهذا أعظم تعريف لله تبارك وتعالى عند أهل السنة والجماعة؛ أنه الله الذي لا إله إلا هو.
والله عز وجل يوم أرسل رسولنا عليه الصلاة والسلام؛ دل الخلق على ربه، فكان يدعو إلى (لا إله إلا الله) وهي أعظم طريق موصلة إليه، ولا ينال ما عند الله تبارك وتعالى بمال ولا بمنصب ولا بجاه ولا بولد وإنما ينال بالعبادة.(159/2)
العبادة هي الطريق إلى الله
إذاً: نتفق جميعاً كما اتفق أهل العلم أن أعظم الطرق إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى طريق العبادة، ويوم يمدح الله تبارك وتعالى أنبياءه ورسله يقول: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73] ويقول عن زكريا لما أصلح له زوجه: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] ولما أراد أن يشرف رسوله عليه الصلاة والسلام, ما قال له أيها الهاشمي! ولا قال له: يا أبا القاسم! ولا قال: أيها الرسول! ولا قال: أيها النبي إلا في مواطن، لكن في مواطن التشريف كالإسراء قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] وفي موقف الإنذار قال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] وفي موقف إبلاغ القرآن إليه قال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:1 - 2].(159/3)
أقرب الناس من الله أكثرهم عبادة
وأقرب العباد من الواحد الأحد أكثرهم عبادة، وأبعدهم منه أكثرهم معصية، وقف ثلة من الصحابة على باب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يستأذنون يوم الندوة، يوم المؤتمر الذي يعقده أمير المؤمنين كل سنة، وأردوا الدخول فمن هم هؤلاء الثلة؟ وما هي مواصفاتهم؟ وما هي مؤهلاتهم التي يدخلون بها على عمر بن الخطاب؟
هم أبو سفيان بن حرب قائد قريش في حروبهم مع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم؛ من بني عبد شمس، أسرته من أرقى أسر العرب في النسب، وسهيل بن عمرو خطيب العرب، والحارث بن هشام وقف هؤلاء الثلاثة وبجانبهم بلال بن رباح , العبد، المولى، الرقيق، الحبشي، وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وابن مسعود الراعي, فطرقوا الباب مستأذنين في دار القضاء.
ودار القضاء حول المسجد النبوي، لا يحضرها إلا جلة الناس، وكبراؤهم وعلماؤهم في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه، كان يدخل أقرب الناس من الله، فيدخل بقية العشرة، ثم يدخل أهل بدر على منازلهم، ثم يختار من الناس.
فخرج الحاجب وقال: من بالباب؟ فقال أبو سفيان: أخبر أمير المؤمنين أنَّا هنا.
قال: من أنتم؟ فعدوا له أسماءهم؛ فعاد إلى عمر وأخبره، قال: ائذن لـ بلال بن رباح فليدخل، ثم قال: أدخل صهيباً، فدخل.
ثم قال: أدخل سلمان؛ فدخل.
ثم قال: أدخل ابن مسعود فدخل.
ثم لما أدخل هؤلاء قال أبو سفيان -وقد اشتد غيظه-: والله الذي لا إله إلا هو ما ظننت أنه يطول بي حتى يدخل هؤلاء الأعبد قبلي على عمر بن الخطاب.
لماذا؟ لأنه يزن الأمور بميزان الجاهلية، لا زال في ذهنه وظر من أوظار الجاهلية، أما عمر رضي الله عنه وأرضاه فإنه يزنهم بالكتاب والسنة، فقال سهيل بن عمرو وكان عاقلاً: يا أبا سفيان! والله ما علي من باب عمر ومن إذن عمر، ولكن أخشى أن يدعون يوم القيامة فيدخلون الجنة ونترك، إنهم دعوا فأجابوا وأبطأنا، وعرفوا وأنكرنا، وتقدموا وتأخرنا.
فانظر كيف جعل عمر رضي الله عنه وأرضاه مؤهلات الناس بتقوى الله عز وجل ليس إلا!
ولو كانت القيم تقاس بقانون هتلر أو نابليون أو لينين أو ماركس لكان لـ بلال مواصفات أخرى لأنه أسود، لكن عمر رضي الله عنه وأرضاه في دولته ما ارتضى هذا، رأى أن بلالاً ينبغي أن يقدم على هؤلاء جمعياً؛ لأنه كان سابقاً إلى الإسلام.
هل نسي المسلمون كلمة "أحد أحد" يصهر على الرمال، ويضرب، ويسحب، ويجلد، ويقولون له: تنازل عن معبودك فيقول: أحد أحد.
أحد رميت بها بكل معطل تشفي بحول الله قلب معلل
فلهذا كان هذا الرجل مقدماً لأنه عرف الطريق إلى الله.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه فقال: {دخلت الجنة البارحة فسمعت دفي نعليك يا بلال! -أي: خشخشة الحذاء- فماذا تصنع؟ قال بلال رضي الله عنه وأرضاه: والله يا رسول! الله ما كنت كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة, ولكن ما توضأت وضوءاً في ليل أو نهار إلا صليت بعده ركعتين}.
ما قال: لأنني ذو مال أو ولد أو منصب أو جاه, فلا جاه ولا ولد ولا منصب ولا مال، جاهه تقوى الله، ومنصبه لا إله إلا الله، وزاده لا حول ولا قوة إلا بالله، ومركبه آمنت بالله، وهو نداء الحق الذي يبعثه من منائر المسلمين، ويقع في الآذان التي تريد أن تحيا، هذا هو القريب من الله عز وجل.(159/4)
سلمان رضي الله عنه الباحث عن الحقيقة
يوم أتى سلمان الفارسي يبحث عن النور وعن الطريق إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى, كان في أرض فارس المجوس عبدة النار، الذين ما أطفأ نارهم إلا محمد صلى الله عليه وسلم.
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
هذا الرجل كان يسجد للنار من دون الله، والعقل إذا لم يعرف الله ضل، والقلب إذا لم يهتدِ إلى الله عز وجل أصبح قلباً رخيصاً سافلاً حقيراً لا يساوى فلساً واحداً.
فأراد أن يهتدي، ورأى بعض النصارى يقومون بطقوسهم الدينية فذهب إليهم فأعجبه دينهم، لأن دينهم أرفع قليلاً في المستوى من دين المجوسية -وبعض الأديان خير من بعض- فذهب إلى راهب فدله ذاك الراهب في قصة طويلة على راهب آخر، والآخر على آخر، وقبل أن يتوفى الراهب قال له سلمان رضي الله عنه وأرضاه: إنني صحبتك ورأيت فيك الخير فإلى من توصي بي؟ هل تعرف في الأرض رجلاً صالحاً توصي بي إليه؟ فقال هذا الراهب: ما أعلم اليوم على الأرض من رجل صالح إلا نبياً سوف يبعثه الله عز وجل، أظلك زمانه -أي: قرب حينه- فإذا سمعت به فالحق به، فهو في أرض ذات حرة سوداء وذات نخل.
وركب سلمان رضي الله عنه وأرضاه مركب التوفيق، يوم سمع الله أكبر يُهتف بها من مكة، يوم يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] حتى يقول بعض المفكرين: سبحان الله! الرسالة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام تعلن عالميتها من مكة وهو لم يكن عنده إلا شيخ واحد هو أبو بكر، ومولى وهو زيد بن حارثة، وامرأة وهي خديجة، وصبي وهو علي! ويقول الله له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ولما سمعها كفار مكة ضحكوا وقالوا: أي رحمة وهم لا يجرؤ أحدهم أن يبول خوفاً من سيوفنا؟! لكن بعد عشرات السنوات أصبحت أعلام لا إله إلا الله على مشارف أسبانيا وعلى ضفاف نهر السند وفي جنوب أفريقيا، سرت هذه الدعوة؛ لأنها رحمة للعالمين.
فأتى سلمان ونزل في المدينة , وهو لا يريد المال فعنده المال، وأبوه من أغنى أغنياء الدنيا, لكنه يريد الطريق إلى الله، يريد توفيق الله، يريد أن ينقذ نفساً حملها بين جنبيه، والرسول عليه الصلاة والسلام يوم أتاه عمه - كما في الحديث الحسن- العباس بن عبد المطلب قال: {يا رسول الله! أريد إمارة -أي: أنه يريد أن يتولى إمارة- لأنك وليت فلاناً وفلاناً.
فقال له: يا عباس! يا عم رسول الله! نفس تنجيها ولا إمارة تحصيها}.
أعظم ما يمكن أن تنفع نفسك في الحياة الدنيا أن تنجو من غضب الله ولعنته وسخطه، فوصل سلمان رضي الله عنه وأرضاه إلى المدينة وعرف الحرتين ورأى النخل, وكان يتوقع وصول الهادي عليه الصلاة والسلام ليعرض نفسه على الطبيب؛ لأنه مرض من المشارب، ومن الملل والنحل، ومن الشركيات والانحراف والتقليد، فلما وصل كان من أعظم العلامات التي أخبر بها سلمان ثلاث علامات في الرسول صلى الله عليه وسلم:
أولها: أنه لا يقبل الصدقة ويقبل الهدية، انظر إلى هذه النفس التواقة الشريفة، نفس مرتفعة، الصدقة هي أوساخ الناس، وهي تطهير لأموال الناس وأعراضهم، فما قبلها ولا يقبلها عليه الصلاة والسلام، وفي صحيح البخاري أنه رأى عليه الصلاة والسلام الحسن بن علي -ابن بنته فاطمة - يأكل تمرة من تمر الصدقة فقال له: {كخ كخ _أي: اتركها- أما تعلم أنه لا تحل لنا الصدقة؟} طفل صغير يريد أن يربيه على الحلال فيقول له: كخ كخ، هذا لا ينبغي لنا، نحن بيت نربى على طاعة الله وعلى الحلال الصرف، فمن مواصفاته عليه الصلاة والسلام أنه لا يقبل الصدقة ويقبل الهدية.
ثانيها: أن بين كتفيه خاتم النبوة عليه الصلاة والسلام، فأتى سلمان رضي الله عنه وأرضاه وذهب إلى النخل وأتى بشيء من الرطب وتقدم به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في أصحابه, فقال: هذه صدقة أتصدق بها عليكم، فكف صلى الله عليه وسلم يده وأكل أصحابه، وفي اليوم الثاني أتى برطب فقدمه وقال: هذه هدية أهديها لكم؛ فأكل عليه الصلاة والسلام.
وذهب صلى الله عليه وسلم يشيع جنازة فرأى سلمان خاتم النبوة بين كتفيه، فجعل يقبل ذلك الخاتم وشهد أن لا إله إلا لله وأن محمداً رسول الله، وبعد أيام ليست بطويلة يقول عليه الصلاة والسلام: {سلمان منا آل البيت} أصبح ذلك المولى الفارسي الفقير المسكين من بني هاشم بالتقوى، والزهد، والعبادة، والإقبال على الله!
جلس سلمان رضي الله عنه وأرضاه -بعد أن عرف الطريق إلى الله- مع قوم من العرب، فقالوا لبعضهم: انتسبوا.
فيقول الأول: أنا تميمي، ويقول الآخر: أنا غطفاني، ويقول ذاك: أنا فزاري، فقالوا لـ سلمان: وأنت ممن أنت؟ فقال:
أبي الإسلام لا أبَ لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
وهذا هو الفخر العظيم لـ سلمان رضي الله عنه وأرضاه.
وبقيت حياته على وتيرة من الزهد والصدق والعفاف، ويوم تولى عمر رضي الله عنه وأرضاه كان لا يعرف الرجال بالطول ولا بالعرض، ولا يعرفهم بالأسر ولا بالمناصب, بل يعرفهم بتقوى الله، حتى إنه يقول لبعض الأمراء: تول ولاية كذا وكذا.
فيقول: اعفني يا أمير المؤمنين! قال: والله لتتولينها فإني رأيتك في الليل تصلي وتبكي ولا يراك إلا الله.
هذه هي المؤهلات عند عمر بن الخطاب، وكان رضي الله عنه وأرضاه يحاسب أمراءه وهو في عرفات , يحاسب أمراء الأقاليم على الدنيا فكان يقول: يا أيها الناس! والله ما بعثتكم لضرب أبشار الناس ولا أجسادهم, وإنما بعثتكم رحمة للناس.
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
وهذه فعلها واحد من أحفاده وهو عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد، جلس في الأيام الأُول من خلافته في السرادق -الإيوان أو الديوان- فأتى الناس وفوداً يسلمون عليه ويخرجون من الباب الآخر, فدخل ثلاثة شباب في عنفوان الصبا وفي زهرة الفتوة فجلسوا على الكراسي؛ فالتفت إليهم أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الزاهد فقال: أبناء مَن أنتم؟ قال الأول: أنا ابن الوالي الذي كان والياً لـ عبد الملك بن مروان على البصرة؛ فسكت عمر بن عبد العزيز؛ لأن هذه لا تذهب عنده كثيراً، وقال للثاني: وأنت ابن مَن؟ قال: أنا ابن أحد قواد الجيش الذين كانوا مع الوليد بن عبد الملك؛ فسكت، وقال للثالث: وأنت ابن مَن؟ وهو ابن قتادة بن النعمان الأنصاري , الذي ضربت عينه يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسالت على خده فردها صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة قال الفتى:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فبكى عمر بن عبد العزيز والتفت إليه وقال:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالاً
يقول: من أراد أن يفتخر فليفتخر بمثلك؛ لأن فخرك بالإسلام، وبالخدمة وبالجهاد في سبيل الله، وبرفعة لا إله إلا الله.(159/5)
سلمان يتولى إمارة الكوفة
فهذا سلمان الذي عرف الطريق إلى الله، ولاه عمر بن الخطاب على الكوفة , فذهب وخرج أهل الكوفة لاستقباله لما سمعوا بقدومه، وظنوا أنه سوف يأتي في حشد عظيم عرمرم من الناس، فأتى على حمار! نعم، يركب الحمار وتحته حلس وبيده عضو من لحم ينهشه نهشاً لأنه جائع، فتقدم إليه أهل الكوفة وقالوا له: هل رأيت سلمان الفارسي الذي أرسله عمر إلينا قال: أنا سلمان الفارسي.
قالوا: لا تضحك علينا، لا تستهزئ بنا.
فقالوا مثل ما قالت بنو إسرائيل حين قالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] الوقت ليس وقت مزح.
لماذا؟ لأن أهل العراق كانوا مجاورين للدولة الفارسية ذات القصور الشاهقة التي كانت تموه بالذهب والفضة، ذات الكنبات والديباج والإستبرق والطنافس، كان ظن أهل الكوفة أن الدين دين زينة ومظاهر, لكنه قال: نحن جئنا ببساطة وحياتنا للأرواح, وجئنا لرفع مستويات القلوب، فنزل معهم أميراً, فكان يعطيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عطاءه -راتبه- فيوزعه ثلاثة أثلاث: ثلث له، وثلث يهديه، وثلث يتصدق به.(159/6)
وفاة سلمان رضي الله عنه
وفي الأخير حضرته الوفاة وهو أمير, فأتوا ينظرون إلى ميراثه فإذا هو شملة وعصا وصحفة! شملة يفترشها له ولضيوفه ويجلس عليها في محكمته، وعصا يتوكأ عليها ويخطب عليها ويحتمي بها، وصحفة يأكل فيها ويغتسل ويتوضأ بها؛ فبكى سلمان وهو في سكرات الموت.
فقالوا: ما لك تبكي؟ قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لنا: {ليكن زاد أحدكم من الدنيا كزاد الراكب} ونحن أكثرنا من الدنيا.
قالوا: غفر الله لك وأي إكثار من الدنيا؟! قال: أتتهاونون؟ إني أخاف أن أسأل يوم القيامة عن هذه الشملة والعصا والصحفة!! رضي الله عنهم وأرضاهم، هؤلاء هم الذين عرفوا الطريق إلى الله.(159/7)
معاذ وسؤاله العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم
جاء عند الترمذي بسند حسن -والحديث بمجموع طرقه يصل إلى درجة الصحيح- عن معاذ رضي الله وأرضاه, وهو الداعية الكبير، قدوة كل شاب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، معاذ الذي كان له المنصب العالي في حياته عليه الصلاة والسلام، والذي أرسله صلى الله عليه وسلم داعية إلى أهل اليمن فهدى الله به الأرواح، ويوم ودع الرسول عليه الصلاة والسلام ذاهباً إلى اليمن بكى، وهذه القصة أوردها الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة معاذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما لك تبكي يا معاذ؟ قال: يا رسول الله أبكي لفراقك.
قال: لا تجزع فإن الجزع من الشيطان، يا معاذ! اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن، يا معاذ! اذكر الله عز وجل عند كل شجر وحجر ومدر}.
يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدنت راحلتي من راحلته.
أي: اقترب منه وهم في السفر، فخلا له الجو بسيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وتصور أنت في نفسك أنك في جمع عظيم، وفي جيش عرمرم جرار، وفي ألوف مؤلفة من الناس، ثم تخلو برسول الهدى صلى الله عليه وسلم في الطريق أنت وهو! فلما خلا معاذ رضي الله عنه وأرضاه برسول الهدى صلى الله عليه وسلم أراد أن يسأله أعظم سؤال, ومن أعظم الأسئلة في تاريخ الإنسان، وأهل الدنيا يسألون للدنيا, وأهل الجاه يسألون للجاه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
اقترب معاذ من الرسول صلى الله عليه وسلم، ودنا منه الرسول صلى الله عليه وسلم, وأخذها فرصة ثمينة غالية، وكان بإمكانه أن يسأله الإمارة, أو أن يؤتيه منصباً أو أن يمنحه مالاً, لكنه رفض ذلك كله، وما سأله إلا عن سؤال عظيم في الآخرة؛ لأن الناس أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فمنهم من سأله المال فأعطاه صلى الله عليه وسلم المال، ومنهم من سأله المنصب فأعطاه المنصب، ومنهم من سأله أعراضاً أخرى فأعطاهم عليه الصلاة والسلام: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:20 - 21].
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوزع غنائم حنين , وكانت -كما يقول أهل السير- أربعة وعشرين ألف رأس من الغنم، وسبعة آلاف رأس من الإبل غير البقر والذهب والفضة، فما سأله أبو بكر ولا عمر ولا معاذ ولا أبو هريرة ولا أُبي إنما أتى الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام يسألون، لا زالت قلوبهم فارغة من التوحيد ومن الإيمان ومن الذكر ومن العمل الصالح.
أتى حكيم بن حزام فقال: يا رسول الله! أعطني.
فقال: أترى الغنم التي بين الجبلين؟ قال: نعم.
قال: هي لك، فأخذها.
وأتى في اليوم الثاني فقال: يا رسول الله! أعطني.
قال: خذ, فأعطاه مائة ناقة.
وفي اليوم الثالث ظنها فرصة ويظن أنها لفضله, فجاء وقال: أعطني يا رسول الله! فأعطاه مائة ناقة، وفي اليوم الرابع قال: أعطني يا رسول الله! وكان من أغنى أغنياء مكة، يكسو الكعبة سنة وأهل مكة يكسونها سنة! فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وقال: يا حكيم! إن هذا المال حلوة خضرة، واليد العليا خير من اليد السفلى.
فقال: والله يا رسول الله! لا أرزأ بعدك أحداً من الناس.
أو كما قال.
أي: لا أطلب مالاً أنقصه على أحد من الناس بعدك، حتى عطاؤه ما كان يسأله من أحد من الخلفاء، فكان أبو بكر يعطيه العطاء فيقول: لا، وكان عمر يعطيه فيقول: لا، فيقول عمر رضي الله عنه: أشهدكم أيها الناس أن حكيماً دفعت له عطاءه فأبى ذاك العطاء.
فالمقصود أنه أتى معاذ وهو من العلماء النبلاء، وفي حديث سنده حسن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {معاذ قائد العلماء يوم القيامة برتوة} وفي لفظ: {يدخل أمام العلماء يوم القيامة برتوة} والرتوة رمية الحجر، أي أن علماء الأمة الإسلامية إذا اجتمعوا يوم العرض الأكبر، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم, يكون قائدهم معاذ رضي الله عنه وأرضاه، يمضي قبلهم حتى يدخل الجنة.
قال معاذ: {يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار -لا فض فوك، ما أحسن هذا المقال! وما أحسن هذا السؤال! - فقال عليه الصلاة والسلام: لقد سألت عن عظيم} هذا السؤال من أعظم الأسئلة في تاريخ الإنسان؛ ولذلك جعل أهل العلم هذا الحديث من أصول أحاديث الأعمال، وأتى به النووي في الأربعين النووية، وتكلف كثير من العلماء في شرحه، وقاموا بتوضيحه للناس وهو وصية أهديها لنفسي وإليكم جميعاً.
قال: {لقد سألت عن عظيم! وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئاً, وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت} هذا هو الإسلام، هذا السطر هو مفهوم رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس فيه ألغاز ولا مشكلات ولا تصفيف كلام {تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة -أي: وقاية من العذاب ومن النار والعار والدمار- والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا عليه الصلاة والسلام {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: فأخذ صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه ثم قال: كف عليك هذا.
قلت: يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! -أي: فقدتك أمك لا تفهم هذه المسألة، وهو دعاء عند العرب لا يراد منه إمضاء هذا الدعاء ولا إيقاع هذا الدعاء بالمدعو عليه- وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم} -وفي لفظ آخر: {وهل يكب الناس في النار على مناخرهم أو على أنوفهم إلا حصائد ألسنتهم}.
هذا السائل عن طريق الجنة أجابه الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه الإجابة، والطريق إلى الله عز وجل يكمن في هذا الحديث {تعبد الله لا تشرك به شيئاً} ولذلك كان يوصي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس.(159/8)
عبادة الله وعدم الشرك به
وعند ابن حبان بسند صحيح, أن أبا ذر رضي الله عنه وأرضاه قال: {أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثمان، من هذه الثمان: أن تعبد الله لا تشرك به شيئاً ولو قطعت ومزقت وحرقت}.
والتقطيع والتمزيق والتحريق أهون والله من الشرك بالله، ولذلك كان يوصي به صلى الله عليه وسلم الناس دائماً.
وعند مسلم في صحيحه , أن الرسول عليه الصلاة والسلام سمع رجلاً في جوف الليل يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فقال: {نجوت من النار ورب الكعبة} لأنه قالها مخلصاً من قلبه, أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرف أن ذلك الرجل سوف يقوم بمؤدى لا إله إلا الله، وإلا فلا إله إلا الله وحدها لا تكفي إلا بعمل.
عند البخاري في الصحيح أن وهب بن منبه قال: لا إله إلا الله كالمفتاح والفرائض كالأسنان، فأنت إذا جئت بالمفتاح بأسنان فتح لك الباب (الجنة) وإذا أتيت بمفتاح بلا أسنان لم يفتح لك الباب.
فلا إله إلا الله محمد رسول الله هي من أعظم ما أوصى بها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم الناس، ورسالته تكمن في هاتين الكلمتين، قال ابن القيم: " هي تجريد العبودية لله وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ".
فالعبودية لله بلا شرك, والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ألا تجعل لك قدوة مع الرسول صلى الله عليه وسلم غيره من الناس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
وضمام بن ثعلبة كما جاء في الحديث المشهور, وهو يكرر دائماً لعظمه، ولذلك أورده البخاري في كتاب العلم, ومسلم في كتاب الإيمان، وشرحه الشراح, واعتنى به أهل العلم من أهل التصنيف: كان عليه الصلاة والسلام جالساً بعد صلاة العصر, فوفد ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر على راحلته فقال: أين محمد بن عبد المطلب؟ هو ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم، لكنه تجّوز إلى جده؛ لأن جده أشهر في العرب من أبيه، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم يوم حنين: {أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب}.
قالوا له: هو ذاك الرجل الأبيض الأمهق المرتفق, فتخطى الصفوف وأخذ ينادي: يا بن عبد المطلب.
أتى على حاله من البادية، وأهل البادية أهل جفاء إلا من رحم ربك، أتى بأحذيته يتخطى الصفوف, يضرب هذا ويصفع هذا ويرد هذا ويقول: يا محمد، يا بن عبد المطلب ولم يقل: يا رسول الله! والله يقول: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63] فلما اقترب قال عليه الصلاة والسلام: نعم.
قال إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد عليّ -يقول: سؤالي صعب وشديد وشاق فلا تغضب علي- قال: سل ما بدا لك.
قال: يا رسول الله! من رفع السماء؟ قال: الله.
قال: من بسط الأرض؟ قال: الله.
قال: من نصب الجبال؟ قال: الله.
قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال آلله أرسلك إلينا رسولاً؟ وكان صلى الله عليه وسلم متكئاً فتربع واحمر وجهه من عظم السؤال وقال: اللهم نعم.
قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم.
فأخذ يسأله حتى انتهى من أركان الإسلام فتولى وفك عقال ناقته وقد تعلم الإسلام فيما يقارب العشر الدقائق! وركب الناقة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص, أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر؛ فتبسم صلى الله عليه وسلم للناس وقال: {من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا} وقال في لفظ آخر: {أفلح ودخل الجنة إن صدق} إن كان صدق على ما قال من إعطائه العهد والميثاق والملازمة وأخذ الضمان عليه أنه سوف يوفي حقوق الله وحقوق الدين فسوف يدخل الجنة لا محالة.(159/9)
أبواب الخير
ثم يقول عليه الصلاة والسلام لمعاذ: {ألا أدلك على أبواب الخير؟} فالخير أبوب؛ ولذلك سئل ابن تيمية في الفتاوى فقيل له: أصحيح هذه الكلمة التي تقال أن الطرق إلى الله عدد الأنفاس؟ قال: إن كان قصد السائل أن طرق التبليغ من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى خلقه عدد الأنفاس فهذا ليس بصحيح، بل التبليغ عن الرسل عليهم الصلاة والسلام وعن محمد فحسب، وإن كان قصده طرق الخير فصحيح هذا الكلام؛ ولذلك جعل الله للجنة أبواباً ثمانية.
وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصلياً
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترقَ أبوب الجنان الثمانيا
وجاء عند البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد, قال عليه الصلاة والسلام: {إن للجنة أبواباً ثمانية، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد}
و
السؤال
كيف يقسم صلى الله عليه وسلم الأبواب ويجعل الناس أقساماً, مع أنه لا بد أن يكون المسلم مصلياً والمسلمون جميعاً من أهل الصلاة؟ هل المعنى أن ينادى يوم القيامة فيقال: يا أيها المصلون ادخلوا من هذا الباب، ويا أيها المجاهدون ادخلوا من هذا الباب، ويا أيها الصائمون ادخلوا من هذا الباب؟ إذاً فما هو المعنى؟
المعنى: أن المسلمين لا بد أن يقوموا بالفرائض جميعاً, وبعضهم يزيد في الصلاة فيعرف بالمصلي من كثرة صلاته, فتصير عبادته هي الصلاة, فلا يرتاح إلا للصلاة؛ فيدعى من باب الصلاة، وبعضهم يرتاح للجهاد بعد أداء الفرائض من الصلاة وغيرها فيدعى من باب الجهاد، وبعضهم يرتاح للصيام, ولذلك قال تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] ترى بعض الناس يأخذ الطريق إلى الله من طريق الصيام؛ فتجده في شدة الحر وفي معمعان الصيف وهو صائم، فباب الريان باب الصائمين، وبعض الناس لا يرتاح إلا للذكر بعد الفرائض, فلسانه يهتف بذكر الله عز وجل دائماً وأبداً، لسانه رطب بذكر المولى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
وكذلك الجهاد، وهذا فتح من الله يفتحه على بعض الناس، يقول ابن القيم في طريق الهجرتين: بعضهم يأتي فيوفق لهذه العبادة ولهذا الباب، وأما الكُمَّل (الكاملين من الناس) فإنهم يأخذون من كل غنيمة بسهم.
تجده مع المصلين مصلياً، ومع الذاكرين ذاكراً، ومع المتصدقين متصدقاً {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] مثل أبي بكر الصديق فقد كان من أكثر الناس عبادة لله عز وجل بالخشية والمراقبة، صلى وتنفل بالصلاة, وصام وزكى وجاهد وعدل وبذل أمواله في سبيل الله، وحفظ أوقاته وسكب وقته ودموعه ودمه وعرقه لخدمة لا إله إلا الله ولرفع لا إله إلا الله؛ فلذلك كان سابقاً بهذا العمل.
وكان عليه الصلاة والسلام يعرف مواصفات الناس وطاقاتهم وجهودهم، يأتيه الرجل فيقول: يا رسول الله! أوصني.
فيوصيه صلى الله عليه وسلم بما يناسبه، يأتيه نحيف البنية الهزيل الضعيف فيقول: يا رسول الله! دلني على عمل فيقول: {لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} لأنه لو دله على الصيام والجهاد ما استطاع، ويأتيه الرجل وله والدان فيقول: يا رسول الله! دلني على عمل.
فيقول: {عليك ببر الوالدين} ويقول غيلان الثقفي القوي البدين: يا رسول الله! دلني على عمل.
قال: {عليك بالجهاد في سبيل الله} وهذا لا يعرفه إلا رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.(159/10)
الصوم جنة
قال عليه الصلاة والسلام: {ألا أدلك على أبوب الخير؟ الصوم جنة} الصوم شيء عجيب، وفيه تربية للأرواح، وفيه من المنافع والفوائد ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وبالمناسبة أوصيكم ونفسي باستغلال الفرص السانحة الغادية الرائحة على العبد, فإنه لا يدري متى يموت, وذلك كصيام عاشوراء مع صيام يوم قبله أو يوم بعده, فإنه سئل عنه صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- فقال: {أرجو أن يكفر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى به السنة الماضية} سنة كاملة يكفرها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بهذا اليوم فأوصيكم بهذا اليوم وغيره من الأيام الفاضلة.
وكان الصحابة رضي الله عليهم وأرضاهم من أكثر الناس صياماً حتى في الجهاد، وفي المعركة قد يرخص المسلم لنفسه؛ لأنه يقاتل ويقارع بالسيوف ويضرب بالرماح فيقول: ولماذا أصوم؟ أريد أن أتقوى بالطعام على القتال.
لكن وجد من الصحابة من يصوم والسيف على رأسه, وطنين الرمح على شرفات حاجبه وهو صائم لله مثل من؟ مثل عبد الله بن رواحة، الشاعر البطل، الشاب المقدام، الذي قدم نفسه قرباناً فتقبلها الله عز وجل يوم أن تقبل الله من الصادقين في مؤتة، وكان رضي الله عنه صائماً, وكان دوره في القيادة الدور الثالث بعد زيد بن حارثة وجعفر، والرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل الجيش كانوا ثلاثة آلاف، والجيش المقابل -كما قال بعض المؤرخين- كانوا مائة وثمانين ألفاً! ما كنا نقاتل الناس بطائرات ولا صواريخ ولا دبابات، صحيح أن الله أمرنا أن نستعد, لكن كنا نفوز بقلوب ملأتها لا إله إلا الله
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي حاسر أسفاً من أمسك المنصرم
ألإسرائيل تعلو راية في حمى المهد وظل الحرم
أو ما كنت إذا البغي اعتدى موجة من لهب أو من دم
نعم كانت الأمة الإسلامية موجة من لهب وموجة من دم يوم عرفت لا إله إلا الله.
وصل ثلاثة آلاف إلى قرب عمان في أرض الأردن , ووصل مائة وثمانون ألفاً منهم العربي وغير العربي من النصارى وغيرهم إلى هناك، وتقابل الفريقان، فلما رأى الصحابة أن هذا العدد الهائل الذي أقبل كالبحر أو كالجبال بعضها يزحف على بعض، وأنت تصور مائة وثمانين ألفاً! كل كتيبة ألف مقاتل، وكل كتيبة تعرف أنها تريد احتلال الجزيرة العربية ودحض الإسلام وإنهاء الدعوة المحمدية، ووراء وأمام كل كتيبة قائد! فلما رأى المسلمون ذلك قال عقلاؤهم: نريد الرجوع إلى المدينة ولا نقاتل؛ لأن العدد ليس متكافئ, فقال عبد الله بن رواحة الصائم المجاهد: يا أيها الناس! أما نحن فقد خرجنا لإحدى الحسنيين, إما الموت في سبيل الله وهي الشهادة وإما النصر والعزة للإسلام، والذي نفس عبد الله بن رواحة بيده لا أعود حتى أموت شهيداً أو ينصر الله الإسلام والمسلمين، ثم أخذ غمد سيفه وكسره على ركبته، وهذا عند العرب ساعة الصفر!! معناه عدم العودة إلى الوراء، وتقدم زيد فقتل ثم تقدم جعفر فقتل، وأتى دوره ليأخذ راية لا إله إلا الله مع الغروب، الشمس تودع الدنيا بأشعتها الصفراء وتريد الانتهاء وهو صائم لا يجد بلل الريق في فمه، صائم مجاهد وهو على فرسه!! فلما دعي وقالوا: أين عبد الله بن رواحة؟ يدعونه الصحابة، قال: نعم.
قالوا: لقد قتل جعفر.
فتقدم.
فقال: ناولوني شيئاً من الطعام أتقوى به على القتال فإني أصبحت اليوم صائماً, فناولوه عرقاً من لحم فأخذ يأكله, ولما أراد أن يمضغه لم يعد للطعام مذاقاً ولا للشراب مساغاً سبحان الله! أيساغ الطعام ويذاق والصحابة يجندلون, ورءوس الأبطال تضرب تحت سنابك الخيل؟! يرى جعفر ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع أمامه ثم يأكل! يرى زيد بن حارثة يقطع ثم يأكل! فأخذ السيف وأخذ يقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
ثم تقدم واقتحم على الفرس وقاتل وقتل مع الغروب، والرسول عليه الصلاة والسلام يتابع المعركة من المدينة، كشف الله له الغطاء حتى رأى الجيوش ورأى القتال ورأى القواد, فجمع الناس وهو يبكي على المنبر صلى الله عليه وسلم ويقطع صوته البكاء ويقول: لقد مر بي الثلاثة على أسرة، وفي سرير عبد الله بن رواحة ازورار وقد دخلوا الجنة جميعاً.
رضي الله عنهم وأرضاهم.
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيئاً فاشترى
هؤلاء هم صحابة محمد صلى الله عليه وسلم، يوم ما كان غير الله يديدن عليهم أبداً، كانت رايتهم لا إله إلا الله، لا قومية، ولا بعثية، ولا علمانية، ولا شيوعية؛ لأن هذه الرايات جربناها كثيراً في الساحات وأخفقت, وداسها أبناء القردة والخنازير بطائراتهم وصواريخهم ودكوها وردوها على أعقابها خاسرة منكسرة آسفة، نعم جربت هذه الشعارات أكثر من خمسين سنة, وهي ترفع وتقول إنها تريد تحرير فلسطين ورد القدس للمسلمين، لكن تقدمت فخسرت وخسأت وخابت لأنها علمانية، وعادت وهي تحمل العار والشنار والدمار؛ لأن لا إله إلا الله ما ارتفعت في سماء المسلمين.
جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: {خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد, حتى إن أحدنا يضع يده على رأسه من شدة الحر} تصور يوم تخرج في الجزيرة العربية القاحلة الرمضاء, التي تكاد تشوي البشرة وتمتص الدم من الشرايين, وتجد الرجل من الصحابة يضع يده على رأسه يتقي حرارة الشمس! قال: {وما منا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة}.
ولذلك استوصى أبناء أبي موسى الأشعري أباهم فقالوا: بم توصنا؟ قال: عليكم بالصيام في شدة الحر وفي المعمعمان يقيكم الله عز وجل الحر ذلك اليوم؛ لأن ذاك اليوم لا يتقى إلا بالعمل الصالح يوم لا ظل فيه إلا ظل الله، يوم لا رحمة فيه إلا رحمة الله عز وجل.
ذكر ابن كثير في ترجمة أحد الصالحين أن روح بن زنباع , وهو أمير أموي قيل كان أميراً لـ عبد الملك بن مروان , وقيل للوليد بن عبد الملك، كان روح بن زنباع مسافراً يريد مكة لأداء العمرة, ومعه موكب, وعنده سُفَر يمد عليها ما لذ وطاب من الطعام والشراب، ومن كل الفواكه والأطعمة، فرأى رجلاً صالحاً يرعى غنماً معه, كلما مشى قليلاً توضأ وصلى ركعتين، فقال روح: علي بالرجل.
فذهبوا وأتوا به, فقال له ابن زنباع: أتريد أن تكون ضيفنا هذا اليوم.
قال: لقد دعاني من هو أكرم منك.
قال: ومن أكرم مني وليس في هذه البوادي رجل إلا أنا؟ قال: دعاني رب العالمين للإفطار الليلة عنده.
قال: أإنك لصائم؟ قال: نعم.
قال: أفطر عندي اليوم وصم غداً.
قال: وهل تضمن لي أن تبقى عليَّ الأيام؟ يقول: هل تضمن لي أن تبقى أيامي وعمري إلى الغد؟ قال: لا.
قال: فلا والله، لن أفطر هذا اليوم لأنني أخاف أن أموت غداً؛ فبكى الأمير وقال: ضاعت أيامك يا روح بن زنباع! على موائد بني أمية.
ولذلك كان طريق الجنة للأخيار والصالحين هو هذا الطريق، وذكروا في ترجمة زيد بن سهل الأنصاري أبي طلحة رضي الله عنه, الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده لصوت أبي طلحة في الجيش خير من مائة فارس} صوت أبي طلحة فحسب إذا كبر وهلل وسط قعقعة السيوف، وضرب الرماح يساوي مائة فارس, فما بالك بالرجل؟! يقول: ما صام إلا رمضان وحده في عهد الجهاد لاشتغاله بالجهاد، ثم سرد الصيام إلا يوم الفطر ويوم الأضحى أربعين سنة.
ذكروا ذلك في ترجمته, ونحن لا نوردها لسرد الصيام، ولا نبحث هل يجوز سرد الصيام إلا عيد الفطر وعيد الأضحى؟ إنما نوردها للاعتبار وقوة همم هؤلاء الصحابة على العبادة.
قال عليه الصلاة والسلام: {والصوم جنة} وعند مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه؛ قال عليه الصلاة والسلام: {من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً}.
وذكر عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يصوم في حر المدينة , وما كان هناك مكيفات ولا ماء بارد ولا ثلج ولا شيء من هذا.
قال: فكان يوضع له قربة في الشجرة وتقطر هذه القربة بمائها على صدره، فيقولون له: لو تركت الصيام إلى الشتاء.
قال: إني أخاف أن أموت قبل أن يأتي الشتاء.
إنه عمر محسوب.
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
وهذا الوزير ابن هبيرة الحنبلي, صاحب كتاب الإفصاح، كان من أعظم الوزراء، ومن أزهدهم في تاريخ الإسلام، كان وزيراً للخليفة العباسي المستنجد، وهو حنبلي المذهب ومحدث، ويخشى الله عز وجل كثيراً، كان يجلس لمجلس الحديث بعد صلاة العصر من يوم الجمعة, فيقرأ عليه العلماء الحديث فيبكي حتى يقول الناس: سيموت هذه الليلة.
حج وكان صائماً، ولما وصل إلى مكة أصاب الناس حر شديد وانتهى الماء، والتمس الناس الماء حتى أشرفوا على الهلاك من كثرة الضمأ! فتوضأ وقام ورفع يديه وقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا قال الراوي -وهذا في طبقات الحنابلة في ترجمته-: فوالله ما اقترب الغروب إلا وقد تساقط الغيث على الناس وسقط مع الغيث ثلج مبرد، فأخذ يحمل الثلج في إنائه ويبكي ويقول: يا ليتني سألت الله المغفرة، يا ليتني سألت الله المغفرة.
كان ابن هبيرة من أعظم الوزراء شهامة وريادة وتقوى وخشية وقراءة وتلاوة وعلماً، حتى يقول فيه الخليفة المستنجد وهو يمدحه:
صفت نعمتان عمتاك وخصتا فخيرهما حتى القيامة يذكر
وزهدك والدنيا إليك فقيرة وجودك والمعروف في الناس يذكر
ولو كان مكانك جعفر ويحيى لكف عنه يحيى وجعفر
ولم أر من ينوي لك السوء يا أبا الـ ـمظفر إلا كنت أنت المظفر
الشاهد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {والصوم جنة} أي: يتقي به العبد يوم القيامة من غضب الله ومن سخطه، فالله الله في الصيام لكن باقتصاد، الذهبي ترجم لأحد العلماء في سير أعلام النبلاء فقال: عليك بالصيام وأكثر منه.
قال الذهبي: باقتصاد.
أي تقتصد في الصيام؛ ثلاثة أيام من كل شهر من أعظم الصيام في الإسلام، وهي صيام الدهر وهي صيام رسولنا صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام.(159/11)
الصدقة وفضلها
قال عليه الصلاة والسلام: {والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار}.
هذا مبدأ آخر وباب آخر فتحه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للمقبولين من عباده، والكلمة الطيبة في الإسلام صدقة، والبسمة صدقة، واللين صدقة، وفي الصحيح: {يصبح على كل سلامى من أحدكم -والسلامى هو المفصل- صدقة، كل يوم تصلح فيه بين اثنين صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل تسبيحة صدقة ويجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما أحدكم من الضحى} فالشاهد: الصدقة، ولذلك دخل كثير من الصالحين الجنة بسبب الصدقة.
ومن أعظم ما يذكر في هذا الباب أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه؛ فإنه أنفق أمواله في سبيل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وما ادخر شيئاً، وعمر بن الخطاب قدم نصف ماله في سبيل الله، وعثمان جهز جيش العسرة في غزوة تبوك , حتى قال صلى الله عليه وسلم: {اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض، اللهم اغفر ل عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر} رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً.
وجاء عن عبد الرحمن بن عوف أن قافلة قدمت المدينة إليه في أيام قحط, فقال لتجار المدينة: كم تعطوني في كل درهم؟ قالوا: درهماً.
قال: وجدت من زادني.
قالوا: نعطيك درهمين.
قال: وجدت من زادني.
قالوا: ثلاثة.
قال: وجدت من زادني.
قالوا: نحن تجار المدينة وما يزيدك أحد.
قال: فإن الله قد زادني في الدرهم عشرة إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] ثم قال: أشهدكم أيها الناس أنها في سبيل الله؛ فتفرق الناس وهم يقولون: سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة.
فقوله صلى الله عليه وسلم: {والصدقة تطفئ الخطيئة} يقول أهل العلم: من أعظم ما يكفر به العبد عن سيئاته إذا أساء الصلاة والصدقة.
قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
فدل عليه الصلاة والسلام معاذاً على الصدقة؛ لأنها من أبواب الخير التي ذكرها المصطفى صلى الله عليه وسلم.(159/12)
صلاة الليل
ثم قال: {وصلاة الرجل في جوف الليل، وتلا عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16]} صلاة الليل قلّت في هذا الزمن، ونشكو حالنا إلى الله عز وجل، وسبب قلتها كثرة المعاصي وكثرة تمرسنا في المباحات وسهرنا الذي كله -إلا ما رحم ربك- ليس فيه منفعة، فكلما سهر العبد عطل عليه تلك الساعة التي يتنزل فيها ربنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله فينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيبه؟ فأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً بهذه الوصية
قلت لليل هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار
قال لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار
فمن أحسن عبادة المسلم, وهي المربية للأرواح، والمكفرة للذنوب، والمنمية للإيمان قيام الليل, ولو كان نصف ساعة، وأقل ورد هما ركعتان، فداوم على ركعتين كل ليلة قبل صلاة الفجر يمنحك الله إيماناً ونوراً ويقيناً, ويسددك ويهديك سواء السبيل.
ولذلك يرى ابن الجوزي في صيد الخاطر أن من أعظم ما يربي الفرد المسلم قيام الليل، وهذا الذي أوصى به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم, فقال ل عبد الله بن عمر يوم سألته حفصة: {نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل} فما كان ينام من الليل إلا قليلاً.
وقال لـ عبد الله بن عمر كما في الصحيح: {يا عبد الله! لا تكن كفلان كان يقوم الليل ثم ترك قيام الليل} فالله الله في هذه السنة التي تركت, وفي هذه الشعيرة العظيمة التي هجرت إلا عند من رحم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ويكفي العبد -كما ذكرت- أن يقوم ولو قليلاً من الليل, ويتهجد ويقرأ شيئاً من القرآن, ثم يختم ذلك بالاستغفار ويرفع يديه إلى علام الغيوب, الذي لا تغيب عنه الحوائج ولا ترد عنده المسائل، ولا تختلف عليه اللهجات، ولا تتنوع عليه الحاجات تبارك وتعالى، فيشكو إليه حاله وقلته وضعفه وذنوبه وسيئاته وخطاياه, فإذا لم يرحم الله فمن يرحم؟! وإذا لم يغفر فمن يغفر؟! وإذا لم يتب علينا فمن يتوب علينا؟!(159/13)
خطر اللسان
ثم قال عليه الصلاة والسلام: {ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ -أي: ما يجمع عليك ذلك- قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه وقال: كُفَّ عليك هذا} أخطر ما يمكن أن يواجه العبد في الدنيا هو لسانه، ولذلك قالوا: تسعة أعشار الذنوب من اللسان! والغزالي في الإحياء بوب أبواب الذنوب التي تصاب من اللسان فجعلها عشرة أبواب، والرسول عليه الصلاة والسلام كلما ذكر عبداً ذكره بذنب لسانه، فإنه أسرع في الذنوب وفي الخطأ, وهو يتكلم بلا حساب، وهو يفرط منك بلا شعور، فيغتاب وينم ويأتي بالبذاءة، ويأتي بكلمة مدلهمة قد تهوي بصاحبها في النار سبعين خريفاً، فنسأل الله العافية.
ورد عن أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أنه وقف يبكي وحده ويقول: [[هذا أوردني الموارد ويأخذ بلسانه]].
هذا أبو بكر رضي الله عنه فما بالنا نحن؟! وابن عباس بكى على الصفا وأخذ بلسان نفسه وقال: [[يا لسان قل خيراً تغنم أو اسكت عن شر تسلم]].
ويقول ابن مسعود -كما نقل عنه ابن رجب في جامع العلوم والحكم -: [[والله الذي لا إله إلا هو ما في الدنيا أحق بطول حبس من اللسان]] , والشافعي رحمه الله يقول:
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وعيناك إن أبدت إليك معايباً لقوم فقل يا عين للناس أعين
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح: {من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة} فهي ضمانة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن من يضمن؟ انظر إلى نفسك من يوم أن تصبح الصباح إلى أن تنام وأنت في كلام مستمر، ولو ذكرنا الله عز وجل بقدر كلامنا مع الناس وأخذنا وعطائنا واتصالاتنا وزياراتنا لكنا من الذاكرين الله كثيراً، لكن إذا ذكرنا ذكرنا بغفلة ونسيان وهوس، وإذا أتينا لنتكلم مع الناس استحضرنا قلوبنا وأبدعنا في الكلام، وصححنا الكلمات والنطق، وهذا ليس منهجاً سديداً؛ أن يكثر العبد من اللغو، والله وصف المؤمنين بأنهم عن اللغو معرضون.
ذكر عن الربيع بن خثيم -أحد الزهاد العباد التابعين الأخيار- أنه كان يحسب كلامه من الجمعة إلى الجمعة! فقالوا: ما لك؟ أتستطيع ذلك؟! قال: ألا تظنون أن علي رقيباً وعتيداً يحصي ما أقول عن اليمين وعن الشمال؟
وعطاء بن أبي رباح ذكر عنه صاحب التذكرة أنه قال: يا أيها الناس! اتقوا الله في ألسنتكم، لا تتكلموا إلا بخير أو بتلاوة أو بذكر، أو بأمر بمعروف أو نهي عن منكر؛ فإن أعمالكم تحصى عليكم.
وسمعت عائشة رضي الله عنها وأرضاها جارات لها يتحدثن بعد صلاة العشاء, فأرسلت جارية لها وقالت: قولي لهن يتقين الله ويرحن الكتبة، لأن الملك لا يترك الكتابة حتى تنام، فمهمته أن يبقى معك حتى تنام، فما بالك بإنسان يبقى حتى الساعة الواحدة أو الساعة الثانية عشرة وهو يتكلم في هذا وذاك وفي المجريات؟ وهذا إن كان من المحسنين، ففي الأخبار والأسعار والأمطار وما جد في المجتمع، والسيء من يغتاب الناس ويأكل لحومهم وأعراضهم، يُجرح ويُعدل بعد صلاة العشاء التي كان السلف يقومون يتباكون فيها {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] الوقت الذي ننام فيه نحن كان السلف يقومون فيه ويصلون.
تجد كثيراً من المجالس تئن وتشكو إلى الله عز وجل من كثرة الذنوب والخطايا، والحرمات التي تنتهك في هذه المجالس.
إني أدعو نفسي وإياكم إلى حفظ هذا اللسان، وإلى ذكر الله به كثيراً، وإلى تقوى الله فيه, فإنه كما ورد في حديث ابن عباس -يرفعه تارة ويقفه على نفسه تارة-: {يأتي العبد يوم القيامة أحنق شيء على لسانه, يقول: هذا أوردني الموارد}.
فنعوذ بالله من لسان لا يسلم من الخطأ، ونعوذ بالله من لسان لا يتسدد على الحق، ونعوذ بالله من لسان لا يجتنب اللغو, فإن الله إذا هدى سدد ووفق, يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أيها الإخوة الكرام! أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية والسداد والرشد, وأن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، وأسأله أن يعمر قلوبنا وقلوبكم بذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.(159/14)
الأسئلة(159/15)
المقصود بالأيام البيض
السؤال
هل المقصود بصيام ثلاثة أيام من كل شهر الأيام البيض: (14،13، 15) من كل شهر, أم لا يشترط الترتيب؟
الجواب
الأيام البيض هي ما ذكرت: (13، 14، 15) أما هل يشترط أن تسرد، وأن توقع الأيام في هذه الأيام البيض؟ فهذه مسألة أخرى، وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: {أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت: ركعتي الضحى، وبصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام}.
فأما هذا الحديث ففيه عموم: ثلاثة أيام من أوله أو من آخره أو من وسطه، وابن حجر العسقلاني في فتح الباري ذكر ما يقارب عشرة أقوال في هذه الأيام، فمن السلف الصالح والصحابة من يصوم الثلاثة في أول الشهر، ومنهم من يصوم في كل عشرة أيام يوماً واحداً، ومنهم من يصوم الأيام البيض، لكن الأفضل والأحسن والأولى، والذي هو السنة صيام الثلاثة البيض، لكن إذا عرفت من نفسك وقدرتك أنك لا تستطيع سرد الأيام الثلاثة فانثرها ولا بأس، إنما المقصود ألا يخرج عليك الشهر إلا وقد صمت ثلاثة أيام.
وقد يعرض للإنسان سفر في الأيام البيض أو عمل شاق؛ فله أن يؤخر أو يقدم ولا بأس بذلك.(159/16)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
أرجو أن تنصحوا الشباب بكيفية إنكار المنكر والأمر بالمعروف لعامة الناس وخاصتهم؟
الجواب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أشرف الأعمال في الإسلام، ويسمى الحسبة عند علماء الإسلام، والاحتساب يكون لوجه الله عز وجل، ولا يتقيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهيئة فحسب، ولا يمكن أن هذه الهيئة تكفي المسلمين مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالرسول صلى الله عليه وسلم عمم الأمر بقدر الطاقة، ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} وأحسن من تكلم في هذه المسألة ابن تيمية في المجلد الثامن عشر من فتاويه، فله مبحث عجيب يستحسن الرجوع إليه في كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, يقول: "ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ولا يكن نهيك عن المنكر بالمنكر".
لأن بعض الناس إذا أتى لينهى عن المنكر أتى بشيء من المنكر أدهى من الذي ينهى عنه، وفوت من الأمر الحاصل أضعافاً مضاعفة على ما يطلب.
ويشترط في الداعية ثلاثة شروط:
أولها: الإخلاص لوجه الله، فلا يقصد رياءً ولا سمعة.
ثانيها: العلم، فلا يدعو الداعية إلا وهو يعلم بما يدعو إليه, ولا يشترط أن يكون مبرزاً أو متخصصاً, لكن المسألة التي تطرقها لا بد أن تكون عالماً بها.
ثالثها: العمل.
وبعضهم يزيد شرطاً رابعاً, كما ذكر ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الأصول الثلاثة: وهو الصبر على ما تدعو إليه، ولذلك يقول لقمان لابنه وهو يعظه ببعض الوصايا يقول: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فانظر كيف ذكر الصبر بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والله عز وجل طلب من رسله اللين مع المخاطبين, فقال لموسى لما أرسله إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] قال ابن عباس: [[أتدرون ما القول اللين؟ قالوا: لا.
قال: أمره الله أن يلين له الخطاب فيقول له: إن أنت أسلمت وآمنت متعك الله بشبابك وبملكك وبمالك]] فرعون أطغى الطغاة.
وأفجر الفجار، شيخ كل متكبر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, يقول الله لموسى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] لا تجرح شعوره، لا تؤذه بالخطاب القاسي، لا تحاول أن تنغص عليه فإنه لا يستجيب، والناس لهم قدرهم، ولهم شرفهم، ولهم أعراضهم، ولهم قيمتهم، فإذا شعروا أنك تكسر هذا الحاجز، وأنك تهددهم بسحق قيمهم لا يستجيبون أبداً، وتأخذهم العزة بالإثم، بينما إذا دخلت باللين وبالكلمة الطيبة وبالبسمة؛ أخذتهم وجذبتهم بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لرسوله: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] وقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ويقول: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وأمره بوصية فقال له مخاطباً إياه عليه الصلاة والسلام: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] ولذلك أزال صلى الله عليه وسلم غضب الناس وكسب قلوبهم، يأتيه الرجل وهو يشعر بالعداء المرير والحقد الدفين والحسد والبغض النكير؛ فما يلبث إلا ساعة فيقبل عليه صلى الله عليه وسلم بكليته, فيبتسم في وجهه ويلين له في الخطاب، ويرفع له من المقام، ويعطيه قيمته؛ فيكسبه في الدعوة وهذا أسلوبه عليه الصلاة والسلام.
وبالمناسبة أوصي كل طالب علم أن يوزع علمه وينفقه على الناس، فإن العلم إذا لم يزكَّ لم يبارك الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيه، والله لام بني إسرائيل على كتمانهم العلم وعلى بخلهم به فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] فنعوذ بالله من علم لا ينفع، والعلم الذي لا ينفع هو الذي لا ينفع صاحبه ولا ينفع الناس، والعلم كما يقول الأندلسي:
هو العضب المهند ليس ينبو تصيب به مقاتل من أردتا
وكنز لا تخاف عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث كنتا
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا
فبادره وخذ بالجد فيه فإن أعطاكه الله انتفعتا
وإن أوتيت فيه طول باع وقال الناس إنك قد رأستا
فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخ علمت فهل عملتا(159/17)
طلب العلم والقراءة
السؤال
أنا شاب ولي رغبة -ولله الحمد- في طلب العلم, وأريد أن أقرأ لأن القراءة هي إحدى الطرق التي توصل إلى طلب العلم، لكنني حينما أريد أن أقرأ لا أجد العزم والقوة، وسرعان ما يتلاشى هذا الحماس فأرشدني إلى طريقة طيبة؟
الجواب
القراءة والاطلاع وطلب العلم ليس بالأمر السهل، والعبد المؤمن إذا أراد أن يطلب العلم أو يقرأ عليه أن يصابر نفسه, فلن يؤتى خيراً من خير الدنيا أو خير الآخرة إلا بالصبر، ولذلك ذكر الله الصبر في أكثر من تسعين موضعاً، وقضية أن العلم ينال هكذا بلا صبر وبلا مثابرة ولا سهر ولا بحث ولا مدارسة فهذا بعيد، والمال أرخص من العلم، وأهل المال ورجال الأعمال وأهل رءوس الأموال دائماً في جد وفي عمل، وفي سهر وضنك حتى يجمعوا أموالهم, فكيف بالعلم الذي هو أشرف؟! فإذا علمت ذلك فاعلم أن القراءة ينبغي أن تصبر عليها حتى تكون لك عادة، وهي لا تلبث أن تكون كلفة ثم تكون ألفة بإذن الله، تتكلفها في أول الطريق ثم يتألف قلبك على القراءة.
فهذا عبد السلام جد ابن تيمية صاحب المنتقى لأن شيخ الإسلام اسمه أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام يقولون في ترجمته: كان من شغفه على القراءة أنه إذا دخل الخلاء قال لابنه: اقرأ وارفع صوتك حتى أسمع القراءة.
ولذلك ترجم له الذهبي وقال: أما عبد السلام -جد ابن تيمية - فكان قمراً, وكان أبوه نجماً, وكان شيخ الإسلام شمساً {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12].
فالمقصود: عليك أن تتقي الله عز وجل, وأن تستعين به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وتقرأ، وأعداؤنا من الخواجات الأمريكان والإنجليز يلومون العرب ويقولون: أقل الناس قراءة هم العرب، وقرأت في بعض المقالات أن موشي ديان وزير حرب العدو الهالك قالوا له: لقد نشرتم أسراركم في الصحف, حتى الصحف العربية نشرت أسرار الجيش الإسرائيلي, فكيف لم يكتشفه العرب؟ قال: إن العرب قوم لا يقرءون.
يريدون كل شيء بارتياح، ولذلك تجد أن الكتب عندنا مصنفة ومؤلفة وموشحة ومرجحة ومحققة ومنقحة ولا نقرؤها!! مسند الإمام أحمد جمعه في أربعين سنة، مشى في الدنيا وطاف في البلاد الإسلامية في تلك الفترة ودخل مصر والعراق والشام وخراسان واليمن والحجاز ثم جمع أربعين ألف حديث وتركه وقال لأبنائه: عليكم بهذا الكتاب فإنه سوف يكون للأمة إماماً.
وبعد أن طبع وأخرج للناس لا أحد يقرؤه إلا ما رحم ربك.
دائماً نقول: نحن أصابنا الملل وأصابنا السأم, وإن لنفسك عليك حقاً ولعينيك عليك حقاً، وأحاديث الرخص تأتينا إذا أتينا نصلي ونقرأ ونذكر الله عز وجل، تأتينا أحاديث الرخص حتى نترك الخير، فالمقصود علينا بالصبر وأن نحتسب الأجر والمثوبة.
أحد الأمريكان له كتاب دع القلق وابدأ الحياة يقول: الأمريكان يقرءون في الأربعة والعشرين ساعة اثنتي عشرة ساعة.
أمريكي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر, ولا يريد جنة ولا يخاف ناراً, ومع ذلك يقرأ اثنتي عشرة ساعة! خواجة كالكلب! فما بالك أنت أيها المسلم؛ ميراث محمد صلى الله عليه وسلم بين يديك, وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين يديك وأنت لا تقرأ! وهي طريقك إلى الجنة بإذن الله!!(159/18)
تنبيه على بعض المنكرات
السؤال
هنا بعض المنكرات التي انتشرت في المجتمع, كالغناء الماجن بالمكبرات، والرقص الجاهلي الذي يفعل في كثير من الحفلات.
فهل من تنبيه على هذا الأمر؟
الجواب
أولاً: الغناء -كما تعرفون- محرم، وقد أفتى بهذا كثير من أهل العلم، وهو مستند إلى أحاديث من المصطفى صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح من حديث أبي مالك الأشعري يقول عليه الصلاة والسلام: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} واستحلالها يكون بعد التحريم، وعند أبي داود من حديث ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع زمارة راعٍ, فوضع أصبعيه في أذنيه حتى انتهى الصوت، وفعل ذلك ابن عمر.
وعند ابن خزيمة بسند صحيح قوله عليه الصلاة والسلام: {إني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة وصوت عند مصيبة} فهذا محرم وأمره وظاهر.
أما الحفلات والأعراس ففيه تفصيل، فإن اجتمع النساء في مكان لا يخالطهن الرجال، ولا ضيعت فيه الصلوات فلا بأس بضرب الدف، وقد جاء في سنن أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم بسند صحيح: {أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف} فالدف في حد ذاته للنساء لا بأس به في الأعراس، وأما إذا زاد وصاحبه عود أو وتر أو مغنية فاجرة أو مغن فاجر فهذا يحرم، إنما الدف في حد ذاته مباح وحلال للنساء في الأعراس بشروطه التي وردت.
كذلك التصوير للنساء المخدوعات وقد يصل الأمر إلى التصوير بالفيديو، وهذه من المنكرات الطامة التي بدأت تظهر في المجتمع ونسأل الله أن يكفينا شرها، وإذا انتشرت هذه السيئة فقل على الأمة السلام، إذا خرجت صورة المرأة في المجتمع، أو خرجت في الأندية أو تدوولت في المجالس فقد انتهك العرض، وانكسر الشرف على عتبة الهلاك -نسأل الله العافية- وضاع البيت وانهار، وذهبت القيم والأخلاق، وانهارت كل قيم المجتمع، وأصبحت البيوت ملطخة بالعار والدمار والشنار نعوذ بالله من ذلك.
حتى ذكروا أن البلاد العربية التي دخلها الاستعمار ما تمكن فيها إلا يوم أن خرجت صورة المرأة سبحان الله! تصور وأنت العاقل الأريب البار الخير الذي تريد حماية عرضك في الدنيا والآخرة وتريد شرفك في الدنيا والآخرة, فتفاجأ وأنت في مجلس من المجالس وإذا بصورة زوجتك تتناول بين أيدي الرجال الذين لا يريدون الله ولا الدار الآخرة! لأن في الناس فجرة، وفيهم من لا يملك القيم ومن ليس عنده مروءة، ومن يريد أن ينتشر الزنا تماماً في المجتمع، وأن تباع الخمر كما يباع البيبسي في الأسواق! قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] والله أعلم بالسرائر، فتصور أن صورة زوجتك يطاف بها في المجالس, ثم تفاجأ وإذا بها في يدك، أو صورة ابنتك أو صورة أختك؛ تصبح الحياة في عينك مرة مظلمة سوداء منتنة ولا تستطيع العيش.
فالله الله يا من آمن بالله وباليوم الآخر أن تكون كلمتكم واحدة، وأن تقوموا في وجه الذين يريدون الإفساد في الأرض؛ فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى طلب إيقافهم ونهيهم عن المنكر, فإن الشر يعم والخير يخص.
ويا أهل العقول أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأوصيكم أن تقوموا في سبيل الله عز وجل دعاة خير, وأن تتآمروا بالمعروف وتتناهوا عن المنكر؛ ليرضى الله عنكم ظاهراً وباطناً، وليسعدكم في الدنيا والآخرة، وليكون الله معكم أينما كنتم وأينما سرتم، أيدوا كلمة الحق وقوموا مع المحق، ولا ترضوا بالباطل وقوموا في وجهه؛ حينها يرضى الله عنا وعنكم.
نسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم التوفيق والهداية، والسداد والرشد، اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك الغنى في القصد والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك؛ في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(159/19)
محمد إقبال شاعر الإيمان والحب والطموح
إن الشعر سلاح ذو حدين, فمن استخدمه في الخير نفع وكان سلاحاً قوياً مؤثراً, وهو بعكس ذلك في الشر والعياذ بالله! وعلى مدار التاريخ لا تخلو الأمة من شعراء يحيون لها مجدها الماضي, ويذكرونها بمآثر الآباء والأجداد الذين حملوا هذا الدين على الأكتاف ونشروه شرقاً وغرباً, من أولئك الشعراء الشاعر محمد إقبال.(160/1)
مقدمة ترحيبية بالشيخ عائض
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا وحبيبنا نبي البشرية محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، نحييكم بتحية الإسلام, تحية مباركة طيبة من عند الله فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسعد الله مساءكم بالخيرات والمسرات، وحياكم الله جميعاً يوم أجبتم الدعوة في هذه الليلة المباركة، وبالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن إدارة الأنشطة الطلابية بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في أبها:
وفي مقدمة هذه المحاضرة يسعدنا أن نرحب بالشيخ الفاضل المبارك الداعية، الشيخ: عائض القرني في محاضرته التي هي بعنوان: (محمد إقبال شاعر الحب والطموح) فحياه الله وحياكم جميعاً، وبين يدي محاضرته الكريمة نقدم له تحية عاطرة في باقة شعرية لأن الشيخ يحب الشعر، وتهتهز أريحيته لسماع الشعر:
سلام من الأعماق يا شيخ عائض سلاماً يضاهي الغيث بالحب ناهضُ
حللتم سويداء القلوب بفضلكم فلله كم يسمو وكم هو رائض
ومرحى بكم في معقل العلم والهدى وطئتم رياض الود والود نابض
ولله در الشيخ إن قام واعظاً فمن غيض ما يلقيه والبحر فائض
فكم من قلوب هزها بحديثه وكم من دموع سيلتها المواعظ
إذا شئت علماً فالزم البحر زاخراً وإن شئت شعراً فالمُزون العوارض
وإن كنت مشتاقاً إلى ورد منهل تبل الصدى منه فنعم المرابض
فما يعرف الأشواق إلا مكابد ولم يدر طعم النفل إلا الفرائض
سيشهد هذا الجمع بالحق داعياً إلى الله بالحسنى هو الشيخ عائض
والآن أدعو فضيلته ليعطينا ما ييسر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى له، فليتفضل جزاه الله وإياكم خير الجزاء.(160/2)
التعريف بمحمد إقبال
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين, ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين, سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
نعم عنوان هذه المحاضرة: (إقبال شاعر الإيمان والحب والطموح).
وزدت هذه الليلة كلمة الإيمان, ورقم هذه المحاضرة العاشرة بعد المائة، وقبل أن أبدأ أشكر لأهل الفضل فضلهم, وعلى رأسهم هذا الأستاذ الحبيب، والأديب الأريب عبد الله بن محمد بن حميد وقد أخذني على غرة بهذه الأبيات، وما كنت أعلم بها, وأقول له كما قال المتنبي ل سيف الدولة:
أتاني رسولك مستعجلاً فلباه شعري الذي أذخر
ولو كان يوم وغى قاتم للباه سيفي والأشقر
أصرف نفسي كما أشتهي وأملكها والقنا أحمر
فشكر الله له كلماته, وأنا أعرف أنه يحبني ولذلك تغاضى عن نقصي وزاد في مدحي.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
أنا أشهد الله على محبته ومحبتكم فيه، وأسأل الله عز وجل لي ولكم وله الثبات والهداية والسداد، والرشد والتوفيق.
أيها الإخوة: هذه المحاضرة عن شاعر عالمي وليس بإقليمي، ليس على مستوى أبها وليس على مستوى الجزيرة ولا على مستوى العرب، ولا على مستوى المسلمين، إنه شاعر على مستوى القارات الست، يعرفه الناس جميعاً، يعرف محمد إقبال الأمريكان، والأوروبيون، والهنود، واليابانيون، والصينيون، والأتراك، والأفغان، يعرف محمد إقبال العلماء والأدباء والجامعات، تعرفه الفلسفة والأدب، وتعرفه القصة والمسرحية، وأنا لن أبالغ في مدحه هذه الليلة لأنه مشهور عندكم, ولكني سوف أتكلم في ظلال هذه الكلمات الثلاث: الإيمان، الحب، الطموح.
الإيمان بالله تبارك وتعالى رباً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً، والحب ما هو معناه الذي ترجمه محمد إقبال؟ والطموح يعني الهمة العالية التي تحدت حدود الزمن وآفاق التاريخ.(160/3)
نبذة مختصرة عن حياة محمد إقبال
محمد إقبال: هندي الأصل والجنس والمولد، ولد هذا الشاعر العالمي في البنجاب عام (1877م).
وبكلمة مختصرة قبل أن أغوص في شخصيته أقول: لقد أثر في حياته ثلاث مؤثرات:
أولاً: القرآن الكريم: كان محمد إقبال يقرأ القرآن من بعد الفجر إلى طلوع الشمس في كل يوم، ولا يختم المصحف -كما قيل عنه- حتى يبله بالدموع، كان يتأثر تأثراً بالغاً من القرآن لأنه عرف مشارب الجاهلية, قرأ الفلسفة وقرأ العلوم الأخرى وسافر إلى الغرب وذهب وأتى.
ثانياً: إطلاعه الواسع: يقول عنه الدكتور الشرباصي: أظن أنه ما وقع كتاب في يد محمد إقبال إلا التهمه، والرجل ذكي ذكاءً خارقاً إبداعياً رهيباً، فلم يك رجلاً عادياً.
ثالثاً: خروجه إلى العالم: خرج أولاً من بومباي إلى قناة السويس ثم ذهب إلى أوروبا، واستقر في لندن فترة من الفترات، ثم ذهب إلى ألمانيا فحضر رسالة الدكتوراه في الفلسفة، ودرسها هناك في الجامعة, ثم عاد يطوي العالم, ومر بالعالم العربي، وكان يلقى ترحيباً واسعاً من العالم، وكان إذا هبط بلداً سمع الناس بقدومه فخرجوا لاستقباله.
كانت محادثة الركبان تخبرنا عن جعفر بن فلاح أروع الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت أذني بأحسن مما قد رأى بصري
يقول أبو الحسن الندوي في كتابه روائع إقبال صـ20: وجدته شاعراً في الطموح والحب والإيمان، أشهد على نفسي أني كلما قرأت شعره جاش خاطري، وثارت عواطفي، وشعرت بدبيب المعاني والأحاسيس في نفسي، وبحركة للحماسة الإسلامية في عروقي.
وتلك قيمة شعره وأدبه في نظري، وأشهد على ما شهد عليه أبو الحسن الندوي أنه يأتيني أمر عجيب إذا قرأت شعره, وسوف أورد نماذج من شعره في هذه الليلة.(160/4)
أحواله الشخصية
كانت معيشته معيشة متوسطة تميل إلى الفقر، من أبوين متدينين، دخل عليه أبوه وهو يقرأ القرآن بعد الفجر ويلاعب أخته الطفلة الصغيرة، فقال له: يا إقبال! اقرأ القرآن كأنه أنزل عليك.
قال: فأخذت بهذه الوصية فكنت أقرأ القرآن كأنه أنزل عليّ, فيتأثر بذلك.
يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال: كدت أتوافق أنا ومحمد إقبال في المعاني، وربما توافقنا في الألفاظ.
وحياة الرجلين متفقة في مجملها؛ فذاك درس الدراسة الغربية، وهذا كذلك، وذاك يملك طموحاً وهذا كذلك، وذاك يملك عصا الإيمان، وهذا كذلك.
شعراء الضلال سحار فرعون وأنت العصا وأنت الكليم
تزوج ثلاث مرات، المرة الأولى لم يوفق وأنجب من زوجته الأولى طفلتين وولداً، وتزوج الثانية ثم الثالثة.
كان يسكن بيتاً متواضعاً، فقيل له: لماذا تسكن هذا البيت؟ قال: إني أسكن العالم.
وبالفعل كان يسكن العالم، كان يتبرم بالأوضاع التي يعيش فيها، وينظر إلى الهنود وإذا هم يعيشون حياة بعيدة عن الإسلام، وينظر وإذا المسلمون مستخذلون بالاستعمار، فينفر ويقطب جبينه ويحاول أن يثور كالبركان.
كان مريضاً في حياته، والعظماء كثيراً ما يمرضون، فتجد العظماء عندهم خلل في الهيكل الجسمي, قطع الغيار عندهم لا تتوفر، إما الكلى أو الرئة أو العين أو اليد، وهذا أمر معلوم بالاستقراء والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أعلى وأعلم.
عاش في فترات ثلاث:
الفترة الأولى: فترة الشباب:
قضاها في العلم النافع، وهو علم مجمل من علم الشريعة، والرجل ليس مفتياً ولا واعظاً وإنما كان عنده علم مجمل، ويخالفه طلبة علم وعلماء الشريعة في بعض القضايا التي سوف أعرج عليها.
أنا -يا أيها الأخوة! - لا أعرض عليكم الليلة محمد إقبال على أنه مفتٍ، ولا من هيئة كبار العلماء، ولا شارحاً للطحاوية، إنما أعرض عليكم محمد إقبال شاعراً عالمياً، لا نجد مثلاً للشاعر الذي يقدم للإسلام شعراً قوياً أصيلاً إلا محمد إقبال.
وأنا أعرف أن أمامي من الدكاترة والأساتذة والأدباء من قد يخالفني في بعض المسائل ويوافقني في البعض ولكن أقول لهم:
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
الفترة الثانية: فترة الرجولة:
عاش إقبال صارخاً في شعبه يريد أن يوحد دولته، ولذلك هو الذي كان سبباً في إقامة دولة باكستان بعد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأهل باكستان اليوم إذا احتفلوا بعيد محمد إقبال يخرج ثمانون مليوناً في الشوارع، يحملون صور محمد إقبال ويهتفون:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنياً لمن لم يحي ديناً
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قريناً
والشعر شعر إقبال.
الفترة الثالثة: فترة الشيخوخة:
قضاها متأملاً , كان يصعد إلى الجبال ويكتب، ونحن لم نفهم شعره, لكنه مترجم, وربما تكلم بالعربية ببعض القصائد فحرك الأجيال، يقول الباكستانيون: كان يكتب قصيدة في الليل، فتنشر في الصحيفة في اليوم الثاني -كما يذكر الشرباصي وغيره- فيخرج الشعب هائجاً مائجاً في الشارع, وهذا والله الأدب، وهذا والله السحر الحلال، وهذا والله الفيتامين الذي ما ملكه إلا محمد إقبال؛ أن ينظم قصيدة وتنشر في الصحيفة ثم يخرج الملايين يدندنون بفكرته، ولذلك ثاروا على الإنجليز وأقاموا دولة, وسوف أعرض لبعض مقتطفاته.(160/5)
الذين تكلموا عن محمد إقبال
- تكلم عن محمد إقبال، أبو الحسن الندوي , وأبدع أيما إبداع في كتاب روائع إقبال , وأبو الحسن الندوي أديب عملاق، إذا كتب قلمه فالله المستعان، ويقول: أخالفه في بعض القضايا.
وصدق؛ لأن إقبال أراد أن يحول بعض قضايا الإسلام إلى قضايا فلسفية, ونحن لا نوافقه على ذلك، حتى سيد قطب يعترض عليه.
- وكتب عن إقبال نجيب الكيلاني في قصة طويلة أسماها: (إقبال الشاعر الثائر).
إقبال في مسجد قرطبة للدكتور عبد الوهاب عزام.
- فلسفة إقبال , للدكتور علي شعلان الصاوي.
- إقبال وموقفه من الحضارة الغربية: لـ خليل الرحمن عبد الرحمن.
- إقبال العرب: لمجموعة من العلماء.
- وكتب عنه طه حسين مقالة.
- وكتب عنه العقاد مقالة، وذكره في كثير من كتبه.
- وذكره الطنطاوي في مقالات, ونسي نفسه وهو يتحدث عن إقبال.
- وتعرض له سيد قطب كثيراً وأشاد به.
- وكتب عنه مقالة المراغي شيخ الأزهر.
- وكتب عنه كذلك الشرباصي.
ولا أعرف مفكراً إسلامياً إلا تكلم عن محمد إقبال , إما بقصيدة أو بموعظة أو بكلمة أو بمقالة.
وعندي قضايا هذه الليلة أعرضها عن حياة محمد إقبال.(160/6)
شعر محمد إقبال(160/7)
الإيمان في شعر إقبال
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] الإيمان وصله بالله، الإيمان الذي تفتقر إليه الدنيا، الإيمان الذي من وجده وجد كل شيء، ومن فقده فقد كل شيء.
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه
قد مشينا في ضياء الوحي حباً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحدوه خطاه
يقول إقبال في قصيدته الطويلة "شكوى" دمعة أرسلها من عينه وتكلم بها في قصيدة يشكو إلى الله حال العالم الإسلامي، يشكو من المسلمين ويشكو من بعدهم عن دينهم وعن رسالتهم، ويبين لهم أن انتصار الإيمان في الدنيا أمر مجمع عليه, وأن الإنسان لا يصلح إلا بالإيمان وأن الدنيا لا تصلح إلا بالآخرة، وأن المسجد لا يصلح إلا مع المزرعة والمزرعة مع المسجد، هذا هو ما يريد أن يقوله للناس.
ولذلك يخالف السعد الشيرازي والسعد الشيرازي: واعظ أفغاني وشاعر كبير, وقيل: هو عجمي إما من حدود إيران أو نحو ذلك, وكنت أظنه من شمال إيران، ويقول عنه محمد إقبال: وهو عالم وواعظ يريد أن يبقى في طرف المسجد وأنا أريد أن أحرك العالم كله، أريد أن تسلم لندن، وأن تسلم موسكو وبون لله رب العالمين، أما السعد الشيرازي فيريد أن يبقى مع كسر خبزه وملحه يعظ الناس في شيراز، فأنا أختلف معه، والسعد الشيرازي شعره جميل, يقول:
بكت عيني غداة البين دمعاً وأخرى بالبكا بخلت علينا
فعاقبت التي بالدمع ضنت بأن أغمضتها يوم التقينا
وأسعدت التي بالدمع جادت بأن أقررتها بالوصل عينا
ويقول:
ما مر من طيف الهوى بمسمعي لو سمعته الورق ما ناحت معي
يا معشر الخلان قولوا للمعافى لست تدري ما بقلب الموجع
أما إقبال فيقول عن هذا:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينا
تساندها الكواكب فاستقرت ولولا الجاذبية ما بقينا
وفي التوحيد للهمم اتحاد ولن نصل العلا متفرقينا
هذه من قصائده في الإيمان، ويقول عن المؤمن والكافر، يصف الكافر بأنه ضيق ضيق ومتخلف متخلف وحقير حقير في علم الله وفي الأرض والكون، ويأتي بالمؤمن فيجعله عالماً وكوناً، يقول في بيتين:
إنما الكافر تيهان له الآفاق تيه
وأرى المؤمن كوناً تاهت الآفاق فيه
تدبروا واسمعوا السحر الحلال، يقول:
الكافر يتوه في الآفاق، والمؤمن تتوه الآفاق فيه.
ويصف مشاعره وأحاسيسه في قصيدة اسمها: "إلى مدينتك يا رسول الله" وأنا قد ترجمت منها بعض المعاني, وعبد الوهاب عزام ترجم كثيراً منها , وأبو الحسن الندوي آثر أن يترجمها نثراً، فترجمها نثراً لأنه ليس بناظم.
يقول أبو الحسن الندوي:
يا رسول الله! زرتك البارحة في المنام فأتيت إليك أشكو ظلم الهنود، وأشكو ما فعلوا برسالتك، إنهم يا رسول الله! حولوا رسالتك إلى تمائم ومسابح وإلى رقصات، إن رسالتك يا رسول الله! انبعثت من المدينة فأحيتني وأحيت أمثالي, لكن رفض الهنود أن يستجيبوا لك يا رسول الله.
ثم يصف خروج الرسالة من طيبة الطيبة وذهابها إلى العراق ثم إلى الأتراك ثم إلى الهنود، وأنها ترتفع بإذن الله لتغطي الدنيا:
من ثراها قد كتبنا النور في دنيا الوجود وعلى أهدابها صغنا معان من خلود
حكمة الإيمان من طيبة سارت للعراق وهفا الأتراك في دنيا رُؤاها والهنود
وكانت قضيته الكبرى أن يؤمن الناس.
وأرسل رسالة إلى لينين، وكان محمد إقبال مشهوراً على مستوى العالم يعرفه لينين، ويعرفه أذناب الشرق والغرب، يقول:
اتق الله يا لينين! فإنك قصمت ظهر الرأسمالية فأحسنت، فألحق بقصمك لـ الرأسمالية لا إله إلا الله.
لينين هذا ثار على الحق الفردي في الرأسمالية , ولكنه أخرب كل الخراب عليه لعنة الله، كفر بالله، يقول: لا إله والحياة مادة.
يقول: تعال بلا إله إلا الله.
ولكن ذاك رفض.
ودخل على نادر شاه في كابل , ونادر شاه كان ملك أفغانستان آنذاك، وكتب رسالة إلى محمد إقبال يقول: أقدم إلينا أقدم إلينا، فدخل محمد إقبال فخرج الأفغان ألوفاً مؤلفة في الشوارع يستقبلونه، فأخذ -قبل أن يقابل الرئيس أو الملك- نسخة من المصحف وأعطاه وقال: يا نادر شاه! والله لن تعلو بشعب الأفغان حتى تأخذ هذه الوثيقة, إنني أتيت بها من الله.
يعني: أن هذا القرآن من الله.(160/8)
العرب في شعر محمد إقبال
هو يحب العرب ويعتذر ويقول: يا ليتني أجيد اللغة العربية (100%) ولو أجادها (100%) لأبكانا كما أبكى الهنود، ولأبدع لنا في أدبنا وفي ثرواتنا، وجعلنا في أدب رائد جميل نعيشه من محمد إقبال، ولكن لا زلنا -والحمد لله- نتمتع بمقطوعاته الجميلة الإيمانية، نسأل الله أن يغفر له زلَلَه، يقول في قصيدته وهو ينادي الرسول عليه الصلاة والسلام:
إن كان لي نغم الهنود ودلهم لكن ذاك الصوت من عدنان
يقول: أنا أتكلم بالهندي ولا أعرف اللغة العربية, لكني يا رسول الله! أحبك وأموت في حبك وقلبي عربي.
ويقول في مقطوعته:
هضبات نجد في مغانيها المها ومحاور الغزلان ملء تلالها
والمجد مشتاق وأمة أحمد يتهيأ التاريخ لاستقبالها
هكذا انبعاث الأرواح والإيمان والعقائد في أبيات الشعر:
والمجد مشتاق -يشتاق إلى أمة الرسول عليه الصلاة والسلام.
والمجد مشتاق وأمة أحمد يتهيأ التاريخ لاستقبالها
كأن التاريخ نائم، ثم أفاق وما رأى أمة جديرة بأن تقود التاريخ والدهر والزمن إلا أمة الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقف يستقبل هذه الأمة.
ثم يقول:
سبحانك يا رب! خرج من الصحراء أناس كانوا يعبدون اللات ومناة والعزى، ثم أصبحوا يطوفون بالبيت لله، يقول:
وأصبح عابدو الأصنام قدماً حماة البيت والركن اليماني
من هم؟ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
أصبح عكرمة وخالد اللذان كانا يطوفان بمناة واللات يحملان لا إله إلا الله والرسالة الخالدة, ويطوفان بالبيت لله رب العالمين.
ويقول في قصيدة له اسمها: (تاجك مكة):
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسـ ـمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
من هم؟ العرب، العرب المسلمون، لا عروبة القومية ولا البعثية ولا العلمانية، لكنها عروبة لا إله إلا الله، عروبة تجري في دمك بإياك نعبد وإياك نستعين، عروبة أن تتوضأ وتسجد لله خمس مرات في خمس صلوات، عروبة أن تقول: لا إله إلا الله، فتهتز لها وتقدم دمك من أجلها.
يقول:
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولنا الأزهارا
يقول: وكأن السيوف في المعارك تقدم لنا باقات من الزهر عند خالد وسعد وطارق وصلاح الدين، يقول:
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
يقول: ما كنا نأتي بأرواحنا في أجسامنا، كنا نبيعها لله قبل المعركة، والثمن الجنة, إن الله اشترى، وسوف يأتي بها في قصيدة (إن الله اشترى) قال: فكنا نأتي بأرواحنا في أكفنا إليك يا ربنا فنبيعها منك.
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا
ندعو جهاراً لا إله سوى الذي خلق الوجود وقدر الأقدارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهـ ـدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا
يقول: يا رب! أما فتحنا الهند -يعني: أجدادنا فتحوا الهند - أما فتحناها فقدموا لنا الأصنام وقلنا: لا لا نريد الأصنام؟ قالوا: من ذهب اشتروها؟ قلنا: لا فحرقناها وحرقنا الكفار معها، وهدمناها وهدمنا الكفار عليها، أليس نحن المسلمين؟ يقول:
محمود مثل إياز قام كلاهما نكبا العبادة تائباً مستغفراً
العبد والمولى على قدم التقى فارحم بوجهك عبد سوء في الثرى
والمقصود من هذين البيتين محمود بن سبكتكين المسلم، كان عنده ألف ألف من الأبطال فتح بهم ما وراء نهر سيحون وجيحون، ثم قدموا له الأصنام فرفض كما فعل قتيبة بن مسلم وقال: لا والله لا يدعوني الله يوم القيامة ويقول لي: يا مشتري الأصنام، ولكن يدعوني: يا مهدم الأصنام، فكسرها بفأسه، وأحرقها وأتى بالملك فذبحه ثم نكسه على الصنم.
فيقول: محمود مثل إياز، وهو خادم محمود بن سبكتكين , وهو قائد الراية بعده رحم الله الجميع.
محمد إقبال في قصيدة له بعنوان " آه من لهفات إلى الحجاز ":
نغمات مضين لي هل تعودوا أنسيم من الحجاز يعود
آذنت عيشتي بوشك رحيل هل لعلم الأسرار قلب جديد
لماذا يحب الحجاز؟! ألغبار الحجاز؟! ألجبال الحجاز السوداء؟! ألفقر الحجاز؟! لا لأن في الحجاز رجلاً مدفوناً هناك.
لأن في الحجاز نوراً انبعث لأن في الحجاز رسالة خالدة لأن في الحجاز جماجم الأبطال لأن في الحجاز مخرجاً من مخارج التوحيد والتاريخ.
في الحجاز محمد عليه الصلاة والسلام في الحجاز والكعبة والحجر الأسود وزمزم وطيبة في الحجاز آمال المسلمين وطموحهم، فهو يحب الحجاز.
وله قصيدة اسمها " ناقتي في الحجاز " وصف نفسه وهو يبكي ويقول: يا ليتني أعتمر مرة ثانية, ولم تكن متسهلة له, كان يدرس في الجامعة الفلسفة، وشرح ديوان المتنبي , وكان يدور في الليل والنهار ويلقي محاضرات، وفي آخر عمره كان يلقي في اليوم الواحد عشر محاضرات, يريد أن يعيد الأمة إلى الله تعالى بشعره يقول:
يا ناقتي الخطارة وظبيتي المعطارة
حثي الخطا قليلاً منزلنا قريب
هذا من نظم الدكتور/ عبد الوهاب عزام، ولكن ذاك أفضع وأفضع، وذاك أقوى وأقوى, يقول:
يا قلب حسبك لا تفيق صراحة إلا على مصباح نور محمد
يقول: لا يفيق قلبي إلا على مصباح نور الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقول في عالم الإيمان قبل هذا:
بحثت عنك يا رسول الله! في ألمانيا فما وجدتك
هل سافر رسول الله إلى ألمانيا؟ لا إقبال درس في ألمانيا الفلسفة.
قال: وجدت القاطرات والسيارات، والشاحنات والطائرات، والثلاجات والبرادات والبنات وما وجدت من أنزلت عليه الآيات البينات عليه الصلاة والسلام.(160/9)
إقبال يتفجع على المسلمين
إقبال يتفجع على مجد المسلمين، كان شعره قطعاً من نور، وحمماً من براكين، وقذائف من زلزال، كان شعره يترنم به جيش الباكستان في أول ما قامت دولة محمد علي جناح، كان جيشه يصلح في الطوابير الصباحية، وكان ينشد جيشه على مستوى العالم، حتى أن له بعض المقطوعات ترجمت إلى شعر الإنجليز وترجمت بالروسية, وله شعر بالعربي، وشعر بالبشتو وبالفارسي وبالأردو، فهو شاعر على مستوى العالم، وشعراء العالم في هذا العصر كما يقولون خمسة هم:
محمد إقبال، وحالي، والسعد الشيرازي، وطاغور وشكسبير.
ويقول وهو يتفجع على المسلمين وقد زار قرطبة، ووقف أمام الجامع ولم يجد المسلمين, وجد المسجد قد حول إلى حانات من الخمر والعياذ بالله، وجد العاهرات وهن في محراب المسجد؛ فبكى، وجلس عند الباب وأنشد قصيدته الفضفاضة الشهيرة في مسجد قرطبة وهو يقول:
أرى التفكير أدركه خمول ولم تبق العزائم في اشتعال
وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقال
وعند الناس فلسفة وفكر ولكن أين تلقين الغزالي
ثم يقول:
وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال
يقول: تؤذنون ولكن نغمة بلال لا تجيدونها، عندكم أذان ولكن لا تستطيعون أن تؤذنوا مثل بلال.
وجلجة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العبَّاد خالي
وأما قصيدة (إن الله اشترى) فهو يتكلم بها إلى العالم الإسلامي كله, ويخبر بأهل بيعة الرضوان رضوان الله عليهم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111].
وفي مقالة له نثرية يقول:
أتيت إلى العرب فوجدتهم يتقاتلون، وأتيت إلى الأتراك فوجدتهم يصبغون بالبويات أطراف الزجاج.
-أي: أصبحوا نجارين وخشابين وأتيت إلى الهنود وهم يبحثون على الخبز في الأسواق، ولكن ما وجدت من الأصناف من يحمل لا إله إلا الله للعالم، فكل مشغول بخبزه وسيارته ووظيفته، لكن ما وجد محمد إقبال جيلاً يحمل لا إله إلا الله.
يقول:
نحن الذين استيقظت بأذانهم دنيا الخليقة من تهاويل الكرى
حتى هوت صور المعابد سجداً لجلال من خلق الوجود وصورا
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
أين هم؟ من هم؟ إنهم أجدادنا.
أم مَن رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
إنهم المسلمون.
وهي من أبدع ما قال في حياته.
أما قصيدته المشهورة والتي يعرفها غالبكم وهي "شكوى "، فقد بدأها بقوله:
حديث الروح للأرواح يسري وتدركه القلوب بلا عناء
يقول: أنا أتكلم من روح إلى روح ومن قلب إلى قلب، أنا لا أتكلم إلى الآذان، فقد أكثرنا من الندوات والمحاضرات.
هتفت به فطار بلا جناح وشق أنينه صدر السماء
ومعدنه رخاميٌّ ولكن سرت في لفظه لغة السماء
هذا محمد إقبال في شكواه يتفجع على المسلمين، ثم يقف على معالم أسبانيا بعد رحيل المسلمين من هناك، ويرى مساجدهم ويرى القرآن وحلقات العلم قد عطلت، ويرى الفرنجة قد استولوا على معالم الدين هناك فيقول:
قد كان هذا الكون قبل وصولنا شؤماً لظالمه وللمظلوم
لما أطل محمد زكت الربى وافتر في البستان كل هشيم
وصف الكون بروض, ولكن هذا الروض يبس، وصوح نبته، وماتت أعشابه، وذوت أزهاره، وماتت أطياره، وجف معينه، فأطل محمد صلى الله عليه وسلم، فاهتزت الروح وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، لما أتى محمد عليه الصلاة والسلام اهتز الكون:
لما أطل محمد زكت الربى وافتر في البستان كل هشيم(160/10)
محمد إقبال والحضارة الغربية
هذا الرجل عرف الحضارة ودرسها ودرَّس هناك، وقادهم في كثير من القضايا الفكرية وهو يعرفها معرفة تامة, يقول أبو الأعلى المودودي رحمه الله: كنا نعظ الناس ونحذرهم من الحضارة الغربية، فما يستمعون إلينا لأنا ما سافرنا إلى الغرب، فلما أتى محمد إقبال يحذرهم من الحضارة الغربية، أنصتوا إليه واستمعوا واتعظوا بما قال.
مر معنا ماذا قال في ألمانيا عندما رآها ورأى حضارة القصور, وهو المنطق الإيماني، لكن من شبابنا من يسافر إلى هناك ويأتي يمدح لنا أوروبا، ويمدح لنا أمريكا، إنهم يمدحون ناطحات السحاب، والطائرات والسيارات والقاطرات , جلست مع شاب يتحدث عن أمريكا فقال:
رأيت في مدينة دلس عمارة طولها مائة وستة وخمسون دوراً.
وهو مثلج الصدر متعجب، ويقولون: في أمريكا أكثر من ألف مطار، وفي أمريكا شوارع تحت الأرض لا يدري بها الذين فوق الأرض، ثم ترك هذا كله في جانب، وترك جانب الروح والإيمان.
قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:65 - 66].
أما تركوا منهج الله؟ أما قلبوا في الحياة لما انحرفوا عن لا إله إلا الله؟ أما انتحر الكثير منهم؟ أما تفصمت عرى الأسر عندهم؟ أما فشا الربا؟ وأصبحت المرأة سلعة رخيصة في المنتديات والمسرحيات؟ أما أصبح الشعب هائجاً مائجاً فارغاً؟ أما أصبحت الآلة عندهم أغلى من الإنسان؟ أما أصبح الإنسان عندهم من العجلة يأكل وهو واقف كالآلة؟ أما أصبح عندهم العبد مبرمجاً يذهب ويأتي؟ أما أصبح الرخيص عندهم يعمل ولكن عليه الجنابة سنة كاملة لا يغتسل؟ أما أصبح الإنسان يبول واقفاً كالكلب أمام الملايين من الناس في الشارع؟ أما أصبح الكلب مقدساً معظماً؟
احتج على كلب ضرب في دنفر ورفعوا فيه مذكرة، بينما شعب فلسطين والأفغان يسحقون بالألوف وما احتُج لذلك، بل التي تحتج ضد القرار دائماً هي أمريكا، هي صاحبة النقض نقض الله أساسها، وهي صاحبة الفيتو فتت الله رشدها دون هذا الشعب؛ لكن للكلب عندهم مقدراً, رأينا والله عجوزاً في أكلاهوما إذا أصبحت الصباح تغسل كلبها بالشامبو والصابون والماء الدافئ وكان الجو بارداً، ثم تركبه في السيارة بجانبها في الميمنة وهي تقود، وتطيبه وتعطره وتركب الميدالية في نحره، نحرها الله، أهذه هي الحضارة؟!! أمنتهى الحضارة أن يبقى الإنسان على هذا المستوى؟! محمد إقبال نثرها وخرج من ألمانيا , وأتى إلى المسلمين وأعلن أن الحضارة محتاجة إلى إيمان المؤمنين وصلاة المصلين وصدق الصادقين، يقول للمسلم:
أنت كنز الدر والياقوت في لجة الدنيا وإن لم يعرفوك
محفل الأجيال محتاج إلى صوتك العالي وإن لم يسمعوك
يقول: ليس في العالم إلا أنت، ولا يضرك هذا الضجيج والإعلام والفلسفة، لأن أذناب العلمنة الذين ولدوا في لوس أنجلوس ودرسوا في ديفرسايد، ولا يعرفون القرآن ولا زمزم ولا توضئوا بالماء، طلسموا عقول الناس وجعلوا الدين خرافة ورجعية, فيقول محمد إقبال:
أنت كنز الدر والياقوت في لجة الدنيا وإن لم يعرفوك
يقول: أنت في لحافك، وأنت في طرف المسجد، أشرف من ألف من أمثال ريجن وكارتر وفورد، ثم يقول:
محفل الأجيال محتاج إلى صوتك العالي وإن لم يسمعوك
يقول: لكنك لم تتكلم ولم تهدِ الشعوب.
ويقول: كريسي مريسون الأمريكي كما ينقل عنه:
يا مسلمون! قدمنا لكم الثلاجة والسيارة، والغسالة والطائرة ولكن ما قدمتم لنا الإيمان.
يقول محمد إقبال تكلم, اخرج, عظ الناس.
وحضارتهم يسميها حضارة القشور والتبعية ويقول:
دخلت ألمانيا فأظلم قلبي، وانطفأت معالم الروح في نفسي، ونسيت حلاوة القرآن التي كنت أجدها في البنجاب، لماذا؟ يقول:
لأن الفتاة العاهرة تجلس بجانبي على كرسي الدراسة، وكأس الخمر على ماستي، يعني: زميله يجعله على ماسة محمد إقبال، وإلا فـ محمد إقبال مؤمن، فلذلك أتى وهو ثائر كالمصدوع، متفجر الرأس, وينذر الناس من هذه الحضارة ويقول: أيقظوا العالم, أيقظوا الناس، وجهوهم إلى الله رب العالمين.(160/11)
محمد إقبال ومواقف خاصة
محمد إقبال له قصيدة عنوانها (فاطمة الزهراء) يعني بنت الرسول عليه الصلاة والسلام, وعناوين قصائده دائماً رائعة بديعة، يقول:
هي بنت من؟ -يسأل الناس وهو يعرف أنها بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن يضخمها، وإبهام السؤال للتعظيم والتهويل، مثل قوله تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 2] وقال تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1 - 2].
هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟ ثلاثة أمور, بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وزوجها علي وهي أم الحسن والحسين.
هي بنت من؟ هي زوج من؟ هي أم من؟ من ذا يساوي في الأنام علاها
أما أبوها فهو أشرف مرسل جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي زوج لا تسل عنه فما أزكى شمائله وما أنداها
إيوانه كوخ وكنز ثرائه سيف غدا بيمينه تياها
هذه فاطمة الزهراء قدمها للناس في تعريف بسيط، أما أبوها فهو أكرم الناس، وجبريل رباها بالتوحيد, وعلي زوج لا تسأل عنه إلخ.(160/12)
فاروق مصر ومحمد إقبال
مر محمد إقبال في سفينة تبحر به يريد أوروبا، فتوقف بحفظ الله ورعايته في قناة السويس، وبينما هو في قناة السويس كتب رسالة من القناة إلى فاروق مصر؛ لأنه كان حاكماً آنذاك في مصر , وبقي حاكماً حتى انقلب عليه الثوريون بقيادة محمد نجيب وجمال عبد الناصر، وقد كتب إليه محمد إقبال رسالة صارخة؛ لأن المصريين اشتكوا إلى محمد إقبال وقالوا: هذا ظالم، اسمه فاروق لكنه يختلف عن الفاروق عمر (بألـ) التعريفية.
هذا فاروق يشبع حماره من أموال المسلمين والأطفال يموتون الشارع، والفاروق المعرف (بألـ) جائع دائماً ليشبع أطفال المسلمين.
فاروق هذا أدخل الإنجليز إلى مصر، واستخذى لهم عند الأحذية , والفاروق ذاك صاحب (ألـ) اهتز منه كسرى وقيصر وهما في عروش الظلم حتى زلزلهم زلزله تامة {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45] قالوا: اكتب له رسالة، لأن فاروق يعرف من هو محمد إقبال، فكتب إليه:
(بسم الله الرحمن الرحيم: من إقبال إلى فاروق مصر، يا فاروق مصر! إنك لن تكون كـ الفاروق عمر حتى تحمل درة عمر، والسلام)
هذا من أقصر الكتب في التاريخ، يقولون: من أقصر الكتب في التاريخ كتاب خالد بن الوليد لما أصبح في اليرموك واشتعلت عليه المعركة واصطدم بالأعداء، نظر فإذا المسلمون ثلاثون ألفاً، والروم مائتان وثمانون ألفاً، فقال: الله المستعان! علي برسالة, والتجأ إلى الله وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، لكن لا بد من أخذ الأسباب, وأخرج القلم وأخذ رقعة وكتب إلى قائد القبائل العربية وشيخها عياض بن غنم:
(بسم الله الرحمن الرحيم: من خالد إلى عياض , إياك أريد والسلام)
فذهبت الرسالة إلى عياض، فقال: ما يريدني أنا وحدي, إن الكتاب خطير، فجمع كتائب العرب وحشدهم وبعد ثلاثة أيام إذا هم بجيوش كالجبال، والمقصود هذه رسالته.(160/13)
محمد إقبال والشيرازي
أما السعد الشيرازي عند محمد إقبال فله موقف معه, يقول: أنا لا أحب أن يبقى الواعظ في المسجد، أنا أحب الإنسان أن يكون عالمياً يغير مجرى التاريخ، أنت تصلي لنفسك، وتسبح لنفسك، وتصوم لنفسك، لكنك تغير العالم لله رب العالمين، وتكون مؤثراً في هذا العالَم.
الشيرازي كان يؤمن ببعض القضايا الصوفية، ووحدة الحب عنده مزاجية، ولذلك يقول في قصيدته المشهورة, وهي مكتوبة على هيئة الأمم المتحدة في نيويورك، يسمونها وحدة الشعوب, يقول فيها:
قال لي المحبوب لما زرته من بباببي قلت بالباب أنا
قال لي أخطأت تعريف الهوى حينما فرقت فيه بيننا
ومضى عام فلما جئته أطرق الباب عليه موهناً
قال لي من أنت قلت انظر فما ثَمَ إلا أنت بالباب هنا
قال لي أحسنت تعريف الهوى وعرفت الحب فادخل يا أنا
وهذا من أحسن ما قيل في الشعر، وهي قصيدة جميلة ولكن محمد إقبال يقول: لا لا بد يا شيرازي أن تخرج بعصاك وببردتك لتغير العالم، وقد أتى إلى مشايخ الأزهر فخطب وألقى فيهم كلمة، فقال: لا يكفي أن تبقوا في مصر، أنتم لـ مصر ولكل الأمصار، لستم أنتم هنا على الكراسي تفتون للناس، بل أنتم للدنيا كلها.(160/14)
إقبال يذم الديمقراطية
يقول في (بيام مشرق) وهو كتاب له مترجم إلى العربية, يقول في صـ135:
(كن تلميذاً لرجل صالح خبير، واهرب من نظام ديمقراطي, فإن مخ مائتي حمار لا تنتج مخ إنسان واحد) يقول: النظام الديمقراطي أنا أخالفه، وقد غروا الناس بالنظام الديمقراطي، والإسلام أعظم شورى في الأرض، لكن النظام الديمقراطي فيه ثلاث سلبيات:
أولها: أنه يجعل لك حرية حتى فيما بينك وبين الله، يقول: ليس لأحد عليك ملكية ولا عبودية حتى الله، يريدون أن يوصلونك إلى أن تتفسخ من كل شيء، تشرب الخمر تتهتك تزني تفعل ما تشاء، ليس بينك وبين أحد علاقة, ولا تخف من أحد حتى من الله، وهذا كفر وإلحاد, وهو المفعول والمعمول به الآن في أمريكا.
ثانيها: الديمقراطي يأتي بالإنسان الرخيص بكثرة الأصوات فيصبح رئيساً.
ريجن كان ممثلاً في ديفرسايز في كاليفورنيا وكارتر كان يزرع الفول في جورجيا، ولكن صعد بكثرة الأصوات.
يقول محمد إقبال: هذا ليس بصحيح، نحن لسنا بالكثرة، إن مخ مائتي حمار لا تصنع لك مخ إنسان، والإسلام يرفض هذه الهمجية والحشد الهائل من الأصوات، الإسلام عنده أهل الحل والعقد، كما فعل عمر رضي الله عنه والخلفاء الراشدون، أن يجتمع علماء الناس وخيارهم، فيختارون رجلاً واحداً من أحزمهم رأياً وأحسنهم, أما أن تجعل التصويت سارياً، الفوال والخباز والكناس والمغني والمعربد وشارب الخمر له صوت، فيختارون من شاءوا، إذاً من الممكن أن يسقط ذاك الشريف ويرفع هذا الدنيء.
ثالثها: أنها ديمقراطية موهومة في نظره، يقول: أنا عشتها، (وقد كان محامياً) قال: وجدتهم يلعبون على الناس، ليس بصحيح ما يدّعون,، في الظاهر ديمقراطية , لكني بحثت عن حقي كهندي مسلم فلم يعطوني حقي؛ لأنني لست إنجليزياً ولا أمريكياً، وهذا موجود.
ولو عشت أنت عربياً في أمريكا ثم تشاجرت مع يهودي، لنصروا اليهودي عليك، ولو أنهم يزعمون أنهم أهل الحرية، وأهل الديمقراطية.
(كن تلميذاً لرجل صالح خبير) سلم قيادك لرجل عادل كـ عمر، اختير بالشورى لا بكثرة الأصوات من المائجين الضائعين، كثرة الأصوات جعلت بنازير بوتو تصعد على ثمانين مليون مسلم، علماء وأدباء باكستان، وشعب باكستان تستولي عليهم مراهقة معربدة، لا تملك من الإيمان ذرة، رافضية شيوعية يسارية وكل شر فيها لأنها بالأصوات, لكن لو كان هناك مجلس شورى, والعلماء يختارون الرجل السديد الحصيف العاقل، لما وقع هذا.
فهو ينادي بترك الكذب على الناس: (كن تلميذاً لرجل صالح خبير, واهرب من نظام ديمقراطي، فإن مخ مائتي حمار لا تنتج مخ إنسان واحد) يصبح إنساناً لكن ليس عنده مخ.
ويقول في كتاب (ضرب الكليم) صـ149: (الديمقراطية نظام للحكم تعد فيه الرءوس ولكن لا توزن) يعني رأس خبل, ورأس مجنون، ورأس مصدع، ورأس مثلج، ورأس بليد , ولكنهم لم يزنوا هذه الرءوس، ونحن نحتاج في الإسلام لوزن الرءوس لنختار، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9] وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] يقول الشاعر العربي، وهو يساوي برجل آخر حقير:
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني(160/15)
إقبال يذم حضارة الغرب
يقول محمد إقبال في (بال جبريل) في صـ108: لقد حان قرب نهاية العالم القديم الذي حوله المقامرون الغربيون إلى نادٍ للقمار.
يقول: العالم هذا أصبح عالماً للقمار، عالماً للأغنية، وللتهتك, وللمرأة، ولإشباع الغرائز، ليس فيهم إنسان يدعو للفضيلة إلا قليل، وليس لهم أصوات تسمع، وقد رأيت كتاباً أمريكيين يدعون إلى الفضيلة -صراحة- لكن ليس على أساس الإيمان، يدعون إلى حفظ العرض, ويدعون إلى الشرف، وإلى حفظ الوقت، أسماؤهم معروفة، لكنهم إذا اهتدوا إلى الإيمان كان هذا هو الأصل، وكان هذا هو الموجه، ولكن لله حكمة.
ويقول: (إن العلم إذا كان منحرفاً عن الفطرة السليمة ومزيفاً في أصله، فهو عندنا أعظم حجاب وأعظم حرمان، العلمانية، اللادينية علم ولكن بلا دين، يقول تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ} [الروم:56] دين وإيمان، علم وإيمان، يقول أهل العلمنة: ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ويقولون: صل في المسجد ولا تجرح شعور الآخرين.
أي: لا تأمر ولا تنهى، كن شيطاناً أخرس، يقولون: لا بأس على الإنسان إذا فرغ من عمله أن يصلي العيد والجمعة وليكون حبيباً عند هؤلاء المتطرفين، أي: يجاملهم حتى يكون حبيباً عند الناس الملتزمين, يعايدهم ويستسقي معهم، لكن الصلوات الخمس يضرب بها عرض الحائط.
فـ محمد إقبال يقول: (إن العلم إذا كان منحرفاً عن الفطرة السليمة ومزيفاً في أصله فهو عندنا أكبر حجاب وأعظم حرمان ونعوذ بالله من الحرمان:
إذا ما لم يزدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا
وإن ألقاك فهمك في مغاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
إذاً ما هو العلم؟ العلم أن تتصل بالله، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ} [الروم:56] وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً} [الأنعام:122] أي: بالجهل {فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] أي: بالعلم {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] بالبصيرة {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] وقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] فهو ينادي إلى أن العلم بلا إيمان وبلا صلاة وبلا خير؛ إنما هو كفر بالله, ويعترض على مصطفى كمال أتاتورك , في رسالة ذكرها خليل الرحمن عبد الرحمن في كتابه: (إقبال وموقفه من الحضارة الغربية) يقول: كنت أؤمل فيك يا مصطفى كمال أتاتورك! أن تكون مجدداً, ولكنك أتيت مهداداً ومخرباً.
ولعن الله أتاتورك فهو الرجل الصنم كما سماه فلاسفة ومسلمو الأتراك، رجل أتى إلى تركيا وهي متدينة، الخلافة كانت في تركيا من بني العثمان، فأتى إليهم وحجب الناس عن المسجد، وأتى إلى امرأة مفتعلة فأنزلها في الميدان وشق حجابها أمام الجماهير فصفق له الناس، وبتر اللغة العربية ومزق المصحف أمام الناس, وكفر بالله رب العالمين، فتعثرت تركيا وأصيبت بضربة على الدماغ، وضربت في كيانها وفي عرضها وفي إيمانها، وأصبح هذا الرجل مجرماً على عباد الله إلى يوم الدين، وأصبح صنماً يعبد من دون الله، وصفق له العلمانيون في العالم العربي, وعلى رأسهم المجرم المتهالك المعتوه بورقيبة، وقد أصبح الآن لا يدري أين يمينه من شماله، وقد أدخل العلمنة مع سوهارتو، في إندونيسيا، وحسيبهم الله عز وجل, وقد انتشرت بأذيالها وأفراخها وسمومها، وحقرائها الذين ينشرونها في الجامعات وفي كل مكان، ولكن عسى الله أن يصدهم بجيل من أمثالكم، وبموكب كريم منكم، يا متوضئون ويا متطهرون! ويا أبطال الدعوة وحفاظ الرسالة!
قوم أبوهم سنان حين تندبهم طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
لو كان يُقعد فوق الشمس من كرم قوم بآبائهم أو مجدهم قعدوا
محسَّدون على ما كان من نعم لا ينزع الله منهم ماله حسدوا(160/16)
خاتمة عن شعر محمد إقبال
إقبال يحتاج إلى محاضرات كثيرة، وأنا أهتز لشعره وأتأثر به، وكما قال أبو الحسن الندوي: يجيش الخاطر وتهتز العواطف، ويلهب الشعور بشيء لا ندري ما هو بسبب قراءة كلمات شعره، فما بالك بشعره إذا كان بلغته هو؟! إنه السحر الحلال، وإنه الوجدان والبركان والزلزال.
وأنا أعرف أن الرجل لم يتمكن من قراءة تفاصيل الشريعة في السنة المطهرة، وإن له بعض العثرات، ولكن عسى الله أن يجبر عثرته، بإجمال إيمانه وبغيرته على الدين، وبأنه قاوم الفلاسفة والمستشرقين الغربيين, وراسل زعماء العالم, ووقف في الجامعات منذراً ومحذراً, وفند الحضارة الغربية أمام الناس، وجمع العلماء وتكلم فيهم كثيراً، وأسس جيلاً يحملون شعره ونبوغه ورسالته, فهو شاعر الإيمان والحب والطموح، وكان يخرج من مدينته الصغيرة في البنجاب في الصباح بعد أن يقرأ ورده من القرآن.
وهذه -أيها الأخوة- عادة جميلة تركناها, والأفغان الآن والباكستانيون والهنود المسلمون يحفظونها دائماً، وهي أنهم دائماً يقرءون القرآن من بعد الفجر إلى طلوع الشمس، هذا برنامجهم اليومي دائماً، مع أنهم في بقية الأوقات يشتغلون بأمور، لكن من بعد الفجر يقرءون القرآن.
كان محمد إقبال يخرج بعد طلوع الشمس إلى الزهرات في كثبان البنجاب وفي حقولها , ويناجي الزهرة ويكتب قصيدة, ويأتي إلى السفح ويكتب قصيده، وإلى النهر ويكتب قصيدة، وإلى الشجرة ويكتب قصيدة، ولكنه يربطها برباط لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم:25 - 26] كلمات الفجور في الشعر، كلمات الغناء الفاحش، كلمات الكفر والإلحاد {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:26 - 27].
أيها الإخوة! لا أريد أن أطيل, وربما يكون هناك مداخلات, وهنا أسئلة كثيرة, والآن أترك المجال للدكتور صالح بن عون الغامدي الشاعر والأديب, أن يشارك في هذه الليلة, عل الله أن ينفعنا بما نسمع من هذه المحاضرة، فليتفضل جزاه الله خيراً.(160/17)
كلمة للدكتور صالح بن عون الغامدي
بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أيها الأخوة الأفاضل! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
شكراً لشيخنا الفاضل/ عائض القرني على هذه المحاضرة التي حلق بنا فيها مع شاعر إسلامي رائع؛ لم يكن شاعر الهند ولا شاعر العرب، إنما كان شاعر الإسلام وكفى، لا أريد أن أقول الشاعر العالمي، لكن شاعر الإسلام وهذا يزيده فخراً.
لا شك أن لشاعرنا الإسلامي هفوات وتركيز على الجانب الفلسفي، ولكن شيخنا الفاضل الأستاذ/ عائض، قال: إن حسناته فاقت على سيئاته، وهذا عذر له.
إن تجربة الشاعر الإسلامي في البلاد الأوروبية ربما كان لها جانبان:
الجانب الأول: هو جانب الإبداع والمناجاة التي أبدع فيها عندما تناول الجانب الإيماني، وقارنه بالحياة الفاشلة أو الحياة السيئة والتفكك الأسري في أوروبا، لكن أيضاً هناك جوانب أثرت عليه، وهو الجانب الآخر وهي عملية الفلسفة التي درسها في أوروبا، وكلنا يدرك هذا الشيء, لأن الأوروبيين يركزون دائماً على محاولة إفساد العقل المسلم وإشباعه بالخرافات والمعتقدات السيئة, ومع ذلك لم ينزلق شاعرنا الإسلامي فيها.
شكراً لكم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(160/18)
الأسئلة(160/19)
كتاب جامع لشعر محمد إقبال
السؤال
يا حبذا تدلنا على كتاب جامع لشعر محمد إقبال؟ وإذا لم يكن هناك كتاب جامع فيا حبذا لو تجمعون ما تعرفونه عن هذا الشاعر الإسلامي وتخرجونه في رسالة أو في كتاب يطبع؟
الجواب
قد ذكرت في أول المحاضرة جملة من المراجع ما يقارب ثمانية أو تسعة، ولكن لا أعلم أن هناك ديواناً جمع شعره كله، هناك (ضرب الكليم) و (الأسرار والرموز) وهو للدكتور/ عبد الوهاب عزام، شعر محمد إقبال , وله قصيدتان جميلتان اسمها: (شكوى، وجواب شكوى) أما ما اقترح الأخ فلعل الله أن يهيء من طلبة العلم والأدباء من يقوم بهذا المشروع، ولو أن شعر الرجل أصبح مشهوراً متداولاً, خاصة بين الأدباء وطلبة العلم والمثقفين.(160/20)
كتاب يتكلم عن حياة محمد إقبال
السؤال
هل هناك كتاب يتكلم عن حياة إقبال، وإذا لم يكن هناك فلماذا لا تكتبون عنه؟
الجواب
هناك كتابان في متداول اليد، وسأدلكم عليهما وهما سهلان وطيبان:
1 - (إقبال الشاعر الثائر لـ) نجيب الكيلاني.
2 - (روائع إقبال) لـ أبي الحسن الندوي.(160/21)
ترجمة قصائد محمد إقبال
السؤال
أريد أن أفهم كيف تترجم قصائد إقبال، هل لغته التي نطق بها موافقة للغة العربية بحيث يترجم أحدهم الألفاظ فقط, أم لا بد أن يكون شاعراً، أفيدونا حفظكم الله؟
الجواب
يقولون: إن أقرب لغة إلى اللغة العربية هي اللغة الفارسية، فهي قريبة جداً, والرجل في لغته كان يؤثر في قومه، ولذلك عندهم الآن شعر إقبال عجيب جداً، وقد رأينا في إسلام آباد وفي بيشاور شوارع إقبال، ومحلات وجامعات ومدارس باسمه, وقد أثر في حياتهم كثيراً , وتجدهم مغرمين بشعره ويتهافتون عليه، وتجد العوام يرددون شعره، فهو مثل المتنبي عندنا، الآن راعي الغنم عندنا إذا مر عليه حادث يقول:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
فأصبح إقبال عندهم كـ المتنبي عندنا، ولكن الشعر كما قلت لكم باللغة الفارسية وهي قريبة من اللغة العربية.
مثلاً: كنا في حفل تخريج الدفعة الخامسة مع المجاهدين، وكان الشيخ سياف ومحمد مولوي نبي موجودين وجماعة من المجاهدين، فقاموا ينشدون وقالوا:
نامني نظام غَرْبِيا نامني نظام شرقيا
مصطفى مجتبى نظام حبيبيا
فقلت في نفسي يمكن أنهم يقولون:
نرفض النظام الغربي ونرفض النظام الشرقي، ونريد نظامك يا رسول الله! يا مصطفى ويا مجتبى ويا حبيب! فسألت الشيخ الأفغاني فقال: نعم.
هذا هو المراد.
فيأتي عبد الوهاب عزام، ويضع المؤشرات والبويات والرتوش حتى تصبح قصيدة , وعبد الوهاب يدل على أنه ذكي وشاعر إجادته في الترجمة, وقد قالوا: إقبال له قصائد قالها بالعربية، ولكن لغته العربية ليست بذاك, ولو كانت قوية لفجر ينابيع التأثير فينا.(160/22)
الاحتفال بمولد محمد إقبال بدعة
السؤال
ذكرتم أن الباكستانيين يحتفلون بذكرى ميلاد محمد إقبال، ولم توضحوا مدى بدعية ذلك الأمر، أرجو التوضيح؟
الجواب
نعم أحسنت هذا أمر مبتدع كما تريد أن تقول؛ لأن {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} ولكن بدعهم كثيرة بسبب قلة الدعاة الصادقين المخلصين الذين يعرضون الدعوة الصحيحة عليهم.
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
فلعل الله أن يصلح الحال، وإلا فبدعهم كثيرة، مثلاً: محمد علي مناج يسمونه جنة وإلا هو محمد علي جناح، هو في الدرجة الثانية بعد إقبال، وصوره حتى في مكاتب الخطوط وفي البقالات وفي كل مكان، مع العلم أن هذا مهلوس، ولو أنه وطني عندهم لكنه لا يصلح.
فهم دائماً كلما أتت ذكرى يومه خرجوا في الشوارع يصيحون ويضربون، وهذه كلها مخالفة لأمر الله عز وجل.(160/23)
ديوان محمد إقبال
السؤال
هل لـ محمد إقبال ديوان مطبوع، إن كان كذلك فدلنا عليه؟
الجواب
مثل ما سلف في الكتب التي ذكرت فيها قصائد ومقطوعات، ولكن حسبك من شعره خمس أو ست قصائد, حتى يشعل في ذهنك معنى الأدب، وحتى تشعر أن هناك أدباً إيمانياً ليس أدب البطاطس والخيار والجرجير، فنحن عندنا أدب لكن أكثره أدب بطاطس وخيار وجرجير، أدب خلطة وأسمنت , أدب درجات حرارة وصيدليات مناوبة، ومن هذا القبيل؛ ولذلك فإن الجرائد ممتلئة بهذا وترمى في المزبلة في آخر النهار، رأيت ما يقارب أربعة وعشرين قصيدة نشرت في أسبوع في الصحف اليومية، وحاولت أن أجد بيتاً جميلاً، أو أحفظ شيئاً جميلاً، فما وجدت شيئاً جميلاً, وجعلناه في سلة المهملات، وأطلعكم على قليل من هذا الأدب:
انظر الفجر زاهي بالوفا قد تجلى مثل وجه المصلي عقب فرض الصلاة
جدهم عمرو والفاروق وابن المعلا ناصر الدين يوم الكفر طاغ وعاتي
وبعض الناس يقول: لا تعارض الأدب النبطي.
صحيح ربما يصلح للنبط وللعوام, ولكن لمثلكم وأنتم مثقفون وطلبة علم، وفضلاء، أيصبح معيننا أن نسمع للبدو في كل صحيفة ونحفظ أشعارهم؟ أو أدب حداثي ممجوج لغة, ولفظاً، وإيماناً، ومعنى، وكل شيء، مثل قولهم:
للنملة ثدي سال ثدي النملة باللبن
أنا ذبابة الليمون أطير من شجرة إلى شجرة
نمت على سفح الفيل، طار بي الفيل في وديان الحب عاوزين إيه!(160/24)
من هو عبد الوهاب عزام؟
السؤال
ألا يعد عبد الوهاب عزام له أكبر الفضل بعد الله في نشر شعر محمد إقبال؟ فمن هو عبد الوهاب عزام؟
الجواب
بلى.
عبد الوهاب عزام دكتور فاضل وداعية كبير, وكلامي هذا مثل ترجمة بعض الطلاب عندما نسألهم في الامتحان عن الصحابة رضوان الله علهم: من هو أبو هريرة؟ قال: أبو هريرة صحابي جليل, عاش مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وحفظ كثيراً من الأحاديث رضي الله عنه وأرضاه.
وأنا أعتذر لأني لا أعرف الحياة التفصيلية لـ عبد الوهاب عزام، أعرف أنه فاضل وأديب.
مثلما قال محمد الراشد.(160/25)
استشكال حول عنوان المحاضرة
السؤال
باعتبار أني قد قرأت عنوان المحاضرة أن محمد إقبال شاعر الحب والطموح، هل من الأفضل والأحرى أن يكون غير هذا العنوان مثل: محمد إقبال شاعر الصحوة الإسلامية, أو رائد الصحوة الإسلامية في الشعر؛ لأن كلمة "حب" قد يفهمها الناظر إليها من أول وهلة فهماً مقلوباً, أو لا يعرف البطل الذي أقيمت له المحاضرة؟
الجواب
لا خلاف في المسميات إذا اتفقنا نحن على المقاصد, إن قلت أنا: إقبال أو محمد إقبال، وإن قلت: محمد إقبال شاعر الإسلام أو شاعر الصحوة أو شاعر الحب والطموح، أو شاعر الإيمان.
خذا جنب هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق
فلا خلاف بينها, لكني وضعت كلمة الحب؛ لأن بعض الناس من الشباب يظن أن الحب فقط للمغنين والمغنيات، ولكن نحن عندنا حب أعلى وأسمى، يقول الطنطاوي: نحن أهل الحب، نحن الذين صنعوا الحب وأذكوه في قلوب الرجال، نحن الذين نشروا الحب من على المنائر خمس مرات في كل يوم، نحن الذين عرفوا الحب وعرفوا الناس الحب، الحب الذي يقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة:18] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] فالحب إيماني وهو كالصلاة وهو عقيدة أهل السنة الجماعة {من أحب لله وأبغض لله , وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان} أما حب مجنون ليلى، وحب صلاح عبد الصبور، وحب أودنيس، وحب بدر شاكر السياب وغيرهم, فهذا ليس من الحب في شيء, هذا حب حرام، يقول مجنون ليلى:
أتوب إليك يا رحمن مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوب
وأما من هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوب
وقد ذكرت من أشعارهم في محاضرة (الأدب الذي نريده).(160/26)
محمد إقبال والفلسفة
السؤال
ذكرت أن محمد إقبال تعلم الفلسفة ودرسها في الجامعة، وهل هناك دخل دخول للفلسفة في الدين , التي تسعى بعض التأويلات أن تضيع على البعض الركن السادس من أركان الإيمان ألا وهو القدر، ما تعليقك رعاك الله؟
الجواب
أصلاً كل الفلسفة لا يقبلها المسلمون، ومحمد إقبال مضطر للمجتمع الذي ذهب إليه، ذهب إلى بون يريد أن يدرس، تريد أن يدرسوه كتاب الفقه من (زاد المستقنع) وإلا صحيح البخاري وإلا تفسير ابن كثير وأقرب علم للإسلام الفلسفة، فيريد هو أن يدخل إلى حضارتهم ويعرف علومهم وثقافتهم وتربيتهم وعلم النفس من طريق الفلسفة، فدرسها وعرفها، وليس معنى ذلك أن الإنسان إذا درس الشيء اعتقده أو آمن به؟ لكن العلم بالشيء خير من الجهل به:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه
والفلاسفة متهوكون، يقول الشهرستاني وهو من تلاميذهم وأساتذتهم:
لعمري لقد طفت المعالم كلها وسرحت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم
فيقول له أحد الناظمين:
لعلك يا أستاذ ما زرت أحمداً رسول الهدى المبعوث من خير هاشم
فوالله لو قد زرته الدهر مرة لما كنت نهباً للصقور القشاعم
نحن نخالف الفلاسفة في المعتقدات، وفي كثير من مسائل والأصول، فالمعنى أنك تقرأ الشر لتجتنبه.(160/27)
مقتطفات من شعر الشيخ عائض
السؤال
هل قلت شعراً في هذا الوقت العصيب الذي تمر به الأمة الإسلامية؟
الجواب
هناك قصائد , منها قصيدة "بين الأمس واليوم" وآخر قصيدة هي لقادة المجاهدين الأفغان, قلت في بعضها:
الحق أبلج والسيوف عواري فحذار من صولات حكمتيار
بطل إذا عزف الرصاص تمايلت أطرافه بالعسكر الجرار
ومنها:
حيوا الجهاد فذكره يشجيني وأخص حكمتيار قلب الدين
ليس قَلب الدين ولكن قُلب الدين وهو رائحة الورد.
أسد براثنه شباب محمد قاد الكتائب وهو في العشرين
آماله ضرب الجماجم في الردى سماه مادحه صلاح الدين
شكراً لأستاذ المكارم والنهى سياف رمز القائد المأمون
ومعلم الأجيال في ساح الردى الشيخ يونس صاحب السبعين
لا تنس رباني فإن حديثه كالشهد أو كالتوت في تشرين
أو كالتفاح في أكتوبر.
وصلى الله وسلم على محمد, والحمد لله رب العالمين.(160/28)
قض نهارك مع ابن المبارك
عبد الله بن المبارك قلده أقرانه من العلماء في أفعاله فعجزوا، وقلده الأغنياء في كرمه وجوده وسخائه فلم يفلحوا!! فهو السخي الجواد، وقبل ذلك العالم العامل، العابد الشجاع المجاهد، زاحم الصحابة في العمل فلم يسبقوه إلا بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم.(161/1)
ابن المبارك نسبه وصفاته
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصبحه وسلم تسليماً كثيراً.
إخوة الإيمان، حملة المبادئ، رواد التوحيد! عنوان هذا الدرس: قض نهارك مع ابن المبارك، وهذا عنوان كتاب للذهبي -الإمام العلامة، مؤرخ الإسلام- كتبه عن الإمام ابن المبارك، ولكنه لم يخرج إلى الناس، ولا زال مخطوطاً ومفقوداً، فآثرت أن أختار هذا العنوان لنصاحب هذه الليلة ماجداً من أمجاد محمد عليه الصلاة والسلام، وشيخاً عظيماً من مشايخ الإسلام، وأستاذاً جليلاً عبقرياً، وسوف تجدون المكرمات في شخصيته، ثم أجرد هذه الليلة العاطفة وأجعلها بعيدة من هذا الدرس، ولكننا نأتي بنقولات عنه، ليكون هذا الدرس إن شاء الله مفيداً للمسلمين، وإني أعتبر الدرس من أحسن ما يكون وليس الفضل لي، بل الفضل لله، لكن الشباب خاصة بحاجة إلى أئمة يعيشون معهم ويقتدون بأخلاقهم وصفاتهم وسلوكهم.(161/2)
نسب ابن المبارك
ابن المبارك هو: عبد الله بن المبارك المروزي الإمام المحدث أمير المؤمنين، قالوا عنه: الزاهد العابد، الفقيه المجاهد، ثم قالوا عنه: شيخ الإسلام.
النسب والبطاقة الشخصية: نسبه يتصل "بإياك نعبد وإياك نستعين"، أما أبوه فمولى من الموالي، والليلة ترجمة ابن المبارك تكسر التمييز العنصري لأننا نخجل من أنفسنا أن يوجد في أوساطنا تمييز عنصري، أقول هذا وكلنا خَجَلٌ، فإن في بعض النواحي لا زال التميز العنصري وارداً، ولا زال التميز الطبقي حاصلاً، فمن أين أخذناه؟ أمن الكتاب والله يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]؟
أم من السنة والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أحمر إلا بالتقوى} أو كما قال عليه الصلاة والسلام؟
وإنما أخذت هذه من الجاهلية، أخذت من الأرض، أخذت من السفهاء، حتى وجدت في بلاد الإسلام.
ابن المبارك أبوه مبارك مولى من الموالي، دخل بلاد الإسلام واعتنق هذا الدين وشرف به.
والرسول عليه الصلاة والسلام كانت أعظم المؤهلات عنده من يحمل لا إله إلا الله محمداً رسول الله بصدق.
ومن يتشرف بحمل العقيدة فهو ولي الله وحبيبه، بلال من أساتذة الإسلام، وصهيب وعمار وسلمان وأنسابهم ليسوا من العرب القح، فأين أبو جهل؟ وأين الوليد بن المغيرة؟ وأين حاتم الطائي؟ وأين عنترة بن شداد؟ لا شيء قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].(161/3)
والد ابن المبارك
كان مبارك والد صاحبنا هذه الليلة، والد عبد الله حارساً على بستان، يحرس الرمان والتفاح والليمون أن يعتدي عليه سراق أو لصوص بأجرة بسيطة، فكان يبدأ من الصباح في عمله، وكان يتخلل عمله بركعات يركعها في البستان، ولا يفتر لسانه من ذكر الله عز وجل، فإذا استلم راتبه من سيده تصدق بثلث الراتب، وأنفق عليه وعلى أهله ثلثه وخزن ثلثه، لما سوف يعرض له.
دخل سيده ومعه ضيف يزور البستان، قال: يا مبارك! ائتنا برمان، فأتى برمان حامض، ووضعه بين يديه، قال: هذا حامض، ائتنا بغيره، فأتى برمان حامض، قال: أنت لا تفهم ولا تعي؟ هذا حامض، قال: والله لا أعرف الحامض من الحلو، قال: أما ذقته وأنت في البستان من كذا وكذا سنة؟ قال مبارك: أنت لم تأذن لي أن أذوق ما في البستان.
أي ورع هذا! أي صفاء عقدي! أي عبادة! أي مراقبة لله! فأنجب هذا المبارك -وهو مبارك على اسمه- عبد الله بن المبارك، وترعرع شاباً فصيحاً ذكياً، لكن يقال: إذا واجهته عرفت أنه ليس بعربي، تعرف أنه مروزي وعجمي من شكله.
كان فصيحاً ينظم الشعر البليغ، وهو من أكبر الشعراء، وسوف تسمعون هذه الليلة أبياته التي تهز أنياط القلوب وهو يحرك بها الأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها.
عاش رحمه الله فتتلمذ على كتب الحديث، ثم بدأ مسيرته فغطى جوانب الكمال، حتى قال بعض الفضلاء: لو قيل لي: اختر رجلاً بعد الصحابة اجتمعت فيه الفضائل، لاخترت عبد الله بن المبارك، وكان بعض تلاميذه يقول: تعالوا نجلس ونعدد فضائل ابن المبارك، فيعدودن قالوا:
كان يقوم الليل، ويصوم النهار، ويتصدق، ويجاهد، ويدعو إلى الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ثم هو شاعر، وأديب ولغوي، وهو مع ذلك فقيه محدث.
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
وهذه هي صفات يتقلدها عباد الله الصالحون يوم يشربون هذا الدين كالماء الزلال، اسمحوا لي أن نبدأ وهذا للذهبي، لكنه فقد كتابه قضِّ نهارك مع ابن المبارك، يقول: ابن المبارك إمام شيخ الإسلام، عالم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته أبو عبد الرحمن الحنظلي مولاهم التركي، ثم المروزي الحافظ الغازي، أحد الأعلام.(161/4)
حياة ابن المبارك وسيرته
مولده سنة 118 وبينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام أو بين الهجرة ما يقارب 118 سنة فقط، هو قريب كاد أن يدرك الصحابة ولما يدركهم ابتعد ولكن قلبه اقترب، وسوف يحشر معهم إن شاء الله.
حديثه حجة بالإجماع، روى عنه البخاري ومسلم، وتجاوز القنطرة وهو محدث جهبذ صادق لا يعرف الكذب أبداً، ينقي الأحاديث تنقية كما ينقي الصيرفي البهرج من الذهب.
أتوا بكذاب إلى هارون الرشيد وضع أربعة آلاف حديث هي كذب على محمد عليه الصلاة والسلام، فقال هارون الرشيد: والله لأذبحنك الآن، قال: اذبحني أو لا تذبحني والله لقد وضعت عليكم أربعة آلاف حديث، قال: ما علي! يعيش لها الجهابذة عبد الله بن المبارك وأبو إسحاق المروزي، ثم استدعى عبد الله بن المبارك وذاك فنقوها في ثلاثة أيام وأخرجوا أربعة آلاف حديث.
قالوا: هذه كلها كذب.
وهو مؤلف أيضاً، له كتاب: الزهد مطبوع في مجلد، كانوا إذا قربوا منه كتاب الزهد يقرأ عليهم في الجامع الكبير كأنه بقرة منحورة من البكاء، لا يستطيع أن يقرأ كما قال الذهبي.
كان يعيش في خراسان، وهو يعيش في خراسان، وإذا أراد أن يخرج لحج أو عمرة أو جهاد خرج أهل خراسان، رجالهم ونساؤهم وأطفالهم يودعونه، لأن أمواله كانت تطوف على فقرائهم وعلى مساكينهم، وكان ينفق الطعام على كل بيوت خراسان، فكانوا يبكون ويقولون الأبيات المشهورة التي صنفها شاعرهم حيث يقول:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها نجمها وهلالها
إذا ذكر الأحبار في كل بلدة فهم أنجم فيها وأنت هلالها
وكان إذا صلى العصر دخل غرفته وأغلق عليه الباب، وأخذ القرآن فقرأ قليلاً، وكتب الحديث فعاش مع محمد عليه الصلاة والسلام فيقول له تلاميذه، أو بعض الفارغين -بعض الناس فارغ في الحياة، لا يستطيع أن يجلس وحده ساعة، يستوحش، حتى تجده إذا وجد فراغاً في حياته ذهب إلى جاره أو زار فلاناً أو علاناً، أو جلس على الرصيف يعد السيارات الذاهبة والآيبة، أو تجده يجلس عند الدكاكين، أو القماشين، أو البزازين ويقول: يا فلان! نريد أن نقطع اليوم تعال نتحدث- قالوا له: ألا تستوحش؟ قال: [[كيف أستوحش وأنا مع الرسول عليه الصلاة والسلام ومع أصحابه؟!]] فالذي يجلس مع محمد عليه الصلاة والسلام لا يستوحش، والجلوس معه عليه الصلاة والسلام يكون بالجلوس مع سنته، مع تعاليمه التي هي مودعة في الكتب.
الإمام أحمد شكى إليه أحد تلاميذه، قال: أخاف الوحشة إذا سافرت، قال: خذ لك كتباً تقرأها في السفر، فإذا أغلقت عليك بابك وعندك كتاب فلا تستوحش، حتى قال الجاحظ: الكتاب هو الأنيس الذي لا يؤذيك، والرفيق الذي لا يملُّك متى احتجت إليه فتحته، ومتى استغنيت عنه أغلقته، لا يفشي عنك سراً، ولا يطيل الجلوس، ولا يملُّك أو كما قال، فهذا هو الكتاب، حتى يقول المتنبي:
أعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب
وهي من قصيدته المشهورة التي يقول في آخرها:
ليعلم قوم خالفوني وشرقوا وغربت أني قد ظفرت وخابوا
إلى أن يقول:
وما أنا بالباغي على الحب رشوة أطيف هوى يبغي عليه ثواب
أعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب
دخل الخليفة الرقة ودخل ابن المبارك في وقت واحد وفي ساعة واحدة، وكانت المدينة متهيئة لاستقبال الخليفة الذي يتحدى السحاب في السماء أن يمطر على الأرض وهارون الرشيد شاور بل فاوض ملوك الأرض وقاتل نقفور كلب الروم وفرض عليه الجزية، وأدخل الذلة بلاده، وبلغت هيبته إلى فرنسا.
دخل الرقة واستعد الناس لاستقباله، لكن فوجئ الناس بدخول ابن المبارك على بغلة ومعه تلاميذه، فترك أهل الرقة جميعهم الرشيد وانصرفوا إلى ابن المبارك حتى تقطعت النعال من الزحام، وبقي هارون الرشيد في ملأ قليل من الناس معه حرسه ووزراؤه، فقالت المرأة وهي في القصر: -امرأة هارون - من هذا؟ قالوا: عالم خراسان عبد الله بن المبارك، قالت: هذا والله الملك لا ملك هارون الذي يجمع الناس بالسياط والسيوف، هذا يجمعهم بالحب، يجمعهم بالولاية، يجمعهم بالرسالة، يجمعهم بإياك نعبد وإياك نستعين.
يأبى السؤال فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعز سلطان التقى فهو المطاع وليس ذا سلطان(161/5)
جود ابن المبارك رحمه الله
كان ابن المبارك إذا أراد أن يحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيجمعون نفقاتهم جميعاً، هذا عنده مائة درهم، وهذا مائتا درهم، وهذا ثلاثمائة درهم، فيأخذها في صرة ويكتب اسم صاحبها على الصرة، ثم يضعها في غرفة، فيظن الحاج أنه يحج بنفقته، فإذا حج بهم أطعمهم وسقاهم وكساهم وتنقل بهم، فإذا انتهوا من الحج ذهب بهم إلى المدينة، فإذا زاروا المسجد وسلموا على الرسول عليه الصلاة والسلام سأل كل واحدٍ عن حاجته، لأنه كان غنياً من أغنياء العالم الإسلامي في عهده، والإسلام لا يعترف بالدروشة، أن تضيع المال وتقول: الزهد الزهد؛ كلنا فانون رائحون! لا.
بل يعترف أن تكون غنياً تخاف الله، تملك المال وتصرفه في مصارفه.
كان عنده مئات الألوف من الدراهم، حتى لامه العلماء، مثل سفيان الثوري وإسماعيل بن علية والفضيل بن عياض لاشتغاله بالتجارة، فقال: [[والله لولاكم ما اشتغلت بالتجارة]] لأنه ينفق عليهم كل سنة.
ولذلك كان يعطي سفيان الثوري عشرة آلاف درهم كل سنة، ويعطي الفضيل مثله، نفقاتهم كلها من عند ابن المبارك.
المقصود: فلما انتهوا من الزيارة قال: أحد منكم يريد هدية لأهله؟ فيشتري لهم، ثم يرتحل فإذا وصل إلى خراسان، دعا أهل خراسان في وليمة عامة مع الحجاج ومع ذويهم وأهاليهم وضيفهم، ثم دعا الحجاج ورد لكل نفقته مكتوب اسم صاحب النفقة عليها، قالوا: كيف؟ وأين نفقتنا في الحج؟ قال: أما سمعتم في الحديث أنه يبارك للحاج في نفقته؟ فقد بارك الله لكم في نفقتكم.
حج مرة فوصل إلى الكوفة، يقولون: كان إذا ارتحل كأن موكبه موكب ملك، حتى يقولون: إنه يأخذ الدجاج المشوي على اثني عشر جملاً، وكان يطعم الناس الفالوذج، وهي أكلة طرية لو رأيتموها لسال لعاب الواحد منكم، فكيف لو أكلها، قالوا لـ أبي يوسف القاضي: الفالوذج والبالوذج أحسن؟ قال: لا يحكم على غائبين -وهو قاضي الدنيا- لا بد أن أراهما في صحنين ثم أحكم، فقدموهما في صحنين، فأكل من هذا لقمة وأكل من ذاك لقمة، فقال: كلما أدلى هذا بشهادة أدلى هذا بشهادة، حتى صفى الصحنين ثم قال: كلهم سواء في الميزان.
فـ ابن المبارك كان يطعم الناس الفالوذج، وكان يسرد الصيام سرداً، وكان يدور ويغرف من القدور المرق للناس في الصحون.
لما حج ووصل إلى الكوفة، وهو في طريقه يخترق من خراسان يريد مكة، فمر بـ الكوفة فوجد أهل الكوفة في سنة مجدبة، في قحط لا يعلمه إلا الله، بلغ بهم الجوع إلى أن خرجت جارية من بيت إلى مزبلة -قمامة- فأخذت غراباً ميتاً وذهبت به إلى البيت فقال لغلامه: بالله اذهب واسألها لماذا أخذت الغراب؟ فسألها فقالت: والله مالنا من طعام منذ ثلاث ليال إلا ما يلقى في هذه المزبلة، فلما أخبروا ابن المبارك، بكى وجعل يده على وجهه وقال: الله المستعان! نحن نأكل الفالوذج وهم يأكلون الغربان الميتة، قسموا هذه القافلة على أهل الكوفة وعودوا لا حج لنا هذه السنة، فقسموا على أهل الكوفة كل ما على القافلة من البر والزبيب والمأكولات والمطعومات، ورجع بدون حج من الطريق، فلما وصل إلى خراسان ونام أول ليلة.
رأى قائلاً في المنام يقول: حج مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور -فعسى الله أن يتقبل منا ومنه الحج، فإن هذا من أعظم المقاصد التي قد تكون أعظم من الحج؛ لأن بعض الناس يتنفل بحج وجاره جائع بجانبه، وجاره فقير ولا يجد أكلة، فهذا من فقه ابن المبارك وعلمه، وهذا من سعة إدراك ابن المبارك - ونريد أن نكرر من تلاميذ الإسلام من مثل ابن المبارك.(161/6)
أقوال العلماء في ابن المبارك
يقول عبد الرحمن بن مهدي: "ما رأت عيناي مثل أربعة، ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري - ولا أشد تقشفاً من شعبة، ولا أعقل من مالك , ولا أنصح للأمة من ابن المبارك " كان يحب الأمة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام.
حب المسلمين يجري في دمه، حتى يؤثر عنه أنه قال: [[ياليت أن الله يجعلني فداء لأمة محمد]] وكان يقول لتلاميذه إذا أراد أن يرسل أحداً منهم في السفر:
إذا صاحبت قوماً أهل ود فكن لهم كذي الرحم الشفيق
ولا تأخذ بزلة كل قومٍ فتبقى في الزمان بلا رفيق
يقول: حاول أن تصاحب الناس، لكن احذر دائماً أن تبحث عن أخطائهم وتعلق على نواقصهم، فإن العبد فيه نقص، وتجد بعض الناس يطلب الكمال من غيره وهو ليس بكامل، ويطلب أن يخلص الناس أنفسهم من العيوب وهو كله عيوب، مثل ما يقول ابن تيمية: "بعض الناس كالذباب لا يقع إلا على الجرح" فتجده دائماً نقاداً، لا يستطيع أن يعيش مع أحد ولا يستطيع أن يصاحب أحداً، ولا يستطع أن يسافر مع أحد، ثم يوصي كذلك ببيتين آخرين وهما منهج تربوي لمن أراد أن يتعلم أدب السفر وأدب الصحبة مع الناس يقول:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا عفاف وحياء وكرم
قوله للشيء لا إن قلت لا وإذا قلت نعم قال نعم
يقول: إذا صاحبت إنساناً فابحث لك عن إنسان سمح في طاعة الله عز وجل، ليس سمحاً في معصية الله، لا تصاحب رجلاً شكوساً عبوساً، بعض الناس مفطور على المخالفة، كما يقول الشريف الرضي:
مشغوفة بخلافي لو أقول لها يوم الغدير لقالت ليلة الغار
فيقول ابن المبارك: حاول أن تقول: نعم، إذا قال صاحبك: نعم، وإذا قال صاحبك: لا، فقل: لا، إلا في المعصية، هذه من مدرسته.
يقول سفيان الثوري وهو عالم الدنيا: "إني لأشتهي عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك فما أقدر أن أكون مثله ثلاثة أيام".
كان ابن المبارك يجاهد نفسه حتى يجلس اليوم الطويل لا يتحدث إلا بطاعة، وكان يقول: [[إن عليكم ملائكة يكتبون ما تتكلمون به]] فكان يحصي كلامه؛ ماذا يقول، وكيف ينطق؛ لأنه يخاف الله.
قال ابن عيينة: "نظرت في أمر الصحابة وأمر عبد الله بن المبارك فما رأيت لهم عليه فضلاً إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم وغزوهم معه عليه الصلاة والسلام".
وقال سويد بن سعيد: "رأيت ابن المبارك بـ مكة فلما طاف وأتى زمزم -والناس ينظرون إليه- أخذ شربة بيده ثم استقبل القبلة وقال: [[اللهم إن ابن أبي الموالي -هذا راوي، يعرض السند على الله، لأنه يتعامل بالسند- حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن نبيك عليه الصلاة والسلام أنه قال: {ماء زمزم لما شرب له} اللهم إني أشرب هذا لظمأ ذاك اليوم]].
يقول ابن عباس: [[إن سألت الله أن يشفيك به شافاك، أو يرزقك علماً غزيراً رزقك، أو مالاً رزقك الله مالاً، وماء زمزم لما شرب له]] وهذا حديث صحيح، ابن المبارك لم يطلب علماً لأنه عالم، ولا مالاً ولا رزقاً بل قال: [[اللهم إني أشربه لظمأ ذاك اليوم]] وظمأ ذاك اليوم معروف، نسأل الله أن يروينا من حوض الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن الناس يكونون عطشى ويشتد بهم العطش والكرب.
ودنت الشمس من الرءوس وكثر الكرب على النفوس
واستشفع الناس بأهل العزم في راحة العباد من ذي الموقف
وليس فيهم من رسول نالها حتى يقول المصطفى أنا لها
أما بعضهم فيضمأ فيشرب ثم يروى، ومن شرب من حوض محمد صلى الله عليه وسلم شربة فلن يظمأ بعدها أبداً، وبعضهم يبقى ظامئاً صادياً ويدخل النار وهو ظامئ، نعوذ بالله من ذلك.
قال نعيم بن حماد: [[كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق يصير كأنه ثور منحور أو بقرة منحورة من البكاء، لايجترئ أحد منا أن يسأله عن شيء إلا دفعه، كان إذا أقبل عليه سائل يرده في صدره]] يبكي لا يستطيع يتكلم وقالوا: كان إذا ذكر الموت مات كل عضو منه على جهة.
أتاه تلاميذه مرة يودعونه يريدون السفر فبكى وقال:
وخفف وجدي أن فرقة واحد فراق حياة لا فراق ممات
يقول: الذي يخفف علي الحزن أنكم سوف تأتون، تغيبون وتحضرون لكن المشكلة والمصيبة من غاب ثم لم يحضر.
لكل إنسان غيبة، إلا من مات فإن غيبته لا يعود بعدها إلا في العرصات.
يقول أحد الناس وهو يودع بعض أحبابه:
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
والتهامي الشاعر الأديب كان عنده ابن مات في الخامسة عشرة من عمره، فمن شدة ولهه به وأسفه عليه وحزنه؛ دفنه في جرين البيت -في الحوش- قالوا: لماذا؟ قال: لكي لا يبتعد عني، فكان إذا أظلم الليل قام عنده وقال: يا فلان أقريب فتناجيني أم بعيد فتناديني فلم يجبه فألقى قصيدة يقول:
يا كوكباً ما كان أقصر عمره وكذا تكون كواكب الأسحار
جاورتُ أعدائي وجاورَ ربه شتان بين جواره وجواري
طول الحياة إذا مضى كقصيرها والعسر للإنسان كالإيسار
في قصيدة طويلة مبكية، يقول: أنت جار لله، لست بجار لي، فهنيئاً لك بجوار الله.
قال أبو حاتم الرازي وهو يروي حديثاً عن ابن المبارك عن أحد أهل العلم قال: كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو؛ فلما التقى الصفان خرج من العدو رجل فدعا إلى البراز -المبارزة- فخرج إليه رجل مسلم فقتله يعني الرومي قتل المسلم- ثم خرج رجل آخر فقتله الرومي، ثم خرج رجل مسلم فقتله الرومي الكافر، ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله، قال: فلما فتك هذا الرجل الرومي بالناس خرج ابن المبارك ملثماً -وكان بطلاً قوياً شجاعاً- فتبارز هو والرومي، فذبحه ابن المبارك، ثم قتل في تلك المعركة سبعة، ودخل خيمته فقال قائد المعركة: التمسوا لي من هذا؟ -وكان قد خمر وجهه حتى لا يعرف في المعركة- فذهبوا فوجدوه ابن المبارك، قالوا: القائد يريدك ليعرفك قال: [[لكن الله يعرفني]] إذا عرفني الله انتهى الأمر.
وما مصلحة أن يعرفه القائد؟ وما مصلحة الدعايات إذا برزوا في سبيل الله؟ إذا عرفه الله فكفى.
لما فتح المسلمون قندهار؟ قتل كثير من الصحابة هناك فقال عمر: [[من قتل في قندهار قالوا: قتل فلان وفلان وفلان، قال: ومن؟ قالوا أناس لا نعرفهم، فبكى عمر وقال: لكن والذي نفسي بيده، إن الذي خلقهم ليعرفهم]] فالله عز وجل يعرف الصادق من الكاذب، وهو أعرف سبحانه بأعمال عباده من غيره.(161/7)
ورع ابن المبارك رحمه الله ورجاحة عقله
يقول ابن المبارك استعرت قلماً بأرض الشام، فذهب عليّ أن أرده، فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه.
دمشق في سوريا ومرو في جهة شرق إيران أو شمال إيران، استعار قلماً من رجل دمشقي يكتب به، فكتب به ووضعه في جيبه ونسي أن يرده وركب بغلته وسافر ما يقارب خمسة عشر أو عشرين يوماً، فلما دخل مرو نظر فإذا القلم في جيبه، قلم لا يساوي درهماً، لكنه ركب البغلة ورجع ووصل إلى الدمشقي وقال: هذا قلمك، فانظروا هذا الورع العظيم.
وبعض الناس جهاراً نهاراً يتلاعب بالأموال، ويحاول أن يحتال بكل وسيلة ليخدع عباد الله، من أجل أن يحصل على شيء من المال، فانظر إلى هذا، أين هذا الورع؟ قلم واحد لا يساوي درهماً، الناس الآن لا يسألون عن هذا، ولا يسأل أحدهم عن هذه الأمور البسيطة، حتى لو حدثتهم أنت عن هذا لضحكوا عليك؛ لأن بعض الناس أصبح يأكل من الحرام كالجبال.
الآن مثلاً: كثير من التجار أموالهم رباً، يأكلون ويشربون ويلبسون من الربا، ويطعمون أطفالهم من الربا، سيارتهم وفللهم رباً ويأتيك ويسأل: هل يقص الشارب أو يحلق؟ ويقول: الضحى أربع ركعات أم ركعتان!
يقول عليه الصلاة والسلام عن صاحب الربا وهو يدعو الله: {يارب يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام، فأنى يستجاب له!} الله يحرم الربا، ويعلن الحرب والقتال لمن يأكل الربا، وهؤلاء يصلون ويصومون ويحجون ويعتمرون وهم أغنياء ولكن كله رباً، أنا أوقف هؤلاء أمام قلم ابن المبارك.
قال: كان ابن المبارك إماماً يقتدى به، كان من أثبت الناس في السنة، إذا رأيت رجلاً يغمز ابن المبارك، فاتهمه على الإسلام، أي: اعرف أن في إسلام هذا الذي يغمز ابن المبارك شيئاً؛ لأن هذا إمام نصر الله به الدنيا، وقالوا: كنا نعد خصال ابن المبارك، وكان فيه العلم والفقه، والأدب والنحو واللغة، والزهد والفصاحة والشعر، وقيام الليل والعبادة والحج، والغزو والشجاعة، والفروسية والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه.(161/8)
من أقواله وأفعاله رحمه الله
يقول حبيب الجلاب: سألت ابن المبارك [[ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: غريزة عقل]] أن يكون عنده عقل-[[]] أي: إذا سلب الله بعض العقول، فكان عقله (50%) أو (20%) [[]] يقول: الذي ليس عنده عقل فالأحسن أن يكون عنده أدب أي: لا يتكلم؛ لأن بعض الناس سكوته أحسن من كلامه، وبعض الناس يعجبك حتى يتكلم، فإذا تكلم سقط، فالأحسن في مثل هذا أن يصمت.
كان أبو حنيفة جالساً فقدم عليه رجل عليه شارة وأبهة، وجمال ووسامة وعمامة، وكان أبو حنيفة ماداً رجله، فضم رجله وتهيأ لاستقبال الرجل، واستقبله وأجلسه بجانبه، وهابه واستحى منه، فسكت الرجل فكان أبو حنيفة يستحي منه ويتكلم معه بوقار، ثم بدأ الرجل يسأل ويتكلم -أنطقه الله الذي أنطق كل شيء- قال: يا إمام! متى يفطر الصائم؟ قال: أبو حنيفة إذا غربت الشمس، قال: فإذا لم تغرب إلا نصف الليل؟ -حلها الآن! سمعتم عن شمس لا تغرب إلا نصف الليل، فلماذا يأتي الليل إذاً؟! سبب مجيء الليل غروب الشمس- قال: فإذا لم تغرب الشمس إلا نصف الليل؟ فمدد أبو حنيفة رجليه الإثنتين وقال: [[آن لـ أبي حنيفة أن يمد رجليه]].
[[]] بعض الناس يوفق ببعض الإخوة يستشيرهم في كل قضية، وهذا من أحسن ما يكون لكن قل الناصح الآن، بعض الناس إذا استشرته في مشروع أشار عليك بعدمه حتى يستبقك إليه، إذا استشرته أن تتزوج زوجة قال: لا أرضاها لك، وإذا به قد تزوجها، وبعضهم تستشيره في سفر قال: والله أرى أنك لا تسافر، وهو يخاف أنك تحصل على هذا.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {الدين النصيحة} وقليل من ينصح، قليل من الناس من ينصح، حتى إنه أصبح كثير من الناس متهم في النصيحة، فيقول: [[]] وينبغي للمسلم أن يبحث عن رجاله من أهل العلم والعقل ومن أهل الزهد والتقوى ليستشيرهم في قضاياه العامة والخاصة؛ مثل الأمور الزوجية وأمور الطلاق والعشرة، حتى هذه لا بأس بالاستشارة فيها، فقد كان الصحابة يستشير بعضهم بعضاً، وكانوا يعرضون على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض القرارات الخطيرة في حياتك تندم عليها عشر سنوات وأكثر بسبب موقف طارئ، أو عاطفة، أو عجلة، فمن الأحسن أن تعرض مشكلتك وتحلها على بصيرة بينك وبينه، ولا تستشر من هب ودب، فإن بعض الناس يشير عليك دائماً بما يخالف الصواب لقلة علمه، أو قلة عقله، أو تسرعه، أو هواه.
[[]] أي: ما وجد أخاً يستشيره، [[]] فالموت أحسن شيء لمثل هذا، قال ابن المبارك -واسمع المنهج في التجريح والتعديل، منهج تصنيف الرجال والحكم على الناس- قال: إذا غلبت محاسن الرجل على مساويه فلا تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن فلا تذكر المحاسن، أي: إنسان (60%) صالح، أسقط (40%) فلا تذكرها يكفي أنه تجاوز النصف.
ولذلك إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث.
بعض الناس تستطيع أن تعدد سيئاته وتقول: فيه كذا وكذا، لكن بعضهم لا تستطيع أن تعدها لا في العبادة ولا في الأخلاق ولا في السلوك ولا في الصدق، ولا في الأمانة ولا في التعامل، ولا في المأكل ولا في المشرب، فنسأل الله أن يحفظنا وإياكم، وهذا المنهج الذي يقوله ابن المبارك هو منهج القرآن، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى في سورة الأحقاف: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
هل علمت معصوماً بعد الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ما من فاضل ولا عالم ولا زاهد ولا شريف ولا وضيع من المسلمين إلا وله سيئات وحسنات، لكن إذا زاد حسنه فهو الحسن، وإذا زادت مساوئه فهو السيء، هذا ما يقرره لك ابن المبارك في هذا المنهج، فحاول أن تتذكره دائماً في الحكم على الأشخاص وعلى الهيئات.
وقيل لـ ابن المبارك: إذا أنت صليت، لم لا تجلس معنا؟ قال: [[أجلس مع الصحابة ومع التابعين أنظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع بكم؟ أنتم تغتابون الناس]].
كان يفر من المجالس العامة، وإذا حضر مجلساً اندفع في الحديث يحدثهم قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام.
قال: ويقول رحمه الله: [[أول شيء من منفعة العلم أن يفيد بعضهم بعضاً]] أي: أنك تستفيد وتفيد، المجالس العلمية، الندوات والمحاضرات أن ينصح الناس بعضهم لبعض، وهم أفضل الناس، وجاء أن ابن المبارك [[سئل: من أحسن الناس؟ قال: العلماء، قال: فمن الملوك؟ قال: الزهاد، قيل: من الغوغاء؟ قال: خزيمة وأصحابه]] خزيمة رجل مبتدع وشرير، والغوغاء هؤلاء الذين ليس لهم عمل إلا تتبع الشائعات والحوادث وسد السيل وإطفاء الحريق، ويستبشرون بالحوادث.
الآن الحوادث المرورية إذا وقع حادث تجد الغوغاء ثلاثمائة في دقيقتين تجدهم واقفين وتجد أحدهم يبقى عند الحادث أو عند الحريق، ويبقى عند الزحام في السير وعند الطوارئ التي تحدث والشائعات ساعات طوال، يقول أهل العلم: رأى عمر رضي الله عنه وأرضاه رجلاً جُلِدَ من المسلمين، وإذا هو يمشى به إلى بيت عمر رضي الله عنه وإذا الناس وراءه كثير، الغوغاء الذين يسمعون بالمجلودين والحوادث، أي: كل الذي وقع في السوق يخبرك به، لأنه لا يقرأ ولا يسبح ولا يشتغل بنفسه، فقط معه الحوادث، فأخذ عمر حفنة من التراب وحثا بها على وجوههم قال: [[شاهت هذه الوجوه التي لا تُرى إلا في الشر]] يعني: لو دعوتهم في الخير لا يأتون، مثل المحاضرات والدورس العلمية واللقاءات التربوية والعبادات والجمع والجماعات.
[[قيل: فمن السفلة؟ قال: الذي يعيشون بدينهم]] الذي يعيش بدينه، هذا يسمى سافل أي: أنه يتظاهر بالدين ليعيش به، تجده يتقرب إلى الناس ليعيش بدينه، ويتقرب إلى الظلمة ليعيش بدينه، فيفتي ويتكلم ويمدح وينافق ويجامل.(161/9)
قوله في أثر النية على العمل
وقال رحمه الله: [[ربَّ عمل قليل تكثره النية وربَّ عمل كثير تقلله النية]] هذا {إنما الأعمال بالنيات} ربما تعمل عملاً قليلاً لكن بنيتك وإخلاصك وصدقك يكبر هذا العمل، فمثلاً من يتصدق بعشرة ريالات، لكنه لا يجد إلا هي وفي قلبه من الحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وحب نصرة الإسلام وأن ينفع الله عز وجل بهذا الدين فيأجره الله كالجبال.
وبعضهم يتصدق بالمليون لكن فيه من الرياء والسمعة وحب الذكر، من يتبرع في مشاريع الخير الآن والجهاد، والفقراء والمساكين، ثم يطلب من الصحافة أن تعلن باسمه في الصحف والتلفاز والراديو، ما حكم هذا في الإسلام؟! فيأتون يقرءون على الأسماع، والصحف الصباحية: تبرع بمائة ألف ريال فلان بن فلان بن فلان، أين الإخلاص؟! {من راءى راءى الله به ومن سمع سمع الله به} أول ما تسعر النار بجواد أنفق ليقال جواد أو كريم فتسعر به النار، فأين الإخلاص؟! كان السلف إذا أراد أحدهم أن يتصدق جعل يده اليسرى في جيبه، لأن بعضهم يفهم من حديث: {ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه} يقول: ربما يحتمل أنها قد تعلم، فيجعل شماله في جيبه ويخفيها.
وكان علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنه وأرضاه إذا أظلم الليل ونام الناس، أخذ الصدقات وحملها على كتفه ووزعها على فقراء المدينة، فلا يعلم الفقير من الذي أعطاه، لكن الواحد الأحد يعلم.
فيا أيها الإخوة لنتجنب الشهرة في أعمال الخير، ولنحذر الرياء والتبجح بما قدمنا قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] وقال ابن المبارك: [[في صحيح الحديث شغل عن سقيمه]] يقول: يكفيك الحديث الصحيح عن غيره، فتشاغل به واستنبط منه، تجد بعض الناس حاطب ليل يتكلم من الأحاديث الموضوعة والضعيفة، والأحاديث الصحيحة لا يمسها، حتى إني أعلم أن بعض الشباب يركز مثلاً على غير الكتب الستة ليبرز للناس، ليقولوا: ماشاء الله يقرأ حتى وصل إلى الطبراني! فدائماً يقول: رواه الطبراني، رواه الدارقطني، رواه ابن خزيمة، هذا إذا كان طالب العلم متضلعاً في طلب الحديث، أو أحوجه العلم إلى ذلك الأثر فلا بأس، أما أن يذهب يقفز هناك ويترك كتب العلم المشهورة فهذا فيه نظر.
فيا أيها الإخوة: يوجد من الوعاظ والخطباء من يأتي إلى الحديث الضعيف ويشرحه للناس، أليس عندنا أحاديث صحيحه؟ أليس عندنا البخاري ومسلم؟ أنا أنصح الخطباء إذا تكلموا أن ينقلوا من القرآن ومن الصحيحين وهذا يكفي الناس، أما من يأتي بالغرائب، حديث علقمة، حديث ثعلبة، والناس يحبون الغرائب، حتى تجد في الترهيب والترغيب حديثاً يقول: {من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله بنى الله له سبعين قصراً في الجنة، في كل قصر سبعين حورية، على كل حورية سبعين وصيفة، في كل سبعين وصيفة سبعين} فيبقى في السبعين ساعة ونصف! كله موضوع، ألا تكفينا الأحاديث في البخاري ومسلم؟!
فلا تشغل الأمة بالحديث الضعيف ولا الموضوع، ولا بالغرائب والخرافات والخزعبلات.(161/10)
توقيره للحديث ولآل البيت
وقال: جاء رجل من بني هاشم إلى عبد الله بن المبارك ليسمع منه، وأسرة بني هاشم أسرة النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يحدثه، يقول ابن المبارك: أنا لا أحدثك، فقال الشريف لغلامه: قم فإن أبا عبد الرحمن لا يرى أن يحدثنا، فلما قام ليركب فرسه، جاء ابن المبارك ليمسك بركاب الفرس، فقال: يا أبا عبد الرحمن! تفعل هذا ولا ترى أن تحدثني؟ قال: [[أذل لك بدني ولا أذل لك الحديث]] أنا أترجم لكم القصة.
الهاشمي هذا شريف من الأشراف السادة، جاء والطلاب فقراء عند ابن المبارك، فأراد هذا الشريف أن يأخذ ابن المبارك في مجلس خاص ويحدثه بالحديث، قال ابن المبارك: لا.
أنا لا أحدثك وحدك، اجلس مع الطلبة وأنا أحدثك معهم، فقام وقال: أنا استأذنك إذن، سبحان الله! بعض الناس فيهم الكبر، حتى أعرف أن من المسلمين من يمنعه كبره من حضور مثل هذه الندوات أو الدروس، يقول: أنا أحضر مع هؤلاء! لقد قرأت ترجمة رجل ترك صلاة الجماعة يقول: والله تركت صلاة الجماعة لئلا أزاحم السوقة بأكتافي، أنا أزاحم هؤلاء!!! فتجده يصلي في البيت، حتى بعضهم يسأل ويقول: من أين أتيتم؟ قالوا: من الدرس، قال: ما في هذه الدروس؟ قالوا: علم، أو فهم، أو توجيه عام، قال: لا بأس بها، لا بأس بها، والحمد لله أعطانا الله من علمه ما أعطانا!!
فلذلك يقول مجاهد: [[لا ينال العلم متكبر ولا مستحي]].
قال ابن المبارك: لا أعطيك، فخرج هذا الرجل الشريف، فأمسك ابن المبارك بركابه يهيء له الركاب لأنه من أسرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وحق علينا أن نقدر الطائعين من أسرته عليه الصلاة والسلام، {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] قال هذا الشريف: تمنعني من الحديث الآن وتهيء لي ركابي، قال: [[أذل لك بدني ولا أذل العلم]] أو كما قال.
يقول ابن المبارك: [[السيف الذي وقع بين الصحابة فتنة، ولا أقول أن أحداً منهم مفتون]] يقول: الذي وقع بين الصحابة في الجمل وصفين فتنة، لكن لا أقول لأحد منهم: مفتون؛ لأن الله عصم الصحابة في مجموعهم من الفتنة فليسوا بأهل فتنة رضي الله عنهم، بل كلهم -إن شاء الله- في الجنة، لكن أن نقول: أنهم مفتونون أو نخوض فيهم، فحذارِ حذارِ من هذا، وليس من السداد أن يتكلم الإنسان في أعراض الصحابة، أو يخوض فيما شجر بينهم فإن الله قد غفر لهم سيئاتهم، وتقبل منهم حسناتهم، أسأل الله أن يجمعنا بهم في دار الكرامة.(161/11)
الأتقياء لا يأمنون من أربع
يقول ابن المبارك: [[إن البصراء -يعني: الأتقياء- لا يأمنون من أربع: ذنب قد مضى لا يدرى ما يصنع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيه]] فأنت خائف دائماً من الذنب الماضي، لا تدري ماذا يُصنع فيه، لأنه ليس عندك وثيقة أنه قد غفر لك [[وعمر قد بقي لا يدرى ما فيه من الهلكة]] لا تدري ما يأتي من الفتن، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قد يفاجأ العبد بفتنة تذهب عليه دينه، فعليه أن يعتصم بالله، وأن يخلص وأن يلتجئ إلى الله أن يعصمه من الفتن [[وفضل قد أعطيه العبد لعله مكر واستدراج]] بعض الناس يمكر به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بمال أو بغنى أو بمنصب حتى يتلفه بهذا الشيء ويظن أنه خير، ولكنه قد يكون شراً وضلالة قد زينت وهو يراها هدى [[وزيغ قلب في ساعة]] فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر، ببدعة وهوى وارتكاب الشبهات والشهوات، هذا مما يزيغ به قلب العبد.
وكان ابن المبارك رحمه الله يعجبه إذا ختم القرآن أن يكون دعاؤه في السجود، فقد كان للسلف ختمات، ومعظم السلف يختمون القرآن في سبعة أيام، كانوا يحزبون القرآن، يجعلون لليوم الأول ثلاث سور، واليوم الثاني خمس سور، واليوم الثالث سبع، اليوم الرابع تسع سور، واليوم الخامس إحدى عشرة سورة، واليوم السادس ثلاث عشرة سورة، واليوم السابع من (ق) إلى (الناس) وهذا ترتيب وتجزئة للقرآن، فإن لم يستطيعوا ختموه في شهر، فكل يوم جزء وهو ثلاثون جزءاً، وما كانوا يتجاوزون الشهر، فكان ابن المبارك إذا ختم القرآن يجعل آخر ختمة في صلاة؛ فإذا وصل إلى (قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس) صلى ركعتين وختم فيها القرآن ودعا وابتهل لأنه يؤثر أن من أحوال إجابة الدعاء ختم القرآن.
يقول ابن المبارك: [[من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته]] وهذا كلام عجيب، يقول: من استخف بأهل العلم واستهزأ بهم ولم يتأدب معهم أذهب الله عليه آخرته؛ لأنهم خلفاء الأنبياء، ومن استهزأ بالسلطان وسخر منه ذهبت دنياه، يقول: احذروا السلطان واحذروا بطشه لأنه إذا قال فعل [[ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته]] فيصبح بلا أخ.
ويقول: [[الحبر في الثوب خلوق العلماء]] أي: الحبر في الثوب خضاب العلماء، ما أجمل الحبر في ثوب طلبة العلم وهو شرف لهم!!
ودخل أحد العلماء على خليفة وعلى ثوبه حبر فوصل إليه فجلس بجانبه، قال: "والله للحبر الذي على ثوبك أحسن عندي من الدم الذي على الشهيد الذي قتل في المعركة"، وذكر الغزالي في الإحياء: "أن الحبر الذي يكتب به العلماء يوزن يوم القيامة بدم الشهداء" ولكن هذا يحتاج إلى نقل من المعصوم عليه الصلاة والسلام، وقد تفقه ابن المبارك بـ أبي حنيفة وأحبه، وهو معدود في تلامذته، ولو أنه لا يوافقه في كثير من المسائل، لأن ابن المبارك محدث وعالم في الحديث، ومن ضمن ما اختلفوا فيه: أن أبا حنيفة صلى إماماً وعلى ميمنته ابن المبارك، فكبر أبو حنيفة فرفع ابن المبارك يديه، والأحناف لا يرفعون أيديهم إلا في تكبيرة الإحرام، أما ما بعدها من التكبيرات فلا يرون الرفع، وابن المبارك محدث يرى أن ترفع الأيدي مع التكبيرات الأربع، فكان أبو حنيفة لا يرفع يديه وكان ابن المبارك كلما قال أبو حنيفة: (الله أكبر) وهو إمام قال ابن المبارك: الله أكبر، ورفع يديه، فلما سلم قال أبو حنيفة: خشيت أن تطير من جانبي -أي: كأن له جناحين وكأنه طائر- قال ابن المبارك: لو أردت أن أطير لطرت في الأولى، أي أنا وإياك كبرنا سوياً في تكبيرة الإحرام، لكن لم نطر والحمد الله، والصواب مع ابن المبارك.(161/12)
من ورع ابن المبارك
ولما احتضر ابن المبارك في السفر قال: [[أشتهي سويقاً]] كان جائعاً ويريد سويقاً، أي سويق الشعير الذي يلت بالتمر أو بغيره، قال: فلم نجده إلا عند رجل كان يعمل للسلطان -كان هذا الرجل يعمل عند السلطان صاحب السويق- وكان معنا في السفينة، فذكرنا لـ ابن المبارك فقال: [[دعوه]] فمات ولم يأكله، مادام يعمل هذا العمل أنا لا أريده، لا يدري من أين أتى الدخل، وهذه نظرية للسلف، لأنهم يقولون: الذي لا يظهر دخله أو يكون عند الظلمة ففي دخله شبهة، حتى إن الإمام أحمد ما رأى أن يمر على الجسر الذي بناه أبو مسلم الخراساني على دجلة، كان يأتي الإمام أحمد ببغلته من طريق بعيد ولا يمر على الجسر، قالوا: لماذا؟ قال: "بناه من الظلم من أموال المسلمين"، قالوا: ترى أن نصلي في مسجد أبي مسلم الخراساني، قال: "لا، لا تصلوا فيه" لأنه جزاه الله خيراً ما قصر، قتل ألف ألف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ثم بنى مسجداً، أي: قدم مشروعاً للأمة، بنى مسجداً جامعاً وذبح مليوناً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم المصلين الصائمين.
فلما بنى مسجداً قال الإمام أحمد: "لا تصلوا فيه" فكان الجسر هذا من المشاريع التي نفذها أبو مسلم على نهر دجلة، وكان الإمام أحمد إذا وصل إلى رأس الجسر ضرب البغلة وردها، انظر الورع حتى لا تمر البغلة من على الجسر، فـ ابن المبارك وأمثاله يتورعون من هذا ويخافون كثيراً، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113].
وقد رأى الحسن البصري رجلاً ينظر إلى موكب ظالم، قال: [[لا تنظر إليه، قال: وماذا يضر النظر؟ قال: يقول الله: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]]].(161/13)
رسالة ابن المبارك إلى الفضيل في الجهاد
قال: أملى عليّ ابن المبارك سنة (177) وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض من طرسوس، وكان يجاهد فيها هارون الرشيد والمأمون وكان ابن المبارك مقيماً هناك يجاهد العدو وكتب إلى الفضيل يقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خَده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
يعرض بـ الفضيل يقول: إن كنت تبكي بالحرم وتسيل دمعوك على خدك فو الله إن نحورنا تسيل بالدماء صباحاً ومساء، أيهما أغلى الدم أم الدمع؟ الدم الأحمر الذي يسيله شباب محمد صلى الله عليه وسلم في الجبهات، قال:
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
خيول المسلمين أصبحت للسباق فقط، أما الجهاد في سبيل الله فالحمد لله الذي لايحمد على مكروه سواه، قال:
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
يقول: أنتم بالمجامر في الحرم تدار عليكم البخور والألوة، البخور الكمبودي، أما نحن فالغبار كل صباح من الخيل، وهذا أحسن من بخوركم.
ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لايكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب
لأن الله لا يجمع يوم القيامة في أنف عبد بين دخان جهنم وغبار في سبيل الله أبداً تظن أن رجلاً خرج في سبيل الله عز وجل ودخل الغبار أنفه أن الله يدخله نار جهنم على أنفه، لا.
قال:
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلقيت الفضيل بكتابه بالحرم، فقرأه وبكى حتى بله بالدموع وقال: [[صدق أبو عبد الرحمن ونصح]].
وكان ابن المبارك يقول وينشد:
أبإذن نزلت بي يا مشيب
نظر في المرآة وكان شاعراً فرأى الشيب، والعرب يفرون من الشيب، ويبكون منه، ويندمون ويرون أنه نذير الموت، ويقول ابن عباس في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] قال: [[الشيب نذير الموت]] وقال الإمام أحمد: "والله ما مثلت الشباب إلا مثل شيء كان في يدي ثم سقط منها" قال:
أبإذن نزلت بي يا مشيب أي عيش وقد نزلت يطيب
تعرفون أن الذي يدخله الشيب -خاصة من توغل فيه- لم يعد يجد قوة الشباب، ولا طعم الطعام في الشباب، ولا شرب الشراب في الشباب، ولا المزح في الشباب قال:
وكفى الشيب واعظاً غير أني آمل العيش والممات قريب
كم أنادي الشباب إذ بان مني وندائي مولياً ما يجيب
وكان ابن المبارك يقول:
كيف القرار وكيف يهدأ مسلم والمسلمات مع العدو المعتدي
شاعر الجهاد اسمع إليه، واسمع إلى العلم كيف يقفز به في قضايا الإسلام! والحرارة في الدفاع عن بلاد الله عز وجل!
كيف القرار وكيف يهدأ مسلم والمسلمات مع العدو المعتدي
الضاربات خدودهن برنة الداعيات نبيهن محمد
القائلات إذا خشين فضيحة جهد المقالة ليتنا لم نولد
ما تستطيع ومالها من حيلة إلا التستر من أخيها باليد
وكان ابن المبارك يقول وهو يندِّم الناس على فضل أوقاتهم وعلى ماضاع من أعمارهم:
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت فارغاً مستريحا
وإذا ما هممت بالنطق بالـ باطل فاجعل مكانه تسبيحا
فاغتنام السكوت أفضل من خو ض وإن كنت بالكلام فصيحا
اسمعوا ديباجة الأدب والفصاحة المتناهية! وهي فصاحة كسبها من الكتاب والسنة.(161/14)
وفاة ابن المبارك وماله من المبشرات
لما احتضر ابن المبارك حضرته سكرات الموت وكان على فراش الانتقال إلى الله عز وجل، جعل رجل يلقنه لا إله إلا الله، فأكثر عليه والسنة إذا لقنت المحتضر لا إله إلا الله ألا تعيدها عليه إلا إذا تكلم بكلام أو أغمي عليه فقل: قل لا إله إلا الله، أما أن تبقى عند رأسه وتقول: قل لا إله إلا الله، قل لا إله إلا الله فلا، ويكفي مرة فإذا قال: لا إله إلا الله فاصبر لأن هذه هي السنة، لأنه في حشرجة وفي هول، وفي ساعة ما مر بالعالم مثلها، الساعة التي يذعن فيها الجبار، ويذل فيها المتكبر، ويضعف فيها القوي ويتوب فيها العاصي، ساعة أليمة سوف نمر بها جميعاً، أسأل الله أن يسهلها علينا وعليكم.
فمن السنة ألا تضجره فإن أمامه هول وفزع وخوف ومشقة، يتذكر صحفه وعمره وسيئاته، ثم تلاحقه: قل لا إله إلا الله قل: لا إله إلا الله.
فأكثر عليه فقال له: [[لست تحسن -يقول ابن المبارك - وأخاف أن تؤذي مسلماً بعدي، إذا لقنتني فقل: لا إله إلا الله ثم إذا لم أحدث كلاماً بعدها فدعني، فإذا أحدثت كلاماً فلقني حتى تكون آخر كلامي من الدنيا]] هذه السنة، علمه السنة وهو في سكرات الموت.
وقال محمد بن الفضيل بن عياض: [[رأيت ابن المبارك في النوم، فقلت: أي العمل أفضل؟ قال: الأمر الذي كنت فيه، قلت: الرباط والجهاد؟ قال: نعم.
قلت فما صنع بك ربك؟ قال: غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة]] أي: أتت على جميع الخطايا.
وقال: [[سمعت أبا حاتم الفربري يقول: رأيت ابن المبارك واقفاً على باب الجنة بيده مفتاح فقلت: ما يوقفك هنا؟ قال: هذا مفتاح الجنة، دفعه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: حتى أزور الرب، فكن أميني في السماء كما كنت أميني في الأرض]] هذا ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء، وذكره غيره من أهل العلم وقال: [[رأيت الحارث بن عطية في النوم، فسألته فقال: غفر لي، قلت: فـ ابن المبارك، قال: بخ بخ -أي: حسن جميل- ذاك في عليين، ممن يلج على الله كل يوم مرتين]] يزور الله مرتين كل يوم، أي: يرى ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ورؤية الله ثابتة عند أهل السنة في الآخرة، كل يوم مرتين لأعماله ولخيره ولفضله، ولما جعل الله فيه من الصدق والإخلاص، وعن نوفل قال: [[رأيت ابن المبارك في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي برحلتي في الحديث، عليك بالقرآن، عليك بالقرآن]] أي: اقرأ القرآن كثيراً، عليك بالقرآن لأنه شفيع مشفع عند الله عز وجل ولأنه يقود صاحبه إلى الجنة إذا عمل به، ولأنه شاهد صادق ناطق يوم العرض الأكبر على من قام به آناء الليل وأطراف النهار.(161/15)
ابن المبارك عند الإمام مالك
وقال يحيى بن يحيى الليثي: [[كنا عند مالك بن أنس إمام دار الهجرة- فاستأذن لـ عبد الله بن المبارك بالدخول فأذن له، فرأينا مالكاً تزحزح له في مجلسه، ثم أقعده بجانبه]] كان مالك لا يتزحزح لأحد ولا يقوم، لكن لما أتى ابن المبارك، تزحزح وأجلسه بجانبه، قال: [[وما رأيت مالكاً يتزحزح لأحد في مجلسه غيره، فكان القارئ يقرأ على مالك فربما مر بشيء فيسأل مالك ما مذهبكم في هذا؟ أو ما عندكم في هذا؟ فرأيت ابن المبارك يجاوبه بسكوت وصمت لا يسمعه إلا مالك]] هذا من الأدب، الناس جلوس أمام الإمام مالك: في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام وابن المبارك بجانب مالك فكان مالك إذا مر به الحديث يقول: [[ما هو مذهبكم في هذه المسألة؟]] وابن المبارك عالم مثل مالك أو أكثر في الحديث، وذاك يمكن أن يكون أكثر في الاستنباط، فكان يدني رأسه ويكلم مالكاً في أذنه حياء من الإمام مالك وأدباً، وهذا درس لطلبة العلم ودرس للشباب أن يتقوا الله في العلم، فمن يفعل مثل هذا؟ أما الآن فإذا عرضت مسألة وقال فيها طالب علم قوله، قام طالب هناك وقال: هذا خطأ والحديث ضعيف لا يصح، في سنده فلان بن فلان وقد حققته في رسالة،، أهكذا يبكت الناس؟ وهي مسألة فرعية للذي اجتهد فيها ولم يوفق للصواب أجر واحد ومن يوفق للصواب فله أجران؟! حتى إذا سألت مثلاً في المجلس مجموعة من الشباب -من طلبة العلم- تبادروا كل يفتي، تقول: ما رأيكم في هذا الحديث؟ فقائل: صحيح، وقائل: لا.
حسن، وقائل: هذا ضعيف، وقائل: ذاك موضوع، كلهم يريد أن يتكلم!! فـ ابن المبارك يعلمك الأدب، يقول: ما عليك ألا تتكلم وقد وجد عالم في الحلقة، فعلمه في أذنه، أو لا حظ عليه، لا أن تفتي معه وتتكلم، وكذلك من الأدب ألا تتكلم، وهناك من هو أولى منك بالكلام في المجلس، بل تجد أحياناً بعض الكبار من العلماء يحضرون مجالس العامة فتجد شباباً يتكلمون في حضورهم فيبدأ الشاب وبدون حياء، ويقول: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، أمَّا بَعْد: فنرى أن نمضي هذا الوقت فيما ينفع، ومن الواجب عليّ ألا أكتم العلم الذي عندي) وليس عنده ما يملأ كوباً، بينما العلماء الكبار موجودون، فمادام أن العالم موجود فقد عفاك الله عز وجل فأحل عليه، ثم أن هذا من الوقار وحسن الأدب أن تحول الكلام إليه وتقول: الشيخ موجود ولا نتكلم بوجوده، و (لا يفتى ومالك في المدينة) ونريد منه أن يتحفنا، ثم إذا أردت أن تتكلم أنت فتكلم لكن بأدب بعد أن تقول: كما تفضل والدنا وشيخنا في هذه الكلمة المباركة ,وأنا لست زائداً عليه ولا أريد أن أضيف إلى كلامه شيئاً، لكني أعرض عليكم بعض المسائل، هذا من الأدب ومن الوقار ومن هذا الأمر الذي يريده ابن المبارك رحمه الله.
وقالوا: سئل ابن المبارك بحضور سفيان بن عيينة عن مسألة فقال: [[إنا نهينا أن نتكلم عند أكابرنا]] ما شاء الله ابن عيينة أكبر منه سناً، وابن المبارك أصغر، فسئل وابن عيينة جالس فقال: [[نهينا أن نتكلم عند أكابرنا]] ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {كبر كبر} أي ابدأ بالكبير، فإذا عرضت عليك مسألة وفي المجلس من هو أولى منك فأحل إليه المسألة وقل: مارأيكم في هذا؟ وقد قلت وقال غيري من طلبة العلم ومن الدعاة: إن هناك أشياء تنقص في بعض الشباب منها: عدم احترام الكبير: تجد أحياناً كبير سن في السبعين من عمره -وأقصد: ممن يتبعون السنة، أما كبير في السن وهو فاسق فهذا لا تكرمه، لكن أقصد شيخاً كبيراً على السنة، يحب الله ورسوله تجده يجلس في طرف المجلس وتجد الشباب في صدر المجلس هذا خلاف السنة، أو تجد أحياناً بعض القضاة يدخل فيجلس في طرف المجلس فهذا ليس من السنة فلا بد أن يكرم، وسلطان عادل يحكم بالكتاب والسنة ويخاف الله لا بد أن يكرم.
وحامل القرآن لا بد أن يكرم، وداعية له أثر لا بد أن يكرم، وشيخ قبيلة له أثر في الخير يحب الله ورسوله ويفعل الخير لابد أن يكرم، فإنزال الناس منازلهم وارد، أما بعضهم فإنه يقول: لا.
ليس عندنا تميز كلنا سواسية، الإنسان يجلس بأي مكان، وكان صلى الله عليه وسلم لا يقام له، صحيح وضعٌ للنصوص في غير مواضعها، بل لابد من إنزال الناس منازلهم، واحترام الناس.(161/16)
فوائد من حياة ابن المبارك
نخرج من ترجمة ابن المبارك بمسائل:(161/17)
الفضل بالتقوى
أولاً: الفضل بالتقوى، ومن حمل هذا الدين نكرمه، ونعتبره من أشرفنا ولو كان مولى من الموالي، أما اللعب على العقول بمسألة الأنساب فهذه مسألة فيها تبجح، بعضهم يخرج لك شجرة نسبه، ويضعها في برواز في المجلس، ينسب لك أنه من آدم، يخاف أن تقول إنه من فصيلة الدود!! وكلنا من آدم، وهل سمعتم أن أحداً في الكرة الأرضية من غير آدم، كل حام وسام من آدم، وهؤلاء الذين يفتخرون بالأنساب يعودون في أصل السلسلة إلى آدم، لا يخرجون عنه وليس لهم فصيلة أخرى غيره لا من البراغيث ولا من الزواحف.
طرق طارق على الفضل بن دكين فقال أبو نعيم: وكان مزاحاً: من؟ وكان وراء الباب، قال: معك رجل من ذرية آدم! فخرج واحتضنه وقال: ماشاء الله ماظننت أنه بقي من ذرية آدم أحد!
فكلنا والحمد لله من ذرية آدم، خلق الله آدم واحداً ثم أتت الذرية منه، فيأتي لنا الآن ليقول: خط مائتين وعشرين وخط مائة وعشرة، وأنا أسرتي كانت تفعل وتفعل، وأنا من فلان بن فلان بن فلان وينسب لك ويحسب {من افتخر بتسعة آباء في الجاهلية، فهو عاشرهم في النار} [حديث حسن يرويه البخاري في الأدب المفرد، وغيره]
إذا فخرت بآباء لهم شرف نعم صدقت ولكن بئسما ولدوا
إن الفتى من قال هاأنا ذا ليس الفتى من قال كان أبي(161/18)
الحرص على طلب العلم
ثانياً: من الدروس المستفادة من سيرة هذا الإمام: أن من أعظم ما يتقرب إلى الله به طلب العلم والحرص عليه، وحفظه، وتدارسه واستنباطه، فإنني أدلكم وأرشد نفسي وإياكم وأدعوكم، وأستحثكم -يا معشر من حمل العلم للعالَم- بتوجيه طاقات وقدرات الشباب والناشئة لطلب العلم والدروس العلمية والمحاضرات العامة، وأن يكون التوجه العام لطلب هذا العلم الشرعي الموروث عن محمد عليه الصلاة والسلام.(161/19)
الموازنة بين الحسنات والسيئات
ثالثاً: من الدروس المستفادة: كما مر أن منهج الجرح والتعديل: أن من كثرت حسناته على سيئاته فهو محسن، ومن كثرت سيئاته على حسناته فهو مسيء، وأن نعامل الناس بحسب قربهم من الله.(161/20)
العمل بالعلم
رابعاً: ومن الدروس أيضاً: أن العلم في الإسلام إنما هو العمل والتطبيق وأن يظهر على سلوك العبد.(161/21)
اللين في الدعوة
خامساً: إن من أنجح وسائل الدعوة، اللين وعدم التجريح والتشهير، والدخول إلى قلوب الناس بالحب كما فعل ابن المبارك.(161/22)
تواضع العلماء
سادساً: أن علماء السنة، علماء عامة، يجلسون مع العامة، يعتمرون ويحجون معهم، ويحضرون ولائمهم وأعراسهم، وأبوابهم مفتوحة كما كان ابن المبارك يفعل، أما الاعتزال والاحتجاب وقطع الصلة، وعدم معايشة الناس في مشاكلهم، وعدم التمشي معهم، وعدم النزول إليهم، فهذا ليس من منهج علماء السنة كما مر في سيرة ابن المبارك والحمد لله رب العالمين.(161/23)
الأسئلة(161/24)
الاستكثار من الشعر
السؤال
يقول الشافعي:
ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد
فهل هو من قوله فعلاً؟
الجواب
نعم.
للشافعي هذا البيت، لكن على كل حال ليس هذا نصاً شرعياً، وهذه وجهة نظر الشافعي، ثم إنه شاعر ولم يمنعه هذا البيت من قول الشعر فقد قال قصائد كثيرة، لكن أظنه لو كان في درجة لبيد لما امتنع عن الشعر ولما حبس شعره.
بل لا بد أن ينطلق، لكنه شاعر ومن العلماء ومكثر، والصحيح في الشعر أن يقلل منه بقدر الحاجة، ولا بأس به فهو كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح.(161/25)
التوفيق بين طلب الرزق والعلم ونحوهما
السؤال
كيف أوفق بين التجارة وطلب العلم؟
الجواب
بأن يكون لك جدول، وقت لطلب العلم، ووقت للتجارة، أما قضية أن بعض الناس يقول: لا يستطاع أن يطلب العلم مع التجارة فليس بصحيح، السلف جمعوا بين التجارة وطلب العلم وباستطاعتك أن تفعل هذا، مثلاً: نصف النهار لطلب العلم ونصفه للتجارة، أو أيام من الأسبوع لطلب العلم وأيام للتجارة، وتجمع بينهما، وهؤلاء الصحابة من أين كان دخلهم؟ كانوا مزارعين فلاحين ومجاهدين وتجاراً، وكان أبو بكر يبيع ويشتري وهو سيد الأولياء، ليس التصوف الهندوسي الذين يعتكفون في الزوايا يشحذون من الناس، ويدعون أنهم الأولياء، تولى أبو بكر الخلافة وبعد ثلاثة أيام من توليه الخلافة خرج بالخطام وذهب إلى السوق يبيع جمالاً ويشتري ويزاول مهنته، فلقيه عمر وأبو عبيدة، المستشاران العظيمان اللذان حضرا ساعة البيعة، قالوا: [[إلى أين يا أبا بكر؟ قال: إلى السوق أبيع وأشتري، قالوا: تترك أمور المسلمين وتبيع وتشتري؟ قال: يموت أطفالي جوعاً وعرياً ويبقى أطفالكم وتشغلوني بالخلافة، بل أبيع وأشتري، قالوا: نفرض لك راتباً من بيت المال -أي: من الميزانية، يستلمه في آخر السنة- قال: كم؟ قالوا: ألفي درهم، أي: في السنة، قال: ما يكفيني، قالوا: ألفين وخمسمائة، قال: زيدا، قالا: لا.
قال: ألفين وخمسمائة وعاد إلى البيت، وأتى يوم الجمعة وقال للناس: يا أيها الناس: ما رأيكم: فرض لي عمر وأبو عبيدة ألفين وخمسمائة درهم كل سنة من بيت المال هل أنتم مسامحون بهذا وأترك التجارة واشتغل بأموركم أو تجعلون لي وقتاً للتجارة ووقتاً لأموركم؟ قالوا: رضينا بألفين وخمسمائة درهم كل سنة، قال: جزاكم الله خيراً]].(161/26)
ماء زمزم لما شرب له
السؤال
هل يشرب ماء زمزم لأكثر من سبب؟
الجواب
نعم.
يشرب لأكثر من سبب، سبب أن يرزق زوجة صالحة، ورزقاً واسعاً، وعلماً نافعاً، وصحة في البدن، ومغفرة في الآخرة.(161/27)
المشاركة في المراكز الصيفية
السؤال
المراكز الصيفية هل ترى أن ننتظم فيها وأن نكون في صفوفهم؟
الجواب
نعم، أرى ذلك، المراكز الصيفية التي قامت على النصح وقام عليها رجال ناصحون -كما هو العادة في معظمها- وقامت على طلب العلم الشرعي، وعلى حفظ شباب المسلمين وتوجيههم، فأرى أنها من أحسن ما يستثمر فيها الوقت في العطل الصيفية، ودفع الشباب إليها فهي من أحسن ما يكون وقد أثمرت، من ثمارها هذا الجيل الرائد الخالد الذي اتجه إلى الله عز وجل والذي ظهر خيره ونفعه للمسلمين.(161/28)
كتب في العقيدة
السؤال
أنا أدرس في بعض القرى وأريد أن توجهني إلى بعض كتب العقيدة لأدرس الناس منها؟
الجواب
عليك بثلاثة كتب في العقيدة، كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، كتاب معارج القبول للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله، وكتاب شرح الطحاوية لـ ابن أبي العز رحمه الله، هذه عندك اجلعها مراجعك ودرس الناس منها وسوف تستفيد ويستفيدون.(161/29)
حكم القات
السؤال
ما هو الحكم الصحيح في القات؟
الجواب
القول الصحيح فيه أنه محرم؛ لأنه من الخبائث، وقد أفتى كثير من أهل العلم بتحريمه.(161/30)
حكم مصافحة الأجنبية
السؤال
دخلت في مستشفى على امرأة وهي أجنبية فسلمت عليها وأنا كاره؟
الجواب
ارتكبت محرماً، لأن مصافحة المرأة الأجنبية محرم، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء وإنما كان يبايعهن من وراء حجاب، وعليك أن تستغفر وتتوب إلى الله عز وجل، وتنبه في مثل هذا الموقف أن هذا أمر محرم، وأنه لا يلزمك أن تمد يدك لأنه لا يتحاكم إلى الجاهلية، ولا إلى الأعراف والتقاليد، حتى بعضهم يعارضك ويقول: هذه نشأنا عليها وأجدادنا وآباؤنا ولا نستطيع أن نجرح شعورهم، فهل ترضيهم وتسخط ربك؟!(161/31)
كتاب صفوة التفاسير
السؤال
ما رأيك في كتاب: صفوة التفاسير للصابوني؟
الجواب
فيه ملاحظات وأرى أن لا يقرأه إلا حاذق، ولو استغنيت عنه لكان أحسن، وفي كتاب تفسير ابن كثير غنية، وكذا تفسير الشيخ السعدي وابن جرير، فأنا أرى أنه لا يقرأ فيه، وقد نبه على هذا كثير من أهل العلم منهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ولكن الصابوني أجاد في مختصر ابن كثير وما رأيته تدخل إلا في بعض الملاحظات وهي نسبة بعض الأحاديث إلى غير مراجعها، لكن مختصره في هذا جيد، وعسى الله أن يوفقنا وإياه لكل خير.(161/32)
التفسير الكبير لابن تيمية
السؤال
ما رأيكم في التفسير الكبير لـ ابن تيمية؟
الجواب
ما أدري ماذا يقصد بـ التفسير الكبير، لكن خذها قاعدة، كل كتاب لـ ابن تيمية فاقرأه ولا تسأل أحداً عنه، سل ابن تيمية وحده، ولا نغالي فليس برسول ولا معصوم، لكن من يسأل مثلنا عن ابن تيمية؟! تسأل العلماء عن ابن تيمية! بل اسأله هو عن العلماء.(161/33)
كتب في الفقه للمبتدئ
السؤال
ما أيسر كتب الفقه للمبتدئ؟
الجواب
مثل العدة في شرح العمدة والدرر البهية للشوكاني فهو جيد ومختصر ومقرر، ومثل السلسبيل، وهو تعليق على زاد المستقنع للبليهي هذه الثلاثة من أحسن ما يكون.(161/34)
الرضاعة كالنسب
السؤال
هل يجوز أن تكشف لي أختي من الرضاعة وكذا أمها التي أرضعتني؟
الجواب
تصبح أختك من الرضاعة كأختك من النسب تماماً، وأمك من الرضاعة كأمك من النسب تماماً {يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب} فتزورها وتجلس معها، ولها أن تسافر معك، وتصبح أختك تماماً، هذا القول الصحيح في هذه المسألة.(161/35)
دواوين شعرية مفيدة
السؤال
دلنا على بعض الدواوين الشعرية المفيدة؟
الجواب
الصفاء في الشعراء قليل، لكن من الشعراء القدامى حسان بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، ويستفاد من شعر أبي تمام وشعر المتنبي، وشعر محمد إقبال وهو من أبرز الشعراء، أما المعاصرين فإني أدلكم على شعر الأستاذ الدكتور عبد الرحمن العشماوي فهو شاعر الشباب وشاعر الصحوة وهو لسان الإسلام في الشعر الفصيح، وأنعم به وأكرم! وهو مبرز، ولكن أهل الباطل لا يريدون أن يبرز هو وأمثاله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].
ولذلك تجدونهم يأتون بشياطين الشعر الأرذال السفلة، الذين يحاربون الله صباح مساء، فيعقدون لهم الدورات، وتستقبلهم الأندية الأدبية، وتحييهم الصحف الصباحية، وصورهم في المجلات، ومقطوعاتهم تكتب بخطوط مكبرة، ويشغل بها الجيل وتنزل دواوينهم وهي مطبوعة على أوراق فخمة، ولكن كما قال الواحد الأحد: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36].
ينفقونها بدمائهم، ينفقونها بشيكاتهم وملايينهم، ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون، فعليكم بشعر العشماوي فهو شاعر مبرز وصافي المعتقد والوجهة والمبدأ، وهو قوي الإدراك وصاحب فطنة، ومثل هذا لا بد أن يقرأ شعره، ولا بد أن يستضاف في جلسات الشباب والأندية ويكون بدليلاً عن شعراء الضلالة، وهناك كثير من هذا الركب المجيد من الشعراء، مثل الدكتور أحمد بهكلي، والدكتور زاهد بن عواض الألمعي في كثير من قصائده وكثير من دواوينه، والدكتور صالح بن عون الغامدي الشاعر وهو من سكان أبها في كلية اللغة، هؤلاء الشعراء المبرزين الذين يحضروني الآن وغيرهم كثر، لكن هؤلاء الذين لهم تواجد في الساحة، ولهم قصائد وأحب شعرهم وأقرأ لهم كثيراً، وأحذركم من قراءة كتب وشعر بعض الشعراء منهم البردوني ونزار قباني، ومثل كثير من شعر القصيبي ومقالاته، وخاصة القديمة فإن في مقالاته القديمة شعر ينبو عنها الذوق والدين وهذا يلاحظ عليه.
فيجب على المسلم أن يعرف ماذا يقرأ، ونحن صراحة ليس بيننا وبين أحد عداوة، بيننا أن يحمى هذا الدين وتحمى العقيدة، أما الذي يقول: إنه لعداء أو لأمور، فليست بيننا أمور لا خصومة في ميراث ولا في أراض أو سيارات، بل كل ما بيننا من أجل أنا رأينا شيئاً من الباطل ورآه كثير فبيَّنا هذا، وأرى أن تقرءوا ما كتب الدكتور سمير المالكي في هذا الجانب، والدكتور محمد بن سعيد القحطاني والدكتور وليد الطويرقي، والدكتور سعيد بن زعير، وهي أربعة كتب مفيدة نافعة، حتى يتبين لكم من يستحق أن تقرءوا له، وقضية أن الإنسان أحياناً يدافع عن نفسه بمقالة، أو يتظاهر بشيء، فإن الله عز وجل جعل على الإنسان خصيماً من نفسه.
العلماء يقولون: إذا أراد إنسان أن يتبرأ من ماضيه، فعليه أن يعلن للناس أني أتبرأ من ديوان كذا ومن قصيدة كذا، ليفعل مثل ما يفعل الفنانون الآن فإنهم إذا تابوا من الغناء، تبرءوا أمام الناس من هذا وقالوا: نبرأ إلى الله، إعلان أننا نبرأ إلى الله عز وجل من أغنية كذا ومن شريط كذا ومن فيلم كذا، حتى يصدقهم الناس، أما أن يبقى القديم والحديث، صحيح أن بعضهم يحسن في بعض المقالات، لكن القديم هذا الموجود الذي في الأسواق والمكتبات، انزلوا السوق وافتحوا الدواوين التي ذكرت لكم وسوف تجدون قصائد يستحي الإنسان أن يذكرها، قصائد في غرف النوم، وقصائد في الجماع، وقصائد تشيع بالزنى والعياذ بالله، وقصائد في الفاحشة، فمن هو المسئول؟ وإذا ما نبهنا فمن ينبه؟
ثم أيها الإخوة: أذكر في التاريخ أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله لما أراد أن يعود عن مذهب الأشاعرة: وقف على المنبر بعد صلاة الجمعة، وقال: أبرأ إلى الله من مذهب الأشاعرة، ووقف كثير من المبتدعة وقالوا أمام أهل السنة، نبرأ إلى الله مما كنا فيه.
ولله الذي لا إله إلا هو ليس بيننا وبين أحد عداوة إلا بسبب هذا الدين أقولها عن نفسي، والله إن الأسماء التي ذكرتها الآن إني أود من قلبي -والله الشاهد على ما أقول- أن يهديهم الله وأن يدخلهم الجنة، فإننا لا نريد لهم الغواية، ولا نريد أن يعذبهم الله بالنار، نشهد الله وملائكته وحملة عرشه والمؤمنين أنا نريد من هؤلاء الذين ذكرت خاصة الأخير منهم، أن يجلعه الله عز وجل داعية من دعاة الإسلام، وشاعراً من شعراء الدين، وأن يشرح الله صدره، وأن ينور بصيرته ومهما تعرض للدعاة أو نالهم بقلمه أو في مجالسه، فغفر الله له إذا اهتدى وأعلن براءته من القديم الذي كتب، ومن الهجوم على الإسلام الذي افترى به، ليعلم بعض الناس؛ لأني سمعت أن بعض الناس يتأثر ويقول لم هذا العداء؟ وأنا ذكرت لكم أنه ليس قصدي -إن شاء الله- إلا النصيحة، والله يشهد على ما أقول: فأسأل الله من هذا المكان أن يهدي قلبه وأن يرده إليه رداً جميلاً، وأن يجعله يتبرأ من ماضيه، ويجعله سيفاً مصلتاً في كف جيل محمد صلى الله عليه وسلم، وألا يجعله ثائراً على شباب الصحوة ودعاتها وعلمائها، وأن يجنبه مزلات الفتن، هذا ما نريده له، ولعل هذا الكلام يبلغه، ليعلم أن ليس هناك ضغينة؛ لأن بعضهم يتصور أن القلوب تغلي حقداً بسبب ثارات أو أشياء جانبية، لا.
بل بسبب الدين، كل شيء إلا إياك نعبد وإياك نستعين، كل شيء معنا يمكن أن يتفاوض فيه إلا هذا الدين يبقى مرفوعاً، رءوسنا تقطع، دماؤنا تسيل، أجسامنا تمزق ويبقى هذا الدين، تصوروا هذا التصور، وأنتم من عقولكم تحكمون، وراجعوا تلك الرسائل التي كتبها علماء البلاد، كالدكتور ابن زعير، والدكتور القحطاني والدكتور الطويرقي، والدكتور سمير المالكي.
أسأل الله التوفيق والهداية، والرشد والسداد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(161/36)
ثمرات النصر
النصر فوائده عظيمة، وثمراته جليلة، وبعد أزمة الخليج عاد الفرج بعد الشدة، وفرجت الحلقة بعد أن ضاقت.
وهناك ثمرات عظيمة تحتاج منا إلى تفكر وتذكر واسترجاع لحساباتنا، وأن نعرف كيفية المحافظة على هذه الثمرات في حال الرخاء.(162/1)
الوحي غيث القلوب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها المسلمون: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
شكر الله اجتماعكم, وأشكر صاحب هذه الدعوة لهذه المحاضرة فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم النملة , وكما تفضل في كلامه عن الغيث الذي عشناه في بلادنا، ونسأل الله عز وجل أن يغيث قلوبنا، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول في الوحي كما صح عنه في الصحيحين: {مثل ما ابتعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث} وإنما قال: بعثني؛ لأنه بعث في أناس أموات ما كانوا يعرفون لا إله إلا الله، بل هو عليه الصلاة والسلام من أعظم المنن عليه أن يهتدي هو بالوحي قبل أن يهدي الناس: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].(162/2)
ثمرات النصر
ثم اعلموا حفظكم الله أن للنصر ثمرات، ولكل نصر تنتصره الأمة ثمرات أجمله في مسائل هذه الليلة، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يقتطف هذه الثمرات، لأنه مر على الأمة الإسلامية سنوات مديدة، وأعوام عديدة ما عرفت النصر, بل عرفت الهزائم فقط، تعيش الهزيمة بعد الهزيمة بلادها تحتل تضيع الأندلس تضيع فلسطين , وتضيع أفغانستان , فالأمة طيلة سنوات مديدة لم ترَ نور النصر، وأسأل الله أن ينصرها كما نصرها بالأمس، وللنصر حلاوة، لكن على يد من تنتصر الأمة إنها تنتصر على أيدٍ متوضئة, على أيدٍ تعرف ربها وتعاهده فلا تخونه، وتعرفه فلا تتنكر له، وتشكره فلا تكفره.(162/3)
حب الأمة للشهادة في سبيل الله
أولاً: من ثمرات النصر: أصبحت الأمة الإسلامية تحب الشهادة وتعشق الموت في سبيل الله وهذه أعظم ثمرة.(162/4)
قصص بعض عشاق الشهادة في سبيل الله
يقول أحد الصحابة:
أيا رب لا تجعل وفاتي إن أتت على شرجعٍ يعلى بخضر المطارفِ
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة يصابون في فجٍ من الأرض خائفِ
إذا فارقوا أوطانهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف
ما معنى الأبيات؟
يقول: يا رب! إذا حانت وفاتي فلا تمتني على الفراش، ولكن اقتلني في سبيلك واملأ بطون الطير والسباع من لحمي دمي حتى ألقاك شهيداً.
وذكر أهل السير -كما ذكره ابن إسحاق وغيره في أسانيد جيدة- عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه قال: [[لما التقينا يوم أحد ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نقاتل المشركين قال لي عبد الله بن جحش: يا سعد! تعال ندعو الله هذا اليوم أن ينصرنا، قال: فملت أنا وإياه أمام هضبة -أكمة كبيرة أو صغيرة- قال: فلما أكملنا دعوت الله بالنصر, فتقدم عبد الله بن جحش واستقبل القبلة، قال: اللهم إنك تعلم أنني أحبك, اللهم إذا التقينا بالأعداء فلاقِ بيني وبين عدوٍ شديد حرجه، قوي بأسه، فيقتلني فيك، فإذا قتلني بقر بطني, وجذع أنفي، وقطع أذني، وفقع عيني، فإذا لقيتك يوم القيامة قلت: يا عبد الله! لم صنع بك هذا؟ فأقول: فيك يا رب! قال سعد بن أبي وقاص: فالتقينا وانتهت المعركة, ومررت على القتلى فوجدت عبد الله بن جحش قد قتل وبقر بطنه، وجذع أنفه، وفقئت عيناه، وقطعت أذناه، قال سعيد بن المسيب -أحد الرواة-: أسأل الله أن يلبي له ما سأل]].
وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {والذي نفسي بيده, لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل} قال ابن كثير: فأعطاه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الشهادة مع النبوة، فله منزلة الشهادة فإنه مات شهيداً على القول الصحيح؛ لأنه أكل لحماً مسموماً وبقي سنة يتعاوده هذا السم- سمه اليهود عليهم لعنة الله فمات من أثر ذاك السم.
والشهادة والموت في سبيل الله؛ ما كانت تتردد على أسماعنا, فكان كثير من الناس يموتون لكن على الفرش, والمسلمون الأوائل كانوا يرون أنه عيب أن يموت الإنسان على فراشه، ويرون كما يقول عبد الله بن الزبير: [[إنا لا نموت حبجاً أي: تخمة، إنا نموت تحت صقع السيوف وضرب الرماح]] فأكبر ثمرة لهذا النصر أن نستثمر طلب الشهادة من الله عز وجل أن يرزقنا الشهادة: {من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه} رواه مسلم.
والعجيب أن هناك أناساً قد يموتون في الجبهة وبين الصفين! والله أعلم بنيتهم، وهذا حديث عند أحمد في المسند مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم يقول: {رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته} لماذا؟!
لأن الله هو المطلع على النيات: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وقد صح أن أحد الناس اسمه قزمان خرج مع المسلمين إلى أحد يقاتل، فما ترك للمشركين شاذة ولا فاذة إلا ضربها، وفي آخر المعركة قتل، قال الصحابة: {هنيئاً له الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: كلا، والذي نفسي بيده! إنه في النار، قالوا: يا رسول الله! كيف؟! فسألوا أهله كيف قتل؟! قال أهله: أصابته جراحة في رأسه فما صبر فنحر نفسه} وفي غزوة أخرى -والحديث صحيح- وقتل أحد الناس فقالوا: {هنيئاً له الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: كلا والذي نفسي بيده! إن البردة التي غلها لتتلظى عليه في النار} فوجدوه قد غل بردة لا تساوي أربعة دراهم.
ألا بلغ الله الحمى من يريدها وبلغ أكناف الحمى من يريدها
فالله أعلم من يقاتل لتكون كلمة لا إله إلا الله هي العليا؟ والله أعلم من يقاتل لترتفع إياك نعبد وإياك نستعين؟ وفي الصحيح: {أول ما تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: منهم رجل شجاع مقدام، يقول الله عز وجل: ألم أمنحك شجاعة؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا فعلت؟ قال: قاتلت فيك وقتلت، قال الله: كذبت، وتقول الملائكة كذبت ويقول الله: إنما قاتلت ليقال: شجاع وقد قيل خذوه إلى النار، فيأخذونه فيدهده على وجهه في النار} والمقصود هنا أن علينا أن نربي أطفالنا وقلوبنا وبيوتنا ورجالنا على حب الشهادة.
وأكثر ما ذهب شباب الأمة في حوادث السيارات، أو في غرف الباطنية من كثرة المأكولات والمشروبات والمطعومات، وأصبحنا لا نسمع قتلى، نحن الذين نعلّم الناس كيف نقتل في سبيل الله عز وجل.
فهذا عبد الله بن عمرو الأنصاري -وقصته تتكرر وسوف تتكرر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها- قبل المعركة سأل الله أن يقتل شهيداً فقتل لكن بعد ماذا؟! بعد قتال يوم كامل في أحد , فما سقط حتى ضرب ثمانين ضربة من ضربات السيف والرمح, فأتى ابنه يبكي وأبوه مسجى، فقال صلى الله عليه وسلم: {يا جابر! ابك أولا تبكِ، والذي نفسي بيده! ما زالت الملائكة تظل أباك بأجنحتها حتى رفعته، والذي نفسي بيده! لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان، فقال تمن: قال أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون, فتمن، قال: أتمنى أن ترضى عني، قال: فإني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً} فهذه أعظم الثمرات, وهي أن نقدم أبناءنا ونعلمهم الشهادة، وأن يسأل الإنسان الله الشهادة في سبيله علّ الله أن يرزقه شهادة تمحو ذنوبه.(162/5)
استعداد الأمة للجهاد
الثمرة الثانية: أن الأمة تهيأت للجهاد في سبيل الله، فإن راية الجهاد سقطت من عهد صلاح الدين الأيوبي الكردي المسلم، فهو لم يكن عربياً, لما تولوا العرب للعزف على الموسيقى, وللسهرات الحمراء، وللشهوات والنزوات، قال سبحانه: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89].
فإن العرب لم يأخذوا الإسلام بصك شرعي، إذا انحرف العرب عن الإسلام أعطى الله الأكراد أو الأفغان أو الهنود أو الأحباش الإسلام، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] فلما تولى العرب وأصبحوا أهل جواري, وأهل ما يطلبه المستمعون, وجمع طوابع, وضياع, وهوايات ساقطة؛ غضب صلاح الدين وأقسم بالله لا يتبسم حتى يفتح بيت المقدس , وجهز جيشاً عرمرماً، فهل تعلمون متى بدأ الهجوم في معركة حطين؟
أنه بدأ الساعة السادسة يوم الجمعة، قيل لـ صلاح الدين: لم اخترت هذا الوقت، قال: " إذا ارتقى الخطباء على المنابر يوم الجمعة في عالم الإسلام, رجوت أن يدعى لنا بدعاء فينصرنا الله "، وبدأ الهجوم، يقول بعض المؤرخين: قرأ قبل الهجوم سورة الأنفال وكان الجيش الذي يصادمه -الجيش الصليبي الألماني والفرنسي والإنجليزي- كلهم جبهة ضد صلاح الدين، ولكن مع صلاح الدين الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَاد * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52] واستمع قبل المعركة قليلاً لـ موطأ مالك وانظر هذا القائد الرباني حتى موطأ مالك يقرأ عليه في المعركة، فقرئ عليه في باب الجهاد بعض الأحاديث ثم بدأ الهجوم وانتصر, وبعد أسبوع صلى الجمعة في مسجد بيت المقدس الذي سقط بعد عمر وأعاده للمسلمين صلاح الدين، وكان في الصف الأول وقام شمس الدين الحلبي العالم يخطب الجمعة، فاستهل الجمعة وقال: الحمد لله مجري السحاب، منزل الكتاب، هازم الأحزاب، الحمد لله وحده، الذي نصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم قال يحيي صلاح الدين:
تلك المكارم لا قعبان من لبنِ وهكذا السيف لا سيف ابن ذي يزن
وهكذا يفعل الأبطال إن غضبوا وهكذا يعصف التوحيد بالوثن
فهذه من أيامنا وليالينا التي عشناها منتصرين, فلما تركنا الجهاد انحصرنا وأصبحنا في آخر الركب, دول نامية لا قيمة لنا في العالم، ليست لنا ريادة، بل روى أحمد وأبو داود بسند يصححه ابن القطان: {إذا رضيتم بالزرع، وتبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم} وهذا أمر معلوم.
إذا انصرفت الأمة إلى الفلاحة وزراعة البطاطس والباذنجان, وأصبحت فقط هوايتها الأسعار وأخبار الأمطار والأشجار والحدائق والبساتين, وأصبحت هوايتها ما يطلبه المستمعون وافتح يا سمسم, وهذه الأمور تسقط الأمة من عين الله, فلا يكون لها مكانة في العالم.
إذا عادت لنا الأزمة فعلينا أن نجاهد ونحمل راية الجهاد من جديد وألا نستسلم، وأي إنسان يقول كما يقول بعض أهل العلمانية: أن هذا الجهاد وحشية, والإسلام ينتشر فقط بالقلم والفكر والرأي والحوار، وكيف تحمل السلاح وتقتل الكفار؟! قال: بالحوار, فاهجره حتى يسمع كلام الله، وهل نسي أن ثلث القرآن من الآيات التي طالبت المسلمين بالقتال في سبيل الله؟! {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].(162/6)
التخلص من الغثائية
الثالث: عادت الأمة تلغي غثائيتها وتعيد بناءها العقدي والفكري.
لأننا مرت بنا سنوات عشنا غثاءً وبعداً وعشنا بروداً وعشنا غفلة؛ غفلة في المعتقد, صحيح أننا نحفظ السور والآيات والأحاديث عن العقيدة، لكن لا نطبقها في دنيا الواقع، تجد الواحد منا يستشهد: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52] لكن لا يعمل بها، ويستشهد بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36] مع أن هذا الإنسان الذي يستشهد بهذه الآية تجده مهزوماً وفيه خور, بل يخاف البشر أكثر من خوفه من رب البشر.
قطاع هائل من الناس الآن يخافون من الناس أكثر من خوفهم من رب الناس, ويتحفظون من كلامهم في الناس أكثر من كلامهم أو من معاصيهم مع رب الناس تبارك وتعالى وهذه غثائية في المعتقد، وأصبح عند الناس كراهية الموت وحب الحياة، وغثائية في الفكر فلا تجد التفكير السليم, بل تجد أحد الناس يصلي ويصوم ولا يعرف ما هو دور الإسلام في الحياة, بل يقول: الإسلام للتيمم والمسح على الخفين، والإسلام له حيز خاص، ويقول بعضهم: لا تدخلوا الإسلام في كل قطاع وفي كل مجال, الإسلام له خطوط يجب أن يبقى عندها! ونسي قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] ونسي قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين} [الأنعام:162 - 163].(162/7)
معرفة الرجال وهم أهل لا إله إلا الله
الرابع: ظهر للأمة أن حملة المبادئ هم رجال الأزمات وأبطال المواقف, من الذي يصمد في العاصفة؟! من الذي يحمل السلاح؟! بعد الأزمة ظهر لنا أنهم أهل الصلوات الخمس, والذين يتعلقون بكتاب الله وبـ "لا إله إلا الله ", أما الذين يعيشون الغثائية والضياع والشهوات فلن يكون لهم دور في الأزمة وليس لهم موقف مهما كان.
فلا الجانب الغنائي اكتسح العراق ولا المسرحيات قصمت ظهر حزب البعث، ولا المسلسلات وقفت وحررت الخفجي، ولا الجلسات الحمراء وجلسات البلوت, حملوا الرشاش، وقاموا على الدبابات والمجنزرات.
لم يكن هذا أبداً, بل الذين كانوا يسجدون ويعبدون هم الذين قدموا دماءهم؛ فأهل المواقف هم أهل لا إله إلا الله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] ولا بد من هذه التصفية.
وفي عهد الرسول عليه الصلاة والسلام اختلط الحابل بالنابل قبل معركة أحد , فأراد الله أن يميز الصف ويظهر الصادق من الكاذب, فبدأت المعركة.
خرج صلى الله عليه وسلم بألف مقاتل فانخذل في الطريق ثلاثمائة مقاتل, خرج المنافقون على جنب: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46] , فلم يخرجوا أبداًً ولم يقبلهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وانخذلوا؛ لأنهم ما صدقوا، وأحد الشعراء يقول:
من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح
والذي لا يصلي الصلوات الخمس في المسجد فلا تظن به خيراً, أو تنتظر منه أن يرفع لا إله إلا الله أو أن يجاهد من أجل لا إله إلا الله، أو أن ينصر لا إله إلا الله؛ لأنه خان لا إله إلا الله في المسجد فكيف ينصرها في الميدان؟!
وقصة طالوت في الميدان هي مثل هذه القصة, لما مروا بنهر، قال لقومه: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] فمضوا قليلاً فلما أحسوا بالظمأ لم يصبروا, انهار أهل الشهوات فشربوا حتى رووا، وبقي ثلة كأهل بدر ثلاثمائة وأربعة عشر لم يشربوا، ولما نزلوا قالوا: {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250] قال الله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] فهذه ثمرة من ثمرات النصر يجب أن نقف معها طويلاً، وأن نتأملها ونعرف من الذين يقدمون للأمة نفعاً, ويمكن أن يكون لهم مكانة لننزلهم منازلهم؟!(162/8)
عودة الأمة إلى ربها
الثمرة الخامسة: عودة الأمة في جملتها لتوثق صلتها بربها تبارك وتعالى, والناس كثير منهم لا يعرف الله إلا في الأزمات, إذا اشتدت به الكرب عاد إلى الله، يقول سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [العنكبوت:65] وقال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ} [الإسراء:67] وهذا أمر معلوم.
وهذه قصة تكررت في مناسبة سبقت، وإني أطلب من الإخوة الذين سمعوها أن يتحملوا سماعها مرة ثانية.
يوم الأحد الماضي عشت أنا وبعض الإخوة تجربة في طائرة وقد أقلعت بنا من أبها في الصباح، فلما قطعنا شيئاً من الوقت -ما يقارب نصف ساعة- عادت بنا إلى المطار مرة ثانية وأصلحوا في محركاتها ما أصلحوا, ثم أقلعت بنا, فلما اقتربنا من الرياض أبت محركاتها أن تنزل المطار, ووقفنا على سماء الرياض ساعة كاملة أو ما يقاربها، وتسع مرات كلما اقتربنا من المدرج رفضت أن تهبط وأصبحنا في قلق, أما النساء فأصابهن انهيار، ورأينا بعض الناس ممن كان يضحك ويلهو أصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت, وبلغت القلوب الحناجر, وأصبحنا نكتب أسماءنا في قصاصات ليتعرف على جثثنا بعد أن نصل الأرض، ونسينا الأهل والأولاد والمناصب والحياة وأصبحنا نتذكر في الدقائق التي بعد قليل (من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟):
والله لو عاش الفتى في عمره ألفاً من الأعوام مالك أمره
متلذذاً فيها بكل لذيذة متنعماً فيها بنعمى دهره
ما كان ذلك كله في أن يفي فيها بأول لحظة في قبره
وهذا هو المصير، فلا إله إلا الله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] فلما أتت الأزمة امتلأت المساجد ولاحظنا ذلك، لما أصبحت صواريخ اسكود تضرب بعض المدن أتى العصاة -الآن الذين ما كانوا يسمعون لا إله إلا الله ويستكبرون ويتعامون ويتصامون- يهرولون في المسجد كأنهم ما يعرفون الله إلا في الحرب، كبعض الطلبة في الامتحانات يؤدون الصلوات الخمس في المسجد فإذا علقت النتيجة ورأى اسمه مع الناجحين, ترك المسجد: {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً} [الإسراء:83] {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت:51] وإذا مسه الشر ألقى على الله محاضرات من الدعاء والابتهال: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] فتجد كثير من الناس وسمعنا نساء تبن وتحجبن، وعرفت بعض الأسر تركوا سماع الأغاني، وقالوا: لماذا نسمع الأغاني والكيماوي قريب منا والمزدوج؟ فلما سمعوا بانتهاء الأزمة: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] ولكن بقي في الناس من جدد صلته وعاد إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فنسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يثبتنا وإياه.
وهذه من دروس الفتن والمصائب حتى على مستوى الأفراد، فقد تجد كثيراً من الشباب لم يعودوا إلى الله إلا بحادث سيارة، أو بموت أب، أو بموت أم، والله يبتلي من يشاء: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين} [العنكبوت:2 - 3].(162/9)
القضاء على أعداء الله
الثمرة السادسة: أزيح عن طريق الأمة عدواً لدوداً من أعدائها، تصوروا من هو العدو! إنه جيش يربى من عهد ميشيل عفلق أتظن أن ميشيل عفلق يربي جيشه أحمد حسن البكر وصدام حسين لقتل إسرائيل أو إحراق نصف إسرائيل!
في مذكرات حردان التفريدي أخبر أن هناك معاهدة عدم اعتداء حزب البعث وبين إسرائيل عدم الاعتداء وهذه موجودة في المواثيق، أما الضحك على دقون الشعوب بأنا سوف نحتل إسرائيل لا:
أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافرِ
هلا برزت إلى غزالة في الوغى بل كان قلبك في جناح طائرِ
وهذا الجيش مهيأ لضرب بلاد المسلمين؛ لأنه لا يريد لا إله إلا الله، فإن علمه مكتوب عليه:
آمنت بـ البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ماله ثاني
وإنما قول صدام: الجهاد في سبيل الله كقول فرعون لما أصبح في البحر: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] فهو يضحك على الهنود والباكستانيين والأفغان والأتراك؛ لأنهم يحبون من ينادي للجهاد؛ لأنهم ما وجدوا من ينادي بالجهاد فلما نادى أراد أن يكسب عاطفتهم فما كسبها والحمد لله، المقصود بالثمرات كسر ظهر البعث , وما ألذ وما أحسن أن رأينا وجهه يعفر بالتراب:
ما ربع أمية محفوف يطوف به غيلان أبهى لنا من خدها الترب
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب
يقول سبحانه: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] انظر كم أتاه من رجل يلتمس منه أن يتنازل ويصطلح، ولو تنازل واصطلح مع الناس لأبقى قوته، ولكن الله غالبٌ على أمره، قالوا: خذ ما أردت من الشروط، فلو وافق كان خيراً له, لكن الله غالبٌ على أمره.
فحطم الله قوته, وكسر ظهره, وأزال شره, فلله الحمد والشكر.
وهذه ثمرة -وأظنها والله أعلم- في طريق مستقبل الإسلام؛ لأنه بإذن الله بعد سنوات سوف يسيطر على العالم هذا الدين الخالد؛ لأن المستقبل له: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40] فالوارث هو الله, والخلافة لهذا الدين، وقبل سنوات كسر ظهر الشيوعية واليوم البعث وغداً الصليبية وبعد غد اليهودية ليبقى دين الله عز وجل: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].(162/10)
استجابة الله لدعاء المؤمنين
الثمرة السابعة: أثر دعاء الصالحين في النصر، فالصالحين لهم أثر, تصور كم دعا من داعٍ في هذه الأزمة أن ينصر الله دينه, وأن يهلك طاغية العراق في الحرمين والمساجد! ولو قدر أن الجميع ما قبل دعاؤهم إلا واحداً أفلا يكفي؟! بلى دعاءٌ واحد يكفي فالله يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} [البقرة:186].
ذكر أحد الدعاة من الكويت اسمه طارق السويدان: أنه التقى في اثني عشر نائباً من مجلس النواب الأمريكي، وسألهم عن مشاعرهم في هذه الأزمة، فكلهم بلا استثناء كما ذكر ذلك في محاضرة مسجلة -ذكر أن لدعاء المسلمين في البلاد هنا أثر في الانتصار، وهذا رئيسهم يدعوهم وهو دينه محرف لا يقبله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فـ المسيحية لا يقبلها سُبحَانَهُ وَتَعَالى يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] ولكن رئيسهم دعاهم في وقت الهجوم البري أن يتجهوا إلى الكنائس ويدعون الله، لكن دعاء محرف، ودين باطل محرف، فكيف بالمسلمين إذا صدقوا والتجئوا إلى الله؟! كم من شيخ وعجوز وأم! وكم من طفل! دعوا الله عز وجل فلبى الله دعاءهم.
إذاً علينا أن نكثر من الدعاء، فنحن وعندنا سلاح معطل ما استخدمناه إلا قليلاً، وهو الدعاء الذي هو أقوى من صواريخ المعتدي:
دعها سماويةً تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوسِ
يقول أحد الصالحين لأحد الجبابرة وقد اعتدى عليه: "اللهم إني مغلوب فانتصر، ليس لي قوس ولا وتر ولا نبل ولكن عندي أقواس أريشها في السحر, ثم أطلقها بالدموع, ثم أرفعها فتصل علام الغيوب, فيقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين".
قيل لـ علي بن أبي طالب -وهو ثابت عنه في الترجمة- كم بين العرش والأرض؟! قال: دعوة مستجابة.
وسجن يحيى بن خالد البرمكي سبع سنوات، أخذه الخليفة هارون الرشيد وسجنه، وكان يحي البرمكي وزيراً من أكبر الوزراء في الدنيا، فمكث سبع سنوات لا يرى الشمس، فزاره أحد أصدقائه، قال: يا يحيى! بعد النعيم تنزل في هذا السجن قال: نعم.
دعوة سرت في ظلام الليل غفلنا عنها, وما غفل الله عنها.
هذا أثر دعاء الصالحين فإنه لا يهلك مع الدعاء أحد، والأمة يجب عليها أن تثق بربها سُبحَانَهُ وَتَعَالى, وأن تحسن الظن به, وأن تعلم أنه الذي نصر رسوله في بدر ونصر أولياءه في كل المواقف وهو ينصرنا متى استنصرناه ومتى صدقنا معه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.(162/11)
ارتفاع الإيمان في قلوب المؤمنين
المسألة الثامنة: ارتفاع الإيمان بالغيب في قلوب الصالحين.
فقد زاد الإيمان بالغيب في قلوب الصالحين بعد أن كشف الله هذه الأزمة, فوثقوا بربهم الذي أزال المكروه عنهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وأصبحت التقارير وكثير من التخرصات والتكهنات والتحليلات السياسية والصحفية والإعلامية؛ هباءً, لقد سمعنا وسمعتم أنتم في بعض التحاليل أنه سوف يدمر جزء كبير من المنطقة، وآبار البترول سوف تحترق وسوف تهدم, ويقتل كثير من الناس ويباد كثير من الجيش, وأن الكيماوي سوف يهلك المنطقة بأسرها وما حصل شيء من ذلك.
من أطفأ وأسكت هذا السلاح؟! ومن أباد هذه القوة؟! بل خذلوا خذلاناً ما سمع التاريخ بمثله, من الجنود يسلمون الأسلحة ويستسلمون ثم يقودهم جندي واحد، بل سمعت أن جندياً كان يسوق ثلاثة آلاف، وهذا ما سمعنا به في الحروب، فمن الذي ينصر ويخذل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] وأنا أعلل ذلك بالذنوب التي قام بها ذاك الشعب, فإن من يعرف تاريخه ويعرف تاريخ انحراف كثير منه, يعرف أن الذنوب هي التي خذلته هذا الخذلان العظيم وإلا فلا يتعثر من جبن فهو من أشجع الشعوب؛ ولكن المعصية -والعياذ بالله- تخذل الجيوش.
وكان عمر رضي الله عنه يكتب لـ سعد ويقول: [[إياكم والمعاصي! فإني لا أخشى عليكم من عدوكم لكن أخشى عليكم من المعاصي]] فإن أعظم ما يخذل الجيوش معصية الواحد الأحد، فهي التي تعمي بصره وتظهر خوره وتبيد خضراءه، وهي خطيرة إذا حلت بأي أمة أو بأي بلد، فارتفع الإيمان بالغيب ووثق الناس بربهم.
بل بعض الناس لما سمع عن انجلاء هذه الفتنة كان يسجد على الأرض ويقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، وعرف أن هناك رباً ينصر وينتقم ويأخذ وقد تحققت في الطاغية آيتين في القرآن، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52] فهو خائن فما هدى الله كيده، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] وهو مفسد فما أصلح الله عمله.(162/12)
ظهور أمر المنافقين
الثمرة التاسعة: ظهور كثير من المنافقين من مرتزقي الأفكار ومحترفي الأزمات، الأمة تعيش أزمة وصراعاً وحرباً وتجد بعض الناس يشتغل بقضايا لا تمس للمعركة بمسيس، ولا تتصل الأزمة بصلة قضايا جانبية، إما طعناً في الدعاة، أو طلباً يناقض الدين، أو خروجاً بمقالات، أو بقصائد معارضة للكتاب والسنة، فأظهر الله حقيقته للناس، ولو كان هناك العافية ما ظهر هؤلاء, فإن السلف يقولون: في العافية يتساوى الناس وفي البلاء يتميز هذا من هذا، وقال سفيان الثوري: [[إذا أقبلت الفتنة لا يعرفها إلا العلماء، وإذا أدبرت عرفها العالم والجاهل]] وهذا أمر معلوم، فإنه لما أقبلت الفتنة, عرفها المؤمنون ولم يعرفها السفهاء المنافقون، فلما أدبرت عرف الجميع الفتنة ولكن ما نفعهم: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] يتعجب الإنسان أن تعيش الأمة أزمة وتواجه مليون بعثي مسلح ويأتي بعض الناس يشكك في الحجاب ويطالب المرأة أن تترك الحجاب -هذا وقت مباحثة الحجاب- لكنه يظن أن العلم الشرعي سوف يضعف وسوف تشتغل الأمة ببعض القضايا فوجد مكاناً خصباً ليثير هذه المسألة إلى غير ذلك من القضايا.(162/13)
استشعار نعمة الأمن والاستقرار
الثمرة العاشرة: عشنا نعمة الأمن التي ننعم بها ولم نكن نشعر بها، كثير من الناس ما كان يشعر أنه في أمن، الآن تتصور مثل العاصمة الرياض لما خرج كثير من أهلها بعد هذه الضربات عادوا إليها الآن عادوا بلذة للأمن وفرحة لاجتماع الأهل شعروا برغد العيش, وحمدوا الله عز وجل, وقال بعضهم: (كنا نحسب أننا في أمن ونسيناه، الآن تذكرنا وذقنا الأمن الذي نعيشه.
الآن مثل أهل الكويت لما خرجوا قبل الأزمة وقبل اجتياح العراق الكويت ما كانوا يشعرون بهذا النعيم الذي هم فيه ولا بالرغد ولا بالسكينة ولا بالاستقرار فلما أخرجوا وعادوا الآن، وعادوا يتلهفون على هذه النعمة وعلى هذا الأمن -وشكره سوف يأتي في عنصر كيف نعبر عن شكرنا أمام هذا الحدث الجلل- فالمقصود أن كثيراً من الناس لا يعرف النعمة حتى تنصرف عنه.
الآن سل الشاب صحيح الجسم عن صحته، يقول: الحمد الله، لكنه إذا أصبح على السرير الأبيض في المستشفى حمد الله وتذكر ذاك النعيم وتلك القوة والعضلات وهذا أمر قد يفوت، ولا يتذكره إلا كبير السن إذا تذكر شبابه وصحته ونعيمه، فبم يستقر الأمن؟! يستقر بشكر المنعم سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].(162/14)
الحق لا تحميه إلا القوة
الثمرة الحادية عشرة: الحق لا تحميه إلا القوة، أي سلطة في الأرض، وأي مبدأ في الأرض لا تحميه قوة ينهار، الرسول صلى الله عليه وسلم ما أتى بمسبحة وبسواك فقط, وقال: يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله، لو قال هذا وسكت, لاعترضه أبو جهل وعبد الله بن أبي والجاهلية في أول الطريق، لكن حمل المصحف في يد والسيف في يد وأعلن على المنبر حالة الاستنفار والجهاد, وعقد الرايات لـ خالد بن الوليد ولـ عكرمة بن أبي جهل، ولـ عثمان بن أبي العاص، ولغيرهم كثير، من أجل أن ترتفع لا إله إلا الله بالقوة، يقولون: كان هناك أعرابي ذهب بامرأته يحج بها فلما أصبح يطوف بالبيت عرض فاسق ينظر إلى امرأته، قال الأعرابي: لا تنظر إلى المرأة، اتق الله! قال: وما بي من بأس أن أنظر لامرأتك هل آكلها بعيني، قال: لا تنظر إليها، قال: والله لأنظرنّ إليها، قال: انتظر قليلاً, فخرج من الحرم وأتى بسيف من الجراب كان في خرج وسله بجانبه وقال: يا عدو الله والذي لا إله إلا هو إن نظرت إليها ثانية لأقتلنك، فنكس رأسه، فقال الإعرابي في قصيدة طويلة:
تعدى الذئاب على من لا كلاب له وتتقي مربض المستأسد الضاري
وهذا أمر معلوم، الحق لا يحميه إلا قوة، ولا إله إلا الله لا يحميها إلا شباب محمد:
بلاد أعزتها جيوش محمد فما عذرها ألا تعز محمدا
من أعزنا بعد الله؟ جيوش الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا ما كان لنا كيان في العالم ولا كان لنا ذكر ولا تاريخ ولا ثقافة فما حقنا إلا أن نعز دينه، ويقول زهير وقد أخطأ، في نصف البيت وأصاب في نصفه الآخر ويقول:
ومن لا يذود عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
فالأخير جاهلي والأول صدق فيه (ومن لا يذود عن حوضه بسلاحه يهدم) إذاً هذا الدين الذي معنا لا يحميه إلا قوة ذخيرتها شباب محمد عليه الصلاة والسلام، وتحمل علم لا إله إلا الله، ألا ترى سيطرة الشعوب في العالم ما سيطرت إلا بالقوة، لا عبرة للاقتصاد في عالم القوة إذا قورن بعالم السلاح ولا عبرة في الإعلام، ولا عبرة في عدد السكان, فإن بريطانيا عضو دائم ممن تملك حق النقض (حق الفيتو) في مجلس الأمن، والهند أكثر منها ما يقارب سبعمائة مليون:
لكن عدد الحصى والرمل في تعدادهم فإذا حسبتهم وجدتهم أصفاراً
والعجيب أن القوة الآن بيد الكافر، دول النقض الخمس كلها كافرة، فهي التي تملك حق الفيتو، ومن مواثيق هيئة الأمم المتحدة، تجدون الرابع والخامس من المواثيق يقول: إذا اعتدت دولة كبرى من الدول الخمس على دولة صغيرة فلا يحق لدولة أخرى أن تتدخل، فـ الاتحاد السوفيتي لما اعتدى على أفغانستان؛ لأنها دولة من الخمس، لكن قصم الله ظهرهم من فوق سبع سماوات وقالوا: في البند الذي بعده وإذا تدخلت دولة صغرى تسندها دولة كبرى فلا يحق لأي دولة أن تتدخل، إسرائيل لما أسندتها أمريكا من تدخل؟! لا يستطيع أحد, وهذا ظلم وعدوان، وعلينا أن نعرف حقيقة أنه لا يمكن أن نحمي مسجداً أو نحمل مصحفاً إلا بقوة ونتربى على الجهاد.
وهذا هو الأمر المطلوب الذي يعرفه العقلاء من كل الناس.(162/15)
العلاقة والصداقة والأخوة ميزانها طاعة الله
الثمرة الثانية عشرة: لابد للمصالح أن تخدم المبادئ؛ لأن بعض الناس انقلب عن موقفه وتغير، أصدقاء الرخاء والموائد والمنافع يتلاشون:
جزى الله الشدائد كل خير عرفت بها عدوي من صديقي
فلا نصادق أحداً إلا على لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا نحبه إلا لأنه يتولى الله ورسوله والذين آمنوا: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56].
يا أيها الإخوة: هذا هو المبدأ الصحيح, ألا يكون بيننا وبين الناس منافع مشتركة أو مواقف محددة فانتقاصنا لهذا لأمر غير الدين، ويمدح هذا، ويسب هذا لأمر غير الدين، حينها تفشل هذه الصداقة: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] بل وجد أن من مد بالسلاح أصبح حرباً، ومن مد بالمال أصبح طعنة:
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني
إذاً من هو حبيبنا؟! من يسجد لله بأي لون أو بأي شعب أو بأي لغة، من يعترف بلا إله إلا الله محمد رسول الله هو أخونا نحبه ونتولاه.(162/16)
النعمة لا تدوم إلا بالشكر
الثمرة الثالثة عشرة: يجب أن نعلم أن النعمة لا تدوم إلا بالشكر, وهذه حقيقة كبرى يعرفها الناس، عرفها من عرفها, وجهلها من جهلها, والذي يجهلها ربما يعرفها بدرس من الله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] وهذا أمر معلوم، فإنه علم أن بعض الشعوب غرقت في المعاصي وسقطت في الفواحش إلى درجة رهيبة؛ فاجتوحوا وأصيبوا بمصائب لا يعلمها إلا الله عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً} [الطلاق:8] وهذا جزاء من يفعل ذلك، وهذا جزاء أكيد لمن يستمر في إغضاب الله عز وجل وفي نقض أمره وعدم تطبيق كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
كيف تدوم النعمة؟!
إن شكر الباري سبحانه، ليس شكراً باللسان فقط بل شكر العمل وشكر اللسان وشكر الاعتقاد، نعتقد أن المنعم هو الله، رأيت في قصة لداود عليه السلام أنه يقول: يا رب! كيف أشكرك؟! وداود عليه السلام أنعم الله عليه بالنبوة والملك وجمع آل داود وكانوا ثلاثين ألفاً، فقال داود: إن الله أنعم عليكم بنعم لم ينعمها على أحد من الناس فقيدوها، قالوا كيف نقيدها؟ قال: بالشكر، قالوا: ماذا نفعل، قال: دعونا نقتسم ساعات الليل والنهار، نصلي ونسبح ونذكر الله، فتوزعوا ساعات الليل والنهار فما مرت ساعة من ليل أو نهار إلا وأناس من آل داود يصلون وأناس يسبحون ويدعون، فقال الله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] يقول داود في بعض كلامه لربه: يا رب! كيف أشكرك؟ قال: يا داود! أتعلم أن هذا النعيم مني، قال: نعم، قال: فقد شكرتني، وهذا شكر الاعتقاد.
وشكر العمل أن تصرف هذه النعمة في مرضاة الله عز وجل، فالمال الكثير حارب به الشركات السياحية والإجرام، والصد عن سبيل الله، ومحاربة لا إله إلا الله: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] وأنا أعرف أن بعض الناس سحب من بعض الأشرطة الغنائية أكثر من مائة ألف شريط ليوزعها على الناس، انظر هذه الهدايا والصدقة: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] شكوت لأحد العلماء هذا الموقف فقال: لا يهمك حبل الباطل قصير، ثم قال: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] بينما لو صرف هذا الجهد وهذا المال في بناء المساجد, وفي توزيع الشريط الإسلامي, وفي إطعام المساكين والفقراء, وفي توزيع الكتيب الإسلامي, وفي إعطاء اللاجئين والمجاهدين؛ لكان عنده فضل عظيم من الله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] وهذا من عدم شكر النعم وما عرف كيف يصرفها في مصارفها فجعلها الله حسرة كما يقول أبو تمام:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
بل تجد حرص بعض أهل الباطل على نشر الباطل والإنفاق عليه وتأييده كأنه هو الذي يجب أن يسود ويسيطر وهذا خطأ في المنهج.(162/17)
معرفة أن النصر بيد الله وبتأييده
الثمرة الرابعة عشر: عرفنا أن العدة والعدد وحدها لا تكفي:
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
وإلا فالمشركون كانوا في بدر ثلاثة أضعاف المسلمين فهزمهم الله، وقال الله لأوليائه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123] ولما أعجب الصحابة بعددهم في حنين أخبرهم الله أن العدد لا يكفي فانهزموا في أول المعركة، قال سبحانه: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] لأن العدد وحده لا يكفي، يقول أحد المسلمين في حنين: " لا نغلب اليوم من قلة ", لكن غلبوا من غير القلة، من العجب، وعادوا وانتصروا في آخر المطاف لما تلقنوا درساً.
الجيوش العالمية التي يهول بها ليست شيئاً أمام الحق، والحق متى يستعد أصحابه بما استطاعوا من قوة نصرهم الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] في قدرتكم واستطاعتكم ليس إلا ثم ينصر الله يفتح ويثبت ويؤيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
إذاً: التهويل لجيوش الباطل ليس له أساس عند المسلم، خالد بن الوليد التقى في اليرموك وكان جيشه ثلاثين ألفاً وجيش الروم مائتين وثمانين ألفاً، فمائتان وثمانون ألفاً, يقابلها ثلاثون ألفاً وانتصر عليهم خالد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، يقول سبحانه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174 - 175] فهذا فضل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وحده.(162/18)
عدم الرهبة من الموت
الثمرة الخامسة عشرة: أزحنا شبح الموت عنا ولله الحمد، نحن أمة ما خضنا معاركاً منذ أن يعقل من أمثالنا وسننا وأسرابنا ما سمعنا أن البلاد خاضت معركة والحمد الله ونسأل الله أن يبعد عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، فلما سمعنا بهذه الأزمة خاف الناس خوفاً عظيماً ما سمع الناس بمثله، وما أظن أن هناك بلداً يشبه هذا البلد أو ما حوله، في قضية استنفار الطاقات وقضية الاهتمام بالحدث الجلل الذي وقع؛ لأن بعض الشعوب ولو كانت منحرفة فإنها عاشت الحروب واستمرت عليه يقول المتنبي:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا فأهون ما يمر به الوحول
يقول: إذا كان الرجل معتاداً على القتل والقتال، سهل عليه خوض المعركة والوصول لها، وتعرفون من الصور والنماذج التي كانت من شبح الموت أن بعض الأطفال أتاهم عن طاغية العراق من التهويل وساهمت بعض الصحف في تهويل هذا الطاغية، فكانت ترسمه بأنياب كالخناجر، وبعيون يخرج منها الشرر وترسمه وتصوره وعليه خنجر وسلاح؛ فخوفوا الأطفال والبنات الأحياء منهم والأموات، وظنوا أن هذا يأكل البشر حتى أن بعض الأطفال يقول: هذا صدام يأكل الناس، قلنا: ما يأكل، بل يأكل خبزاً وسوف يقصم الله ظهره، أما الأطفال ما يأكلهم.
فهذا ساهم فيه بعض الصحفيين في رسمه وتقبيحه وتكبيره وتهويله وهذا خطأ، ويسمى عند أهل الفقه: الإرجاف، ويُمنع المرجف والمخذل الذي يرجف في الناس ويخذل ويُمنع ويؤخذ على يديه؛ لأن العدو ضعيف ضعيف، والذي يتصل بغير الله حقير، لا يقام له وزن وأن جندنا لهم الغالبون وهذا هو جند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وأعرف ناساً في أقصى الجنوب، في قرى يمكن لو قامت أكبر المعارك العالمية يمكن ما يصلهم شيء قاموا على نوافذهم باللاصق فألصقوها حتى لا يدخل الهواء.
وفي جدة كانت هناك محاضرة عامة اسمها: "خطر ممنوع الاقتراب" قبل الهجوم بيوم أو بيومين -الهجوم الجوي- فكنت أتحدث مع الإخوة عن مسألة التوكل على الله وماذا علينا ولو متنا: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52] ونحن إن متنا فإلى نعيم نموت، فنحن نموت على التوحيد والإيمان وهل المصير إلا الموت، وفي أثناء ذلك يحس الإنسان أن الناس انشدت أعصابهم وزادت شجاعتهم، وفجأة على الميمنة من المسجد سمعنا صوت عجل سيارة له دوي كدوي البندقية أو الرشاش، فكاد الناس يخرجون من الأبواب الأخرى، فإذا المحاضرة ذهبت من المغرب إلى صلاة العشاء في الهواء؛ والسبب أن شبح الموت كبِّر وضخِّم للناس وعاشوا خوفاً، وإلا لماذا هذا الخوف؟ وكيف يصبح أعداء الله أشجع من المسلمين، بل تجد الاشتراكيين يقدمون جماجمهم تحت الدبابات، وهكذا والبعثيين والماركسيين، والشيوعيين في أفغانستان كيف قتلوا هذا القتل والإبادة؟! مع العلم أنهم يقدمون على المعركة من أجل مبادئهم الباطلة, ونحن أهل مبادئ لا إله إلا الله: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] ويقول تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] يقول أحد الشعراء واسمه النابغة الجعدي: والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: كيف تنتصرون على العرب، وهو كان من قبيلة بني جعدة وكانوا من الشجعان شجعان، قال: كيف تنتصرون على العرب؟ قال:
تذكرت والذكرى تهيج على الفتى ومن عادة المحزون أن يتذكرا
فلما قرعنا النبع بالنبع لم تكن على البعد أنت في عيدان تسترا
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكننا كنا على الموت أصبرا
فتبسم عليه الصلاة والسلام, ومعنى البيت: هم شجعان ونحن شجعان لكنا أصبر منهم، ثم يقول في بعض أبيات:
بلغنا السما مجداً وجوداً وسؤدداً وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قال: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة يا رسول الله! قال: لا فض فوك -وليس لا وظفوك! - قال: فما سقط له سن وقد عاش مائة وعشرين سنة وليس هذا شاهدنا, بل الشاهد الصبر والتحمل، ونحن لا نخاف الموت، بل لابد أن نربي أطفالنا أن يخرج الطفل بعد صلاة المغرب إلى الشارع وإلى البيت الآخر، ما يخاف من القطط والكلاب والحمير والوحوش بل يبقى صامداً شجاعاً أما حياة الجبن والخور فيجب أن نزيحها تماماً، ويقولون أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت أمه تلاعبه وهو صغير وتقول:
بأبي وأمي حيدره كليث غابات كريه المنظره
ويقولون كان علي إذا سقط على الأرض وسال دمه لا يبكي مثل الأطفال لكن علياً من جرأة قلبه لا يبكي، وكان إذا بارز الكافر يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظره
أكيلكم بالسيف كيل السندره
فهذا هو إنتاج محمد عليه الصلاة والسلام, أما أن يوجه الناس إلى الحياة فقط ويحبب لهم الركود ويصبح لا هم لهم إلا الاستقرار بدون جهاد وتضحيات؛ فهذا ينتج جيلاً جباناً لا نحتاجه ولا يحتاجه الإسلام.
فشبح الموت زال عنا ووجدنا أن الموت قريب والحمد الله، وأن هذه الأوهام التي يخوف بها الناس لا حقيقة لها ولو مات الإنسان أو قتل ففي سبيل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145] وهناك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52].(162/19)
معرفة أن الصراع بين الإسلام والكفر ما زال مستمراً
السادسة عشرة من الثمرات: عادت لنا حقيقة الصراع الذي يواجه هذا الدين، ومن يقول: إن الإسلام انتهى من الصراع فما صدق, بل لا بد للإسلام أن يصارع, ويصارع حتى نلقى الله عز وجل: {كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] فلا يتوهم متوهم ذلك.
وقد سمعت مقالة لأحد الناس يقول: نحن في عصر حرية الرأي وكلام يشبه هذا، وعصر الإخاء الإنساني الذي يجب أن يزال وينزع فيه السلاح وتتهادن الشعوب، وقضية العداء الديني نزيله من أذهان الناس وهذا الكلام مخالف لكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، سبحان الله! وأي إخاء إنساني؟! وماذا يربطك بالكافر؟! قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] فلا مودة ولا إخاء إنساني، فأخونا من اقترب معنا في إخاء لا إله إلا الله, قال تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] هذا هو أخونا وحبيبنا وبلده بلدنا:
وأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطانِ
في الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيرانِ
أما إخاء يدخل أبا لهب وأبا جهل في الإسلام فلا نريده أبداً، فـ بلال لما قال: لا إله إلا الله وسلمان الفارسي لما قال: لبيك اللهم لبيك، وصهيب الرومي لما أقبل يقول: الله أكبر الله أكبر أدخله صلى الله عليه وسلم تحت مظلة إياك نعبد وإياك نستعين ودخلوا الجنة.
فلما جاء أبو طالب القرشي وأبو لهب القرشي والوليد بن المغيرة القرشي وكفروا بلا إله إلا الله دخلوا النار.
إذاً: هذه المقولة ليست صحيحة، وقضية مسالمة الكافر ليست بواردة, بل لا بد من الجهاد حتى تنتصر لا إله إلا الله كما قال صلى الله عليه وسلم: {جاهدوا المشركين بأموالكم وألسنتكم وقلوبكم} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، القلم يجاهد، واللسان يجاهد، والسلاح يجاهد؛ لتنتصر لا إله إلا الله؛ لأن المستعمر صار دخيلاً في الأرض ليس له حق البقاء، أي كافر سواء الصليبي أو اليهودي أو الشيوعي أو القومي أو البعثي؛ ليس له حق البقاء في الأرض، بل البقاء للا إله إلا الله محمد رسول الله فقط -فيا أيها الإخوة- لا بد من الصراع حقيقة، ليل ونهار, رشد وضلال, حق وباطل من سنن الله في الكون، ولو كان الحق لا توجد عقبة في طريقه لاهتدى الناس جميعاً ولما عرف الصادق من الكاذب، ولكن أبى الله إلا أن يميز أولياءه من أعدائه.
فيا أيها الإخوة الكرام! هذه من ثمرات النصر التي وقفنا عليها وشاهدناها وعشناها ونسأل الله أن ينعم علينا وعلى الأمة الإسلامية بنصر خالد تعود فيه بلادنا إلينا وتحكم فيه شريعته في الأرض كلها وتنتصر لا إله إلا الله ويزاح الباطل, ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يرزقنا وإياكم الشهادة في سبيله، وأن يمنحنا موتةً على منهج رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يسقينا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبداً، وأن يحشرنا في زمرته، وأن يجعلنا من أتباع دينه، وأنه إذا أراد بقوم فتنة أن يقبضنا إليه غير مفتونين ولا مفرطين ولا ضالين ولا مضلين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(162/20)
الأسئلة(162/21)
حزب البعث وصدام حسين
السؤال
هل انتهى حزب البعث بانتهاء صدام حسين أم أن هناك جذوراً لا زالت باقية؟
الجواب
العلم عند الله، والذي يظهر أن هذا الرجل منته، فقد احترقت أوراقه وقصم ظهره وأصبح مبغوضاً من شعبه، والمشكلة أن حزبه قوي عنيف ولكن لا قوة فوق قوة الله عز وجل، وإلا فهو قد ربى الحرس الجمهوري خاصة وهو ما يقارب مائة وخمسين ألفاً وقيل أكثر وهو نزيف من الناس، ولكن منذ أن يبلغ الإنسان رشده أو في سن التمييز يذهب به إلى المدرسة العسكرية ويتلقى تعاليم صدام ويسبح بحمده ولا يرى إلا هو، فهم له موالون, لكنهم منتهون بإذن الله وسوف يقصمهم رب العزة، والوضع في العراق خطير؛ لأن هناك ثلاث جهات أو أكثر:
1 - جبهة رافضة وهي الكبرى.
2 - وجبهة الأكراد وهي سنة، لكن ضعيفة.
3 - وجبهة الشيوعيين.
وربما تكون هناك جبهة الديمقراطيين الوطنيين.
وسمعت أنها اجتمعت في لبنان لتشكل حلفاً ضد صدام وتسقطه، وعلى كل حال -والله أعلم- الذي يظهر أن حزب البعث سوف ينهار وينسحق بعد وقت، وهذه من المبشرات، لكن الذي يأتي بعده ما ندري، وقد تشكل حكومة ائتلافيه من كل هذه الأحزاب وهذا هو الحال في هذا الوقت إن أرادوا إسقاط هذا المجرم.(162/22)
سبب خذلان حزب البعث
السؤال
يعز البعض خذلان جيش البعث إلى القوة الآلية للقوى المتحالفة، وأنها دول متقدمة في هذا المجال، وأن العرب لولم يكن معهم الحلفاء لم يهزموا جيش البعث؟ ما رأيك بهذا الكلام أرجو إن كان هناك رد عليه؟
الجواب
على كل حال هذه الاحتمالات لا ندري صحتها وعلمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، فمسألة لو لم يكن هذا لكان كذا؛ هذه في علم الله عز وجل, لكن الذي يظهر أن حزب البعث وجيش البعث قد خذله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وإلا فتصور جيشاً تعداده ما يقارب المليون وكان في الكويت ما يقارب نصف مليون مسلح بآلياتهم وقواتهم ودباباتهم وكان عندهم من الدبابات ما يقارب خمسة آلاف وخمسمائة دبابة, وهذا يسمونه رابع قوة في العالم، ومع ذلك خذلوا.
على الأقل مع قوة كهذه لو أراد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى شيئاً لقتل كثيراً وتوقع الناس أن يقتل ألوفاً بل عشرات الألوف من الشعب الذي يقابله, لكن خذله الله.
وخذلانه ظهر من أول لحظة فإنه دُمر وذهب طيرانه وأتى إلى المعركة بدون غطاء جوي وسحق سحقاً بيناً واستسلم جنوده وأعمى الله بصيرته أن يتقيد بالشروط من قبل ثم افتضح أمام العالم؛ فذهب ما يقارب من جيشه مائة وخمسين ألف أسير، ودُمَّر ما يقارب أربعة آلاف دبابة، ودمر اقتصاده ومشاريعه وإنتاجه ثم افتضح أمام العالم فأخذ قرارات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، اثنا عشر قراراً فابتلعها كما يبتلع المريض الحبوب ولباها، ووجد أن الأسرى عنده بالعشرات وما قتل أحداً، وهذا خزي وعار، فأين جبروته الذي لا يسلطه إلا على أفراد شعبه وعلى دول الجوار؟!
فالقوة قوة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وإلا كان بالإمكان أنه ما قصم كل القصم، وما تلقى من غارات ولو أثرت فيه لكن بقي له قوة فانخذل وعاد وتراجع وانسحب، بل العجيب مما علم من بعض التقارير التي سمعت من بعض المراسلين أنه أمر هو في اليوم الأول بعد الهجوم البري بسحب الدبابات من الكويت وبقي الأفراد بالرشاشات أمام الناس، وهذا من الخذلان العظيم، ثم أتى يقاتل الناس وما عنده غطاء جوي، وهذا من الخذلان العظيم ثم قطعت موارده وما غطى خطه الخلفي الذي يمد من البصرة إلى الكويت وهذا من الخذلان العظيم، ثم كان يقول له قادته: القوة التي نصارعها قوة عالمية رهيبة وقوتنا أصغر من قوتهم، فكان يعدمهم ويعزلهم، فقد عزل اثنين من وزراء الدفاع أثناء الأزمة وقتل الثالث وهذا من الخذلان العظيم، وعلى كل حال يقول تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160].(162/23)
نصيحة في الرجوع إلى الله
السؤال
على الرغم مما مرت به بلادنا من هذه الأزمة من الفتنة والحرب إلا أننا لم نرَ من الناس رجوعاً وإنابةً إلى الله وخصوصاً بعد زوال الغمة حيث مباني الربا ومحلات الغناء وغيرها من المنكرات والمعاصي وتهاون الناس في الصلوات وخصوصاً صلاة الفجر وغير ذلك، فما هي نصيحتكم وما توجيهكم لمثل هذا بالذات، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا السؤال فيه شقان:
الشق الأول: ما يتعلق بالناس من أنهم لم يلاحظ الأخ عليهم عودة إلى الله، وأظن أنه لم يلاحظ العودة في هذه الأيام الوجيزة أو أن الإنسان لا يستطيع أن يستقرأ العودة في عيون الناس وقلوبهم ووجوههم, لكن لوحظ عودة كثير من الناس، ومن يلاحظ أخبار الناس ويتأملهم وجد ذلك وعلى كل حال إذا التزمنا بما نحن فيه من خيرية ولو أنها قليلة فهذا خير كثير, إذا لم تستطع أن تزيد على ما معك فالزم ما عندك:
ولم أرَ في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمامِ
لأن بعض الناس -والعياذ بالله- بعد الانتصار يبطرون ويتكبرون ويتجبرون فيرتدون على أعقابهم.
وأما ما ذكر الأخ من بعض المعاصي ودور المعاصي وأماكن الربا, فنسأل الله عز وجل أن يوفق ولاة الأمر وأن يهديهم إلى سواء السبيل؛ لإزالة مثل هذه الأماكن وهذا يرفع إليهم، ونسأل الله تعالى أن يهديهم قراراً حكيماً يتخذون بشأن هذه وهذا الذي نأمله؛ لأنهم هم الذين يملكون هذا القرار المهم في حياة الأمة وهذه أمنية السواد الأعظم من أمة هذه الرسالة؛ لأن الشعب هذا شعب مسلم علمه لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويحب الله ورسوله، حمل وثيقة إياك نعبد وإياك نستعين، وما أظن أنهم إذا رأوا هذا وتأملوا إلا هداهم الله عز وجل لما فيه خير للإسلام والمسلمين.(162/24)
استقبال رمضان
السؤال
أسأل الله أن يبلغني وإياك والحاضرين شهر رمضان المبارك وأن يجمعنا وإياكم والحاضرين في جنات النعيم، نرجو من فضيلتكم التكلم قليلاً بمناسبة قدوم شهر رمضان، وحث الناس على كثرة الخير والطاعات؟
الجواب
ما ذكره الأخ من طلب التحدث عن شهر رمضان فقد سبق بالأمس محاضرة بعنوان (هدي السلف في رمضان) وقد أشبع فيها الكلام بما فتح الله عز وجل، وفيها مسائل مهمة -والحمد لله الشريط سهل التداول- وإعادة الكلام وتكراره على الناس صعب، فأنا آمل من الأخ إن استطاع أن يعود إلى الشريط الذي به محاضرة الأمس (هدي السلف في رمضان) ولكن بهذه المناسبة يمكن أن أقول: إن أعظم ما يمكن أن نستقبل به رمضان أن نجدد توبتنا وعودتنا إلى الله, واعلم أنه إذا انسلخ منك رمضان وما حرصت على أن تعتق رقبتك من النار فقد خسرت خسراناً مبيناً -نعوذ بالله من الخسران- وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {رغم أنفه، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من أدركه رمضان ولم يغفر له} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فيا أخي! احرص على أن تعتق رقبتك من النار بالطاعات والتوبة إلى الله، وأما بقية المسائل ففي المحاضرة السابقة.(162/25)
تعليق على ظهور الفنانين بعد انتهاء الأزمة
السؤال
نلاحظ أثناء الأزمة اختفاء دور أهل الفن والكرة والعلمانيين وأصحاب المصلحة، لكن حينما زالت الأزمة نرى أنهم يعودون الآن تدريجياً فما تعليقكم على ذلك؟
الجواب
يقول العربي:
وإذا تكن ملمة أدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
وهذا بيت يمثل به الشجاع العربي أخاه وهو، يقول: إذا كانت هناك مهمة وكلفة ومشكلة أدعى أنا لأحمي أهلي، وإذا كان هناك حيس -والحيس: هو البر بالسمن- يدعى جندب أخوه، يقول: وهذا ليس صحيحاً، فبعض الناس للحيس، يعني أوقات الراحة والتسلية على الأمة، بل بعضهم كما يقول تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] وقرأت مقابلة مع مغن في أحد الصحف قالوا: ماذا قدمت للأمة في تلك الأزمة؟ قال: قدمت لهم صوتي ووتري وعودي -الله أكبر! جزاك الله خيراً ما هذا الطموح؟! - قال: وأنشدت نشيداً وطنياً قلت فيه:
الله الأول وحبـ ك يا الوطن ثاني
وهذه الكلمة شرك في حد ذاتها، وقد نبه أهل العلم أنه لا يجوز إطلاقها وهو يعني أنه هزم صدام حسين بالوتر والعود!
والجيوش العربية كانت تتوخى ألا تسمع نشيداً في المعركة ولا غناء لأنها تنهزم، ويقولون معركة عبس وذبيان كانت من أسباب انهزام إحدى القبيلتين أنهم سمعوا مغنية معها عطر اسمه: منشم، فانهزم الجيش كله فيقول زهير:
تداركتما عبساً وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فالأمة لا تحيا ولا تنتصر بالغناء والمجون واللهو والضياع والتفلت, فنحن أمة لنا رسالة خاصة واتجاه ولنا مبادئ محددة, والحمد لله الأمة في غنى عن الغناء والضياع, وعندها مبادئ وسماع شرعي رحماني أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين واليابانيين واليونان والروس والصينيين إذا استمعوا الغناء, فما عندهم قرآن, لكن عندنا السماع الشرعي المحمدي القرآني وعندهم السماع الشيطاني الطاغوتي اللاهوتي الضائع، فلا يجوز أن تقرن هذا بهذا, والحقيقة أن الأحداث تتكلم عن نفسها، فقد رأينا من هو أعود على الأمة صلاحاً, هل هو الطيار والطبيب والمهندس والداعية والمعلم والأستاذ والتاجر المسلم؟ أم هو المغني والمطبل والضائع والكاتب بلا هوية والمرتزق بمبادئه والمتعاطي بقلمه, يقول تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60].(162/26)
حقيقة العلامة التي يرفعها الناس بأصابعهم على شكل سبعة
ؤال: أرجو أن تخبرنا يا شيخ عن هذه العلامة التي يستخدمها بعض الناس، ويزعمون أنها علامة للنصر، ويرفعون بها أصابعهم بشكل سبعة فما معنى هذه الإشارة؟
الجواب
السبعة اسم جنية، وهذه الإشارة فيما قرأت لـ جيجون الفرنسي فقد كان يشير بها الجيش الفرنسي ثم نقلت إلى أنحاء العالم، وقد أشار بها أبو عمار في ثالث هزيمة تعرض لها، فلما طرد من بيروت أشار للفلسطينيين بهذه، ولما سحق كذلك بعض الفلول له، وهذه مصيبة فلسطين مصيبة لنا نحن ولا يحرر فلسطين إلا المصلون العابدون، وليس هي قضيتهم وحدهم بل هي قضيتنا نحن أيضاً، وقضية المسلم الهندي والأفغاني, والمسلم التركي والكردي، إنما المقصود بها أن يشيروا بها إلى الهزائم:
واليوم تسعون مليوناً وما بلغوا نضجاً وقد عصر الزيتون والعنب
ومن النكات التي سمعتها -ربما كانت من الإسرائيليات لكن كان يحدث بها بعض الشباب في بعض الجهات- أن طارق يوحنا وهو وزير خارجية العراق وهو نصراني طارق يوحنا عزيز وهم يحذفون يوحنا تمويهاً على الناس:
طلقة في رأسك اليوم تطلقها للفرود وطلقة في رأس حنا وطلقة في علا
فـ طارق هذا يقولون -وهذا من الظرائف: إنه دخل بعد أن اجتاحت القوات الكويت على صدام وأشار إليه بهذه الإشارة فقال: بشر، قال: ما بقي اليوم إلا أنا وأنت! أما علامة النصر عندنا فهي رفع السبابة قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] وكان صلى الله عليه وسلم يشير بإصبعه عند الدعاء والذكر فهذه علامتنا، أما هذه العلامة فهي علامة الانهيار والهزيمة وما حملها إلا عميل ومستخذ ومجرم وربما يفعلها بعض الناس جهلاً أو تشبهاً وهذا ما يجرم هذه الفعلة لأنه يكون مخطئاً ونقول له: لا، الإشارة الأولى أحسن، وهذه تب واستغفر واتركها.(162/27)
آخر أخبار أفغانستان
ؤال: الحديث عن النصر ينقلنا إلى جبال وأودية أفغانستان التي نسأل الله أن ينصر المجاهدين هناك، فما هي أخبار المجاهدين، جزاك الله خيراً؟
الجواب
أولاً: لست بحديث عهد بـ أفغانستان من قبل سبعة أشهر أو تسعة أشهر كنت هناك مع بعض الإخوة وأتيت بالأخبار اسمه: " ليالي في أفغانستان " إنما مجمل ذاك أن الجهاد رفع به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى جبهة الأمة الإسلامية وأثبت لنا أن القوة الأرضية مهما كانت أمام الحق فهي لا شيء, فمجاهدو الأفغان لما احتلت روسيا كابل خرجوا من المساجد بالكلاشنكوف يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
وهذه وحدها تكفي؛ لأن تكون ميثاقاً وعلامة أن الأمة لا زالت مستطيعة، إذا جدت وواصلت سيرها واستعانت بربها أن تنتصر على عدوها وهي قضايا أخرى وحقيقة أن إدخالاً لموضوعات في موضوعات أو طرق بعض المحاضرات في بعض المحاضرات قد يأخذ وقتاً طويلاً أو يمل السامع.(162/28)
أبيات شعرية في مدح النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
نريد أن يسمعنا الشيخ شيئاً من الأبيات الشعرية، سواء كانت مناسبة للأحداث أو المحاضرة أو غيرها ونترك الخيار له أن يسمعنا ما يراه مناسباً من الأبيات والقصائد لتكون ختام هذه الجلسة؟
الجواب
من القصائد مقطوعة الرسول صلى الله عليه وسلم عارضت بها البردوني شاعر اليمن وله قصيدة رائدة من أجمل ما قيل، مع العلم أني نبهت أن البردوني هذا مجرم، عمره الآن ما يقارب السبعين سنة لكنه بعثي ويحمل الاشتراكية والقومية أعمى القلب والبصر قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّه} [الجاثية:23] لكن أتته مرة ثائرة من حادث، فألقى قصيدة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في صنعاء وهي من أروع ما قيل، يحيي فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول:
بشرى من الغيب ألقت في فم الغار وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرار
بشرى النبوة طافت كالشذا سحراً وأعلنت في الدنا ميلاد أنوار
وشقت الصمت والأنسام تحملها تحت السكينة من دار إلى دار
ثم يقول يا رسول الله:
أنا ابن أنصارك الغر الألى سحقوا جيش الطغاة بجيش منك جرار
نحن اليمانيين يا طه تطير بنا إلى روابي العلا أرواح أنصار
إذا تذكرت عماراً وسيرته فافخر بنا إننا أحفاد عمار
فقلت في قصيده:
صوت من الغور أم نور من الغار أم ومضة الفكر أم تاريخ أسرار
يا عيد عمري ويا فجري ويا أملي ويا محبة أعمار وأقطار
تطوي الدياجير مثل الفجر في ألق تروي الفيافي كمثل السلسل الجاري
الشمس والبدر في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والناري
أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبار
فما لقومي بلا وعي قد انتكسوا أصغوا لصيحات عربيد وخمار
يبيع ذمته في الرجس في وثن والدين ينهاه منه في شف هار
لو بيع في السوق ما حازوا له ثمن ولو شروه لكان الغبن للشار
جمع الطوابع من أسمى هوايته ذو همة بين خباز ونجار
فهذه من المقطوعات وأستأذنكم في البقية.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(162/29)
أمن يجيب المضطر إذا دعاه
تعرف على الحي القيوم في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن عبادتك دعاء وتوحيدك دعاء، إن سألت فاسأل الله، وإن استعنت فاستعن بالله، وإن أصابتك بلوى أو حدقت بك مصيبة تمثل بقول الله عز وجل (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) [النمل:62].
اطلب حاجتك من ملك الحاجات، ثم لا تكن كمن قال الله فيهم: (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت:65].
واعلم علم اليقين أن دعوة المضطر سهام صائبة، ثم لا تستعجل الفرج (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء:19].(163/1)
إجابة المضطر
الحمد لله رب العالمين، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أكرم هادي، وأفصح من نطق في البوادي، وأجل من تكلم في النادي، وأحدى من حدى به حادي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
شكر الله لأهل الفضل فضلهم، وعلى رأسهم مدير معهد محايل وأساتذته وطلابه والحضور الكرام، وعنوان هذه المحاضرة: أمن يجيب المضطر إذا دعاه.
أيها المسلمون:
يا مالك الأملاك أنت المقصد يا من له كل البرايا تصمد
أبواب كل مملك قد أوصدت ورأيت بابك واسعاً لا يوصد
الصالحون بنور وجهك آمنوا عافوا بحبك نومهم فتهجدوا
لا إله إلا الله، من ذا الذي يجيب المضطر إذا دعاه؟!
من الذي يجيب حاجة المحتاج؟!
من الذي يغفر ذنب المستغفر؟!
من الذي يعفو عن الزلل؟!
إنه الله لا إله إلا هو: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:25 - 26] التجأت الكائنات إلى الله، والتفتت الأبصار، واتجهت القلوب إليه، كل المعمورة إلا الكافر تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ولهذه المحاضرة خمسة عناصر:
أولها: فضل الدعاء وما ورد فيه.
الثاني: آداب الدعاء.
الثالث: دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
الرابع: دعاء الأولياء.
الخامس: فوائد الدعاء.
وقبل أن أبدأ اعلموا -يا مسلمون- أن الدعاء حبل بين العبد وبين الله، ولا يصدق العبد في الدعاء إلا إذا صدق مع الله، ولا تأتي حاجة الدعاء عند كثير من الناس إلا في الأزمات: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] يوم تشتد الأزمات فلا تجد إلا الله، ويوم تجتمع عليك المشاكل والأحداث والمصائب فلا تجد إلا الله، وحين تضيق بك الكوارث فلا تجد معيناً ولا ناصراً ولا هادياً إلا الله.
يا حافظ الآمال أنت حميتني ورعيتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني(163/2)
كل الخلائق تدعو الله
خرج سليمان عليه السلام -والحديث صحيح- يستسقي بالناس، فمر في الطريق بنملة وإذا هي قد انقلبت على ظهرها ورفعت يديها إلى الحي القيوم فمن أخبر النملة أن الله خلقها؟ من أخبر النملة أن الذي يحيي ويميت ويضر وينفع ويشافي ويعافي هو الله؟
أتدرون ماذا تقول النملة؟
تقول: يا حي يا قيوم! أغثنا برحمتك، فبكى سليمان وقال لقومه: عودوا فقد سقيتم بدعاء غيركم.
النملة تعلم أن لا إله إلا الله وتشتكي ضرها إليه، وهكذا العجماوات والسمكة في البحر والدودة في الطين:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
والبقر تشهد أن لا إله إلا الله، وقد ورد عن عيسى عليه السلام أنه مر ببقرة وهي في الولادة وقد اعترض ابنها في بطنها، فأخذت البقرة تنظر إلى السماء تطلب العون من الله، فأنطقها الله الذي أنطق كل شيء، وجعلها الله داعية متكلمة تقول: يا حي يا قيوم! يسر علي!! ثم قالت: يا روح الله! أسألك أن تدعو الله أن يسهل علي، فبكى عيسى ودعا الله فسهل الله عليها.
وكل الكائنات تلتجئ إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وقد أخبرنا شيخ جليل لا يزال في أبها وهو حي يرزق يقرأ كتاب الله، يقول: سافرت في سفينة في البحر الأحمر، قريباً من باب المندب الذي يشرف على عدن، فحانت صلاة المغرب وأنا في وسط البحر في السفينة، فقمت أؤذن، فكان هناك ثعبان في البحر كلما قلت: الله أكبر؛ رفع نصفه من البحر واستقام، فإذا انتهيت عاد إلى الماء، فإذا قلت: الله أكبر؛ عاد من جديد واستقام، فإذا سكت عاد، فما قلت كلمة ولا جملة من الأذان إلا رفع جسمه ثم نزل بعد أن سكت.
من علمه؟
إنه الله لا إله إلا هو.
يا طبيب! يا من عنده العلاجات! يا حامل الأدوية!
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
يا طبيب! من الذي أرداك وقتلك وأماتك؟(163/3)
كاشف البلوى هو الله
أبو بكر في مرض الموت قالوا له: ماذا تشتكي؟
قال: أشتكي ذنوبي.
قالوا: ماذا تريد؟
قال: أريد المغفرة.
قالوا: ألا ندعو لك طبيباً؟
قال: قد رآني الطبيب.
قالوا: فماذا قال؟
قال: يقول: إني فعال لما أريد.
كيف أشكو إلى الطبيب ما بيا والذي قد أصابني من طبيبيا
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
إبراهيم عليه السلام مرض فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] فانظر إلى الأدب: نسب المرض إلى نفسه ونسب الشفاء إلى الله، وإلا فالشافي والمعافي والنافع والضار هو الله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].(163/4)
فضل الدعاء
أما فضل الدعاء فحدث ولا حرج، وقد صح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال -كما عند الحاكم بسند صحيح-: {الدعاء هو العبادة}.(163/5)
من فضائل الدعاء: أنه هو العبادة
يوم ترى العبد كثير الدعاء اعلم أنه عابد، يوم تراه متصلاً بالله اعلم أنه قوي الإرادة.
نظرت إلى فيلم مع بعض الإخوة للمجاهدين الأفغان في منطقة ترخم، وقد رفعوا أياديهم قبل القصف المسلح وهم يحملون الكلاشنكوف فبكينا جميعاً.
من أين يأتي المدد؟ أخذوا المدد من الله، لا من هيئة الأمم، ولا من مجلس الأمن، ولا من موسكو، ولا من واشنطن، ولكن {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160] النصر من السماء، كان الصحابة إذا حضروا طلبوا من الله أن ينصرهم فينصرهم سبحانه.
فقبل المعركة لهم دعاء، واتصال بالله.
وقف حبيبنا ورسولنا ومعلمنا صلى الله عليه وسلم في معركة بدر يدعو إلى الفجر حتى سقطت بردته من على كتفيه.
يقول سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] إذا قالوا لك: أين الله؟ هل هو قريب أو بعيد؟
إذا سألك العباد عن قدرة ربك، وعن سمعه وعلمه، فقل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ولم يقل: فقل لهم إني قريب، قال أهل المفسرين: ترك الفصل لشدة الوصل، ولم يقل: فقل لهم: إني قريب.
لأن في هذا فصل، وإنما قال: إني قريب، ترك الفصل لشدة الوصل ولاتصال الكلام {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] وسبب نزول هذه الآية أن الصحابة أتوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم حديثو عهد بالجاهلية التي كانت تجعل الإنسان يعبد الوثن واللبن والتمر والحجر والمدر، فجعلهم عليه الصلاة والسلام يعبدون الله، جعلهم أمة ربانية تتصل بالله، بينها وبين الله جسور، أمة ليس بينها وبين الله واسطة إلا في التبليغ عن طريق محمد عليه الصلاة والسلام.
قالوا: {يا رسول الله أربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟}.
يقولون: يا رسول الله! أخبرنا وأفتنا أربنا قريب يسمع فنتكلم بصوت خافت أم هو بعيد فنرفع أصواتنا؟ ولذلك يقول ابن مسعود: [[كنت متستراً في لباس الكعبة فمر بي مشركان كثيرة شحم بطونهما، قليل فقه قلوبهما، فسمعت الآخر يقول: أيسمعنا رب محمد إذا تكلمنا؟ فيقول أخوه التيس الأعمى الذي هو غبي مثله قال: إذا رفعنا سمعنا، وإذا خفضنا لا يسمعنا.
فيقول: خفض صوتك]].
وبالمناسبة كان هناك رجلان مشركان، وقد أسلما فيما بعد، جلسا تحت ميزاب الكعبة والرسول -عليه الصلاة والسلام- في المدينة وكما قيل: أين مناخ العيس من حلب.
لا هاتف، ولا فاكس، ولا اتصال، ولا برقيات ولا شيء، أمة صحراء، الجمل يأخذ من المدينة إلى مكة عشرة أيام، فقال صفوان بن أمية لـ عمير بن وهب: ما رأيك يا عمير في محمد قتل آباءنا وإخواننا وأعمامنا في بدر؟ ما رأيك لو قتلته؟ قال عمير بن وهب: أريد أن أقتله لكن من يقوم بأطفالي وأهلي؟ قال: أنا أقوم بأطفالك وأهلك، الهدم هدمي والدم دمي والحياة حياتي والموت موتي.
فأخذ عمير سيفه فسمه حتى أصبح السيف أزرق، فذهب إلى المدينة يريد أن يقتل محمداً عليه الصلاة والسلام ولم يدر أن الله قال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم
وصل عمير إلى المدينة يريد تنفيذ خطة من أبشع خطط البشر، فوصل إلى المسجد فرآه عمر، فقام عمر وهو مجرد من السلاح وذاك عنده السيف، فأخذه عمر بسيفه وثيابه ومماسكه وقاده كما يقود التيس، حتى أدخله على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد.
فقال عليه الصلاة والسلام: يا عمير! ماذا جاء بك؟
قال: جئت أفادي أسرانا في بدر.
قال: بل كذبت! جلست أنت وصفوان تحت ميزاب الكعبة، فقال لك صفوان: كذا، وقلت له: كذا وكذا وجئت لتقتلني، وما كان الله ليسلطك علي.
قال عمير بن وهب: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
من الذي علمه؟ من هو القريب؟
قالوا: {أربنا قريب فنناجيه أو بعيد فنناديه؟ فسكت عليه الصلاة والسلام فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]}.(163/6)
من فضائل الدعاء: أنه لا يهلك معه أحد
أما فضل الدعاء فحدث ولا حرج، ورد في الحديث {لن يهلك مع الدعاء أحد} كيف تهلك والدعاء معك؟ كيف تموت والدعاء معك؟ كيف تخزى في الدنيا والدعاء معك؟ قال أبو الحسن علي بن أبي طالب: [[عجباً لكم! معكم الدواء ومعكم الداء، داؤكم الذنوب ودوؤكم الدعاء والاستغفار]] فأكثروا من الدعاء وألحوا في الاستغفار.
ذكر الله إبراهيم عليه السلام فوصفه أنه كان أواه منيب، وقد اختلف أهل التفسير في تفسير كلمة "أواه" قال بعضهم: كان يقول: أواه من ذنوبي، أواه من خطاياي، أواه من معاصي، أواه من تقصيري.
وبعضهم قال: كان كثير الدعاء، وكثير المسألة والإلحاح.
ألحوا في الدعاء فإن الله يحب الملحين في الدعاء.
ألح في الدعاء فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى واسع المغفرة.
الله يغضب إن تركت سؤاله وترى ابن آدم حين يسأل يغضب
لو سألت الإنسان، طلباً وطرقت عليه بابه، وألححت عليه يغضب منك، أو يطردك أو يسأم منك إلا الله.
وكلما اقتربت من الله ودعوته وصدقت معه زادك توفيقاً وهداية ورشداً.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن زكريا وغيره من الأنبياء {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
ولو سئل الناس التراب لأوشكوا إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا
أما خزائن الله فملأى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً} [الإسراء:100].(163/7)
آداب الدعاء
من آداب الدعاء:
أ- دعاؤه سُبحَانَهُ وَتَعَالى بالأسماء الحسنى والصفات العلى.
ب- الإلحاح في الدعاء.
ج- عدم التعرض والتعدي والظلم في الدعاء.
د- توخي الأوقات الفاضلة في الدعاء.
هـ- ترك السجع والتكلف.
والدعاء بالجوامع.
ز- الإخفاء في الدعاء.(163/8)
من آداب الدعاء: دعاء الله بأسمائه الحسنى
أما دعاء الله بالأسماء فلله أسماء سمى بها نفسه، ولم يسمه أحد من الناس، بل اختار لنفسه أسماء كالحكيم والكريم والعليم والحليم والحي القيوم وذو الجلال والإكرام وأمثالها {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] الصوفية لهم دعاء عجيب! يقول ابن عربي الصوفي الغالي: من أفضل الأسماء: هو هو.
الضمير المنفصل، وقد ضحك عليه ابن تيمية بقوله: هذا ليس دعاءً بل هذا نبيح كلاب، فهم قالوا: بدلاً من هو الله، يكفي أن تقول: هو، وبعضهم قال: الله الله الله الله، وبعضهم يردد فقط الاسم بلا دعاء، وأنت تجدهم في المدينة ومكة ممن يقدم من البلاد الأخرى جالساً الليل كله من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، وهو يقول: يا لطيف يا لطيف، يا لطيف يا لطيف.
ماذا فعل اللطيف؟ وماذا تريد من اللطيف؟
فلو أتاك رجل عند الباب واسمك محمد، فقال: يا محمد، يا محمد، يا محمد، يا محمد.
فتقول: نعم.
فيقول: يا محمد، يا محمد.
فتقول: نعم.
فيقول: يا محمد.
ما هذا! ماذا تريد من محمد؟ إن الاسم لابد أن ينادى بمشتق أو بفعل أو بطلب، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك، يا أكرم الأكرمين أكرمنا بطاعتك، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.
ووردت أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، كقول بعضهم كما يذكر الغزالي صاحب كتاب الإحياء: يا دهر الدهارير.
سبحان الله! وهل من أسماء الله دهر الدهارير؟! هذه طلاسم ما أنزل الله بها من سلطان، أسماؤه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى توقيفية وهي التي سمى بها نفسه وسماه بها رسوله عليه الصلاة والسلام.
جاء عند أحمد في المسند بسند صحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: {اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، وجلاء همي وغمي، وذهاب حزني} ما أجمل هذا الدعاء! وما أحسن هذا الكلام! وعند البخاري عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة} قال أهل العلم: معنى (من أحصاها) على أحد معان ثلاث: من أحصاها قيل: حفظها، ومن أحصاها قيل: عمل بمقتضاها، ومن أحصاها قيل: عرف معانيها.
والكل صحيح.
والدعاء بالأسماء الحسنى يكون بأن تثني على الله قبل أن تدعوه كما كان يقول عليه الصلاة والسلام في الليل: {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون! اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم}.(163/9)
من آداب الدعاء: الإلحاح في الدعاء
من آداب الدعاء: أن تكون ملحاحاً، لا تقول: دعوت دعوت فلم يستجب لي.
بل تستمر، يقول صلى الله عليه وسلم: {لا يقل أحدكم: دعوت فلم يستجب لي} وقال في حديث آخر: {يستجاب لأحدكم ما لم يستعجل، يقول: دعوت دعوت فلم يستجب لي} وكل شيء عنده بمقدار.
أتملك اقتراحاً على الله؟
أتريد أن تنفذ إرادتك على الله؟
أتريد أن يلبي الله لك طلبك في أسبوع؟!
أنظر إلى موسى، وقف عليه السلام داعياً يقول {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:88] فيقول أخوه هارون وهو بجانبه: آمين، آمين، آمين.
فأخبر الله أنه استجاب لهما فسماهما داعيين، قال: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يونس:89] قال أهل العلم: كان بين الدعاء والإجابة أربعون سنة.
أربعون سنة مكث موسى ينتظر عذاب الله على فرعون وقومه.
شاعر يمني موحد له منظومة عجيبة اسمها: (الجوهرة) مثل العسل المصفى، تبكي عيون الموحدين، يعارض بها ابن دريد صاحب قصيدة:
يا ظبية أشبه شيء بالمها ترعى الخزامى بين أشجار النقا
والتي يقول فيها من الأبيات الجميلة:
والناس ألف منهم كواحدٍ وواحدٌ كالألف إن أمر عنا
وآفة الرأي الهوى فمن علا على هواه رأيه فقد هوى
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى
فرد عليه اليمني وهو يتوجه إلى الله في جبل من جبال صنعاء ويبكي ويقول:
لطائف الله وإن طال المدى كلمحة الطرف إذا الطرف سجى
كم فرج بعد إياس قد أتى وكم إياس قد أتى بعد النوى
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولا يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
الإلحاح أن تستمر في الدعاء {ليسأل أحدكم حاجته حتى شسع نعله -وفي بعض الروايات- حتى الملح فإنه إن لم ييسره الله ما تيسر}.
القلوب بيد الحي القيوم، ولا يفتح القلوب إلا هو، والمفاتيح عنده: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].(163/10)
من آداب الدعاء: عدم التعدي في الدعاء
أولياء الله لا يتعدون في الدعاء، التعدي شيء يخالف الشرع مثل أن يدعو العبد أن يكون نبياً من الأنبياء، كيف تكون نبياً وقد ختمت الرسالة؟! الله عز وجل يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144] ويقول في آية أخرى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] وكأن تدعو أن تكون أفضل من أبي بكر الصديق وقد صح بالنصوص أنه أفضل الأمة.
سمع سعد بن أبي وقاص -المجاهد العظيم الشجاع فاتح العراق - ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض على يمين الجنة -اشتراط: قصر أبيض وعلى يمين الجنة في الشارع الثاني، قصر على شارعين! - قال: يا بني، إني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ليكونن أقوام من أمتي يعتدون في الطهور والدعاء} فلا تكن منهم، ولكن ادع الله الجنة واستعذ به من النار.
يقول ابن الجوزي: أتى أعرابي ووقف بـ عرفة ثم نزل وبات بـ مزدلفة وفي اليوم الأول رمى الجمرات، وسبق الناس إلى الحرم ودخل الحرم مسرعاً، ثم تعلق بأستار الكعبة وقال: اللهم اغفر لي قبل أن يكثر عليك الناس.
لا إله إلا الله! يقول: نفِّذ طلبي يا رب الآن قبل أن يأتي الناس ألوف مؤلفة.
وهو الذي لا تختلف عليه اللهجات، ولا يضيق بتعدد الحاجات، ولا تختلط عليه النغمات ولا السمات ولا الأعراف ولا القبائل ولا الجهات، لو اجتمع أهل الأرض من خلق الله من ذرية آدم إلى قيام الساعة في صعيد واحد قال: {فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر} رواه مسلم.
هذا من دعاء الأعراب، وهو من الجهل بما عند الله، وهو من التعدي، بل بعضهم كان يدعو بالدعاء الجاهلي الذي ذكره أهل العلم ولا يليق بذلك قال بعض الأعراب: اللهم اغفر لي وإن كنت غفرت لي فأرني علامة.
يقول: أرني علامة لأرى هل غفرت لي أم لا.
وكان بعضهم إذا دخل في الإسلام كما ذكر ذلك ابن عباس يقول: اللهم ارزقنا دراً -أي: لبناً- وزرعاً وضرعاً.
فكان إذا لم يرزق ارتد عن الإسلام، يعبد الله على حرف: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200] دعاء في الدنيا فقط، فيأتيه دعاء الدنيا ومعيشة الدنيا لكن لا حظ له عند الله، فالمسلم لا يتعدى في الدعاء.
ومن التعدي في الدعاء أن تقول: اللهم إني أسألك أن ترفعني على فلان وفلان في الجنة، وأسألك أن تدخلني الجنة وترزقني ثلاثة قصور: قصر أبيض وقصر أزرق وقصر بنفسجي.
هذا من التعدي والاشتراط الذي ما أنزل الله به من سلطان.(163/11)
من آداب الدعاء: توخي الأوقات الفاضلة
للدعاء أوقات، وأعز وقت في السحر، سبحان الله الذي جعل السحر من أفضل الأوقات!
قلت لليل هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار
قال لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحاري
نام الناس ورقدوا وغفلوا إلا الله، وفي الصحيحين: {ينزل ربنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فاغفر له؟ هل من داع فأجيبه؟ فإذا طلع الفجر ارتفع الله} فالسحر عجيب {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17] إن كنت تريد الخير فكن من الداعين في الثلث الأخير يوم تنام العيون إلا عين الله:
نامت الأعين إلا مقلة تذرف الدمع وترعى مضجعك
فالسحر السحر.
والسجود من الأماكن والحالات الفاضلة، يقول عليه الصلاة والسلام: {إني نهيت أن أقرأ القرآن وأنا ساجد، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم} -أي جدير- حديث صحيح.
وصح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد}.
يقولون: كان محمد بن جعفر الصادق إذا سجد في المقام بكى عند الكعبة حتى يبكي الناس، ويقول: مسكينك بين يديك، فقيرك بين يديك.
نور الدين محمود بن سبكتكين التركي المجاهد العظيم كان إذا سجد يقول: اللهم اغفرلي، فإن عندي من الخطايا كالجبال.
هذا هو الصدق والإخلاص.
محمد بن واسع الأزدي يوم فتح المسلمون كابل عاصمة أفغانستان طوقوها فأخذ يرفع سبابته ويتكئ على رمحه، ويقول: يا حي يا قيوم! انصرنا.
فيقول المجاهد قائد المعركة قتيبة بن مسلم: والله لأصبع محمد بن واسع عندي خير من مائة ألف سيف شهير، ومن مائة ألف شاب طرير.
إذاً: توخي الأوقات الفاضلة ومنها الساعة التي بعد صلاة العصر إلى المغرب من يوم الجمعة فما جاء في الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام: {إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يدعو الله عز وجل أو يصلي -كما في رواية أبي هريرة - ويسأل الله شيئاً إلا أعطاه} إذا جلست في المسجد أو في بيتك داعياً منيباً مخبتاً لبى الله طلبك.
ومن الأوقات: يوم عرفة، حيث يتجلى الله للناس يوم عرفة فيقول: {يا ملائكتي! انظروا لعبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين، أشهدكم أني قد غفرت لهم}.(163/12)
من آداب الدعاء: ترك السجع والتكلف
مثلما يعرض في بعض المساجد في دعاء القنوت والتراويح، تجدهم لا يبكون عند القرآن، فإذا أتى القنوت اهتز المسجد والحارة لأن الإمام مجهز نفسه من الصباح بـ مقامات ابن نباته ومقامات الحريري، يمسك الراء نصف ساعة، والدال نصف ساعة.
اللهم يا رافع القصور، ويا موسع الدور، ويا كسار الظهور، وشارح الصدور، ثم يمول دعاءه ويتكلف فيه، وهذا خلاف السنة.
وقد نبه على ذلك سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في كثير من المناسبات، فليجتنب الإنسان التكلف، فإننا ديننا بسيط سهل، الأولى أن يبكي من القرآن، وادع بما عندك، وكان السلف يكرهون التكلف، والدعاء هو الذي يخرج من القلب لا ما حفظ في الرأس أو في القرطاس، فهذا يطير مع الهواء والأنفاس.
العجم كانوا يدعون بلغاتهم ولكن الله يستجيب لهم، حتى سئل ابن تيمية قالوا له: لو دعا الله داع بلغة عامية أيستجاب له؟ قال: سبحان الله! المهم أن يوجد الصدق والإخلاص لأنهما طريق الاستجابة وليس الفصاحة، كم من فصيح قلبه أعمى، وأعجم، وأبكم.(163/13)
من آداب الدعاء: الدعاء بالجوامع
الدعاء بجوامع الأدعية، تقول عائشة في الصحيح: {كان عليه الصلاة والسلام يتوخى الدعاء بالجوامع من الكلم من الأدعية ويدع ما سوى ذلك}.
ومن الأدعية الجوامع: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللهم إني إسألك العفو والعافية، اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم اهدني وسددني، اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك.
هذه هي الأدعية الجوامع ونحوها مما ورد في السنة.(163/14)
من آداب الدعاء: الإسرار في الدعاء
يقول عز من قائل في الذكر: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} [الأعراف:205] وفي الدعاء قال: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] وقد سبق بيان هذا التفصيل في شريط "الدعاء هو العبادة" لمن أراد أن يعود إلى تفصيل هذه الجزئية لأن المجال ليس مجال تفصيل هنا.(163/15)
دعاء الأنبياء عليهم السلام
اسمع إلى الأنبياء يدعون الله، اسمع إلى أقرب الناس وإلى أفضلهم، وإلى أخشعهم، اسمع إلى الأبرار يدعون الله.(163/16)
دعاء نوح عليه السلام
يقول نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} [نوح:28] يقول العلماء: جزى الله نوحاً عنا خير الجزاء دعا لنا وقد أتى قبلنا بآلاف السنوات، نحن في موكب نوح، وفي نسبه، وطريقه، ومنهجه {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} [نوح:28] إلى قيام الساعة، فدعا عليه السلام فجزاه الله عنا خير الجزاء {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19].
ونوح عليه السلام له دعوات، فقد دعا بالرحمة للمؤمنين ودعا بالهلاك للكفار يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] يقول: لا تترك منهم ساقاً يدور ولا قدماً تمشي؛ لأنه جربهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فما نفع فيهم إلا الدعاء {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:26 - 27] فدعا عليهم بالهلاك، ورسولنا عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك، {أتاه ملك الجبال وملك الريح وأرادا أن يطلب منهما طلباً لينفذاه في قريش الكفرة، قال: لا.
لكني أسأل الله وأرجوه أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً} فجزاه الله عنا خير الجزاء وآتاه الله الوسيلة صلوات الله وسلامه عليه.(163/17)
دعاء إبراهيم عليه السلام
إبراهيم عليه السلام له دعاء كثير في القرآن، دعا لنا يا أهل الجزيرة! يا أهل الفواكه والخضروات! يا أهل الفلل البهية! يا أهل القصور! نحن أهل الصحراء، ليس عندنا ماء ولا شجر، ولا عندنا حدائق ولا بساتين، صحراء جرداء قاحلة، لا ظل وارف ولا ماء بارد ولا شيء، لكن إبراهيم التفت إلى البيت وقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] عليك السلام وصلت دعوتك، أصبحت فواكه الدنيا تجبى إلينا من كل مكان، ما سمعنا بأحد مات جوعاً في الحرم، الحجاج ملايين مملينة والخبز والفاكهة واللحم والطعام والماء متوفر لدى الحجاج {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37] من رأى الزرع في مكة؟ إنها جبال سود، ولكن نحن من أرغد شعوب العالم، فدعوته طافت حتى دخلنا نحن أهل المناطق البعيدة في فوج ذاك الدعاء الخالد الذي سجله القرآن، يقول إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم:37 - 40] وهذا من الدعاء الذي سجله القرآن، وهو يحفظ للمؤمنين.(163/18)
دعاء موسى عليه السلام
أما موسى عليه السلام فأمره عجيب، كان شجاعاً وجريئاً، لم يصلح لليهود إلا هو، كانوا يتصورون صورته في الماء البارد، إذا غاب عبدوا العجل وإذا حضر مدحوه، وإذا غاب سبوه {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69].
قام قارون فأرشى امرأة وأعطاها كنزاً، وقال: إذا حضرنا فادعي على موسى أنه فعل بك الفاحشة.
فقامت المرأة أمام الناس تضرب شعرها ووجهها، وتقول: إن موسى فعل بها الفاحشة.
فقام موسى أمام الناس وقال: يا أمة الله! أسألك بمن شق لي البحر، وبمن أنزل علي الألواح، وكتب التوراة لي بيده، أنا فعلت ذلك؟ قالت: لا.
قال: اللهم خذ قارون: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81].
موسى عليه السلام قال له الله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] كان فرعون في عاصمة مصر يحكم مصر، وكان حرسه ستة وثلاثين ألفاً مدججين بالسلاح، وكان موسى يرعى الغنم ومعه عصا يهش بها على غنمه، قال: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:24 - 36] قال المفسرون: قال سؤلك ولم يقل أسئلتك.
لأنها اعتبار عن سؤال واحد، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.(163/19)
دعاء خاتم النبيين صلى الله عليهم أجمعين
ثبت في الحديث الصحيح أن صحابياً قال: {يا رسول الله! ادع الله أن يغيثنا.
فقام صلى الله عليه وسلم يدعو الله، فقام أحد الصحابة عنده تمر في جرينه -في حوشه- يخاف عليه من المطر فقال: يا رسول الله! لا تدعو الله عندي تمري في الجرين -وهو يعرف أن دعاءه صلى الله عليه وسلم مستجاب في الحال- فتبسم صلى الله عليه وسلم على المنبر، وقال: اللهم أغثنا، اللهم أنزل غيثك حتى يقوم أبو بردة بثوبه يسد جحران الجرن -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- فأمطرت السماء، ورأوا أبو بردة وهو يسد الماء عن التمر}.
وفي الصحيحين: {أنه عليه الصلاة والسلام كان يتكلم إلى الناس في خطبة، وفي أثناء الخطبة -والجماهير أمامه- وإذا بأعرابي أتى من البادية يدخل من الباب ويقطع الخطبة مباشرة، وقال: يا رسول الله! جاع العيال، وضاع المال، وتقطعت السبل فادعو الله أن يغيثنا -هل فكر الرسول عليه الصلاة والسلام؟ هل تلعثم؟ - لا بل رفع يديه على المنبر وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا} فما انتهى من دعائه إلا ونزل المطر نزولاً شديداً، وظل ينزل أسبوعاً كاملاً حتى كانت الجمعة القادمة فدخل الأعرابي وقال: {يا رسول الله! جاع العيال وضاع المال، وتقطعت السبل فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر} قال أنس: [[فوالله ما يشير إلى جهة إلا ويتحدر الغيث إلى تلك الجهة]] سبحان الله! لا إله إلا الله! يشير يمنة والغيث يمنة، ويشير يسرة والغيث يسرة، فخرج الناس والمدينة كالجوبة كأنها مفصلة في ثوب على المدينة شمس وصحو وحول المدينة غيث ومطر.
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه
من وحد العرب حتى صار واترهم إذا رأى ولد الموتور آخاه
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(163/20)
دعاء يونس بن متى عليه السلام
وأما يونس بن متى فله قصة مع الدعاء، فقد عاش وذاق الدعاء.
دعا يونس عليه السلام قومه فأعرضوا عن منهج الله، فركب السفينة وما استأذن الله.
من الذي أرسله؟ الله، إذاً ممن يطلب الإذن؟ من الله.
إذا أرسلك رجل -ولله المثل الأعلى- أو مسئول في مهمة وذهبت لغيرها، فإن هذا يدل على أنك قد عصيته، فكيف بمن عصى الله؟!
فما استأذن الله؛ لأنه ضاق بقومه فركب السفينة، والمعاصي تدمر وتغرق السفن، وتسقط الطائرات من السماء، وتحطم السيارات.
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي نسيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
سبحان الله! ركب يونس عليه السلام في السفينة فأتت الريح تلعب بالسفينة، قال ربانها وقائدها: فينا عاص لله، أنزلوه في البحر، السفينة سوف تهلك وتغرق، فأقرعوا فوصلت القرعة والسهم إلى يونس، فقالوا: ننزلك.
قال: أعيدوا القرعة.
فساهم ثانية فوقعت فيه، فساهم ثالثة فوقعت فيه، فأخذوه بثيابه وأطرافه وألقوه في البحر {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] أخذوه وما أعطوه منقذاً ولا حبلاً قالوا: رموه وسط الليل بعد صلاة العشاء، فوقع في ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الحوت.
وليته حين وقع في الماء كان قريباً من الشاطئ لكن وسط لجة البحر، وليته كان في النهار لتراه السفن لكن كان في الليل، وليته كان عنده قارب لكن لا قارب له، وليته كان بعيداً عن الحوت لكن كان هناك حوت عظيم يستقبله ليضيفه في ليلة طيبة الأنداء، دافئة الظلال، ففتح فمه وابتلعه فأصبح بين الضلعان.
لا إله إلا الله! ما أبعده من مكان!! ماذا فعل؟ تذكر الزوجة لا زوجة، تذكر الولد لا ولد، تذكر القوم لا قوم، فقال كلمة من أروع الكلمات، رفع سبابته في بطن الحوت بين اللحم والعظم في ذلك المكان الضنك وقال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
وارتفعت مباشرة إلى الحي القيوم {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10].
قيل في سيرته عليه السلام سمعت الملائكة هذا الصوت فبكت، وقالت: يا رب! صوت معروف من عبد معروف لا ندري أين هو -الملائكة لا يدرون، لا يدري جبريل ولا ميكائيل ولا إسرافيل أين يونس- قال الله: أنا أدري أين عبدي سوف أنجيه {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144] فأخرجه الله عارياً ليس عليه شيئاً {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:146 - 148].(163/21)
من أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم
أما أبو القاسم -حبيبنا عليه الصلاة والسلام- فله دعاء، لكن دعاءه له طعم خاص، دعاؤه من أعجب الدعاء، ومن أحسن ما يكون، دعاؤه يصل إلى القلب مباشرة، في الصحيحين عن ابن عباس قال: {بت عند خالتي ميمونة -زوجة محمد عليه الصلاة والسلام- فأتى عليه الصلاة والسلام وقد تناومت -لم ينم ابن عباس ولكن تناوم لأنه يريد أن يرى عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم في الليل، فقال صلى الله عليه وسلم لـ ميمونة: نام الغليم؟ قالت: نام.
قال: فسبح عليه الصلاة والسلام ونام حتى سمعت غطيطه، ثم قام فقضى حاجته، ثم قام فتوضأ، ثم استقبل القبلة، وقال: اللهم أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد، اللهم أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد، اللهم أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وعند مسلم عن عائشة: {كان عليه الصلاة والسلام إذا قام من الليل يقول: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم}.
كان يدعو فتأتي الإجابة مثل فلق الصبح، أتاه رجلان من العرب يريدان قتله، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت.
والعربيان هما: عامر بن الطفيل سيد من سادات العرب، وأربد بن قيس يريدون ذبحه فمنعه الله، فأما عامر بن الطفيل فأصابه الله بغدة كغدة البعير فقتلته في بيت عجوز سلولية، وأما أربد بن قيس فأرسل الله عليه صاعقة من السماء فأحرقته.
ابن أبي لهب آذى الرسول -عليه الصلاة والسلام- وقال بعض أهل السير: قام ابن أبي لهب فتفل في وجه المصطفى عليه الصلاة والسلام (بصق في وجهه).
لا إله إلا الله! جازاه الله بصنيعه.
فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك.
فسافر هذا الرجل مع قافلة إلى الشام، فكانوا إذا أرادوا أن يناموا توسطهم، قالوا: ما لك تخاف؟! قال: دعا علي محمد، ودعوته لا تخطئ وأنا أخاف من السباع في الليل، ويوم اقتربوا من الشام نام وسط القافلة فأتى أسد في الليل -حيدرة وما أدراك ما حيدرة! - الأسد ليس بذئب ولا كلب ولا ثعلب، الأسد إذا زمجر يخلي الحارة من سكانها -يحكى أن ليثاً دخل من غابة إلى عاصمة أسبانيا مدريد فأعلنت حالة الطوارئ في العاصمة- يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:50 - 51] الأسد هذا أمره عجيب! ولذلك يقولون: أشجع العرب من يقتل الأسد بالعصا، وما حدث هذا في التاريخ إلا مرة من أحد أمراء الأردن، فقد سمع بأن أسداً دخل عمان -وهذا في عهد المتنبي في القرن الثالث- فأخذ عصا -لكن عصا ليست صغيرة تنكسر- بل لو ضرب الحمار بها لمات، وقد كان الأمير من أشجع الناس، فترك السيف في البيت لأن السيف كل إنسان إذا ضرب به أصاب، أما سلاح البنادق فالنساء والجبناء والأطفال كلهم شجعان بالسلاح الناري.
فأخذ السوط بيده وأخرج عصا قوية مديدة والتقى هو والأسد والناس على سطوح المنازل ينظرون إليه، فتقدم الأسد فوثب على الأمير، فوثب الأمير على الأسد فضربه على هامته، ثم ضربه على هامته ثم ثنى ثم ثلث حتى ضربه سبعاً فقتله.
يقول المتنبي:
أمعفر الليث الهزبر بسوطه لمن ادخرت الصارم المسلولا
يقول: هذا بالعصا فكيف إذا خرجت بالسيف؟ لمن ادخرته؟
فسلط الله على ابن أبي لهب أسد، أتى يتشمشم الناس وهم نائمون، فكان يفتح الإنسان عينيه فينظر إلى الأسد فيغمض، ماذا يفعل؟ يعض الأسد أو يقوم ليخانق الأسد؟ كان الإنسان إذا فتح عينيه ورأى نيوب الأسد كالأصابع غمض وسكت مكانه منتظراً للموت، ولكن الأسد يريد ابن أبي لهب لأنه مرسول من الله على رجل، فكان يشم هذا فيتركه، فيشم الثاني فيتركه، ولسان حاله يقول: أنت لم تنطبق عليك الوصفة أو العنوان خطأ، فيصل إلى ابن أبي لهب فاعتلف رأسه وأكله.
وهذا ثابت في السيرة وهو من دعائه -عليه الصلاة والسلام- إلى غير ذلك من الأدعية التي ليس هذا مجال بسطها.(163/22)
دعاء الأولياء
اسمع إلى دعاء الأولياء {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] أولياء الله هم أهل الصف الأول، وأهل الروضة، والمصحف، والقرآن، وأهل التسبيح، والصيام، وقيام الليل، والذكر الخالد، وأهل الحجاب.
أما أهل الغناء، والمخدرات، والسيجارة فهم ليسوا من أولياء الله.(163/23)
ابن العلاء متضرعاً
لما خرج الصحابة رضوان الله عليهم وأميرهم العلاء بن الحضرمي للجهاد فقطعوا صحراء الدهناء، فلما انتصفوا الصحراء، انتهى ماء الشرب، وكان عندهم بئر هناك ولكن البئر جفت ويبس ما فيها، ولا يوجد فيها قطرة، حاولوا أن يجدوا الماء فبحثوا وحفروا ولكن لم يجدوا شيئاً، وكانت الخيل تصهل صهيلاً وتبح بحيحاً من الضمأ، وأشرفوا على الهلاك.
قالوا: يا علاء بن الحضرمي! ادع الله أن يغيثنا.
فوقف العلاء واستقبل القبلة مع الصحابة، وقال: يا حكيم يا عليم، يا علي يا عظيم اللهم أغثنا هذا اليوم.
قالوا: والله ما انتهى من دعائه إلا وسحابة قد غطت المخيم فأمطرت حتى سقوا وغسلوا وشربوا!.
سبحانك ما أسرعك إجابة لعبدك إذا دعاك!
يقول الله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] حتى لو كان المضطر كافراً فإن الصحيح عند علماء السنة أن الكافر إذا اضطر في الدعاء وصدق، يجيب الله دعوته {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} [العنكبوت:65] هؤلاء هم المشركون {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65].
يقول ثمانية عشر أمريكي أصحاب - كتاب " الله يتجلى في عصر العلم ": أنهم نزلوا في سفينة في المحيط الأطلنطي فانقطع جهاز الإرسال (الأريال) وانقطعوا عن جهاز الاتصال بالأمريكان وبالسفن المحيطة، فغاصت بهم السفينة وعادت الفطرة إلى الله {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] وأخذوا يقولون بلغتهم: يا ألله (قود قود) فأخرجهم الحي القيوم ونجاهم فأسلموا.
دعاء المضطر علامة للتوحيد وانقياداً للإيمان، ووسيلة لمعرفة الواحد الديان، وعلامة ظاهرة على صدق البرهان: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].(163/24)
البراء بن مالك لو أقسم على الله لأبره
من هو البراء بن مالك؟
إنه صحابي جليل، كان من أفرس الصحابة، وكان أسداً يفترس الرجال مثلما يفترس الأسد الماعز!! دخل عليه أخوه أنس وإذا البراء في بيت من بيوت الأنصار وإذا به يرفع صوته بنشيدة إسلامية، وضع رجلاً على رجل وهو ينشد مرتاحاً بعد صلاة الظهر قال له أخوه أنس: أنت صحابي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنشد؟!
قال: اسكت يا أنس! والله لقد قتلت مائة فارس مبارزة ولا أموت إلا شهيداً.
لماذا يحلف؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: {رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك} كان يحلف على الله ويستجيب له حلفه.
حضروا في معركة تستر والمسلمون مع أبي موسى الأشعري فلما حضرت المعركة وبدأت ساعة الصفر، قالوا: يا براء! نسألك بالله أن تقسم على الله أن ينصرنا.
قال: انتظروني قليلاً.
فاغتسل ولبس أكفانه وأتى بالسيف، وقال: اللهم إني أقسم عليك أن تجعلني أول قتيل وأن تنصرنا.
فكان أول قتيل وانتصر المسلمون.
إن هذه الأمة ربانية؛ لأنها اتصلت بالله، ولقد تكرر مجدها مع كل وقت وحين، ولذلك أنتم ترون المجاهدون وتسمعون من أخبارهم وعجائبهم ما يرفع إيمانكم إن شاء الله، يقفون ويكبرون ثم يطلقون الرصاص من السلاح العادي الكلاشنكوف فتسقط الطائرات سبحان الله! يضعون عتادهم على الحمير، ويسحقون الدبابات الروسية كل ذلك بسبب دعاء الأولياء.(163/25)
قصة الرجل الصالح صاحب الحمار
أما الرجل الصالح صاحب الحمار فقصته مشهورة والعهدة على ابن القيم وهو ثقة إمام علامة، جاء بها في الجواب الكافي قال: خرج رجل صالح على حمار وقد كان يقوم الليل ويصوم النهار، فاعترضه لص ودخل به في غابة، وقال له: سلم ما عندك وإلا ذبحتك.
قال: أسألك بالله أن تتركني لأهلي وخذ ما عندي.
قال: والله لأذبحنك.
قال: إذاً، اتركني أصلي ركعتين.
قال: فتوضأ وقام يصلي، فضاعت الآيات وكثرة الدمعات، من الذي لا تضيع الآيات عنده والخنجر على رأسه؟! بل لعلك تنسى اسمك.
قال: فوقف بالخنجر على رأسه.
قال: فوالله لقد نسيت كل آية في القرآن الكريم إلا قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] فقلت: يا من يجيب المضطر إذا دعاه! يا من يجيب المضطر إذا دعاه! يا من يجيب المضطر إذا دعاه! فإذا بفارس على فرس وقد أرسل رمحه فقتل هذا اللص.
قلت: من أنت؟
قال: أنا رسول من يجيب المضطر إذا دعاه، لما دعوت الدعوة الأولى كنت في السماء السابعة، ولما دعوت الدعوة الثانية كنت في السماء الرابعة، ولما دعوت الثالثة كنت في السماء الدنيا لأقتل هذا المجرم {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31].(163/26)
سعد بن أبي وقاص من مجابي الدعاء
جاء في حديث يروى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة} كانت دعوته مثل فلق الصبح، يقول عليه الصلاة والسلام: {اللهم أجب دعوته وسدد رميته} لو رمى في الشرق لعادت الرمية إلى الكافر في الغرب.
وكان ينظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة أحد ويعطيه الأسهم فيضرب سعد فيقع سهمه في عين الرمية فيتبسم عليه الصلاة والسلام، والحديث في البخاري يقول: {ارم سعد فداك أبي وأمي}.
حتى يقول علي: [[لم يفد الرسول عليه الصلاة والسلام أحداً بأبيه وأمه إلا سعداً مما جعله الله من المجابين في الدعاء]].
روى البخاري في الصحيح في باب الصلاة: أن عمر سأل الناس عن سعد بن أبي وقاص وكان سعد أميراً من قبل عمر، فسأل عمر الناس عن إمرة سعد وعدله، فأثنوا عليه خيراً إلا رجل كبير، قال: إذا سألتنا بالحق؛ فإن سعداً لا يمشي في السرية، ولا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية.
فقام سعد وقال: اللهم إن كان قام رياءً وسمعة فأطل عمره وأكثر ماله وولده وعرضه للفتن.
فطال عمر هذا الشيخ حتى سقط حاجباه على عينيه وأخذ يغمز نساء الناس في السكك والشوارع ويقول: شيخ مفتون أصابتني دعوة سعد.
وذكر الذهبي في السير أن رجلاً سب علياً رضي الله عنه وأرضاه، وقد مات علي فقال سعد: لا تسب أخي.
قال: لأسبنه.
قال: اللهم سلط عليه ما شئت.
فإذا بجمل أقبل مسرعاً من الكوفة فلطم هذا الرجل الساب فقتله.(163/27)
فوائد الدعاء(163/28)
من فوائد الدعاء: إعلان التوحيد
أعظم الناس توحيداً أكثرهم دعاءً، انظر إلى الشيوخ كبار السن، انظر إلى اللحاء البيضاء التي أكثرت من الدعاء إن فيها علامة على صدق اللجوء بالحي القيوم، أقل الناس دعاء أقلهم توحيداً، إذا رأيت الإنسان يقلل من الدعاء فاعرف أن توحيده ضعيف.
وإذا رأيت الإنسان قليل الذكر فاعلم أن توحيده ضعيف.
إعلان التوحيد هو بالدعاء، إنه اتصال بالله عز وجل، لا يرزق ولا يعافي ولا يشافي إلا الله.(163/29)
من فوائد الدعاء: صدق العبودية
أن تكون صادقاً في العبودية، قريباً من الواحد الأحد، هذا دليله الدعاء، فإن الذي يدعو الله بلسان خفي، دليل على أنه يثق بالله.
بعض الناس يقال له: ادع الله.
يقول: هذا مكتوب علي سواء أدعو أو لا أدعو، إنْ كتب الله عليَّ أن أنجح نجحت، وإن كتب عليَّ أن أرسب رسبت، لا فائدة من الدعاء.
سمعت رجلاً مريضاً في قلبه، قيل له في سبب دنيوي: ادع الله، قال: الأمر سواء، إنه مكتوب علي ما حدث.
ولقد أخطأ خطأً بيناً وخالف الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم.(163/30)
من فوائد الدعاء: التعرض لمحبة الله
أحب العباد إلى الله أقربهم وأكثرهم دعاء له.
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفيك ما علمتني الطلبا
هذا البيت يورده ابن القيم، فأحب الناس إلى الله أكثرهم دعاء، فأرجو من نفسي وإياكم كثرة الدعاء والابتهال والإلحاح في السجود وأدبار الصلوات وبين الأذانين وفي السحر دعاءً خالصاً أن يعيننا الله.(163/31)
من فوائد الدعاء: قرب العبد من الله
فإن العبد إذا أكثر من الدعاء استشعر القرب من الله، وهي درجة الإحسان، التي هي أعظم درجة، وهي: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.(163/32)
من فوائد الدعاء: الثقة بوعود الله
الواثق بالله كثير الدعاء، والفاشل المهزوم المتردي قليل الدعاء، حتى إن بعضهم أيس من الدعاء، يقول: جربت الدعاء فوجدته لا ينفع، وهو الذي ما نفع بنفسه وقطع صلته بالله، وهو الذي موَّت قلبه وعطَّل اتصاله بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(163/33)
من فوائد الدعاء: دحر الشيطان
فالشيطان يندحر من الداعي ويغضب غضباً عظيماً ويخسأ ويطرد ويبعد؛ إذا دعا الداعي ربه.
فيا أيها الإخوة: أكثروا من الدعاء وارفعوا أياديكم إذا دعوتم، واطلبوا من الله عز وجل العون والسداد، وادعوه بالأسماء الحسنى، وصلوا في دعائكم على الرسول عليه الصلاة والسلام.
وأحسن الدعاء ما كان في الأوقات الفاضلة واستقبل به القبلة، وكان بعد ذكر وتسبيح وتحميد وثناء وتهليل، ودعي بأسماء الله الحسنى، وكان بعد تسيوك وطهارة، وكان في مكان فاضل في مسجد أو في مقعد ذكر أو في الكعبة وهي من أشرف الأماكن، أو في الحرم.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، والرشد والسداد، وشكر الله لمن أحسن، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(163/34)
الأسئلة(163/35)
حكم التصفيق للرجال
السؤال
ما حكم التصفيق، وهل ورد، وهل يفعل؟ وما حكم من رأى قوماً يصفقون كالحفلات العامة، وحفلات المدارس والمجامع؟
الجواب
التصفيق ليس بوارد، وليس من فعله عليه الصلاة والسلام، ولا من فعل أصحابه، ولا من فعل السلف الصالح، وهو أمر أجنبي وارد على المسلمين، وقيل: أول من أتى به الفرنسيون، ولم يصح عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان يصفق ولا أحد من أصحابه.
وسمعت أن بعض الناس ترشح للفتيا وهو ليس بمفتي، ويقول: لا بأس به.
هؤلاء الناس أدخلوا كل شيء وأباحوها من خلال فتاوى رخيصة.
فنقول: من أين لك بجوازك بالتصفيق؟ ولماذا وضعت نفسك مفتياً، خف من الله عز وجل!
وكان الصحابة إذا أعجبهم شيء كبروا، يقولون: الله أكبر.
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يكبر، أتى عمرو بن ود يتقاتل هو وعلي فلما حجبهم الغبار انكشف الغبار وقد قتل علي عمرو بن ود فقال المسلمون: الله أكبر.(163/36)
قول: صدق الله العظيم بعد التلاوة
السؤال
ما حكم قول القارئ بعد إنتهائه من التلاوة، قول: صدق الله العظيم؟
الجواب
قول "صدق الله العظيم" بعد القراءة بدعة، وإن كان المعنى صحيح ولكن الفعل ليس بوارد، وإلا فالله يقول: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95] أما أن تقال بعد التلاوة فليست بواردة.(163/37)
تحريم الإسبال بجميع أشكاله
السؤال
ما حكم الإسبال في الملبس من غير خيلاء؟
الجواب
الإسبال محرم، سواء لخيلاء أم لغير خيلاء، وسواء كان البشوت، أو البنطلون، أو السراويل أو غيرها.(163/38)
حرمة الأغاني بالإجماع
السؤال
يسأل سائل عن حكم الغناء، وهل هناك إجماع حول حكمه؟
الجواب
الغناء محرم بالإجماع، نقل الإجماع الشوكاني وأبو بكر الآجري وغيرهم.
وأنا أدلكم على شريط بعنوان: رسالة إلى المغنين والمغنيات تسمعون فيها أحكام أهل العلم والنقولات من السلف، وتسمعون بشرى سارة: سبعة من المغنيين في بلادنا تابوا -ولله الحمد- من أمثال أبو الكرم وعودة العودة وفهد السعيد ومشاري ومحمد البيتي ومسفر القثامي كلهم تركوا الغناء واستبدلوا مكان الوتر والموسيقى مصحفاً وسنةً وتلاوةً وذكراً.(163/39)
حكم لعب البلوت ونحوها
السؤال
سأل سائل عن حكم لعب البلوت ونحوها هل هي حرام أم لا؟
الجواب
المسلم لا يلعب البلوت، المسلم حياته أعظم من لعب البلوت، لعب البلوت ليس إلا للفاشلين في الحياة، والذي يعرف أن أنفاسه تكتب عليه ليلاً ونهاراً أيلعب بلوت؟! {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] أبناء سعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وطارق بن زياد يلعبون البلوت؟! أحفاد أبي بكر وعمر يلعبون البلوت؟! المؤمنون المصلون يلعبون البلوت؟!
أنا لا أريد الآن أن أقول هو حرام أو حلال، لكن هل يعقل أن من يريد جنة عرضها السماوات والأرض أن يلعب البلوت أو الباصرة أو ما في حكمهما؟! أو يسهر في المقهى للساعة الثانية؟ أين الإيمان؟! أين الرسالة الخالدة؟! أين حفظ الوقت؟!
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني
كان معاذ وسعد وخالد وطارق ليلهم سهر مع الله، صلاة وبكاء وعبادة، وليل كثير من شبابنا في المقاهي اليوم إلى الساعة الثانية يلعبون بلوت وباصرة ودخان وسيجارة وبعد عن الله، أولئك كما يقول الأول:
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون لقياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
متى كان المسلم يلعب بلوت؟ متى كان المسلم همه جمع الطوابع؟ متى كان المسلم ضائعاً في أموره؟ متى كان المسلم يعيش بلا رسالة؟ يوم سلخ المسلم بثقافات غربية ديكارت وكانت وأعداء الله سلبوه الإيمان والبعد عن الكتاب والسنة، وأصبح لاهياً عابثاً لعاباً طبالاً.
كذلك أخرج الإسلام قومي شباباً مسلماً حراً أميناً
وعلمه الريادة كيف تشرى فصاهر أن يقيد أو يهونا
انظر إلى الصنفين من الشباب، شباب في المساجد في الصف الأول يتلون كتاب الله، وشباب يدخلون الرعب على الناس: تفحيط، وصد عن منهج الله، وجلسته سيئة، وعقوق للوالدين، وقطيعة للرحم، ومقاطعة لكتاب الله.
فرحماك يا رب!
شباب في أفغانستان يحملون السلاح، وشباب عندنا يسهرون على المعصية لا يعرفون المسجد، كم الفرق بين الشبابين؟ وهؤلاء المجاهدون بعمائمهم ولحاهم أذلوا روسيا، لقد سحق المجاهدون هناك الشيوعيين الروس وعلى رأسهم جرباتشوف.
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ
يسعى فيعثر في سروال خيبته في أذنه من رصاص الحق خرصان
ردوه كالقرد لو بيعت سلامته بشعبه لشراها وهو جذلان
شكر الله لكم، وشكر الله لمدير المعهد، وشكر الله لأساتذة هذا المعهد الرائد معهد محايل وللطلاب ولكم أيها الحضور وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(163/40)
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة
النبي صلى الله عليه وسلم هو طبيب هذه الأمة, ويعلم بأن سنن الكون ماضية على كل إنسان, فالإنسان يمر بفترة رخاء ولا بد أن يمر أيضاً بفترة شدة, فلذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس والأمة من بعده على أن يعرفوا الله في الرخاء كي يعرفهم الله في الشدة.(164/1)
لا بد من الاعتراف بالتقصير
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيماً لينذر بأساً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً، ما كثين فيه أبداً.
الحمد لله رب العالمين الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير.
والصلاة والسلام على أشرف هادي، خيرة الحواضر والبوادي، وأفصح من تكلم في النوادي، وأكرم من الغوادي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، جئت الليلة فقيراً أتكلم إلى فقراء، ومسكيناً أتكلم إلى مساكين، فإن كنا قبلنا بعد هذا الدعاء فهنيئاً لنا ومريئاً لنا وبشرى، وإن كنا طردنا من عند الأبواب فإننا نقف نادمين خاشعين باكين، يقول عمر بن عبد العزيز للناس: [[والله إني لآمركم بتقوى الله، ولا أعلم أحداً أكثر ذنوباً مني]] , ويقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [[والله الذي لا إله إلا هو، لو علمتم بما عندي من الذنوب لحثوتم على رأسي التراب]].
ويقول عمر رضي الله عنه: [[يا ليتني كنت شجرة فأعضد، يا ليتني ما توليت الخلافة، يا ليتني ما عرفت الحياة]].
إنها والله حياة مضنية وشاقة ومكلفة إلا لمن عمل صالحاً قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:101 - 103] , وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:30 - 31].(164/2)
كلمات قليلة تحمل معانٍ عظيمة
إخواني في الله! يقول عليه الصلاة والسلام من حديث طويل: {تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة} وهذا هو عنوان هذه المحاضرة، وهذه الوصية قالها أخشى الناس لرب الناس، وأعلم الناس بما لرب الناس من جلال وكمال، وأصدق الناس في الوصية للناس، وهي من حديث طويل، ركب ابن عباس رضي الله عنهما مع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم على حمار، محمد صلى الله عليه وسلم يركب الحمار، وهو يقود القلوب إلى بارئها، محمد صلى الله عليه وسلم يركب الحمار وهو أشرف من طلعت عليه شمس النهار! محمد صلى الله عليه وسلم يركب الحمار وهو أشرف الأبرار وأخير الأخيار وأحسن من يرثون الدار!
قال لـ ابن عباس وهو في مقتبل العمر، شاب لا يدري ما هي طريق الحياة، في أول الطريق لا يعلم ما الله صانع به، فاختلسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصة سانحة نادرة وقال لـ ابن عباس: {يا غلام -فالتفت الغلام واستمع وأنصت- إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء, لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} ما أحسن الحديث، وما أعظم الوصية، وما أجل الخطاب!!
تعالوا معنا -أيها الناس- إلى دعوته صلى الله عليه وسلم وكيف علم أصحابه أن يعرفوا الله في الرخاء ليعرفهم في الشدة، وهذه سنة الله في الخلق: أن من تعرف على الله في الرخاء عرفه في الشدة، ولذلك كانت أمنية الصالحين قديماً وحديثاً أنبياء وغير أنبياء أن يحفظهم الله في الشدة.(164/3)
قصة إبراهيم عليه السلام
يقول إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] طمع فقط في رحمة الله، نسي رسالته، ونسي الصالحات التي قدم، وعدَّ نفسه مذنباً فقال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] إبراهيم عاش الرخاء حافظاً لله، يوم أعرض الناس عن الله, كان مصلياً متوجهاً موحداً حنيفاً مسلماً ولم يك من المشركين، الناس يسجدون للأصنام وهو يسجد لله، الناس يتعلقون بالأوثان وهو يتعلق بالله، الناس يقدسون الخرافة وهو يقدس ربه
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا(164/4)
إبراهيم عليه السلام يناظر النمرود
أوقدوا له النار، بعد أن دخل على النمرود الكذاب الدجال على الله، يقول الله جلت قدرته: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة:258] ألم تر إلى من ضيع حدود الله؟! ألم تر إلى من انتهك حرمات الله؟! ألم تر إلى من كفر بالله؟ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258] الخالق الله، الرازق الله، المدبر الله، المحيي الله، المميت الله:
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافكا
والنحل قل للنحل يا طير البوادي ما الذي بالشهد قد حلاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله: كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
الحمد لله العظيم لذاته حمداً وليس لواحد إلاكا
{قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258] لا يحيي ولا يميت إلا الله، ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما تكسب النفس غداً إلا الله، ولا يعلم بأي أرض تموت النفس إلا الله.
فقال الكذاب الدجال: أنا أحيي وأميت.
قال: كيف تفعل؟ فأخرج محبوسين، وأعتق واحداً قال: هذا أحييته، وقتل واحداً قال: هذا أمته.
فسلم له جدلاً وقال: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].(164/5)
إبراهيم يقذف في النار
جمعوا لإبراهيم ناراً أحرقوا الحطب أشعلوا النار أججوا الوادي، ووضعوه في المنجنيق وأطلقوه ليهوي في النار، لا صاحب ولا صديق ولا ركن ولا ناصر إلا الله, وهذا أبو الفتح البستي يقول:
من يتق الله يحمد في عواقبه ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].
رفعوه في المنجنيق، قال بعض أهل العلم: أتى جبريل عليه السلام إلى إبراهيم قال: ألك إلي حاجة؟ قال: أما إليك فلا وأما إلى الله فنعم.
فقال وهو يهوي: حسبنا الله ونعم الوكيل.
قال ابن عباس في صحيح البخاري: [[حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم لما ألقي في النار فنجاه الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل قالها محمد صلى الله عليه وسلم لما قيل له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174]]]
فهل قال شبابنا: حسبنا الله ونعم الوكيل؟ هل قالوا لما أتتهم الهموم والغموم: حسبنا الله ونعم الوكيل؟ هل قالوا لما رأوا المعاصي والفتن ومجريات الحياة والحوادث التي وجدت: حسبنا الله ونعم الوكيل؟ هل رأوا الفقر والمرض فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل؟ هل قالولها لما وقف الشيطان لهم بالمرصاد, ورأوا الفتن من أغنية ماجنة، ومجلة خليعة، وفيديو مهدم، ومسلسل مخرب، وجلساء سوء؟ هل قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل؟ وهل قالت فتياتنا ذلك؟ وهل امتثلن هذا الخطاب العظيم وهذه الكلمة العظيمة؟ هل قالت المسلمات المؤمنات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله وهن يرين الفساد ويرين بأم أعينهن ما يتعرض له الإسلام والمسلمون والمسلمات: حسبنا الله ونعم الوكيل؟ يرين الذين يدعون إلى السفور وإلى التبرج وإلى هدم الفضيلة وإلى الفاحشة وإلى الزنا فهل قلن: حسبنا الله ونعم الوكيل لينقلب الجميع بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء؟!!
وقع إبراهيم في النار فكانت برداً وسلاماً، تعرف على الله في الرخاء فعرفه في الشدة.(164/6)
قصة موسى عليه السلام
ولد موسى عليه السلام في زمن كان فيه السفاح الملعون فرعون يقتل الأبناء، فأين تخفيه أمه؟ وما قدرة أمه؟ وأين تحميه أمه؟ انقطعت بها الحبال إلا حبل الله، وانتهت بها الحيل إلا الاستعزاز بالله، فأخذت ابنها ووضعته في تابوت وغطته وربطته بالحبل وأنزلته في النهر، تسحبه فترضعه فإذا حست جنود فرعون أطلقته في النهر ومسكت رأس الحبل في بيتها، وسحبت الحبل فجأة وإذا بالحبل مقطوع، أين ذهب الابن؟ أين ذهب الحبيب؟ الله, أين ذهب قرة العين؟
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
إن كان عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
جلست تبكي وكان قلبها فارغاً وكادت أن تبدي به فربط الله على قلبها فاستأنست، وأين يذهب موسى الطفل الصغير الذي لا يعرف كيف يأكل أو يشرب أو يتكلم أو يدافع عن نفسه؟ ذهب إلى بستان فرعون من بين سائر البساتين، نهر النيل يدخل في معظم البساتين فترك موسى تلكم البساتين وذهب إلى بستان الطاغية.
يقول أحد العلماء من المعاصرين: سبحان الله! مغامرة مكشوفة أمام العين، بل هي حرب مكشوفة! فيدخل في بستانه وتأخذه الجواري، ويضعونه بين يدي الطاغية المجرم صاحب السيف الذي دائماً يسفك الدماء، وأتى ليقتله ويذبحه ذبح الشاة، قالت امرأته آسية عليها السلام المؤمنة الصادقة التي تعرفت على الله في الرخاء فعرفها في الشدة.
يقول أهل العلم: لما عذبها فرعون، حين أن طلبها أن تشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو كفرت به وقالت: لا إله إلا الله، سمر أياديها في الأرض فما وجدت ألماً، ووضعها في الشمس فأتت الملائكة تظللها بأجنحتها!
يا حافظ الآمال أنت حميتني ورعيتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
فلما رأت موسى أحبته قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] قال أهل العلم: ما رآك أحد إلا أحبك.
فأراد أن يذبحه فقالت: قرة عين لي ولك, اترك الطفل عله أن يكون ولداً لنا؛ لأنهما عقيمان، فقال فرعون: قرة عين لكِ أنتِ أما أنا فلا.
قال أهل العلم: لو قال فرعون: قرة عين لي لأقر الله عينه بموسى.
وعاش موسى والله يحفظه؛ لأنه كان من المخلصين، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، ودارت الأيام وقتل رجلاً وفر حافياً لا يملك شيئاً، جائعاً، مريضاً، غريباً؛ ولذلك أورد أهل السير: أن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وسقى للجاريتين عاد إلى الظل فرفع يديه وبكى وقال: يا رب! أنا مريض، يا رب! أنا غريب، يا رب! أنا جائع، يا رب! أنا فقير، فأوحى الله إليه: يا موسى! المريض من لم أكن أنا طبيبه، والجائع من لم أكن أنا مشبعه، والغريب من لم أكن أنا مؤنسه، والفقير من لم أكن أنا مغنيه {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] فعاد وتزوج ابنة الرجل الصالح، وعاد في قصة طويلة.(164/7)
موسى حفظ الله في الرخاء
ومن حفظ موسى لله في الرخاء أنه لما أتته المرأة الجارية ابنة الرجل الصالح تدعوه إلى أبيها قال لها: تعالي ورائي ودليني على الطريق.
سبحان الله يا للحياء، يا للروعة! يا لمراقبة الله! فهل تصور شبابنا هذا الموقف موقف موسى، يقول للجارية في الصحراء الذي لا يخشى من أبيها وليس عندها قوة وبإمكانه أن يفعل ما أراد وهو قوي حمل صخرة من فوق البئر لا يحملها إلا عشرة، وهو شاب أعزب، وهو في مكتمل القوى، وهي منفردة في الصحراء، قال: تعالي من ورائي ودليني على الطريق؛ لئلا يرى شيئاً منها، احفظ الله يحفظك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
هل علم شبابنا بهذا المبدأ؟ هل علم هذا الذين أطلقوا نظرهم إلى الحرام، ونظروا إلى الأجنبيات، وانتهكوا الحرمات، وأغضبوا رب الأرض والسماوات، وأكثروا من الخطيئات؟ هل حاسب شبابنا أنفسهم وهم يتسترون بالمعاصي وراء الجدران ويرتكبون الخطيئات بين الجدران ونسوا الواحد الديان.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
وعاد موسى ووصل وتزوج على كلمة الله حلالاً، حلالاً لا حراماً؛ لأنه حفظ الله وتعرف على الله في الرخاء فعرفه في الشدة.
وأتى إلى الصحراء يهش بعصاه على الغنم، يتوكأ على عصاه في الصحراء، وإذا بالله يناديه {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:14 - 15] رأى ناراً عليه السلام، فأتى إلى النار ليقتبس منها أو يجد على النار هدى أي: يهديه الطريق، فوجد هداية لجنة عرضها السماوات والأرض، ووجد هداية لحياة أبدية سرمدية، ووجد هداية مع الأنبياء والرسل، ووجد هداية لا إله إلا الله، الدين لله، والمنهج لله، والسماء لله والأرض لله.
لمعت نارهم وقد عسعس الليل ومل الحادي وحار الدليل
فتأملتها وفكري من البين عليل وطرف عيني كليل(164/8)
الله جل وعلا يأمر موسى بالذهاب إلى فرعون
فأراد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يؤانسه، لأنه خائف، كان يرعى غنماً في الصحراء فسمع صوتاً كاد قلبه أن يطير منه، فأراد الله أن يؤانسه فسأله عن العصا والله يعلم فهو الذي خلق العصا وخلق موسى، وخلق فرعون، وخلق الأرض والسماء، فقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] فاستلذ بالخطاب وفرح بالجواب {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] قال الله له: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] سبحان الله! يفر من الطاغية وقد قتل أحد رعية الطاغية والطاغية يبحث عنه، واليوم يلزمه رب الأرض والسماء أن يدخل على فرعون!! لا حرس, ولا جنود, ولا سلاح, ولا قوة, ولا جيش, ولا كتائب, ولا أصدقاء, ولا إخوان لكن {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] (تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة).
فذهب وفي الطريق علمه الله أدب الدعوة يقول: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] , ولو أنه سفاك ومجرم ووثني، وزنديق، وملحد، ولو أنه داس التاريخ تحت قدميه لكن لا تنسيا أن الدعوة لها أسلوب، وأن الدعوة لها أصول ولها قواعد ولها نتائج، وهذا درس لدعاة الإسلام أن يستخدموا اللين {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:45].
وقف رجل من الأعراب أمام هارون الرشيد الخليفة العباسي وقال: اسمع مني فإن عندي كلاماً شديداً سوف أقوله لك.
قال هارون الرشيد: والله لا أسمع، والله لا أسمع، والله لا أسمع.
قال: ولمَ؟ قال: أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فقال له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:46].
ووصل موسى وتذكر الخوف، وتذكر السياط الحامية عند المجرم، تذكر السيوف التي تقطف الرءوس وحمامات الدم، وتذكر الزنزانات والسجون، وتذكر الحديد والنار والإرهاب؛ فالتفت بطرفه إلى السماء وقال: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] سبحان الله! قال عز من قائل: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46].
تعرف على الله في الرحاء يعرفك في الشدة، وانتصر في الحوار، ونزل إلى الميدان وحيداً فريداً معه العصا.(164/9)
أهل مصر وثلاثون ألف ساحر يقفون ضد موسى وأخيه
وأتى فرعون بثلاثين ألف ساحر أو ما يقارب ذلك العدد، وأتى بأهل مصر , فملئوا العمارات والسكك والمنحنيات والمحافل والشوارع وسدوا الطرقات وجاء موسى وحيداً، وقف كل هؤلاء ضد موسى، لكن تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، قال السحرة بلسان المستعلي: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف:115] فألقوا، ثلاثون ألفاً كل واحد منهم خبير بالسحر، وبدأت العصي وبدأت الحيات، وفي هذا درس للدعاة وطلبة العلم والعلماء: أن القوة بالإيمان، وأن الباطل مهما كثر، وأن الدنيا مهما وقفت في وجوههم، فإن الباطل حقير وصغير وهزيل، وإن الباطل ينتفش ثم يذهب سدى ويزهق قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81].
فلما ألقوا العصي وتحركت الميادين أوجس في نفسه خيفة موسى، فأتى الخطاب من الله لمن عرف الله في الرخاء ليعرفه في الشدة قال: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69] {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67].
كيف يخاف من الله معه؟! وكيف يخاف من الله ركنه؟! وكيف يخاف من الله ينصره ويعاونه؟!
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة.(164/10)
الله جل وعلا ينجي موسى عليه الصلاة والسلام
وصل إلى البحر، والتفت وراءه فإذا جنود فرعون كالجبال، قال ابن جرير وغيره: أتى فرعون بما يقارب ألف ألف، وقيل: ستمائة ألف من الجيوش، وموسى يلتفت وإذا وراءه الخوف والقتل والدمار والنار والذبح، فإذا أمامه موج البحر كالجبال فيقول بنو إسرائيل: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61].
فيأتي الرجل الذي عرف الله في الرخاء ليعرفه في الشدة ليقول: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] كلا.
أنا أعرف الله في الرخاء يعرفني في الشدة، كلا.
لن أهزم اليوم؛ لأني حفظت الله في الرخاء، حفظت سمعي وبصري، وحفظت قلبي وبطني، حفظت يدي وفرجي، وحفظت إرادتي، وحفظت رجلي:
لعمرك ما مديت كفي لريبة وما حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا دلني فكري ولا نظري لها ولا قادني فكري إليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الله إلا قد أصابت فتىً قبلي
فتضايق بين الجيش وبين البحر، فأوحى الله إليه أن اضرب البحر، عصاً قصيرة وقلة بصيرة ولكن الله هو المدبر، فضرب البحر فانفلق اثنتي عشرة طريقاً، فسلك الطريق، ونجاه الله، فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
وأتى الذي ضيع الله في الرخاء فرعون المجرم السكير العربيد الدجال الذي ضيع الله في الرخاء أتى ليجرب في الشدة، مثل ما يفعل كثير من الشباب، ومثل ما يفعل كثير من الناس، وقت الرخاء لعب وغناء ومجلة خليعة وتخلف عن الصلوات الخمس، وجلسات تغضب المولى، جلسات حمراء، وساعات أليمة مظلمة، تخلف عن الصلاة، هجر للمسجد، إدبار عن تدبر القرآن، قسوة قلوب، كذب، عقوق، وقطيعة رحم، ثم يأتون ليجربوا حظوظهم في الشدة، إذا أصيب أحدهم بحادث انقلاب أو صدام أو مرض عضال، وجيء به فوق السرير الأبيض قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90].
فأتى الدجال فرعون فلما امتلأ بطنه طيناً وأصبح يغرغر كالضفدع في الماء قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90].
فيقول الله له: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] تؤمن الآن؟ أما تعرف أن من يعرف الله في الرخاء يعرفه في الشدة؟ ما هذه التوبة؟ إذا بلغت الروح الحلقوم قلنا: تبنا! إذا تكسرت ظهورنا وأصبحنا على الأسرة البيضاء في المستشفيات قلنا: تبنا! إذا كسرت رءوسنا تحت عجلات السيارات قلنا: تبنا! إذا أصابنا داء عضال وأصبحنا نستنشق الماء قلنا: تبنا؟ تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] لا.(164/11)
قصة يونس عليه السلام
لكن يونس بن متى لما عرف الله في الرخاء عرفه الله في الشدة.
خرج عليه السلام مغاضباً، وركب في السفينة، ولما أصبح في البحر استهموا فوقع السهم عليه فدحرجوه من السفينة، في ظلمة الليل وفي ظلمة البحر وفي ظلمة الحوت، ظلمات ثلاث: ظلمة ليل لا يلوح فيه إلا نجم غائر، وظلمة بحر أمواجه كالجبال، وظلمة حوت ابتلعه حتى أصبح في بطن الحوت، ولك أن تتصور المشهد! فمن يدعو؟ وإلى من يشكو حاله؟ ومن يسأل؟ وإلى من يبدي فقره وحاجته؟ لا صديق، ولا صاحب، ولا أهل، ولا زوجة، ولا ناصر إلا الله؛ فقال في ظلمة الليل وظلمات البحر وظلمات الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
قال أهل التفسير: سمعت الملائكة هذه الكلمة فبكت وقالت: يا رب! صوت معروف من عبد معروف.
{فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات:143] متى؟ في وقت الرخاء، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:144].(164/12)
قصة يوسف عليه السلام
يوسف عليه السلام أخذه إخوانه في قصة عجيبة، وفي مسلسل غريب مبكي وطرحوه في البئر، وأتى الإخوة بثوبه ولكن ما مزقوه بل خلعوه خلعاً، ولطخوه بدم شاة، وأتوا عشاء إلى أبيهم يعقوب -الرجل الصالح النبي الناصح- ونسوا أن يمزقوا الثوب لأن الذئب لا يعرف كيف يخلع الثوب، الذئب لا يكوي الثياب ولا يغسلها، ولا يعرف أن يحطها بالأزرار، ولكنه يمزقها، ولكنهم ما مزقوا الثوب قالوا: أكله الذئب {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف:18] فعرف الرجل الناصح أنها خديعة.(164/13)
يوسف يسبح الله في البئر
أين طرحوا يوسف وهو غلام فتىً صغير؟ طرحوه في البئر، يقول ابن رجب في جامع العلوم والحكم: نقل عن أهل العلم أنهم قالوا: انظر إلى الغلام الصغير الشاب الذي نشأ في طاعة الله- أين فتياننا؟ أين شبابنا؟ أين حفظة الرسالة؟ أين أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟ أين القمم؟ أين النجوم الزواهر؟ أين الذين يعرفون طريقهم إلى الله؟ - لما أنزلوا يوسف في البئر هدأت الضفادع من التسبيح إلا يوسف فإنه أخذ يسبح، وهو غلام صغير {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] عرف الله فعرفه الله، أنقذه الله، وخرج إلى مصر وعاش وترعرع.(164/14)
يوسف وامرأة العزيز
أتت امرأة العزيز تعرض نفسها عليه، أغلقت الأبواب ولفظ القرآن الكريم يقول: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف:23].
زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، سبحان الله! وغلقت الأبواب إنها مَلِكة! وهو لا يخاف أن يؤتى من جانبها؛ لأنها تأمر وتنهى، والأمر الثاني: جميلة وهي لذلك أدعى وأشهى، والأمر الثالث: أنه في قصرها وليس في بيته، والأمر الرابع: أنه شاب، والأمر الخامس: أنه أعزب، ولم يكن متزوجاً ليعود إلى حلال، والأمر السادس: أنه ليس من أهل مصر ولو كان من أهل مصر لاستحى من سمعته ومن شهرته ومن صيته، لكنه غريب، والغريب لا يوجل ولا يتحرج كما يتحرج القريب، والأمر السابع: أنها هي التي دعت، والأمر الثامن: أنها غلقت الأبواب، والأمر التاسع: أنه ليس معها أحد من الناس ولكن نسيت رب الناس، وقال بعضهم: إن الأمر العاشر أنه جميل، فإنه أوتي شطر الجمال، جمال الناس.
قالت: هيت لك.
قال: معاذ الله!
سلام عليك يا يوسف وهنيئاً لك وبشرى لعينيك! هل قال شبابنا وشاباتنا وفتياننا وفتياتنا لما رأوا الحرام قالوا: معاذ الله؟ يا من نظر إلى الفتاة الجميلة وغض بصره وقال: معاذ الله! هنيئاً لك، يا من رأى المجلة الخليعة فقاطعها وقال: معاذ الله! يا من سمع نغمة ماجنة فتاب وقال: معاذ الله! يا من دعاه جلساء السوء لهجر المساجد وللإدبار عن القرآن فقال: معاذ الله! هنيئاً لك.
وأنت -أيتها الفتاة- هنيئاً لك يوم قلت في حياتك: معاذ الله، معاذ الله من أخدان السوء {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25] معاذ الله من معاكسات الهاتف، ومن التجرم والتفسخ في الهاتف، معاذ الله من خلع الحجاب، معاذ الله من السفور، معاذ الله من الرفقة السيئة، معاذ الله من الخلوة المحرمة، فهنيئاً لك وسلام عليك يوم تلقين الله.
فأنجاه الله؛ لماذا؟ تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وأصبح من نجاح إلى نجاح، ومن اتصال إلى اتصال، ومن قرب إلى قرب، حتى ملكه الله مصر وقال في آخر المطاف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].(164/15)
أمثلة لمن لم يعرف الله في الرخاء
وتعال إلى من لم يعرف الله في الرخاء فلم يعرفه في الشدة
أنا أذكر بعض الأمثلة من تاريخنا القريب:(164/16)
البرامكة
ترجم ابن كثير للبرامكة، وما أدراك ما البرامكة! شيء عجيب! نبأ غريب! البرامكة أسرة أعجمية، فوضها المهدي وابنه هارون الرشيد بعده في الأموال والديار، بنوا القصور، بنوا الحدائق، رفعوا الدور، كانوا يطلون قصورهم بماء الذهب وماء الفضة، أي بذخ هذا! أي ثراء هذا! أي غنىً هذا! لكن نسوا الله، تركوا الصلوات، ارتكبوا الشهوات، أكثروا من السيئات، أكثروا من الفواحش، فأمهلهم الله عز وجل، ثم سلط عليهم أقرب قريب إليهم هارون الرشيد، وثقوا بـ هارون الرشيد ووثق بهم، أحبوه وأحبهم، لكن كما أتى في الحديث: {من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضى الله رضي الله عنه وأرضى عنه الناس}.
فغضب عليهم هارون الرشيد غضبة؛ لأنهم ما عرفوا الله في الرخاء فلم يعرفهم في الشدة، فأخذ أكبرهم الذي علمهم المعصية يحيى بن خالد البرمكي , فأنزله في السجن سبع سنوات حتى طالت لحيته وأظفاره وشعره وحاجباه وطال شاربه، وطال كل شيء فيه حتى أصبح يقول: لا أنا في الدنيا ولا أنا في الآخرة.
!! ما رأى الشمس سبع سنوات، قال له بعض الناس لما دخلوا يزورونه: ما لك؟ قال: ما عرفت الله في الرخاء فلم يعرفني في الشدة، وقال في رواية عنه: أتدرون لماذا أصابني الله بهذه المصيبة؟ قالوا: ما ندري؟ قال: دعوة مظلوم سرت في ظلام الليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها.
فيا من تمهل في الرخاء، ويا من قاطع المساجد والصلوات الخمس: اعلم أن معنى حفظ الله في الرخاء معناه الحفظ في الشدة.
يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث جندب بن عبد الله البجلي: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من طلبه أدركه ومن أدركه كبه على وجهه في النار} كيف يحفظ الله؟ كيف يَرعى حدود الله؟ كيف يتعرف على الله في الرخاء من لم يصل الصلوات الخمس أو من أخرها عن أوقاتها أو من أسرف في تضييعها أو من تلاعب بها قدمها مرة وأخرها مرة أخرى؟
البرامكة قتل منهم هارون الرشيد مقتلة عظيمة، وأهانهم إهانة ما سمع في التاريخ بمثلها، وأنزلهم منازل الإذلال والقهر والبكاء والندم والحسرة وجعلهم يسبحون في دمائهم؛ لماذا؟ لأنهم ما تعرفوا على الله في الرخاء فلم يعرفهم في الشدة.(164/17)
أحمد بن أبي دؤاد لم يعرف الله في الرخاء
أحمد بن أبي دؤاد القاضي المعتزلي، هو أحمد أهل البدعة وأحمدنا أحمد بن حنبل، يقول أهل السنة: أحمدنا أحمد بن حنبل وأحمد أهل البدعة أحمد بن أبي دؤاد.
كان كريماً في المال، ينفق في المجلس الواحد مائة ألف دينار، وأنفق مرة من المرات يوماً واحداً ألف ألف درهم لكنه ضيع الله وضيع حدود الله، يقصد بالمال رياء وسمعة، يقصد بالمال غير وجه الله؛ ليمدح، يقول فيه أبو تمام:
لقد أنست محاسن كل حسن محاسن أحمد بن أبي دؤاد
وما سافرت في الآفاق إلا ومن جدواه راحلتي وزادي
حرش على الإمام أحمد، وأغرى على الخليفة المعتصم بجلد الإمام أحمد؛ فدعا عليه الإمام أحمد، الإمام أحمد عرف الله في الرخاء فعرفه في الشدة، وأحمد بن أبي دؤاد ضيع الله في الرخاء فضيعه الله في الشدة، فقال الإمام أحمد: اللهم احبسه في جلده، اللهم عذبه قبل موته؛ فاستجاب الله للإمام أحمد فتعذب أحمد بن أبي دؤاد قيل: أصيب بالفالج كما قال الذهبي، وزاره بعض الناس من تلاميذ أحمد وقالوا: والله ما زرناك لنعودك ولكن زرناك شامتين، الحمد لله الذي عذبك في جسمك، الحمد لله الذي حبسك في أعضائك، فكيف تجد حالك؟ قال: أما نصفي فوالله لو وقع عليه الذباب فكأن القيامة قامت، وأما النصف الآخر فوالله لو قرض بالمقاريض ما أحسست به.
مات أحمد بن أبي دؤاد قال ابن كثير والذهبي وابن الأثير: شيع جنازة أحمد بن أبي دؤاد ثلاثة، ثلاثة بعد الدنيا، بعد الوزارة، بعد أن كان يسمى قاضي القضاة، بعد الذهب والفضة؛ لأنه ما تعرف على الله في الرخاء فلم يعرفه في الشدة.
وأما الإمام أحمد كلكم يدري كم شيع جنازته، مع أنه فقير، مسكين، لكنه مع العلم، والقرآن، ومع صلاة الليل، والذكر، والعبادة، قيل: يحفظ ألف ألف حديث.
قال الذهبي: بالمرسلات والمقطوعات والموقوفات وفتاوى الصحابة، يحمل الحطب في السوق، فيأتي وزراء بني العباس وقالوا: نحمل عنك الحطب؟ قال: لا.
نحن قوم مساكين لولا ستر الله افتضحنا!
يقول ابنه عبد الله فيما صح عنه: كان أبي يصلي غير الفرائض ثلاثمائة ركعة.
ذكرها صاحب تذكرة الحفاظ وسير أعلام النبلاء والبداية والنهاية وكل من ترجم عن الإمام أحمد، ثلاثمائة ركعة غير الفرائض!! لماذا؟ لأنه تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
أين قوتنا يا شباب الإسلام؟! أين عضلاتنا؟! أين شبابنا وصحتنا لماذا لم تستخدم في الطاعة؟! جاءه رجل فقال الإمام أحمد: أتحفظ شيئاً من الشعر؟ قال: نعم, قال: ماذا تحفظ؟ قال: قول الشاعر
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
فقام يبكي الإمام أحمد حتى سمع نحيبه.
قال المؤرخون: شيعه ثمانمائة ألف، خرجت بغداد العاصمة دار السلام عن بكرة أبيها، خرج جنود المتوكل، الجيش، الكتائب، الناس، الباعة، طلبة العلم، الحائكون، الخياطون، الصباغون، خرجت المدينة حتى قال بعضهم: وخرج بعض اليهود والنصارى!! بكت المدينة
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، ودفن الإمام أحمد وما زال ذكره في الذاكرين، وما زال اسمه في الخالدين، وما زال رسمه مع طلبة العلم والمتعلمين، يقرأ في الكتب، ويناقش في المجالس، وتدوي بصوته المنابر وتسمع به الإذاعات والصحف، إمام أهل السنة والجماعة سلام عليه في الخالدين.
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة.(164/18)