شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (قيل وقال)
وقوله عليه الصلاة والسلام: {وكره لكم: قيل وقال} من معانيه عند أهل العلم: نقل الكلام على وجه الأذية، أو للإفساد بين متحابين، أو إثارة الفتنة بين الناس، فإن هذا مذموم، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لا يدخل الجنة قتات} وهو الذي ينقل الكلام، وفي رواية: {نمام}.
وقيل: إن (قيل وقال) هو الفارغ بلا عمل الذي يجلس في مجالس الناس، ويقول: قالوا وسمعت، وقالوا وقلنا ويقولون، وقال صلى الله عليه وسلم: {بئس مطية الرجل زعموا} وهي مطية كل رجل مخذول مرذول ليس له ثبات في الإيمان، وقيل: المقصود عدم التثبت، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] فعدم التثبت من الأخبار ونقل الشائعات أمر مرذول محرم على المسلم لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] ولذلك تجد أحدهم يصدق الشائعة وهي الكذبة تطير في الآفاق، وهؤلاء مغضوب عليهم عند الله عز وجل، وهم الذي يأخذون الكلام بغير تثبت، ولا يسندون أخبارهم، ولا يتثبتون، فيكونون هم مصدر الإشاعات وتربيتها في الناس ونشرها.
وقيل: الردود والجدل؛ وهم الذي يتشاغلون في حياتهم بالجدل، وما أعرض قوم عن كتاب الله إلا أوتوا وأورثوا الجدل، فإذا رأيت الإنسان ترك العلم الشرعي وبحث المسائل والتحقيق؛ ابتلاه الله بالجدل، فيعيش مخالفاً دائماً، وسوف يأتي كلام عن المعضلات، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه} فإذا تركت مالا يعنيك كفاك الله عز وجل ما يعنيك، وساعدك في أمورك وأيدك وسددك، أما إذا تشاغلت بشيء لا يعنيك ابتلاك الله عز وجل فما قمت بما يعنيك.
وقد قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ كما في الترمذي وأحمد {كف عليك هذا.
قال: وإنا لمؤاخذون -يا رسول الله- بما نقول؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم}.
ويروى: {من صمت نجا} ولا ينجو العبد إلا إذا أمسك لسانه عن فضول الكلام وعن الغيبة والنميمة والزور ونقل الشائعات، وعن الافتراء والتعرض للمسلمين، قال عليه الصلاة والسلام لـ عقبة بن عامر وقد قال له: يا رسول الله! ما النجاة؟ قال: {كف عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك} رواه الترمذي وهو حديث حسن.
فكف لسانك أي: احبسه، قال ابن مسعود: [[والله ما شيء أحق بطول حبس من لسان]] وكان أبو بكر يبكي ويمسك لسانه ويقول: [[هذا الذي أوردني الموارد]] وكان ابن عباس يقف ويبكي على الصفا ويأخذ لسانه ويقول: [[يا لسان قل خيراً تغنم أو اسكت عن شر تسلم]].
وما أهلكنا إلا ألسنتنا، فنسأل الله عز وجل أن يسدد منا القول والعمل، وأن يجنبنا وإياكم الفتن والزلل والمحن، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].(120/12)
النهي عن الإتيان بالغرائب
ومن آداب المسلم في النهي عن القيل والقال: أن يتقي الله ولا يأتي بالغرائب، والدين هو المشهور الذي تقبله العقول والأذهان، ولا تنكره العقول ولا القلوب، فإذا رأيت الإنسان يورد العجائب والتهاويل في كلامه فاعرف أنه يريد شيئاً، ولذلك سمى الأئمة هؤلاء وضاعين كذابين قصاصين خرافيين، الذي يأتي بالغرائب مثل صاحب كتاب بدائع الزهور في وقائع الدهور فإنه أتى بغرائب من ضمنها يقول: ملك من الملائكة في بحر من البحار إذا جاع أخذ سمكة ورفعها إلى الشمس فقربها من الشمس وشواها وأكلها، هذا لا يقبله العقل ولم يأتِ به وحي، قال: وتحت الأرض السابعة نخلة ثمرها في السماء رطب من در، وهذا كذب، ثم يأتونك بأوصاف ما أنزل الله بها من سلطان لأن الذي تقبله العقول هو الدين الأصيل.
اذهب إلى جمهوريات الاتحاد السوفيتي، وانظر كيف ينتشر الإسلام عبر المحيط، واذهب إلى أوروبا وسافر إلى أستراليا فهو يبلغ مبلغ الليل والنهار؛ لأن العقول تقبله، فإنه دين أصيل يخاطب الفطرة قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] ليس فيه خرافة ولا كذب ولا تدليس ولا تلبيس ولا مداجاة، بل كله حق كما يقول تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23] صدقٌ ووضوحٌ مثل الفجر.
ولذلك ألف ابن تيمية كتاب درء تعارض العقل والنقل ومما يؤثر عنه أنه قال على منبر مسجد بني أمية في دمشق: أتحدى العالم أن يوجد في الشريعة نصاً يعارض العقل أو يعارضه العقل، وألف كتابه العظيم هذا الذي قال عنه ابن القيم: ما طرق العالم مثله، فالدين تقبله العقول، أما إذا رأيت الخرافات والخزعبلات والغرائب فاتهم صاحبها.(120/13)
السؤال المحمود والمذموم
قال عليه الصلاة والسلام: {وكثرة السؤال}.
السؤال قسمان: فذم عليه الصلاة والسلام قسماً.
أما السؤال الممدوح فهو سؤال العلماء، وطلبة العلم، والدعاة، حتى يقال: سل عن دينك حتى يقول الناس: إنك مجنون، قيل لـ ابن عباس: كيف أوتيت هذا العلم؟ قال: [[بلسان سئول وقلب عقول]] فأنا أوصيك أن تسأل كثيراً، وأن تكون ملحاحاً في الأسئلة العلمية التي تنفعك في فقه الدين وفي تحقيق المسائل، واكتشاف الشريعة، فهذا يقربك من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:
وسل الفقيه تكن فقيهاً مثله من يجر في علم فقيه يمهر
فلابد أن تسألوا {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] فالواجب على المسلم أن يسأل ولا يقول: أكثرت في الأسئلة فلن أسأل كثيراً، لكن تجنب أمرين: لا تسأل عن المعضلات والألغاز، ولا تسأل بقصد أن تعجز العالم أو الداعية أو طالب العلم، لأن بعضهم يريد أن يعجز أو يضحك الناس على العالم، وبعضهم أسئلته ألغاز لا فائدة فيها، ولا مصلحة منها، مثل: ما هي الكلمة التي إذا حذفنا حرف الوسط خرج لنا اسم سيارة؟ ما هو اللفظ الذي إذا أتينا بالحرف الأول والحرف الثاني
فهذا ضياع للأوقات، نحن أمة عاملة متفقهة شاهدة، أمة وسط نعيش في علم الحياة، وهؤلاء لو أدركهم عمر بن الخطاب لأوجعهم بالدرة، أما أن تأتينا بحروف وخزعبلات وألغاز فوقتنا أضيق من أن يكون للألغاز.
أيضاً مسألة السؤال عما لم يقع، لأن بعض الناس يسأل عن أمور ما وقعت، يقول مثلاً: من وقف على سماء عرفة ولم يقف على الأرض ما حكم حجه؟ وهل حدث هذا؟!
وأحدهم يقول: لو قال لامرأته إذا طرتِ فأنت طالق فطارت المرأة فوقعت هل طلقت أم لا؟
فهذه الأسئلة لا توقعها ولا تأتِ بها، اسأل عن شيء وقع أو مثله يقع في الناس على قياسك.
وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن كثرة السؤال فهو يلحق بالأول إما أنها السؤالات العلمية كقول مالك: "هي السؤال عن المعضلات" كمن يسأل عن مسألة فرضية ما وقعت إنما قصده أن يكبت العالم أمام الناس، أو يسأله عن أشياء قرأها هو وفهمها، ويريد أن يكتشف قوة هذا، فيريد أن يحرجه أمام الناس، فهذا لا يبارك الله في علمه ويطفئ نوره؛ لأنه أراد إحراج الناس صراحة وما أراد خيراً بالأمة، أو يسأل عن أمور ما وقعت كما قلت.
ويلحق بكثرة السؤال الذين يسألون تكثراً في الأموال فوق الحاجة، أما الحاجة الملحة فيجوز للإنسان أن يسأل بالطرق المشروعة أما أكثر فمحرم.(120/14)
حكم إضاعة المال
ثم قال: {وإضاعة المال} فكره الله لنا إضاعة المال، وهو صرفه على وجه الإسراف والتبذير قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:26 - 27] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67] وقال: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29].
فعلى العبد التوسط بالإنفاق في أمور الخير كما أخبرنا بذلك سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فلا يكون مبذراً بذخاً ولا يكون مقتراً بخيلاً.(120/15)
من ورع الصحابة في الإنفاق
ومنها أن العبد لا ينفق في الطيبات إسرافاً، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20] وفي سيرة جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه أنه اشترى لأهله لحماً من السوق، وذلك مرة في الأسبوع.
فما بالك بالأسر التي تعيش كل يوم على لحم، وبعض الناس لا يجدون اللحم في السنة مرة.
عمر كان يعيش عيشة متقشفة، وهو خليفة يحكم اثنتين وعشرين دولة من طنجة إلى السند، ومع ذلك يبل الشعير في الزيت ويأكله، ويقرقر بطنه، ويشكو الجوع، ويخور ويبكي فقال لبطنه: [[قرقر أو لا تقرقر، والله! لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]] فهذا عمر.
فخرج عمر إلى السوق، فلقيه جابر، وجابر قد اشترى لحماً، فخاف من عمر -انظر الرعية يشترون من أموالهم- فجعل اللحم تحت إبطه قال عمر: ما هذا؟ وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه بازاً قارحاً ذكياً داهيةً كما قال ابن عباس، قال: لحم اشتهيته فاشتريته، قال: أكلما اشتهيت اشتريت؟! والذي نفسي بيده! إني لأعلمكم بأحسن الأكل وأطايب الطعام، ولكني أخشى أن أقدم على الله يوم القيامة فيقال لي: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20].
لما اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
هذا شيء.(120/16)
من إضاعة المال صرفه في المعاصي وكثرة البناء
وقال بعضهم: هو صرف الأموال في المعاصي، أو في محاربة الحق، فمثل من يصرفها في المعاصي كمن يفتح مكاناً لتسجيلات الغناء، فيستأجر عاملاً، ويصرف الألوف المؤلفة في إغواء أجيال الأمة، ويصرف الغناء بأشرطة ويدخلها البيوت على الناس، أو محل الفيديو المهدم أو ترويج الفاحشة، أو المجلة الخليعة أو غير ذلك، وقد قال عنهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] هم ينفقونها صراحة لكنها سوف تكون عليهم حسرة، سوف يذوقون الغصص لأنهم حاربوا الله بهذا المال.
أيضاً من يصرفها في المعاصي كمن يسافر ليعصي الله عز وجل ولا يتصدق ولا ينفق ولا يبني المساجد ولا يساهم في الخير، فهؤلاء يلحق بهم قول الله تعالى: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36].
ومن وجوه الإسراف كثرة البناء، قال خباب بن الأرت: [[يؤجر العبد إلا ما وضع في هذا التراب]].
قيل: في البناء الزائد عن الحاجة، فإن بعض الناس هوايته البناء، حتى تجد رجله في القبر أي بلغ السبعين والثمانين وهو يلاحق المؤسسات، والعمال، والإسمنت، والحديد والماء، وهو مبهذل الليل والنهار كم تعيش؟!
يا عامراً لخراب الدهر مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
دار أذن الله من فوق العرش بخرابها: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] وكتب عليها الفناء:
كتب الموت على الكل فكم فل من جيش وأفنى من دول
حارت الأفكار في قدرة من قد هدانا سبلنا عز وجل
وتجد الإنسان في السبعين -وهي من سبعين الاستغفار والتوبة والبكاء ولبس الكفن- مغرماً بالعمارات والبناء قال سفيان الثوري: "من بلغ الستين فليلبس كفناً فقد أعذر الله إليه" قال الله في لافتة لهؤلاء: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37].
يا عامراً لخراب الدهر مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمرانُ؟
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن سرور المال أحزانُ
وقد نظم الشعراء في ذلك أبياتاً جليلة وقصائد، ولولا الإطالة لذكرتها، ولأسهبت في ذكرها، ولكن على كل حال هذا تحذير من إضاعة المال في بناء وكثرة العمارات لغير مصلحة، إلا لمصلحة شرعية أو مقاصد من تنمية المال ليسهم به في وجوه الخير، وينسب إلى إبراهيم الصولي أنه قال:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها
دارك التي تسكن وتنزلها غداً هي التي بنيت الآن.
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
سبحان الواحد الأحد! يموت أحدهم ولا يأخذ إلا الكفن ويترك عشرات القصور، وعشرات البساتين، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
قال الإلبيري:
وما يجديك تشييد المباني إذا بالجهل نفسك قد هدمتا
تفر من الهجير وتتقيه فهلا من جهنم قد فررتا
وتشفق للمصر على الخطايا وترحمه ونفسك ما رحمتا(120/17)
خير الأمور الوسط
قال ابن عباس وهذا الحديث في الترمذي مرفوعاً عند بعض أهل العلم: {كل واشرب وتصدق من غير سرف ولا مخيلة} وهذا لا يعني أنا نحرم على الناس الطيبات؛ فإن الله يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] ففي حدود الاقتصاد قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].
مأذون للعبد أن يشرب وأن يسكن وأن يأكل في حدود التعقل والاقتصاد بلا كبر ولا رياء ولا مخيلة، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:47].
ثم هناك مسألة وهي أنه لا بأس بجمع المال، ولا بأس بتحصيله من الوجوه الشرعية لتحفظ به ماء وجهك، ولا تترك أسرتك عالة يتكففون الناس، وفي الأثر: {ما عال من اقتصد} وقال عليه الصلاة والسلام في الصحيح لـ سعد: {إنك أن تترك ذريتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس} أي: يسألون الناس، قال الشاعر:
قليل المال تصلحه فيبقى ولا يبقى الكثير مع الفساد
فبين الإسراف وبين البخل منزلة أمرنا بها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
هذا حديثه عليه الصلاة والسلام: {إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات ومنعاً وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال} هنا لك أن تقرأه على السكون والوقف: {إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعاً وهات وكره لكم: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال}.
اتفق الشيخان على إخراج هذا الحديث، وأنا أرى أن يحفظه من أراد أن يخطب به للناس، لأنه عناصر، ولأن في لفظه عليه الصلاة والسلام بركة.
وسبحان الله! لا يأتي العبد إلى ألفاظه عليه الصلاة والسلام ليشرحها على الناس إلا فتح له بإذن الله وسهل أمره وسدد.
ما بقي من الوقت سوف أعالج به قضايا إن شاء الله، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية والرشد والسداد، أسأله بأسمائه الحسنى أن يصلحنا ظاهراً وباطناً، وأن يرعانا ويحفظنا وإياكم، وأن يغفر ذنوبنا وخطايانا، وأن ينصر الإسلام والمسلمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.(120/18)
الأسئلة
.(120/19)
حكم الاختلاف في المناهج وأساليب الدعوة
السؤال
هنا بعض القضايا يعيشها الشباب، ويعرف ذلك من يخالط الشباب ويجلس معهم، ويسمع ويقرأ رسائلهم، ويسمع أخبارهم ويستمع لهم، منها: الاختلاف في مناهج وأساليب الدعوة، فما هي نصيحتكم؟
الجواب
أولاً: الاختلاف في مناهج الدعوة أو في أساليبها وكلٌ فيها مجتهد، ومن اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، فلا تثريب على من خالف في الأسلوب إذا كان شرعياً.
فإن بعض الناس يرى في أسلوب الدعوة أن الموعظة هي الكفيلة بإصلاح الناس، وبعضهم يرى أن دعوة الناس فرداً فرداً هو الأصلح، وبعضهم يرى أن تأليف الكتب هو أمكن وأمتن، وبعضهم يرى أن الفتيا باب عظيم في نفع الناس، فيؤجر صاحب الفتوى، وصاحب الموعظة، والخطيب، والداعية والذي يربي الناس، كل على اجتهاده وعمله: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60].
فلا داعي للتحقير من جهود الناس؛ لأن بعض الناس حتى ولو كان داعية إذا سلك طريقاً أو أسلوباً وأعجبه أخذ ينكر الأسلوب الآخر، وأخذ يعترض على الأسلوب الآخر، وهذا لا يحق له.
فالله هيأ ذاك لهذا الأسلوب، وهو لا يستطيع إلا أن يكون خطيباً، وأنت لا تستطيع إلا أن تكون مفتياً؛ فاعذره يا أخي! وتعاون معه، واشكر له سعيه، وادع الله أن يسدده، وأن يسهل أمره، لأن الأمة لابد أن تتكاتف، فالأمة كلها لا يستطيع الأفراد فيها أن يقوموا بالدعوة، فلا يستطيع الفرد في وقت واحد أن يكون أديباً، وخطيباً، وكاتباً، ومفتياً، وواعظاً، ومربياً، ولذلك وزع الله على الناس المهمات ليقوموا بها جميعاً.(120/20)
الفجوة بين العلماء وطلاب العلم
السؤال
توجد فجوة بين العلماء وطلبة العلم.
الجواب
هذه بدأت تتلاشى بإذن الله، والآن هناك اتصال بين طلبة العلم والعلماء، وإني من هذا المكان أتشرف أن أوجه الجيل إلى عالم الأمة سماحة الشيخ الجليل عبد العزيز بن باز، في أن يسمعوا كلامه وخطبه ومواعظه وكتبه؛ فإنه العالم الرباني، ولا أعلم عالماً الآن في العالم الإسلامي -وهم كثير- من بلغ هذه المنزلة إلا هو، أسأل الله أن يبارك في عمره، وقد سبق قبل سنة ونصف محاضرة لي بعنوان: الممتاز في مناقب الشيخ ابن باز، ولعلي بعد فترة أجمع معلومات جديدة عن سماحة الشيخ ممن يقرب منه من محبيه وطلابه وأبنائه بعنوان: الداعية الإنسان، إن شاء الله يكون فيها الجديد في الطرح.
فالآن الحمد لله الدعاة قريبون من الشيخ لسماع مواعظه ونصائحه وتوجيهاته وتربيته، وأمثاله من العلماء الأفاضل كفضيلة الشيخ: محمد الصالح العثيمين، وفضيلة الشيخ الدكتور: صالح الفوزان، وفضيلة الشيخ: عبد العزيز آل الشيخ والشيخ: صالح اللحيدان والشيخ: عبد الله بن غديان والشيخ الجليل: عبد الله بن جبرين، والشيخ الجليل: عبد الله بن قعود، والشيخ: عبد الرحمن البراك، فهؤلاء علماء أهل السنة والجماعة في هذا العصر، ومعهم علماء كثير في العالم الإسلامي فليس العلم حكراً عليهم، لكن الذين نقترب منهم كثيراً ونجالسهم ونتصل بهم هم هؤلاء الذين سميت في هذه الجلسة وغيرهم كثير.(120/21)
نصيحة لشباب تائبين
السؤال
حضر معنا هذه الليلة شباب عائدون تائبون لله، ولأول مرة يحضرون هذه الدروس، فأرجوك أن تقدم لهم نصيحة ثمينة غالية، وأرجوك أن تدعو الله لهم، حفظكم الله ورعاكم.
الجواب
الأخوة العائدون إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذين حضروا هذا الدرس، ومن أجلهم كتب هذا السؤال، نتشرف بهم هذه الليلة فما نحن إلا إخوة، وليس فينا معصوم، وكلنا خطاء وخير الخطائين التوابون، فتبنا إلى الواحد الأحد وعدنا إليه، ونسأل الله أن يغفر لنا ولهم وأن يتقبلنا فيمن تقبل، فهنيئاً لهم عودتهم إلى الله عز وجل، وأرفع لهم آية من كتاب الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136].(120/22)
آخر كتاب لعائض القرني
السؤال
ما هو كتاب هذا الأسبوع؟
الجواب
كتاب هذا الأسبوع بعنوان (ثلاثون علامة للمنافقين) وهو موجود، وأكثر ما هو متوفر في الرياض وجدة، لكن المهم أنه كتيب يقع في ستين أو في خمس وستين ورقة بعنوان: (ثلاثون علامة للمنافقين).(120/23)
ظاهرة الإقليمية عند طلاب العلم
السؤال
أرجو أن توضح الإقليمية عند بعض طلبه العلم.
الجواب
الإقليمية تعني أن يعيش الإنسان محصوراً في منطقة أو مكان أو زمان خاص، فلا يتسع نظره للمسلمين عامة في بلاد الإسلام، ولا يعيش قضايا المسلمين، وقد وردت أسئلة الليلة عن أخبار البوسنة والهرسك.
وسبق الحديث عنهم في خطبة بعنوان (وا إسلاماه) وسمع طرف من ذلك، وأنتم تسمعون أخبار العالم كيف ارتج لهذه الجمهورية المسلمة، لأنها هي الوحيدة في أوروبا فيما أعلم مسلمة، ولذلك تكالب عليها الكروات الصرب من الصليبيين والمسيحيين، وكرواتيا والصرب كانوا يقتتلون فلما كان القتال ضد المسلمين اجتمعوا ضد المسلمين، فالشكوى إلى الله.
وآخر ما سمعت من أخبارهم كما سمعتم البارحة أنه رحل خمسة آلاف طفل في شاحنة كبيرة، فاعترضها الصرب، وفي الأخير أطلقت بعد أن كاد الأطفال يشرفون على الموت، ونفذ ما عندهم من الحليب، فهي أزمة ليس لها من كاشف إلا الله سبحانه، فنسأل الله أن يفرج الكربات عن المسلمين.(120/24)
علاج قلة الاطلاع
السؤال
الشباب يقولون: نشكو من قلة الاطلاع عندنا، فما نصيحتكم لهم؟
الجواب
هم بأنفسهم تسببوا في قلة الاطلاع، وهذا كأنه داء عصري في العرب، حتى نقل عن بعض الناس أنه قال: العرب أمة لا تقرأ إلا القليل، فأنا أوصيهم بأن أحسن ما يمكن أن يقدموا لأنفسهم ويثقفوا أنفسهم أن يقرءوا باستمرار، قراءة كثيفة وغزيرة ومتأنية وعميقة، وخاصة العطلة الصيفية وقد أقبلت، أرى ألا يقل طالب العلم في اليوم والليلة عن ثمان ساعات قراءة، يقرأ في كل ما لذ وطاب من الشريعة المحمدية وكتب أهل العلم وما ينفعه في الدنيا والآخرة.(120/25)
سلبية عدم التأثير في حياة بعض المشايخ
السؤال
السلبية في حياة كثير من الأساتذة المشايخ هو عدم التأثير، فما رأيكم في هذا؟
الجواب
نعم، يسمى الانطوائية، وهي أن ينطوي الإنسان على نفسه ولا يؤثر ولا يتكلم ولا يدعو، ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، ويعيش في ذاته، فهو مهموم بعندياته وخصوصياته في اليوم والليلة، وهذا أمر واقع؛ فإن الملتزمين كثير، والدعاة كثير، وطلبة العلم كثير، والمثقفين كثير، ولكن أين تأثيرهم؟ أين مددهم؟ أين مزاولتهم للدعوة؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} وقال: {بلغوا عني ولو آية}.(120/26)
ظاهرة الجدل البيزنطي
السؤال
الجدل العقيم الذي يسمى: البيزنطي الذي لا يترتب عليه فائدة، ما هو تعليقكم على هذا؟
الجواب
وهذه قضية، فإنهم يتجادلون في أمور أنهاها العلم التجريبي أو العلم الشرعي، كقول بعضهم: هل الأرض كروية أو لا؟ فيقفون ليلة يختصمون في هذا المبدأ، تدور أو لا تدور؟ وهذا لا ينفع لأنه جدل عقيم، وهم مخفقون في مسائل الشرع والتفقه في الدين.(120/27)
الفظاظة في الدعوة
السؤال
الفظاظة والغلظة في الدعوة
الجواب
هي عند البعض وليست عند الكل، فالحمد لله الكثير من الدعاة نجد فيهم انبساطاً وبشاشة وحسن خلق وتواضعاً للناس، لكن البعض يوجد فيه فظاظة وغلظة في التعامل، والله يقول: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فتجد بعضهم ليس عنده إلا إصدار الأوامر للناس، هذا حلال وهذا حرام، اجتنبوا هذا، وهذا إلى النار، فيقنط الناس من رحمة الله التي وسعت كل شيء، فعليه أن يكون ليناً في الأسلوب قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159].(120/28)
ظاهرة عقوق الوالدين
السؤال
هنا يقول: بعض الشباب ينتشر فيهم عقوق الوالدين، فما هي النصيحة التي توجهها لهم؟
الجواب
وهذا صحيح؛ لأنه قد شكى كثير من الآباء والأمهات من عقوق أبنائهم، ولا أدري ما معنى الصلاة عند هؤلاء، ما معنى قراءة القرآن؟ ما معنى الدعوة؟
إذا كان الإنسان عاقاً لوالديه كيف تصلح أموره وتستقيم، بل وتجد بعضهم باراً بزملائه ويقدم حق زملائه وأصدقائه على حق والديه، فيخرج معهم ويستضيفهم ويضحك ويمزح، فإذا دخل على والديه قطب جبينه وغضب وأزبد وأرعد وتهدد.
وبالمناسبة تذكرت قصيدة لعربي قال الزمخشري أنها ألقيت على الرسول عليه الصلاة والسلام: رجل ربى ابنه، ولما كبر ابنه واشتد عوده وصلب جذعه أتى الابن إلى الأب فلوى يده وبكته، فأتى الوالد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبكى عنده وقال: ابني يا رسول الله تغمط حقي ولوى يدي وأغلظ لي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل قلت فيه شعراً؟ قال: نعم قال: ماذا قلت؟ قال: قلت فيه:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لدغت به دوني فعيناي تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل(120/29)
ضرورة تحضير الدروس
السؤال
نحمد الله عز وجل على أننا نلتقي في كل سبت، وأصبح عندنا مساء السبت وجبة شهية معتادة، فإنا ندعوك إلى كثرة التحضير والمراجعة، فقد لمسنا ذلك في سفينة النجاة؟
الجواب
أسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم، يقصد الأخ بقوله سفينة النجاة المحاضرة السابقة، وأنا أشعر بحب وفرح وسرور مساء السبت، والسبب أني أنظر إلى وجوهكم الغالية، فأسأل الله أن يتمم هذا الخير، وأن يجعلها حلقة وصل للتفقه في الدين والذكر، وحفوف الملائكة، ونزول السكينة، وغشيان الرحمة، وأن يذكرنا الله فيمن عنده.
فأبشروا وأملوا ما يسركم، وإن الموضوع هذا كالخطوط الحمراء بقيت أسبوع وأنا أفكر في مداخل الحديث وما يحضر له من آيات ومن أحاديث؛ لأن الداعية عليه أن يحترم جمهوره، وعليه أن يحترم من يحضر، لأني أعرف أن ممن يحضر من هو أفضل ممن يتكلم، وقد يكون أعلم وأفقه وأتقى، فما حضر إلا احتراماً، والأمة أصبحت واعية، فقد ارتفع منسوب الوعي والفهم عند الناس.
وأنا مدين بهذا الحضور وأشعر بهيبة وبرهبة وخجل يوم أجلس هنا، ولذلك تجد أحياناً في الإلقاء اندفاع بحرج؛ لأن الإنسان يتصور وهو يجلس أمام المئات من الأساتذة ومشايخ الجامعات والقضاة وطلبة العلم والصالحين والأخيار، ومن يقوم الليل، ومن يصوم النوافل، ومن يريد إعلاء هذا الدين، ومن يفقه الأمة.
والخلاصة الخالصة أنه يشعر أنه لا بد أن يلقي كلاماً مفيداً وأن يحترم عقولهم وأذهانهم؛ لأنهم احترموه بالحضور، وهذا يكون وأنا مستعد ومتقبل للملاحظات من الإخوة.(120/30)
ظاهرة الانتكاس
السؤال
ظاهرة الانتكاس عند بعض الشباب، فإنهم يتوبون ثم يعودون، ما تعليلها؟
الجواب
هذه لها أسباب، وقد بينت في شريط قديم بعنوان (أسباب الانتكاس) فعلى الأخ أن يعود إليه إن كان ممن يسمع الأشرطة فقد بينت هناك ما هي أسبابها.
ومنها: العواطف، كأن يربى الناس على العواطف، ومنها رفقة السوء، ومنها قلة النوافل، وقلة قراءة القرآن، وقلة الدعاء، ومنها أن البيت يكون مهدماً لا يربي على الطاعة ولا على السنة، إلى غير ذلك.(120/31)
ظاهرة التعالم
السؤال
يوجد في بعض الشباب ظاهرة التعالم، فما نصيحتكم لهم؟
الجواب
ظاهرة التعالم تعني التبجح بالعلم، وللشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد أثابه الله كتاباً اسمه التعالم أرشح قراءته للإخوة.
حتى إن بعضهم لا يحضر الدروس ولا الندوات، ويقول: ليس فيها جديد، وكل ما فيها عندي، مع العلم أن سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز يحضر ندوات الدعاة كل يوم خميس في الرياض، وتسمعه يصوب ويسر ويفرح، لأن هذا شيء عجيب أن تلقى عليك المعلومات وأن تسمعها، وأن تعاد عليك، وأن تكرر، وأن تسمع الفائدة، وأن تحفك السكينة، أما التعالم والتبجح والفرح بما عندك فقد قال الله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] فهو من الكبر.(120/32)
ظاهرة التفرق بين الشباب بسبب الإقليمية والشعوبية
السؤال
الحزازات بين بعض الشباب بسبب الشعوبية والإقليمية والوطنية والقبلية؟
الجواب
{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ليس فينا أسود ولا أحمر ولا أبيض، نحن أمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103].
ليس عندنا تفاضل لا بنسب ولا بسبب ولا بلغة ولا بدم، بل أفضلنا أتقانا لله، أفضلنا وأكرمنا من حمل هذا الدين، وأعظمنا عند الله من أحب الله وأحب رسوله، وجاهد من أجله، وبذل النفس والنفيس، والغالي والرخيص من أجل رفع لا إله إلا الله، وأفضلنا من تولى الله وأحب الله وسجد له، ومن أخلص قلبه للواحد الأحد، فليس فينا مفضل بنسبه ولا بسببه ولا عندياته ولا بذاته.
فالله عز وجل أدخل النار أبا جهل المخزومي وأبا لهب وأبا طالب عمي الرسول عليه الصلاة والسلام، وبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي أدخلهم جنة عرضها السماوات والأرض.
أيضاً وطن المسلم كل أرض أشرقت عليها شمس الإسلام، وأيضاً وطن المسلم هذا الكون الفسيح
وكما سلف في القصيدة السابقة:
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني
بـ الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
وفي ثرى مكة تاريخ ملحمة على رباها بنينا العالم الفاني
في طيبة المصطفى روحي واولهي في روضة المصطفى عمري ورضواني
النيل مائي ومن عمان تذكرتي وفي الجزائر آمالي وتطوان
دمي تصبب في كابول منسكبا ودمعتي سفحت في سفح لبنان
فأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
أمة واحدة قبلتها واحدة، وربها واحد، وكتابها واحد، ورسولها واحد، فمن يسعى إلى تمزيق الشمل أو تمزيق الأمة فهو آثم عند الله، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] هذه هي التي يجب على العبد أن يرتفع بها ويسمو، وأن يحب في الله ويبغض في الله، وأن يكون عالماً ربانياً كونياً شرعياً يتبع الشرع.
هذا مما يطلب في مثل هذا المقام الشريف، وقد أكد عليه كثيراً في مثل محاضرة (فن تأليف القلوب) ومثل خطبة (وألف بين قلوبهم) وقد ذكرت شيئاً في تلك المحاضرة من كلام أهل العلم بعد الآيات والأحاديث وبمشاركة الشيخ: عبدا لله بن محمد بن حميد فمثل هذا يكفي في ذاك المجال.(120/33)
نصيحة لحضور مجالس الذكر
السؤال
نريد الحضور ولكن المكان لا يتسع لنا؟
الجواب
إذا لم يتسع المكان فإنه يتسع القلب والصدر، تعال واجلس على قلوبنا: وصدورنا، وهذا وارد، وأنت إذا حضرت أوجد لك الله مكاناً وهيأه لك، وأنا كنت أود من الإخوة أن يتقاربوا لكن شكى بعض الإخوة يقول: إذا أقيمت الصلاة أصبح في الصف صفان، لكن إذا بدأ الدرس فليتقارب الصفوف بعضها من بعض، لأني أرى بعض الفراغات تأخذ بعض الإخوة، وهذا ليس بعذر أن يتخلف الإنسان بحجة أنه ما وجد مكاناً؛ فإني أعرف أن من يجلس في البرد أن الله يثيبه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على جلوسه وعلى رباطه، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] والعبد يؤجر على حضوره.
أيضاً هذا الوقت من المغرب إلى العشاء مستهلك عند الناس، حتى أن غالب الطلبة لا يذاكرون في مثل هذا الوقت، ساعة أو ساعة ونصف، ثم لا يصلح هو أصلاً للزيارة إلا لمثل حضور فائدة أو نفع أو حضور مجلس خير مثل هذا المجلس، ثم هو يوم في الأسبوع، فعلى كل حال العبد يتغلب على كل المحبطات والملهيات والمشغلات ليكون مكسباً له في يومه وحياته.
أسأل الله عز وجل لي ولكم القبول والهداية، والتوفيق والرشد والسداد، وأسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يعيننا على أنفسنا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(120/34)
في ظلال لا إله إلا الله
(لا إله إلا الله) ليست قولاً فقط بل هي قول وعمل، وهي التي أدخلت عمر وعلياً وعثمان وبلال الجنة، وبسبب تركها دخل أبو لهب وأبو طالب النار -والعياذ بالله-.
فلنعش لحظات مع (لا إله إلا الله) في هذا الدرس، ولنعرف هل نحن محققون لكلمة (لا إله إلا الله) قولاً وعملاً؟ وهل نعيش تحت ظلها؟(121/1)
امتلاء قلوب الصحابة بلا إله إلا الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مسلمونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عليكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالكمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:101 - 102] من الذين سبقت لهم من الله الحسنى؟!
إنهم أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين لا يسمعون حسيس النار ولا يخلدون فيها.
فيا أهل لا إله إلا الله! ويا حملة لا إله إلا الله! (لا إله إلا الله محمد رسول الله) كلمتان يدور عليهما الإسلام، وفي مظلتهما هذا الدين، ولذلك كان عنوان هذا الحديث في (ظلال لا إله إلا الله).
ويوم يأتي المسلم ليستقرئ سيرته -صلى الله عليه وسلم- يجد أنه بدأ بلا إله إلا الله وختم بلا إله إلا الله، وقف على الصفا عليه الصلاة والسلام فجمع الناس لينذرهم فقال: {يا بني هاشم! يا بني عبد مناف! يا بني كعب بن لؤي! قولوا: لا إله إلا الله؛ تفلحوا، إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد} حينها آمن من آمن بلا إله إلا الله فدخل الجنة، وكفر من كفر بلا إله إلا الله فدخل النار.
يقول عمه أخو أبيه أبو لهب: تباً لك، ألهذا دعوتنا! فأنزل الله قوله المحرق لهذا الرعديد الفاجر: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:1 - 2]
ويأتي بلال من أرض الحبشة ليؤمن بلا إله إلا الله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] أما أهل الصفا، وأهل زمزم، وأهل الحرم، فقد كفر كثير منهم بلا إله إلا الله.
أما صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي، وخباب بن الأرت فقد ملئوا قلوبهم بلا إله إلا الله.
يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدعو الناس وقبل أن يتكلم إلى البشر: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
إذا أردت أن تدعو الناس، وأن تبدأ في طريقك وتزاول عملك، فاعلم -أولاً- أنه لا إله إلا الله {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] هل تعلم أحداً مثيلاً لله؟!
هل تعلم أعظم من الله؟! لا والله.
أتى عدي بن حاتم (والحديث حسن) إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم -وأبوه حاتم الطائي كريم باذل جواد، ولكنه لا يساوي ذرةً في ميزان الحق؛ لأنه لم يدخل قلبه لا إله إلا الله محمد رسول الله، مات كافراً مشركاً فما أفاده إيمانه بالطاغوت، ولا نفعه جوده ولا كرمه؛ يقول ابنه كما في صحيح مسلم للرسول عليه الصلاة والسلام: {يا رسول الله! إن أبي كان يكرم الضيف، ويحمل الكلَّ، ويعين على نوائب الحق، فهل ينفعه ذلك شيئاً عند الله؟ قال: لا.
إن أباك طلب شيئاً فأصابه} طلب الذكر، والشهرة، والرياء، والسمعة فحظه ذلك في الدنيا حتى يتراد صيته واسمه بين مجتمعاتنا ولكنه من الخاسرين.
وكريم آخر يُسأل عنه صلى الله عليه وسلم فقال: {لا.
إنه لم يقل يوماً من الأيام: رب اغفر لي خطيئتي}.
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] ويقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] ويقول: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: {قلت: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: لقد ظننت ألا يسألني أحد قبلك يا أبا هريرة، أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه} لكن ليس معنى لا إله إلا الله أن ترددها أيها المسلم بلسانك وأما واقعك وعملك فهو يخالف لا إله إلا الله، وكثير من الناس يتصور أنه إذا قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله كفى.
لا إله إلا الله اعتقاد وقول وعمل، فإن بعض المشركين قالوا: لا إله إلا الله فما نفعهم ذلك؛ لأنهم ما اعتقدوا بمدلولها، وما أخلصوا في حملها، وما عرفوا العمل بها.
إن من يقول: لا إله إلا الله، لا تفوته الصلوات الخمس جماعة.
ومن يعتقد لا إله إلا الله، لا يتعدى حدود الله، ولا ينتهك حرماته.
ومن يقول: لا إله إلا الله، لا يجعل بيته وثناً، ولا يجعل بيته مسرحاً للمعاصي؛ والأغنية الماجنة، والمجلة الخليعة، واللعن، والسب، والشتم، والاستهزاء بآيات الله وبرسوله وبالإسلام الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا يخالف لا إله إلا الله.
وفي ظلال لا إله إلا الله -أيها المسلمون- لتعلموا أن من أكبر قضايا لا إله إلا الله هي: الإيمان بالله تبارك وتعالى، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].(121/2)
التقوى من أعظم ثمار الإيمان
والإيمان أكبر رافد من روافده تقوى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مسلمونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالكمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
لكن ما هي التقوى؟ ما تعريفها؟(121/3)
تعريف التقوى
قال علي بن أبي طالب فيما أثر عنه عن التقوى: [[الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، الرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل]].(121/4)
الخوف من الجليل
يقول: التقوى هي الخوف من الجليل، هل تعرفون "الجليل"؟!
هو الله الواحد الأحد، الجليل الذي يراك إذا تسترت بالجدران، الجليل هو الذي يراقب حركاتك إذا اختفيت في الحيطان.
كثير من الناس لا يعرف الجليل، يخاف من السلطة ومن القائد والقيادة أكثر من خوفه من الله الواحد الأحد، يخاف من مراقبة المسئول أكثر من مخافته للواحد الجليل تبارك وتعالى، لا يخطئ ويقف بسمت حسن أمام هذا البشر الذي يموت ويعدم ويفتقر ويمرض، ولكنه لا يخاف من الله كخوفه من هذا المسئول: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} [مريم:81] {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل:20] {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].
الجليل هو الذي خلقك.
الجليل هو الذي صورك: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الإنفطار:6 - 8] {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2].
أتيت أقول لكم اليوم: إن الجليل هو الله الذي أنزل لا إله إلا الله لتعيشوا في مظلتها.
علي رضي الله عنه وأرضاه يقول: [[تقوى الله هي: الخوف من الجليل]]
الإمام أحمد بن حنبل؛ الإمام العالم الجليل الزاهد العابد الذي رفعه الله بالتقوى، لا بالمنصب، ولا بالشهرة، ولا بالمال.
إمام أهل السنة والجماعة يحمل الحطب على كتفيه، فيؤخذ الحطب منه ويقال له: "كيف تحمل وأنت الإمام أحمد؟
قال: نحن قوم مساكين لولا ستر الله افتضحنا".
الإمام أحمد يقول يوماً لأحد الشعراء: أتقول الشعر؟ قال: أروي الشعر.
قال: ماذا تروي؟
قال: قول الشاعر:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب
فقام وأغلق عليه الباب وأخذ يبكي حتى سمع بكاؤه من خارج البيت وهو يردد:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
يقول علي: " التقوى هي الخوف من الجليل.
وإذا لم تخف من الجليل فاعرف أنك لست متقياً إلى الآن، يا سبحان الله! من يراقب مسئوله في الصلاة فيصلي من أجل مسئوله ألا يخاف الواحد الأحد؟! هذا إنسان سلخت العقيدة من قلبه ومن دمه ومن شرايينه.
من يراقب السوط والسجن ويخاف منها ولا يخاف من الواحد الأحد، لا إله إلا الله ما أبعده عن الله!(121/5)
العمل بالتنزيل
يقول: علي بن أبي طالب: [[التقوى: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل]] العمل بالكتاب والسنة.
نحن أمة ليست مخيرة في أخذ شرائعها، وفي أخذ مناهجها ومبادئها، أمة تسير بالكتاب والسنة.
فإذا علم ذلك، فليعلم الأخ الفاضل أنه لا بد أن يعمل على ضوء الكتاب والسنة، وأن يتقي الله فيهما وأن يكون على ضوئها وهي مظلة لا إله إلا الله.(121/6)
الرضا بالقليل
ثم يقول رضي الله عنه: [[والرضا بالقليل]]
ما أكثر أموالنا! وما أكثر مناصبنا، وما أكثر وظائفنا! ولكن لا شيء
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] يوم تدفن لا يدفن معك إلا العمل الصالح:
{يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع اثنان ويبقى العمل}.
دخل بعض الصحابة على أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، وهو من كبار الصحابة، فوجدوا عنده شملة، وقعبٌ يتوضأ فيه، وصحفة يغتسل ويأكل فيها، وعنده عصا، فقالوا له: أين متاعك؟ قال: هذا متاعي.
قالوا: وأين فرشك وأين طعامك؟!
وأين شرابك وملابسك؟!
قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أن أمامنا عقبة ولا يتجاوز العقبة إلا المخف}
إن الذي يكثر من ملذات الدنيا وشهواتها يكون على حساب أجره عند الله عز وجل: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20].
أتى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمفاتيح كنوز الأرض، أو أن تسير له الجبال ذهباً وفضة، فقال: {لا.
أعيش عبداً رسولاً، أجوع يوماً وأشبع يوماً} لأنه يعيش تحت مظلة لا إله إلا الله.(121/7)
الاستعداد ليوم الرحيل
ثم قال رضي الله عنه: [[والاستعداد ليوم الرحيل]] ماذا هيأنا للعرض على الله عز وجل؟!
ما هي الأعمال الصالحة التي قمنا بها وحملناها لذاك المصرع وذاك القبر؟!
أعاننا الله وإياكم على ذلك القبر!
والقبر فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءة
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
عمر رضي الله عنه وأرضاه يدخل عليه علي بن أبي طالب وقد طعن، ودماؤه تسيل عليه، فقال: طوبى لك يا أمير المؤمنين.
قال: لا تدعني بأمير المؤمنين، فأنا اليوم لست بأمير المؤمنين، قال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين! أسلمت فكان إسلامك نصراً، وهاجرت فكانت هجرتك فتحاً، وتوليت فكانت ولايتك رحمة.
فبكى عمر وقال: [[يا ليتني نجوت كفافاً لا لي ولا عليَّ]] كان عمر يبكي وراء الأسوار، ويجلد نفسه بالعصا ويقول: [[يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني ما عرفت الحياة، يا ليتني ما توليت الخلافة]].
وتقول عائشة وهي تبكي: يا ليتني كنت نسياً منسياً.
إن الموقف ليس بالسهل، ماذا أعدننا أيها الأبرار، فقدنا الأجداد والأولاد، فقدنا الآباء والأمهات، فقدنا الإخوة والأخوات، إنه هادم اللذات، مفرق الجماعات، آخذ البنين والبنات
طول الحياة إذا مضى كقصيرها والعز للإنسان كالإعسار
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان(121/8)
نداء للجندي المسلم
يا أيها الجندي المسلم: أسألك بالله أن تتقي الجليل قبل أن تتقي المسئول؛ فوالله الذي لا إله إلا هو إن الذي لا يتقي الله عز وجل إنه خائن لعقيدته ولمبادئه، ولولاة الأمور، خائن لوطنه ولرتبته ومسئوليته، والمسئول القائم عليه؛ لأنه أبدى الخيانة من أول الطريق.
إن الذي لا يعرف الطريق إلى الله عز وجل تحت مظلة لا إله إلا الله، سوف يبقى متخلفاً وهزيلاً فاشلاً في الحياة الدنيا والآخرة؛ لأن الله عز وجل جعل على نفسه أنه من حفظه حفظه ومن ضيعه ضيعه، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يلقي هذا الحديث على الناس: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
يا أيها الجندي المسلم: إن الجندية تتطلب منك أن تحافظ على الصلوات الخمس وهي مظلة لا إله إلا الله، وإن الذي لا يعرف المسجد لا يعرف الفلاح والنجاة، ولا يعرف النصر والتفوق في الحياة الدنيا ولا في الآخرة.
ويا أيها الجندي المسلم: إن من أعظم اهتماماتك هذا الدين ويوم تترك الدين، فقل على الإسلام والدنيا السلام؛ لأن:
من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح(121/9)
كيفية عرض الرسول صلى الله عليه وسلم لـ (لا إله إلا الله)
أيها الإخوة الأبرار: يوم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض (لا إله إلا الله) عرضها بثلاثة نماذج من العروض:(121/10)
لا إله إلا الله والآيات الكونية
أولاً: عرض الآيات الكونية للناس، والله عز وجل يخاطبك تحت مظلة لا إله إلا الله بالآيات الكونية.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191] {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] مالهم لا يتفكرون! مالهم لا يفهمون! لماذا يحملون أدمغة الحمير ويريدون الحياة وهم لا يفهمون أفعال الواحد الجليل؟! {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17].
من خلقها؟! من سواها!؟ من عدلها!؟
{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20] لا إله إلا الله.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
جاء في تفسير ابن كثير في سورة البقرة أن الإمام أحمد سئل: ما هو دليل قدرة الواحد الأحد الباري تبارك وتعالى؟ قال: "هذه البيضة بيضة الدجاجة، أما سطحها ففضة بيضاء، وأما داخلها فذهب إبريز، تُفقس فيخرج منها حيوانٌ سميع بصير، ألا يدل على السميع البصير؟!! إي والله.
والشافعي يُسأل: ما هو دليل القدرة؟
قال: "هذه الورقة تأكلها الغزال فتخرج مسكاً، وتأكلها النحلة فتخرج عسلاً، وتأكلها دودة القز فتخرج حريراً، أفلا تدل على السميع البصير؟!! "
وقيل للإمام مالك: ما دليل القدرة؟
فدمعت عيناه وقال: اختلاف الأصوات، وتعدد اللهجات، وتباين الكائنات، تدل على فاطر الأرض والسماوات ".
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا؟!
قل للمريض نجا وعوفي بعد ما عجزت فنون الطب من عافاكا؟!
والنحل، قل للنحل يا طير البوادي ما الذي بالشهد قد حلاَّكا؟!
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
فالحمد لله الجليل لذاته حمداً وليس لواحدٍ إلاَّكا
أين يذهب الإنسان الضعيف من قدرة الله؟!
يا أيها العبد! أنقذ نفسك.
إن المتكلم قد يتكلم بإنقاذ نفسه، لكن ماذا فعل السامع في إنقاذ نفسه؟
إنها حياة مصير وليست حياة محدودة، إن مصيرك يتوقف على إيمانك وعودتك إلى الله.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرض (لا إله إلا الله) تحت مظلة (لا إله إلا الله) في الكائنات.
يخبر الناس بخلق الله، وبديع صنعه وآياته.
فلا إله إلا الله ما أجحد الكافر! ولا إله إلا الله ما أظلم الكافر! إن أظلم من وجد على سطح الأرض هو الكافر يوم تنّكر الحقائق يستنشق الهواء، ويشرب الماء، ويمشي في الضياء، ويستظل بالسماء، ويعيش في صفاء، ثم لا يعرف الواحد الأحد الذي أنزل الكتاب على الأولياء.
سبحان الله!!(121/11)
لا إله إلا الله والعمل
ومما عرضه صلى الله عليه وسلم من (لا إله إلا الله) أنه عرضها بالعمل؛ بالصلوات الخمس، وبالنوافل، وبالصيام، وبالصدقة، وبين أن (لا إله إلا الله) يوم تتخلى عن العمل تصبح كلمة جوفاء لا تنفع ولا تنجي صاحبها.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يوم يعرض (لا إله إلا الله) عرضها بالعمل، يقول: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله}.
لا إله إلا الله كلمة بلا صلاة ولا زكاة ولا صيام لا تنفع، بلا حب وولاء لله عز وجل وتبرؤ من أعدائه لا تنفع.(121/12)
عرض لا إله إلا الله بالتوبة إلى الله
وعرض صلى الله عليه وسلم (لا إله إلا الله) لغرض التوقف عن الذنوب والتوبة إلى الله الواحد علام الغيوب.
إن الذي يقول: (لا إله إلا الله) يراجع حسابه مع الله، إن الذي يشهد أن لا إله إلا الله ويعتقدها، يفتح باب التوبة على الله عز وجل؛ ليدخل جنة الله {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار
إذا انغمست في الخطيئة إلى مشاش رأسك فعد إلى الواحد الباري فإنه التواب، وإذا أظلم قلبك من الذنب والمعصية، فعد إلى الباري فإنه هو التواب، وإذا كثرت عليك الفتن والمحن والزلازل والابتلاءات؛ فعد إلى الباري فإنه هو الذي يكشفها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
باب التوبة هو من أبواب (لا إله إلا الله) وتحت مظلة (لا إله إلا الله) ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يفتح باب التوبة للناس، ويخبرهم أن من مقتضيات (لا إله إلا الله) التوبة، بل يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن أرفع منزلة عند أهل السنة والجماعة هي: منزلة التوبة.
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة:117] هذه بعد غزوة تبوك، وهي في آخر العصر النبوي، ذكر الله أنه تاب عليه بعد الجهاد، وبعد إسالة الدماء وبذل النفس، يقول الله: {لَقَدْ تَابَ الله} [التوبة:117].
عاش الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر نفس من حياته وفي آخر أنفاسه يوم عاش حياة الجهاد والجِلاد والتضحية والبذل والعطاء، يقول الله له قبل الموت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3].
لا تظن أنك قدمت شيئاً، الفضل لله، والمنة له، والعطاء والخير من الله، فاستغفر الله كأنك ما قدمت شيئاً؛ ولذلك أمرنا أدبار الصلوات أن نقول كلما سلمنا: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، وقال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] أي: إذا انتهيت من الحج فاستغفر الواحد الأحد، فكأنكم ما قدمتم شيئاً: {يَمُنُّونَ عليكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا علي إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عليكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] لا تمن إسلامك وصلاتك على الله، بل الله يمن عليك أن هداك وأدخلك الجنة؛ لأن الله عز وجل اشترى نفسك منك، وإن كنت مسلماً فقد اشتراها الله منك.
نعم.
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عليهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] لا أحد: ومن أصدق من الله؟
لا أحد.
ومن أوفى من الله؟ لا أحد.
فإذا بعت نفسك فاعلم أن السلعة هي الجنة، وهذا العقد نزل به جبريل، والذي ضمن العقد هو الله، والذي وقَّع على العقد هو محمد صلى الله عليه وسلم، والسلعة الجنة، والثمن أرواح المؤمنين.
فهل من بائع لنفسه في طاعة الله؟
إن البيعة العظيمة تقتضي منك أن تفتح لنفسك باب التوبة.
يا أيها الجندي المسلم: إذا ظللت في الخطأ فعد إلى الواحد الأحد، وتبرأ من خطئك وتب إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم آخرين يذنبون ويستغفرون الله فيغفر لهم} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {والله إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {والذي نفسي بيده، لو كنتم كما تكونون عندي -وفي حلق الذكر- لصافحتكم الملائكة، ولكن ساعة وساعة} وصح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال: {يقول الله تبارك وتعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرماً بينكم فلا تظالموا، يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يقول الله تبارك وتعالى: يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت خطاياك وذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة}.(121/13)
العيش تحت مظلة (لا إله إلا الله)
فيا عباد الله: الله الله في التوبة والاستغفار ومحاسبة النفس، ولابد من العودة إلى الواحد الأحد {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219] الذي يلحظ حركاتك وسكناتك، {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] ويقول: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
فأين يذهب العاصي عن الله؟! وأين يذهب المتمرد على الله؟!
يا من ترك الصلوات الخمس! إنك اقترفت أكبر جريمة في تاريخ الإنسان يا من أدخلت على قلبك الملهيات والمشغلات والمعاصي ثم لم تعرف ربك! إنك اقترفت ذنباً خطيراً على نفسك يا من ظل في بيته ولم يرب أسرته، ولم يعلم أبناءه الإسلام، ولم يدل زوجته على طريق الجنة! إنك ظلمت زوجتك وبيتك وأهلك وأبناءك، يا من نصبه الله عز وجل على ذريته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عليهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]! إنك تؤخذ بالناصية إن لم تتب وتراجع حسابك مع الله.
إنه والله موقف صعب، فأنا ألقي هذه الأمانة من ذمتي إلى ذممكم، ومن عاتقي إلى عواتقكم اللهم فاشهد أنا جلسنا نخبر بآياتك وكلام رسولك صلى الله عليه وسلم ليصل البلاغ إلى أهل البلاغ، وتصل الدعوة إلى أمة الدعوة، فلم يبق هناك جهل؛ لأننا نعيش في مظلة (لا إله إلا الله).
إن من يعيش تحت مظلة (لا إله إلا الله) لا تفوته الصلوات الخمس، إن من يعيش تحت مظلة (لا إله إلا الله) لا يتناول مسكراً، إن من يعيش تحت مظلة (لا إله إلا الله) لا يزني، إن من يعيش تحت مظلة (لا إله إلا الله) حياته لله ومماته لله.
اللهم يا رب، هذا الجمع اجتمع لسماع كلامك وكلام رسولك، اللهم لا تعده إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وعمل متقبل مبرور.
اللهم فارحمنا واغفر لنا وتب علينا واهدنا وسددنا، من يغفر لنا إذا لم تغفر لنا؟! من يرحمنا إذا لم ترحمنا؟! ومن يتولانا إذا لم تتولنا يا رب العالمين؟!
قلوبنا قاسية، وعيوننا جافة، وأيدينا بخيلة، فرد إلينا من فيضك، وأسبغ علينا من نعمائك، ووفقنا لسلوك طريقك يا رب العالمين.
أنت يا ربنا! أنت المقصود، وأنت المطلوب، وأنت النافع والضار، وأنت الخالق الرازق.
سبحانك، سبحانك لا إله إلا أنت، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] ويقول: {كُلُّ مَنْ عليهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وأسأل الله أن يتقبل منا أحسن ما عملنا، ويتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(121/14)
الأسئلة(121/15)
حكم تارك الصلاة
السؤال
ما حكم تارك الصلاة؟ وهل يجوز أن أجلس معه، وآكل معه، وأنا مجبور على ذلك؟
سؤال آخر: ما حكم التكاسل عن أداء الصلاة بغير قصد، أو الصلاة في غير وقتها؟
الجواب
الحمد لله.
تارك الصلاة مما علم من النصوص أنه كافر، وهذا أمر نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وكان عليه الصلاة والسلام يقول: {بين المسلم والكافر ترك الصلاة} فإذا تركها العبد عامداً متعمداً فقد كفر بالله العظيم.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم} فمفهوم المخالفة: أنهم إذا لم يفعلوا ذلك لم يعصموا دماءهم، وكان له صلى الله عليه وسلم الحق في قتالهم، ولا يقاتل إلا كافراً.
إذا علم هذا؛ فمن تركها عامداً متعمداً فقد كفر.
أما من تركها تكاسلاً فالصحيح في ذلك أنه يكفر، وليس هناك دليل لمن قال: هناك فرق بين التكاسل والعامد المتعمد لا.
إنه لا يصل إلى درجة أن يترك الصلاة متكاسلاً إلا لأنه تركها عامداً.
وأما من صلاَّها في غير المسجد فهو فاسق؛ لأنه خالف النصوص التي تربوا على ثلاثة عشر نصاً صحيحاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصلاة في المساجد.(121/16)
التوبة بابها مفتوح
السؤال
ما حكم الذي لم يترك أي جريمة إلا وارتكبها ما عدا القتل والسرقة، هل له توبة وهل له كفارة؟ مع العلم أنه يصلي ويصوم؟
الجواب
أما التوبة فلم تحجب عنك ما لم تطلع الشمس من مغربها، أو ما لم تغرغر أنت.
فبالنسبة إلى كل العالم إذا طلعت الشمس من المغرب انتهت التوبة، وبالنسبة لك ما لم تغرغر لكنك لا تسوف في التوبة، واعلم أن أي ذنب يغفره عز وجل بالتوبة، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كان فيمن كان قبلكم رجل أسرف على نفسه في الخطايا فلما حضرته الوفاة قال لأبنائه: إذا مت، فأحرقوني بالنار -يعني جثمانه- ثم اسحقوني ثم ذروني في يوم ذي ريح، فلما مات أحرقوا جثمانه بالنار، وسحقوه وذروه ظناً أن الله لن يجمعه كما بدأه أول مرة، فأخذته الريح في كل مكان، فجمعه الذي أنشأه أول مرة {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عليمٌ} [يس:78 - 79] فلما أصبح أمامه، قال: يا عبدي ما حملك على ما فعلت؟ قال: خفتك وخشيت ذنوبي.
قال: فإني قد غفرت لك} هذا مذنب أخطأ خطأً بيناً، حتى يقول ابن تيمية: إن من أعظم خطاياه: أنه شك في القدرة.
من أعظم خطايا هذا الرجل أنه شك في قدرة الله، الذي من شك فيها دخل شكه في المعتقد، لكن مع ذلك لما خاف لقاء الله، وأظهر التوبة والجزع عند الموت تاب الله عليه، وهو من عصاة الموحدين، فلا يفهم أنه كان لا يحمل توحيداً.
ماعز بن مالك زنى وأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب التطهير، فطهره صلى الله عليه وسلم، فبعض الصحابة سب ماعزاً، فقال صلى الله عليه وسلم: {لا تسبه.
فوالذي نفسي بيده، إني أراه ينغمس في أنهار الجنة}.
والمرأة الغامدية التي زنت طهرها النبي صلى الله عليه وسلم، فسبها بعض الصحابة وقال: "لو استترت" فقال صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم} وفي لفظ: {لو تابها صاحب مكس.
-قيل: شرك، وقيل: مبتاع بالمكس- لقبل الله توبته}.
وأنت إذا أذنبت فعد إلى الواحد الأحد.
رجل قتل تسعةً وتسعين نفساً، فأتى إلى راهبٍ متخلف في صومعته فقال: هل لي من توبة؟ وهذا الراهب ليس عنده علم، فقال: ليس لك توبة.
فقتله فوفى به المائة.
ثم قال: دلوني على عالم، فدلوه على عالم.
فقال له: هل لي توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ باب التوبة مفتوح، تب إلى الله، فتاب وقال له: اذهب إلى أهل هذه القرية فإنها صالحة، أهلها يعينونك على الصلاح، فذهب، فمات في الطريق ولم يعمل صالحاً بعد، وما تقرب بشيء ولكنه تاب، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إليهم أن قيسوا ما بين المسافتين، فقال الله عز وجل لتلك القرية: تقاربي، ولهذه: تباعدي، حتى يكون أقرب إلى القرية الصالحة، فوجدوه أقرب إليها فرحمه الله.
من يمنعك من التوبة؟ باب الله مفتوح، ونواله ممنوح، وعطاؤه يغدو ويروح.
لكن إذا كان هناك من شروط فشروط التوبة:
أولاً: أن تعزم على عدم العودة.
الأمر الثاني: أن تندم على ما فات منك.
الأمر الثالث: أن ترد حقوق الناس إليهم؛ لأن حقوق الناس مبنية على المشاحة، وحقوقه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مبينة على المسامحة.
إن أخذت مالاً فمع التوبة أعد ذاك المال إلى صاحبه أو تصدق به على نية صاحبه، إن خفت من الضرر الأعظم من عودة هذا المال، وإن اعتديت في ممتلكات الناس فأعدها، وإن سببت رجلاً فلك أن تستبيح منه أو تستغفر له في ظهر الغيب.
هذه هي التوبة، وهنيئاً لك إذا تبت إلى الله الواحد الأحد.(121/17)
الإنسان مخيرٌ أم مسير؟
السؤال
فضيلة الشيخ: هل الإنسان مخير أم مسير؟
وسائل آخر يقول: أنا أحاول دائماً أن أكون من المصلين في المسجد، وأتجه إلى الله وأقبل على الله أياماً، ولكن أنقطع عن ذلك وأنا غير راض أو غصباً عني كما يقال فماذا تنصحني؟
الجواب
أما بالنسبة للسؤال الأول، وهو: هل الإنسان مخير أم مسير؟ أنتم تعرفون أن للعبد مشيئة ولكنها تحت مشيئة الواحد الأحد، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] العبد مسير من جهة ومخير من جهة، فله مشيئة ولكن مشيئته تحت مشيئة الله.
فلا يصح أن نقول: مخير.
ولا يصح أن نقول: مسير.
من قال: إن العبد مسير فهو من أهل الجبر، وأنه مجبور على فعل المعصية، وأنه لا حجة لمن أجبره على ذلك -نعوذ بالله من الخذلان- وإن قالوا: مخير؛ فهم نفاة القدر (القدرية) الذين قالوا: يفعل العبد ما شاء متى ما شاء بدون سابق قدر، وقد أخطئوا.
والصحيح: أن له مشيئة تحت مشيئته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه لا يفعل شيئاً إلا بإذنه تبارك وتعالى في سابق علمه.
وكثير من الناس اليوم يجعلون المعصية جبراً ويجعلون الطاعة قدراً، تقول: لماذا لم تصلِّ الفجر؟ وهي عمل ومزاولة، فيقول: قدر الله علي ألا أصلي الفجر.
وتقول: لماذا تشرب الخمر؟ فيقول: كتب الله عليَّ أن أشرب الخمر.
فهو جبري في الفعل لكنه قدري في الترك.
وهذه مسألة ليس هذا بسطها، وإنما قلت هذا كنموذج؛ لأن معتقد أهل السنة والجماعة أن للعبد مشيئة وله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مشيئة أعلى من ذلك.(121/18)
كيفية المسح على الخفين والجبيرة
السؤال
أرجو من فضيلتكم شرح كيف يكون المسح على الخفين والجبيرة؟
الجواب
المسح على الخفين سنة من سننه صلى الله عليه وسلم، بل قال بعض أهل العلم: إنه ورد في القرآن الدليل الظني عليها: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:6] قالوا: قد يقتضي من هذا أنه المسح على الخفين، فدلالة الآية على المسح والغسل.
وعن علي رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: {جعل لنا صلى الله عليه وسلم على المسح على الخفين يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر} وعن ثوبان في سنن أبي داود قال: {أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين} وهي: الخفاف والعمائم.
وعن المغيرة في الصحيح قال: {هويت لأنزع خفي الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين} ويمسح على الخف بشروط:
أولها: أن تدخل رجليك في خفك أو جوربيك وهما طاهرتان بعد أن توضأت وضوءاً كاملاً، ومعنى طاهرتان: أنك تكون متوضئاً ثم تدخل الخفين.
الشرط الثاني: أن يكون الخف ساتراً، فلا يظهر البشرة؛ لأن الخف في اللغة العربية ما ستر، سواء كان قائماً بنفسه أو بغيره، المهم أن يكون ساتراً.
الشرط الثالث: أن تستبقي استدامته لمدة المسح؛ لأنك إذا خلعته -على الصحيح- فقد انتهت مدة المسح، إلا عند الحسن البصري، وهذا ليس مجال الخلاف، لكن الصحيح أنك إذا خلعت الخفين فإنك قد أنهيت مدة المسح، ثم تحدد لك المدة إن كنت مقيماً فيوم وليلة من الظهر إلى الظهر -مثلاً- إلا إذا استدمت الطهارة أول حدث تخلعه، وإن كنت مسافراً فثلاثة أيام.
هذه أحكام باختصار في المسح على الخفين.
أما الجبيرة فهي الشيء أو اللفافة من أي شيء طاهر أو من قماش أو نحوه يوضع على الجرح أو الكسر، فإن كان في مواطن الوضوء فهذا الذي له حكم، أما إن كان في غير مواطن الوضوء فحكمه عند الغسل.
والجبيرة إذا وضعتها فعليك أن تمسح عليها وأن تتيمم لها إذا كانت في مواضع الغسل؛ لحديث أبي داود في صاحب الشجة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يمسح عليها} وقال: {قتلوه قتلهم الله، إنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم لها} وفي لفظ: {أن يمسح عليها} فتمسح عليها مسحاً وتتيمم لها كتيممك للوضوء.
وإذا كانت في أعضاء الوضوء فإنك تترك هذه المنطقة ولا تغسلها ثم تتيمم لها احتياطاً، فالتيمم احتياطاً والمسح وارد.(121/19)
حكم البيع بالتقسيط مع الزيادة
السؤال
فضيلة الشيخ! جزاكم الله خيراً.
ما رأيك في الذي يشتري سيارة بستة وعشرين ألفاً من الريالات ويبيعها أقساطاً بخمسة وأربعين ألفاً هل هذا جائز؟
الجواب
الأخ يسأل عن شراء سيارة بقيمة ثم يقسطها بقيمة أعلى، وهذا ليس فيه شيء، وإنما زيادة القيمة من أجل زيادة الأجل، وقد حقق ذلك ابن القيم.
أما حديث: {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة} فلا يشمل هذا؛ لأن الناس تعارفوا جميعاً أن طول المدة يقتضي زيادة الأجر.
أما أن أبيع سيارة وأقول لصاحبها: إن سلمت قيمتها الآن فبعشرين ألفا، ً وبعد سنة بعشرين ألفاً خالفت مصالح الناس، والشريعة لا تأتي بخلاف المصلحة، ولا الإضرار بأموال الناس، ولا إهدارها.
فالصحيح أن زيادة القيمة من أجل زيادة الأجل لا يدخلها شيء من الربا، والحمد لله.(121/20)
حكم دفن شخصين في قبر واحد
السؤال
لي ولدٌ قد توفي وصلينا عليه، ثم ذهبنا به إلى المقبرة ودفنوه مع شخص آخر في قبر واحد.
هل هذا وارد؟
الجواب
الدفن في القبر الواحد لا بأس للحاجة، واستحب هذا أهل العلم، بل هذا هو المؤكد، بأن يكون مع مسلم؛ لأن دفن المسلم مع الكافر فيه ضرر، ولو أني لا أعرف دليلاً يحرم دفن المسلم مع الكافر، أما دفن المسلم مع المسلم في قبر واحد فقد ورد بذلك أحاديث.
منها: حديث جابر في الصحيح: {كان صلى الله عليه وسلم يوم أحد يدفن الاثنين والثلاثة في قبر واحد.
ويقول: أيهما المتحابون في الدنيا؟} فكان يجمع بين المتحابين فيدفنهم في قبر واحد.
وفي حديث أنس: {فكان يقدم صلى الله عليه وسلم صاحب القرآن.
يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟} فقال أهل العلم: للحاجة، كأن يكون هناك موت عام كالطاعون، أو مرض عام في الناس فماتت مجموعات من الناس ولا يستطاع أن يحفر لكل واحد منهم قبراً واحداً، فتجمع مجموعة في قبر، أو كأن يكون هناك زلزال أو فيضان.
وأما لعدم الحاجة فالأحسن أن يكون لكلٍ واحد قبر، وهذا هو الوارد.(121/21)
حكم من ترك زكاة الفطر
السؤال
ما حكم من ترك زكاة الفطر، وذلك لظروف غير مادية؟
الجواب
زكاة الفطر مما يعلم أنها واجبة؛ لقول ابن عمر في الصحيحين {فرض صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط} وفي رواية أبي سعيد: {أو صاعاً من طعام} فهي واجبة.
فمن تركها لغير فقره، أو لغير حاجته فهو آثم.
وهي لا تسقط إلا عند العجز لكنه آثم، وأرى أن يتصدق صدقة، ولكن لا تكتب له زكاة الفطر.
قال ابن عباس فيما صح عنه: [[فمن أخَّرها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات]] وقيل في لفظ لـ ابن عباس: [[فمن أخر لغير يوم العيد فهي صدقة من الصدقات]] لكنها لا بد أن تخرج قبل الصلاة لتكون ممحية لهذا الفرض الذي هو واجب زكاة الفطر، أما تأخرها فهي صدقة من الصدقات، فعليه أن يتصدق لكن لا تكتب له زكاة فطر.(121/22)
حكم الحج لصاحب الدين
السؤال
هل يجوز الحج للمديون الذي عليه الدين؟
الجواب
الدين قسمان:
قسم يطالب صاحبه في هذه الفترة في فترة أيام الحج فعليك أن تعطيه حقه؛ لأن حقوق الناس كما أسلفت على المشاحاة، وحقوقه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مبنية على المسامحة، فإن كان يطلبك في هذه الأيام وفي هذا الوقت فادفع له حقه ولو عطلك عن الحج، وإن كان الأجل يستمر ولك أن تحج في هذه الفترة فقدم الحج.
وقد نقل عن الحسن البصري أنه أنكر فتوى سعيد بن المسيب لما قال: لا يحج مديون، وقال: لو توقف الناس لعدم الدين ما حج أحد.
لأنه ما سلم من الدين أحد، بل الصحابة حجوا وعليهم ديون، ومن بعدهم من السلف الصالح، فلابد من هذا التقسيم.(121/23)
حكم العقيقة والمولود
السؤال
هل يجوز أن تذبح التميمة للمولود في اليوم الثالث؟
الجواب
لا تسمى هذه تميمة لكنها تسمى عقيقة.
وقد كره النبي صلى الله عليه وسلم تسميتها بالعقوق فقال: {أكره العقة في الإسلام، وأكره العقوق} كما في الموطأ.
والسنة فيها كما في سنن أبي داود وغيره، أنها تذبح في اليوم السابع، وعند البيهقي إن فات اليوم السابع ففي اليوم الرابع عشر، فإن فات ففي يوم الحادي والعشرين.
هذه ثلاثة مواعيد وأوقات للعقيقة.
فالسنة ذبحها في اليوم السابع ولا تقدم على ذلك، فإذا فات السابع ففي الرابع عشر، فإذا فات في الرابع عشر ففي اليوم الواحد والعشرين.
والعقيقة تكون كبشان -ذبيحتان- عن الذكر المولود، وذبيحة عن الأنثى، ويؤذن في أذن المولود، وأما الإقامة في الأذن اليسرى فتحتاج إلى تصحيح والرواية فيها ضعيفة.(121/24)
حكم أكل الأرنب
السؤال
هل أكل الأرنب حلال أم حرام؟
الجواب
أكل الأرنب حلال والحمد لله.
ففي صحيح البخاري عن أنس قال: {أنفجنا أرنباً بـ مر الظهران -أنفجنا أي: طردنا- فأدركتها فذبحها أبو طلحة وقدم وركها للرسول صلى الله عليه وسلم} فيجوز أكلها.
والحمد لله رب العالمين.(121/25)
الضيف الكريم
إن مما يجب على المسلم أن يكون متفقهاً في أمور دينه التي يمارسها كل من دخل في هذا الدين، كالصلاة والصيام، وما دام أن شهر رمضان قد أوشك على المجيئ، فلابد للمسلم أن يفقه أحكامه حتى يعبد الله على بصيرة، ولذا وجب كل مسلم أن يعلم ما هي الأشياء التي تبطل صومه، والأشياء التي يجوز فعلها، ويعلم كيف كان هدية صلى الله عليه وسلم في رمضان، في السحور، في الإفطار ليكون صومه صحيحاً موافقاً للكتاب والسنة.(122/1)
نماذج من إجاباته صلى الله عليه وسلم على الأسئلة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
روى البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: {كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فقال: يا رسول الله! هلكت، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على أهلي في رمضان فقال عليه الصلاة السلام: أتجد ما تعتق به رقبة؟ قال: لا يا رسول الله! قال: أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا يا رسول الله، قال: أتجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا يا رسول الله -يعني كلها لا يستطيع- ثم جلس رضي الله عنه وأرضاه فأوتي صلى الله عليه وسلم بعرق -أي: بمكتل فيه تمر- فقال: قم فخذ هذا فتصدق به، قال: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟! والله ما بين لا بتيها -يعني حرة المدينة - أهل بيت أفقر من بيتي فقال صلى الله عليه وسلم فخذ هذا العرق -أو المكتل- فأخذه، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه} روى هذا السبعة واللفظ هذا لـ مسلم رحمه الله رحمة واسعة.
هذا الحديث سوف يأتي فيه قضايا، ولكن هذا الحديث من المجالس العامرة التي عاشها صلى الله عليه وسلم يوم عاش موجهاً للأمة ومعلماً لها عليه الصلاة السلام طيلة حياته حياة الرسالة، فبعد أن أرسله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بعد الأربعين كان يقف مفتياً ومعلماً، وهو مستعد لأي إجابة أو طلب إجابة من أي سؤال يصدر، سأله اليهود -كما سوف نعرض نموذجاً لذلك- والنصارى والمشركون والنساء والأطفال والأعراب، فكان عليه الصلاة السلام يجيب الجميع وهو متهيئ في مجلسه ليستقبل كل إنسان ويجيبه بكل ما يرد من سؤال، يجلس معه الصحابة الأخيار من المهاجرين والأنصار، ويجلس معه المشركون والمنافقون، واليهود والنصارى، والنساء والأطفال.
أما المشركون: فإنهم أكثروا من الأسئلة على الرسول عليه الصلاة السلام، ودخلوا مرات عديدة في مجلسه فما كان يعبس في وجوههم، بل يستقبلهم صلى الله عليه وسلم باللين؛ عل الله أن يهديهم.
دخل العاص بن وائل على الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد كان مشركاً رعديداً، يقول الله فيه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] دخل بعظم بيده فقال: يا محمد أتزعم أن ربك يحي هذا بعد أن يميته أو يرده حياً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {نعم ويدخلك النار} ففتت العظم ثم نفخه أمام الرسول عليه الصلاة السلام، فكان الرد من السماء قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] بعد أن كبر، وترعرع، واشتد ساعده؛ نسي خلقه ونسي صورته، ونسي من خلقه ورزقه، ثم انظر كيف التفت إليه بالغيبة فقال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} [يس:78].
أتى اليهود في مجلسه صلى الله عليه وسلم، فعرضوا له عشرات الأسئلة، منها ما يجيب عنه في الحال، ومنها ما يطلب وقتاً من الزمن حتى يأتيه الوحي من السماء، يقول ابن مسعود: {كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده عسيب من نخل قال: فمررنا على يهود فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الروح، فتوقف قليلاً ثم طلب منهم وقتاً ليخبرهم في هذا الوقت، فلما نزل عليه جبريل بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلا}) [الإسراء:85]} وسألوه عن عدد أهل الكهف، فطلب منهم مهلة يوم، فأتى جبريل عليه السلام فأخبره، فأخبرهم بالخبر فوجدوه مكتوباً عندهم في التوراة.
وأتى ابن سلام {فسأله عن ثلاث: عن أول علامات الساعة، وعن أول ما يأكل أهل الجنة، وعن علامة الطفل يوم يشبه أباه أو يشبه أمه، فأخبره وقال: أخبرني بذاك جبريل آنفاً، فقال ابن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله والله لا يعلم ذلك إلا نبي}.
وأتى النصارى في مجلسه عليه الصلاة السلام -نصارى نجران: - {فسألوه عن مريم وابنها عليهما السلام؟ فأخبرهم صلى الله عليه وسلم بذلك، فكأنهم لم يقتنعوا فدعا أهله وقال: تعالوا نبتهل أنا وإياكم -أي يدعو بعضنا على بعض باللعنة- فنجعل لعنة الله على الكاذبين} فما استطاعوا أن يباهلوه.
وجاء المنافقون وقالوا: نشهد إنك لرسول الله، فأخبره الله أنهم كاذبون وأنهم أظهروا ما لم يبطنوا.
وجاء الأعراب إليه صلى الله عليه وسلم وله معهم صولات وجولات؛ لأن الأعراب أقل الناس أدباً؛ ولأنهم لم يتعلموا الأدب، وفي أثر يقول صلى الله عليه وسلم: {من بدا جفا} أي: ليس عنده أدب، فأتى رجل منهم فقال: {يا رسول الله! أسمع بالدجال فما الدجال هذا؟ قال عليه الصلاة السلام: ضال مضل، يخرج وعنده جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار، وعنده خبز وثريد يقدمه للناس؛ يستغوي الناس به، أو كما قال عليه الصلاة السلام، فقال الأعرابي: والله يا رسول الله لأضربن في ثريده حتى أشبع، ثم أقول له آمنت بالله وكفرت بك، يظن أن المسألة على الفكر، وعلى الرأي فتبسم عليه الصلاة السلام ولم يقل شيئاً}.
{وجاءه أعرابي آخر -كما في الصحيحين - فصلى معه في الصف الأول، بجانب أبي بكر وعمر فلما انتهوا إلى التحيات قال في آخرها: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم عليه الصلاة والسلام سأل: من قال هذا الكلام؟ قال: أنا يا رسول الله! ولم أرد إلا الخير قال: لقد حجرت واسعاً -أي: ضيقت رحمة الله التي وسعت كل شيء- ثم لم يلبث هذا الرجل أن ذهب في طرف المسجد وأراق الماء -بال- فقام الصحابة ليضربوه وليطرحوه الأرض فقال صلى الله عليه وسلم: دعوه ثم أتي بذنوب من ماء فصب على بوله} في قصة طويلة فرضي هذا الأعرابي وأصبح داعية من دعاة الإسلام.
وكانت النساء يسألنه صلى الله عليه وسلم في أقل شئونهن وهي مسائل الطهر والحيض، وفي أكبرهن وهي الحياة مع الله عز وجل، ثم الحياة مع الزوج، فكان يفتي ولا يتلعثم عليه الصلاة السلام، فهو للطفل أب عليه الصلاة والسلام، وللشاب أخ، للكبير ابن وأوسع الناس خلقاً، وأوسع الأمة علماً، قادها إلى بر الأمان، هو المجاهد، والقائد، والداعية، والإداري، والمربي، والمفتي، والخطيب، ورب الأسرة، ولذلك كانت حياته عظيمة أبهرت العقول؛ حتى يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال كلاماً ما معناه في سورة التحريم: إنك أمام نبي تبهرك طلائعه، إنه قوي الإحساس، حي العاطفة، متوقد الذهن، يملأ ساعات حياته بالجد والعمل فعليه أفضل الصلاة السلام.(122/2)
شرح حديث سلمة بن صخر
هذا المجلس يجلسه صلى الله عليه وسلم بين الناس، وحوله الصحابة فيدخل هذا الرجل واسمه سلمة بن صخر البياضي، ومن عادة الصحابة أنه إذا كان في القصة أمر لا يحمد، وليس فيه جميل من الفعل لا يذكرون الاسم، وهذا أدب لك ولكل مسلم، إذا سمعت بقصة وكان بطل هذه القصة رجلاً سيئاً فلا تذكره للناس؛ ستراً على المسلمين، تقول: سمعنا عن رجل أنه فعل كذا وكذا، إذا كان في القصة مصلحة أما أن تسميه باسمه وبسكنه، وبعنوانه وحارته، فهذا ليس عند المسلمين، ولكن الصحابة إذا كان هناك مواقف بطولية، وكان هناك بذل وتضحية وعطاء قالوا فلان بن فلان.
يقولون: يوم أحد طلحة بن عبيد الله الذي فدى الإسلام، ويقولون: بارزه علي بن أبي طالب ويقولون: فدفع عثمان أمواله في سبيل الله، ووقف ثابت شاعراً خطيباً يدافع عن الإسلام، وحسان ذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما مسائل زنا أو خطأ أو ذنب، أو عيب أو جفى، فلا يدخلون الاسم ستراً على صاحبه، وهذا أدب عظيم، والله ستر أهل المعاصي في القرآن، لكن أنكى سبحانه ببعض الأسماء في القرآن، كفرعون وقارون وهامان وأبي لهب ليشهر أسماءهم بالفضيحة كما اشتهروا بها في الدنيا.
بينما الرسول عليه الصلاة والسلام جالس مع الناس، إذ وفد هذا الرجل يدلف قد فعل فعلة في رمضان قال: يا رسول الله هلكت، وفي هذه اللفظة دليل، وفيها فائدة أن هذا الرجل يعلم أن هذا هلاك، أي: ليس بجاهل ولا بناسي؛ لأن الذي لا يعرف حكم الجماع في نهار رمضان لا يقول هلكت، يأتي يقول: يا رسول الله! وقعت على أهلي فما الحكم؟ لكن هذا علم أنه هلك منذ أتى، ففيه دليل على أنه ليس بناسٍ ولا جاهل؛ لأنه لو كان ناسياً لما قال: هلكت يا رسول الله؛ لأن الله عفا عن الناسي ولو كان جاهلاً؛ لأن الجاهل لا يعرف الحكم فقال: {هلكت يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: وما أهلكك؟} أي: أنت صحيح معافى، مشافى، طويل عريض، وما نرى عليك آثار الضرب والهلاك، فماذا أهلكك؟ وفيه جواز استفتاء المفتي أنه إذا سألك عن سؤال أن تطلبه بالقوائم والسياقات.
قال: {وقعت على أهلي في رمضان} هذا لفظ مسلم وفي هذا اللفظة جواز إطلاق رمضان على الشهر بدون شهر رمضان؛ لأن بعض أهل العلم كرهوا أن يقال رمضان؛ لأنه في القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] ولكن هذا في جواز إطلاق رمضان على الشهر فلك أن تقول: رمضان أو شهر رمضان.
قال: {وقعت على أهلي في رمضان} ومعناه أنه في النهار؛ لأنه لو كان في الليل ما استفتى، فنازله عليه الصلاة السلام بالكفارات الثلاث قال: {هل تجد رقبة تعتقها؟ -يعني مؤمنة، وهذا يفهم بما قيد في أحاديث أخرى أو آيات- قال: لا والله يا رسول الله! قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا يا رسول الله} وفي لفظ صحيح: {وهل أوقعني فيما وقعت فيه إلا الصيام} يقول: أنا ما استطعت أن أتم صوم يوم، حتى وقعت على زوجتي، وتريد مني أن أصوم شهرين! ويظهر أن هذا السائل فيه روح خفيفة، وفيه دعابة مما ورد في الحديث، فقال صلى الله عليه وسلم: {فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا والله يا رسول الله} فجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ما تكلم وما قطع المسألة، وما فض المجلس ولكن سكت عليه الصلاة والسلام، حتى وصل معه إلى النهاية فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه.
فلما أعرض أوتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق -وهو المكتل أو زنبيل كبير فيه شيء من تمر- أهدي إلى الرسول عليه الصلاة السلام، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: {خذ هذا فتصدق به -يعني يكفر به زلته، ومع ذلك-قال: على أفقر مني يا رسول الله} يريد أن يأخذ التمر أيضاً، يقع على امرأته في رمضان، ولا يجد كفارة، ويأخذ التمر زيادة جائزة على هذا الفعل رضي الله عنه وأرضاه! قال: {على أفقر مني يا رسول الله! فوالله ما بين لا بتيها -يعني حرة المدينة - أفقر مني، فضحك حتى بدت نواجذه عليه الصلاة السلام} وهي الأنياب، لأنه إذا تبسم ظهرت الثنايا كأنها البرد، يعني كالبرد يقول الرواة: كأن ثناياه البرد.
أولاً: أصلح خلقه وخلقه، أراد أن يكون كاملاً في الصورة والمعنى، فهو من أجمل الناس حتى كان كما تقول عائشة: {كانت أسارير وجهه تبرق} أرأيت البرق في الظلام؟ كانت أسارير وجهه عليه الصلاة السلام تبرق.
وكان عرقه إذا تصبب كأنه عقد الجمان أي اللؤلؤ المنظوم، إذا كان في عقد يتسكب من على جبينه، فيوم يتبسم كان غالب تبسمه تخرج الثنايا وما قاربها، لكن هذا الأمر أحوج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يضحك حتى بدت نواجذه فقال صلى الله عليه وسلم: {أطعمه أهلك} يحق لحديثي هذا أن يكون في مناسبة شهر رمضان، وإقبال شهر رمضان، وفي هذا الحديث وفي غيره من درس رمضان مسائل ربما تصل إلى ثلاثين مسألة، نتدارسها نحن وإياكم، ونسأل العلي العظيم التواب الرحيم أن يجعلنا وإياكم من المقبولين في هذا الشهر، وأن يجعلنا من العتقاء من النار، وأن يمنَّ علينا بتوبة نصوح، إنه على كل شيء قدير.(122/3)
مسائل تتعلق بشهر رمضان
هذه المسائل ينبغي للمسلم أن يعرفها وهي مسائل بالدليل، وربما نتعرض لبعض الخلاف الذي لا يستطرد فيه إن شاء الله.(122/4)
صيام رمضان برؤية الهلال
المسألة الأولى: يحب صيام رمضان بمجرد رؤية الهلال.
نحن أمة أمية لا نكتب، ولا نحسب، ولا نعتمد على علماء الهيئة، ولا على علماء الفلك، ولا الرصد الجوي ولا نلتفت لهؤلاء سواء قالوا: زاد الشهر أو نقص فنحن أمة أمية، أمة صحراء، إذا رأينا الهلال في السماء صمنا، وإذا رأينا هلال شوال أفطرنا، وإذا شهد عندنا أعرابي أتى من الصحراء وهو يؤمن بالله ورسوله، قلنا: على العين والرأس، ولكن إذا أتى علماء الهيئة فقالوا: فنحن لا نتعامل مع أجهزة، نحن أمة بعثنا من الصحراء حتى يقول عليه الصلاة السلام في الصحيحين: {نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا} معناه يقول: عشرة زائد عشرة زائد تسعة، يساوي تسعة وعشرون يوماً، لأن هذه الحسابات كانت عند فارس والروم واليونان وكانوا أمماً حسابية، أي: فغلب عليها التفكر العقلي، أما نحن أمة بدهية ذكية عجيبة.
ولذلك يقول ابن تيمية: إن اسم العرب مشتق من الفصاحة والنبل والعروبة، فالله يقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] يقول أهل فارس: كيف لا يكون منا الرسول؟ أو يكون من سلالة أنوشروان كسرى، وتقول الروم: كيف ما يكون من سلالة هرقل، ويقول اليهود: كيف لا يكون منا والنصارى كذلك، فيقول الله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] فاختار الله عز وجل هذه الأمة، ليكون منها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أمة ذكية، يمر الأعرابي يسمع القصيدة الواحدة من مائة وعشرين بيتاً فيحفظها لأول وهلة.
ويأتي الأعرابي يصعد على الجماهير من القبائل فيخطب عليهم خطبة ما يلحن ولا يتلعثم في حرف، لا في الحرب ولا في السلم، فلذلك الرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {نحن لا نكتب ولا نحسب إذا رأينا صمنا، وإذا رأينا أفطرنا} والله يقول: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} [الجمعة:2] والرسول صلى الله عليه وسلم لا يكتب ولا يقرأ، لكن القرآن في صدره، ومعارف المعارف التي سقاها الله قلبه محفوظة عنده صلى الله عليه وسلم.
إذاً قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] فإذا شهد أحد من الناس، وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وشهد لدينا صمنا، ووجب على الناس الصيام لا برؤية الرصد الجوي، ولا بأهل الهيئة، ولا بعلماء الفلك، فليس لهم دور في هذا، إنما هو من مسئولية الرؤيا، وكان العرب في الصدر الأول إذا كانوا يريدون رؤية الهلال يضعون ماءً صافياً في مكان مرتفع، فربما عكس لهم رؤية الهلال، فيرون هل هو ابن ليلة أو ابن ليلتين.
ومن ضمن الطرائف أن أحد الأعراب يقول: رأيت الهلال ابن ليلتين فقال رجل له أظنه عامر الشعبي: لا.
أنت لم تر الهلال -لأن عمر هذا الرجل ثمانين سنة- ومثلك لا يرى الهلال؛ لأن بصرك ضعيف، ولكن كان على حواجبك شعر ضعيف فكأنك تصورت أنه الهلال فبحث الرجل فوجد على حاجبه شعرتين خفيفتين كالهلال، فرأى أن الهلال ابن ليلتين، ذكر ذلك ابن الجوزي في كتاب الحمقى والمغفلين وفي كتاب الأذكياء ذكره عن عامر الشعبي أو عن رجل آخر من الأذكياء لما عرف هذا، وسمى في كتاب الأذكياء.
وفي السنن أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي -والحديث عن ابن عباس - فقال: يا رسول الله! رأيت الهلال قال: {أتشهد أن لا إله إلا الله، قال: نعم.
قال: أتشهد أني رسول الله، قال: نعم.
قال: يا بلال مُرِ الناس بالصيام -أو بالإمساك-} أو كما قال عليه الصلاة السلام وهذا حديث يقبل التحسين، ولو أنه تكلم في سنده.
فما قال له صلى الله عليه وسلم: أأنت تصلى الضحى؟ وتوتر في آخر الليل؟ وتسبح بعد كل صلاة ثلاثاً وثلاثين؟ وتتسوك مع كل صلاة؟ لا.
سأله عن الخط العريض في الإسلام الذي يدخل به دين الله، ولذلك ينبغي للمسلم أن يقبل المسلمين على ظاهرهم، إذا رأيت وعلمت أنه مسلم في بلاد مسلمة فصدق كلامه، ومثلاً: تريد أن تأخذ من رجل لحماً فلا تقول: هل أنت تصلي الصلوات الخمس؟ وتصوم رمضان؟ وتحج البيت؟ وتعتمر وتغتسل من الجنابة؟ لست مأموراً بهذا في الإسلام، والناس بما ظهر لك منهم، حتى يظهر لك ما يبين أنه لا يصلي؛ كأن تراه في وقت الظهر لا يصلي ويقول: أنا لا أصلي فهذا تيقن لديك.
قال ابن عمر: {تراءى الناس الهلال على عهده صلى الله عليه وسلم، فأخبرت الرسول عليه الصلاة السلام أني رأيت الهلال فصام وأمر الناس بالصيام} إذاً: يكفي عندنا في الرؤية رجل واحد مسلم وقالوا: يكفي أنثى وبعضهم يقول: امرأتان كما اشترط للشهادة، أما الأحاديث فوردت في الرجال، فرجل واحد يكفي وإن زاد على رجل فأحسن وأحسن.(122/5)
اختلاف المطالع
المسألة الثانية: هل على الأمة الإسلامية في جميع أقطار الأرض أن تصوم دفعة واحدة؟ أم عليها أن تصوم باختلاف المطالع؟
مطلع أهل الشام مثلاً يختلف عن أهل الجزيرة، وأهل اليمن عن أهل العراق، وهل الذي في أمريكا مثلاً يصوم بصيام الذي في الجزيرة هنا في بلادنا أم ماذا؟
لأهل العلم رأيان في هذه المسألة: رأي يقول عنه: على الناس جميعاً أن يكون صيامهم واحد، وإفطارهم واحد، واستدلوا في ذلك بحديث في الترمذي يقول: حديث حسن {الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس} فقالوا: لا بد للناس أن يصوموا جميعاً وأن يفطروا جميعاً.
والرأي الثاني: لكل أناس مطلعهم، وهذا هو الصحيح، فكل أناس إذا رأوا الهلال عليهم أن يصوموا، ويفطروا إذا رأوا الهلال من شوال، والدليل على ذلك ما رواه مسلم في الصحيح عن كريب مولى ابن عباس وقد سافر إلى دمشق في الشام إلى معاوية رضي الله عنه وأرضاه، ثم قدم على ابن عباس، فقال له ابن عباس: [[متى رأيتم الهلال، قال: ليلة الجمعة، قال ابن عباس: ونحن ما رأيناه إلا ليلة السبت في مكة، فلا نزال نصوم ثلاثين يوماً أو نرى الهلال]] فعلم من هذا أن ابن عباس أخذ برؤية أهل مكة ولم يأخذ برؤية أهل الشام وقال: [[لا نزال نصوم ثلاثين يوماً أو نرى الهلال]] فالصحيح اختلاف المطالع؛ لأن بعض البلاد تقدم يوم عن يوم، وبعض البلاد بينما نعيش نحن الليل هنا هم يعيشون النهار هناك وهكذا، فلكل بلد مطلعه، ولا يلزم بلد بلداً إلا أن يكون مطلعهم واحداً، أن يكونا متفقين في المطلع ومتقاربين في المدن، فهذا يشملهم مطلع واحداً، ولا فارق بالوقت بينهم؛ فإذا كان الفارق نصف ساعة أو ما يقاربها فليس هذا بفارق، إنما المقصود الفارق الزمني الطويل الذي تختلف به المطالع.(122/6)
شهادة اثنان للفطر وواحد للصوم
المسألة الثالثة: قلت اثنان للفطر وواحد للصيام، يعني: لا نصوم حتى يشهد لنا مسلم واحد أنه رأى الهلال أو يتم شعبان ثلاثين يوماً، فإذا تم شعبان ثلاثين يوماً، فلا ننتظر حتى نرى الهلال؛ لأن آخر الشهر عدده ثلاثين يوماًَ، ولا يكون واحداً وثلاثين يوماً إلا في الميلادي، فنصوم، أو يشهد لدينا رجل أنه رأى الهلال، على أن يشهد في يوم تسعة وعشرين، أما إذا صمنا أو إذا جعلنا شعبان ثلاثين يوماً، فأتى رجل فقال: أشهد بالله أني رأيت الهلال، نقول: انتهى الأمر.
أو صمنا رمضان ثلاثين يوماً فيقول: أشهد أني رأيت الهلال، وقد أكملنا ثلاثين يوماً، ولا يكون الشهر واحداً وثلاثين يوماً، وأما الفطر فلا بد من شاهدين، لحديث الحارث بن حاطب أمير مكة قال: {أمرني صلى الله عليه وسلم ألا أفطر حتى يشهد رجلان مسلمان برؤية الهلال} روى هذا الحديث أصحاب السنن والبيهقي والدارقطني وغيرهم.(122/7)
الذين يجب عليهم الصوم
المسألة الرابعة: من هو الذي يصوم وما هي شروط الصيام؟
أولاً: أن يكون مسلماً لأن الله لا يقبل من كافر عملاً، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] ولكنه يسأل يوم القيامة عن تركه للصيام سؤال توبيخ وتأنيب، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:42 - 45] فلا بد من الإسلام، والكافر لا يقبل صيامه.
ثانيا: المكلف البالغ: لأن الصغير مرفوع عنه القلم، ولكن يؤمر مع ذلك بالصيام، تدريباً له، كما فعل السلف الصالح بأبنائهم حتى يتعودوا على الصيام.
ثالثاً: أن يكون عاقلاً: لأن المجنون كذلك مرفوع عنه القلم.
رابعاً: أن يكون قادراً: والقادر يخرج المريض، فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] أي: المريض الذي يضره الصيام، أما أن يأتيه زكام فيقول: الحمد لله الذي جعل لنا في الفطر رخصة ثم يترخص، أو يحتر جسمه في النهار فيقول: الله المستعان، لابد لنا من فطر فيأخذ هذه الرخص، يقولون: المريض هو الذي يتعبه الصيام فيدخل عليه المشقة، بالنسبة للمرض فهذا غير مستطيع.
خامساً: المسافر: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184] وحَدُّ السفر ما سمي في اللغة سفراً، ولا يتحدد بمسافة، بل ما سمي سفراً فهو سفر، أما إنسان يرتحل إلى أماكن قريبة مثل الخميس أو غيرها، ويقول: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، فإذا وصل حجلة نزل فتغدى ومشى قليلاً ثم تعشى وقال: الحمد لله الذي جعل لنا رخصة في هذا الدين، ما أيسر هذا الدين!
فنقول له: أخطأت الفهم، وأسأت وتعديت بل السفر ما سمي سفراً، أما تحديده بثمانين ميلاً فنقول: من أين ثمانين ميلاً؟ ليس في الكتاب لا في سورة الأنفال، ولا الأعراف ثمانين ميلاً ولا في صحيح البخاري ولا مسلم وإنما هو تخرص، وبعض الناس قد يدور بالمدينة ثمانين مرة فيصبح ثمانين ميلاً، أو يذهب ويأتي من إشارة إلى إشارة ومن شارع إلى شارع فيمكن يمشي مائة كيلوا متر، فالمقصد أنه ما يسمى سفراً إلا إذا خرج من الحي ومن المدينة، فله أن يبسط سفرته وأن يأكل ولو يرى البيوت أمامه، لما ورد عن دحية الكلبي بـ ذي الحليفة أنه خرج من المدينة وهو يرى البيوت فبسط سفرته وأكل وقال: {كنا نفعله مع الرسول صلى الله عليه وسلم} وسافر ثلاثة أميال لأنه يسمى سفراً فأكل، فالمقصود أن المسافر إذا سافر فله الفطر سواء شق عليه الصيام أو لم يشق؛ لأن بعض الناس يقول: كيف الآن نسافر ونحن في سيارات مكيفة، وفي طائرات، ونفطر، لا.
الواجب أن نصوم يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184] ما قال سفراً يضره الصيام، أو سفراً يجوع، أو سفراً يظمأ فيه، وتعليق الفطر بالمشقة ليس مذكوراً في الآية ولا في الحديث.
إذاًَ: إذا سافرت فلك أن تفطر ولك أن تصوم شق عليك السفر أو لم يشق عليك، لكن أنت مخير إذا لم يشق عليك، أما إذا شق عليك فالأولى أن تفطر، ثم مر أن القادر أخرج بذلك المريض وأخرج المسافر.
وهناك الحائض والنفساء فإنهما لا تصوما ويحرم عليهما الصيام؛ لما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها سألتها معاذة فقالت: {ما بال الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت -يعني أنت من الخوارج لأن الخوارج يأمرون الحائض أن تقضي الصلاة والصوم- كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم لا بقضاء الصلاة} فالحائض والنفساء لا تصوم ولا تصلي، لكنها تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة، وحد النفساء ليس له حد صح فيه حديث، ومن حدد أربعين ليس بصحيح، بل إذا طهرت النفساء ولو في يوم واحد أو يومين؛ تغتسل وتصلي وتصوم ولا عليها.(122/8)
صيام الحامل والمرضع
المسألة الخامسة: صيام الحامل والمرضع.
الحامل والمرضع لها صورتان: إذا لم يشق عليها الصيام فتصوم، سواء كانت حامل أو مرضع والله يتقبل منها.
وإن شق عليها الصيام فهي في صورتين: خافت على ولدها الرضيع ولم تخف على نفسها وهي حامل؛ فتفطر وتقضي، وتطعم عن كل يوم مسكيناً، لحديث ابن عباس عند البيهقي وأصله في أبي داود: {إذا خافت المرضع والحامل على ولدها أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً}.
وإذا خافت على نفسها فإنها تفطر وتقضي ولا تطعم، هذا هو الصحيح في المسألة إن شاء الله، وبعض أهل العلم يقول: لا تقضي، وبعضهم يقول: تقضي -يعني من خافت على ولدها- ولا تطعم مسكيناً، لكن الصحيح هذا التفصيل الأول إن شاء الله، إن خافت على ولدها تقضي وتطعم عن كل يوم مسكيناً، وإن خافت على نفسها سواء كانت حامل أو مرضع، فإنها تقضي ولا تطعم.(122/9)
النية في الصوم
المسألة السادسة: تبييت النية من الليل، أمرنا أن نبيت النية من الليل لصيام الفريضة.
لابد أن تعرف أن غداً رمضان، ولابد أن تستصحب النية وتنوي بصيامك غداً فريضة، هذا من أول الشهر تستصحبها.
وهل يكفي نية من أول الشهر؟
أما أصل النية فلابد منها لكن عليك أن تستصحب النية كل ليلة، ولا يجب عليك وجوباً أن تنوي قبل الفجر أو مع السحور أنك تصوم غداً؛ لأن كثيراً من الناس قد ينامون حتى يؤذن الفجر، فلا يجدون وقتاً للنية ولاستحضار النية فما هو الحل إذاً؟
الصحيح هو أنه يبيت النية من الليل، ويستحضر في ذهنه أن يصوم غداً من رمضان سواء تسحر أو قام بالليل أو نوى أو لم ينو لحديث حفصة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من لم يبيت الصيام من الليل -أو نية الصيام من الليل- فلا صيام له} رواه الخمسة، وهذا أوقفه النسائي ولكن حسنه كثير من أهل العلم، والمقصود في الحديث هو صيام له، يعني صيام الفريضة، لابد أن تعرف أن غداً من رمضان، وهذا هو الوارد والصحيح في المسألة.(122/10)
صيام النافلة
المسألة السابعة: أما صيام النافلة فلك أن تنوي من وسط النهار أو من بعد الزوال، أتيت يوم من الأيام ولم تأكل شيئاً ولما حانت صلاة الظهر رأيت أن تكمل هذا اليوم صائماً وأنت ما نويت من الليل، ولا من أول النهار، فلك أن تصوم هذا اليوم نافلة ليس فريضة، لا قضاء ولا صيام نذر ولا فريضة لكن نافلة لك، دل على ذلك حديث عائشة في مسلم قالت: {دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام فقال: عندكم شيء فقلنا: لا يا رسول الله قال: فإني صائم} نافلة، دليل على أنه لم ينو قبلها صلى الله عليه وسلم بقوله: عندكم شيء لأنه لو كان عندهم شيء لأكل، قالت: {ثم دخل علينا يوماً آخر وهو صائم -يعني متنفل- فقال: عندكم شيء قالت: نعم عندنا حيس يا رسول الله -طعام- فأكل صلى الله عليه وسلم} ففي النافلة لك أن تنوي من النهار أو قبل الزوال أو بعد الزوال سيان.(122/11)
المضمضة والاستنشاق
المسألة الثامنة: هل للصائم أن يترك المضمضة والاستنشاق؛ خوفاً من وصول الماء إلى حلقه، أم عليه أن يتمضمض ويستنشق بإطلاق؟
الصحيح في هذ المسألة إن شاء الله: أن له أن يتمضمض ويستنشق من دون مبالغة، ولا يترك المضمضة والاستنشاق؛ لأنها واجبة في الوضوء، وبعضهم عده فرض من فروض الوضوء، والدليل على ذلك حديث لقيط بن صبرة في السنن قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً} فدل على أن الصائم لا يبالغ في الاستنشاق ولا يتمضمض كثيراً، فلا يرجرج الماء حتى يروى من الماء ويقول: هذه سنة الوضوء، ليس بوارد هذا فلا يترك المضمضة والاستنشاق ولا يبالغ فيهما وهذا حسم المسألة إن شاء الله.(122/12)
السواك
المسألة التاسعة: السواك للصائم تردد في أوساط كثير من الناس أن الصائم له أن يتسوك أول النهار، وأمَّا بَعْد الزوال فلا يتسوك فهل هذا صحيح أم لا؟
هذا رأي للشافعية قالوا: له أن يتسوك أول النهار، وأما آخر النهار فلا، واستدلوا بدليلين دليل تنظيري استنباطي، ودليل نقلي، أما الدليل النقلي فقالوا: روى ابن ماجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {استاكوا أول النهار ولا تستاكوا آخر النهار} هذا دليل نقلي -نص- واستدلوا بدليل آخر تنظيري استنباطي وقالوا: قوله صلى الله عليه وسلم: {لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك} قالوا: فإذا أتى الصائم وأزال الخلوف -يعني رائحة الفم بالسواك- ما أصبحت هناك رائحة مسك.
ولكن يرد عليهم بثلاثة أدلة: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتم بالسواك عند كل وضوء} وفي رواية {مع كل صلاة} هاتان الروايتان صحيحتان، فعموم الحديث يقتضي في رمضان وفي غير رمضان ولم يقل صلى الله عليه وسلم: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء} في غير رمضان، فلما عمم عليه الصلاة السلام دل على أنه مع كل صلاة في رمضان وفي غير رمضان ومع كل وضوء.
الدليل الثاني: ما رواه الترمذي وغيره وهو معلق في صحيح البخاري عن عامر بن ربيعة قال: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي ولا أعد يتسوك وهو صائم} فدل على أنه أول النهار وآخر النهار.
والدليل الثالث: أنه يقال: الخلوف هذا الذي ذكرتم ما يأتي من الفم، والسواك ما يزيله، إنما يأتي من المعدة، فلا أثر للسواك هذا في الخلوف؛ لأنه يأتي من معدة الصائم.
وأما حديثهم في ابن ماجة الذي يقول: {استاكوا أول النهار ولا تستاكوا آخره} فهو حديث ضعيف لا تقوم به الحجة، إذاً: حسم المسألة إن شاء الله أن الصائم يتسوك أول النهار، وآخر النهار بسواك رطب أو يابس، والسواك من أفضل خصال الصائم، لا يتركه عند كل وضوء ومع كل صلاة.(122/13)
الكحل
المسألة العاشرة: الكحل هل للصائم أن يكتحل في عينيه أم لا؟
ورد في ذلك أحاديث منها حديث في ابن ماجة عن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتحل وهو صائم} هذا سنده ضعيف، قال الترمذي: لا يصح في هذا الباب شيء، قال الترمذي: وكره أحمد وسفيان وإسحاق الكحل للصائم، وقال الأعمش: لا بأس بالكحل للصائم وكان يكتحل أصحابنا، والصحيح أنه لا بأس بالكحل للصائم أن يكتحل، فإن العين ليست منفذ.
وهناك حديث ضعيف أيضاً في الترمذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإثمد عند النوم وقال: {ليتقه الصائم} ولكن لا يصح النفي ولا يصح الإثبات، والمسألة تبقى على أصلها وأنه لا بأس بالكحل للصائم إن شاء الله.(122/14)
الطيب
المسألة الحادية عشرة: الطيب هل للصائم أن يتطيب أو يشم الورد، والياسمين، والرياحين، ويشم الأشجار أم لا؟
له ذلك إن شاء الله فإنه لم يرد نفي منه صلى الله عليه وسلم، ولم يرد تحريم لهذا، ولا أنه من المفطرات فتبقى على أصلها، وليست الرائحة إن شاء الله مفطرة إنما ما يؤكل وما يشرب هذا الذي يفطر أو يصل إلى الحلق أو إلى المعدة.(122/15)
الدهن
المسألة الثانية عشرة: الدهن للصائم:
للصائم أن يدهن بشرط ألا يصل الدهن إلى حلقه، كأن لا يأكل من الدهن أو يستعمله في أنفه حتى يدخل إلى حلقه، وأما أن يدهن وجهه ورأسه فلا بأس به، لأن بعض أهل الفقه قالوا: إذا دهن أقدامه بدهن يسمونه دهن الحنظل، فإنه قد يصل إلى حلقه وهذا يفطر، ومن أين للأقدام منفذ؟! هذا ورد في كثير من الحواشي الفقهية والصحيح أن الدهن للصائم أن يدهن بما فتح الله عليه من دهون.(122/16)
الحجامة
المسألة الثالثة عشرة: الحجامة
هل للصائم أن يحتجم؟ وإخراج الدم، وإسعاف المرضى، والجرحى هل هذا وارد أن يسحب دم من الصائم أم لا؟
هذا كثر الكلام في الحجامة وهي من المسائل التي تكسرت النصال فيها على النصال، وتساقطت فيها عمائم الأبطال من أهل العلم، مرة تسمعون في جمعة من الجمع قبل سنة: أنها لا تفطر وسوف تسمعون الليلة أنها تفطر، وهذا يظهر بالأدلة والاستقراء واستماع كلام أهل العلم والمحققين، ورد فيها أحاديث منها: حديث في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: {احتجم صلى الله عليه وسلم وهو محرم واحتجم صلى الله عليه وسلم وهو صائم} هذا لفظ حديث ابن عباس في البخاري قال الإمام أحمد: لا يصح أنه احتجم صلى الله عليه وسلم وهو صائم، وقال يحيى بن سعيد الأنصاري الجهبذ النحرير العلامة الداهية المحدث: لا يصح أنه احتجم صلى الله عليه وسلم وهو صائم.
إذاً: فالحديث فيه وهم، ولو كان في البخاري ففيه غلط، لفظة وهو صائم غلط، أثبت المحدثون أنها وهم في صحيح البخاري، والصحيح أن الحجامة تفطر لقوله صلى الله عليه وسلم: {أفطر الحاجم والمحجوم} فيما رواه الخمسة وغيرهم إلا الترمذي وقوله صلى الله عليه وسلم لما مر بحاجم يحجم صائماً: {أفطر هذان} فهذه بارك الله فيكم الأدلة؛ يقول السيوطي: بلغ هذا الحديث درجة التواتر، فهو صحيح لا يعارض به حديث آخر، وفي الدارقطني بسند قوي قال: {نهى صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم ثم احتجم صلى الله عليه وسلم} وهذا لا يثبت لأن الأحاديث الصحيحة عارضته وهي أقوى منه، وهذا حديث فيه كلام.
إذاً: فالحجامة تفطر الصائم ولا يسحب من المسلم دم ولا من المسلمة وهما صائمان لأنه يقاس على الحجامة، لأن الحجامة أخذ دم، الله أعلم بالسر في ذلك، لكن هذه خلاصة المسألة، وهو رأي كثير من أهل العلم منهم ابن القيم في زاد المعاد.(122/17)
القبلة
المسألة الرابعة عشرة: القُبْلة للصائم:
هل للصائم أن يُقَبِل زوجته وهو صائم أم لا؟
ورد في الصحيح من حديث عائشة {: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُقَبِل وهو صائم وكان أملككم لإربه} الإرب قيل: العضو وقيل: الشهوة وجموح النفس، وورد عن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن القُبْلة للصائم قال: {أرأيت في المضمضة بأس للصائم قال: لا يا رسول الله قال: فمه إذاً} يعني سواء بسواء ولكن عند الحاكم في المستدرك: {أن رجلاً أتى الرسول عليه الصلاة السلام وهو شيخ فسأله عن القُبْلة فلم ير بها بأساً، وأتاه شاب فسأله عن القُبْلة فلم يرخص له} فكأن حسم المسألة أن من حركت شهوته القبلة، أو خاف على نفسه أنه لا تجوز له، وأما الشيخ الكبير فإنها تجوز له، ولكن الأولى والأحسن والأصوب ترك القُبْلة للصائم، هذا حسم المسألة إن شاء الله.(122/18)
الاحتلام في النهار
المسألة الخامسة عشرة: الاحتلام في النهار:
إنسان احتلم في نهار رمضان، نام في الظهيرة ثم قام فإذا في ثيابه بلل، فماذا يفعل هل ينتقض عليه صومه ويقضي أم ماذا يفعل؟
هذا عليه أن يغتسل وأن يتم صومه فصومه صحيح وما خدشه شيء، وهذا ليس في مستطاعه بل أتاه وهو ليس مكلف في حالة النوم، فعليه أن يتم صومه، وأن يغتسل ويصلى، وصومه والحمد لله صحيح.(122/19)
الأكل والشرب ناسياً
المسألة السادسة عشرة: من أكل أو شرب أو جامع ناسياً:
أو هذه مسائل المفطرات -الأكل والشراب والجماع-بالسنة والكتاب والإجماع، فمن أكل أو شرب ناسياً فليس عليه شيء، لحديث أبي هريرة المتفق عليه: {من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه}.
وجاء رجل إلى الحسن البصري وكأنه متنفل فقال: يا أبا سعيد! قال: نعم، قال: نسيت الصباح اليوم وأكلت خبزاً وأنا صائم قال: ما عليك، قال: ثم دخلت على أهلي فقدموا لي لبناً فشربت، قال: ما عليك، قال: ثم خرجت فوجدت ماءً فشربت -ضمئت فشربت- قال: يا بني أنت لم تتعود الصيام.
يعني المسألة فوضى بعد كل ساعة تأكل وجبة، ولو حدث أن إنساناً نسي فأفطر، ثم فتح الله عليه فنسي فتغدى، ثم أكل بعد العصر، ثم شرب شاي ثم قهوة ثم تناول تمراً فماذا عليه؟ نقول: أنت ناس ما عليك شيء في رمضان؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال: قد فعلت.
فالناسي والمكره والجاهل ليس عليهم شيء، فمن شرب أو أكل وهو ناس فالله قد عفا عنه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه، لأن الله هو الذي كتب عليه النسيان ليأكل وليشرب وصيامه صحيح.
ومن جامع ناسياً، كإنسان عنده أربع زوجات جامعهن في نهار رمضان ناسياً، ثم أتى إلى القاضي فقال: نسيت وجامعت أهلي أربع مرات هل هذا صحيح ينسى؟ بعض أهل الفقه يقولون: هذا لا يمكن أن ينسى؛ لأن هذا ليس من الأكل والشراب، ولذلك يقولون: لابد من الكفارة.
وابن تيمية يقول: لا، الناسي ليست عليه كفارة ولا قضاء، ويلحق بالآكل والشارب، وهذا هو الصحيح إن شاء الله، فإن الله عفا عن الناسي والجاهل في الأكل والشرب فيلحق به المجامع أيضاً، فالمجامع ليست عليه كفارة ولا قضاء؛ لأنه نسي وهذا المجامع الناسي والجاهل أما المتعمد فكفارته مرت كما سيأتي.(122/20)
كفارة الجماع
المسألة السابعة عشرة: كفارة من جامع في نهار رمضان: هذا وردت كفارته عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، لا يقطعها إلا الأعياد مثلاً فله ذلك، أو سافر سفراً قاصداً فيقطعه ويواصل، يعني ما يستحدث صياماً جديداً بل تصح المتابعة، ولو قطعه بالسفر أو أتاه مرض وشق عليه يفطر ويكمل على الأيام الماضية فإن المرض والسفر والأعذار لا تقطع الصيام، فإن لم يستطع صيام شهرين متتابعين، فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يستطع، سقطت عنه الكفارة، هذه كفارة المجامع.(122/21)
هديه في الإفطار
المسألة الثامنة عشرة: هديه صلى الله عليه وسلم في الإفطار، وكيف كان يفطر صلى الله عليه وسلم.
في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم} معنى أفطر: يعني حل فطره سواء أفطر أو لم يفطر، ولا يجوز له أن يواصل، أي: أنه سواء أكل أو لم يأكل فقد أفطر، هذا العلامة عندنا غروب الشمس إقبال الليل وإدبار النهار وغروب الشمس فعلى المسلم أن يعتبر بذلك.
لكن كيف كان يفطر صلى الله عليه وسلم؟ ورد من حديث سليمان بن عامر في السنن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {ليفطر أحدكم على تمر، فإن لم يجد فعلى ماء فإنه له طهور} فالفطر على التمر من السنة فإن لم تجد تمراً فعلى ماء، وعند أبي داود وغيره عن أنس قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطيبات، فإن لم يجد فعلى تميرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء عليه الصلاة السلام} فالرطب أولى وأفضل، فإن لم تجد فتمراً، فإن لم تجد فماءً، ولا يأتي أحد فيقول: ما دام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أو قال ذلك، فلو أفطر على شربة أو خبز؛ قال: بطل صيامك فاستغفر الله وتب إليه، لا هو الجائز لكن السنة في ذلك والأولى والأحسن والأخير والأقرب.
قال ابن القيم: في ذكر التمر سر من الأسرار، لأن الجائع أحسن ما يواجه بطنه أو يقابل بطنه الحالي؛ لأن الحالي أحسن لديه، فعليه أن يفطر على رطب أو تمر فإن لم يجد فماء، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: {اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت فتقبل مني إنك أنت السميع العليم} هذا الحديث رواه أبو داود وهو مرسل فيه ضعف.
ومرسل منه الصحابي سقط وقل غريب ما روى راو فقط
المرسل: الذي سقط منه الصحابي، مثلاً أبو هريرة سقط من السند وابن المسيب تابعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أين الصحابي الذي في أول السند سقط، هذا مرسل، فالمرسل: ما سقط منه الصحابي وهذا الحديث مرسل وبعضهم يحسنه بطرقه لكن الصحيح أنه ضعيف لهذه العلة.
وورد عنه صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود وفي غيرها أنه يقول: {ذهب الظماء وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله} إذا شرب صلى الله عليه وسلم وأفطر، وفي أثر بمجموعه يصل إلى درجة الحسن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {للصائم دعوة ما ترد} وورد في حديث: {ثلاثة لا ترد دعواتهم منها الصائم قبل أن يفطر} فالله الله في الاجتهاد في الدعوات قبل الفطر، فإنها دعوة مستجابة إن شاء الله، ووقت استجابة فأكثر قبل أن تفطر من الدعاء خاصة إذا اقترب وقت الإفطار.(122/22)
هديه صلى الله عليه وسلم في السحور
المسألة التاسعة عشرة: وأما هديه صلى الله عليه وسلم في السحور يقول صلى الله عليه وسلم: {ما يزال الناس بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور} أو {ما عجلوا الفطور وأخروا السحور} متفق عليه من حديث سهل بن سعد، فالسنة أن تعجل الإفطار إذا غربت الشمس، والسنة أن تؤخر السحور حتى إلى قبل طلوع الفجر، قيل لـ زيد بن ثابت: كم كان بين صلاته صلى الله عليه وسلم الفجر وبين سحوره؟ قال: {مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية} رواه البخاري، فقدر أنت هذا القدر وهذا هو السنة، وأما لو تقدمت فتسحرت مع عشائك لجاز، ولو بقيت بلا سحور لجاز، ولو تسحرت حتى تسمع الأذان لجاز، لكن السنة أن تؤخره حتى تبقى فترة وجيزة بين السحور وبين صلاة الفجر، يقول عليه الصلاة السلام كما في حديث عمرو بن العاص الصحيح: {فصل ما بيننا وبين أهل الكتاب أكلة السحر} أهل الكتاب: يعني اليهود والنصارى، ويقول عليه الصلاة السلام: {تسحروا فإن في السحور بركة} متفق عليه من حديث أنس.
وبركة السحور تأتي بثلاثة أمور أولها: أنك تقوم في وقت يتجلى الله للناس على سماء الدنيا فينادي فيقول: {هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له} فتكون من المستغفرين.
ثانيها: أنك أحييت سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم وهي سنة السحور.
ثالثها: أنك استعنت بالسحور على صيام النهار، وهذا من بركة السحور التي ذكر عليه الصلاة السلام.(122/23)
الإبر للصائم
المسألة العشرون: الإبر للصائم:
الإبر بأنواعها ما حكمها للصائم؛ إذا أخذ إبرة أو تعالج فرأى الأطباء أن يتناول إبرة، هل تفطره وهو صائم أم لا؟ هذا على قسمين:
الأول: إن كانت مغذية تصل إلى حلقه، أو يجد طعمها، أو تغذيه فهذه مفطرة.
الثانية: إن لم يكن لها أثر، ولا تغذي، ولا تصل إلى حلقه، فلا بأس بها وهي مسألة عصرية ليس فيها أدلة وإنما هذا التقسيم كأنه المطلوب والأقرب عند أهل العلم إن شاء الله.(122/24)
ذوق الطعام للحاجة
المسألة الحادية والعشرون: ذوق الطعام للحاجة: هل للصائم أن يذوق الطعام من أجل أن يتذوق ملح الطعام، ويرى جودة الطعام.
ورد عند البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [[لا بأس للصائم أن يذوق الطعام للحاجة]] رواه البيهقي، وأورده صاحب السلسبيل في تعليقه على زاد المستقنع، فلا بأس للصائم أن يذوق الطعام للحاجة؛ لأنه ليس بأكل وإنما يصل إلى لسانك، وحاسة الذوق في أول اللسان، لكن من يتذوق المطعومات أكلاً فيذوق العنب كيف حاله، والموز، وشيء من التفاح، وشيء من الشربة، وما يأتي المغرب إلا وهو شبعان ريان، بات يطعمه ربه ويسقيه، فهذا ليس بوارد وقد أخطأ من فعل ذلك، لكن الذوق في أول جلدة اللسان، ولمن أراد أن يراجعه في السنن فليراجع الذوق فلا بأس به إن شاء الله ذوق الطعام.(122/25)
شتم الصائم
المسألة الثانية والعشرون: ماذا يقول الصائم إذا شتم؟
إنسان شتمك -نسأل الله العافية- أو سبك أو انتهك عرضك وأنت صائم، هل تقول: اللهم إني صائم فتذهب إلى بيتك فتأخذ هراوة، فتأتي تضربه؟ وتقول: مادام أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الشتم والمسابة فالهراوة أجدى سبيل وأحسن وألين، هذا من باب قول بعضهم في الآية: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] قال: أما الأف فلا تقول لكن الضرب ما ورد في الآية، فالله عز وجل لا يقول في الآية: لا تضرب والديك، لكن يقول: "لا تقل لهما أف" فأين الضرب؟ لو كان الضرب وارداً لقال سبحانه: ولا تضربهما، فقالوا: هذا قياس مخروم، وهو من ضعف العقل وضعف الاستنباط.
فالمقصود الشتم وما فوقه كالملاكمة والضرب على الوجه والضرب بالهراوة وكذلك يدخل فيها المشعاب، إذا علم هذا بارك الله فيكم فإذا شتم فما الحكم هل يقول: إني صائم بلسانه أو بقلبه؟ اختلف أهل العلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المتفق عليه عند البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: {فإذا سابَّه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم} فهل يقول بقلبه إني صائم أو بلسانه، إنسان كلما أصبحت أخذ بتلابيب ثوبك في رمضان، وجرجرك وشتمك ماذا تفعل تقول بنفسك: إني صائم؟ يختار ابن تيمية أن تقول بلسانك: إني صائم وهذا هو الصحيح، وكلمة فليقل يعني باللسان، وعقد القلب لا يسمى قولاً إلا في المجاز، وقوله: فليقل إني صائم لها فوائد منها:
الأمر الأول: أن تذكره أنك صائم لعله أن يخشى الله ويتقيه فيك، يعني كأنك تقول: جائع وتعبان وحالي ما يتحمل الضرب اتركنا حتى نفطر ونصلي التراويح ثم اضرب جزاك الله خيراً، فإذا قلت: إني صائم فلعله أن يرحمك.
الأمر الثاني: كأنك تقول: إني صائم تذكر نفسك أنت لا تعتدي، فهذا الصحيح إن شاء الله وهذا ترجيح ابن تيمية.(122/26)
القيء
المسألة الثالثة والعشرون: القيء وخروجه على الصائم: إنسان قاء -طرش- أو قذف وسمي ما شئت فهل يفطر أم لا؟
أبو هريرة وبعض أهل العلم: يرون أنه لا يفطر، يقولون: المفطر من الخارج إلى الداخل، ولكن روى أبو هريرة عند الخمسة وغيرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من استقاء فقاء فعليه القضاء ومن ذرعه القيء فلا شيء عليه} انظر ما أحسن الكلمات، من يختار مثل هذا الأسلوب؟! {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4 - 5] ولذلك يقول القاضي الزبيري شاعر اليمن يمدح هذا اللفظ يقول:
ما بنى جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمة من عفاء
الألفاظ هذه لا يستطيع أن يسوغها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فتفصيل المسألة أن من استدعى القيء بأن أدخل أصابعه في حلقه فقاء فعليه أن يقضي، ويتم صيامه ممسكاً، وكذا إن شم شيئاً، عمداً أو حك حلقه، أو فعل شيئاً استدعى القيء فعليه القضاء، أما من غلبه القيء فلا شيء عليه؛ يتم صومه وصومه صحيح، وهذا أحسن ما قيل في هذه المسألة إن شاء الله.(122/27)
التراويح
المسألة الرابعة والعشرون: صلاة التراويح:
صلاة التراويح سنة وهي ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، وقد صلاها في بعض الليال وتركها في حياته بعض الليالي، لئلا تفرض على الأمة، فلما جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه جمع الناس على صلاة التراويح.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: {ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غير رمضان عن إحدى عشرة ركعة} فالأولى والأقرب للسنة صلاة إحدى عشرة ركعة، وورد في الصحيح كذلك من حديث عامر الشعبي عن ابن عباس: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاثة عشرة ركعة}.
فكيف نوفق بين إحدى عشرة وثلاثة عشرة؟ كثير من الناس عندنا الآن على المذهب يصلون ثلاثة عشرة ركعة، وبعض المحدثين يرى أن تصلى إحدى عشرة ركعة، لكن ليس هناك خلاف فالأمر فيه سعة والحمد لله، والمسألة وما فيها، أن أهل العلم توقفوا عند الحديث، منهم من قال: حسبت ركعة الفجر- مثل ابن القيم في زاد المعاد - من الثلاثة عشرة ركعة، وإلا فالأصل إحدى عشرة ركعة، ومنهم من قال: كان صلى الله عليه وسلم يصلي مرة ثلاثة عشرة ركعة ومرة إحدى عشرة ركعة فهذه السنة فمن صلى هذا لا بأس به، ومن صلى هذا لا بأس به، والأقرب إحدى عشرة ركعة، ومن زاد على ذلك فصلى إحدى وعشرين ركعة فجاز ثلاث وعشرين، وست وثلاثين إنما وله أن يصلي ولو صلى مائة وواحدة ركعة لجاز والأمر فيه سعة ونافلة {وصلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الليل؛ فأوتر بواحدة}.
إذاً: فالأمر فيه سعة والحمد لله، وهذه صلاة التراويح التي هي سنة من السنن وينبغي للمسلم أن يحافظ عليها في جماعة، وإذا رأى أن الأفضل في حقه أن يوتر في آخر الليل ويستطيع فليرجئ الوتر إلى آخر الليل، ويصلي التراويح مع الناس، وإذا خاف فليوتر من أول الليل مع الجماعة، لكن إذا أوتر مع الجماعة ثم استيقظ في آخر الليل في السحور هل له أن يصلي أم لا؟ هو بين حالتين: إما أن يصلي شفعاً شفعاً ركعتين أربعاً ستاً ويكتفي بما صلى في أول الليل من الوتر، وإما أن يصلي ركعة توتر له ما تقدم ثم يصلي شفعاً ثم يوتر، وهذا وارد لكن الأول أحسن وهو أن يكتفي بالوتر الأول ولا وتران في ليلة ويصلي شفعاً ولا يعيد الوتر مرة ثانية.
والأمور التعبدية في رمضان أعظمها قراءة القرآن، فإني أوصي نفسي وإياكم بكثرة قراءة القرآن وأن يأخذ أحدكم مصحفه ويعاشره في هذا الشهر، ويسامره، ويجالسه، ويآنسه، ويختم ختمات كثيرة بتدبر عل الله أن يرفع درجته في عليين، فإنه لن يقرأ الحرف إلا بعشر حسنات إلى أضعاف كثيرة عند الله تبارك وتعالى.
وكذلك أوصي نفسي وإياكم بكثرة الصدقة في هذا الشهر، أن يبذل أحدكم ويكون له شيء من مال ينفقه ويتصدق به، ويحرص على تفطير الصوام؛ فإن من فطر صائماً؛ فله من الأجر مثل أجر الصائم دون أن ينقص من أجر الصائم شيئاً، والتفطير يحصل بأدنى شيء، بشربة ماء أو بتمرة، فهذا يسمى تفطير، يعني ما يقتضي أن تفطره تمراً، ثم شربة، ثم تدعوه إلى كبسة، ثم تقهويه ثم تشهيه، لا، فيحصل بشربة من ماء إذا ما وجد شيئاً وعلم الله أنك ما وجدت إلا الماء، فأما أن يكون في بيتك ما لذ وطاب وتأتي بالماء تباشر على الناس في المسجد وتقول: أفطرهم فهذا يكتب لك أجر إن شاء الله لكن ليس بتفطير {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] فليعلم ذلك.
ومنها بارك الله فيكم الذكر: فإني أدعوكم لكثرة الذكر في رمضان من الاستغفار، والتسبيح، والتهليل، وكثرة الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم، ومراجعة حساب السيئات في الأشهر الماضية؛ عل الله أن يكفرها في هذا الشهر، والتبتل إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن أعظم ما يوصى به اجتناب الغيبة، والنميمة، والشتم؛ لأنها حرام في غير رمضان، وفي رمضان أشد وأنكى وأدهى، حتى قال ابن حزم في المحلى: إن شهادة الزور والغيبة والنميمة تفطر الصائم وعليه القضاء فإن هذه أمور محرمة وهي أشد تحريماً في رمضان، وليتق الله وليحفظ لسانه وليستبدل مكان الخبيث من القول بالطيب، فإن الذي يصعد إليه الطيب من القول أو الطيب من الكلمة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] قيل: العمل الصالح يرفعه أي: يرفع الكلم الطيب، الضمير يعود إلى الكلم الطيب أي: إليه يصعد الكلم الطيب يعني سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هو الكلم الطيب، والدعوة إلى الله كلم طيب، وقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم كلم طيب يرفعه العمل الصالح، إذا صاحب عملاً صالحاً رفعه هذا، وقيل: يرفعه يعود الضمير إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أي أن الله يرفع الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وكلا الوجهين فيه وجاهة، ومن جمع بينهما فقد أحسن وأصاب، إذا علم هذا فإن هذا أحسن ما يوصى به.
وأوصيكم في رمضان كذلك بالاهتمام بصلاة الجماعة، فإن كثيراً من الناس يخلون بها، فصلاة الجماعة من أهم ما يوصى به جماعة المسلمين وحضورها من أول الوقت لتصلي عليك الملائكة في مجلسك.
وأوصيكم بكثرة الاستغفار، وترك المعاصي ما ظهر منها وما بطن كاستماع اللغو واللهو والغناء الماجن الرخيص، ومطالعة الصور الخليعة التي تغري بالقلب، وتشتت الفكر، وتدعو إلى الفاحشة وتسهل الزنا، نعوذ بالله من ذلك، فأدعو نفسي وإخواني إلى التوبة النصوح ظاهراً وباطناً ليقبل الله منا صيامنا، إنه على ذلك قدير.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(122/28)
الأسئلة
هنا بعض الأسئلة حول الصيام، نجيب عليها إن شاء الله.(122/29)
اختلاف الغروب
السؤال
تغرب الشمس في المناطق الجبلية قبل المناطق الساحلية فما الحكم؟
الجواب
لكل بلد غروب، والذي يلزم أهل البلد أنه إذا غربت الشمس عندهم وأقبل الليل وأدبر النهار؛ فعليهم أن يفطروا، وما عليهم أن يبحثوا في المناطق الأخر، لا نقول لمن كان في المناطق الجبلية: اصعد إلى رأس الجبل، وانظر هل ترى الشمس هناك هل غربت أو لا؟ فلسنا مأمورين به، بل إذا غربت لدينا نكتفي، أما أن يذهب بسيارة أو يصعد؛ فإنه قد يجد الشمس في المناطق الساحلية أو في السهلية، لا إذا غربت الشمس فقد أفطر فإنها مثلاً تغرب في الرياض قبلنا بما يقارب ثلث ساعة أو في غيره من المدن ففطرهم لهم وفطرنا لنا، لاختلاف غروب الشمس هنا وهناك، فلكل بلد غروبه وطلوعه ومطالعه.(122/30)
التخلف عن صلاة التراويح
السؤال
ما حكم من لم يصل التراويح مع الجماعة ويقول: ليس علي ذنب بتركها؟
الجواب
أقول قد لا تكون واجبة، وقد لا يكون عليك ذنب، لكن ألا ترى من شعائر الإسلام أن تقف مع إخوانك المسلمين، وأن تعرف أنك كلما سجدت لله سجدة رفعك بها درجة عنده، وأن تعرف أنك تعين نفسك، أو تعين أهل الخير على نفسك في دخول الجنة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل: أريد مرافقتك في الجنة فقال: {أعني على نفسك بكثرة السجود}.
ألا تجد أنك تستمع آيات الله البينات، وأن الله عز وجل قد يأتي في ليلة من الليالي والمسجد مليء بالمصلين، وأنت من ضمنهم، وقد أسرفت على نفسك في الخطايا والذنوب، أو ارتكبت معاصي كبرى، أو أتيت بفاحشة، فقال الله لملائكته: {أشهدكم أني غفرت لمن في هذا المسجد فتقول الملائكة: معهم فلان بن فلان فعل كذا وفعل كذا فيقول: وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم} ولذلك ندعو في التراويح: وهب المسيئين منا للمحسنين، فقد تكون مسيئاً فيجعلك الله مع المحسنين ويدخلك الله في رحمته.
ألا ترى أنها قوة للإسلام أن تحضر، وانظر لنفسك، فإن كثيراً من الناس مستعد يبقى في الحفلة السامرة العاهرة الماجنة من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، تراه يرقص، ويتمايل، ويضرب بأرجله، ويلعلع بصوته، حتى يصحر صوته ويتغير، ثم يرمي بنفسه على الفراش مع صلاة الفجر، لكن نقول: صلِّ التراويح قال: الدين يسر والله غفور رحيم، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ما أحسنك في الأدلة! فقيه عند الحلال، ولكن عند الحرام ما تعرف في الفقه شيئاً، ولذلك يقول ابن مسعود: [[فقهاء لم يعملوا]] يقول: موجود عندهم الفقه لكن ما هناك عمل، فإذا أتى العرضة، والحفلات، واستماع الغناء، والزير، وضرب الزلفة، وما في حكمها، نسي هذه الأدلة جميعاً، ونسي شديد العقاب، ونسي الوقت وقيمته {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] ونسي نعمة البصر، والسمع، والقلب، فكيف يصعب عليه أن يقف ساعة مع المسلمين ويشعر بالخمود والهمود في جسمه، لأن القلوب ما عاشت مع لا إله إلا الله وما تحركت بالإيمان.
وليست المسألة مسألة أجسام، تجد الرجل النحيف ورأيناهم وهم شيوخ في الستين والسبعين والثمانين يقفون بالعصي في التراويح والقيام وترونهم في الحرم، وتجد الشاب المتين الطويل العريض ما يتمنى على الله أن يسلم من صلاة العشاء ثم يركب سيارته، لأن قلب ذاك حي، وجسمه هامد، وجسم هذا حي وقلبه هامد، والمسألة إلى القلب {إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم} فأنا أدعوك إلى صلاة التراويح، ومكاتفة المسلمين، وإعلان التضامن معهم في هذه الشعائر التعبدية.(122/31)
ختم القرآن في التراويح
السؤال
ما حكم ختم القرآن في التراويح؟
الجواب
ختم القرآن ما علمت فيه حديثاً، وما علمت أنه لا بد للأمة أن يختموا القرآن في رمضان، لكن استنبطوا من مثل حديث ابن عباس في الصحيحين: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يلقاه جبريل فيدارسه القرآن} ولكن ما قال فيه يختم عليه القرآن ورد في حديث آخر: {يعرض عليه القرآن عرضاً} وعرض عليه القرآن قبل أن يموت مرتين عليه الصلاة والسلام، فإذا كان الناس يستطيعون أن يسمعوا القرآن جميعه، فالأفيد أن يسمعوه جميعاً، ولكن إذا كان الإمام حسن الصوت، طيب النغمة، وباستطاعته أن يقرأ الآيات ويتدبرها الناس؛ فيكفي من القرآن ما يسر الله عز وجل {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] لو لم يقرأ إلا خمسة أجزاء أو ستة أجزاء، والمسألة ليست بالهذرمة والهد، حتى أصبحت طقوس وعادات، ويأتي إمام يلقى إماماً آخر بعد صلاة التراويح يقول: أين وصلتم الليلة في التراويح؟ قال: وصلنا إلى آية كذا وكذا قال: أبشرك نحن زدنا عليكم بعشرين آية، وإذا ختم اتصل به في التلفون قال: ختمنا الليلة وأنتم يبقى عليكم ثلاث ليالي، ليست مباراة، ولا مسابقة، إنما مسألة خشية، واتصال وفهم، وربما الإنسان يقرأ الختمة في رمضان مرة واحدة، لكن يتعقل، ويتدبر، وبعضهم يقرأ عشر ختمات وعشرين ختمة ولكن لا عقل ولا تدبر {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ولم يقل أكثر عملاً.(122/32)
أكل العلك في نهار رمضان
السؤال
ما حكم أكل العلك من اللبان وغيره؟
الجواب
أما لغير الصائم فيجوز أن تأكل العلك بالإجماع، وأما الصائم لا يجوز له أن يأكل العلك؛ لأنه يدخل في مسمى الطعام، ولأنه قد يتفتت منه شيء، ولأنه يسلي الصائم، وقد يقوم مقام كثير من الأكل، وبعض الناس قد يتسلى بالعلك وهو جائع، فلا يجوز للصائم.(122/33)
ترك الصلاة
السؤال
كنت أترك الصلاة عمداً ولا أحصيها فما الحيلة؟
الجواب
يوم كنت تترك الصلاة عمداً كانت تلك الحالة -نسأل الله العافية- حالة ردة عن الإسلام، وابن تيمية يرى أن من ترك فرضاً واحداً عامداً فقد كفر في تلك الفترة، وعند الإمام أحمد من حديث أبي أمامة: {من ترك صلاة واحدة عامداً متعمداً فقد كفر} فتركك في تلك الفترة ردة عن الإسلام، وعليك أن تتوب، ولا أعلم أنك تقضي الصلاة على الأقوال الصحيحة بل عليك أن تستغفر، وتتوب، وتصلح، وتكثر من النوافل، أما إعادة الصلاة فلا أعرف في ذلك أصل، ولو أنه قاله بعض أهل العلم، لكن الذي يظهر إن شاء الله والأقرب أنه ليس عليك إعادة، بل تكثر من النوافل وتتوب، وتستغفر؛ لأنك دخلت الآن.(122/34)
الإكثار من الضحك والأكل والنوم في شهر رمضان
السؤال
ما رأيك في كثرة الضحك والأكل والنوم وفي شهر رمضان؟
الجواب
هي مذموة في رمضان وفي غير رمضان وبعض الناس كما يقول الغزالي: إنهم يصومون النهار، ثم يحتسبون الوجبات التي صاموا عنها فيأكلونها في الليل، فيقول: ذهب سر الصيام، وبعضهم إذا قدم له الإفطار تذكر أنه ما أفطر الصباح، ولا تغدى، ولا تعشى فأنتصف من ظهر هذا الطعام حتى يقول يكفر، وبعضهم يأتي إلى التراويح وهو يسحب سحباً حتى يصلي العشاء وبعضهم ربما يصلي التراويح وهو جالس، فالمقصود على الإنسان أن يخفف قبل صلاة العشاء فإذا صلى التراويح، فله أن يأكل ويتعشى ولا بأس بذلك، وإن أكثر من الأكل فحسن حتى يستعين به على طاعة الله، وتلك نعمة الله عز وجل إذا أوزعها العبد شكرها.(122/35)
الأكل والشرب وقت أذان الفجر
السؤال
إذا أكل الإنسان أو شرب والمؤذن يؤذن لصلاة الفجر فما الحكم؟
الجواب
هذه المسألة فيها تفصيل: إن رفعت الإناء مثلاً لتشرب فلا تضعه من يدك حتى وأنت تسمع المؤذن حتى تشرب، وإذا رفعت اللقمة وأصبحت في يدك فلا تضعها حتى تأكلها، أما إذا سمعت المؤذن فلا ترفع من جديد، لأن لهذا الحدث حديث عند أبي داود وعند الحاكم بلفظ يشبه: {إذا سمعتم المؤذن وأحدكم إناؤه في يده فلا يضعه حتى يقضي نهمته} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، والحديث في سنن أبي داود وصححه الحاكم في المستدرك فهذا هو تفصيل المسألة إن شاء الله.(122/36)
ملازمة الإمام في التراويح
السؤال
هل ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من قام الإمام في التراويح حتى ينصرف فكأنما قام الليل؟}
الجواب
صدق من قال هذا وهو حديث ثابت من حديث أبي ذر: {من قام مع الإمام حتى ينصرف فكأنما قام الليل كله} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(122/37)
الصلاة بين السواري
السؤال
ماحكم الصلاة بين السواري؟
الجواب
سبق التنبيه أنها مكروهة، وأن الأولى عدم الصلاة بين السواري إلا من شدة زحام للضرورة، وأنا أدعوكم إلى ترك السواري فارغة، لأنها ربما تخللها بعض الفراغ ولا يكمل الصف بين السواري.(122/38)
حكم سماع الأغاني ومشاهدة التمثيليات
السؤال
ما تقول فيمن يستمع الغناء ويشاهد التماثيل في الإذاعة وغيرها ثم يقول: لأنها لو سمح بها تذاع لما كان فيها منكر؟
الجواب
أقول: ليس كل ما يعرض دليل على أنه حلال أو حرام، بل الحرام ما حرمه الله عز وجل، والحلال ما حلله الله {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل:116] فالغناء والموسيقى وآلات اللهو حرام، وما ثبت في الحديث الصحيح، وأدلة التشريع من الكتاب والسنة والإجماع، وليس فيها دليل أن فعل هذا حلال ولكن الحلال ما حلله الله والحرام ما حرمه الله {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116].(122/39)
سماع القرآن من شريط
السؤال
هل سماع القرآن بالمسجل يعد بمثابة القراءة؟
الجواب
القراءة أفضل من سماع القراءة، فقراءتك أنت للقرآن أفضل من أن تستمع من الآخر، إلا في بعض السور؛ إذا خشع قلبك أكثر، فأفضل في حقك أن تستمع، بعض الناس إذا أخذ المصحف نعس وما تدبر وما رق قلبه، لكن إذا سمع القراءة من الذي بجنبه كان له أرق وأحسن، فهو أفضل أن يستمع، واستماعك من المسجل كاستماعك من القارئ الجالس وأنت مأجور على ذلك ويثيبك الله، وربما فتح الله عليك بسماع آية في شريط تستمعها، أو بكلمة، أو بمقالة، أو بموعظة والله عز وجل الفتاح العليم، فأدعوك إلى الإكثار من سماع الخير من قرآن وغيره، وتحرم على أذنيك سماع الباطل ليجعلك الله من المقبولين عنده.
وفي الختام أتوجه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلني وإياكم ممن صام هذا الشهر وقامه إيماناً واحتساباً، وأن يجعلنا من المقبولين، ومن العتقاء في هذا الشهر، وأن يهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، هلال خير ورشد ربنا وربك الله، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(122/40)
معالم شخصيته عليه الصلاة والسلام
إن كل أمة لا بد أن تدرس سيرة عظمائها وقوادها ليكونوا نبراساً لهم أمام أعينهم، فيقتدون بهم وإن محمداً صلى الله عليه وسلم هو قدوة المسلمين وقائدهم، وما من عظيم من عظماء البشر إلا ويتضاءل أمام عظمة محمد عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا الدرس قطوف من حياته صلى الله عليه وسلم، يتبين للناظر فيها ما في حياته من السمو والرفعة، جنباً لجنب مع الوسطية والاعتدال، ولا جرم فقد كان صلى الله عليه وسلم معداً إعداداً خاصاً ليقود البشر -وهم بشر- ويسمو بهم دون أن يتعدوا طبيعتهم البشرية.(123/1)
حب النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بَعْد:
كما سلف في درسين من دروس التربية النبوية التي تتحدث عن جوانب شخصيته عليه الصلاة والسلام، وآثرت هذا الموضوع؛ لأن الحديث في الأحكام يطول، وقد أوعبت الأمة في هذا الجانب إيعاباً عظيماً، ولكن مما يلمح -خاصة في هذه العودة إلى الله عز وجل- أن جانب الآداب وجانب التربية لا زال يحتاج إلى أمور وإلى نقولات كثيرة واستنباطات من سيرته عليه الصلاة والسلام، وهذا الدرس بعنوان: معالم شخصيته عليه الصلاة والسلام، وكما ذكرت لكم في الدرس الماضي إننا لا نتحدث عن الرسول عليه الصلاة والسلام حديثاً مجرداً عن العاطفة، أو مجرداً عن الحب، إن هذا التجرد التاريخي الذي يطالبنا به بعض الكتبة إذا تحدث عن الرسول عليه الصلاة والسلام فهو باطل، صحيح أننا نتجرد إذا كتبنا عن إنسان غير الرسول عليه الصلاة والسلام، أما إذا كتبنا عنه صلى الله عليه وسلم، فمن الذي يجردنا عن حبنا وعاطفتنا؟ ومن الذي يجردنا من اتباعه صلى الله عليه وسلم؟ إن من يكتب أو يتكلم عنه إنما هو تلميذ يتحدث عن شيخ درس عليه وتعلم منه، أو جندي عن قائد، فكان لزاماً علينا أن نعيش هذه الروح روح الإيمان.(123/2)
النبي صلى الله عليه وسلم بشر ولكنه معصوم
المسألة الثانية: أن الرسول عليه الصلاة والسلام بشر ولكنه معصوم، فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عصمه، وهذا عند أهل السنة هو القول المقدم، ولا عبرة بقول المعتزلة في ذلك، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:1 - 2].
عصمه في التبليغ لأنه لا يزال عليه الصلاة والسلام بشر، لكي لا تدعى ألوهيته، يسقط صلى الله عليه وسلم من على الفرس كما في صحيح البخاري فيدحش شقه، ويجرح صلى الله عليه وسلم، ويقول أهل العلم: ليثبت الله أنه عبد ضعيف ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
يأتيه الأعراب فيتوهمون أن له منزله فوق البشر، فيقول أحدهم: كما صح ذلك {يا رسول الله! قحطت البلاد، فادع الله، فإنا نستشفع بك إلى الله ونستشفع بالله إليك، فيغضب عليه الصلاة والسلام، ويقول: سبحان الله أتدري ما شأن الله؟ إن شأن الله أعظم من أن يستشفع به إلى أحد من خلقه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ويقول آخر: {ما شاء الله وشئت، فغضب عليه الصلاة والسلام، وقال: سبحان الله! سبحان الله! سبحان الله! أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده}.
وكان أكبر اعتراض الكفار لماذا كان بشراً؟ لماذا يأكل الطعام؟ لماذا يمشي في الأسواق ويكسب الرزق؟ فقال الله: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] والله يبين أنه لا بد أن يكون بشراً ولو كان ملكاً ما استطاع، لأن البشر يعيش حياة الناس وآلامهم.(123/3)
من معالم شخصيته صلى الله عليه وسلم(123/4)
كمال النبي صلى الله عليه وسلم البشري
المسألة الثالثة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرت به أطوار الحياة، ولا بد أن تتنبه إلى هذه القاعدة التربوية، وقد أشار إليها أبو الحسن الندوي، لكن السلف يعبرون عنها بالأبواب، وهؤلاء المتأخرون يعبرون عنها بالأطوار.
خذا جنب هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق
فقد مرت به الأطوار عليه الصلاة والسلام، فراعي الغنم له قدوة بمحمد عليه الصلاة والسلام، فقد رعى الغنم، وصح عنه أنه قال: {ما من نبي إلا رعى الغنم} والتاجر له قدوة فيه صلى الله عليه وسلم إذا اشتغل في التجارة، والجندي والإداري والقائد والمفتي والخطيب والواعظ، حتى الزواج، لعلك تفجع بشاب يرى من النسك ترك الزواج، وهذا نسك هندوكي، وليس نسكاً إسلامياً فقد وجد الرسول صلى الله عليه وسلم شباباً من شباب أمته المباركة، أحدهم لا يأكل اللحم، ومن يقدم البطاطس على اللحم فلن يجد دليلاً من الكتاب والسنة، والثاني يرى ألا يتزوج، وهذا يرى أن ترك اللذائذ دائماً قاعدة مطردة مقربة إلى الله، والثالث: يقوم الليل ولا ينام، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بمنهج رباني اختص به؛ لأن الناس في هذه الأبواب -في أبواب المباحات- ثلاثة أصناف: فاليهود ومن سار في منهجهم، هم أهل عبادة للشهوات، لا يعرف الواحد منهم إلا فرجه وبطنه، والنصراني قاتل للإرادات، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] فأتى عليه الصلاة والسلام فتوسط بين الجانبين، وأعطى الروح حقها من العبادة والتبتل، وأعطى الجسم حقه من المباح، فهو وسط بين هذه الطريقة وتلك: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] فرفض عليه الصلاة والسلام هذا المنهج، وأخبرهم أنه يصوم ويفطر، ويقوم وينام، ويتزوج النساء ويأكل اللحم، فمن رغب عن سنته فليس منه عليه الصلاة والسلام، والرسول عليه الصلاة والسلام تزوج.
وقد ورد أن الإمام أحمد سأل شاباً، هل تزوجت؟
قال: لا.
قال: ولم؟ قال: إبراهيم بن أدهم لم يتزوج، هذا الجواب ينبئ أن الطالب ما فهم الدرس، ولا عنده وعي كامل بالكتاب والسنة، فقال الإمام أحمد: أوه -وهذه الكلمة يقال بها للزجر- ويقول العرب: أوه سقطت من يديه، أوه خررت على وجهك، فقال الإمام أحمد: أوه، وقعنا في بنيات الطريق، رجعنا إلى إبراهيم وإلى فلان وعلان، ومالك بن دينار، يقول الله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38].
فالرسول عليه الصلاة والسلام تزوج النساء، ولو لم يتزوج لما كان للمتزوجين به قدوة وإنما للعزاب فقط، لكنه عاش عزباً وعاش متزوجاً، وجاهد وعبد الله، وقام الليل ونام، وأكل اللحم وتقشف، وتقدم في المعركة، وسالم يوم رأى السلم هو الحل السليم مع الأعداء، إذاً فأطوار الحياة في حياته تكاملية، وغيره لا تجده يعيش مثلما عاش صلى الله عليه وسلم في هذه الجوانب.
فإنه يحمل الأطفال -كما مر معنا- ويحضر الجنائز، ويبكي وقت سكرات الموت إذا رأى المسلم، بكى كما في حديث زينب وغيرها كثير، ويحضر الأفراح ويتبسم، ويجيد الفكاهة في وقار، وينفق المال، ويجود بنفسه في المعركة، وهذه هي معالم تربيته صلى الله عليه وسلم، أما الأحكام فهي تحتاج إلى كلام طويل وهي جزئيات لا تنتهي، لكن التربية لها معانٍ منها أن تحصر في دروس.
من معالم شخصيته صلى الله عليه وسلم: العبادة، التواضع، الكرم، الصبر، الحلم، الشجاعة، الزهد، وأنا لا أسرد قصصاً فإن القصص ستطول، لكن آتي -إن شاء الله- بضوابط على هذه الأمور لتميز بين تربيته صلى الله عليه وسلم وتربية غيره، ولذلك تجده كاملاً في هذه الأبواب، فأصحابه الذين معه عليه الصلاة والسلام كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لا يكتملون في بعض الجوانب، وأما هو فمكتمل، خذ مثلاً: اللين، تجد عمر رضي الله عنه وأرضاه يوصف في السيرة بالشدة، ويوصف أبو بكر بالحدة، لكن محمداً عليه الصلاة والسلام يجمع هذه الكماليات جميعاً لأن الذي ثبته هو الله -وقد أعجبتني كلمة لـ سيد قطب رحمه الله، وما أدري هل قالها في سورة التحريم أو في سورة الطلاق في الظلال، يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم مهيأ لقيادة البشرية، حتى جسم النبي صلى الله عليه وسلم مهيأ، فالناس والزعماء يقولون: إن من مواهبهم الجسمانية أن يكونوا أقوياء، وهو كان من أقوى الناس في هذا الجانب، يقولون: أوتي قوة ثلاثين صلى الله عليه وسلم، وهل هذا عند العلماء في الجماع أو في الشجاعة، أو في غيرها؟ ورد ذلك في الجماع والظاهر أنه كان قوي الجسم ومهيأ، يقول أنصاري من الأنصار: [[عرضت لنا صخرة في الخندق، فحاولناها ونحن جمع من الناس نحفر الخندق فما استطعنا لها، فرآهم صلى الله عليه وسلم فاقترب من الصخرة قال: فكأني أرى بياض ساعديه يوم كشف صلى الله عليه وسلم ساعديه -وهو يعيش على شربة اللبن، وحفنة التمر، ولم يعرف ما عرفنا من المأكولات، وعاش في صحراء بني سعد- قال: فأخذ الصخرة بيديه ثم ألقاها]].
أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أدبت في هول الردى أبطالها
وإذا وعدت وفيت فيما قلته لا من يكذب فعلها أقوالها
فهو صلى الله عليه وسلم يتميز بجانب القوة، وهذا استطراد جسماني، وكذلك هو متناسق الأعضاء، من يرى إلى وصفه، لا يرى أنه تربى في جزيرة العرب وفي مكة مع الشمس القاحلة والجدابة والفقر، ومع ذلك كان وجهه كالبدر ليلة أربعة عشر، من أجمل الناس على الإطلاق، وكان فيه بياض الله أعلم به، بل قال بعضهم: كأن الشمس تجري في وجهه، وقال بعضهم: كأن الثريا علقت في جبينه، وسئل بعضهم -وهو البراء هل كان وجهه صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟
قال: لا.
بل مثل القمر، وصح عن أنس قال: [[والذي نفسي بيده، لقد نظرت للقمر ليلة أربعة عشر ولوجهه صلى الله عليه وسلم، فكان وجهه أجمل من القمر ليلة أربعة عشر]] فأوتي صلى الله عليه وسلم تأهيلاً من الله عز وجل حتى في جسمه، يقول شوقي:
والحسن من كرم الوجوه وخيره ما أوتي القُوَّاد والزعماء
فإن بعض الناس قد يقال في ترجمته قصير قميء، أو طويل باهت، أو كانت له يد واحدة مثل عضد الدولة كانت عنده يد واحدة وهو سلطان الدنيا، ولذلك كلما ترجموا له أتوا بهذه القضية، وهذه لا تزيد العبد أو تنقصه في الآخرة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أعطاه الله عز وجل الكمال في كل شيء حتى الجسماني، ولما اعترض اليهود على ملك طالوت، وأخبر نبيهم عليه السلام أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى زاده بسطة في العلم والجسم.(123/5)
التوسط في اللباس
وللرسول صلى الله عليه وسلم ميزات تدرك في السيرة بالتأمل، منها: الأناقة، وقد أشار إليها سعيد حوى في كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأجاد في ذلك، وقد ذكرت أنه قارن بينه وبين نابليون وهذا خطأ، فالرسول صلى الله عليه وسلم شيء آخر، ولا يقارن بينه وبين أحد، حتى بينه وبين أصحابه، لا يجوز أن تأتي إلى صحابي وتقارن بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن من الميزات التي أشار إليها:
الأناقة: فقد كان أنيقاً في ملبسه صلى الله عليه وسلم، وكان جميلاً، وهذا درس تربوي، فإن بعض الناس قد يظن أن التبذل دائماً وأن الدروشة دليل على الزهد في الدنيا، وهذا لا يلزم؛ لأن بعض الناس يلبس الرخيص ولكن قلبه قلب قارون أو هامان، وإن بعض الناس قد يتدروش لكن في نفسه عزة وجبروتاً، وقالوا في ترجمة
أيوب بن أبي تميمة السختياني: كان يلبس الجميل، وكان يقال له في ذلك، قال: كانت الشهرة فيما مضى في لبس الجميل، واليوم أصبح في لبس التقشف أو كما قال، أيوب هذا الولي الكبير المحدث شيخ حماد بن زيد، الذي يقول فيه الإمام مالك: ما ظننت أن في أهل العراق خيراً حتى رأيت أيوب بن أبي تميمة السختياني يبكي في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام حتى كادت أضلاعه تختلف، وهو سيد شباب أهل البصرة، وهو راوية في الصحيحين.
فالمقصود أن التبذل والتقشف قد تكون طريقاً للشهرة من حيث لا يدري الإنسان، وقد وجد من الناس من يلبس الرخيص المقطع وكأنه يقول للناس: أنا الزاهد، أنا العابد انظروا إلي، وعند ابن ماجة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذم لباس الشهرتين، والحديث في سنده نظر، والشهرتان عند أهل العلم: أن يلبس الغالي الذي يلحقه بالسلاطين، أو الرخيص الذي يلحقه بالشحاذين، تجد أن النووي رحمه الله على زهده وتقشفه يبوب في رياض الصالحين، باب التوسط في اللباس، ولا يقتصر على ما يزري به، لماذا؟
لأنه قد تكون الأصابع تشير إلى هذا أن فيه عباده وزهداً، ولذلك لا يتميز الإنسان في العرف المباح، مثل العمامة، قد يلبسها الإنسان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لبسها فيؤجر عليها؛ والنبي صلى الله عليه وسلم جعل اللباس مطلقاً ولم يضيق على الناس فيه، فنحن لنا زي، وللمغاربة زي، وللمصريين زي، فما دام أنه في حدود الشريعة، فهو سهل وميسر وقريب، لكن لا نلبس الذهب ولا الحرير للرجال، ولا الطويل المسبل، ولا نلبس كل ما يمت إلى خرم المروءة، والمروءة تختلف بحسب المكان، فإن عندنا مثلاً في عرفنا هنا وفي مناطقنا هذا اللبس الذي نراه، فمن خوارم المروءة في العرف من يخرج إلى السوق كاشفاً رأسه.
لكن في تلك المجتمعات لو أن شاباً لبس عمامة فإنه يخاف على قلبه أن تشير إليه العيون، فكأنه يقول: أنا العبد الزاهد، أنا المتميز عن الناس انظروا إليَّ كيف لبست عمامة، وبعضهم تجده يتكيف في جلسته تكيفاً ما أتت به السنة، حتى إنه يصمت في المجلس فلا يتبسم إذا تبسم الناس، ولا يمزح ولو بمزحات سهلة مباحة إذا مزح الناس، ويظهر الخشوع، وقلبه ليس على هذا المستوى، وقد كان الإمام أحمد يتبسم إذا جلس مع أصحابه، فإذا جلس وحده خشع، وابن الجوزي أشار إلى هذه القضية في كتابه الجميل، صيد الخاطر، يقول: بعض الناس يتكلف التخشع، والصمت الكثير والقلوب تنبو عنه -تبتعد عنه- وهو صامت خاشع لكن يعلم الله أن قلبه ما طابق ظاهره، وبعض الناس يمزح ويهش ويبش، والقلوب تنهال عليه.(123/6)
عبادة النبي صلى الله عليه وسلم(123/7)
عبادة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تناسب أحوالهم
أبدأ بعبادته صلى الله عليه وسلم: فمن ضوابط عبادته صلى الله عليه وسلم التربوية، أنها كانت تناسب الأحوال، وكان يفتي بذلك، ولابد أن تكون عبادتك الحالية تناسب ذلك، وهذه فاتتنا فترى بعض الناس في هذه الصحوة المباركة لا يواكب ظرفه ولا حاله بعبادته، مثل أن تجد مهندساً تخصصه الهندسة، وبإمكانه أن ينصر الإسلام عن طريق الهندسة، فيترك تخصصه ويريد أن يكون مفتياً للناس، وهذا صاحب الشريعة منذ أن ولدته أمه وهو يقرأ أبواب الفتيا، فأتى هذا المهندس فزاحمه على الفتيا، يا فلان أنت تخصصك تخطيط معماري في كلية الهندسة، اتركنا نفتي، قال: لا.
الفتيا لها فرسان، وأنا من فرسان الفتيا، ويأتي الطبيب فيترك عيادته، ويريد أن يكون خطيباً مسقعاً من خطباء الدنيا، فيمسك المنبر ويقول: أنا أولى الناس بالخطابة، ولا يدري أن للخطابة أناساً تفرغوا لها، ونصروا الإسلام من هذا الجانب، وأنت انصر الإسلام من جانب الطب، أو تجد إنساناً يترك عمله ويأتي فيتنفل، يدخل في غرفة فيتنفل نوافل طويلة ويقرأ القرآن، فيقال له: مالك؟ يقول: قراءة القرآن أفضل من هذا العمل، لكنك أنت في عملك عابد لله ولا يعفيك خروجك للصلاة النافلة من عملك إلا في حد منضبط، فإنك تأخذ راتباً ودخلاً على هذا العمل، فلماذا تتركه؟
وكذلك لو أن رجلاً نفع الله به في جانب التدريس فيقول: لا بد أن أذهب إلى الجهاد الأفغاني، فيترك التدريس والفائدة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا ذهب إلى مكان الجهاد أصبح جندياً لكنه في حال التدريس كان في مقام ألف واحد، وأنا لا أقصد التثبيط عن الجهاد الأفغاني أو غيره من جهاد المسلمين، لكن معالم يلمحها كل إنسان، لابد من إعطاء الإنسان قدره وحجمه، لأن كلاً ميسر لما خلق له.
وبعضهم يدرس إلى المستوى الخامس في الطب ثم يأتي ويبدأ من أولى في أصول الدين، فيضيع خمس سنوات، فيقال له: مالك؟ يقول: أريد أن أنصر الإسلام من هذا الطريق، أما ذلك علم لا يستنفع به!! لا.
أراد الله عز وجل يوم بدأت أن تكون في هذا الجانب، ولعلك تنصر الدين في هذا الجانب، والرسول عليه الصلاة والسلام قبل التخصصات، فما تجد صحابياً إلا وبإمكانك أن تصنفه في تخصص، أتظن أن خالد بن الوليد كان يعرف تفاصيل تقسيم الفرائض، قد يكون لا يدري، ونحن لا نتهمه بالجهل، بل هو من أذكى عباد الله ويكفيه تلك الوقفات العظيمة في الإسلام، غفر الله له ورفع الله منزلة أبي سليمان.
فإن خالداً كان مشغولاً بأعظم من الفرائض، حتى يقول بعضهم -من باب المزاح- أما خالد فيفصل الرءوس عن الأكتاف، فإذا ذبحهم قسم زيد بن ثابت الفرائض، فقسمه هو قسم العسكرية، فهو قائد عسكري، يعرف كيف يفصل الرءوس عن الأكتاف، وبهذا صنفه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يقل لـ خالد: خالد أعظم فرضي، ولا قال: اطلبوا القرآن من خالد، ولا أعلمكم بالحلال والحرام خالد، لكنه قال على المنبر: أما خالد فسيف من سيوف الله سله على المشركين، فهذا معلم لـ خالد يعرف به بين الناس، تخصصه أن يدخل الجنة بالسيف، يدخل الجنة بما قدم لله من قربان، وبما فلق في سبيل الله من هامات.
رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يصب
وزيد بن ثابت ماذا قال له صلى الله عليه وسلم؟ لم يوله قيادةً عسكرية؛ لأن مؤهلاته وتيسير الله له لم يكن عسكرياً، صحيح أنه كان يجاهد في المعركة، لكن ما كان يملك إقدام وحنكة خالد واستكشافه وصرامته، يقول صلى الله عليه وسلم: {أفرضكم زيد} فكان الصحابة إذا أعضلت مسألة في المناسخات أحالوها إلى زيد بن ثابت.
وحسان بن ثابت يؤثر عنه أنه ما كان يخوض غمار المبارزة، لكن تعال إليه، يتقدم صلى الله عليه وسلم إليه ويقدم له المنبر -في هذا درس- ويقدم إليه المنبر بيديه الشريفة ويصعد حسان على المنبر ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {اهجهم وروح القدس معك} ولذلك أما ترى شباب الصحوة ماذا يفعلون اليوم؟
أحدهم أديب يريد أن ينصر الإسلام بالقصائد وهذا مطلوب، لأنا دُخلنا في ديننا -بواسطة الحداثة المتزندقة الملحدة التي أخذت من لينين واستالين معاني لرجسها وكفرها في الساحة، فنحن بحاجة إلى طاقم من الشعراء يبيدون هذا؛ لأن أمتنا تعيش على الشعر، وتجد كتبه فغفر الله لهم وأثابهم الله.
فقد بدءوا يكتبون، وما أحسن جمال أسلوبهم وعباراتهم القوية وهم يكتبون في الصحف بإيمان؛ ليأخذوا منزلهم الطبيعي، ويقولون لغيرهم: لا مكان لكم هنا فاخرجوا من هذه الأماكن.
فكان صلى الله عليه وسلم يؤهل أصحابه المؤهلات الخاصة بهم، فرجل الإدارة أبو بكر، وتدوين الدواوين وتجنيد الجنود عمر، والحياء والبذل عثمان، والخطابة والإقدام علي، وقد علم كل أناس مشربهم، وهذه قاعدة معروفة لا تخفى عليكم.(123/8)
عنايته صلى الله عليه وسلم بجودة العبادة أكثر من كميتها
عبادته عليه الصلاة والسلام كانت جودة أكثر من أن تكون كماً، وحسنة أكثر من أن تكون كثيرة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] وقد تطرق الإمام ابن القيم لهذه المسألة، وقال في كلام معناه، لم يقل أكثر عملاً، وضرب لهذا مثلاً برجل صلى لله ركعتين فأقبل بقلبه على الصلاة، وجاهد شيطانه في الركعتين، وحاول أن يخلص وأن يخشع، ترى أنه لا ينتهي من الركعتين إلا بكل كلفة، حتى ما يستطيع أن يزيد ركعتين أخريين، وهكذا الخاشع في الصلاة، الذي يستلهم مراقبة الله في الصلاة، ويجاهد شيطانه في الصلاة، تأتي عليه الصلاة شديدة حتى ما ينتهي إلا وهو فاتر، فقد ذكروا في ترجمة إبراهيم النخعي: أنه كان إذا صلى لله فريضة ذهب فاتكأ كالمتعب، من كثرة المجاهدة، لكن الذي لا يستحضر قلبه في الصلاة، وليس عنده خشوع ولا يطارد شيطانه فباستطاعته أن يعمل خمسين ركعة، يسلم ويقوم، ويسلم ويقوم، ويسلم ويقوم، ومثل ذلك قراءة القرآن بأنه لو ألزمت نفسك في قراءة واحدة أن تقرأ القرآن من أوله إلى آخره وتتدبر كل آية وتقف وتتأمل كل كلمة، فلن تنتهي من الختمة إلا بشق الأنفس، بل السورة الواحدة لو تأملتها وتدبرتها لطالت عليك، لكن تعال إلى الذين لا يتدبرون ولا يتأملون، يفتح أحدهم المصحف ويقرأ، حتى إن بعضهم يقرأ ستة أجزاء يوم الجمعة، إلى عشرة أجزاء قبل دخول الخطيب، لكنه في أثناء القراءة يبني عمارة، ويضارب أطفاله ويؤدبهم في البيت، ويشتري سمناً وعسلاً وهو يقرأ في المسجد، ويبيع ويفكر، حتى يطوف العالم، ولكن سُهلت عليه القراءة لأنه ما استحضر الجودة، وقد كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس في العبادة، وأنتم تعرفون وصفه بالخشوع صلى الله عليه وسلم.
وفي القرن الثالث ذكروا أن بعض الصوفية كان يصلي ثمانمائة ركعة، وهذا أمر عجيب فقد كانوا يصلون النوافل حتى يقول ابن الجوزي في تلبيس إبليس: رؤي بعضهم يصلى الظهر وهو ينعس، قيل له في ذلك، قال: من كثرة ما صليت في النوافل، بقي من الصباح من طلوع الشمس إلى الظهر يصلي، فلما أتت الفريضة تعب ونعس وهو يصلي، وبعضهم يقومون الليل فإذا أصبح قبل الفجر نام عن الفريضة وهو قائم في الليل، وتجدونهم يأتون بأمور ما أنزل الله بها من سلطان، ويجعلون أسباباً للتفاضل ما جعلها الله سبباً للتفاضل، ولا سبباً للتقدم وحده مجرداً من التقوى.
مثل البلح هذا الذي يباع في السوق، يقول أحدهم: الحمد لله، والله ما أكلت الرطب أربعين سنة، هذا ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة، ونقول له: ومن حرم عليك أكل الرطب؟ والرسول صلى الله عليه وسلم أكل الرطب، وماذا لو أكلت الرطب وأطعت الله؟! إن الله يقول: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51] ولماذا خلق الله الرطب؟ ليبقى في المتاحف أو ليرسم، أو ليحرق، لا.
بل ليؤكل، فأكله جائز بالإجماع، وتجد آخر ذكره الخطابي في كتاب العزلة، وربما مر هذا، أعطاه الله عينين فأراد هذا الرجل الذكي الأريب أن يقتصد، فأخذ لصقة ووضعها على عينه، هذه هي الهلوسة التي لا تنضبط بالكتاب والسنة، فقيل له في ذلك؟ فقال: إسراف أن أنظر إلى الدنيا بعينين، فتح الله عليه! إن الله يقول: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] وأنت تقول: إسراف أن تنظر إلى الدنيا بعينين!
إن عدم الانضباط في مسألة معرفة نعم الله أو أسباب التمايز ومتى يتقدم العبد ومتى يتأخر؛ تتعب ولا تنفع؛ لأنهم ما انضبطوا مع العلم، يقولون: إذا لم تؤسس نفسك بالعلم، فأنت كالجمل الهائج في الصحراء، وما قيدوا أنفاسهم وألحاظهم بالعلم.
وانظر إلى عبادته عليه الصلاة والسلام مثلاً، يقول ابن القيم: كان عليه الصلاة والسلام يصلي في اليوم والليلة أربعين ركعة، لكن أولئك يصلون ثمانمائة ركعة، بل يقول الذهبي في ترجمة زين العابدين: إنه كان يصلي في الليل ألف ركعة، لكن هذه لا تدخل في العقل، فمتى يقرأ الفاتحة ويتدبر ويخشع في ألف ركعة، ولماذا؟
أما رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فقد كان يصلي أربعين ركعة غالباً، منها النوافل والفرائض وذلك في أربع وعشرين ساعة، لكن كل ركعة خير من الدنيا وما فيها، يقول ابن القيم: ومن طرق الباب أربعين مرة يوشك أن يفتح له، فالمسألة مسألة جودة لا مسألة كثرة، حتى تجد بعضهم يقول: ختمت القرآن في رمضان سبع مرات، وهو يشكر على ذلك، لكن هل عرفت التدبر؟ هل زاد الإيمان في قلبك مع تلاوتك؟ هل رأيت خطأً كنت ترتكبه ونبأك القرآن عليه؟ ربما يقول: لا.
فالمسألة مسألة الجودة ومسألة الحسن في العبادة، وهي معلم من معالمه صلى الله عليه وسلم، ومن معالمه صلى الله عليه وسلم في جوانب العبادة: أنه كان يعطي العبادة المناسبة في الوقت المناسب، يقولون: إذا حضرت في الجبهة فجهادك قتل أعداء الله، أما أن تحضر في الجبهة وتظل تقرأ في المصحف، وتترك الجهاد وحمل السلاح فما أصبت، وإذا حضرت والناس في المسجد يصلون صلاة الجماعة، وأخذت تلقي خطبة على المصلين، فهذا هو الهوس، كان صلى الله عليه وسلم كما قال الأول:
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها
كان وقت الجهاد مجاهداً ووقت الخطابة خطيباً، ووقت الصلاة مصلياً، ووقت الإنفاق منفقاً، لأن أسهل العبادة عند الناس يقولون: ما خالف ما هم عليه.
وبعض التجار الآن لا يريدون أن تحدثهم في الإنفاق في الغالب، إنما يريدون أن تحدثهم عن قيام الليل، فأسهل شيء على التجار قيام الليل، لكن لو جاء ينفق لأتى الشيطان فقبض على يديه بأربع أيادٍ، ولذلك تراه يقول: حدثونا عن النوافل، واتركونا من المسائل الخلافية التي اختلف فيها أهل العلم، مثل الربا، وهذه الأمور، مسائل خلافية، لأن كرشه أصبح متراً بسبب الربا، وتجد طالب العلم أحياناً إذا كسل عن الدعوة يريد أن يتنفل يقول الشيطان: تنفلك في بيتك أحسن، والشيطان يعلم أنه لو خرج كل طالب علم يدعو إلى الله لانتهى الجهل في الدنيا، فيكسله عن الدعوة، ويقول الشيطان للعابد: أرى أن تدعو إلى الله، لأنه عابد جاهل ما عنده علم، قال: أرى أن تدعو إلى الله، فلذلك تجد عامياً يدعو، وتجد طالب علم قد أغلق على نفسه بثلاثة أقفال داخل البيت، حتى إن بعض الناس -ولا نتنقص من أحد- وقد بلغ في العلم منزلة عظيمة، يمنع الطلبة أن يأتوا إليه، وإذا طرق عليه طالب، قال: ماذا تريد، أي خدمة؟
خدمتنا -يا شيخ- أن تخرج لنا، خدمتنا أن تلقي علينا دروساً وفوائد، وتنهال علينا بالعلم، وأن تكون إماماً تلقي هذه الأمانة التي على كاهليك، أما أن تقطر علينا بالقطارة أو تبقى في البيت حتى يؤتى إليك ويطرق عليك الباب تستفتى، فهذه مسألة ليست بصحيحة، فيخرج حينها العامي يدعو إلى الله عز وجل، ويتكلم في القضايا الكبار حتى إن بعضهم يتكلم في أشراط الساعة وعلم الغيب بجهل، وبعض الناس الجهلة لما تكلموا في الوعظ، ما تركوا سؤالاً حتى أجابوا عليه، بعضهم يسأل هل تدور الأرض؟ قال: الأرض لا تدور، ومن قال: تدور الأرض، فهو كذاب مفترٍ على الله، والدليل على ذلك -اسمع الدليل العقلي والاستنباط-.
يقول: إنني منذ خلقني الله في المدينة التي أنا فيها ما دارت بي، هذا إشراق ولموع، وهذا فتح من الله عز وجل، وبعض الناس يورط نفسه في كل مسألة وينبغي له ألا يتدخل في مثل هذه الأمور ورحم الله امرأً ترك ما لا يعنيه.(123/9)
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم(123/10)
حال بعض المتكبرين
التواضع خصلة من أعظم الخصال، والعرب في الجاهلية والإسلام لا تريد المتكبر، ويقولون: من طلب الشرف فعليه بالتواضع، وأصدق من ذلك قوله الله؛ لأنه إذا جاء المثل العربي والقرآن، قلنا: إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، يقول سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من تواضع لله رفعه، ومن تكبر على الله وضعه} ومن الكلمات الجيدة في هذا الباب ما نقل عن أبي بكر الصديق، أنه قال لـ خالد: يا خالد! فر من الشرف يتبعك الشرف، والسادات عند العرب كانوا أكثر الناس تواضعاً، والقلوب تبغض المتكبر ولا تحبه، وتمقته وتزدريه، ويسمى في أبواب الأدباء: الأحمق، وأحمق الناس المتكبر.
من المتكبرين ما ذكر ابن الجوزي: أن أحدهم كان أميراً فأراد أن يمر على الجسر إلى خراسان، وهو جسر كان على نهر سيحون، فتوقف عند الجسر وتوقف أصحابه، وقالوا: مالك لا تمر على الجسر؟ قال: أخشى أن ينكسر الجسر من شرفي، الله أكبر، ليس من قوته ولا من حجمه ولكن من شرفه.
وأحدهم كان في الشمال وزيراً أمر الناس أن يبسطوا العمائم إذا دخل في طريقه إلى المسجد، وبعض الناس لا يفقه ولا يعقل، فأخذوا العمائم وفرشوها في الطريق، فأخذ يتبسم وينظر إلى أصحابه ويقول: لمثل هذا فليعمل العاملون، إلى غير ذلك من ألفاظ الكبر التي وردت من بعضهم حتى أبلغته في درجة الفجور والعياذ بالله.
وأحياناً قد تجد الناسك ناسكاً ولكن تجده متكبراً، لو سأله فقير أو مسكين فتراه لا يقف ولا يتحدث معه، ويرى أنك لا بد أن تزوره وهو لا يزورك، وأن الحق له دائماً، وأن عليه أن يُخاطب بلفظ يا شيخ، وسماحتكم، وفضيلتكم، فإذا قطع عن هذه الألفاظ غضب، بل روي عن بعض الناس، أنه إذا سُلِّم عليه يرخي رأسه للقبل، يعني أصبح عنده مرونة لإرخاء الرأس من كثرة تعوده، ولذلك تجد الناس لا يقبلون رأسه؛ لأنه يريد هذا ويطلبه ويجعلها من الطرق التي توصله إلى المكانة في قلوب الناس.(123/11)
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
أيها الإخوة: أكثر الناس تواضعاً محمد عليه الصلاة والسلام.
جاء عند مسلم من حديث عياض بن حمار، قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد} وكانت هذه المدرسة -مدرسة التواضع- لم تعرف واضحة إلا في الإسلام، أما أهل الجاهلية فكانوا أعظم الناس كبراً وعتواً وعلواً في الأرض.
فمن كان سيجعل عمر رضي الله عنه وأرضاه قبل الإسلام يصنع الطعام للمساكين والفقراء؟ فهل بالإمكان أن يأتي عمر رضي الله عنه وأرضاه، ويحمل الماء للفقراء والمساكين ويطلي إبل الصدقة ويحلب الشياة؟ لا.
لكن هذبه محمد عليه الصلاة والسلام.
وأبو بكر في القصة المشهورة: [[يدخل على امرأة فيحلب شاتها، ويصنع إفطارها ويكنس كوخها ويخرج، فيأتي عمر بعد دخوله ويقول للمرأة: من هذا الذي يأتيكم؟ قالت: لا أعرفه، قال: لِمَ يأتيكم؟ قالت: يصنع لنا إفطارنا ويحلب شاتنا فيجلس عمر يبكي، ويقول: أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر]].
هذه منزلة في التواضع لا يعلمها إلا الله، وهذه مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم ومن أرادها وجدها، والتواضع يكون باللحظ وباللفظ وفي الطريق وفي المشي والكلام.(123/12)
صفات المتكبرين
من صيغ المتكبرين أنهم يحبون ألفاظ التفخيم مثل: نحن، وفعلت وصنعت وقلت وخرجت ودخلت، ودائماً يترجم لنفسه في المجالس، ومنها أنه بعيد عن الناس، حتى إذا سلمت عليه كأنه يتصدق عليك إذا مد إليك يده، وبعضهم لا يمد يده وإنما يعطيهم رءوس الأصابع، وبعضهم لا يرد السلام ولا يشمت العاطس، كبراً وعلواً فتراه يسقط من القلب سقوطاً عجيباً، وفي الآخرة، صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {يحشر المتكبرون يوم القيامة، في صورة الذر يطؤهم الناس بأقدامهم} يقول ابن القيم: تجنب ثلاث كلمات: أنا، ولي، وعندي.
فأنا استخدمها الشيطان، فقال، كما حكى الله تعالى عنه: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] ولي استخدمها فرعون وقال، كما حكى الله عنه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] وقارون قال كما قال تعالى: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] لكن أنا تستخدم، في مثل: أنا مقصر، مثلما يفعل ابن تيمية:
أنا الفقير إلى رب السموات أنا المسيكين في مجموع حالاتي
وعندي ذنوب وخطايا ولي تقصير ولي إساءة، إلى غير ذلك من الأحوال.(123/13)
التواضع يكسب قلوب الناس
التواضع -أيها الإخوة- نكسب به شيئاً عظيماً، وهو قلوب الناس، لا نكسب قلوب الناس إلا باللين والتواضع كيف نصل إلى الناس ونحن لا نتواضع، ولعلك تجد ناسكاً وعابداً ومصلياً، لكنه متكبر، ولذلك يخفق في دعوته كثيراً، وإذا وصف الناس الرجل بالكبر فلا تقبل منه القلوب شيئاً.(123/14)
كرمه عليه الصلاة والسلام
وكان كرمه صلى الله عليه وسلم منضبطاً بضوابط:
أولاً: أن كرمه كان لوجه الله، وحاتم كريم، لكنه رياء، وابن جدعان كريم، لكن لطلب الشهرة في الناس تقول عائشة، كما في صحيح مسلم: {يا رسول الله! إن ابن جدعان كان يتصدق وينفق ويعتق -إن عبد الله بن جدعان كريم مكة كان صعلوكاً ما عنده شيء، فخرج يرعى الغنم، فوجد في عرفات آجوراً من ذهب فأخذها فجعل ينفق منها ليطلب الصيت في العرب، وكان جاهلياً، وهو المقصود، بقول الشاعر:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباء
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء
-
فقالت عائشة: يا رسول الله! هل ينفعه عند الله؟ قال: لا.
إنه لم يقل يوماً من الدهر، رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين} وعدي بن حاتم يقول: {يا رسول الله! إن أبي -أي حاتم الطائي، ومن الذي لا يعرف حاتم الطائي، فإنه طلب الصيت فأعطاه الله الصيت- قال: يا رسول الله! هل ينفع أبي ما كان يفعل في الجاهلية، فإنه كان يحمل الكل ويعين على نوائب الحق ويكسب المعدوم؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا.
إن أباك طلب شيئاً فأصابه} طلب الصيت في الدنيا فأعطاه الله الصيت، لكن ليس له عند الله من خلاق، ويأتي كرمه صلى الله عليه وسلم وبذله الذي ما وراءه شيء.
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
وبذله صلى الله عليه وسلم وقت الحاجة، لأن بعض الناس يبذل لكن في غير وقت الحاجة، تجده يضيف الأغنياء لكن الفقراء لا يدعو أحداً ولا يهدي له شيئاً، فقط رياءً وسمعةً، قال تعالى: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال:36] فمن ضوابط إنفاقه صلى الله عليه وسلم أنها كانت للحاجة مع الإخلاص، ثم كان لا يوصل إليه في درجة الإنفاق، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: {كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، فكان أجود بالخير من الريح المرسلة} ويبقى مسألة الصبر والحلم والشجاعة والزهد، وسوف أتعرض لها بإيجاز ليبقى وقت للأسئلة.(123/15)
صبره عليه الصلاة والسلام
أما صبره عليه الصلاة والسلام، فقد كان من أصبر الناس، واختلف العلماء، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم غنياً شاكراً، أم كان فقيراً صابراً؟ وهي تبنى على مسألة، أيهما الأفضل الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟
فبعضهم يقول: الفقير الصابر أفضل، ويستدل بأدلة، وبعضهم يقول: الغني الشاكر أفضل، ويستدل على أن الغني الشاكر أفضل بسليمان عليه السلام، وابن عوف وعثمان والفوا في ذلك كتباً ورسائل، والصحيح ما قاله ابن تيمية في جملة واحدة، لخص هذه الكتب جميعها، وقال: الصحيح أن أفضلهما أتقاهما.
هذا هو الجواب، ولا أغالي فيه، لكن تجد في الناس من يكتبون خمسمائة صفحة أو ستمائة صفحة في مجلدات، فيأتي هو بكلمة فينهي الخصام، واختلفوا في الزهد، ما هو؟ بعضهم قال: ترك الدور والقصور، والتجرد عن الثياب ومفارقة الأحباب، وبعضهم قال: لا، الزهد في الدنيا: أن تقلل من الطعام والشراب، وأن تقلل من لبس الثياب، فأتى هو وقال: الزهد: ترك ما لا ينفعك في الآخرة، ذكره في المجلد العاشر، وابن القيم هام في حبه فقال: ما سمعت أحداً تقدم إلى هذا الكلام، الزهد ترك ما لا ينفعك في الآخرة.
فأقول: صبره عليه الصلاة والسلام صبر مضبوط بالشريعة، وقد كان على الصحيح غنياً شاكراً، وفقيراً صابراً مر به الفقر حتى ما وجد ما يسد به رمقه صلى الله عليه وسلم، فصابر ومر به صلى الله عليه وسلم الغنى، حتى كان يقول: لك مائة ناقة، ولهذا مائة، ولك مائة غنم وفي حنين أربعة وعشرين ألف ناقة تقريباً، وبعضهم يقول: سبعة آلاف ناقة، وأربعة وعشرين ألفاً من الغنم، فقد أتته أموال فأصبح غنياً شاكراً، وكان فقيراً صابراً، ولكن كان صبره احتساباً.
مسألة: هل الصبر واجب أو مستحب؟ الصحيح أنه واجب عند علماء الإسلام.
وهل الرضا واجب أو مستحب؟ الصحيح أنه مستحب عند علماء الإسلام أو عند أكثر علماء الإسلام، الرضا: أن ترضى عن الله في قضائه وقدره، هذا مستحب، وأما الواجب فهو أن تصبر {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] على خلاف في المسألة.(123/16)
حلم النبي عليه الصلاة والسلام
ومن ضوابط حلمه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يحتسب ذاك عفواً في سبيل الله، والناس في الحلم طرفان ووسط، فبعضهم من أضيق الناس صدراً يذوب عند الكلمة ويغضب من هب الريح، فينتقم لنفسه دائماً، وبعضهم بارد الإحساس، ميت، يقول الشافعي: من استغضب فلم يغضب فهو حمار، أي: تجد المنكرات عند رأسه والفجور ولا يغضب، يقول: المسألة فيها سعة ودين الله يسر، والإنسان لا عليه، ولا تغضب وعايش الوقت، والدين هذا يواكب العصر.
لكن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مدح الغيرة الشرعية، وقال: {أتعجبون من غيرة سعد، والذي نفسي بيده، لأنا أغير منه والله أغير مني}.
والرجل الإسرائيلي يوم خُسيف به وعذب لأنه لم يتمعر وجهه ولم يغضب عندما انتهكت الحرمات.
والوسط في هذا الجانب: أن تغضب في وقت الغضب وتحلم وقت الحلم، ومن غضب في غير موقف الغضب فهو أحمق، تجد بعضهم يغضب بدون غضب، تكنيه فتقول: يا أبا فلان، قال: سامحك الله، تقول لي هذا الكلام! وبعضهم تجده يحلم في غير موقف الحلم، يسمع كلمة نابية ممزقة للأعراض، ويقول: هذه ما تغضب هذه فيها سعة!(123/17)
شجاعته عليه الصلاة والسلام وزهده
أما شجاعته عليه الصلاة والسلام، فهي شجاعة قلب وشجاعة إرادة وسعة يد، وهذه الشجاعة تنبع عن الكرم، وأشجع الناس أكرمهم.
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود
والغالب أن الكريم شجاع، وأن الشجاع كريم، لكن نادراً أن تجد بخيلاً شجاعاً، أو شجاعاً بخيلاً، وأقول في قسم الشجاعة: من أشجع الناس علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإنما أقول ذلك؛ لأن له كلمة، يقول: [[كنا إذا التقينا واشتد الكرب، وحمي الوطيس، اتقينا برسول الله عليه الصلاة والسلام، فوجدناه أقرب الناس إلى القوم]] ما فر في معركة، وواجب عليه أن يصمد في المعركة ولو فر أصحابه جميعاً، قال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84] لما فر الناس في حنين وقف صلى الله عليه وسلم يقاتل وأخذ السيف مردداً:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
وسمع مرة صيحة في ناحية من نواحي المدينة، فأخذ الفرس صلى الله عليه وسلم والسيف، حتى اكتشف الحادث، ثم عاد وحده.
كأنه وهو فرد من جلالته في موكب حين تلقاه وفي حشم
كأنه يحاط بهالة من الحراسة، ولكن حراسته من الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67].
وزهده عليه الصلاة والسلام، إعراض عن الفاني وإبقاء للباقي وأخذ وقت الحاجة للحاجة، قال ابن القيم: كان لا يتكلف مفقوداً ولا يرد موجوداً، وهذا هو الصحيح، جاع حتى ما وجد كسرة الخبز، ولا حفنة التمر، وأكل صلى الله عليه وسلم أحياناً العسل واللحم، وأكل من طيبات ما رزقه الله، فمن أخذ التقشف طريقة دائمةً ورد الطيبات فقد أخطأ، ومن مكث على الطيبات ولم يتقشف أحياناً وطلب أطايب الطعام فقد أخطأ، الوسط سيرته عليه الصلاة والسلام.
وبعد فإنما هذه جمل وإشارات، ولعل الله أن يسهل بمن يبسطها ويشرحها، ومن أحسن الكتب في ذلك زاد المعاد، والمجلد العاشر والحادي عشر من الفتاوى لـ ابن تيمية.(123/18)
الأسئلة(123/19)
الذهاب إلى الجهاد بدون إذن الوالدين
السؤال
الذي يقول لوالديه إنه مسافر إلى جدة، أو الطائف أو الرياض، وهو في الصحيح يذهب إلى الجهاد، ويعرف أن والديه سوف يرفضان ذهابه إلى الجهاد لو أخبرهم؟
الجواب
ما أرى إلا أنه قد كذب على والديه وارتكب أمراً محرماً، لماذا يكذب على والديه، الوالدة تأذن له في الظاهر لأنه يريد مكة، وهو في الباطن يريد الجهاد، وهذا من الحيل المحرمة، وهذا إذا أراد أن يعصي فليعص من أول الطريق، ولا أدله على المعصية والعياذ بالله، لكن ترك استئذان الوالدين فيه بأس، فلا تترك استئذان الوالدين، والبأس في هذه المسألة: أن يذهب ويكذب على والديه ويقول: أريد السفر إلى جدة وهو يريد أفغانستان فلابد أن يخبرهم عل الله يسهل أن تلين قلوبهم فيأذنون له، فيكون باراً في الاستئذان، وباراً في جهاده بحول الله.(123/20)
حقيقة كتاب بدائع الزهور
السؤال
كتاب بدائع الزهور في وقائع الدهور وما مدى صحته؟
الجواب
هذا كتاب خزعبلات لا يساوي الحبر الذي كتب به، وهو يصلح أن يجمع فيجرد منه الحبر ويوضع فحارة يوضع فيها شعير لأحد الحمير، أو كرتوناً للعلاجات لإحدى الصيدليات، لأنه لا يساوي شيئاً، فلا تثقوا به وبعض الناس إذا كذب كان ذكياً، أي: يكذب كذبات ربما قبلت، لكن هذا يكذب كذبات لا تدخل في العقل في مثل رجل كان طويلاً في أول الزمان، أخذ سمكة من البحر ومدها وأحرقها في الشمس وشواها ثم أكلها، ما وجدت من الأخبار إلا هذه، ونخلة في جزيرة كذا، وسبحان الله! هذه الجزر لم تكتشف إلى الآن، أمريكا اكتشفت وجزر صاحب بدائع الزهور في وقائع الدهور لا أدري من أين أتى بها التي يقول: فيها سمكة من ذهب، مرة تخرج في البر ومرة تنزل في البحر، وقصور ما سمعنا بها وما رأيناها، وقصور معلقة ما بين الأرض والسماء، وكل هذا خزعبلات تلهي وقت طالب العلم.(123/21)
هديه عليه الصلاة والسلام في لبس الخاتم
السؤال
ما هو هديه صلى الله عليه وسلم في لبس الخاتم؟
الجواب
لبس صلى الله عليه وسلم الخاتم على الصحيح، في اليمنى واليسرى، صح عنه ذلك، والأولى كان صلى الله عليه وسلم في اليمنى، وكان في خاتمه نقش مكتوب عليه محمد رسول الله، عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي.(123/22)
قضاء صلاة الوتر
السؤال
متى يصلي من نام عن وتره، وهل يغني فيه القضاء، وهل هذا حديث صحيح: {من نام عن وتره فليصلِ منه ما ذكره أو ما منعه}؟
الجواب
الحديث الصحيح عند الخمسة: {فليصل متى ذكره} وعند مسلم في الصحيح عن عائشة: {كان صلى الله عليه وسلم إذا نام عن شيء من وتره صلى في النهار اثنتي عشرة ركعة} لأن وتره صلى الله عليه وسلم كان إحدى عشرة ركعة، ولا يجمع في يوم، لأن الوتر في اليوم صلاة المغرب كما يقول ابن تيمية، فيكون الوتر الذي في الليل إذا قضي في النهار شفعاً، فلو ترك وتر الليل وكان يوتر بثلاث صلى في النهار أربعاً، وإذا كان يصلي خمساً صلى في النهار ستاً ليكون شفعاً، هذا أقرب الأقوال.(123/23)
الحكم على حديث: (إن الله يحب الرجل المشعر)
السؤال
{ إن الله يحب الرجل المشعر}؟
الجواب
ليس بصحيح وليس بثابت.(123/24)
حكم اللقطة إذا لم يجد صاحبها
السؤال
وجدت ساعة يدوية في دورة المياه في السكن الجامعي، وعرفتها لفترة تجاوزت الأسبوع، وهي الآن عندي فماذا أفعل بها؟
الجواب
أرى إذا أيست من صاحبها، أن تبيعها وتتصدق بها على نية صاحبها، وأن تعطي قيمتها للمجاهدين، أو الفقراء والمساكين.
وفي الختام: أسأل الله لي ولكم الهداية وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(123/25)
شباب عادوا إلى الله
ما أروع قصص التائبين! وما أعظم أثرها لمن تدبرها وتأمل فيها! إن نفوسهم منكسرة حياءً من الله سبحانه وتعالى، وإن كلماتهم تسيل خشوعاً وإخباتاً إلى مولاهم، قد تعاظمت ذنوبهم أمام أعينهم فتصاغرت أعمالهم الصالحة، فكانوا مشمرين في الخير على الدوام.
ولا تظن أن هؤلاء لم يكونوا إلا في عصر السلف ثم انقضى زمنهم، فهاهم أولاء أمام عينيك من السابقين ومن تبعهم بإحسان من أهل زماننا وعصرنا.(124/1)
أهمية التوبة وذم المجاهرة بالمعاصي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم باليمن والمسرات، وجعلنا وإياكم من التائبين إلى الله، المنيبين إليه، الذين قال فيهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
محاضرة هذه الليلة بعنوان: (شباب عادوا إلى الله) شباب تمردوا عن الله وابتعدوا عن الله عز وجل، وتركوا المساجد وهجروا القرآن، وعقوا الوالدين، وقطعوا الرحم، وأعرضوا عن الذكر، وتناولوا المخدرات، وفعلوا المعاصي في الظلمات، وأغضبوا رب الأرض والسماوات، ثم أدركتهم عناية رب البريات، فعادوا إلى الله قصص والقصص محبب وهو منهج رباني، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111] وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] والقصص كما قال مجاهد: جند من جنود الله يرسله على من يشاء.
من هذه القصص ما هي مثبتة في كتب أهل العلم بأسانيد صحيحة، ومنها ما سمعتها وأمليتها وكتبتها من إخوة طلبة علم ثقات حدثوني بها، وسوف يصدر كتاب عن قريب بعنوان: شباب عادوا إلى الله، يذكر قصصاً عجيبة وأخباراً غريبة لمعاصرين من شبابنا عادوا إلى الواحد الأحد.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} [الأحقاف:15] وهنا يتحدث سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن شاب من الشباب عصى وتجبر وتمرد؛ فلما بلغ أربعين تذكر رقابة الله والعرض بين يدي الله وحساب الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * ِ إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] فعاد إلى الله.
ذكر أهل العلم بأسانيد مقبولة، وممن صحح هذا السند الأرنؤوط في كتاب التوابين: أن رجلاً من الصالحين اسمه ذو الكفل غير النبي عليه السلام، شاب عصى الله حتى بلغ من عصيانه أن خلا بامرأة بالفاحشة الكبرى، امرأة أجنبية والإنسان قد ينحط ويصل إلى درجة البهيمية، ينحط عن رقابة الله عز وجل وينسى الله ورقابة الله، حتى إن بعضهم يقدر الناس ومرأى الناس ونظر الناس أعظم من نظر رب الناس، فأتى هذا الرجل فخلا بالمرأة وكانت فقيرة محتاجة أعطاها ألف دينار، فلما قرب منها وجدها تبكي، قال: مالك؟ قالت: أبكي لأنني ما فعلت هذه الفعلة إلا لحاجتي لهذا المال فاتق الله؛ فدمعت عيناه، وقال: أتوب إلى الله، فجاء في النهار التالي وإذا على بابه مكتوب: لقد تاب الله على ذي الكفل، وهو من بني إسرائيل، وكانت توبة بني إسرائيل تكتب عليهم، وكانت ذنوبهم تكتب على جباههم، إذا أذنب الرجل ذنباً خرج في النهار الثاني وإذا على جبهته أذنبت، شربت الخمر، تناولت مخدرات، زنيت يا فلان، هذا من ذنوب بني إسرائيل ومن أخبارهم وأعمالهم، أما نحن فالحمد لله قد سترنا الله، يذنب الواحد منا تحت ستار الليل وفي جنح الظلام وبين الحيطان ووراء الجدران، وقد اطلع عليه الواحد الديان، وكشف ذنبه الرحمن، فيستره! فإذا ستر نفسه وتاب يقرره الله يوم العرض الأكبر، يقول له: يا فلان! أما فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى يارب، قال: أما فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى يا رب، قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم.
إلا المجاهرين، والمجاهرون هؤلاء الذين يمسون في ذنوب وخطايا ويصبحون وقد سترهم الله، فيأتي الرجل إلى أخيه وجاره وصاحبه فيحدثه كما يفعل كثير من الشباب، وقد سمعنا بآذاننا مثل هذا الفعل، الإنسان إذا تكبر وتجبر يبلغ به عدم الإحساس والبرود إلى درجة الحمار، حتى يقول: في زمن كذا وكذا فعلت بفتاة اسمها كذا.(124/2)
شعراء الحداثة ومجاهرتهم بالمعاصي
بل بعض الأدباء من شعراء الحداثة أبناء وفروخ العلمانية والشيوعية والماسونية يلقون قصائدهم أمام الناس ويقول أحدهم: هذه فتاة في البرازيل فعلت بها وفعلت ويلك من الله يا عدو الله! هذه شهادة يشهد عليك كل من حضر هذا الحفل.
وشاعر موجود له قصائد مشهورة يقول: أنا كانت لي صديقة في أمريكا الجنوبية، وقلت فيها هذه القصيدة، ما معنى صديقة؟! معناه: أنك اتخذت مسافحة وأنك سافحت، ومعناه: أنك تعديت حدود الله وارتكبت فاحشةً كبرى، وأشهدت الألوف المؤلفة عليك، فكل من يسمع هذه المحاضرة والشريط سيشهدون عليك يوم القيامة: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
فتجد بعض الناس يخبر بمعاصيه فهذا لا يغفر الله له، المجاهر الذي يخبر الناس لا يغفر الله له، أي: أنه بلغ به الحال أنه ليس لله رقابة عنده ولا حساب ولا خوف ولا خشية ولا مراقبة، فجزاؤه النكال ألا يقبل الله له توبةً ولا يزكيه ولا ينظر إليه وله عذاب أليم.(124/3)
قصص بعض السلف التائبين
ومن الشباب الذين تابوا وسوف أذكر بعض قصص العصريين الذين يعيشون الآن على قيد الحياة.
والآن أذكر بعض النماذج من سير الصحابة الأخيار.(124/4)
ممن تاب: الإمام الشافعي
فهذا الإمام الكبير الشافعي الذي نسأل الله له القبول بسبب إخلاصه، يقول: يا ليت أن الناس يستفيدون من علمي وأني في شعب من شعاب مكة لا يعرفني الناس، وبلغ من خشيته وتواضعه وخلقه أن قال: والله ما جادلت أحداً من المسلمين إلا وددت أن ينتصر وأن يغلبني -أكون أنا المغلوب- وكان يأخذ المصحف ويبكي من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، حضرته سكرات الموت وكان شاعراً مجيداً فقال:
فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا ربي لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
ثم فاضت روحه.(124/5)
الفضيل بن عياض وتوبته
وهذا الفضيل بن عياض أحد الصالحين الكبار كان يسرق ويعطل القوافل في الليل، يأخذ فأساً وسكيناً ويتعرض للقافلة فيعطلها، كان شجاعاً قوي البنية، وكان الناس يتواصون في الطريق إياكم والفضيل إياكم والفضيل! والمرأة تأتي بطفلها في الليل تسكته وتقول له: اسكت وإلا أعطيتك للفضيل.
وقد سمعت قصةً من رجل تاب الله عليه لكن تحدث بأخبار الجاهلية، قال: كنت أسرق البقر -وهو شايب كبير أظنه في المائة- قال: فنزلنا في تهامة، فأتت امرأة ودعت على بقرتها وقالت: الله يسلط عليك فلاناً، وهو صاحب القصة، قال: فلما حلبت البقرة أخذت البقرة برباطها وطلعت الحجاز، أي: وقعت الدعوة مكانها، فيشتهر -والعياذ بالله- بعض الناس حتى يصبح يضرب به المثل، فالمرأة كانت تقول للولد: اسكت وإلا أخذك الفضيل.
أتى الفضيل بن عياض فطلع سلماً على جدار يريد أن يسرق صاحب البيت، فأطل ونظر إلى صاحب البيت فإذا هو شيخ كبير، وعنده مصحف، ففتحه واستقبل القبلة على سراج صغير عنده ويقرأ في القرآن ويبكي -انظر الفرق بين الحياتين: هذا يقطع السبل، لا صلاة ولا صيام ولا عبادة ولا ذكر ولا إقبال، وهذا يتلو آيات الله {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد:19] وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9] جلس الفضيل ووضع يده على السقف وظل ينظر إلى ذلك الرجل العجوز الذي يقرأ القرآن ويبكي، وعنده بنت تصلح له العشاء، وأراد أن يسرقه وهو بإمكانه؛ لأن ذلك الرجل قوي، وهذا الشيخ لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، فمر الشيخ بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] فنظر الفضيل إلى السماء وقال: يا رب! أني أتوب إليك من هذه الليلة، ثم نزل فاغتسل ولبس ثيابه وذهب إلى المسجد يبكي حتى الصباح، فتاب الله عليه، فجعله إمام الحرمين في العبادة، هذا السارق أولاً أصبح إمام الحرمين الحرم المكي، والحرم المدني، حتى يقول له عبد الله بن المبارك في قصيدته:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب(124/6)
توبة عبد الله بن المبارك
وسبب القصيدة أن عبد الله بن المبارك أحد الزهاد العباد العلماء الكبار الذين يخشون الله كذلك هو في شبابه ما كان بذاك، ولكنه سمع قارئاً يقول: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] ثم ذهب فتعلم العلم حتى رفعه الله بالتقوى.
قصة تسبق قصة -ولا بأس في الاستطرادات- يقول أحد تلاميذ عبد الله بن المبارك: قلت في نفسي: ما أدري ما الذي رفع ابن المبارك علينا؟ يصلي كما نصلي، ويصوم كما نصوم، ويقوم الليل كما نقوم الليل، فما أدري ما السبب؟ قال: حتى سافرنا ونزلنا في حجرة في غرفة في الطريق؛ فانطفأ علينا السراج، فذهبنا فالتمسنا سراجاً، فأتينا بالسراج فأشعلناه فإذا دموع عبد الله بن المبارك تقطر من شعر لحيته، فقلت: بهذا رفع، لعله تذكر القبر وظلمته.
هذا الرجل كان مع الفضيل، وكانوا أصدقاء وأصحاباً في الحرم، فلما سمع ابن المبارك داعي الجهاد والقتال في سبيل الله في الجبهات أخذ بغلته وسيفه وترك الحرم، كان يدرس ألوف الطلاب، فأخذ تلاميذه يمسكون بالبغلة ويقولون: يا أبا عبد الرحمن! تتركنا وتذهب؟ قال:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
وذهب إلى الجبهة يقاتل في سبيل الله.
يقول أحد أصحابه: لما خرجنا إلى الجبهة خرج علينا فارس وهو ملثم من صف المسلمين لا يرى إلا عيناه - عبد الله بن المبارك كان شجاعاً وقوي الجسم، وأمه تركية كان يهد الجدار، ومع ذلك دموعه تتخذ في خديه خطين أسودين من كثرة خشية الله، زاهد، عابد، تاجر، علاَّمة، محدث، أمير المؤمنين في الحديث- قال: فتلثم فخرج في الصباح وقتل سبعة، فذهبنا وراءه وأتينا إلى الخيمة فوجدناه عبد الله بن المبارك، فلما أتى في الليل نظر إلى فرشنا وظن أنا نمنا وبعضنا ما نام، فقام فتوضأ في ليلة شاتية باردة وأخذ يقرأ سورة التكاثر ويبكي حتى صلاة الفجر، وفي أثناء المعركة كتب له الفضيل بن عياض رسالة يقول له فيها: تركت الحرم الذي الصلاة فيه تعادل مائة ألف صلاة فيما سواه! تركت التلاميذ! تركت الدروس! فرد عليه بقصيدة يقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
فلما قرأها الفضيل بلها بالدموع هذا الفضيل تاب وأصبح من العباد الكبار وأصبح عابد الحرمين، زاره الخليفة العباسي هارون الرشيد، وكان رجلاً صالحاً رحمه الله، زار الحرم حاجاً، فقال لأحد وزرائه الفضل بن سهل أو الربيع بن سهل، قال: يا فلان! ابحث لي عن عالم يعظني هذه الليلة، فذهب إلى سفيان بن عيينة فطرق على سفيان وقال له: أمير المؤمنين هارون الرشيد في الباب يريدك.
قال: ليت أمير المؤمنين جلس وكنا أتينا إليه، فأتى فحدثه فأعطاه مالاً، فقال هارون لوزيره: ما شفيتني ابحث لي عن آخر، فذهب إلى الفضيل: فطرق عليه الباب، وإذا الفضيل يبكي في الليل ويناجي الواحد الأحد، فقال الفضيل: من طرق علينا هذه الليلة؟ قال: أمير المؤمنين هارون الرشيد يريدك، قال: مالنا ولـ هارون الرشيد أمير المؤمنين، أما يكفيه ذنوب الأمة، ذنوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم يسألونه يوم القيامة حتى يدخلنا معه في هذا الذنب، قال: يريدك وطاعته عليك واجبة، قال: ماذا يريد مني؟ يقطعني عن صلاتي وعن عبادتي، قال: يريدك، قال: إن كان يريدني فليأت، فذهب إلى هارون الرشيد وقال: إن كنت تريده فتعال.
قال: فقمنا، فطرقنا الباب، ففتح لنا وهو يبكي من آثار صلاة الليل، قال: ولما دخلنا وإذا بسراجه في طرف البيت فقام الفضيل إلى السراج فأطفأه فأصبحنا في الظلام، قال هارون الرشيد: مالك أطفأت السراج؟ قال: هذا أهون من ظلمة القبر يا هارون الرشيد.
قال: عظني وانصحني، قال: يا هارون! إنك جميل الوجه وصبيح المنظر، فالله الله فلا تخيب وجهك ولا تسيئه بنار جهنم؛ فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، قال: زدني-كان هارون الرشيد رجلاً صالحاً من بني العباس- قال: زدني، قال: يا هارون! يوم القيامة يسأل كل واحد عن نفسه، وأنت تجمع أمة محمد من في عصرك في صعيد واحد فيسألك الله عنهم؛ فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، قال: يا فضيل! تريد منا شيئاً، قال: والله ما أريد منك شيئاً، أريد أن تنقذ نفسك من النار، فخرج الخليفة ثم أخذ يمسح دموعه، وأخذ يقول لوزيره: إذا دللتنا على رجل فدلنا على مثل هذا.
هذا هو الفضيل، وقد رزقه الله بابن اسمه علي، تكلم عنه ابن تيمية في الفتاوى وترجم له، يقول ابن تيمية: ثبت أن بعض الناس مات من القرآن سمع القرآن فمات مثل علي بن الفضيل بن عياض، كان فيه خشية الله أعلم بها حتى كان أبوه يصلي بالناس فينظر هل ابنه وراءه في الصف، فإذا كان وراءه يقرأ من الآيات التي فيها رجاء وفيها قصص وما يقرأ من آيات الخوف، وفي يوم من الأيام قام الفضيل لصلاة الفجر وظن أن ابنه ليس معهم، فقرأ من الصافات، حتى بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا َتَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمْ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24 - 26] قال: فأغمي على ابنه وسقط فحملوه فإذا هو ميت، وقد أوردها الذهبي وابن تيمية وأسانيدها صحيحة، وهو ممن صعق بالقرآن، فلما أخبر الفضيل بموت ابنه بالقرآن ضحك، وقال: الحمد لله، وسئل ابن تيمية: كيف يضحك الفضيل والرسول صلى الله عليه وسلم بكى على موت إبراهيم وقال: {إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون}؟
فقال ابن تيمية: الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل حالاً؛ لأنه جمع بين الرضا والرحمة في آن واحد، والفضيل ما استطاع أن يجمع بينهما فأخذ الرضا وما أتى بالرحمة، وصدق ابن تيمية رحمه الله، وهذا هو العلم والذكاء المطلوب، فقال: حال الرسول أكمل.
فهذا أحد الناس الذين توجهوا إلى الله عز وجل، وعرفوا طريقه فأنقذهم الواحد الأحد.
والذي يُطْلَب منا أن نصدق مع الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(124/7)
توبة إبراهيم بن أدهم
بشر الحافي سيد الزهاد، كان عندهم ندماء يدور عليهم الكأس بعد صلاة العشاء، لا يعرفون عشاءً ولا فجراً، ليالي بعض الناس مثل ليالي الحمير، لا يدري في أي وقت هو، في العشاء أم في الفجر، أم في الأذان، أم في التراويح وقراءة القرآن، أم في الصلاة، تائه عياذاً بالله، قال تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
من أين يأتي النور إلا من عند الواحد الأحد، فأتى هذا الرجل فنزل إلى السوق -وهو أمير معه حاشية وجند، ولكن بعض الأمور وبعض الأعمال ترفع صاحبها عند الله- فوجد في السوق ورقة مكتوب فيها (الله) يدوسها الناس بالأقدام لا يدرون عنها، فقال: سبحان الله! اسم الحبيب يداس بالأقدام، والله لأرفعنه! فأخذ هذه الورقة وغسلها وطيبها بالطيب ورفعها في بيته، ولما أمسى في الليل سمع قائلاً يقول: يا من رفع اسم الله! والله ليرفعن الله اسمك، وأتى في اليوم الثاني وإذا قلبه متغير، رأى حياة الجهالة والضلالة، فأصبح عابد أهل بغداد، فرفعه الله، فلا تجد ترجمة في أي كتاب من كتب السلف وتراجمهم إلا تجد بشر الحافي رحمه الله رحمة واسعة، وهذا من الطراز العظيم، رفعه الله بصدقه وعودته إليه فتبارك الله أحسن الخالقين، وتبارك الله الذي يقبل التائبين، وتبارك الله الذي بتوب على المنيبين، فنسأله أن يتوب علينا وعليكم، وأن يجعلنا من المقبولين، فإن المحروم صراحة من حرم الثواب والعودة إلى الله.
يقول أبو الفتح البستي:
زيادة المرء في دنياه نقصان وربحه غير محض الخير خسران
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
من يتق الله يحمد في عواقبه ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
من استعاذ بغير الله في حدثٍ فإنما ناصره عجز وخذلان
في قصيدة طويلة يقول في آخرها:
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
دار أخربها الله تعمرها أنت! ودار أبغضها الله تحبها! ولو صرف الواحد منا عُشْر ما يصرف لدنياه لدينه لصلحت أمورنا، تجد بعض الناس مهدماً من كل جهة الصلاة مهدومة، قراءة القرآن والصدق والوفاء والأمانة والأكل الحلال والاستقامة والإخلاص، كل شيء مهدم، لكن دنياه معمورة، لو انكسرت حنفية لأقام الدنيا وأقعدها، سيارته عامرة، بيته عامر، ولكن يقول:
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن سرور المال أحزان(124/8)
توبة عمر بن الخطاب
ومن سادات التائبين والعائدين إلى الله عمر بن الخطاب، سلام على عمر، وبيض الله وجه عمر، نشهد الله عز وجل أننا نتقرب بحبه رضي الله عنه وأرضاه، مثلما يفعل ابن تيمية إذا ذكر عمر قال: رحم الله تلك العظام، حصن من حصون هذا الدين، إنسان وقف سداً منيعاً في وجه كل مبتدع وملحد وزنديق حتى خافته الشياطين، فإن الشيطان العفريت يأتي من طريق وعمر من طريق.
يقول حافظ إبراهيم في عمر:
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
لما اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
يقول ابن كثير في البداية: قال أنس: [[رأيت عمر بن الخطاب أخذ عصا ثم مال وراء جدار من جدار الأنصار، ثم أخذ يضرب أرجله ويبكي ويقول: يا عمر اتق الله، والله إن لم تتق الله ليعذبنك الله عذاباً ما عذبه أحداً من الناس]] يضرب نفسه بالعصا، أي قلب هذا القلب الكبير رضي الله عنه وأرضاه؟!
أول عودة له أخذ السيف يريد أن يقتل الرسول عليه الصلاة والسلام كما يقول بعض المفكرين والأدباء العصريين يريد أن يقترف أعظم جريمة في تاريخ الإنسان، فلما ذهب رضي الله عنه وأرضاه لقيه رجل فقال: إلى أين؟ قال: أريد أن أذهب إلى محمد أقتله، قال: هون عليك، أختك أسلمت وهي تقرأ القرآن عند صهرك.
فعاد مغضباً يكاد يهشم الجدران والسيف معه، وأنصت عند البيت وأخته ترفع صوتها مع زوجها؛ فأدخله هذا الموقف الإيمان، وهي تقرأ قوله: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:1 - 5].
كلمات ما أظن أن الإنسان يقف إن كان في قلبه ذرة من الإيمان ويسمعها إلا ويهتدي ويزداد هدىً ونوراً، إلا إنسان أغلق الله قلبه وأغفل عليه.
فدخل ولكنه ما سمع الآيات كما ينبغي؛ فلطم أخته وضرب زوجها، وهم لا يقفون له أبداً حتى أدماهم ثم جلس، وقال: أريد أن أقرأ الصحف، قالت أخته: أنت نجس وهذا القرآن طاهر، قالت: اذهب واغتسل، فاغتسل وأخذ الصحف يقرؤها، فقرأ سورة طه وهو عربي يعرف من أنزل هذا القرآن، قال تعالى: {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر:28] وقال: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] فقرأ ولما وصل إلى قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] انهد باكياً، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ووضع يده في يده وأعلن إسلامه، وشهد أن لا إله إلا الله، وأعلن النصر معه إلى آخر قطرة من دمه، وبالفعل كان تاريخاً حافلاً، وأنا أوصي إخوتي في الله أن يقرؤا سيرة عمر بكثافة، وأن يقرءوا عجائبه وزهده وعبادته، فإن قراءة قصص هؤلاء العظماء في الإسلام تزيد الإنسان بصيرة في الدين، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].(124/9)
توبة الطفيل بن عمرو الدوسي
أتى الطفيل بن عمرو الدوسي إلى مكة، وكان شاعراً مجيداً، سمع بالرسول صلى الله عليه وسلم، فدخل الحرم وشياطين الإنس عند أبواب الحرم؛ لأن للجن شياطين وللإنس شياطين -يقول أحد الصالحين: شيطان الجن تستعيذ منه فلا يأتيك، لكن شيطان الإنس يطرق عليك الجرس وتفتح الباب وتدخله، وتجلسه على الفراش وتصب له قهوة ويؤذيك في دارك، ولذلك أمرنا بالاستعاذة من شيطان الجن والإنس- أتت قريش فوزعوا بعض الشياطين من الإنس وقالوا: إذا أتى رجل من العرب فصدوه عن محمد، فأتى الطفيل الدوسي وهو زهراني من بلاد زهران، فوصل إلى الحرم ونزل من على ناقته وتلقوه عند الباب من أين؟ قال: من دوس، ماذا تريد؟ قال: الذي يدعي هنا أنه نبي، قالوا: إنه شاعر، ساحر، كاهن، إياك! لا تقرب منه، فما زالوا يلقون عليه محاضراتٍ وخطباً حتى أخذ القطن من راحلته فوضعها في أذنه -انظر إلى التخويف والإشاعات الباطلة، والاغراضات والحرب المعنوية الباردة- فنزل فأتى الحرم، فقال: كنت أنظر إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا أسمع كلامه، لأنه مسدود الأذنين، لكن إذا أراد الله بشيء خيراً تممه، قال: أنظر إليه وأسمعه يتمتم لكن ما أدري ماذا يقول، ثم عدت إلى نفسي وقلت: عجباً أنا شاعر من شعراء العرب -وهو صحيح من شعراء العرب- وأنا أعرف جزل الكلام من هزله، وأعرف فصيحه من رثه، فلماذا لا أنزع القطن وأسمع؛ فإن أعجبني شيء وإلا تركت -أراد الله أن يهديه- فنزع القطن، وهذه بداية الاستجابة، واقترب من الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم يتلو آيات، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:38 - 47] فقام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
يقول سيد قطب: القرآن يأتي على القلب حتى يطوقه من جميع النوافذ فما يستطيع القلب أن يفر.
ويروي سيد قطب قصة في أول هدايته، وسيد قطب درس في كلورادو في مدينة دنفر، وكان معجباً بالغربيين، وقرأ ثقافاتهم، ووصل إلى مصر بعدما كان مثقفاً متطوراً غربياً، وهذه القصة ذكرها في تفسير سورة النجم في المجلد السادس، قال: كنا أنا ورفقة لي في القاهرة بعد صلاة العشاء وعندنا راديو، ففتحنا الراديو نستمع إلى الأخبار -أول الهداية من الله عز وجل قد تكون بمقالة، بمحاضرة، بنظرة، ببكاء، بجنازة، بصوت من راديو، بمشهد تقرؤه أو تطالعه- قال: فاستمعنا إلى صوت الراديو ومعي الزملاء، فارتفع صوت راديو الجيران، فإذا مقرئ حسن الصوت يقرأ سورة النجم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1 - 5] قال: فأما أنا فسافرت بقلبي في رحلة مع الرسول عليه الصلاة والسلام -الرجل أديب يكتب بقلمه ما لا يستطيع الإنسان أن يرسمه بيده، قلمه سحر حلال- قال: فسافرت مع الرسول عليه الصلاة والسلام في رحلة الإسراء والمعراج، وتركت جثماني مع زملائي- بعض المقرئين يهزك حتى يذكرك بقيام الساعة- قال: حتى وصل إلى قوله تعالى: {أَزِفَتْ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} [النجم:57 - 59] قال: فانهديت باكياً حتى يقول في الظلال: -ولكم العودة إليه- قال: والله ما استطعت أن أتحكم في عضلاتي، أصبح يهتز كله، قال: وعلمت أن هذا القرآن يؤثر في القلوب مالا يؤثر فيها شيء آخر أبداً، ثم أعلن هدايته وتوبته وعاد إلى الله، فأصبح قلماً من أقلام الحق، وأصبح شهيداً من شهداء الإسلام إن شاء الله، وهنا قصيدة قيلت فيه، وسبب هذه القصيدة أنه لما أتى يشنق في المشنقة ضحك، فقال له الجلادون: لماذا تضحك؟ قال: أضحك من حلم الله على هؤلاء ومن تجرئهم على الله، فيقول أحد شعراء مصر:
يا شهيداً رفع الله به جبهة الحق على طول المدى
سوف تبقى في الحنايا علماً قائداً للجيل رمزاً للفدا
ما بكينا أنت قد علمتنا بسمة المؤمن في وجه الردى
يقال له في آخر الأيام: اكتب اعتذاراً إلى أحد الطغاة أنك تنازلت عن مبادئك لعله يعفو عنك، قال: والله لا تكتب يدي حرفاً له، إن كنت قتلت بالباطل فأنا أكبر من أن استرحم الباطل، وإن كنت أقتل بحق فأنا أصغر من أن أعترض على الحق، فقتل {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169 - 170].
الطفيل أعلن إسلامه، وعاد إلى دوس فدعاهم إلى الله فأعرضوا، فأتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: ادع على دوس سبحان الله! لو كان الواحد منا أتى ببعض الجزئيات التي وقعت للرسول صلى الله عليه وسلم لدعا على الناس جميعاً، تصور أن رجلاً يحدث جماعة في مسجد ويختصم معهم فيدعو عليهم، أو يمنعونه من الكلمة، أو يحرمونه من شيء فيجعلهم أعداءً ألداء، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يضرب ويرمى ويخرج من دياره، وتضرب بناته، ويؤخذ ماله ويباع عقاره، ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} حتى يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى له من فوق سبع سماوات: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ما هذا التحمل والصبر والحكمة والحلم والأناة؟! يقول سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ويقول له عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
دعاهم الطفيل وهو من تلاميذ الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعرضوا عنه فقال: {يا رسول الله! ادع على دوس، فشا فيهم الزنا وأكلوا الربا، فرفع يديه واستقبل القبلة، فقال الطفيل: هلكت دوس فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم أهد دوساً وأت بهم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: اذهب إليهم، قال: اجعل لي علامة -أي: بينة وكرامة من الكرامات يصدقونه- قال: اللهم اجعل له علامة -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- فأتى نور في جبينه يضيء في الليل مسافات، قال: يا رسول الله! أخشى أن يقولوا: هذه مُثْلَة، فدعا صلى الله عليه وسلم أن تتحول، فتحولت إلى العصا} فكان يقول بالسوط هكذا على جبال زهران فتضيء كلها بنور الواحد الأحد، دخل عليهم فأسلموا جميعاً ودخلوا في دين الله أفواجاً.
فهم المصلحون ببركات ذاك الذي في مكة:
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
صلى الله عليه وسلم.(124/10)
قصص بعض التائبين المعاصرين(124/11)
قصة شاب اهتدى
هذا نموذج ممن اهتدوا، أما هذا الشاب الذي اهتدى فقصته معروفة، وقد سمعتها سماعاً من ثقات، وهي مكتوبة وقد دونتها وجمعت عناصرها، هذا الرجل كان قبل أن يتزوج مسرفاً على نفسه في الخطايا والذنوب، أسرته ثرية عندهم مال، كان يأخذ الأموال من والده والشيكات ويذهب إلى أوروبا، ويذهب إلى أمريكا وإلى فرنسا، فيعصي الله عز وجل، ويتحمل من الذنوب والخطايا مثل الجبال؛ لأن بعض الناس سمع من بعض الشباب ووعظهم بعض الدعاة في أمريكا وفرنسا فقالوا: الله في السعودية، جل الله وتبارك الله وتقدس {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219] وقال أيضاً: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] وقال عز وجل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] بلى.
فذهب هذا الرجل فكان يفعل الأفاعيل: زنا وخمر وشرود عن منهج الله، أما الصلاة فتركها من زمان وهو في بلاده هنا، وفي الأخير كانت أمه امرأة صالحة، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، كانت تدعو له وحاولت وصبرت، وفي الأخير كانت تدعو أن يقبض الله روحه؛ لأنها ملت من هذه الحياة، ذهب وعاد كأنه رجل من الخواجات، لا يتكلم إلا في أوروبا، ولا يرى شيئاً من هذه التقاليد، ويرى أننا في تخلف، وأن ديننا رجعية -والعياذ بالله- ويحدث عن أمورهم وعن عجائبهم، وفي لحظة من اللحظات أراد أهله أن يزوجوه، فوافق وتزوج امرأة لكنها صالحة، تقوم الليل وتصوم النهار، وتحفظ كثيراً من القرآن، فتاة قدوة في السلوك والأخلاق رضية الأفعال، وكانت مؤمنة، فأحبها لجمالها، وللأمور أسباب ومداخل، فلما رأته ما صلى تلك الليلة قالت: يا فلان! والله ما جمعني بك دنيا ولا مال ولا جاه، إنما أردت أن يهديك الله على يدي، فإن كنت تريدني امرأة عندك فاعلم أنك لن تنال هذا إلا بالدين والخشية من الله والصلاة، قال: ليس غير هذا الكلام؟ قالت: سمعت هذا الكلام، فصلى أول الليل مجاملة، وقام وصلى الفجر، وفي اليوم الثاني أعطته حقنة من الدعوة إلى الله، وكانت تدعوه على الطعام وبعد الطعام وعلى الشاي وبعد الشاي وتقود قلبه إلى الله، وتحدثه بالقصص عن الصالحين التي سمعت، وفي الأخير اهتدى وحافظ على الصلوات الخمس في المسجد، وقاطع الخمر ثم ترقى به الحال إلى أن أخذ السنن، ثم ترقى به الحال حتى أصبح من الدعاة المؤثرين في غيرهم، فانظر إلى هذه الفتاة المؤمنة التي نسأل الله أن يرفع منزلتها في الآخرة، وأن يجعلها من العابدات الصالحات، وأن يثبتنا وإياه {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} يقول تعالى: {ذلك فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].(124/12)
توبة محمود شيت خطاب
مفاتيح القلوب يعطيها الله من يشاء، بعضهم عندهم مفاتيح الخزائن لكن لا يستطيع أن يفتح قلباً واحداً، والبعض الآخر يجلس بكلمة فيفتح الله به قلوباً محمود شيت خطاب اللواء الركن العراقي، كان في الجيش العراقي، وهو مؤلف عنده عشرة كتب في العسكرية الإسلامية، مسلم داعية كبير، كان مع الجيش يعربدون ويفجرون ويفسقون ولا تسأل عن ليلهم ونهارهم، ما يعرفون الصلاة بل كانوا يستهزئون بها.
الجيوش العربية حين أن دخلوا فلسطين قيل لأحد القادات وهم يقاتلون إسرائيل: نصلي؟ قال: إذا رجعنا بلادنا صلينا، فنزلت عليهم إسرائيل نزول من لا يخاف ولا يرحم، فترك جزمته في إسرائيل وهرب إلى بلاده، هذا هو الجزاء، قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16].
فأتى هذا اللواء الركن يقول: كنت جالساً في ثكنة عسكرية في العراق، وكنا في الليل مع قادات -هو لواء ركن- قال: فمر بنا داعية من الدعاة المسلمين -أراد الله أن يفتح قلبه- قال: فأتى ونحن في ليلةٍ حمراء، مع كل قائد كأس خمر، ويلعبون من البلوت واللعبات التي لا يلعبها إلا الغافلون دائماً، فقال لهم هذا الداعية كلمة واحدة، ما ألقى محاضرة ولا خطبة، قال: أما تخشون الرقيب؟!
فقال اللواء خطاب: وأين الرقيب؛ وما عندنا إلا الكواكب، ما هنا إلا النجوم؟ قال: وأين مكوكب الكواكب؟ قال: ثم تركنا وذهب، لكن دخلت كلمته إلى قرار قلبي، أحسست بحرارتها تلك اللحظة؛ لأن الإنسان مفطور على الخير وعلى الإيمان: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] كل حيوان وكل مخلوق وكل كائن يعرف أن هناك إلهاً.
مر عيسى عليه السلام -والقصة صحيحة إلى عيسى ثبتت عنه- مر عيسى عليه السلام ببقرة قد اعترض ولدها في بطنها في ساعة الولادة، وإذا البقرة تنظر إلى السماء وتدمع عيناها؛ لأنها تعلم أن الحي القيوم مفرج الكربات في السماء {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] ثم تكلمت وأنطقها الله الذي أنطق كل شيء فقالت: يا روح الله! أسألك بالله أن تدعو لي، فبكى عليه السلام وقال: اللهم سهل لها، فأنزل ولدها في تلك الفترة نعم.
كل شيء يعلم أن هناك إلهاً مدبراً، سبحان الخالق الأحد!
قال: فذهبنا تلك الليلة وبقيت أقول كلما قمت من نومي: أين مكوكب الكواكب؟
آتي أنام فما أستطيع أن أنام وأقول: أين مكوكب الكواكب؟
أخرج في الليل وأنظر إلى الكواكب وأقول: أين مكوكب الكواكب؟
وفي الأخير أعلن توبته وانصدع باكياً في ليلة من الليالي، فأتى وتاب من حياة الجهل والخرافة والظلام، وجدد إيمانه وطريقه وأصبح من دعاة الإسلام، وهو الذي سد مساحة العسكرية الإسلامية في كتبه، نسأل الله أن يجزيه عن الإسلام خير الجزاء يقول تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16] وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:24 - 27] فنسأل الله لنا ولكم الثبات والاستقامة حتى نلقاه.(124/13)
قصة شابين عادا إلى الله
ومما يؤثر في هذا الجانب شاب من الشباب هو في منطقة قريبة منا، يقول الذي روى لي القصة -وهو طالب علم في أصول الدين، ثقة وعدل- قال: هذا الشاب كان مشهوراً في قريته بالتمرد على آيات الله وأحكامه وعلى فرائضه وسننه، والعجيب أنه يروي القصة ويحلف عن نفسه أنه كان يلعب بالبلوت من بعد صلاة العشاء إلى بعد صلاة الظهر من اليوم الثاني، يجلس مع الزملاء من استمراء هذه الفعلة ومن ضياع الوقت وعدم الصلاة وعدم الإقبال على الله وعدم الشغل والدراسة، والنسب الموجودة في مجتمعاتنا الآن أن أكثر من يفشل في الأعمال والوظائف والمدارس هم الذين أعرضوا عن الله، وهذا معروف بنسب عالية، أعرضوا عن الله عز وجل ففشلوا في كل شيء، قال: فكان يجلس من بعد صلاة العشاء إلى بعد صلاة الظهر في اليوم الثاني يلعب بلوت، أما الصلاة فيقول: ما صلى ولا سجد لله سجدة، ولا شهد جمعة ولا عيداً ولا أي صلاة أبداً، ولا يعرف من القرآن شيئاً، ومعرض عن الله عز وجل، وأكره شيء إليه الدين.
وفي ليلة من اليالي أراد الله أن يهديه -ولله عز وجل حكم ولطائف- قال: نمت تلك الليلة وأتاني اختناق حتى أشرفت على الموت، وأحسست باليوم الآخر، انتهى الأمر وأنا في يقظة، استيقظت وإذا بمن يخنقني، وإذا بالخنق في رقبتي وفي عنقي، وأنا قد شعرت بالموت تماماً واستيقنت أني لقيت الله، وفي تلك الأثناء أتذكر قدومي على الله، ما عندي صلاة ولا ذكر ولا قرآن ولا توبة ولا صلاح، بماذا ألقى الله؟ وتذكر القبر وتذكر هذه الأمور؛ فعاهد الله وهو يختنق، كأن إنساناً يخنقه وهو لا يرى شيئاً لكن لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أسباب، قال: أعاهدك يا رب إن نجيتني أن أتوب إليك وأكون عبداً صالحاً، واستمر يعاهد الله حتى أخذ الله منه الميثاق ثم أفلته فاستيقظ، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، أتوب إلى الله، وقام فاغتسل وغير ملابسه وبدأ يصلي من تلك اللحظة قبل صلاة الفجر بساعات، وأخذ يصلي ويبكي حتى أتت صلاة الفجر، وسمع الأذان (الله أكبر) لكن ليس كالأذان كل يوم، اليوم له طعم، دخل الأذان إلى قلبه، فقام يجيب داعي الله ويذهب إلى المسجد، ورحب به المسجد في أول لقاء وبدأ يصلي، قال: أول صلاة صليتها كانت صلاة الفجر.
وأحد المفكرين له مفكرات كنت أطالعها فإذا فيها يقول: كنت في بيروت فركبت في سفينة فيها فتيات راكبات -أعوذ بالله-، قال: فانغمست بنا السفينة فكدنا نغرق، فأشرفت على الهلاك وأصبحت في غيبوبة، وكان في حالة اختناق، فرفع إصبعه وقال: أشهدك -يا رب- إذا أخرجتني أن أتوب، فأخرجه الله تعالى ليرى هل يتوب؟ فتاب الله عليه فأصبح مفكراً وداعيةً من دعاة الإسلام.
يقول عليه الصلاة والسلام: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} ويقول عليه الصلاة والسلام: {يقول الله عز وجل: يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم} ويقول عليه الصلاة والسلام: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم} وهذه الثلاثة الأحاديث عند مسلم في الصحيح، وعند الترمذي بسند صحيح، يقول عز وجل: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة} مع العمل الصالح، مع الإنابة والاستغفار والتوبة إلى الله الواحد الأحد.
الشاب الثاني: اهتدى، وهذا الأخ أصبح الآن يعمل أستاذاً في مدرسة وهو داعية لكنه قبل ذلك أعرض عن الله طويلاً، وترك أمور الإسلام حتى بلغ درجة الكفر، أصبح كافراً لأنه من ترك الصلاة فقد كفر، كافر لكنه موجود في مدن المسلمين، ويأكل مع أهله ويروح ويأتي في السيارة لكنه كافر مثل الكلب، قال: واستمر بي الحال وأتاني بعض الدعاة لكن ما نفع شيئاً؛ لأن هداية الله تأتي في أوقات، والله هو الذي يفتح القلوب، قال: وأتاني رجل حبيب ما أنسى جميله، فأخذ الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لـ ابن القيم -جزى الله ابن القيم خيراً، وجزى الله هذه الداعية خيراً، وجزى الله هذا التائب خيراً- قال: فأتى بـ الجواب الكافي، وقال: تفضل يا أخي هذا الكتاب، ببسمة، وبعض البسمات تشتري القلوب، يقول جرير بن عبد الله البجلي: ما رآني الرسول صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي، يشتري صلى الله عليه وسلم القلوب بالبسمات، السحر الحلال، قيل لأحد العلماء: ما هو السحر الحلال؟ قال: تبسمك في وجوه الرجال.
يقول سبحانه لرسوله عليه الصلاة والسلام: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] قال: فتبسم وأعطاني هذا الكتاب، فكان لهذه الهدية أعظم أثر في قلبي.
يا أيها الناس: الهدايا هي هذه الهدايا، الكتاب الإسلامي، الشريط الإسلامي، الموعظة، النصيحة، الخطب، التوجيه، الزيارة في الله، التأثير في الناس، أما هدايا الدنيا فقد امتلأت بيوتنا منها وما نفعتنا لا في الدنيا ولا في الآخرة، هدايا الأنعام والأقمشة والأحذية والأشربة والمشهيات: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور:40] إذا لم تكن لوجه الله فما تنفع قال: فأعطاني الكتاب فأخذته معي وذهبت وبدأت أقرؤه وبدأ الإيمان ينصب، كأن ابن القيم يحدد هذا الرجل المعرض، وبدأ يتأثر وما مر عليه إلا يوم وأعلن توبته، وأعلن أنه كان مخطئاً واعترف بالذنب أمام الله، وأشهد الله على الاستمرار في الطريق ومن الذي أقبل على الله فلم يقبله الله؟! هل رأيت إنساناً أقبل على الله فرده الله؟ هل رأيتم إنساناً فعل الأفاعيل ثم أقبل على الله وتاب فلم يقبله، سبحان الله! الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، أي: تبلغ نفسه حنجرته، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].(124/14)
توبة مالك بن الريب
وهذا مالك بن الريب الشاعر، ولا أعرف قصيدةً في الرثاء أجمل ولا أحسن ولا أجل من قصيدة مالك بن الريب، تبكي العيون، كتبتها لأقرأها وكأنه يقطع من قلبه، هذا الشاب خرج ضالاً معرضاً عن الهداية، لا يصلي ولا يسجد لله سجدة ولا يركع لله ركعة، خرج مع شباب إلى طريق العراق وخراسان، إذا أتت القافلة ترصد لها ثم قبض على أهل القافلة وأخذهم وذبحهم وأخذ القافلة، إذا مرت ظعينة أخذ الظعينة، إذا مر الرجل على دابة ذبح الرجل وأخذ الدابة، سارق وقاطع طريق، والله عز وجل مهما تمرد العبد فإنه فتح باب التوبة، وسبحان الله ما أحلم الله! تصور أن إنساناً يحمل في نفسه بعض الإساءات من الإنسان، لكن الله حليم، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42] لكن الله صاحب الحلم الواسع تبارك وتعالى، حتى مهما قتل الإنسان ومهما اعتدى ثم عاد قبله الله، فهذا كان يفتك في العباد فتكاً، وفي صباح يوم مشرق أرسل خيوط شمسه الذهبية على الكون ليكون يوم الميلاد لهذا الشاعر، ليكون يوم الهداية والرجوع والتوبة إلى الله، أتت القافلة وقائدها سعيد بن عثمان بن عفان ابن أمير المؤمنين، هؤلاء الشباب على سيماهم أنوار الهداية وعلى وجوههم إشراقات، شباب يريدون الجهاد رافعين سيوفهم وحاملين رماحهم يريدون القتال في سبيل الله، مروا بهذا الشاب فقالوا: يا فلان! من أنت؟ قال: أنا مالك بن الريب.
قالوا: ما أجلسك هنا؟ قال: لي أغراض -هم لا يدرون ما هي الأغراض- قال تعالى: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] قال: وأنتم إلى أين خرجتم؟ قالوا: خرجنا نقاتل في سبيل الله، قال: كيف تقاتلون في سبيل الله؟ قالوا: نقاتل، قال: وماذا جزاؤكم إذا قاتلتم في سبيل الله؟ يريد أن يعرف ما هي الثمرة من ذلك، قالوا: شرى الله أنفسنا بالجنة، قال: في ماذا؟ قالوا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّه ِ) [التوبة:111] قال: هذا كلام الله؟ قالوا: نعم هذا كلامه.
قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتوب إلى الله، ثم وضع يده في يد القائد وتاب إلى الله وذهب معهم وباع نفسه من الله، ولما عاد -وقد قاتل في المعركة- يريد أهله وفي الطريق لدغته حية، فورم جسمه وأخذ يرتعش من السم، فبكى من الفرح، وقال: الحمد لله الذي توفاني على توبة قبل أن يتوفاني على ضلال، وقبل سكرات الموت سجل قصيدةً من أجمل وأحسن القصائد! قصيدة الصدق والإنسان في سكرات الموت، قصيدة تصل إلى القلوب لمن يعي الأدب العربي يسمونها: مالك بن الريب يرثي نفسه، أو القصيد المبكية المحزنة، يقول من ضمن أبياتها:
دعاني الهوى من أهل أود وصحبتي بـ ذي الطبسين فالتفت ورائيا
يقول: أتاني الضلال وجنون الشباب والغرور وزملاء السوء ورفقة الضلالة والمجرمون -عصابات الإجرام- دعوني فأخذوني من بيت أهلي وذهبت إلى الطبسين وتركت أهلي في العراق لأفسق، قال: فوصلت إلى هناك
دعاني الهوى من أهل أود وصحبتي بـ ذي الطبسين فالتفت ورائي
فما راعني إلا سوابق عبرة تضعضعت منها أن ألوم ردائيا
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا
رحمك الله ورحم الله ابن عفان وأباه
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا
فلله دري يوم أترك طائعاً بني بأعلى الرقمتين وماليا
ما أحسن هذه الخاتمة الحسنة؛ يوم تركت أبنائي وأطفالي وزوجتي وأمي وأخواتي ومت في سبيل الله! لأن المقصد أن نلتقي في الجنة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].
يقول عبد الله بن أنيس: {أين ألقاك يا رسول الله غداً؟ قال: في الجنة إن شاء الله، قال: أعطني علامة، قال: خذ هذه العصا فتوكأ بها في الجنة} والمتوكئون بالعصي قليل فأخذها ودفنت معه.
أتى إعرابي وقال: {يا رسول الله! أين ألقاك يوم الزحام؟ -يقول: المسألة صعبة ما أدري كيف أهتدي لك؟ من أسأل عنك يوم الحشر يوم يجمع الله الأولين والآخرين؟ - فدمعت عينا الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: تلقاني عند ثلاثة مواقف:
إما عند الحوض- يوم يسقي الناس عليه الصلاة والسلام.
وإما عند تطاير الصحف فآخذ باليمين وآخذ باليسار.
وإما عند الصراط وهو يقول: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم} فناج مسلَّم ومكردس على وجهه في النار
واستشفع الناس بأهل العزم في راحة العباد منذ الموقف
وليس فيهم من رسول نالها حتى يقول المصطفى أنا لها
فيقول:
فلله دري يوم أترك طائعاً بني بأعلى الرقمتين وماليا
يقول: كل الدنيا تهون يوم ذقت الهداية، وذقت النور لا تساوي الدنيا شيئاً، قال:
ودع خليلي اللذين كلاهما علي شفيق ناصح لو نهانيا
يقول: وسلام على أبي وأمي وهما شيخان كبيران، فيقول: الحمد لله! أخبروهم أنني مت على هداية ونور، فلا يبكون علي، وإنما البكاء على من مات معرضاً، ثم قال لإخوانه:
ولا تحرماني بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
يقول: وسعا في القبر قليل، لا تحرماني من الأرض فقد أصبحت منزلي:
ولا تحرماني بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
خذاني فجراني ببردي إليكما فقد كان قبل اليوم صعب قياديا
يقول: الآن أصبحت ليناً ما عندي منعة ولا قوة -كما قال الوليد بن عبد الملك عندما كان خليفة، كان جباراً قوياً حتى يقول الذهبي: كان غشوماً ظلوماً، فلما أتته سكرات الموت أصبح كالحبل انقطع، فقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29].
قال:
خذاني فجراني ببردي إليكما فقد كان قبل اليوم صعب قياديا
قال: كنت شجاعاً لكن:
إذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
ثم يقول:
وأشقر خنذيذ يجر لجامه إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا
يقول: فرسي -والحقيقة هذا تصوير عجيب- يقول: حتى الفرس بعد قليل سوف يذهب إلى الماء وهو بلجامه ما ترك له الموت ساقيا
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا
العرب إذا دفنوا حبيبهم يقولون: لا أبعدك الله! يدفنونه في التراب ويقولون: لا أبعدك الله! فيرد عليهم بقوله:
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا
أحد الشعراء وهو التهامي دفن ابنه، ومن حبه لابنه بكى عليه في أعظم قصيدة في تاريخ الرثاء، أي: في رثاء الأبناء، وهذا في رثاء النفس، فقال من حبه له: والله لا أدفنه في المقابر إنما أدفنه هنا في بيتي، فحفر له عند منامه، فدفنه وقال: لا أبعدك عني، والله إن بعد ما بيني وبينك بعد ما بين المشرقين، والحي الذي في الأندلس أقرب منك، حتى يقول في قصيدته:
إني وترت بصارم ذي رونق أعددته لطلابة الأوتاري
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
يقول ابن القيم في ترجمة التهامي: رئي التهامي في المنام بعدما مات فقالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة.
قالوا: بماذا؟ قال: ببيتي الذي قلت فيه:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
يقول: تركتني في الحياة للحساد وللأعداء وللظلمة وللمنغصين وجاورت أنت الله، شتان بين جواري وجوارك
طول الحياة إذا مضى كقصيرها والعز للإنسان كالإعسار
أو كما قال فالمقصود أنه يقول:
لعمري لئن غالت خراسان هامتي لقد كنت عن باب خراسان نائيا
إلى أن يقول:
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا
وبالرمل لو يعلمن علمي نسوة بكين وفدين الطبيب المداويا
عجوزي وأختاي اللتان أصيبتا وباكية أخرى تهيج البواكيا
ذكر الأسرة والأحداث التي سوف تمر، ثم عد نفسه أنه مات -إن شاء الله- في سبيل الله، وقال: لا لوعة ولا فراق ولا خوف وأنا مقبل على الله، فلله الأمر من قبل ومن بعد، فالمخذول من خذل عن طريق الاستقامة، والمحروم من حرم هذا النور الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، والمقطوع حبله من لم يعرف طريق الجنة: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104] فنعوذ بالله من الخذلان.
وهذه -أيها الإخوة- دروس على طريق التوبة يشاهدها الإنسان صباح مساء، يشاهدها حين يذنب وحين يخطئ، ثم يتفكر أنه لا بد له من واحد أحد إله رحيم يتلجئ إليه.
وما نعلم أحداً من الناس إلا وهو مذنب؛ متكلم وسامع وصالح وعالم وداعية، يقول ابن عباس: [[تحترقون تحترقون ثم تصلون فيكشف ما بكم]] أي: من الذنوب والخطايا، وقال في أثر آخر: [[إنكم لا بد لكم من الذنوب، فأصبحوا تائبين وامسوا تائبين]].
أيها الإخوة في الله: علينا أن نجدد المسيرة والإقبال إلى الله، وعلينا أن نكون رسل خير وهداية، وأن نؤثر في الناس عل الله أن يهدي على أيدينا عباده الصالحين، فإن من اهتدى وعرف الطريق وأصاب ليس كالذي ظل وركب رأسه، نعوذ بالله من الخذلان! {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] يقول عز وجل عن هؤلاء: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23].(124/15)
شاب يعود من الشيوعية إلى الله
أحد الشباب ذهب إلى بلد من البلدان، فكسبه الشيوعيون الملاحدة، فأخذوه في الجلسات والروحات والجيئات والموسيقى وضيعوا شبابه، حتى إذا سُمع الأذان استهزءوا بالله عز وجل، يتناولون رب العزة من فوق سبع سماوات: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف:5] قال: فإذا قال المؤذن: أشهد أن محمداً رسول الله استهزءوا بالرسول عليه الصلاة والسلام، ساءت تلك الوجوه وقبحت وشاهت، قال: ولما وصلت إلى هذا المستوى، استيقظت الفطرة في قلبي وثار الإيمان في وجداني، الإنسان يصل إلى حد لكن عنده فطرة الإيمان {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] قال: فذهبت فقلت: الطريق يمكن أنه خطأ، قال: وسمعت بندوة في مسجد، فأتيت -وهذه هي فائدة الندوات، وأنا أعرف أن من الناس من هو أعلم من المتكلم، لكن رحمة الله تغشاه ورعايته والأجر والمثوبة عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لمن يحضر ويهتدي ويزداد إيماناً- قال: فحضرت إلى رجل تكلم في ندوة، فأسر قلبي وتحدث عن اليوم الآخر، قال: فبعت نفسي تلك الليلة، وعاد إلى الله يبكي من صلاة العشاء إلى الفجر وأعلن توبته، وبدأ يشتري الأشرطة والكتيبات، وبدأ يواصل طريقه ويدعو إلى الله على بصيرة، وهذا من هداية الله عز وجل التي يكسبها الناس صباح مساء.
بعض الناس شكوا إلي -وبعض الإخوة من الدعاة وطلبة العلم- أن أبناءهم تركوا الصلاة، وما صاموا رمضان، المجلة الخليعة عند رأسه، أشرطة الجنس والغناء والمسرحيات والمسلسلات عند رأسه فماذا أعمل؟ قلنا له: أدعه باللين، وابتهل إلى الواحد الأحد، فالمفاتيح عنده سبحانه {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] فأنت تيأس، والله سوف يهدي ابنك، ولعل الله أن ينفح عليه من النفحات {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193].
هذه المحاضرة بعنوان: شباب عادوا إلى الله، نسأل الله أن نكون من العائدين إليه.(124/16)
الأسئلة(124/17)
حكم العادة السرية
السؤال
إنني شاب أحب الله ورسوله وأعمل أحياناً بعض الأعمال منها: العادة السرية، وقد عزمت على الزواج رغم أنني لا أملك سوى ألفي ريال، هل تؤيدني على الفكرة لأني أخشى على نفسي العنت والتفكير الكثير في الأشياء الجنسية؛ مما يجعلني أقدم على ارتكاب المحرمات، رغم أنني أعرف حرمتها وأخاف من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينتقم مني؟
الجواب
يا أخي أما حبك لله ورسوله فهذه من أعظم أعمالك عند الله، ونسأل الله أن ينظر إليك بنظرة الرحمة وأن ينقذك من المعاصي والذنوب، وأما ماذكرت من العادة السرية فهي محرمة في القول الصحيح من أقوال أهل العلم، وأما قولك: إنك عازم على الزواج فإني أأيد هذه الفكرة، وبالمناسبة أقول هذا الكلام وقد قاله غيري من هو أعلم وأفضل وأفقه، وقد نادوا عبر وسائل الإعلام ومن المحاضرات والندوات والخطب، نادوا البيوت الإسلامية والمسلمين في مسألة تعجيل الزواج للفتيان وللشابات، وعدم مسك الفتيات في البيوت وعدم تأخير زواجهن أو زواج أبنائهم؛ فإن في ذلك الفساد العظيم والشناعة التي لم يأت بها كتاب ولا سنة وإنما أخذت من الأمم الكافرة، وأكثر ما وقع من الإجرام والفواحش التي تقع في بعض الأماكن بسبب كثرة العنوسة وتأخير الزواج، فالحسيب هو الله عز وجل.
أحد الدعاة الثقات يحدثنا قبل أيام، بل ألقى هذا الكلمة في مسجد في ثلاثة صفوف أو أربعة صفوف، قال: حصلت عندنا قصة في الحارة، بنت شابة حرمها أبوها من الزواج حتى بلغت الأربعين من عمرها، حتى توسطت من بعض قرابتها أن يزوجها لكنه رفض، الرجل رأسمالي إقطاعي مجرم أحرمها الزواج؛ فأصابها مرض عضال نقلت إلى المستشفى التخصصي، فأتى أبوها وهي في سكرات الموت، وكانت عاقلة مؤمنة دينة صائمة قائمة، قالت: يا أبي! حضر الحق واليقين، وحضرت ساعة الفراق، قالت: قل آمين، قال: آمين، قالت: قل آمين، قال: آمين، قالت: قل آمين، قال: آمين، قالت: أسأل الله ألا يغفر لك ذنبك، وأن يحرمك الجنة كما حرمتني الزواج.
قال: ولم؟ قالت: حرمتني حياتي والله لقد كانت تمر بي الليالي الطوال وأنا أصارع أموراً لا يعلمها إلا الله حتى وصلت إلى هذا المرض!
وإننا نعلم من بعض الناس أخروا بناتهم تأخيراً لا عذر لهم عند الله ثم عند خلقه أبداً، إنما هناك أناس يقولون: تتوظف؛ وقد كذبوا، فتربيتها أن يبلغوا إلى هذا المستوى من الرذيلة والفاحشة الكبرى، زوجها ثم تتوظف أولا تتوظف أو تموت أو تحيا أو تشل أو تجن، إنما استرها لأن الله يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38].
والبعض يقول: تكمل دراستها المرأة إذا بلغت لا يسترها إلا زوجها، قالت العرب: لا يستر المرأة إلا زوجها أو قبرها، وأنا أعرف في المجتمعات آلاف الفتيات والله، ومن يتصدى للدعوة يجد رسائل من الفتيات يشكين آباءهن، ويشكين بعض الأمور التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، ثم يتصدى بعض الناس الذين لا يعرفون الكتاب ولا السنة ولا الفقه في الدين ويقف في البيت كالصنم حجر عثرة يأتيه الشخص فيقول له: ما عملك؟ ماذا تعمل؟ يقول له: في كلية الشريعة، قال: كم راتبك؟ قال: ثلاثمائة، قال: الله يفتح عليك، بنتنا صغيرة ما تصلح للزواج، وعمرها اثنتان وخمسون سنة!! ويأتي الآخر فيسأل عن السيارة وعن المرتب تبيع بنتك! هل هي سيارة؟ هل هي أرض؟! هذا عرضك وشرفك، يقول أحد العرب: والله لو كان المهر يدفع من الأب لدفعت مهري على بنتي، وكان الصالحون يجد أحدهم الرجل الصالح فيقول: تعال يا فلان فأزوجك بنتي الصائمة القائمة.
الوليد بن عبد الملك خطب بنت سعيد بن المسيب فرفض، وهو ولي عهد المسلمين، وأتى ابن أبي وداعة رجل فقير عنده درهمان وقال: أريد أن أتزوج ولكن من يزوجني؟ قال: تعال وخذ الصائمة القائمة التي تحفظ القرآن والحديث، وهي فقيهة كأبيها فتزوجها، لكن الآن أصبح الزواج بيعاً وشراءً نعوذ بالله! كأنه يعرضها في السوق.
يقول: بنتي مالها وصف، أنت ما تعرفها، سل عنها الجيران أصبحت في سوق الدعاية! ملكة جمال العالم! تعرض على الصحف لا تنطح ولا ترمح بقرة مسلمة!
ثم بعض الشباب يشترط شروطاً ما أنزل الله بها من سلطان، المرأة تكون دينة عاقلة فيها جمال يرد النفس، أما أنه يشترط في أظفارها وفي شعرها وطولها بالسنتيمتر؛ فهذا لم يأت وهذا وسوسة وتبجح، فدعوتي من هذا المكان ألا يتأخر الشباب ولا الفتيات، وأن يعلن في المجتمع إنفاق هذه الفتيات من البيوت إلى متى ينتظر الإنسان يمسك سرباً من البنات؟ هل هو واقف عند رءوسهن دائماً؟ نحن في عصر مظلم عصر الفتنة، الهاتف فتنة، والمسلسل والمجلة والأغنية كلها فتن، وكثير من الجيران فتنة، والنزول إلى السوق فتنة، آلاف مؤلفة والعياذ بالله، يعرف ذلك من عنده وثائق ويعرف الدعوة، ويتصل ويشاهد أحوال الأمة التي تموج كالبحر في الفتنة وبعض الناس يقول: إذا تزوجت افتقرت، هذا خطأ، يقول عمر لأحد الناس هل تريد أن تغتني يا فلان؟ قال: نعم، قال: تزوج يغنك الله من فضله.
فتزوج فكان من أغنى الناس، وما سمعنا أن أحداً مات وزوجته جائعة، بل أعرف من الشباب من ليس عنده ما يكفيه من الإيجارات، ولما تزوج أغناهم الله من فضله وعندما كانوا عزاباً كان الفقر في رءوسهم، ما يجد الواحد منهم ثمن الثوب فلما تزوجوا أغناهم الله.
ومن الأمور التي رصدت المهر، وقد حدد من ولاة الأمور وأرشد إليه، لكن بعض الناس له طرق ملتوية حتى يعطل الزواج والله المستعان، وعسى الله أن يهدي هذه القلوب وأن يبصرها بالحق.(124/18)
تصحيح كلمة: داعية لغوياً
السؤال
هل كلمة (داعية) صحيحة لغوياً؟ وإذا كانت صحيحة فماذا يطلق على الأنثى؟
الجواب
نقول: في العربية يصح من باب المبالغة، تقول: رجل داهية إذا بلغ الحد الأعلى من الدهاء، وتقول: داعية إذا تمكن في الدعوة، وتقول: علامة إذا بلغ العلم مستواه، وفهامة إذا بلغ في الفهم منتهاه، ويطلق على المرأة كذلك داعية، وهذا ليس فيه إلباس، فهي صحيحة لغوياً فيعلم ذلك، ويسمى داعياً كذلك.(124/19)
برنامج المحاضرات الصيفية
السؤال
ما هو برنامج المحاضرات في الصيف؟
الجواب
لقد أقبل الناس علينا في هذا الصيف من كل المناطق، ومن كل أنحاء الخليج، وهم ينتظرون منكم يا أهل أبها أن تقدموا صورة المسلم الذي يستقبل ضيفه بالإيمان؛ لأنهم يسمعون عنكم أنكم في مجتمع محافظ، وسمعنا من أهل الكويت وقطر أن أهل أبها تفوقوا في عالم الإيمان والخلق الجم، فأريد أن نري أولئك أننا من أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي حملة الرسالة، ولا نقدم لهم صوراً مزرية -والعياذ بالله- من المعاصي، ولا نطاوعهم على المعاصي وعلى تلطيخ سمعتنا وجاهنا وجمالنا أمام الناس، فدعوتي للجميع أن يحملوا الدعوة في الخلق، الدعوة بالتعامل وبالكلمة وبإهداء الشريط الإسلامي وبالكتيب وبالتأثير فيهم، فإنهم سوف يدخلون البيوت يستأجرون وينزلون المنتزهات كأنهم في منى، وسوف يغلون علينا الأشجار والأسعار، هذه فائدتنا منهم، فغفر الله لنا ولهم، وحياهم الله على كل حال.
أما برنامج الصيف فسوف يعلن وسيكون هناك برنامج من مركز الدعوة، وبرنامج آخر من التوجيه أو ما يسمى المصطافين ومن النادي الأدبي، وسوف يكون هناك أمور منسقة وستعلن، وأما الدروس هذه فهي ثابتة إن شاء الله، وسوف تزاد في الصيف؛ لأننا نتوقع عدداً هائلاً من الناس سوف يفدون.(124/20)
الذكاء ليس في علوم الدنيا
السؤال
إنني أتابع المحاضرات وأصلي كل وقت وأعمل بعض الخير ولكني سيء الفهم، فما تنصحني؟
الجواب
لست بسيئ الفهم، بل أنت جيد الفهم، ومادمت أنك تصلي وتحضر المحاضرات فأنت ذكي، والذكاء ليس حفظ جدول الضرب كله ثم لا يصلي الفجر، هذه بلادة، يقول الذهبي عن ابن الراوندي: كان ذكياً ولم يكن تقياً.
فلعن الله الذكاء بلا تقوى وحيا الله البلادة بالتقوى، تعيش وما تعرف من جدول الضرب شيئاً لكنك تصلي الصلوات الخمس أنت من الأولياء، لكن إنسان يحفظ الجبر والهندسة والرياضيات وهندسة التربة وهو مجرم فهو كلب والعياذ بالله، هذا معروف، ولذلك أنت جيد الفهم.
أحد المجانين دخل على عالم سوري في حلب عنده مكتبة، فالعالم هذا ذهب إلى مزرعته في البستان، فأتى المجنون فأخذ كبريتاً فأحرق المكتبة كلها فاشتعلت، فجاء العالم ومسكوا المجنون وقالوا: مالك يا فلان؟ قال: أريد أن أريحك من هذه المكتبة فقد أتعبتك، قال: ولم؟ قال: أتعبت بصرك وأتعبتك، دائماً في المكتبة، ورأيتك خرجت ترتاح في البستان فقلت: أريحك منها، قال: كيف تريحني من كتبي؟ قال: أنا أفهم كل ما في المكتبة، قال: ماذا في المكتبة؟ قال: المكتبة كلها تقول لك: كن جيداً، كن جيداً، فأخذه الناس مثلاً، وهذا الكلام صحيح، كل الكتب والمحاضرات والندوات كلها تقول لك: كن مسلماً مستقيماً جيداً، هذا هو المطلوب، وأنت جيد الفهم لأنك حضرت واستفدت.(124/21)
وحشة القلب ودواؤها
السؤال
أجد في نفسي وحشة، فأرجو نصيحة منك في ذلك والله يحفظك؟
الجواب
النصيحة أن تتقي الله عز وجل، وأن تثابر على عملك الصالح: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] وقال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه: {وما تقرب إلي عبدي بأحب أليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به}.(124/22)
حكم التبذير في الطعام
السؤال
اقترب وقت الذبائح التي تذبح في العطلة الصيفية للقادمين من المناطق الأخرى، وأكثرها يرمى في المزابل، وإذا نصحنا الناس احتجوا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه} فما نصيحتكم؟
الجواب
هذا الحديث صحيح، لكن ليس معنى الحديث: أنه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكرم الكلاب والقطط، فإن بعض الناس يكرم الكلاب والقطط في المزارع، وهذا ليس وارداً في الكتاب ولا في السنة، ووصيتنا لإخواننا الاقتصاد، وأظن أن هذا بدأ يحد منه؛ لأنه مرت بالناس طفرة، كان أحدهم إذا أتى عنده ثلاثة ضيوف ذبح لكل رجل منهم شاة واعتذر، وإذا زاد الضيوف ذبح لهم مجموعة وقال: الرأس منكم يستاهل الرأس ولكن المعذرة، بل الله المستعان على هذه المعذرة، كلها رياء وسمعة: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال:47].
هؤلاء الذين يكثرون الذبائح إذا طلبتهم في مشروع خير تجدهم من أبخل الناس، يخرج ريالاً ويفركه عند باب المسجد حتى لا يلصق ريال آخر ويقول: تفضل، وإذا خرج من المسجد قال: اللهم أدخلني به الجنة وارفع منزلتي عندك واجعلني من العشرة!!(124/23)
حكم الحناء للرجال
السؤال
ما حكم الحناء للرجال؟
الجواب
ورد عند أبي داود -لكن سنده ضعيف- {أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى رجلين إلى غدير الظلمات اختضبوا بالحناء} الحناء الذي تستخدمه النساء لا يجوز للرجال؛ لأنه من باب تشبه الرجل بالمرأة، إلا إذا كان من باب الدواء والعلاج، إذا كان لتبريد حرارة في جسمه أو لعلاج فلا بأس، أما أن يلطخ جسمه بالحناء فهذا من التشبه المنهي عنه ولا يجوز له، تجد رجلاً كفاه ورجلاه مخضبة من أوله إلى آخره هذا لا يصلح، فهو خاص للنساء وليس للرجال، إلا إذا كان لضرورة علاج فليعلم ذلك.
وصلى الله على محمد وسلم تسليماً كثيراً.(124/24)
الإنجاز العلمي في حياة الرسول
كم كان صلى الله عليه وسلم مجلاً للعلم والعلماء! وكم حث على العلم والتعلم! ولا غرابة في ذلك فإن أول كلمة أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم هي كلمة (اقرأ) فعاش صلى الله عليه وسلم كما وصف نفسه معلماً، وجعل خير الناس من تعلم القرآن وعلمه.(125/1)
فضل العلم وأهله
حمداً لمن بلغنا المراما وزادنا من فضله إكراما
ثم صلاة الله تترى ما سرى برقٌ على طيبة أو أم القرى
مع السلام يغشيان أحمدا وآله المستكملين الرشدا
حمداً لك اللهم علمتنا وما كنا لنتعلم، وفقهتنا وما كنا لنتفقه، رفعت بالإسلام رءوسنا وقد كانت مخفوضة، وشرحت بالإيمان صدورنا وقد كانت ضيقة، وأنرت بالعرفان عيوننا وقد كانت عمياً، وأسمعت باليقين آذاننا وقد كانت صماً.
اللهم صل وسلم على رسولك الأمي، الذي فجر من الجزيرة الغبراء العلم للدنيا، الأمي الذي رفع الكلمة للبشرية فأسمع الدنيا، والأمي الذي خطب على منبر الحياة فسمعته الأجيال، والذي تكلم فكان أفصح خطيب، وأجل مفتي، وأحسن مدرس، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أمَّا بَعْد:
فأشكر الله شكراً جزيلاً، وأثني عليه ثناءً عطراً جميلاً، ثم أشكر أهل الفضل، وعلى رأسهم مدير هذه الجامعة، معالي الدكتور/ راشد الراجح.
وأشكر العلماء الأفاضل النبلاء، ثم أشكر هيئة التدريس في الجامعة، وأشكركم أيها الإخوة الزملاء الطلاب، وأشكر الجمع، وأسأل الله أن يكتب هذه الجلسة في ميزان الحسنات، يوم تتساقط صحائف المبطلين، ويوم يندحر الغابرون، ويوم يفشل المهزومون الذين ما رفعوا الإيمان والحب والطموح.
ربنا تقبل منا أحسن ما عملنا، وتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
كان حقيقاً أن نتكلم في هذا الموضوع لسببين:
السبب الأول: أن الرسول عليه الصلاة والسلام، شريعته متهمة من الأقزام والحقراء، ومن الذين يسيرون على التراب وهم أرخص من التراب.
والسبب الثاني: أنني في جامعة غراء، أبدت نتاجها للعالم، طلابها، وكتبها، فكان أولى ما أقول في هذا العلم، وفي هذا الموضوع وهو الإنجاز العلمي في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام.
أما عناصر الموضوع:
فأولها: حثه صلى الله عليه وسلم على العلم وفضل العلم.
الثاني: تشجيعه صلى الله عليه وسلم للعلماء وللأساتذة والمربين.
الثالث: طريقة تعليمه صلى الله عليه وسلم، كيف علم الناس وتندرج تحتها أربع مسائل:
المسألة الأولى: القدوة بالعمل والتعليم بالقدوة.
المسألة الثانية: ضرب الأمثلة.
المسألة الثالثة: الخطابة والوعظ.
المسألة الرابعة: مراعاة المناسبات.
الرابع: مبدأ التخصص العلمي كما وضعه صلى الله عليه وسلم للناس.
لقد قلت: إن من أسباب هذه المحاضرة: أن شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام تعرضت للنقد اللاذع من أعداء البشرية والإنسانية، أعداء الإنسان يوم يكون مؤمناً، وهذه سنة الله الخلقية الكونية والشرعية الأمنية؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].
اسمع معي إلى أبي العلاء المعري في مقطوعة جميلة له عن العظماء والأقزام وعن النبلاء والحقراء يقول:
إذا عير الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت كسيفة وقال الدجى للبدر وجهك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل
أما قضية فضل العلم، وحثه صلى الله عليه وسلم عليه، فأكبر إنجاز وضعه صلى الله عليه وسلم للبشرية أنه كان معلماً عليه الصلاة والسلام، والحديث الذي عند الحاكم، ولو أن فيه نظراً: {إنما بعثت معلماً}.
إذا علم هذا؛ فليس العجيب أن يبعث معلماً يعلم الناس، وليس العجيب أن يتكلم خطيب في البشرية، لكن العجيب أن يأتي أمي من بين جبال مكة السود فيخاطب البشرية وهو أمي، يقول أحد الشعراء:
أتطلبون من المختار معجزةً يكفيه شعب من الأموات أحياه
ويقول آخر:
كفاك باليتم في الأمي معجزةً في الجاهلية والتأديب في اليتم
فيوم أن بعث صلى الله عليه وسلم لا قرأ، ولا كتب، وما تعلم، ولكن علمه الله بعد أربعين سنة، ليخرج عالماً عليه الصلاة والسلام، لكن عالم أعجز العلماء، وعظيم أعجز العظماء، ومربٍ أعجز المربين.
الله رباه، والله علمه، والله فقهه.
الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ميز بالعلم حتى الكلاب، فالكلب المعلم صيده حلال، لكن الكلب الجاهل غير المعلم صيده حرام؛ ولله در من قال:
وميز الله حتى في البهائم ما منـ ها يعلم عن باغ ومغتشم
قال تعالى: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4] الهدهد حيوان طائر، لكنه يوم أن عرف علماً، تبجح أمام سليمان عليه السلام، وقال وجئتك من سبأ بنبأ يقين، ولذلك قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9] ثم ترك الجواب، أي: لا يستوون.
وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
أيها الأساتذة الأخيار! يا دعاة العالم! -يوم ألا يكون للعالم إلا أنتم- إن داعيتكم الأول الرسول عليه الصلاة والسلام أتى بهذه الآيات، فيوم أراد الله أن يستشهد على ألوهيته استشهد العلماء، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] والله يقول في الآيات: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49].
إذا علم هذا؛ فتعال معي إلى تشجيعه صلى الله عليه وسلم للعلم، وقد ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يذهب بعلمه إلى الحداد الذي ينفخ الكير وهو خباب بن الأرت، فيعلمه وهو على كيره، فيقول الجاهليون: يعلمه خباب القرآن، فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَقدْ تَعْلَمَ أنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] كيف يعلم الأعجميُّ العربيَّ؟! كيف يعلم اللكن اللسنَ؟! كيف يعلم العييُّ الفصيح؟! كيف يعلم التلميذُ الشيخَ؟! لا يكون هذا، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام هو كما قال الله له مبتدئاً بالعلم؛ قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] قال البخاري في الصحيح: (فبدأ بالعلم قبل القول والعمل).
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى قال: قال صلى الله عليه وسلم: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها أرضٌ طيبة -وعند مسلم نقية- قبلت الماء، فأنبتت العشب الكثير، وكان منها أرض أجادب أمسكت الماء؛ فنفع الله بها الناس فسقوا وزرعوا، وكان منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به} وما أحسن هذه الكلمات.
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
أم المعاني اللواتي قد أتيت بها أرى بها الدر والياقوت متصلا
لماذا قال في الحديث: الغيث، ولم يقل: المطر؟ ولماذا قال: بعثني، ولم يقل: أرسلني؟ ولماذا قال: أرض طيبة، ولم يقل: تربة طيبة؟ ولماذا قال صلى الله عليه وسلم: الهدى، والعلم، ولم يقل: الهدى ويسكت، أو قال: العلم، ويسكت؟ هذه أسرار بلاغية في الحديث.
أما قوله الغيث ولم يقل المطر، فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لا يذكر الغيث إلا للرحمة مطلقاً أو غالباً في القرآن، وإذا أراد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى العذاب قال: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} [الشعراء:173] فعدل صلى الله عليه وسلم من المطر إلى الغيث قال القرطبي " لأن الغيث صافٍ من السماء " فشبه علمه بالغيث الصافي الذي لم تخالطه الفلسفة، ولم يدخله المنطق، أخزى الله الفلاسفة والمنطقيين، فدحرهم في دورهم وعقر حلوقهم.
ابن تيمية يقول: " المنطق لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سمين فينتقى، ولا سهل فينتقل" وقال: " المنطق لا ينتفع به الذكي ولا يفهمه البليد " وقال: " إن الله سوف يسأل المأمون -الخليفة العباسي- عما أدخل في خلافة المسلمين من المنطق، نحن أمة قال الله وقال رسوله، لا خزعبلات ومفتريات ابن سينا، وأمثال ابن سينا، أذناب الصابئة وأفراخ المجوس.(125/2)
تلازم العلم والعمل والإيمان
أتى صلى الله عليه وسلم بعلمه من السماء، قال: {مثل ما بعثني به الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث} والغيث فيه غوث للقلوب وكذلك العلم، وقال عليه الصلاة والسلام: {من العلم والهدى} لأن رسالته صلى الله عليه وسلم أتت بالعلم الذي هو العلم النافع، والهدى العمل الصالح.
ولذلك قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم -نقلاً عن سفيان بن عيينة -: " من فسد من عبادنا ففيه شبه بالنصارى، ومن فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود " لأن رسالته صلى الله عليه وسلم ليست ساذجةً تعبديةً تقليديةً، وليست علميةً تنظيريةً؛ بل جمعت بين العلم والعبادة، وبين الفكر والإرادة، وبين المعتقد والسلوك، ولذلك ذم الله بني إسرائيل بأنهم تعلموا لكنهم لم يعملوا بعلمهم، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف:175 - 176] ووصف الله بني إسرائيل بصفة الحمار:
{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] والحمار لا يفهم ولا يعقل ولو حمل الأسفار على ظهره؛ لأن السر فيه أنه حمار.
تقول له زيداً فيسمعه عمراً ويكتبه بكرا ويقرؤه فهرا
قال الجدار للوتد لم تشقني؟ قال: اسأل من يدقني!
لذلك إذا لم يكن هناك إرادة وإيمان فلا ينفع العلم:
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع
ولذلك لا يكون العلم بحفظ المجلدات والمصنفات، ولكنه إرادة إيمانية، ولذلك قال الله تعالى: (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ) [الروم:56]؛ لأن العلم بلا إيمان علمانية أتاتوركية
موتاً أتاتورك الدعي كموت تيتو أو جمال
وأتاتورك عَبَدَ العلم، وعَبَّدَ الأتراك للعلم، وجعل العلم إلهاً يعبد من دون الله، وقال: لا إله إلا العلم.
فعلم بلا إيمان خسارة وتباب، يقول أبو الحسن الندوي ذاك المفكر المحبوب سقى الله عظامه يوم يموت من شآبيب الجنة: " عين بلا إيمان مقلة عمياء، وقلب بلا إيمان كتلة لحم ميتة، ومجتمع بلا إيمان قطيع من البهائم السائمة".
ونحن نقول: وقصيدة بلا إيمان كلام مصفف، وكتاب بلا إيمان كلام ملفف، وكلمة وخطبة بلا إيمان صهيل وزمجرة لا فائدة فيها.
إذا علم هذا؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يجمع بين العلم والإيمان، وأراد أن يجمع بين العلم والعمل.
والنصارى عبدوا الله لكن لم يتعلموا، واليهود تعلموا ولم يعبدوا، قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13] والنصارى عبدوا الله، صلوا وركعوا وسجدوا، لكنهم متخلفون رجعيون لا يفهمون ولا يعقلون: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27].
أما أشباه اليهود -كما يقول ابن تيمية - فهم فسقة العلماء.
أرأيتم طالب علم يتخرج من جامعة ثم يكون فاسقاً؟! ما أدهاه! لو كان راعي غنم كان أفضل له، لكن يتخرج من الجامعة، ثم يكون فاسقاً عربيداً، هذه هي المشكلة.
فأشبه اليهود فسقة علماء الأمة نعوذ بالله من الفسق، وأشبه النصارى غلاة الصوفية، يأتون بأمور تضحك الذي هو في سكرات الموت.
يقول الخطابي في كتاب العزلة: " أتى صوفي غالٍ فأخذ شيئاً بغراءٍ ألصقه على عينه اليسرى، فقالوا: مالك؟ قال: إسراف أن ننظر إلى الدنيا بعينين، فقال: انظروا إلى هذا المخرف كيف جحد نعمة الله، والله يمتن على الناس ويقول: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10].
وقال ابن الجوزي في تلبيس إبليس: " رؤي صوفي يقرأ وهو ينعس في صلاة الظهر، قالوا: " مالك؟ قال: سهرت البارحة في النافلة؛ فما استطعت أن أصلي الظهر إلا وأنا ناعس، قال: فانظر إلى جهله كيف صلى النافلة حتى ترك الفريضة ".
إذا علم هذا؛ فشجع صلى الله عليه وسلم العلماء بأن الله بعثه معلماً عليه الصلاة والسلام، يقول لـ معاذ: {إنك تأتي يوم القيامة تقدم العلماء برتوة} والرتوة: رمية بحجر أو بخطوة؛ يقود العلماء، سلام على معاذ! يقول ابن مسعود: [[معاذ كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم]
1000035>معاذ عاش ثلاثاً وثلاثين سنة، لكنها تعادل في ميزان الحق والإيمان ثلاثاً وثلاثين قرناً، كان يتكلم بعلم، ويفتي بعلم، وهو حسنة من حسنات المصطفى صلى الله عليه وسلم، في سنن أبي داود بسند جيد قال: {أخذ صلى الله عليه وسلم بأصابعه فشبك أصابعه بأصابعه وقال: يا معاذ والله إني لأحبك} معلم البشرية يقول لأحد تلاميذه: {والله إني لأحبك، فيقول معاذ: فوالله يا رسول الله، إني أحبك، فيقول رسول الله: يا معاذ لا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك}.
حضرت الوفاة معاذاً في الشام، فلما حضرته سكرات الموت، ما ندم على قصر بناه، ولا على نهر أجراه، ولم يشتغل بالحدائق والقصور لكنه بكى، قالوا: مالك تبكي؟ قال: [[مرحباً بالموت، حبيباً جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، اللهم إنك تعلم أني لم أحب الحياة لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولا لرفع القصور، ولا لعمارة الدور، ولكني كنت أحب الحياة لثلاث خصال: لمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر، ولمجالسة قوم ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر، ولأعفر وجهي ساجداً لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى].
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
خرج ابن المبارك العالم الجليل من أم القرى -يا أهل أم القرى - ببغلته للجهاد، وترك الحلقة في الحرم، قالوا: الفريضة بمائة ألف صلاة؟! فردد بيتيه المشهورين:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
وذهب إلى الجبهة وقاتل، وأتته رسالة من العالم الفضيل يشجعه على العلم، لكن العلم يشجع أصحابه على التخصصات في وقتها، فكتب ابن المبارك إليه يقول له:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب(125/3)
حثه صلى الله عليه وسلم على العلم
الرسول صلى الله عليه وسلم يحث العلماء فيقول كما في صحيح البخاري: {رأيت البارحة} صلى الله عليه وسلم، ورؤياه حق، قال البخاري في الصحيح: باب رؤيا الأنبياء حق، وقال الله عز وجل عن إبراهيم: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] فقام يذبح ابنه فرؤياهم حق، قال عليه الصلاة والسلام: {رأيت البارحة، كأني أتيت بإناء من لبن فشربته حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري -ري العلم- قال: ثم أعطيت فضلتي عمر بن الخطاب، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم} فـ عمر بن الخطاب من أعلم الناس، وهو ما شرب إلا فضلة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: {رأيت البارحة أن الناس عرضوا عليَّ، وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض عليَّ عمر بن الخطاب عليه قميص يجره، قالوا: بم أوَّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين} فأقوى الناس ديناً بعد أبي بكر، عمر، نشهد الله على حبه، اللهم اجمعنا بـ عمر في مستقر رحمتك، وسقى الله تلك العظام!
ذكر صاحب تاريخ داريا بسند جيد، قال: [[كان عمر يخطب على المنبر يوم الجمعة، وجيشه وراء نهر سيحون، أو قريباً من نهر سيحون، فكشف الله له الغطاء حتى رأى الجيش، وهو على المنبر في المدينة، ورأى سارية يحاصر من كل جهة، وقال: يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، ونزل، قال الصحابة: مالك؟! قال: أراني الله سارية فأخبرته، ثم أتى سارية منتصراً بعد شهر، قالوا: ماذا حدث لك؟ قال: حوصرت في مضيق، فسمعت -يوم الجمعة والخطباء على المنابر- صوت عمر الذي لا أنكر، وهو يقول: يا سارية الجبل، فألجأني الله للجبل]].(125/4)
ابن عباس ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له بالفقه
وابن عباس يشجعه صلى الله عليه وسلم على العلم، ولو كان هناك أفضل من العلم، لدعا له صلى الله عليه وسلم به، يقول ابن عباس: بت عند خالتي ميمونة وأتى عليه الصلاة والسلام ورآه نائماً -وهو لم ينم، لكنه متناوم، ليرى السنة والدعاء في الليل- قال لـ ميمونة: نام الغليم؟ قالت: نعم، وهو ما نام.
نامت الأعين إلا مقلة تذرف الدمع وترعى مضجعك
قال: فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم، فذكر الله، وهلل وكبر، ثم نام، قال: حتى سمعت غطيطه -وفي البخاري خطيطه- والخطيط والغطيط صوت يحدثه النائم- فانظر إلى هذا الذكي يحفظ الغطيط والخطيط والدعاء، وآداب الوضوء، وكيف صلى مع الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة.
ثم استفاق صلى الله عليه وسلم يعرك النوم من عينيه ويقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار} [آل عمران:190] فعرف ابن عباس أن الرجل إذا قضى حاجته، يحتاج إلى ماء، وهذا من الفقه في الدين، ووضع الماء ورجع ينام، وأتى صلى الله عليه وسلم يسائل نفسه وقال: من وضع لي الماء؟ ثم عرف، قال: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} وهذه ليلة الميلاد في حياة ابن عباس، ولد ابن عباس في تلك الليلة، لأن للإنسان مولدين: مولد جسماني، ومولد روحاني، فمولده الجسماني يوم يسقط من بطن أمه:
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
ومولده الروحاني يوم يولد في الإسلام، وينغمس في الإسلام، ويرتدي رداء الإسلام، فـ ابن عباس ولد تلك الليلة، قال: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} وسمع ذلك الدعاء وحفظه، وبدأت حياة الفقه في الدين، يأتي عن يساره صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل؛ فيجره إلى يمينه ويستمر في الصلاة، ودعوة اللهم فقهه في الدين، تطن في أذنه دائماً وأبداً.
قال ابن عباس: قال لي أحد الناس من الأنصار: يا ابن عباس، لماذا تطلب العلم، وتجهد نفسك؟ أتظن أن الناس يحتاجون إليك، -أي أنك تبقى حتى يحتاج إليك الناس- قال ابن عباس: فوالله ما زلت أطلب العلم، حتى رأيت ذلك الرجل واقفاً يسألني في مسائل.
وقال ابن عباس: [[والله الذي لا إله إلا هو، لقد كنت أخرج من بيتي، فأضع رأسي عند باب الأنصاري؛ فتسف علي الريح بترابها حتى يخرج الأنصاري في القيلولة؛ فأسأله.
ولذلك آتاه الله علماً جماً، قال أبو وائل: [[والله لقد رأيت ابن عباس يوم عرفة يشرح سورة البقرة آية آية من صلاة الظهر حتى صلاة المغرب، لو سمعه اليهود والنصارى لأسلموا عن بكرة أبيهم]] العلم شيء عجيب إذا اقترن بالإيمان.(125/5)
أبو هريرة وحثيات الرسول صلى الله عليه وسلم
يأتي أبو هريرة، وهو فقير إلى المدينة وكان يسمع الأحاديث من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لا يكتب ولا يحفظ، فقال: يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً كثيراً؛ فادع الله أن يفقهني أو يحفظني، قال: ابسط رداءك، فبسط رداءه، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثو حثواً معنوياً، ويقول: اللهم حفظه أو فقهه -أو كما قال صلى الله عليه وسلم- وقال: ضم رداءك، قال: فضممت ردائي، فوالله ما نسيت بعدها حرفاً أبداً.
ومن أراد أن يعرف حفظ أبي هريرة فليقرأ كتاب دفاعاً عن أبي هريرة لـ عبد المنعم الصالح العلي العزي الذي لو كان في الكتب معجزة، لكان ذلك الكتاب، الذي رد به على أبي رية -رواه الله من نار تلظى- وعلى جولد زيهير المجري الذي تهجم على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
يقول أبو هريرة: {يا رسول الله! من أسعد الناس بحسن شفاعتك} والحديث في البخاري، قال عليه الصلاة والسلام: {لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسألني أحدٌ عن هذا قبلك، لما علمت من حرصك على الحديث} وقد بوب البخاري على هذا الحديث باباً فقال: باب الحرص على الحديث، فأثنى عليه صلى الله عليه وسلم بهذا، ثم أجابه {أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه}.(125/6)
أبي بن كعب سيد القراء
أتى عراقي عند عمر بن الخطاب، وكان أبي أبيض اللحية، وأبيض الرأس، وأبيض الثياب، بياض على بياض، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء فابيضت لحيته وابيض رأسه، قال الذهبي: دعا على نفسه بالحمى؛ لأنه سأل الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: {يا رسول الله أما يصيبنا من أمراض كفارة؟ قال إي والذي نفسي بيده يا أبا المنذر لا يصيبك هم أو حزن أو مرض، حتى الشوكة تشاكها إلا كفر الله بها من سيئاتك} فقال أبي: [[اللهم إني أسألك حمى لا تعطلني عن فريضة ولا عن حج ولا عن عمرة ولا عن جهاد]] فأصابته حمى أربعين سنة.
يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: أكسبته الحمى شراسة رضي الله عنه وأرضاه فكان يقف بجانب عمر وعمر يتحذر بالكلام إذا وُجد أبي، يراقب أبي لأن أبي سيد القراء، وأبي لحدة الحمى كان أبيض اللحية، وأبيض الرأس والثياب، نور على نور.
وكان عمر إذا تحدث يقول لـ أبي: أهكذا؟ فيقول أبو المنذر: نعم.
فيقول العراقي لـ عمر بن الخطاب: من هذا يا أمير المؤمنين؟! قال: ثكلتك أمك، أما تعرف هذا؟! هذا سيد المسلمين، أبي بن كعب يقول له صلى الله عليه وسلم: {يا أبا المنذر! أي آية في كتاب الله أعظم؟} والحديث في مسلم، فيستحي، فانظر إلى الأدب، أصبحت الفتيا عندنا تبرعاً في سبيل الله، ونتسابق في المجلس أيُّنا يفتي، ونحن نتسابق على مزلة من النار، يقول أحد التابعين: [[والله إنكم لتفتون في مسائل، لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر]] فقال: {يا أبا المنذر! أي آية في كتاب الله أعظم؟ فقال: لا أعلم، فقال الرسول: يا أبا المنذر، أي آية في كتاب الله أعظم؟ فيقول: آية الكرسي، فضرب على صدره -هذا خاتم الشهادة ووسام النبل- وقال له: ليهنك العلم أبا المنذر} إي والله، العلم الذي يحسد عليه.
{نزلت سورة البينة، والتي جاء بها جبريل، وقال: يا رسول الله إن الله يأمرك أن تقرأ هذه السورة على أبي، فذهب إلى أبي، وقال: يا أبي، أمرني ربي أن أقرأ عليك هذه السورة، فقال: وسماني؟! قال: نعم.
قال: في الملأ الأعلى، فانهد يبكي} أبي رجل من الأنصار ما كان يدرى عنه، لكن جعله الإسلام عظيماً من العظماء، فالرسول صلى الله عليه وسلم شجعه، وقال: {ليهنك العلم} وهو العلم الذي يغبط عليه، ولذلك جاء في الصحيحين {لا حسد إلا في اثنتين -يعني غبطة- رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار} وفي رواية ابن مسعود {رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق}.(125/7)
منزلة العلماء في عصر السلف
ابن أبي الجعد مولى، وكلنا عبيد لله، من المدينة، كان مع سيده لا يكنس، ولا يطبخ، ولا يذبح كلٌ على مولاه، أينما يوجهه لا يأتي بخير، قال له مولاه: "قد أعتقتك لوجه الله، والله ما أعتقتك إلا وقد عجزت فيك، ما تجيد شيئاً"، قال: "فماذا أفعل؟! " قال: "اطلب العلم"، قال: "فجلست سنة أطلب العلم، وبعد سنة استأذن علي أمير المدينة في القيلولة، فلم ءاذن له؛ فرجع من عند الباب".
وعطاء بن أبي رباح: كان أشل أفطس، يقول أحد التابعين: لو جمعت العيوب في الناس لاجتمعت في عطاء.
اجتمع ببابه الناس حتى الخليفة سليمان بن عبد الملك أتى يسأله، فقال لـ سليمان: خذ دورك مع الناس ولا تتقدم عليهم وهو خليفة الأمة الإسلامية، قال: فرجع سليمان حتى أتى دوره ثم سأل عطاء فولى، فقال سليمان لأبنائه: "تعملوا العلم، والله ما ذللت لأحد من الناس كما ذللت اليوم لهذا العبد" لأن عطاء عبد، وكلنا عبيد لله، قال الأندلسي لابنه مشجعاً على العلم:
"
هو العضب المهند ليس ينبو تصيب به مضارب من أردتا
وكنز لا تخاف عليه لصّا خفيف الحمل يوجد حيث كنتا
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا
فبادره، وخذ بالجد فيه فإن أعطاكه الله انتفعتا
وإن أوتيت فيه طويل باع وقال الناس: إنك قد رأستا
فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخ علمت فهل عملتا
الرسول عليه الصلاة والسلام يشجع ويحث طالب العلم، ويقول: {إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع} ويقول صلى الله عليه وسلم: {من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة} رواه مسلم، وعند البخاري ومسلم من حديث معاوية: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} أي من مفهوم المخالفة أن من لم يرد الله به خيراً لا يفقهه في الدين.(125/8)
طرق تعليمه صلى الله عليه وسلم
الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقارنه أحد في تفوقه وعظمته، ولذلك أخطأ عباس محمود العقاد يوم أن قارنه بـ نابليون.
من نابليون؟ إنما هو ملحد من الملاحدة، كيف يجعله في صف محمد النبي الطاهر الصفي صلى الله عليه وسلم؟! لقد أخطأ خطأً بيناً:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا
وطرقه صلى الله عليه وسلم في التعليم أربع طرق:(125/9)
الطريقة الأولى: التعليم بالقدوة
أولها: التعليم بالقدوة وبالعمل، قال تعالى حاكياً عنه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
فكان يعمل العمل ويقول للناس: افعلوا كما أفعل، ففي حديث البخاري عن مالك بن الحويرث: يقول صلى الله عليه وسلم: {صلوا كما رأيتموني أصلي} وفي الصحيحين كما في حديث سهل بن سعد أنه قال: {قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فصلى بنا، فصلى الناس بصلاته}.
يا أيها الفضلاء! يا أيها الدعاة! يا أيها العلماء! إن الذي ينقصنا اليوم في مدارسنا وجامعاتنا هو التطبيق للعلم، تطبيق بالعمل، والعجيب أن الكافر العميل يعرف هذا المبدأ، فالكفار ينشرونها في كتبهم، حتى يقول الأمريكي دايل كارنيجي في كتابه دع القلق وابدأ الحياة: "إنك إذا لم تطبق للناس علمك؛ فإنهم لن يتعلموا منك أبداً " والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، دخل الجنة} هذا حديث مسلم عن عثمان.
وفي الحج: الرسول صلى الله عليه وسلم يحج، ويقف بنفسه في عرفات، ويرمى الجمار، ويبيت في مزدلفة، وفي منى، ويقول:
{خذوا عني مناسككم}.
التطبيق للعلم هذا هو الذي عرضه صلى الله عليه وسلم للبشر، كان يقول لهم: كونوا صادقين، ويكون هو صلى الله عليه وسلم أصدق صادق في الدنيا، يقول: قدموا دماءكم في سبيل الله، ويتلو عليهم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] ويكون أول من يقدم دمه صلى الله وسلم عليه، يقول في معركة بدر قبل المعركة بدقائق: {يا أهل بدر! -يعني المسلمين- إن الله اطلع عليكم فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، والذي نفسي بيده يا أهل بدر! ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء؛ فتدخلون الجنة}.
فيأتي عمير بن الحمام الزاهد، العابد، الفقير، الذي ما عنده إلا سيفه يوم ترك ذريته وداره في المدينة فقال: يا رسول الله! أسألك بالله ما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟! قال: والذي نفسي بيده ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء، فرمى بتمرات كن معه، ثم كسر جفن سيفه، وقال: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى، وأخذ درعه، وخلعه من على أكتافه، ولذلك ورد في الأثر: {إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يضحك -كما يليق بجلاله- من العبد؛ يلقى العدو حاسراً} مثل عمير بن الحمام - فتقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه، لكن القدوة بالتعليم، يوم يرى الرسول صلى الله عليه وسلم في أول القتال يصاب، ويضرب صلى الله عليه وسلم، ويقول للناس: جاهدوا المشركين وهو أول مجاهد، يدعوهم لقيام الليل، وهو يقوم الليل ويبكى من خشية الله وخوفه.
في سنن أبي داود وسنده حسن عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه، قال: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء} المرجل: القدر إذا استجمع غلياناً، من البكاء من خشية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، هذه من طريقة التعليم بالقدوة.
أما القدوة بالعمل فالسلوك والأدب والتقوى، يقول عليه الصلاة والسلام: {أنا أعظمكم وأتقاكم لله} وصدق، والله إنه أتقانا لله، وأعرفنا به، وأخشانا له، صادق يقول الصدق، مخلص يقول الإخلاص، منيب يعرف الإنابة.(125/10)
الطريقة الثانية: ضرب الأمثلة
ومن طرق تعليمه صلى الله عليه وسلم ضرب الأمثلة، يأتي عليه الصلاة والسلام يقول: {إن مثلي ومثلكم كمثل رجل أتى إلى قومه وقال: يا أيها القوم! إن العدو سوف يصبحكم، فأنا النذير العريان} النذير عند العرب، هو: الذي ينذرهم جيشاً أو عدواً أو خصماً، والعريان: كان العرب إذا أرسلوا نذيراً خلع ثيابه وبقي عارياً، فعرفوا أن الخطر مدلهم.
وموقف آخر، عندما أتاه أعرابي -وانظر إلى الأعراب- وغلظتهم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63] أي: تأدبوا مع محمد صلى الله عليه وسلم، أتدرون من هو؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم، رسول البشرية، معلم الإنسانية، مزعزع كيان الوثنية، فيأتي الأعرابي، فيمسك بجبته صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أنس الذي أصله في الصحيحين وكان عليه برد نجراني غليظ الحاشية فجذب به حتى أثر على رقبة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالتفت صلى الله عليه وسلم -هل التفت مزمجراً؟ هل التفت مغضباً؟ لا، إنما التفت صلى الله عليه وسلم متبسماً ضاحكاً- ولما التفت إلى الأعرابي مبتسماً عليه الصلاة والسلام قال: مالك؟ ماذا تريد؟ قال: يا رسول الله! أعطني من مال الله الذي عندك لا من مال أبيك ولا من مال أمك، فضحك صلى الله عليه وسلم، وأعطاه مالاً، فعاد الأعرابي وهو يقول: جزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيراً، فقال صلى الله عليه وسلم للناس: أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له دابة فنفرت فتبعها الناس فازدادت نفوراً، فأتى بخضار الأرض فأتت الدابة فأمسكها.
فإن هذا الأعرابي لو تركتكم وإياه؛ لترك الدين ومات كافراً ودخل النار؛ فهذا مثل ضربه صلى الله عليه وسلم؛ لتستقر هذه الحقيقة.
وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً يبين فيه الأجل والأمل للإنسان، فرسم مربعاً، وخط خارج المربع، خطاً، وهو الأمل، والأجل طرف المربع الذي يفصل هذا الخط، والإنسان داخل المربع، وقال: {هذا الإنسان، وهو وهذا أمله، وهذا أجله وهذه العوارض إن أخطأه هذا نهشه هذا}.
ونحن هنا ذكرنا بعض الأمثلة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم وإلا فهي كثيرة جداً والمقصود منها هو: أن نعرف كيف نضرب الأمثلة للناس ونعلم أن هذا منهج قرآني، كما يقول تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} [النحل:75] ثم يضرب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عدة أمثلة في القرآن.(125/11)
الطريقة الثالثة: التعليم بالوعظ
ثالثها في تعليمه صلى الله عليه وسلم للناس: تعليمه بالخطابة والوعظ:
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاءُ
وإذا صحبت رأى الوفاء مجسماً في بردك الأصحاب والخلطاءُ
وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاءُ
يخطب صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة؛ فتدمع القلوب قبل العيون، ويتكلم في الناس؛ فتبكي الأرواح قبل المقل، يتكلم عليه الصلاة والسلام، فتهتز المنابر؛ بل جزع الجذع لما فارقه عليه الصلاة والسلام، كما في حديث جابر في الصحيح.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيد الخطابة، بل هو أعظم خطيب عرفته البشرية، مع أنه ما درس الخطابة، لكن علمه الله عز وجل إياها، فدعا بها.
والوعظ كذلك كان من منهجه صلى الله عليه وسلم؛ ولا بد للمسلمين في الدعوة من أمرين: من منبر للوعظ، ومن حلقة للتدريس، منبر الوعظ يشحن القلوب ويقودها إلى باريها، وحلقة الدرس هادئة تربي العلم التأصيلي في النفس، فلا بد من خطباء ووعاظ، ولا بد من علماء وفقهاء مؤصلين.(125/12)
الطريقة الرابعة: مراعاة المناسبات
من الحكمة كل الحكمة أن تراعى المناسبات، يقول المتنبي:
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف البيئة التي يتكلم فيها، ويخطئ كثير من الدعاة، فيتكلم لأهل البادية بكلام الحاضرة، ويتكلم لأهل الحاضرة بكلام البادية، وذلك جهل بأسلوب الدعوة، فالرسول عليه الصلاة والسلام يتكلم لكل فئة بما يمكن أن تدركه عقولها، قال علي بن أبي طالب: [حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله]] وقال ابن مسعود: [[إنك لست محدثاً قوماً لا تبلغه عقولهم، إلا كان على بعضهم فتنة]].
الرسول عليه الصلاة والسلام يحدث أبا بكر، بحديث خاص، فيخصه، لا بأمر عام تحتاج إليه الأمة، بل يحدثه بأمور في الإدارة لأنه إداري، ويحدث ابن عباس بوصاية للشباب كقوله في الترمذي: {احفظ الله يحفظك} ويحدث زيداً في الفرائض؛ لأنه يقول: {أفرضكم زيد} ويحدث النساء بشئون النساء، والأحكام التي تهمها.
فمراعاة المناسبات أمر راعاه صلى الله عليه وسلم في العلم، وفي العرض العلمي.(125/13)
مبدأ التخصص في حياته عليه الصلاة والسلام(125/14)
دعوة التخصص هي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم
كثير من الناس اليوم يقولون: التخصص هذا قتل العلم، ولا يصح أن يكون هناك تخصص، والتخصص هو مذموم، وفي كلامه حق وباطل، أما الحق فعلى طالب الحق أن يكون عنده حد أدنى من العلوم، وقدر مشترك من العلوم الإسلامية، لكنه يبرز في ناحية من النواحي، ولا يكون قوته في كل ناحية كقوته في الناحية الأخرى، فهذا ليس موجوداً وليس متحصلاً، ومن قرأ التاريخ واستقرأ العلماء وجد أن كل عالم برع في فن ولم يبرع في الفن الآخر، يقول عليه الصلاة والسلام في أحاديث رويت عنه، ولو أن في أسانيدها نظراً: {أقرؤكم أبي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ، وأقضاكم علي وأفرضكم زيد، ولكل أمة أمين وأمين أمتي أبو عبيدة}.
إذا أتت مسائل القرآن من يسأل؟ قال عمر فيما صح عنه: [[من أراد أن يسأل عن القرآن فليسأل أبياً، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليسأل زيداً، ومن أراد المال فليأتني]] والرسول صلى الله عليه وسلم أُنسي آية في الصلاة، فلما سلم قال الناس: يا رسول الله! أنسيت، أم نسخت هذه الآية؟ -فمن يسأل؟ - قال: يا أبي، يا أبا المنذر أكما يقول الناس؟ (أعطِ القوس باريها) قال: نعم يا رسول الله.
وهذا النسيان ليس مستمراً.
الرسول عليه الصلاة والسلام أقر مبدأ التخصص عند الصحابة.
وإذا أتيت إلى فصل الرءوس عن الأكتاف بالسيف، فتعال عند خالد بن الوليد، سيف الله المسلول، مهمته أن يفصل الجماجم عن الأكتاف، جماجم أعداء الله.
ومن يقسم المواريث لمن لا يستطيع أن يقسم؟ يقسمها زيد بن ثابت، يقول حافظ إبراهيم في خالد بن الوليد يعتذر في عزل عمر لـ خالد:
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم وما رمى الروم إلا طاش راميها
الأدب: من هو أستاذ الأدب في حياته صلى الله عليه وسلم؟ من الذي يرد على الشعراء الضلال الحقراء؟ علي؟ لا، هو رجل القضاء، أبو بكر؟ لا بل هو رجل الإدارة، أعمر؟ رجل الدواوين وتجنيد الأجناس.
أعثمان؟ رجل المال والبذل والعطاء.
أثابت بن قيس بن شماس؟ لا، هو رجل الخطابة؟ إنه حسان.
أتى وفد بني تميم كما صح في السير، فقالوا: يا رسول الله، عندنا شاعر وخطيب، قبل أن نسلم، نريد أن نفاخرك بشاعرنا وخطيبنا، ونسمع شاعرك وخطيبك، فما قال رسول الله: لا، إنه هذا داعية عالمي، يريد أن يعطي كل أناس ما يحتاجونه، فجمعهم في المسجد، وقال ل حسان: أتستطيع أن ترد على شاعرهم؟ قال: إي والله يا رسول الله، قال: بماذا؟ قال: عندي يا رسول الله لسان لو وضعته على حجر لفلقه، ولو وضعته على شعر لحلقه، ثم أخرج لسانه، فضرب به أرنبة أنفه، ونحن لا نستطيع.
من يضرب أرنبة أنفه بلسانه؟! إلا ما ذكر ابن الجوزي: إن أحد الناس قال لقرينه: تعال معي، فخرج معه فوصل إلى السوق، فصعد إلى مكان مرتفع، فقال: يا أيها الناس، اجتمعوا، فاجتمع أهل السوق، قال: سمعت فلاناً حدثنا عن فلان، -وهو كذب على الرسول صلى الله عليه وسلم- عن فلان عن فلان أنه قال: (من مست لسانه أرنبة أنفه دخل الجنة) فقام الناس في السوق يرفعون ألسنتهم إلى أنوفهم، لكن لم يستطع إلا بعض الشعراء، فـ حسان وصلت لسانه إلى أرنبة أنفه، وجاء صلى الله عليه وسلم وقدم له المنبر، والحديث في الصحيح، وقال: {اللهم أيده بروح القدس، اهجهم وروح القدس معك} وبدأ الزبرقان بن بدر، فألقى قصيدته التي أعد لها من شهر يقول:
نحن الملوك فلا حي يقارعنا منا الملوك وفينا تنصب البيع
إلى أن تلا خمسين بيتاً وبعده قام حسان فقال ستين بيتاً، فسحقه.
يقول في قصيدته:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنناً للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
فجلس، قال بنو تميم: غلب شاعرك شاعرنا.
وقام خطيبهم عطاء بن حاجب بن زرارة، فقام وألقى خطبة، فقال عليه الصلاة والسلام لـ ثابت: قُم لأن الخطابة تخصص ثابت، فهو خطيبه، فقام ثابت إلى المنبر، فقصف كالرعود، وألقى كالقذائف كلاماً، فقال بنو تميم: وغلب خطيبك خطيبنا.
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {أفرضكم زيد} زيد في الفرائض، هو المقدم فيها لكن علي بن أبي طالب أجاد كل الإجادة في القضاء، يقول علي: {أرسلني صلى الله عليه وسلم إلى اليمن -وهذا الحديث في السنن - فقال لي: اللهم ثبت جنانه، واهد لسانه وضرب على صدري، فما اختلجت عليَّ قضية أبداً}.
علي جمع مع القضاء الكلمة التي تصل إلى القلوب، فكلام علي يصل إلى القلوب بلا ترجمان، حتى يقول ابن كثير في آخر البداية باب في كلماته الحاصلة، التي هي إلى القلوب واصلة.
ذكروا عنه في التراجم أنه -اسمع الكلمات- عند ما قيل له: كم بين الأرض والعرش؟ قال: دعوة مستجابة، قالوا: كم بين المشرق المغرب؟ قال: مسيرة الشمس يوماً.
كانت كلماته مؤثرة، يقول البخاري: "باب الرقاق وما يحذر من زينة الدنيا وقال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36] وقال علي بن أبي طالب: [[ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل]].
علي رضي الله عنه وأرضاه، جلس في الكوفة تحت جدار يريد أن ينقض، فمر به رجل وهو يحكم بين رجلين، وقال: "يا أمير المؤمنين! الجدار، لا ينقض عليك! قال علي: حسبنا الله ونعم الوكيل، فلما قضى بين الرجلين، وقام هو والرجلان، سقط الجدار مكانه، {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران:173] كما جاء في صحيح البخاري قال ابن عباس: [حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم لما ألقي في النار، وقالها محمد لما قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:173]]].(125/15)
التخصص والحاجة إليه
التخصص معناه في الإسلام: أن يكون لك حد أدنى من العلم في كل فن تحتاجه، في حياتك كمسلم، ثم تبرز في فن تنفع به المسلمين، لا نقول للفقيه: كن مفسراً بدرجة المفسرين الكبار، ولا للمفسر: كن فقيهاً أو محدثاً، لكن ليكن لك جانب من العلم تشارك فيه، ثم لتنفع الإسلام في مجالك، والذين قالوا: إن مبدأ التخصص ليس وارداً أخطئوا، بل أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم مبدأ التخصص، وعقلاء الأمم الكافرة يقرون هذا، فإن الحضارة الغربية -كما ترون- بنيت جزئياتها من أناس تخصصوا في كل جزئية، وأحدهم يخصص وقته وحياته ونومه ويقظته لهذه الجزئية؛ أما الذي يتذبذب هنا وهناك، فسوف يكون عمله مرتبكاً، ولن يجيد شيئاً.
وهذا هو سبب الضعف عند بعض دعاة الإسلام؛ لأنه ما وجد الطريقة التي يصل إلى الناس بها، يكون خطيباً فيجعل نفسه مفتياً، ويكون مفتياً فيجعل نفسه خطيباً، ويستطيع أن يكون داعية أفراد، فيجعل نفسه داعية عامة، ويستطيع أن يكون صحفياً بارزاً، ويكتب الصحف بقلم سيال جذاب، لكنه يقول: الكتابة في الصحف حرام، ويترك أهل الضلالة يرتعون، ويعبرون عن آرائهم الوقحة بكل بجاحة، ويفرخون بالصحف، يستطيع أن يكون داعيةً في وسائل الإعلام، وينزوي في بيته؛ لأنه ما عرف أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم دعوة التخصص.(125/16)
أهمية الدعوة على علم وأهمية التخصص
أيها الإخوة، إن خلاصة هذه المحاضرة يمكن أن نلخصها في ثلاثة أمور:
أولها: لا دعوة إلا بعلم، ومن زعم أنه يدعو الناس بلا علم، أفسد أكثر مما أصلح.
ثانيها: أن من توقف عن الدعوة لكي يكون حبراً من الأحبار في العلم فقد أخطأ، بل يدعو بما عنده من العلم، ولا يزيد على ما عنده من العلم، بل هو في الآية عالم فيها، جاهل في غيرها، فيدعو بهذه الآية كما قال صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية}.
ثالثها: أننا نؤمن بالتخصص، ونصنف الناس على حسب تخصصاتهم، فحق على القائمين على الدعوة والجامعات، من أساتذة وعمداء ومدراء الجامعات، أن يصنفوا نتاجهم للناس من باحث خبير، ومن كاتب صحفي، ومتكلم على المنبر، ومن مفت للناس لتنهض الأمة الإسلامية ثم أعود فأقول: "إن العلم أيها الأبرار أفضل من أي نافلة أخرى"، وقد هون بعض الناس من فضل العلم الشرعي، وقالوا: لمن يقرأ الكتاب في البيت زاد نسخة في البلد، فأماتوا العلم بهذا.
لا والله ما زاد نسخة في البلد؛ بل والله زاد عالماً جليلاً، وحبراً مفيداً نافعاً، وأما الذين يهونون من جانب العلم فهم عجزوا عن طلب العلم فهونوا من شأنه.
ثم أنبه أيها الإخوة، إلى أنه وجد في الساحة وفي الصحوة أناس يعيشون على الفكر، ويصبحون على الفكر، أصبحنا وأصبح الفكر لله، وأمسينا وأمسى الفكر لله، فكر وإنشاء، وهذا الفكر كالبالونات، التي تأتي من تايوان، فتنفجر بالجو، ليس فيها طعام ولا شراب ولا غذاء: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] وأمة تعيش على الفكر ليست بأمة، ونحن أمة علم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] والعلم طلبه فريضة، فعلينا أن نعود إلى العلم الشرعي.
إن الأخبار والوقائع التي تقع في حوادث الناس تسمى كما سماه ابن تيمية الماجريات؛ هذه الأخبار ليست بعلم، والذي يأخذ أخبار الناس يقرؤها ليس عالماً، هو مثقف، يعرف أخبار الناس، فندعو أنفسنا وإياكم إلى العلم الشرعي، وأن ندعو الناس على بصيرة، وأن نجدد مسيرة الأمة.
كان عبد الحميد بن باديس داعية الجزائر وعالمها يعلم الناس، يريد أن يثور على الفرنسيين؛ فرأى الناس جهلة، قال: "لن ننتصر على فرنسا ما دمنا جهلة، إننا لن ننتصر على العدو إلا بالعلم والإيمان"، فأسس الحلقات، ووزع الدعاة، وأقام الندوات، وتعلم الناس؛ فدكوا فرنسا الطاغية، فأمة بلا علم أمة جهل وضلالة وخرافة.
أسال الله لي ولكم التوفيق، وإن نقص شيء فإنها علالة مغترب، وقيد في جيد، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
فإن تجد عيباً فسد الخللا فجل من لا عيب فيه وعلا
من ذا الذي سوى الرسول كامل أو جمعت لغيره الفضائل
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(125/17)
الأسئلة(125/18)
حكم التسرع في الفتوى بغير علم
السؤال
سمعنا من فضيلتكم أن الفتوى خطيرة وكيف أن عمر بن الخطاب إذا سئل عن مسألة جمع لها أهل بدر؟ وفي زماننا هذا نرى أن أكثر من يدعون العلم يتسرعون في الفتوى وبقولهم: هذا حلال وهذا حرام دونما تمهل، فنرجو أن توضح لنا طريقاً سليماً نسلكه في فتوانا؟
الجواب
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116].
والناس في الفتيا علىجانبين ووسط؛ فأناس يتطرفون في جانب الفتيا حيث يفتون في كل شيء وفيما لا يعرفون، ليس عندهم سؤال صعب.
وطرف آخر بلغ به الورع البارد إلى أن يقول: الله ورسوله أعلم حتى في البديهيات، كم يتمضمض المسلم؟ قال: الله أعلم.
كم أركان الإسلام؟ قال: الله أعلم! أين يستقبل المصلي؟ قال: الله أعلم! فهذا ورعع بارد أضر بالإسلام.
والحكمة التوسط، من أجاد مسألة، وعرف دليلها؛ فليفتِ على بركة الله: {دعها فإن معها سقاءها وحذاءها ترد الماء، وترعى الشجر، حتى يلقاها ربها} والذي لا يعرف يقول: لا أدري، قالوا لـ علي بن أبي طالب وسألوه سؤالاً، قال: [["لا أدري" ما أبردها على قلبي، سئلت عما لا أدري فقلت: لا أدري]].
وسئل ابن عمر في ثمان مسائل، وقال: [[لا أدري، قال أعرابي: أذهب إلى الناس، وأقول: إن ابن عمر لا يدري؟! قال: اذهب إلى من عرفت وقل: إن ابن عمر لا يحسن شيئاً]] والإمام مالك عرضت عليه أربعون مسألة، فأجاب في ثمان، وقال في اثنتين وثلاثين مسألة: لا أدري.
وقال الشعبي: [[لا أدري نصف العلم]] ومن لا يستخدم كلمة: لا أدري؛ فقد أصيبت مقاتله، وإذا أراد الإنسان أن يفتي؛ فليتذكر الله عز وجل والعرض بين يديه، وليعرف أنه سوف يحلل الفروج أو يحرمها، والدماء أو الأموال، ولذلك قال ابن القيم: "المفتون هم الموقعون عن رب العالمين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى".
وللفتيا آداب منها: أن يستحضر عظمة الله ثم يخلص له، ومنها: أن يستغفر كثيراً، ومنها: أن يسأل العون من الله، ومنها: أن يتلبث مع السائل ويراجع المسألة، ومنها: إذا كان في المسائل أقوال ألا يوردها، لكنه يرجح ويحقق لأن إيراد الأقوال على الناس لا ينفع، مثلاً جاء عامي يسأل عن مسألة فيقال له: قال مالك، لكن أبو حنيفة قال كذا، أما الشافعي فرأى كذا، ولكن أحمد رأى كذا وكذا، وابن حزم يخالف، هذه حيص بيص، ويخرج كما دخل:
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
قال ابن تيمية: "من عرض الأقوال للناس بدون ترجيح، فهو كالمتشبع بما لم يعط"، فهو يظهر أن عنده حفظاً أقوى، لكنه ما رجح، لا في دليل ولا في سير، والتحقيق العلمي ذكر الآيات إن كان هناك آيات، أو الحديث صحة وضعفاً، والحديث إن كان منسوخاً أو ناسخاً، ثم أقوال العلماء، ثم الترجيح في آخر المسألة.(125/19)
الطريق الصحيح لمقاومة الشهوة
السؤال
أنا شاب مبتلى بالجنس أو الشهوة؛ فلا أقدر على رد الشهوة، فما هو الطريق الصحيح في رأيكم لكبح جماح الشهوة؟
الجواب
أمامك طريقان: الطريقة الأولى: الزواج، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج} فعليك أن تجتهد حتى تحصل على زوجة وتغض بصرك وتحصن فرجك، نسأل الله أن يحصن فرجك وبصرك.
الطريقة الثانية: إذا لم تستطع هذا، وحالت دونك عوائق، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} فعليك بالصيام وذكر الله عز وجل، وقد سئل ابن تيمية عن سؤال يشبه هذا، فقال: "عليك بالمرهم" والمرهم هو الدعاء، أن تقول: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب والأبصار صرف قلبي على طاعتك} ثم إني أنصحك بمجانبة وسائل الفساد، التي تثير الشهوة مثل: المجلة الخليعة، أو الأغنية الماجنة، أو مجالسة الفسقة والمتفحشين والمسرفين على أنفسهم، وأنصحك أن تجالس المتقين الأخيار أهل العلم والتقوى والخير، وأن تلتزم المصحف والذكر والصيام.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(125/20)
ثلاثون علامة للمنافقين
النفاق داء خطير خاف منه الصالحون والمخلصون، وأما الكاذبون في إيمانهم فقد فضحهم الله وكشف سرائرهم ومكائدهم، ولهم علامات ذكرت في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومنها:
الكذب، والغدر، والفجور، وخلف الوعد، والكسل في العبادات، والرياء، وقلة الذكر، وقلة الصلاة، ولمز المطوعين، والاستهزاء والسخرية، والإنفاق كرهاً، والتخذيل، والإرجاف، والاعتراض على أقدار الله، والوقوع في أعراض الصالحين، والتخلف عن صلاة الجماعة، والإفساد في الأرض، ومخالفة الظاهر للباطن، والتخوف من الحوادث.(126/1)
النفاق وخطره
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً, وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً, وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً, وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, بلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.
فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
إخوتي في الله سلام الله عليكم ورحمته وبركاته
ومع أول مستهل هذا الدرس بمدينة الخميس أحيي وأشكر فضيلة الشيخ أحمد الحواش إمام هذا الجامع، على استضافته لهذه الدروس.
وعنوان هذا الدرس: "ثلاثون علامة للمنافقين" نعوذ بالله من النفاق, ونسأل الله عز وجل أن يشافينا منه، وأن يبرأ قلوبنا من هذا المرض الخطير.
ثلاثون علامة للمنافقين في كتاب الله عز وجل, وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وأنا أسردها سرداً، ثم أعود أفصلها بالأدلة، والله المستعان والموفق.
والمقصود من هذا: أن يتنبه المؤمن من النفاق, وأن يخشاه، ففي صحيح البخاري في كتاب الإيمان تعليق من كلام الحسن البصري [[ما خافه إلا مؤمن وما أمنه إلا منافق]] أي: ما خاف النفاق إلا مؤمن, فالمؤمن دائماً يخاف النفاق, وأما من يأمن النفاق فهو المنافق.
قال عمر لـ حذيفة في الصحيح: [[أسألك بالله يا حذيفة! أسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟ قال: لا.
ولا أزكي أحداً بعدك]].
والنفاق هذا إذا لم يتنبه له المسلم وقع فيه وقعة ما بعدها وقعة، تودي به إلى نار تلظى.(126/2)
أقسام النفاق
النفاق قسمان عند أهل السنة:(126/3)
النفاق الإعتقادي
أولاً: نفاق يخرج من الملة, وصاحبه في الدرك الأسفل من النار, وهو الذي يكذب في الباطن برسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو أظهرها في الظاهر، أو يكذب بالكتب، أو بالملائكة، أو بأي أصل من أصول أهل السنة , ودليل ذلك قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:8 - 10].(126/4)
نفاق العمل
ثانياً: نفاق لا يخرج من الملة، وقد دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين {آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا أؤتمن خان}.(126/5)
علامات المنافقين
وأسرد لكم علامات المنافقين الثلاثين:
1/ الكذب.
2/ الغدر.
3/ الفجور.
4/ الخلف في الوعد.
5/ الكسل في العبادة.
6/ المراءاة.
7/ قلة ذكر لله عز وجل
8/ نقر الصلاة.
9/ لمز المطوعين من المؤمنين والصالحين.
10/ الاستهزاء.
11/ الحلف مداجاة (مطاولة ومداراة).
12/ الإنفاق كرهاً.
13/ التخذيل.
14/ الإرجاف.
15/ الاعتراض على القدر.
16/ الوقوع في أعراض الصالحين.
17/ التخلف عن صلاة الجماعة.
18/ الإفساد في الأرض بزعم الإصلاح.
19/ مخالفة الظاهر للباطن.
20/ التخوف من الحوادث.
21/ الاعتذار كذباً.
22/ يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
23/ يقبضون أيديهم بخلاً وشحاً.
24/ نسيان الله عز وجل.
25/ التكذيب بوعد الله، وبوعد رسوله صلى الله عليه وسلم.
26/ الاهتمام بالظاهر وإهمال الباطن.
27/ التفاصح والتملق والتشدق.
28/ عدم الفقه في الدين.
29/ الاستخفاء من الناس ومبارزة الله بالذنوب والخطايا.
30/ الفرح بمصيبة المؤمنين والتضايق من مسراتهم.
شكى الصالحون من النفاق, وبكوا منه, وخافوا على أنفسهم, وتبرءوا إلى الله منه، وسألوا الله أن يشافيهم من النفاق, والنفاق كثير، خاصة مع هذا العصر، وكثرة الفتن والمفاسد, وما طمت به المادة الغربية الملحدة المتزندقة, من ثقافات وسموم وانحرافات.
وقد ذكر الله المنافقين في أكثر من سورة, بل خصص لهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى سورة كاملة، هي: سورة التوبة، تسمى: الفاضحة لأنها فضحتهم, ذكر فيها خمس مرات: ومنهم ومنهم ومنهم! وخصهم الله بسورة المنافقين, فابتدأها سُبحَانَهُ وَتَعَالى بقوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1].
أحدهم أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله! لن أخرج معك في غزوة تبوك؛ لأني رجل إذا رأيت بنات بني الأصفر لا أصبر عن النساء, فعذره عليه الصلاة والسلام, فأنزل الله قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].
جاء ابن جميل فقال: يا رسول الله! أنا فقير؛ فادعُ الله أن يغنيني من خزائنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى, فوالله يا رسول الله! لئن أغناني الله لأتصدقن ولأعطين ولأبذلن, فدعا له, فلما أتت عليه الزكاة كفر بها، ورفضها، ومنع وبخل وقبض يده, فأنزل الله قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة:75 - 76].
قال عبد الله بن أبي -وقد تضارب مهاجري وأنصاري-: والله لئن رجعنا إلى المدينة من تبوك ليخرجن الأعز منها الأذل, فأنزل الله على رسوله الآيات، وكذبه، وجعل الدائرة عليه، ومات منافقاً رعديداً زنديقاً.(126/6)
الكذب
أيها المسلمون! أول علامة من علامات النفاق: الكذب, قال ابن تيمية: الكذب ركن من أركان الكفر.
وذكر -رحمه الله- أن الله إذا ذكر النفاق في القرآن ذكر معه الكذب, وإذا ذكر الكذب ذكر النفاق, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:9 - 10] وقال سبحانه -كما أسلفت- في سورة التوبة: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107] فذكر الله الكذب, وإذا ذكر النفاق ذكر قلة الذكر, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في آخر سورة المنافقين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:9] فنفى الله عن المؤمنين النفاق بذكرهم, ووصف الله نفاق المنافقين بقلة ذكرهم.
والكذب, يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {آية المنافق ثلاث، وذكر منها: وإذا حدث كذب} فمن كذب مازحاً أو جاداً، أو كذب لأمر، أو لحيلة، ففيه شعبة من النفاق, وما كذب إلا لنفاق في قلبه والله المستعان! وهو علامة صارخة تشهد على صاحبه بالنفاق.
وكذلك من كذب مازحاً، فإن بعض الناس يتساهل في ذلك, وعند أحمد في المسند بسند جيد: {ويل له, ويل له, ويل له, من كذب الكذبة ليضحك القوم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
والكذَّاب ملعون، سواء كان جاداً أو مازحاً، فليتنبه لهذه الخصلة الذميمة، فإن مبنى النفاق وركن النفاق الأعظم وقطبه ودائرته وبركانه وعموده هو الكذب, وما نافق المنافقون إلا بكذب في قلوبهم، وهو يبدأ كالقطرة في القلب، ثم يتعمق ويتطور حتى يصبح فسطاطاً عظيماً, ويصبح حصناً من حصون النفاق والعياذ بالله, فأحذركم ونفسي من الكذب, إياكم والكذب فإن الكذب مدد للنفاق, والله وصف المنافقين بالكذب، فقد كذبوا في أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم.(126/7)
الغدر
العلامة الثانية: الغدر, والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: {وإذا عاهد غدر} من أعطى المسلمين بيمينه أو عاهده أو ولي الأمر أو مسلماً أو كافراً في حرب في معاهدة ثم غدر؛ فقد أشهد على نفسه بالنفاق, ولذلك ثبت في حديث بريدة يوم قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم يوم ولى الأمير وقال: {وإذا سألك أهل حصن أن تنزلهم في ذمة الله، فأنزلهم في ذمتك أو ذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم أهون -أو أسهل- من أن تخفروا ذمة الله}.
فمن أعطى عهده رجلاً أو امرأته أو ولده أو صاحبه أو صديقه أو ولي أمر ثم خانه وغدره بلا سند إسلامي، فهذا علامة وركن من أركان النفاق والعياذ بالله.(126/8)
الفجور
العلامة الثالثة: الفجور في الخصومات؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين {وإذا خاصم فجر}.
قال أهل العلم: "من خاصم مسلماً -لأن مخاصمة الكفار لها باب آخر يفصلونه عن مخاصمة المسلمين- ثم فجر في خصومته، فقد أشهد الله على ما في قلبه أنه فاجر منافق".
وأما الكافر فهناك حديث: {الحرب خدعة} وقد عمل به علي رضي الله عنه مع الكفار, وله تفصيل آخر إذا خان الكفار, فغدرهم أو اللعب بهم والاحتيال عليهم وارد لا غدراً ولا فجوراً, وإنما من باب الحيلة، ولها بحث.(126/9)
خلف الوعد
الأمر الرابع: الخلف بالوعد فمن وعد ثم أخلف وعده فقد ورث شعبة من شعب النفاق, يذكر عنه صلى الله عليه وسلم في السير بأسانيد تقبل التحسين, أنه وعد رجلاً عليه الصلاة والسلام أن يلاقيه, فأتى عليه الصلاة والسلام للموعد فأخلف ذاك الرجل, فبقي صلى الله عليه وسلم في المكان ثلاثة أيام بلياليها, فتذكر الرجل فجاء, فقال له صلى الله عليه وسلم: {لقد شققت عليّ} فمن أخلف في ميعاده ولم ينضبط ففيه علامة من النفاق, من وعدك في ساعة أو في يوم أو في مكان, ثم أخلف ميعادك بلا عذر، فاعلم أن فيه شعبة من النفاق, فاغسل يديك منه.
كان أحد الصالحين إذا وعد أخاه، قال: إن شاء الله ليس بيني وبينك موعد, إن استطعت حضرت وإن لم أستطع فالعذر, لئلا تكتب عليه شعبة من شعب النفاق والعياذ بالله, وهذا النفاق العملي الذي يأتي كثيراً، وذلك لقلة الإيمان في بعض المسلمين، أصبحوا يخلفون الميعاد، ويكذبون، ويفجرون، ويغدرون, فإذا سافر المسافر إلى دول الكفر ورأى انضباطهم -في النفع من أجل المادة- وانضباط مواعيدهم, قال: عجيب! وجدت هناك الإخلاص والصدق والأمانة, وأتى يمدح في أعداء الله، وأذناب كل ملحد رعديد، ويسب المسلمين, فنقول له: وجدت هناك قوماً يتعاملون بالدرهم والدينار، ويعبدون المنفعة، فانضبطوا, ووجدت هنا قوماً ليس عندهم إيمان، فخالفوا شرع الله، فقبحوا صورة هذا الدين في عيون المسلمين.
والعجيب أن هناك كتاباً في الساحة مذكرات للرئيس الأمريكي " ريجن " الهالك المتزحلق من الرئاسة, يذكرون عنه أن مواعيده كانت بالدقيقة بل بالثواني, وكان يدخل البيت الأبيض -وهذا من باب: الحكمة ضالة المؤمن- في الساعة الثانية والثامنة والخمسين دقيقة، فيتكلم مع نائبه دقيقتين ثم يجلس على مكتبه, فينقل بعض المعلقين الصحفيين، فيقول: هذا هو الانضباط, والصدق والإخلاص, وأي صدق عند ذلك الفاجر؟ وأي إخلاص عن رجل باع ذمته وعهده ووقته وأيامه؟ بل هو عدو لله، ولكنه نفعي، يعبد كرسيه وهو بعيد عن الله.(126/10)
الكسل في العبادة
العلامة الخامسة: الكسل في العبادة, قال سبحانه: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] إذا رأيت الإنسان يتكاسل عن الصلاة، وعن الصف الأول، وعن الذكر، وعن الدعوة، والعلم، وعن مجالس الخير, فاعلم أن في نفسه وسوسة وأن الشيطان يريد أن يفرخ ويبيض في قلبه, فليتنبه لذلك, ليس المعنى أن من صلّى فهو بريء من النفاق, والمنافقون كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم, لكن علامة صلاتهم كسالى: يقومون بكسل وببطء وببرود لا يعرفون القوة, ولا الحياة, والله يقول: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] أما هؤلاء فيجر أحدهم أقدامه، فكأنما يجر بالسلاسل إلى المسجد, فيقف في طرف الصف أو في آخر المسجد, لا يدري ماذا قرأ الإمام, لا يتدبر ولا يعي.
فقل للعيون الرمد للشمس أعين تراها بحق في مغيب ومطلع
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأبصارها لا تستفيق ولا تعي
وقد ورد في صحيح مسلم من حديث الأسود بن يزيد العراقي العابد {قال: قلت لـ عائشة: متى كان صلى الله عليه وسلم يستيقظ لصلاة الليل؟ -أي: قيام الليل- قالت عائشة: كان يستيقظ إذا سمع الصارخ} -الصارخ: هو الديك- وقالت عائشة: {وكان صلى الله عليه وسلم يثب وثباً} -ما قالت يقوم قياماً- إنما يثب وثباً, وهذا يدل على الشجاعة, والحيوية, وحرارة الإيمان, وعلى قوة الإرادة, يأتي إلى العبادة بطاعة, ولذلك تجد الصالح ينظر دائماً في عقارب ساعته, متى يؤذن؟ هل حان وقت الصلاة؟ هل أقبل الوقت؟ ثم يقوم مبادراً.
قال الإمام أحمد في كتاب الزهد في ترجمة عدي بن حاتم: [[والله ما قربت الصلاة إلا كنت لها بالأشواق]] , وقالوا عن سعيد بن المسيب عن سيرته: [[ما أذن المؤذن من أربعين سنة إلا وأنا في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام]].
وهذا هو الإيمان والله! وإذا رأيت الرجل في الروضة، وفي الصف الأول, فاشهد له بالإيمان.
وعند الترمذي بسند فيه مقال، فيه دراج أبي السمح عن أبي الهيثم وفيه ضعف, قال صلى الله عليه وسلم: {من رأيتموه يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان} لكن معناه صحيح عند أهل العلم, فإن من أتى المسجد وداوم على ذلك, برئ -إن شاء الله- من النفاق الاعتقادي, وعليه أن يبرأ نفسه من النفاق العملي.
فالكسل يا إخوتي في الله! علامة من علامات النفاق، وتظهر في العلامات الثلاث, في العبادة، في الصيام، في الذكر، في الإقبال للدروس وإلى العلم النافع، إلى الدعوة, فليتنبه العبد, وليحذر على نفسه من الكسل, فإنه والله داء خطير وصف الله به المنافقين والعياذ بالله.(126/11)
الرياء والسمعة
العلامة السادسة: المراءاة في العبادة، قال تعالى: ((يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال: {من راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به}.
كيف الرياء؟
يخشع أمام الناس، وينقر صلاته في الخلوة, إذا جلس مع الناس، عليه زهد وعبادة, ويتأدب في مجلسه, وفي كلامه ومنطقه, فإذا خلا بمحارم الله انتهكها, وعند ابن ماجة من حديث أبي هريرة بسند يقبل التحسين، قال عليه الصلاة والسلام: {ليأتين أقوام يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة , يجعلها الله هباءاً منثوراً, قال الصحابة: يا رسول الله! أليسوا بمسلمين؟ قال: بلى، يصلون كما تصلون, ويصومون كما تصومون, ولهم أموال يتصدقون بها وكان لهم حظ من الليل, لكنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها}.
فعلامة المنافق الرياء, يعمل لأجل الناس، ويتكلم لأجل الناس, ونحن نسأل الله أن يطهرنا من الرياء والسمعة, فإنها أخطر الأمراض, وإذا وقعت على العبد أفسدت عمله.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: {أن الله يقول يوم القيامة: أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من أشرك معي في عمل تركته وشركه} فلا يقبل الله من عمل المرائي قليلاً ولا كثيراً, وعند أحمد في المسند قوله صلى الله عليه وسلم: {الرياء شرك} وقد بكى الصالحون من تخوفهم من الرياء، وشكوا إلى مولاهم، وسألوا الله أن يبرأهم من الرياء, فقد يدخل النفقة رياء، والصلاة رياء، والذكر والصيام ولا مفر لنا من الرياء إلا بثلاثة أمور:
1/ أن تعلم أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله, ولا يعافي ولا يشافي، ولا يحيى ولا يميت، ولا يبسط ولا يجزي، ولا يعاقب إلا الله.
2/ أن تعرف قدر المخلوق، وأنه ضعيف هزيل، لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا أجراً ولا عقوبة, فعليك أن تهدأ.
3/ أن تدعو بالدعاء الحسن الذي قاله عليه الصلاة والسلام معلماً أصحابه أن يقول أحدهم: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاًَ وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم}.
قال الحسن البصري: [[اللهم إني أعوذ بك من الرياء والسمعة]] وفي لفظ عنه في الترجمة أنه قال: [اللهم اغفر ريائي وسمعتي]].
فالله الله!! أما السمعة فهو طلب الصيت والعمل من أجل الشهرة, وهؤلاء يفضحهم الله على رءوس الأشهاد, نسأل الله أن يشافينا من الرياء والسمعة.(126/12)
قلة الذكر
العلامة السابعة: قلة الذكر.
سبحان الله! يذكرون الله لكن قليلاً, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] ولم يقل: لا يذكرون الله, يذكرون الله لكن قليلاً, ربما المنافق يذكر الله، ويسبح قليلاً, لكن لسانه ميت، وليس عنده نشاط على الذكر, وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الدرداء {تلك صلاة المنافق, تلك صلاة المنافق, تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى تدنو من الغروب -وفي لفظ: حتى تَصْفَر - ثم يقوم فينقر أربع ركعات لا يذكر الله فيها إلا قليلاً} سبحان الله! يصلي ويذكر الله قليلاً ومنافق.
أما علامة الإيمان فكثرة الذكر, قال ابن القيم في كتاب " الوابل الصيب ": لو لم يكن من فوائد الذكر إلا أنه ينفي عن صاحبه النفاق لكفى به فائدة، قيل لـ علي: الخوارج منافقون؟
الخوارج الذين قتلهم رضي الله عنه وأرضاه، قال:
[[لا.
هؤلاء يذكرون الله كثيراً, والمنافق يذكر الله إلا قليلاً]] وقال سبحانه: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] وقال سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وقال تعالى: {يَذْكُرُونَ الذينَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] وقال سبحانه: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41].
قيل لـ ابن الصلاح المحدث الشافعي: كيف يذكر الله كثيراً؟
قال: من حافظ على الأذكار المأثورة عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر الله كثيراً، من حافظ على أذكار أدبار الصلوات وفي الصباح والمساء, ومع الطعام والشراب, ومع النوم والاستيقاظ, ومع رؤية البرق وسماع الرعد ونزول الغيث, ومع دخول المسجد والخروج منه وأمثالها, فقد ذكر الله كثيراً.
ونسب إلى ابن عباس أنه قال: [[من ذكر الله في الحل والترحال، والإقامة والظعن، والصحة والمرض، فقد ذكر الله كثيراً]].
وذكر عن بعضهم أنهم قالوا: ذكر الله كثيراً ألا يزال لسانك رطباً من ذكر الله، وعند الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن بسر قال: {يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ, فأخبرني بشيء أتشبث به؟ قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} وعند مسلم في الصحيح, قال عليه الصلاة والسلام: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر, أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس} وفي لفظ {أو غربت} وعند مسلم عن أبي هريرة قوله صلى الله عليه وسلم: {سيروا هذا جمدان، سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات}.
فيا إخوتي في الله أوصيكم بالذكر، قليل الذكر يخشى عليه من النفاق, علقوا قلوبكم بالتسبيح، والتهليل، وقراءة القرآن، والاستغفار، والتوبة، والصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن أحسن كتب الذكر والأذكار ثلاثة: الأذكار للنووي والوابل الصيب لـ ابن القيم والكلم الطيب لـ ابن تيمية.(126/13)
نقر الصلاة
وأما المسألة الثامنة من علامات المنافقين: فنقر الصلاة تلك صلاة المنافق، وقد ثبت في الحديث الصحيح: {ينقر أربع ركعات} أي: ومعنى نقر الصلاة: أي السرعة في الصلاة، وعدم الخشوع فيها، والتؤدة، وعدم التريث، وقلة الذكر في الصلاة، وشرود القلب، وعدم استحضار عظمة الله عز وجل وهيبته ومقامه كل هذا من علامات المنافقين.
يقول ابن القيم في المدارج: يصلي المصلي بجانب أخيه في صف واحد، ووراء إمام واحد، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، لأن هذا في قلبه إخلاص وحب وأشواق ومراقبة وخشية, وفي قلب هذا شرود وبعد وموت والعياذ بالله.
فالله الله بالانتباه في الخشوع في الصلاة, {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] وأدلكم على رسالة الخشوع في الصلاة لـ ابن رجب , فهي أحسن ما كتب في الصلاة.(126/14)
لمز المطوعين
ومن علامات النفاق، وهي التاسعة: لمز المطوعين من المؤمنين والصالحين, اللمز: نيل الأعراض منهم، وسل الألسنة عليهم, والمطوعين يدخل فيهم: المتصدقين طاعة, والباذلين أنفسهم في سبيل الله, تجد المنافق في كل مجلس لا هم له إلا الصالحين, المطاوعة المتزمتين المتطرفين!! لا يتكلم في اليهود، ولا في النصارى، ولا في الشيوعيين، ولا في الزنادقة, إنما همه صباح مساء, الصالحين من أولياء الله يتكلم فيهم وينالهم في المجالس ويجتهد بهم, مثل بعض الكتبة العصريين في كتاب له يقول: سألني رجل في الإمارات كث اللحية عن الكولونية!! -هو داعية في الظاهر نسأل الله أن يغفر لنا وله- مقصوده اللحية يحاربها والثياب, لا أدري كيف يفهم السنة إلا أن تكون سنة عوجاء؟
قال: وفي الجزائر سألني سائل كث اللحية عن مسألة تقصير الثياب؟ وسألني ساءل آخر كث اللحية عن مسألة الحجاب؟
فنقول له: ما علاقة السؤال وكث اللحية والحجاب؟ إلا الهمز واللمز.
فيا إخوتي فلينتبه المؤمن، فإن علامة المنافق أن ينال من الصالحين، يتتبع آثارهم، ويستهزئ بهم، مثل: العلماء، والدعاة، وطلبة العلم والعباد والمستقيمين, ولذلك يقول الأول -وقد تكرر هذا كثيراً- وذكره ابن القيم في كتاب شفاء العليل , قال لما ذكر المبتدعة وهم يهاجمون أهل السنة , قال: نحن وإياهم كما قال الأول:
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان عليّ ما ألقاه لكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
وقال العربي لأخيه، يعني ليكون أخوه واضحاً, قال:
فإما أن تكون أخي بصدق فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطّرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني
فإني لو تخالفني شمالي ببغض ما وصفت بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بيني كذلك أجتوي من يجتويني
من يسبب في إرباك الصالحين والنيل منهم ومن سننهم, فهو علامة النفاق والعياذ بالله.(126/15)
الاستهزاء والسخرية
ومن علاماتهم: الاستهزاء بالقرآن والسنة والرسول صلى الله عليه وسلم, سمعت عن فاجر حداثي في هذا العصر, من طريق أحد الثقات, بأن هذا الفاجر انسلخ -نعوذ بالله من الانسلاخ- لا يصلي ولا يصوم ولا يزكي, ولا يكفي هذا! بل تقحم على السنة، واستهزأ برسول الله عليه الصلاة والسلام, وإن كانت صحت عنه هذه القصة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً ولا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.
جلس مع شباب من أمثاله, فاستغواهم وحرفهم عن طريق الجنة, أخذهم إلى طريق النار, قال: تريدون أن أحدثكم من أحاديث أبي هريرة؟
قالوا: حدثنا من أحاديث أبي هريرة.
قال: حدثتني عمتي قالت: حدثتها خالتها، أن جدتها سمعت قائلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه وهم حوله: أتدرون ما البيبسي؟ -البيبسي هذا المشروب وهو لم يكن في عهد الرسول, ولكن استهزاءً- قالوا: لا ندري! قال: قوموا عني ما تدرون ما البيبسي؟!!
فهذا يكفي في تكفيره, وقد كفر بهذه الكلمة, وأصبح دمه هدراً, وحده السيف, ولا يصلى عليه, ولا يكفن، ولا يدفن في مقابر المسلمين, بل هو كافر قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] وقد أنزلها الله في قوم من المنافقين صلوا وصاموا وجاهدوا معه صلى الله عليه وسلم, ولكن قال أحدهم: ما وجدنا كقرائنا هؤلاء -أي: الصحابة- أرغب بطوناً، وأجبن عند اللقاء! فأنزل الله كفرهم في هذه الآية، ومقتهم وفضحهم على رءوس الأشهاد, فلا إله إلا الله كم من قصر مشيد للإسلام هدموه! وكم من حصن أوقعوه! وكم من بيت أخربوه! وكم من دار وكم من بلد دمروه! وجزاؤهم نار جهنم وساءت مصيراً.
الاستهزاء: يكون بالاستهزاء بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم, كالاستهزاء بالثياب, والسواك، واللحية, والجلوس, والهيئات, والأحاديث ونحوها.
حكم المستهزئ المتعمد: أنه كافر.(126/16)
الحلف مداجاة (مطاولة ومداراة)
ومن علاماتهم: الحلف مداجاة مطاولة ومداراة, يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة:16] أي: وقاية لهم.
إذا سألته حلف, وأسهل شيء عليه اليمين وهو كاذب, دائماً يحلف والله لأفعل! والله قد فعلت! والله ما أردت! يغتاب رجلاً؛ فإذا سمع المغتاب أو الذي قيلت فيه الغيبة أتى, وقال: والله ما قلت فيك شيئاً, والله إنك أحب الناس إليّ! والله إنك صاحبي! وقد كذب {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة:16].
فمن علامة المنافق: أنه أكثر الناس يميناً كاذباً {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:10] , والحلَّاف: كثير الحلف بصيغة مبالغة على وزن فعّال, أي: يحلف باستمرار.
قال الشافعي: (ما حلفت بالله صادقاً ولا كاذباً لله درّك ما أتقاك ورع, يعني: توقيراً لعظمة الواحد الأحد, فجزاه الله خيراً على ورعه.
ومما يذكر في هذا الجانب على باب الاستطراد في باب الورع: أن البخاري قال: ما اغتبت مسلماً منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها, وفي لفظ عنه في أنه قال: ما اغتبت مسلماً منذ بلغت الحلم.
قالوا: ونقد الرجال؟
تقول: فلان وضاع, فلان كذاب, وفلان سيئ الحفظ؟
قال: ليس هذا من هذا, هذا من باب الذب عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: {ائذنوا له بئس أخو العشيرة}.(126/17)
الإنفاق كرهاً
ومن علامة المنافقين، وهي الثانية عشرة: الإنفاق كرهاً, ينفق ويتصدق ويتورع، وقد يبني المساجد، وقد يعطي, ولكن إما رياءً وإما سمعة، وينفق وهو كاره للنفقة, ينفق لأمور في نفسه، الله أعلم بها, إما للشهرة, وإما ليداجي بعض الناس, وإما يتوجه ويراعي بعض القوم، فينفق كرهاً وهو لا يريد النفقة, والمسلم إذا أنفق انشرح صدره وارتاح, وحمد الله تعالى أن سهل له مشروعاً في الخير أو فقيراً أو مسكيناً فحمد الله على هذه المكاسب, هذه علامة المؤمن.
فيا إخوتي في الله ليتفقد الإنسان نفقته ورياله ودرهمه أين ينفقه؟
إن رأى رياءً، أو كره في نفسه، فليمسك درهمه عليه, لئلا يضيع ماله وينفقه ثم يكون عليه حسرة، ويندم يوم العرض الأكبر.(126/18)
التخذيل
الثالث عشر: التخذيل, فمن علامة المنافقين أنهم يخذلون في صفوف المسلمين, فالمنافق دائماً متشائم, يقول: الكفار أقوى من المسلمين, عندهم من المعدات والقوات ما الله به عليم, يقول: هل يستطيع المسلمون أن يقاتلوا أمريكا؟ أمريكا صاحبة أسلحة نووية, وقنابل ذرية, ونحن المسلمون في هلاك ودمار وضعف ومسكنة دائماً, ولذلك تجد المنافقين الذين قدموا من هناك وغُسلت أدمغتهم, وأصبحوا صوراً للكافر والمستعمر الأجنبي، وهم من أبنائنا, يصورون عظمة أمريكا دائماً, قواتها، صواريخها، طائراتها, ودائماً يذكر ضعفنا وقلتنا؛ لأنه ما اعتز بالله, {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] , وقال سبحانه: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] وقال جل وعلا: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41] لكن لا يشعر، ما علم أن العزة من عند الله, فهو دائماً يخذل, تذكر له الجهاد الأفغاني، قال: لا.
روسيا لن تترك المجاهدين، سوف تسحقهم سحقاً, عندها من القوات الكبيرة, يريد أن يخذل شباب الجهاد, قال: لا أرى أن تذهبوا، سمعنا بقتال عظيم, وأن المجاهدين يسحقون سحقاً, يذهبون إلى المحاضرات يخذل، قال: المحاضرات هذه ليس فيها فائدة, يقول أحدهم: تحضر عند هؤلاء المشايخ وطلبة العلم، لا يقولون إلا: اتقوا الله اتقوا الله دائماً, وهل أحسن من كلمة: (اتق الله)؟ وهل هناك أجمل وهل أنبل وأفضل منها؟ لا والله, فهو يخذل، يقول لزملائه: لا تحضروا الدروس، هذه أمور مكررة, عليك أن تبقى في بيتك، لا تضيع وقتك في أمور نعرفها في الكتب، وهذا من التخذيل، وهو علامة النفاق والعياذ بالله.(126/19)
الإرجاف
الرابع عشر: الإرجاف, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} [الأحزاب:60] , وهم يدخلون في التخذيل, والإرجاف والتخذيل ربما بينهم أمور نسبية، لكن المرجف يضخم الحوادث, يقع أمر بسيط فيكبره, يسمع بمصيبة تقع على عالمٍ أو على مجاهد من المجاهدين فيكبرها.
مثلاً: يقتل مجاهد من المجاهدين، قال: سمعنا أنه قتل ثلاثمائة من المجاهدين, يقع أمر بسيط، قال: وقع على العالم الفلاني من الوقائع ما الله به عليم.
يخطئ عالم في مسألة فرعية أو جزئية، قال: الله يهدينا وإياه يخطئ دائماً، عنده من الأخطاء ما الله بها عليم, ما هذا العلم، ما كأنه يفقه شيئاً!
يتكلم داعية فتزل لسانه فيضخمها ويصورها وينقلها في المجالس, أما سمعتم ماذا قال فلان؟ ولهذا الداعية من الحسنات ألوف الحسنات، ولكن لا ينشرها في الناس, قال الشعبي: ما رأيت كالمرجفين, والله لو أصبت تسعاً وتسعين لنسوها ولعدوا عليّ غلطة واحدة, أي: أنت تصيب مائة مرة, ولكن تخطئ مرة, نسوا مائة مرة وعدوا عليك المرة، وهو من الإرجاف, يزعزعون القلوب.(126/20)
الاعتراض على القدر
ومن علاماتهم: الاعتراض على القدر, قال سبحانه في المنافقين: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168] لو أطاعونا، أي: عندما خرجوا إلى أحد، قال لهم المنافقون: لا تخرجوا إلى أحد، لا تقاتلوا, اجلسوا معنا, فعصوهم وخرجوا، فقتلوا شهداء في سبيل الله, فيقولون -يتبجحون في المجالس-: أشرنا عليهم، قدمنا لهم النصيحة، أوصيناهم، ولكن خالفونا، ولو أطاعونا ما قتلوا, قال سبحانه: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168] والله أنتم كذبة، وسوف تموتون لكن كما تموت الحمير.
لعمرك ما الرزية فقدُ مالٍ ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقدَ شهمٍ يموت بموته بشر كثير
يقولون: من يموت في ممسى الدجاج مثل من يموت بالسيف في سبيل الله, هذا ميت وهذا ميت, لكن ذاك في سبيل الله، وهذا ميت من الميتين, ومن يموت في الخمارة ويغص بالخمر كمن يموت في سبيل الله في الظاهر, لكن ذاك في الجنة وهذا معرض للعذاب والعياذ بالله.
فطعم الموت في أمرٍ حقير كطعم الموت في أمرٍ عظيم
أو كما قال
إذاً: فالاعتراض على القدر من علامات النفاق, والمؤمن يسلم بالقدر: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] وقال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:49 - 50] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156] والمنافق يعترض, يموت ابنه في الحادث فيقول: لماذا خرج بدون إذني؟!
هذا السائق متهور! هو الذي صدمه! لو ترك الابن الخروج! ويلوم الناس؛ وهذا كفر بالقضاء والقدر, وهي علامة النفاق, لا.
قل: آمنت بالله وسلمت.
كل شيء بقضاء وقدر والليالي عبر أي عبر
وفي صحيح مسلم عن سهيل مرفوعاً: {عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له, وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له, وليس ذلك إلا للمؤمن}.
قال عمر: [[والله لا أبالي أمطية الفقر ركبت أو مطية الغنى]].
فسبحان الله! كيف أرضى الله أولياءه بالقضاء والقدر, وكيف أحرم المنافقين لذة الإيمان بالقضاء والقدر, ومع ذلك سوف يذوقونها مراً ثم يعرضون على الله وهم نادمون.
يقول أبو تمام لأحد إخوانه يعزيه يقول:
أتصبر للبلوى رجاءً وحسبة فتؤجر أم تسلو سلو البهائم
يقول: إما أن تصبر وتحتسب وإلا والله لتسلون كما تسلو الدابة عن ولدها.(126/21)
الوقوع في أعراض الصالحين
ومن علامات المنافقين: الوقوع في أعراض الصالحين, والاستهزاء شيء ولكن الوقوع شيء آخر, الوقوع مثل الغيبة, قال تعالى: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب:19] حداد هذه صفة لألسنة، وأشحة: حال له, وليست صفة ثانية لألسنة, لأن الألسنة لا توصف بأنها أشحة، لكن نفوسهم أشحة, حداداً: أي: كأنها سيوف، تجدهم إذا استدبروا الصالحين سلقوهم وحنطوهم وسحقوهم وقصفوهم وأخذوا أعراضهم، غيبة في المجالس, فالصالح فلان هدانا الله وإياه, حتى يذكر ابن تيمية أن من الدعاء ما يكون غيبة في صاحبه، يدعون في الظاهر, تقول: ما رأيك في فلان؟
قال: غفر الله لنا وله, وهو لا يريد غفر الله لنا وله, لكن هناك شيء مبطن الله أعلم به, ويقول: عافانا الله مما ابتلاه به, ويقول: هداه الله, حتى يقول ابن المبارك: من التسبيح ريبة, حتى ذكر عند السلاطين رجل, فقال: سيسأل أحد وزرائي عنه, فيقول: سبحان الله! أي: انتبه له, وفي الظاهر أنه سبح الله، وفي الباطن أنه لمزه وغمزه, وهذه مقاصد الله يعلمها يوم يبعث ما في القبور، ويحصل ما في الصدور.
فالوقوع في أعراض الصالحين من علامات النفاق, بعض الناس لا يغتاب الفاجر، يسلم منه اليهود والنصارى، لكن المسلم لا يسلم منه.
جاء رجل إلى الربيع بن خثيم وقيل غيره, فاغتاب أخاً له, فقال الربيع بن خثيم: أقاتلت الروم؟ قال: لا.
قال: أقاتلت فارس؟ قال: لا.
قال: فيسلم منك فارس والروم ولا يسلم منك المسلم؟! قم عني.
واغتاب رجل في مجلس أحد العلماء فقال: اذكر القطنة إذا وضعوها على عينيك في سكرات الموت: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88 - 89].(126/22)
التخلف عن صلاة الجماعة
ومن علاماتهم: التخلف عن صلاة الجماعة، وهذا داء عضال، من أكبر الداء, وعند مسلم في الصحيح من حديث ابن مسعود: [[وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق]].
إذا رأيت البدين الصحيح، القوي الفارغ، الذي ليس له عذر شرعي، وسمع النداء، ولم يأت إلى المسجد؛ فاشهد عليه بالنفاق, قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {والذي نفسي بيده! لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون العشاء معنا -وفي لفظ: الصلاة- فأحرق عليهم بيوتهم بالنار -وعند أحمد: {لولا ما في البيوت من النساء والذرية، والذي نفسي بيده! لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء معنا}.
فمن علامة المنافق التخلف عن صلاة الجماعة، يصلي في بيته مع امرأته وابنته، ولا يحضر الجماعة، فاشهد عليه بالنفاق, لا تتوقف بالحكم عليه بالنفاق إذا تكرر منه هذا العمل بغير عذر، فإنه قد أشهد الله على نفسه أنه منافق والعياذ بالله.(126/23)
الإفساد في الأرض
ومن علامات المنافقين أيضاً: الإفساد في الأرض بزعم الإصلاح: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12] تجده يسعى بالنميمة بين الناس, ويشهد شهادة الزور, يقاتل بين الأخ وأخيه، وبين الأب وابنه, يسعى بالوشاية، يكون كهشيم النار, يحرق البيوت، يدمر المجتمعات, فإذا قلت له: يا فلان! ويلك من الله، اتق الله، قال: والله ما أريد إلا الإصلاح، الله يعلم أني أريد أن أصلح هذه الأسرة, أو هذا المجتمع, أو هذه القبيلة, وقد علم الله أنه يريد الفساد, وأكثر من أفسد بين القبائل والمجتمعات والأسر, هؤلاء المنافقون، إما شاهد زور، وإما متزلف، وإما مدعوم بنفاق: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام * ِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205] , هذا علامة النفاق الإفساد بين الأسر والمجتمعات, وقد تجددت وسائل خدمة هؤلاء المفسدين، منها: التلفون، فأصبح يرتاح ويتكئ على أريكته ووسادته ويشغل القلوب، ويحرق بين الأسر, ويفسد المجتمعات وهو جالس, يتصل بفلان، ويقول له: قال فيك فلان, ويتدخل في المشكلة، في الظاهر أنه يريد الإصلاح، وفي الباطن يريد الإفساد, ماذا حدث بينكم؟
سمعنا أنه جرى بينكم كذا وكذا! وقد ساءني هذا وما نمت البارحة! وقد نام البارحة وغطّ وخطّ في نومه، حتى إنه لا يعلم أين هو, لكن في الظاهر، أما في الباطن فيعلمه الله.(126/24)
مخالفة الظاهر للباطن
ومن علاماتهم: مخالفة الظاهر للباطن، وهذا هو النفاق الصريح, أو هذه المسألة تدور عليها جميع هذه المسائل، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1].
يسأل ويقول: قوم شهدوا شهادة فصدقوا فيها، فكذبهم الله وأدخلهم الله بشهادتهم النار, فمن هم؟
الجواب
هؤلاء المنافقون، صدقوا في الظاهر أن الرسول رسول, لكن كذبهم الله في الباطن وأدخلهم بشهادتهم الصادقة في الظاهر النار.
وقوم شهدوا فكانت شهادتهم صدقاًً، فكذبهم الله وأدخلهم النار بشهادتهم, وهم {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113] فمخالفة الظاهر للباطن علامة النفاق, ظاهره جميل، ولكن باطنه مهدم, والله المستعان.
والمنافق يظهر الخشوع, قال أحد السلف: أعوذ بالله من خشوع النفاق, قالوا: وما خشوع النفاق؟
قال: أن ترى الأعضاء ساكنة هادئة والقلب ليس بخاشع.
وأما حديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يعبث في صلاته بلحيته وبثيابه، قال: [[لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه]] فليس بحديث, بل رده الدارقطني والحفاظ، وهو من كلام عمر بن الخطاب ولا يرفع إليه صلى الله عليه وسلم.(126/25)
التخوف من الحوادث
ومن علاماتهم، وهي العشرون: التخوف من الحوادث، قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] فهم دائماً خائفون، إذا غليت الأسعار تباكوا في المجالس، غلت الأسعار, وما سمعتم بالسعر، كيف ارتفع الأرز والسكر؟ يريدون أكلاً وشرباً! لا هم لهم في الدعوة إلى الإسلام, ولا في نصرة الدين, ولا في إنهاء المفاسد, ولا في إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, إنما الأسعار، والأشجار، والأخبار، والأمطار، والصيدليات المناوبة، ودرجات الحرارة, دائماً هكذا! يريدون الحياة أكلاً وشرباً, حتى يقول بعضهم: اللهم لاتقلب علينا هذه النعمة, اللهم لا تغير علينا هذه النعمة, فإذا سألته أي نعمة؟
قال: رخص الأزر في السوق, والفرسك والتفاح والبطاطا, يظن أن النعمة فقط في المطعم والمشرب، ونسي نعمة الله في هذا الدين قال الله عنهم: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] , وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] , ليفرحوا بالدين، بالرسالة، بالمساجد، بالقرآن، بالسنة، بالسيرة، بالعلماء، بالدعاة, أما هذه الدنيا فسبقهم الكافر عليها, يا من سكن في قصر! الخواجة يسكنون في ناطحات السحاب، يا من ركب الهيلوكس! الخواجة يركبون أحسن موديل من السيارات ومن صنعه.
منهم أخذنا العود والسيجارة وما عرفنا نصنع السيارة!
استيقظوا بالجد يوم نمنا وبلغوا الفضاء يوم قمنا
{وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآِخرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:-35].
شادوا الزخارف هالات مزخرفة جمّاعها لا يساوي ربع دينار
ولذلك تجد أن النعيم عندهم فقط الأكل والشرب، وهو نعيم, لكن إذا كان عوناً على الطاعة, أما إذا ترك الصلاة، وترك البيت الإسلامي الحجاب، ولم يحرِّم على نفسه الغناء، ولا التكشف على حرمات المسلمين, فأين نعمة الأكل والشرب؟ فإن الحيوان يأكل ويشرب, لكن أين نعمة الإيمان؟! فلذلك يتخوف من الحوادث, وإذا وقع بركان في الفلبين انهزوا هنا.
المسلم نفسه في كفه.
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
دائماً باع نفسه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111] أولئك الصادقون من الصحابة، سيوفهم معلقة، وأرواحهم في أيمانهم، ويضحكون في المعركة, أما المنافق يخاف ويرتجف ويرتعش، والمعركة وراءه بألف كيلو متر!.
فلذلك الإرجاف والخوف من الحوادث، من علامات النفاق, يتزلزل دائماً، مضطرب, يريد العيش في قرار, اتركونا، دعونا، يبقي علينا الله هذه النعمة, لا نريد تغيير الحال, وحاله سيئ بنفسه، وليس بعلامة الحال الصالح.(126/26)
الاعتذار كذباً
ومن علامات المنافقين: الاعتذار كذباً, قال أحدهم: ائذن لي يا رسول الله ولا تفتني؟ يوم قال الرسول صلى الله عليه وسلم للجد بن قيس: اخرج جاهد معنا؟ قال: أنا يا رسول الله رجل أخاف على سمعي وبصري, الله أكبر ما أتقاه! تقوى مثل ما قال ابن تيمية: الورع البارد, بعض الناس، إذا اغتبت فرعون, قال: أستغفر الله، لا تغتاب الصالحين, وإذا ذكرت إبليس, قال: أما أنا فلا أتكلم في أولياء الله بشيء! ومثلما قال ابن الجوزي في كتاب الحمقى والمغفلين , يقول: إن رجلاً ذكُر عنده فرعون، فقال: أحمي سمعي وبصري من التكلم في أنبياء الله, يظن أن فرعون من أنبياء الله, قال: وهذا يسمى ورع بارد.
ولذلك قال: يا رسول الله! أنا رجل إذا رأيت النساء لا أصبر, فصدّق عليه الصلاة والسلام وأخذ ظاهره, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيه يكذبه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] أي: النساء {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49] ترك الجهاد ووقع في الفتنة, فرّ من الموت وفي الموت وقع: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49] هذا الجد بن قيس أتى في الحديبية فضاع جمله, قالوا: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: والله لئن أجد جملي الأحمر أحسن لي من أن يستغفر لي محمد، قالوا: تعال يستغفر لك؟! يلوي رأسه كذا , فنقل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الصورة والحديث حيث قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُون * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون:5 - 6] , أبداً كتب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ألا يغفر لهم, والعدد لا مفهوم له في القرآن في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] , والرسول صلى الله عليه وسلم فهم منها أنه ولو أكثر من السبعين, ولو فهم منها العدد لاستغفر إحدى وسبعين مرة وغفر الله له, لكنه قال: {والذي نفسي بيده! لو أعلم أن الله يغفر لهم بعد السبعين لاستغفرت لهم} فعلامتهم أنهم يعتذرون بالكذب في الظاهر, لذلك تقول لهم: لماذا لم تصل معنا صلاة الفجر يا فلان؟!
قال: والله إني مريض ما رفعت جنبي إلا ما رفعه الله, ويعلم الله أنه بات في نعمة وصحة وعافية!
وفي منطقة من المناطق يقولون: هناك رجل أحمق, وكان إمام المسجد حريصاً على الخير، يحضر الناس كل صباح بعد أن يسلم الناس، يا فلان؟ حاضر! يا فلان؟ حاضر! فإذا غاب رجل كتب على اسمه وسأله, والرجل الأحمق يحضر كل وقت إلا يوم الجمعة يظن أنهم لا يحضرون؛ فترك الصلاة في فجر الجمعة, يقول جيرانه: الإمام لا يحضر صباح يوم الجمعة، يسافر عند أهله في القرية, فيسافر إليهم ويبيت عندهم, فيحضرنا كل الأيام إلا صباح الجمعة, فترك الصلاة يوم الجمعة وصلّى في البيت, ولقيه الإمام ضحى, قال: أين أنت عنا؟ بحثنا عنك اليوم! قال: والله فلان قال لي: أنك لن تصلي معنا الفجر؟ -فجعل الصلاة من أجل هذا الإمام, والله المستعان! - وأخبرني فلان وهو ثقة أنك لا تصلي فجر الجمعة! فظننت أنك ما صليت!! ما شاء الله، عذر أقبح من ذنب.(126/27)
الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف
ومن علاماتهم أنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف, الناس يستقبلون القبلة وهم يستدبرونها, ولذلك تجد أحدهم إذا حدث بقال الله وقال رسوله, قال: دعونا! ريحونا يا إخوان, نحن نعرف الدين -والله- أعرف منكم, والدين والعلم انتشر، والحمد الله، حتى العجائز والنساء يعرفن العلم, لكن تسأله عن سجود السهو لا يعرف كوعه من بوعه, وإنما مداجاة, لذلك سوف يأتي من علاماتهم: قلة الفقه, ولذلك تجدهم يأمرون بالمنكر، كما قال سبحانه: {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة:67] يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا, يريدون أن ينتشر ترك الحجاب, ولذلك منهم بعض الكتبة ينادي بتحرير المرأة, والتفسخ من الحجاب, وينادون بانتشار الأغنية، وانتشار المجلات الخليعة، والمخدرات, فهذا أمر بالمنكر، وحباً في انتشار الفاحشة، ومع ذلك لا يريدون المعروف, يريدون أن يقل الخير، ويقل العلم، وتقل الدعوة, والله يتولاهم.(126/28)
يقبضون أيديهم شحاً وبخلاً
ومن علاماتهم وهي الثالثة والعشرون: قبض الأيدي شحاً, فالمنافقون من أبخل الناس, أما في الدنيا فحدث ولا حرج, أما في مشاريع الخير فمن أبخل الناس, أحدهم يذبح في الوليمة الواحدة رياءً وسمعة ستين خروفاً أو سبعين خروفاً, لكن إذا طلبته في الإنفاق في مسجد أو جهاد أخرج عشرة فعدها ومحصها، ودعا لها واستودعها الله الذي لا تضيع ودائعه, واشترط على الله أن يبني له قصراً أبيض بذهب الجنة, ولذلك تجدهم ينفقون شحاً, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67] يقبضون الأيدي، ولا يتبرعون في الخير، وهذا علامة النفاق والعياذ بالله.(126/29)
نسيان الله
ومن علاماتهم: نسيان الله, يذكرون كل شيء إلا الله, ولذلك تجد الواحد منهم يذكر كل شيء، أهله وأطفاله والأغاني والأماني والعواني وكل شيء في الحياة الدنيا إلا ذكر الله فلا يمر على قلبه إلا غروراً, وهذا قلبه قد مات.
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
فنسيان الله من أعظم ما ابتلي به المنافقون: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] وقال سبحانه: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة:19] قال الغزالي صاحب الإحياء: من أحب شيئاً أكثر من ذكره, ولذلك إذا دخل أهل المهن وأهل الصنائع في قصر أو في بيت ذكر كل إنسان منهم صنعته ونظر إليها, وذكرها وأحبها.
تجد النجار إذا دخل البيت ينظر إلى الخشب وإلى النوافذ, وتجد المُليس ينظر إلى البويات وما في أحكامها, إذا علم هذا؛ فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره، ومحب الله عز وجل مكثر من ذكره, وأما المنافق فأبغض ما عند الله، فقلل من ذكر الله ونسي الله فنسيه الله.
معنى نسيهم الله سبحانه: أي: تركهم, وفي القرآن صفات على المقابلة، كقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15] فهل يسمى الله مستهزئاً؟
لا يسمى مستهزئاً إلا على القيد -كما ذكر ذلك ابن تيمية وغيره- يقيد بأنه يستهزئ بمن يستهزئ به, كقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79] يثبت لهم سخرية, وهو له سخرية سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بمن سخر منهم, وكقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] أي: يمكر بمن يمكر به, هذه تثبت مقيدة, لكن الصفات النقصية المطردة لا نقولها.
ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال:71] لم يقل: خانهم, لأنه الخيانة ليت مقيدة ولا مطلقة، إنما هي مذمومة وصفة نقص, فقال: {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال:71] أما (سخر) فتأتي مقيدة, مثل: نسي بمعنى: الترك, لأن النسيان صفة النقص، والله لا ينسى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(126/30)
التكذيب بوعد الله وبوعد رسوله صلى الله عليه وسلم
ومن صفاتهم: التكذيب بوعد الله ورسوله {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12].
وسبب الآية: أن الرسول عليه الصلاة والسلام في الأحزاب حضر حفر الخندق مع الصحابة, فكان الصحابة يحفرون الخندق فعرضت له عليه الصلاة والسلام وللصحابة صخرة، فنزل عليه الصلاة والسلام بالمعول -يسمى: الفاروع أو مسحاة- فضرب الصخرة، فلمع له كالبارق, ثم ضربه، فلمع له كالبارق, قال: {أريت الكنزين: الأبيض والأحمر، وسوف تعطاهما أمتي} أو كما قال عليه الصلاة والسلام, فتغامز المنافقون وهم حول الخندق, قالوا: انظروا، يمنينا قصور كسرى وقيصر, وأحدهم لا يستطيع من الخوف أن يبول, قال سبحانه عنهم: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] ولكن الله حقق هذا الوعد، ونصر أمة الإسلام وصحابة الرسول عليه الصلاة والسلام, ففتحوا بقاع الأرض وانتصروا، ولله الحمد والمنة.(126/31)
الاهتمام بالظاهر وإهمال الباطن
ومن علامات المنافقين وهي السادسة والعشرون: الاهتمام بالظاهر وإهمال الباطن.
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر جسم البغال وأحلام العصافير
أما زيهم في الظاهر فجميل, لكن باطنهم خاوٍ, ونحن لا ندعو الإنسان إلى أن يتدروش في لباسه ولا يلبس جميلاً, ويرى أن كي الغترة من السبع الموبقات, لا! بل يكوي غترته، ويلبس الجميل، ويتطيب، ولا يتدروش، والإسلام بريء من القذارة, ويلبس أجمل اللباس، ويظهر إيمان القوة والجمال, فالله جميل يحب الجمال, ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده, لكن يجمل الباطن أيضاً بالذكر والمراقبة والإخلاص، والتوكل والعبادة، والصدق مع الله عز وجل, فيجمع الظاهر والباطن: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
أما الذي يهتم بالملابس فقط, ولا يعرف الصلاة ولا المراقبة ولا الذكر, فهذا بعيد عن الله عز وجل.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] فعرض أنهم يهتمون بظاهرهم ويهملون باطنهم, قال أبو الفتح البستي:
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان(126/32)
التفاصح والتملق والتشدق
السابعة والعشرون: التفاصح والتشدق والتفيهق في الكلام كبراً وعلواً وعتواً, قال سبحانه: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] وذم عليه الصلاة والسلام من تشدق في كلامه, قال أهل العلم: هو الذي يتفيهق كبراً وعتواً وترفعاً عن الناس, أي: لا يخرج الحروف من مخارجها, يمطمط الحرف ويتشدق في اللسان, ويتفاصح في المجلس، ويتكلف في الحديث, قال عمر في كتاب الأدب في صحيح البخاري: [[نهينا عن التكلف]] فهذه من علامة النفاق فنحذرها, وعند الترمذي: [[العي والحياء شعبتان من الإيمان, والبذاء والبيان شعبتان من النفاق] قالوا: والبيان هنا من بذا وتفصح وخرج الكلام عن قدر الحاجة، وتكلف, تجده يقدم مقدمات, ويظهر أنه وجيه وفاهم وعاقل ومربٍ، وليس عنده شيء, فهذا يخشى عليه النفاق, بل وقع في جزئية من جزئيات النفاق.(126/33)
عدم الفقه في الدين
الثامنة والعشرون: عدم الفقه في الدين, مما يميز المنافقين: أنهم -والحمد لله- لا يفقهون في الدين شيئاً, يعرف قيادة السيارة, ويعرف هندستها مسماراً مسماراً, ويعرف عواصم ودول العالم, ويعرف جزئيات ومعلومات لا تنفعه إن لم تضره, ولكن إذا أتيت به في مسلمات من الدين لا يعرف منها شيئاً, قال سبحانه: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] , وقال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}.
قال أهل العلم: مفهوم المخالفة: أن من لم يرد الله به خيراً لا يفقهه في الدين, ولذلك علامة المؤمن أن يفقه الله في الدين, دائماً يزداد مسألة وفائدة, يحرص على الخير وعلى مجالس الخير, أما المنافق فمعرض تماماً، إذا تحدثوا في المجلس عن أمور الصلاة والعبادة كأنهم يتحدثون بالإنجليزية, لكن إذا أتى أمر الدنيا -الأسعار والمستندات والشيكات والفرنك والدولار- جاءك يهذي ويحاضر ويلقي محاضرات, ولا أقول: إن المؤمن لا يعرف هذه الأمور, قد يعرف هذه الأمور لكن يعرف أمور الدين, أما أنه لا يعرف أمور الدين ويعرف أمور الدنيا فهذا من علامات النفاق.(126/34)
الفرح بمصيبة المؤمنين والتضايق من مسراتهم
الثلاثون من علامات النفاق -نعوذ بالله من النفاق-: الفرح بمصيبة المؤمنين والتضايق من مسراتهم, قال سبحانه: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:50] إذا جاء حادث على الصالحين، فرح ونشر الخبر وأظهر أنه متألم, وقال: الله المستعان! سمعنا أن فلاناً أتاه كيت وكيت , الله يصبرنا وإياك! وفي باطنه الفرح والمسرة والتروح لهذا الأمر, وإذا أصاب المسلمين كذلك مسرة غضب وتذمر وتضايق، والله يتولى السرائر.
هذا درس ختمناه، وهو درس ثلاثون علامة من علامات المنافقين, ونسأل الله لنا ولكم التوفيق.(126/35)
مسائل عرضت على الشيخ / ابن باز
وهنا مسائل عرضت على سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز قبل ثلاثة أيام، عرضتها أنا والشيخ ابن مسفر , لأنها مسائل عصرية ويكثر التساؤل عنها عند الناس, فنحن نجيب عليكم بجواب الشيخ عبد العزيز.
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
وهو ليس بمعصوم، ولكنه رجل يتبع الدليل، وقد فتح الله عليه ونوَّر بصيرته.(126/36)
حكم الدف
السؤال
ما حكم ضرب الدف للرجال؟ والعرضات الشعبية التي يصحبها الطبل والدف والمزمار وما بحكمها؟
الجواب
قال سماحته: مما ظهر من الأدلة أن الدف ليس بجائز للرجال, واستدل سماحته بحديث عند أحمد بسند جيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم {نهى عن الكوبة للرجال} والكوبة يدخل فيها أدوات اللهو, فليس الدف إلا للنساء, فليس للرجال أن يستصحبوا في العرضات الطبل ولا الدف ولا المزمار.
وقال سماحته: لهم أن يعرضوا عرضات حربية بحمل السلاح، بدليل حديث الحبشة {أنهم عرضوا بالحراب في مسجده عليه الصلاة والسلام}.
فيرى أنهم لا بأس أن ينشدوا نشيداً في العرضات، ونشيداً بطولياً فيه رجولة, ليس فيه غزل ولا تأنث بدون دف ولا طبل.(126/37)
حكم الجمعيات بين الأساتذة
السؤال
المسألة الثانية: سألناه عن مسألة الجمعية التي يسأل عنها الإخوة كثيراً, أساتذة يجتمعون ويجمع كل واحد منهم مثلاً مبلغ خمسة آلاف من الشهر تدور على أحدهم, يعطى هذا ثم هذا ثم هذا , أو موظفون؟
الجواب
قال: الذي ظهر لي التحريم, لأن فيها قرض بشرط، وفيه منفعة يجر للقارض نفسه.(126/38)
حديث (كل قرض جر منفعة فهو رباً)
السؤال
وسئل عن حديث {كل قرض جر منفعة فهو ربا}؟
الجواب
قال: الحديث ساقط السند وضعيف, ولكن معناه مجمع عليه, فلذلك يرى التحريم, وقال: سوف تبحث في مجلس هيئة كبار العلماء ويصدر بها فتيا, لأن بعض العلماء أباحوها، ولكن لا بد أن يجتمعوا ثم يخرج بها فتيا ثم يتوقف الناس عن هذه الجمعية حتى يأتي من علمائنا فتيا إن شاء الله تشفي العليل وتروي الغليل.(126/39)
حكم التمثيل
السؤال
سئل سماحته عن التمثيل, الذي يدور في المخيمات والمراكز, الذي يمثل الشباب في المراكز والمسارح والمخيمات؟
الجواب
كله محرم, لأنه ينبني على الكذب, والكذب حرام, سواء منه ما مثل الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو الكافر, فهو محرم لأنه ينبني على الكذب، ولا يخرج لنا صورة من التمثيل فكله محرم.(126/40)
حكم بعض الأحاديث
هنا حديثان سئل عنهما:
السؤال
ما صحة حديث: الحديث الأول: {من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا}؟
الجواب
لا يصح هذا الحديث, قال ابن تيمية: حديث باطل, ومعناه باطل, والصلاة لا يزداد بها العبد إلا قرباً من الله, ولا يزداد بها إلا زلفى ووسيلة إلى الله عز وجل.
سؤال: ما صحة حديث: {رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر}؟
الجواب
قال: باطل ومعناه ليس بصحيح, بل الجهاد في سبيل الله من أعظم الجهاد في ذات الله عز وجل, وهو الأكبر إذا أطلق سراحه, لأن العبد في جبهة الجهاد يقاتل عدوين: الكافر والنفس, وإذا رجع إلى داره قاتل نفسه وجاهد نفسه وحدها, فلا يصح المعنى.
هذه مسائل تعرض لها بارك الله فيكم(126/41)
الأسئلة(126/42)
طلب العلم الشرعي للمبتدئين
السؤال
كيف نطلب العلم الشرعي وأي كتب نبدأ بها؟
الجواب
على الإخوة إذا كان في المدينة أو في البلد طلبة علمٍ أن يمضوا ويتعلموا معهم, وفي كل بلد -والحمد لله- وفي كل مدينة طلبة علم، أئمة المساجد غالبهم طلبة علم, وأن يطلبوا العلم على أيديهم, ولكن هناك ملخصات يبدأ بها طالب العلم، منها بعد حفظ كتاب الله, -وألوم نفسي وبعض الإخوان الذين يبدءون ببعض المتون قبل القرآن- تجده يحفظ الرحبية ولا يحفظ القرآن, تجده يحفظ في ألفية ابن مالك ولا يحفظ القرآن, لكن مع ألفية ابن مالك والرحبية عليه أن يبدأ بكتاب الله عز وجل, ومنها: بلوغ المرام يحفظه في الأحكام, ومنها كتاب رياض الصالحين للدعاة من يحفظه فهو كتاب الخطيب والداعية والواعظ, وكتاب زاد المستقنع في الفقه, ونخبة الفكر في مصطلح الحديث, وألفية ابن مالك في النحو, وألفية العراقي أو البيقونية أو ما شابهها في مصطلح الحديث, والله يتولانا وإياكم.(126/43)
حكم المشاركة في المخيمات والمراكز
السؤال
يسأل الكثير عن المشاركة في المخيمات والمراكز؟
الجواب
أمر طيب, وما رأينا في المراكز والمخيمات إلا الخير الكثير, لكن تختلف باختلاف القائمين عليها, بعضهم يحفظها بالعلم، بقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، بطلب العلم النافع, بالتزود من الصالحات، فهذا مشكور مأجور, وبعضهم يكثر من الأناشيد فيها, والنشيد -حفظكم الله- كما قال بعض العلماء له ضوابط ثلاثة:
1/ ألا يصاحبه آلات موسيقى لا دف ولا طبل ولا مزمار.
2/ ألا يكون الشعر بذيئاً أو ماجناً أو فيه غزل.
3/ ألا يكثر منه؛ لأن بعض الناس إذا وقع في النشيد وقع وقعة ما بعدها وقعة, يجعل ليله ونهاره نشيد, وهذا ليس بمطلوب, يطلب من النشيد وقت الحاجة، فقط.(126/44)
حكم زيادة الثمن من أجل زيادة الأجل
السؤال
هل زيادة الثمن من أجل زيادة الأجل واردة أم لا؟
الجواب
يعني: بيع التقاسيط في السيارات، كأن تقول لمشتري: هذه السيارة قيمتها نقداً بثلاثين ألفاً, وإن كنت تريدها ديناً بالتقسيط بخمسة وأربعين ألفاً, فهذا بيعه صحيح, وزيادة الثمن من أجل زيادة الأجل لا غبار عليه, وقد أجمع على هذا العقلاء, لأنه لا يعقل في الذهن أن تبيع في نفس اليوم أو بعد سنة بنفس الثمن ليس بصحيح, فزيادة الثمن من أجل زيادة الأجل صحيح.
- مسألة أخرى، وقد أفتى فيها العلماء من هيئة كبار العلماء مسألة بيع السيارات في المعارض، يأتي إليك المشتري فيشتري منك سيارة وأنت لم تشترها، ثم تذهب معه إلى المعرض وتشتري السيارة، هذا البيع باطل، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {لا تبع ما ليس عندك} والصحيح أن تشتري السيارة أولاً بعقد ومبايعة، ثم تبيعها من هذا الرجل، هذا أمر, فليعلم ذلك ويتنبه لهذا.
قال بعض علمائنا: لا بأس أن يكون شبه اتفاق بينهم, أو يقول: أنا أشتري منك سيارة لو اشتريتها أنت، بشرط ألا يبايعه ولا يكون بينهم عقد -هذا شبه اتفاق, ولا بأس- فيذهب فيشتريها ثم يبيعها منه.(126/45)
حكم نقض المرأة شعرها في غسل الجنابة
السؤال
هل تنقض المرأة شعرها عند الغسل من الجنابة؟
الجواب
الصحيح أنها لا تنقض شعرها عند الغسل من الجنابة, وتنقضه عند الغسل من الحيض إذا طهرت من الحيض, ولكن تروي أصول الشعر عند غسلها من الجنابة.(126/46)
حكم الزينة التي تحجب الوضوء
السؤال
ما حكم الزينة التي توضع على أظافر النساء, وتكون سميكة فتحجب الوضوء؟
الجواب
الصحيح كما أفتى كثير من علمائنا أنها تحجب عن وصول الماء, وأنه لا بد من إزالتها, أما ما ليس له سمك، مثل: الحناء فلا بأس به, فالأمر فيه سعة.(126/47)
ملاحظات على كتاب إحياء علوم الدين
السؤال
يسأل بعض الأخوة عن كتاب إحياء علوم الدين؟
الجواب
كتاب إحياء علوم الدين للغزالي نقده العلماء فهم شيخ الإسلام ابن تيمية , وأظنه نقده في المجلد العاشر أو الحادي عشر من فتاويه , لكن عليه ثلاث ملاحظات:
أولاً: عقيدته أشعرية لا تؤخذ منه العقيدة.
الثاني: يحب الصوفية ويغلو في حبهم ويأتي بتراهاتهم.
الثالث: كتابه فيه أحاديث.
وأنا أوصيكم بكتب ابن تيمية وكتب ابن القيم فهي الذهب الإبريز.
يقول الألوسي في كتاب الرد على النبهاني في غاية الأماني , قال: النبهاني ينتقد ابن تيمية , فهو بدعي قبوري, يأتي بقصائد بدعة القبور، ويستشهد بكلام البرعي , وهذا البرعي قبوري غالي من غلاة أشاعرة اليمن، أتى إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فمسح القبر والشبك، وقال:
يا رسول الله! يا من ذكره في نهار الحشر رمزا ًومقاما
فأقلني عثرتي يا سيدي واكتساب الذنب في خمسين عاما
فأثنى عليه! وهذا شرك والعياذ بالله, ويقول النبهاني: شيخنا وسيدنا أحمد الرفاعي -أي: شيخ الصوفية - وفد إلى المدينة، فأتى إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فمد يده إلى القبر، وقال:
في حالة البعد نفسي كنت أرسلها تقبل القبر عنكم وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
قال: فانشق القبر، ومد الرسول صلى الله عليه وسلم يده، فصافحه وقبله, شيخنا أحمد الرفاعي , قلنا: كذبت يا عدو الله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5].
فيقول النبهاني: كتب ابن تيمية ما جعل الله لها القبول في الأرض, قال الألوسي: عجيب! بل كتب ابن تيمية هي العسل المصفى، والذهب الإبريز، أما كتبك وكتب أشياخك, فوالله لا تصلح إلا مخالي يوضع فيها الشعير للحمير, أي: تؤخذ الكتب وتوضع مخلاة، وتعلق برأس الحمار، ويوضع فيها مد شعير, أو تصلح صندوقاً للأحذية, أو تصلح كراتين للعلاجات, هذه هي كتب أهل الضلالة والعمالة والعياذ بالله.
فأحذركم، وقد انتشر كتاب للنبهاني -والعجيب أنه موجود- الصلاة على سيد الكونين , وديوان البرعي موجود، وهو في الأسواق، وأحذركم من هذا الكتاب, وبعض الكتب الأخرى التي هي لغلاة الصوفية، التي عقيدتهم إما الحلول وإما الاتحاد وإما المغالاة في شخصه عليه الصلاة والسلام.
أما كتب ابن تيمية بعد الكتاب والسنة فشيء عجيب, ومن أراد أن يتأمل العمق والأصالة، فليقرأ الفتاوى، لا إله إلا الله ما أصدقه! وما أنصحه! وما أعلمه! كالبحر، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
تقدم شاعراً فيهم خطيباً ولولاه لما ركبوا وراءه
وهذا الرجل عجيب أمره، ويحتاج إلى مجالس, وهناك محاضرات تسمى: ابن تيمية، وحياة ابن تيمية، وكتيبات, بل كتب عنه أكثر من عشرين كاتباً, فرحمه الله وجمعنا به في الجنة.(126/48)
أحسن الكتب في العقيدة
السؤال
ما هي أحسن الكتب في العقيدة؟
الجواب
العقيدة ثلاث مستويات:
1/ البادئين في العقيدة، أوصيهم بكتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
2/ الكتاب الثاني: معارج القبول للشيخ الجليل حافظ الحكمي رحمه الله.
3/ الكتاب الثالث: شرح الطحاوية وهو كتاب معروف وموجود وهو للمستوى الثالث.
فعليهم بهذه الكتب فإنها مفيدة ونافعة.(126/49)
المقام المحمود
السؤال
في هذه الآية: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79] ما هو المقام المحمود؟
الجواب
بحثها بعض طلبة العلم جزاهم الله خيراً؛ فتبين لهم أقوال:
قيل: المقام المحمود -قاله القرطبي، وقد دل عليه حديث البخاري -: هي شفاعة سيد الخلق يوم القيامة, الشفاعة الكبرى.
واستشفع الناس أهل العزم في إراحة العباد من ذي الموقف
وليس فيهم من رسول نالها حتى يقول المصطفى أنا لها
فهذا المقام المحمود.
وأما مجاهد فقال: المقام المحمود، هو أن يجلسه ربه معه على العرش, وهذا أورده ابن أبي شيبة والقرطبي وسنده ضعيف.
أولاً: أن هذا من كلام مجاهد , ومجاهد إمام معتبر من التابعين, لكن مثل هذا لا يثبت بآراء الناس, بل القرطبي أشعري في بعض الصفات، يقول: على الكرسي, والكرسي شيء عند أهل السنة، والعرش شيء, لكن الأشاعرة يدمجونه, وليس هذا القول بصحيح.
وذكروا بعض المعاني الأخرى.(126/50)
البيت المعمور
السؤال
ما هو البيت المعمور؟
الجواب
منهم من قال: في كل سماء بيت معمور, والصحيح أنه كما ورد في الحديث الصحيح، أنه في السماء السابعة بيت معمور يوازي الكعبة، يدخل فيه كل يوم أو يطوف فيه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه, وقد اتكأ عليه إبراهيم الخليل, ويوم عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم -في الحديث الصحيح- رأى إبراهيم متكئاً عند البيت المعمور.
قال بعض أهل العلم: جازاه الله يوم بنى البيت المعمور في الدنيا؛ أن جعل له بيتاً معموراً في السماء السابعة, فهذا هو الصحيح من هذا القول.(126/51)
المقصود بقوله تعالى: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني)
السؤال
من المقصود بقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49]؟
الجواب
قد سبق ذكره, وهو الجد بن قيس.(126/52)
المقصود بقوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله)
السؤال
ما المقصود بقوله تعالى: {وَمِنْهُم مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة:75]؟
الجواب
الأصح والأقرب كما هو عند البخاري في كتاب الزكاة أنها نزلت في ابن جميل , عندما منع الزكاة فقال عليه الصلاة والسلام: {وما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله} فأنزل الله قوله: {وَمِنْهُم مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة:75].(126/53)
من هو شاهد بني إسرائيل
السؤال
من هو شاهد بني إسرائيل في قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10]؟
الجواب
عبد الله بن سلام شهد بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم, والحديث عند البخاري لما أسلم قال للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لا تخبر اليهود بإسلامي، وأدخلني في هذه المشربة، وأدخله الرسول صلى الله عليه وسلم وأغلق عليه, ثم استدعى اليهود, قال: {كيف ابن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وفقيهنا وابن فقيهنا، وعالمنا وابن عالمنا, قال: أفرأيتم إن أسلم, قالوا: أعاذه الله من ذلك! قال: فإنه أسلم, فخرج عليهم ابن سلام قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, فقاموا ينفضون ثيابهم, قالوا: شرنا وابن شرنا، وسيئنا وابن سيئنا، وخسيسنا وابن خسيسنا، أو كما قالوا, فأنزل الله} {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10].
وفي الختام: أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية, وأن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.(126/54)
صور من حياة الصحابة
إن دور الجندي المسلم دور كبير، فهو الذي يجاهد في سبيل الله دفاعاً عن الدين والوطن، وهو الذي تعلق عليه الأمة آمالها، وتنظر إليه أكبر مما يتصور هو، لكن لا بد للجندي من الإيمان حتى يؤدي رسالته، وأن يحترز من الشبهات والشهوات، وأن يجعل قدوته صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(127/1)
أهمية الإيمان
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيرا وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً، واتخذوا من دون الله آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، صلى الله على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
إن كان لي من شكر فأشكر الله تبارك وتعالى، ثم أشكر أهل الفضل وعلى رأسهم عميد هذه الكلية، وأشكركم على بشاشتكم وحسن استقبالكم، وعلى إيمانكم وحبكم وطموحكم، لأنكم أنتم أمة الإيمان والحب والطموح، أنتم أمة الأصالة، يوم لا يكون في الدنيا إلا أصالتكم وإلا حبكم وطموحكم.
وكلمتي هذه موجهة إلى الجندي المسلم.
وجندي بلا إسلام شخص لا حقيقة له.
وعين بلا إيمان مقلة عمياء.
وقلب بلا إيمان قطعة من اللحم.
وكتيبة بلا إيمان قطيع من البهائم.
وعالم بلا إيمان أرض ملعونة.
وقطاع بلا إيمان قطاع مغضوب عليه.
والإيمان هو أكبر قضية أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس بلا إيمان -عسكريين أو مدنيين، بريين أو بحريين- معناه أنهم يعلنون التمرد على الله والفشل والانهزامية، ورسالة الإيمان هي رسالتنا يوم نعيش بها مؤمنين ومؤدين لها إلى الناس، قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] ومحمد إقبال يحيي الإيمان يوم يسار به على البحار، وأنا أتكلم اليوم عن البحار؛ لأنني أمام كتائب تتوجه بالدعوة على متن البحر، لتوصل الدعوة الإسلامية إلى الذين لا يعرفون أن وراء البحر مسلمين، يوم يقف عقبة بن نافع على المحيط الأطلنطي فيخاطب لفرسه، وقد ملأ قلبه بالإيمان، يقول: والله الذي لا إله إلا هو؛ لو أعلم أن وراء هذا المحيط أرضاً تقبل الإسلام لخضت بفرسي هذا المحيط لأبلغ دعوة الله.
وفي هذا الموقف يقول شاعر الباكستان محمد إقبال:
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
نحن أمة لا إله إلا الله، وبعثنا للبشرية لا لنبني قصوراً، ولا سياجاً، ولا لنقدم طعاماً وشراباً، بعثنا لنأخذ البشر من النار وندخلهم الجنة، بعثنا لنسجد البشر لرب البشر سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً} [الزخرف:33 - 35] أي: ذهباً.
إن الذهب رخيص، إن الدنيا رخيصة إذا سلمت للكافر، وإن مقصد المسلم لا ليتسلم الدنيا للدنيا، ولكن ليتسلم الدنيا لله {وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35] أتينا إلى العالم، والعالم مليء بالذهب والفضة والدراهم والدنانير، كسرى أنوشروان حاكم فارس بقي في إيوانه يحكم العالم مدة طويلة من الزمن، كان ينظر إلينا نحن العرب على أننا أمة بدوية، أمة رعي، أمة ماشية، أمة يقتل الواحد منهم أخاه على مشرب الناقة وعلى الشاة، ولذلك امتن الله علينا نحن العرب أمة الرسالة فقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] إي والله، ضلال التبعية والانهزامية، ضلال التخلف والرجعية، ضلال الفكر العفن والشرك والانحياد والكفر، فلما بعث صلى الله عليه وسلم كان يحفر الخندق بعد عشر سنوات أو أكثر من دعوته وعلى بطنه حجران من الجوع صلى الله عليه وسلم، فيأخذ المعول ويضرب به الصخرة، فيرى شظايا من الضياء والنور في السماء، فيقول الصحابة: ما هذا يا رسول الله؟ قال: لقد بشرني ربي بفتح قصور كسرى، قال المنافقون: كسرى أنوشروان؟ قال: كسرى أنوشروان، فيقول المنافق: نحن لا نستطيع أن نذهب لحاجتنا من الكفار وتبشرنا بقصور كسرى وقيصر! وقالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] ولكن بعد خمس وعشرين سنة بل أقل من خمس وعشرين سنة ذهب الصحابة ليقولوا لكسرى: انزل من على هذا المنبر فإنك دجال في الأرض، إنك عميل وثني لا تستطيع قيادة البشرية، فأنزلوه.(127/2)
معركة القادسية
يأتي الصحابة في القادسية وهم ثلاثون ألفاً، ويقابلهم من فارس العجم الكافر مائتان وثمانون ألفاً، ونحن لم نقاتل الناس بقوات، كنا نقاتلهم بإيمان مع نسب من القوة كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ} [الأنفال:60] {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
يأتي سعد بثلاثين ألفاً لكن الواحد منهم يحمل إيماناً بالله العظيم، يقدم دمه قبل جسمه في المعركة، يقدم روحه لله، يحمل روحه على كفيه، وكان هذا الدين أحب ما في الأرض كلها إليه، يحضر المعركة فيأخذ غمد سيفه فيكسره على ركبته ويقول: يا رب! أسألك أن تأخذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى، هذه أمة الحب والإيمان والطموح، يصلي بهم سعد رضي الله عنه قبل المعركة، وكانوا ثلاثين ألفاً كما أسلفت، يكبر فيكبرون، ويركع فيركعون، ويرفع فيرفعون، فينظر رستم قائد فارس وهم مائتان وثمانون ألفاً فيغضب ويقول: علم محمد الكلاب الأدب.
يقصد الرسول عليه الصلاة والسلام.
كنا أمة مبعثرة متخلفة، لكن علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نأخذ المجد، وقبل المعركة يقول رستم لأحد جواسيسه وعيونه واستخباراته: اذهب في الليل وادخل في جيش المسلمين، ثم تعال وادخل في الليل في جيشي؛ لترى ماذا يصنع الجيشان.
فذهب هذا الجندي الفارسي العجمي الوثني فدخل في جيش المسلمين.
ماذا سوف يجد جيش المسلمين؟ إنه سيجد عباداً.
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذ نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون لقياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
إنه مجد أضعناه يوم تأخرنا في آخر ركب الأمم، والله إنه لمجد خسرناه يوم تقهقرنا، وأصبح إخوان القردة والخنازير من إسرائيل وأمثال إسرائيل تغطي شمسنا بطائرات الميراج، كما يقول شاعر العرب:
فأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارها الخطب
شجباً ونكراً وتنديداً بغارتها الله كم نددوا يوماً وكم شجبوا
لكن المسلم في ذاك الزمن يقول: لابد أن تحكم شريعة الله عز وجل.
وقبل العركة وصل هذا الفارسي ودخل في جيش المسلمين، فوجد هذا يتلو كتاب الله في الليل قبل المعركة بليلة، ووجد حلقة هنا تتدارس الحديث ويتباكون على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ووجد نفراً آخر يستعد للمعركة يريش السهم ويبريه، ويرفع السيف ويحاذيه، وينكت الرمح ويوازيه؛ ليستعدون للقاء الله، ووجد سعداً مع أركان قيادته يجتمع اجتماعاً خاصاً ليكثر الدعاء والإلحاح على الله، فالنصر لا يأتي إلا من عند الواحد الأحد، النصر يأتي من فوق سبع سماوات، النصر والتمكين في الأرض من الله عز وجل، {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] ثم خرج هذا الجندي الفارسي إلى جيش فارس؛ فوجد هذا الجندي جندياً سكران ولهان وكأس الخمر بيده، غارق في المعصية، وإذا عصي الله في الأرض، مقت وأخزى ولعن سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ووجد جندياً آخر يشارك فتاة في الفاحشة، ورأى بقية الجنود وهم سكارى وما هم بسكارى ولكنهم في نوم عميق.
ورجع إلى رستم القائد الأعلى فأخبره، فعض أنامله وأخذ يتلوم على أصابعه ويقول: الهزيمة الهزيمة، سلام على العراق لا عراق بعد اليوم.
لقد عرف نتيجة المعركة قبل المعركة، وأتى سعد بن أبي وقاص في الصباح، الذي قام في الليل فلبس أكفانه من تحت الثياب، يقول محمد إقبال وهو يتكلم في جيش أفغانستان يوم زار ظاهر شاه:
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم من فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الكنز والديناراً
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا(127/3)
قبل المعركة
وقبل المعركة بساعات قال رستم: انتظر يا سعد قليلاً.
قال: ماذا تريد؟
قال: أرسل إلي جندياً من جنودك أتكلم معه.
لينظر ما لهذه الأمة أمة الصحراء أمة الضب تخرج من الجزيرة العربية تريد أن تأخذ أعظم دولتين في الدنيا وتبتلعها، ماذا طرأ عليهم؟ أتغيرت مستوياتهم؟ لا.
لكن سكب في قلوبهم الإيمان، أي قوة وأي جيش وأي كتيبة وأي بحرية بلا إيمان لا يفرح بها أبداً، إذا بقينا بلا إيمان فسوف نتساوى مع الناس في الروح المعنوية، ثم يتغلبون علينا بقوتهم ومادتهم.
قال سعد لـ ربعي بن عامر وكان عمره ثلاثين سنة: اذهب إلى رستم وقابله، فلما أتى إلى رستم أراد أن يرهبه حتى يتلعثم ولا يستطيع أن يتكلم، فجلس رستم مع أعضاء القيادة، مع الوزراء، والبطارقة، وصف الذهب والفضة ليرهب هذا العدو.
نحن لسنا أمة ذهب ولا فضة، نحن أمة معنويات صارخة تتحدى الباطل، فوقف ربعي أمامه، فقال رستم: ما الذي جاء بكم؟
قال: جئنا لنفتح الدنيا!
ما أحسن الكلمة! كأنها قذيفة، جئنا لنفتح الدنيا.
فضحك رستم وضحك من حوله وقال: تفتحون الدنيا بهذا الفرس الهزيل وبهذا الرمح المثلم وبهذه الثياب الممزقة؟
قال ربعي وكان كالأسد في وسط البلاط: نعم.
إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
فلما سمع هذه الكلمات غضب وحلف بآلهته ألا يخرج حتى يحمل تراباً، فحمل على رأسه التراب ودخل به على القائد الأعلى سعد بن أبي وقاص، فتبسم سعد وفرح لما رأى التراب وهي بشائر النصر، وقال وعيناه تدمع: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:25 - 27] وبعد ثلاثة أيام اجتاح الحق الباطل ودمر جيش الكفر جميعاً، ودخل المسلمون المدائن وأتى سعد إلى قصر العمالة والضلالة، إيوان كسرى وقال وهو يكبر: الله أكبر.
فانصدع الإيوان، ثم قال سعد مرة ثانية: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:25 - 27].(127/4)
عزة المسلم
جاء الجاهليون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن كنت تريد ملكاً ملكناك، وإن كنت تريد زوجة زوجناك، وإن كنت تريد عطاءً أعطيناك.
قال: لا.
وفي أثر عنه أنه يقول: [[والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه]] وبالفعل بعد ثلاثين سنة أشرف جيشنا على نهر اللوار، وعلى نهر الجنج وسمرقند وبخارى وتركستان، وأخذ خطيبنا يتكلم على منبر السند، ووقفنا على ضفاف نهر اللوار في فرنسا، يقول الغافقي وهو يخاطب الماء: يا نهر أوراءك قوم؟ ولكن الماء لا يتكلم.
هذه رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم يريد إنقاذ العالم.(127/5)
معركة أحد
يأتي صلى الله عليه وسلم في معركة أحد بجنود، ولكن كل واحد منهم قرآن يسير على الأرض، والجندي يوم تغرس في قلبه شجرة الإيمان تؤتي أكلها في كل حين بإذن ربها، فهو منضبط مع قيادته، وهو طائع لرياسته، وهو واعٍ لمصيره ومستقبله، وهو حافظ لأمانة أمره، وهو طائع لولاة بلاده، ويوم يتخلى الجندي أو الفرد أو أي مستوى من الناس عن إيمانه فهو خائن مع الله، خائن مع رسول الله، خائن مع دين الله، خائن مع ولاة أموره، خائن مع بلاده وقادته، لأن هذا الإيمان يربطك بالله الواحد الأحد، ثم يربطك بالإسلام ديناً، ثم يربطك بولاة أمور المسلمين، ثم يعلمك الآداب والخلق والحب والإيمان والطموح.(127/6)
الخروج إلى المعركة
أتى صلى الله عليه وسلم في معركة أحد فقال: نقاتل الأعداء داخل المدينة، لأن أبا سفيان أتى بجيش يريد اقتحام عاصمة الإسلام، قال: نريد أن نقاتلهم داخل المدينة، فقام أحد الجنود الذين تربوا على سورة آل عمران وسورة البقرة.
وجيل لا يتربى على هذه السور وعلى هذا المصحف.
سوف يكون جيلاً ضعيفاً مهزوماً ضئيلاً متخلفاً، فقام هذا الجندي يبكي وهو شاب في العشرين وقال: يا رسول الله! لا تحرمني دخول الجنة، اخرج بنا إلى الأعداء، فوالله الذي لا إله إلا هو لأدخلن الجنة.
فيتبسم عليه الصلاة والسلام ويقول: بم تدخل الجنة؟ -بشهادة أم بمؤهل أم برتبة عسكرية؟ لم يقلها الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هذه افتراضات- قال: بماذا تدخل الجنة؟ قال: بخصلتين اثنتين قال: ما هما؟
قال: بأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف، فقال صلى الله عليه وسلم إن تصدق الله يصدقك.
إن كان الله يعلم أنك تريد هذا المبدأ فوالله لتجدن الشهادة ولتذوقنها، ووصل المسلمون إلى أحد قريباً من المدينة، وهذا الرجل الذي يحب الله ورسوله قلبه معه ولا يفر يوم الزحف، ولبس هذا الجندي أكفانه، والله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ويقول سبحانه: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] فلما وصلوا إلى هناك أتى هذا الجندي فقاتل حتى قتل، وتفقد صلى الله عليه وسلم جنوده البواسل، فوجد هذا الجندي صريعاً على التراب، فقبله وبكى عليه وقال: صدقت الله فصدقك الله.
عبد الله بن عمرو الأنصاري يحضر المعركة فيكسر غمد سيفه، وكسر الغمد عند العرب معناه ساعة الصفر، خطر ممنوع الاقتراب، معناه أنه لا يريد الحياة ولا يريد أن يرجع مرة ثانية، ثم التفت إلى السماء وقال: يا رب! إن كنت تعلم أني أحبك فخذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى.
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أعلى غاية الجود
إن كثيراً من الناس اليوم يسمونهم في الساحة شهداء الفن، شهداء المسرح، والله إنهم شهداء الضلالة والعمالة، شهداء التخلف والتبعية، شهداء الفكر والفن العفن الذي ما عرف الله، شهيد يموت على فتاة! شهيد يقتل على كأس! شهيد على مسرح!
إن الشهيد هو الذي يموت للمبادئ الأصيلة، لترتفع لا إله إلا الله محمد رسول الله في الأرض.
قال: خذ من دمي اليوم حتى ترضى، فضرب لكنه ما طعن بوخزة، إنما طعن بثمانين بل أكثر، قال أنس أكثر من ثمانين ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، فألقى جثمانه لكن روحه: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].(127/7)
تربية الروح
يا أيها الجندي المسلم إن هذه الروح لابد أن تهتم بها أكثر مما تهتم بالجسم، لقد وجد في أوساطنا -يا أيها الجنود البواسل- من يهتم بجسمه ونظارته وملابسه وقصره وسيارته أعظم مما يهتم بروحه.
يقول أحد المربين واسمه أبو الفتح:
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
والله عز وجل لا ينظر إلا إلى القلوب، جاء في صحيح مسلم: {إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى أعمالكم وقلوبكم} هذا القلب يوم أن يصدق ويخلص إيمانه يرزقه الله أكثر مما يتمنى.
قتل عبد الله بن عمرو بن حرام بثمانين ضربة، فأتى ابنه يبكي وهو مقتول فقال عليه الصلاة والسلام: {ابك أو لا تبك على أبيك، والذي نفسي بيده، ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعته} ثم قال عليه الصلاة والسلام: {يا جابر! والذي نفسي بيده لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان} والحديث حسن، فيقول الله لهذا الجندي الذي قتل شهيداً: تمن علي فيقول: -وانظر إلى الأمنية- أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون فتمن.
قال: أتمنى أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك، قال الله عز وجل: فإني أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبدا، فجعل الله روحه وأرواح إخوانه في حواصل طير ترد الجنة فتشرب من مائها وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا(127/8)
تذكير بالماضي
يا أيها الأمة الخالدة! يا أبناء الذين حملوا الهداية للبشرية! أجدادكم ماتوا على ضفاف نهر اللوار ونهر الجنج وسمرقند، أجدادكم رفعوا لا إله إلا الله، قتيبة بن مسلم يدخل كابل، كابل التي أبى الشيوعي أن يتركها، كابل التي هدمها الشيوعي بطائراته وبزحفه الأحمر وبدباباته، وهدم مساجدها، وقتل أطفالها، ومزق أعراضها، لأنه ما وجد مثل قتيبة يحمل الإيمان والحب والطموح.
وقف القائد المسلم قتيبة الباهلي على كابل يحاصرها، فلما انتظر وبقي على المعركة يوم أو يوم ونصف، قال: أين محمد بن واسع؟ محمد بن واسع العابد الزاهد خرج مع الجيش، قالوا: لا ندري أين هو.
قال: اخرجوا والتمسوا لي محمد بن واسع، فإني أرجو الله أن ينصرنا بفضله ثم بدعاء هذا الرجل الصالح.
عرف قتيبة أنه لا يمكن أن يدخل هذه المدينة ويخترق الأسوار إلا بدعاء الصالحين، فالتمسوا محمد بن واسع فوجدوه يصلي الضحى، وقد وضع رمحه ورفع سبابته إلى الحي القيوم الذي ينزل النصر، فرجعوا إلى قتيبة فأخبروه الخبر، فدمعت عينا قتيبة وقال: والله الذي لا إله إلا هو! لأصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف سيف شهير ومن مائة ألف شاب طرير.
لماذا؟ لأن النصر من عند الله، وانهزم أعداء الله ودخل قتيبة كابل.
ثم رجع الناس يخبرون الخلفاء، فيقول أحد العلماء: من القتلى؟ قالوا: فلان وفلان وفلان وأناس لا نعرفهم.
فبكى هذا العالم وقال: ولكن الله يعرفهم.(127/9)
تبليغ الدين للبشرية
أنتم أبناء الذين حملوا الإيمان للبشرية، إن البشرية لا تنتظر منا صناعة، فلقد بلغوا من الصناعة ما بلغوا، بنوا لنا هذه الصالات، وقدموا لنا هذه الماسات وهذه الطاقات وهذه الخدمات، فهم شهدوا وتفوقوا في الشهود.
منهم أخذنا العود والسيجارة وما عرفنا نصنع السيارة
من دمر العمال في بولندا ومن أتى بالرق في يوغندا
من دمر البيوت في نزاكي من ضرب اليونان بالأتراك
من الذي ناصر إسرائيلا حتى تصب عنفها الوبيلا
إنهم ينتظرون منا إيماناً ينقذون به أنفسهم من النار، يقول كريسي موريسون الأمريكي، في كتاب الإنسان لا يقوم وحده: يا أيها المسلمون! لقد قدمنا لكم ملاذ الحياة، البرادة والسخانة والثلاجة، ولكنكم ما قدمتم لنا غذاء الروح الذي هو الإيمان، وقفت البشرية وجربت نفسها وأحرقت أوراقها في الساحة، فما وجدت لها منقذاً إلا الله الواحد الأحد.
قال ابن تيمية: أرض لا تشرق عليها شمس الرسالة فهي أرض ملعونة، وقلب لا يشرق عليه شمس هذا الدين فهو قلب مغضوب عليه، ومن اعتقد أنه سوف يهتدي بهدىً غير هدى الله الذي أرسل به محمداً عليه الصلاة والسلام فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين كائناً من كان، لأن معناه أنه يخالف العقل والنقل والحس والعادة، فلا والله ليس هناك منقذ إلا الإيمان، تحملونه رسالة، فإن علومنا هذه رسائل، وغايتنا أن نرفع لا إله إلا الله محمد رسول الله في الأرض.
ولقد جربت الساحة المذاهب الضالة، كان تيتو في يوغسلافيا يريد أن يبعث بعثاً جديداً في العالم ويكون رئيسهم، فسحق لأنه ضال، وأحرق الشباب في أتون الحرب، وأتى هتلر قبله النازي المجرم، فذبح الناس بالحديد والنار؛ لأنه لا يريد بقاء الإنسان وحياة الإنسان.
قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا
هم القتلة، ولذلك نظموا منظمة اليونسكو وقالوا: لحفظ حقوق الإنسان، قاتلكم الله، أتحفظون حقوق الإنسان وأنتم الذين ضيعتم حقوق الإنسان؟! والله لا يحفظ حقوق الإنسان إلا الجندي المسلم يوم يملأ قلبه بالإيمان.
أفريقيا تسحق، أفغانستان تسحق، فلسطين تسحق، وإذا قتل كلب في أمريكا احتجوا وعقدوا مجلس الأمن أو هيئة الأمم المتحدة.
أنتم الأمة الخالدة، إنقاذ العالم على أيديكم لكن بشرط أن تتقوا الواحد الأحد.
المعاصي تسحقنا وتدمرنا وتؤخرنا، وتطمس ذكاءنا وفهمنا ومعارفنا.
يا أمة في عمرها لم تحي إلا بالجهاد
كفرت بمجلس أمن من نصب المنايا للعباد
القاتلو الإنسان خابوا مالهم إلا الرماد
جثث البرايا منهمو في كل رابية وواد
إن حياة الإنسان مرهونة بكم، ولكن أنتم مرهونون بالإيمان.(127/10)
مرض الشبهات
والذي أريد أن أقوله في ختام هذه الكلمة مسألتان:
الأولى: مرض الشبهات.
الله الله في الانتباه لهذا المرض، فهو مرض خطير فتاك، ولكنه يودي بالدين وتصبح بعده صفراً في عالم الإيمان والأخلاق والسلوك.(127/11)
الشبهات مركب إلحادي
ومرض الشبهات مركب إلحادي دبر من عهد إبليس لعنه الله، ومر بفرعون وبـ أبي جهل ووصل إلى استالين ولينين وماركس في روسيا، وهو مركب فصل الإنسان عن الله الواحد الأحد، تنكر الإنسان لربه تبارك وتعالى، جهل الإنسان بدينه وصلاته، مسلم لكنه لا يصلي، أهو مسلم؟ أيراد منه خير ونصر؟ لا والله، إنما هو التدهور لكل بلادٍ فيها هذا الجندي، وخيانة لكل القادة ولولاة الأمر، وانحراف عن منهج الله في الأرض.
مركب الإلحاد هو الذي وزع هذه الكلمات التي تستهزئ بالدين، مركب الإلحاد أرانا الكافر وكأنه عظيم والمسلم ليس بعظيم، أرانا الأجنبي وهو شيء آخر؛ كأنه ملك يمشى على الأرض؛ لأنه أتى من أمريكا أو فرنسا أو بريطانيا.
أرانا الأجنبي وكأن عقله ليس من عقول الناس، يحترم وينظر إليه بعلو؛ لأننا ننظر إلى أنفسنا وكأن ما عندنا شيء، مع أن عندنا كل شيء، وهذا ليس عنده شيء، يقول الله تعالى كما أسلفت في الآية: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33] يقول: يا أيها المؤمنون! لا تغتروا بعلو الكافر في الأرض، فإنه لولا أن المؤمن قد ينحرف لأعطينا الكافر قصوراً من ذهب خالصٍ ومن فضة خالصة: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35] اترك الكافر يأخذ ما يريد ويتملك ما يريد، لكنه لن يتملك الإيمان؛ فالإيمان عملة صعبة، لا توجد إلا لمن يتقي الله عز وجل.(127/12)
الاستهزاء بالدين من الإلحاد
مركب الإلحاد هو الذي أوجد في أوساطنا قوماً يتكلمون بالإلحاد، أحدهم يستهزئ بالدين ويقول يوم أن نسي الله وموعوده ولقاءه والعرض عليه، يقول لأحد السلاطين البشر الحشرات الذين لا يملكون ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وهو شاعر اسمه ابن هانئ الأندلسي، يقول لأحد السلاطين:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
سبحان الله! تعالى الله عما يقول ذاك المجرم علواً كبيراً، وعندما قال هذه الكلمة ابتلاه الله بمرض عضال على فراشه، حتى صار ينبح كما ينبح الكلب ويقول في بيتين حزينين:
أبعين مفتقر إليك نظرت لي فأهنتني وقذفتني من حالقِ
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
وأحد المجرمين الآخرين استقبل في دمشق وحمل على الأكتاف، وهو بشارة الخوري، لما نزل في مطار دمشق استقبلته القومية العربية وصفقت له، فكان أول قصيدة ألقاها أن استهزأ بالإسلام، يقول:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
لعن الله الخبث والتخلف والفكر العفن، يقول: أعطوني ديناً ليحكمنا بدون إسلام إذا كان الإسلام يفرق بيننا، لكن أراه الله في الدنيا والآخرة {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16].
ورجل آخر وهو إيليا أبو ماضي، لما نسي الله ونسي موعوده ولقاءه، قال في أبيات له:
جئت لا أعلم من أين! ولكني أتيت!!
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!!
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت!!
كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري!!
ولماذا لست أدري؟!! لست أدري!!
سبحان الله! ما يدري والله تعالى يقول: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:1 - 3].
{يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6 - 8].
{يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7].
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79].
مركب الإلحاد وجد وانتشر بين الشبيبة، وأخذ من هنا يطعن في الإسلام، وهذه حرب ماسونية وزعتها الصهيونية العالمية، وتذيعها هيئة الإذاعة البريطانية، فهي حرب أن يوجد في المجتمع رجال دين ورجال آخرون ليس لهم دين ولا هم لهم، متطرفون والبقية وسط، فالمغني ليس متطرفاً، وشارب الخمر ليس متطرفاً، بل هو معتدل، والذي يطارد الحمام والدجاج ومهمته في جمع الطوابع والسباحة وركوب الحمير ليس متطرفاً، أما الذي يحمل أصالته وعمقه ومبادئه وحماية دينه ومقدساته فهو متطرف، عجيب! أهذا حكم؟! أهذه أصالة؟! هذه عمالة وجهالة وضلالة.
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني(127/13)
مرض الشهوات
ومركب الشهوات وهو أخطر، مركب الشبهات أتانا من روسيا من موسكو، ومركب الشهوات أتانا من بلاد الغرب، وهو يقدم المرأة الخليعة الفاجرة الماجنة، والمجلة السافرة الفاتنة، والأغنية الماجنة أيضاً.
الشبهات مرض اعتقادي، أما الشهوات فهو مرض عملي، وذلك مثل المعاصي الكبرى التي ابتلي بها الشباب.(127/14)
الانبهار بالغرب
يذهب أحدهم إلى أوروبا وإلى أمريكا فيجد السبل مفتوحة، يأتي إلى أشياء بسيطة من التعامل والانضباط في حياة الأمريكان والإنجليز، فيأتي ينقلها لنا ويقول: ما رأيت أمة مثلهم في الانضباط، يقفون طوابير عند المطارات وفي الدخول إلى الصالات، ونسي جرائمهم التي هي مثل الجبال الرواسي، جرائم مخالفة الواحد الأحد، جرائم اختلاف الأنساب وهتك الأعراض، الزنا وشرب الخمر وضياع القيم، القتل والإبادة والنهب والسلب.
فواحش قد أظلمت منها السما والأرض منها أوشكت أن تقصما
هذه الفواحش نسيها وأتى إلى عالم الانضباط.
أهل العراق وما أدراك ما أهل العراق؟! أتوا إلى ابن عمر وهو يفتي الناس في الحج، فقال عراقي في رأسه ورع بارد والورع البارد موجود عند بعض الناس، قال لـ ابن عمر: بـ ابن عمر! قال: نعم.
قال: ما على المحرم إذا قتل بعوضة؟
ما هي الكفارة والفدية إذا قتل المحرم بعوضة؟
قال ابن عمر: من أين أنت؟
قال: من أهل العراق.
قال: قاتلكم الله يا أهل العراق، تقتلون الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأتون تستفتونني في ذباب أو في بعوض!
هذا ورع بارد، يأتي بعض الناس من هناك فيخبروننا ببعض الانضباط في المواعيد وأن الأمريكان أمة صادقة، أمة مخلصة منضبطة، أمة تقهر شهواتها، ولكن نسي هذه الجرائم، فهذا من مرض الشهوات وهو نفاق عملي ليس اعتقادياً.(127/15)
المجلة الخليعة
مرض الشهوات ينتشر في المجلة الخليعة، أن تتداول بين شباب الإسلام، شباب مراهق، شباب ما امتلأ قلبه بالإيمان، شباب ليس عنده نوافل، شباب لا يعود إلى زوجة عفيفة على كلمة الله عز وجل وعلى حكم الإسلام فيأتي ويصل إلى الجريمة، ولذلك تتداول المجلة الخليعة في بعض الأماكن أكثر من المصحف ومن صحيح البخاري وصحيح مسلم.
الأغنية الماجنة تأتي مكان القرآن الكريم، فتسمع صباح مساء، وكوكب الشرق تقول:
هل رأى الحب سكارى مثلنا
ويستمعها بعض الناس ويقول: ما أبلغ هذه الكلمات! لا.
ما رأى الحب فاشلين ولا متخلفين مثلكم، وحبكم ليس من الحب الذي يريده الله عز وجل، الحب أن تحب الله ورسوله والمبادئ الخالدة الأصيلة، ولذلك يقول أحد الفنانين:
يا من هواه أعزه وأذلني كيف الوصول إلى سبيلك دلني
الوصول يكون على طريقك عن يسارك إلى النار، إن لم تتب إلى الله الواحد القهار، فإن الذلة والاستخذاء للمسرح وللمرأة وللكأس ليست رسالة المسلم، هذا المسلم فكيف إذا كان جندياً؟ أنت أيها الجندي يُنظر إليك نظر اعتبار في مجتمعنا، وفي كل المجتمعات، ينظرون إليك وكأنك درع وخوذة، وأنك أنت الذي تدفع غارات الأعداء وتحافظ على أمانة رسالة الإسلام، وتعد نفسك لتدفع دمك رخيصاً في سبيل الله لا في سبيل أحد، لأن من يدفع دمه في سبيل أي أحد يدخل النار، يقول أبو موسى: {يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياءً، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله}.
فأنت يُنظر إليك وكأنك المعلم البارز، أو كأنك السياج، أو أنك بعد الله عز وجل تدافع بدمك وروحك لكن في سبيل الله، فالله الله لا تطفئ لموعك وحبك وإيمانك وطموحك بالشبهات أو بالشهوات.
يا أمة الأصالة! يا أمة الرسالة! يا أمة العمق وأمة الحب والإيمان والطموح بمعناه الأصيل! أنتم الآن مرشحون لقيادة البشرية، لكن بشيء واحد وهو الإيمان، بالإيمان الذي يوصلك إلى معالم الإيمان وعمل الإيمان ومزاولة الإيمان، ليس إيمان غلاة أهل الصوفية الذين يقول أحدهم: لا أصلي.
قالوا له: صلِّ قال: لقد وصلت.
قالوا: كيف وصلت؟ قال: يقول الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فإذا أتاك اليقين فقد قضيت ما عليك وقد أتاني اليقين، وهو كاذب على الله، فاليقين في هذه الآية عند أهل السنة والجماعة معناه الموت، واعبد ربك حتى يأتيك الموت، لا فسحة للمؤمن من عبادة الله حتى يأتيه الموت.
فالإيمان الذي يراد من هذا الكلام إيمان يحملك في صلاة الفجر -والصقيع يتهدر عليك، والثلج يتساقط عليك- إلى المسجد لتعلن قوة إيمانك.
أخبرني بعض الإخوة أن زميلاً له ذهب إلى لندن ليدرس هناك، واشتد الشتاء هناك وتساقط الثلج، فكان يقوم هذا الرجل في ساعة واحدة مع صلاة الفجر ليصلي الصلاة، ويأتي إلى صنبور الماء فيتوضأ ويذهب إلى المسجد، فيصلي ويعود، وكانت هناك عجوز تلحظه دائماً، فأخذت تسأله وتقول: مالك تذهب في هذه الساعة؟ قال: لأصلي.
قالت: ما هي الصلاة؟ قال: ديني يأمرني بهذا، قالت: أخرها، أو أجلها قليلاً لوقت الدفء.
قال: هذا وقتها ولن أؤجلها.
فأخذت تضحك وتهز رأسها وتقول: هذه إرادة تكسر الحديد.
إن الذي لا يذهب لصلاة الفجر في شدة الثلج والبرد سوف يفشل في المعركة، وهو أول من ينهزم، وأول من يسلم بلاده وتراثه ومجده وكرامته، لأنه ما أعلن صموده ولا صبره مع الرسالة الخالدة والمبادئ الأصيلة.
أيها الإخوة: أشكر الله عز وجل أن أجلسني أمام هذه الطلعات المؤمنة، التي تبشر بالخير للإسلام والمسلمين، والتي تعلن بتفوق أن المستقبل لهذا الدين، والتي تخبرنا أن هناك أياماً تستقبلنا بيضاء إن شاء الله، لنعيد مجد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وصلاح الدين.
سلام الله عليكم، وشكر الله لكم حسن استقبالكم وضيافتكم وحفاوتكم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(127/16)
الأسئلة
.(127/17)
الدعوة إلى الله تعالى
السؤال
هل الدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم في هذا العصر؟
الجواب
الحمد لله، نعم الدعوة الإسلامية واجبة على كل مسلم في هذا العصر، ولكن بحسب الطاقة والقدرة، وبحسب المواهب والاستعداد، قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقال تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60].
وليست الدعوة في الخطابة أو إلقاء المحاضرات والدروس فحسب، بل الدعوة مضمار طويل، والدعوة طريق طويل، والدعوة حديقة غناء، كل إنسان في الإسلام له دور في الدعوة، فالقائد يوجه سريته وجيشه وكتائبه إلى لا إله إلا الله، ويبث روح الإيمان فيهم فهو داعية من أكبر الدعاة، والجندي المخلص المؤمن الذي يؤدي رسالته، وينضبط بأخلاقه وسلوكه، ويحترم دينه ومبادئه وقادته ويطيعهم في طاعة الله، هو داعية من أكبر الدعاة، وخطيب الجمعة الذي يؤصل المعلومات والوعي إلى الناس هو داعية أيضاً، والمفتي داعية، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر المحتسب أمام البقالات والدكاكين والأسواق داعية، ولكن لابد أن يعرف الإنسان مستواه، وما هو المكان الذي يجيد فيه ليكون داعية، ولا تسقط الدعوة عن المسلمين.(127/18)
التوازن في حياة المسلم
السؤال
المطلوب التوازن في حياة المسلم، كيف يتحقق هذا التوازن في حياة المسلم؟
الجواب
نحن أمة التوازن والعموم والشمول والوسطية، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] يقول سيد قطب ذلك العالم العبقري المفكر رحمه الله: أمة وسط في المعتقد، فلا نغلو في الأنبياء غلو النصارى، ولا نجفو الأنبياء كما جفاهم اليهود، أمة وسط في الحب والجمال، فلا ننكر الحب ولا ننكر الجمال، ولا نسحق الحب ولا نسحق الجمال، ولا نعبد الحب ولا نعبد الجمال في الطرف الآخر، لكننا نجعل الجمال ونتفكر به جمالاً حلالاً مباحاً يوصلنا إلى رضوان الله، أمة وسط في الأدب، فلسنا بالأمة التي همها الموسيقى ترقص عليها وهي رسالة لها، وليست بالأمة كذلك التي تجفو وتتجانب، بل أمة تبتسم للدعابة، أمة قريبة من القلوب، أمة ذات بشاشة.
التوازن في حياتك كفرد لابد أن تعرف هذا، ولا يعرفك هذا مثل القرآن والسنة النبوية، أكبر من عرف التوازن بل أكبر من عرف الإصلاح في العالم هو محمد عليه الصلاة والسلام، تقرأ القرآن فتعرف التوازن.
فتتزن في عبادتك، فلا تكون كالعابد الراهب في صومعة، تتخلص من الحياة وتفر من مشاكل الأسرة، ثم تحرم جسمك حقوقه المباحة، فتذهب هناك لتكون من الذين قال الله فيهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27] ولا تفعل كما فعل اليهود، يتركون تربية الروح ويتركون القرآن والقيم، وينغمسون على رءوسهم في الشهوات يوم قال الله فيهم: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] وأحسن حديث في هذا الجانب قوله صلى الله عليه وسلم: {إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه}.(127/19)
الصوفية
السؤال
ما هي الصوفية؟ ومن هم أبرز دعاتها اليوم في العالم؟
الجواب
الصوفية مذهب تنظيري وعقدي وعملي قديم، نشأ فيما يقارب آخر القرن الثالث، وهذا الاسم لم يعرف عند الصحابة، فالصحابة فيهم زهاد وعباد ومجاهدون وشهداء، ولم يكونوا يعرفون هذا الاسم، وقد ألفت له مدارس وكتب، كـ إحياء علوم الدين، والرعاية للحارث المحاسبي، وكتاب قوت القلوب لـ أبي طالب المكي، ثم تطور التصوف إلى مشربين: مشرب ماجن إلحادي خبيث، يتزعمه ابن عربي صاحب فصوص الحكم وصاحب الفتوحات المكية، وكان يدعي أن الله حل في الأشياء، تعالى الله عما يقول، ولذلك لعنه أهل العلم إن لم يتب من هذه المقالة، وقال الذهبي: إن لم يكن في كتبه كفر فما في الدنيا كفر.
ومذهب آخر عطل الناس عن الحياة، وعما أباح الله لهم، وعن رفع الرسالة وتعليم الناس، وهو كذلك مذهب متخلف حقير.
والتصوف ليس من الإسلام بصورته التي ذكرت، الإسلام فيه زهد وعبادة ترقٍ بالنفس وروحانية، لكن على الكتاب والسنة، الإسلام دين الجمال والإبداع والروعة والخدمة ودين يشمل نواحي الحياة، أما هذا الانزواء والدروشة فالإسلام بريء منها.(127/20)
حال حديث (غزوة في البحر)
السؤال
ما صحة هذا الحديث: {غزوة في البحر تعدل عشر غزوات في البر}؟
الجواب
هذا الحديث ليس بصحيح، وإنما ذكر صلى الله عليه وسلم الغزاة في سبيل الله إجمالاً في البر والبحر، ونحن كما يقول الأستاذ علي الطنطاوي في كتاب قصص من التاريخ: سلوا كل سماء في السماء عنا، وسلوا كل بحر في البحر عنا، وسلوا كل بر في البر عنا، نحن أمة الإيمان، فأنت بجهادك وتضحيتك مأجور مشكور، سواء أكنت في البر أم في البحر أم في الجو.(127/21)
البدء في الدعوة بالأهم فالمهم
السؤال
نلاحظ دائماً أن بعض شيوخ المسلمين يركزون على عدم حلق اللحية وتقصير الثوب قبل أن يدعوا إلى عماد الدين وأساسه وهي الصلاة، ألا ترى أن الشيء الثانوي يمكن أن يطبق بعد أن يطبق الشيء الأساسي كالصلاة والصوم والحج مثلاً؟
الجواب
الداعية المسلم لابد أن يكون منهجه منهج القرآن والسنة المحمدية على صاحبها الصلاة السلام، فيعطي للقضايا مساحة لا تتجاوزها، كل قضية يعطيها حجمها، فالقرآن أعطى العقيدة ثلاثة أرباع المصحف، وأعطى الذنوب والخطايا والإصلاحات قدرها، فالغيبة لها آيتان، والحسد له آيتان، واتباع السنة له آيات.
فقضية أن يهول الإنسان أو يضخم بعض القضايا ليس بصحيح، وقضية أن يطمسها تماماً ليس بصحيح، لكنه يقدم الإسلام على شكل أولويات، فيبدأ بالعقيدة وبالفرائض، ثم بالواجبات، ثم بالسنن والمندوبات، ثم بالآداب العامة والمروءات، هذه هي الصورة المطلوبة، والدعاة يظهر من الاستقراء لأحوالهم عبر التاريخ أنهم على ثلاثة أقسام: طرفان ووسط:
الطرف الأول: رجل يدعو إلى هذه الأمور الصغيرة، فيحجمها ويجعل الإيمان والكفر والولاء والبراء عليها، يرى أنه لا يدخل الإنسان في أهل السنة والجماعة حتى يربي اللحية ويقصر الثوب ويحمل سواكاً معه، ويتكلم دائماً في اللقاءات العامة عن هذه القضايا، وينشرها ويترك ما هو أكبر منها، الخمر يزاول ويداول، والزنا منتشر، والربا منتشر، وكذلك ترك الصلوات والمخالفات، فيجعل هذه القضايا همه دائماً، وهذا قد تطرف في هذا الجانب.
الطرف الثاني: رجل يقول: نبدأ نحن بالمعتقد وأما هذه فلا علينا منها، هذه السنن إنما هي قشور، وهذا قد أخطأ كذلك كما أخطأ الأول.
أما المتوسط: فهو الذي يعطي الأمور حجمها وطبيعتها ورسالتها، يضخم ما ضخمه الإسلام، ويعطي كل شيء قدره الذي أنزله الله عز وجل.
فنحن نقول لهذا الداعية: عليك أن تدعو إلى هذه الأمور، لكن لا تنس هذا الجانب، لا تنس جانب سلوكه صلى الله عليه وسلم وخلقه قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].(127/22)
حديث: (احفظ الله يحفظك)
السؤال
فضيلة الشيخ! معظم من هم أمامك الآن من الشباب، ولفضيلتكم شرح عظيم لحديث: {احفظ الله يحفظك} حبذا لو حدثتنا عن ذلك؟
الجواب
كأن الأخ السائل يريد محاضرة جديدة اليوم، وفيما سمعتم الكفاية، ومن أراد الشريط فسوف يجده إن شاء الله، ومن تيسير الله لهذا الدين أن يسر الكتاب الإسلامي، والداعية الإسلامي، والشريط الإسلامي.
وحديث: {احفظ الله يحفظك} من أعظم الأحاديث في الإسلام، وكان العلماء إذا ودع أحدهم الآخر أوصاه بهذا الحديث، وهو في الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} هل يستطيع أحد أن يقول مثل هذا الكلام؟
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
أم المعاني اللواتي قد أتيت بها أرى بها الدر والياقوت متصلا
هذا لفظ من أوتي جوامع الكلم، وأنا لا أستطيع في هذه العجالة أن أشرح الحديث، ويرجع في شرحه إلى ابن رجب في جامع العلوم والحكم، ولكن عليكم أن تكتبوا على صفحات قلوبكم: {احفظ الله يحفظك}.(127/23)
خصلتان لدخول الجنة
السؤال
ما هي الخصلة الثانية لدخول الجنة؟
الجواب
نعم.
الأولى أنه يحب الله ورسوله، والثانية أنه لا يفر يوم الزحف.(127/24)
مقتطفات من شعر الشيخ عائض
السؤال
متى بدأت موهبة الشعر عندك يا شيخ، نرجو أن تختار لنا قصيدة من قصائدك؟
الجواب
أولاً: الشعر إذا لم يستخدم في طاعة الله عز وجل ولا يسير به الإيمان فهو كلام مصفف، ويكون نتيجة عكسية على صاحبه، ضياع في الحياة، وضياع بعد الحياة، وضياع في القبر، وضياع في الصراط.
بدأت من الثانية متوسطة لكنها ضعيفة ككل البدايات، وأنا أختار بعض القصائد، ومما يناسب أنني أعرف أن بعض الإخوة وبعض الأفراد قد كان له سفر إلى بلاد الغرب، أو رأى تلك المجتمعات الغربية أو سمع عنها، وأنا قد ذهبت إلى أمريكا في مؤتمر الشباب العربي المسلم في أوكلاهوما، وكان لي في هذا المؤتمر الذي حضره ما يقارب خمسة آلاف شاب مسلم عربي، لا أقول عربي قومية، ولكن كان طبيعة المؤتمر أن يدار باللغة العربية، وكان لي فيه قصيدتان، قصيدة جدية اسمها: أمريكا التي رأيت، وقصيدة هزلية اسمها: نشرة الأخبار، أما أمريكا التي رأيت، فمنها هذه الأبيات:
يا أمة ضرب الزمان بها جموح المستحيل
وتوقف التاريخ في خطواتها قبل الرحيل
سكبت لحون المجد في أذن المجرة والأصيل
وسقت شفاه الوالهين سلافة من سلسبيل
يا أمة كم علقوا بكيانها خيط الخيال
وهي البريئة خدرها فيض عميم من جلال
شاهت وجوه الحاقدين بكف خسف من رمال
موت أتاتورك الدعي كموت تيتو أو جمال
يا أمة في عمرها لم تحي إلا بالجهاد
كفرت بمجلس أمن من نصب المنايا للعباد
القاتلي الإنسان خابوا ما لهم إلا الرماد
جثث البرايا منهم في كل رابية وواد
ما زرت أمريكا فليـ ست في الورى أهل المزار
بل جئت أنظر كيف ند خل بالكتائب والشعار
لنحرر الإنسان من رق المذلة والصغار
وقرارنا فتح مجيد نحن أصحاب القرار
ورأيت أمريكا التي نسجوا لها أغلى وسام
قد زادني مرأى الضلا ل هوىً إلى البيت الحرام
وتطاولت تلك السنون فصار يومي مثل عام
ما أرضهم أرض رأيت ولا غمامهم غمام
أما الهزلية فأقول بعض الأبيات:
يقول عائض هو القرني أحمد ربي وهو لي ولي
مصلياً على رسول الله مذكراً بالله كل لاهي
قد جئت من أبها صباحاً باكرا مشاركاً لحفلكم وشاكراً
وحملتنا في السما طيارة تطفح تارة وتهوي تارة
قائدها أظنه أمريكي تراه في هيئته كالديك
يا سائل الأخبار عن أمريكا اسمع رعاك الله من يفتيكا
وهذه أخبار هذه النشرة مسافة السير ثلاث عشرة
من الرياض عفشنا ربطنا وفي نيويورك ضحىً هبطنا
أنزلنا في سرعة وحطنا وقد قصدنا بعدها واشنطنا
ثم ركبنا بعدها سيارة مستقبلين جهة السفارة
منزلنا في القصر أعني ريديسون يا كم لقينا من قبيح وحسن
في بلد أفكاره منكوسة تثقله بصائر مطموسة
يقدسون الكلب والخنزيرا ويبصرون غيرهم حقيرا
ما عرفوا الله بطرف ساعة وما أعدوا لقيام الساعة
فهم قطيع كشويهات الغنم جد وهزل وضياع ونغم
فواحش قد أظلمت منها السما والأرض منها أوشكت أن تقصما
من دمر العمال في بولندا ومن أتى بالرق في يوغندا
من دمر البيوت في نزاكي من ضرب اليونان بالأتراك
من الذي ناصر إسرائيلا حتى تصب عنفها الوبيلا
استيقظوا بالجد يوم نمنا وبلغوا الفضاء يوم قمنا
منهم أخذنا العود والسيجارة وما عرفنا نصنع السيارة
ومنها:
ومعنا في صحبنا العجلان أكرم به مع العلا جذلان
وصالح المنصور من بريدة يشبه سعداً وأبا عبيدة
والشهم عبد القادر بن طاشي ذو القلم السيال في انتعاش
فهو أبونا في مقام الترجمة لأننا صرنا صخوراً معجمة
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(127/25)
عقوبات المعاصي
إن الله تعالى خلقنا لغاية عظيمة وهي عبادته سبحانه، وأمرنا بأشياء ونهانا عن أشياء، ورتب على كل واحدة منها آثاراً، فكما أن للطاعة آثاراً كذلك للمعصية آثار، فكان على المرء أن يجتنب المعاصي حتى يسلم من آثارها الدنيوية والأخروية.(128/1)
أهمية بيان آثار المعاصي
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وحجة الله على الهالكين، وإمام المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
عنوان هذه المحاضرة "عقوبات المعاصي"
ما غضب الجبار إلا من المعاصي، وما فسدت القلوب ولا قست، ولا تشتت الأرواح، ولا كثرت الهموم والغموم، ولا انقطع الحبل بين العبد وربه، ولا دمرت البلاد، ولا تقاتل العباد، ولا جف القطر من السماء، ولا دعت العجماوات والكائنات على عصاة بني آدم إلا بسبب المعاصي.
والمعاصي تورث الذل والهم والغم، وتفسد البصائر والأبصار والمعتقدات.
والمعاصي تشتيت وهدم للأسر وللبيوت، وهلاك للشعوب
والمعاصي محق للبركة، وانتزاع للعلم، وفسادٌ للقلوب لا يعلمه إلا الله، وقد عد بعض أهل العلم آثار المعاصي وعقوباتها، فأوصلها إلى مائة عقوبة.
ولذلك حق على المسلم أن يسمع هذه العقوبات وأن يسمعها أهله، وأن يهدي هذا لأحبائه وأقاربه علّهم أن يتعظوا، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النّعم}
فلا إله إلا الله كم أفسدت المعاصي! ولا إله إلا الله كم أوجبت من قطيعة بين العبد وبين الله! ولا إله إلا الله كم دمرت من أسر وأفسدت من شباب وخربت من ديار! تلك آثارهم في البلاد، فانظر كيف غضب الله عليهم فأخذهم بالزلازل والبراكين، وبالريح والصيحة والحاصب والطوفان: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13].
وكان لزاماً على المسلم أن يبين لإخوانه آثار هذه الذنوب، فإنه وُجِدَ من الناس -ونسأل الله السلامة- من لم يهتم لهذا الأمر.
وكان الإمام أحمد إذا جلس في مجلسه قال: "اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم، فإن العبد بين خطرين اثنين: بين يوم مضى لا يدري هل غضب الله عليه أو رضي، ويمكن أن يكون من المغضوب عليهم، وبين يوم أقبل لا يدري هل يسلم فيه أم يهلك هلاكاً ويعطب عطباً ما بعده عطب".
وسر الحياة وسعادتها وبهجتها وزيتنها كلها في رضا الله تعالى وطاعته والعودة إليه، فإذا فاتك هذا الرضا فقد فاتك كل خير، فنعوذ بالله من قلب لا يعي، ومن عين لا تبصر، ومن أذن لا تسمع.
ألم تر كيف ذكر الله عز وجل قوماً أعرضوا عنه، فقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] فحقيق على المسلم أن يتنبه لنفسه، وأن ينجو ببيته وأسرته وقرابته، لقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] وحق على المسلم أن ينصح كل من يقوم عليه أو يتصل به بنسب أو قرابة، قال عز من قائل: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214].(128/2)
عقوبات المعاصي
فاسمع إلى عقوبات المعاصي، وقد عدها بعض العلماء، وأنا سأذكر منها ما يقارب الأربعين عقوبة، عل القلوب أن تعي وتفهم، وأن تعلم أن سبب الكوارث والهزائم والفشل والفقر والدمار والتشتت والتمزق كله بسبب المعاصي.(128/3)
حرمان العلم
أولها: حرمان العلم.
فإن العلم هبة من الله، والفهم عطية منه، والفقه مادته منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يهبها لمن يشاء، والله ربط العلم والفهم بالتقوى، فقال عز من قائل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ} [البقرة:282] وإذا أعطى الله العلم صاحبه، أو علمه حديثاً أو آية أو قضية، أو بصره، أو رده عن خطأ ولم يتعظ؛ سلب الله العلم منه، وأطفأ نوره وشهابه ومصباحه، فجعله في الدنيا في ظلمات، ثم أوعده بظلمات في الآخرة فأهل الظلمات على الصراط إنما هووا على وجوههم في النار؛ لأنهم ما وجدوا نور الطاعة في الدنيا، ولأن ظلمات المعاصي أحاطت بهم.
ولذلك قال الله تعالى عن بني إسرائيل لما عصوه وأفسدوا في الأرض واستوجبوا غضبه ولعنته: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء:155] أي: بمعاصيهم؛ لأن في عنقك يا مسلم عهد من الله، من يوم خلق الله آدم ونثر ذريته كالذر من ظهره أخذ الميثاق عليهم ألَّا يُعبد إلا هو، فأنت قد أعطيت الله ميثاقك مرتين: مرة يوم أخذه من ظهر أبيك آدم، ومرة يوم أرسل لك محمداً عليه الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار} وقد دخلت دعوته إلى كل بيت، فيعز بعز طاعته كل عزيز، ويذل بذل معصيته كل ذليل.
فأول عقوبة حرمان العلم، قال الله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:13].
أتى الإمام الشافعي رحمه الله ليزور مالك بن أنس في المدينة، وهو إمام دار الهجرة، فرأى مالك نور الطاعة على وجه الشافعي، ورأى السمت والوقار، فأخذه بيده وقال: "يا شافعي! إني أرى عليك نور الطاعة فلا تطفئ نور طاعتك بمعصية الله".
وذهب الشافعي إلى شيخه وكيع بن الجراح العالم الكبير المحدث، فقال: عظني، ما هو أنفع دواء للحفظ؟ كيف أحفظ القرآن؟ كيف أحفظ الحديث؟
قال: عليك بتقوى الله، وإياك والمعاصي فإنك لن تنسى العلم بمثل المعاصي، قال الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
مر أحد الناس فرأى امرأة فنظر إليها، فقال له أحد العلماء: تنظر إلى الحرام! والله لتجدن غبها وعقوبتها ولو بعد حين.
قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
وقال بعض أهل العلم: لما قال يعقوب لأبنائه: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:13] أوحى الله إليه: يا يعقوب! خفت الذئب وما رجوتني!
فمن الذي يحفظ إلا الله؟
ومن الذي يرعى إلا الله؟
ومن الذي يسدد إلا الله؟.
ومن الذي يهدي إلا الله؟
فيقول: يا يعقوب! أرسلت ابنك وما قلت: يحفظه الله وقلت: أخاف أن يأكله الذئب.
فأخذه إخوانه فغاب عن أبيه أربعين سنة.
قال أحد الصالحين -وهو أبو سليمان الداراني -: إني لأرى وجهي في المرآة كل يوم مرات، أنظر هل اسود وجهي من المعاصي؟! هذا وهو ولي، قائم الليل صائم النهار صادق مع الله مخلص ومع ذلك يأخذ المرآة ينظر هل تغير وجهه.
فقل لي بالله! كم أذنبنا! وكم أخطأنا! وكم ارتكبنا من ذنب وخطيئة الله أعلم بها! لكننا أصبحنا لا نشعر، فهم يشعرون لأن فيهم حياة، ونحن لا نشعر لأن قلوبنا قد ماتت من كثرة المعاصي.
ولذلك يقول أحد السلف: "إنني لأنكر أخلاق الناس معي بسبب المعاصي" وقال بعضهم: ما فعلت معصية إلا تغير الناس لي، وهذا أمر واقع، وأنت بإمكانك أن تجرب علاقتك مع الناس، وتسهيل أعمالك ومراجعاتك، فإنها لا تسهل إلا بطاعة الله، وإذا تعقدت وتصعبت فبسبب المعاصي فالحذر الحذر! والبدار البدار إلى التوبة! فلا ملجأ من الله إلا إليه بتوبة نصوح.
وأبغض الناس إلى الله هم العصاة، فلا يمكن أن يفقههم في دينه أو يعلمهم، ولذلك لا يستفيدون من الموعظة ولا يفهمون، والله ذكر بني إسرائيل فقال: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] فهم عطلوا أمر الله ونهيه وتعاليمه؛ فجعلهم كالحمير لا تفهم ولا تعي، وقال عن عالمهم: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176] ولذلك يقول الأول:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
فتجد الذي يستمع الغناء أو ينظر إلى الحرام كثيراً، أو يأكل الربا، أو يسهر على البلوت وعلى معصية الله، أو يعاشر الفاجرين المعرضين؛ تجده لا يحس بالذنوب، يقول ابن مسعود كما في صحيح البخاري: [[إن المؤمن ينظر إلى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يسقط عليه، وإن الفاجر ينظر إلى ذنبه كأنه ذباب وقع على أنفه فقال به هكذا]] فأسرع الناس اقترافاً للذنوب هم الفجرة، ولذلك تجدهم يستصغرون كبائر الذنوب وسوف يأتي بيان ذلك، فحذار حذار يا من له طريق إلى العلم أو الفهم من المعاصي! نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم من الذنوب والخطايا، وأن يثبتنا حتى نلقاه.(128/4)
حرمان الرزق
الأثر الثاني والعقوبة الثانية من عقوبات الذنب: حرمان الرزق.
فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه، كما ثبت ذلك في مسند الإمام أحمد فما تعطل الرزق، وما قلت بركة الناس وبركة بيوتهم ودخلهم، وما كثرت عليهم المتطلبات إلا بسبب الذنوب والمعاصي.
ولذلك كان الرزق الهنيء لأهل الطاعة، ولا يهولنك أن تجد فاجراً عنده قصور ودور ونعمة، وعنده شيكات وبنوك ودخل وسيارات، فإن هذه نقمة لا نِعْمَة قال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر:11 - 17].
فلا إله إلا الله كم قلت بركة ورزق من أعرض عن الله! تأتيه الأموال مثل الجبال لكن لا بركة فيها: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126].(128/5)
الوحشة بين العاصي والله عز وجل
العقوبة الثالثة: وحشة بين العاصي وبين الله لا يعلمها إلا الله.
فأوحش شيء إلى العاصي أن يجلس وحده مع الله، فتجد العاصي يفر من الوحدة ولا يحب العزلة، بينما كان الصالحون والتابعون والسلف الصالح يجلس أحدهم في غرفة، فيذكر الله تعالى ويسبحه ويكبره، ويستغفره ويدعوه، ويجد اللذة والسكينة وحده أما الفاجر إذا جلس في غرفة وحده فكأن وحشة الدنيا وهمها وغمها اجتمع عليه، فلا يحب الوحدة بل تجده يحب الخلطة مع الفجرة، ويجلس في المنتديات والمقاهي مع المعرضين، ويحب الفكاهات والضحك الطويل العريض لينفس عن نفسه فتجده يضحك من شدقه إلى شدقه ومن أذنه إلى أذنه ويقهقه قهقهة قد تهدد أمن الحارة، فهو أكثر الناس ضحكاً وقهقهة، وأكثر الناس مزحاً فاحشاً وبذيئاً؛ لأن في قلبه غم وذلة وهم وحسرة لا ينفسها إلا الضحك فلذلك كان بين العاصي وبين الله وحشة وبين الطائع وبين الله زلفى وقربى.
كان الإمام أحمد يجلس وحده فيقال له: ألا تستوحش؟
فيقول: كيف أستوحش والله يقول: أنا جليس من ذكرني.
وكان إبراهيم بن أدهم يجلس وحده في جبل في لبنان فقالوا له: أتجلس وحدك؟
قال: معي الله عز وجل.
قالوا: ألا تستوحش في هذا الخراب؟ قال: أنا في العمار وأنتم في الخراب.
فهو في الصحراء لكن الله معه.
ذكروا عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه كان يخرج من المسجد بعد صلاة العصر وحده إلى الصحراء، فيرفع إصبعه ويذكر الله ويهلل ويكبر، ثم يبكي ويقول:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
وهذا البيت لـ مجنون ليلى، قاله في محبوبته، لكن ابن تيمية حوله إلى الحبيب القريب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فقال:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
وإني لأستغشي وما بي غشوة لعل خيالاً منك يلقى خياليا
ولذلك العاصي دائماً يشعر بالضجر ويريد أن يقضي الوقت في التوافه، حتى إن بعض الناس إذا دخل عليهم رمضان جلسوا في لعب، كلعب البلوت أو الورقة أو ما شابهها، ويأخذون الساعات الطويلة في لعب الكرة، يقولون: نضيع أو نقطع الوقت، ويشعر أحدهم بضجر ويقول: انتابني هم وغم؛ وذلك بسبب معاصيه وإعراضه عن الله تبارك وتعالى.(128/6)
الوحشة بين العبد والناس
الأثر الرابع: الوحشة بينه وبين الناس.
قالوا: العاصي متهم دائماً، كاد من الريب أن يقول: خذوني.
لو تحرك الباب لقال: جاء الطلب، ولو تُكُلم في إنسان لقال هو في.
قال الله عن المنافقين: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] فالعاصي بينه وبين الناس وحشة، فهو يرى أن الطائعين يتهمونه، ويرى أن الناس كلهم يظلمونه ويتحدثون فيه فإذا سمع اثنين يتناجيان قال: فيَّ يتكلمون، وإذا سمع صاحبين يتكلمان قال: فيَّ يختصمون، وإذا سمع حزبين يختلفون قال: فيَّ يتحدثون.
فهو دائماً متهم، وهو دائماً مسلوب الإرادة ليس عنده قوة، وبينه وبين الناس وحشة.
حتى أنك تجد الذي يتمرد في المعاصي كثيراً ويعيش فيها سنوات لا يحب مجالسة الصالحين ويفر منهم؛ حتى وجد أن بعض الناس ذهب إليه بعض الدعاة في بيته ليحدثه، فخرج من الباب الآخر، وقال لأطفاله: قولوا أبونا غير موجود.
ووجد من بعضهم أنه يعتذر عن الوصول، ويعتذر عن حضور الوليمة التي هي للطائعين؛ لأن فيها قرآناً وحديثاً، وفيها سيرة وسلف وأخبار وأخيار، لكن إذا وجدت الربابة والدف والطبل حضر ورقص وشارك بشعوره وتكاتف وتعاون، فهو معرض عن الناس المستقيمين ومقبل على المعرضين لقربه وصلته بهم، فلا إله إلا الله كم بين من أحب الله من قرب وزلفى! {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] نسأل الله أن نكون منهم.
ونجد أن المعرضين في الظاهر متعاونون متساعدون، ولكن بينهم من الشنار والعار والدمار ما الله به عليم: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] فمن أراد الحب والولاء فليتول الصالحين وليقرب منهم، ولذلك عقد النووي رحمه الله: باب زيارة الصالحين والاستئناس بهم وحبهم، والمرء يحشر مع من أحب.
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة(128/7)
الظلمة في القلب
والأثر الخامس: ظلمة يجدها في قلبه كظلمة الليل.
قال ابن القيم: بل أشد من ظلمة الليل.
وليس المقصود الذي يقترف السيئة ثم يتوب ويستغفر، إنما المقصود هو الذي انقطع حبله وشرد، كما يقول ابن تيمية في رفع الملام عن الأئمة الأعلام: "وشرد عن الله كما يشرد الجمل الشارد عن أهله.
فالمقصود بالعاصي هو الذي تهتك بالمعاصي، وأصبحت له جبلة، وأحبها وآثرها وفكر فيها، واستبدل مكان الطاعات معاصياً حتى إنك تجد مكان المصحف مجلة، ومكان التلاوة أغنية، ومكان السواك سيجارة، ومكان الكتاب الإسلامي مجلة خليعة، ومكان الأخيار والأبرار والدعاة فساقاً وفجاراً يجلس معهم ويهواهم، ومكان المسجد مقهى ومنتدى وجلسة حمراء تُغضب الله عز وجل فلا يزال العبد يفعل ذلك حتى يجد ظلمة في قلبه.
قيل لأحد الفلاسفة المعرضين عن الله: مالك لا تتوب إلى الله؟ قال: أحاول دائماً أن أتوب فلا أستطيع، أصبح قلبي ظلمات بعضها فوق بعض.
وكان ابن عمر يقول: [[اللهم إني أعوذ بك أن تحول بيني وبين ما أشتهي.
لأن الله يقول: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54] قالوا: كيف يحال بينك وبين ما تشتهي؟ قال: أريد أن أقول: لا إله إلا الله، فيحال بيني وبين لا إله إلا الله]] فلا يزال العبد يعصي الله ويتهتك في حدوده ويعرض عن بيوته؛ حتى يحال بينه وبين لا إله إلا الله محمد رسول الله في سكرات الموت، وذكروا أن بعض الناس قيل له في سكرات الموت: قل لا إله إلا الله؛ فحيل بينه وبين لا إله إلا الله، حاولوا وكرروها عليه، رددوا لا إله إلا الله فما استطاع أن يقولها.
فظلمة المعصية ظلمة محسوسة وظلمة معنوية يجدها العاصي في قلبه، لكنه لا يستطيع أن يخرجها لأنه ما صمم على التوبة والعودة إلى الله.(128/8)
تعسير الأمور
ومن آثار الذنوب وعقوباتها: تعسير الأمور وتصعيبها.
فلا يزال العاصي في صعوبة وفي تعسير الله أعلم بها، بل بلغ ببعض الناس المذنبين الذين تركوا المسجد أن تصعبت أمورهم في وظائفهم وفي أرزاقهم ومكاسبهم، وفي تربية أطفالهم، وأتت عليهم من الكوارث والحوادث والمصائب ما الله به عليهم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] حتى قال بعض السلف: إني لأجد اختلاف دابتي وعدم تذللها لي بسبب ذنوبي.
وقال بعضهم: يلبس العاصي الحذاء فلا تستقيم له إلا بمشقة، والثوب لا يستطيع لبسه إلا بمشقة.
فأكبر التكدير من المعاصي، حتى الحركات العادية بسبب المعاصي؛ ولذلك أمرنا بالاستغفار.
وكان ابن تيمية رحمه الله يُسأل عن مسألة من مسائل العلم فيقول: "تعجم علي -أي: تصعب- فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل فيفتحها الله علي.
فالمطلوب منا جميعاً أن نكثر من الاستغفار، وإذا أردنا أمراً فعلينا أن نستغفر، وأحد الصالحين أراد أن يكلم أحداً من وجهاء الناس في مسألة، فذهب إليه فما استجاب له، فعاد إلى بيته وقال: هذا بذنوبي وخطاياي فتوضأ وصلى ركعتين واستغفر ثم ذهب إليه في اليوم الثاني وكلمه؛ ففتح الله له قلبه وسخره له.
فالقلوب بيد الله، ولا يسخر الأمور ولا يسهلها إلا الله الواحد الأحد.(128/9)
وهن القلب
ومن عقوباتها: أنها توهن القلب والبدن.
فأما القلب فتضعفه حتى يبقى جدثاً -والعياذ بالله- للمعاصي، وصنماً للخرافات، ومنتجعاً للوساخات والقاذورات، ولذلك تجد قلوب الزناة كالحمامات فالذين يستمرئون الزنا قلوبهم كالحمامات تماماً، ليس فيها قرآن ولا ذكر، ولا حب لله ولا للرسول صلى الله عليه وسلم ولا للصالحين، بل هي كالبيت الخرب، حتى يذكر ابن القيم وصفاً لهم في كتاب الفوائد فيقول: ففي هذه البيوت -أي: القلوب التي تشبه البيوت الخربة والخرابات- من البوم والعقارب والحيات والخرافات والخزعبلات ما الله به عليم.
وعند الترمذي قوله عليه الصلاة والسلام: {إن القلب الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب} فلا يزال العبد يخرب قلبه بسماع الغناء وبحب الفاحشة، والتفكر في الجريمة والمعاصي، ومخالطة السيئين؛ حتى يصبح قلبه كالحمام والعياذ بالله، فيصبح مأوى لكل خسارة ونذالة، فلا يصفو ولا يفهم ولا يرق بسبب ذنوبه.
وأما ضعف البدن فقد قال ابن القيم: فانظر إلى أجسام فارس والروم، لما قاتلوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بأجسام طويلة وأخشاب مديدة وأعضاء قوية، فما نفعهم ذلك بل انهزموا والله.
كان جيش الروم في معركة اليرموك (280) ألفاً، وجيش خالد بن الوليد (30ألفاً، فالتقى هؤلاء وهؤلاء، وخرج حزب الشيطان بأجسام طويلة، عليهم الديباج والحرير والتيجان، ومعهم السيوف المذهبة والخيول المتوجة، وعندهم كبر وبطر، وخرج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أجسام نحيفة، ولكن على جباههم السجدات، وعليهم الأذكار، وعليهم تقوى الله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] فالتقى الجمعان، وتراءى الفريقان، وخرج الحزبان، وأقبل جيش الروم والكتائب كالجبال، كل كتيبة ما يقارب عشرة آلاف، فقال بعض المسلمين لـ خالد لما رأى جيش الروم وكثرتهم، قال: يا خالد! اليوم أظننا نفر إلى جبل سلمى وآجى في حائل من كثرتهم.
فدمعت عينا خالد والتفت إلى السماء وقال: لا والله، لا نفر إلى جبل سلمى ولا إلى أجا ولكن إلى الله الملتجا.
فتقدم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ملائكته وأنزل نصره، فذبحوا تلك الأجسام وبددوها بالسيوف ومزقوها وداسوها في الأرض، وفتح الله لهم الأرض شرقاً وغربا وشمالاً وجنوباً؛ بسبب إخلاصهم وقوتهم ونصرتهم للواحد الأحد.
يقول محمد إقبال:
فكم ماتت زهور في الروابي وكم بادت نخيل في البوادي
ولكن زهرة الإسلام تبقى على مر العواصف والعوادي
ونورك في ضحى الإسلام باقٍ بقاء الشمس والسبع الشداد
فمن أراد النصر فعليه بتقوى الله، يقول الله عن المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِم كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] وقال حسان فيهم:
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر جسم البغال وأحلام العصافير
فعندهم قلوب، لكن قلوب ليس فيها نور، ولا تفهم ولا تعي.
فقل للعيون الرمد للشمس أعينٌ تراها بحق في مغيب ومطلع
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأبصارها لا تستفيق ولا تعي
كان ابن مسعود طوله أشباراً جسمه كالصقر، وعظامه نحيلة كالأصابع، ولحمه خفيف، لكن عنده قلبٌ كالجبل يحفظ القرآن، ويقوم الليل، ويدعو إلى الله، وهو صادق مع الله صعد شجرة من الشجر فهزته الريح، فتحركت الشجرة والغصن وابن مسعود، فتضاحك الصحابة، فقال صلى الله عليه وسلم: {أتعجبون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد} إنها المبادئ الخالدة ورسوخ المعاني.
ولذلك تجد في المسلمين الإنسان كأنه حربة أو عصى أو عود وهو يشكل ملايين وطلائع وجبال من بعض الناس.
والناس ألف منهم كواحدٍ وواحدٌ كالألف إن أمر عنا
وتجد المتكبر ضخماً كبيراً، ولكنه يحشر يوم القيامة في صورة الذر يطؤه الناس بأقدامهم، وهذا ليس على الإطلاق، فإن بعض المؤمنين سمين بدين لكنه مؤمن بالله، مثل عمر بن الخطاب، كان إذا مشى كأنه راكب، كان مهولاً كالحصن، حتى قال بعضهم -والله أعلم بصحتها- يقولون: إن الحلاق أخذ يحلق رأسه بـ منى فعطس فأغمي على الحلاق، فرش بالماء، حتى يقول فيه الشاعر:
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
فجعل الله له هيبة في المبدأ وفي العقل والجسم والقلب، كان له عصا تخرج الشياطين من رءوس أصحابه، يجوب بها المدينة، وصح أن عفريتاً من أقوى الجن لقيه في شارع من شوارع المدينة، فقال عمر: من أنت؟ قال: أنا جني عفريت من العفاريت.
قال: أتصارعني؟
وعمر يحب المصارعة دائماً؛ لأنه عاش المصارعة بين الحق والباطل، عاش الجاهلية والإسلام عاش النور والظلام عاش الحق والباطل، فقال: نعم أصارعك.
فأخذه عمر ثم طرحه أرضاً، فقام العفريت ثانية فطرحه، فقام ثالثة فطرحه وبرك على صدره حتى تاب.
ولذلك جاء في صحيح البخاري: {ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك} يأتي عمر من هنا فيأتي الشيطان من هناك، يهرب دائماً لقوة قلبه، فليس من الصحيح على الإطلاق أن يكون المؤمن دائماً نحيفاً.
وكذلك قد تجد بعض الفجرة نحيفاً كالعصا، لكنه فاجر أعمى، جمع: (حشفاً وسوء كيلة) تجده نحيفاً يابساً هزيلاً ميتاً، لكنه يدمر من المعاصي ما لا تدمره الألوف المؤلفة؛ فليس هذا الأمر على إطلاقه.
وإنما أقول: ليست العبرة بالأجسام طولاً أو قصراً، وإنما الشاهد أن المعاصي توهن الأبدان، فالفاجر أخوف الناس قلباً وأبعدهم شجاعة وأقلهم حماساً، ولذلك تجد في الجيوش -دائماً- إذا التقى أهل الفجور والمعاصي فهم أهل الهزائم، وما انهزم العرب مع إسرائيل إلا لمعاصيهم؛ فإن أحد قادات العرب لما وصل إلى الفالوجة في فلسطين، قال له بعض الناس: نصلي.
قال: لا نصلي إلا إذا عدنا إلى بلادنا.
فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، فترك جزمته هناك وفر هارباً فر من الموت وفي الموت وقع.
لقد ذهب الحمار بأم عمروٍ فلا رجعت ولا رجع الحمار
ولكن وجد من عباد الله في أفغانستان أناس بسطاء آمنوا بالله، عليهم لفائف من القماش، وأجسامهم نحيفة، ومع ذلك قاوموا الدبابات، ووقفوا في وجه الطائرات، وفجروا -بإذن الله عز وجل- قوىً عالمية هائلة، وأرغموا الملحد وسحقوه ودمروه، وهزموه، وفضحوه، ومزقوه، وأفشلوه أمام العالم، وهذه عظة وعبرة.(128/10)
حرمان الطاعة
ومن آثارها: حرمان الطاعة.
قال بعض السلف: إن العبد يحرم الطاعة بالذنب يصيبه.
وقال بعضهم: سهرت في مجلس يغضب الله -في مجلس غيبة- ففاتتني صلاة الفجر.
وقال بعضهم: فاتتني صلاة الجماعة في العشاء فاحتلمت في الليل.
والاحتلام في الليل ليس معصية، لكنه -على كل حال- من الشيطان وليس من الرحمن، فليس من كرامات الأولياء أن الإنسان يحتلم في المنام فيصبح وقد احتلم فيغتسل، والرسول صلى الله عليه وسلم والأنبياء لا يحتلمون أبداً؛ وذلك لعصمتهم وعلو منزلتهم ومكانتهم، والاحتلام تلاعب من الشيطان، فيقول أحد السلف: غبت عن صلاة الجماعة في العشاء فابتليت بالاحتلام.
وهذا لدقتهم، فإنهم يعرفون من أين أتوا، أما نحن فكما قال القائل:
تكاثرت الظباء على خراشٍ فما يدري خراش ما يصيد
الإنسان الذي قطع رأسه ما يحس أن فيه زكاماً أو مرضاً أو روماتزم أو غيرها، فإذا أتوا به إلى المستشفى وقالوا: نريد أن تنظروا ما هو مرض هذا الرجل؟ قيل: مرضه أنه مقطوع الرأس.
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميت إيلام
أحد الصالحين وهو سهل بن عبد الله التستري ذهب إلى صلاة الجمعة فانقطعت حذاؤه، فقال لتلاميذه: أتدرون لماذا انقطعت حذائي؟
قالوا: لا ندري.
قال: لأني ما اغتسلت اليوم للجمعة ثم ذهب فاغتسل.
فعرف من أين أُتي، لكن الواحد منا اليوم يصدم بالسيارة، ويتضارب مع الناس، وينهدم بيته وتأتيه المصائب، ويرسب أبناؤه، فما يدري من أين أُتي؛ لأن الذنوب -والعياذ بالله- قد كثرت.
فنشكو حالنا إلى الله، ولا يتوب علينا إلا الواحد الأحد.
فحرمان الطاعة -والعياذ بالله- بسبب المعاصي، وقد يحاول الإنسان أن يطيع الله لكن بسبب المعاصي لا يوفق إلى الطاعة، تجده دائماً يذهب في عكس الطاعة فلا يتلو القرآن، وليس عنده ذكر، ولا يحضر الدروس والمحاضرات والعياذ بالله.
قال أهل العلم: الطاعة تولد الطاعة، والمعصية تولد المعصية، فالطاعات قرابة وخئولة وعمومة من الرضاعة والنسب، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، والمعاصي قرابة وعمومة وخئولة ورضاعة ونسب، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب.(128/11)
محق بركة العمر
ومن آثارها: أنها تقصر العمر وتمحق بركته.
فالعاصي من أقل الناس أعماراً انظر إلى بعض العصاة الآن، يعيش مائة وعشرين سنة لكنه مثل الحمار، يجدون معه مذكرات يكتب فيها ماذا فعل لقي امرأة في البرازيل وكتب مذكرات، وسمع أغنية، وعنده موسيقى وليلة حمراء، وشرب كئوس الخمر، وفتك بعباد الله وقتل ودمر فلا بركة ولا نور ولا عمر.
لكن ابحث الآن عن بعض أعمار المسلمين، فهذا سعد بن معاذ عمره 37سنة، عاش في الإسلام سبع سنوات فقط، لكهنا أحسن من سبعة آلاف سنة، ولما توفي مقتولاً من أثر جراح في سبيل الله اهتز عرش الرحمن لموته، وأخذت الملائكة بأهداب العرش وقالت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] وشيعه سبعون ألف ملك، وأتى صلى الله عليه وسلم فشهد جنازته، وأتى صلى الله عليه وسلم يتكفكف بثيابه ويقول: {والذي نفسي بيده ما من موطن في الأرض -أي التي حوله- إلا وفيه ملك حضروا جنازة سعد بن معاذ} قال حسان:
وما اهتز عرش الله من موت هالك سمعنا به إلا لـ سعدٍ أبي عمر
والنووي توفي وعمره أربعون سنة، لكنه ألف من الكتب ما يقارب عشرين مؤلفاً، منها ما يبلغ أكثر من عشرة مجلدات، وكان يسرد الصيام ويقوم الليل كله، وعنده من الأذكار والأوراد وقراءة القرآن، وفعل الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يعادل الجبال من الحسنات، وبعضهم عاش ثلاثين سنة فأثمر الله في جهده، وبعضهم عشرين، بل يكفي من الطائع سنة واحدة ليخلص مع الله.
وهذا عمر بن عبد العزيز عمره أربعون سنة، وهو مجدد من مجددي الإسلام رضي الله عنه وجمعنا به في دار الكرامة.
ويتساءل ابن القيم ويقول: هل نقصان العمر حقيقي أو مجازي؟
أي هل هو حقيقي بأن يقصر الله عمره فبدلاً من أن يعيش ستين سنة يعيش أربعين؟ أو هو مجازي بأن يعيش هذا ستين وهذا ستين لكن هذا عمره أبرك من الآخر؟
ولا يَسْتبعِد أن يكون حقيقياً، وأن الله يقدر أن هذا يعيش ستين سنة لكن بسبب معاصيه يقدر أن يموت قبل أن يبلغ الستين.
وقيل هو مجازي، فهذا يعيش ستين سنة لكنه طائع، عاش ستين سنة في الطاعة، وهذا يعيش ستين سنة في المعصية، فيمحق الله بركة هذا ونوره ولياليه وأيامه، فيأتي صفر اليدين عند الله يوم الدين.(128/12)
المعصية تولد معصية
ومن عقوباتها: أنها تزرع أمثالها ويتولد بعضها من بعض.
وقد سبق هذا، وأن جزاء المعصية معصية، وأن العبد يعصي فتأتي هذه بأخواتها حتى يصبح عاصياً، قال أهل العلم: الزنا أوله نظرة أو سماع.
إذاً: فاحشة الزنا، التي كادت السماوات أن تتحطم على الأرض من أجلها أولها نظرة، وقالها الشاعر:
نظرة فابتسامة فسلام فكلامٌ فموعد فلقاء
نعوذ بالله من ذلك، يقول عن نفسه ويتمدح أمام الناس: أول ما أتى هذا اللقاء أني نظرت، ثم تبسمت، ثم تكلمت، ثم وعدت، ثم لاقيت، ثم فعل الفاحشة، ثم أغضب الله، ثم استحق لعنته، ثم دخل النار.
فتولدت هذه المعصية من شيء بسيط هو النظر.
وقد تكون بسبب السماع، قال ابن القيم: الغناء بريد الزنا.
وما أدمن عبد على الغناء إلا وقع في الزنا، وإنما تجد المغنين والمغنيات والراقصين والراقصات، والمسرحيين والمسرحيات، والممثلين والممثلات، الأحياء منهم والأموات إلا أهل فواحش ورذائل كظلام الليل، بل هم سقطة المجتمع، وهم الذين سيروا الزنا في العالم، وهم الذين أنتجوه وصدروه، وهم الذين أدخلوا الشريط الغنائي والمسلسلات والمسرحيات إلى البيوت، حتى أوقعوا جريمة الزنا بين الرجل والمرأة.
وما تظن برجل يتوله ويقول: يا حبيبتاه! وقمره وقرة عينه لا أقر الله عينه إلا بنار جهنم؟!
وما تظن بإنسان يشتكي دائماً الهجر والقطيعة والهيام، وأنه دائماً سهران الليل ومعذب وما عرف الطريق، وأنه محروم ومنحرف وضال وموله؟! هل ترى هذا الرجل إلا رجلاً أُطفِئت بصيرته فما استفاق وما شعر، فهؤلاء أراذل الناس.(128/13)
ضعف إرادة التوبة
ومن آثارها: أنها تضعف إرادة التوبة حتى لا يجد الإنسان إرادة للتوبة.
وإذا بلغ الإنسان هذه الدرجة فقد بلغ الهلاك والعياذ بالله فإذا صار إلى درجة أن يقال له: تب إلى الله.
فيقول: ما أستطيع أن أتوب.
أو يئس من روح الله فقد بلغ الهلاك، ويوجد صنف من الناس يبلغ من الذنوب من أخمص قدميه إلى رأسه، فيدعى للتوبة فلا يتوب ولا يستجيب ولا يعود، ويعرض ويقول: ما أستطيع أن أتوب، ولا يرحمني الله، أنا مذنب وانتهيت، ولو تبت ما قبلني الله.
لا إله إلا الله! قال الله تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] وقال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]
فالمعاصي تضعف إرادة التوبة، حتى إن بعضهم يجزم ألا يتوب إلى الله، وبعضهم يذكر أعذاراً ويقول: إن الله قدر علي الذنوب، ولو أراد الله بي خيراً لهداني، فإن شاء أن يعذبني عذبني وإن شاء أن يرحمني رحمني، ويقول: لا ذنب لي، كل شيء هو من الله.
فهذا محروم من وجهين: بوقوعه في الذنوب، ولأنه عارض القضاء والقدر، والله لا يرضى المعاصي ولا يحبها وإنما يبغضها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولو قدرها وقضاها.(128/14)
ذهاب الحياء والوقار
ومن آثارها: سقوط ثوب الحياء وانتزاع جلباب الوقار.
قالوا: لا يزال العبد عنده حياء، والحياء يزيد بالطاعات والاستغفار والذكر فيزيد الله من حيائه، والحياء كله خير، والله يقول: {يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ} [النساء:108] فإذا وجدت الشاب والرجل والمرأة والفتاة عندهم حياء فاءمل فيهم خيراً، وادع لهم فسوف يثمرون الخير، وإذا رأيت الإنسان قد أسقط جلباب الحياء، فاغسل يديك منه، {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} فإنه قد يبلغ ببعض الناس من الجرائم أن يتحدث بها في المجالس، ويخبر أنه مذنب ومصر، وأنه فعل كذا كذا، وعند الناس فضائح ومذكرات مما فعلوا في أيامهم الخالية، يوم سترهم الله في الليالي الظلماء السود، وبإمكانهم أن يستتروا ويستغفروا ويتوبوا فيغفر الله لهم، لكنهم جاهروا الله بالمعاصي، فهؤلاء لا يعافون.
جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين.
قالوا: ومن المجاهرون يا رسول الله؟ قال: أناس يفعلون الذنب ويسترهم الله، فيصبح أحدهم فيقول: يا فلان فعلت كذا وكذا البارحة.
يمسي والله يستره، ويصبح فيكشف ستر الله عليه} فهذا لا يعافى، كما تجد بعض الناس -وهذا خطأ في جاهلية نسبية مرت بكبار السن- يقول: أنا سرقت من آل فلان وذبحت من آل فلان وفعلت، وزنى البعيد وفعل وفعل والعياذ بالله، فهذه تسجيلات وشهادة أمام العالمين أنه فعل ذلك.
وهذا هو سقوط الحياء الذي هو جلباب النور، من يعطيه الله عز وجل فقد أعطاه خيراً كثيراً، حتى إنك تجد بعض الناس يبلغ من التقوى أن يترك بعض المباحات خشية أن يقع في بعض المعاصي، فتجد بعضهم لا يأكل في السوق، والأكل في السوق مباح، لكنه لا يناسب المروءة، فبعض الناس لوقاره وحشمته وكرامته ومروءته ما يأكل شيئاً في السوق؛ لأنه يعرف أن لنفسه وزناً وأن له قيمة، لكن بعضهم من سقوطه وقلة مروءته ما عليه أن يمشي مكشوف الرأس، ويطارد الناس في السوق، ويتمازح هو وإياهم ويتضاربون، ويأكل وهو واقف ويرفع صوته، فهو أجدر بأن يقع في المعاصي، وهذه تدل على غيرها.(128/15)
سقوط العبد من عين الله
ومن آثارها: سقوط العبد من عين الله.
نسأل الله ألا يسقطنا من عينه.
فالعبد العاصي لا يزال يذنب ويذنب حتى يسقط من عين الله.
بكى الحسن البصري فقالوا: مالك تبكي؟ قال: [[أخشى أن يلقيني ربي في النار ثم لا يبالي ولا ينظر إلي]] وبعض الناس يسقط من عين الله فلا يجعل له وزناً ولا كرامة ولا وقاراً، ويجعله من صنف القردة والخنازير والحمير والعياذ بالله، فيسقطه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من عينه ومن قلوب الخلق فلا يكون له وزن.
ولذلك يقولون: أرخص الناس عند الناس من عصى رب الناس.
حتى قالوا: إن الزانية إذا زنى بها الزاني كانت أرخص الناس عنده، ولا يرضى أن يتزوجها، ولا يحب أن تكون له زوجة، ويحتقرها دائماً في نفسه، ويسأل الله ألا تكون أخته أو ابنته أو أمه أو قريبته أو خالته أو عمته مثلها، ويرى في نفسه أنها خائنة وداعرة، وأنها قد ارتكبت أمراً فضيعاً، وهو الذي زنى بها، وهي نفسها لا ترضاه زوجاً إلا إذا كانت متخلعة، ولا ترضى أن يكون أبوها أو أخوها أو عمها أو خالها كمثل هذا الزاني، وهذا من رخصهم عند الله وخلقه، نسأل الله العافية والسلامة.(128/16)
استصغار الذنوب
ومن آثارها: استصغار الذنوب واحتقار الكبائر.
فإن العبد لا يزال يحتقر الذنوب والكبائر حتى تصبح عنده كالهوى وشرب الماء، وبعضهم يغتاب فيُوصي، فيقول: الغيبة سهلة، وبعضهم يترك الصلاة في الجماعة، فيقال له: صلِّ في الجماعة.
فيقول: يكفي أن أصلي في البيت، فإن بعض الناس ما يصلي الصلاة مطلقاً فأنا خير منهم، فلذلك لا تلوموني على هذا.
وبعضهم يطول إزاره ويقول: سبحان الله! ليتك ترى الناس في أوروبا، ليتك سافرت ورأيت الناس في أمريكا.
فينزل نفسه إلى منزلة الكافر ويقيس نفسه بالكافر.
ويأتي إلى أهل الدعارات والخيانات فيجعل بينه وبينهم نسب، وإذا قيل له: لا تسبل إزارك.
قال: أنت في الإزار وفي اللحية، والناس أصبحوا الآن في مسائل غير هذه المسائل، ألا تعرفون إلا الإزار واللحية؟!
وذلك لأنها هانت عليه، وأصبحت عنده قشور، والمصاب بمرض عضال لا يهمه الزكام، فإذا كان عنده مرض السرطان أو السل، أو مرض من الأمراض الفتاكة، ويؤتى إليه في المستشفى ويُقال له: نعالجك أولاً من الزكام، فيقول: الزكام هذا أمره سهل وسوف يذهب، لكن عالجوني من هذا المرض الفتاك.
وكان ابن تيمية يستشهد ببيت شعر ويقول:
إن اللبيب إذا شكا من جسمه مرضين مختلفين داوى الأخطرا
فحذار حذار من استصغار الذنوب! فإنه لا يزال العبد يستصغر الذنوب حتى يسقط من عين الله، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم جعل ذنوب أصناف من الناس أعظم من ذنوب غيرهم، وقد صح في الحديث أنه قال: {ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب} من هم؟
لا ينظر الله إليهم يوم القيامة لأنهم سقطوا من عينه في الدنيا، ولا يزكيهم فشهادتهم ساقطة، وليس لهم عند الله قبول، ولهم عذاب إليم: {أشيمط زانٍ} شيخ كبير عجوز يزني، شابت لحيته، وبدا له الشيب وهو النذير: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ} [فاطر:37] ومعلوم الزنا من الشباب حرام وكبيرة، لكنه مضاعف أن يزني الشيخ الكبير، ولماذا يزني؟
قد ضعفت قوته، ورأى نذير الشيب، واقترب من لقاء الله، وأنذرته السنوات، وعاش الأيام والليالي، ودفن الأموات من والأجداد والأحفاد ومع ذلك يزني! لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم، وهو أدهى وأمر.
ولذلك تستبشع إذا رأيت إنساناً في الخمسين من عمره وهو جالس في المقهى يشرب الشيشة، وإذا رأيت شاباً عمره 15 أو 18سنة ربما تستسهل هذا الأمر ولو أنك تستقبحه، لكن أن ترى إنساناً كبير السن عنده أطفال بالبيت وزوجة وأولاد، فيتركهم على المسرحية والغناء والمجلة، ويذهب بعد صلاة العشاء إلى الساعة الثانية يشرب الشيشة، هل رأيت أحقر من هذا؟ وكيف يزكى؟ هذا ليس عنده واعظ.
الإمام أحمد رأى الشيب في المرآة فبكى حتى كادت أضلاعه أن تختلف، فقالوا: مالك؟ قال: يقول الله عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ} [فاطر:37] هذا هو النذير.
أي: الشيب.
ويروى عن إبراهيم عليه السلام أنه نظر إلى المرآة فرأى شعرة بيضاء فنظر إليها وقال: يا رب! ما هذا البياض؟ قال: وقار يا إبراهيم.
قال: اللهم زدني وقاراً.
ولذلك ورد في حديث حسن: {ما شاب العبد شيبة في الإسلام إلا كانت له حسنة} فهذا الشيب معناه أنه يردعك عن المعاصي.
مر شيخ كبير بشباب يلعبون في شارع من شوارع الكوفة، فقال أحدهم لهذا الشيخ:
يا أبتاه! من الذي أعطاك هذا القوس الذي على صدرك؟
فقال الشيخ الكبير: هذا القوس أعطانيه الدهر بلا ثمن، وسوف يعطيك قوساً مثله.
يقول: انتظر، فسوف يأتيك.
تمنت عجوز أن تعود فتية وقد يبس الجنبان واحدودب الظهر
تسير إلى العطار تبغي شبابها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
من يعيد شبابه إلا العمل الصالح؟
ومن يعيد قوته ومجده وجاهه إلا تقوى الله عز وجل؟
أما إذا ولى العمر ولى.
{وعائل مستكبر} رجل فقير ممزق ليس عنده شيء، ومع ذلك لا ينظر إلى الناس، ولو كان هذا الأمر من غني لكان قبيحاً، لكنه فقير ويتكبر ممزق الثياب، وينام على الرصيف وتسحبه الكلاب بأيديه وأرجله، وكل شيء فيه، ومع ذلك ينظر إلى الناس ويزدريهم ويحتقرهم كأنهم الذباب فهذا لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.
قال عليه الصلاة والسلام: {وملك كذاب} سلطان من السلاطين ليس في حاجة إلى أن يكذب فيكذب، ولماذا يكذب والكذب إنما هو لدرء خوف، وهو لا يخاف من الناس في العادة، أو لجلب منفعة والمنفعة عنده، فلماذا يكذب؟! فلا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.(128/17)
وصول شؤم المعصية إلى الغير
ومن آثارها: وصول شؤم المعصية إلى غيره بذنبه.
المعصية أمرها عجيب! تصل أضرارها مثل القنبلة الذرية، تقع هنا وتنتشر في المدن والقرى، مثل قنبلة هيروشيما، يقولون: لا زالت آثارها إلى الآن، وهناك مذكرات وصور عن أطفال مشوهين لا زالت تجري مع الماء، وهذا المفاعل النووي الروسي لما انفجر حذر الناس منه حتى في استراليا، وقالوا: الجو تعكر وأصبح سماً زعافاً، والفواكه والألبان والخضروات، حتى الصحف أصبحت تحذر من أن تصدر بسبب هذه الجريمة.
والمعصية مثل ذلك، فلا يزال العبد يعصي الله حتى تنتقل إلى ولده وزوجته، وفي أثر يقول الله: {إني إذا رضيت باركت وليس لبركتي نهاية، وإني إذا غضبت لعنت وإن لعنتي لتبلغ السابع من الولد} بل تجد العاصي يلتف حوله عصاة ويوجد له خلايا في المجتمع وأصدقاء فيقعون في المعاصي.
ووجد من بعض الشباب أنه كان يحمل سيجارة ويدخن، فأخذ شباباً من الحي وصاحبهم وأركبهم حتى أصبحوا مدخنين عن بكرة أبيهم وتركوا المسجد، فهذا من آثار شؤم هذا الرجل.
ووجد من بعض الصالحين من سار صلاحه في القرية حتى حمى الله به بعض القرى، فهذا رجل في القصيم حدثنا عنه بعض العلماء: أنه كان يذكر الله من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وكان له أوراد هائلة من التسابيح والحصون التي يستخدمها ابن تيمية وأمثاله بعد صلاة الفجر، كان ابن تيمية يستقبل القبلة بعد الفجر فيهلل الله ويكبره، ويردد الفاتحة والأدعية والأذكار، ويبتهل ويدعو الله، فيقولون: ما لك تطول؟ قال: هذه غدوتي لو لم أتغد لسقطت قواي.
وهذه معاني روحية مثل الجبال، وحصن حصين بينه وبين المعاصي، يقول أهل العلم: استقبل يومك بالدعاء.
كان هذا الرجل في القصيم، فأصاب القصيم مرض الجدري، وذلك قبل أربعين سنة أو ما يقاربها، فكان يقوم بعد صلاة الفجر في بلدته من ضواحي القصيم، فيدور على البلدة جميعاً ويقرأ عليها: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
وينفث على القرية ببساتينها ونخيلها وأطفالها، ويقرأ آية الكرسي والمعوذات كل صباح، فقيل لي: والله! لا نعلم بلداً ولا قرية إلا دخلها الجدري، إلا مكان هذا الرجل، والله ما أصيب ولا طفل واحد بهذا المرض.
لماذا؟
إنه حفظ الله للرجل الصالح، حتى يقول ابن القيم: الله يحفظ الصالح في ديرته وحيه وقريته.
ونحن في أبها يمكن أن يحفظنا الله ببعض الصالحين الصائمين قوَّام الليل، وإلا لو تركنا ومعاصينا وفجورنا وإعراضنا لتدكدكت بنا الدنيا.
تزلزلت المدينة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه زلزلة بسيطة سقطت منها بعض الحوائط، فقام رضي الله عنه فقال: الصلاة جامعة، ثم صعد المنبر وقال: ما هذا الزلزال؟ -هو يدري أنه بقضاء وقدر- قالوا: يا أمير المؤمنين! بقضاء وقدر.
قال: أخبروني ما هذا الزلزال؟ قالوا: بقضاء وقدر، قال: بسبب ماذا؟ قالوا: بسبب ذنوبنا.
فقال: والذي نفسي بيده إن عاد هذا الزلزال لا أجاوركم بـ المدينة بعدها.
يقول: أنتم السبب في هذا الزلزال، ولو عاد مرة ثانية فلا يمكن أن أبقى معكم.
وهو لا يزكي نفسه لكنه يعلم أن هناك ذنوباً وخطايا، وهي مدرسة الوعظ المنهجية، يدخل معهم في المعمل ويقول: هذا زلزال وأثره الذنوب والخطايا.
والآن أصبح الناس الكفرة مثل الحمير، فيرى الحمار الزلزال فيعرف أنه زلزال، ويرى الريح تمر والبرق والرعد والمطر فيعرف أنه مطر لكن ما يعرف ما هي أسبابه.
خسف بمدينة في بلاد المغرب وبأهلها وقصورها ودورها وفنادقها، فقالوا: لأن الغطاء الصخري ارتخت بينه الدرجات فانصدع فهوت المدينة.
نحن نعرف هذا، لكن من قدر انصداع الغطاء الصخري ومن أتى به إلا الله؟!
وكذلك مدينة ذمار في أرض اليمن ذهبت حيص بيص -كما تعرفون- بسبب ماذا؟ بسبب المعاصي، لكنهم قالوا: لأنها تقع في شبه الجزيرة، وغطاء الجزيرة الخارجي الأرضي الترابي غطاء رقيق يتعرض دائماً للهزات.
من الذي هزها إلا الواحد الأحد؟
وهذه التعليلات صحيحة، لكن من المعلل والمسبب والمقدر إلا الله الواحد الأحد؟
الطوفان الذي أرسل على قوم نوح هو مثل ما يأتي في البحر، أن يتبخر بالشمس فيحدث فيه طوفان ومطر، وكذلك الريح وكذلك البرق والصاعقة والزلزلة وما أشبهها، لكن بسبب الذنوب والمعاصي.(128/18)
الذل والهوان
ومن آثارها وعقوباتها: أنها تورث الذل والهوان.
فأهون الناس العصاة، حتى إن أحدهم لا تهمه نفسه ولا سمعته شيئاً، ويصبح ليس عنده حرارة، ولذلك يقولون: الديوث لا ينظر الله إليه، ولا يزكيه، وحرم الله عليه الجنة لا يجاوره فيها.
ومن هو الديوث؟
الذي يقر الفاحشة ويدري بها في أهله.
بل وتبلغ ببعضهم الدياثة إلى أن يكون داعياً للجريمة في أهله -نعوذ بالله من الخذلان- فيكون من أسقط الناس وأهونهم، فحرام عليه أن يجاور رب الناس في جنة رب الناس إله الناس، فهذا يكون أهون الناس، حتى أنه لا تهمه سمعته، يقال له: يا فلان! سمعنا أنك تتناول المخدرات، فيقول: من قال لك؟ قال: فلان، فيقول: وهل المخدرات حرام هي مثل الخمر؟
فلا يتحرك ولا يتغير وجهه أبداً، بينما لو قيل هذا الكلام لرجل صالح لأخرج السكين مباشرة، وغضب وأقام الدنيا وأقعدها.
ولكن من يدري؟ فإن بعض الفجرة لو قيل له: يا كافر! لذبح الناس، وقد ارتكب من المكفرات مثل الجبال، لكن عنده غيرة.
ولذلك نجد أن سعد بن عبادة رضي الله عنه سيد الخزرج، كان فيه غيرة الله أعلم بها، فمن غيرته أنه تزوج امرأة فأركبها على فرس وراءه، فلما ذهب بها من بيت أهلها إلى بيته نزل فنحر الفرس وقتله، وقال: لا يركب الفرس الذي ركبته امرأتي بعدي أحد.
وكان فيه شهامة تتوقد مثل النار، كان ذات مرة جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى أعرابي وقال: {يا رسول الله! إذا وجد أحدنا مع زوجته رجلاً فماذا يفعل؟ قال: يشهد على الرجل ويشهد عليها ثم يقام عليهما الحد.
قال سعد بن عبادة: يا رسول الله! أبقى حتى آتي بالشهود، والله لأضربنه بالسيف غير مصفح} فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يسد الطريق أمام إزهاق الأنفس؛ لأنه لو فتح هذا الباب لكان كل إنسان له عدو ويكره زوجته يقول: وجدت فلاناً مع زوجتي، لأنه يكره الزوجة، فيقام الحد وتزهق الأنفس.
لكنه صلى الله عليه وسلم قال: يذهب فيأتي برجال يشهدون فقال: يا رسول الله! أتركهم! معنى ذلك: أسد الباب وأقول: انتظروا، ويذهب يبحث في السوق عن شهداء يشهدون على الجريمة! هذا يأخذ ساعات، ولذلك قال: يا رسول الله! أأنتظر! والله لأضربنه بالسيف غير مصفح، أي: ما أدري أوجه السيف كذا أو كذا، ويقتلهم جميعاً.
قال صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم من هذا الكلام: {أتعجبون من غيرة سعد؟ إنني أغير منه وإن الله أغير مني}.
وفي الصحيح عند البخاري في صلاة الخسوف، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يا عباد الله! لا أحد أغير من الله، ومن غيرته حرم الزنا، ومن غيرته أن يغار على عبده المؤمن أن يزني وأمته المؤمنة أن تزني}.(128/19)
إفساد العقل
ومن آثارها: أنها تفسد العقل وتطمس البصيرة.
فأفسد الناس عقلاً أهل المعاصي، ولذلك لا يفهمون ولا يستنبطون، وأنت قد تعارضني الآن وتقول: لماذا الكفار من الغرب يكتشفون الصواريخ والطائرات والدبابات والذرة؟
أقول: يقول الله سبحانه عنهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] فهم لا يعرفون الطريق إلى الله، ولا يعرفون المصير ولا يعرفون معنى الحياة، ولا يعرفون الرسالة التي من أجلها وجدوا، والسر الذي من أجله خلقوا، قال سبحانه: {بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمون} [النمل:66] فأفسد الناس إرادة وعقلاً وتصريفاً هم أهل المعاصي، ولا تزال المعاصي تتوالى حتى تطمس فهم صاحبها.(128/20)
الطبع على القلب
ومن آثارها: إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها والعياذ بالله.
فيصبح مطبوعاً عليه، فلا يعي ولا يفهم ولا يسمع الخطب ولا المواعظ، ولا يستفيد من آيات الله البينات، ويرى الأموات وهو يضحك، بل وجد من بعض العصاة أنه كان يشيع جنازة وهو يمزح، وكانت رجله في القبر وهو يضحك ويأتي بمزح فاحش بذيء والعياذ بالله، لأن قلبه قد مات يدفن قريبه ويضع الطين تحت رأسه، وقد أسلمه إلى مثواه الذي يلقى بعده الله الواحد الأحد، ومع ذلك يضحك؛ لأن قلبه قد مات.(128/21)
استحقاق اللعنة
ومن آثارها: أنها تدخله تحت لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد لعن صلى الله عليه وسلم أصنافاً من الناس، لعن الراشي والمرتشي، والرائش في رواية.
{ولعن صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء}.
ولعن شارب الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها.
ولعن النامصة والمتنمصة، والواشمة والمستوشمة.
ولعن من آوى محدثاً، ولعن من غير منار الأرض، ولعن من أتى امرأته في دبرها، ولعن الفاعل والمفعول به، ولعن عليه الصلاة والسلام أصنافاً أخر كلعنه عليه الصلاة والسلام من ادعى إلى غير أبيه فالعاصي يستحق بمعاصيه لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(128/22)
حرمان دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والملائكة
ومن آثارها: حرمان دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوة الملائكة.
فإن الملائكة يستغفرون للذين آمنوا وللطائعين، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] فالعاصي يحرم هذه الدعوة الفاضلة من الملائكة الكرام ومن رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، فكم فوت من خير، وكم فوت من أجر ومثوبة.(128/23)
ظهور الفساد
ومن آثارها أنها تحدث في الأرض أنواعاً من الفساد.
فما تكدر ماء ولا جف قطر ولا مات طائر -كما قال مجاهد وعكرمة وأمثالهم- إلا بسبب الذنوب: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] فالفساد في العالم وفي البر والبحر بسبب الذنوب والخطايا، حتى ذكر عن عكرمة أنه قال: [[إن الحبارى تسقط ميتة بذنوب بني آدم]] وذكر مجاهد أن من الوحوش من يموت بسبب ذنوب بني آدم، وأنها تدعو على عصاة بني آدم وتقول: منعنا القطر بسببكم.(128/24)
إطفاء الغيرة
ومن آثارها: أنها تطفئ الغيرة من القلب.
وقد سبق بيان الغيرة، فصاحب المعاصي لا يغار، وإذا سمع الفواحش في البلد لا يهتم ولا يتأثر ولا يتغير وجهه، أما الطائع فيتغير وجهه ويتمعر ويغضب ويقول كيف يوجد هذا؟
ولذلك ذكر الله الذين سلبت الغيرة منهم، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19](128/25)
عدم استشعار عظمة الله
ومن آثارها: أنها تخرج عظمة الله من قلب العاصي.
فإن العاصي لا يعظم الله؛ بل لو رأى قبيلته وقرابته لما عصى الله أمامهم، بل يحترمهم ويقدرهم، فإذا خلا بالله وحده هتك الحجاب بينه وبين الله.(128/26)
قلة حياء العاصي من الله
ومن آثارها: ترك الله للعاصي وتخليه عنه.
فلا يزال العاصي يعمل ويعمل حتى يتخلى الله عنه، ثم يتركه في معصيته وندامته، فلا ينظر الله إليه نظر توقير ولا تقدير، وإنما يتركه هباءً منثوراً.(128/27)
انعدام المراقبة
ومن آثارها: أنها تخرج العبد من دائرة الإحسان وهي الرقابة، التي يقول عنها صلى الله عليه وسلم: {أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك}(128/28)
تثبيط العاصي في سيره إلى الله
ومن آثارها: أنها تثبط العاصي في سيره إلى الله وتعوقه فلا يسير سيراً حثيثاً، بل يكون من أكسل الناس عند الصلوات والقيام إلى المسجد، وقراءة القرآن، كأنه يجرجر بالحديد بسبب المعاصي، فهو كسول في الطاعات ولو أنه قوي في أعمال الدنيا.(128/29)
إزالة النعم
ومن آثارها: أنها تزيل النعم وتحل النقم.
فتلبسه مكان الجاه حسرة وخيبة وسوء سمعة، ومكان الرزق الحلال حراماً، ومكان الأحبة فجاراً، ومكان الحب من الله بغضاً في قلوب الخلق، وبغضاً في قلب كل مخلوق حتى يلقى الله عز وجل، ثم تأتي عليه الكوارث والعياذ بالله.
ثم ما يلقيه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في قلب العاصي من الرعب والخوف، فأخوف الناس هم العصاة، فهم أهل رعب وخوف وأهل غم واكتئاب وحزن وذلة، والطائعون صدورهم مشروحة بالنور والإيمان والقرآن.(128/30)
مرض القلب
ومن آثارها: أنها تمرض القلب وتجعله سقيماً، حتى يظن الفاجر أن قلبه قد تقطع من بين جنبيه، فهو سقيم أبداً لا علاج له إلا التوبة، وتصغر النفس وتحقرها وتقمعها، فالمذنب العاصي دائماً ذليل لا يحب معالي الأمور، ودائماً يتخفى من الناس ويستتر منهم.(128/31)
تسلط الشيطان على العاصي
ومن آثارها: أنه يتولاه الشيطان ويقوده إلى النار وإلى كل فاحشة، ومن كان الشيطان قائده فالعياذ بالله من قيادته، يقول أحد الفجرة:
وكنت امرءاً من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
فنعوذ بالله من الخذلان.(128/32)
سقوط المنزلة
ومن آثارها: سقوط المنزلة عند الله وعند خلقه، فيشرب الناس بغض العاصي مع الماء البارد، فيبغضونه ويمقتونه ويذمونه في كل مجلس والعياذ بالله.(128/33)
سلب أسماء المدح والشرف
ومن آثارها: أنها تسلب أسماء المدح والشرف، وتكسب أسماء المذلة لصاحبها.
فيزيل الله عن العاصي اسم المحسن والتقي والورع والعابد والزاهد والحبيب والواد والناصح، ويكسبه الله أسماء كاسم العاصي والشقي والفاجر والملعون والطريد وعدو الله، وأمثال ذلك من الأسماء.(128/34)
جعل العاصي من السفلة
ومن آثارها: أنها تجعل صاحبها من السفلة والأرذال، ومن حقراء الناس الذين لا يؤبه بهم ولا يقام لهم وزن حتى عند الفجار.(128/35)
سقوط الشهادة
ومن آثارها: سقوط شهادته عند الله وعند خلقه، قال الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] فلا يستشهد الله العصاة يوم القيامة على الناس، ولا يقبل شهادتهم، وتسقط شهادتهم عند الناس من القضاة والأخيار، وعند أقاربهم، فلا يقبلون شهادتهم لأنهم مجروحي العدالة يأتي الشاهد ليشهد، فيقولون: هو تارك صلاة، ومتناول مخدرات، أو حليق، أو مسبل، أو سامع غناء، ومدمن معاصي، وعاق لوالديه، وآكل ربا، فيقولون: لا شهادة لك، ولا يقبل قولك، وأنت لست مزكى، ولست بثقة ولا معتمد والعياذ بالله.(128/36)
تجريء الأعداء
ومن آثارها: أنها تجرئ على العبد أعداءه.
فأعداؤه يتجرءون عليه حتى السفهاء من الناس، يقول أحد الصالحين: عصيت الله معصية فخرجت في الصباح فرماني أطفال الحارة بالحجارة، فقلت: إذا كان جزائي في الدنيا هذا فيكفيني، لكن أخشى أن أرمى مع الحجارة في جهنم والعياذ بالله.
فما يتجرأ الأعداء حتى الكلاب إلا على العصاة والعياذ بالله، وحتى الأطفال والسفهاء.
وأما الطائع فتجد عليه وقاراً، فإذا مر وهم يلعبون الكرة توقفوا ونظروا فيه من جلالته وسيما الوقار عليه والحسن، واحترموه وعظموه وقدروه، لكن العاصي الفاجر الذي عرف في الأحياء بالفجور يلحقونه الحجارة، ويذمونه ويسألون عن اسمه واسم أمه وأبيه وهذا من مهانته وسقوط منزلته عند الله وعند خلقه.(128/37)
نسيان العبد لنفسه
ثم في الأخير: تنسي العبد نفسه؛ وإذا نسي نفسه نسي ربه، وإذا نسي ربه نسيه الله وتركه، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] فنسأل الله لنا ولكم الثبات، والتوبة النصوح، وأن يعيدنا إليه، ويرزقنا الإنابة قبل الموت، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.(128/38)
الأسئلة(128/39)
حكم شرب الدخان
أولاً: أتتنا فتوى من أهل العلم، من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز والشيخ عبد الرزاق بن عفيفي والشيخ عبد الله بن غديان والشيخ عبد الله بن قعود، سئلوا عن شرب الدخان وعن حكمه؟
فأجابوا: شرب الدخان حرام لكثرة ضرره وإنفاق الأموال فيه إسرافاً، وقد نهى الله عن الإسراف، ولكونه خبيثاً فينطبق عليه قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وبناء على ذلك فالإتجار به حرام، والكسب من ذلك حرام، وإنتاجه زراعة وصناعة حرام، ونرسل لك رسالة في حكمه زيادة في الفائدة، وعلى نبينا صلاة الله وسلامه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ويدخل في ذلك من أجر دكانه أو محله على من يعصي الله، كمن يحلق لحى الناس، أو من يبيع الثياب الشفافة للنساء التي يعصى الله بها عز وجل، أو يبيع المجلات الخليعة، أو يبيع سجائر الدخان، أو يبيع أشرطة الغناء كلهم يدخلون في هذا الحكم؛ لأنهم تعاونوا على الإثم والعدوان، والعياذ بالله.(128/40)
ضرورة الدعوة إلى الله
السؤال
يقول الأخ: طلبنا من كثير من الإخوة النزول معنا لتعليم الناس في تهامة كما قلتم لنا، فاستجاب بعضهم واعتذر البعض، وبحثنا عن سيارة تايوتا جيب لأنها تعطلت سياراتنا وما عندنا إلا هيلوكسات، فتعطلت سيارات الإخوان وما وجدنا من يساعدنا.
الجواب
أنا سمعت بهذه القصة، وهذه القصة تلخيصها: أن أمامي مئات من الناس دعوناهم -جزاهم الله خيراً- إلى النزول أو من يستطيع منهم لتعليم الناس في القرى الفاتحة والوضوء وأركان الإسلام، علَّ رجلاً واحداً تعلمه يدخلك الله به الجنة ويكون في ميزان حسناتك لأنهم بحاجة، فاستجاب بعض الإخوة ونزلوا، ولكن المشكلة حدثت أن ما عندهم سيارات تنزل بهم، فذهبوا إلى كثير من الإخوة الذين استعدوا وهزوا رءوس الاستعداد، وقالوا: نحن نساهم وننفذ كل شيء في صالح هذا الدين.
فقالوا: نريد سيارتك ننزل بها، قال: سيارتي معطلة، سبحان الله! ما تعطلت إلا عندما ستذهب في الدعوة، أما في النزهة والسفر فكالساعة، وذهبوا إلى غيره فلم يجدوا، وفي الأخير أتى رجل من الصالحين وقال: عندي سيارة هيلوكس اركبوا في الصندوق، وأنتم دعاة فاصبروا، فركبوا في الصندوق، وأما سياراتنا فما نزل منها أحد، فسلام الله عليها.
ما لها ما نزلت في الدعوة؟ ولو كان هناك أمر أو زفير أو شهيق أو صفير أو نزهة لنزلت، ولكن سبحان الله! يأبى الله عز وجل إلا أن يتم هذا الدين ولو بالوسائل البسيطة، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم بلغ دعوة الله على بغلة وحمار، حتى بلغت أسبانيا ونقشبند والسند: {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن:6].
فمن أراد أن يمسك سيارته فليحفظها وسوف يلقاها يوم القيامة، ومن أراد أن يبذل من ماله فما بذله إلا لنفسه وما أبر إلا بنفسه: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] وأنا أدعو ثانية إلى النزول وإلى تعليم الناس.(128/41)
أشرطة ينصح باستماعها
السؤال
أرجو ذكر خمسة أشرطة لكم تنصح بها الإخوة أسأل الله أن ينفع بها؟
الجواب
أنا أذكر خمسة أشرطة، ووصيتي للإخوان إذا استفاد أحدهم من الأشرطة أن يهديها لأخيه أو لجاره أو لمن يقوم عليه عل الله أن ينفع بها، وهي موجودة في التسجيلات الإسلامية، وأنا أنصح بسماعها للأسر وللأطفال عل الله أن ينفع بها.
أولاً: شريط: احفظ الله يحفظك، وهو شرح حديث: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك} وعمر هذا الشريط ثلاث سنوات، ونسأل الله أن ينفع به.
الشريط الثاني: الرحلة إلى الدار الآخرة، وقد ألقي في مدينة قنا، وهو يتكلم عن رحلة الإنسان ولقائه لله عز وجل، وما يمر به في طريقه حتى يلقى الله.
الشريط الثالث: شباب عادوا إلى الله، وهو يتحدث عن الشباب الذين أذنبوا وعصوا ثم استيقظوا وأفاقوا فتاب الله عليهم، فأريد أن يسمعه الشباب والأسر عل الله أن ينفع به.
الشريط الرابع: الدعاء هو العبادة، وهو في دعاء العبد لله عز وجل، وفي أحكام الدعاء؛ لأن الدعاء طريقنا إلى الله.
الشريط الخامس: الشباب واهتمامات العصر، بما يعيشه شبابنا وأسرنا.
وأوصي بثلاث خطب عل الله أن ينفع بها لأنها حديث الساعة.
الشريط الأول: تحريم التبرج للنساء.
الشريط الثاني: حرب على المرأة.
الشريط الثالث: العائدون إلى الله.
وعسى الله أن ينفع بها، وهناك للشباب المهتمين كتاب صدر وهو في تسجيلات الفرقان اسمه: الحركات الإسلامية المعاصرة، فمن أراد أن يأخذه ليستفيد من بعض الأمور التي لا تخفى على المطلع؛ فليتناوله في تسجيلات الفرقان.(128/42)
أسباب الهداية
السؤال
أريد الهداية فماذا أفعل؟
الجواب
أولاً: أخلص واصدق مع الله.
ثانياً أكثر من الدعاء والذكر.
ثالثاً: تدبر القرآن.
رابعاً: حافظ على الفرائض وتزود من النوافل.
خامساً: عليك بالوسائل، كالكتيبات والأشرطة الإسلامية، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومصاحبة الصالحين وحضور الدروس، وسوف يزيدك الله هدى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] فمن الذي أتى إلى الله فرده؟ ومن الذي التمس حبل الله فقطع الحبل دونه؟ ومن الذي أقبل على الله فرفضه؟ بل أَقبل وأَبشر.(128/43)
ظاهرة خروج النساء
السؤال
بعض الإخوة الملتزمين يخرجون زوجاتهم لشراء الحاجات من الأسواق، فيسببون منظراً سيئاً في السوق ويساعدون أهل المعاصي، فما نصيحتكم؟
الجواب
هذه ظاهرة لا تبشر بالخير، وأنا أرجو من الإخوة ألَّا يكون خروج النساء متطيبات متزينات متعطرات في الأسواق؛ لأنهن فتنة؛ ولأنه تعريض للفاحشة والعياذ بالله، ولأنه إغضاب لله تعالى، فحذار حذار من هذه الظاهرة، وأرجو أن تكون المرأة في بيتها وفي حجابها عل الله أن يسترها حية وميتة، فقد جاء في السنن: {إذا خرجت المرأة متزينة متعطرة لعنتها الملائكة حتى تعود.
.(128/44)
حكم الاستماع إلى الموسيقى
السؤال
ما حكم الاستماع إلى الموسيقى التي تتخلل البرامج؟
الجواب
حكمها أنها محرمة، وتلحق بالغناء لأنها من أدوات اللهو، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} فالموسيقى من المعازف، فهي محرمة، واستغن بسماع القرآن وسماع ما ينفعك.(128/45)
إدراك الصف الأول
السؤال
الصف الأول لا يدرك بالهجوم أثناء إقامة الصلاة، حيث أن هذا هو الملاحظ من فعل كثير من الناس، فما توجيهكم؟
الجواب
نعم، الملاحظ من كثير من الناس أنه يأتي متأخراً، فإذا أقيمت الصلاة اقتحم الصفوف وداهم الصف الأول وزاحم بمنكبيه وضارب مضاربةً، فعليه أن يبقى مكانه ولا يؤذي المسلمين، ويرفق بهم، وهو الذي تأخر، ومنزلته حيث أتى، وإذا أراد الصف الأول فليأت مبكراً.
وكذلك ظاهرة حجز الأمكنة، فتجد بعض الإخوة يأتي من بعد صلاة العصر فيضع سجادته وسواكه ونظارته وحذاءه ويذهب يتمشى، فيصبح المسجد مطبخاً وهذا لا يصلح، فالإنسان الذي يريد أن يحجز المكان فليجلس فيه، أما أن يمسك ويحجز فلا، والمكان لا يحجز إلا لرجل له مكانة وبلاء في الإسلام، رجل عالم ومجتهد مطلق، مثل أن يدخل عندنا عالم فاضل فنحجز له مكاناً ونقول: هذا مكان العالم الفاضل، ويفسح له الباب، ويجلس في مجلسه، أما أن يحجز أحدنا مكاناً ويذهب يتمشى حتى الغروب، ثم يأتي ويأخذ الأمكنة على الناس، ويأتون هم مسرعون فيجلسون في الصفوف الأخيرة، فهذا غير صحيح.(128/46)
حكم ضرب الدف للنساء
السؤال
ما حكم الشرع في ضرب الدفوف للنساء؟
الجواب
لا بأس بالدف للنساء خاصة في الأعراس، أن تأتي امرأة وتضرب الدف لكن بدون أجرة، فلا يجوز دفع الأجرة للمرأة هذه التي تضرب بالدف، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في سنن أبي داود: {أعلنوا النكاح واضربوا عليه الدف} لذا فلا يأت واحد يقول: الدف حرام، ويجلسون مع الزوجات والنساء يسبحون ويصلون الضحوات وقت الزواج فهذا فرح، يقول صلى الله عليه وسلم لـ عائشة في صحيح البخاري: {أما عندكم شيء من اللهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو} فاللهو شيء من الدف، تتبرع امرأة فتأتي تضرب الدف ويصفقن وينشدن فلا بأس بهذا، لكن لا يجوز أخذ مغنية ولا مغني، فالغناء ظلمات بعضها فوق بعض، أما الرجال فلا يجوز لهم ذلك، وما أعلم فيه نصاً.
هذا ما حضرني هذه الليلة، ونكتفي لعدم الإطالة وعدم المشقة على الناس، ونسأل الله أن يثبتنا وإياكم حتى نلقاه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(128/47)
فتح الفتوح
صيحة عزة انطلقت ملء الأفواه، وصارت حديث الساعة، هل تعلمون ما هذه الصيحة؟
إنها صيحة: الله أكبر! فتحت كابول، فتحت بعد أن دنستها الشيوعية الكافرة فيا ترى من فتحها؟
وماذا قدم لفتحها؟
وما سبب فتحها؟
وما هو واجبنا نحو هذا الجهاد؟
كل هذا ما ستعرفه في هذه المادة.(129/1)
فتح كابول
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الفضلاء! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا اليوم (29) من شوال (1412هـ) وهذه المحاضرة من جامع أبي بكر الصديق في أبها بعنوان "فتح الفتوح".
السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به نظم من الشعر أو نثر من الخطب
فتح تفتح أبواب السماء له وتبرز الأرض في أثوابها القشب
أبقيت جد بني الإسلام في صعد والمشركين ودار الشرك في صبب
رمى بك الله برجيها فهدمها ولو رمى بك غير الله لم يصب
أبقت بني الأصفر المصفر كاسمهم صفر الوجوه وجلت أوجه العرب
سوف نتحدث عن فتح العاصمة الأفغانية كابل وقبل ذلك نذكر ثناء الله على نبيه إذ يقول: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح:1 - 2] ويقول المعصوم عليه الصلاة والسلام: {نصرت بالرعب مسيرة شهر}.
نُصرتَ بالرعب شهراً قبل موقعةٍ كأن خصمك قبل القتل في حلم
إذا رأوا طفلاً في الجو أذهلهم ظنوك بين بنود الجيش والحشم
إن فتح كابل فتح للمؤمنين، وعليهم أن يحمدوا الله عليه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] فلله الحمد أن أرانا أصنام الملحدين تتهاوى تحت أقدام المجاهدين، ولله الحمد أن أرانا أوثان الكافرين تتهاوى تحت ضربات المؤمنين.
بالأمس صلى المسلمون في كابل، واستقبلوا القبلة، وقام رئيس جمهوريتهم المسلم يخطب في الألوف المؤلفة، فيقول: الله أكبر، فيكبر وراءه مئات الألوف.
ولأحد الفضلاء من المشايخ شريط بعنوان "الله أكبر سقطت كابل " وهو فاضل ذكي، لكنه قال: سقطت، وودت أنه قال: الله أكبر فتحت كابل، فإن السقوط لغير كابل، بل هو فتح ورفعة لها، والله عز وجل سمى انتصارات رسوله عليه الصلاة والسلام فتحاً، فقال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1].
والآن ميلاد كابل في هذه الأيام، فهو فتح كابل، وليس سقوط كابل، فالسقوط والهبوط والاحتراق والخراب لغيرها، أما هي فتوجت بدماء الشهداء، وبجماجم المجاهدين، وأصبحت تعزف على عزف بنادق المؤمنين الذين بايعوا ربهم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] ولهذا الدرس سبب:
إنه يجب علينا كمسلمين أن نعيش قضيتنا، فإن الولاء بيننا يتحرك، والمسلم مع إخوانه يسعد لسعادتهم، ويأسى لمآسيهم {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] و {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى}.
والحقيقة أن عقول المؤمنين سالت بقرائح مبدعة، وببنات أفكار عجيبة فرحة بهذا النصر، وقد وصلتني عشرات الرسائل إن لم أقل مئات الرسائل ما بين نثرية وشعرية وكثير من القصائد ما بين عربية فصيحة ونبطية -أي: عربي وبلدي- واخترت بعض القصائد، وأعتذر للإخوة الذين لا أقرأ قصائدهم، فإن مقصودي أن ألقي درساً لا أمسية، ومقصودي أن أختار بعض القصائد وأن أرجئ بعضها داعياً الله عز وجل لمن نظم قصيدةً مشيداً ومثنياً وفرحاً أن يكمل فرحه في جنات النعيم.(129/2)
قصيدة في المجاهدين
بين يدي قصيدة لفضيلة الشيخ الدكتور زاهر بن عوض الألمعي بعنوان "قادة الأفغان لا تختلفوا":
سألت: أين الوفا؟ أين التواصل؟ قلت: أحلى ملتقىً في عرس كابل
من حوالينا بدور أشرقت بالجهاد الحر في كل المعاقل
يلتقي القادات في قواتهم لالتحام الصف من تلك الفصائل
والجباه السمر من خوض الوغى سطعت نوراً وباتت كالمشاعل
فإلى كابل تنداح الرؤى واجتماع الشمل أولى بالتواصل
نظرت ليلى وقالت: حسرةً فاضت الأنباء من حقٍ وباطل
والإشاعات بدت آثارها في اختلال النصر في تلك المحافل
وانقسامات القوى تضعفها واختلاف الرأي أدنى للتقاتل
قلت يا حسناء! لا تصغي إلى خدعة الخصم وأفاكٍ وسافل
فالأباة الصيد ما لانت لهم عزمةٌ أو حال دون النصر حائل
والمغاوير الألى قد وثبوا وثبة الأسد ونهر الموت سائل
رفعوا الرايات فانجاب الدجى ومضوا في عزة الشهم المنازل
فسلي بامير عن صولتهم وسلي كابل عن تلك الجحافل
واطربي إن كان للنصر هوىً في شغاف القلب واجتازي المهازل
هذه كابل في قبضتهم هذه الدنيا صغت والنصر ماثل
أينما وجهت في تلك الذرى خلتها تفخر بالصيد البواسل
والأنوف الشم في أرجائها عشقت في الله أصوات القنابل
وقفت كالطود في ساحِ الوغى دحرت قوات زنديقٍ وصائل
أنقذت كابل من وحشتها وأزاحت بالهدى كل العوازل
فالأناشيد والأبيات شدت في الربى في البيد في قفرٍ وآهل
والهتاف الحر دوى بهجةً عازفاً ألحان مقدام مقاتل
وصدى التكبير في رحب الفضا يملأ الآفاق في رعدٍ وهاطل
قادة الأفغان لا تختلفوا فانقسام الصف لا يرضاه عاقل
أنتم اليوم على بوابةٍ يرصد العالم مقتولاً وقاتل
فعلى درب الجهاد انتظموا فالمدى أبعد في سير القوافل(129/3)
قصيدة فتح الفتوح
فتح الله عز وجل عليَّ ببعض الأبيات في قصيدة بعنوان "فتح الفتوح" وهي على بحر وقافية قصيدة أبي تمام:
السيف أفصح من سحبان في الخطب سل كابل الفتح عن خطابها النجب
واهتف لقومٍ أقاموا من دمائهمُ جسراً إلى مجدهم من أعجب العجب
عزف البنادق أندى في مسامعهم من عزف غانيةٍ في ساعة الطرب
صدت عن الوصل كابل وأطمعها في الهجر بعد محبيها فلم تجب
فأمهروها رءوساً لم تكن سجدت إلا لخالقها في أروع القرب
كابل ميلادك الأسمى يضرجه دمٌ يروي عروق السفح والحدب
كابل باب سماء النصر يفتحه كتائب من بني الإسلام لم تهب
كابل من بدر تروي كل قصتها يا أختها من صميم الأصل والنسب
فتح الفتوح وأعلام العلا رفعت وارتجت الأرض من روما إلى النقب
أصنام لينين أصخت وهي عابسةٌ تذوي على النار أو تهوي إلى اللهب
معاطسٌ كفرت بالله فاندحرت على أزيزٍ من البارود والقضب
والشمس في هالةٍ غبراء قد كسفت غابت من الهول فيه لا فلم تغب
تسربل الصيد في قاني دمائهمُ ما بين مختضبٍ أو غير مختضب
فتحٌ تشيعه الأملاك من فرحٍ وتبرز الأرض في أثوابها القشب
ومكة تتهادى رجع فرحتها وطيبة الفضل تروي مجد كل أبي
واستبشر القدس والمسرى وعاوده ما عاود الصيد في يافا وفي حلب
فتحٌ وقيمته أرواح من نسجوا ثوب المعالي من الأفغان والعرب
أيها الإخوة الفضلاء! هذه نتائج الجهاد، وثمرات البذل والتضحية.
ثمن المجد دمٌ جدنا به فاسألوا كيف دفعنا الثمنا(129/4)
ثمن الانتصار
ماذا دفع الأفغان ثمناً لدخولهم كابل، دفعوا أكثر من (1.
500.
000) قتيل في سبيل الله، شرد من وطنهم أكثر من (5.
000.
000) مشرد، احترقت الجبال بالنيران، وهدمت المدن، وسحقت المساجد، ورملت النساء، ويتم الأطفال، وصارت الدنيا ضاحية من ضواحي الدماء، وبركاناً من براكين البذل والتضحية، ثم أمدهم الله بنصر بعد أكثر من (13) سنة إلى (14) سنة بنصر مؤزر، دخلوا شباباً يهتفون.
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
وصلوا الجمعة في صفوف متراصة كأنها السدود تتجه إلى الكعبة حيث انطلقت منها لا إله إلا الله، وأثبتوا للعالم أن الأرض التي تؤخذ بالسلاح لا تستعاد إلا بالسلاح، وأن المبادئ التي تسحق لا بد أن تعاد بالسحق لمن سحقها، هذه قضية، ثم أروا العالم أن الشجب والتنديد والاستنكار لا يأتي بشيء بل يأتي بقوة السلاح بعد الاعتصام بالله عز وجل.(129/5)
الجهاد في القرآن الكريم والحديث الشريف
أيها الفضلاء! ذكر الله الجهاد وثمراته ونتائجه ومقاصده، وسوف أختار بعض الآيات من كتاب الله عز وجل، قال المولى جلت قدرته: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة:218] فسبحان اللهّ! بعد الهجرة والجهاد يرجون رحمة الله، فقل لي: ماذا يرجو القاعدون على الفرش؟! وماذا يريد المتمتعون بالشهوات؟! إذا كان المهاجر والمجاهد تجرح قدمه ويقطر دمه ويتناثر جسمه بالقنابل، ثم يقال له: كأنك ترجو رحمة الله، كأنك تريد ما عند الله، ويقول المولى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142] أظننتم أن طريق الجنة محفوفٌ بالورود يميس كالحرير؟! لا.
إنه طريق صعب، ولو كان سهلاً لدخله الناس جميعاً، ولكن يتخذ ربك شهداء ومجاهدين.
إن من يحسب أنه سوف يدخل الجنة، وهو قاعد على فراشه، لا يدعو، ولا يبذل، ولا يضحي، ولا يغضب لله، ولا يبيع دمه وماله وعرضه من الله، فقد غلط في الحسبان، وأخطأ في العدد، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] (فينا) انظر إلى الضمير (فينا) ما أحسنها من نسبة!
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
قال: فينا، حتى يقول ابن أبي الحديد مخاطباً ربه:
وحقك لو أدخلتني النار قلت لـ ـلذين بها قد كنت ممن أحبه
وأفنيت جسمي في علومٍ كثيرةٍ وما منيتي إلا لقاه وقربه
أما قلتمُ من كان فينا مجاهداً سيحمد مثواه ويعذب شربه
قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت:69] فهي نون النسبة، فهم منتسبون إلى الله، جاهدوا من أجله ولوجهه، ومن أجل مبادئه، ومن أجل لا إله إلا الله، ومن أجل عين لا إله إلا الله، وجمال لا إله إلا الله، وروعة لا إله إلا الله، لا من أجل التراب والوطن، والدم، والجنس، ولا أي كيان وإنما (فينا).
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] فإذا أرضوا الله، فما عليهم من لوم اللائمين، ولو لامهم العالم، ولو قال لهم العالم: أنهم متطرفون، أو متشددون، أو متزمتون، أو إرهابيون فهم إنما يجاهدون في سبيل الله، وهي الكرامة، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَ3ِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41].
يقولون: كان أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أرضاه شيخاً كبيراً قد شارف على الثمانين، فسمع بالجهاد لفتح القسطنطينية في عهد يزيد، فخرج ولبس درعه، قالوا له: أنت كبير، أنت ثقيل، قال: لا.
إن الله يقول: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] والله لأنفرن، فقتل هناك، وسوف يبعث هناك بين قوم كفار يقول: لبيك اللهم لبيك.
وقال عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78] وحق جهاد الله أن يسيل الدم لمرضاته، وأن يقطع الرأس من أجله، وتدفع الدنيا بما فيها وبزينتها وبذهبها ليرضى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:
أيا رب لا تجعل وفاتي إن أتت على شرجعٍ يعلى بخضر المطارف
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابةٍ يصابون في فجٍ من الأرض خائف
إذا فارقوا دنياهمُ فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:95] ولم يسم لنا الأجر، ولم يعدده لنا، إنما هو أجر عظيم، والأجر عند الله، فالمجاهدون أفضل من القاعدين بلا شك، المجاهدون من أجل لا إله إلا الله، والقاعدون يكفيهم اسم القعود، فلم يقل عنهم غير ذلك، إنما سماهم (القاعدون) لأنهم قعدوا، فكأنهم ليسوا قياماً، ولو في ديارهم، إنما لقلة هممهم وعزائمهم قاعدون فهذا وسام لهؤلاء، أما أولئك فـ (المجاهدون- الشهداء في سبيل الله) وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95].
هذه آيات، وغيرها كثير، وآيات الجهاد تربو على مائتين وأربعين آية في كتاب الله، وقال صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة مائة درجة؛ ما بين الدرجة والتي تليها كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله}.(129/6)
حث الرسول عليه الصلاة والسلام على الجهاد
عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من مات، ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق} رواه مسلم.
ومعنى الحديث: من مات ولم تخالجه نية الجهاد، ولم يعزم على أن يجاهد، ولم يحدث نفسه مرة من المرات، ولم يزاول حركة الجهاد، ولم يغز بماله، أو بنفسه، مات على شعبة من النفاق، يلقى الله وفي قلبه، وعمله، وميزانه شعبة من شعب النفاق، فليحذر العبد، وليجاهد بلسانه وبسنانه كما سوف يأتي في الحديث، وليجاهد بكلمته، وبقلمه، وبماله، فهو الجهاد العظيم.
قال أهل العلم في قوله: {من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق} قالوا: هي مرحلتان:
الأولى: مرحلة الغزو المباشرة.
الثانية: مرحلة التحديث.
والتحديث معناها: مزاولة النية، واستثارة القلب من أجل التصميم على الجهاد إذا سنحت الفرصة، حتى إن بعض أهل العلم كان يصعد الجبال في الصباح، ويتدرب على حمل السلاح، فقيل له: لم ذلك؟ قال: أتهيأ للجهاد في سبيل الله.
وفي سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه صعد جبل كسروان، ونزل هابطاً، فقيل له في ذلك، قال: أتهيأ للغزو في سبيل الله.
وعن أنس رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم} رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم وهو حديث صحيح.
جاهد بماله ونفسه، فهو بأعلى المنازل، وقد أرسل ماله، وقد قدم الله المال على النفس؛ لأنه يتيسر أكثر، والنفس وهي أرقى ما يبذله الإنسان.
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أعلى غاية الجود
ويظن بعض الناس وهم على أجر ومثوبة أنهم إذا تنفلوا بالصلوات في المساجد أو في البيوت، وتركوا الجهاد ومراغمة أعداء الله والمنافقين؛ أنهم أفضل من أولئك، نعم هم على أجر، لكنهم ليسوا بأفضل، ولذلك يحقق هذه المسألة ابن المبارك أمير المؤمنين في الحديث، ويخرج التحقيق في أبيات:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
والجهاد باللسان يدخل فيه: المقالة، والخطبة، والدرس، وكلمة الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والقلم، والذاكرة، والفكر، والأدب، والثقافة، والتراث، كلها تكون لمرضاته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله} متفق عليه، وسبب الحديث: {أن رجلاً قال: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعةً، ويقاتل رياءً، ويقاتل ليرى مكانه، ويقاتل حمية؛ أي ذلك في سبيل الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله} قال بعض العلماء: هذا حصر، ومفهوم المخالفة في هذه الكلمة: أن من قاتل لغير أن تكون كلمة الله هي العليا، فليس في سبيل الله.
{أتى رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله! أبايعك على الإسلام، فبايعه، فأعطاه عليه الصلاة والسلام مالاً، فقال: يا رسول الله! غفر الله لك! ما على هذا بايعتك، قال: على ماذا بايعتني؟ قال: بايعتك على أن يأتيني سهم طائش غرب يقع هنا -وأشار إلى ثغره ولبة صدره- ويخرج من هنا -وأشار إلى قفاه- قال عليه الصلاة والسلام: إن تَصْدُق الله يصدقك، وأتت المعركة فوقع سهم في لبته، وخرج من قفاه، وقتل في سبيل الله، فمسح عليه الصلاة والسلام وجهه، وقبله، وقال: صَدَقْتَ الله فَصدَقك الله، صدقت الله فصدقك الله}.(129/7)
وصايا الرسول عليه الصلاة والسلام للمجاهدين
عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش، أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا باسم الله} انظر ما أحسن الابتداء! على بركات الله أن تفتتحوا غزوكم وجهادكم باسمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم قال: {اعزوا باسم الله وفي سبيل الله؛ قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلوا} والغلول سرقة شيء من الغنيمة على وجه الخفاء: {ولا تغدروا} وهو النكث بالميثاق {ولا تمثلوا} وهو تشويه القتلى ولو من الكفار، فالتمثيل لا يسوِّغه، انظروا حفظ الذمم، انظروا العهد والميثاق، انظروا هذا الشرف لهذا الشريف العظيم عليه الصلاة والسلام: {ولا تقتلوا وليداً} فليس في الإسلام قتل الأطفال، إنه احترام للمبادئ، وتميز للناس، ووضع للأمور في مواضعها: {وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاثة خصال، فأيتهن أجابوك إليها؛ فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى كلمة الإسلام، فإن أجابوك إليها، فاقبلها منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا؛ فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك؛ فاقبل منهم، فإن أبوا؛ فاستعن عليهم بالله تعالى وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تفعل، ولكن اجعل لهم ذمتك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله، وإذا أرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا} أخرجه مسلم.
هذه وصاياه عليه الصلاة والسلام لأتباعه ولجنوده في المعارك، من حفظ للعهد، ومراعاة للذمة، واحترام للمواثيق، وعدم فساد في الأرض، وتحرير للعقول، وإزالة للباطل عن طريق الدعوة حتى تصل إلى مستحقها وإلى أهلها.(129/8)
فضل الشهادة في سبيل الله
أما فضل الشهادة والشهداء، ومن جاهد في سبيل الله، فأكثر من أن تحصر الأحاديث كما أسلفت.
يقول عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده لا يُكْلَم -من الكلم وهو الجرح- أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يُكْلَم في سبيله إلا جاء يوم القيامة اللون لون الدم، والريح ريح المسك} أخرجه مسلم.
ريح المسك ينبعث منه يوم القيامة، وقد قتل من مئات السنوات وآلاف السنوات، فيجعل الله وسامه يوم العرض الأكبر دمه يسيل أمام الناس أجمعين، وفي الترمذي عنه قال: {ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين، أو أثرين، قطرة دمعة من خشية الله، أو قطرة دمٍ تراق في سبيل الله، وأما الأثران فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله} أخرجه الترمذي وسنده حسن.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {ما من عبد يموت له عند الله خير، لا يسره أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى} وفي لفظ: {أن يقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة} أخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
ومنها أن أم حارثة بن سراقة لما قتل ابنها يوم بدر، أتت تبكي، فقالت: {يا رسول الله! ابني في الجنة فأصبر، أو أحتسب، أم هو في غير ذلك فسوف ترى ماذا أصنع؟ قال: أهبلت! أجننت! والذي نفسي بيده إنها لجنان كثيرة، وإن ابنك في الفردوس الأعلى} فنسأل الله الفردوس لنا ولكم، ونحن نطمع في رحمة الله فإن الله لا يتعاظمه شيء، وهذا الحديث رواه البخاري من حديث أنس.
وقال عليه الصلاة والسلام: {إن أرواح الشهداء في جوف طيور خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئاً؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث نشاء؟! ففعل بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرةً أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا} أخرجه مسلم.
ومعنى الحديث: أن الله عز وجل كلم الشهداء كثيراً فيما يشتهون، قالوا: بيضت وجوهنا وأرضيت أرواحنا، فسألهم ربهم كثيراً، فقالوا: تعيدنا إلى الدنيا فنقتل فيك، فلم يعطوا ذلك، لأن الله يقول: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} [يس:31] فلا يرجعون إلى الدنيا أبداً في علم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وقضائه وقدره.(129/9)
خصائص الشهداء
الأولى: {إن للشهيد عند الله خصالاً: يُغفر له في أول دفعة من دمه} أول ما تسكب في الأرض قطرة من قطرات دمه يغفر الله له سجلاته ولو كانت كجبال الدنيا من الخطايا.
الثانية: {ويرى مقعده من الجنة} قال بعضهم: يراه قبل أن يقتل، وقال بعضهم: في سكرات الموت، فيرى مكانه الذي خصصه الله له.
الثالثة: {ويحلى حلية الإيمان} وهي علامة خاصة بالمؤمنين، وهي للمجاهدين، ودل عليها القرآن في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19].
الرابعة: {ويزوج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر} فلا يأتيه عذاب من القبر، وهذه للشهداء والأنبياء.
الخامسة: {ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها}.
السادسة: {ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه} ذكره أحمد وصححه الترمذي، وهذا الحديث ذكره ابن ماجة مع أحمد وهو من حديث المقداد بن معد يكرب، وإسناده صحيح، والأحاديث في ذلك كثيرة، وقد تقدم منها أحاديث في كثير من المناسبات.
وفي المسند مرفوعاً: {الشهداء على بارق نهر باب الجنة في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية} رواه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.
وقال عليه الصلاة والسلام: {لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى تبتدره زوجتاه كأنهما ظئران أضلتا فصيليهما في براح من الأرض -البراح: البيداء- وفي يده كل واحدة منهما حلة خير من الدنيا وما فيها} أخرجه أحمد وابن ماجة وفي سنده شهر بن حوشب وهو ضعيف وهلال بن أبي زينب وهو مجهول.
وفي المستدرك وعند النسائي مرفوعاً: {لأن أقتل في سبيل الله أحب إلي من أن يكون لي أهل المدر والوبر}.
وفيهما: {ما يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة} والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وهناك قصص ضرجت بها كتب السنة، ودبجت بها دواوين الإسلام للشهداء في سبيل الله، ومن أراد أن يتأمل هذا الباب، فعليه بالمجلد الثالث من زاد المعاد محققاً في باب الجهاد في سبيل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وعليه بكتاب الجهاد من صحيح البخاري مع فتح الباري، وبأحاديث الجهاد التي جمعها مثل ابن المبارك رضي الله عنه وأرضاه في الأربعين من كتبه، وغيره ممن جمع في ذلك، وألف فيها رسائل، ولكني أدل نفسي وإخواني على مسألة، وهي أن السائل عندما يسمع هذه الأخبار، يقول: كيف أحصل على الشهادة في سبيل الله تعالى؟ وأحياناً لا أستطيع أن أحصل عليها لظروف في نفسي، وبيتي، ومجتمعي، أو لبعض الظروف والطوارئ، فأقول: عليك بأمرين اثنين:
أولاً: أن تنوي نيةً صادقةً مخلصةً الغزو في سبيل الله، وأن تحدث نفسك بذلك دائماً ليلاً ونهاراً، وأن تعلم أنك إذا لم تحدث نفسك ببيع نفسك من الله والقتل في سبيله، ففي إيمانك نظر، فعليك أن تزاول هذا دائماً في حركاتك وسكناتك، وتتحرى اليوم الذي تقتل فيه شهيداً في سبيل الله في حرب الكفار.
ثانياً: أن تسأل الله عز وجل الشهادة في دبر كل صلاة، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام عند مسلم من حديث أبي هريرة قال: {من سأل الله الشهادة بصدقٍ، بلغه الله منازل الشهداء، ولو مات على فراشه} فجزاء من يسأل الله، ويعلم الله نيته وصدقه ودعاءه أن يثيبه أجر الشهداء، ولو مات على فراشه كما حدث لـ خالد بن الوليد سيف الله المسلول.
ثالثاً: عدم الركون إلى الدنيا فقد قال تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] فإن من باع حظه من الله- عز وجل- ومن جنته بشيء من الدنيا، فلا خلاق له عند الله يوم القيامة، فنسأل الله أن يخرج حب الدنيا من قلوبنا، وأن يجعلنا من أوليائه الصادقين الذين باعوا أنفسهم له تبارك وتعالى.
ثم اعلموا حفظكم الله أن من يفرح بفرح المسلمين، فهو دليل على إيمانه وصدق يقينه، ومن يغضب ويتأثر لما يصيبهم، فهو دليل كذلك على صدقه ويقينه.
وهذا الجهاد -كما قلت- أمنية للمسلمين، فمنذ سنوات صرفت فيه الملايين، وأسيلت فيه الدماء، وذهبت فيه الجماجم، وأصبح حديث الناس في المشرق والمغرب، وأصبح قصة الدنيا، وسارت به الركبان، ولا بد لنا أن نبدأ من أول الخيط في عجالة لهذا الجهاد.(129/10)
سبب الجهاد في أفغانستان
أما سببه فهو: هجوم الشيوعيين والملاحدة الذين كفروا بالله عز وجل ومزقوا المصحف، وذبحوا أولياء الله، فاحتلوا أفغانستان، وظنوا أنهم سوف يبيدون خضراء هذا الشعب الذي فتح من عهد التابعين بسيوف قتيبة بن مسلم والأحنف بن قيس وأمثالهم رضوان الله عليهم، وقتل من الصحابة كثير في قندهار، فظنوا أنه سوف يذهب هباءً منثوراً، فماذا فعل الأفغان؟ هل استكانوا؟! هل ضعفوا؟! هل أغلقوا عليهم بيوتهم يبكون؟! ماذا فعلوا؟ إن الواحد منهم تقتل زوجته وثمانية أطفال له، ويهدم بيته ويخرج من بيته بلا شيء، فماذا فعل؟ هل وقف يبكي على أطفاله وزوجته؟ لقد أخذ السلاح وصعد إلى الجبل كالأسد وهو يقول:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
أذكر أول ليلة طرق أسماعنا هذا الغزو وسمعنا خبره المفجع، وأذكر تلك الليلة أنني سمعت في إذاعة لندن هيئة الإذاعة البريطانية الخبر، قالوا: وقد توجه الكثير من الأفغان إلى سفارات الاتحاد السوفيتي في عواصم كثيرة يحرقون علمها ويحاصرونها وينشدون في الشوارع البيت المعهود المعروف:
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبدا
قلبوا الأرض على المستعمر، وما هي الدولة التي واجهتهم؟ إنها دولة تملك من المساحة ثلث الكرة الأرضية، هذه الدولة في عنفوان شبابها، وعنفوان قوتها، يحكمها طاغية لا يعرف مصادرة القرار ولا الاستثناء، دولة لم تشعر أنها سوف تتفكك أبداً، فحركت قواتها، لقد أخبرنا المجاهدون أنهم كانوا يجدون القذائف مكتوب عليها تاريخ ذلك الأسبوع أي: أنها خرجت من المصنع، أي: أن المخازن انتهت، وصنعت هذه القذيفة في التو، وخرجت بالرقم في تاريخ ذلك الأسبوع من المصنع مباشرة ليُضرب بها المجاهدون، فماذا حدث؟ وصلت أنا هناك مع بعض الإخوة، فوجدنا كثيراً من جنبات الجبال احترقت، رأينا بعض الصخور محترقة من كثرة ما ألقت الطائرات اللهب، أحرقت الشجر والمزارع، وأصبحت لا تصلح للزراعة، أصبحت الأرض قنابل، والسماء قنابل، والبيوت مفجرة بأهلها، والمشوهون مئات الألوف، وأصبحت هذه القوة العظمى تعبث بالقيم، وتعبث بالناس، بعتو وبتهور لا يعلمه إلا لله.
تأتي مائتان من الطائرات في دفعة واحدة فتلقي حمولتها على قرية صغيرة، ويكفي هذه القرية عشر طائرات، لكن من البغض والحقد والحنق على الإسلام والمسلمين تدمر هذا التدمير، فماذا فعلوا؟
لقد استعان المسلمون بالله عز وجل، وما وهنوا وما استكانوا وما ضعفوا، بل زادهم هذا إصراراً وثباتاً وقوة، وأنتم تعلمون أن الشيخ/ يونس خالص أحد القادة الأفغان -وهو في السبعين من عمره وهو عالم من علماء الأحناف- دخل على أحد الرؤساء العالميين الكبار، فقال له ذلك: نفاوض في قضية الأفغان، قال: قبل القضية أدعوك إلى الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم رعيتك، وأتوا يساومونهم قالوا: على ماذا نساوم؟ أعلى لا إله إلا الله؟ لا مفاوضات، لا جلوس على مائدة مستديرة، ولا مربعة، ولا مثلثة، ولا مسدسة، إنما عندنا لغة النار.
فروا على نغم البازوك في غسقٍ فقهقهت بالكلاشنكوف نيران
يسعى فيعثر في سروال خيبته في أذنه من رصاص الحق خرصان
ماذا فعلوا؟ لقد تجمعوا في حشود هائلة، والذين حول كابل من المجاهدين الذين يحملون السلاح، ومتدربون من المجاهدين الأفعان ما يقارب (500.
000) غير الذين في المدن الأخرى، ولما سمعوا أن كابل تداعت كلهم اتجه في طريقه، وذهب في ليلة الفتح، يوم فتحت كابل أشعلوا سمائها بالنيران، حتى أصبحت كأنها نهار، كأن الشمس ما غابت، وأخبروا الشيوعي الذي فر أننا هنا، وأعلنت روسيا أمام العالم أنها تنسحب بعد أن قتل منها الألوف المؤلفة من أبنائها، وخسرت ذخيرتها ورغم أنفها أمام العالم، حتى قال بعض المراقبين: إن سبب انهيار الاتحاد السوفيتي هو الجهاد الأفغاني المسلح ضد هذه القوة الكافرة، ولما وصل رباني موسكو سمعت مراسلاً يراسل الشرق الأوسط يقول من هناك بالهاتف في الراديو: هذه القوة العظمى سحقت بسلاح المجاهدين، وقد تيقن هؤلاء أنهم لا يستطيعون لهؤلاء المجاهدين بالسلاح إلا بالمفاوضة السلمية، ثم قال البيت الشعري:
كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وهذا الأمر مشهود، أما أسباب قيامهم بالجهاد فمنها:
السبب الأول: لقد احتلت أرضهم، ومزقت مبادئهم، وديست عقيدتهم، وهدمت مساجدهم، وألغيت صلاة الجمعة في كثير من المدن، وبقرت بطون الحوامل، وديس المصحف بأحذية الشيوعيين أبناء لينين هناك.
السبب الثاني: أن دين الله حوصر في الأرض.
السبب الثالث: أن الدماء تجري كالماء على وجه الأرض، أما المعاناة فلا أستطيع أن أخبركم؛ لأن الأمر مشهود، وأنتم أمة عشتم الجهاد بأموالكم وأنفسكم ودمائكم من أوله إلى آخره، فجزى الله من جاهد وبذل وأعطى خير الجزاء، وإنه واجب على المجاهدين أن يشكروا الله، ثم يشكرونكم على ما فعلتم، فقد فعل العرب المسلمون فعلاً جميلاً حتى إنهم يقولون: إن العربي إذا كان هناك أصبح في الكتيبة الأولى وتترس به، لأنا لا نقول عصبية ولا عاطفة ولا تميزاً، وإنما نقصد أن هؤلاء لهم موقف مشرف في الجهاد الأفغاني -أثابهم الله- ولا أعلم بلداً عربياً مسلماً إلا شارك بأبنائه مع المجاهدين في سبيل الله عز وجل.(129/11)
أسباب نصر المجاهدين الأفغان
لماذا انتصروا؟
السبب الأول: أن الله نصرهم، هذا السبب الأعظم، وهناك أسباب أخرى، لكن السبب الأول وبيت القصيد أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى نصرهم {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] وكتب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينصرهم فنصرهم، وإلا من يعتقد أن دولة صغيرة عدد سكانها ما يقارب (20.
000.
000) وهي دولة فقيرة اقتصادياً، ودولة جغرافيتها من الصعبة الشائكة الجبلية، ومعداتها وأسلحتها بدائية، وهي من الدول النامية تصادم دولة عدد سكانها أكثر من (300.
000.
000) وهي إحدى الدولتين العظيميين في العالم، وقد بلغت في الأسلحة الذرية مبلغاً لم تبلغه دولة، ثم يقاومهم هؤلاء المجاهدون؛ لأن الله معهم.
السبب الثاني: شجاعة هذا الشعب، فليس الأفغان شعباً خانعاً، بل بالإجماع لا يُرى أشجع من الشعب الأفغاني، فهم إذا تمازحوا، تمازحوا بالرصاص، إذا مازح بعضهم بعضاً يترامون بالرصاص، وقَتْل الرجل عندهم كقتل الدجاجة، ترى المجاهد جالساً في الخيمة ويأتيه خبر أبنائه يقول: قتل أربعة أبناء لك، قال: الحمد لله! الله المستعان! إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم يعبئ الكلاشنكوف ويخرج يقاتل في سبيل الله، تبتر ساقه فيحمل نفسه على الساق الأخرى ويقاتل بعضهم على خشبتين، وهو يأخذ المدفعية والبازوكة، ويلقي في سبيل الله عز وجل بالقذائف.
أي صبر؟! إلى أي حد يبلغ هذا الإنسان القوي الشجاع؟! إن طبيعتهم كذلك فقد رأينا جبالهم فإذا هي لا تصلح إلا لإخراج الأسود، لا تعيش فيها الأرانب أبداً، حتى أنه ذكر لنا -وقد ذكرت ذلك في ليالٍ في أفغانستان قبل ما يقارب سنة- أن شعب قندهار إحدى الشعوب الأفغانية هؤلاء من أشجع الناس، ولهم تميز خاص، ويرون أن الانبطاح وقت هطول القنابل عيب، لا ينبطحون، والتعاليم العسكرية تقتضي أنك إذا رأيت القنبلة تهوي، فعليك أن تضطجع على بطنك، فيرفضون، فترصعهم القنابل ويرصعون وهم وقوف، هذه من الأسباب.
السبب الثالث: أن عندهم همة لا تعرف الرجوع إلى الوراء، فقد قدمت لهم عروض سلمية، وتدخلت جهات، ورفضوا، فهي همة عالية، تنطح الثريا، وعزم نبوي يزعزع الجبال.
السبب الرابع: وقوف المسلمين في مشارق الأرض معهم بالمال والسلاح والأنفس، ونشكر المسلمين جميعاً على ما فعلوا أثابهم الله ثواباً عظيماً، فقد دفعوا الملايين المملينة والسلاح والأبناء، وما أعلم من مدينة من المدن إلا أصيبت بشهيد، أو شهيدين، أو أكثر في سبيل الله في أفغانستان.
السبب الخامس: أن الشعب كله مجاهد، فقد خرجوا بالقبائل يحملون السلاح، ويرون أن من العار ألا يوجد بيت لا يحمل السلاح، والبيت الذي لا يخرج مجاهداً، أو لم يقتل منه قتيل يشعر بذلة وبخيبة أمام المجاهدين.
حيوا الجهاد فذكره يشجيني وأخص حكمتيار قلب الدين
أسدٌ براثنه شباب محمدٍ قاد الكتائب وهو في العشرين
آماله ضرب الجماجم في الردى سماه مادحه صلاح الدين
شكراً لأستاذ المبادئ والنهى سياف رمز القائد المأمون
لا تنس أستاذ المبادئ والنهى سياف رمز القائد المأمون
وتذكر الأمجاد في ساح الوغى الشيخ يونس صاحب السبعين
لا تنس رباني فإن حديثه كالشهد أو كالتوت في تشرين(129/12)
ثمرات الجهاد الأفغاني
ما هي ثمرات هذا الجهاد؟
إن هذا الجهاد:
1 - رفعة لجباه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فإن المسلمين فرحوا بهذا، وحمدوا الله عز وجل على هذا النصر العظيم.
2 - اندحار للكفر، ودرس قاسٍ لكل كافر ألا يغتر بقوته مهما بلغت، فإن الله أقوى منه، ومهما نظر إلى الشعوب المستضعفة المسلمة، فلا توسوس له نفسه، ولا يخطر له شيطانه، ولا يملي له غيه أنه سوف يغلب هؤلاء، ما دام الله معهم.
3 - اتخذ الله به من عباده شهداء، فإن الله يصطفي من يشاء من الشهداء.
4 - إيجاد أرضية للمسلمين يجاهدون فيها في سبيل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
5 - تصفية للقلوب من حب الدنيا، ومن شهواتها، ومناصبها، فقد كان هذا المعترك على مدى (14) سنة معتركاً هائلاً لامتحان القلوب، وتصفية النفوس وقد قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].(129/13)
دعوتنا للمجاهدين الأفغان
ما هي دعوتنا للمجاهدين الأفغان ولغيرهم من المسلمين؟
ندعو الله في هذا اليوم الفضيل، ومن على هذا المنبر الفضيل، ومن هذا المكان الفضيل، والجمع الفضيل -وهو سبحانه كريم- أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يثبت أقدامهم، وأن يعلي كلمة المجاهدين في مشارق الأرض ومغاربها، كما ندعوهم إلى الائتلاف ونبذ الفرقة، وتوحيد الصف: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحادا
فالفرقة داء، سواء على صعيد البيت، أو المدينة، أو القرية، أو الأمة، وإني أوصي إخواني من طلبة العلم والدعاة والأخيار والصلحاء والفضلاء والمجاهدين ألا يتركوا للشيطان فرصة ليشتت الشمل، ويحرش بين المؤمنين، فإنه سوف يدخل على المؤمنين بتسويفه دخولاً شانئاً، نسأل الله أن يكفينا شره وكل ذي شر.(129/14)
واجبنا نحو الجهاد
ما هو واجبنا نحو الجهاد الآن؟
واجبنا:
1 - أن نسجد لله سجود الشكر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم سجد في الفتوح، وسجد أبو بكر لما أخبر بقتل مسيلمة وانتصار المسلمين، وغير ذلك من القصص.
2 - أن نشاركهم فرحتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يجمع الله كلمتهم على الحق؟
3 - ألا نصدق الشائعات التي تفسد ما بين القلوب، وتشكك في نيات المجاهدين، فإن بعض المنافقين يقول: هؤلاء ما خرجوا إلا لأجل السلطة، أو لأجل المناصب، أو لأجل المال، أو ما خرجوا لمقصد وجه الله عز وجل، إلى غير ذلك من الكلمات التي نسمعها، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يعلم ذلك.
من الشمم أيها الإخوة! ما ذكر - كما تعرفون - قبل ما يقارب سنتين أن وفد المجاهدين وفدوا هيئة الأمم المتحدة، فلما حانت صلاة الظهر، قام أحد الوفد من مشايخ الجهاد الأفغاني، وأذن في هيئة الأمم للظهر بصوته العالي المرتفع، فارتجت الهيئة، وهي أول يوم في التاريخ تسمع فيه الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ليس غريباً أن ترى هذه الوجوه، وأن ترى هؤلاء المصلين، وهذه الأمة، فإننا كنا في فترة من الفترات مع قتيبة بن مسلم حول كابل نرفع لا إله إلا الله، حاصرها، وحاصر تلك المدن قتيبة بن مسلم، ورفع عقيرته يهتف وينادي ربه أن ينصره، فنصره الله نصراً مؤزراً.(129/15)
الأسئلة(129/16)
المشاركة في الجهاد
السؤال
هل اشتركت في القتال في أفغانستان؟
الجواب
ما اشتركت، اشتركت بالدعاء، لأن على المؤمن أن ينصر إخوانه بالدعاء، أو بالنية، أو بالمال إذا لم يستطع بنفسه، والله يقول: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122] وهذه الآية تساعدنا كثيراً، وهي معنا دائماً وأبداً، ولكن على كل حال لا يلزم أن كل المؤمنين يقاتلون، فإن الجهاد ليس القتال فحسب، الآن يأتي التخريج: الخطبة جهاد، والدرس جهاد، والكلمة جهاد، والمال جهاد، والدعاء بظهر الغيب جهاد، قال عليه الصلاة والسلام: {إنما تُنْصَرون وتُرزقون بضعفائكم} رواه أحمد والترمذي وغيره من أهل السنن.
فدل ذلك على أن الضعفاء من أمثالنا ينصر بدعائهم، والله عز وجل يريد من المؤمنين أن يؤدي كلٌ ما في استطاعته وقدرته.(129/17)
الاستفسار عن أحوال المجاهدين
السؤال
هل بين المجاهدين الآن اختلاف؟
الجواب
ما سمعت إلا خيراً، والأنباء التي وصلت أن بينهم اجتماعاً وألفة، وأنهم والحمد لله كانوا في منظر بهيج أمس في صلاة الجمعة، وأن المساجد اكتظت بالمصلين، وقام الخطباء على المنبر ولأول يوم بعد سنوات عديدة يعيدون الخطبة كما كانت من قبل سنوات.(129/18)
ضعف الثقة في أخبار الإذاعات
السؤال
هل نصدق أخبار الإذاعات الأجنبية في الجهاد والمجاهدين؟
الجواب
هذه مثل كتب بني إسرائيل اروِ عنها ولا حرج، لا تصدقوهم، ولا تكذبوهم، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، لكن أحياناً قد يكون فيها حقائق، فإنه مثلاً في بعض الأوقات ينقل عن مراسل، والمراسل يخبرك بأنه واقف على شفير المعركة، أو يرى، أو يسمع حتى إنه يخرج لك دوياً وصوتاً، فقد يكون هذا.
الأمر الثاني: أنه قد لا تكون لهم مصلحة في الكذب فينقلون الحقيقة.
الثالث: أنه قد يتواتر الخبر، فترويه عدد من الإذاعات ومن الصحف ومن المراسلين، فيدل على أن للخبر أصلاً، أما أن يقول بعض الناس هذه الإذاعات الأجنبية لا تسمعها أبداً، فهذا ليس بصحيح، وبعضهم يقول: صدقها، وخذ ما قالت، وهذا ليس بصحيح، ولكن أمرنا الله بالعدل والتثبت والتأمل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].(129/19)
ظاهرة عدم الاهتمام بأمور المسلمين
السؤال
لماذا لا نعلم بقضايا المسلمين إلا آخر الناس؟
الجواب
ربما لقلة اطلاعك، أو عدم اهتمامك، وإلا فلك منافذ، ولك وسائل أن تطلع، وأن تقرأ، وأن تسأل، وأن تعيش قضايا المسلمين، حتى إن بعض الناس يقول قبل سنوات، أو قبل سنتين: سمعت أحدهم يقول: المجاهدون هؤلاء بعضهم يقتل بعضاً، وإلا فالشيوعيون خرجوا، يظن أن الشيوعيين فقط هم الروس ولا يعلم أن هناك شيوعيين أفغان ما زالوا جاثمين إلى الآن في المدن، ثم فتحت المدن والحمد لله فهذا ظن الناس، وبعضهم يقول: هؤلاء ما قصدهم وجه الله، وبعضهم يقول: لا تتبرعوا لهم إلى أشياء كثيرة من قلة الاهتمام والمعرفة، أيضاً على المسلم ألا يظن أن قضية المسلمين فقط أفغانستان هناك (بورما والبوسنة والهرسك والصومال وفلسطين) وكثير من بلاد المسلمين فيها قضايا، ولا تسمع الأخبار الآن والقتل والدماء إلا على المسلمين، حتى إن بعض الكتبة يقول: أرخص الدماء في هذا العصر دماء المسلمين.
ولكن أبشركم بشرى أن هذا القرن هو قرن الإسلام، فانهيار الاتحاد السوفيتي أخرج لنا جمهوريات مسلمة مؤمنة بالله في غالبها، فكثير مما حصل هو قرن للإسلام في صالح الإسلام، ولكن لا بد من المراغمة والعثرات، ولا بد من الصدمات، ولا بد من القتل في سبيل الله، ولكن عزاءنا أن من عاش يعيش عزيزاً، وأن من مات يموت شهيداً إن شاء الله.(129/20)
الواجب علينا عند النصر
السؤال
ماذا نفعل بهذه المناسبة الكبرى؟ وهل نقدم شيئاً، أو نفعل شيئاً؟
الجواب
لك أن تسجد لله سجود الشكر، وأن تحمد الله عز وجل وأن تتصدق بصدقة، أو ترسل بصدقتك للجهاد، أو تكتب مقالة، أو قصيدة، أو أي شيء ينصر به الدين، فافعل وكلٌ على ما يسره الله له، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام كما سلف في الحديث الذي رواه أحمد: {جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم} فكان حسان بلسانه، وكان الآخر بخطبه كـ ثابت بن قيس بن شماس، وكان خالد بسيفه، وكان عمرو بن العاص برأيه، فكلٌ فيما ينصر به الدين، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الموفق.(129/21)
معنى الجهاد
السؤال
لقد ذكرت أننا نجاهد بالكتاب والقلم، فما معنى ذلك؟
الجواب
معناه يا أخي! أن تكتب في الدعوة، تنشر الدين بالقلم؛ بالمقالة، بالقصيدة، توضح العقيدة، تدافع عن الجهاد، تدعو المسلمين إلى الخير، تحذرهم من الشر، هذا معنى الجهاد بالقلم، لا أنك تحمل القلم لتقاتل به والجهاد باللسان أنك تقول وتتحدث، لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى جعل لكل عضو جهاداً، فجهاد اللسان أن تقول به، وتدعو، وتحاضر، وتخطب في سبيل الله.(129/22)
حكم الصلاة في الفتح
السؤال
هل يُصَلىَّ ركعتان في الفتح؟
الجواب
صلى عليه الصلاة والسلام يوم الفتح ثمان ركعات كما في الصحيحين من حديث أم هانئ، وقال بعض أهل العلم: إنها للفتح، وقال بعضهم: بل ضحى، وكثير من المسلمين حتى من الصحابة الذين فتحوا تستر صلوا ركعتين، فالمجاهدون هناك هم الذين عليهم صلاة ركعتين، أما نحن فعلينا أن ندعو الله عز وجل لهم، وأن نفرح بهذا، ولو أن المسلم يوم سمع الخبر سجد لله سجود الشكر كان مأجوراً، وكان على سنة من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
أيها الإخوة الفضلاء! أسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لي ولكم التوفيق والهداية والرشد والسداد، وأن يحسن منقلبنا وعاقبتنا وخاتمتنا في الأمور كلها، كما أعتذر للإخوة الذين جلسوا في آخر المسجد في البرد، وأسأل الله عز وجل أن يثيبهم على ما عانوه وما يعانونه من مشقة، ووددنا أن صدورنا تتسع لهم جلوساً، ولكن حباً وكرامةً ومثوبةً، وأسأل الله أن يجمعنا بكم مرات ومرات ليكون لقاؤنا الأخير في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(129/23)
ليلة مع الجن
عالم الجن هو عالم خلقه الله قبل عالم الإنس وأسكنهما الأرض وابتلى بعضهم ببعض، فللجن حقيقة ووجود، ومنهم مؤمنون وكفار، وقد ختمت رسالتهم كما ختمت عند البشر بمحمد صلى الله عليه وسلم، إلا أن منهم من يتعدى على الإنس ولذلك علم الله الإنسان أذكاراً يمتنع بها منهم.(130/1)
التقاء الرسول عليه الصلاة والسلام بالجن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا ممع الأبرار.
أمَّا بَعْد:
أيها الجمع الكريم! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
لا يزال العبد المسلم يجدد إيمانه في مجالس العلم، كلما جلس مجلساً غفر الله له ذنبه، ورفع عنه كربه، ورفع درجته عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وتجديد الإيمان إنما يحصل بمدارسة الكتاب والسنة التي أنزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الجلسة المباركة -بإذن الله- العطرة بحديث حبيب الله، التي تَتَضَوَّع مسكاً -إن شاء الله- بما قدمه محمد عليه أفضل الصلاة والسلام للبشرية.
معنا في هذه الجلسة: حديث في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
قال علقمة -وهو تلميذ من تلاميذ ابن مسعود الكبار، ومن أصحابه الأخيار-: قلنا لـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: {هل كان أحدٌ منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا.
تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي، فخفنا أن يكون اسْتُطِيْرَ أو اغْتِيْلَ، فذهبنا نبحث عنه حتى الصباح، فوجدناه قد أتى من نحو غار حراء، فقلنا: يا رسول الله! أين كنتَ؟ قال: لقيتُ الجن، وقرأت عليهم القرآن، وسألوني الزاد، فأعطيتهم وقلت: لكم كل عظم أوفر ما يكون طعاماً لكم، ولكم كل بعرة أوفر ما تكون طعاماً لدوابكم} هذا الحديث في صحيح مسلم.
ومجمل القصة أن أحد تلاميذ ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وهو علقمة قال لـ ابن مسعود الصحابي الجليل من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام: (هل كان أحدٌ منكم) أي: من الصحابة، (مع الرسول عليه الصلاة والسلام ليلة الجن؟ قال: لا).
يثبت هنا ابن مسعود أنه لم يكن أحد من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام معه ليلة الجن، ثم يقول ابن مسعود: (تخلف عنا عليه الصلاة والسلام، فخفنا أن يكون اسْتُطِيْرَ) أي: أتاه شيءٌ طار به، (أو اغْتِيْلَ): أصابته غيلة عليه الصلاة والسلام وقتل بخفية، قال: (فبحثنا عنه، فوجدناه في الصباح أقبل من نحو غار حراء، فلما لقيناه قلنا له: أين كنتَ؟) فأجابهم عليه أفضل الصلاة والسلام: (أنه لقي الجن، وقرأ عليهم القرآن، وأنهم سألوه الزاد) الحديث.
في هذا الحديث قضايا ومسائل:
المسألة الأولى: هل الجن خلق من الخلق لهم حقيقة؟ لأن من المفسرين من نفى حقيقة الجن، أعني: المُحْدَثين من أهل التفسير.
المسألة الثانية: هل الجني يتلبس بالإنسي حقيقة، ويدخل فيه، ويصرعه؟
المسألة الثالثة: هل من الجن مؤمنون وكافرون؟
المسألة الرابعة: هل أرسل الله من الجن رسلاً، كما أرسَل من الإنس؟
المسالة الخامسة: هل يدخل الجن الجنة؟ أم أن لهم جنة أخرى؟ وكيف يتنعمون؟
المسألة السادسة: كم لقي الرسول صلى الله عليه وسلم الجن، مرة، أم مرتين، أم أكثر من مرة؟
المسألة السابعة: ما هو طعام الجن؟ وما هو طعام دوابهم؟
المسألة الثامنة: هل حضر ابن مسعود ليلة الجن؟ لأن الترمذي روى في سننه: أن ابن مسعود قال: {كنتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فقال لي عليه الصلاة والسلام: يا ابن مسعود! هل معك ماء أتوضأ به؟ قال: يا رسول الله! ليس معي ماء، عندي إداوَةٌ -وهي: القِرْبة الصغيرة- فيها نبيذ، قال عليه الصلاة والسلام: ثمرة طيبة، وماء طهور، فتوضأ بالنبيذ} والنبيذ: هو ما يُمْرَس من التمر أو العنب أو نحو ذلك.
والإشكال هنا: كيف يروي الترمذي هذا الحديث، وفي صحيح مسلم أن ابن مسعود قال: {ما كان أحدٌ منا معه عليه الصلاة والسلام} هذا سوف يأتي إن شاء الله.
المسألة التاسعة: هل الشيطان من الجن؟
قال تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50].
المسألة العاشرة: ما هي الحروز العشرة التي من أدركها وقام بها، حفظه الله ظاهراً وباطناً من شياطين الجن والإنس، هذه الحروز العشرة، كل حرز منها كفيل -بإذن الله- أن يحفظك في ليلك ونهارك.(130/2)
الأمور الواجبة على كل مسلم مكلف
هذه هي القضايا التي معنا هذا الليلة؛ ولكن قبل ذلك أحب أن أنبه نفسي وإياكم على أنه ينبغي أن نعلم مسألة، وهي أنه ينبغي على المكلف أن يعرف أن عليه أربعة أمور في الحياة، لا بد أن يقوم بها إن كان مسلماً يريد الله والدار الآخرة.
الأمر الأول: العلم: أن يتعلم، وأن يتفقه.
الأمر الثاني: العمل: أن يعمل بما علَّمه الله، ولو كان آيةًَ أو حديثاً.
الأمر الثالث: التبليغ: أن يبلغ ما تعلم من آية أو حديث إلى الناس.
الأمر الرابع: الصبر: أن يصبر على هذا التبليغ، وما يأتيه من أذىً ومشقة من الناس.
فإذا فعل ذلك، فقد أصبح خليفة للرسول عليه الصلاة والسلام.(130/3)
على المسلم أن يتعلم أمور دينه
الأمر الأول: العلم.
ما هو حَدُّ العلم؟
وهل العلم في الإسلام أن يكون عندك شهادة؟
أو أن تتخرج من جامعة مرموقة؟
أو أن تحضر رسالة؟ أو ماذا؟
هل العلم أن يكون لك تخصيص في العلوم؟
ولك قدم في البحوث؟ أم ماذا؟
هل العلم أن تتوصل به إلى منصب من مناصب الدنيا؟ أم ماذا؟
العلم هو: أن تتعلم ما تقوم به في حياتك، وتلاقي به ربك من أمور دينك، وتتعلم الأمر والنهي حتى تلقى الله.
فهذا هو العلم عند المسلمين، وهو سهل ميسر على من يسره الله عليه.
وعلم الصحابة من هذا، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17].
قال مجاهد: [[يسرنا طلب العلم، فهل من طالب علم؟]] فكان أسهل الناس تعليماً وعلماً الصحابة رضوان الله عليهم.
فالعلم سهل ميسر، آية وحديث، وما يدور في هذا المضمار سواء تعلم الإنسان أو حمل شهادة أو لم يحمل؛ لكن يتفقه في الدين.
قال عليه الصلاة والسلام: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} فالذي لا يريد الله تبارك وتعالى به خيراً لا يفقهه في الدين.(130/4)
على المسلم العمل بما علم
الأمر الثاني: العمل.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] وهي من أعظم الآيات توبيخاً لمن تعلم ثم لم يعمل.
وقال: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3].
وقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في بني إسرائيل يوم تعلموا ولم يعملوا: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5].
فنعوذ بالله من علم لا ينفع؛ فإنه من أعظم ما تقسو به القلوب.
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في بني إسرائيل لَمَّا تعلموا ولم يعملوا: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيهم: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19] نسوا العمل بالعلم، فأنساهم الله خير الدنيا والآخرة.(130/5)
ينبغي على المسلم تبليغ ما علمه
الأمر الثالث: التبليغ.
وهو دعوة الناس إلى هذا العلم الذي حملتَه، ولو آيةً أو حديثاً.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حكاية عن لقمان وهو يَعِظُ ابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17].
فالتبليغ للناس من أعظم ما يمكن، وهذا لا يقتضي من الإنسان شهادة ولا تَبَحُّراً، بل إذا عرفتَ آيةً أو حديثاًَ فبلغها، فإن الله يرزقك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بها أجراً ومثوبةً وقبولاً عنده.
يقول عليه الصلاة والسلام لـ علي: {ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فوالذي نفسي بيده، لأنْ يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من حُمْر النَّعَم}.
وقال عليه الصلاة والسلام: {بلغوا عني ولو آية}.
وقال: {ورب مُبَلَّغٍ أوعى من سامع، ورب حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه}.
فهذا معناه: الدعوة؛ لكن الدعوة يشترط فيها ثلاثة شروط:-
أولها: أن تكون خالصة لوجه الواحد الأحد: بأن تقصد بدعوتك الله عز وجل، بلا رياء ولا سمعة.
ثانيها: أن تتعلم العلم الذي تدعو به: فإن الجاهل لا يعلم غيرَه، وأن تتمكن من المسألة التي تريد أن تفهم الناس بها.
ثالثها: أن تحمل أدبها، وحكمتها، وأن تكون صاحب حكمة؛ فلا تكون مؤذياً، ولا جارحاً للشعور، ولا فظاً غليظ القلب، فإن الناس إذا رأوا هذا انفضوا من حولك.(130/6)
الصبر على التبليغ
الأمر الرابع: الصبر:-
وهو الصبر على التبليغ، والدعوة إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
هذه أمور لا بد أن تُقَرَّر، ثم أبدأ في مسائل هذا الحديث.(130/7)
ترجمة: علقمة بن قيس
علقمة، الذي معنا في هذا السند: أحد التابعين، واسمه: علقمة بن قيس، من علماء وعباد العراق، يقولون عنه: إنه صام أربعين سنة سرداً، ما أفطر إلا في يوم أضحى وفي يوم فطر، والسنة: ألا يُسْرَد لكن هكذا وجد من نفسه، وربما لم يبلغه النهي، وكان من العباد الكبار.
نزل به شيخه عبد الله بن مسعود مع بعض التلاميذ من الكوفة، فمروا على الأسواق يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فمروا برجل يشوي رءوس غنم، فلما رأى علقمة الرءوس تُشوى على النار، بكى حتى أُغمي عليه، ورُش بالماء، وبقي ليلة.
فلما استفاق، قال له ابن مسعود: [[ما لك؟ قال: تذكرتُ أهل النار، وهم يصطرخون فيها]].
كان علقمة من أجمل الناس صوتاً بالقرآن، حتى أن ابن مسعود يقول له: [[اقرأ القرآن فداك أبي وأمي، وزينه بصوتك، فإنه زين القرآن]] فكان يقرأ ويتأثر ابن مسعود، ومعه أصحابه، ويتباكون وهو يقرأ عليهم.
فيقول: [[سألتُ ابن مسعود]] القصة والحديث.(130/8)
التقاء النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه مع الجن
أما الجن: فللرسول عليه الصلاة والسلام معهم مواقف، والله ذكر الجن في القرآن في مواطن كثيرة نذكر منها:
قولَه سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] وقولَه: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] وقولَه: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] إلى غير تلك من الآيات العظيمة الكثيرة.
ذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الجن، وذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث لهم.
قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] والعالَمون: يشمل عالم الجن والإنس.
التقى الرسول عليه الصلاة والسلام -فيما حُفِظ- بالجن مرتَين، كانا مؤتمرَين عظيمَين، ولقاءَين ساخنَين حارَّين، تحدث مع الجن مباشرة فيهما.(130/9)
اللقاء الأول للنبي مع الجن
أما اللقاء الأول: فسوف أعرضه لكم:-
خرج عليه الصلاة والسلام من مكة، قبل الهجرة؛ لأنه أوذي عليه الصلاة والسلام ودبروا له اغتيالاً في مكة، وأحاط كفار قريش ببيته -كما تعرفون- وسلّوا السيوف عليه يريدون قتله، فأنجاه الله عز وجل، وخرج من بيته وترك علياً في الفراش، وحثا على رءوسهم بالتراب.
وقبل هذه القصة: خرج عليه الصلاة والسلام، يريد أن يدعو أهل الطائف؛ لأن أهل مكة رفضوا أن يستجيبوا؛ إلاَّ أربعة أو خمسة من العبيد، وأبو بكر وعلي، فخرج مريداً أن يهدي الله على يديه أهل الطائف، عَلَّ أهل الطائف أحسن حالاً من أهل مكة؛ لكن:
وما شر الثلاثة أمَّ عمروٍ بصاحبك الذي لا تصحبينا
خرج عليه الصلاة والسلام وصعد جبال الطائف، في الحاجزة، بين مكة والطائف، لا رفيق له ولا مؤنس ولا صاحب إلا الله، ما عنده زاد من الطعام أو الشراب، زاده يقينه وذكره لله عز وجل، وما عنده مركوب يركبه من الجمال ولا من الخيل، مركوبه: التوكل على الله عز وجل، وما عنده عصا يتكئ عليها، إنما يتكئ ويتوكل على الحول والقوة بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
هذا الرسول العظيم، الذي لو أراد أن تسير له جبال الدنيا ذهباً وفضة لسُيِّرَت، بقي جائعاً متعباً مكدوداً سهران ظمآن حتى وصل إلى الطائف بعد ليالٍ.
فلما دخل الطائف ما جلس، ولا أكل، ولا شرب، وما استضافه أحد، وما استقبله أحد؛ إنما عمد إلى نادٍ يجتمع فيه أهل الطائف جميعاً، فسلم عليهم فلم يردوا عليه السلام؛ لأنهم وثنيون جاهليون، يحملون الوثنية في رءوسهم، (ولا إله إلا الله) ما اندمغت وما دخلت في أدمغتهم (لا إله إلا الله) فقال: {إني رسول لكم بين يدي عذاب شديد، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} فتهكموا، واستهزءوا، وتضاحكوا، وأتوا بكلمات نابية مؤلمة، على الجوع والظمأ والتعب والسهر الذي أصابه.
يقول أحدهم له: أما وجد الله من الناس أحداً إلا أنت حتى أرسلك؟
ويقول الثاني المستهزئ المستهتر: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.
ويقول الثالث: إن كنت رسولاً فأنت أكرم من أن أكلمك.
فعاد عليه الصلاة والسلام ولَيْتَهم تركوه يوم رفضوا دعوته وتركوا مبادئه لكن انظر إلى الخبث، وانظر إلى اللؤم، أرسلوا عليه العبيد والأطفال يرجمونه بالحجارة، حتى أسيلت قدماه، وكان بالإمكان وفي قدرة الواحد الأحد أن يحميه بملائكة، كل ملَك يستطيع أن يدمر الدنيا بجناحيه؛ لكن الله حكيم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يريد أن يُؤْذَى هذا الرسول، ويؤجر، ويصبر؛ ليكون قدوة للناس.
وأتى ملَك الجبال، فقال: ائذن لي أن أطبق عليهم الأخشبَين، قال: {لا.
إني أرجو أن يُخْرِج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً}.
وأتى ملَك الريح، فقال: أتريد أن أرسل عليهم الصَّرْصَر؟ قال: {لا.
اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فنزل عليه الصلاة والسلام تلك الليلة إلى وادي نخلة، بين مكة والطائف، وفي الليل الدامس الذي لا يجد له فيه قريباً ولا رحيماً، بل قربُه من الحي الأحد، توضأ وقام يصلي، ورفع صوته بالقرآن يستأنس به في الوحشة، حيث كان أكبر مؤنس للرسول عليه الصلاة والسلام في وحشته وفي سفره القرآن، فقام يقرأ القرآن.
وانظروا إلى هذه الأعجوبة:
أرسل الله له جن نصيبين في تلك الليلة، حتى ملئوا الوادي يستمعون القرآن، فأخذ صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بكلام الله عز وجل {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} [الرعد:31] أين الجواب؟
ماذا يستفاد من الآية الآن؟
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} [الرعد:31] فأين يكون الجواب في الآية؟
الجواب هنا مضمر، ومعنى الآية: لو أن هناك قرآناً تُسَيَّر به الجبال، وتُقَطَّع به الأرض، ويُكَلَّم به الموتى، لكان هذا القرآن.
سكت الله عن الجواب؛ لأنه مفهوم، قال: {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد:31] بمعنى: أفلم يتيقن.
وييئس: ليست بلغة قريش، بل بلغة النخع، [[سئل ابن عباس: ما معنى ييئس؟ قال: (ييئس) معناه يتيقن ويعلم، على لغة النخع]] أي: على قبيلة النخع، فالقرآن نزل بهذه اللغات.
إنما الشاهد: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قام يقرأ القرآن، فأتاه جن نصيبين، وقل لي بربك: كم بين نصيبين ومكة؟ إنها تُطْوَى في أشهُر بالأقدام، لماذا؟ لأنهم عفاريت، أتوا يطيرون طيراناً، أسبق من الريح.
فوقفوا بجانبه عليه الصلاة والسلام وجلسوا، وكان من أدبهم أن سيدهم يقال له: (خنزب) أو غير ذلك، يقول لهم: اسكتوا، أنصتوا، فأخذوا ينصتون، ولكنهم كان بعضهم يركب بعضاً حتى يقتربوا من الرسول عليه الصلاة والسلام {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19].
لكن يقول الله عز وجل في أول السورة: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن:1] قل للبشرية: {قُلْ أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن:1].
يقول سيد قطب رحمه الله: عجباً! حتى الجن يتذوقون القرآن؟! حتى الجن يدركون بلاغة القرآن؟! حتى الجن تسمو أفهامهم إلى معرفة القرآن؟! {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً * وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الجن:1 - 5].
فلما وصلوا إلى هذا قالوا في القرآن الكريم: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} [الجن:9].
من أخبر الجن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن في وادي نخلة، بين مكة والطائف؟
قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[إن الجن منعوا من الاستماع إلى السماء]]؛ لأنه كان قبل إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام وإنزال الوحي، كان الجني يركب الجني، هكذا على رأسه، ثم يأتي الثالث على رأس الثاني، وهكذا حتى يصبحوا كأنهم مسبحة أو عِقد منظوم إلى السماء، فأعلاهم يسمع الوحي، فيبلغ الذي من تحته؛ حتى يبلغه الأرض، فيأخذ الكهنة والسحرة بعض الكلمات، فيضيفون عليها مائة كذبة.
فلما نزل الوحي أراد الله أن يحمي الوحي؛ ليكون الإرسال صافياً قوياً، لا يدخل معه تشويش آخر، فأرسل الله الشهب على الجن فكانت ترميهم في كل مكان.
فقال سيد الجن: اذهبوا في أنحاء الأرض، في البحار، وفي الديار، فإن في الأرض أمراً حَدَثَ، ما ندري ما هو؟ فذهبوا يبحثون، ما هو الأمر الجديد الذي حدث؟ فتفرقوا، فأما جن نصِيْبِيْن فهم الذين وُفِّقُوا ووجدوا السر، وجدوا الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن في وادي نخلة، فعرفوا أن هذا هو السر.
{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن:9] أي: من السماء {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:9 - 10] انظر، ما أحسن الأدب! لم يقولوا: وأنا لا ندري أشرٌ أراد الله بأهل الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا، لكن استحيوا من الله، فقالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ} [الجن:10] وسكتوا عن ضمير الجلالة وعن لفظ الجلالة، ولما أتى الخير قالوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10].
وذلك مثل إبراهيم عليه السلام يوم قال في القرآن الكريم: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:79 - 80] قال: وإذا مرضت أنا، والذي يمرض هو الله؛ لكنه تأدب مع الله تبارك وتعالى.
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من قراءة القرآن، وسلم من الصلاة، تفرقوا وضربوا بقاع الأرض، ووصلوا إلى قومهم في اليمن، ودعوهم إلى (لا إله إلا الله) {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:29 - 32] رجعوا دعاة.
انظر كيف أتوا في ليلة واحدة ورجعوا يدعون إلى توحيد الله عز وجل! وعاد صلى الله عليه وسلم ومعنوياته مرتفعة، ونفسه مرفرفة بالتوحيد، يوم أوجد الله لدعوته قبولاً عليه الصلاة والسلام.(130/10)
اللقاء الثاني للنبي مع الجن
أما اللقاء الثاني: فهو في الآتي ذكره:
هذا اللقاء هو ليلةٌ خرج فيها صلى الله عليه وسلم وسط الليل، قام من بيته من مكة وخرج إلى غار حراء، والتقى بالجن، وسلم عليهم، ودعاهم إلى الإسلام، حتى سُمِع لأصواتهم رجة في الوادي، وقال له أبو ذر: ما هذا يا رسول الله؟ قال: {بينهم خصام فأصلحتُ بينهم} يختصمون كما تختصم القبائل في الدنيا؛ لأن بينهم جواراً، وأرحاماً، وبينهم اختلافات ووجهات نظر، فأتى عليه الصلاة والسلام فأصلح بينهم.
والجن بينهم الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات، ومنهم الكريم والبخيل، ومنهم الصادق والكاذب، طبقات مثل الإنس، فالرسول عليه الصلاة والسلام لعظمته ولما أعطاه الله عز وجل أصلح بينهم.
وقرأ عليهم القرآن، فأسلم من شاء الله أن يهديه، وقالوا: {يا رسول الله! نريد الزاد، قال: زادُكم كل عظم ذكر اسم الله عليه} أما إذا لم يذكر اسمُ الله على العظم فحرام عليهم أن يتعشَّوا تلك الليلة، وقالوا: {نريد لدوابنا طعاماً، قال: كل روث} الروث: الذي يخرج من الدواب، ولذلك لما أتى ابن مسعود للرسول صلى الله عليه وسلم بروثة، قال له: {إنها رِكْس} وهناك رواية: {إنها طعام دواب الجن} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
والجن لهم مواقف معه صلى الله عليه وسلم، وسوف تأتي هذه القضايا.(130/11)
بعض مواقفه صلى الله عليه وسلم مع الجن
يقول أبو هريرة في صحيح مسلم: {قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا صلاة الظهر أو العصر، قال: فلما كبر صلى الله عليه وسلم وضم يديه وبدأ يقرأ سمعناه يقول في الصلاة: أعوذ بالله منك، أعوذ بالله، أعوذ بالله، ألعنك بلعنة الله، ويتأخر عليه الصلاة والسلام حتى اقترب من الصف الأول، فلما سلم قلنا: يا رسول الله، سمعناك تقول: كذا وكذا، قال: أوَسمعتموني؟ قلنا: نعم يا رسول الله، قال: والذي نفسي بيده لقد عَرَض لي جانٌّ وأنا في الصلاة، معه وَكْت} أي: قطعة من خشب محترقة يقربها من وجه الرسول عليه الصلاة والسلام، يريد أن يحرقه قال: {كاد أن يحرق وجهي، والذي نفسي بيده لولا دعوة أخي سليمان، لقبضته وربطتُه حتى يلعب به أطفال المدينة}.
وهذا ورد من حديث أبي الدرداء، وفي لفظ عند مسلم: قال: {فمسكتُه حتى وجدتُ برد لعابه على يدي} أي: مسكه صلى الله عليه وسلم بحلقه، فأخرج الجان لُعابَه على كف الرسول صلى الله عليه وسلم فوجد برده، قال: {ولو شئتُ لربطتُه بسارية من سواري المسجد حتى يصبح يلعب به أطفال المدينة}.
الحديث.(130/12)
حال نبي الله سليمان مع الجن
ما هي دعوة سليمان عليه السلام؟
دعوة سليمان: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] وملكه عليه السلام أن سخر الله له الجن في ملكه، منهم الغواص، ومنهم البناء، كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:38 - 40].
فالمقصود: أن دعوة سليمان في قوله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] أي: لا تسخر الجن أو الريح لغيري، ولذلك لم يسخر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الريح تسخيراً ملكوتياً إلا لسليمان في مملكته.
وللفائدة نقول: إن سليمان عليه السلام إذا أراد الانتقال إلى الهند -مثلاً- يقول للريح: يا ريح! انقليني إلى الهند، فتأتي فتقترب منه، ثم تلف نفسها كأنها زوبعة أو كأنها بساط، فتحمله هو ووزراءه وحاشيته ومستشاريه، وتنقلهم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12]؛ لكن إذا ارتفعت بهم في الجو كيف تهبط بهم في الأرض؟ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] رخاء: أي: إذا اقترب من الأرض تخفف السرعة قليلاً قليلاً حتى ينزل بهدوء.
فآية: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] هذه -بارك الله فيكم- كأن معناها -والله أعلم-: أنه إذا أراد بلداً أو اقترب من القرية، أرخت الريح نفسها، ولا تهبط به بعنف.
الشاهد: أن للرسول صلى الله عليه وسلم مواقف مع الجن.(130/13)
أبو هريرة والشيطان سارق الصدقات
في الصحيحين: من حديث أبي هريرة، وهذا مرَّ معنا؛ لكن لا بأس:
أعِدْ ذِكْرَ نعمان لنا إن ذكرَه كما المسك ما كررتَه يتضوَّعُ
قال أبو هريرة: كلفني صلى الله عليه وسلم أن أحرس الزكاة -وقيل: الصدقة، وأكثر ما تُسْتَخْدَم الزكاة في الكتاب والسنة: الصدقة، أي: بلفظ الصدقة- قال: فذهبتُ في مَرْبد -هذا المربد كالحَوش أو كالجَرِين- فوقف أبو هريرة -إنسان فقير من دَوْس- أتى إلى مكة، لا ولد له، ولا زوجة، ولا أم، ولم تأت زوجته وأمه إلا فيما بعد؛ لكن قبلها أتى فقيراً، حتى إنه من الجوع كان يصرع بين المنبر وبين بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، فيُظَن أنه صرع من الجان، فيأتي أحد الأنصار يبرك على صدره، ويقرأ عليه المعوذات.
يقول: [[وما بي جنون، ما بي إلا الجوع]].
فكان صلى الله عليه وسلم يجعله في هذه المهمات ليعطيه شيئاً من الأكل، أو يأكل هو بنفسه؛ لأنه إذا حرس جَرِيْناً ملآن بالتمر، فلا بد أن يتعشى من هذا التمر -بحفظ الله ورعايته- أو بشيء من الحب، أو بشيء من الطعام -قال: {فجعلني صلى الله عليه وسلم حارساً، فأتيت تلك الليلة، فأتاني شيخ كبير -الشيطان تمثل بصورة شيخ- فأتى فقرَّب كيسَه -حتى الشيطان عنده كيس- وأخذ يحثو من الطعام- سواء كان تمراً أو حباً، قال: فقبضتُ وقلت: لأرفعنك إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال: عندي عيال، وأنا فقير، وأنا مسكين.
قال أبو هريرة: فرحمتُه، فتركتُه، فأتيتُ الصباح.
فقال عليه الصلاة والسلام -رغم أنه ما حضر القصة؛ لكن انظر إلى المعجزة- قال: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟
قلتُ: يا رسول الله! شكا إليَّ حاجة وعَيْلة، فرحمتُه فتركتُه.
قال: كذَبَكَ وسوف يعود.
قال: فرَصَدْتُه لعلمي بما قال عليه الصلاة والسلام، فأتى فأخذ يحثو، فقلتُ: والله لأرفعنك إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال: أنا محتاج، وذو عيال، فاتركني، وأخذ يدعو فتركه.
وفي الصباح قال صلى الله عليه وسلم: ماذا فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟
فأخبرتُه، قال: كَذَبَك وسوف يعود.
وأتيت في اليوم الثالث -وثالث ضربة دائماً لا بد أن ينتهي عليها الأمر- فقال: عندي عيال، وأنا شيخ كبير، وأنا مسكين، قلتُ: والله لأرفعنك، وأخذتُ بتلابيب ثيابه.
قال: اتركني أعلِّمك شيئاً إذا أمسيتَ وقلتَه لا يقربُك شيطان -وكان أبو هريرة أحرص على الخير- قال: قل: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] قلها إذا أمسيتَ وإذا أصبحتَ لا يقربك شيطان، فتركتُه وذهبَ، فلما أتيتُ في الصباح، قال صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك؟
قلتُ: يا رسول الله كَيْتَ وكَيْتَ، وعلمني آية، قال: ماذا علمك؟
قال: علمني: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] قال الرسول صلى الله عليه وسلم: صَدَقَك وهو كَذُوب} أما هذه المرة فقد صدق مع أنه دائماً كذوب؛ هذه من مواقف الجن.(130/14)
عمر بن الخطاب يصارع الجان
وورد في السير [[أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لقي جانَّاً في ليلة من الليالي فقبض بيد الجان]] لكن مع من؟ مع أبي حفص: عمر بن الخطاب.
قد كنتَ أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
[[فقال عمر للجان: أتصارع أنا وإياك]] هكذا ورد في السير، فنزل الجان، ونزل عمر رضي الله عنه، ما سمعنا أن هناك مشجعين، ما حضر مع عمر من المنتخب أحد، ولا مع الجان أحد، ربما كان عمر وذاك فقط.
[[فأخذه عمر فصرعه على الأرض، فقام العفريت مرة ثانية، فصرعه عمر، فقام ثالثة، فصرعه، قال الجان: لقد علم الجن أني من أقواهم]] ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري: {ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك} أي: إذا أتى عمر رضي الله عنه من هذا الشارع، أتى الشيطان من الشارع الآخر، فإذا أتى من هنا حول طريقه من الطريق الآخر.
لماذا؟ لأنه قلب كبير، قلب يتوقد بـ (لا إله إلا الله) , قلب عرف الله، كان يتوقع الأحداث وتقع كما يقول، حتى قال علي بن أبي طالب: [[كنا نقول: إن السكينة تنطق على لسان عمر]] يجلس مع الصحابة وعيونه تتوقد، ما بقي على عيونه إلا أن تتكلم، يقول الذهبي في ترجمة ابن تيمية: والله الذي لا إله إلا هو، كأن عينيه لسانان ناطقان.
وقاد ذهنٍ إذا سالت قريحتُه يكاد يخشى عليه من تلهُّبِهِ
جلس عمر رضي الله عنه فترة من الفترات فنزل سواد بن قارب من الجبل، قال: هذا رجل ترك وديعة في رأس الجبل، قالوا: من أخبرك يا أمير المؤمنين؟ قال: أقول هكذا، فأتوا إلى الرجل، وقالوا: أتركتَ شيئاً؟ قال: دفنتُ ولدي في رأس الجبل وأتيت.
وجاءه سواد بن قارِب بجمله من الصحراء قال: هذا الرجل كان كاهناً في الجاهلية، قالوا: من أخبرك؟ قال: من مشيته وحركاته، فأتوا إلى سواد بن قارِب فقالوا: أكنتَ كاهناً؟ قال: نعم.
كنتُ أتعاطى الكهانة، وهو صاحب القصيدة الرنانة الطنانة بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام يوم قال له:
فكن لي شفيعاً يوم لا ذو قرابةٍ بِمُغْنٍ فتيلاًَ عن سواد بن قاربِ
المقصود: أنه هذه من مواقف بعض الصحابة مع بعض الجان.(130/15)
معاذ بن جبل وكفرة الجن
وذكر البيهقي في دلائل النبوة أن للجن مواقف مؤذية، أي: كفرة الجن مع المسلمين من الصحابة.
ذكر من ضمن القصص، يقول معاذ رضي الله عنه وأرضاه: دخلتُ بيتي، وأغلقتُ عليَّ الباب، فلما أغلقت عليَّ الباب، وإذا أنا من ثقب الباب بثعبان دخل كأنه الخيط، دخل خيطاً خيطاً خيطاً؛ لأن الثقب كان قريناً أي: أن الصائر بين الباب قرين، لا يمكن أن يدخل الثعبان دفعة واحدة، فأخذ يدخل خيطاً خيطاً، فلما اكتمل اجتمع، فإذا هو ثعبان، فطوق علي البيت، فقال: قلتُ: باسم الله، فاختفى عني، وكأنه احترق، فأتيتُ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقلتُ له، قال: {ذاك جان، فإذا أحسست به فاذكر الله، واقرأ شيئاً من القرآن؛ فإنه سوف يحترق} هذا الحديث أورده البيهقي في دلائل النبوة، لمن أراد أن يراجع هذه القصص وغيرها.
والآن نبدأ في تفصيل المسائل العشر المذكورة في صدر المحاضرة.(130/16)
مسائل عن الجن(130/17)
للجن حقيقة
المسألة الأولى: هل للجن حقيقة؟
نعم، من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن للجن حقيقة، وأنهم نفر، وأنهم أمة، وأنهم خلق من خلق الله، ومن كذَّب بالله بعد أن يعرف الآيات والأحاديث فقد كفر؛ لأن الله ذكر ذلك.
وبعض الناس يقولون: إن الجن ليس لهم حقيقة.
فالعلم المادي الغربي الآن لا يؤمن إلا بالمحسوس الملموس، ولذلك يكفرون بالجنة، فإذا أتيتَ بإنسان مصروع، تتكلم على لسانه امرأة، يقول لك: هذا مريض، فإذا قلت له: الصوت مختلف، قال لك: لا، ليس هناك جن، ما يتلبس أحد بأحد، لا نؤمن إلا بالمشهود.
فهؤلاء كفروا بالله عز وجل؛ لأن الله ذكرهم في أكثر من عشرة مواضع في القرآن، وذكرهم نبيه صلى الله عليه وسلم.(130/18)
الجن يتلبسون بالإنس
المسألة الثانية: هل يتلبس الجن بالإنس؟
مر معنا في مناسبات كثيرة، والصحيح: أنهم يتلبسون بالإنس.
لكن الذي ينفي هذا والذي لا يصدق والذي يجحد هذه المسألة من أن الجن يتلبسون بالإنس، ما حكمه؟ هل يكون كافراً؟ ولماذا؟
فإذا قلنا: إن حكم من يكفر أو يجحد وجود الجن كافر؟ فما هو حكم من يجحد تلبس الجن بالإنس؟
حكم من يجحد تلبس الجن بالإنس مخطئ، اجتهد وأخطأ في هذه المسألة، وليس بكافر، ولكنه أخطأ وغلط غلطاً بيناً.
لماذا قلنا في حكم جحود وجود الجن قلنا: إن الجاحد كافر، وإن جاحد التلبس ليس بكافر؟
لأن الله ذكر الجن في القرآن، ولكن ما ذكر في أدلة صريحة أنهم يتلبسون.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] مَن الذي يتخبطه الشيطان؟ هو المصروع.
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128] قال بعض العلماء: استمتع أناث الإنس برجال الجن، وأناث الجن برجال الإنس، أو كما قيل.
فمن أنكر ذلك فقد أخطأ وخالف الصواب، إلا بعد أن تبلغه الحجة، فهذا أمر آخر.(130/19)
الجن منهم مؤمنون وكافرون
المسألة الثالثة: هل من الجن مؤمنون وكافرون؟
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن:15].
فمسلمو الجن ثلاثة أقسام:
1 - مقتصدون.
2 - ظالمون لأنفسهم
3 - سابقون بالخيرات.
مثل الإنس، ومنهم الكفار.
هذه المسألة لا بد من فهمها.(130/20)
لم يرسل الله رسلاً من الجن
المسألة الرابعة: هل أرسل الله من الجن رسلاً، كما أرسَل من الإنس؟
هذه المسألة عند أهل العلم من ترف المسائل، ولن يسألنا الله يوم القيامة: هل أرسلنا من الجن رسلاً؟
وهذه مثل مسألة: هل أرسل الله من النساء رسولات؟
لأن الله أوحى إلى مريم، وأوحى إلى بعض الصالحات، فهل معنى ذلك أن الله أرسلهن؟
وما الدليل على عدم الإرسال أو الإرسال من النساء؟
هل هناك أدلة في القرآن تنفي أو تثبت أن الله أرسل رسلاً من النساء؟
فـ ابن حزم الظاهري صاحب المحلى يقول: أرسل الله من النساء رسلاً، ومريم أوحى الله إليها، فهي رسولة نبية، فهل نوافق ابن حزم على هذا، أم نخالفه؟ ومن يخالفه فعليه بالدليل.
الدليل على المخالفة: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] قال: رجالاً، ولم يقل نساءً.
والذي عليه جمهور أهل السنة: أن الله لم يرسل إلا رجالاً، وأما النساء فلم يرسل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى منهن رسولات؛ لضعف المرأة؛ ولأنها ليست صاحبة قوامة؛ ولأن تكوينها لا يقوم بأعباء الرسالة؛ ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة}.
فمن هذا الجانب -بارك الله فيكم- لم يرسل الله امرأة، وقد ادعت سجاح أن الله أرسلها، والتقى بها مسيلمة الكذاب، التقى بالكذابة، حتى إن شاعر قبيلة سجاح يقول:
أضحت نبيتُنا أنثى يُطاف بها وأصبحت أنبياءُ الناس ذُكرانا
يقول: ليتها لمَّا ادعت النبوة كانت ذكراً، لكنها كذابة وأنثى.
وأما من الجن فلم يرسل الله منهم أحداً -كما علمنا- وإنما أرسل من الإنس؛ لأنه قال لما ذكر رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ} [الإسراء:88] {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] إلى غير تلك من الآيات.(130/21)
دخول الجن إلى الجنة
المسألة الخامسة: هل يدخل الجن الجنة؟ أم أن لهم جنة أخرى؟ وكيف يتنعمون؟
هل هناك دليل في القرآن على أنهم يدخلون الجنة؟ أي: يتنعمون، ويشربون من الأنهار، ويجلسون على الأرائك، ويسكنون القصور، هل هناك أدلة في القرآن تثبت أن الجن يدخلون الجنة؟
سئل ابن تيمية بهذا السؤال؛ لكن قبل إجابة ابن تيمية، نحب أن نسمع إشراقات وإبداعات من بعض الإخوة الحاضرين في هذه المسألة.
من هذه الإشراقات والإبداعات: قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56].
وهو نفسه الجواب الصحيح.
فـ ابن تيمية رحمه الله يقول: لم يذكر في القرآن ولا في السنة أنهم يدخلون أو لا يدخلون؛ ولكن ذكر الله في سورة الرحمن قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56].
فعلم من هذا أنهم يدخلون؛ لأنه لا يُنْفى إلا عن شيء موجود، أي: أنهم وجدوا؛ لكن الطمث لم يقع على النساء من الجان، هذه مسألة.(130/22)
عدد لقاءات النبي بالجن
المسألة السادسة: كم لقي الرسول صلى الله عليه وسلم الجن؟ مرة، أم مرتين، أم أكثر من مرة؟
الذي عُلم لدينا -والله أعلم- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لقيهم مرتين.
وأما أن يلقى أحدهم: فهذا موجود، وهم يتمثلون بالقطط والكلاب والثعابين، وبعض الأحياء؛ لأن الله أعطاهم القدرة على التَّمَثُّل أو التَّقَمُّص لشخصيات أو غيرها.
الشيطان تمثل يوم بدر في صورة شيخ من أهل نجد، لحيته طويلة، شعره مسرح، وعليه عمامة، وجاء يخطب في كفار قريش، ويقول الله في القرآن الكريم: {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} [الأنفال:48] لما رأى السيوف الحمراء تقطر دماً في أيدي المهاجرين والأنصار فَرَّ إلى حيث ألقَتْ رَحْلها أمُّ قَشْعَمِ.
لقد رحل الحمار بأمِّ عمروٍ فلا رجعَتْ ولا رجع الحمارُ
ولذلك يبحثون عنه، وما وجدوه {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16] ما أعجب هذا الخوف!! أقبح من وجه صاحبه.(130/23)
طعام الجنة وطعام دوابهم
المسألة السابعة: ما هو طعام الجن؟ وما هو طعام دوابهم؟ وما حكم ذلك؟
عندنا في الإسلام -بارك الله فيكم- لا يجوز الاستنجاء بالعظم ولا بالروث؛ لأنه طعام الجن ودوابهم، ونهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهذا مسألة ثابتة في حديث أبي قتادة وسلمان في صحيح مسلم , وغيره من الأحاديث.
وعند الدارقطني: {ائتني بغيرها} ففي الحديث: يقول الراوي: أتيتُ بروثة فألقاها صلى الله عليه وسلم وقال: {إنها رِكْس} أي: نجس، وقال: {ائتني بغيرها} عليه أفضل الصلاة والسلام.(130/24)
ما صحة حضور ابن مسعود مع النبي إلى الجن؟
هل حضر ابن مسعود ليلة الجن؟
قلنا لكم: إن ابن مسعود قال في سنن الترمذي: أتيتُ بإداوَة، وطلب صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ، فقلتُ: فيها نبيذ، فقال: {ثمرة طيبة، وماء طهور} فتوضأ صلى الله عليه وسلم، وقال في صحيح مسلم: {ما كان أحدٌ منا مع الرسول عليه الصلاة والسلام}.
فكيف نجمع بين الحديثَين؟
نقول: حديث الترمذي حديث ضعيف، ليس بصحيح، في سنده: أبو زيد العِمِّي، وهو رجل مجهول الحال، وقيل: مجهول العين، ولم يصح.
وهذا دليل الأحناف، حيث استدل الأحناف بهذا الحديث الضعيف، على جواز التوضؤ بالنبيذ، سواء النبيذ أو ما في حكمه من الطاهرات، فإذا مَرَسْتَ التمر في الماء الحار، وأصبح نبيذاً تشربه فلك أن تتوضأ به، وعندهم يجوز لك أن تتوضأ -بإذن الله- بـ (اللبن) فإذا لم تجد ماءً فإنه يجوز لك أن تأخذ علبة من ألبان مراعي -بحفظ الله ورعايته- وتتوضأ بها، وتأتي أبيض يوم تبيض وجوه وتسودُّ وجوه، وإذا لم تجد لبناً، جاز لك أن تأتي إلى الماء الطاهر في (الميراندا) أو (البيبسي) فتتوضأ به أو تغتسل؛ لأنها من الطاهرات، أو تبرد لك (الشاي) ثم بعد أن يبرد تتوضأ به، وتستاك به بعد أن تتمضمض وتستنشق وتستنثر.
هذا عندهم.
لماذا؟ لاستنادهم على هذا الحديث.
وابن مسعود كوفي، والحديث عندهم وصل؛ ولكن أهل الحديث قالوا: لا.
فالحديث ليس بصحيح.
والله عز وجل يقول: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء:43].
فالماء في اللغة: كل ما أطلق عليه ماءً، بمعنى الماء، أما (اللبن) و (الشاي) و (العطر) فهذه كلها ليست بماء.
فلا نقول: هو طاهر؛ لأنه ما مسته نجاسة؛ لا، بل نقول: ليس بماء، فأنت إذا لم تجد ماءً فتوكل على الله وتيمم؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ما أحالنا إلى غير التيمم، إنما قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء:43].
أما حديث ابن مسعود، فقد قلتُ لكم: إنه ضعيف؛ لسببين:
الأول: في سنده لـ أبي زيد العِمِّي.
الثاني: لأن ابن مسعود يقول في صحيح مسلم، لما سئل: {هل كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ منكم ليلة الجن؟ قال: لا.
ما كان معه أحدٌ منا} فلْيُعْلَم ذلك.
واعلموا أن النبيذ لا يُتَوَضَّأ به، ولو أن بعض الأحناف وكثيراً منهم يقولون ذلك، وهذه مسألة مرجوحة.(130/25)
مسائل عن الشيطان
المسألة التاسعة: هل الشيطان من الجن؟(130/26)
أصل الشيطان
نسبُ الشيطان من الجن، فأجداده من الجن، وليسوا من الإنس.
قال تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] وقال تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] وهو خلق الشيطان، فأصل الشيطان من الجن.
وأنتم لا يهمكم أن تعرفوا نسب الشيطان، ولا أسرته، ولا قبيلته، ولا جده، ولا خاله؛ ولكن أهم ما يجب أن نعرف عن الشيطان ثلاثة أمور:
الأمر الأول: لماذا خلقه الله؟
الأمر الثاني: ماذا يفعل بنا؟
الأمر الثالث: كيف نتقي منه؟
وهاكم التفصيل:(130/27)
سبب خلق الله الشيطان
خلق الله الشيطان لحكمة جليلة؛ لأن الله خلق الجنة وخلق النار، فلو لم يخلق الشيطان ما دخل النار أحد؛ لكن ليبتلي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(130/28)
عمل الشيطان
الشيطان يترصد بنا الدوائر، وهو يرصد لنا في كل لحظة وفي كل نَفَس، وهو جاثم على قلبك، إذا ذكرتَ اللهَ خَنَسَ أي: سكت، وإذا سكتَّ بدأ يوسوس، جاء كسُمِّ الحية على قلب الإنسان، وهو يأتي بالحبائل والوساوس والخطرات، ولا مَنْجَى منه إلا بحروز عشرة، سوف تأتي.(130/29)
موقفنا من الشيطان
موقفنا أن نحاربه بشتى الأسلحة والوسائل، منها:
1 - العقيدة: وهي التوحيد، وهي سلاح يهزم الشيطان.
2 - العمل الصالح.
3 - الحال الطيب.
4 - الكلام الطيب.
هذه كلها تتعاون على حرب الشيطان.(130/30)
الحروز من الشيطان
المسألة العاشرة: ما هي الحروز العشرة التي نحترز بها من الجان والشياطين؟
اسمعوا إلى هذه الحروز، وانقلوها إلى أهلكم وأسركم وأطفالكم وجيرانكم، علَّ الله أن ينفعنا وإياكم بها.(130/31)
الحرز الأول: الوضوء
أوصيكم ونفسي أن يكون المسلم دائماً على وضوء، أن يكون كلما خرج من بيته طاهراً، سواء في وقت صلاة أو في غير وقت صلاة.
فأكبر حرز -وهو سلاح المؤمن- الوضوء، ولن يقترب منك شيطان وأنت متوضئ، ولن تغضب -بإذن الله- بل لا يأتيك الغضب إلا نادراً ما كنت على وضوء.
غضب رجل عند الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: {إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم}.
وقال صلى الله عليه وسلم: {الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من النار، وإنما تُطْفأ النار بالماء، فإذا وجد أحدكم غضباً فليتوضأ}.
فمن غضب منكم على أهله أو على جيرانه، فليتوضأ؛ لأن الغضب جِبِلَّة، والإنسان ليس معصوماً وليس ملَكاً، فعليه أن يذهب إلى الماء ليتوضأ حتى يُبَرِّد جسمه، وإذا كان واقفاً أن يجلس، وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، علَّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهديه سواء السبيل.
فأول حرز: الوضوء.
سئل ابن تيمية عن المخارج للذين أصيبوا بمرض الوَلَه، والعشق، والجن، والوسوسة، قال: منها الوضوء، فالله، الله في هذا العلاج.(130/32)
الحرز الثاني: التسمية
أن تدخل بيتك فتُسمي، وتأكل الطعام فتُسمي، وتشرب الشراب فتُسمي، وتتوضأ فتُسمي، وتذبح فتُسمي، فإذا سَمَّيْتَ لا يقربك شيطان أبداً.
في صحيح مسلم عن جابر في حديث ما معناه: {إذا دخل أحدكم بيته، فإذا اقترب من طعامه سمَّى، قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم، ولا طعام -حُرموا العشاء تلك الليلة، وأُخْرِجُوا من البيت- وأما إذا دخل فلم يسم قال الشيطان لأصحابه يبشرهم: أدركتم المبيت} أي: حصل المبيت والسكن {وإذا سمى وذكر: قال: ولا عشاء لكم} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
أما إذا سمى بعد فترة، فإن الشيطان يأكل معه قليلاً قبل التسمية، أمَّا بَعْد التسمية فإنه يذهب.
لكن الحل في هذا: أنك إذا تعشيت أن تقول: باسم الله في أوله وفي آخره، فإذا قلتَ تقيأ ما وجَدَ، ورد الله بركة الطعام.
إنها حكمة بالغة من الله عز وجل، فتقول: باسم الله أوله وآخره.
يقال: إن أحد الناس كان من دعائه بعد الطعام قوله: "أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة" فلما استُضِيْفَ قال بعد الغداء وهو يغسل يديه: أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة إلا جبريل، فقيل له: لماذا؟ قال: حتى نشرب الشاي.
فالمقصود -بارك الله فيكم- أن الشيطان ملابسٌ للإنسان، والشاهد: ملابسته للإنسان في الدخول إلى البيت، والطعام، والمسكن.(130/33)
الحرز الثالث: التعوذ بالله من الشيطان الرجيم
في حديث سليمان بن صرد في صحيح البخاري قال: تسابَّ رجلان عند الرسول عليه الصلاة والسلام حتى احمر وجه أحدهما، وانتفخت أوداجه، فقال عليه الصلاة والسلام: {إني لأعلم كلمة لو قالها؛ لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لذهب عنه ما يجد} فقيل له بذلك، فقال: أمجنون أنا؟! يقصد: هل هو مجنون حتى يتعوذ؟!(130/34)
الحرز الرابع: آية الكرسي
آية الكرسي آية عظيمة، وأطالب نفسي وإياكم بحفظها وتحفيظها أبناءكم وأهلكم، وقولوها عند النوم وفي الصباح وأدبار الصلوات، فإنها من أعظم الحروز بإذن الله.
والبيت الذي تُقرأ فيه لا يقربه شيطان أبداً، فعلى المسلم أن يعتني بهذه الآية.
وابن تيمية يذكر ويقول: "إذا رأى المسلم شبحاً في الظلام وخاف منه، فليقرأ آية الكرسي، فإنه سوف يَدِين له إن كان إنسياً أو جاناً"؛ لأن الجان يحترق من آية الكرسي، تنزل عليه قواصف وقنابل فتزيله عن الأرض.(130/35)
الحرز الخامس: المعوذتان
وهما: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1].
وعن عقبة بن عامر: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أوصاه أن يقرأ بهما بعد كل صلاة، وهما: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] قال عقبة بن عامر: {قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما رأيتَ سورتين أنْزِلَتا عليَّ لم يتعوذ المتعوذون بمثلهما: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] قال: فلما حضرت صلاة المغرب، قام صلى الله عليه وسلم فسمعتُه يقرأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]}.
وكان صلى الله عليه وسلم يَرْقِي الحسن والحسين، فلما أنزل الله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ترك هذه الرُّقَى، واكتفى بهاتين السورتين.
فهي من أعظم ما يُقرأ على الأطفال، وفي البيت، وعند النوم، وعند القيام من النوم.
وتنفع هاتان السورتان من: الجان، والسحر، والعين ومن كل مرض -بإذن الله- حتى المرض والوجع في الجسم لك أن تَرْقِي جسمَك، وتَقرأ عليه وتنفث.
فكما في حديث عائشة قالت: {كان صلى الله عليه وسلم إذا مرض نفث على جسمه، وقرأ المعوذات، ومسح ما استطاع من جسمه، فلما اشتد وجعه كنتُ أنفث في يده عليه الصلاة والسلام لبركتها، وأمسح على جسمه، وأقرأ المعوذات، فأخذ يسحب يده عليه الصلاة والسلام ويقول: بل الرفيق الأعلى، -أي: ما أصبح هناك للعلاج استطاعة، ومعناه: أنه لا يريد الحياة- بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى عليه أفضل الصلاة والسلام، فقالت: خُيِّرْتَ واخترتَ يا رسول الله}.(130/36)
الحرز السادس: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء)
تُقَال ثلاث مرات، ففي سنن الترمذي: {من قال حين يصبح وحين يمسي: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم ثلاث مرات، لم يمسه سوء ذاك اليوم}.(130/37)
الحرز السابع: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)
من قالها لم يقربه سوء تلك الليلة.
راوي الحديث في هذا اسمه: حصين بن عبد الرحمن، قال: {سمعتُ الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: من قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاث مرات في ليلة، لم يمسه تلك الليلة سوء} ففي ليلة لدغته عقرب، فقيل له: [[أين الحديث الذي رويتَه لنا وقد لدغَتْك العقرب؟ قال: والله الذي لا إله إلا هو ما قلتُها هذه الليلة]].
ثم عوضه الله عز وجل أن قرأ: {أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق} على لدغة العقرب، فما وجد فيها ألماً ولا ضراً أبداً.
ولله حِكَم أن يذكر العبد وينسيه؛ لكن لكل مسلم وقت يذكر فيه من الأدعية، مثل: بعد صلاة الفجر، حتى يحفظه الله، ويحفظ أسرته وأولاده، ويحفظ عليه إيمانه؛ لأن الحافظ المسدد هو الله.
والإنسان إذا تُرِك ونفسه ضاع في الدنيا والآخرة وضيع أطفاله، لأن الشؤم يسري في الأطفال وفي الذرية، نعوذ بالله من ذلك.(130/38)
الحرز الثامن: التهليل مائة تهليلة
وهذه من الحروز التي ذكرها ابن القيم في بدائع الفوائد.
ففي صحيح البخاري: عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة كُتِبَت له مائة حسنة} انظر إلى الأجور!
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمرانُ
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن سرور المال أحزانُ
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبتَ جسمك فيما فيه خسرانُ
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ
{من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كُتِبَت له مائة حسنة، ومُحِيَت عنه مائة سيئة، وكانت له عدل عشر رقاب من ولد إسماعيل، كأنه أعتق عشر رقاب من ولد إسماعيل، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يُمْسي، ولم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحدٌ عمل بعمله أو زاد عليه}.
مائة (لا إله إلا الله) تأخذ عشر دقائق، وقيل: سبع، وقيل: ست.
وأوقاتنا تذهب سدىً في الفكاهات، وفي الطُّرَف، والمزاح، واللعب، والذهاب والإياب، وليتها في هذه وحسب؛ لكن في الغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، والوشاية بين الجيران والإخوان والعشائر والقبائل، وفي التناحر، والتكالب على الدنيا، فنسأل الله أن يحسن لنا وإياكم الحال.
فنحن كما قال الأحنف بن قيس عندما قال: [[عرضتُ نفسي على القرآن فوجدتُ الناس ثلاث فئات، وجدتُ أناساً في القرآن:
أبراراً: لستُ منهم.
أخياراً: يقول الله عنهم: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] وأنا لستُ منهم.
ووجدتُ طبقة أخرى: وهم كفار فجرة، يكذبون بالله واليوم الآخر، فلستُ منهم والحمد لله.
ووجدت نفسي عند قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102]]].
فنحن من هذا الصنف، نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم.(130/39)
الحرز التاسع: ذكر الله مطلقاً
وأوصيك ونفسي -أيها المسلم، يا من يريد الله والدار الآخرة- أن يكون لسانك رطباً من ذكر الله، وشفتَاك متحركة بالتسبيح والتهليل، لا تفتأ أبداً، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].
يقول عليه الصلاة والسلام -كما في سنن الترمذي، وسنده حسن- يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: {أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه}.
وأتى عبد الله بن بُسْر -كما عند الترمذي، بسند حسن- فقال: {يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فأخبرني بشيء أتشبث به؟ قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله}.
اذكر الله دائماً، وأنت في بيتك، وفي مكتبك، وسيارتك، تسجل من الحسنات والدرجات والصالحات ما لا يسجله الصائمون، ولا المتصدقون، ولا المجاهدون.
يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: {سيروا هذا جمدان سبق المُفَرِّدُون، قيل: وما المُفَرِّدُون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات}.(130/40)
الحرز العاشر: قراءة سورة البقرة في البيت
وهذا الحرز نختتم به، فبيت تُقرأ فيه سورة البقرة لا يقربه شيطان.
والقرآن عموماً؛ ليكن مصحفك في بيتك، لتكن آيات الله عز وجل ولو قَلَّتْ تدورُ في بيتك، ولو شيئاً قليلاً من القرآن تقرؤه قبل النوم كالمعوذات يفتح الله عليك به.(130/41)
أقسام شباب الإسلام في الوقت الحاضر
أريد في هذه الجلسة القصيرة أن أنبه على مسألة طريفة، ولا بد أن يُتَنَبَّه إليها، وأن تُعرض عرضاً جيداً، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية.
هذه المسألة: هي مسألة ما قد يوجد في بعض المجتمعات من بعض التشدد في بعض الأمور، حتى يخرج هذا التشدد بصاحبه عن السنة، ودين الله عز وجل وسط بين الغالي والجافي، والله عز وجل يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] والرسول عليه الصلاة والسلام كان ينهج النهج الوسط، في عبادته، وتعامله، ومأكله، وملبسه.
والذي يُلاحَظ في شباب الأمة الإسلامية أنهم الآن ثلاثة أقسام:(130/42)
القسم الأول: لا يعرفون من الإسلام شيئاً
قِسمٌ هَمُّهم: الذهاب والإياب والضياع، لا يعرفون ذكراً، ولا قرآناً، ولا حديثاً، ولا تفقه في الدين، لا بناية مستقبل على ما يرضي الله عز وجل، لا غضباً على محارم الله؛ لكن إن صلوا فبها ونعمت، وإن تركوا فبها ونعمت أيضاً، الأمر سيان عندهم، أهم شيء عندهم أن يشبعوا غرائزهم وجِماحَهم وطموحاتهم، وأن يشبعوا شهواتهم، وأن يحسنوا هندامهم، وأن يعيشوا على هامش الأحداث.
هذا القسم الأول.(130/43)
القسم الثاني: قسم شدد على نفسه
وقِسْمٌ قالوا لمن قبلهم: أخطأتم كل الخطأ، هذا ليس من الدين، وقد انفسختم من الدين، الدين أن تظهروا بما ظهرنا به، فأتوا فأكثروا على أنفسهم في العبادة، وهو شيء محمود؛ لكن ليس المقصود من العبادة هو التشديد على النفس وقتل النفس.
ثم أتوا ببعض المسائل التي هي من السنة، فأقاموا الدنيا وأقعدوها على هذه الأمور، فالناس يكبرون تكبيرة، ويكبرون هم اثنتين، ويتوضأ الناس ثلاثاً، وهم يتوضئون أربعاً، ويستنشق الناس ثلاثاً ويستنشقون أربعاً، ويضع الناس أيديهم على صدورهم في الضم في الصلاة، ويضعون هم أيديهم في حلوقهم، وإزرة المؤمن إلى نصف الساق، فيجعلونها إلى الركبة.
ثم يظن بعضهم أن معنى الإسلام: أنك تظهر بمظهر التقشف، وتُري الناس كأنك زاهد في مظهرك، الثوب -الحمد لله- بخمسين ريالاً.
وبعضهم يأكل من الوجبات أكثر بكثير، ولكنه يُقْتِر على نفسه، وتجد عنده بيتاً طويلاً عريضاً، أو قصراً من القصور؛ ولكن إذا ظهر إلى الناس ظهر بثوب رخيص، ولماذا تظهر للناس كذلك؟ حتى يشيروا بأنك زاهد؟!
نحن أمة جميلة، الله جميل يحب الجمال، الله طيب يحب الطيب، جَمَّل الكون سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، حتى السماء ما جعلها مظلمة، جعل فيها كواكب، جعل فيها نجوماً، أبدع سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حتى إنك تدخل البستان الواحد وفيه الحدائق الغناء والورود والزهور، وتسمع صرير الطيور وخرير الماء.
فلماذا لا يكون الإنسان جميلاً كما كان صلى الله عليه وسلم جميلاًَ؟
هل من الأحسن أن يأتي الإنسان منفوش الرأس، غير مُسَوٍّ لغُتْرَتِه، ولا هندامه، ولا عليه ما يستره أمام الناس؟ ثم يأتي يرى أن كَيَّ الغترة وكيَّ الثوب يخرجه من السنة، معنى ذلك: أن يكون في فوضى، أنا لا أقصد فئة من الناس، وربما هم أفضل منا وأحسن وأعلم وأفقه، لكن نحاكمهم إلى السنة، إلى محمد عليه الصلاة والسلام.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلبس البُرْدَة الحَبِرَة بألف دينار، ويَتَبَدَّى أمام الناس، يَمُر من الشارع إلى الشارع الآخر، فتُشَمُّ رائحة المسك منه صلى الله عليه وسلم، يلبس أحسن ما يجد، وربما يتقشف أحياناً؛ لكن أن نظهر للناس ونقول: نحن زهاد، انظروا إلينا، انظروا إلى ثيابنا، انظروا إلى مساويكنا، انظروا كيف نصلي، فهذا ليس من الحكمة، هذا معناه: أننا نشهر بأنفسنا.
لماذا لا نكون وسطاً في أمورنا؟
وسطاً في عبادتنا؟
وسطاً في تعاملنا؟
وسطاً في أخذنا وعطائنا؟
لِعِلْمِكُم: الخوارج الذين خرجوا من الإسلام كانوا أكثر من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي صلاةًَ في الليل، وأكثر قراءة للقرآن، وأكثر صياماً.
يقول عليه الصلاة والسلام: {تحتقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية}.
لماذا؟ لأنهم ما عاشوا العلم.
فمَفاد العبادة: أنك تتزود من الحسنات فقط، ولكن العلم يُفَتِّح ذهنك، ويظهر لك تجارب الأمم، ويظهر لك المنقولات من الكتاب والسنة، ويظهر لك الخطأ من الصواب، فتكون على بصيرة، ولذلك بُعِث صلى الله عليه وسلم معلماً.
فهذا القسم أو هذا المسار لا يُحمَد، وليس مساراً طيباً، وقد طَوَّل ألْسِنَة المنافقين على أهل الخير والدعاة والأخيار.
حتى يقول هؤلاء المنافقون: انظروا إلى الإسلام، الإسلام تقصير الثوب إلى الركبة، والسواك بِطُوْل شِبْرَين، وعدم كَيِّ الغُتْرة، ووضع اليد في الحلق أثناء الضم في الصلاة، ثم تفريج الرجلين، حتى يكاد يسقط، إلا أن يتغمده الله برحمته، وإذا اقتربتَ منه في الصف في الصلاة شَدَّك حتى تسمع لثوبه قعقعة، وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: {استوُوا} فكان الناس يَسْتَوُون سواءً فإذا سجد مد نفسه حتى يصل إلى آخر الجدار، فإذا أراد أن يرجع أعانه الله عز وجل على الرجوع للركعة الثانية.
فهذا ليس بشيء، ونتحاكم إلى السنة، وهذه كتب الحديث أمامنا أيها الإخوة.
فذاك الصنف الذي ضيع الإسلام، وعاش على المجلة الماجنة والأغنية الماجنة، ضاع في الدنيا والآخرة.
وهذا الصنف أظهر أن الإسلام يكمن في صورته هو، وأنه مع الإسلام، وأن الإسلام ليس بجميل، وأن معناه: أن تقطب وجهك، وأن تغضب، وإذا سلمت على الناس لا تتبسم؛ لأن التبسم يخالف الزهد والورع والوقار.
كان ابن سيرين يضحك في النهار حتى يتمايل، فإذا أتى الليل بكى حتى يسمع الجيران بكاءه من خشية الله.
وكان أشرف الرسل عليه الصلاة والسلام إذا لقي الناس يتبسم، حتى أن أبا هريرة يقول: {والذي نفسي بيده لوجهه كأنه البدر ليلة أربعة عشر} ويقول أيضاً: {كأن الشمس تجري في وجهه} , ويقول جرير بن عبد الله: {ما رآني إلا تبسم في وجهي}.
وعائشة رأت شباباً يَنْضُون، أي: يَتَماوَتُون، رأتهم وهم ماشُون في الطريق وهم ينكسون رءوسهم، ويمشون بالهدوء، كأنهم نملة على الأرض، يسبحون، ويتنحنحون، فأشرفت عليهم، فقالت: مَن هؤلاء؟ قالوا: عُبَّاد، قالت: عليَّ بهم، فأتوا، وهم شباب بادئون، فلما اقتربوا منها، قالت: مَن أنتم؟ قالوا: عُبَّاد ونُسَّاك، قالت: كذبتم، -والله- لكان عمر أعبد منكم، وأنسك، وأخشى لله، كان إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع.(130/44)
القسم الثالث: أهل الوسط
فالوسط: هم فئة وجدت في الأمة الإسلامية، وهم -إن شاء الله- نحسبهم هؤلاء الحضور بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهم الذين يتفقهون في علم الكتاب والسنة، ويعيشون السنة التي أرادها صلى الله عليه وسلم، وإظهارها للناس بمحاسنها ومحامدها.
فلا تظنوا كلامي -والله أعلم بما في القلوب- أنه يدعو إلى التساهل في الأمور، ويدعو إلى عدم الخشية في الصلاة، وإلى عدم التقشف والزهد، فكلٌّ حسيبه الله عز وجل؛ لكننا نتعامل مع الكتاب والسنة، ونقرأ أحوال السلف، حتى أن ابن الجوزي قال: لا تغتر بمن بعد التابعين من الزهاد.
من يقرأ تراجم (حلية الأولياء) لـ أبي نُعيم يظن أن الإسلام معناه: أن تبقى في زاوية تبكي أربعاً وعشرين ساعة، وألا تأكل الطعام.
حتى إن أحد المتصوفة يقول: أين أنتم عني وأنا ما أكلتُ الرُّطَب أربعين سنة؟ والرطب: البلح.
ومن ذا قال له: لا يأكل أربعين سنة، والرسول صلى الله عليه وسلم أكله؟!
ويقول آخر: ما أكلتُ اللحم، ولن آكله.
لا يأكله، ومن أجبره حتى يأكله؟ بل ربما في الآخرة لن يأكل لحماً.
فالمقصود -بارك الله فيكم- أن هؤلاء أمْزِجَة، لكن: نتحاكم عند مَن؟ نتحاكم عند الرسول عليه الصلاة والسلام.
أتى رجل عند الإمام أحمد فقال: يا أبا عبد الله! الزواج خير، أو ترك الزواج أحسن؟ فقال: الزواج أفضل، قال: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} [آل عمران:39] أي: يمدحه بأنه لم يتزوج، يا إمام، إبراهيم بن أدهم ما تزوج، قال الإمام أحمد: أُوَّة؟ بمعنى: أنه يُحاكمه إلى إبراهيم بن أدهم، أحد الزهاد؟! رجعنا إلى بنيات الطريق، والرسول عليه الصلاة والسلام أكثر الأمة زوجات، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38].
فالتحاكم إلى رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
وأنا أحببتُ أن أخبر بهذا، وإلا فإنني أعلم أن من الدعاة من يوجهون المسيرة، وقد نبَّه بعض العلماء في مناسبات عن هذه المسائل، حتى نُظْهِرَ الإسلامَ في قوة، ونُظْهِرَه في عَظَمَة.
الإمام مالك يلبس بُرْدَة بخمسمائة دينار، فقالوا له: لماذا؟ فقال: لأُظْهِر عَظَمَة الإسلام.
وذكر صاحب طبقات الحنابلة، وعودوا إليه في المجلد الثالث، في ترجمة أبي إسماعيل الهروي، قال: كان يلبس اللباس العجيب، فقيل له: لماذا؟ قال: أريد أن أظهر عظمة (لا إله إلا الله)؛ لأن النصارى والخواجات إذا رأونا في هذه الملابس قالوا: هذا هو الإسلام الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم؟
فلذلك أنا أدعو نفسي وإياكم إلى تمعُّن هذا الأمر، وهو ليس بالأمر الذي يخفى على مثلكم؛ لكن وُجِدَ من يسيء فهمه في بعض المجتمعات.
أسأل الله لي ولكم القبول والتوفيق والهداية.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(130/45)
مصائب قوم عند قوم فوائد
المصائب لا بد منها ولا يسلم منها أي شخص، والذكي والفطن من يستفيد من تجارب غيره.
وكم من أناس أصابتهم المصائب بعد أن كانوا في عيش رغيد، ومن هؤلاء: ابن عباد ملك الأندلس، والبرامكة، وابن بقية رحمه الله ولا شك أن لذلك أسباباً منها: الظلم، كما فعل أحمد بن أبي دؤاد مع الإمام أحمد بن حنبل، وما فعل عبيد الله بن زياد مع الحسين بن علي، والجزاء من جنس العمل.(131/1)
المصائب لا يسلم منها أحد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
أيها الكرام: عنوان هذه المحاضرة: مصائب قوم عند قوم فوائد، ورقمها [302].
تعلمون أن مايصيب الناس من المصائب فيها فوائد وعظات للمتعظين، قيل لأحد الحكماء: نراك مستقيماً في أمرك مسدداً في حالك، قال: رأيت السيئ فاجتنبت إساءته.(131/2)
أخذ العبرة من مصائب الآخرين
وذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه يصيب الأقوام ليتعظوا، وألمح سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن من الظلمة من يسكن مكان الظلمة ثم لا يتعظ، قال عز وجل وهو يلوم الكفار والمنافقين والمنحرفين: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم:45] ومعنى الآية، أن الأبناء سكنوا في أماكن الآباء والآباء في أماكن الأجداد، وقد هلك قرن وأتى قرن، فما اتعظ هذا الحي بما أصاب الميت.
واسمع إلى الآية: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [إبراهيم:45] نزلتم قصورهم، وسكنتم دورهم، وورثتم أملاكهم، فما لكم ما اتعظتم بما وقع عليهم، أوَ ما كان هذا لكم نذير؟! {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم:45] ولكن لم يتعظوا بالمثل، ولم يستفيدوا بالتجربة، والتجارب هذه إنما تستفاد من مصائب وحياة الناس، وقد علق البخاري من كلام معاوية رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: [[لا حكيم إلا ذو تجربة]] وهذا في باب الأدب في صحيح البخاري.
وهي مدرسة الحياة، قال سفيان الثوري رحمه الله رحمة واسعة: "لاعب ابنك سبعاً، وأدبه سبعاً، وصاحبه سبعاً، ثم اتركه مع التجارب" أي: لاعبه حتى يصل إلى السابعة، ثم أدبه من السابعة إلى الرابعة عشرة، ثم من الرابعة عشرة سنة إلى الواحدة والعشرين سنة صاحبه ثم بعد الواحدة والعشرين اتركه مع تجارب الدنيا، يصاب ويصيب، ويأتيه من الأخبار الأمور ما تجعله ملقناً، مجرباً، حكيماً، إذا كان ذو عقل.
تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: {كان الرسول عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يتمثل بقول طرفة بن العبد}
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود
والرسول عليه الصلاة والسلام لا يحفظ إلا بيتين، أو أكثر قليلاً، وإلا فهو يحفظ القرآن عن ظهر قلب، لا يسقط منه حرفاً واحداً، ويحفظ السنة، والعلوم التي عند الأمة لا تصل إلى ذرة من علمه عليه الصلاة والسلام، ولكن يقول الله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] تراثه غير الشعر، فيقول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود
يعني: سوف تظهر لك الليالي والساعات أخباراً وعجائب، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] أي: مرة رخاء ومرة شدة، ومرة سلم، ومرة حرب، وما وقع في هذه الأيام، اتعاظ ودرس لمن لم يقع عليهم شيء، قال: سبحانه: {(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ} [الأحقاف:27] أي انظروا إلى القريبين منكم، وانظروا إلى حدودكم، كيف أوقعنا بهم المصائب، ألكم أنتم عهد عند الله ألا يقع عليكم مصيبة! {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27] ويقول الناظم:
إياك أعني واسمعي يا جارة، يُقال أن سبب هذا المثل: أن صياداً خرج بقوسه يصيد حماماً، وأحمق الحيوانات الحمام، حتى ذكر الجاحظ صاحب كتاب الحيوان أن أحمق الحيوانات الحمام، وأحقد الحيوانات الجمال، وأخونها الثعالب، قال: فسدد الرجل على الحمام ليضربها، وأخذت تصيح، فقالت أختها تسكتها: إن البلاء موكل بالمنطق، فضربها الصياد، فقالت وهي تموت: يالها من سكتة فاتتني، والمقصود من هذا: أن هذا جزاء من لم يتعظ بجيرانه، وما حدث لإخوانه، يقول ابن القيم مما يحفظ للعرب من الأمثال: أنهم قالوا: "في كل وادٍ بنو سعد" وقالوا: " هل رأيت داراً ملئت حبرة وما ملئت عبرة؟ "
وإذا رأيت الدور تمتليء غنىً وبهجةً وترفاً، ثم لا يتصل أصحابها بالله، فاعلم أنه سوف تصيبهم كوارث، وما امتلأت دار حبرة إلا امتلأت عبرة، وسبب المثل "في كل وادٍ بنو سعد": أن رجلاً من العرب ضيع جمله، فذهب يبحث عن الجمل، فنزل بوادٍ فقال: ممن القوم؟ قالوا: من بني سعد، وذهب إلى الوادي الآخر وقال ممن القوم؟ قالوا: من بني سعد، والوادي الثالث قالوا: من بنو بني سعد، قال: في كل وادٍ بنو سعد، فمقصود ابن القيم أن كل إنسان تأتيه لطمة.
وهذا قضاء الله وقدره، ولا يسلم من الكوارث أحد، إما في الدين أو في العرض بالسكنى أو بالتعليم، وهذا أمر حاصل في حياة الناس، ولكن المسلم يختلف عن الآخر أنه: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24].(131/3)
أهمية الصبر عند المصائب
يقول الشاعر العربي:
صابر الصبر فاستجار به الصبر فقال الصبور للصبر صبراً
ما معنى البيت؟
يقول: هذا البطل صابر كثيراً، حتى قال له الصبر من طول صبر الرجل: أرجوك لا أستطيع أن أصبر معك، قال: فغلب هذا الرجل الصبر، قال:
صابر الصبر فاستجار به الصبر فقال الصبور للصبر صبراً
قالوا لـ عنترة بن شداد: كيف غلبت الرجال؟
عنترة جاهلي كان يحطم رءوس الأبطال في المعركة فقال للرجل: ضع أصبعك في فمي فوضعها، قال: وخذ أصبعي في فمك، وكل منا يعض الآخر، فأخذ يعض هذا هذا، وهذا هذا، حتى صرخ الرجل: فأطلق يده، فقال: بهذا غلبت الرجال، أي: بالصبر.
يقول النابغة الجعدي للرسول عليه الصلاة والسلام وهو يمدح قومه:
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكنا كنا على الموت أصبرا
يقول: إن القبائل التي نحاربها قبائل شجعان وأبطال وفيهم شهامة، ولكن نحن أصبر منهم: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فيقول: يا رسول الله! نحن نقاتل الشجعان لكن نصبر قليلاً فنغلبهم، فتبسم عليه الصلاة والسلام لما سمع هذا الكلام العجيب.
على كل حال يقول سبحانه في العبر والقصص التي تحدث على الناس {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] ونريد أن نحلل الأحداث التي وقعت في منطقتنا، ومن رؤية إسلامية، تحليل الكتاب والسنة، لنستفيد من الحدث، ولئلا نقع في الخطأ، لعل الله أن يحرس علينا بلادنا، وأعراضنا وأموالنا، وأن يرد إخواننا إلى بلادهم ورسالتهم وأعراضهم.
أول درس: أن عليك أن تنظر إلى الخطأ، الذي أخطأ فيه الناس فتجتنبه، جاء في كتب أطروحات الأدب: أن رجلاً رأى وزيراً من الوزراء في عهد بني العباس، وهذا الوزير تولى أبوه قبله الوزارة فقتل، وقبله جده فقتل، فتولى الوزارة، فقال هذا الرجل: سبحان الله تولى الوزير؟!
قالوا: نعم.
تولى مع أنه يعلم أنا أباه وجده قتلا، قال: حماري أذكى منه، قالوا: كيف؟
قال: عثر حماري العام الأول قبل سنة في مكان، فلما أتيت إلى ذلك المكان انصرف منه.
أي: مع أن الحمار وهو أبلد الحيوانات، إذا عثر في مكان اجتنبه مرة ثانية، ومما يحكى في كتاب كليلة ودمنة: أن الأسد جمع الحيوانات فألقى عليها فكاهة وطرفة، فضحكت إلا الحمار ضحك بعد ثلاثة أيام، قالوا: لماذا لم تضحك إلا اليوم؟
قال: ما فهمت الفكاهة إلا الآن! هذا من الكلام الذي يقال.
سوف أذكر لكم كلام علي وكلام عثمان في مسألة هذه الوحوش.
يقولون: جمع الأسد الوحوش وقال: اذهبوا وصيدوا لي صيداً فذهبوا فصادوا أرنباً وظبياً وغزالاً، وأتوا بها إليه، فقال: من يقسمها بيننا؟
والأسد تعرفونه وقد ذكره الله في القرآن، وله مائة اسم وهو أشجع حيوانات الغابة على الإطلاق، يسمى الملك.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:50 - 51] والأسد اسمه حيدرة ولذلك يقول علي بن أبي طالب.
أنا الذي سمتني أمي حيدرة كليث غابات كريه المنظرة
قال: من يقسم بيننا الأرنب والغزال والظبي، فقال الذئب: أنا.
قال: تفضل، لكنه أخطأ؛ لأنه لا يعرف أنه مع وحش سفاح، فقال له: أما الغزال فلك، قال: طيب، وأما الظبي فلي -للذئب- والأرنب للثعلب، قال: كذبت يا عدو الله، ثم أخذ مخلبه وأنشبه في رأس الذئب فخلع رأسه في الأرض، قال: من يقسم بيننا؟
قال: الثعلب أنا -أبو معاوية- قال: تفضل، قال: الأرنب فطور لك، والظبي غداء لك، والغزال عشاء لك، قال: من علمك هذه الحكمة، قال: رأس الذئب المخلوع.
فالمقصود: أن الإنسان يتعلم دروساً من الزمن، وهذه من الحكم التي يلقيها العلماء، وتجد بعض الناس يقول: ما فائدة هذا المثل؟ وهو ليس في صحيح البخاري ولا صحيح مسلم؟
فكتاب كليلة ودمنة ألفه أحد الحكماء، إن ملكاً من الملوك طلب من أحد الحكماء أن يكتب له نصائح، فبدلاً من أن يتحدث عنه وعن حاشيته، تحدث عن الحيوانات، ثم أعطاه المجلد يقرؤه، ليكون له رواج عنده، على كل حال هذه من العظات حتى لا تقع في الخطأ الذي وقع فيه غيرك، وأن تتنبه لها، فإن مصائب قوم عند قوم فوائد.
واعلموا أنه لا يسلم من النكبات أحد، يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله وقد ذهب يجاهد في سبيل الله فرأى قصراً للأمير عبد الله بن طاهر في خراسان فقال: والله لقصيدة عدي بن زيد خير عندي من هذا القصر، تدري ماذا يقول عدي بن زيد، وهو جاهلي يقول:
أيها الشامت المعير بالدهر أأنت المبرأ الموفور
يقول: يا من يعيرنا! يا من يسبنا بالنكبات والمصائب! انتظر قليلاً، بعض الناس شامت والعياذ بالله، يشمت بإخوانه أنهم أصيبوا في أعراضهم، وأموالهم، ودورهم، وقصورهم، فيقول:
أيها الشامت المعير بالدهر أأنت المبرأ الموفور
من رأيت المنون خلفن أم من ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملوك أنو شروان أم أين قبله سابور
إلى آخر ماقال، يقول: أين الناس؟ أين السلاطين؟
لماذا تعير الناس؟ أعندك عهد من الله ألا تصيبك مصيبة؟
هذا عدي بن زيد كان جاهلياً لكنه كان عاقلاً لم يكن يشرب الخمر.
نزل مع النعمان بن المنذر ملك العراق، فلما نزلوا أخذ النعمان بن المنذر يشرب الخمر، قال: أيها الملك أبيتُ اللعنة -وهذه كلمة استئذان عند الملوك في الجاهلية، أبيت اللعن- أي: اسمح لي أن أتكلم -قال: تفضل، قال: أتدري ماذا تقول هذه الشجرة؟ قال: تقول:
رب ركب قد أناخوا حولنا يخلطون الخمر بالماء الزلال
قد مضوا عاماً وعاماً ثانياً ثم ساروا جثثاً تحت الرمال
فبكى النعمان وترك الخمر، وهذه من الحكمة في الموعظة، يقول: تقول الشجرة، والشجرة لا تتكلم لكنه أخبره أنها تقول: قد جلس قبلك ملوك شربوا الخمر، وأصبحوا تحت الرمال أخذهم هادم اللذات، وآخذ البنين والبنات، ومشتت الجماعات.
قدموا كوباً من فخَّار -آنية- هذا الذي يصنع من الطين، فيه ماء بارد لـ علي بن أبي طالب، فنظر في الكوب، قالوا: مالك يا أمير المؤمنين؟
قال: كم في هذا الكوب من طرف كحيل، وخد أسيل!
ومعنى كلامه: إن جثث الناس التي أصبحت في الطين، ربما صاغوها في هذا الكوب الفخار من الطين، ويمكن أن عيون الآباء والأجداد أصبحت هنا، وأن بعض لحومهم أصبحت في هذا الكوب، ولذلك يقول أبو العلاء المعري:
صاح هذه قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
يقول: أنت تقول: قبورك تملأ الرحب، لكن أين قبور القرون السالفة، أين القرون التي ذهبت، أين هم؟!
ما نحن في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، يقول فرعون المجرم لموسى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه:51] انظر إلى السؤال الخائب، يقول: أين القرون الأولى أين أجدادنا؟
أنت تقول: يبعثهم الله فأين هم؟!
من يبعثهم؟! قال موسى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52] هل سمعت أفصح من هذا الكلام؟ {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52] وسوف يبعثهم ويحاسبهم.
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شيء(131/4)
نماذج من أهل المصائب
ما من دولة من دول الإسلام ولا مجتمع إلا أصيب بمصيبة.(131/5)
مصيبة ابن عباد ملك الأندلس
ابن عباد هذا ملك الأندلس كان عنده من الحدائق والقصور ما الله به عليم، يقولون: كان يسكن في إشبيليا وله منازل في قرطبة، قالوا: كان نصف المدينة له والنصف الآخر للناس، ونذرت امرأته نذراً، أن تحمل الماء وأن تطأ في الطين -يعني: من باب الترف- يعني: تذكرت أحوال الفقراء وهي امرأة ملك، فنذرت وحلفت أن تنزل وتحمل الماء في القرب وتطأ في الطين، فأتى ابن عباد وقال: لا يصلح نحن أسرة عارمة متقدمة ولا يمكن هذا، فاستفتى بعض الفقهاء وقالوا: مادام أنها نذرت نرى أن تملأ لها ماء المسك في القربة، وأن تعجن لها طيناً من المسك والكافور في القصر، يملئون لها قربة من العطر بدل الماء، وتأخذ هذا ثم تمرون على المرمر، فتصبغون لها مسلكاً كالطين، وتمشي وهي حافية وتذهب وتأتي، وقالت: وفيت بنذري، وهو ليس بصحيح، وأتت الأيام ودارت دورتها، وأتى ابن تاشفين من بلاد المغرب ودخل ضيفاً على ابن عباد، وبعد أن ضيفه وأكرمه ثلاثة أيام طوقه كما فعل حاكم العراق بـ الكويت:
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني
وبعد ثلاثة أيام، طوق قصر ابن عباد واحتل القصر بما فيه، وأخذ صاحب المنزل الذي ضيفه وأكرمه فطوقه بالحديد، وأخذ بناته وجعلهن جواري له، وأصبح ابن عباد في أغمات فقيراً لا أهل ولا مال ولا ولد ولا ثياب ولا منصب، وسجنه، وفي يوم العيد -اسمع إلى الموقف- وينتظر ابن عباد وإذا من يطرق عليه الباب، ففتحوا الباب فإذا هو ببناته الأربع، وإذا هن حافيات ما عليهن إلا ما يستر عوراتهن، فبكى بكاء مراً حتى سمع من في السجن ثم قال قصيدته المشهورة، يقول وهو يخاطب نفسه:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعةً يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
أصبحن يغزلن للناس، وينسجن لهم الخزف، ويخرزن لهم الجلود.
يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
أصبحن بلا حذاء، كل واحدة كأنها ما وطأت المسك والكافور، إلى آخر ما قال، وهي قصيدة تفجع القلوب.
دخل عليه أحد الشعراء فرأى ابن عباد في السجن، فبكى الشاعر وقال:
تنشَّق رياحين السلام فإنما أخض بها مسكاً عليك مختماً
وقل لي مجازاً إن عدمت حقيقة فقد كنت ذا نعم وقد كنت منعما
فشقت عليك الريح ثوبك بعدها وهز عليك الرعد ثوبك معلما
إلى آخر ما قال، وهؤلاء ممن نكبوا.(131/6)
مصيبة رجل من بني عبس
وقيل لرجل من بني عبس -وكان من أغنى الناس، وجد وهو فقير، وهو أعمى يمسك بعصاه- قالوا: يافلان! أما كنت أغنى الناس؟
قال: والله لقد أتى علي يوم من الأيام وأنا من أغنى الناس على الإطلاق، ثم ذهبت في طلب إبل سرحت مني وضاعت، فطلبتها وأتيت إلى مسارح أهلي ودوري في الوادي، ووجدت السيل قد حمل منازلي وأهلي ومالي جميعاً، بما فيها الذهب والبقر والغنم والبساتين والدور، قال: فما وجدت شيئاً من أهلي، إلا طفلاً تركته أمه معلقاً في شجرة وقد سلم من السيل، فأتيت إلى الطفل فهرب البعير، فأردت أن أدرك البعير فسمعت بكاء الطفل وإذا بذئبٍ قد أخذ الطفل، وأصبح رأس الطفل في فم الذئب، فرجعت، وإذا بالذئب قد فر برأس الطفل وألقى جثته في الأرض، فعدت إلى البعير فدهسني برجله فأعمى بصري، فأصبحت أعمى لا أملك أهلاً ولا مالاً ولا داراً ولا عقاراً.(131/7)
مصيبة تاجر من أهل الكويت
وحدثنا أحد المحسنين في الرياض -وهو ثقة مشهور- يقول: التقيت ببعض التجار الكبار في الكويت قال: وكنت أوزع بعض المال وأباشر على الناس عندما خرجوا من الحدود، وهم في مجاعة وفي ظمأ وضنك لا يعلمه إلا الله، وفي وسط الشمس، فوجئت بأحد التجار الكبار، بل هو من أكبر التجار في الكويت، فتجاهلت أنا حتى لا أحرجه ولا أخجله، فمددت له بمائة ريال يشتري بها ماء وببسي وبارد، فنظر إلي ثم دمعت عيناه، وقال: أنا والله ما تعودت آخذ وإنما تعودت أعطي، والله ما خرجت بشيء من الكويت، وإني تركت أموالي ملايين مملينة، ولكن فصبرٌ جميل والله المستعان.
يقول: ابن عيذون وهو يرثي ملوك الأندلس يقول:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح والصور
أنهاك أنهاك لا آلوك موعظة عن نومة بين ناب الليث والظفر
يقول: احذر من الدمار، واحذر من المخالفات، فإن الله للعصاة بالمرصاد، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14].(131/8)
مصيبة البرامكة
البرامكة وزراء بني العباس كانوا في نعيم بلغ بهم الترف إلى أن أخذوا قصورهم وطلوها وموهوها وزوقوها بالذهب، ترف وبذخ، وإلا لماذا لا يضربه بالجص؟
ولذلك شاة إيران يقول: كان مقعده في دورة المياه من ذهب خالص: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص:81] وإلا لماذا لا يجعل مقعده ودورة المياه مثل الناس، فهؤلاء طلوا كل القصور من الذهب فكانت تلمع مع الشمس، ومرت الأيام، وفي ساعة واحدة قرر هارون الرشيد أن يستولي عليهم فسفك دماءهم، وجعل أطفالهم في السجون، واستولى على أموالهم، وترك أباهم يحيى بن خالد الشيخ الكبير في السجن سبع سنوات، حتى يقول: والله ما رأيت الشمس سبع سنوات، وطالت أظافره وشاربه، حتى اختلط بلحيته وكان يبكي حتى أغمي عليه، فدخل عليه أحد أبناء أبنائه فقال: "يا جداه! ما هذه المصيبة التي حلت بنا؟
قال: دعوة من مظلوم سرت في ظلام الليل، غفلنا عنها وما غفل الله عنها" انظر إلى التعبير! سرت في ظلام الليل غفلنا عنها وما غفل الله عنها، قيل لـ علي بن أبي طالب: [[كم بين الأرض والعرش؟ قال: دعوة مستجابة]]
إلى ديان يوم الحشر نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
سجن المهدي أبا نواس الشاعر، ويوم أودعه في السجن كتب له قصيدة قال فيها:
أما والله إن الظلم شينٌ وما زال المشين هو الظلوم
إلى ديان يوم الحشر نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
فلما قرأها قال: أطلقوه أطلقوه، فهذه نكبة البرامكة التي عنون لها العلماء ورثاها الشعراء وبكاها الأدباء.(131/9)
مصيبة ابن بقية
ابن بقية وزير من الوزراء العباسين، كان ينادي مناديه من على قصره في الصباح: من أراد الفطور المبارك فليتفضل؟ فيدخل الناس زرافات ووحداناً، الفقراء والأغنياء والكبار والصغار فيطعمهم، فإذا أتى بعد الظهر نادى مناديه من على القصر من أراد الغداء المبارك فهلم، فيدخلون، وهكذا العشاء، فلما تولى عضد الدولة ملك العراق البويهي حسده وانتقم منه، وقال: هذا أصغر مني شأناً وعليه الناس زرافات ووحداناً، لأبطشن به، وبالفعل بطش به، ماذا فعل به؟
قتله شر قتله، جوعه ثلاثة أيام، ثم أتى بالفيل وأغضبه، يقول: ضرب رأس الفيل حتى سال دم خرطوم الفيل في الأرض، وإذا سال دم الفيل حطم الدنيا، يصبح بلا عقل ويرفع عنه القلم، فأتى بهذا الفيل فأدخل الرجل وابن بقية الوزير رحمه الله من الصالحين، لكن يقولون: كان فيه تجبر في بعض المواقف، فأدخله وجوعه ثم أدخله شبك الحديد وخرج عضد الدولة يتفرج في المصارعة، وأدخل الفيل ودمه يسيل في الأرض، فما أن رأى الفيل ابن بقية حتى هجم عليه وبطحه في الأرض ثم ضربه بخفافه وخرطومه حتى قطعه، وبقي من صدره وما فوق، فأخذه عضد الدولة ونصبه عند مدخل بغداد، يقول: تفرجوا في مضيفكم هذا الذي يطعمكم عند باب الطاق عند النهر، فيخرج الناس في الصباح فينظرون، ويأتون في المساء ينظرون إليه ويبكون، فأتى أبو الحسن الأنباري يمدحه في قصيدة رائعة يلقيها وهو مصلوب نصف الجثمان فقط على العود:
علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
هذه من أجمل القصائد! يقول: حتى في الموت علو، ما دفنوك مثل الناس، لا تحب إلا العلو في الحياة وفي الممات.
علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلات
يقول: الآن الناس وهم يبكون حول جثمانك وأنت على الخشبة، كأنهم يزدحمون على قصرك وأنت تضيفهم وتعطيهم الأموال:
كأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلات
مددت يديك نحوهم احتفاء كمدهما إليهم بالهبات
كأنك تعطيهم
ولما ضاق بطن الأرض عن أن يواروا فيه تلك المكرمات
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا عن الأكفان ثوب السافيات
عليك نفائح الرحمن تترى برحمات غوادٍ رائحات
وهي من أعجب ما قيل في هذا الوزير الذي يستحق ذلك! وقد أحسن أبو الحسن الأنباري في هذه القصيدة التائية -على كل حال- هذه عاقبة الدنيا وكل شيء يأتيه قاصمة إلا الدين، فإن الخاتمة والعاقبة للمتقين ولو أصابهم ما أصابهم من النكبات، لكنها تصفي لهم بإذن الله الخاتمة الحسنة ولا يضيعهم الله عز وجل فإن الله لا يضيع أولياءه.
أبو الطيب الطبري عالم شافعي كان فُكاهياً دعوباً، ذهب إلى الخراز -خراز الأحذية- قال: أصلح لي حذائي، وذهب ثم مضى عليه اليوم الثاني قال: أين الحذاء؟
قال: إن شاء الله غداً، فأتى بالغد وقال: أين الحذاء؟
وكلما رآه الخراز جعلها في الماء حتى يتظاهر أنه يريد إصلاحها، فأتى بعد غد قال: أين الحذاء؟
قال: أرشها وأصلحها إن شاء الله، قال: أعطيتك لتصلحها لا لتعلمها السباحة، لأنها دائماً في البرميل، هذا أبو الطيب الطبري.
أبو الطيب الطبري قفز من السفينة إلى الشاطئ خطوات، فأتى الشباب يقفزون فما استطاعوا قالوا: مالك استطعت وما استطعنا؟
قال: هذه أعضاء حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].(131/10)
مصيبة فقد الأندلس
الأندلس اجتيحت في يوم واحد، قلوبنا ودماؤنا، ومساجدنا ومصاحفنا في الأندلس، الأندلس جزء منا وهي تسمى حالياً: أسبانيا، فقدناها يوم فقدنا مصداقية لا إله إلا الله، اجتاحها العدو، وأتى أبو البقاء الرندي يبكيها ويقول في قصيدته المشهورة:
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان
ثم يقول في آخر القصيدة:
أعندكم خبر من أهل أندلس فقد مضى بحديث القوم ركبان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان
يقول: أدركوا أهل الأندلس، أخذن النساء من البيوت والقصور وبيع الخمر على المنبر يوم الجمعة، لما استولى النصارى على الأندلس فقاموا بأفعال عجيبة قد مر ذكرها في مثل محاضرة (الذنوب خراب الشعوب) وأمثال ذلك.(131/11)
أسباب النكبات والمصائب
فتح المسلمون قبرص في عهد أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه، ففرح المسلمون وضحكوا وانشرحوا وبكى أبو الدرداء، قالوا: مالك؟!
قال: [[أبكي من خاتمتنا أن تقع مثل خاتمة هؤلاء، بينما هم في الدور والقصور عصوا الله فسلطنا الله عليهم، فأخشى أن نعصي الله فيسلطهم علينا]] وبالفعل مرت السنوات فلما انحرف المسلمون، تسلط عليهم النصارى فأبادوا خضراءهم واستولوا على بيت المقدس حتى أتى صلاح الدين ففتحه باسم الله.
صلاح الدين كردي ليس من العرب، وابن الصلاح -صاحب مقدمة ابن الصلاح - المحدث كردي، وأحمد شوقي كردي، وابن خلكان كردي، وابن الأثير كردي، {إِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] أقول هذا الكلام رداً على القوميين، الذين يقولون إنه لا يصلح للدين إلا العرب، فإن دين الله يعطيه من يشاء سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
لما فتح صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس فلما أذن المؤذن ما بقي أحد من المسلمين إلا بكى، ثم قام الخطيب الحلبي فاستفتح بحمد الله وقال في الخطبة يوم النصر:
تلك المكارم لا قعبان من لبن وهكذا السيف لاسيف ذي يزن
القصيدة لـ أبي الصلت، يمدح ملك اليمن ذي يزن وهو جاهلي، يقول:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
قصيدة طويلة، فأخذ العالم نصف البيت فقال:
تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ وهكذا السيف لا سيف ذي يزن
يقول: أنت يا صلاح الدين الولي العابد، ولا ينصر الله إلا أولياءه، وصلاح شرف لنا ولو أنه كردي، بطولاته وانتصاراته تاريخ لنا، غفر الله له وجمعنا في دار الكرامة، وما ترك إلا سيفاً ورمحاً ودرعاً وفرساً.(131/12)
الظلم من أسباب النكبات
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن الظالمين وأخذهم: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:52] قال ابن عباس: [[الظلم خراب البيوت، أما سمعتم قوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:52]]] قال شيخ الإسلام ابن تيمية -نظر الله سعيه-: إن الله ينصر الأمة العادلة ولو كانت كافرة، ويمحق الأمة الظالمة ولو كانت مسلمة، فالعدل إقامة الشعوب وسلامها واستمرارها والظلم خرابها، ظلم أحمد بن أبي دؤاد الإمام أحمد، الإمام أحمد بن حنبل إمامنا، وأحمد بن أبي دؤاد إمام أهل البدعة إمام المعتزلة، كان أحمد بن أبي دؤاد هذا قاضي القضاة في عهد المعتصم، من أفصح الناس وأعجبهم، كريم: يقولون يوقع على الصك الواحد ألف ألف درهم، أعطاه الله أموالاً، حتى يقول أبو تمام يمدحه:
لقد أنست محاسن كل حسنٍ محاسن أحمد بن أبي دؤاد
وما سافرت في الآفاق إلا ومن جدواه راحلتي وزادي
هذا وقف للإمام أحمد بالمرصاد وظلمه، وكان كلما أراد الخليفة المعتصم أن يسمح الإمام أحمد ويخرجه من فتنة القول بخلق القرآن، قال: لا.
يا أمير المؤمنين عليك به، وهو مستشار للمعتصم، فيأتي المعتصم ويدمغ الإمام أحمد، كلما فكر قال: يا أمير المؤمنين: الله الله اقتله ودمه في عنقي، انظر إلى الخائن! يقول جلاد الإمام أحمد -رجل اسمه عدرس - والله الذي لا إله إلا هو، لقد جلدت الإمام أحمد جلداً لو جلد بعير لمات.
لكن الإمام أحمد كان دائماً متصلاً بالله، كانت دماؤه تسيل، ويخرج من القصر ويقول: اللهم اغفر لأمير المؤمنين، هذا الإمام أحمد، وكلما أراد أن يسمح المعتصم أتى أحمد بن أبي دؤاد، قاضي القضاة المعتزلي، قال: يا أمير المؤمنين! دمه في عنقي، دمه حل وبل وطل، اقتله يا أمير المؤمنين، فيستدعيه ويضربه، في الأخير صبر الإمام أحمد ثم توجه إلى القبلة ودمعت عيناه وقال: اللهم عليك بـ أحمد بن أبي دؤاد، اللهم احبسه في جسده، فأجاب الله دعوته في سنوات، فحبس أحمد بن أبي دؤاد في جسده، أما نصفه الأيمن فمشلول يقول أحمد بن أبي دؤاد: والله لو قطعت بالمقاريض ما أحسست بشيء في نصفي هذا، وأما نصفي هذا فو الله لو قع عليه ذباب كأن القيامة قامت، فكان يبكي الليل والنهار، فيدخل عليه تلاميذ الإمام أحمد، قالوا: ما دخلنا نزورك وإنما دخلنا نشمت بك، يقولون: لا تظن أننا نحتسب الأجر في الزيارة لا، لكن نتفرج في هذا المنظر وفي دعوة الإمام أحمد، فأخذه الله عز وجل وذهب إلى الله، لكن انظر إلى عاقبة الظلم وانظر إلى النتيجة والخاتمة.
أتى ابن الزيات أحد الوزراء فاعترض على الإمام أحمد وكان من المتسببين في تعذيب الإمام أحمد وقال: اللهم نكل به: فأصابه الله بقارعة، أخذه الخليفة المتولي بعد المعتصم ثم جعله في فرن فلما كبته في الفرن، ضرب المسامير في رأسه حتى خرج دماغه من أنفه، فنعوذ بالله من الخذلان، ونعوذ بالله من الظلم، ومن الانحراف عن منهجه جل وعلا.
يقول ابن مسعود: [[ما امتلأت دار حبرة إلا امتلأت عبرة]] أي: ما امتلأت غنى وبسطة، ثم انحرفت عن منهج الله؛ إلا امتلأت نكبة ومصيبة.
ويقول ابن الوردي:
أين من شادوا وسادوا وبنوا هلك الكل ولم تغن القلل
ويقول أحدهم:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز من منازلهم إلى مقابرهم يا بئسما نزلوا
تلك الوجوه التي كانت مكرمة أضحى عليها جموع الدود تقتتل
ذكر الترمذي في سننه رحمه الله من طريق عطاء بن أبي رباح أن عائشة: رضي الله عنها -أم المؤمنين- مرت بقبر أخيها عبد الله بن أبي بكر الصديق في مكة -دفن في مكة - فلما رأت قبره بكت، وقالت: " مثلي ومثلك يا عبد الله كمثل قول: متمم بن نويرة في مالك أخيه:
وكنا كندمان في ديمة برهة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
فلما تفرقنا كأني ومالك لطول الاجتماع لم نبت ليلة معا
هذه من أرق ما قيل، وكان عمر إذا رددها وذكر أخاه، بكى ويقول: يا ليتني كنت شاعراً فأرثي لأخي زيد.
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
بنفسي تلك الأرض ما أحسن الربا وما أحسن المصطاف والمتربعا
ثم يقول:
فليت المنايا كن خلفن مالكاً فعشنا جميعاً أو ذهبن بنا معا
هذا متمم بن نويرة يقول: يا ليتني مت مع أخي، أو ليته عاش معي.(131/13)
التفرق والاختلاف من أسباب النكبات
ومن أسباب النكبات: التفرق، يقولون: كل يعرف النكبة، لكن ليس الكل يعرف كيف يخرج منها، أي: أكثر الناس الآن يعرفون أن من أسباب النكبات أموراً، لكن لا يعرفون كيف يتخلصون منها.
يذكر ابن القيم في الفوائد أن ثعلبين دخلا في مدجنة -في كرس دجاج- فلما دخلا، أول ما يدخل الثعلب، يدخل خفيف يدخل جائع، أي نافذة صغيرة يدخل وهو جائع، فدخل الثعلبان من هذا فلما أكلا الدجاج كله، أتيا لكي يخرجا فما استطاعا، أصبح الواحد منهما مثل البرميل، وإذا بصاحب الدجاج مقبل معه ساطورة بيده، فطرق الباب يستأذن على الثعلبين، فيقول الثعلب لصاحبه: أين الموعد يا صاحبي؟
قال: نلتقي في المدبغة أي: المجزرة.
من أسباب النكبات التفرق، تفرق الأمة وتفرق الشعوب على مناهج مختلفة، أي: قطيع علماني، وقطيع بعثي، وقطيع ماركسي، وقطيع مسلم، ويقولون: لهم حرية الرأي، أنت تكلم على الماركسية وامدح استالين ولينين، وأنت لا بأس أن تسب الله، وأنت اخطب الجمعة، وأنت صلِّ، وأنت بع مساويك وأنت بع خمراً، أي: ديمقراطية -يعني: عش حراً، وهذه هي قاصمة الشعوب، قال: سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أولاً عن مبدأ التفرق {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] وقال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] أرسل عثمان رضي الله عنه، وقد طوقوا قصره.
جرحان في كبد الإسلام ما التأما جرح الشهيد وجرح بالكتاب دُمي
فلما طوقوا عليه بيته وأرادوا قتله وكان صائماً ذاك اليوم، وقد نام بعد الظهر ورأى الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام وقال: يا عثمان سوف تفطر عندنا هذا اليوم، وبالفعل قتل قبل صلاة المغرب، فكتب عثمان قبل أن يقتل إلى علي رسالة مبكية يقول:
فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل وإلا فأدركني ولما أمزقي
هذا البيت لرجل جاهلي قديم يقول: فإن كنت مأكولاً أنا، أنت كلني بالتي هي أحسن، يقول: إن كنت أنت تريد الخلافة بعدي فكل بالتي هي أحسن أنا أسلم الخلافة الآن، لكن علياً بريء من دم عثمان وهو وأخوه وصنوه ويجمعهم الله في الجنة، وهم شهداء أبرار، ونشهد الله على حبهم يقول:
فإن كنت مأكولاً فكن خير آكلِ وإلا فأدركني وإلا أمزقي
يقول: أدركني قبل أن أمزق، وأتى علي رضي الله عنه يجمع الأمر ويدرك عثمان، فوجده قد مزق، حتى قتلوه وانسكب دمه على المصحف وكان يفتح على قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137] فقطرت هذه الدماء الطاهرة على هذا الآية، قالوا: ولا زالت هذه الآية الآن على المصحف وهي موجودة في اسطنبول في متحف هناك، دم عثمان على الآية، انظر اختيار الآية، المقصود: أنه لما قتل عثمان بكى علي وقال: [[أكلت يوم أكل الثور الأبيض]] وهذا مثل في الجاهلية، يقولون: كان هناك ثلاثة ثيران قوية، أحمر وأبيض وأسود: كانت ترعى سواء تسرح إلى الماء سواء، وتمشي وتقوم وتشرب سواء، جاء الأسد وأراد أن يفترسها فاجتمعت عليه فناطحته فقتلته، فجاء أسد آخر فطردته، جاء النمر فاجتمعت عليه، فجاء أسد ذكي وأخذ الثور الأسود وقال: أريدك في أمرٍ، قال: ما هو؟ قال: هذا الثور الأبيض يأكل عليك المرعى دائماً، دائماً ينكد عليك، فأريد أن أتعاون أنا وإياك والأحمر ونقتل هذا الأبيض، قال: أصبت أصاب الله بك الخير، فاجتمعوا على الأبيض فقتلوه، فلما أتى رجع إلى الأسود وقال: هذا الأحمر يفعل فعل ذاك، ما رأيك نقتله، قال: نقتله فاجتمعوا عليه فأبادوه، فقال: الأسد للأسود بقيت أنت يا عدو الله، قال: أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
وبالفعل استمر علي رضي الله عنه فقتل، قتله بعض أولئك الشرذمة، يقول: ما دام قتل عثمان أنا سوف أقتل وهذه حكمة الله عز وجل، فأما مثل علي وعثمان فهي درجات عند الله وحسنات، وأما أعداء الله فإنه يعذبهم في الدنيا {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16].(131/14)
الانغماس في الملذات من أسباب النكبات
من أسباب النكبات الانغماس في الملذات، يقول الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} [الطلاق:8] وهنا يقول: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص:58] أي عاشت البطر والترف والتفسخ، وعاشت شيئاً من التنعم الذي هو فوق ما يمكن أن يتصوره الإنسان، وفوق مستوى بعض الشعوب، مثلاً هذه الكبكات تباع إلى ثلاثة آلف عندهم، وهي موجودة الآن في بعض المجتمعات أي ترف فوق العادة، يذكرون عن بعض الناس أنه: كان يلبس ثوباً فإذا خلعه للغسل لا يلبسه مرة ثانية لأنه دائماً يلبس جديداً، هل بعد هذا الترف من ترف!
عمر بن الخطاب -أمير المؤمنين- ما عنده طيلة الخلافة إلا بردة مرقعة، يقولون أنه يصلي بها الجمعة وفيها أربعة عشر رقعة، مرقوعة بيده، ويوم جاء الهرمزان مبعوث كسرى وجد عمر وهو نائم تحت الشجرة بلا حراسة فارتعد، وقال: حكمت فعدلت فأمنت فنمت، ولذلك يقول حافظ إبراهيم:
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
فقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها
دخل الربيع بن زياد الحارثي على عمر -أمير من الأمراء- فجلس أمام عمر قال: [[وكنت أتحذر في كلامي لا أسقط في كلمة -لأنه أمام عقلية جبارة ومن عظماء الدنيا- قال: فسلم الله وسدد حتى قدم لـ عمر إفطاره فإذا هو شيء من ملح مجروش مع شعير مع ماء، قلت: يا أمير المؤمنين! أنت أولى الناس بالمطعم الهنيء والمركب الوطيء والملبس الثري، قال عمر: فأخذ خشبة فضرب ِأميره في رأسه، قال: أولاً: والله لن أوليك إمارة بعد الآن، وأما وصاياك لي هذه فاحتفظ بها لنفسك.
ثانياً: والله إني أعلم الناس بلباب البر، وتسيل العسل وأشهى اللحم لكن أخشى أن أعرض على الله يوم القيامة فيقول لي: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الاحقاف:20] فقال هذا الأمير: ووددت أن الأرض ساخت بي وماتكلمت]].
هكذا كان عمر، ولذلك حققت الأمة في عهده انتصاراً ما سمع التاريخ بمثله حتى كان ملوك الكفار إذا سمعوا بـ عمر يغمى على الواحد منهم من الخوف، أنزل الله رعبه في قلوب الشياطين، شياطين الإنس وشياطين الجن، فهذا الانغماس في الملذات ردى {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء:16] يعني: الإرادة الكونية، ماذا يفعل الله؟
هل يدمر هذه القرية؟
لا، {أمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16] وفي بعض القراءات (أمّرنا) أي: كثرنا {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16].
ومما يذكر أن القاهر الخليفة العباسي يقولون: تولى الخلافة ونصحه الناس: اتق الله! فأخذ حديقة وجعل كل الحديقة من فضة، شجرها من فضة -أي- وهمية، مثل المدن الوهمية، وجعل أسوداً، وثعالب ودجاجاً من فضة، ثم يأتي يصب الماء من أذناب الأسود فيخرج الماء من فم الأسود فيصب في البرك، ما الداعي لهذا الكلام؟
ثم أتى إلى برك في بيته، خزانات مثل خزانات الماء فحفرها ثم ملأها ذهباً وفضة، ثم جمع أبناءه وبناته، وقال: لا تخافوا من الدهر، سبحان الله.
هذا المال عندكم فلا تخافوا من شيء، افعلوا ما شئتم، فعلمه الله الذي يصرف الدهر ولا يصرفه الدهر، والذي يغير ولا يتغير، دخل عليه ابن عمه فخلعه في تلك الساعة، ثم أتى عليه فسمل عينيه بالحديد المحمي -أخرج عينيه حتى أصبح أعمى- ثم أخرجه من ملكه وأخرج أبناءه، وطردهم وأتى بعد سنة هذا القاهر يمد يده في المسجد، -مسجد المنصور بدار السلام بـ بغداد - يقول: من مال الله يا عباد الله.
علمه الله أين البرك وأين دجاج الفضة، وثعالب الفضة، وأسودها {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16] وقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً} [الطلاق:8].
ويقولون: إن عجوزاً كانت في الأندلس بنت ابن جحوان، كانت صالحة، تصلي الليل والنهار وابنها كان من أفسد الناس، لا يعرف إلا الغناء وشرب الخمر، فكانت تتعاهده دائماً بالنصيحة: اتق الله، حافظ على الدين، حافظ على الصلاة، فيقول: لا.
وفي الأخير استولى عليه ملك آخر، فحطمه واستولى على قصره، وأخذه وأمه وأودعهم السجن، فتقول له أمه كلما أصبحت تريد تصبح عليه، وهو في زنزانة وهي في زنزانة فتقول له:
ابكِ مثل النساء مجداً تولى لم تحافظ عليه مثل الرجال
ولا يحافظ على المجد إلا بتقوى الله عز وجل، قال سبحانه: {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [المؤمنون:33] {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] وقال سبحانه عن أوليائه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:11 - 12].(131/15)
عدم تحكيم الكتاب والسنة من أسباب النكبات
ومن الأسباب: عدم أخذ نصح كتاب الله عز وجل وسنة رسوله، وعدم تحكيمهما في دنيا الناس وواقعهم وفي معتقدهم وعباداتهم وأخلاقهم وسلوكهم، قال: سبحانه عن أحد رسله عليهم الصلاة والسلام يوم أنذر قومه قال: {وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79] ننصحكم صباح مساء، ولكن لا تحبون الناصحين، وقال شعيب: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف:62] {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68] لكن ما قبلوا النصيحة.
دريد بن الصمة أتى عند قومه، وقبيلته من غطفان، وهو شاعر ماجد، فأتى في الليل وقال: انتبهوا! البسوا السلاح ولا تناموا هذه الليلة، العدو سوف يصبحكم قالوا: لا نأخذ كلامك وأنت شيخ قد خرفت -أي: أصابك هرم في عقلك- قال: خذوا سلاحكم، قالوا: لا نأخذ السلاح، وفي الصباح وإذا بالجيش يجتاحهم اجتياحاً هائلاً، ودائماً الهجوم ما يأتي إلا في الصباح يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على لسان لوط: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81] بلى، ولذلك ليل المنكوبين طويل، إذا أراد الله أن ينكب قوماً طال عليهم الليل، وليل السعداء قصير، حتى يقول أحدهم:
لا أسأل الله تغييراً لما فعلت نامت فقد أسهرت عيني عيناها
فالليل أطول شيء حين أفقدها والليل أقصر شيء حين ألقاها
ويقول:
فقصارهن مع الهموم طويلة وطويلهن مع السرور قصار
فاجتاحهم الجيش فيقول هذا الشاعر:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
يقول: ناصحتهم وقلت: الجيش سوف يهاجمكم وقوته ألفين، وما يلعبون كرة، عندهم رشاشات بأيدهم، ودبابات وصواريخ.
سراتهم أي: القادة فيهم كالفرسان، من مشاش رأسه إلى أخمص قدميه لباس حديد، لكن ما اتعظوا، ثم يقول في الأخير: فأنا انهزمت معهم وما أنا إلا منهم، إن غووا غويت وإن رشدوا رشدت، وهذا خطأ، منطق المسلم لا يقول هذا، بل يقول: أبرأ إلى الله من أهل الانحراف، وأنا أتولى الله عز وجل ولا أذهب مذهب المنحرفين.
والأمم يوم تتنكر الناصحين تقع في للنكبات، يقول قوم عن نبيهم: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} [المؤمنون:25] مجنون، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: مجنون، شاعر، كاهن، والله يقول: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22] واعترضوا على رسالته واختياره، {يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً} [هود:62] قال بعض المفسرين: قد كنا نرجوك أن تكون عاقلاً، إذا بك تأتي تنصحنا الآن وتسب آلهتنا، كنا نأمل فيك أن تكون رجلاً عاقلاً، لكنك انحرفت.
وهم المنحرفون المهلوسون.
إذا عير الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت كسيفة وقال الدجى للبدر وجهك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل
قصة: عبيد الله بن زياد وكان رجلاً ظالماً تولى على العراق، وهو الذي دبر مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب، هل تدرون ماذا فعل؟
أمير العراق؟ يوم قطعوا رأس الحسين أتي به فأتى بكبر وعنجهية وأخذ عصا في يده ثم جعل رأس الحسين، رأس الحسين بن علي، ابن فاطمة، الذي كان يقبله الرسول عليه الصلاة والسلام صباح مساء، يقبله ويقول أبو هريرة: {رأيت الحسن على يد الرسول اليمنى والحسين على يسراه يقبل هذا مرة وهذا مرة، يقول: اللهم إنهما ريحانتاي في الدنيا، اللهم فحب من أحبهما -نشهد الله على محبتهما- فكان يقبل الحسن مرة والحسين مرةأخرى}.
هذا الحسين العابد الولي قطع رأسه عبيد الله بن زياد، ثم وضع رأسه في صحن أمامه وجمع وزراءه وحاشيته وأخذ عصا يخرجها ويقول هذا فعل بنا يضعها بأنفه، وفعل بنا وخرج علينا، وعصانا وفعل، فقام أبو برزة الأسلمي أحد الصحابة يبكي وهو واقف قال: [[ارفع عصاك، لا تضع عصاك على أنفه، والذي نفسي بيده، لقد طالما رأيت الرسول عليه الصلاة والسلام يقبل ذاك الموضع، ويقول: هما ريحانتاي من الدنيا]] فرفع عصاه كالخجلان، وبعد سنة أتى المختار بن عبيد الثقفي فهاجم عبيد الله بن زياد في قصره، فقطع رأسه، ثم وضعه في نفس الصحن ذاك، ولكن ما كان عند المختار عصا يشير بها، فأرسل الله حية، ثعبان صغير، كانت تدخل في أنفه وتتجامع الحية، حتى تحشره في أنفه وفمه، مكان تلك العصا، هذه بتلك، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
دخل عليه عمرو بن عايذ قال: يا عبيد الله بن زياد اتق الله! فإني سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {إن شر الرعاة الحطمة} معنى الحديث: إن شر الناس المسئول إذا حطم الناس وأرهقهم وكلفهم، قال الأمير -هذا المتكبر عبيد الله بن زياد - اجلس إنما أنت نخالة أصحاب محمد، قال: وهل فيهم نخالة؟ إنما النخالة في غيرهم وفي من بعدهم.(131/16)
السكوت عن المنكر من أسباب النكبات
ومن الأسباب في النكبات: ظهور المنكر بلا إنكار، يقول عليه الصلاة والسلام: {إنما هلك الذين من قبلكم أنه كان الرجل يلقى أخاه فيقول: اتق الله! لا تفعل كذا، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام والحديث صحيح، قال سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79] وقال سبحانه: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف:163] اسمع أسلوب القرآن! انظر إلى الروعة والجمال والإبداع! يتكلم في سورة الأعراف، وفجأة بعد أن انتهى من قصة موسى قال: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف:163] جمال القرية.
بأنها تسكن على شاطئ البحر، اسألهم عنها هل سمعوا بخبرها وماذا فعلنا فيها؟
ثم وصف الله من أخبارها وكيف دمرها؛ لأنها فعلت المنكر، وكان كثير منهم يستمريه، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
العرب تقول: من أنذر فقد أعذر، ويقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {يغزوا جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم، قالت: أم المؤمنين أم سلمة وقيل: عائشة: يا رسول الله! كيف بمن لا ذنب له فيهم والصالحين -يعني: من الخدم والأتباع- قال: يهلكون مهلكاً واحداً ثم يبعثون على نياتهم} أي: يبعثهم الله.
فالزلازل الذي يصيب بعض المدن بسبب فجور كثير من الناس، فيموت الصالحون والطالحون، فأما الصالح فيبعثه الله على نيته شهيداً، وأما هذا المجرم فيبقى مجرماً إلى يوم يلقى الله في يوم العرض الأكبر.
يقول أهل العلم: دخل هارون الرشيد على الفضيل بن عياض فقال: انصحني، قال: يا جميل الوجه! احذر أن يعذب الله وجهك بالنار، أو أن تغير النار وجهك الجميل -لأن هارون الرشيد كان جميل الوجه- فيقول له الفضيل: إن كنت تتقي الله فاحذر على وجهك أن يتغير من عذاب الله -أي: النار- فبكى هارون حتى كادت أضلاعه تختلف، فيقول وزيره: يا فضيل! لا تقتل أمير المؤمنين قال: سبحان الله! تقتله أنت وتنسب القتل لي، يقول: أنت المسئول، أنت الذي دائماً يغريه بالأفعال، ثم تقول: أنا الذي أقتله، تقتله أنت وأصحابك ثم تدعي أنني قتلته! أو كما قال.(131/17)
الدروس المستفادة من أحداث غزو الكويت
أيها الإخوة! من الحدث الذي مر معنا نستفيد أموراً:(131/18)
من الدروس المستفادة أن الظالم لابد له من نهاية
أولاً: نستفيد: أنه لا قرار للمجرم أبداً، مهما طالت به الأيام، وقد صح عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الله ليمهل للظالم فإذا أخده لم يفلته} وهذا الحديث صحيح، ومعنى ذلك: أن الظالم ولو رأيناه أرغى وأزبد، وفعل ونكل فإن الله سوف يقتلعه، فمهلاً أليس الصبح بقريب، وصبراً وسوف ترون العاقبة، وهذا المجرم الذي أحدث هذه الأحداث سوف تكون نهايته مأساوية، وسوف تنظرون له بعد أوقات، إما أن يجتاح بلاده ويدمر مع أهله تدميراً عجيباً، وإما أن يغتال، وإما أن يصاد في مكان ضيق ويخنق أمام العالم، وهذه نهاية الطغاة، وهذه سنة الله في الكون.
فرعون أين مات؟
مات وأنفه في الطين، والنمرود مات ببعوضة، وهتلر مات منتحراً، وملك إيطاليا مات مسموماً، وهم الذين دبروا الإجرام في الحرب العالمية الماضية: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] وهذا مصير الظلمة.(131/19)
من الدروس المستفادة: أهمية اللجوء إلى الله منه
ومن الدروس والعظات: أن العبد عليه أن يلجأ إلى الله عز وجل وأن يطلب منه النصر وحده، ويطلب منه أن يجنبه المصائب والكوارث والفتن ما ظهر منها وما بطن، كان عمار بن ياسر يقول: [[أعوذ بالله من الفتن، أعوذ بالله من الفتن، أعوذ بالله من الفتن]] والسبب: أنه كان يبني المسجد مع الرسول عليه الصلاة والسلام فرءاه صلى الله عليه وسلم قال: {ويح عمار! تقتله الفئة الباغية} فيقول عمار: أعوذ بالله من الفتن، وبالفعل وصل -لكنه سليم من الفتن- وقتل في صفين رضي الله عنه وأرضاه.(131/20)
من الدروس المستفادة: ضرورة إصلاح الواقع
الدرس الثالث: أن الأمة إذا لم تغير حالها من السيئ إلى الأحسن فلتنتظر عقوبة الله {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] وقال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] وقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].(131/21)
آثار ونتائج حادثة غزو الكويت
أيها الإخوة الكرام: هذا الحادث الذي وقع في المنطقة أصاب العالم الإسلامي بمآسٍ.(131/22)
من الآثار: شماتة الأعداء بالمسلمين
من هذه المآسي: شماتة الأعداء بنا، أي: أصبح الشرق والغرب يشمت بالمسلمين وبوضعهم وتفرقهم، وتشتت كلمتهم، وأصبح يضحك عليهم، وأصبحنا بدل أن كنا نسير الرأي العام أصبح الرأي العام يسيرنا.
كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه
كان تاريخنا الأول، الذي تكلم في العالم وهو الذي يسيطر على مجريات العالم ويوجهه، مشايخ الإسلام وأمته، في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسين، لكن أضمر لنا هذا الحادث، أن الأعداء يشمتون بنا، وأصبحنا شذر مذر، وفرقاً مشتتين موزعين، ليس لنا كلمة ولا رأي ولا وزن ولا ثقل.
الآن الدول الخمس دائمة العضوية في هيئة الأمم، كلها كافرة، والعالم الإسلامي مليار ليس لهم عضو دائم ولا يملكون حق الفيتو -النقض- وأمريكا والاتحاد السوفيتي و C= 3000012>> فرنسا وبريطانيا والصين، هذه الدول الخمس دائمة العضوية، أما الدول الإسلامية فأعضاء، كما قيل:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستشهدون وهم شهود
سواء كانوا حاضرين أم غائبين، يقولون: أحد الوفود من الدول النامية يحضر في مجلس الأمن في انعقاد الجلسة: ومن عادته أنه كثير النوم، ينام ما اكتشفت دولته أنه ينام حتى وصل في نيويورك، فكان ينام في طول الجلسة، فيقوم في أثناء نومه فيقول: موافق، لأنه متعود من بلاده أنه يوافق على كل قرار ولا يعترض؛ لأنه سواء اعترض أو ما اعترض، فليس له صيت، فقالوا: يتوهم أن صاحب الجلسة طلب التصويت فمد يده: وقال: موافق.
بلغت الشماتة بالعالم الإسلامي أن لا يملك أحد حق النقض أو حق الفيتو، يصوت المجلس على قرار فتأتي أمريكا تعترض وما اعترض على قرارات إدانة إسرائيل طول التاريخ إلا أمريكا، يقولون نحاصر إسرائيل؟
قالت: لا.
ندمر إسرائيل؟ لا.
ندينها؟ لا.
نرسل لها؟ لا.
نفاوضها؟ لا.
والمسلمون على كثرتهم:
عدد الحصى والرمل في تعدادهم فإذا حسبت وجدتهم أصفارا
ولذلك هم سواء يغيبون أو يحضرون ليس لهم أثر في القرار أبداً، وإنما هذه الدول الخمس هي التي تنفذ القرار، وتسيطر على الرأي العام، ولذلك يتمزق قلب المسلم إذا قال الدول دائمة العضوية، فينظر أين أبناء خالد، وأين أبناء طارق، وأين أبناء عمر؟!!
أين الفاتحون الذين فتحوا الدنيا؟!
لا شيء، أمريكان وإنجليز وفرنسيون وصينيون وروس هم الذي يسيطرون على العالم، ليس فيهم مسلم ولا ساجد ولا ولي لله، ثم نبقى نحن يتحكم فينا هؤلاء في قراراتهم وتوجيهاتهم والسبب: أنهم اعتنوا بأنفسهم ووحدوا أمرهم وسيطروا على العالم بالقوة، هذا الحادث بين لنا هذا الأمر.(131/23)
من الآثار: تدهور الاقتصاد
الأمر الثاني: أن هذا الحادث له نتائج خطيرة في عالم الاقتصاد، فالعالم الإسلامي الآن يعيش فقراً، وأصلاً بلاد المسلمين كلها بلاد يذكر فيها لا إله إلا الله، وهناك أطفال تضرروا وسبب تضررهم المجرمون المفسدون البغاة الظالمون، وهناك دول إسلامية بعيدة عن الحادث ومع ذلك وتضررت وهذا هو الحادث الذي سبب لنا هذه الكارثة بفعل ذاك المجرم الذي نسأل الله أن يزيله وأن يكفينا شره.(131/24)
الإيجابيات التي تؤخذ من الأحداث
أثبت لنا هذا الحادث أن هناك أناساً يعيشون على غير قيم ولا مبادئ، يتجهون مع الريح في كل اتجاه، ما لهم كلمة منضبطة مثل أهل الأدب، لم يصوروا الأشخاص على حقيقتهم، حاكم العراق هذا من يوم أتت به أمه وهو عدو لله، فلماذا لا يأتي هؤلاء الشعراء والأدباء والمفكرون يصورنه للناس من قبل غزو الكويت؟ بل كانوا يمدحونه، وأحدهم مدحه في المربد بقصيدة هائلة رنانة طنانة وسلمه هو الوسام وألبسه أمام الجماهير، ثم بعد الغزو نزل هذا عليه وسبه ورد جائزته، فقط من سيئاته غزو الكويت، وله سيئات أعظم وأدهى وأمر منها.
وفي هذا الحادث اكتشفنا أن في العالم الإسلامي غثائية في العدد، مليار مسلم، لكن تعال عد، منهم فريق صوفية في الزاوية، عليهم مرقعات لا يعرفون إلا نشيداً في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وليس لهم تعلق بالجهاد ولا بالاقتصاد، ولا بالإعلام، ولا بالساحة، ولا بمجريات الأحداث فقط في الزوايا، وفريق من هؤلاء مترفون ليس لهم هم إلا التزلج على الثلج والسفر إلى باريس وبانكوك وصيد الأرانب ومطاردة الحمام، والهواية بيع القيم في سوق الخسارة.
اكتشفنا أن هناك فريقاً لكنه هزيل عنده توجه وخير لكن لا يعرف إلا نفسه، نفسي نفسي، يصلي ويعود إلى المسجد، وإذا رأى فتنة قال: {أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق} ولا يدعو ولا يعلم ولا يتعلم.
وهناك ثلة باقية رائدة، هي التي تسمى: الصحوة الإسلامية، إن بني عمك فيهم رماح، وهذه التي أقضت مضاجعهم، مضاجع الكفار وحسبوا لها ألف حساب، وهي مخيفة؛ لأنها سيطرت على العالم الإسلامي، ولأنها موجهة ومنضبطة، وليس بصحيح من يقول: إن فيها تطرفاً وقد سبقت الإشارة إليه بخطبة جمعة، ليس فيها تطرف، يمكن أن يكون صوراً، أما أن يكون ظاهرة فخطأ، وما سمعنا بتطرف والحمد لله.
واكتشفنا من هذا الحادث: أن العدو لابد أن نعرفه من قبل أن نصادقه وأن نعرف كيف نتعامل مع الناس بالكتاب والسنة وبلا إله إلا الله، فأما الولي فنواليه، وأما العدو فنعاديه.
أيها الإخوة الفضلاء! عسى الله أن يجعمنا بكم مرات ومرات بإذنه سبحانه وتعالى، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(131/25)
سبعة يظلهم الله في ظله
يتحدث النبي صلى الله عليه وسلم إلى كل مؤمن ومؤمنة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويتحدث إلى الأجيال تلو الأجيال، ويخبرهم بفضائل الأعمال، ومن هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يضلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) الحديث.
وفي هذه المادة شرح تفصيلي لهذا الحديث وبيان لما فيه من الدروس والعبر.(132/1)
شرح حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أيها الإخوة! إن كان للحياة لذة وللعيش سعادة؛ فإنما هو بالجلوس في مجالس الذكر التي إذا انقطع عنها القلب شعر بقسوة ووحشة وغربة.
يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم
نعود إلى البخاري ومسلم، إلى حفظة الإسلام، وإلى كتب هذا الدين الذي شرفنا الله به والشريعة التي بعثها صلى الله عليه وسلم للبشرية، فهدى الله بها من شاء، وأخرج بها من شاء من الضلالة إلى الهدى، ومن العمى إلى النور، ومن الغي إلى الرشاد، فنسأله سبحانه تعالى، فإنه هو ولي المؤمنين الذي يخرجهم من الظلمات إلى النور؛ أن يخرجنا وإياكم من ظلمات الجهل والشبه والشهوات إلى نور اليقين.
معنا في هذا الدرس حديث مشرق من كلامه عليه الصلاة والسلام، وهو يتحدث إلى كل مؤمن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يتحدث إلى الأجيال تلو الأجيال، وهو أبونا عليه الصلاة والسلام، بل هو الأب الروحي كما يقول ابن تيمية، وأما آباؤنا فإن كل أب جثماني ننتسب إليه، أما الانتساب في مبدأ (لا إله إلا الله) والانتساب الحق، إنما هو إليه صلى الله عليه وسلم.
قال أبو هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين} نسأل الله بأسمائه الحسنى وبصفاته العلى أن يجعلنا وإياكم من هؤلاء السبعة.
وهؤلاء السبعة -كما يقول أهل العلم- هم سبعة أصناف وليسوا سبعة أفراد؛ لأنهم لو كانوا سبعة أفراد، فإذا اكتملوا حرم البقية من الأمم ومن الألوف المؤلفة هذا الفضل، ولكنهم سبعة أصناف يأتي في صنف الإمام العادل آلاف، فكل من عدل في رعيته، سواء كان أمير عامة كما يقول ابن تيمية، أو أمير خاصة، وحتى لو كان في بيته، حتى يقول ابن تيمية في فتاويه: من عدل بين طالبين فهو إمام عادل.
فإذا صحح الأستاذ لطالبين فعدل بينهما؛ فهو من هؤلاء الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فإن خان حرم وكان ممن جار في الحكومة عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
إذاً: فهؤلاء السبعة أصناف وليسوا بأفراد، فالإمام العادل يأتي منه آلاف مؤلفة، والشاب الذي نشأ في عبادة الله يأتي منه آلاف مؤلفة، وكذلك الرجلان اللذان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، يأتي منهم ألوف مؤلفة.
والذي ينبغي على المؤمن أن يحرص كل الحرص أن تكون فيه صفة من هذه الصفات إذا لم تكن فيه صفتان أو ثلاث، وهي سهلة ويسيره على من يسرها الله عليه، ولذلك يقولون: إن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه الخليفة الأموي الذي يعتبر من الخلفاء الراشدين، اجتمعت فيه صفات، منها: أنه نشأ في عبادة الله، ومنها: أنه إمام عادل، ومنها: أن قلبه معلق بالمساجد، ثم قالوا: ولا يبعد أنه ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ولا يبعد كذلك أنه أحب قوماً في الله، اجتمع معهم في محبة الله وفارقهم على محبة الله إلى غير تلك الصفات.
قال عليه الصلاة والسلام: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله} فلا ظل يوم القيامة ويوم العرض إلا ظل الله، ولا فيء إلا فيئه تعالى، ولا كنف إلا كنفه، فإنه لا يوجد هناك مظلة، ولا شجر، ولا ظلال، ولا شيء يقي من حر الشمس التي تدنو من الرءوس.
يقول عقبة بن عامر: والله الذي لا إله إلا هو لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {تدنو الشمس يوم القيامة من الرءوس حتى ما يكون بينها وبين الناس إلا ميل.
قال: فوالله ما أدري هل هو ميل المكحلة أو الميل المعروف هذا} ويبلغ الكرب من النفوس مبلغاً عظيماً لا يعلمه إلا الله، حينها ينزل الجبار تبارك وتعالى نزولاً يليق بجلاله على عرشه، يحمل عرشه ثمانية وهو مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، لا كيف ولا أين ولا شبيه، بل هو مستو على عرشه كما أخبر بذلك تبارك وتعالى، فإذا نزل نادى بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، سُبحَانَهُ وَتَعَالى -فهو الملك كما قال: مالك يوم الدين، ملك يوم الدين، فلا مالك إلا هو، وفي الحديث الصحيح: {أنا الملك فأين ملوك الأرض} ثم يعيد سُبحَانَهُ وَتَعَالى: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ ثم يقول تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] حينها ينادي تبارك وتعالى أول نداء، يقول: {أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي} وهذا الحديث عن معاذ بن جبل في صحيح مسلم، فيقومون يتخطون الناس حتى يستظلون بظل العرش.
والسبعة في الحديث الذين قال عنهم عليه الصلاة والسلام أنهم سبعة، وعدد السبعة محبوب في الإسلام، فأيام الأسبوع سبعة، والطواف سبعة أشواط والسعي سبعة، ورمي الجمار سبع، وكثير ما يعلق الشارع بعدد سبعة، لأنه وتر والله يحب الوتر، واختار الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام هذا العدد، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: سبعة يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فلنستمع ولنعش مع هؤلاء السبعة؛ عل الله أن يرزقنا أن نكون من صنف ولو واحد منهم، وهو والله سهل بسيط، ولو أن تقوم من مجلسك هذا فتتصدق بصدقة تخفيها حتى لا تعلم شمالك ما تنفق يمينك، أو تنزوي في زاوية فتذكر الله وتتباكى، أو تحب الصالحين في محبة الله تعالى، أو تشعر قلبك كلما سمعت (الله أكبر) في النداء؛ أن قلبك في المسجد، فتعلقه في المسجد، وهذا وجه بلاغي سوف يأتي عند شرح الحديث.(132/2)
الإمام العادل
والإمام العادل: هو من عدل في رعيته، وحكم فيهم بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فهذا يدعوه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق، وفي مسند أحمد عن عبد الله بن مغفل، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {ما من أمير ولا والي ولي من أمر الأمة شيئاً إلا أتى ويداه مغلولتان وراء ظهره} يأتي يوم القيامة ويداه مغلولتان وراء ظهره، اليمنى فوق اليسرى، سواء عدل أو لم يعدل، فإذا حوسب وكان عادلاً أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وإذا كان جائراً رده الله على وجهه ويداه مغلولتان وراء ظهره.
والإمام العادل يكون في البيت، وفي المدرسة، وفي الدائرة، وفي الأمة، وفي أي مكان، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} إذا علم هذا فأعدل الأئمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو أعدل من خلق الله، وهو الذي حكم على نفسه قبل أن يحكم عليه غيره عليه الصلاة والسلام، وأنصف من نفسه، بل كان في آخر أيامه يقف على المنبر ويقول للناس: يا أيها الناس! اللهم من سببته أو شتمته أو ضربته، اللهم اجعلها كفارة له، ثم قال: يا أيها الناس! من سببته أو شتمته أو ضربته، أو أخذت شيئاً من ماله، فليقتص مني اليوم، قبل ألا يكون درهم ولا دينار، هذا عرضي فاقتصوا منه، فتراد المسجد بالبكاء في عهده عليه الصلاة والسلام.(132/3)
قصص تمثل عدل الرسول صلى الله عليه وسلم
وقعت له عليه الصلاة والسلام قصص في العدالة، ولذلك ورد في الصحيح من حديث عبد الله بن الزبير، قال: {اختصم أبو عبد الله الزبير بن العوام حواري الرسول صلى الله عليه وسلم، هو ورجل من الأنصار في مزرعة في شراج الحرة -وهي ضاحية من ضواحي المدينة - فلما اختصم الزبير هو وهذا الرجل الأنصاري، ذهبوا إلى أعدل الخلق، وإلى الحاكم عليه الصلاة والسلام، الذي ائتمنه الله على الوحي من السماء، فكيف لا يأتمنه الناس على الدرهم والدينار، والذي قال الله فيه: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:24 - 25] وقال في سورة الحاقة {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:45 - 46].
نزه الله سمعه وبصره، ومدح قلبه ويده ورجله، فهو الممدوح المعصوم عليه الصلاة والسلام.
حضر ليحكم في القصة؛ فأتى فإذا مزرعة الزبير فوق مزرعة الأنصاري، والزبير بن العوام ابن عمة الرسول عليه الصلاة والسلام صفية بنت عبد المطلب، والناس تسرع إليهم الشبه والريب، فأتى عليه الصلاة والسلام رحمة بالأنصاري وعطفاً عليه، فأراد أن يكون صلحاً ولا يكون حكماً، لأن للقاضي عليه أن يقدم الصلح قبل الحكم، بشرط أن يكون الصلح غير منافٍ لكتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا زبير! اسق، فإذا سقيت فاترك الماء ينزل إلى مزرعة الأنصاري.
فغضب الأنصاري، وهو مسلم ولكن الشيطان راوده، يغضب على سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، فالتفت الأنصاري والصحابة وقوف، وقال: أن كان ابن عمتك حكمت له؟ سبحان الله! الرسول يميل مع ابن العمة وابن الجدة وابن الخالة، وينسى الله وهو أتقى الناس لله! فاحمر وجهه عليه الصلاة والسلام وسكت، فقام عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يا رسول الله! نافق هذا الرجل دعني أضرب عنقه.
ثم ما دام أن الأنصاري اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجور فالآن يأتى الحكم، كان في صالحه أول النهار، ولكن الآن أتى الحكم، فقال: اسق يا زبير حتى يعود الماء إلى الجدر -يعني إلى الجدار- ثم اترك الماء يمر.
فما رضي الأنصاري أول مرة بالصلح الذي هو لصالحه، ولكن غاضب الرسول عليه الصلاة والسلام فحاكمه إلى السنة، فقال: والسنة أن يسقي حتى يعود إلى الجدار، ثم اترك الماء.
فذهب صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عليه وهو في طريقه إلى المدينة قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] معنى الآية: والله لا يدخل الإيمان في قلوبهم، ولا يذوقون طعم اليقين حتى يحكموك ويجعلوك حكماً عادلا ًمنصفاً يرضونك، حتى يقول بعض العلماء: يرضونك في لا إله إلا الله، كما رضوك في أقل شعائر الدين.
فمن لم يرض به صلى الله عليه وسلم حاكماً في عبادته، وعقيدته، وسلوكه، وأخلاقه، فوالله ما آمن ولا رضي بالله رباً، ولا بالرسول صلى الله عليه وسلم إماماً.
ووقعت له صلى الله عليه وسلم قصة أخرى وهو يقسم الغنائم بين الناس، فكان يعطي هذا ليتألفه للإسلام كما تعرفون، ويقلل لهذا لأن في قلبه إيماناً ويقيناً وصدقاً، فيأتي بعض المنافقين ويجلس ويقول: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى.
فيذهب ابن مسعود فيقول: أتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته في أذنه بالخبر، فتغير وجهه حتى أصبح كالصرف.
قيل: الصرف النحاس الأحمر، وقيل: الذهب الأحمر، وقال: رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر، قال ابن مسعود قلت في نفسي لا جرم والله لا أرفع إليه بعدها كلمة.
قال: فذهبت، فأتى خارجي ناتئ الجبين، أي: مقدم الجبين، فقال: يا محمد! اعدل -يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالعدل- فقال رسول الله: خبت وخسرت إن لم أعدل، ألا تأمونني وأنا أمين من في السماء، فقال عمر: دعني أضرب عنقه يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: لا.
يخرج من ضئضئ هذا -قيل ثديه وقيل يده؛ لأنه كان في يده كحلَم الشاة، وقيل: كحلَم الشاة وعليها شعرات، قال: {يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} وهؤلاء هم الخوارج، أخذوا بالحكم الظاهر وتركوا حقائق الأمور، فأدركهم سيف الله المنتضى أبو الحسن، فقتلهم قتل عاد، وكانت من حسناته.
فالإمام العادل وأعدل الناس هو الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم أتى الأئمة العدول بعده عليه الصلاة والسلام، وإنما المقصود من هذا أن من ولاه الله أمراً من أمور هذه الأمة فليتق الله وليعدل؛ إن كان مديراً في مدرسة، أو مسئولاً في الحكومة، أو موظفاً أو رائداً في بيته، أو مسئولاً وأميراً في سفر، أو إماماً عاماً أو قاضياً؛ فليعلم أنه يأتي يوم القيامة إما عادلاً يظله الله في ظله أو جائراً يتلفه الله عز وجل.(132/4)
صور من حياة الصحابة في العدل
أورد أهل السير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه - وسيره وسير أبي بكر وعمر وعثمان؛ هؤلاء الصفوة هي التي تحيي القلوب بإذن الله عز وجل، والذي يريد أن يعرف ويتعرف على الإسلام؛ فعليه أن يقرأ سير هؤلاء فإنهم هم الذين هداهم الله وذكرهم في كتابه.
فَقَدَ علي بن أبي طالب درعه، فأخذه يهودي، فمر علي رضي الله عنه، فرأى درعه على اليهودي، فأمسكه بتلابيبه، وقال: درعي يا يهودي! وعلي في ذلك الوقت خليفة المؤمنين من شرق الأرض إلى غربها، وبإمكانه أن يدعو الجنود فيضربوا هذا اليهودي حتى لا يدري أين الشرق من الغرب، لكن لا.
فالأمر شورى والخلافة بيعة والحق حق والحقوق قضاء
فقال اليهودي: ليس هذا بدرعك.
فقال علي: بل درعي والله.
والواجب أن يصدق، فقال اليهودي: أتحاكم أنا وأنت.
قال: أنا الخليفة.
قال: لا.
أنت ستحكم لنفسك.
وأراد اليهودي أن يمتحنه، فذهبوا إلى شريح القاضي، وهو أحد قضاة علي رضي الله عنه وأرضاه، فلما أتوا إليه قام فرحب بـ علي بن أبي طالب، قال علي: لا ترحب بي، لأنني خصم.
أنا جئتك اليوم خصم، وما جئتك خليفة، إذا جئتك خليفة فرحب بي، ولكن ساو بيننا في لحظك ولفظك.
فقال شريح: اجلس هنا يا أمير المؤمنين! قال: لا.
لأنني خصم، إما أن تجلسنا سوياً في مكان واحد، أو أجلسنا على الأرض في مكان واحد، فأجلس علياً بجانب اليهودي على الأرض، وجلس شريح على كرسي القضاء.
ثم قال: هل لك بينة يا أمير المؤمنين أن الدرع درعك؟ قال: نعم.
يشهد لي شاهد.
قال: من شاهدك؟ قال: ابني.
قال: أنت تعلم أن الابن لا يشهد لأبيه.
وعلي يريد أن يختبر القاضي، قال: إذاً ليس عندي شاهد.
قال: إذاً فالدرع درع اليهودي، لأنك لم تأت ببينة، فأخذه اليهودي فولى، ثم التفت وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، آمنت بهذا الدين الذي أجلسك يا أمير المؤمنين بمجلس معي، والله الذي لا إله إلا هو إن الدرع درعك، فأعطاه وسلمه ودخل في الإسلام.
فهذا وأمثاله من أئمة الإسلام، هم الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ولذلك يقول أحمد شوقي يمدح الرسول عليه الصلاة والسلام:
وإذا حكمت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء
وعمر رضي الله عنه وأرضاه مثَّل العدل في الإسلام، وقصصه لا تنتهي أبداً، ولكن نكتفي ببعض المواقف.
منها: أنه جلس مع الصحابة رضوان الله عليهم في المدينة في ضحى النهار، وإذا برجل يقدم من البادية مسحوباً بيده من قبل شباب ثلاثة، فقال لهم عمر: مالكم ماذا وقع؟
قالوا: هذا قتل أبانا.
قال: وما الخبر؟
قالوا: أتى أبونا بجمل معه، فرعى في مزرعة هذا الرجل، فقام وأخذ حجراً فألقاه على رأس أبينا فقتله، فالتفت عمر إلى الرجل وقال: أقتلت أباهم؟
قال: نعم.
قتلت أباهم.
قال: وما حملك؟ قال: عدى بجمله على مزرعتي فظننت أنني سوف أبعده بالحجر فرميته فقتلته.
قال القصاص: حكم الله بالقتل.
قال: يا أمير المؤمنين! أسألك بالله الذي لا إله إلا هو أن تمهلني ثلاثة أيام، فوالله الذي لا إله إلا هو أن أهلي في الصحراء، ما معهم معول إلا أنا بعد الله عز وجل، ولا خليفة لهم بعد الله إلا أنا، لا يعلمون أين ذهبت من أرض الله، لأنني لما قتلت أباهم، اقتادوني إليك ولم أخبر أهلي، قال عمر: لن تذهب، لأنك خصم، وقد حكم عليك بالقصاص إلا أن تأتي بكفيل.
فالتفت إلى الصحابة فلم يعرف أحداً منهم أبداً، فأعاد النظر إليهم -ويا سبحان الله! فتيه ونساء وراءه، كيف يقتل في المدينة وهم ليس عندهم خبر، ولا خليفة لهم بعده ولا والي إلا الله عز وجل؟! - فالتفت إلى الصحابة ثم نظر إليهم، فرأى أبا ذر رضي الله عنه، وإذا على وجهه النور والخشية والزهد، فقال: يا شيخ! أنا ما عرفتك لكن أسألك بالله الذي لا إله إلا هو أن تكفلني، فإني سوف أعود.
قال أبو ذر: ومن بيني ويبنك؟ قال: بيني وبينك الله.
قال: أبو ذر، وعيناه تدمع: كفى بالله ولياً وكفى بالله حسيباً.
فقال عمر رضي الله عنه: أكفلته يا أبا ذر؟ قال: نعم.
يا أمير المؤمنين! والله لو كنا في الجاهلية لكفلته، كيف وقد أتاني بموثق من الله.
ولذلك لما أتى يعقوب عليه السلام قال لأبنائه: أعطوني موثقاً، فأتوه بموثق من الله عز وجل، فقال: الله على ما نقول وكيل، ومن رضي بالله وكيلاً، كفاه الله عز وجل.
فذهب الرجل وبقي أبو ذر، وجلس الصحابة رضوان الله عليهم، ومضت ثلاثة أيام وهم ينتظرون، وفي اليوم الرابع جلس عمر رضي الله عنه الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، حتى يقول: والله لو فصل عظمي عن لحمي لأعملن بسنه سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجلس ودعا الشباب الذين يطالبون بدم أبيهم، ودعا أبا ذر، فخرج أبو ذر، فقال: أجاء الرجل؟ قالوا: لم يأت من البادية.
قال: الله المستعان! لأن القصاص في ذلك الوقت، فجلس الصحابة يطالعون وينظرون في الصحراء، وتأخر الرجل حتى قرب الغروب، وقال عمر رضي الله عنه: إن غربت الشمس فالقصاص يا أبا ذر.
قال: يا أمير المؤمنين! كيف؟ قال: والله لا أمهلك، حكم الله عز وجل، أنت عن أبيهم لأنك كفيل، فلما أوشكت الشمس على الغروب، وإذا بذلك الرجل يقبل وهو يجري جرياً، فلما دخل ألقى نفسه وقال: والله ما أكلت من الصباح وما شربت؛ لأدرككم، في هذا اليوم، ذهبت إلى أهلي، والله لقد تركت صبيتي وبناتي يتباكون، فتأثر الصحابة كثيراً، والتفت عمر رضي الله عنه، وقال: القصاص، حكم الله عز وجل.
فقام الشباب، وقالوا: ما دام أن هذا أوفى مع الله عز وجل، فلا يكون أوفى منا، قد عفونا عنه وسامحناه، فقام عمر وقال: عفا الله عنكم يوم العرض الأكبر، وجزاك الله بوفائك خيراً يوم أتيت، وبارك الله فيك يا أبا ذر؛ لأنك كفلته في ذات الله عز وجل.
فهذه صورة رائعة من صور العدل التي مثلها عمر رضي الله عنه وأرضاه للأمة، والله عز وجل يقول لداود عليه السلام: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26].(132/5)
الالتزام بالعبادة منذ الصغر
وأما الصنف الثاني: فهو الشاب الذي نشأ في طاعة الله وعبادته، لا يعرف إلا القرآن، وذكر الله عز وجل، وهذا الأمر عزيز ونادر، حتى يقول الغزالي: إنه نادر جداً في الأمة.
لكن من الناس من ينشئه الله نشأة حسنة ويربيه على طاعته، وفي الحديث: {يعجب ربك سُبحَانَهُ وَتَعَالى من الشاب ليس له صبوة} معنى الحديث: أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يتعجب فوق سبع سماوات من شاب لا يعصي الله عز وجل، يتعجب أن هذا الشاب عنده قدرات وطموح وقوة وفتوة، ثم لا يعصي الله عز وجل، فيتعجب الله عز وجل منه.
ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله يستحي أن يعذب شاباً في الإسلام} فإذا كان الله يستحي من فوق سبع سموات أن يعذب شاباً في الإسلام؛ فما بالك بالذين لا يستحون من الله عز وجل؟!
ومن الشباب الذين نشئوا في عبادة الله -كما في السير والأخبار- أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو من رواة البخاري ومسلم، كان في العشرين من عمره وكان إذا خرج إلى السوق ونظر الناس إلى وجهه، تركوا بضائعهم وقاموا على أرجلهم، وقالوا: لا إله إلا الله، حتى يقول الحسن البصري: [[هذا سيد شباب أهل البصرة، وإني لأظنه من أهل الجنة]] أيوب هذا كان لا يعرف إلا الله عز وجل، فكان من بيته إلى مسجده، وكان يقرأ الحديث على الناس فتغلبه عيناه بالدموع، فيميط عن أنفه ويقول: ما أشد الزكام! يظهر أن هناك زكاماً وهو البكاء، يقول الإمام مالك: ما ظننت أن في أهل العراق خيراً حتى رأيت أيوب بن أبي تميمة وهو شاب قدم علينا، فسلم على رسول الله في قبره، ثم بكى حتى كادت أضلاعه تختلف.
فهذا من الشباب الذين نسأل الله أن يظلهم وإيانا في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وذكر الذهبي وغيره من أهل التواريخ والسير: أن سهل بن عبد الله التستري كان شاباً صغيراً، فكان يقرأ القرآن في المسجد مع شيخه، فكان شيخه يحبه كثيراً، فذهب زملاؤه إلى آبائهم وقالوا: يا أبانا! شيخنا يحب سهلاً أكثر منا، فذهب آباؤهم وقالوا: كيف تقدم سهلاً على أبنائنا دائماً وهم سيان في القراءة والتلاوة، قال: لأن سهلاً يخاف من الله عز وجل أكثر من أبنائكم.
قالوا: دلل لنا على ذلك.
فقال: سوف أدلل لكم على ذلك -وكان هذا الشيخ حكيماً- فقال لهؤلاء الطلاب: ليأتي كل منكم بدجاجة، فأتوا في الصباح كل واحد منهم بدجاجة، فلما أحضروها قال: كل منكم يذهب بهذه الدجاجة إلى مكان لا يراه فيه أحد ويذبحها.
فذهبوا جميعاً كلٌ بدجاجته، فلما اختفوا؛ ذبح كل واحد منهم دجاجته ثم رجعوا إلى الشيخ إلا سهلاً لم يذبح دجاجته، فقال: أذبحتم دجاجكم؟
قالوا: نعم.
قال: وأنت.
قال: ما ذبحتها.
قال: ولم؟
قال: لأنك قلت لي في مكان لا يراني فيه أحد، والله يراني في كل مكان.
قال: فلما أتيت وسللت هذه السكين لأذبح هذه الدجاجة تذكرت الله فكففت.
قال: نعم.
وأنت نسأل الله أن تكون -أو كما قال- ممن يعبد الله كأنه يراه.
فهذه هي أعظم درجات الخشية من الله، وهؤلاء من الشباب الذين يحبهم الله عز وجل وأنشأهم في عبادته، ويظلهم في ظله.(132/6)
الأخوة في الله
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: {ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه} فهذه أعظم درجات المحبة، وهؤلاء من الأصناف الثلاثة الذين قال عنهم صلى الله عليه وسلم: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان -ثم ذكر منها-: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله} فإذا أحببت رجلاً لله، لا لتجارة ولا لمنفعة ولا لمكسب، فأبشر ثم أبشر، فأنت من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومعنى (اجتمعا عليه) أي: دخلا في محبته سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فكان اجتماعهم بسبب المحبة فيه، (وتفرقا عليه) أي: سافر أحدهم وفارق صاحبه، أو مات أحدهم عن الآخر وهو حبيب له في الله.
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين الرجلين من الصحابة ويجعلهم إخواناً، فآخى بين سلمان وأبي الدرداء، وتآخى كذلك في الله سلمان وعبد الله بن سلام، فقال عبد الله بن سلام لـ سلمان: إني أحبك في الله، فأسألك بالله عز وجل إذا مت قبلي أو مت قبلك أن تحرص إذا تلاقينا في المنام أن توصيني بخير يدلني على الله.
وهذه القصة في صفة الصفوة وغيرها، وأرواح المؤمنين تتزاور في المنام، وهذا من عقيدة أهل السنة والجماعة وليست من الأصول، لكن ذكرها ابن تيمية، فإن الأرواح تتزاور، ولذلك قد يرى المسلم أخاه المسلم في النوم وقد مات ويخبره بكلام، ويتحدث إليه بأمور، ويوصيه بوصايا.
فمات عبد الله بن سلام قبل سلمان الفارسي، فرآه في المنام، فقال: كيف أنت؟ قال: أنا في عيشة راضية، وأنا أرى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى كل جمعة، يوم المزيد.
قال: فما وجدت خير العمل؟
قال: ما وجدت خير عمل من التوكل على الله، فأوصيك بالتوكل على الله.
فكانت هذه وصيته له، فهم تحابوا في الدنيا فكانوا إخوة في الآخرة وفي حياة البرزخ.
ولذلك قال أبو الحسن أمير المؤمنين رضي الله عنه: تزودوا من الإخوان فإنهم ذخر في الدنيا وفي الآخرة.
قالوا: يا أبا الحسن، أما في الدنيا فصدقت، وأما في الآخرة فمتى؟! قال: أما سمعتم الله يقول: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فمن خالل أخاه في ذات الله عز وجل كان خليلاً له في الآخرة، وكان مشفعاً مقبولاً فيه، إذا رضي الله وأذن له وكان من أهل الشفاعة.
فالمتحابون يناديهم الله عز وجل: {أين المتحابون في جلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي فيقوم نُزَّاع القبائل فيجتمعون حتى يظلهم الله في ظله قيل: من هم نُزَّاع القبائل؟ قال: قوم لم يجتمعوا على حسب، ولا على سبب، ولا على نسب، وإنما جمعهم الحب في الله} هذا من شعب، وذاك من شعب، وهذا من قبيلة وذاك من قبيلة، جمعهم الحب في الله، فيناديهم الله عز وجل، فيقومون يتخطون الناس حتى يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله.
وفي الحديث الصحيح: {أن رجلاً خرج من قرية إلى قرية ليزور أخاً له في الله، فأرصد الله على مدرجته ملكاً من الملائكة، فلما مر الرجل قال له الملك: أين تريد؟ قال له: أريد أن أزور أخاً لي في الله.
قال: هل له من نعمة عليك يربها؟ -أي يتعاهدها، فأنت تريد مكافأته، وفي لفظ: هل لك عليه من نعمة تربها؟ أي هل هناك سبب دنيوي أو مصلحة؟ - قال: لا.
والله الذي لا إله إلا هو، وإنما أحبه في الله.
قال: أنا رسول الله -يعني ملك أرسله الله- أخبرك أن الله رضي عنك ورضي عن صاحبك وفي لفظ: وأنكما من أهل الجنة} والسبب أنه زاره في الله.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه يقول: {قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتزاورين في، والمتجالسين في، والمتباذلين في} المتجالسون الذين لا يجلسون إلا على محبة الله، ويتزاورون محبةً في الله، ويبذل بعضهم بعضاً لله عز وجل، فهؤلاء وجبت لهم محبة الحي القيوم، هذا هو الحب في الله عز وجل، يقول الإمام الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
قال له الإمام أحمد:
تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم قد تناولنا الشفاعة
لأن الإمام الشافعي من أهل البيت، لكن من تواضعه يقول: أما أنا، فإن من صفاتي أنني أحب كل صالح ولو لم أعمل بعمله، وأنا عاصي -تواضعاً منه- لكني أحب الصالحين، وأكره العصاة وبضاعتي مثل بضاعتهم؛ ولذلك من علامة المؤمن أنه يحب المؤمنين ولو لم يعمل بعملهم، ويبغض العصاة ولو يعمل بعملهم، ومن علامة المنافق أنه يكره الطائعين ويعاديهم، ويحب العصاة ويعمل بعملهم، فهذا فارق بين من يحب في الله عز وجل ومن يحب لغير الله.
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: {كان صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطبنا، فدخل أعرابي فقطع خطبته وقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فسكت صلى الله عليه وسلم، ولما انتهى من الخطبة، قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: ماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صيام ولا صلاة ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله.
قال: المرء يحشر مع من أحب.
قال أنس: فوالله ما فرحنا بمثل هذا الحديث، فنحن نحب رسول الله وأبا بكر وعمر، ولو لم نعمل بعملهم}.
ويوم يأتي صلى الله عليه وسلم في معركة أحد، فيستنفر الناس للقتال، ويقف على المنبر ويحثهم على المعركة، يقول أحد الشباب: يا رسول الله! اتركنا نخرج إلى المعركة.
لأنه عليه الصلاة والسلام قال: القتال سوف يكون داخل المدينة، وهذا هو الرأي الأصوب، وقد أشار عليه كبار الصحابة أن يبقى محصناً داخل المدينة، حتى يدخل كفار قريش، ويكون قتلهم داخل المدينة، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الرأي، قام أحد الشباب واسمه سالم بن مالك، وقال: يا رسول الله! لا تحرمنا لقاء الأعداء، ولا تحرمني دخول الجنة، والله الذي لا إله إلا هو لأدخلن الجنة.
فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: بماذا تدخل الجنة؟ قال: بأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف.
قال: إن تصدق الله يصدقك.
فقتل في المعركة، وكان من أهل الجنة، والسبب أنه يحب الله ورسوله.
وذكر ابن كثير في البداية والنهاية، عن بعض أمراء بني أيوب، قال: كان في الدنيا عليه بعض الخطايا، وكان من الأمراء الذين أفادوا في الجهاد، فلما توفي رآه العلماء في المنام، وله جناحان من نور، يطير في الجنة من شجرة إلى شجرة، فقالوا: أنت فلان؟ قال: نعم.
قالوا: والله ما كان عملك في الدنيا بذاك.
قال: أما سمعتم أن في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: {المرء يحشر مع من أحب}؟ قالوا: بلى.
قال: فوالله الذي لا إله إلا هو، ما كان في الدنيا شيء أحب إلي من الله ورسوله.
فبلغته المحبة مع شيء من العمل إلى هذه المنزلة، ولكن لا يغتر مغتر، كما يقول: الحسن [[لا يقل أحدكم: المرء يحشر مع من أحب.
ويعمل عمل الجبارين، ويريد أن يحشر مع الطائعين]] فإن النصارى أحبوا عيسى حتى ألَّهوه، وهم في النار وهو في الجنة، لكن المقصود أن يكون هناك أصول من العمل، ثم تحب من ارتفع عليك في المنزلة، فإن الله سوف يحشرك في زمرته، بشرط أن يكون لك عمل من طاعة ومن فرائض وواجبات، فإن الله عز وجل سوف يبلغك منزلة الذي ما بلغت منزلته بالعمل.
وأكثر ما سمع في التاريخ أنهم تحابوا في ذات الله هم الصحابة، حتى يقول عمر: [[يا أيها الناس! والله إنها لتطول بي الليلة شوقاً لأحدكم أو لبعضكم، فإذا أصبحت الصباح التزمته]] يتذكر عمر أحد الصحابة، فتطول عليه الليلة، فيأتي الصباح فيلتزم الصحابي وهي لم تمر إلا ليلة واحدة.
وكان علي رضي الله عنه وأرضاه، يتذكر الصحابة -كما ذكر ابن كثير في ترجمته- ويبكي بعد صلاة الفجر، ويقول كلاماً ما معناه: ذهبوا وخلفوني.
ولما نزل إلى طلحة بعد أن قتل، مسح التراب عن وجهه وقبله وقال: أسأل الله أن يجعلني وإياك ممن قال فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] والذي أسس بينهم الإخاء هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكانوا إخواناً كما أراد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].(132/7)
البكاء من خشية الله
وأما الرجل الرابع: فهو رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، وقوله: (خالياً) فمعناه: الإخلاص.
قال ابن تيمية في المجلد الثالث والعشرين: هؤلاء السبعة بلغوا أصول العبادات، أو أسس أصول العبادات، ثم ذكر أن رجلاً من العلماء ألف كتاباً اسمه اللمعة في السبعة، وتكلم عن الحديث، وقال: إن (خالياً) في الحديث معناه: الإخلاص، فإن بعض الناس قد يتباكى عند الناس، ولكن إذا خلا لا يبكي.
ولذلك يقول أهل العلم: احذروا النفاق والرياء في ثلاثة مواطن: عندما تذكر الله أمام الناس، وعندما تبكي أمام الناس، فإنها فتنه لكل مفتون، وعندما تتصدق أمام الناس.
وقالوا عن الأوزاعي -كما ذكر ذلك ابن كثير -: أنه كان إذا خلا بكى حتى يرحمه جيرانه، فإذا خالط الناس ما رئي ذلك منه.
وهذا لأنه يخاف على نفسه، ولكن بعض الناس يغلبه البكاء لخشيته وتقواه، فلا يهمه هذا لأنه مخلص، لكن قال في الحديث: خالياً؛ لأنه أبعد عن الشبهة وأبعد عن الرياء والسمعة.
يقول ابن القيم في كتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين: قال تقي الدين بن شقير: خرجت يوماً من الأيام وراء شيخ الإسلام ابن تيمية، فمر شيخ الإسلام في طريق حيث أراه ولا يراني، فانتهى إلى مكان فرأيته رفع طرفه إلى السماء، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ثم بكى، ثم قال:
وأخرج عنك من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خالياً
فهذا من الذين ذكروا الله وهم في خلوة.
وذكر الله لا يلزم أن يكون تسبيحاً وتكبيراً وتحميداً في الخلوة، لكن يقول أهل العلم: من رأى مبتلى فدمعت عيناه، فهو من الذاكرين لله؛ لأن بعض الناس إذا رأى المبتلين دمعت عيناه، إما أن ترى مبتلى قصت يداه أو رجلاه، أو ذهب جمال وجهه، أو فقئت عيناه، أو أصابه في أولاده كارثة، أو فقد وعيه وعقله، فهو يمضي هكذا بلا عقل، أو أتاه مرض عضال عطل حواسه؛ فتدمع العين لهذه الرؤيا، فيكون من ذكر الله، أو ترى آيات الله في الكون، يقول ابن الجوزي: مررت حاجاً فلما بلغت جبال العلا -وهي قريبة من تبوك - قال: فلما رأيت جبال العلا دمعت عيناي والله.
وهذا لأن المؤمن قد يتذكر من رؤية الجبال أو السهول أو الأودية أو الأشجار، آيات الله عز وجل، فتدمع عيناه فيكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وكذلك قد تدمع العين في خلوة كأن يتذكر ذنوبه وخطاياه، أو يتذكر أحبابه وأقاربه الذين سبقوه، أو يتذكر بعض الأمور التي حصلت له، فيكون من الذاكرين الله عز وجل.
إذا علم هذا؛ فإن أهل العلم يقولون: يكفي مرة واحدة في العمر أن تبكي خالياً، فتكون من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأحسن ما يذكر الله عز وجل في جوف الليل الغابر، أو في آخره.(132/8)
حب المساجد
الرجل الخامس: رجل قلبه معلق بالمساجد، وهذا وجه بلاغي، وهي كناية عن حضور القلب، وحضوره مع الصلوات، وهذه صفة لطائفة من الناس من الأخيار يؤتيهم الله من الاستقامة ما الله به عليم، وكان أحد الصالحين في الأفلاج، وقد توفي قبل ثلاثين سنة، اسمه محمد بن عثميين وهو شاعر، قالوا عنه: مكث ثلاثين سنة ما زار أحداً ولا وصل أحداً، ولا جلس إلا مع أهله من البيت إلى المسجد، يفتح مصحفه بعد صلاة الفجر إلى الظهر، وكان صائماً طيلة الثلاثين السنة، وكان لا يفتأ يذكر الله عز وجل.
وذكروا أن بعض العباد انقطعوا لله عز وجل، فكانت قلوبهم معلقة، وسوف يأتي بيان بهذه الجملة.
وقوله: (قلبه معلق) فليس معناه أنه ترك قلبه في المسجد وذهب، لا معناه أن قلبه متوله بالمسجد، ولذلك تجد بعض الصالحين ينظر إلى ساعته دائماً: متى يؤذن؟ تأخر المؤذن؟ كم بقي؟ متى تؤذنون في هذا البلد؟
فقلبه دائماً معلق بالمسجد، غير الذين سهوا ولغوا وانصرفت قلوبهم، فإنه لا يقوم إن كان يريد أن يصلي إلا في آخر الوقت، وإذا أتى إلى الصلاة أتى ساهياً وقد صلى الناس , وقد تفوته الصلاة وينسى، لأن قلبه ما حضرت فيه عظمة الله، ولا كانت فيه منزلة لله عز وجل، وإلا فإن الإنسان المؤمن لا ينسى الله عز وجل فإذا ذهب الظهر وأتى العصر قال: والله نسيت صلاة الظهر، فإذا أتى العصر قال: ذهبنا مع فلان وتمشينا ونسينا العصر أهذا مؤمن؟ دائماً حاله هكذا! فإذا قلت له: صليت مع الجماعة.
قال: نسيت ما تذكرت الوقت، ذهب عني.
حتى يقول أبو الأعلى المودودي في رسالته كيف تقرأ القرآن يقول: هذا الدين يجب أن يكون في رأسك مثل الصداع، هل تنسى الصداع الذي في رأسك؟ تنزل السوق والصداع في رأسك، وتدخل المسجد والصداع في رأسك، وأنت جالس في البيت والصداع في رأسك ولا تنساه، فكيف ينسى الإنسان المسجد وهو بيت الله عز وجل.
قيل عن الإمام الأعمش رحمه الله، أحد رواة الصحيحين، من الذين حفظوا كثيراً من دواوين الإسلام والحديث النبوي: حضرته الوفاة فبكى ابنه كثيراً، فقال لابنه: ابك أو لا تبك، فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الإمام ستين سنة.
وهذا من باب حسن الظن بالله عند سكرات الموت.
وذكر ابن الجوزي عن عامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير أنه ما كان يترك المسجد، بل كان يأتي قبل الصلاة بأوقات، فأتى يوماً من الأيام في الصف الثاني، فقال: الله المستعان! والله ما صليت في الصف الثاني منذ عقلت رشدي، لم أصلّ إلا في الصف الأول.
قالوا: فلما حضرته الوفاة وهو في سكرات الموت أو قبلها بقليل سمع أذان المغرب، فبكى بكاءً طويلاً، فقالوا: مالك؟ قال: يصلي الناس في المسجد وأصلي في البيت.
قالوا: أنت مريض.
قال: والله لن يكون إلا خروج نفسي أو أصلي مع الناس، احملوني إلى المسجد.
فحملوه فلما صلى مع الناس قبضه الله في آخر سجدة.
فسلم الناس وإذا هو ساجد لله عز وجل، حركوه فإذا هو ميت، فقالوا لأبنائه: ما هذه الميتة السعيدة الحسنة؟ فقال أبناؤه: والله ما كان أبونا يقوم أي يوم إلا ويقول: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة.
فقلنا له: يا أبه، ما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني الله وأنا ساجد.
فلبى الله له ما سأل فتوفي وهو ساجد.
هذا لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى علم الصدق منه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {ورجل قلبه معلق بالمساجد} أي: لا يفتأ.
وكان سيد الخلق عليه الصلاة والسلام إذا ازدحمت عليه الأمور والأحزان قال: {أرحنا بها يا بلال}.
وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصلياً
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترقَ أبواب الجنان الثمانيا
وكان عليه الصلاة والسلام -كما تقول عائشة - يشتغل بمهنة أهله يقطع مع أهله اللحم، ويخسف نعله ويرقع ثوبه، ويحلب شاته، ويكنس بيته، وهو أشرف من خلق الله عز وجل، قالت عائشة رضي الله عنها: {فإذا سمع النداء، قام من مجلسه، فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه}.
وذكروا في السير أن أحد الصالحين كان يعمل نجاراً، لأن الطائفة المنصورة أو أهل النجاة يجعلهم الله عز وجل موزعين في الناس، من عالم وإمام ومسئول وفلاح وتاجر ونجار ومدرس ومعلم إلى غير ذلك من الأصناف.
فقالوا: كان يشتغل بالنجارة فإذا سمع النداء لا يرد المطرقة، وإنما يسقطها وراءه ويقوم.
إذا علم هذا؛ فمعنى (قلبه معلق بالمساجد) أنه دائماً يتذكر بيوت الله، وأوقات الصلاة، فإذا صلى الظهر تذكر العصر، فقلبه دائماً بالأشواق، وهذا مجرب عند كثير من الناس، حتى أن من الصالحين ولو لم يُؤْتَ علماً كثيراً، فإنك تجده إذا صلى المغرب يجلس مع أهله ومع أطفاله، يمازحهم ويداعبهم، ولكن بعد الفترة والأخرى ينظر في الساعة، أو يقول: أسمعتم الأذان؟ هل قرب العشاء؟ فهو يسأل لأن قلبه دائماً مستنفر.
أما المنافق فإنه إذا صلى ضاع الوقت ما لم يحرك وينبه ويصاح عليه -نسأل الله العافية- فإذا صلى فريضة تذكر الأخرى.
قال عدي بن حاتم الطائي، كما في كتاب الزهد للإمام أحمد: والله ما دخلت عليَّ صلاة والحمد لله إلا كنت لها بالأشواق وتوضأت قبلها.
وكان أهل المدينة لا يؤذن المؤذن إلا وقد امتلأت الصفوف في المسجد، فتناقص الحال مع تناقص خيرية الأمة، حتى يأتي المحسن منهم عند الإقامة، ثم تناقص حتى أن بعضهم لا يأتي إلا وقد صلى الناس فيسلم عليهم وهم خارجون من المسجد، ويقول: أصليتم؟ وهو يعرف أنهم صلوا، لكنه يريد أن يعتذر، كأنه لم يعرف.
وقد قال أحد الصالحين: فاتتني صلاة العصر في جماعة، فما عزاني أحد، ومات ابني فعزاني أهل البصرة جميعاً، فوالله الذي لا إله إلا هو إن مصيبة تلك الصلاة بقيت في قلبي ومصيبة ابني ما أحسست بها.
وذكر صاحب الحلية: أن أحد الصالحين فاتته صلاة العشاء في جماعة في حياته مرة واحدة، فقال: الله المستعان! ما فاتتني صلاة في جماعة إلا هذه الصلاة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة} لا جرم لأصلينها سبعاً وعشرين مرة، فقام فصلاها سبعاً وعشرين مرة ثم نام، فرأى في المنام أن خيالة عليهم ثياب بيض، وإذا هم جماعة في المسجد وقد ذهبوا، وهو وراءهم على أرجله، يمشي ويجري ويحاول أن يصل فلا يلحق، وفي الأخير التفت إليه أحدهم وقال: لا تحاول، نحن صلينا في جماعة وأنت صليت وحدك.
وقد أعادها سبعاً وعشرين مرة.
حتى أن ابن تيمية يقول: بل صلاة الجماعة واجبة، ويرى هو -كما ينقل صاحب السلسبيل - أنها شرط في صحة الصلاة، وإذا تخلف عنها المتخلف فإنه يحارب ويحرق بيته.
وقال: هو حكم رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وقال: فإذا استطاع الإمام أن يحرق بيته فليحوط عليه بيته إذا لم يكن فيه ذرية ولا نساء، فإذا علم أن الرجل تخلف ولم يكن له عذر، فإنه يحرق عليه بيته، وهو حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن هذا الأمر لا يتأتى، لأنه قد بلغ السيل الزبا، وقد أصبحنا نقول: يكفينا الله عز وجل من الكفر أن يدخل بيوتنا وحاراتنا، فنحن نعتصم بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36 - 37] فهؤلاء دائماً قلوبهم معلقة بالمساجد، فهم ينتظرون القدوم على الله عز وجل، فكأنهم تركوا قلوبهم معلقة في المساجد وذهبوا بأجسامهم إلى البيوت.
فمن أراد أن يظله الله عز وجل، فليحرص على أن يكون المسجد مدرسته الروحية، وأن يتذكر كلما تكاسل أن الله سوف يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كلما أتى إلى المسجد، وأنه سوف يمشي في النور التام كلما مشى في الظلمات إلى المساجد، وأن كل خطوة ترفع درجة وتحط خطيئة، فنسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن نكون من هذا الصنف.(132/9)
إخفاء الصدقة
الصنف السادس: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وفي بعض الروايات قلب على بعض الرواة فقال: حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله.
والصحيح: حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه؛ لأن التي تنفق هي اليمين، وهي التي تعطي، وليس معنى ذلك أن الشمال تدري، وبعض الصالحين حملوها على هذا المعنى فكانوا يخفون شمائلهم؛ كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق أخفى شماله ثم أعطى بيمينه، وهذا معنى رقيق ولطيف.
ولكن المعنى الصحيح: أنه من إخفائه في الصدقة لا يعلم به إلا الحي القيوم، لا يدري أحد أنه تصدق إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فإذا أراد أن يتصدق أخفى ثم أعطى الفقير أو المسكين أو المستحق فلا يدري أنه تصدق إلا الله، ولذلك جاء في الحديث وهو يقبل التحسين: أن الله عز وجل يضحك لثلاثة -وضحكه يليق بجلاله، لا تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل، إنما له صفة ضحك تليق به سُبحَانَهُ وَتَعَالى- يضحك لثلاثة:
الأول منهم: رجل سافر مع قافلة، فمشوا إلى آخر الليل، ثم قالوا: نريد أن ننام، فأنزلوا أمتعتهم وأغراضهم وأرادوا النوم، بعد تعب وإعياء ومشقة لا يعلمها إلا الله، فلما وقعوا في الأرض ناموا إلا هذا الرجل ترك النوم، بل قام فتوضأ بالماء البارد وقام يصلي على تعبه في السفر، ويدعو الله عز وجل، فيقول الله: انظروا إلى عبدي، ترك النوم، وأتى إلى الماء البارد وتوضأ منه يتملقني ويدعوني، أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة.
الثاني: رجل كان في سرية يقاتل الأعداء، فلما اقتربت من الأعداء فرت هذه السرية -وهي مسلمة- إلا هذا الرجل قام وقال: يا سبحان الله! أنفر من أعداء الله؟ والله لا أفر هذا اليوم.
فخلع درعه ولقي العدو حاسراً لا درع عليه، فقاتل حتى قتل، فقال الله لملائكته: أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة.
ورجل ثالث كان في قافلة في سفر فمر بهم فقير مسكين محتاج، فمد يديه وقال: أسألكم بالله الذي لا إله إلا هو، أنا منقطع بي الحال أن تؤتوني مما آتاكم الله.
قال: فلم تلتفت له القافلة، إلا هذا الرجل تخلف عنهم حتى اختفوا وراء أكمة أو جبل، فأخذ شيئاً من المال وأعطاه الفقير ومسح على رأسه، فقال الله: يا ملائكتي أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة.
فهذا رجل تصدق بصدقة وتخفى عن تلك القافلة حتى لا يعلم بصدقته إلا الله.
وذكروا أن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهؤلاء ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عموداً
فنحن نحبهم ونتقرب إلى الله بحبهم، أبناء فاطمة بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام.
كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يسمى زين العابدين، قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: أنه كان يصلي في الليل ألف ركعة.
ولا ندري ما صفة هذه الصلاة، لكن هذه الرواية وردت، إما أنه كان يختصر في الصلاة ويقرأ الفاتحة ويكثر، أو كان يحسب بالنهار والليل، ولكن أحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إنما الشاهد: أنه كان يخرج كل ليلة، فيأخذ من الدقيق ومن السمن على ظهره، ويمر على فقراء المدينة ويعطيهم في ظلام الليل بحيث لا يراه إلا الله، فعلم أهله بعد فترة فلما أتوا يغسلونه -وقد توفي- وجدوا آثار خيوط الحبال على كتفه، فسألوا أهله، فقالوا: إنها من كثرة ما كان يحمل على كتفه من الدقيق ومن التمر والزبيب، ويوزع على فقراء المدينة كل ليلة.
فهذا من الصنف الذي أخفى صدقته بحيث لا يراه إلا الله عز وجل.(132/10)
العفة ومراقبة الله
الصنف السابع: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين.
قالوا: هذه نهاية المراقبة لله الحي القيوم، فهي امرأة وهو مشتهٍ لها، ليس عنده أهل، ثم إنها ذات منصب، ومعنى ذلك أنه لا يخاف، فإن ذات المنصب يمكن أن تخرج نفسها وتخرجه بخلاف غيرها، وهي لا تخاف من إقامة حدود، ولا تخاف أن يظهر عليها أحد، أو يحبسها قوم، فهي ذات منصب، ثم هي ذات جمال، فهي تدعو بجمالها، لأن بعض الناس قد يترك هذه الأمور لأن المرأة ليست جميلة.
فقال: إني أخاف الله.
فكان حقاً على الله أوجبه على نفسه أن يظل هذا وأصنافه وأضرابه في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وأولهم يوسف عليه السلام، يقول ابن تيمية كما ينقل عنه ابن القيم في مدارج السالكين: فأما يوسف عليه السلام، فإن الله بلغه تلك المنزلة لأمور منها: أنه كان غريباً، والغريب لا يخاف من العار، ومنها: أنه كان أعزباً ليس عنده أهل، وهو أدعى إلى الفاحشة، أو أدعى إلى أن يتمتع، ومنها: أن المرأة هذه كانت ذات منصب، فإنها بإمكانها أن تخرجه وتخرج نفسها، ومنها: أنها ذات جمال، فهي امرأة ملك، فترك ذلك كله لله عز وجل، فكان سيد كل من دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله رب العالمين.
وذكر صاحب حلية الأولياء وصفة الصفوة: أن مسلم بن يسار أحد الصالحين، كان من أجمل الناس وهو شاب، فخرج من المدينة إلى مكة ليعتمر، فلما كان في الطريق عرضت له فتاة من أجمل الفتيات، فدعته إلى نفسها فبكى كثيراً، فاجتمع عليه أصحابه فقالوا: مالك تبكي؟ قال: لأمر.
فاستحلفوه فأخبرهم، فلما بدأ العمرة وطاف صلى ركعتين عند المقام ثم نام وهو جالس، فرأى يوسف عليه السلام كأنه يطوف، فقال مسلم بن يسار: من أنت؟ قال: أنا يوسف الذي هممت، وأنت مسلم بن يسار الذي لم يهم.
هكذا أوردها أهل العلم، وكان من أعظم المراقبة لله عز وجل أن يأتي الإنسان إلى هذه الأمور فيتذكر عظمة الله فيكف نفسه.
ولذلك يقول الأندلسي وهو يوصي ابنه:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
وقال الأول:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عَلَيَّ رقيب(132/11)
الأسئلة(132/12)
الدلائل التي نعرف بها تحقق صفات السبعة الذين يظلهم الله
السؤال
ما هي الدلائل التي تجعلنا نعرف أننا من هؤلاء السبعة أو من بعضهم؟ وما هو العلاج للإنسان الذي حاول أن يتفكر في خلق الله من الآيات الكونية وغيرها ويتأثر بذلك؟
الجواب
أما الأمور التي تعرفنا أننا من السبعة أو أن فينا صفة من صفات هؤلاء السبعة، فنحن شهداء الله في أرضه، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] فمن شهد له المسلمون بخير فهو من أهل الخير، ومن شهدوا عليه بالسوء فهو من أهل السوء، ومن شهد له أهل القبيلة والحارة بالخير فهم شهداء الله عليه يوم القيامة، وقد جاء في الصحيح: {أن جنازة مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأثنوا عليها خيراً فقال: وجبت، وجبت، وجبت.
وأثنوا على الثانية شراً، فقال: وجبت، وجبت، وجبت.
فقال عمر: ما وجبت يا رسول الله؟ قال: الأولى أثنيتم عليها خيراً فقلت: وجبت لها الجنة، والثانية أثنيتم عليها شراً، فقلت: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه}.
والمسلم قد يعرف من نفسه بالدلائل، مثلاً في صفة الرجل الذي قلبه معلق بالمساجد، يعرف هل هو يحب المسجد أم لا؟ وهل هو محافظ على الصلوات؟ وهل ما فاتته فريضة في جماعة؟ فإذا عرف بذلك فليبشر نفسه، ولكن لا يغتر ولا يعجب بنفسه، وليكن بين الخوف والرجاء.
وهو يعرف نفسه هل ذكر الله ذات مرة خالياً ففاضت عيناه؟ إلى غير ذلك.
فالدلائل قائمة من نفسك ومن الناس، ويحاول المؤمن أن يطلب شهادة الناس عند الله؛ ليكونوا له شهداء عند الله عز وجل، فإن الله يستشهد كل قبيل على قبيلهم، ويستشهد كل جمع على من خالطهم ومن زايلهم، فليحرص المؤمن على أن يكون ذكره حسناً، وأن تكون شهادة المؤمنين مقبولة عند الحي القيوم.
وأما العلاج الذي يتفكر له الإنسان في الخلوات، فما هو إلا الدربة، وكلما خلا يحاول أن يتفكر وأن يتباكى إذا لم يبك، فمن تباكى له أجر من بكى، لأنه ليس كل إنسان يستطيع، وبعض الناس لشكيمته ولنفسه ولو أن فيه صلاحاً وخيراً لا يستطيع أن يبكي، فعليه أن يتباكى كما كان عمر رضي الله عنه، فقد رأى الرسول وأبا بكر يبكون فتباكى معهم.
فإذا لم يبك فليتباكى، وليتأمل بلا بكاء، فإن الله عز وجل لا يحرمه الثواب والأجر.
أيها الإخوة! هذا الحديث من أعظم الأحاديث التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم، ومن الأحاديث التي ينبغي أن يعيش المسلم في رياضها، وأن يحاول أن يدخل مع هؤلاء السبعة، أو يدخل مع المتطفلين، فإذا لم تكن مع الصادقين فادخل مع المتطفلين، فإن الله لا يرد ضيافة المتطفل.
نسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا منهم، وأن يحشرنا في زمرتهم، وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأن يسقينا من حوض نبيه شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصبحه وسلم تسليماً كثيراً.(132/13)
من كنوز السيرة
ذكر الشيخ سدده الله في هذا الدرس آخر خطبة لعمر رضي الله عنه مستعرضاً ما فيها من فرائد الفوائد ومجلياً ما احتوت عليه من بيان فضيلة الصحابة وتواضعهم عامة وأبي بكر وعمر خاصة، وأهمية الشورى وما تجنيه من محاسن، وكيفية البيعة لأبي بكر، وأن الخلافة لم يرد في تحديدها نص شرعي، وختم الدرس بذكر بعض مناقب عمر رضي الله عنه، وقصة وفاته جمعه الله مع رفيقيه في عليين وجمعنا معهم آمين.(133/1)
آخر خطبة لعمر بن الخطاب
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، ومثل ما نقول، وفوق ما نقول، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، اللهم صلِّ وسلم على رسولك ونبيك الذي بعثته رحمة للعالمين، صلِّ وسلم على من اجتمعنا على ميراثه وعلى مائدته.
نسينا في ودادك كل غال فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمرو الله بعدك ما سلينا
اللهم بلغه منا الصلاة والسلام، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة.
اللهم صل عليه دائماً وأبداً؛ كلما بقي في الأرض مسلمون وإسلام، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
معنا لطائف من السيرة وتحف من أخبار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، نجوم الهداية، ورسل السلام إلى العالم، وكلهم نجوم، وكل واحد منهم نجم يهتدى به.
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
يقول الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، وفي كتاب المحاربين، وفي كتاب فضائل الصحابة، يقول رحمه الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا معمر، عن الزهري رحمه الله عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس حبر القرآن وترجمانه، رضي الله عنهما قال: [[كنت حججت في آخر حجة حجها عمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: وكنت في خيمتي في منى أقرئ الصحابة -أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام من المهاجرين والأنصار- فدخل عليّ عبد الرحمن بن عوف، وكنت أقرئهُ القرآن - عبد الرحمن أحد العشرة المبشرين بالجنة يقرئه ابن عباس القرآن- قال: فلما دخل عليّ قال: يا بن عباس! أما تدري ماذا حدث اليوم؟ قلت: لا والله، قال: إن رجلاً أتى عمر أمير المؤمنين يزعم أنه سمع رجلاً يقول: إذا مات عمر أو قتل بايعت فلاناً بالخلافة، قال: فغضب عمر، وقال: سوف أقوم في أهل منى -الحجاج- وأتكلم فيهم عن هؤلاء الذين يغصبوهم أمورهم، قال عبد الرحمن بن عوف وهو يتكلم مع ابن عباس فقلت لـ عمر: يا أمير المؤمنين! لا تقم في منى، فإن منى فيها الغوغاء وفيها رعاع الناس، وسوف يحملون كلامك على غير محمله، ويطيرون به في الآفاق، ولكن اصبر وتمكن، فإذا رجعت إلى المدينة المنورة، التي هي دار الهجرة، وفيها السنة وأهل الخير ووجوه الناس، فقل ما تشاء أن تقول، وأنت متمكن، قال عمر: إي والله، والله (إن شاء الله) لأقومن أول قدومي على المنبر في المدينة فأخبر الناس بهذا الأمر، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فلما رجعنا من تلك الحجة رأيت عمر عند الجمرات، وقد اضطجع على ظهره ورفع يديه -بعدما انتهى من الحج، وقد شاب رأسه، وطال عمره- وقال: [[اللهم إني قد رق عظمي ودنا أجلي، وكثرت رعيتي، اللهم فاقبضني إليك غير مفرط ولا مفتون، ثم قال: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتة في بلد رسولك]] فأخبروا ابنته حفصة رضي الله عنها وعن أبيها، فقالت: يا أبتاه! أتسأل الشهادة في المدينة؟ قال: إي والله يا بنية! قال: فعاد رضي الله عنه وأرضاه، فلما كان في آخر جمعة -آخر جمعة يصلي فيها عمر بالناس ويقوم فيهم خطيباً- قال ابن عباس: فبكرت بعد أن زاغت الشمس -هذا تبكير عند ابن عباس وهذه رواية البخاري - قال: فلما زاغت الشمس بكرت فأتيت المسجد بجوار سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المبشرين بالجنة، قال: فجلست بجانبه وركبتي تصتك في ركبته، فقلت له: ليقولن عمر اليوم كلاماً ما قاله قبل اليوم، فقال سعيد بن زيد: ماذا عساه أن يقول؟ وأنكر عليّ، قال: فرأيت عمر رضي الله عنه وأرضاه أقبل، فصعد المنبر وسلم على الناس، فلما انتهي المؤذن من أذانه، قام عمر آخر قومة قامها في المسلمين فقال: السلام عليكم ورحمة الله بعد أن حمد الله وأثنى عليه قال: أيها الناس! إنه كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الله حد الثيب المحصن إذا زنى فإنه يرجم، والذي نفسي بيده لقد قرأناها وأقرأناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فيما أنزل عليه في الكتاب -أي: في القرآن- (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) وإني أخشى إذا طال بكم الأمد أن ينكرها قوم فيضلوا، فوالله لقد أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي، ثم قال: أيها الناس! إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ولكن أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله رسوله}.(133/2)
قصة مبايعة أبي بكر رضي الله عنه
ثم قال: أيها الناس! إنني سمعت أن بعضكم يقول: لو مات عمر بايعت فلاناً، وفي صحيح مسلم (وإني قد علمت أن أقواماً يطعنون في هذا الأمر أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال، وسمعت أنهم يقولون: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها، وأبو بكر لا يشق له غبار، ولا تضرب أعناق الإبل لمثل أبي بكر، ثم بدأ يسوق القصة، قال: أتدرون ما خبرنا وخبر أبي بكر لما بويع بالخلافة؟ فسكت الناس، قال: لما توفي الرسول عليه الصلاة والسلام اجتمعنا حول مسجده صلى الله عليه وسلم وكثر اللغلط واللهج وارتفع البكاء، فظننت والله أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يموت في ذاك اليوم حتى يدبرنا، قال: فلما تيقنت الخبر، أتانا رجلان صالحان من الأنصار، وقد علما أن الرسول عليه الصلاة والسلام توفي، فقالا لنا - (الأنصاريان) قالا لـ أبي بكر ولـ عمر ولـ أبي عبيدة -: أدركوا الأنصار فقد اجتمعوا في سقيفة بني ساعده، يريدون أن يؤمروا أميراً منهم بالخلافة، وهو سعد بن عبادة، فقلت لـ أبي بكر: اذهب بنا، قال أبو بكر: لا تدخل بنا عليهم، قال عمر: والله لندخلن عليهم وما عسى أن يصنعوا، قال: فدخلنا عليهم جميعاً فلما جلسنا، قال عمر: كنت زورت في صدري كلاماً -أي: خطبة زورها وهيأها وجهزها في صدره- قال: وكنت أرى بعض الحدة -بعض الغضب- في أبي بكر وخشيت منه، وأوقره لمكانته في الإسلام، فأردت أن أتكلم فقال: اسكت، قال: ثم اندفع يتكلم على البديهة، والله ماترك كلمة كنت زورتها في صدري إلا أتى بأحسن منها.
قال الشافعي بسنده: حدثنا الثقة عن الشعبي أنه قال: لما اجتمع أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بالأنصار، اندفع خطيباً فأثنى على الله عز وجل وحمده وصلى على الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: أمَّا بَعْد: فأنتم أحسنتم وكفيتم وآويتم ونصرتم، فجزاكم الله عن الإسلام خير الجزاء، والله يا معشر الأنصار! ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال طفيل الغنوي:
جزى الله عنا جعفراً حيث أشرفت بنا نعلنا في الشارفين فزلتِ
هم خلطونا بالنفوس وألجئوا إلى غرفات أدفأت وأظلتِ
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملتِ
ثم قال: يا عمر! ابسط يدك لأبايعك، قلت: والله لا أبايع بالخلافة في قوم أنت منهم، ولأن أقدم فيضرب رأسي في غير محرم أحب إليَّ من أن أتقدم بقوم فيهم أبو بكر، فقال: يا أبا عبيدة! ابسط يدك أبايعك بالخلافة، قال: لا والله، قلنا: ابسط يدك يا أبا بكر! فبسطها فبايعناه فأخذ الأنصار يبايعون معنا، وسعد بن عبادة مريض مزمل في ثبابه، وهو من ساداتهم.
فيقول قائلهم وهو الحباب بن المنذر: أتيتكم برأي، قلنا: وما هو؟ قال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير، فرفضنا هذا الرأي وبايع الأنصار أبا بكر، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة وهو في ثيابه، قال عمر: قتله الله! فلما بايعوا أبا بكر، عاد إلى المسجد، فتكلم عمر قبله، وأثنى على أبا بكر، قال أنس: فرأيت عمر يجذب بكم أبي بكر ويزعجه إزعاجاً إلى أن قام وبايع الناس وهو يبكي ويده ترتعد رضي الله عنه وأرضاه من هول الموقف، وعمر يأخذ بيد أبي بكر وهو يبايع الناس، قال ابن عباس: ثم عاد عمر إلى حديثه في الخطبة قال: وإني رأيت البارحة فيما يرى النائم أن ديكاً ينقرني ثلاث نقرات، فسألت أسماء بنت عميس الخثعمية، فأخبرتني أنني سوف أقتل، فالله المستعان، وسوف أطعن ثم غلبه البكاء، فغلب الناس البكاء، فما هي إلا ليلة فقتل رضي الله عنه وأرضاه في المسجد في صلاة الفجر، فرزقه الله الشهادة وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بلده، ورفعت روحه إلى الحي القيوم: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].(133/3)
فوائد من خطبة عمر بن الخطاب(133/4)
أخذ العلم عن الصغير
الفائدة الأولى: في هذا الحديث هي: أخذ العلم عن أهله وإن صغروا في السن.
هذا استنباط من ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، لأن ابن عباس رضي الله عنهما علم عبد الرحمن بن عوف القرآن، وعبد الرحمن بن عوف خير منه، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، فكان ابن عوف يتعلم القرآن على يد ابن عباس، وكم كان عمر ابن عباس آنذاك؟ كان دون الثلاثين، وكان يدخل مع أهل الشورى على عمر، ولا يدخل إلا من له سابقة في أهل الإسلام، إما من المبشرين بالجنة، أو من أهل بدر، أو من الذين لهم قدم صدق عند الله عز وجل، حتى الفتح من الشيوخ الكبار، ما كانوا يدخلون أبداً مع عمر، ولذلك قال بعض الصحابة: كيف يدخل عمر الغلام ولنا أبناء مثله، قال ابن عباس: فدعاني عمر فعلمت أنه ما دعاني إلا ليعلمهم (فهمي) في القرآن، فقال للأنصار والمهاجرين وهم مجتمعون: ما تقولون في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3].
فأجاب كل بما يصلح ولم يصيبوا.
فقال: يـ ابن عباس! ما تقول فيها؟ قلت: أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي له، فقال عمر: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم أنت، فرضي الصحابة بمجلس ابن عباس.
وكان عبد الرحمن بن عوف من السادات في الإسلام، بل صلى إماماً بالرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث المغيرة الصحيح، قال: {خرجنا في غزاة -أي: غزوة- قال: فقمنا لصلاة الفجر، فذهب صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فتأخر علينا فأقمنا للصلاة، فقال الناس لـ أبي بكر: تقدم فأبى، فقال الناس لـ عمر: تقدم فأبى، فقالوا لـ ابن عوف: تقدم، فتقدم فصلى بهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلوا ركعة، وبقيت ركعة فأكملها، فلما سلموا استحيوا كثيراً وخجلوا من هذا الموقف، أن كان رسول البشرية صلى الله عليه وسلم مأموماً وهم قد قدموا إماماً، فالتفت إليهم بعد أن سلم صلى الله عليه وسلم، وقال وهو يتبسم: {أصبتم وأحسنتم}.
دل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم رضي بإمامة عبد الرحمن بن عوف وعبد الرحمن على جلالته في الإسلام، قدم ابن عباس وتعلم منه وتواضع له، وعمر ابن عوف آنذاك أكثر من خمسين سنة، وعمر ابن عباس ثمانية وعشرون سنة.
ولذلك يقول ابن القيم في بدائع الفوائد: يا أيها المسلم! لا تأنف من طلب العلم ولا من أخذ الحكمة والفائدة عن أي أحد كان، فإن سليمان بن داود عليه السلام ما تكبر ولا استنكف على الهدهد حين أتى من أرض اليمن، فقال له سليمان: ماذا أخرك؟ قال: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} [النمل:22] ثم سرد عليه القصة، وبدأ ينكر في مجلس سليمان على أهل الشرك شركهم، ويقول: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل:23 - 25].
فارتاح سليمان عليه السلام لهذا الكلام وتواضع له، وما أنكر عليه، وعلم أن هذا الهدهد موحد، وأن تلك المرأة مشركة بالله الحي والقيوم.
ثم ذكر ابن القيم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قرأ القرآن على أبي بن كعب وأبي بن كعب سيد القراء إلى يوم القيامة، سنده موصول برب العالمين أخذ القرآن عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن عن جبريل، وأخذه جبريل عليه السلام عن رب العالمين تبارك وتعالى.
ولذلك في صحيح البخاري {لما أنزل الله عز وجل قوله {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1] قال جبريل: إن الله يأمرك أن تقرأ هذه السورة على أبي بن كعب، فذهب عليه الصلاة والسلام إلى أبي المنذر -وهو خزرجي من زعماء الأنصار- فقال: يا أبا المنذر! قال: لبيك وسعديك يا رسول الله! قال: إن الله أمرني أن أقرأ عليك هذه السورة، قال: أو سماني في السماء ربي؟ قال: إي والله، فبكى أبي رضي الله عنه وأرضاه وقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السورة}.
وفي صحيح مسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا أبا المنذر! -يعني: أبياً - أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255].
فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: ليهنك العلم أبا المنذر!}.
وهذا من جلالته في الإسلام.
إذاً نستفيد من هذا الحديث: تواضع المسلم لأخيه إذا كان يلقي عليه فائدة، أو يتلقى منه حكمة، ولو كان أصغر منه سناً وأقل قدراً فإنه كما قال علي رضي الله عنه وأرضاه: [[الحكمة ضالة المؤمن]] وبعض أهل العلم يرفع هذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يصح.
وكذلك كان موسى عليه السلام متواضعاً كما ورد في سيرته وترجمته ويكفي أن الله قص سيرته في القرآن، ويقول عن نفسه عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24].
ولذلك ذكروا أنه كان من أكثر الناس تواضعاً عليه السلام، حتى كان ابن عباس إذا قرأ في سورة القصص بكى وقال: رحم الله موسى، أتى أرض مدين في إزار من صوف ورداء من صوف، حتى اخضرت بطنه، من الخضار الذي ما وجد سواه أكلاً، ثم قال تحت الشجرة بعد أن سقى للجاريتين: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24].
وفي صحيح البخاري عندما قال رجل من بني إسرائيل: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: لا، فأراد الله أن يخبره أن فوق كل ذي علم عليم، فأوحى الله إليه: بلى عبدنا الخضر أعلم منك -يقال: بأسرار أطلعه الله عليها- فقال موسى: لأرحلن إليه.
وهذه هي الرحلة في طلب الحديث وطلب العلم، وقد عقد البخاري باب: الرحلة في طلب العلم ثم أتى بهذا الحديث، فأعطى الله موسى عليه السلام علامة، وهو المكتل أن يأخذ فيه حوتاً وكان غلامه يوشع بن نون معه، فإذا فقد الحوت فليعلم أن الخضر هناك، قال تعالى: {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [الكهف:62] فأخبره أنه فقده.
{قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف:64] فوجد الخضر وهو جالس على ساحل البحر فسلم عليه.
فتعلم منه موسى، وتواضع له، وموسى أفضل منه، وأعلم بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى منه، عند أهل السنة والجماعة.(133/5)
العلم لا يودع عند غير أهله
والفائدة الثانية: التنبيه على أن العلم لا يودع عند غير أهله، بل يعلم به أهله، لأن عمر رضي الله عنه وأرضاه أراد أن يتكلم في الحجاج، والحجاج فيهم الأعراب، وفيهم الرعاع وفيهم الذين لا يفقهون شيئاً، وفيهم المنافقون، فأرشده عبد الرحمن بن عوف وقال: هؤلاء يطيرون بكلامك كل مكان، ولكن إذا عدت إلى دار الهجرة في المدينة فتكلم إليهم فإنهم أعقل وأفهم، فمن هذا يؤخذ أنه لا يتكلم بالعلم إلا عند من يستحق، وإذا أعرض عنك الناس ولم يريدوا، فلا تقلدهم علمك ولا تذل نفسك.
ولذلك في مستدرك الحاكم بسند فيه كلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الشوكاني في أدب الطلب ومنتهى الأرب: {إن الذي يلقن الحكمة غير مستحقها، كالذي يقلد الدر الخنازير}.(133/6)
التحدث بما يعقله السامعون
الفائدة الثالثة: لا يحدث إلا بما يعقل، أما ما لا يعقله الناس فلا يُحدث به.
ولذلك يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: [[حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله]] فإذا أتى الإنسان يحدث الناس بأمور لا تدركها عقولهم كانت عليهم فتنة، قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [[ما أنت بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لأكثرهم فتنة]] ولذلك أمرنا أن نحدث الناس بما يعرفون وما يفقهون، وأما من يأتي بالخزعبلات، والأحاديث الواهية والموضوعات، ثم يحدث بها الناس فإنها تكون عليهم فتنة.
وورد أن كثيراً من الوعاظ استخدموا هذا الأسلوب.
وذكر أهل مصطلح الحديث، كـ الذهبي في سير أعلام النبلاء، أن أحمد بن حنبل رحمه الله رحمة واسعة ويحيى بن معين رحمه الله -العالمان الكبيران المحدثان- ذهبا إلى مسجد في الرصافة يصليان المغرب أحمد بن حنبل إمام السنة، ويحيى بن معين جهبذ الحديث، وناقد الرجال، فصليا المغرب وصلى الناس، فقام واعظ بعد صلاة المغرب، والواعظ هذا لم يعرف الإمام أحمد ولا يحيى بن معين يسمع بهم في الدنيا، ولكن ما عرفهم، فقام الواعظ فقال: حدثنا أحمد بن حنبل وحدثنا يحيى بن معين -وهذا من كيسه فهما لم يحدثاه- قالا: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من قال: لا إله إلا الله خلق الله له طائراً، أما جناحه فمن زبرجد، وأما رأسه فمن ياقوتة حمراء، له بكل شعرة قصر في الجنة} ثم سرد حديثاً طويلاً، فلما انتهى قال الإمام أحمد: تعال، فأقبل وهو لا يعرف الإمام أحمد، فقال الإمام أحمد: أنا أحمد بن حنبل وهذا يحيى بن معين فمن حدثك بهذا الحديث؟ قال: يا سبحان الله! ليس في الدنيا أحمد بن حنبل إلا أنت، ولا في الدنيا يحيى بن معين إلا هذا، والله لقد رويت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل وسبعة عشر يحيى بن معين، فضحك الإمام أحمد، وهذا الحديث لا تقره العقول، وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام تقبله القلوب ولا تنكره، وأما الأحاديث الموضوعة فإن قلبك يقول: هذا ليس بحديث.
وأحد هم حبس الناس بعد صلاة العصر في كتاب في الرقائق، قال: يقول عليه الصلاة والسلام: {من قال سبحان الله غرس الله له سبعين شجرة، ومعها سبعون قصراً في كل قصر سبعون حورية، على كل حورية سبعون وصيفة، على كل وصيفة سبعون لؤلؤة} ثم أخذ يعدد في السبعين، فلما طول على الناس وانتهى، قال: هذا حديث موضوع، فقال الناس: حبستنا على حديث موضوع حبسك الله!
المقصود: أن الأحاديث الموضوعة مما تنكرها القلوب ولا تقبلها، فإنها فتنة لكل مفتون، ولا يجوز روايتها إلا أن تذكر أنها موضوعة، فلا يجوز أن تروى على الناس، لا في الرقائق، ولا في الأحكام، ولا في السير، ولا في الفتن، ولا في الملاحم.
وشهد التاريخ أن الوضاعين هؤلاء ابتلي بهم العالم الإسلامي، وقد ألف ابن الجوزي فيهم كتاباً كبيراً اسمه الموضوعات، وألف الشوكاني كذلك والملَّا علي القاري وغيرهم من أهل العلم، وذكروا أن أسباب الوضع أمور:
منها: أن يكون أحدهم يريد أن يتصدر الناس برياء وسمعة فلا يجد حديثاً فيضع من رأسه ومن كيسه وينفق.
ومنها: أن تكون في يده سلعة لا تباع إلا بحديث، فبعضهم كان يبيع الباذنجان -كما ذكر عنه السباعي في كتاب السنة ومكانتها في التشريع - فما وجد مشترياً له، فقال: يقول صلى الله عليه وسلم: {من أكل الباذنجان لم تصبه عاهة قط} وهو حديث مكذوب.
ومنها: قوم يتزلفون إلى السلاطين فيضعون لهم الأحاديث.
كما دخل رجل على المهدي الخليفة العباسي ابن أبي جعفر المنصور، فوجده يسابق بين الحمام -انظر إلى المهمة وإلى حفظ الوقت- يسابق بين الحمام من قصر إلى قصر، فلما رأى المهدي هذا العالم الواعظ، خجل منه واستحيا، فقال الواعظ: ما عليك، يقول صلى الله عليه وسلم: {لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر أو جناح} والجناح زادها وإلا فالحديث: {لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر} أما الجناح فليس في الحديث، فزاد هو الجناح حتى يبرر لهذا الرجل موقفه عندما رآه يسابق بين الحمام، فقال المهدي: "أشهد أن قفاه قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر بذبح الحمام".(133/7)
حفظ القرآن من الزيادة
والفائدة الرابعة: فيه المحافظة على المصحف ألا يزاد فيه؛ لأن عمر يقول: [[والله لولا أن يقول الناس: إن عمر زاد في المصحف لكتبتها بيدي]] فالصحابة ما كانوا يكتبون غير القرآن في المصحف، فكانوا يحافظون عليه، وكانوا يشغلون أوقاتهم به، وقد قال عمر رضي الله عنه وأرضاه لرجل من الولاة: [[إنك سوف تأتي أهل الكوفة، وسوف تدخل عليهم في المسجد، وتسمع لهم دوياً كدوي النحل بالقرآن؛ فلا تشغلنهم بقصصك وحديثك]] أي: اتركهم يقرءون القرآن، هذا إذا كانت الأمة تقبل وتقرأ القرآن، وتدوي به كما يدوي النحل بصوته، أما إذا كان الناس لا يقرءون القرآن، ولا يسمعون القصص ولا الأخبار، فلا نقول للناس: سوف نشغل أوقاتهم، بل يقص الإنسان، لأن الوسائل تغيرت، والأساليب استجدت، فللإنسان أن يقص.
ودخل عمر رضي الله عنه وأرضاه وإذا برجل في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام يقص على الناس، قال: [[من هذا؟ قالوا: قاص يقص، قال: سبحان الله! ماذا يقص؟ قالوا: يقص علينا من أخبار الأولين، فشق عمر رضي الله عنه وأرضاه الصفوف والدرة بيده ثم ضرب هذا الواعظ، وقال: يقول الله عز وجل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3]]] ففيه أن المصحف لا يزاد عليه، أي: أنه محفوظ، ولذلك قال عز من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
والذين قالوا بنقص القرآن هم الرافضة، وألف الطبرسي أحد علمائهم الضلال، كتاباً يسمى: فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب، ويدعون أنه إجماع عند الإثني عشرية أن القرآن قد نقص، وأن سورة الولاية محذوفة منه، وأن الصحابة رضي الله عنهم قد حرفوا وعدلوا في القرآن، وأنهم حذفوا اسم علي من المصحف، واسم فاطمة واسم عائشة، وقد كذبوا على الله عز وجل وافتروا عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، بل ما زيد فيه حرف ولا نقص منه.(133/8)
الحث على المشورة
الفائدة الخامسة: هي الحث على المشورة وقبولها من أهل العلم، والفهم والخبرة، فإنه (ما خاب من استخار الله عز وجل وما ندم من استشار المخلوقين) وكان أكثر الناس استشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كبير الأمور وصغيرها، وفي دقيقها وجليلها، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] فإذا أراد الإنسان أن تقبل عليه الأمة وترضى به القلوب فليشاور أهل الخبرة وأهل الخير والصلاح، فإنهم لا يشيرون عليه إلا بالخير والصلاح إن شاء الله، ومن أمانة المؤمن لأخيه أنه إذا استنصحه أن ينصح له، وألا ينصحه إلا بما فيه الخير، وقال عز من قائل: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] استشار عليه الصلاة والسلام الناس يوم بدر كما تعرفون، وعدل عن رأيه صلى الله عليه وسلم، وهو صاحبنا في هذه الليلة وسوف يمر معنا لأنه هو الذي يقول: [[أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب]] وهو الذي يقول: [[منا أمير ومنكم أمير]] وهو من سادات الأنصار، قال الحباب: {يا رسول الله! هذا المنزل منزل أنزلك الله إياه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله! هذا ليس برأي، اجعل الماء وراء ظهرك كله، فنشرب ولا يشربون} فدعا له صلى الله عليه وسلم بالخير، فنزل في ذاك المنزل.
واستشار عليه الصلاة والسلام أقاربه لما اتهمت عائشة رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، الطاهرة بنت الطاهر المبرأة من فوق سبع سموات لما اتهمت في عرضها، استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد، واستشار الجارية، فأما الجارية فقالت: والله ما علمت إلا خيراً، كانت تغفل عن الداجن فتأكل العجين، يعني من غفلة عائشة ومن نقاوة قلبها، وطهارتها تغفل حتى عن عجينها، واستشار أسامة فقال: [[ما علمت إلا خيراً أحمي سمعي وبصري]] واستشار علي بن أبي طالب -وكان من عصابته ومن لحمته- فقال: النساء غيرها كثير.
قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً فما اعتذارك من قول إذا قيلا
فبقي هذا الكلام في نفس عائشة إلى بعد حين، وينزع الله ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين، وكان يستشير صلى الله عليه وسلم حتى تقول عائشة: [[ما رأيت رجلاً سهلاً كرسول الله صلى الله عليه وسلم]].(133/9)
جواز الحلف بغير استحلاف
الفائدة السادسة: جواز الحلف بغير استحلاف، وقد مر معنا في مناسبة؛ لأن عمر قال: [[والله لأقومن إذا رجعت إلى المدينة]] وهو لم يستحلف رضي الله عنه وأرضاه.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: {إي والذي نفسي بيده} وهو لم يستحلف، والله أمره في القرآن حيث يقول: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53] فهذا دليل جواز الحلف بلا استحلاف، ليطمئن المحلوف له، ومن حلف له بالله فلم يرض فلا أرضاه الله، ومن لم يكتف بكفاية الله فلا كفاه الله ولا شفاه، والمسلم إذا حلف له صَدَّق، وإذا حلف هو صُدِّق، وهذه شيم أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، يقول علي رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الحديث في مسند أحمد وفي سنن أبي داود وعند الترمذي بسند صحيح قال: كان الرجل من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام إذا قال لي قولاً، استحلفته، فإن حلف صدقته، فنفعني الله عز وجل بالحديث منه صلى الله عليه وسلم ما شاء، وإنه حدثني أبو بكر الصديق وصدق أبو بكر -يعني: ما استحلف أبا بكر - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {والذي نفسي بيده ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضأ ويصلي ركعتين ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر الله له ذاك الذنب، ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136]}.(133/10)
وقت حضور الجمعة عند بعض السلف
الفائدة السابعة: أن كثيراً من السلف كانوا يذهبون إلى الجمعة إذا زاغت الشمس، وهذا كلام ابن عباس يقول: لما زاغت الشمس ذهبت للصلاة، وهذا رأي الإمام مالك بن أنس قال: [[أدركت أهل المدينة وهم لا يذهبون إلى صلاة الجمعة إلا بعد أن تزوغ الشمس]] أي: قبل الظهر بقليل، وهذا رأي.
لكن الأفضل والأولى بحق المسلم أن يذهب، وأن يبادر الأجر للحديث المتفق عليه: {من ذهب في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة} قالوا: تبدأ الساعة الأولى من بعد طلوع الشمس وارتفاعها، على خلاف ليس هذا مجال بسطه وقد سبق.(133/11)
جواز الكلام للمأمومين قبل خطبة الجمعة
الفائدة الثامنة: جواز التحدث للمأمومين قبل دخول الإمام، فإن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه كلم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قبل دخول عمر، فيجوز لك أن تتحدث مع إخوانك المسلمين في فوائد ومنافع قبل دخول الخطيب وقبل دخول الإمام، وليس هناك شيء يحرم، ولا يوجد مانع.
يقول عقبة بن عامر الجهني: كان لي إبل أرعاها وأروحها وقت الليل، وكنت أتناوب أنا وشباب من جهينة -جهينة: قبيلة من قبائل العرب تسكن على البحر الأحمر - لما سمعت الأعراب بدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام تركوا منازلهم وأتوا؛ لأن الله ذم الأعراب في كتابه وقال: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97] وفي كتاب الأدب المفرد للبخاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ثوبان: {يا ثوبان! لا تسكن الكفور، فإن ساكن الكفور كساكن القبور} قال الإمام أحمد: "ساكنو الكفور هم أهل البادية، فليس عندهم ما يفقهون به هذا الدين".
فلما سمع عقبة بن عامر الجهني قال: فأتيت بإبلي فنزلت قريباً المدينة؛ لأتعلم منه صلى الله عليه وسلم، فكنت أرعى الإبل أنا وشباب معي، فأتيت في نوبتي وقد ابهار الليل، والرسول عليه الصلاة والسلام يحدث الناس في مسجده، فدخلت فجلست بجانب عمر بن الخطاب، قال: فسمعت الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقول: {ما من مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلاً عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة} قال: قلت: ما أحسن هذه! قال عمر رضي عنه: التي قبلها أحسن منها، فلما انتهى الحديث قلت: يا أبا حفص! ما التي قبلها؟ قال: أما سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قلت: لا، قال: أين كنت؟ قلت: ما أتيت إلا متأخراً، قال: يقول لنا صلى الله عليه وسلم: {ما منكم من أحدٍ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء} وفي الترمذي: {اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين} وهي زيادة على رواية مسلم.
فكانوا يتحدثون عن أخباره صلى الله عليه وسلم إذا خطب، وربما تحدثوا وهو جالس، وهذا في غير خطبة الجمعة، أما خطبة الجمعة فإذا دخل انتهى الكلام، لكن يجوز للإمام كما سبق أن يتكلم مع المأموم، ويجوز للمأموم أن يتكلم مع الإمام، أما المأموم مع المأموم فحرام، ومن فعل ذلك فقد لغت جمعته، وبطلت.
ولذلك يقول أبو ذر: {كنت في مسجده صلى الله عليه وسلم فقام فينا خطيباً قال: سوف يقدم عليكم رجل من أهل اليمن عليه مسحة ملك، قال: فانتظرنا فقدم علينا جرير ين عبد الله البجلي}.(133/12)
جواز التكلم في خطبة الجمعة بالشئون العامة
الفائدة التاسعة: جواز التكلم في خطبة الجمعة بالشئون العامة، وأن خطبة الجمعة ليس لها مراسيم تحددها، وأن هناك قضايا اجتماعية ينبغي على الخطيب أن يطرقها يوم الجمعة، ويتحدث للناس بها، وأنه لا شائبة عليه ولا لائمة، فالرسول عليه الصلاة والسلام تحدث للناس في خطبة الجمعة بشئونهم، وتحدث أبو بكر وعمر في هذه الخطبة عن الخلافة، وهو شأن عام وقضية اجتماعية، فتحدث عنها، فيجوز أن يتحدث الخطيب، بل هو الذي ينبغي، وأن يطرق الخطب التي تناسب العصر، وألا يتقيد بخطبة سلفت، فـ عمر تحدث في موضوع جديد، طارئ على الأمة، فللمسلم أن يتحدث بقضايا العامة، وكان صلى الله عليه وسلم ربما يتحدث في بعض القضايا حتى الأسرية التي بينه وبين أهله وأرحامه.
ففي صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم وقف على المنبر وقال: {يا أيها الناس! ابن أبي طالب -يعني: علياً - قد تزوج بنتي وإن فاطمة بضعة مني، يرضيها ما يرضيني، ويريبها ما يريبني، وإني سمعت أنه يريد الزواج من بنت أبي جهل} يعني أخت عكرمة، وهي مسلمة وأبوها كافر {تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [آل عمران:27].
{وإن فاطمة يريبها ما يريبني ويرضيها ما يرضيني، فلا أرضى ثم لا أرضى ثم لا أرضى، والذي نفسي بيده لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله تحت سقف واحد، فإما أن يستبقي ابنتي عنده وإما أن يفارقها ويتزوج بنت أبي جهل، فتأثر الناس كثيراً وترك علي رضي الله عنه الخطبة} ثم لم يتزوج عليها كرامة للرسول عليه الصلاة والسلام، ومن أجل عين تكرم ألف عين، ولم يتزوج عليها حتى بعد وفاتها بستة أشهر وكان يزورها دائماً في المدينة، ويترضى عنها، رضي الله عنها وأكرم مثواها، فهي سيدة نساء العالمين عند الله تبارك وتعالى.(133/13)
الحث على تبليغ العلم
الفائدة العاشرة: الحث على تبليغ العلم للرعية؛ فإن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: لا أستحل أن يأخذ هذا الكلام آخذٌ دون أن يفقهه، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {بلغوا عني ولو آية؛ فرب مبلغ أوعى من سامع} فالواجب على المسلم أن يبلغ ولو آية أو حديثاً، أو موعظة، أو قصة للناس يعطر المجالس بها.
قال ابن القيم في الوابل الصيب في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن عيسى بن مريم: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] قال: "المبارك أينما كان هو الذي يسعد به جليسه وأنيسه وأهله"، وذلك لأنه يتحدث فيما يقربهم إلى الله عز وجل، فالمبارك أينما كان هو الذي مجلسه في كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم وفي كلام الله تبارك وتعالى، وفيما يقربه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والذي ينبغي على المسلم أن يبلغ ولا يستصغر نفسه، ولا يحتقرها، ولذلك قال عمر لـ ابن عباس: [[يا بن أخي! تكلم ولا تحتقر نفسك]] وقال الحسن البصري لأحد الناس الجالسين عنده: [[عظنا بارك الله فيك، فقال الرجل: أومثلي يعظ الناس؟ قال الحسن البصري: ود الشيطان أن يظفر بهذه الكلمة، والله لو ظفر بها لما وعظ أحد من الناس]].
وقال ابن القيم في مدراج السالكين: "إذا أتاك الشيطان وقال لك: لا تتكلم؛ لأنك إذا تكلمت راءيت الناس، وتظاهرت بالرياء والسمعة، فلا تطاوعه واعصه، وتكلم واستعن بالله، وأخلص نيتك ولتنبعث نيتك بالإخلاص وطلب ما عند الله عز وجل، فإن الشيطان يريد أن يسكت كل إنسان فلا يتحدث، ولا يتكلم، ولا يعظ، وهذا هدم للإسلام من أسسه.(133/14)
جواز نسخ التلاوة وبقاء الحكم
الفائدة الحادية عشرة: جواز نسخ التلاوة وبقاء الحكم في القرآن على صور:
منها: أن ينسخ الحكم والتلاوة، وهذا كثير في القرآن الكريم.
ومنها: أن ينسخ الحكم وتبقى التلاوة، وهو في القرآن الكريم.
ومنها: أن تنسخ التلاوة ويبقى الحكم وهو شاهدنا، فإنه كان في كتاب الله عز وجل، حد الثيب إذا زنى، فنسخ هذا وبقي حكمه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكتاب الله محفوظ حفظه الله من فوق سبع سموات، فلا يمكن أن يتغير أبداً.
ولذلك ذكر كما تعرفون في بعض النشرات، أن في يوغندا في كمبالا رجلاً يهودياً زاد حرفاً في كتاب الله عز وجل في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] قال: فإنه يقبل منه، وما أمسى في اليوم الثاني إلا وقد وصل الخبر إلى أندونيسيا (جاكرتا) لأن الله يحفظ كتابه، وأعلن هذا الخبر وطويت تلك المصاحف، ولذلك لو زيد فيه حرف أو كلمة أو شكلة من الشكلات، أو إعجام، لعم الخبر في الناس جميعاً ولأخذوا حيطتهم؛ لأن الله حفظ هذا الكتاب.(133/15)
رجم المحصن
الفائدة الثانية عشرة: رجم المحصن، وقد تعرض لها عمر رضي الله عنه وأرضاه -ونسأل الله العافية والستر في الحياة الدنيا والآخرة- وقضاء الله إذا وقع وقع، ولذلك قال عمر: ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، فإن عمر بيده الكريمة رجم، ورجم قبله من هو أكرم منه عليه الصلاة والسلام كالمرأة الصالحة التي وقع قضاء الله عليها لما ارتكبت تلك الفعلة، رجمها عمر، وقال لما رجم ماعزاً: ليته استتر وفي لفظ أنه قال: {أخزاه الله ليته استتر بستر الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: {مهلاً يا عمر! والذي نفسي بيده إني أراه الآن ينغمس في أنهار الجنة} ولما تكلم خالد على المرأة التي رجمت قال صلى الله عليه وسلم: {مهلاً يا خالد! والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم} وفي رواية: {على سبعين من أهل المدينة} وفي رواية: {لو تابها صاحب مكس لتاب الله عليه}.(133/16)
النهي عن إطراء الرسول صلى الله عليه وسلم
الفائدة الثالثة عشرة: وفيه النهي عن إطرائه صلى الله عليه وسلم، فلا يرفع عن مرتبته، ولا ينزل عنها، فهو عبد الله ورسوله، ناداه الله بالعبودية، وشرفه بالرسالة، وجعله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في هذه المنزلة، فهو لا يريد فوقها، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا عبد الله ورسوله}.
ولذلك في سنن أبي داود: {أن وفد عامر بن صعصعة أتوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقالوا: أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، وعظيمنا وابن عظيمنا، فغضب صلى الله عليه وسلم وتغير وجهه وقال: يا أيها الناس! قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان -وفي لفظ: لا يستحرينكم الشيطان}.
وفي السنن: {أن أعرابياً أتى إليه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! قحطت الأرض، وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا أن يغيثنا، فإنا نستشفع بك إلى الله ونستشفع بالله إليك، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: سبحان الله! سبحان الله! سبحان الله! أتدري ما شأن الله؟ إن شأن الله أعظم من أن يستشفع به على أحد من خلقه}.
وجاء رجل فقال للرسول عليه الصلاة والسلام: {ما شاء الله وشئت، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله وحده} فالرسول صلى الله عليه وسلم عبد لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وهو في قبره لا يملك قضاء طلب للناس، ولا تلبية حاجة، بل هو في قبره حي حياة برزخية، الله أعلم بها، لا يأكل جسمه التراب، لكنه عليه الصلاة والسلام لا يرفع حاجات، ولا يلبي مطالب في قبره عليه الصلاة والسلام، فإنما الوسيلة إلى الله الحي القيوم، والرسول عليه الصلاة والسلام إنما هو واسطة في التبليغ لا واسطة في رفع الحاجات، لأن من جعل بينه وبين الله أناساً في رفع الحوائج فقد أشرك مع الله، خاصة الأموات، فإن المشركين يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، فالله عز وجل لامهم، وعدهم من المشركين، بل هذا الفعل من أعظم الإشراك.(133/17)
فضل أبي بكر
الفائدة الرابعة عشرة: وفي الحديث أفضلية أبي بكر الصديق وأنه خيرة الصحابة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنه شيخ المسلمين والمجاهد بنفسه والصادق، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم لما سمع بعض الكلام عن أبي بكر: {ما أنتم بتاركي لي صاحبي؟! قال الناس: كذبت، وقال لي أبو بكر: صدقت، واساني بأهله ونفسه وماله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا حسان! -شاعر الإسلام-: أما قلت شيئاً في أبي بكر؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: ماذا قلت؟ قال: قلت:
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
التالي الثاني المحمود شيمته وأول الخلق طراً صدق الرسلا
}
قال ابن تيمية في المجلد الرابع من فتاويه: " أبو بكر أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقهم وأخلصهم وهو من الذين لهم قدم صدق عند الله عز وجل ".
وورد حديث فيه ضعف عند ابن ماجة: {إن الحي القيوم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يصافح أبا بكر في الجنة} أورد هذا الحديث ابن القيم في المنظومة، وتعرض لسنده ونحن نقوله من باب الإيراد لأنه في سنن ابن ماجة، وفي سنده كلام، وإن ثبت هذا، فهذا أمر يليق به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بدون كيف، ولكن نلحقه بالأسماء والصفات التي لا ندري بها، ونثبتها كما أثبتها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لنفسه، وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم له.(133/18)
لم يوص النبي صلى الله عليه وسلم بالخلافة لأحد
الفائدة الخامسة عشرة: وفيه أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يوص بالخلافة، خلافاً لمن زعم من الرافضة أنه أوصى بها لـ علي بن أبي طالب، وقد كذبوا على الله، فما أوصى بها أحداً من الناس، لكنه لمح ولم يصرح، وأشار إلى أبي بكر فولاه أمر الصلاة وجعله إماماً بعده، وفي مرض موته، فكأنه يشير إليه، أما أنه نص عليه نصاً، أو كتب له كتاباً أو أوصى وصية، فهذا لم يحدث أبداً، ولم يقع، والرسول عليه الصلاة والسلام لم ينص على إنسان بعينه ولم يستخلف عليه الصلاة والسلام، وإنما ترك الأمر للناس، ولكنه أشار بأفضلية أبي بكر قبل موته صلى الله عليه وسلم بثلاث ليال وقال: {لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر، ولكن صاحبكم خليل الرحمن سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر} فكأنه يشير إليه عليه الصلاة والسلام.
فلم يوص بالخلافة لـ علي، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: [[لقي العباس علي بن أبي طالب في مرض موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان العباس رجلاً داهية من دواهي الرجال، فقال: يا علي! قال: نعم، قال: اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرنا أين هذا الأمر بعد وفاته، فإن كان لنا عرفنا ذلك، وإن لم يعطنا الخلافة، فليوص بنا خيراً من يتولى الخلافة، فقال علي وكان رشيداً وناصحاً صادقاً: والله لا أكلم الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر، والله إن منعنا الخلافة لا يعطينا الناس]] فبقوا على هذا الحال حتى توفي عليه الصلاة والسلام، فتولى أبو بكر وكان سديداً، مدحه عمر وعثمان وعلي وجل الصحابة، وما زال لسان المدح له ولسان صدق في الآخرين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(133/19)
تهيئة الخطب قبل الكلام
الفائدة السادسة عشرة: تهيئة الخطب قبل الكلام، فإن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: [[زورت كلاماً في صدري]] قبل أن يتكلم به في سقيفة بني ساعدة، فلما أتت أراد أن يتكلم، فما تركه أبو بكر يتكلم، بل تكلم أبو بكر فأتى على البديهة وعلى السرعة والعجلة أحسن من كلام عمر، فالمسلم إذا أراد أن يتحدث في مجمع أو يوصي بوصية، فعليه أن يحبرها في صدره قبل أن يتكلم بها، وأن يتهيأ بها، وهذا من أدب الدعوة والخطابة.(133/20)
فضل الأنصار
الفائدة السابعة عشرة: فضل الأنصار وما لهم من سبق وأن الله قد رضي عنهم من فوق سبع سموات، وفي صحيح البخاري عن أنس قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار، الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق} فمن أحب الأنصار أحبه الله عز وجل ومن أبغضهم أبغضه الله.
ولذلك تعرض بعض الناس لبغضهم فمحقه الله عز وجل؛ لأنهم أنصار دعوة المصطفى عليه الصلاة والسلام وهم أهل الدار، وأهل الإيمان.
ومن فوائد الحديث: أن الرافضة والمعتزلة يردون هذا الحديث، وينكرون الرجم وقالوا: ليس في كتاب الله إذن فليس من السنة، فيرد عليهم بهذا الحديث الذي تنوقل حتى أصبح قريباً من درجة التواتر بين أهل العلم، وأن هذا ثابت.(133/21)
حدة أبي بكر رضي الله عنه
القائدة الثامنة عشرة: حدة أبي بكر رضي الله عنه، وأنها لا تنقص من مقامه لكثرة محاسنه عند الله عز وجل فهو صادق ومخلص، ولكنه رجل فيه حدة، يقول عمر: [[كان فيه بعض الحدة]] أي: سرعة غضب، وأبو بكر لما تولى الخلافة قال على المنبر: [[يا أيها الناس! إن لي شيطاناً يعتريني -أي: يأتيني من الغضب- فالله الله، لا أمسن أبشاركم وأشعاركم]] يعني: لا تحوجوني إلى الغضب فأضرب فيكم، وفي كنز العمال أن عمر رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر دخلت معه في حظيرة فيها إبل الصدقة، فقال أبو بكر للناس: يا أيها الناس! لا يدخل معي ومع عمر أحد منكم، قال: فدخلنا فلما دخلنا إذا بأعرابي دخل، قال أبو بكر: أما قلت لكم لا تدخلوا، ثم أخذ أبو بكر خطام الناقة، وضرب به الأعرابي، فلما ضربه به عاد: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] فقال: أستغفر الله تعالى خذ الخطام واقتد مني واقتص -أي: اضربني كما ضربتك- قال: عمر والله لا يفعل، قال: ولم؟ قال: لا تجعلها سنة للناس بعدك كلما أدبنا الناس، قالوا: نقتص منكم، ولكن أعطه ناقة من هذه، فأعطاه ناقة ودعا لـ عمر، ولذلك قال الأعراب لـ عمر: أنت الخليفة أو أبو بكر؟ قال: أنا هو، غير أنه إياي -يعني: أنا وإياه شيء واحد.
أتى عيينة بن حصن سيد فزارة من غطفان بعد أن توفي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر هو والأقرع بن حابس فقالا: يا خليفة رسول الله! إن عندنا أرضاً سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نحرثها أو نزرعها، لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم، فقال أبو بكر عمر وليس في القوم، فانطلقا إلى عمر يشهدانه فوجداه يهنأ بعيراً له -أي: يطليه بالقطران- فقالا: إن أبا بكر أبو بكر؟ قال: أنا هو غير أنه إياي.
ولذلك هذا شاهد في النحو، يعني: تقديم ضمير الغيبة والضمير المتصل على المنفصل، استشهد به ابن مالك.
وفي صحيح البخاري، من باب: حدة أبي بكر التي ظهرت منه، قال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: كان الناس يستضيفون ضيوف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوم المدينة فأخذ كل منا ضيفاً معه -الضيف: أي الجماعة- فأخذ أبو بكر جماعة معه فذهب بهم إلى بيته، فقال لضيوفه: معكم ابني عبد الرحمن، يعشيكم هذه الليلة وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترك الضيوف مع ابنه عبد الرحمن -وابنه من خيرة الناس- وقال: عشهم، وذهب أبو بكر رضي الله عنه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يتعشى؛ لأنه كان يسمر معه، فلما قدم لهم عبد الرحمن العشاء قالوا: والله لا نتعشى حتى يأتي أبو بكر، فقال لهم عبد الرحمن: سوف يتأخر عليكم وقد أمرني أن أقدم لكم هذا العشاء، قالوا: لا.
فانتظروا فمضى ليلٌ وأتى ليلٌ وبرد العشاء، فأتى أبو بكر آخر الليل وكان يوتر، ثم دخل البيت، فقال لـ عبد الرحمن: أعشيتهم؟ قال عبد الرحمن: فقمت فاختبأت لأني أعلم أن أبي سوف يغضب، قال: فجدع وسب -وهذه رواية البخاري - ثم قال لضيوفه: كلوا، فلما أكلوا كانت هذه من كرامات الأولياء له قال ابن تيمية في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: "إن من كرامة أبي بكر أنه ضوعف وبورك له الطعام كما بورك للرسول عليه الصلاة والسلام فأكلوا وقد جاعوا لأن الليل طال عليهم، ليس من مصلحتك أن تؤخر العشاء إذا أتاك ضيف، بل من المصلحة أن تبادر بالعشاء حتى لا يبقى له وقت لأن يجوع، ثم تقدمه له حاراً، فقدم لهم رضي الله عنه، فأكلوا ثم رفعوا الصحفة فإذا هي مثل ما كانت، ما نقص منها شيء، فقام بالصحفة إلى زوجته، قال: -كما في البخاري - يا أخت بني فراس! والذي نفسي بيده إن الصحفة مثلما وضعناها، فأكل هو وزوجته، ثم حمل الصحفة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فأخبره، فدعا لهم بالبركة، وقد بارك الله طعامهم.
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
أبو بكر إن كان فيه حدة ففيه الصدق والأمانة، والكرم والإخلاص، ولا تجد منقبة في الإسلام إلا وهي في أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.(133/22)
تواضع أبي بكر
الفائدة التاسعة عشرة: تواضع أبي بكر لـ عمر وأبي عبيدة، وإن من أسمى سماتهم التواضع لبعضهم، فإن أبا بكر يعرف أنه أول مسلم من الرجال، ويعرف أنه ذو سابقة، ولكن قال لـ عمر: [[يا عمر! ابسط يدك لأبايعك]] وهل تظنون أن عمر لو بسط يده سوف يقول أبو بكر: لا، أردت فقط أن أختبرك، لا والله، ليبايعنه وليجلسن معه وليذهبن، وليجعلنه خليفة، لأن الله عز وجل جعلهم هكذا خير أمة أخرجت للناس، ولذلك ولَّى الرسول عليه الصلاة والسلام على أبي بكر وعمر عمرو بن العاص وهما خير منه، وولى عليهم بعض الولاة، ورضوا به رضوان الله عليهم.
وفي الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما حضرته سكرات الموت قال: {أنفذوا جيش أسامة} وأسامة بن زيد كان عمره يوم أنفذه صلى الله عليه وسلم سبع عشرة سنة، وكان مولى من الموالي، وكان في جيشه عمر بن الخطاب وعثمان وعلي فلما توفي عليه الصلاة والسلام قال عمر لـ أبي بكر: أرى ألا ترسل جيش أسامة، قال: ولم؟ قال: إن العرب قد تكالبت علينا، وقد ارتد الكثير منهم عن الإسلام، وأخشى أن يدخلوا المدينة وليس لنا جيش، قال أبو بكر: والله لو أخذت الكلاب بعراقيبنا، فلا بد أن أمضي جيش أسامة، فودع أسامة وأخذ بلجام فرسه وأبو بكر يمشي على قدمه في الأرض وهو يكلم أسامة، فيقول أسامة: يا خليفة رسول الله! أنزل أو تركب؟ قال: لا والله لا تنزل ولا أركب، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله -وكأن أبا بكر ما غبر قدمه إلا تلك الساعة، وهو منذ أن عرف لا إله إلا الله مغبر قدمه ورأسه وجسمه في سبيل الله عز وجل، فرضي الله عنه وأرضاه، ثم قال: يا أسامة! أتأذن لي بـ عمر لأستعين به؟ قال: نعم، فأذن له فعاد من الجيش.
إذاً: فتواضع أبي بكر لـ عمر ولـ أبي عبيدة تواضع جم، يقول الذهبي: كان من خيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأحسنهم خلقاً أبو عبيدة عامر بن الجراح، ولذلك لما حضرته الوفاة، قال له أصحابه: -وقد طعن بالطاعون- ما هي خير ليلة مرت بك في حياتك؟ قال: ليلة ما أنساها من ليالي اليرموك -المعركة التي وقعت بين المسلمين وبين الروم وكان قائدها أبا عبيدة أمير الأمراء- قال: رأيت الجيش نام ذات ليلة في ليلة شاتية، كثير بردها، وكثير مطرها، فقمت فنظرت إليهم وقد ناموا جميعاً، فأيقظت امرأتي وقلت: هل لك بليلة تشترين بها الجنة؟ قالت: نعم، أطوف أنا وإياك على هذا الجيش نحرسه في هذه الليلة -وهو الأمير- فكان يطوف رضي الله عنه وأرضاه، فإذا وجد رجلاً لحافه ليس مغطىً عليه رد عليه لحافه، حتى أصبح الصباح، ثم صلى بالناس الفجر، فهي من خيرة الليالي عنده، ولذلك يقول عمر للصحابة في المدينة تمنوا، فتمنوا أمنيات، فقال: أما أنا فوددت أن لي ملء هذا البيت رجالاً مثل أبي عبيدة، وسافر عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى الشام، فأتى الأمراء وهم أربعة، شرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان، وأميرهم جميعاً أبو عبيدة، فـ أبو عبيدة كان في مرحلة وراء هذه المرحلة، فلما أصبح على مشارف الشام لقيه الأربعة الأمراء بجيوشهم، فلما رأى عمر رضي الله عنه الخيول وعليها الأبطال والسيوف، وأهبة هائلة ما سمع الناس بمثلها، فصد رضي الله عنه وأرضاه الطريق، ومعه خادمه، فلقيه عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين! تهيأنا لك، ونريد أن ترهب الأعداء، وقد صففنا نحن الأربعة الأمراء بجيوشنا، ثم صددت عنا، قال: اسكت يا عمرو! نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، ثم قال: ادع لي أخي أبا عبيدة فأتى أبو عبيدة، وهو على ناقة -وهذا من تواضعه رضي الله عنه وتقشفه وزهده قال ابن كثير: حزامها ليف- فأتى وليس عليها سرج حتى اقترب من عمر فتعانقا وهما يبكيان؛ لأنهما من زمن طويل لم ير أحدهما الآخر، ثم قال عمر: تعال يا أبا عبيدة! مل بنا نتذكر أيامنا التي قضيناها، مع رسول الله صلى عليه وسلم، وهذه هي المحاسبة والمرابطة للنفس فمالا عن الطريق وهما يبكيان، فلما أتى المساء قالوا لـ عمر: أين تنزل يا أمير المؤمنين الليلة؟ -أي: أين تنام- قال: أنزل عند أخي أبي عبيدة، فقال أبو عبيدة: لا، انزل عند بعض هؤلاء الأمراء لا تعصر عندي عينيك، يعني: تبكي عندي، قال: لأنزلن عندك، فاستضافة في تلك الليلة فقدم له أقراصاً من شعير، فقال له عمر: أما عندكم شيء من متاع، قال: لا، صرفنا ما أعطيتمونا، أي: من العطاء ومن المال في مصارفه، وهذا زادنا وطعامنا، فأكل عمر وهو يبكي.
ويقول: غرتنا الدنيا كلنا يا أبا عبيدة! إلا أنت، فلما أتى النوم، قدم له شملة، قال: هذا فراشنا، فالتحف عمر نصفها وافترش نصفها، وأخذ يبكي، فأتى أبو عبيدة، ووقف عند رأسه وقال له: أما قلت لك في النهار: إنك سوف تعصر عينيك عندي! رضي الله عنهما وأرضاهما.(133/23)
طلب الصدق ثوابه الصدق من الله
الفائدة العشرون: طلب الصدق ثوابه الصدق من الله عز وجل، قال تعالى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] فإن عمر رضي الله عنه سأل الله الشهادة بصدق فبلغه الله الشهادة، وأعطاه ما تمنى، وسأل الله عز وجل عند الجمرات أن يرزقه الشهادة، فرزقه الله الشهادة.
ولذلك في صحيح مسلم: {من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه} فإنه سأل الله الشهادة فرزقه الله عز وجل الشهادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول أنس: ظننت أن القيامة قامت يوم قتل عمر، قتل في الركعة الأولى وأكمل ابن عوف الصلاة بالمسلمين رضي الله عنهم جميعاً وحمل، فيقول بعض الناس: لا ضير عليه، ليس عليه بأس، فلما وضع في بيته، قال: إيتوني بلبن، يريد عمر رضي الله عنه أن يختبر جرحه، لأنه طعن بخنجر ثلاث مرات، والخنجر له حدان أي ست طعنات، فلما شرب اللبن، خرج اللبن من الجرح، فقال: الله المستعان -يعني أنه مقتول- قال: من قتلني؟ قالوا: أبو لؤلؤة المجوسي، قال: الحمد لله الذي جعل شهادتي على يد رجل ما سجد لله سجدة، ثم قال: ضعوا خدي على التراب، فوضعوه على التراب، وأراد ابنه عبد الله أن يرفع رأسه بمخدة فقال: ضع خدي على التراب لا أم لك! عل الله أن يرحمني، ثم سأل الله عز وجل وقال: اللهم إني أصبحت منقطعاً عن الدنيا مقبلاً عليك اللهم فارحمني.
ثم دخل عليه الصحابة، قال ابن عباس: وكنت أقرب الناس إليه، قال: وبينما أنا واقف عند رأسه، وإذا هو ينصت طويلاً رضي الله عنه وأرضاه، ويكفكف دموعه، يتذكر أعماله وقدومه على الله عز وجل، قال: فإذا برجل قد قرب منا فوضع يده على كتفي فالتفت، فإذا هو علي بن أبي طالب، قال: فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فالتفت إليه عمر وقال: لا تقل: يا أمير المؤمنين! فإني لست اليوم للمؤمنين بأمير، قال: السلام عليك يا أبا حفص! أمَّا بَعْد: {فوالله لطالما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر فأرجو الله أن يجعلك مع صاحبيك} قال: ابن عباس: فقلت أنا: يا أمير المؤمنين! هنيئاً لك وطوبى لك، أسلمت فكان إسلامك نصراً، وهاجرت فكانت هجرتك فتحاً، وتوليت فكانت ولايتك رحمة، فسالت عيناه من الدموع ثم قال: [[يا ليتني نجوت كفافاً لا لي ولا علي]] ثم استدعى ابنه عبد الله وقال: لا تتول أمر هذه الأمة، يكفي من آل عمر رجل واحد يعذب، ثم أسلم روحه إلى الحي القيوم، فنسأل الله أن يجمعنا به وبكل صادق يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار، نسأل الله أن يقر أعيننا برؤيته تبارك وتعالى وبرؤية رسوله صلى الله عليه وسلم، اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا.(133/24)
ففروا إلى الله
لابد للمسلم الذي يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يعرف أدب الدعوة وكيف يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمر تعالى، ولو أن كل مسلم غيور على دينه أمر بالمعروف ونهى عن المنكر في حارته أو حيه لكان هناك خير كثير، ولكن تقاعست الهمم، ولم يعد هناك جرأة في قول الحق.
ولا نجاة لنا من فتن هذا الزمان الذي نعاني من ويلاته إلا بالإلتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(134/1)
مبارزة الله بالمعاصي
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحق، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله! جمعتنا بكم المحبة في الله، وجمعنا بكم الأمر الذي أوجبه الله علينا، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].(134/2)
قرية تحارب الله وتعصيه
يا مسلمون! يا صادقون! يا صائمون! يا مصلون!
اسمعوا إلى كلام الله تبارك وتعالى وهو يتحدث لنا عن قرية نامت في جفن البحر، جاورته، ولكنها ما وقرَّت وما عظَّمت رب البر والبحر، وما استحت من الله، قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:163 - 166].
هذه القرية! مسكينة بائسة، هالكة عاصية! قرية جحدت معروف الله، وتنكرت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قريةٌ عطَّلت أوامر الله كما تفعل بعض القرى، قرية كانت تجاور البحر {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف:163] لكن أسلوب القرآن عجيب ورائعٌ وبديع، هذه القرية من قرى بني إسرائيل، اجتمعت عند البحر واجتمع أهلها على المعصية.
حرَّم الله عليهم صيد السمك يوم السبت لحكمةٍ أرادها الله، وعندنا اليوم ليس سمك، بل أغلى من السمك، أعراض تنتهك، وعيونٌ تنظر، وغناء، وخمر، وسُكرٌ، وتخلف عن الصلاة، ليست المسألة مسألة سمك، المسألة مسألة دينٌ يُسحق بالشاطئ، وأمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر لا يقام، ولا إله إلا الله تجرح مشاعرها، القضية أعظم من صيد السمك، القضية صيد نساء وفتيات، وصيد أعراض وهدم بيوت، وجرح مشاعر.
حرَّم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، ولكن الخبثاء الأخسة، الحقراء الأذلة؛ فجروا من البحر طرقاً ليوم الأحد حيلةً على الواحد الأحد، يضحكون على الله! ويستهزئون به، يخادعون الله وهو خادعهم! فكانت الأسماك تمر يوم السبت؛ فإذا دخلت إلى الخنادق والأخاديد أغلقوا الماء، ثم صادوها يوم الأحد، فلما فعلوا ذلك انقسم الناس ثلاثة أقسام: قسمٌ شاركهم، وقال:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
كما يفعل بعض الماجنين اللاهين يوم يرى أهل المعاصي كُثر، فيقول: ضع رأسك مع الرءوس، واجعل نفسك مع هؤلاء، والله غفور رحيم، والبلد كله من هذا الصنف، والناس فعلوا كذا فافعل فعلهم، وهؤلاء لا يحملون عقلاً ولا وقاراً ولا حياءً من الله فماتت قلوبهم.
وفي الحقيقة! أصبح الإيمان في قلوبهم متلاشٍ، سخروا من الله فسخر الله منهم.
وصنفٌ ثانٍ بارد، يعيش لنفسه، لا يرى (لا إله إلا الله) أن لها حقاً عليه، يعيش لخبزه وطفله وحذائه، جالسٌ في بيته ساكت، يقولون للدعاة: لم تعظون قوماً الله مهلكم أو معذبهم عذاباً شديداً؟
يقولون: الناس هالكون اتركوهم، أنت وشأنك، والناس وشأنهم (دع ما لله لله، ودع ما لقيصر لقيصر) ما عليك، الله لا يسألك إلا عن نفسك، وهؤلاء أهل السلبية الذين سوف يحاسبهم الله على ما عطلوا من أمرٍ بمعروف ونهيٍ عن منكر.
وقامت طائفة ثالثة بيضَّ الله وجوههم: أهل لا إله إلا الله، أهل الرسالة، أهل الحياة الخالدة، الذين نوَّر الله بصائرهم في الدنيا والآخرة، قالوا للعصاة: قفوا أيها الضُّلال! إن الهلاك سوف يعمنا فما هي النتيجة؟
يقول أحد الكتبة من المتأخرين: قرية عفا عليها الزمن لما دكدكها الله، وأسدل عليها الهوان والدمار إلى يوم يلقونه، أرسل الله عليهم عذاباً ونكالاً، فمسخهم قردةً وخنازير.
هؤلاء هم أهل المعصية! أهل الشاطئ! أهل الانحراف الذين ما عظَّموا الله، ولا شعروا بوقارٍ لله، والشعور بوقار الله من أسس الإسلام، بل هو من العقيدة الحقة، قال نوح عليه السلام: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} [نوح:13 - 17] مالكم لا تحترمون الله.(134/3)
الخوف والاستحباب من الله عند السلف
جاء عند الإمام أحمد في كتاب الزهد أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه قال -وليت أبا بكر ينظر إلى واقعنا المعاصر، ليته مر هذه الليلة ليرى الشاطئ وما يحدث فيه من اختلاط ونظرات مشبوهة، وأعراض منتهكة، وصلاة متأخرة، ونغمة مرتفعة-يقول رضي الله عنه: [[يا أيها الناس! استحيوا من الله حق الحياء، فوالله الذي لا إله إلا هو، إني أذهب إلى الخلاء لأقضي حاجتي، فأجعل ثوبي على وجهي حياءً من ربي]].
اللهم ألحقنا معه في منازل الخالدين (حياءً من الله في قضاء الحاجة) ألا يستحي هذا العبد الذي خرج بعرضه: بابنته، وزوجته، وأخته، خرج بدينه وبشرفه، خرج بإيمانه بين لاهين لاغين، تركوا المساجد والقرآن، ماذا يقولون لله؟
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {استحيوا من الله حق الحياء والاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ومن تذكر البلا ترك زينة الحياة الدنيا}.
الخليفة العظيم عمر بن الخطاب الذي تربَّى على لا إله إلا الله، الرجل الذي عجز التاريخ أن يأتي بمثله مرةً ثانية، قال ابن كثير عنه: إنه سمع قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24 - 26] فألقى عصاه واتكأ على الأرض، وحمله الصحابة على أكتافهم إلى البيت، وبقي مريضاً شهراً كاملاً.
هذا هو الإيمان، مراقبة الواحد الديان، يوم تخلو بالحيطان، وتتستر بالجدران، ستعلم أن الواحد الأحد يراك، وتقول لنفسك:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
بكى الربيع بن خثيم حتى كادت أضلاعه تختلف، وقال: [[والله -إن شاء الله- لا يسألني ربي أنني وقعت بفاحشة أبداً]].
وقال البخاري فيما يروى عنه في صحيحه: "منذ بلغت الاحتلام ما كذبت كذبةً ولا اغتبت مسلماً".
إن: تلك النماذج عاشت لله، وماتت لله، وذهبت لله، وأتينا إلى جيلٍ لا يعرفون الله، أكلوا نعم الله، واستنشقوا هواءه، وشربوا ماءه، وبارزوه بالمعاصي.
أنجى الله الذين ينهون عن السوء، وأمَّا أولئك فهلكوا، والصنف الثاني اختلف العلماء فيهم، وكأنهم إلى الهلاك أقرب.
يا مسلمون! إن في هذه المحاضرة مسائل:
أولاً: واجبنا نحو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثانياً: أدب الدعوة وكيف ندعو الناس؟ وكيف نجلس مع الناس ونعلمهم الإسلام؟ وكيف نلقنهم لا إله إلا الله؟
ثالثاً: الفتن التي عمت وطمت حتى يتمنى المسلم اليوم أنه يدفن مكان صاحب القبر.
رابعاً: حياة اللهو واللعب والعبث التي يعيشها كثير من الناس، ما لهم يلعبون بالنار؟ ما لهم يعصون الواحد القهار؟ ما لهم تناسوا الله عز وجل وذكروا كل شيء؟!
خامساً: عقوبة المعاصي.
سادساً: هل من توبة أيها المسلمون؟
سابعاً: كلمة إلى النساء.(134/4)
واجبنا نحو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
نحن أمةٌ لا نعيش إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أنا وأنت، المتكلم والسامع، إن لم نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر وإلا فاعتبر أن الخزي والذل سوف يحل بنا، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
ويقول عليه الصلاة والسلام: {إنما أهلك الذين كانوا قبلكم، أن الرجل فيهم كان ينهى الرجل ثم لا يمنعه أن يكون أكيله وشريبه من آخر النهار، فلما فعلوا ذلك لعنهم الله} حولهم قردة وخنازير، أذلهم إذلالاً ما شهد التاريخ مثله، بل كتب عليهم اللعنة في كل كتاب، وعلى لسان داود وعيسى بن مريم عليهما السلام.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يفتقر إلى أمر إلا من الواحد الأحد، وإذا ما فعلت ذلك فتأكد أن التباب والخسار سوف يحل بالبلاد والعباد.
صعد أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه على المنبر، فقال: {يا أيها الناس! إنكم تقرءون آيةً وتحملونها على غير محملها، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه، أوشكوا أن يعمهم الله بعذابٍ من عنده} وهذا حديث صحيح، فالناس إذا رأوا المنكر وسكتوا ولم يتكلموا وجعلوها للهيئات، وخلوا المسئولية، وعاشوا السلبية، أوشك الله أن يأخذ الصالح والطالح، والمصلح والمفسد، ثم يلعنهم كما يلعن الذين من قبلهم.
يأمر أمير المؤمنين بالمعروف وينهى عن المنكر وهو في سكرات الموت، هذا باب بوبه أهل السنة قالوا: عمر يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو في سكرات الموت، طعن أمير المؤمنين عمر -الأبطال يموتون شهداء- نزف دمه كالماء، وماذا يقول عمر؟
كانت عيونه تهراق بالدموع، ويقول: [[يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني ما عرفت الحياة، يا ليتني ما توليت الخلافة]] طوبى لك يا أمير المؤمنين! بل والله ليت أيامك تتكرر.
أيا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ
أتى ودمه يثعب، فكانت عيونه تهراق بالدموع، ويقول: هل صليت؟
لأنه طعن في الركعة الأولى ولم يكمل الصلاة؛ كان شغله الشاغل هو الصلاة، يريد أن يلقى الله بالصلاة، لم يسأل عن زوجة ومنصب، ولا عن دار أو قصر أو عقال، ولا عن خلافة أو ملك، قال: هل صليت؟
قالوا: يعينك الله وتصلي، فأعانه الله فأتم الصلاة.
يقول عمر وهو في سكرات الموت: [[الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، الله الله في الصلاة! لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، من حفظ الصلاة حفظه الله، ومن ضيع الصلاة ضيعه الله]].
وهو في الرمق الأخير كان يسلم على الأطفال ويبكي وهم يبكون، ثم أتاه الشباب يسلمون عليه، فلما ولىَّ شابٌ وجد عمر إزار الشاب مرتخٍ تحت الكعبين، قال: تعال يابن أخي -رضي الله عنك حتى في ساعة الصفر تأمر! حتى في الساعة التي ينسى فيها الإنسان حبيبه، وزوجته وولده وأخاه تأمر- قال: [[تعال يابن أخي! ارفع إزارك، فإنه أتقى لربك، وأنقى لثوبك]] قال الابن الغلام: جزاك الله عن الإسلام خير الجزاء، إيه والله.
يقول علي بن أبي طالب لـ عمر وهو مكفن يريد أن يصلي عليه: [[والله ما أريد أن ألقى الله بعمل رجلٍ إلا بعملٍ كعملك، لقد كفنت سعادة الإسلام في أكفان عمر]].
الشاهد أنه في ساعة حرجة أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} أي إيمان يبقى مع إنسان وهو يجوب الأماكن والأسواق والمنتزهات والشواطئ وينظر إلى هذه المناظر ثم لا ينكر قلبه على أقل الأحوال؟ والله إن الإنسان يصيبه مرض، وإنه ليأسف أسفاً شديداً، وأن قلبه يكاد أن يتمزق حسرةً لهذه الأمة، أجدة قريبة من مهبط الوحي من الحرم؟ أجدة البلد الإسلامي؟
أجدة بلد الصحوة، وبلد الدروس والعلم؟
أشاطئها يشهد هذه الأمور؟! إنه يؤسف كل مسلم، وإني ما أتيت هنا متفرجاً ولا متنزهاً وإنما أتيت واعظاً، أقول لإخواني: طريق الهداية قد فتحت أبوابها، فعودوا إلى الواحد الأوحد؟(134/5)
أدب الدعوة وكيف ندعو الناس
واجبنا -يا دعاة الإسلام، ويا شباب الإسلام- أن ننزل إلى الناس، وهو ما يسمى أدب الدعوة.(134/6)
الدعوة إلى الله بأسلوب حسن
قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] أن نرحم الناس، وأن نشفق عليهم، لماذا نبقى في مساجدنا والناس يتهالكون؟
ولماذا نبقى والمعاصي قد طمت وعمت؟
أما نخشى أن يأتينا أثرها ونحن في منازلنا؟ لا إله إلا الله! إن واجبنا أن نأتي بأسلوبٍ أتى به محمد عليه الصلاة والسلام: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] وقال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] إلى الواحد الأحد، الناس يدعون إلى كياناتهم وأساليبهم، وإلى راياتهم وقوانينهم، أفلا تدعو أنت إلى الله!
يقول الشيخ عبد الله عزام رحمه الله، وقد سمعت منه هذا الكلام مباشرة قال: كان في أفغانستان امرأةٌ مسيحية نصرانية أتت تبشر بـ المسيحية في رأس جبل، معها جهاز آريال وهي على الثلج تنام مع البعوض، وتستيقظ مع الجوع والظمأ وهي تنشر المسيحية في أرض أفغانستان، قلنا: أين شباب الإسلام؟ أين دعاة الحق؟ أين علماء الدعوة؟ أين خلفاء محمد عليه الصلاة والسلام؟ أين الذين يدعون إلى الله عز وجل؟ أين الداعون؟ لقد خلوا إلا القليل، ولقد سكتوا وأخرسوا لا أدري ماذا يقولون للواحد الأحد يوم العرض الأكبر؟!
يقترح بعض العلماء، يقول: لو أتى كل شاب مستقيم ونزل إلى السوق والشاطئ، وإلى كل مكان اللهو، فدعا شاباً أو رجلاً إلى المحاضرة أو الدرس أو الهداية لكان العدد قد زاد ضعفه، وهكذا حتى يهتدي الناس، وهذا اقتراح جميل، وإنما المقصود: كيف نقدم هذا للإسلام؟
أولاً: كل من أعرض عن الله فهو على فطرة الله التي فطر الناس عليها، والواجب علينا أن ندعو الناس مشفقين، لا مؤنبين، ولا جارحين، ولا مضاربين، ولا مهاترين، ولا شاتمين، ولا سابين.
محمدٌ هو بأبي وأمي عليه الصلاة والسلام، جرحت أقدامه، وسالت دماؤه، قد جرحها المشركون، أخذ يقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} أتاه ملك الجبال عند دخوله مكة قال: {أتريد أن أطبق عليهم الأخشبين؟ قال: لا.
إني أرجو من الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً} وحقاً صبر عليه الصلاة والسلام.
عجباً من قلبك الفذ الكبير
والفيافي حالماتٌ بالمنى تتلقاك بتصفيق مثير
أخرج الله من صلب الوليد بن المغيرة خالد بن الوليد، الذي قاد مائة معركة، وأبلى في الإسلام بلاءً حسناً، وقدم دموعه ودمه ووقته في خدمة لا إله إلا الله.
وأخرج الله من صلب أبي جهل عكرمة بن أبي جهل الذي أتى في اليرموك رضي الله عنه وأرضاه، فلما التقى الجمعان الإسلام والكفر، والضلال والحق، خرج فاغتسل فلبس أكفانه، وقال لأصحابه: [[أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه! هل لكم وصية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟]] قال الجيش: بلِّغه عنا السلام، فأخذ السيف وخاض المعركة، وقتل وهو في الرمق الأخير، يعطيه خالد بن الوليد الماء ليشرب، فيقول: اعطه أخي المسلم، جريح آخر فيعطونه الجريح الثاني فيرفض إلا أن يشرب أخوه، فيأتون إلى الأخ الثالث فيرفض، فيعودون بالماء إلى عكرمة فإذا هو قد فارق الحياة.
عفاءٌ على دنيا رحلت لغيرها فليس بها للصالحين معرج
كدأب علي في المواطن كلها أبي حسن والغسل من حيث يخرج
قال: فحوله خالد إلى الآخر فوجده قد مات، ثم الثالث فوجده قد مات، فبكى خالد حتى سمع صوت البكاء، ثم رمى الكوب من يده وقال: [[اسقهم من جنتك؛ فإنهم قد خرجوا في سبيلك، اللهم اجمعنا بهم في الجنة]] قومٌ بذلوا مهجهم.
والشاهد أن محمداً عليه الصلاة والسلام تحمَّل وصبر حتى قدم إسلاماً بديعاً للناس، يقول الله له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] عظيمٌ خلقه، وعظيمٌ صبره، قاتله أقاربه وجرحوا مشاعره، وضربوا بناته، وآذوه وسبوه وشتموه، وأخرجوه من دياره، وفي الأخير لما انتصر وفتح مكة طوق الحرم بالجيش، فقال لكفار مكة: {ما ترون أني فاعلٌ بكم؟ فتباكوا، وقالوا: أخٌ كريم وابن أخٌ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء} غفر الله لكم بل رفع الله منزلتك، وأتاك الله الوسيلة، حتى يقوم أبو سفيان أمامه يبكي، ويقول: [[لا إله إلا الله ما أرحمك! ولا إله إلا الله ما أبرك! ولا إله إلا الله ما أوصلك!]] وأتاه أبو سفيان بن الحارث ابن عمه بعد أن فر بأطفاله؛ لأنه آذى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال علي بن أبي طالب: إلى أين تسير يا أبا سفيان؟ قال: أخرج إلى الصحراء، فأموت أنا وأطفالي جوعاً وعرياً وعطشاً، قال: ولماذا؟ قال: إن أدركني محمد قطعني بالسيف إرباً إرباً، قال: عد إليه وسلم عليه بالنبوة وقل له كما قال إخوة يوسف ليوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فعاد إليه، ووقف على رأسه وسلَّم عليه، وقال: يا رسول الله! {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فرفع عليه الصلاة والسلام طرفه وقد اعتلت الدموع على محياه الجميل وقطرت لحيته بالدموع:
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكا
فقال عليه الصلاة والسلام: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}.(134/7)
نجاح الرسول عليه الصلاة والسلام في دعوته
نعم! لقد نجح الرسول عليه الصلاة والسلام في دعوته نجاحاً ما شهد التاريخ مثله، العدو يأتيه فينقلب صديقاً بدعوته، أتاه رجل، فقال: يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وإني أتوب إلى الله من كل معصية إلا الزنا، فقام الصحابة يريدون أن يؤدبوا هذا الرجل؛ لأنه تكلم بالفاحشة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: {اتركوه فتركوه، قال: تعال! فأجلسه بجانبه ووضع يده الشريفة على كتف الرجل، وقال: أترضى الزنا لأمك؟ قال: لا.
قال: أترضاه لأختك؟ قال: لا والله.
قال: أترضاه لابنتك؟ قال: لا والله.
قال: أترضاه لزوجتك؟ قال: لا والله.
قال: فهل يرضونه المسلمون لأخواتهم وأمهاتهم وبناتهم وزوجاتهم -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- قال: أتوب -يا رسول الله- من الزنا، فوضع يده عليه الصلاة والسلام على قلب الرجل، وقال: اللهم طهر سمعه وبصره، وحصِّن فرجه} دعوة وأصبح الرجل في ميدان الإسلام، وأصبح من الدعاة؛ لأن اللبيب عرف كيف يقود هذا إلى الهداية؟
ينقصنا الحكمة، والرحمة والشفقة والأسلوب، إننا ركزنا اهتماماتنا في المساجد، وتركنا هذه الأماكن، أهل المساجد جاهزون، أتوا يصلون، مستقيمون، عابدون، صادقون، راكعون، ساجدون، لكن إخواننا وأقاربنا، وأبناؤنا، وأعراضنا، وأخواتنا، وقريباتنا في أماكن اللهو من يهديهم إلى صراط الله المستقيم؟ يقول صلى الله عليه وسلم: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم} وقال صلى الله عليه وسلم: {نضَّر الله امرأً سمع مني مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغٍ أوعى من سامع} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {بلغوا عني ولو آية} وقد ذم الله من كتم العلم، وجحد معروف الله له في الدعوة، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160].(134/8)
التقصير في الدعوة
من تقصيرنا في الدعوة أمور:
أولاً: أنه يوجد من يشهر العصاة؛ يشهرهم بأسمائهم، أو يكبتهم بالعتاب أمامهم، أو يتحدث لهم أمام الناس في معصيتهم، وهذا خطأ، يقول الشافعي:
تعمدني بنصحك في انفرادي وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوعٌ من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
ثانياً: أننا لا نسبق في إيصال الحق لأصحابه.
ثالثاًَ: أن القوالب الذي يؤدى فيها المعروف تكون فضة غليظة، فلا يقبلها الناس، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] يقول جرير بن عبد الله البجلي: [[والله ما زال عليه الصلاة والسلام كل ما رآني يتبسم في وجهي]] ويقول عمرو بن العاص: [[ما زال صلى الله عليه وسلم ينظر إليَّّ -في أول الإسلام يتألفه- حتى ظننت أنني أفضل من أبي بكر وعمر]] فاللين وإيصال الحق بقالب الرحمة وعدم التشهير بالعصاة الذين فيهم خير.
أنا أذكر قصة لرجل سمعتها منه مباشرة: داعية موفق، نور الله بصيرته، وآتاه الحكمة {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] يقول: في بلدنا رجلٌ مجرم وكان هذا المجرم يروج المخدرات، وسبق أن رجال الأمن طاردوه وطاردهم وضايقوه وضايقهم، كان يحمل السلاح وكان لا يعرف الصلاة، قطع والديه، وقطع أرحامه، ونسي الله وتردى في المعاصي حتى أعجز الناس، قال: فأتتني فكرة أن يهديه الله على يدي، فكنت أقوم في آخر الليل مع السحر، وأتضرع أن يجعل هدايته على يدي، قال: وصمت قبل أن أصله إلى بيته علَّ الله أن يجعله من العمل الصالح الذي يتقرب به إلى الله، قال: ثم أخذت هدية -وما أحسن الهدية، هديةٌ تأخذ القلوب وتجلب الأرواح- قال: وذهبت بها إلى بيت الرجل، فلما رأيته سلَّمت عليه، قلت: أحببتك في الله ورأيت عليك آثار الخير.
من أين آثار الخير؟ وجهه كقفاه، أسود من الليل، لكن انظر إلى الأساليب وانظر إلى السحر الحلال!!
في السحر: سحر حلال، وسحر حرام.
السحر الحلال: تبسمك في وجوه الرجال.
والسحر الحلال: أن تدعو الناس بأسلوبٍ عذب يصل إلى القلوب.
والسحر الحلال: أن تعانق العصاة لتقودهم إلى الجنة؛ ليكونوا في ميزان حسناتك، الكلمة الفظة سهلة، وتعقيد الجبين سهل، والهراوة سهلة، ولكنها تفوت ولا تبني، وتشرد ولا تجمع، وتقسي ولا تلين، من يحرم الرفق يحرم الخير كله.
وقال عليه الصلاة والسلام: {ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، وما نزع من شيءٍ إلا شانه} ويقول عليه الصلاة والسلام: {إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله} {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
قال: فنظر فيَّ قال: أتعرفني؟ قلت: لا.
رأيتك في مناسبات فخذ هذه الهدية، قال: فأخذها، قال: وما كلمته بكلمة وعدت إلى بيتي، وقلت: الحمد لله نجحت في أول خطوة، قال: وعدت إلى بيتي وبعد أيام ذهبت إليه، وقلت: أسألك بالله فيما بيني وبينك من صلة، وقد سبق أن التقينا أن تأتيني إلى بيتي زيارة، فإني أحببتك، قال: آتيك.
فحددت له موعداً لا أكون فيه إلا أنا وهو.
قال: فدخل بيتي، ووجهه مظلم، يقول ابن القيم: مشئوم تشأم منه السماء والأرض، والمبارك يكون مباركاً أينما كان وأينما حل وارتحل.
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وماذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا
قال: فدخل البيت وتغدى، قال: والله ما كلَّمته في الدعوة بكلمة، قال: وخرج، قلت: وهذا نجاحٌ ثانٍ، قال: ومرت ثالثة، قلت: معي مشوار إلى قرية قريبة أريد أن تركب معي، قال: فركب معي، قال: فلما ركب معي ابتهلت إلى الله ودمعت عيناي أن يرزقني الصدق، وأن يجري الحق على لساني، قال: فلما ركب قال: انطلقت بالكلام وأتت فتوحات من الله الواحد الأحد، ولا أدري من أين انهال هذا الكلام! قال: وأخذت دموعه تتسابق -أحيا الله الفطرة، أخرجها الله من مكامنها واشتعلت في قلبه، فتحركت لا إله إلا الله في روحه- قلت: أريد أن أنجيك من النار، أريد أن أقودك إلى الجنة في كلامٍ طويل، قال: مد يدك، قال: فمددت يدي، قال: أشهد الله، وملائكته، وحملة عرشه، ثم أشهدك أني تبت إلى الله، وأسألك بالله الذي لا إله إلا هو قبل الفجر أن تمر بي لتأخذني إلى المسجد، قال: فما رددت عليه إلا وهو يبكي من هذا الفتح العظيم؟ وعدت إلى القرية وبعد أيام كان يصلي معي في المسجد، ودخل على والده ووالدته وقد كانوا كباراً في السن، هجرهم سنوات، كانوا شيوخاً، بكوا من مرارة قسوته، دخل عليهم وآثار الخير والنور يشع من وجه، قالوا: أنت فلان؟ قال: نعم أنا فلان، ثم قبَّل يد أبيه ورأسه ويد أمه ورأسها، فانطلقوا يبكون فرحاً في البيت.
طفح السرور عليَّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
فيا مسلمون! بمثل هذا وهو أسلوب محمد صلى الله عليه وسلم الفطري العجيب، الذي وصل به إلى قلوب الناس، والذي أخذ أعداء الناس حتى أصبحوا في صفه عليه الصلاة والسلام.(134/9)
علامات الفتن التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم
نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، كان عليه الصلاة والسلام يقول لـ عمار: {استعذ بالله يا عمار من الفتن.
فيقول عمار: أعوذ بالله من الفتن} يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعث الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن} وقد حدث هذا، فالإنسان يتمنى يوم يرى بعض المناظر أنه ما عرف الحياة، أو أنه في جبل، أو أنه يتصل بالله بشعبٍ من الشعاب، لكن ماذا يفعل؟ ينسحب! ينهزم! والله عز وجل يقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} [الحج:40] ويقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] لكن لابد من كلمة الحق، ولابد من الدعوة إلى منهج الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
من علامات الفتن التي أخبر بها عليه الصلاة والسلام ما ثبت في الصحيح أنه قال: {صنفان من أمتي لم أرهما اليوم، أناس معهم سياطٌ كأذناب البقر يضربون الناس، ونساءٌ كاسيات عاريات مائلات مميلاتٌ رءوسهن كأسنمة البخت لا يريحون رائحة الجنة}.
أما نساء مائلات مميلات فقد وجدن، وقد شرحها النووي بشرحٍ يختلف عن شرح هذا العصر، ولو عاش النووي هذا العصر لغير من شرحه، مائلات يملن القلوب والأرواح والأفئدة، وقيل: يملن بأجسادهن وقد حدث هذا، فتاة الإسلام تخرج من بيت أبيها متجملةً متعطرةً متطيبةً، نابذة لا إله إلا الله وراء ظهرها، وعرضها، وحجابها، وسترها لتقول للمجرمين: انظروا، تعود بلعنة -والعياذ بالله- وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إذا تعطرت المرأة وتزينت وخرجت من بيت زوجها -أي: بدون إذنه- لا زالت الملائكة تلعنها حتى تعود إلى بيتها} وفي لفظ في السنن: {فهي زانية} من فعلت ذلك فهي زانية؛ لأن العيون نظرت إليها، فحذارِ حذارِ من هذه الفتن، ويقول عليه الصلاة والسلام: {ما تركت على أمتي أشد فتنة من النساء} إبليس لم يستطع لكثير من المهتدين إلا عن طريق النساء.
أقول للنساء علَّ سامعةً أن تسمع، وعلَّ مبصرةً أن تبصر، وعلَّ مؤمنةً أن ترى وتتدبر وتتفكر:
يا أختي! يا أمي! يا أيتها المسلمة! اتقي الله في إيمانكِ وعرضكِ، اتقي الله في هذا المجتمع، اتقي الله في العباد والبلاد، أنت المسئولة الأولى عما يجترف أو يكترث الشاب في هذه الناحية من تعريض نفسك للفتن، وتعريض غيرك للمخاطر.
يا أمة الله! بيتكِ بيتكِ، يا أمة الله! أين الإيمان؟ أين تربية محمد عليه الصلاة والسلام، أين قول الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33].
وقفت عائشة بعد موته عليه الصلاة والسلام سنوات في بيتها كانت تتحجب، وكانت تردد {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] وصح أنها قرأت ضحى إلى الظهر قوله سبحانه: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:27 - 28] وتبكي أين هذه التربية الخارقة؟ أين تربية وآثار الإسلام؟(134/10)
ثلاث وصايا للأخت المسلمة
إني أوصي الأخت المسلمة بثلاث وصايا:
أولها: أن تكون مربية في البيت، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
تقدمت الخنساء النخعية في القادسية -كما قال بعض أهل التاريخ- بأربعة أبناء، فألبستهم الأكفان وطيبتهم، وقالت: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، لا تعودوا إلا قتلى ليشرفني الله بشهادتكم، فقتلوا في سبيل الله، فلما أخبرت تبسمت وقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم في سبيله.
أي امرأة هذه المرأة النبيلة، أي تربية هذه التربية الحرة.
دخل علي رضي الله عنه على الرسول صلى الله عليه وسلم ليخطب فاطمة -سيدة نساء العالمين، الطاهرة الصديقة، الوفية- قال: فاستحييت من الرسول صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: كأنك تريد فاطمة؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: عندك شيء من المال؟ قال: والله ما عندي شيء - علي بن أبي طالب لا يملك شيئاً، يملك إيماناً وتوحيداً، يملك لا إله إلا الله- قال: أين درعك الحطمية؟ قال: فأتيت بها مكسرة لا تساوي درهمين فزوجه عليه الصلاة والسلام}.
يقول محمد إقبال في فاطمة:
هي بنت من؟ هي زوج من؟ هي أم من؟ من ذا يساوي في الأنام علاها
أما أبوها فهو أشرف مرسلٍ جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي زوج لا تسل عنه سوى سيفٌ غدا بيمينه تياها
زار عليه الصلاة والسلام علي وفاطمة في الليل، فاستنارا بنوره في الظلام، وصل وهما نائمان قالت: {يا رسول الله! طحنت الرحى حتى كلَّت يدي، وكنست حتى تدنست ثيابي، فهل من خادم؟ -تريد خادمة- فانتظر عليه الصلاة والسلام ثم أتاها بعد ليالي، فقال: ألا أخبركما بما هو خير لكما من خادم؟ -بإمكانه أن يعطيها عليه الصلاة والسلام ذهباً وفضة وخادمة، لكنه يريد الجنة، تأتي يوم القيامة ناقة من نور خطامها نور، يشق له الناس الطريق وهي بنت محمد محجبة عليه الصلاة والسلام- قال: ألا أخبركما بما هو خير لكما من خادم؟ قالا: بلى يا رسول الله! قال: إذا أويتما إلى مضجعكما، فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، واحمدا الله ثلاثاً وثلاثين، وكبرا الله أربعاً وثلاثين فهما خيرٌ لكما من خادم}.
أتته صلى الله عليه وسلم سكرات الموت؛ فاقتربت منه فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فأخذ يقول لها عليه الصلاة والسلام: {أنتِ أول الناس بي لحاقاً -وعلمت أنه سوف يموت في ذلك المرض- فأخذت تبكي، فقال: ادن يا بنية! فدنت رضي الله عنها وأرضاها منه صلى الله عليه وسلم، فلما دنت من المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين فتبسمت} إنما النموذج الخالد نساءه صلى الله عليه وسلم وبناته والمؤمنات الصادقات الصالحات.(134/11)
التكشف والعري
لماذا هذا التكشف والعري؟ لماذا مخالفة الحجاب؟ لماذا الخروج عن أمر الله؟ {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] جلوسٌ وتكشُّفٌ على الشاطئ، وتكشُّفٌ مع الخياط وتكشّف مع بائع الذهب، أين الإيمان؟ أين التقوى؟ أين الخوف من الواحد الأحد؟
يقول أهل العلم: كان من الصالحين رجلٌ صديق، فأتى بعض الفجرة، فقالوا: والله لنغوينه، فأتوا إلى مومسة -والعياذ بالله- داعرة فاجرة، فأعطوها مالاً، وقالوا: تعرضي لذاك العابد في ظلام الليل، فتعرضت له، فلما رآها وهي متكشفة رأى الجمال، قال لها العابد: وقد نكس بصره:
يا ذات الجمال اتق ناراً تلظى لا تلفح وجهك النار
فأخذت تبكي وتابت إلى الله؟
يا ذات الجمال! يا ذات الخدر! يا ذات العرض! يا بنت الإسلام! يا فتاة الدين! احذري نار جهنم أن تلفحكِ بحرارتها، فإن الله عز وجل قد أرصد للعصاة ناراً، ووعدهم نكالاً.
أكلهم زقوم، وشرابهم الصديد، فاحذري أن يكون مصيركِ بعد هذا اللهو والفتون واللعب والتمرد على منهج الله أن يكون ناراً تلظى، ويكون ضياعاً وخسراناً نعوذ بالله من الخذلان.
تزود للذي لابد منه فإن الموت ميقات العباد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زادٌ وأنت بغير زاد
المسألة الثالثة: كيف نربي المسلمة التي تخاف الله عز وجل وترجو لقاء الله تبارك وتعالى بالصلاة، وبالحجاب، وبذكر الله، وبالكتاب الإسلامي، وبالشريط الإسلامي، وبالاتصال بالله الواحد الأحد.(134/12)
حياة اللهو واللعب
أما العنصر الرابع: حياة اللهو واللعب، كثير من الناس ميت، يأكل ويشرب، ويرقص ويغني، ويسمع الأغنية، ويطالع المجلة، ويلعب البلوت والباصرة والورقة، عبدٌ لشهواته، ولبطنه، ولفرجه، ولكنه ميتٌ تماماً، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
لا إله إلا الله كم سفكوا من النظرات! ولا إله إلا الله كم اعتدوا عليه من الحرمات! ولا إله إلا الله كم أغضبوا رب الأرض والسماوات!
قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] عاشوا على العود، وهجروا المصحف، وعاشوا على الدندنة وهجروا التلاوة، وعاشوا على المقهى الأثيم الأحمر وتركوا المسجد، هجروا القرآن من أجل المجلة الخليعة، ولكن مع ذلك على الفطرة، ومع ذلك مستعدون أن يعودوا إلى الله، ومع ذلك لا زالت حرارة (لا إله إلا الله) تتوقد في قلوبهم.(134/13)
توبة الغافلين
بشرى لكم يا معشر المسلمين!
كان في مكة محاضرة بعنوان: (رسالة إلى المغنيين والمغنيات) وقرأنا سبعة إعلانات عن سبعة فنايين في بلادنا، أعلنت عنهم الجزيرة وعكاظ، عادوا إلى الواحد الأحد، كلهم أعلن توبته، كلهم رأى الفن ضياعاً، والحياة مع غير الله همجية، والحياة في الظلمات لعنة، والبعد عن المسجد غضب، وهجر القرآن خطيئة، فعادوا وهم كثير، بل أكثر من سبعة، ولا زال كل يوم يشهد عودة الفنانين لأنهم ذاقوا مرارة الحرمان، يقول محمد البيتي: لا أريد أن ينشأ طفلي مغنياً ولا مطبلاً ولا يحمل العود.
قلنا له: جزاك الله خيراً يا محمد، وأحسنت كل الإحسان.
المغني الشهير أتته نفحة من نفحات الواحد الأحد، أراد الله أن ينجي وجهه من النار، وأن يحفظ عليه إيمانه، فأحيا قلبه بلا إله إلا الله، كسر العود والنآي، طرد الفرقة الموسيقية، وعاد إلى المسجد يبكي، وبـ الخياط ومسفر الكثامي وأبو الكرم، وتسمعون أبا الكرم يقرأ سورة (ق) في آخر الشريط بصوتٍ عجيب أبكى جميع الناس في المسجد.
نعم! إنها صحوة تعود إلى الواحد الأحد؛ لأن الناس جربوا الضياع فما وجدوا العيش إلا في كنف الله.
أي شيءٍ وجد من فقد الله؟ وأي شيءٍ فقد من وجد الله؟
ولو أنَّا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حيٍ
ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شيءٍ
يقول تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] اهتدوا وعادوا وسجدوا للواحد الأحد، وبكوا وتغسلوا بالدموع، وتوضئوا بماء الحسرة، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] ويقول سبحانه: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام:70] ذرهم في طغيانهم، كثير من الناس يعيش ستين سنة، يا منعم الجسم! أكثر من يتنزه اليوم على الشواطئ يريد أن ينعم جسمه في الصيف في أبها أو في الطائف، وفي الربيع هنا على الشواطئ في فلة ومكيف وفي نعيم ورغد، وفي فسحة ونظر، أما جسمه فنعمه وغذاه، لكنه أهلك قلبه هلاكاً ما بعده هلاك.
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك بما فيه خسرانٌ
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانٌ
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران(134/14)
حال السلف مع الدنيا
ثابت البناني المحدث الكبير بكى حتى ذهبت عينه من خشية الله، وبقيت عينٌ واحدة، قالوا: نخرج بك إلى حدائق خراسان لعلك ترى الخضرة والماء، علك إذا رأيت الخضرة أن يعود لك بصرك، فخرجوا به، فرأى الحدائق الخضراء في خراسان، ورأى البساتين، ورأى الماء يجري، لكن كلما رأى بستاناً بكى وتذكر الجنة، وكلما رأى حديقة بكى وتذكر الجنة.
وداع دعا إذ نحن بـ الخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائحاً كان في صدري
وعاد إلى البصرة قالوا: كيف وجدت النزهة؟ هل هي جيدة؟ قال: والله ما أعجبني في النزهة كلها إلا عجوزاً رأيتها تصلي ركعتي الضحى، لله درك يا من ينظر إلى هذه القصور الدور وهذا العمار كأنها الأحذية أو التراب أو الرماد!
ماذا تساوي عند أن نتفكر في جنة عرضها السماوات والأرض؟
كم نعيش؟ ستين سنة، أو سبعين سنة فنترفه ونعصي هذه المعصية، ونلهو ونلعب {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} [مريم:93 - 94].
دخل صلى الله عليه وسلم فارتقى المنبر، فقال للصحابة: {أنقاتل كفار قريش في أحد أو المدينة؟ قالوا: نقاتلهم داخل المدينة، فقام شاب اسمه نعيم بن مالك بن ثعلبة وكان في آخر الصفوف، قال: يا رسول الله! لا تحرمني دخول الجنة، والله الذي لا إله إلا هو، لأدخلن الجنة فقال عليه الصلاة والسلام: بم تدخل الجنة؟ قال بخصلتين: بأني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، وقال: إن تصدق الله يصدقك} فخرجوا إلى أحد فكان أول مقتول.
أتى عبد الله بن عمرو الأنصاري قبل المعركة بليلة، فرأى في المنام أنه أول من يقتل؛ فأيقظ بناته في الليل يستودعهن آخر ليلة، والليلة الثانية مع الله في ضيافة الواحد الأحد {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] فلما أتى أيقظ بناته، وقال: [[أستودعكن الله الذي لا تضيع ودائعه، رأيت أني أول من يقتل غداً، ويا جابر! عليك بأخواتك خيراً]].
وأتى الصباح الباكر البهيج -صباح أهل الجنة- والتقى مع الكفار فقتل، فضرب في جسمه ضرباً مبرحاً، حتى جاء في بعض الروايات أنه ما عرف إلا ببعض بقعٍ في جسمه أو ببعض بنانه، وقيل: هذا أنس بن النضر، لكن لما قتل عبد الله بن حرام رضي الله عنه أتت أخته تبكي، فيقول عليه الصلاة والسلام: {ابكي أو لا تبكي! فوالله الذي نفسي بيده، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعته، والذي نفسي بيده -يا جابر - لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان فقال: تمن؟ قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك مرة ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمن، قال: أتمنى أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك، فقال الله: إني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً} الحياة هي حياة الجنة، وحياة القرب من الله الواحد الأحد، وحياة التوفيق والسعادة، ومن حرمها فقد حرم الأمان: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
يقول الملك لـ ابن تيمية: أتريد ملكنا؟ قال: والله ما أريد ملكك ولا ملك آبائك، ولا ملك أجدادك، ولكن أريد جنة عرضها السماوات والأرض.
فيا مسلمون! لا يغرنكم بالله الغرور، نعيمٌ، وبساتين، ونزهات، وماءٌ، وظلٌ وارف، وكلها تتلاشى ولا يبقى إلا ما عند الواحد الأحد.
عفاء على هذه الدار وسحقاً لها.
دنياك تزهو ولا تدري بما فيها إياك إياك لا تأمن عواديها
تحلو الحياة لأجيالٍ فتنعشهم ويدرك الموت أجيالاً فيفنيها
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهبٌ والمسك طينتها والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيها
اللهم اجعلنا من ورثة جنتك جنة النعيم.(134/15)
عقوبات المعاصي
من أعظم عقوبات المعاصي: أن يضرب الله قلوبنا ضرباً ليس بعده ضرب، وهو ضرب القسوة -نعوذ بالله من قسوة القلوب- قال سبحانه: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} [البقرة:74] وقال سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13] ولكن كيف لا يقسو قلب الموله اللاعب اللاهي، قلب المغني، وقلب الذي لا يعرف الصلوات الخمس في المسجد، وقلب الذي يعيش حياة الخواجات، لا يعرف من الإسلام إلا رسمه أو اسمه، مسلم بالحفيظة ولكنه لا يحمل من الإسلام شيئاً؟! عددنا كثير، فالمسلمون مليار لكن:
عدد الحصى والرمل في تعدادهم فإذا حسبت وجدتهم أصفارا
من كل مفتون على قيثارة كل رأيت بفنه بيطارا
ومن آثار الذنوب: البغضاء التي تحدث بين القلوب، ولذلك تشتت الأسر، وقطعت الأرحام، وعق الوالدان، فنشكو حالنا للواحد الأحد.
ومن عقوبات المعاصي: قلة البركة في الأموال والأولاد، جيلٌ في البيوت من الأبناء والأولاد البركة فيهم قليل، وأموالٌ كالجبال وبنوك، ولكن لا بركة.
ومن عقوبات المعاصي: فساد طعم الحياة، وهذا يُسمى انطفاء النور.
قال الإمام مالك للشافعي: إني أرى عليك آثار النور والنباهة، فإياك أن تفسد نورك ونباهتك بالمعصية.
وقال أحدهم: نظرت إلى منظرٍ لا يحل لي، فنسيت القرآن بعد أربعين سنة، فنعوذ بالله من الخذلان والمعاصي والحرمان.(134/16)
هل من توبة؟
هل من توبة يا مسلمون؟ وهل من عودةٍ إلى الواحد الأحد؟
قال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] {أتى رجلٌ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أذنبت، قال: تب إلى الله، قال: ثم أذنب، قال: تب إلى الله، قال: ثم أذنب، قال: تب إلى الله، قال: ثم أذنب، قال: تب إلى الله، قال: إلى متى؟ قال: حتى يكون الشيطان هو المدحور} رواه ابن حبان وغيره.
فكلما أذنبت فعد إلى الواحد الأحد، واغسل خطيئتك بماء التوبة، واستغفر وراجع حسابك مع الله، واعلم أن التوبة واجبة.
بادر بالتوبة النصوح قبل احتضار وانتزاع الروح
لا تحتقر شيئاً من المآثم وإنما الأعمال بالخواتم
ومن لقاء الله قد أحبا كان له الله أشد حباً
حضروا أبا بكر رضي الله عنه وهو مريض في سكرات الموت، أصاب جسمه النحيل، جسم الصيام والعبادة، وجسم الجهاد وقيام الليل، فزاره الصحابة، قالوا: [[يا خليفة رسول الله! ماذا تشتكي، قال: أشتكي ذنوبي -ذنوبك يا أبا بكر وأنت المجاهد الأول، والمصدق الأول، والزاهد الأول- قال: أشتكي ذنوبي، قالوا: ماذا تريد؟ قال: أريد المغفرة، قالوا: ندعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب قد رآني، قالوا: ماذا قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد]].
كيف أشكو إلى طبيب ما بي والذي قد أصابني من طبيبي
يقول بعض أهل التفسير: كان إبراهيم عليه السلام، يقول في السحر: أواه من ذنوبي، أواه من خطاياي، أواه من سيئاتي، فسماه الله (أواه منيب) إبراهيم الصديق العظيم الحنيفي المسلم الذي لم يكن من المشركين يقول: أواه من ذنوبي ومن خطاياي.
وقال الإمام أحمد في كتاب الزهد: كان بلال يقول مع السحر: [[يا ألله! هذا إقبال نهارك، وإدبار ليلك، وهذا سحرٌ فاغفر لي عللي]].
وقال أبو عبيدة عامر بن الجراح: [[يا ليتني كنت رماداً تذروني الرياح]].
وقال عمر: [[يا ليتني كنت شجرةً تعضد]].
وقال ابن مسعود: [[والله لو علمتم بذنوبي لحثيتم على رأسي التراب]] رضي الله عنهم وأرضاهم، كانوا أطهاراً، كانوا عباداً، ليلهم سهرٌ مع الواحد الأحد، قيام ودموعٌ وخشوع وخضوعٌ وركوع، ونهارهم جهاد ودعوة وبذل وعطاء، وليلنا اليوم قد تحول إلى موسيقى، وغناء، ولهوٍ، وعودٍ، وعهرٍ، وفحشٍ، ومعصية إلا من رحم ربك، وتحول النهار إلى غيبة وشهادة زورٍ، ونظرٍ محرم فنشكو حالنا إلى الله عز وجل.
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضرٍ يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ما أقرب البحر في الشاطئ، أما في السفينة فعباد أتقياء، وأما على الشاطئ فعصاة، فإذا ركبوا في البحر دعوا الله مخلصين له الدين، إذا هبت الريح، وتزلزلت السفينة، عادوا إلى الواحد الأحد، فإذا نزلوا إلى الشاطئ نسوا الله.
المحدث الطبري ركب سفينة، فلما اقترب من الشاطئ قفز من السفينة على الشاطئ، فأراد تلاميذه الشباب أن يقفزوا فما استطاعوا، فقالوا: كيف استطعت وأنت في الثمانين ونحن شباب ما استطعنا قال رضي الله عنه: هذه أعضاء حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر.
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمنٍ وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
العجيب أن الله عُصي في البر والبحر وعلى الشاطئ وعلى الطائرات، فسبحان من يعفو! وسبحان من نسأله أن يتوب علينا! وأن يرد ضال المسلمين، وأن يهدينا إليه هداية عامة مطلقة! اللهم إنا قد أسلمنا وآمنا وصدقنا، اللهم فافتح لنا باب القبول، اللهم أغثنا بفضلك ومنك وكرمك، اللهم رد ضال المسلمين، اللهم اهدنا سواء صراطك المستقيم، وثبتنا على الحق إلى يوم نلقاك.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(134/17)
الأسئلة(134/18)
موقف الإسلام من الإسراف بالمال في المعصية
السؤال
كثير من الناس يدفع أمواله في الملاهي وفي الأغراض السيئة والشهوات، ويصرفها في غير طائل، فما هو موقف الإسلام من هذه الأموال، ومن هذا اللهو والعبث؟
الجواب
أولاً: ليعلم المسلم أن الله حرم الإسراف، وذكر سبحانه: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:27] والمال إما أن يدخلك الجنة، أو يدخلك النار، أيظن صاحب اللهو، أو صاحب العود، أو الذي يصرف ماله في السيجارة والكأس والحرام أنه سوف ينجو من عذابٍ على هذا النار؟ لا والله.
قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:1 - 8].(134/19)
ذهاب الغيرة عند كثير من الناس
السؤال
ماتت الغيرة في قلوب كثيرٍ من الناس، كان الناس إذا لم يكن عندهم دين عندهم غيرة، ولكن ذهب الدين والغيرة؟ ما رأيكم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أقول: ذهبت الغيرة من البعض، ولا زال الكثير فيهم غيرة، العرب في الجاهلية كان أحدهم يغار، ذكروا عن سيد الخزرج أنه لما تزوج امرأته أركبها على فرس، فلما وصل الفرس إلى بيته نحر الفرس، قالوا: لماذا؟ قال: لئلا يركب الفرس رجل آخر؛ لأن زوجتي ركبت عليه، ليته رأى، ليته أبصر، ليته عاين الخبر.
أعرابي التفت رجلٌ إلى زوجته فنظر إليها، قال: تنظر إلى زوجتي، ثم قال لزوجته: الحقي بأهلك، نظر فقط، قالت: وماذا فعلت؟ قال لها:
إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماءٍ إذا كن الكلاب ولغن فيه
لكن لو رأى الأعرابي هذا البدوي الجلف هذا الواقع، امرأة تخرج تداوم مداومة في السوق تمر، تحتسب على الخياطين، والهندوس، والسيخ، والبوذيين، ثم تمر على الباعة والموضات، ثم الحلاقين، ثم تعود بالخطايا مع الظهر كالجبال، وبالخطايا مع الغروب كالجبال، ثم تريد أن تنشئ بيتاً إسلامياً وأن تنشد السعادة، حرامٌ عليها السعادة حتى تتوب وتنهج منهج هذا الدين، وتعود إلى الله.
أين الغيرة، أين الآباء؟ أين الأبناء؟ أين الإخوان؟ يقول سعد بن عبادة سيد الخزرج: {يا رسول الله! إذا رأيت مع امرأتي رجلاً ماذا أفعل؟ قال عليه الصلاة والسلام: اذهب والتمس أربعة شهود وتعال بهم، قال: سبحان الله! أذهب وأجمع أربعة شهود وأتركها معه، والله لأقتلنه وإياها بالسيف غير مصفح -أي: إما بوجه السيف أو بقفاه- فتبسم صلى الله عليه وسلم، وقال: أتعجبون من غيرة سعد؟ والذي نفسي بيده، إني أغير من سعد وإن الله أغير مني} ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: {إن الله يغار، وإن من غيرته أنه حرم الزنا}.(134/20)
الخجل والحياء عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأريد أن أتكلم، لكن لا أستطيع، لساني ينعقد ولا يتحرك، أتفجر خجلاً ماذا أفعل؟
الجواب
أولاً: اعلم أن كل بداية لها نقص، وأن البدايات صعبة، قالوا لـ عبد الملك بن مروان: نرى الشيب في رأسك ولحيتك؟ قال: من صعود المنابر يوم الجمعة أعرض عقلي على الناس.
عثمان رضي الله عنه وقف على المنبر في أول خطبة، فارتد عليه الخجل، وكانت تستحي منه الملائكة، فنزل فلما أصبح في الأرض، قال كلمة ما سمع التاريخ من خليفة بمثلها قال: [[إنكم بحاجة إلى إمامٍ عادل خير من خطيب فصيح]].
أنا أقص قصة -محرجة- لداعية لا زال حياً اليوم، وهو في الستين من عمره، يقصها على الناس بـ أبها، هذا الداعية الآن كلامه كالشهد المصفى يبكي الناس، وليس الآن بمعروف لدى الناس، ذهب إلى الرياض وكان يعمل في الدفاع المدني، قال: فأتاني جماعة من أهل الخير، فدلوني على طريق الله المستقيم فاستقمت، لكن ليس عندي علم، أحفظ الفاتحة وسورة، قالوا: نريد أن تتكلم اليوم في منفوحة -حي في الرياض - فتلقي موعظة، قل: توكلت على الله، قال: فلبست ثيابي، وتهيأت، وتوضأت، وتطيبت، ومشيت في الطريق، وعرقي يتصبب تصبباً، قال: جمعت كلاماً في صدري، كلما مشيت خطوة سقطت كلمة قال: وجئت ودخلت المسجد، هذا كلامٌ ومعي بعض الإخوة ونحن جلوس معه، وهو لا يكذب، قال: فدخلت المسجد فصلى بنا الإمام صلاة المغرب، والله ما أدري ماذا قرأ بعد الفاتحة، انشغلت بالكلام واضربت وأتت أرجلي تتنافر، وبعد الصلاة أتيت لأتكلم عند المكرفون، قال: فنسيت حتى الحمد لله، قالوا: وفي الأخير قلت: يا جماعة من رأى منكم فلان بن فلان -يعني: نفسه- ضاع منا ونريد من وجده أن يسلمه إلى مركز آل فلان.
والسنة أنه إذا سمعت إنساناً ينشد ضالة أن تقول: لا ردها الله عليك، فقام الناس في المسجد، وقالوا: لا ردها الله عليك، لا ردها الله عليك، فأخذ طريقه من بابٍ ثانٍ وترك حذاءه وعاد خجولاً في البيت وأقسم ألا يتكلم، ثم وفقه الله أن سافر إلى باكستان، وسافر بين العجم هناك يقول: كنت أتكلم فآتي بها منكوسة معكوسة، فيقولون: هذا خطيب العصر، قال: فلما تدربت، والمثل يقول: تعلم الحلاقة في رءوس الأيتام!! تدربت فعدت إلى الجزيرة فأصبحت من أخطب الناس، فالأمر يحتاج إلى تدريب.
والأمر الثاني: أنه لا يحتاج الناس أن يكونوا كلهم خطباء، هذا صحفي ينصر الإسلام بقلمه، وهذا إداري ينصر الإسلام بإدارته، وهذا طبيب، وهذا مهندس، لا يحتاج أن يكون كل الناس متحدثين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يحتاج أن تكون كـ سحبان بن وائل، لكن يحتاج أن تكون صادقاً مع الله، توصل كلمتك بلينٍ ورفق حتى ينفع الله بك.(134/21)
بعض طرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
هل يعتبر إهداء الشريط أمرٌ بمعروف ونهيٌ عن منكر، ومن النصيحة؟
الجواب
نعم! من أعظم النصائح، وأنا أعرف بعض الناس ما اهتدوا إلا بواسطة الشريط، وأنت عليك أن تدخل الشريط للعصاة والمعرضين فيكونوا في ميزان حسناتك فكأنك دعوتهم.(134/22)
مخالفة السنة واتباع الأعداء
السؤال
اشتهر بين الناس مخالفة السنة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فما هو تعليقك على هذه المأساة؟
الجواب
نشكو حالنا إلى الله، جعل الله لنا إماماً وأستاذاً ومعلماً، فقال كثير من الناس: لا نرضى به، قالوه بلسان حالهم، لا يرضون بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد جعله الله إماماً، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] خالفوه ظاهراً وباطناً، وبعضهم يخالفه في بعض الجزئيات ويوافقه في البعض الآخر، ويقول: الدين سعة، وهذا قشور، وهذا -والعياذ بالله- من الخذلان، ولن يجد الإنسان طعم الفوز إلا باتباعه، ولا تفتح الجنة بعد رسالته إلا من طريقه عليه الصلاة والسلام.
يا مدَّعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك الباب تدويناً وتهوينا
خذها جميعاً تجد فوزاً تفوز به أو فاطرحها وخذ رجس الشياطينا
اتباع محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من اتباع مايكل جاكسون، يقولون: لو أسلم أسلم كثيرٌ من الشباب، اهتدوا، ولو ربى لحيته ربوا لحاهم، هذا عجيب! محمدٌ عليه الصلاة والسلام القدوة الذي أنزل الله الاقتداء به أمراً من السماء، وهذا الرجل سواء أسلم أو لم يسلم، وإلا فالصحيح أن في بعض الروايات أن من أخبار الصحف التي تشابه الصحف الإسرائيليات أنه أسلم، ونقول: هناك ثلاثة أسئلة، أسلم أنقذ نفسه، آمن الحمد لله، اهتدى عرف الطريق، قالوا: كان يعيش في ظلام، قلنا: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] قالوا: ورأى النور، قلنا: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] قالوا: اعتزل الفن، قلنا: وأين أبناؤنا أهل الفن، وأهل الكمنجة؟ وأهل قسماً بمبسمك الشهي؟ أو أروح لمين ومين سيرحم أسائي؟ إبليس، أو هل رأى الحب سكارى مثلنا؟ ما رأى أفشل منك في الحياة، أو يا ونة الونيت يوم صليت، وانت غراباً طارداً لحمامة.
سبحان الله! الناس يطاردون القلوب ليهدونهم وأنت مع حمامتك ودجاجتك صباحاً ومساءً، جمع طوابع، ومراسلة، ومطاردة حمام، هذا مايكل إن أسلم فقلنا: زاد واحد في المسلمين، وما عليه فقد أسلم الشهداء والعلماء والزعماء وركبوا في سفينة محمد عليه الصلاة والسلام، وإن لم يسلم فليس بعجيب، ولكن ماذا يقول الشباب في قصَّاتهم وفي تشبههم بـ مايكل وأمثاله وأشرابه وأضرابه، ألا فليتقوا ربهم، ألا فليستحوا من الله عز وجل.(134/23)
مخالفة المرأة أوامر الدين
السؤال
قرأت هذا الشهر منشوراً للمرأة في بعض المنشورات يقول الشاعر:
سيري كسير السحب لا تأني ولا تتعجلي
لا تكنسي أرض الشوارع بالإزار المسبلِ
أما السفور فحكمه في الشرع ليس بمعضل
ذهب الأئمة فيه بين محرم ومحلل
ويجوَّز الإجماع منهم عند قصد التأهل
ليس النقاب هو الحجاب فقصري أو طولي
فإذا جهلتي الفرق بينهما فدونك فاسألي
من بعد أقوال الأئمة لا مجال لمقول
لا تبتغي غير الفضيلة للنساء فأجملي
الكاتبة: باحثة البادية
الجواب
أقول: هذه الكاتبة جاهلة من البادية، رعديدة أتت من البادية.
أولاً: الذي كتب هذا الشعر رجل أو امرأة جاهلٌ بدين الله الواحد الأحد، مفتري على الله، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116].
قائل هذا الشعر لا يعرف من دين الله إلا كما يعرف الحمار من ملة أهله أو من ميزانية أهله، هذا أحد رجلين إما جاهل متخرس في الشريعة، أو زنديقٌ مجرم، وحسيبنا الله عليه.
أما قوله: (سيري كسير السحب لا تأني ولا تتعجلي) فلا أدري ماذا يقصد بذلك، ولا مشاحاة في سير المرأة إذا تأدبت واستترت وتعطلت وتجلببت بالحجاب، وخافت من الواحد الوهاب، وتذكرت يوم الحساب، وأما قوله: (لا تكنسي أرض الشوارع) فإنه ينبي عن بذاءة فيه، وعن غلٍ للإسلام، ومخالف للسنة، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: {أنه أمر أم سلمة أن تطيل في ذيلها شبراً، قالت: لا يكفيني، فزادها صلى الله عليه وسلم شبرين حتى تجره جراً} وهو فعل نساء المؤمنين والصحابيات والتابعيات وعليه فتوى أهل العلم، وهو قول المحدثين، ولا أعلم قولاً خالف هذا إلا قول متهوك أتى بعلمٍ من باريس أو من واشنطن، أو نيويورك فعليه من الله ما يستحقه {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] حتى تقول أم سلمة: {يا رسول الله! يمر على البلل وعلى الشيء من الماء، قال: يطهره ما بعده} فمن جرها رضوان الله عليها للإزار وصفه بذلك:
حوراً حرائر ما هممن بريبةٍ كظباء مكة صيدهن حرام
يحسبن من لين الكلام روانياً ويسدهن من الخنا الإسلام
هناك يقول:
يخفين أطراف البنان من التقى ويقتلن بالألحاظ مقتدرات
فقوله: (لا تكنسي أرض الشوارع) دعوة إلى السفور، وإلى لبس القصير، وإلى تحويل المجتمع إلى مجتمع بهيمي حيواني شهواني، تلبس فيه المرأة القصير، فانظر كيف انعكست الآية شبابٌ يكنسون الشوارع بثيابهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالتقصير وما قاله للشباب هذا المتقول على الله لم يقله للشباب بل قاله للفتيات، والرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بإطالة المرأة لثوبها حتى يستر جسمها وينزل الأرض، ويقول هذا: قصري! يا معكوس الإرادة والعقل إنه ما وعى قلبك الوحي، وما استنار قلبك بالقرآن والسنة، ولو عرفت الطريق ما انقلبت في ذهنك المفاهيم.
ولكن كيف يسعى في جنون من عقل؟ ولكن نقول لك:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمدٍ وينكر الفم طعم الماء من سقم
السقم فيك، والرمد في عينيك، والشريعة محجة بيضاء ليلها كنهارها.
(لا تكنسي أرض الشوارع) أنت وأمثالك لما أطلتم الثياب قصر النساء الثياب، ولما أطال أمثالك الثياب وكنسوا بها الشوارع ضيعنا فلسطين، وأفغانستان، وضيعنا مجدنا.
جولد مائير في مذكراتها تخبر بفشل العرب، طائراتها كانت تغطي شعاع الشمس، وكان شباب العرب مع كوكب الشرق يوم تغني ذاك السحر الحلال، المحرم عند القلوب المحرمة، تحجب شعاع الشمس، والشباب يكنسون الشوارع بثيابهم:
فأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارنا الخطب
وقاتلت دوننا الأبواق صامتة أما الرجال فماتوا ثم أو هربوا
ولكن لما قصر السلف ثيابهم واعتبروا بالسنة، فتحوا الدنيا، أصبحنا في حدائق الأندلس، وأمسينا ونحن على اللوار وطشقند والسند، وذهب عقبة بن نافع يقول للمحيط الأطلنطي: [[والله لو أعلم أن وراءك أرضاً، لخضت هذا الماء بفرسي لأرفع راية لا إله إلا الله]] كنا أمجاداً لما اتبعنا السنة، فلما عكسنا الآية، وقلنا للمرأة: قصري وللشاب أطل ثوبك!! انعكست مفاهيمنا، وذهبنا شذر مذر.
اللهم أعد شبابنا وفتياتنا إليك، اللهم لا تسمع سامعاً هذا الكلام، اللهم لا تجعل مثل هذا وأمثاله يتولون على عقول الناس فيفسدون إراداتهم.
وأما قوله في الإزار المسبل، فالإزار المسبل للرجل وليس للمرأة، ولعلك ما قرأت حرفاً من الشريعة، ولو كان الأمر بيدك وأمثالك لخطب الدجال على المنابر، لكن هنا في البلاد ولاة أمر قاوموا على (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وهنا دعاة وعلماء وشباب صحوا وأقبلوا إلى الله.
أحد الناس له مقطوعة نبطية في شباب الصحوة، وأنا لا أؤيد الشعر النبطي ولا أحبذه، وهو يفسد القرآن، لكن من قاتل بسكين النبطي أو العربي خدمة للإسلام، قلنا حياه الله:
انظر الفجر زاه بالوفاء قد تجلى مثل وجه المصلي في عبق فرض الصلاة
مثل طلعة شباب بالتقى قد تحلى كن منطوقهم بالحسن سكر نبات
من فتح غيرنا الدنيا وزكى وصلى يوم هتلر ونابليون في الفاحشات
نصرنا يا عرب من ربنا قد تجلى قرب الجيش والبارود والطايرات
أما أنت يا أخي! يا هذا الكاتب! فيكفي لك الموسيقى والعود والكمنجة واترك شباب الإسلام، وولاة أمر الإسلام، وعلماء الإسلام يلهجون بذكر الجنة، ولا أزيد فيكيفه هذا، وسوف أعارضها بقصيدة إسلامية لعلي أكتسب الأجر في دمغه {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} [الحج:36].(134/24)
المجاهدون الأفغان
السؤال
توجد صناديق للتبرع للمجاهدين الأفغان وهم في أمس الحاجة في هذه الأيام؟
الجواب
المجاهدون الأفغان أهل السنة، أهل العمائم، أهل اللحى، أهل لا إله إلا الله، الذين تركوا جرباتشوف وبرجنيف لا يساويان دجاجتين، نعم.
أخزوهم أمام العالم.
يونس خالص دخل البيت الأبيض -الأسود سود الله وجهه- فقال: لـ برجنيف: أسلم تسلم يؤتيك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم كل أمريكي على وجه الأرض.
هيئة الإذاعة البريطانية في أول يوم احتلت فيها كابل يقول المذيع في أضواء حول العالم: وقد خرج الأفغان من مساجدهم يحملون البنادق وهم يقولون في الشوارع:
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبدا
والشيوعية
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ
يسعى فيعثر في سروال خيبته في أذنهم الرصاص الحق حرصان
ردوه كالقرد لو بيعت سلامته بشعبه لشراها وهو جذلان
الصناديق تنتظركم وأسألكم بالله أن تتبرعوا، علَّ الله أن يدخلكم الجنة بهذا النصر الأكيد، لقد حقق المجاهدون في عشر سنوات ما لم تحققه الدول العظمى، لقد بينوا للناس أن المستقبل للإسلام، وأن الإيمان سوف ينتصر على ولايات الشيوعية، وجمهوريات روسيا التي هي كل يومٍ تساقط.
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب
إلا بذاك الجهاد الرصاص ولا إله إلا الله، البارود ولا إله إلا الله، الموت ولا إله إلا الله، الكفن ولا إله إلا الله، أما المعاملات والمعاريض والملفات لـ هيئة الأمم المتحدة قالوا: كفرنا بها وآمنا بالله، وذبحوهم على الطريقة الإسلامية.(134/25)
حكم مقاطعة المرأة لأبناء بنتها المتوفية
السؤال
أنا امرأة ولديَّ بنت متوفية ولديها أربعة أطفال، وقد حصل بيني وبين والدهم سوء تفاهم فمنعهم من الحضور عندي، وأنا عاجزة وما أجد أحداً يصلني إليهم، علماً بأنهم صغار لا يستطيعون الحضور، وسؤالي: هل عليَّ إثم مقاطعتهم؟
الجواب
أنا أقول لكِ: التصرف لوالدهم وهو الذي يملك عصمتهم، لأني فهمتُ أنكِ جدة لهؤلاء الأطفال، ووالدهم هو المسئول عنهم، فإذا منعهم عنك من أخذهم لبيتك، فاتقي الله وزوريهم ولا تشددي في أخذهم، لأنكِ لا تملكين عصمتهم، أو رعايتهم، أو ولايتهم، بل والدهم هو الذي يملك ذلك، لكن أرى أن تتلطفي وتصليهم، وأن تبريهم وأجركِ على الله، وخذي بالأثر: {إن الله أمرني أن أصل من قطعني، وأن أعفو عن من ظلمني، وأن أعطي من حرمني}.
وما دام أنكِ عاجزة، فلا يلزمها إلا وليها، وهو أقرب الناس إليها أن يقوم بها، أما هؤلاء فإن لم يقوموا بها ولم تستطع الذهاب إليهم فهي معذورة، أما القطيعة فأي شيءٍ تستطيع أن تدفعه للمسلم أو تقدمه لهؤلاء الأطفال فعليها أن تفعل.
على كل حال يبقى في السؤال جزئيات لابد أن تسأل هي بنفسها أو توضح مقصودها من الزيارة ومن هذه القرابة وما هي أساس المشكلة وملابساتها.
وأسأل الله عز وجل أن يرينا وإياكم الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(134/26)
الشيوعية إلى الهاوية
إن لله سبحانه وتعالى سنناً في خلقه لا تتغير ولا تتبدل، ولذلك ما طغى طاغية وتكبر وتجبر إلا قصمه الله وأذله، وما سارت أمة من الأمم، أو فئة من الفئات أو جماعة من الجماعات على غير نهج الله؛ إلا أبادها الله ودمرها كما دمر الأمم السابقة، والسقوط في الحقيقة إنما هو سقوط المبادئ لا الأشخاص، وبانهياره ينهار الأشخاص، وأي مبدأ مخالف لدين الله فهو ساقط مهما طال الزمان.(135/1)
أسباب سقوط الشيوعية
إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عنوان هذا الدرس: (الشيوعية إلى الهاوية) وهو حديث الساعة وقضية الزمن، وهو حدث هائل هز العالم، ولا بد أن يتكلم عنه الدعاة، وأهل العلم ويفيضوا فيه، وتكون الأمة على مسمع ومرأى من هذا الحدث الهائل، وما هي قدرته سُبحَانَهُ وَتَعَالى وتأثيره، فسبحان الذي يغير ولا يتغير: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] ويقول سبحانه تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] وهو سُبحَانَهُ وَتَعَالى، الذي يغير هذه الدول ويبيدها.
حارت الأفكار في قدرة من قد هدانا سبلنا عز وجل
فاترك الحيلة فيها واتكل إنما الحيلة في ترك الحيل
ثم ليعلم المسلم أنه لا يقع في الكون من صغير ولا كبير، ولا تولية ولا عزل، ولا غنى ولا فقر، ولا قوة ولا ضعف، ولا سلم ولا حرب، ولا نصر ولا هزيمة إلا بقدرة القادر، فإن الله يقول عن نفسه: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29].
قال ابن القيم رحمه الله: يغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويجبر كسيراً، ويعافي مبتلىً ويولي هذا ويعزل هذا، ويملك هذا وينزع الملك من هذا، فلله الحكمة المطلقة، وله القدرة النافذة، جل اسمه.
يقول أبو العلاء المعري:
تقضون والفلك المقدر ضاحكٌ وتقدرون فتضحك الأقدار
والمعنى: أنكم أنتم تحاولون أن تبنوا شيئاً والله يريد هدمه، وتريدون أن تمضوا شيئاً والله يريد إيقافه، وتريدون إحياء شيء والله يريد إماتته.
دخل القاضي عبد الجبار المعتزلي على أبي المعالي الجويني والقاضي عبد الجبار المعتزلي على مذهب المعتزلة وهم لا يرون أن الله يقدر المقادير سبحانه، وهو رأي مبتدع أخذ من المجوس، وهم يرون أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لا يدري بالأمر حتى يقع، وهذا كذب،
أبو المعالي الجويني أشعرياً لكنه أهدى وأقرب إلى السنة من القاضي عبد الجبار المعتزلي.
قال القاضي عبد الجبار: سبحان من لا يقدر الفحشاء، وهذا فيه كلام وفيه دغل، ومعناه: أن الفحشاء تقع والله لا يقدرها، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112] وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس:99] وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:107] قال أبو المعالي الجويني: سبحان من لا يقع في كونه إلا ما يشاء.
إذا علم هذا -أيها الإخوة- فليعلم أن الشيوعية الآن تهوي إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، أي: إلى غير رجعة، فما هي أسباب هذا السقوط والانهيار؟ وما هي أسباب هذا الموت والدمار؟ وهل لقدرة الله تأثير؟
نعم والله فإن الله تعالى يقول: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].
أسباب سقوط الشيوعية سبعة أسباب:
1 - الشيوعية خالفت فطرة الله قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
2 - الأنظمة التي واجهتها الشيوعية سواء كانت مهتدية كالإسلام أو ضالة كـ الرأسمالية، كانت مصيبة في عدائها للشيوعية في المذهب الاقتصادي، أو في الحوار والرأي أو في الحكم والقرار، وكان لهذا الوقوف من جانب الإسلام والرأسمالية أعظم الأثر في انهيار الشيوعية.
3 - الجماعة التي لا تجتمع على الحق لا بد أن تتبدد في الأخير، وهي سنة الله عز وجل، فـ الشيوعية قامت بالثورة عام (1917م) ولم تكمل اثنتين وسبعين سنة إلا وهي تعلن الانهيار والموت، والإسلام عمره الآن (1500) سنة أو نحو ذلك، وهو سوف يبقى حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وكلما بقي وكلما استمر أعلن شموخه وعزته.
4 - شب الأفراد عن الطوق، وذهبت عبودية البشر، فإلى متى يبقى الإنسان عبداً للإنسان؟
5 - قوة وسائل الإعلام الغربية في تدمير الشيوعية في نفوس أصحابها بما تعرضه عليهم من مغريات، وما تطاردهم في أنفسهم من حاجيات، ومن فقر مدقع وعوز وضعف.
6 - مصير العسف وخاتمة الجبروت الهاوية.
7 - الجهاد الأفغاني يمكن أن يكون سبباً سابعاً وإلا فالبعض يرونه السبب الأول وأنا أقول هو السابع.(135/2)
مخالفة الفطرة من أسباب سقوط الشيوعية
أيها الناس: يقول سيد قطب رحمه الله: تحققت سنة الله عز وجل فيمن أعرض عن منهجه، والله يقول في كتابه لمن لم يهتد، ولمن حكم أنظمته على حكم الله الذي أنزله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الوحي السماوي الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام، يقول لأبنائه سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو دولاً أو شعوباً، قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] يؤخذ من الآية.
أولاً: أن من لم يهتد بنور الله فهو فاسد المزاج ضعيف العقل.
الثاني: أن الله له بالمرصاد فلا يتمم عمله، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] والله يقول: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52].
الثالث: أنه لا بقاء إلا لدينه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] فـ الشيوعية خالفت فطرة الإنسان، والإنسان مفطور على أن هناك رباً وإلهاً يوحَّد، فقد أتت بمقولة كارل ماركس وقالت: (لا إله والحياة مادة) وليس في الكون إله، والإله الذي زعمته الأنبياء والرسل على حد قولهم أسطورة لا حقيقة له.
الأمر الثاني: أنها قالت: يمكن أن يعيش الإنسان بدون دين، وبلا عقيدة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: {كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، والله يقول: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] [الروم:30] ويقول: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2].
ففرت من العبودية لله، وجعلت العبودية للبشر، لـ لينين واستالين، وغيرهم من عملاء الأرض، ومن الخونة للشعوب ومن قاتلي الإرادات، إذاً فلن تتصور الشيوعية التصور الجميل للأحداث، لا للكون ولا للإنسان ولا لله، أما الله فنفته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وألحدت به، وكذبت بالألوهية، وأما الإنسان فجعلته عبداً للإنسان.
ولا يعرف في تاريخ الناس منذ أن خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ذلة وضعف الإنسان وعبودية الإنسان واستخزاء الإنسان إلا في الشيوعية.
حدثنا بعض الدعاة الذين ذهبوا إلى موسكو في فترة برجنيف في مهمة علمية كان لا بد أن يذهب إليها، يقول: والله لقد مررنا بمعسكرات للناس حتى ظننا أنها معسكرات الحيوان، وفيها البشر الذين أخطئوا أو أرادوا الخروج على الشيوعية أو أرادوا كسر هذا الحاجز، أو أرادوا أن يبدوا حوارهم، رأيناهم في معسكرات من شباك وأسلاك شائكة وهم يعلفون كما تعلف الأنعام تماماً، يوصل إليهم الخبز والماء، وعندهم دورات مياه، وقد رأيناهم ألوفاً مؤلفة وراء الأسلاك الشائكة كالحيوانات تماماً.
ثم تصورت الشيوعية كذلك أن الكون قائم بنفسه، وأنه لا مؤثر له، وأن يد القدرة لا دخل لها في تسيير الكون، وقالوا: الطبيعة خلقت نفسها والأحداث خلقت نفسها، ولا دور للقدرة في ذلك، فكان مصيرها الانهيار والتكذيب، جرباتشوف اعتنق النصرانية على خلاف بين المطلعين، قيل: اعتنقها في أول سنة تولى الحكم هناك، وقيل: قبل الحكم بثلاث سنوات، وقرأت كتابه البروسترويكا، وفي الصفحة الخمسين وما بعدها يعلن ذلك، وكأنه يريد الدين، وكأنه اعتنق النصرانية ولم يوفق لاعتناق الإسلام ولا اهتدى لنور الله، وكأنه ما وجد داعية يرشده لهذا النور الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام، فرأى هو أنه لا بد للإنسان من دين، وأن من الخطأ أن يعيش بلا دين فاعتنق النصرانية.
ولعلها لظهور دول نصرانية كـ الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا أو أسبانيا وغيرها بهذا الدين، ظن هو أن الهداية من هذا: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].(135/3)
الإسلام والرأسمالية قوتان واجهتا الشيوعية
والشيوعية واجهتها قوتان في الأرض، قوة الإسلام وقوة الرأسمالية.
والرأسمالية تؤمن بالتملك للفرد، وأن للفرد أن يتملك، وهي على ما فيها أخف من الشيوعية، ونحن لا نقر الرأسمالية ونعتبرها مذهباً خاطئاً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وتربوياً، وهو منهج أرضي سوف يسقط قريباً بإذن الله، لكنها على كل حال، سلمت بحق الفرد، وقالت: لابد للإنسان أن يتملك، بينما الشيوعية تجرده، ولما أتت الشيوعية في عدن، سأل أحد العلماء أحد العدنيين قال له: كيف الشيوعية التي عندكم؟ زعمت أنها سوف تقدمكم، هل قدمتكم؟ هل أطعمتكم خبزاً؟ هل أشبعتكم؟ هل كستكم؟ قال: لا.
القائم بطحوه والكادح كدحوه.
ويقول المجرم نزار قباني:
ماركسيون والجماهير جوعى فلماذا لا يشبع الفقراء
وحدويون والبلاد شظايا كل جزء من لحمها أجزاء
وهذا الكلام صحيح، يقول: أين هذا الشبع يا ماركسيون؟! في عدن، أو في أثيوبيا، أو في أي مكان، أين شبع الجماهير؟!! الإنسان يكدح من الصباح إلى المغرب، ثم تؤخذ غلته وتقسم على الشعب، فالنائم في الفلة تحت المكيف يأخذ حصته كما تأخذه أنت، وأنت تزرع بطاطس في المزرعة.
ووالله لقد رأينا طوابيرهم وهم يأخذون البطاقات ليستلموا حصصهم من السكر والشاي، والطابور الواحد فيه أكثر من ثلاثمائة رجل يريد حصته من حفنة من السكر وهو كادح.
والشيوعية ترى أن مال الشعب للشعب، وأن المحصول للجميع ولا بد أن يوزع، وهي النظرية الاشتراكية الخاطئة التي تجعل الذي يتصبب عرقاً ويتعب ويجمع ويدخر، كالذي يخنع في بيته ولا يعمل ولا يبذل ولا يضحي، هذه مما واجهتهم به.
أما الإسلام فله قرار آخر؛ لأن الله تعالى يقول: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138] والله يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
يقول: هل هناك أنظمة في الأرض أحسن من الله حكما، فهلا أجرى الإنسان طاقته فيما يعود عليه بالنفع مثل:
* مصارف الزكاة.
* التكافل الاجتماعي.
* الصدقة.
* كفالة اليتيم.
* الحقوق العامة التي سنها الإسلام.
* المضاربة.
* الاشتراك المالي.
* أنواع الشركات.
كلها تؤدي إلى أن هذه الأموال تستثمر وتسعد بها الأمة أفراداً وجماعات، ولكن النظرية الإسلامية الاقتصادية لم تطبق إلى الآن، أروني شعباً طبق النظرية الإسلامية الاقتصادية الحقة!! لم تطبق في الأرض إلى الآن، ولم يرها الناس إلا في عهد الخلفاء الراشدين، فإنهم لم يقروا الربا ولم يؤمنوا به وحرموه ورفضوه ولم يقبلوا به أبداً.
ولكن العالم الآن يريد أن يرى الإسلام يعلن تجربته الحقة في عالم المال ليقتدي به، ولكن المسلمين الآن يتعاملون بالربا، ولم يقدموا تجربة صحيحة.(135/4)
الشيوعية باطل لا يدوم
الثالث: الجماعة التي لا تجتمع على حق، وكل جماعة أسست على ضلالة فخاتمتها الانهيار والله يقول: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109] يذكرني هذا بكلام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه كما في صحيح البخاري يقول: [[إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم، فاعلم أنهم على دسيسة]] وأي جماعة أو حلف أو أسرة اجتمعت على باطل فسوف يهدم الله الباطل على رءوسهم: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41] بعض المفسرين العصريين له كلام جميل، يعرض قضايا في الآية منها:
* أن الأنظمة الوضعية وإن طالت وعظمت فإنها كخيوط العنكبوت تنهار.
* أن الذي لا يؤسس على قرار فإن مصيره إلى الدمار.
* أن الأيادي التي ليست يد الله فوقها فإنها خاسرة خائبة، فالله يقول لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] فما أحسن التعبير! وما أحسن النظام الذي يعيشه المسلم ويد الله فوق يده ترعاه وتحوطه وتحفظه وتكلؤه!!
قام كارل ماركس واخترع نظرية الشيوعية هذه وألفها في مذكرة، وأنا صراحة أقول لكم: لقد قدم كارل ماركس لشيوعيته ولنظريته أكثر بكثير مما قدمت أنا وإياكم للإسلام، فمن شاء أن يغضب منكم فليغضب، ومن شاء أن يرضى فليرض، ضحى تضحيات ما ضحيناها نحن لديننا وهو خاطئ، حتى يقول عمر رضي الله عنه: [[اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر ومن ضعف المؤمن]] وهذا أمر عجيب، وهذه مصيبة عظمى أن تجد الفاجر فيه جلد وصبر وتضحية هائلة، وتجد المسلم خائفاً جباناً، خواراً، لا يرفع مبادئه.
كارل ماركس كان في بلجيكا ودخل بيتاً هو وامرأته وطفلاه بغير إذن، وكان عليه ثوب مقطع، والسبب أنه ألف نظرية الاشتراكية الاقتصادية؛ لأنه يدعو الناس إلى اشتراك الاقتصاد وهو جائع وعارٍ لم يجد عملاً في بلجيكا ذهب إلى كل مؤسسة وطردته، دخل في أثناء المطر بيتاً، فأتى صاحب البيت فأخرجه هو وأطفاله وسحبه من رجليه وألقاه إلى الشارع، وذهب إلى فرنسا وأدخل الحبس، لأنهم يقولون: يريد أن يثور على الرأسمالية ثم نقل إلى انجلترا وسجن فترات، ومع ذلك ما زال مصراً يسجن ويحبس ويسحب وهو مصر، وفي الأخير طبقت نظريته واعتنقها مليار (ألف مليون) فـ الصين والاتحاد السوفيتي في ناحية، ثم يدخل في ذلك حلف وارسو بما في ذلك تشيكوسلوفاكيا وبولندا ويوغسلافيا.
، هذه الدول الشرقية كلها على نظريته في الاقتصاد، وبعض الدول العربية في ذلك، وتركوا محمداً عليه الصلاة والسلام ورسالته، وسوف يأتي معنا كلام الشيوعيين العرب الآن.
في عام (1917م) قام الحزب الشيوعي بالحكم وقتل لينين من الشعب الروسي في أيام معدودة (ستة عشر مليوناً) ومجموع ما قتل من الشعب من الاتحاد السوفيتي (واحد وثلاثون مليوناً) كسكان هذه البلاد ثلاث مرات، قتلهم، وهذه مثبتة في وثائق عن الشيوعية، وفي الموسوعة السياسية، وأعلن ذلك مثل أنور الجندي وغيره من الكتاب.
إن الشاهد في ذلك أنه حكمهم بالحديد والنار، وأقام هذه الجمهورية على الجماجم، وفعل استالين أدهى وأمر من ذلك.
نخرج من هذا: بأن أي فئة طغت في فترة من فترات التاريخ فإنها سوف تنهار، ولا يغرك أن يستقيم نظام علماني في البلاد العربية أو غيرها في فترة من فترات الزمن، فإن الله أعلن عليهم الانهيار، وأعلن أن هذا الأمر لا يستمر.(135/5)
الوعي عند الإنسان سبب في انهيار الشيوعية
السبب الرابع في انهيار الشيوعية:
إن الأفراد شبوا عن الطوق، وأصبح الإنسان الآن بدرجة من الوعي، وما أصبح عبداً للإنسان، أصبح عنده تطلع على أن يعلن صوته وحواره، وأن يكون شجاعاً في كلمته، ذهب العصر الذي يجب أن يكون الإنسان فيه حيواناً، يقاد ويضرب ويعلف ويؤمر وينهى، لكن الإنسان أصبح يتطلع إلى مرحلة هي المرحلة العمرية، أتدرون ما هي المرحلة العمرية؟ إنها مرحلة الأوج والقمة التي عاشها الحوار في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك يحييه شاعر وادي النيل ويقول:
قل للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
يقول: رجاءً اتركوا هذه الأمور لـ عمر، يعيشها عمرية، الذي يأخذ الدنيا في ساعة، ويسلمها في ساعة، فأصبح العالم الآن يريد النظرية العمرية، نظرية أن يأتي الأعرابي في صلاة الجمعة وعمر بشحمه ولحمه ودمه وإخلاصه وصدقه وهيبته على المنبر، فيقطع عمر الخطبة فجأة ويقول للناس: [[يا أيها الناس: ماذا ترون فيَّ لو اعوججت أو قلت عن الطريق هكذا]] يعني: ملت، وخرجت عن الخط المستقيم في الاقتصاد والسياسة والعدل والحوار والحق، فقام أعرابي من أقل الناس ثقافة بمستوى ثقافة عصرهم -بدوي- ولعلها أول جمعة يصليها مع عمر، فقام من آخر المسجد فاستل سيفه، ثم قال: [[والله -يا أمير المؤمنين- لو رأيناك ملت عن الطريق هكذا لقلنا بالسيوف هكذا قال عمر p>>: اجلس بارك الله فيك، الحمد لله الذي جعل في رعيتي من لو ملت عن الطريق هكذا، لقالوا بالسيوف هكذا]] وحياه عمر وشكره على هذه المقولة.
هذا الحوار الذي أحياه الإسلام، حتى الكافر يربط في المسجد ولا يزحزح ولا يزعزعه الرسول عليه الصلاة والسلام، ويأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاقب بعض الناس قبل أن يسمعوا البرهان فيقول الله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6].
يقف عمر مرة ثانية ثم يقول: [[بسم الله، أيها الناس اسمعوا وعوا، فيقوم سلمان من وسط المسجد ويقول: والله لا نسمع ولا نعي، قال: ولم؟ قال سلمان: تلبس ثوبين وتلبسنا من ثوب ثوب]]-ثياب قدمت من اليمن في الصدقات وزعها عمر على الناس، ولكنه رجل طويل رضي الله عنه، فثوبه ما أتى إلا إلى الركبة، فأخذ ثوب ابنه عبد الله ووصله بثوبه- قال: [[يا عبد الله بن عمر! أجب سلمان، قال عبد الله بن عمر: نعم، هذا الثوب الثاني هو حصتي من المسلمين وقد دفعته إلى أبي عن رضاً من نفسي وهو حق لي أتصرف فيه كيف أشاء، قال سلمان: الآن قل نسمع ومر نطع]].
فالعالم الآن يتجه إلى النظرية العمرية، ولا يريد أن يكون مستخزياً تحت السياط والقهر والتبكيت من أي جهة كانت من الجهات.
نعم.
أدرك ذلك العالم الشيوعي، والذي يرى من الأفلام التي تصل من هناك ويراها شهود العيان، أنه لما حوصر جرباتشوف في القرم نزل المدنيون بالأبدان العارية والثياب الممزقة؛ يقفون أمام الدبابات، ويطرحون أنفسهم ويضطجعون على الأرض أمام الدبابات يعارضون الحزب الشيوعي الذي يتولى الحكم، يقولون: لا نريد جرباتشوف، إلى درجة أنك تجد هذا الإنسان المنهك الجائع المتعب الضامئ يريد أن يخالف هذا الطابور الحاشد من الدبابات.
نعم.
العالم صراحة يحقق شيئاً بنفسه بغض النظر عن الدين، لكن التعددية التي يشهدها العالم سببها أن الإنسان أصبح مثقفاً، وأصبح يدرك ويرى أن له حق الحوار، أي: من حقي أن أبدي رأيي، وأن أعلن حواري وأقول كلمتي دون أن أكون مهدداً بكرامتي أو حريتي أو دمي، فالفرق بين جرباتشوف هذا أو برجنيف أو استالين أو لينين، أنه يرى هو أنه لا بد أن نسمع الرأي الآخر، وهم يقولون: الرأي الآخر نسحقه بالدبابة.
هذا من أسباب سقوطها.(135/6)
وسائل الإعلام أخرجت الشيوعية
السبب الخامس: قوة وسائل الإعلام:
فالإعلام الغربي سلط شاشاته وأسلاكه وصحفه وصوته ونظراته على العالم الشيوعي في غرب الأرض وفي شرقها، ويطالبهم بالوعود، يقول: أين وعود الشيوعية؟ والفرد منكم يسكن قصراً ويملك سيارة فخمة، ويكون في مرتبة عالية وينعم برغد العيش، بينما نحن في عالم الغرب نسقنا بعض أمورنا التي أعلناها للناس في الرأسمالية، وعلى كل حال بعض الذنب أهون من بعض، والنظرية الاقتصادية الرأسمالية أهون بكثير من النظرية الاشتراكية التي أقامها كارل ماركس، فالإعلام أحرج الضمير الشيوعي، أو الإنسان هناك أحرجه بمطالبه وأوصله إلى جدار مغلق وإلى متاهة، وقال: أين وعودكم؟ وقد تلفظ بها حتى الشيوعيون العرب، فأنا أسلفت لكم قول قائلهم وهو شاعر من فصيلتهم يقول:
ماركسيون والجماهير جوعى فلماذا لا يشبع الفقراء
يقول: وعدتمونا أن تدخلوا الغاز في بيوتنا والخطوط المسفلتة إلى قرانا، وأن تنيروا لنا الأجواء، وأن تدفعوا لنا اللحم والخبز والماء والكساء، فأين هي؟
كما قلت لكم وكما قال الرجل العدني الذي اعتمر: القائم بطحوه والكادح كدحوه، وهذا أمر معروف، فلما رأى الناس ذاك السلطان الإعلامي، وقوة التأثير الغربي بوسائله، أدرك أنه كان مخطئاً، وأنه كان في حظيرة الحيوان، وأنه كان يسير بلا إرادة، وقد سحب عقله وبرهانه، فتذكر وفكر ملياً، ثم أعلن تمرده على هذا الحكم الجبروتي الناري الدموي الفاسق.(135/7)
الانهيار عاقبة الجبروت
السبب السادس:
إن مصير التعسف وخاتمة الجبروت الانهيار، وأن الظلم لا يدوم، وقد ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فقال: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل:52] وذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه يدمر القرى إذا أعرضت عن منهجه أو ظلمت، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28].
ووالله لقد بدل الشيوعيون نعمة الله كفراً، وأحلوا قومهم دار البوار والخزي في عالم السياسة والعسكرية والاقتصاد والتربية، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [الطلاق:8 - 9].
وأي عتو أعظم من عتو الشيوعية على الله، أن تقول: (لا إله والحياة مادة) وتجرد قدرة الله عز وجل من الكون، وتنسب التأثير للطبيعة، وتأخذ ملك الله عز وجل فتستبد به، وتجرده سبحانه تعالى من الخلق والأمر قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] وله القدرة وله التأثير، وله العاقبة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40].
الشعوب مهما صبرت فإنها لا تصبر إلى درجة أن يكون الإنسان في مسلاخ حيوان، ولا تجمع كلها أبداً على الرضا بالظلم إلى آخر المطاف، فإنها تتمرد في أي مرحلة من مراحل التاريخ، أو أي جيل من الأجيال، أو في أي بقعة من بقاع الأرض، وقد رأينا في تجربة الشاه مع الشعب الإيراني، بغض النظر عن استقامة هذا الشعب، أو عن اتجاهه أو عن ديانته، أو عن حصيلته أو عن مبادئه، لكن رأينا ذاك الرجل وهو يخرج من قصر الظلم والجبروت وهو يحمل الكلاشنكوف، وصوره مثبتة بطائرة هيلوكبتر، ويرش الشعب الإيراني في الشوارع معه جنوده، ويقتلون الناس كما تقتل الحشرات بهذا السائل المبيد، ومع ذلك تخرج الطوابير الأخرى وتعلن تمردها فإذا قتلت أتى الطابور الآخر يزحف بالجثث ويأخذها ويسحبها ويخرج الناس كأنهم من جديد يرفضون الظلم، وفي الأخير انتصرت هذه الإرادة وسحق الظلم إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم.
وهذه سنة الله عز وجل، وقد جرب ذلك الجاهليون، حتى يذكر ابن قتيبة: أن الظلم عاقبته وخيمة، وقالوا لامرأة من بني عبس: أين ملوك عبس وقد كانوا يحكمون الدنيا؟ قالت: ظلموا فأُخذوا.
وذكر ابن كثير أن البرامكة لما أدخلوا الحبس، قالوا: لـ يحيى بن خالد البرمكي، أبعد الوزارة والإمارة والتجارة أدخلت هذا المكان؟! وقد أدخل مكان لا يرى الشمس سبع سنوات، أدخله هارون الرشيد، والعجيب -سبحان الله- أنه تحقق فيه القول المأثور: {من لم يعرفني سلطت عليه من لا يعرفه، أو من لا يخافني سلطت عليه من لا يخافه} فسلط الله عليهم أقرب الناس إليهم هارون الرشيد، تركهم في السجن سبع سنوات، ما رأوا الشمس، قالوا: بعد النعيم المقيم أصبحتم هنا، قال: دعوة مظلوم سرت في ظلام الليل غفلنا عنها وما غفل الله عنها.
سجن المهدي الخليفة العباسي أبا العتاهية وحبسه، فأرسل له قصيدة من الحبس يقول فيها:
أما والله إن الظلم شؤم وما زال المشوم هو الظلوم
إلى ديان يوم الحشر نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
فبكى المهدي وأعلن إطلاقه، ولكن الله عز وجل سوف يحكم، وسوف يجمع الأولين والآخرين ويقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] أين الأنظمة الوضعية؟
أين السلطات الأرضية؟
أين الدبابات التي كانت تسحق البشر؟
أين الزنزانات التي كان يجلس فيها الفرد ويباد؟
أين السياط الملتهبة التي كانت تقطع منها جلود الناس؟
أين الكرابيج؟
أين الأسلاك الكهربائية؟
أين البرك الباردة المثلجة التي تمزع الأبشار؟
قال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ويقول تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] فأين سلاطينكم وأين كياناتكم وأين قواكم؟ ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} [مريم:93 - 94] {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} [مريم:80] فكانت نتيجة حتمية أن تصل الشيوعية إلى هذه الخاتمة التي أسعدتنا وأثلجت صدورنا، وتمثلنا فيها بقول أبي تمام:
ما ربع مية محفوفاً يطوف به أبهى إلى ناظري من خدها الترب
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب
رمى بك الله جنبيها فهدمها ولو رمى بك غير الله لم يصب(135/8)
مداولة الأيام بين الناس سنة الله في خلقه
السبب السابع: أنها سنة الله عز وجل، قال تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62] وقال تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّة اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43].
يقول ابن الوردي:
أين من شادوا وسادوا وبنوا هلك الكل فلم تغن القلل
كتب الموت على الناس فكم فل من جيش وأفنى من دول
حارت الأفكار في قدرة من قد هدانا سبلنا عز وجل
من الذي تولى وما عُزل، وحكم وما انتهى، واستذل وما ذل، وعلا وما أُخذ؟
سنة من سنن الله.
إن التجربة الإسلامية في التاريخ تثبت أنه حتى على الأجناس لا بد أن تطوف السنة الإلهية، قاد العرب فترة من التاريخ، فلما توجهوا إلى الموسيقى والبلوت والسهرة الخائبة أعطى الله قيادة الناس للأكراد، فأخذها صلاح الدين ونور الدين مرحلة من المراحل، فلما توجه الأكراد إلى حيص بيص وإلى الضياع وإلى ما لست أدري، أعطاها الله السلاجقة وكان منهم محمود بن سبكتكين وأمثاله، فلما تركوها سلمها الله للأتراك وأخذوها مرحلة، ثم ضاعت شذر مذر، وهي تنتظر الآن من يأخذها ليسلمها إلى عيسى عليه السلام.
من الأسباب ولعل هذا السبب الثامن وأنا كنت أسلفت في العناصر أنه السابع:(135/9)
الجهاد الأفغاني من أسباب سقوط الشيوعية
أما الذين يقولون: إن السبب الوحيد هو الجهاد الأفغاني، فأقول: لا.
هذه نظرة من وجهة نظري، وقد تكون خاطئة، ذلك أنه كيان ضخم بُني من قبل اثنتين وسبعين سنة على يد أذكياء وعباقرة في مستوى الأرض، ثم أقيم له جيش عرمرم هائل، وتعداد الجيش الروسي في بعض الأنباء، وبعض وكالات الاستخبارات العالمية قد يصل إلى ستة ملايين، وهو أضخم بكثير من الجيوش الغربية، وهو يملك ترسانة هائلة، ولكن مصيبته التبديد والتشتيت؛ لأنه يعيش القهر والاستخذاء.
مرة من المرات أنزلوا في منطقة كرواتيا ستين ألف مظلي، شعوب كلها ستحمل السلاح، وقبل ثلاث ليالٍ -وهذا القرار هو من الكنيسة- أعلن التلفزيون الإسرائيلي انزعاجه من وضع جمهوريات روسيا الإسلامية في الاتحاد السوفيتي، إذ تملك جمهورية كازاخستان الإسلامية والتي يحكمها نور سلطان ستمائة وستين رأساً نووياً، وهذه الجمهورية إسلامية، وكان في طرفها البخاري والترمذي والنسائي وسيبويه:
أولئك أبآئي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وهذه الولاية كانت الجمهوريات الاتحادية العظمى تنازعها على الحدود، فأعلن نور سلطان قبل ثلاث ليالٍ: إما كففتم عنا وإلا سوف نستخدم بعض الرءوس النووية، فكفوا.
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
وهذا استطراد، نعم جاء الجهاد الأفغاني، ولكن من ينظر إلى الخارطة وإلى الحدث، وإلى التأثير يرى أنه لم يؤثر بشكل مباشر، فإنه كان في جنوب الاتحاد السوفيتي في بقعة صغيرة في أفغانستان، قام مجموعة صغيرة من الأخيار والأبطال، بضرب جيش هذا الباغي وسحقه وإخراجه، فلم يكن سبباً مباشراً ولكن كان من الأسباب إن شاء الله، وللمسألة كلام وتحتاج إلى تمعن أكثر، وإلى إثبات وبراهين وحقائق من كلا الطرفين.(135/10)
واجبنا أمام سقوط الشيوعية
ما هي مسئوليتنا أمام سقوط الشيوعية؟ هل المطلوب أن نعلن لكم الأخبار هذه ونسكت، لو كان ذلك لكفتكم هيئة الأخبار والصحف، وهيئة الإذاعة البريطانية؛ أن تستمعوا إليها فتخبركم بما وقع هناك من الضياع والانهيار والدمار، ولكننا نريد أن نحللها تحليلاً إسلامياً من منظور {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ولا إله إلا الله محمد رسول الله، ومن عين {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].(135/11)
الاعتبار بسقوط الشيوعية
أولاً: الاعتبار بهذا السقوط، وأن وراء ذلك السقوط قوة أعظم منه، فمن الذي يغير ولا يتغير ويبدل ولا يتبدل؟ إنه الله وبكلمة (كن) غيَّر مجريات التاريخ، وأحياناً تجد الأمور مستقرة ومجتمعة، ثم يغيرها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في لحظة، لأنه كل يوم هو في شأن، والله يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] وكل نظم الأرض سوف تلحق بذلك الرأسمالية واليهودية والعلمانية المتحكمة في كثير من الشعوب الإسلامية؛ كلها سوف تلحق بذلك، فليست هي أقوى ترسانةً وجيشاً من الشيوعية، وليست أكثر عقولاً، بل قد يعلن في كثير من الملفات العسكرية أن الأدمغة التي اكتشفت القنابل الذرية والنووية والهيدروجينية أنها روسية، أو أنها من الاتحاد السوفيتي، والتي كسبت أعظم جوائز نوبل من المعسكر الشرقي، والأدمغة الألمانية هاجرت في فترة من الفترات إلى هناك وأصبحت في تلك الجمهوريات، فلن تكون أقوى من هذا، فمن باب أولى أن تلحق هذه على الطريق، ولكن لكل أجل كتاب، وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً، وعنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى علم الغيب وهو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي جعل لكل شيء أجلاً وقضاء.
الاعتبار من هذا أن الإنسان لا يزهو بقوته، ولا ينسى قوة الله، ولا يغتر بما عنده من شيء، وليعلم أنه ضعيف أمام القدرة الإلهية، قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].(135/12)
واجبنا دعوة الناس إلى منهج الله
ثانياً: دعوة الناس وتقديم الحق لهم، فقد احترقت أوراق المناهج الأرضية والأنظمة الوضعية، وأصبحت كاذبة فاشلة أمام الناس، وصَدَّق الناس أنه لا ينقذهم بإذن الله إلا الإسلام، فمن يقدم الإسلام، إن الإسلام ليس جبلاً ولا نهراً ولا شجرة، إنما الإسلام يكمن في أناس يحملونه.
أتى الخوارج إلى علي بن أبي طالب، قالوا: حكمت الرجال في دين الله، قال: ماذا فعلتُ؟ قالوا: صيرت الحكمين بينك وبين معاوية، فأخذ علي مصحفاً كبيراً -وهذا عند ابن كثير وعند الذهبي - وأخذ يقول: [[يا قرآن يا مصحف احكم بيني وبين معاوية]] ثم يلتفت إلى المصحف ويقول: أما تتكلم؟! والمصحف لا يتكلم، والإسلام لا يتكلم، لكن يتكلم أصحابه ويحكمون، والله عز وجل لو كفى إنزال نسخ من القرآن لكان أنزلها على أبي جهل وعلى أبي لهب ووزعها على أهل مكة بواسطة جبريل، لكن أنزل رسولاً يحكم، والله يقول له: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] ويقول له: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:1 - 2] فأنتم الآن البديل، وأنتم الطرح المعقول، وأنتم الخير المنتظر الذي ينتظره العالم.
لكن:
إني أبشر هذا الكون أجمعه أنا صحونا وسرنا للعلا عجبا
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضبا
عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنبا
أنتم الآن البديل، قلت لكم من قبل ستة أشهر، وصلت رسالة من أحد الشباب العدنيين من أوزبكستان، وأظنها والله أعلم ولاية في جنوب الاتحاد السوفيتي، أرسلها من هناك وقال: إي والله، هذا شيوعي من عدن يدرس هناك علماً دنيوياً، فهداه الله على يد أناس من الدعاة في تلك الجمهورية الإسلامية، فأعلن إسلامه وهو يقول: المصاحف عندنا في الولاية نتداولها، كل يوم يكون المصحف في بيت لنقرأ كلام الله، العالم بحاجة إلى إسلام، العالم يريد هذا الدين، العالم يريد هذا الإيمان الذي بعث به محمد عليه الصلاة والسلام، فمن يحمله ومن يقدمه؟ أنتم أيها الناس، لقد قدم أولئك لكم الثلاجة والبرادة والصاروخ والطائرة، وهم ينتظرون منكم أن تقدموا لهم حياة الإيمان وحياة الغيب والشهادة، وحياة الدنيا والآخرة والسعادة الأبدية التي تكمن في دين الإسلام.
إذاً: البديل هو الإسلام، فقد أعلن كل منهج أنه أفلس وأنه لا يستطيع أن يوجه البشر، لأن الذي يوجه البشر هو الذي خلق البشر، وفطرهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(135/13)
إرشاد الحكومات الإسلامية واجب على العلماء والدعاة
ثالثاً: في سقوط الشيوعية درس للشيوعيين في البلاد الإسلامية والعربية، اعتبروا يا أولى الأبصار إن كان عندكم أبصار، أسيادكم المؤثرون وأعمامكم سقطوا، فكيف بكم أنتم؟! والعجيب أنه لما حاول الحزب الشيوعي أخذ السلطة من يد جرباتشوف قبل أيام، قام الشعب في موريتانيا بمظاهرة يقولون: تعيش الشيوعية، وأرسلت البرقيات من عند العملاء من كل مكان، والأذناب الذين يعيشون على الخيزرانات والسياط الذين جاعوا وجوعوا الشعوب معهم، يرسلون التأييد لهذا الحزب الفاشل، فلما انهار ورجع جرباتشوف قالوا: ما أردنا ذلك، إنما أردنا شيئاً آخر.
وسمعت هناك رجلاً اسمه أكرم في الحزب الشيوعي اللبناني في مقابلة بالهاتف مع هيئة الأخبار البريطانية، قالوا له: ما رأيك في هذا الحزب الشيوعي الذي استقل السلطة؟ مع العلم أن الناس يخرجون عراة من بيوتهم ويضطجعون أمام الدبابات يرفضون الشيوعية، ما هو الدليل؟
قال: لا يعني ذلك فشل الشيوعية، فقد أثبتت نجاحها، لكن الفشل فشل من قام بها وأثبتها للناس، قبح الله ذاك الوجه، أصحابها يقولون: فشلت واحترقت وتدمرت وهذا العميل المرتزق أعمى البصر (أعور ويناقر) يقول: لا ما سحقت.
مليار شيوعي الآن يعلنون أنهم يريدون أن يخرجوا من ثيابهم ولا يريدون الشيوعية أبداً ويعلنون أنها فشلت، ثم يفاجأ هذا بعدها بأن جرباتشوف يحل نشاط الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي يقول: محذور! يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] فرأيت الرافعات في موسكو تذهب بواسطة العمال إلى تمثال لينين لتسقطه في الأرض فيسعى الناس من شرفات المنازل ومن الحدائق ويقفزون بالأحذية فيسحقون وجهه، ثم ترفع الرافعة الأخرى على استالين فتسقطه، فيسعون ويدوسونه بأقدامهم، حتى يبيدوا الصور، فما معنى ذلك؟ معناها الخزي والعار، قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16].(135/14)
ترشيد الصحوة الإسلامية
رابعاً: واجب علينا ترشيد الصحوة وتقديم الأولويات في إصلاح الناس جميعاً، فليس السر في الصحوة أنها تصلح الفرد فقط، وليست المسائل الجزئية التي لا بد منها، لكن ليست هي الأولى أي: ليست رسالتنا أن نطالب الناس فقط بتربية لحاهم، وتقصير ثيابهم، واستخدام السواك، هذا أمر لا بد منه وهو من سنن محمد عليه الصلاة والسلام؛ لكن هناك قضايا كبرى لا بد أن تستهلك أعظم الأوقات وأشرف الساعات في عرضها للناس، كمسألة الإيمان أنه بديل عن الكفر، مسألة الحاكمية للواحد الأحد: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40] {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] وأنه لا يجوز لإنسان أن يتصرف بالحكم في الأرض، وأن الخلافة لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ثم لأوليائه في الأرض أن يحكموا بحكم الله {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26].
من الأولويات: أن نقدم رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام صافية، أنا أتصور أن الشرقيين هؤلاء كالشيوعيين والغربيين الرأسماليين يظنون الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يتمثل في مثل القذافي أو الخميني، أو صدام حسين، ولذلك ما دخلوا في الإسلام، إسلام يخرج لنا هذه النماذج لا نحبه، وهؤلاء في واد والإسلام في واد آخر، الإسلام طبقه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وأحمد بن حنبل والشافعي وأبو حنيفة ومالك بن أنس وابن تيمية وابن القيم ونور الدين محمود وصلاح الدين وعمر بن عبد العزيز، هذا الإسلام، فوجب علينا أن نقدم لهم هذا التاريخ المشرق، وأن نقدم لهم ماذا فعل الإسلام يوم حكم بحقيقته هذه الأرض، وكيف طوقها بالعدل.
وأنا أحيلكم إلى مقالة للشيخ الأستاذ الكاتب الكبير: علي الطنطاوي حفظه الله، في بداية كتابه قصص من التاريخ، اسمها (نحن المسلمين) وهي مقالة جديرة أن تقرأ فإنه طرح طرحاً عجيباً، نظرية الإسلام أمام نظريات أهل الأرض، أولها يقول: نحن المسلمون، سلوا كل سماء في السماء عنا، وسلوا كل أهل الأرض عنا من الذي أعتق الإنسان وكان عبداً، عمر رضي الله عنه وأرضاه يأتيه رجل من مصر قبطي، فيقول: يا أمير المؤمنين! ضربني محمد بن عمرو بن العاص، ابن أمير مصر، قال: ولِمَ؟ قال: سابقته بفرسي فسبقته، وقال: أتسبقني وأنا ابن الأكرمين، فنزل فلطمه حتى لم يعد يدري أين يتجه، فذهب إلى الهيئة العليا، إلى عمر -الذي يوقف الشيطان عند حده- بل يأتي عمر من طريق والشيطان من طريق، عمر الإسلام والعدل والخير- فاستدعى عمرو بن العاص واستدعى ابنه محمداً، وجمع الناس، ولما قدم عمرو لم يدر بالخبر، ولما رآهم عمر قبل أن يُسلِّموا، أخذ الدرة وهي درة فيها علاج يخرج الشياطين من الرءوس، في صيدلية عمر بن الخطاب، شارع {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال: والله لا يحول بيني وبينهما أحد، ثم أخذ عمرو بن العاص، فبطحه أرضاً.
كل بطاح من الناس له يوم بطوح
ثم بطح ابنه محمد ثم أخذ العصا واعتلاهم على صدورهم يضربهم، ويقول: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً]] هذه تكتب بماء الذهب، وأصبحت كلمة عمرية.
من واجب شاب الصحوة أن يكون إنساناً مؤثراً، لا يكون سلبياً، ولنعلم أن كارل ماركس قدم لشيوعيته ونظريته أعظم مما قدمت أنا وأنت للإسلام، بل لينين سجن في مرة واحدة ست سنوات في عهد الحكم القيصري، ومع ذلك فهو مُصِرّ وعنيف، هو من قرية من الشمال، حتى أثبت إرادته وحكم، وقد رأينا من الفاشلين والظالمين من ضحى لدينه ومبدئه ولو كان ضالاً أعظم مما ضحى المسلم لعقيدته، وكما سلف معنا، يقول عمر: [[اللهم أني أعوذ بك من جلد الكافر وعجز الثقة]].
ومن الأمور والأسرار أن عمر الإسلام كما قلت لكم: خمسة عشر قرناً وهو لا يزال في نمو وتصاعد حتى تكون العاقبة له، وكما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الخاتمة للدين في أحاديث كثيرة، فسوف يستمر هذا الدين حتى يرث الله الأرض ومن عليها وتقوم الساعة.
الشيوعية عمرها اثنتان وسبعون سنة، وهذه السنوات كلها قهر وإبادة، وقد قلت لكم: الشيوعية قتلت في حكمها واحداً وثلاثين مليوناً، منهم ستة عشر مليوناً قتلهم لينين وحده، غير السجون والمعتقلات والتعذيب والتشريد، وسخروف كتب مقالة قبل أن يموت وقد نشرتها جريدة الشرق الأوسط من قبل فترة في عهد برجنيف، وأنذر برجنيف أن الشيوعية سوف تسقط، ويقول: أدركها أدركها، فنفاه إلى جزيرة سيبيريا ثم توفي.
وهم صراحة يعلنون هذا، ويعلنون أنهم إلى الدمار، لكن ما استجاب لهم أحد حتى وقعت لهم خيبة أمام العالم، ومصير النظم شرقية كانت أو غربية والتي قامت على التراب وعلى الطين ولم تستمد قوتها من رب العالمين، ولا من دينه القويم، الذي بعثه رحمة للناس، هو هذا المصير، فالأنظمة البوليسية وأنظمة التجسس تسقط بالفعل، وأنظمة الانقلاب الدموي تسقط، وقد شوهد في العالم الثالث أن الانقلابات الدموية التي تتولى الحكم في فترات، إما حكم عسكري أو حكم علماني كافر يتولى في فترة من الفترات، أنها تواجه بالانقلابات المستمرة، انظر الآن إلى العالم الغربي في حكمه كيف استقر في فترة من الفترات، كمثل النظام الأمريكي لأنه من عهد جورج واشنطن إلى الآن ما يقارب ثلاثمائة سنة إلا شيئاً، والآن الرئيس الموجود يشكل الرقم ثمانية وثلاثين أو تسعة وثلاثين، وقد ذكر هنري مانجرو في كتاب الولايات المتحدة الأمريكية أن هذا النظام لا يقبل الفساد في السلطة فـ جونسون لما أخفق في فيتنام أزيح، ونيكسون لما أخفق في فضيحة ووتر جيت أزيح كذلك، وكارتر أزيح، وغيرهم كثير.
أما العالم الثالث هذا، فإنك تفاجأ في ست ساعات أن يتولى واحد، ثم يدخل عليه الثاني فيضربه بمسدس ويسحبه كالكلب، ويتولى الثالث ويغتاله بقنبلة، ويتولى الرابع فتجهز له سيارة مفخخة، لأنها ابتعدت صراحة عن مسألة الحوار والنصح وإبداء الرأي، وقامت على الانقلاب الدموي، وعلى الكبت والحديد والنار، ومنهم من قامت على نظرية كافرة في الاقتصاد لم تؤمن بمنهج الله عز وجل بالاقتصاد ومصيرها كمصير أختها، وإياك أعني واسمعي يا جارة: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ} [الأحقاف:27].(135/15)
مد يد العون للمسلمين من الجمهوريات المسلمة
خامساً: من واجبنا في هذه المرحلة مد يد العون للمسلمين في الجمهوريات الإسلامية، كل من له استطاعة، وكل من له قدرة أن يمد يد العون فليفعل، وقد سمعت أن كثيراً من الدعاة سافروا قبل هذه الأحداث بشهر إلى موسكو للدعوة إلى الله عز وجل بكثير من الأموال، لأن أبناء البخاري ومسلم والترمذي والنسائي يسكنون هناك وهم ينتظرون من إخوانهم الإسلام والعون والوقوف.
من واجبنا كذلك: تصحيح وجهات نظر الناس، لأن الإعلام في أي مكان ليس أميناً في توجيه قدرات الناس ولا طاقاتهم ولا معلوماتهم، وأعلن الإعلام نفسه عجزه أمام الأحداث، وأنه لا يستطيع أن يقدم صورة مشرقة، فحق على الدعاة أن يقدموا هم بأنفسهم الصورة المشرقة بالوثائق والبراهين وألا تعتمد الأمة على ما تسمع أو ما ترى أو يبث، لأننا رأينا أنها تزور الحقائق وتلف، وأنها تبتر وتقدم صورة مشوهة أحياناً أو تختلس وتسرق، فحقيق علينا أن نقدم الصورة الحقة التي تصل الدعاة من وسائل ثابتة وثيقة الصلة بالحق، أو بها ثقة أن نقدمها للناس حتى يكونوا على مرئيات حقة.(135/16)
الدعاء للمسلمين
سادساً: أن على الإنسان أن يمد إخوانه بالدعاء في مشارق الأرض ومغاربها، وفي السحر وأدبار الصلوات، أن ينصر الله دينه، وأن يجعل العاقبة له، وأن يجعل الخلافة في الأرض والنصر والتمكين لأوليائه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا مطلب أساسي.
واجبنا نحو هذه المرحلة: أن نتجه إلى تربية الشباب؛ لا على العواطف، لكن على الحق الموروث من معلم الخير عليه الصلاة والسلام، على العلم (قال الله قال رسوله) على الحلقات الهادئة دون أن نربيهم على العواطف المجنحة التي لا تعتمد على حقائق ثابتة، وإنما يكون ضررها أكثر من نفعها.(135/17)
واجبنا تعرية الباطل
سابعاً: ومن واجبنا أيضاً خطباء وأئمة ودعاة أن نعري الباطل، وأن نمرغه في التراب وهو أحسن ما يكون، كما فعل شيخ الإسلام طيب الله ثراه، فالذي جعله يحبس وجعل الحديد ووزنه أربعة كيلو في يديه هو تعريته للباطل، وتمريغه للباطل لقد مرغ الجهمية والمعتزلة والبطائحية والاتحادية والحلولية والزنادقة، والحكم الفاشل المنهار الذي يحكم بغير ما أنزل الله عز وجل، ولذلك كان مصير ابن تيمية أن يبقى في الأذهان حياً، ويبقى علمه خالداً، بخلاف غيره من العلماء الذين جمعوا المختصرات في الحواشي، فما زادوا على ما وجدوا إلا أن جمعوا، ولذلك مات بعضهم بموته، ولم يبق له إلا الأثر أي: المخطوطات التي تركها مثاباً عليها، أما العلم الحي المتدفق الذي يتركه ابن تيمية فهو العلم الذي يجب أن نحمله نحن لنحقق للإنسان سعادته ويكمن في تمريغ الباطل: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
ولا يقل أحد من الناس: إني تدخلت فيما لا يعنيني إذا مرغت الباطل، بل مما يعنيك أن تمرغ الباطل، فإن الله عز وجل أول ما بدأ في سورة البقرة أنه مرغ بني إسرائيل، حتى يقول سيد قطب: لا بد من هذا النسف والإبادة والتدمير لبني إسرائيل.
أذكر قصة في رمضان في قرية من القرى، يقول أحد الأئمة: صليت بهم في التراويح وكان معنا شيخ كبير عامي، فقرأت بهم البقرة، واستمرينا إلى سابع ليلة، فالتفت الشيخ فسلم عليَّ بعد الصلاة، قال: أين القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟ هذا القرآن كله لبني إسرائيل ما سمعنا القرآن إلا يتكلم عن بني إسرائيل، قال: فرجعت إلى بعض التفاسير ووجدت كلام سيد قطب، يقول: لا بد من هذا النسف والإبادة والتدمير لهم، يقول أهل العلم: لابد من التخلي قبل التحلي، قبل أن تعلن فكرتك لا بد أن تزيل الأفكار الموجودة، فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بدأ فنسف بني إسرائيل وأفكارهم ومعتقداتهم الباطلة المدمرة، ثم أتى إلى النصارى وبكتهم، ثم أتى ورد على المانوية.
وكثير من أهل العلم يقول: إنه رد على المانوية في أول سورة الأنعام، وعلى كل مذاهب الأرض، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
قالوا: رد على اليهود والنصارى والمانوية، أما المانوية ففي قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] لأن المانوية تقول: إله الخير النور وإله الشر الظلمة، وتجرد الله من الألوهية، حتى يقول المتنبي لـ سيف الدولة:
فكم لظلام الليل عندك من يد يحدث أن المانوية تكذب
يقول: أنت تنتصر في الليل، والمانوية تقول: الإنسان لا ينتصر، وأنت دست أعداءك في الليل وقطعت رءوسهم في الليل، سيف الدولة هذا البطل، قال:
فكم لظلام الليل عندك من يد يحدث أن المانوية تكذب
الشاهد من هذا أنك إذا أردت أن تعرض فكرتك:
أولاً: أزل الأفكار المنحطة، جنبها طريقك، ولذلك فعل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في القرآن، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] انظر للتخلية: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:2 - 3] ثم أثبت سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الألوهية لنفسه.(135/18)
الاحتمالات التي تئول إليها الشيوعية
الفرضيات الآن المنتظرة للاتحاد السوفيتي بعد انهيار الشيوعية ثلاث فرضيات وثلاثة احتمالات:
الأول: إما أن تعود الشيوعية إلى وضعها، وهذا احتمال ضعيف، وإن عادت فسوف تعود مهترية وسوف تحكم بالحديد والنار فترة، ثم تذهب إلى غير رجعة، وهي إنما تتمالك صراحة بالحديد والنار، يوم يكون الحديد قوياً والنار ملتهبة والبطش جبروتياً سوف تبقى، ويوم يضعف هذا فسوف تنهار، يمكن أن تعود، من يدري؟ ولذلك لا يغتر الشيوعيون العرب الذي أرسلوا برقيات وهنئوا أنها إذا عادت أنها سوف تطبق الدنيا، لا.
أصل الشيوعية في الصين قبل ثلاث سنوات أراد أهلها أن يخرجوا من ثيابهم، لكن أمسكوهم في معرض العدالة، بل هو الظلم الذي في بكين، وسحقوهم بالحديد والنار، وطوقوهم بالدبابات، وطاردوهم في الحدود ومنعوهم، وسوف يخرجون كما خرج الناس في الاتحاد السوفيتي، وقد قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81] وهذه سنة الله عز وجل.
والاحتمال الثاني: جمهوريات منفصلة وهذا الواقع الآن، ويقول: إنها كارثة، هي كارثة لهم كدولة عظمى، لكنها للإسلام والمسلمين نسأل الله أن تكون أملاً وطموحاً، أن تأتي هذه الجمهوريات وتعلن حكم الله في الأرض, هي تملك رءوساً نووية، وتملك طاقات هائلة وتجارب ومصانع، وتكون قوة للإسلام وللصحوة، وتكون الخاتمة والعاقبة للذين آمنوا، والعاقبة للمتقين، وليس على الله بعزيز سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وقد ذكر الداعية الكبير الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله، في كتابه في التفسير وفي بعض أشرطته، أنه ينتظر وأنه ليس على الله بعزيز أن تحول قوى الأرض بيد الإسلام في فترة من الفترات، فيسيِّر بها ثقافة الإنسان وحضارته، ويحكم بها الإنسان، ثم يدمغ بها الباطل، وهذا أمر قد يحدث، ولا نستغربه ولا نستبعده.
احتمال ثالث: موافقة بينهم وبين الغرب على نظام ليبرالي مؤقت، وهذا مثل التعايش السلمي، أن يكون بينهم تنسيق وتعايش سلمي، يبقى هؤلاء ويبقى هؤلاء على نظامهم الذي ارتأوه في مثل مالطا، وفي مثل غيرها من اللقاءات، وفي مثل هنسكي على أن يعيشوا على وفاق دولي، وأن يسكت بعضهم عن بعض، ولكن هذا لن يستمر، وأنا أقول: لعل الله عز وجل يجعل من هذه الأحداث صلاحاً للإسلام: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] وإن العالم الآن لينتظر من المارد يسمونه هم المارد كما يسميه زويمر، لكن أسميه أنا الفجر والفتح، وهو الإسلام أن يكون هو التجربة للإنسان وهو الذي يعيده إلى ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، لأنه هو حكمه سُبحَانَهُ وَتَعَالى وهو الذي سنه للناس وهو أدرى بطموحات الإنسان وطاقاته وآماله وحاجياته, والله يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] فلا أحسن من الله حكماً! ولا أحسن من الله تربية! ولا أحسن من الله نظاماً! ولا أحسن من الله ترشيداً! والشرف العظيم للإنسان أن يتصل بالله، حتى يذكر كثير من العلماء يقول: الشرف أن يتصل الفاني بالباقي والضعيف بالقوي، والفقير بالغني، فنسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن ينصر دينه وأن يعلي كلمته.(135/19)
معنى السقوط ومفهومه
هذا كلام الشيخ: سعيد بن زعير.
نقطة أبدأ بها بعد الحمد لله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم: تكرر الحديث عن سقوط الشيوعية فما المقصود بالسقوط، وماذا نعني بهذا السقوط؟
وما دلالة السقوط؟
وما هو مفهوم السقوط إن كان هناك سقوط؟
وما هو المفهوم للسقوط إن لم يكن هناك سقوط أيضاً؟
متى نقول: إن نظرية أو نظاماً أو فكراً أو دولة سقطت، فسقوط المبادئ سقوط فكري وسقوط عقلي وسقوط معنوي، وسقوط منطقي، ليس بالضرورة سقوطاً مادياً، وإن كان السقوط المادي بعده هو الخاتمة والنهاية، سقوط الشيوعية في تبدل درجة التمسك.
الشيوعية مبنية على نظرية مادية، بدأها الشيوعي ماركس وهيجل وهي نظرية مادية جدلية، ثم تغيرت وآخر أشكال التغيير ما قام به جرباتشوف، وإن كان جرباتشوف شيوعياً، بشكل جديد للشيوعية، وإلغاء المبادئ في الشيوعية وهدم لبعض الأساسيات في الشيوعية، فماذا يعني السقوط في المبادئ؟
هو أن يغير أصحاب المبادئ مبادئهم، لو كان الفكر الشيوعي صحيحاً ما غيره أصحابه، ولذلك إذا رأينا أصحاب المبادئ يغيرونها فهو السقوط، وسوف آخذ هذا المبدأ أو هذا القول فيما يتعلق في سقوط الشيوعية وهو التبدل في المبادئ، تغيير المبادئ، هدم فكرة وإبدالها بأخرى عند الشيوعيين، قد يستمر الاتحاد السوفيتي، قد يوجد جرباتشوف وقد يوجد بعده من هو أشد منه تبديلاً، لكن هذه دلالات على سقوط الذين يحرمون الناس في الاتحاد السوفيتي من التملك في بداية الشيوعية يمنعون أن يكون لك بيت، يمنعون أن يكون لك أي شيء من وسائل الإنتاج، هذا المبدأ الأصلي، وإذا به يتغير ويقبلون التملك لوسائل الإنتاج وللمزارع، لماذا بدلوا؟ لأنهم علموا بأن الذي كانوا عليه غير صحيح، وهذا هو السقوط، دعنا من رأي الرأسماليين أو رأينا نحن المسلمين، هم أنفسهم أحسوا بأن الأسس التي قام عليها النظام الشيوعي غير صحيحة، وهذه قمة السقوط.
سقوط الشيوعية معناه: اقتناع الشيوعيين أنفسهم بأن الشيوعية غير صحيحة ولو لم نجد أحداً من الشيوعيين كتب بأن الشيوعية غير صحيحة، فهذا هو السقوط الحقيقي، صاحب الفكرة استبدلها بفكرة أخرى، هذا السقوط الذي حدث للشيوعيين هل سينطبق على غيرهم؟
عندما بدل الشيوعيون مبادئهم، وقلنا: إن هذا هو معنى السقوط؛ فهل سينطبق هذا السقوط على غير الشيوعيين؟
نحن المسلمين نقول: نعم.
لكنَّ الشيوعيين والرأسماليين وأصحاب المذاهب غير الإسلامية، يقولون: ما دليلكم؟
أنا وأنتم يكفينا الدليل عندما نقول: يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء:18] أنتم تؤمنون بهذا وتقبلونه؛ لأنكم تحترمون المصدر الذي جاء منه القرآن، وبأن الله سيقذف الحق على الباطل فيدمغه، لكن أصحاب الفكر الشيوعي المادي، بل وأصحاب الفكر الرأسمالي المادي لا يؤمنون بأدلة تأتي من مصادر نحترمها نحن، لذلك سوف نأخذ دليلاً على ذلك وهو حادث الشيوعية دليلاً على البقية- ما الفرق بين الشيوعية والرأسمالية؟
ولا أريد ما يقال لنا في المدارس؛ لأن الكلام الذي يقال لنا في النظم وفي النظريات كلام ميت لا يحيي في النفوس شيئاً، عندما تدرس النظرية الشيوعية أو تدرس النظرية الرأسمالية، أو يدرس الاقتصاد الشيوعي أو الرأسمالي في مواد الثقافة الإسلامية تدرس تدريساً ميتاً، أقول لكم: ما الفرق ليس مما نقرأ في الكتب، ولكن مما نعايشه في الواقع، ما الفرق بين الشيوعية والرأسمالية؟
أقول: إنه لا فرق بينهما، عندكم أنتم ينبغي ألا يكون فرق بينهما، لِمَ؟
لأن الشيوعية والرأسمالية فكر ضال غير مهتدٍ بعيد عن هدي الكتاب والسنة.
الشيوعية والرأسمالية، كلاهما نظام ينظم للناس شئون حياتهم بعيداً عن القرآن وعن السنة، وكل منهج بعيد عن الكتاب والسنة، فهو عندنا ضلال وسقوط، وإن سقط اليوم أو غداً أو بعد غد، وإلا سوف يأتي يوم من الأيام ونقذف بالحق على الباطل فيدمغه؛ شيوعياً أو رأسمالياً أو قومياً أو من أي مصدر، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] قالها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، قبل الفتح وهو في مكة قبل أن يهاجر لم يقل هذا للكافرين، لكن في قرارة نفسه أنه سيأتي يوم من الأيام وتقال هذه الآية وتسقط الأصنام، كل نظام على وجه الأرض لم يقم على الكتاب والسنة فهو ساقط، دليله عندنا من القرآن قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] ودليله للماديين الذين لا يؤمنون بالقرآن: سقوط الشيوعية نفسه، سقطت الشيوعية لأنها مقطوعة الصلة بالله، وستسقط الرأسمالية وغيرها من المبادئ، وكل مبدأ ينظم حياة الإنسان أو حياة المجتمع بغير هدى الله؛ فإنه سوف يسقط، المسألة مسألة زمن فقط، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى هو الذي يقدر الزمن الذي تحتاجه الشيوعية لتسقط، وكذلك الرأسمالية والعلمانيون الأذناب في بلاد المسلمين، المسألة مسألة زمن، وكل هؤلاء من الساقطين، هذه واحدة مما يتعلق بمعنى السقوط(135/20)
دول العالم الثالث والمبادئ
الفقرة الثانية: دول العالم الثالث التي يصنف فيها دول العالم العربي والإسلامي كلها، أو دول العالم النامي، أو الدول النامية، أو الدول المتخلفة.
هذا العالم الثالث دوله ما علاقتها بالمبادئ؟ أي: هل هي صاحبة مبادئ ثابتة أم أنها تتحول وتتشكل في المبادئ؟ ومن هي الدولة من دول العالم الثالث صاحبة المبادئ الثابتة التي لا تتغير؟ خذوا من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب من هذه الدول النامية، خذوا علاقتها الدولية وعلاقتها بشعوبها، هل هي لديها مبادئ لا تتغير؟ هل هي ثابتة مثلاً في عدائها للشيوعية؟
في علاقتها السياسية بالدول الأجنبية، هل دول العالم الثالث ثابتة، بمعنى أنها صاحبة مبدأ تقول: الشيوعية إلحاد وكفر بالله، ونحن أصحاب مبادئ إسلامية لا علاقة لنا بـ الشيوعية، هل هذا مبدأ، ومتى يكون مبدأً؟
إذا كان على مر الزمن، وعلى مر الأحقاب، وعلى مختلف الفترات لا يتغير فهو مبدأ، ولكنك تجد من دول العالم الثالث من هي شيوعية تماماً، متحالفة مع الشيوعية، فإذا بها تتحول مائة وثمانين درجة لتصبح رأسمالية، سبحان الله! أين المبادئ؟!
هذا مثال، وأريد من هذا المثال أن أصل إلى تقرير ثانٍ مبني على الأول، والأول وصلنا منه إلى أن معنى السقوط هو سقوط المبادئ.
الثاني: أن دول العالم الثالث ساقطة بمعنى: أنه لا مبادئ لها، وإذا أردنا أن نطبق، فخذ أي مجالٍ من المجالات، ستجد أنه ليس هناك مبادئ تحكم، دول العالم الثالث، بل تجدها حليفة لليسار ثم إذا بها حليفة لليمين، تجدها شيوعية فإذا هي ليبرالية، تجدها دولة ديمقراطية وإذا بها دولة بوليسية قمعية، تدعو إلى تعدد الأحزاب، وإذا بها مرة أخرى تخرج الدبابات في الشوارع، فلماذا؟
لأنها ساقطة ليس لها مبادئ ثابتة، وسقوط الشيوعية هو في مثل هذه الصورة نموذج، الدول التي ليست لها مبادئ ثابتة هي أيضاً في طريقها للسقوط.(135/21)
أمثلة لسقوط المبادئ
أضرب أمثلة فيما يتعلق بهذه التحولات، كنت في بلد من البلدان العربية -مثال على عدم الثبات للمبادئ حتى في حياة الناس- والتلفزيون أحد الوسائل التي تعطيك واقع البلد الذي أنت فيه، وهي حقيقة ينبغي ألا تغيب عن واقع كل الناس، إذا أتيت لبلد فافتح تلفزيونها وهو أصدق من يعطيك واقع هذا البلد، فإن كان هذا التلفزيون يعرض مبادئ إسلامية أو شيوعية، أو رأسمالية، أو العهر، أو الفضيلة، فهو أحد الشواهد القوية على ما عند هذا البلد؛ في تلفزيون تلك البلد أروي لكم والله على ما أقول شهيد، كان عنده ندوة قبل المسلسلة، والمسلسلة كما تعلمون عرف إعلامي في كل البلدان العربية، مسلسلة هو تعليم لحياة غير حياة تلك البلاد من خلال المسلسلة، يقدم في ندوة قبل المسلسلة عرض للنظام الاقتصادي اليساري الشيوعي الاشتراكي، ويقول المنتدون وهم ثلاثة: بأن هذا البلد لن يقوم الاقتصاد فيه ولن تتحقق فيه البنية الاقتصادية ولن تنهض فيه الشركات الكبرى، أو ما يسمى بالقطاع العام إلا من خلال هذا التطبيق الشيوعي، أو من خلال تطبيق نظام القطاع العام كما نص في الندوة، وينصرونه ويدافعون عنه، وأنه لا نهضة للاقتصاد إلا بإعادة النظر في الأخطاء التي تمت في التطبيقات التي في القطاع العام أو في القطاع الحكومي، أو في الملكية العامة للشعب لوسائل الإنتاج.
ندوة بنصف ساعة كلها تدور حول ضرورة أن يكون الاقتصاد اقتصاداً مبنياً على الملكية العامة، وألا تتاح الفرصة للقطاع الخاص، ولا للأفراد بأن يملكوا، لأن التجربة التي طبقت في هذا البلد هي التي جلبت النجاح، بعد هذه الندوة جاءت المسلسلة، ونترك المسلسلة لا دخل لنا بها، بعد المسلسلة ندوة أخرى، الندوة الأخرى تتكلم على أنه لا نجاح لهذا البلد إلا بتطبيق الاقتصاد الذي يعتمد على الملكية الفردية! وعلى حرية الأفراد بالتملك، وعلى أن الاقتصاد العام والملكية العامة هي التي أثرت على البلد، وأنه ينبغي أن تدفع سياسة اقتصاد السوق والانفتاح على الاقتصاد العالمي، هذا الكلام الذي سمعته في الندوتين من الناحية العلمية ومن الناحية الاقتصادية لا يقبل بأي معيار، كيف أنه في تلفزيون بلد واحد يعرض هذان النموذجان وفي ليلة واحدة؟! فهو أقوى الأدلة على أن ذلك البلد -بل ومعظم البلاد في العالم الإسلامي- لا تعيش مبادئ، بل هي في أزمة مبادئ، تعلن أنها تعيش في هذا المبدأ وتطبق مبدأً آخر، تعلن حربها على المبدأ وتطبق نفس المبدأ، تعلن أنها تلتزم بنظام معين وتمارس غيره، إذاً الدول في العالم الثالث -دول العالم العربي والعالم الإسلامي- تعيش أزمة مبادئ، لأن المبادئ لا تحكم لها تصرفاتها.
ما الفرق بين هذه التغييرات وبين ما نسميه في فكرنا وثقافتنا الإسلامية بتجديد الإسلام؟ قضية مطروحة فكرياً وهي خطيرة؟
والمثال الواضح، عندما يقول الشيوعيون العرب: بأن كارل ماركس، ومن أتى بعده في التطبيقات الشيوعية، لم يخرجوا عن دائرة الشيوعية وإنما ممارساتهم هي اجتهاد في التطبيق الشيوعي، بمعنى: أن النظرية الشيوعية باقية، وإنما هي تطبيقات، وبعض المحسوبين على المسلمين اليوم يقولون: إننا في حاجة إلى اجتهاد في الإسلام شبيه بالاجتهادات الشيوعية والرأسمالية في نظمها.(135/22)
الاجتهاد في الإسلام
السؤال
ما الفرق بين اجتهاد الإسلام الصحيح وبين هذه الاجتهادات؟ خلاصة الفرق بإيجاز شديد:
الجواب
الاجتهاد في الإسلام لا يكون مع النص، نصوص الإسلام ومبادئه ثابتة لا يستطيع أي مجتهد كائناً من كان أن يغيرها، وفي المثال الذي ضربه قبل قليل الشيخ عائض عندما قال: إن أبا ذر عندما اجتهد اجتهاداً يحرم الملكية، ويحرم كنز المال رفض الصحابة منه هذا الاجتهاد، وأي مجتهد يجتهد سواء كان عالماً كبيراً أو من أهل الاجتهاد فاجتهاده في حدود فهم النصوص، ودون أن يخالف نصاً للرسول صلى الله عليه وسلم، أو يخالف ما أجمع عليه المسلمون، أو يخالف رأي الصحابي الذي انتشر بين الصحابة ولم ينكروه، أما إذا قال الصحابي رأياً وأنكره عليه الصحابة، مع احترامنا للصحابي وغيره إذا اشتهر، ورفضه مجموعة من المسلمين سواء كانوا من الصحابة أو كانوا مجموعة من العلماء بعدهم فإن هذا اجتهاد لا يعتد به.
لدينا الآن مجموعة من المجددين يتحدثون الآن عن اسم التجديد في الإسلام، وأخطر من يتصدى لنا هم هؤلاء المجددون، إنهم يجددون وهم ليسوا من أهل الاجتهاد، ومواصفات المجتهدين في الإسلام لا تنطبق عليهم، وسابقتهم سيئة، لأن معظمهم كانوا من الشيوعيين أو من الليبراليين العلمانيين، ونحن لا نحجب باب التوبة عن أحد؛ لكن ذلك الفاسق أو الضال أو المنحرف أو المرتد عندما قال: إنه تاب أو رجع، نقول: حياك الله، وخذ باب الاجتهاد واجتهد وتقبل الله توبتك، وهذا بينك وبين ربك، أما أن تبدأ لنا بلوثاتك العقلية وتقول بأنك مجتهد، فلا.
لا مجال للاجتهاد ممن يسمون: (المفكرين الإسلاميين الكبار) إذا مرت عليك هذه العبارة فضع يدك على قلبك وانتبه، إذا قيل لك المفكر الإسلامي الكبير، أو المجتهد الإسلامي الكبير، أو المجتهد الإسلامي المستنير، فانتبه! فإن أكثر من يحمل هذا اللقب أو تطبل له الصحافة وتعطيه هذا اللقب ممن يجتهدون في المبادئ، ويجتهدون في النصوص، وقطعيات الإسلام لا اجتهاد فيها.
من اجتهاداتهم: أن الربا ليس بحرام، وأنه لا تفريق بين الناس على أصل الدين، أعوذ بالله! والله ما سمعت حتى الكافر يقول هذا، الكافر يعرف أنه كافر، فيأتي مجتهد فيقول: إنه مفكر إسلامي وأن التفريق بين الناس على أساس أنه آمن بمحمد أو لم يؤمن به بدعة، ومن المفكرين المجتهدين من يقول بهذا، لكن نحن في حاجة إلى مجتهدين، ليجتهدوا في شيئين:
الاجتهاد الأول: أن يعيدوا الناس إلى أصول الدين؛ هذا مطلب.
المطلب الآخر: في أن يجتهدوا في تسخير الوسائل الجديدة الحديثة لخدمة أصول الدين، نحن نريد مجتهدين في هذا النطاق، يجتهدون في عودة عقول البشر، عودة عقول المسلمين إلى أنه لا مجال إلا في الأصولية، لا نجاح إلا في الأصولية، تلك الكلمة المفترى عليها، لا نجاح إلا بتمسكنا بأصول الدين، وأدعوكم لقراءة ما كتبه سماحة الشيخ ابن باز في جريدة عكاظ وهو مكتوب من خلال وكالات الأنباء السعودية، وهي كلمة جديرة بأن تقرأ وأن تكتب بماء الذهب.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(135/23)
لقاء مفتوح في الرياض
في هذا اللقاء مواضيع عدة من هنا وهناك، وهي: واجبك نحو المنكرات.
كيف تخشع؟
الخطيب المؤثر.
الطريق إلى إزالة الحواجز النفسية.
وصية للشاب المسلم.
هكذا رأيت أمريكا وأهلها!
قصائد في مدح العلماء.
التكني، وهل يجوز التكني بكنية النبي صلى الله عليه وسلم.
أمراض القلوب وعلاجها.
وسائل حفظ العلم.(136/1)
كيف تصبح خطيباً مؤثراً
السؤال
فضيلة الشيخ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا شاب أحب أن يكون لي دورٌ في المجتمع بالخطابة، ولكني أجد في نفسي العجز عن ذلك، فكيف العمل حتى أصل إلى هذا الهدف الطيب؟ وجزاك الله خيراً.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أولاً: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
يا رياض الخير قد جئت وفي جعبتي أبها للقياك تسامى
حلفت لا تشرب الماء ولا تأكل الزاد ولا تلقى مناما
أو ترى الأحباب في نجد فإن لم تجدهم صار ممساها حراما
فسلام الله أهديه لكم يا رجال النبل في نجد الخزامى
أنا قد أحببتكم في الله ما كان قلبي في سواه مستهاما
أما هذا السؤال، وهو أن الأخ يسأل: كيف يكون خطيباً مصقعاً، حذقاً، موجهاً في الأمة؟
الخطابة هي قبل كل شيء موهبة من الله عز وجل، ولكنها تتعلم، وهناك وسائل تحسين، وتدريب، ورياضة، حتى يصل الإنسان إلى مبتغاه، والمقصد أن المسلم ينبغي أن يقصد بعمله وجه الله عز وجل، والله تبارك وتعالى يوزع على الناس المواهب والتخصصات، فكل واحد له تخصص، بعضهم كاتب، والآخر خطيب، والثالث شاعر، والرابع مفتي.
فالمقصود أن تخدم الإسلام بالدعوة أينما كانت الدعوة، فالصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا كلهم علماء، ولا مفتين، ولا خطباء، وإنما كان فيهم الخطيب كـ ثابت بن قيس بن شماس الذي استخدم خطابته في نصرة لا إله إلا الله، وفي الدعوة إلى لا إله إلا الله، ومنهم من ليس بخطيب ولكنه مقاتل كـ خالد بن الوليد سيف الله المسلول، فاستخدم سيفه في نصرة الإسلام، ومنهم الشاعر كـ حسان فقد أخذ القوافي يرسلها كالصواعق على رءوس الملاحدة والزنادقة والفجار.
إذاً: فعليك أن تعرف تخصصك الذي يمكن أن تخدم الإسلام به، فإن الله عز وجل سوف يسألك عما وهبك من الكتابة، أو من الخطابة أو من العلم، فأخلص مقصدك لوجه الله عز وجل.
أما الخطابة فتعتمد على الأمور الآتية:
أولاً: على الجرأة، ولذلك يقول ابن قتيبة في عيون الأخبار: "الخطابة عند العرب تبنى على الجرأة، وهي أن تكون جريء القلب ثابت الجنان شجاعاً؛ لأن مقابلة الصفوف ليست بسهلة، ومقابلة الناس أمر صعب، فهذا يأتي بالدربة فعليك أن تدرب نفسك على الخطابة، وعلى الإلقاء، وعلى الدعوة إلى الله عز وجل، وأن تخرج إلى القرى، وإلى الضواحي، فتدعو الناس هناك، فسوف يرزقك الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، القبول وسوف يهدي على يديك، وسوف يكون لك باع في الخطابة.
ويؤثر أن عبد الملك بن مروان ذكر عنه في تراجمه أنه سئل عن سبب شيبه فقال: صعود المنابر وخوف اللحن.
وذكر ابن الجوزي في كتاب الحمقى والمغفلين "أن أحد الخطباء استقل المنبر ليتكلم، فأراد أن يقول: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، فقال: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أشهر، فرد عليه الناس، فقال: والله لقد تقاللت ستة أشهر وأردت أن أقول ست سنوات"فأولها الجرأة.
ثانياً: التحضير، وفي صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما ذهب إلى سقيفة بني ساعدة، قال: [[فزورت كلاماً في صدري]] أي: هيأه ليتكلم به عند الأنصار في سقيفة بني ساعدة.
فعلى الخطيب إذا أراد أن يتكلم أن يحضر العناصر في ذهنه أو الموضوع، ويحفظ الآيات والأحاديث، ولا يرتجل من غير تحضير، فيأتي بكلمة من البر وكلمة من البحر.
ثالثاً: بل هو أن يخلص، وأن يدعو الله، ويسأل الله القبول والصدق، فإنه الذي يفتح سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ولذلك ذكر عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أنه كان إذا أراد أن يتحدث قال: "اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أصول، وبك أقاتل، وبك أحاول، وكان يكثر من الاستغفار كثيراً ليفتح الله عليه.
رابعاً: على الخطيب أن يستقرئ أحوال الناس، فيعرف المقام الذي يتكلم فيه، فلا يخاطب أناساً في موضوع ليسوا بحاجة إليه، كأن يذهب إلى أهل البادية الذين لا يعرفون التوحيد، وهم واقعون في الشرك، فيتكلم في البنوك الربوية، وليس عند أهل البادية بنوكٌ ربوية ولا هم يحزنون، أو يأتي إلى مجتمعات في الضلال مرتكسة، فيتحدث لهم في جزئيات.
إنسان لم يسلم، ولم يعرف لا إله إلا الله ولا أنواع التوحيد، فيتحدث له عن إسبال الإزار وعن تحريم حلق اللحى.
خامساً: أن يراعي الموقف، فيعطي الناس ما يشتهون، فإن كان في خطبة جمعة فعليه أن يقصر ويوجز، وأن يطرق الموضوعات المهمة، وإن كان في درس فعليه أن يطيل وأن يتوسع بقدر الحاجة.
ثم مسألة الصوت، ومسألة النبرات، ومسألة النغمات هذه أمور أخرى.
ومن أحسن من كتب في الخطابة، كتاب الخطابة مفهومها ودلالتها للشيخ محمد أبي زهرة، وهو من أحسن الكتب في ذلك لولا بعض الملاحظات عليه.(136/2)
الخشوع من القرآن
السؤال
فضيلة الشيخ! نقرأ من حياة الصحابة والتابعين أنهم كانوا يخشعون عند سماع القرآن، ويبكون عند تلاوته، ولكني لا أستطيع ذلك، فما السبب الذي يجعلهم يخشعون ويجعلنا أقل خشوعاً؟ وما هو الطريق إلى التأثر عند سماع أو تلاوة القرآن الكريم؟
الجواب
الخشوع عند قراءة القرآن والتأثر والبكاء قد مدح الله به المؤمنين، وله أسباب، وكلما عظم إيمان العبد كان أكثر خشية الله عز وجل، ولذلك ذكر الله العلماء ووصفهم بوصف، فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فمن لم يخش الله عز وجل فليس بعالم، ولو حفظ النصوص واستحضر الأدلة؛ لأن المسألة مسألة خشية، ولذلك قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: "ما فاقهم -يقصد الصحابة- أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكن بإيمان وقر في قلبه".
وعن الحسن البصري أنه قال: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.
حتى تقول عائشة كما في الصحيحين {إن أبا بكر رجل أسيف} أي: كثير البكاء، وكثير الحزن، وكذلك كان عمر رضي الله عنه وكان إذا قام في صلاة الفجر قرأ سورة يوسف فما يبلغ قوله: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] إلا وينهدُّ باكياً، وينهد المسجد معه من البكاء.
وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد، أن أبا بكر دخل مزرعة رجل من الأنصار؛ فرأى طائراً يطير من شجرة إلى شجرة، فبكى وقال: [[طوبى لك أيها الطائر! ترد الماء وترعى الشجر، ثم تموت لا حساب ولا عقاب، يا ليتني كنت طائراً]] وهذا من خوفه لله عز وجل.
أما الأمور التي يحصل بها الخشية -إن شاء الله- فهي:
أولاً: الصدق والإخلاص، أن تصدق في نيتك وفي إخلاصك في تلاوة كتاب ربك تبارك وتعالى، فلا تقصد به الناس، ولا ثناءهم ولا مدحهم.
ثانياً: أن تتدبر ما تقرأ، وأن تقف مع عجائب القرآن، ومع غرائبه، وأن تستحضر أن الذي يتكلم به هو رب العالمين حقيقة سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وأنزله على قلب الرسول عليه الصلاة والسلام.
ثالثاً: أن تحزن صوتك بالقراءة؛ تحزن صوتك وتنغم صوتك، علك أن تحزن وأن تخشع.
رابعاً: وقد سئل فيه الإمام أحمد، وهو أن تختار لنفسك وقت الراحة، فالشبع الكثير لا يناسب الرقة في القراءة، أو التعب الكثير أو النعاس، وقد ورد فيها آثار، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال عمن قام يصلي وهو ينعس: {فليرقد، لعله أن يستغفر فيسب نفسه} فمن باب أولى قراءة القرآن، فتختار الوقت المناسب لقراءته.
خامساً: أن تستشعر قلة المقام بهذه الدار، وأنه كتاب الرحيل، وأنه زاد إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
فإذا تم ذلك، وإلا فادع الله، وراجع فتح الباب من الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، نسأل الله أن يتقبل منا، ومنك، ومن كل مسلم.(136/3)
واجبك نحو المنكرات في بيتك
السؤال
فضيلة الشيخ حفظك الله! أنا شاب ممن هداه الله، ولكني أشكو من المنكرات التي في بيتي، فما هو واجبي نحوها؟
الجواب
المنكرات ليست في بيتك فحسب، بل هي في كثير من البيوت، وكثير من المجتمعات، ومن المدن والقرى، ومشكلتنا ليست مشكلة قلة العلم، إنما مشكلتنا الكبرى قلة الدعوة، ودعوة الناس إلى لا إله إلا الله، وتفهيمهم وتعليمهم الناس، وقد سبق في بعض المناسبات القول: بأن هناك في المجتمعات من لا يحسن الفاتحة، وقد اشتغل كثير من الدعاة وطلبة العلم بالرسائل والتحقيق؛ وقد ضاعت الأمة.
فمسألة المنكرات ليست في بيتك فحسب، بل هي منتشرة ويرجع إلى فضل الله عز وجل ورحمته، ونحن نرجوه أن يغير الحال إلى الأحسن، ثم إلى جهود طلبة العلم والدعاة أن ينشروا دين الله عز وجل، وأن ينشروا الدعوة والفهم في الناس.
وأما المنكرات في بيتك فعليك أن تكون ذا أناة وصبر، فإن بعض الشر أهون من بعض، وحمل عدم الفهم بعض الشباب لما رأوا بعض المنكرات إلى عقوق الوالدين، فعق والديه من أجل بعض الأمور السهلة، فكان كما قيل:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى
قد يكون في البيت غناء، لكن لا يحملك على ترك البيت، وعقوق والديك، وقطيعتهما لتغير هذا المنكر، فإن عقوق الوالدين من الكبائر، واستماع الغناء معصية، وعقوق الوالدين أعظم فأنا أدعوك إلى الصبر، وإلى الحكمة في الدعوة، والحكمة أن تلين لوالديك، وأن تدعو لهما في كل صلاة، وأن تدعو لهم بالرفق، علَّ الله أن يهديهما على يديك، فإن لم تستطع فعليك بالصبر على أذاهم أو على ما يأتيك منهم، فإن لم تستطع فإن المعاصي منها ما يقاطع عليها، كترك الصلاة، فعليك أن تقاطع أهلك إذا تركوا الصلاة، أما المعاصي فتناصحهم وتصبر حتى يفتح الله عز وجل قلوبهم لك، والله معك إذا أكثرت من الدعاء وكنت صادقاً مخلصاً وأنبت إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.(136/4)
حكم تارك الصلاة وماذا يفعل المذنب
السؤال
فضيلة الشيخ، السلام عليكم، أنا شاب حائر أحاول أن أغير من وضعي السيء، فأنا أترك الصلاة أحياناً، وأعمل بعض الأعمال السيئة، ولكني لم أستطع، كلما تركت المعصية راودتني نفسي بالرجوع إليها، فما الذي ترشدني إليه حفظك الله؟
الجواب
نسأل الله أن يتوب علينا وعليك، وكفى بترك الصلاة معصية! فإن من ترك صلاة واحدة عامداً متعمداً فقد كفر، وسماحة الشيخ ابن باز يرى أن من ترك الصلاة عامداً حتى انتهى وقتها فقد كفر، فلا يقضيها بعد الوقت؛ لأنه في تلك الفترة قد كفر بالله العظيم، وليس له أن يقضيها؛ بل عليه أن يعود إلى الإسلام، ويعود من جديد، ويتوب إلى الله، ويدخل في الدين.
فتركك لبعض الصلوات أو لصلاة واحدة، معناه الكفر نسأل الله العافية، حتى قال بعض أهل العلم من المحدثين: ليس بصحيح تقسيم تارك الصلاة إلى متهاون وجاحد، بل من ترك الصلاة بلا عذر فقد كفر، فعليك أن تتقي الله، كل شيء إلا ترك الصلاة فإنه الكفر.
يقول عليه الصلاة والسلام: كما في حديث جابر عند مسلم {بين المسلم والكافر ترك الصلاة} وعند أبي داود من حديث بريدة بن الحصيب: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} فنعوذ بالله من التاركين للصلاة، ونسأل الله أن يهدي شباب الإسلام، فإذا اهتديت وواظبت على الصلاة، فسوف يهديك الله سواء السبيل، وأرشدك إلى أن تصلي الخمس في جماعة وتحافظ عليها ظاهراً وباطناً، وتحسن خضوعها وركوعها وخشوعها، فإنك إن فعلت ذلك فسوف تهتدي بإذن الله، ولا تنس الدعاء، أما بقية المعاصي فلم يسلم منها أحد.
لكن أرشدك إلى أن تعزم على التوبة، وإذا وقعت في ذنب فاستغفر وتب، وأن تفعل من الحسنات ما يمحو السيئات، والله معك.(136/5)
وصية للشباب المسلم
السؤال
فضيلة الشيخ، الشباب المسلم يتألم حين يرى الواقع السيء الذي تعيشه الأمة، وقد يئس من عودة العزة والنصر للمسلمين، فما الذي توجهون به الشباب الذين يعيشون مثل هذا التصور؟
الجواب
الحل بأيدي الشباب المسلم، إذا استطاعوا وإذا علموا ذلك، فالحل أن ننطلق بالدعوة، والتوجيه، والتوعية لوجه الله عز وجل، والحل أن نصدق مع الله عز وجل، وأن نبذل مثل ما يبذل غيرنا، أو عشر ما يبذل أعداؤنا، فأنتم ترون بعض الدعوات المغرضة البدعية الشركية كم يبذل دعاتها والقائمون عليها من الجهود، ومن التضحية، ومن الإعلام، ومن المؤلفات، ومن الصحف، والمجلات فما هي مسئوليتنا نحن؟ أم أن ننتظر ونتمسكن ونقول: نفسي نفسي، ونتخشع في بيوتنا فليس هذا بحل، بل نزيد الأمة وهناً إلى وهن، وهزيمة إلى هزيمة، والحق أن ندعو ونوجه بالحكمة وبالتي هي أحسن، ونقود الناس إلى صراط مستقيم.
فلو أن كل شاب اهتدى حاول أن يهدي معه شاباً آخر لهداه الله سواء السبيل: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} لكن تجد كثيراً من الشباب المستقيم ركن وانزوى عن المنابر، فلا يخطب، ويخاف على نفسه من الشهرة والرياء، وهذا مدخل عجيب للشيطان، فالشيطان يأتيه من هذا المدخل ليعطله عن الدعوة إلى الله، ويأتي الشباب المتعلم الذي عنده خير كثير من العلم، فيقول: لا تجلس إلى الناس، حتى تتمكن في العلم، ويرسخ قدمك فيظل لا يدعو حتى يموت.
ويأتي للآخر الكاتب فيقول: لا تكتب، فإن الكتابة شهرة، ومن هذا القبيل فضربنا الشيطان وشتتنا، مع أن الحل بأيدينا إذا صدقنا مع الله وعز وجل، والناس الآن يعيشون في صحوة والحمد لله، وكم في هذه الصحوة من طالب علم، وخطيب، ولبق، وكاتب مبدع، وإذا استطاع أن يوجه قدراته لخدمة الإسلام فسوف ينصر الله هذا الدين لا محالة.(136/6)
الطريق إلى إزالة الحواجز النفسية
السؤال
أنا شاب محب للخير، ولكني أجد في نفسي حواجز عن مجالسة الصالحين، وأحياناً أترك مجالس الطيبين خشية أن يستهزئ بي الناس، فبماذا تنصحني؟
الجواب
هذا الأخ يشكو من الخجل، أو من الحواجز التي بينه وبين الناس، أو العقدة النفسية، وحل هذا أنَّ عليه أن يجالس من زملائه وأقرانه الذين يجرئونه على مجالسة الناس، فإنه ليس واجباً على المسلم أن يجالس الناس، فقد يكون الأصلح لقلبه أن يعتزلهم لبعض الأمور، أما أن تكون لك جبلة حتى يحرمك هذا الخجل عن الفائدة والاستفادة، وتوجيه الناس وتعليمهم فهذا ليس بصحيح.
قال مجاهد كما في صحيح البخاري: [[لا ينال العلم مستحي ولا مستكبر]] فأرشدك إلى تقوى الله عز وجل، وأن تكون جريئاً في مواقف الحق، وأن تبدي ما عندك، فإنك على صراط مستقيم، وأنت لا تخجل، لأنه لا يخجل إلا غيرك، لا يخجل إلا من ضيع شبابه في الغناء والترهات وضياع الساعات، وارتكاب النزوات والشهوات، والمعاصي والمخالفات لا يخجل من أنار الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى قلبه بالقرآن، ولا يخجل من يصلي لله كل يوم خمس صلوات، ولا يخجل من يتوضأ كل يوم خمس مرات لا والله.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
فأنت في مقام الفخر والعزة بالإسلام، فلا تخجل ولا تتأخر، وإنما درِّب نفسك على الجلوس مع الناس، وعلى الأخذ والعطاء رويداً رويداً، وسوف تنحل هذه العقدة بإذن الله.(136/7)
هكذا رأيت أمريكا وأهلها
السؤال
فضيلة الشيخ! في ذهابك إلى أمريكا، ما هي تصوراتك للإسلام فيها؟ ويقال: إن الشعب الأمريكي يتوفر لديه الصدق، والأمانة، وغيرها مما لا تحضرني الآن، فهل يمكن أن تعطينا نبذة قصيرة عن ذلك؟
الجواب
الذهاب إلى أمريكا لا ينصح ولا يوصى به، لكن قد يضطر الإنسان إلى أن يسافر، إما لدعوة أو لعلاج لم يجد له بديلاً في بلاد المسلمين أو لدراسة ينفع بها الإسلام والمسلمين لهذه الأمور، ومن ضمن ما كَتبَ الله عز وجل السفر إلى أمريكا حضوري لمؤتمر الشباب العربي المسلم العاشر، في أوكلاهوما شمال أمريكا، وهذا المؤتمر حضره أكثر من أربعة آلاف شاب مسلم، وحضره ما يقارب خمسين داعية وعالماً ومفكراً.
وأقول:
إن الأخ حين يقول: إن الشعب الأمريكي شعب صادق وأمين، فهو إما واهم، وإما ناقل خطأً، فقد أخطأ كل الخطأ، بل إن شعب الكذب هو الشعب الأمريكي، وهو شعب الخيانة والعمالة، والضلالة.
والجهالة، وقلة الحياء والمروءة، ومن لم يصدق فلينظر إليهم، فهم يعبدون الدينار من دون الله، ولا تجد أبخل منهم في شعوب الأرض، وهم أمة قطع الله الأواصر والوشائج بينهم، يقف الإنسان صاحب السيارة وهو في الثلج من العشاء إلى الظهر في اليوم الثاني لا يجد من ينجده، لأنه تعطلت به سيارته، فيقف، فلا يقف له أحد خوفاً منه، وخوفاً من البوليس، وخوفاً من المتابعة، وإذا انتهى الإنسان من لا إله إلا الله فما عليه إن أصبحت أفعاله كلها ذنوباً وخطايا.
ولذلك قلت:
ورأيت أمريكا التي نسجوا لها أغلى وسام
قد زادني مرأى الضلا ل هوىً إلى البيت الحرام
وتطاولت تلك السنون فصار يومي مثل عام
ما أرضهم أرض رأيت ولا غمامهم غمام
وعجبت للإنسان مبتور الإرادة والمصير
يسعى بلا هدف ولا خير ولا هدي منير
مركوزة قدماه في ظل المرارة والسعير
زيف من الهالات في قسماته شعبهم الحقير
إذاً: فاخلع من ذهنك أنهم أوفياء، أو أمناء وصادقون نعم.
هم صادقون وأمناء إذا علموا أنهم سوف يكسبون منك منفعة أو مصلحة، لكن إذا علموا أنه ليس عندك منفعة لهم ولا مصلحة، فلماذا يتقربون منك؟ حتى يحصل الواحد منهم على ثلاثين حسنة عند الله أو أربعين! هو لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا بالجنة ولا بالنار، فهو شعب يعبد الدرهم والدينار، وشعب متمرد على الله، وهو الذي أدخل الشهوات في أذهان المسلمين، ومكر بالأديان في الأرض، ولذلك:
فواحش قد أظلمت منها السما والأرض منها أوشكت أن تقصما
يقدسون الكلب والخنزيرا ويبصرون غيرهم حقيرا
ما عرفوا الله بطرف ساعة ولا أعدوا لقيام الساعة
فهم قطيع كشويهات الغنم لهو ولغو وضياع ونغم(136/8)
قصائد متفرقة في المدح
السؤال
فضيلة الشيخ، إني أحبك في الله حباً لا يعلمه إلا الله، وبما أن هذا الوقت لقاء مفتوح فأسمعنا من شعرك ما تنعش به النفوس، وجزاك الله خيراً.
الجواب
أحبك الله الذي أحببتني فيه، وحشرنا وإياك والسامعين في روضة من رياض الجنة أما الشعر فهناك قصائد والذي وصل الآن أربع طلبات: وكلها والحمد لله في المشايخ، كأننا متخصصون في مدح المشايخ، ونسأل الله عز وجل أن يجعل هذا في ميزان الحسنات، وألا يجعل فيه رياءً ولا سمعة، وليسوا في حاجة إلى مدحي، لكن من باب أن يفهم الناس أنا نقدر العلماء وأهل العلم والفضل.
فعندنا الآن أربع قصائد في الشيخ ابن باز وابن عثيمين، وسياف وعن شهر رمضان، ونبدأ بالشيخ عبد العزيز بن باز وقد مر في مناسبات أن بعض الإخوة أخبرني أنه سوف يؤلف كتاباً يجمع فيه القصائد اسمه الممتاز في مدائح الشيخ عبد العزيز بن باز، قلت: حبذا لو أسميته نسيم الحجاز في الثناء على الشيخ عبد العزيز بن باز، وكلها سواء لكن بعضها يمتاز عن بعض، ولا بد من النسيم، حتى يكون هناك ثناء عاطر.
وأنا أستحسن قصيدة تقي الدين الهلالي؛ لأنها جميلة، وهو محدث كبير رحمه الله وأظنه هو قد وفد على الشيخ، وكان في الجامعة الإسلامية، وقال قصيدة تقارب ستين بيتاً، يقول فيها:
خليلي عوجا بي لنغتنم الأجرا على آل باز إنهم بالثنا أحرى
وزهدك في الدنيا لو ان ابن أدهم رآه رأى فيه المشقة والعسرا
إلى آخر القصيدة.
ويقول: المجذوب:
روى عنك أهل الفضل كل فضيلة فقلنا حديث الحب ضرب من الوهم
فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سمعنا به في العلم والأدب الجم
فلما أر بازاً قط من قبل شيخنا يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي
وقصيدتي البازية قلت فيها:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً! لك الله! قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي
يا دمع، حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل السافي
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافي
مجالس اللغو ذكراهم وروضتهم أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي
وأنت جالست أهل العلم فانتظمت لك المعالي ولم تولع بإرجافَ
بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الطل في إشراقه الضافي
تشفي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم دراً غير أصداف
إلى آخر القصيدة.
ومنها:
أراك كالضوء تجري في محاجرنا فلا تراك عيون الأغلف الجافي
كالشدو تملك أشواقي وتأسرها بنغمة الوحي من طه ومن قاف
يكفي محياك أن القلب يعمره من حبكم والدي أضعاف أضعاف
أما الشيخ ابن عثيمين فقد زرناه قبل عشرة أيام في عنيزة في بيته، وجاءنا قبل ثلاثة أيام إلى أبها، يداً بيد، مثلاً بمثل، سواءٌ بسواء، زارنا ليفيدنا، وزرناه لنستفيد منه، المقصد أن البحر هذا الذي مدحت عليه الشيخ وأثنيت عليه هو بحر مسبوق، يقول علي رضي الله عنه على هذا البحر والقافية:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الموت نبنيها
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها
فقلت على هذا المنوال في الثناء على الشيخ:
دنياك تزهو ولا تدري بما فيها إياك إياك لا تأمن عواديها
تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم ويدرك الموت أجيالاً فيفنيها
عارية المال قد ردت لصاحبها وأكنف البيت قد عادت لبانيها
والأينق العشر قد هضت أجنتها وثلة الورق قد ضجت بواكيها
يا رب نفسي كبت مما ألم بها فزكها يا كريم أنت هاديها
هامت إليك فلما أجهدت تعباً رنت إليك فحنت قبل حاديها
إن لم تجرني برشد منك في سفري فسوف أبقى ضليلاً في الفلا تيها
قل للرياح إذا هبت غواديها حي القصيم وعانق كل من فيها
واكتب على أرضهم بالدمع ملحمة من المحبة لا تنسى لياليها
أرضٌ بها العلم أو حاذق فطن يروي بكأس من العلياء أهليها
عقيدة رضعوها في فتوتهم صحت أسانديها والحق يرويها
ما شابها رأي سقراط وشيعته وما استقر ابن سينا في بواديها
ولـ ابن تيمية في أرضهم علم من الهداية يجري في روابيها
إذا بريدة بالأخيار قد فخرت يكفي عنيزة فخراً شيخ ناديها
محمد الصالح المحمود طائره البارع الفهم والدنيا يجافيها
له التحية في شعري أرتلها بمثل ما يرفع الأشواق مهديها
إلى آخر القصيدة.
وهذه قصيدة اسمها المدوية، أو الإسعاف في إتحاف سياف:
سياف في ناظريك النصر يبتسم وفي محياك نور الحق مرتسم
وفيك ثورة الإسلام مقدسة بها جراح بني الإسلام تلتئم
حطمت بالدم أصناماً محجلة وصافحت كفك العلياء وهي دم
ثأرت لله والدين الحنيف فلم يقم لثأرك طاغوت ولا صنم
على جبينك من سعد توقده وخالد في رؤى عينيك يقتحم
حلق إذا شئت فالأرواح طائرة فعن يمينك من عاهدت كلهم
وصغ من المهج البيضاء ملحمة يظل يقرؤها التاريخ والأمم
موتاً على صهوات البيد يعشقها أهل البسالة في عليائهم شمم
يا موت من تسهر اللذات فتنته حياته في الورى سيان والعدم
سياف خذ من فؤادي كل قافية تجري إليك على شوق وتستلم
قد صغتها أنت إسلاماً ومكرمة وفي سواك القوافي أشهرٌ حرم
كادت معاليك أن ترويك معجزة لكن تواضعك الأسمى لها كتم
كأن ما أنت كررت الألى ذهبوا هذا صلاح ومحمود ومعتصم
ورمضان له أربعة أبيات:
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيباً زارنا في كل عام
قد لقيناك بحب مفعم كل حب في سوى المولى حرام
فاغفر اللهم ربي ذنبنا ثم زدنا من عطاياك الجسام
لا تعاقبنا فقد عاقبنا قلق أسهرنا جنح الظلام(136/9)
التكني لمن ليس له ولد
السؤال
ما حكم الكنية بأسماء الصحابة مثل: أبي حمزة، وأبي عمر، وليس له ولد بهذا الاسم، إنما يتكنى بها المتكني تفاؤلاً؟
الجواب
الكنية بأسماء الصحابة من أشرف الكنى، والتكني وليس لك ولدٌ جائز في الشريعة الإسلامية، ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه، قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {يا أبا عمير! ما فعل النغير} وأبو عمير أخو أنس طفل صغير كان يلعب بطير معه، فمات الطائر بعد فترة، فكانت مصيبة عند هذا الطفل الصغير؛ لأن الأحداث في أذهان الصغار أحداث عالمية، كأنها الحرب العالمية الثالثة، فأراد صلى الله عليه وسلم من باب الدعوة والدخول إلى قلوب الأطفال؛ لأنه يسبي القلوب ويشتريها.
محاسنه هيولي كل حسن ومغناطيس أفئدة القلوب
ولذلك يقول الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فأراد أن يقف نفس مشكلة الحزن التي يعيشها هذا الطفل الصغير، ليربيه على لا إله إلا الله، وليس المقصود الطائر، فبعد الطائر عشرة طيور، فدخل عليه الصلاة والسلام وقال: {يا أبا عمير، ما فعل النغير} وهو قد كناه وليس له ولد، فلك أن تتكنى.
وهنا فائدة: بعض الزنادقة -والعياذ بالله- يقولون: المحدثون فقط يروون أحاديث وليس لها معنى، ليس فيها فائدة، مثل: {أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها} {ويا أبا عمير، ما فعل النغير} فما هي الفائدة من هذا؟ قال ابن حجر ذكر عن الإمام ابن القاص أو غيره، أنه استخرج من هذا الحديث ستين فائدة، وذكر منها:
اللعب بالطائر، وتكنية من لا كنية له، وزيارة الأحباب والأقارب ولو كانوا أطفالاً، والمزاح معهم، والسجع بلا تكلف إلى غير تلك الفوائد.
فلك أن تتكنى، والعرب تستشرف الكنية، ولذلك يقول شاعرهم:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب
كذاك أدبت حتى صار من أدبي إني وجدت ملاك الشيمة الأدب
ومن أحسن ما يزرع لك الود في صدر أخيك أن تقول: يا أبا فلان! يا أبا طلحة! يا أبا حمزة! كما فعل صلى الله عليه وسلم صيف ربى الجيل المتجه إلى الله، ويقول: يا أبا بكر، يا أبا حفص، يا أبا الحسن، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.(136/10)
حكم مشابهة الرسول صلى الله عليه وسلم في اسمه وكنيته
السؤال
إذا تسمى المسلم باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكنى بكنيته، فما هو الحكم؟
الجواب
وهناك يقول صلى الله عليه وسلم: {تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي} حديث عارضه يقول: {من أباح اسمي ومن حرم كنيتي} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وأهل العلم على ثلاثة مشارب في هذا:
منهم من منع التسمي والتكني مطلقاً، ومنهم من أجازهما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال بجواز أحدهما إما الكنية أو الاسم.
والصحيح أنه لا بأس بها إن شاء الله بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فإن الذي يعرف من قرائن النهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يمشي حول مقبرة بقيع الغرقد، فنادى رجل: يا أبا القاسم، فالتفت صلى الله عليه وسلم، فقال: أريد فلاناً ولا أريدك يا رسول الله، فقال: {تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي}.
فلما مات عليه الصلاة والسلام، فلنا في الظاهر أن نتسمى باسمه ونتكنى بكنيته، ووجد هذا في علماء الأمة، فـ محمد بن أبي بكر الصديق كنيته أبو القاسم والقاسم بن محمد ومحمد بن القاسم، هؤلاء من ذرية محمد بن أبي بكر وغيرهم كثير من علماء ومجاهدي الإسلام.(136/11)
حكم التباكي في الصلاة
السؤال
هل التباكي خلال الصلاة من النفاق؟ أرجو أن توضح لنا ذلك.
الجواب
الله أعلم بنيتك وقد قال صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات} والله هو الذي يطلع على الضمائر والقلوب؛ فإن القلوب مكان نظر الرب تبارك وتعالى، فالله أعلم، فإن تباكيت خشية لله عز وجل، أو خشعت في صلاتك فلك ذلك، لكن بشرط ألا تخرج بعض الحروف، أو لا تشوش على الناس، أو لا تقطع قراءتك إلا من بكاء لا بد منه.
أما التباكي خارج الصلاة فوارد لك إذا قرأت القرآن ولم تبكِ أن تتباكى، لكن لا تقصد بالبكاء غير وجه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
أثر عن الحسن البصري أن رجلاً بكى في مجلسه، فقال الحسن: والله ليسألنك الله يوم القيامة عن هذا البكاء أقصدت به وجهه أم لا، فالله الله في قصد الله بالعمل، وأكثر ما يدخل الرياء، والنفاق، ومصانعة الناس من طريق البكاء، فإن بعض الناس قد يبكي ليظهر للناس أنه خاشع، وقلبه ليس بخاشع، فلا تبك إلا إذا غلبك البكاء، وإذا كنت وحدك فحاول أن تتباكى أو تبكي للحديث: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} خالياً؛ لأنه أصدق وأخلص.(136/12)
التخلص من جليس السوء
السؤال
إذا أتى أحدٌ من جلساء السوء يريد أن يجالسني ويسبب لي المشاكل، فماذا أفعل؟ هل ابتعد عنه؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً!
الجواب
أنت أدرى بظرفك، فإذا جاءك جليس وكان من المناسب أن تدعوه إلى الله عز وجل فلا تذهب، وعليك باللين والمصابرة علَّ الله عز وجل أن يهديه على يديك، فلا تظن أن الله طبع على قلوب الناس فلا يهتدون، فإن الله هدى أهل الضلالة وكثيراً من المشركين، وقد عبدوا الأصنام، وزنوا، وبغوا في الأرض، وأفسدوا فيها كل الفساد، فلا تظن أن الله طبع على قلوب الناس، لكن تجلس وتحاول أن تؤثر فيه.
أما إذا حاولت معه، ويئست منه، فعليك أن تنصرف عنه، لكن لا تقابله بالجفاء فإذا جلس قمت مباشرة، أو إذا صافحك سحبت يدك، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن معاملته مع الناس هكذا، قال تعالى عنه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] والله يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فقد صافح الكفار، وصافح اليهود وصافح المنافقين ودعاهم.
فاللين مطلوب، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] فعليك أن تحسن من خلقك بالبسمة وباللين، لكن الموادة شيئ آخر، لا فلا تواده ولا تحبه ولا تصانعه ولا تجامله ولا تزره، لكن إذا بليت به، فكن كأنك لم تسمع وهو لم يقل! حتى يفرج الله عنك وييسر الحال.(136/13)
حكم الصور
السؤال
ما حكم من يحتفظ ببعض الصور للذكرى؟
الجواب
الصور كثر الكلام فيها، وكثرت المؤلفات والفتيا، فالصور لا تجوز إلا للضرورة ضرورة ملحة يحتاجها المسلم في حياته، أما صور الذكرى والتعظيم فهي محرمة، وهذا أحسن ما قيل، وهو الذي يظهر لي والله أعلم.(136/14)
حكم الوسوسة في الصلاة
السؤال
الذي يفكر ويسرح في الصلاة، ماذا يفعل، هل يسجد سجود سهو أم ماذا؟
الجواب
الذي يسرح عليه أن يتقي الله عز وجل قبل أن يبدأ، لأن الهيام أو الشرود أو السرحان في الصلاة على أنواع، منها:
ألا تشعر هل قرأت الفاتحة أم لا، وهذا هو عند كثير من أهل العلم يبطل الصلاة، أي: أنك لا تعرف هل قرأت الفاتحة، ولا تعرف ماذا قلت، وأما أن يشرد قلبك خطرات فهذا لا يسلم منه أحد، ولا يمكن أن يتخلص من هذا الوارد؛ لأن الشيطان بعد أن تقام الصلاة يأتي ليوسوس ويقول للعبد: اذكر كذا، اذكر كذا.
أما متى تسجد سجود السهو؟ فإذا تركت ركناً أو واجباً من واجبات الصلاة، فعليك أن تتقي الله وتسجد، أما أن تسجد كلما شردت؛ لأنه لم يقم على ذلك دليل، والناس يبتلون بهذا، ولو كان فيه أثر لعُلِمَ ولنُقِلَ؛ لأنهم يبتلون دائماً بالشرود والخطرات والواردات، ولا أعلم أن هناك سجوداً لذلك.(136/15)
كيف تقنع مدخناً؟
السؤال
كيف يكون النصح والإرشاد للإنسان الذي يشرب الدخان؛ لأن لدي أقارب يشربون الدخان، وأحب أن أكون ناصحاً لهم؟
الجواب
يكون النصح بالوسائل التي يهديك الله إليها، منها: أن تلين في التوجيه والتعليم، وأن تعطي المسألة حقها من الاهتمام ومن التوجيه، فإن بعض الناس إذا جاء يدعو شارب الدخان أقام الدنيا وأقعدها على شارب الدخان، وقال: ويل لك من الله، ومن عذاب الله، ومن غضبه ولعنته، وصاح عليه حتى كأنه كفر بالله العظيم، لكن لا بد أن تأخذ كل معصية من المعاصي قدرها، وهذا وهو منهج القرآن، القرآن ذكر الشرك فذمه وعظمه، وأكثر القول فيه، وذكر بعض الذنوب فأعطاها مساحتها وحقها كالغيبة والنميمة، وشهادة الزور.
فأنت عليك أن تقوم بدفع هذا المنكر، وتعرف أنه حرام، لكن تعرف أنك تتخاطب مع مسلم يقيم الصلاة، ويخاف من الله عز وجل، فتخاطبه بأن هذا حرام، ويكون الخطاب بالوسائل العلمية، وبالكتب التي ألفت، في ذم الدخان وتحريمه تهديها له، أو تكتب له رسالة إذا رأيت ذلك، أو تتصل به، أو تجلس معه، فتبين له أضرار الدخان الصحية والمالية والنفسية والدينية حتى تقنعه إقناعاً، أما الغضب فلا يقنع أحداً.
وربما أحرجته بالغضب وبالتهديد، فجاملك يوماً من الأيام، لكنه لم يقتنع، والدعوة تبنى على الاقتناع.(136/16)
وسائل حفظ العلم
السؤال
يقول السائل: فضيلة الشيخ، ما أسهلُ طريقة لحفظ العلم؟ جزاكم الله خيراً!
الجواب
حفظ العلم أوله حفظ القرآن، ووسائل حفظ القرآن تكمن فيما يأتي:
أولها: تقوى الله عز وجل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال:29] فإن من اتقى الله فتح عليه، وسهل له أموره، وحفظه ما تعلم.
ثانياً: كثرة الاستغفار والتوبة.
ذكر عن ابن تيمية أنه يقول:" إنها تصعب علي المسألة فأستغفر الله أكثر من ألف مرة -أو أقل- فيفتحها الله علي".
والذنوب سبب للنسيان والذهول والشرود، فعليك أن تكثر من الاستغفار إذا أردت أن تحفظ، وقبل أن تحفظ، وبعد أن تحفظ.
ثالثاً: أن تقلل من المحفوظ، فلا تكثر على نفسك، فإنه من أخذ العلم جملة، ضيعة جملة كما قال: الزهري، فلا يمكن أن تأخذ العلم في يوم أو يومين أو شهر أو أسبوع، بل تأخذه قليلاً قليلاً، وقطرة قطرة، وآية آية، وحديثاً حديثاً، فقلل من المحفوظ، فهو أصل عظيم للحفظ.
رابعاً: أن تكرر ما تحفظ، كأن تأخذ أربع آيات أو خمس فتكررها كثيراً، خمسين مرة إلى مائة مرة، قبل أن تنتقل إلى غيرها من الآيات.
خامساً: أن تقرأ ما حفظت من القرآن في الصلوات وفي النوافل.
سادساً: أن تذاكر بالعلم الذي حفظته، كأحاديث حفظتها، مثل: رياض الصالحين وبلوغ المرام، أن تذاكر مع زملائك وإخوانك وإن كان لك تلاميذ، فاعقد معهم جلسة؛ لأن العلم يحيا بالمذاكرة.
سابعاً: أن تعمل بما علمت، ليحفظك الله عز وجل ما تعلمت.
ثامناً: أن تحقق المسائل، فإنها حفظ للعلم، وتخرج، وتنقح، وتؤلف إذا بلغت درجة التأليف.(136/17)
أمراض القلوب وعلاجها
السؤال
أرجو أن تتحدث عن أمراض القلوب وعلاجها، مع الأدعية إذا أمكن، وادع للجمع الحاضر؟
الجواب
أمراض القلوب على قسمين: أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات.
فأمراض الشبهات في المعتقد والعلم، وأمراض الشهوات في العمل.
وأمراض الشبهات شك وريبة ووسوسة، وقد تصل إلى الزندقة والإلحاد نعوذ بالله من ذلك!
وأما أمراض الشهوات فهي المعاصي كالزنا، والسرقة، والاعتداء على الناس، والبغي في الأرض، والغيبة، وأكل الأموال المحرمة، هذه من الشهوات.
فأما علاج الشبهات:
فالعلم واليقين {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فأوصيك باليقين عند الشبهات، وطلب العلم، قال ابن دقيق العيد: "أصابتني في بدء حياتي وسوسة، فسألت العلماء، فقالوا: عليك بطلب العلم! فطلبت العلم؛ فأذهب الله عني الوسوسة أي: الشبهات فعليك بطلب العلم، والجلوس مع العلماء، وقراءة كتب السلف الصالح من كتب الحديث والتفسير والفقه، ليذهب الله عنك مرض الشبهات.
وأما علاج الشهوات:
فبالصبر، وبكثرة النوافل والدعاء، بعد إحسان الفريضة ظاهراً وباطناً، والتزود بالنوافل وكثرة الدعاء والذكر وتدبر القرآن هذه تذهب إن شاء الله مرض الشهوات.
والدعاء الذي أنصحك في صحيح مسلم عن عائشة أن الرسول عليه الصلاة والسلام، كان يدعو ويقول: {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم} و {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب والأبصار صرف قلبي على طاعتك} وقال عليه الصلاة والسلام: {اللهم اهدني وسددني، اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي} ويقول: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} ودعاء، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
وأسأل الله لي ولكم أن يتقبل منا ومنكم، وأن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت حتى نلقاه إنه على كل شيء قدير.(136/18)
وصايا لمن عنده موهبة في الشعر
السؤال
سائل يقول: إذا أردت أن أكون شاعراً في الإسلام فماذا أفعل؟
الجواب
الشعر لا يأتي بالقوة، إنما الموهبة، فمن كان عنده موهبة فلينمها، ومن لم تكن فليرح نفسه؛ لأن كثيراً من أهل العلم ومن السلف الصالح ومن الصحابة ليسوا شعراء، وإنما بذلوا ما أعطاهم الله عز وجل، ولذلك بعض العلماء يرى أن الشعر يزري بالعلماء وبطلبة العلم، حتى يقول الشافعي:
ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد
فبعضهم يرى أنه خفة، وطيش، وأنه يزري، لكن الصحيح أنه إذا اقتصد فيه، ووجهه إلى الدعوة الإسلامية وخدمة العلم، فهو إن شاء الله فيه خير.
أما إذا أردت أن تكون شاعراً؛ فإن كان عندك موهبة فنمها بالاطلاع، وبكثرة حفظ الشعر، يقولون: عليك أنت تحفظ آلاف الأبيات من الشعر، وخاصة الشعراء الذين أجادوا، كـ المتنبي وأبي تمام وجرير والبحتري، وهؤلاء الطبقة.
الأمر الثاني: أن تقرض الشعر، وأن تقلل من قرضه، أي: قليلاً حتى تعتمد على الكيف لا الكم، لأن بعض الشباب إذا بدءوا في الشعر نظموا كل يوم عشر قصائد، فتأتي مهزوزة، لم يقرأ ولم يطلع في الأدب، وبعد سنوات ينتهي، فالمقصد أن تطالع كتب الأدب كثيراً، ولا يشغلك الشعر عن العلم، لكن يكون له أوقات.
وذكر في الأدب أن شعراء اجتمعوا عند نهر، وكان معهم رجل، فقال: لا بد لكل واحد منا أن يصنع بيتاً في هذا المقام، وكان معهم رجل ليس بشاعر، فألحوا عليه، وكل منهم نظم بيتاً، فلما أتى له بيته قال:
كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء
فبعض شعر الناس من هذا القبيل، حتى ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد أن بعضهم يقول:
الليل ليل والنهار نهار والأرض فيها الماء والأشجار
ظاهر البيت أنه بيت شعر، ليس مكسوراً بل هو موزون، لكن ليس فيه من المعاني ولم يأتِ بجديد، فالشعر يعتمد على أربعة أمور:
أولاً: البحر، وبحور العرب خمسة عشر بحراً، وزاد الأخفش واحداً، فأصبحت ستة عشر بحراً.
ثانياً: القافية، أن يكون على قافية واحدة فلا يأتي بالراء، ثم ينتقل إلى السين، ثم الطاء، ثم الخاء، ثم إلى الجيم هذا لعب.
ثالثاً: الأسلوب، فإن النظم شيء والشعر شيء آخر، ابن مالك يوم يقول:
قال محمد هو ابن مالك أحمد ربي الله خير مالك
ولا يجوز الابتدا بالنكرة مالم تفد كعند زيد نمرة
فهذا نظم وليس بشعر، لكن الشعر مثل قول المتنبي:
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
فهذا الأسلوب لا بد منه.
رابعاً: الخيال، لا بد أن يكون عند الشاعر خيال، يتخيل الأمور، فلا يقول الشمس شمس، ولا المسجد مسجد، ولا المكرفون مكرفون، هذه أمور مسلمة، لكن يأتي بصورة بديعة، مثل قول بشار بن برد:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
أو كقول امرئ القيس:
مكر مفر مقبل مدبر معاً كجلمود صخر حطه السيل من علٍ
إلى غير تلك التشبيهات فهذا الخيال لا بد منه، ولذلك تجد الآن في الساحة شعراً ليس فيه خيال، ولا أسلوب، ولا روي، ولا قافية إنما هو كلام.
وإذا أراد أن يسمى شاعراً أتى بأمور، حتى لو سألته هو عن معانيها لما استطاع أن يجيبك، ويقول: هذه رموز ومصطلحات لا يدركها عامة الناس ومستواه أضعف من مستواك، حتى تقول: بارك الله فيك، فتح الله عليك، أنا لم أعرف هذه القصيدة؛ لأنه يقول:
في وهج الليل سرحت ونمت في جنح الضحى
ثم سقط علي الشاطئ بلمعانه وإذا بريق الشمس فوق حاجبي فماذا أفعل؟
فإذا قلت: بارك الله فيك أفتنا، استنبط لنا من هذه الكنوز ومن هذه البضاعة، قال: أنت مستواك ضعيف، عقلك لم يبلغ إلى هذا الرقي العلمي.
نقول له: جزاه الله خيراً، هذا يبقى هو وبضاعته، وسوف يثبت المتنبي أنه شاعر استمر وأبو تمام وجرير وحسان؛ لأنهم أجادوا وأتوا بالشروط الأربعة.(136/19)
أبيات في أهوال الآخرة
السؤال
يقول السائل: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، إلى الشيخ عائض إني أحبك في الله، هل نظمت شعراً في أهوال الآخرة؟ فإن كان الجواب نعم؛ فأرجو منك أن تسمعنا شيئاً في ذلك؟
الجواب
عندي قصيدة (الدمعة الخرساء) فيها من ذكر أهوال الآخرة:
دنياك تزهو ولا تدري بما فيها إياك إياك لا تأمن عواديها
تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم ويدرك الموت أجيالاً فيفنيها
عارية المال قد ردت لصاحبها وأكنف البيت قد عادت لبانيها
والأينق العشر قد هضت أجنتها وثلة الورق قد ضجت بواكيها
يا رب نفسي كبت مما ألم بها فزكها يا كريم أنت هاديها
إلى آخر القصيدة.
هذا ما يحضرني أني نظمت فيه، لكن من أعظم ما قرأت في أهوال الآخرة، قصيدة لأحد الشعراء المستقيمين العلماء، حضر عند نور الدين محمود زنكي أستاذ صلاح الدين الأيوبي، وهو من العلماء والفضلاء والزهاد، حتى يقال: هو سادس حكام الإسلام عدلاً، كان من أعدل الناس، وكان يصلي الليل إلا قليلاً، وكان يصوم أغلب الأيام، وكان لا يسمع الموعظة إلا بكى، وجاهد في سبيل الله حتى كان في أرجله جروح كثيرة من كثرة ما ركب الخيل.
عمل نور الدين في دمشق مهرجاناًَ حافلاً كبيراً حضره أمراؤه ووزراؤه وقواده وجيشه والناس، فأتى هذا العالم والناس قد اكتظوا في المهرجان، فوقف أمام نور الدين محمود فألقى قصيدة كأنها تتقطع من القلب، يقول لـ نور الدين:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل نور الدين جاء مسلماً فاحذر بأن تأتي ومالك نور
حرمت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور
إلى أن يقول:
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المصر على الذنوب دهور
قصيدة وأبياتها تقارب أربعين بيتاً، فلما ألقاها أغمي على نور الدين محمود، وسقط من كرسيه على الأرض مغشياً عليه حتى رش بالماء, ويقولون: هي أول توبته في الإسلام.
ومن أحسن ما قرأت كذلك في شعر الآخرة، قصيدة للشاعر الكبير محمود بن عثيمين الذي توفى قبل سنوات، وقد رثى علامة من علماء نجد اسمه عبد الله العجيري، وقصيدته محزنة مرثية، يقول فيها:
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلَّ القضا مما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخرب
نشاهد ذا عين اليقين حقيقة عليه مضى كهل وطفل وأشيب
ولكن علا الرانُ القلوبَ كأننا بما قد رأيناه يقيناً نكذب
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب
إلى آخر تلك القصيدة.(136/20)
سعة رحمة الله ومغفرته
السؤال
أنا شاب ابتليت بصحبة سيئة، ووقعت في بعض المحرمات والكبائر، فما هو السبيل للرجوع إلى الله؟ وهل إذا تبت تقبل الله توبتي؟
الجواب
سبحان الله! كيف لا تقبل توبتك وقد قبلت توبة المشركين الذين عبدوا الأصنام والأوثان من دون الله، وزنوا، وسرقوا، وكذبوا، وفجروا، وألحدوا؟! بل أنت من أحب الناس إذا تبت إلى الله عز وجل، وقال قال صلى الله عليه وسلم: {الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم كان على راحلته عليها طعامه وشرابه فضلت منه فوجدها، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح}.
والله ينادي الناس صباح مساء: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] وقوله جل ذكره: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] وعند مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} وعند مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم آخرين يذنبون، فيستغفرون، الله فيغفر لهم}.
وعند مسلم عن معاذ رضي الله عنه في الحديث القدسي: {يا عبادي، إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم}.
وورد عنه صلى الله عليه وسلم عند الترمذي أنه قال: {كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون}.
فنسأل الله أن يتوب علينا وعليك، فإذا تبت وافعل من الاستغفار، وأكثر من الحسنات ما تكفر السيئات، فإن الله يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ويقول: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد:22]
ثم عليك أن تجانب جلساء السوء فلا تجلس معهم، إلا أن ترى أنك سوف تحولهم وتقبل بقلوبهم على الله فلك ذلك.
وللتوبة شروط:
أولاً: أن تعزم على ألا تعود إلى ما كنت تفعل.
ثانياً: أن تندم على ما فعلت من المعاصي.
ثالثاً: أن ترد حقوق الناس إن كان عندك حقوق، كأن تكون أخذت مالاً، أو غصبت ملكاً، أو انتهكت عرضاً، عليك أن ترد هذه الحقوق إلى أهلها إن استطعت، وعليك أن تتصدق به إذا كان مالاً وخفت إن أعدته أن يجلب عليك بعض الأمور التي لا يحمد عقباها، فتصدق به على نية صاحبه وتصله، والله يتولانا وإياك.
والحمد لله رب العالمين.(136/21)
حلاوة الإيمان
هذا شرح حديث من صحيح البخاري رواه أنس بن مالك وبوب له الإمام البخاري بقوله: باب حلاوة الإيمان، وهو حديث عظيم، وأصل من أصول الدين وقاعدة من القواعد الكبرى في الإسلام.
وفيه ثلاث خصال من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، ومدارها على الحب والبغض، حب الله ورسوله وأوليائه، وبغض الكفر وحزبه وأتباعه.(137/1)
ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فمعنا هذه الليلة من صحيح البخاري حديث عظيم، وأصل من أصول هذا الدين، وقاعدة من القواعد الكبرى في الإسلام، نوه به الإمام النووي وغيره من علماء الإسلام.
هذا الحديث، يقول الإمام البخاري مبوباً عليه "باب حلاوة الإيمان" ثم قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، قال: حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار} هذا الحديث العظيم متفق عليه بين الشيخين، ورواه جلة من علماء الإسلام وكثير منهم.
لكن قبل أن نشرع في شرح الحديث، وفي فوائد الحديث وما يستفاد منه، نأخذ هذه الليلة حديثاً، وقد رأيت ورأى بعض الإخوان أن نأخذ في كل أسبوع حديثاً من أحاديث الأعمال نحفظ هذا الحديث؛ ليكون لجلوسنا إن شاء الله مع الفائدة فائدة، ومع المنفعة منفعة، فالجميع يحفظ وكل إنسان يحفظ هذا الحديث على مر الأسبوع ويعمل به؛ لأنه من أحاديث الأعمال وسوف أختار كل أسبوع حديثاً يناسب المقال والمقام والعصر.(137/2)
لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله
الحديث الذي نحفظه هذا الأسبوع ليس في البخاري ولكنه حديث وهو قاعدة ووصية ينفع جميع طبقات الناس، هذا الحديث نصه عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: {أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ فدلني على باب أتشبث به -وفي لفظ: باب جامع أتشبث به- قال صلى الله عليه وسلم: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله}.
هذه وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن بسر، وهذا الحديث رواه الترمذي والإمام أحمد وابن حبان وغيرهم وقال الترمذي: حديث حسن، وهو حسن.
هذا الحديث وصية جامعة من الرسول صلى الله عليه وسلم يقدمه للأمة، وهو جامع لخيري الدنيا والآخرة، فمن فهم هذا الحديث وحفظه وعمل به كفاه عن أبواب كثيرة؛ لأنه الباب الجامع في الإسلام ألا يزال اللسان رطباً من ذكر الله عز وجل، انتهى الحديث ونسأل الله التوفيق لحفظه والعمل به.
وقد تعودنا مع بداية كل درس أن نأخذ شخصية إسلامية رائعة؛ ممن يستن ويقتدى بهم في هذا الدين؛ ليكون من باب التربية والتوجيه والاقتداء والتأسي.(137/3)
لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية
ومعنا الليلة العلم العلامة، والزاهد الفهامة شيخ الإسلام، علم الأعلام، المجاهد الكبير، شيخ الإسلام ابن تيمية، اسمه: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني أو أبو العباس تقي الدين -رحمه الله رحمة واسعة- نأخذ من سيرته بعض اللمحات ثم نبدأ في الحديث.(137/4)
مولد شيخ الإسلام
ولد شيخ الإسلام سنة (661هـ) وجعله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مجدداً لقرون كثيرة ليس لقرن واحد على سبر كثير من أهل العلم، ومن أهل التاريخ وأهل السير، ولذلك يقول المزي صاحب تحفة الأشراف العالم الكبير قال: "ما أتى قبل ابن تيمية بخمسمائة سنة مثله".
ويقول الناس والعقلاء والنبلاء في هذا العصر: ما أتى من بعد ابن تيمية مثل ابن تيمية، فهو من قبل أن يأتي بخمسمائة سنة لم يأتِ مثله، ومن بعد أن أتى أو من بعد أن مات لم يأت مثل ابن تيمية، رحمه الله رحمة واسعة.(137/5)
ابن تيمية في الثامنة من عمره
عاش كما يعيش الشاب المؤمن المعرض عما يشغله عن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، مقبلاً على الله، وكان وعمره ثمان سنوات كما روى عنه أصحاب السير وأرباب التاريخ الذين أرخوا عنه في أكثر من أربعة كتب: كان يسجد وعمره ثمان سنوات في الأسحار ويمرغ وجهه في التراب ويقول: "يا معلم إبراهيم علمني! ويا مفهم سليمان فهمني ".
ويقول: "والله إنه لتنعجم علي المسألة -يعني تصعب المسألة لا أستطيع أن أحلها- قال: فأستغفر الله أكثر من ألف مرة أو أقل أو ألف فيفتحها الله عليّ".
قال: "وربما طالعت في الآية الواحدة في مائة تفسير، فلا أجد تفسيراً يطمئن له قلبي، فأذهب إلى تلك الخرابات -يعني القرى المهجورة في دمشق - فأمرغ وجهي بالتراب فيفتح الله علي بفتح من عنده".
ولذلك تجدون في قسم التفسير من فتاويه أنه يقول: هذه الآية أخطأ فيها كل المفسرين، ثم يأتي بالصحيح، فهذا الرجل العملاق كان يجلس من بعد صلاة الفجر إلى ارتفاع النهار يقرأ الفاتحة ويرددها حتى يقول ابن القيم: إني أراه يهتز في بعض الأوقات -يعني: يهتز جسمه- فأقول له: ما لك؟ قال: إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وهي جنة الأنس بالله والرضا بما عند الله، والانقياد لأمر الله، وجنة الفرح بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
رآه ابن القيم كما قال في كتبه: "رأيت ابن تيمية في المنام بعد أن توفي، قلت: ما فعل الله بك؟ قال: رفعني على بعض الأكابر -أكابر يعني من أهل الدين، رفعني عليهم في الدرجات- رفعني على بعض الأكابر، قلت: وأنا، -يسأل عن نفسه وهو حي- قال: كدت أن تلحق بنا ولكنك في منزلة ابن خزيمة ".
وابن خزيمة إمام الأئمة وكعبة العلماء أبو بكر المحدث الكبير.(137/6)
ابن تيمية يقاتل التتار
يقول ابن القيم رحمه الله: "ورأيت من شجاعته ما لا يوصف ".
حتى أنه شارك وخاض المعركة بنفسه، لما أتى التتار المغول يهاجمون العالم الإسلامي واجتاحوا بغداد ودمروا المساجد والمكتبات، وأتوا ليجربوا حظهم مرة ثانية في دمشق فخرج ابن تيمية مع السيف في رمضان وأخذ كوباً من الماء أمام الناس وقال: هذا يوم يفطر فيه فأفطروا أيها الناس! ثم حمل راية الجهاد وكاد أن يضرب بالسيف، قال الذين معه: كنا نرى أو نسمع شظايا أو كسير السيف من على رءوس الناس من شدة ما يضرب، وقد آتاه الله في الجسم بسطة وقوة، يقول ابن القيم: رأيت من قوته في كلامه وفي مشيه وفي خطابه ما لا يعلمه إلا الله؛ والسبب في ذلك كثرة الذكر والاتصال بالله، وإلا فإن أكله كان من أقل الناس أكلاً وغذاءً حتى كان على شظف العيش.
هذا ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة.
وكان في بعض الأوقات يخرج من مسجد بني أمية في دمشق إلى الصحراء، قال تقي الدين بن شكير -أحد تلاميذه- قال: رأيته خرج مرة من المرات إلى الصحراء فتبعته، قال: فما رآني، قال: فلما اختلى عن الناس وأصبح في فضاء في الصحراء، نظر إلى السماء ثم بكى ودمعت عيناه، وقال:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنكَ النفس بالسر خاليا
وهذا البيت لـ مجنون ليلى، استخدمه مجنون ليلى، في غرض ليس الغرض المطلوب، يقول:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنكِ النفس بالسر خاليا
وإني لأستغشي وما بي غشوةٌ لعل خيالاً منك يلقى خياليا
فيقول ابن تيمية لما خرج، ونقل المحبة من محبة هذه الأشياء التي لا تنفع عند الله بل تضر، إلى محبة الحي القيوم فاطر السماوات والأرض فقال:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنكَ النفس بالسر خاليا(137/7)
ابن تيمية في السجن
هذا هو شيخ الإسلام الذي ابتلي في عرضه، وجسمه وفي سمعته وفي كل ما يمت له بمصلحة، حتى أنه رضي الله عنه قبل أن يتوفى بعشر سنوات أو ما يقاربها، عندما أدخل السجن، أدخلوه لأن الحق معه والباطل مع غيره، لكن أهل الباطل هم الذين أدخلوه السجن، فلما أدخلوه السجن أغلقوا عليه باب السجن، فتبسم والتفت إلى الباب وإلى السجان وقال: "فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب"، ثم أخذ يتبسم إلى الناس الذين في السجن وقال: "ماذا يفعل أعدائي بي!؟ -يعني ماذا يفعلون بي- أنا جنتي وبستاني في صدري، أنى سرت فهي معي، قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة" ثم كان يقول: "المأسور من أسره هواه، والمقطوع من انقطع عن ربه" أو كلام يشبه هذا.
قال ابن القيم: والله لقد كانت تضيق بنا الدنيا بما رحبت وتضيق بنا أنفسنا؛ فنأتي إليه فما هو إلا أن نرى وجهه ونسمع كلامه فيذهب كل ذلك عنا؛ لكثرة اتصاله بالله، ويقول هو عن نفسه: والله لا أترك الذكر إلا لأجم نفسي؛ -أرتاح قليلاً- ثم أعود، وقال له بعض تلاميذه: يا أبا العباس! ما نرى لسانك يفتر من ذكر الله؟
قال: قلبي كالسمكة إذا خرجت من الماء ماتت.
هذا هو ابن تيمية رحمه الله.(137/8)
زهد ابن تيمية
أما زهده فشيء فوق الخيال ولا يدور في البال، أولاً: لعلمكم الرجل لم يتزوج وعدم التزوج ليس هو أفضل بل التزوج أفضل لكن لسرٍ علمه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، عاش عمره كله ما تزوج ولا تسرى أبداً، وما اغتسل من جماع حتى لقي الله عز وجل، هذا ابن تيمية.
أما ليله فمع الله عز وجل من صلاة المغرب إلى صلاة الفجر، كلها صلاة ومناجاة وقراءة قرآنٍ وتسبيحٍ وتكبيرٍ وتهليل، وأما نهاره فجهاد، إذا دخلت السوق وجدته مع الجلادين يجلد المنحرفين عن شرع الله، وإذا دخلت المسجد وجدته يفسر القرآن كل جمعة، من الصباح إلى دخول الخطيب على المنبر، وإذا أتيت إلى الصيام وجدته من الصائمين، وإذا أتيت إلى حلقات العلم وجدته من العلماء العاملين، وإذا أتيت إلى الجهاد فإذا هو حامل راية الجهاد وضارب بالسيف؛ لذلك هو شخصية متكاملة تذهل القلوب والعقول.
زهده في الدنيا قالوا: كان عنده دائماً ثوب أبيض وعمامة، لا يملك من الدنيا إلا هذا، وكان عنده غرفة بجانب المسجد، وإلا فأسرته غنية وثرية، لكن تاقَ قلبه إلى الدار الآخرة وإلى المنازل العالية، وكان عنده إن كان مفطراً في اليوم وجبتان، وجبة في الصباح ووجبة في المساء فحسب، وإلا فطيلة أيامه صائم، رضي الله عنه.
يقول أحد تلاميذه: ذهبت معه فمر بنا مسكين فسأل شيخ الإسلام ابن تيمية قال: فلف شيخ الإسلام وراء جدار فخلع ثوبه الأعلى ثم أعطاه هذا المسكين واعتذر من هذا المسكين، قال: ومررت عنده مرة ثانية ومعه ثوب واحد فسأله المسكين قال فاختفى وراء جدار ثم أخرج عمامته فقسمها قسمين ثم أعطاه نصفاً وأبقى نصفاً اعتصب بها، وتعمم بها.
هذا هو ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة.
كان يخرج إلى السوق في بعض الأوقات في الضحى، فإذا خرج إلى السوق وقف الناس ينظرون إليه ويهللون ويكبرون، يقول ابن القيم: "والله إني كنت إذا نظرت إلى وجهه تذكرت صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم " لكثرة اتصاله بالله.(137/9)
عفو وصفح ابن تيمية
أما عفوه وصفحه عن الناس وعن الذين أساءوا إليه فلا يوصف أبداً، كان يقول قبل أن يموت: "عفا الله عن كل من أساء إلي، عفا الله عمّن اغتابني، عفا الله عمّن شتمني، عفا الله عمّن آذاني" يقول ابن القيم في مدارج السالكين: أتيته: فبشرته بوفاة أحد العلماء من أعدائه -هذا العالم كان عدواً لـ شيخ الاسلام حتى أفتى بقتل شيخ الإسلام ابن تيمية ورفع ورقة للسلطان وقال: إن قتله من أوجب الواجبات ومن أوثق عرى الدين، فلما مات هذا العالم أتى ابن القيم يبشر شيخه شيخ الاسلام.
قال: فوجدته في المسجد ومعه الناس، فقلت: ماذا أبشرك به؟ قال: بخير إن شاء الله، قلت: توفي فلان بن فلان، قال: فدمعت عيناه، قال: أتبشرني بموت مسلم! إنا لله وإنا إليه راجعون! قوموا بنا إلى أهله لنعزيهم، قال: فوالله لقد قمنا معه ومضينا، فلما أتينا إلى بيت أهله طرقنا عليهم الباب فلما رأى أبناء ذاك العالم وعرفوا أن أباهم قد أفتى بقتل ابن تيمية وقد آذاه وسجنه مرات قال: لقد قاموا يجهشون بالبكاء، فقال ابن تيمية أنا أبوكم بعد أبيكم، إن احتجتم شيئاً فهو عندي وأنا إن شاء الله معكم وفي صفكم وفي جانبكم، قال: فبكوا كلهم وحتى الناس الذين معه من هذه الأخلاق العالية.
هذا هو ابن تيمية القرآن الذي يمشي على الأرض، ولا يزعم الناس أنا نتعصب، وبعض الناس يقولون: يقدسونه! لكن الإنسان يتخلى عن العصبية ويطرح هذه الأفكار التي لا تمضغها تلك الأدمغة اليابسة، وينظر بحق وإنصاف إلى هذا الرجل، فإن وجد مثله من عصره إلى الآن فليخبرنا، بل شهد كتاب غربيون كفرة ملحدون بتفوق هذا الرجل وعبقريته.
أما من كلامه وإرشاداته فيقول: "لا بد للسائر إلى الله من نظرين: نظر ينظر به إلى جلال النعمة، ونظر ينظر به إلى عيب النفس والعمل".
وسئل مرة من المرات، ما هي الاستقامة؟
قال: "لزوم الكرامة".
دخل قلعة دمشق مسجوناً -رضي الله عنه- ودخل معه بعض أقاربه، قال ابن القيم: "سمعت أن ابن تيمية ختم القرآن في سجنه الأخير أكثر من ثمانين مرة، فلما بلغ قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55] فاضت روحه" وانظر إلى المقطع الذي وقف فيه وانظر إلى هذا الإيحاء قال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر:53] آخر سورة "اقتربت الساعة" {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] "فاضت روحه قال: فأكمل بعض القراء إلى آخر القرآن، توفي وسلطان الشام غائب يصطاد في البرية ونائبه موجود وتوفي وهو مسجون ومن أراد أن ينظر إلى الدهش المدهش وإلى الذهول المذهل، فلينظر إلى ترجمة وفاته ومراسيم تجهيز جنازته في البداية والنهاية لـ ابن كثير أو في غيره من الكتب.(137/10)
جنازة ابن تيمية
خرجت جنازته في الضحى، فخرج الناس من كل السكك ومن كل صوب، وأغلقت المحلات والحوانيت والأسواق وتوقف اليهود والنصارى عن مزاولة الأعمال، ولما خرجت هذه الجنازة قال ابن كثير: خرج الناس من باب دمشق يدخلون إلى المسجد الجامع ودخلوا من باب البريد ومن باب الجابية حتى حصروا بما يقارب بثمانمائة ألف، وخرجت النساء على الأسطحة بما يقارب ثلاثين ألف امرأة، كل الناس يبكون ويكبرون ويهللون.
أما جنازته فيقول ابن كثير: كنت فيمن رآه ودخلت مع المزي ورفعت الثوب عنه بعدما غسل، فرأيت الشيب قد اعتلى رأسه فقبلته وبكيت وقلت:
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه وإن كان لا يرضى بـ ليلى المواليا
خرجت جنازته واحتملها الناس قالوا: ومن كثرة الناس لو صب حب السمسم على الناس لما وقع منه شيء، من اصطفاف الناس ومن زحمة الناس، قال: وتقطعت الأحذية وتمزقت ثياب الناس، قال: وأما الجنازة فإنها تذهب مرة على الأصابع من كثرة من يحملها قال: تذهب إلى باب الفراديس وتعود على الأصابع حتى تعود إلى المسجد، ثم تذهب إلى هناك ثم تعود وفي الأخير بكل مشقة أدخلت في الجامع الأموي، ووضعت هناك، وجاء الجنود معهم الخيزران -كما يقول المؤرخون- يطردون الناس عن الجنازة حتى توقفت الجنازة، قام إمام دمشق فكبر فبكى عند التكبيرة الأولى على ابن تيمية، وصُلِّي عليه مرات كثيرة، وفي الأخير زحف الناس إلى مقبرته وواروا جثمانه الطاهر، ورئيت له منامات عظيمة جداً، ومن أراد الاستزادة من علم هذا العالم فعليه أن يراجع سيرته.
وأوصي نفسي وكل مسلم وطالب علم أن يقرأ لـ ابن تيمية بلا فتور ولا ملل، فإنه والله العظيم كما يقول كثير من أهل العلم الذين عاصروه والذين قرأوا كلامه: ما سمعنا بمثله من بعد القرون الثلاثة المفضلة ولا قرأنا لمثله، وعلى كلامه نور من الله.(137/11)
علم ابن تيمية
أما قوة علمه فحدث عن البحر ولا حرج، كتاب سيبويه كتاب النحو ما وجد شيخاً يقرأ عليه كتاب النحو وهو من أعوص وأصعب كتاب للنحو عند المسلمين، فأتى ابن تيمية واستعان بالله عز وجل وبدأ: بسم الله الرحمن الرحيم وأخذ كراساً كبيراً وقرأ الكتاب بنفسه حتى ختمه ثم لاحظ ثمانين ملاحظة على سيبويه يقول: أخطأ فيها، حتى قال أبو حيان التوحيدي: إن سيبويه قد ألف كتاباً عظيماً قال: أخطأ سيبويه وأخطأت أنت وأخطأ في ثمانين موضعاً لا تعرفه أنت ولا سيبويه، وأخذ علم المنطق والفلسفة الذي هو أصعب من الحديد وتفكيكه أعظم من تفكيك الحديد فقرأه بنفسه ثم ألف رسائل يستدرك فيها ويخطئ أهل المنطق الذين ظلوا يدرسونه سنوات عديدة، فرحمه الله رحمة واسعة، وجمعنا الله به في مستقر رحمته.
وهو -بحق- المنظر لعقيدة أهل السنة والجماعة؛ لأنها كانت مفتوتة، ولو أنها ليست بضائعة فكتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم هما العقيدة، ولكن كاتجاه فكري يصادم الاتجاهات الفكرية والبدعية، ابن تيمية هو رجل الحلبة ورجل الساعة في هذا الموقف، فجزاه الله عن المسلمين وعن الإسلام خير الجزاء.(137/12)
ترجمة بعض رجال الحديث
هذا الحديث الذي معنا هذه الليلة في صحيح البخاري يقول البخاري -رحمه الله رحمة واسعة-: حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، قال: حدثنا أيوب.(137/13)
أيوب السختياني
أيوب هذا هو سيد شباب أهل البصرة كما أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأيوب هذا سيد شباب أهل البصرة، اسمه أيوب بن أبي تميمة السختياني، يقول الحسن: [[أيوب بن أبي تميمة سيد شباب أهل البصرة]].
كان إذا جلس للحديث يبكي، فَيُظهر أن به زكاماً به فيتمخظ ويقول: ما أشد الزكام! لئلا يظهر أنه يبكي، -وكان رحمه الله- إذا خرج للسوق في البصرة يكبر الناس ويهللون من منظره، وبلغ به الخشية والخوف أنه لما ذهب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الإمام مالك: "ما كنت أظن أن في أهل العراق خيراً" الإمام مالك دائماً فتواه حارة تجاه أهل العراق، يقول: "يخرج الحديث من عندنا شبراً ويعود من العراق ذراعاً ويقول: "أنزلوا أهل العراق منزلة أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم " فيقول: [[ما ظننت أن في أهل العراق خيراً حتى رأيت أيوب بن أبي تميمة السختياني، والله لقد توجه إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأنا أرى فرأيته سلم ثم بكى بكاء حتى كادت تختلف أضلاعه لا بكاء تصنع]] " هذا هو من الأجلة في الإسلام.(137/14)
أبو قلابة
يقول: عن أبي قلابة، وأبو قلابة أصابه مرض حتى قطعت أعضاءه الأربعة، اليد اليمنى واليد اليسرى والرجل اليمنى والرجل اليسرى، أصابته الآكلة في كل جزء منه فقطعت أطرافه حتى دخل عليه عمر بن عبد العزيز فقال: [[يا أبا قلابة الله الله! لا يشمت بنا المنافقون؛ اصبر اصبر]].
عمر بن عبد العزيز الخليفة زاره وزاره علماء الإسلام وزاره معهم جمع غفير من الناس فقال: [[الله الله! لا يشمت بنا المنافقون الله الله! اصبر اصبر]] هذا أبو قلابة.
يقول: عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار} وانظر إلى ذكاء الإمام البخاري وإلماع الإمام البخاري وسطوعه رضي الله عنه قال: باب حلاوة الإيمان، قال ابن أبي جمرة وهو أندلسي من أصحاب القلوب: "إنما قال البخاري باب حلاوة الإيمان، لأن الله وصف كلمة التوحيد بأنها كمثل شجرة طيبة" فهذه الشجرة الطيبة هي لا إله إلا الله، وفروعها هي: أركان الإسلام وأغصانها هي: الفرائض والنوافل، وأوراقها هي: فعل الطاعات، وثمارها هي: ما يحصل عليه الطائع من هذا الثمر الطيب الجميل، وأما حلاوتها فهو بعد أن يستمر، فقال الإمام البخاري: باب حلاوة الإيمان.
قال صلى الله عليه وسلم: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان}.(137/15)
سبب تثنية الضمير في (سواهما)
أي ذاقها وأحسها وعاشها ووجد الانبساط والفرحة، ثم ذكر الثلاث، وهي:
الأولى: {أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما} وفي هذا الدرس قضايا:
القضية الأولى: لماذا قال صلى الله عليه وسلم: {أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما} وثنى الضمير، مع العلم أنه صلى الله عليه وسلم أنكر على ذاك الأعرابي الغطفاني حينما {قام يخطب عنده صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه، فقال صلى الله عليه وسلم: اجلس بئس خطيب القوم أنت} لماذا؟ لأنه قال: ومن يعصهما، فجمع بين ضمير الله لفظ الجلالة وبين ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {ومن يعصهما، فقال صلى الله عليه وسلم: اجلس بئس خطيب القوم أنت} وهذا الحديث في سنن أبي داود، وهو يقبل التصحيح أنه قال له صلى الله عليه وسلم اجلس؛ لأنه جمع الضمير، فكيف ينكر صلى الله عليه وسلم جمع ذاك للضمير ويأتي هنا ويقول: {أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما} فجمع صلى الله عليه وسلم هنا؟
والجواب من وجوه: قيل: إن السبب في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعرف بمقام ربه تعالى وما يجب له من التكريم والتعظيم والتبجيل، فالرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وقالها، وأما ذاك الأعرابي فإنه أنكر عليه؛ لأن كلامه ربما يوهم المشاركة والأعرابي لا يدرك ذلك أو الناس السامعون.
وقيل: بل قال صلى الله عليه وسلم هذا الأمر؛ لأنه في مقام الاختصار والإيجاز ليحفظ هذا الحديث؛ وأما ذلك الأعرابي فإنه في مقام خطبة، فالأحسن له الأولى أن يبسط الكلام، وأن يشرح الكلام، ويتوسع فيه.
وقيل وهو الراجح: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ثنى بالضمير هنا لأن تلازم محبة الله عز وجل ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم تلازماً لا بد منه، وأما تلازم العصيان هناك فإنه قد يعصي الإنسان الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعصي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بمعاصي منفصلة وهذا الجواب الذي سدده ابن حجر، أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم ثنى هنا وجاز له أن يثني لأن محبة الله عز وجل ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، لا بد أن تتوفر سوياً؛ لأن الله عز وجل جعل من حب رسول الله الشرط في حبه تعالى، والشرط في حُبِّه حُبُّه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31].
هذا هو الجواب وبسطه موجود هنا ولا نطيل في الوقوف عنده.(137/16)
أسباب حب الله عز وجل
المسألة الثانية أو القضية الثانية: أسباب حب الله عز وجل أو ما هي الأسباب التي تجعلنا نحب الله تبارك وتعالى؟(137/17)
الطريق الأول إلى حب الله: القيام بالفرائض
الأسباب التي تجعلنا نحب الله تعالى وهو أول سبب وأول مدخل وأول باب: أن نحافظ على الفرائض، فهي الباب الأول والمفتاح والطريق الأول إلى الله، ومن لم يحافظ على الفرائض فليبكِ على نفسه وليعلم أنه لا حظ له عند الله ولا نصيب في الآخرة، من تهاون في الفرائض فهذا علامة النفاق والفسق والخروج عن أمر الله، فالسبب الأول والباب الأول: أن نحافظ على الفرائض، يعني إذا أتى وقت الصلاة وأتى الأذان، وحضرت فريضة الله عز وجل فلو فصل رأسك من جسمك، لا يمكن أن تتأخر إلا لعذر أباحه الله لك وأحله الله لك، ومن تأخر عن ذلك فاعلم أن فيه نفاقاً يعبث في قلبه، ويوغل في قلبه ويمزق روحه، نسأل الله السلامة.
وعلامة المؤمن من المنافق وعلامة المسلم من الفاسق هذه الفرائض، الصلوات الخمس، فمن صلى وتعاهد المساجد، شهدنا له في الدنيا في القبر وفي الآخرة عند الله أنه من المؤمنين ولكن سريرته إلى الله، ومن تخلف عنها، وتهاون فيها شهدنا عليه في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة أنه من العاصين الفاسقين وسريرته إلى الله عز وجل.
هذه الفرائض {وما تقرب إلي عبدي بأحب مما افترضته عليه} يعني: أن الفريضة أحب ما يتقرب به إلى الله عز وجل.(137/18)
قراءة القرآن سبب إلى حب الله
السبب الثاني في القرب والحب والوصول إلى الله عز وجل: قراءة القرآن بتدبر، القرآن هذا هو مرآة الله في الأرض، وهو الميزان الذي يعرف الإنسان نفسه ويعرف كثرة الإيمان من قلته.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[لا تسألوا الناس عن أنفسكم، اسألوا أنفسكم عنكم وعن القرآن]] من رأيته يكثر من قراءة القرآن ويتدبر القرآن ودائماً لا يمضي يوم إلا وهو يقرأ القرآن، فاعلم أنه قريب من الله، وأنه أصبح من الوصول قاب قوسين أو أدنى، ولذلك لا يشترط في المسلم والولي والمتقي أن يحفظ القرآن كله، فإن بعض الناس يحفظ سوراً قليلة لكنه رباني، وولي متصل بالله عز وجل، وبعضهم يحفظ الكثير وهو فاسق -نعوذ بالله من ذلك- فالمقصود: الحفظ فضيلة مع العمل والاتجاه وتربية النفس على هذا القرآن، ومن لم يحفظ الكثير فيردد ما يحفظ، ولو لم يردد في اليوم إلا قل هو الله أحد لكفى، فإنها من أعظم السور ويتدبر معانيها.
كان ابن تيمية يتدبر سورة الفاتحة الساعات الطويلة حتى يرتفع ويتعالى النهار، وهذا هو العجب العجاب، أن تتصل دائماً بالله في بيتك، في سوقك، في مكتبك، في أي مكان تعيش فيه.(137/19)
ذكر الله دائماً
الأمر الثالث: ذكر الله دائماً وأبداً، فذكر الله طرد للشيطان، وولاية للرحمن، وطاعة ورضوان، وبعد عن كل ما يغضب الواحد الأحد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أول فائدة فيه أنه طرد للنفاق، من أراد أن يطرد النفاق والشبه والشكوك؛ فعليه بذكر الله الإدمان عليه، وهذا الحديث الذي سقناه لنحفظه {لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} يكفي في هذا الباب، وخصص العلماء كتباً في هذا الجانب.(137/20)
التقرب إلى الله بالنوافل
الرابع من أسباب حب الله: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فليتقرب الإنسان ما استطاع.(137/21)
أسباب حب النبي صلى الله عليه وسلم
وأما أسباب حب الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مرت معنا ولا بأس بإعادتها فإنها مرت في الدرس السابق، فأسباب حبه صلى الله عليه وسلم أمور أربعة:(137/22)
منة الله على عباده بإرساله صلى الله عليه وسلم
الأول: تلمح المنة بإرساله صلى الله عليه وسلم، واعلم أننا كنا في جاهلية جهلاء، وفي ضلالة عمياء ما يعلمها إلا الله، كان الإنسان أو العربي بالأخص وبالذات قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم أذل وأقل وأضعف عند أهل الأرض من الجعلان الذي يدحرج العذرة، فلما بعث الله هذا النبي العظيم الأمي صلى الله عليه وسلم، رفع الله راية الإسلام وأعلى الله قيمة هذا الإنسان ومجده، فحينما تتذكر أنك حسنةٌ من حسنات الرسول صلى الله عليه وسلم تحبه الحب العظيم، فالأول تلمح المنة بإرساله صلى الله عليه وسلم، واعلم أنك كلما سجدت لله سجدة فإن صاحب المنة بعد الله عز وجل هو محمد صلى الله عليه وسلم، من علمك وأتى لك بالصلاة والزكاة وقراءة القرآن والجلوس في بيوت الله وإصلاح بيتك وإصلاح قلبك والاتصال بالله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الأمور؟!(137/23)
النظر إلى خصال الخير فيه صلى الله عليه وسلم
الأمر الثاني: استقراء خصال الخير فيه صلى الله عليه وسلم من كتاب الله ومن السنة ومن نقولات السير والتواريخ، فإذا استقريت، وقر في ذهنك أنه من أشرف وأعظم وأرحم من خلق الله؛ عرفت حبه صلى الله عليه وسلم وقدره.(137/24)
النظر في رحمته وشفقته ويسره
الأمر الثالث: النظر في يسره ورحمته وشفقته، وهل هناك إنسان يخفى عليه هذا؟
حينما يطالع كل باب من أبواب الفقه أو العبادات أو المعاملات، أو باباً من أبواب الرقائق والسلوك، فإنه يجد اليسر والسماحة والسهولة في سيرة هذا النبي صلى الله عليه وسلم.(137/25)
العبودية لا تتم إلا بحبه صلى الله عليه وسلم
الأمر الرابع: مقام العبودية لا يتم إلا بحبه والاهتداء بهدية فليعلم ذلك، فالذي لا يتم حب الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يتمم الاقتداء به؛ لم يكمل له مقام العبودية.
هذه هي الأسباب الموصلة إلى حبه صلى الله عليه وسلم والتي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم: {أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما}.(137/26)
الحب في الله وبعض صوره
ثم قال صلى الله عليه وسلم: {وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله} من هو المرء هذا؟
هل هو الإنسان؟
لا، المرء هنا إنما أطلق على المعروف، فإنه ينصرف عند المسلمين وعند أهل الحديث وعند أهل العلم إلى المسلم المؤمن.(137/27)
هل كل مسلم نتولاه؟
وهل كل مسلم نتولاه؟
نعم.
كل مسلم نتولاه بالجملة، هذا حكم، وهذه فتوى، يقول ابن تيمية في مسألة قتال أهل البغي في مجلد الجهاد يقول: "كل مسلم نتولاه بالجملة " وانظر إلى هذا الفهم الدقيق، وفهم ليس كهذا الفهم ليس بفهم، يقول: "لكن تتفاوت ولايتنا وحبنا للناس وبغضنا لهم بحسب قربهم من الله عز وجل وبعدهم عنه تبارك وتعالى"؛ فمن كان أكثر معصية كنا له أكثر غضباً وبعداً ومن كان أكثر طاعة كنا له أكثر محبة وقرباً.
ولذلك تجد بعض الناس إذا أتى أحد الناس صغيرة هجره هجراً ما بعده هجر، وسماه فاسقاً وألصق عليه التهم وسماه بكنيات وأسماء لا يعلمها إلا الله عز وجل، وهذا من قلة الفقه بالدين، ونحن أمرنا بالعدل وبالوسط قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269].
الحكمة أن تضع الأمور في مواضعها، فمن الحكمة أن تنزل الناس منازلهم، فبعض الناس يقترف سيئة صغيرة؛ فيهجر ويسب ويشتم ويغضب عليه أكثر ممن قتل نفساً معصومة، بل نحن ننزل أهل الكبائر منازلهم، أهل الصغائر منازلهم وأهل الإخلال بالمروءات منازلهم كما يفعل من فقه في دين الله عز وجل، وإنما أصيب الخوارج من هذا الجانب وتهالكوا في الغلو، والله عز وجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذ على الخوارج قلة العبادة ولا قلة العمل الصالح ولا قلة الذكر؛ بل هم أكثر منا عملاً صالحاً وأكثر من كثير من السلف، يقول عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد} هؤلاء إنما وقعوا فيما وقعوا فيه في الغلو قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171].
الغلو مجاوزة الحد في الأشياء، فإنما أوتوا من هذا الجانب حتى كفروا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كفروا علياً وكفروا معاوية، ومنهم من كفر عثمان رضي الله عنهم وأرضاهم، فهذا الجانب يلاحظ ويتدبر.
فالمقصود أن حب المرء المسلم يختلف باختلاف الأشخاص قلة وكثرة، وقوة وضعفاً.(137/28)
الحث على حب الصالحين
أما الحث على حب الصالحين فهناك أحاديث بلغت من الشهرة لا يمكن إخفاؤها على الناس، منها حديث معاذ في صحيح مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ينادي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الملأ: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي} وهناك من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: {رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه} فهذا من أعظم عرى الدين، ولذلك يقول ابن عمر: [[والله لو صمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت أموالي غُلقاً غُلقاً في سبيل الله ثم أتيت لا أحب أهل الطاعة، ولا أبغض أهل المعصية؛ لخشيت أن يكبني الله في النار على وجهي]] لأن هذا الدين دين ولاء وبراء، ليس دين ادعاء، لذلك تجد من بعض الناس المخذولين الذين أصيبوا بخذلان يصلون ويصومون، ويحجون ويعتمرون، ويرافقون ويحبون ويوالون أهل الفساد وأهل المنكر والمجرمين!! هؤلاء نعوذ بالله مما دخل عليهم من الشبه، ومما جعلهم يسيرون هذا المسار الخاطئ الذي سوف يحاسبهم الله عليه.
فـ ابن عمر يجعل حداً لمن يفعل ذلك، فلا يحب الإنسان إلا المتقي ولو كان حاله مهما كان، ولا يبغض إلا العاصي ولو كان هذا العاصي أخاه لأبيه وأمه، هذا ميزان التقوى، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل}.
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
ولذلك يقول: لا تسأل عن الإنسان، ولكن اسأل مع من يرافق ويصاحب ويزاور ويجالس، واعلم أنه إذا جلس مع الفجرة ومع الفسقه والمعرضين عن الله؛ ففي نفسه شيء وهوى.
يقول ابن المبارك رحمه الله يقعد ذلك ببيتين من الشعر يقول:
إذا رافقت قوماً أهل دين فكن لهم كذي الرحم الشفيق
ولا تأخذ بزلة كل قومٍ فتبقى في الزمان بلا رفيق
أهل الدين هم الذين يصاحبون في الحياة؛ لأن أهل الدين كما يقول الحسن: [[يحفظك في حضرتك وفي غيابك]] أما الفاجر فنعوذ بالله.
يقول محمد بن جعفر لابنه: لا ترافق يا بني أناساً: لا ترافق العاق؛ لأنه ملعون، وكيف تريد الخير ممن لعنه الله؟!
تريد الخير منه وقد لعنه الله من فوق سبع سماوات- قال: ولا تصاحب الفاجر فإنه يعديك بفجوره.
بعض الناس يقول: أنا مستقيم وعندي من الحصانة والقوة ما لا يمكن أن يطغى عليّ أو يؤثر بي أحد، لكن أول الطغيان وأول التأثير من جراء ذلك، أولاً: أن السنن ونور السنن تختفي عليك، فإنك بدل ما كانت تذكر الله كثيراً إذا رافقت الفجار لا تستطيع أن تهلل دائماً وتذكر الله كثيراً، فإنهم يلاحظون عليك، وينتقدون ويتغامزون عليك، فيلحقون عليك البوار والخسار نعوذ بالله من ذلك.
ثم قال: ولا ترافق كذاباً فإن الكذاب يقرب لك البعيد ويبعد عليك القريب، ولا ترافق الأحمق -هذا الرابع- فإنه كالثوب الخلق -يعني القديم- كلما رقعت منه جانباً انشق منه وتمزق من جانب آخر.
وابن المبارك يقول:
وإذا صاحبت فاصحب ما جداً ذا عفاف وحياء وكرم
قوله للشيء: لا، إن قلت: لا وإذا قلت: نعم، قال: نعم(137/29)
ابن المبارك يوصي بمجالسة مسعر بن كدام
ابن المبارك يسميه الذهبي من المحسنين أو من المقتصدين، في الشعر أبياته قليلة لكن أبياته من أبيات أهل السنة والجماعة التي تخرج من الكتاب والسنة، ولذلك قيل له: أي المجالس تنصحنا بالجلوس فيها؟ قال:
من كان ملتمساً رفيقاً صالحاً فليأت حلقة مسعر بن كدام ِ
فيها النزاهة والوقار وأهلها أهل العفاف وزينة الأقوامِ
يقول للناس: إن كنتم تريدون جليساً صالحاً فعليكم بـ مسعر بن كدام أحد العباد الأولياء يجلس في المسجد، قالوا: ما نظر في حياته إلى السماء خوفاً من الله، هذا مسعر بن كدام الذي يتقرب بحبه إلى الله عز وجل وله جلالة عجيبة في القلوب، كانت أنفاسه كلها ذكر، كان يخرز الثوب -عنده إبرة أو يخيط الثياب- يقول تلاميذه: ما رأيناه بين رقعتين إلا ويذكر الله عز وجل يعني بين أن يدخل الإبرة ويخرجها إلا ويذكر الله، كان إذا استفتي في مسألة، أخذته رعدة وانتفض خوفاً من الله عز وجل، ويقول: "والله كأني أنظر عرش الرحمن بارزاً، وكأن الله جمع الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وهو يخاطبهم رب العزة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
كان يتكلم بالكلمات القليلة لكنها تنفذ إلى القلوب مباشرة، قيل له: اتكئ -يعني حتى ترتاح- لأنه أصبح شيخاً كبيراً عجوزاً، قال: "أنا لست بآمن أنا خائف وإنما يتكئ الآمن" قالوا: دائماً كان لا يتكئ، وكان يجلس من الخوف، فقيل له اتكئ قال: "إنما يتكئ الآمن أما أنا فخائف ما أتاني الأمان من الله أني من أهل الجنة".
وقال عنه الحسن: "أقسم مسعر ألا يضحك من خشية الله، فوالله ما ضحك حتى لقي الله" ونحن لا نقول للناس: لا تضحكوا، ولا تمزحوا، فإن الميزان محمد صلى الله عليه وسلم وهو القدوة، وأما بنيات الطريق فخذ واترك، لكننا نسرد لكم حال السلف، أو بعض حال السلف الذين بلغوا من السمو ومن الخشية إلى هذه الدرجة، فـ ابن المبارك من الجلساء يوصي بهم في هذا الجانب.(137/30)
محبة عمر لأبي عبيدة بن الجراح
أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه يقول الذهبي في ترجمة أبي عبيدة في سير أعلام النبلاء المجلد الأول: "فأما أبو عبيدة فرزقه الله حسن الخلق"
يقول عمر رضي الله عنه للصحابة بعد أن جمع الصحابة فقال: اجلسوا فجلسوا، قال: تمنوا فسكتوا، قال: أقول تمنوا -يعني كل إنسان يتمنى- فقال ذاك: أتمنى أن الله يرضى عني ويدخلني الجنة، وقال ذاك: وأنا أتمنى الشهادة في سبيل الله، وقال ذاك: وأنا أتمنى أن أحفظ القرآن، قال عمر: لكني أتمنى على الله أن يكون عندي ملء هذا البيت رجالاً من أمثال أبي عبيدة عامر بن الجراح، أبو عبيدة هذا رزقه الله من الزهد ومن العبادة والتجرد إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى درجة منقطعة النظير، ولذلك يقول بعض أهل السير: "نرى أنه ما حمل في قلبه حقداً ولا حسدا"
من لياليه المشرقة التي يحفظه الله بها وسوف يجازيه بها، أنه كان أمير الأمراء في اليرموك، لكن في أثناء المعركة توفي أبو بكر فتولى عمر فأول إجراء اتخذه عمر أن عزل خالداً والمعركة حامية في اليوم الثاني وأتت الرسالة إلى أبي عبيدة فلما قرأ الرسالة: [[بسم الله من عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح أمَّا بَعْد: فقد وليتك جيش المسلمين وعزلت خالداً]]
فدمعت عينا أبي عبيدة ووضع الرسالة؛ لأنهم يريدون الله والدار الآخرة، لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، ولو كان غيره لأتى بـ خالد وجرجره وحاسبه وجلده، وقال: قد عزلك أمير المؤمنين؛ لأنك فعلت وفعلت، لكنه أخفى الرسالة وما تصرف في الأمر حتى انتهت المعركة، ثم جاء إلى خالد وقال: [[يا خالد! إنما هي أيام قليلة نعيشها في هذه الحياة، وقد رأى أمير المؤمنين أن يوليني وقد تركتك من تلك الأيام]] فقام خالد فقبل على رأس أبي عبيدة وقال: [[رحمك الله أفلا أخبرتني، قال: لا.
إنما نحن إخوة وكل منا يفعل ما يراه]] يعني ما يراه في ذات الله عز وجل يقولون: إنه من لياليه في آخر معارك اليرموك نام أهل المعسكر ما يقارب أربعين ألفاً من الناس -من الجنود من جنود المسلمين- ناموا بعد النهار الطويل والقتال المرير، ناموا بعد ذاك الإعياء والتعب الشديد ناموا جميعاً وقام هو فرآهم فأيقظ امرأته وقال: [[أتريدين ليلة من ليالي الجنة؟
قال: توضئي، فتوضأت، قالت: أنصلي؟
قال: لا، قالت: نقرأ القرآن؟
قال: لا، قالت: ماذا نفعل؟
قال: نطوف بهذا المعسكر فنحرسه علَّ الله عز وجل أن يحرم عينينا عن النار، فقامت رضي الله عنها فركبت وراءه على الفرس]].
كان يستطيع بنفسه أن يطوف ويتفقد، هو أمير الأمراء ويستطيع أن يوقظ أحد الجنود من الناس الألوف المؤلفة، ويستطيع أن يترك زوجته، ولكن أحب لها من الخير كما أحبه لنفسه، فقام يستعرض المعسكرات كلما مر بمعسكر سلم عليهم، وفي تلك الليلة أصاب الناس مطر في ذاك المخيم، قال أحد المسلمين: والله لقد رأيت أبا عبيدة أخذ قطعة من قماش وإنه يظلل بعض الناس من الأطفال والنساء هكذا بالخيمة أو القماش يظللهم عن المطر، فهل بعد هذا الوفاء وفاء؟!
الشاهد أن أبا عبيدة رضي الله عنه يقول -وهذا في كتاب الزهد للإمام أحمد -: [[والله ما رأيت متقياً لله عز وجل حراً أو عبداً إلا وددت أني في مسلاخه]] يقول: وددت أنني أنا الذي في جلده.
ومرة من المرات سافر أبو عبيدة من دمشق إلى المدينة ومعه ناس، فلما أصبحوا في الطريق [[قال أبو عبيدة: تمنوا، قال أحد الناس: أتمنى أن يدخلني الله الجنة، فلما انتهوا كلهم من أمنياتهم بكى، وقال: والله يا ليتني كنت كبشاً يذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويحتسون مرقتي وأني ما عرفت الحياة]].
هذا أبو عبيدة لكثرة إخلاصه وزهده، ولذلك لما سافر عمر إلى الشام وأراد فتح بيت المقدس، دخل فاستقبله الأمراء إلا أبا عبيدة كان غائباً عن الناس، فقال عمر: أين أخي وحبيبي؟ قالوا: من؟
قال: أبو عبيدة، قالوا: يأتيك الآن، فأتى على ناقة سوداء خطامها الليف ما عليها حلس، -يعني ما عليها بردعة ولا قتب- فلما رأى عمر، تعانقا وبكيا طويلاً، وقال عمر لـ أبي عبيدة: تعال نبكي على ما فعلنا بأنفسنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فانصرفا عن الطريق -يعني مالا عن طريق الناس والجيوش والأمراء- ينتظرون شرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان ومعاوية وغيرهم من الأمراء كلهم وقوف صفوف ينتظرون قدوم عمر، قال: يا أبا عبيدة تعال نبكي على ما فعلنا بأنفسنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فانحرفا عن الطريق يبكيان ثم قال عمر: أريد أن أبيت عندك الليلة يا أبا عبيدة! وعمر ذكي لماح، ومن ذكائه كان يباغت عماله وأمراءه، كان يتركهم حتى يناموا في الليل ثم يدخل عليهم فيطرق فينام معهم فيرى فرشهم ويرى ماذا أخذوا؟ وماذا تركوا، ويرى أموالهم؛ لأنه يقول ومن مبادئه أن الأمير إذا ابتنى بيتاً قال: أبت الدراهم إلا أن تخرج رءوسها، يعني يحاسبهم هكذا.
فقال لـ أبي عبيدة: أريد أن أنام عندك هذه الليلة، قال أبو عبيدة: تريد أن تعصر عينيك عندي، يعني تبكي عندي؟
قال: لا، فقال أبو عبيدة: حي هلاً وسهلاً، فلما انصرف الناس نام عنده عمر في تلك الليلة فقدم له خبزاً من شعير، قال: يا أبا عبيدة أما كان لك أن تتوسع؟
قال: ما كان لي من شيء، كل ما تعطيني من عطايةٍ صرفتها في سبيل الله.
قال: فلما أتى ينام عمر أعطاه شملة فافترش نصفها والتحف النصف الآخر فلما أصبح عمر نائما أخذ يبكي عمر، فقال أبو عبيدة: أما قلت لك في أول النهار أنك سوف تعصر عينيك عندي -يعني سوف تبكي عندي- يبكي عمر من حالة أبي عبيدة، ولذلك يقول عمر: ليت عندي بيتاً مملوء برجال مثل أبي عبيدة.
الشاهد أنه يقول: [[ما رأيت رجلاً متقياً لله عز وجل حراً أو عبداً؛ إلا وددت أني في مسلاخه]] هذا الحب في الله عز وجل والبغض فيه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
والإمام الشافعي يتواضع أشد التواضع وقد كررنا هذه الأبيات لا لحلاوتها ولطلاوتها فقط ولكن لما فيها من خير يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة
فيقول له الإمام أحمد:
تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم قد تناولنا الشفاعة
أو كما قال؛ لأن الشافعي من أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: منكم قد أخذنا الشفاعة وأنت من الصالحين.(137/31)
الحسن بن علي يحب المساكين
ومما أثر عن الحسن بن علي بن أبي طالب السيد، سيد شباب أهل الجنة: [[أن الحسن كان يجلس مع المساكين لا يأكل إلا معهم، كان إذا أتت وجبته وطعامه قال: اجمعوا لي المساكين فيجلس معهم، وقيل له: لم ذلك؟ قال: إني سمعت أن الله أوحى إلى داود: يا داود مالك؟
قال: يا رب ماذا؟ قال: رأيتك تجلس مع علية الناس]] يعني إن أردت أن لا ينالك عذابي، فاجلس مع المساكين وكل واشرب معهم، فكان داود عليه السلام كلما أتى إليه طعامه قال: اجمعوا لي مساكين القرية أو المدينة، فيجمعهم ويأكل معهم ويتواضع.
وفي سير داود أنه كان يأكل الطعام ويبكي، فقيل له في ذلك فقال: نعمة لا أؤدي شكرها، ولذلك أوحى الله إليه: يا داود أعلمت أن هذه النعمة مني؟ قال: نعم علمت، قال: فقد شكرتني، فجمع داود عليه السلام آل داود وكانوا ألوفاً وقال: إن الله عز وجل قد أنعم عليكم نعماً، فأريد ألا تمر ساعة من ليل أو نهار إلا ومنا من يصلي ومنا من يذكر الله ومنا من يقرأ كتاب الله، فلذلك قال الله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13].
هذا معنى أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، فإذا أحبه لغير الله عز وجل أو لغرض غير الله عز وجل؛ ذهبت حلاوة هذه المحبة وأصبحت متعطلة، لا يعلوها نور ولا تكسبهم مثوبة عند الله ولا أجراً، وإنما هي محبة وقتية تنتهي بوقتها، فنسأل الله السلامة.(137/32)
الحذر من أسباب الزيغ
(وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) بعد ما يتشبع المسلم بالإيمان، أو المؤمن بالإيمان والمسلم بالإسلام؛ لابد أن يعتقد أنه لو نصب له في مكان أو في قمة ووضع تحت تلك القمة نار تتلظى ثم رمي من هذه القمة إلى النار أو أن يعود عن دينه لاختار هذه النار، وهذا مثال تقريبي قربه علماء السلوك وأرباب القلوب، قالوا: يجعل الإنسان في مخيلته هذا المثال أن يضع الإنسان في واد من الأودية نار تتلظى وتستعر، ثم توضع أنت في رأس هذا الجبل وترمى، وتخير بين أن ترمى في النار أو تعود عن دينك فتختار النار بدون العودة إلى الكفر -نسأل الله السلامة-، ولذلك يقول سبحانه وتعالى في مدح المؤمنين أنهم كانوا يقولون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] فلذلك ينبغي على الإنسان -كما ثبت في الصحيح- أن يقول في كل سجود: {يا مثبت القلوب ثبت قلبي على طاعتك، يا مصرف القلوب والأبصار صرف قلبي إلى طاعتك أو على طاعتك} فبهذا الدعاء والإلحاح وصدق اللجأ يثبتك الله ثباتاً لا تنحرف بعده أبداً.
وأسباب الزيغ، أو محبة الكفر أو الرجوع إلى الكفر أسباب قد أجملتها في درس سبق، لكن من أسبابه: محبة الزيغ، لأن بعض الناس لمحبته الفساد؛ ومداولة الفساد يتركه الله ونفسه، وهذا هو الخذلان، الخذلان أن يتركك الله وهواك، يقول الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].
ما أزاغ الله قلوبهم حتى زاغوا هم، ولذلك تجد أهل المعاصي إنما هم الذين زاولوا أسباب المعاصي فجلسوا مع السيئين، وسمعوا الأسباب الموصلة، أو زاولوا الأسباب الموصلة إلى المعصية: كسماع الغناء، واللهو، والفحش، والعهر، فوقعوا في الفاحشة، ثم من الفاحشة انتقلوا إلى الشبه والشكوك، ثم من الشبه والشكوك إلى النفاق أو الكفر -نسأل الله السلامة- قال الله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]
وهذه مشيئة الإنسان التي هي تحت مشيئة الرحمن، ولا يعترض الإنسان بحجة القضاء والقدر فهذا في جانب لا يدخل فيه.
يقول ابن تيمية لرجل: "لماذا لا تستقيم؟ "
قال: لأن الله لم يقدر علي أن أستقيم، قال: "فلماذا تعصي الله" قال: لأن الله قدر علي أن أعصيه، قال: "سبحان الله! جبري في المعصية قدري في الطاعة" فهذا بعض الناس يحتج بالقضاء والقدر في هذا الجانب ولا يحتج به في جانب آخر، بل لك مشيئة، وأنت تعرف أنك إذا سلكت الطريق المستقيم أوصلك إلى الله سبحانه وتعالى، يقول الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].
يقول: لو يدري سبحانه وتعالى -وهو يدري- أنه لو كان فيهم خير وبر ورشد ونصح للإسلام والمسلمين لأعطاهم الله من الخير: لكن لما علم الله إعراضهم عنه تركهم وهواهم، ولو أسمعهم؛ لتولوا وهم معرضون، ولذلك يتعجب الإنسان من بعض الناس يسمع الآيات والأحاديث والمواعظ التي تبكي لها الجبال والصخور ثم لا يهتز ولا يتأثر وسيرته هي نفسها وما تغير أبداً لا في أمسه ولا في يومه ولا في غده، وسبب هذا أنه هو الذي يريد أن يزيغ ويريد الانحراف ويشجع على الانحراف، فمن التشجيع على الانحراف، أن بعض الناس إذا جلس في مجلس من مجالس المنحرفين، فيمجد بعض الانحراف ويسميه حرية، ويلصق التهم بأهل الخير وأهل الاستقامة وأولياء الله عزوجل، هذا اعلم أن فيه انحراف وأن خاتمته سيئة إن لم يتداركه الله.
هذه آيات التثبيت في كتاب الله عز وجل، فالحديث كما سمعتم: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار}.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(137/33)
صفة العالم والمتعلم
صفات أخذت من ثلاثة أحاديث بينت صفات العالم وكيف، ومتى، وماذا يفعل؟
فالمعلم فطن ذكي حليم رحيم رشيد، والمعلم عابد زاهد تقي، وهناك علوم يجب أن يتعلمها، فإذا أردت معرفتها فافتح هذه المادة واقرأ، وكن عالماً أو متعلماً ولا تكن الثالث فتهلك.(138/1)
حكم تعلم العلوم العلمية والنفسية
الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
ونسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الذي جمعنا في أشرف مكان في الدنيا أن يجمعنا في أشرف مكان في الآخرة، وأن يجمعنا بهذه الوجوه الطيبة الغالية في دار الكرامة، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55] وقبل أن نبدأ في درس هذه الليلة أحب أن أشير إلى بعض النقاط التي لابد من الإشارة إليها.
ورد في الدرس الماضي التعرف على بعض العلوم، ومقام المسلم من بعض العلوم التي لم تكن عند السلف كعلم التاريخ، والجغرافيا، والطب والتربية، والنفس، ويقول عمر رضي الله عنه وأرضاه لما كتب لـ أبي موسى وهو في العراق قاضٍ: [[فراجع الحق، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس أن تعود عنه في اليوم، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، والحق قديم]].
وبعد مشاورة ونصيحة وتوجيه من بعض دعاة الإسلام والأحباب والأخيار قبلتها على العين وعلى الرأس، ورجعت إلى تدارس بعض النصوص، فوجدت أن الحق جانب بعض الكلام الذي في الدرس الماضي، فالحق أن المسلم يؤجر على كل علم يتعلمه يريد به وجه الله، ويريد به أن ينصر هذا الدين، ويريد به أن يعلي كلمة الله تبارك وتعالى، سواء كان تربية، أو علم نفس، أو علم جغرافيا، أو تاريخاً، أو طباً، أو هندسة.
والنظرية التي تقول: " إن المسلمين ليسوا بحاجة إلى تربية " نظرية خاطئة، فإن التربية فرضت نفسها، ولا يمكن أن نقول: إنه لا يوجد عندنا تربية، كيف وتربيتنا في القرآن والسنة، بل نقابلهم بعلم من عندنا.
ولذلك يقول ابن تيمية في مجال العلوم التي توجد عند المسلمين: فمن جاءنا بعلم جئنا له من كتابنا وسنتنا بعلم يكافئ ذاك العلم.
ثم اعلموا أن علم النفس يؤخذ كذلك من القرآن، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8] ويترك هذا لأهل التخصص.(138/2)
كلكم على ثغرة من ثغور الإسلام
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلف زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود، فتعلمها في خمسة عشر يوماً فأتقنها، وترجم للرسول ما يمكن أن يكيدوا به هذا الدين.
والمقصود: أن بعض الناس وهو من أهل الصلاح يتعلم هذه العلوم، فتأخذ وقته، فهو مأجور ومشكور من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو عابد لله عز وجل، وأعلم وتعلمون من يمضي الساعات الطويلة في الليل والنهار في علم الكيمياء والأحياء، فهو عابد بلا شك، وهو مأجور على هذا الصنيع الضخم.
وكلكم على ثغرة من ثغور الإسلام، فالله الله لا يؤتى الإسلام من قبلك، فأسأل الله تعالى لمن يخصص جهده في هذه العلوم، ويبذل وقته وعرقه، وكل ما يملك لنصرة هذا الدين أن يرفع الله رأسه يوم القيامة، ويبيض وجهه، ويعلي حظه.
واعلموا بارك الله فيكم أننا بحاجة إلى هذه العلوم والآداب، ولا يخفى عليكم أن الساحة رمتنا بكل كبير وصغير، وبكل تالد وطريف، فالأدب والشعر الذي في الساحة ليته كان شعراً ومقامات وحسب، كنا سكتنا، لكنه يحمل الفكر الإلحادي ويبثه في مجتمعاتنا، ونحن لا نجيد للناس إلا حدثنا وأخبرنا، وأما هذا الأدب فإنا لا نجيده، ولذلك فإنهم سوف يأخذون علينا الساحة كما يفعلون الآن، ويدمرون علينا الأفكار، ويستغلون علينا الأجيال، ويطردوننا في الأخير، فجزى الله خيراً من جعل وقته لهذا الجانب، وهو مأجور ومشكور، بل هو الرأي الصحيح من كلام أهل العلم وقبل ذلك من نصوص الكتاب والسنة، فشكراً لمن أهدى لي هذه النصيحة، وبصرني لهذا الأمر.
وأنا قلت لكم: إننا ما اجتمعنا في هذا المكان إلا لتبادل الآراء ولأخذ الرأي الصائب؛ لأن فيكم من هو أعلم من المتكلم وأفضل، وأتقى وأخشى لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يمنع ذلك فإن الصحابة كان يجلس الشاب منهم ويتكلم وعمر يستمع.
فأقول لكم: من عنده نصيحة، أو توجيهات أو اقتراحات فأنا أقبلها على العين والرأس، وأدعو له، ولقد دعوت والله لمن نصحني بظهر الغيب.(138/3)
المرأة والتعلم
والقضية الثانية أن المرأة مظلومة في بعض النواحي، ومن هضم المرأة أن تترك بعيدة عن ندوات الخير، وعن مجالس العلم، وحلقات الذكر لأنها شريكة الرجل، وهي معه، ولذلك ذكرها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الكتاب، وذكرها صلى الله عليه وسلم، بل ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم خصص يوم الإثنين من كل أسبوع للنساء، ليجلس معهن صلى الله عليه وسلم، وقد اقترح علي بعض الإخوة، وكان معنا مسجد بجانب هذا المسجد للنساء قالوا: هذا بعيد، وفيه بعض الارتباك، فنرى آخر المسجد لمن أراد أن يأتي بأهله ليستمعوا الذكر، ولو كانوا لن يستفيدوا إلا الرحمة والأجر والمثوبة لكفى، نسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينفع وأن يتقبل.
والمقصود أن مجيئكم إلى هذا المكان، وحضوركم لأي درس يعقد يعتبر نصرة لهذا الدين ولو أنكم أعلم وأفقه وأفهم، لكنكم تؤيدون دعوة الله عز وجل، وتؤيدون طريق الاستقامة وهذه الصحوة التي يعيشها شباب الإسلام.
وعلى العكس من ذلك فإن أهل النفاق لا يريدون هذا؛ بل يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] يعلم من هو المخلص، ومن هو المجتهد ومن يريد النصرة لله ولكتابه ولرسوله وللمسلمين أجمعين.(138/4)
حديث: (متى الساعة)
لا نزال نعيش مع هذا السفر العظيم الذي هو كما يقول ابن تيمية: ما أعلم تحت أديم السماء أفضل، ولا أفيد، ولا أنفع من صحيح البخاري بعد كتاب الله لمن عقل ما فيه، وتدبر معانيه.
ويكفي أن نجتمع فقط، وأن نعيش هذه اللحظات مع المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإن ذكره لا يمل عند من يريد الله والدار الآخرة.
والحديث الذي معنا -وهو الحديث الأول في هذه الجلسة- هو:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي فقال له: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال، وقال بعضهم بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه، قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: هأنذا يا رسول الله، قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة}.
لا يهمنا أن نعرف اسم هذا الأعرابي ونسبه وإلى أي قبيلة؛ فليس وراء ذلك طائل، والمهم أن نعرف العبر من هذا الحديث.
مجمل الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلس في مجلسه يحدث الناس، يشرح لهم أصول العقيدة، ويفيض عليهم مما أفاضه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عليه، فلما جلس صلى الله عليه وسلم وأصبح في وسط حديثه يندفع، وإذا بأعرابي جاء متأخراً يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث، كما يقول المثل: " أحشفاً وسوء كيلة " أي: أنه أتى في آخر الجلسة ففاته العلم، مثل الطالب يبقى خارج الفصل يدور في الممرات ويتمشى ويفطر ويتغدى، ثم يأتي في آخر لحظة فيدخل ويطرق الباب، فيقطع الدرس على الأستاذ، ثم يأتي يجلس ولا يدري ماذا شرح على السبورة وماذا قال الأستاذ؟
وأين وقف؟
وماذا رد عليه الطلبة؟
فيرفع إصبعه ويقول: عندي سؤال، من أين يسأل في هذه القضايا؟!!
وكيف يسأل؟!!
وهل يحق له أن يسأل أم لا؟!!
وهذا الحديث تربوي، وسوف تعلمون ماذا يقول أهل العلم في هذا الحديث، وما استنبطوا فيه من قضايا تفيد العالم والمتعلم، والمفيد والمستفيد:(138/5)
صفة العالم والمتعلم
أول قضية نستفيد منها في الحديث صفة العالم مع المتعلم: فالعالم له صفات:
أولها: أن يخلص بعلمه وعمله لوجه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لا يريد رياء ولا سمعة؛ لأنه إذا لم يخلص فسوف يذهب عمله هباءً منثوراً.
ثانيها: أن يتحبب إلى طلابه، فإن سلطان الحب سلطان قوي، ولا يمكن أن يسيطر على القلوب إلا بالحب، فلا يستخدم العنف ما استطاع للحب سبيلاً.
ثالثها: ألا يهدر أعظم المصالح، كأن يكون في مثل هذه الجلسة نفر كثير يكلمهم ويردون عليه، ثم يأتي إنسان متأخر ويسأل سؤالاً، ومن أين له أن يسأل سؤالاً وقد قطع الفائدة عن الجميع؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يعلم الصحابة وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والأخيار، والشهداء، ورؤساء الناس يأتي هذا الأعرابي متأخراً فيقطع عليه الحديث، هل من الحكمة أن ينصرف صلى الله عليه وسلم ويقول له: ماذا تريد؟ وجواب سؤالك كيت وكيت، ويترك هؤلاء الذين معه من الصباح؟! فمن الحكمة: تقديم أهل الفضل في فضلهم ومعرفة أهل المنازل في منازلهم، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم كما رواه أبو داود وعلقه مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: قال صلى الله عليه وسلم: {أنزلوا الناس منازلهم} فمن إنزال الناس منازلهم أن تعرف لأهل الحق حقهم.
والقضية الثانية التي تستفيدها من هذا الحديث وقد تعرضنا لها:
تقديم أعظم المصالح: فلا يحق لك أن تترك النفر الكبير من أجل شخص واحد، وليس هذا الشخص مستفيداً معك، لكنه أتى متأخراً فحمل بعض النقص فتعطيه بنقصه.(138/6)
حكم تكلم الإمام مع المأموم
المسألة الثالثة التي أخذها أهل العلم: قطع الخطبة، هل يحق للإمام إذا كان يخطب الناس ويتكلم إذا دخل عليه داخل وقاطعه الحديث هل له أن يقطع خطبته؟ والمسألة فيها تفصيل:
إن كان السؤال وجيهاً وفي غير خطبة الجمعة فله أن يقطع الخطبة كهذا الدرس، كمن يسأله من يأتي من البادية يتعلم العقيدة أو يقول: أنا مسافر ذاهب ومستعجل، أريد أن تعلمني الصلاة الآن، وسوف أسافر الآن، فله أن يقطع الدرس؛ لأن التعليم هذا نافلة، وتعليم الجاهل فريضة، وفي صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم معاوية بن الحكم وغيره وقطع الحديث صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقول عمرو بن عبسة: {أتيت الرسول صلى الله عليه وسلم فوجدته يتحدث للناس على كرسي من حديد، فقلت: يا رسول الله! رجل يسأل عن دينه، فما دينه؟ فتبسم صلى الله عليه وسلم وترك الناس ونزل من على كرسيه، وأتى إلى قربي وعلمني} هل هناك أخلاق بعد هذه الأخلاق سيد البشر صلى الله عليه وسلم؟ ينزل ويترك كرسيه ومكانه أمام الجموع، ويأتي إلى السائل ويجلس بجانبه.
ولذلك إن كان السؤال خطيراً ومهماً في غير خطبة الجمعة فقد قال الإمام أحمد: أرى أن يقطع كلامه ويجيب السائل.
لأن بعض الناس إن لم تجبه سافر وترك الجواب، فهو ليس حريصاً على الجواب، حتى ولو كانت القضية أكبر من أي قضية، وبعضهم يتذمر حتى من الشيخ ويقول: إما أن تجيب على سؤالي وإلا سأذهب وأسافر الآن، فلذلك من المصلحة أن يتلطف ويخبره.
وأما في خطبة الجمعة فقال أهل العلم: للإمام أن يتكلم وللمأموم أن يتكلم معه لكن لا يقاطعه كأن يأتي الإمام بحديث ويقول: رواه الترمذي، فيأتي المأموم ويقول: لا.
أصله في الحاكم، ورواه ابن ماجة بسند جيد، ورد عليه الألباني، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز كذا وكذا، فهذا يؤدب، إنما الأصل أن يرد عليه بقضية هامة أو أن لها علاقة بالناس، وسوف آتي بالأحاديث أو الأدلة، ثم أنتم بفهمكم تأخذون الدلالة في ذلك.
فقضية تكلم الإمام مع المأموم دليله ما جاء: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل سليك الغطفاني المسجد، فجلس فقال صلى الله عليه وسلم وهو يخطب: {أصليت؟ قال: لا يا رسول الله، قال: قم فصلِّ ركعتين خفيفتين وأوجز} أي: خفف.
لأن من الحاجة تعليم السنة في هذا المكان، وهي من الواجب أن يقولها الخطيب؛ لأنه لو تركها صلى الله عليه وسلم لربما نسيها هو، وربما الناس جميعاً، ولربما ظن من في المسجد أن هذا إقرار على فعله فيأخذونها فتصبح في أدمغتهم وهي خطأ.
ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتخطى الرقاب وهو يخطب الجمعة، فقال للرجل: {اجلس فقد آذيت} فهذا منكر يتمثل في أن هذا الرجل يتخطى رقاب الناس، ويتعدى الصفوف فقال: {اجلس فقد آذيت} فأجلسه صلى الله عليه وسلم.
المقصود: أن للإمام أن يتكلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي القضايا التي تهم الناس ويمكن أن يفهمها الناس خطأ.
وللمأموم أيضاً أن يتكلم في حالات كما في حديث أنس في الصحيح: {أن أعرابياًَ دخل وقال: يا رسول الله! جاع العيال، وضاع المال، وتقطعت السبل فادع الله أن يغيثنا}.
ومنها: أن عمر رضي الله عنه تكلم للناس وهو يخطب الجمعة وقد كسا الصحابة ثوباً وكان يكسو الناس ويوزع عليهم الهدايا والثياب، حتى يقال في السيرة أنه إذا وزع الدقيق على الأسر وعلى البيوت أخذ الأواني كلها فجعل آنيته وصحنه في آخر الصحون، ويوزع الدقيق رضي الله عنه وأرضاه ويوزع الزيت في الصحن، فيترك صحنه إلى الأخير، ثم يقول: خذ يا أسلم أوصل هذا إلى أهل عمر، فأتت زوجه عاتكة بنت زيد فأخذت كل ما وصل إليها من دقيق وأبقت منه شيئاُ قليلاً حتى جمعت عندها دقيقاً، وأرسلت جارية من جواري الجيران حتى لا يعلم عمر أنهم أبقوا دقيقاً وقالت للجارية: اذهبي إلى أمير المؤمنين عمر في بيت المال واشتري منه حلوى -الحلوى كانت قطعاً طويلة كالسكر تباع وهي أحسن شيء للحامل- فذهبت هذه الجارية، وكان عمر ذا فراسة رضي الله عنه، حتى يقال: كأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، ويقول ابن عمر في صحيح البخاري: [[كنا نتكلم أن السكينة تنطق على لسان عمر]] حتى يأتي الولاة يحاسبهم فينسون بعض الحساب ويرتبكون لأنه وراءهم رضي الله عنه بالدرة.
لذلك يقول عمرو بن العاص: لما حسبت ميزانية مصر وقدمت بها إلى عمر وقد حسبتها في الطريق فوجدتها قد نقصت ما يقارب عشرة آلاف درهم -ومن يمنعه من عمر رضي الله عنه لا بد أن يخرجها من البر أو البحر - قال: فتحيلت ماذا أفعل، فقلت: ليس معي إلا أن أتركها حتى يشتغل بالولاة، إذا جلس يحاسب ولاة الأقاليم أدخل أنا في الربكة معهم حتى يحاسبني عجولاً ثم أخرج، فأتى دور معاوية، فلما انتصف الحساب مع معاوية رضي الله عنه وأرضاه، دخل عمرو بن العاص وقال: يا أمير المؤمنين! عندي سفر وأريد أن تحاسبني الآن، قال: اصبر، أو لا تستعجل، فقال: يا أمير المؤمنين! لا صبر لي، وهذا ثابت في سيرتهم رضي الله عنهم، قال معاوية: إن هذا نكد يا أمير المؤمنين! يقطع علي حديثي، قال: أنت النكد فتقاتلا بين يدي عمر رضي الله عنه، فقال عمر: أعطني المال الذي عندك واصرف عنا وجهك، يقول لـ عمرو بن العاص وأثبت ذلك أهل السير وهم بشر، لكن الدهاء قد ينفع في بعض المواقف، فأخذ عمر رضي الله عنه المال، فقال عمرو بن العاص: ووالله ما أظن أنني قدرت على عمر إلا في تلك المرة، ولا يفهم من ذلك أن الصحابة يتحيلون على بعض، أو يخادعون الله ورسوله والمؤمنين، لا والله، لكن قد ترتبك بعض حسابات البشر، أو ينسون، أو يغفلون، وعمر لا يعرف الارتباك، ولا يعرف الغفلة.
ولذلك أتت الجارية إلى عمر وقالت: أعطنا حلوى من بيت المال، قال: من أين هذا الدقيق؟ قالت: من عند أهلي، وأخذ بأذنها رضي الله عنه وفركها -فرك أذنها- فقال: الصدق! قالت: عاتكة امرأتك هي التي أرسلتني بالدقيق، قال: هيه! أطفال المسلمين يموتون جوعاً، وعاتكة تدخر، والله لا تذوق حلوى، ووالله لا يعود لها الدقيق، فذهبت:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولارجع الحمار
ولذلك يقول حافظ إبراهيم:
لما اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
قل للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها(138/7)
الذكي يعرف سؤاله
الفائدة الرابعة: حسن السؤال، أن يكون الإنسان عاقلاً في السؤال، فإذا كان المدرس في التاريخ فلا ينبغي أن يسأله في التربية، أو يشرح في الحديث في صحيح البخاري فلا ينبغي أن يسأله في الجغرافيا، ولذلك بعض الأسئلة تدل على سفه أصحابها، وإنما يعرف الأذكياء من الناس بحسن السؤال، والأعرابي دل عليه سؤاله، فقال أهل العلم: لقد كان عاقلاً حين قال هذا السؤال خلافاً لما فعله أعرابي آخر وهو رجل قالوا له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يحدث الناس في المسجد قال: سوف أعلم أهو يعلم الغيب أم لا، فذهب وأخذ ناقته وخرج بها من المدينة وذهب وربطها في وادٍ في ضواحي المدينة ثم عاد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث الناس فقطعه وسط الخطبة وقال: {يا رسول الله! أين ناقتي؟ -وهل الرسول صلى الله عليه وسلم مسئول عنه وعن ناقته؟! وهل يعلم الغيب؟! - فغضب صلى الله عليه وسلم حتى اشتد غضبه فقال عمر: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، فسكت هذا الأعرابي}.
ولذلك يقولون: نص السؤال نصف العلم، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[رضي الله عن أصحاب محمد ما كان أتقاهم لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى -أو أخشاهم لله- ما سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلا في مسائل]] يسألونك عن الخمر، يسألونك عن الأهلة، يسألونك عن المحيض، وهي مسائل معدودة في كتاب الله عز وجل.
ومن حسن السؤال أن يعرض السؤال موجزاً على العالم، وأن يتوخى به وقتاً مناسباً، لا يترك الإنسان وهو في درسه ثم يعرض السؤال عليه، وهو مغضب، أو قلق، أو يكلم أحداً من الناس، أو وهو نائم يأتي إليه ويطرق بابه وسط الليل -الساعة الثانية من الليل- ويقول: كيف أمسح على الخفين؟! فلذلك أيضاً ينبغي تحري أوقات عرضها على العالم.(138/8)
الاهتمام بالأسئلة
الفائدة الخامسة التي تستفاد من الحديث: الاهتمام بالأسئلة؛ فإنه قد لا تفهم القضية من عرضها على الناس، وإنما تفهم بالسؤال، ولذلك ضيع الرسول صلى الله عليه وسلم السائل، واستمر في خطبته، وأعرض عنه، فانقسم الصحابة قسمين:
قسم قالوا: سمع ما قال فكره ما قال، لأنك تعرف من لمحات الشخص، ومن حركاته وسكناته أنه سمع أو لم يسمع.
وقسم قالوا: لا، بل لم يسمع، ولو سمع لأجاب، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم قال: {أين أراه السائل عن الساعة؟} أين أراه: أي ليخرج نفسه، ويرى سؤاله ويعيد ما قال، فسأل فأعطاه صلى الله عليه وسلم العلامة، قال: متى الساعة يا رسول الله؟
قال: {إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة} وهذا جواب الحكيم عند أهل البلاغة؛ وجواب الحكيم أن يسألك بسؤال فتجيبه بجواب آخر لا يريده لكن فيه نفعه، الصحابي هذا البدوي يريد أمراً عجباً، يريد أن يخبره الرسول صلى الله عليه وسلم متى تقوم الساعة؟
لكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بشيء أنفع له وكأنه يقول: أنت لا يهمك هذا، سل عما يهمك، ثم رده إلى الأمانة، وكأنه يقول: عليك بالأمانة، ومن أعظمها أمانة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهي العقيدة التي في القلوب، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} [الأحزاب:72] يقول أهل العلم: الأمانة ليس هي أن يستودعك إنسان خمسين ريالاً فتكون عليها أميناً وأنت في الوقت نفسه لا تصلي، بل إن أعظم الأمانة الصلوات الخمس في جماعة، قبلها حفظ الله عز وجل في كل وقت، فهي الأمانة العظمى.
وقد ورد في القرآن شبيه بذلك فقد سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهلال قالوا: يا محمد! كيف يبدو الهلال ضئيلاً ثم يكبر ثم يصغر؟ وهل هذا سؤال يستحق العرض؟! وما الفائدة منه؟ يقولون: كيف يبدأ كبيراً ثم يصغر؟ فأنزل الله قوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة:189]
و
الجواب
{ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] لماذا لم تسألوا عن فائدة الأهلة، وعن منافعها؟ وسؤالهم مثل أنفسهم.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة}.
وضياع الأمانة كما قال أهل العلم: من علامات الساعة المتحققة في الناس أن تضيع الأمانة، قال الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله رحمة واسعة:
وإن من علامة القيامة إضاعة الأمة للأمانة
والأمانة تضيع، عندما يذكر الأمناء في الناس يدل على ندرتهم، فيقال: في مدينة كذا في حي كذا رجل أمين، يعني: أن الآخرين بمفهوم المخالفة ليسوا أمناء، ولذلك فهذا مدح بما يشبه الذم، كأن تقول: في الفصل الفلاني أو المدرسة الفلانية رأيت خمسة منهم يصلون، يعني: أن البقية بمفهوم المخالفة مذمومون بكونهم لا يصلون، ولذلك يقول حذيفة في الصحيح: [[ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلماً رده علي الإسلام وإن كان نصرانياً رده علي ساعيه -رده عليه أي: السمسار الذي يبيع ويشتري- أما الآن فوالله ما كنت أبايع إلا فلاناً وفلاناً]] أي أنه ينتقي من الناس فلاناً وفلاناً؛ فضياع الأمانة من أكثر علامات قيام الساعة كما علم في هذا الحديث.(138/9)
وقفات مع حديث: (إن من الشجر شجرة)
الحديث الثالث نقدمه على الحديث الثاني لبعض الحكم:
لأنه أشد ارتباطاً في مجال العلم، ثم نعود إلى الحديث الثاني إن شاء الله.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المؤمن، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله بن عمر: ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة} رواه البخاري وعقد على هذا باب عرض الإمام المسألة ليختبر ذكاءهم.
وعرض المعلم على الناس الأسئلة هو المطلوب، ولذلك يقولون: يختلف ذكاء وفهم المتعلم من الطالب وغيره على حسب فهمه للسؤال، ويذكر صاحب كليلة ودمنة إن كان صادقاً وأورده بعض أهل العلم عندما نقلوا أن علياً لما ذكروا له قتل عثمان رضي الله عنه، قال: [[أكلت يوم أكل الثور الأبيض]] فإن عثمان رضي الله عنه لما قتل علم أنه سوف يقتل هو بعده وفعلاً فعل ذلك، فذكر صاحب كليلة ودمنة حادثة الثور الأبيض والثور الأسود أنهما كانا شريكين، يأكلان من ضاحية، ويشربون من غدير، فأتى الأسد إليهما، فلما رأيا الأسد اجتمعا عليه فنطحوه فولى، فأتى إلى الثعلب الداهية وقال له: هنا في الوادي ثوران لم أستطع أن آكلهما، لأنهما ينطحاني إذا اجتمعا علي، قال: أرى أن تمني أحدهم حتى يباعد الآخر، وتثير بينهم العداوة فتأكل الأول، ثم تأكل الثاني، فأتى إلى الأسود فقال: أنت رفيقي وشقيقي وأخي وكذا، فدعنا نأكل هذا الذي أكل عليك المرعى، وشرب عليك الماء، قال: كله لا رده الله، فأتى الأسد فأكل الأبيض فلما انتهى أتى إلى الأسود فأكله.
فأورد الذهبي في سير أعلام النبلاء وابن كثير - أن علياً لما مات عثمان قال: [[أكلت يوم أكل الثور الأبيض]] يعني ما دام عثمان قتل رضي الله عنه، فمن يواجه هؤلاء المبتدعة، ولذلك يذكر صاحب كتاب كليلة ودمنة في باب اختلاف الناس في فهم السؤال، يقول: أتى الأسد فعرض فكاهة على الحيوانات، فضحك كل من حضر من الحيوانات في الحال إلا الحمار، فلما جاءوا في اليوم الثاني إذا به يضحك، قالوا: مالك يا أبا صابر؟! قال: ما فهمت الفكاهة إلا اليوم، فهو قد فكر أربعاً وعشرين ساعة، وفي اليوم الثاني فهم الفكاهة، فكل واحد يضحك على قدر فهمه.
فالمقصود من الحديث أن من فطنة العالم وذكائه أن يعرض السؤال ليرى أفهام الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في سؤال النخلة.
وقصة النخلة: أنه صلى الله عليه وسلم أتي بجمار، وهو قلب النخلة، وهو شيء أبيض يؤكل، وهو كالقماش الأبيض، فأتي به صلى الله عليه وسلم، والناس جلوس، لكن ابن عمر لمح هذا الجمار الذي وضع عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقية الصحابة لم يلمحوا هذا الجمار ولم يروه أو أنهم رأوه لكنهم لم ينتهوا، فلما جلسوا وسكتوا، ومضى شيء من الوقت؛ لأن من الحكمة أن تباعد السؤال عن القرائن، أما الأستاذ الذي يأخذ الطبشورة بيده، ويقول: ما هو الشيء الأبيض الذي إذا كتبت به على السبورة كتب؟
سوف يعرفون أنها الطبشورة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ هذا الجمار ووضعه في الأرض عليه أفضل الصلاة والسلام، فلما سكت الناس واستمر الحديث التفت إليهم وقال: إن من الشجر شجرة مثلها مثل المسلم حدثوني ما هي- ابن عمر كان صغيراً، والصحابة فيهم أبو بكر عمر وعثمان وعلي كبار قادة الإسلام وفاتحو الدنيا، والذين بنوا العدالة في المعمورة، فقال صلى الله عليه وسلم: {إن من الشجر شجرة مثلها مثل المسلم حدثوني ما هي؟ قال ابن عمر: فوقع الناس في شجر البوادي} بعضهم يقول: الطرفاء، وبعضهم يقول: السمر، وبعضهم يقول: السلم، وبعضهم يقول: الأثل، وبعضهم يقول: الخمط، قال ابن عمر: {ووقع في نفسي أنها النخلة} قال الحفاظ: فهم من الجمار الذي أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها النخلة، قال ابن عمر: {فاستحييت أن أتكلم} لأنه بين يدي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؛ لا يستطيع أن يقول: هي النخلة فيقول صلى الله عليه وسلم: نعم، بارك الله فيك، لكن من العلم الذي علمهم صلى الله عليه وسلم ومن الأدب الذي أدبهم أن يتأدبوا مع الكبير، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {كبر كبر}.
وسبب هذا الحديث أنه أتى عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة لما قتل أخوهم في خيبر فأتوا يتكلمون فقام الصغير فتكلم، قال صلى الله عليه وسلم: {كبر كبر} فتكلم محيصة قبله، فهو من أدبهم ألا يتكلم إلا الكبير.
فقال ابن عمر: {فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت} فسكت الناس أي: أنهم عجزوا عن الجواب، فقالوا: {حدثنا ما هي يا رسول الله، قال: هي النخلة} عليه الصلاة والسلام.
يؤخذ من هذا الحديث فضل النخلة، ونحن لا نقول: فضل النخلة قضية تكليفية نتعبد بها، لكن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وصف الكلمة الطيبة بالنخلة، وورد حديث عند البزار بسند جيد: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ في حديث أنس: {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم:24] قال: أتدرون ما هي؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: هي النخلة}.(138/10)
أوجه الشبه بين المسلم والنخلة
ووجه الشبه بين المسلم والنخلة أمور قالها أهل العلم:
1/ ثبات الأصل: فالنخلة ثابتة الأصل والمسلم ثابت الأصل، تعاليمه سماوية، لا يأخذ تعاليمه من البشر، ولا من أفكارهم ولا من خرافاتهم فهو ثابت في الأرض؛ لأن مبدأه ثابت وعميق في الأرض، يعتمد على (لا إله إلا الله) ويعتمد على قرآن من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وعلى سنة من المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، والنخلة ليس على وجه الأرض مثلها فالحنظلة -مثلاً- لو مرت شاة وأكلت منها اقتطعتها واقتطعت عروقها، أما النخلة فإنها تقاوم الإعصار، فهي مثل المسلم بثبات الأصل، هذا وجه شبه بين المسلم والنخلة.
2/ كثرة المنافع: يقول أهل العلم: يؤخذ من طلع النخلة بسر وبلح ورطب وتمر ودبس، ويؤخذ منه نبيذ، ثم عدد ما شئت، هذا من التمر قالوا: ويؤخذ من سعفها الحصير، ويؤخذ منه مكاتل وبسط وفرش، وتستخدم جذوعها في السقف، والمؤمن كذلك منافعه أكثر من أن تحصى، إذا أردته في مجلس ذكر أعانك على الذكر، وإذا أردته في الجهاد وهب نفسه للجهاد، وإذا أردته أن يشارك في مسألة أعطاك ما يمكن أن يشاركك به، وإن كان عنده مال واحتجت له، شارك بماله، وإن كان عنده وقت وبقي له وقت شارك بوقته، يزورك إذا مرضت، ويشمتك إذا عطست، ويشيعك إذا مت، فهو دائماً معك، فمنافعه أعظم من منافع النخلة، لكن وجه الشبه كثرة المنافع بين الجانبين.
3/ ارتفاع القامة وعلو الهمة، فالنخلة هامتها مثل هامة المسلم، أما ترى النخلة قوية مرتفعة، ولذلك إذا هب الإعصار فإنه لا يأتي إلا على أعالي الشجر، فالمسلم همته عالية، دائماً يفكر في معالي الأمور، ويفكر دائماً في الجنة، وفيما يقربه إلى الله، وهمته مثل علو النخلة، ولذلك أنزل الله تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10] قال بعض الأعراب: صليت المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقرأ: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10] فوالله ما علمت ولا أدري ما قرأ بعدها، ولأنني وقفت عندها، ولذلك يقول الزمخشري في التفسير: وإنها لآية عجيبة حقاً، انظر لاختيار الكلمات: النخل باسقات، لم يقل طويلات، جمع باسقة والباسقة الطويلة، قالوا: ومع طولها امتداد قامتها؛ لأن بعض الناس طويل لكنه منحنٍ مكسور الظهر، فمن ارتفاع همة المسلم أنه مثل النخلة في ارتفاع الهمة، فلا يفكر إلا في معالي الأمور.
ولذلك يقال: سل الإنسان فيم يفكر؟ سوف تعلم أي همة يهتم بها، من اهتم بأمر المسلمين أو بإصلاح بيته فهمته من أعلى الهمم، ومن اهتم بغير ذلك فهمته توصله إلى ذلك، يقول ابن القيم في مدارج السالكين: إن الله ينظر إلى همم الناس وإلى نياتهم ولا ينظر إلى صورهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولا إلى هياكلهم ولا إلى أموالهم، فالهمة هي العظيمة؛ ولذلك يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: والله لقد رأيت أناساً في المعمورة، فتعجبت من سقط هممهم، ويظنون أنهم بلغوا الثريا بالهمم، سمعت قول المتنبي في الهمم:
ولكل جسم في النحول بلية وبلاء جسمي من تصاعد همتي
يقول: كل جسم مريض أما مرض جسمي فهو من تعالي همتي، ماذا فعل؟! كان يمدح كل سلطان في كل مكان ويريد الإمارة، ثم مات بلا إمارة ولا دين ولا شيء، كفقير اليهود لا دين ولا دنيا.
فيقول ابن الجوزي: فعدت إلى نفسي فوجدت همتي والحمد لله، لأنه يتحدث عن نفسه كثيراً فهي من أعلى الهمم، أريد أن أحقق العبادة، أن أنفع الناس، وأصلح أهلي، وأترك ورثة يعبدون ويذكرون الله، فهمة المسلم أعظم همة.
4/ ومن أوجه الشبه بين المسلم وبين النخلة: دوام الاخضرار، يقولون: إن النخلة دائماً لا يسقط لها ورقة في الشتاء، ولذلك المؤمن على كلمة واحدة، يقول الحسن البصري رحمه الله: [[تلقاه العام بعد العام وهو على كلمة واحدة، وعلى نية واحدة وعلى عمل واحد أما المنافق فيتلون]] أي: إذا رأى المصلحة معك فهو معك، وإذا رأى أنك لم تقدم له شيئاً فإنه ليس معك، إن أركبته في السيارة ذكرك وأحبك، يوم أن غديته أحبك لكنه حبٌ وقتي للطوارئ، أما المؤمن فهو معك دائماً.
ولذلك يقولون: دوام اخضرار المؤمن في عمله الصالح، فهو على كلمة واحدة، هل هناك مؤمن في الشتاء يزيد إيمانه وفي الصيف ينقص، وزيادة الإيمان مطلوبة، لكن في الشتاء تلقاه بوجه، وفي الصيف تلقاه بوجه، فالمؤمن واحد في الليل والنهار، وكذلك النخلة لا تسقط ورقها في الشتاء، فهي دائمة الخضرة، وهذا من أوجه الشبه.
5/ ومن أجه الشبه ومن اللطائف التي يقولها الغزالي في الإحياء وهي لطيفة مثل الزهرة تشم ولا تعك (لأن الزهرة تشمها بأنفك، أما أن تأخذها بيديك تعكها وتعصرها فليست بعصير).
يقول: وجه الشبه بين المؤمن وبين النخلة أن المؤمن إذا آذيته رد عليك كلاماً طيباً، والنخلة إذا رجمتها ردت عليك رطباً، وهذا شيء جميل.(138/11)
وقفات مع السلف في حسن أخلاقهم
ورأيت في ترجمة عيسى عليه السلام في بعض الكتب أنه كلمه رجل فأبذى عليه ذاك الرجل -سبه وشتمه- فقال: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55].
فقال الحواريون لعيسى: يا نبي الله! كيف يتكلم عليك وترد هذا الرد، قال: كل ينفق مما عنده، ثم يقول: إن مثلي ومثلكم يا أيها الحواريون، كالنخلة إذا رجمت بالحجارة أنزلت على من رجمها رطباً.
وقد تفنن الشعراء في ذلك والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أرسى هذا المبدأ في كتابه حيث قال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] قال أبو عبيد القاسم والأصمعي: سلاماً في القرآن بمعنى سلامة لكن أتت بألف الإطلاق بدل الهاء؛ أي أنهم إذا خاطبهم الجاهلون، وتكلموا عليهم قالوا: سلاماً، أي: أبشروا بالسلامة، لا يأتيكم منا أذى، ولذلك إذا أجبت الشرير بالشر زاد عليك، فبدل أن تكون لطافة وكلاماً سهلاً يردون عليك بالمشاعيل نسأل الله السلامة من المشاعيل!
والمقصود أن حسن الجانب واللين يطفئ ثائرة الضغينة، ويقولون: ما رأينا أقتل للشرير من السكوت.
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت
جاء رجل إلى أبي بكر فقال: والله لأسبنك سباً يدخل معك في قبرك، قال أبو بكر: [[والله لا يدخل معي وإنما يدخل معك أنت في قبرك]].
وجاء رجل إلى عامر الشعبي -وسوف يمر معنا في أذكياء الناس في الأسئلة- أتاه وهو يفتي الناس -وأورد ذلك الذهبي وغيره- فقال: يا أبا فلان يقصد الشعبي وهو عالم من علماء المسلمين: ما اسم زوجة إبليس؟ انظروا إلى هذا السؤال الخطير، فرفع الشعبي رأسه، وكان لا يتلعثم وكانت فيه دعابة، قال: لم أحضر الزواج كان عندي شغل يوم وليمتهم، لأنه ما دعي، وما وجهت له دعوة ولو وجهت له دعوة، فهو مشغول.
الشاهد أن الشعبي رحمه الله وقف رجل فسبه أمام الناس، فقال الشعبي: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كذاباً فغفر الله لك.
هل وراء هذا السؤال شيء أعجب من هذا الجواب؟ ماذا يقول بعدها؟ سوف ينعصر ذاك خجلاً ويموت كمداً، ثم يأخذ حذاءه ويقول: السلام عليكم.
ولذلك أفضل ما يمكن أن تقتل به السفيه أن تسكت مهما تكلم ومهما قال، أن تسكت وتقول سلاماً، وتبتسم.
ويذكر في ترجمة عمر بن عبد العزيز -وذكرها صاحب البداية والنهاية - أنه ذهب ليقوم الليل في مسجد بني أمية، وكان خليفة فذهب، فأخذ حذاءه بيسراه ودخل المسجد، وإذا برجل نائم في المسجد فوطئه برجله في الظلام، فقام النائم فزعاً فقال: من هذا الحمار الذي وطئني؟ وهذا موجود في ترجمته، قال عمر بن عبد العزيز: أنا عمر بن عبد العزيز، ولست بحمار والحمد لله، فذهب ذاك الرجل يولول ويتأسف ويخبر الناس، فقالوا: من الخلفاء الراشدين رضي الله عنه وأرضاه.
فالشاهد من هذا هو أهمية الرد الجميل وكذلك اختلاف الناس في الفهم، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى جعل أفهام الناس بالتفاوت حتى يقولون: بين الناس تفاوت كما بين السماء والأرض، ولا تظنوا أن فضل الناس عند الله على حسب الذكاء، وأن الذي يحفظ جدول الضرب عن ظهر قلب هو أفضل من الذين لم يحفظوا جدول الضرب، لا فإن هذه وسائل دنيوية قد يستخدمها الإنسان في طاعة الله، وقد يستخدمها في المعصية، لكن الميزة عند الله هي التقوى.
ولذلك الذين اكتشفوا القنبلة الذرية هم من أذكياء الناس بلا شك ولو كانوا كفاراً، ولا تقولوا: الكفار ليسوا بأذكياء بل منهم الأذكياء، لكن الواحد منهم أنجس من الكلب والخنزير، فذكاؤهم لا ينفعهم عند الله؛ لأنه لم يرفعهم عند الله ولم يستخدموه فيما يقربهم منه سبحانه وتعالى.(138/12)
قصص تدل على ذكاء المسلمين
وهنا سوف أذكر ذكاء أهل الإسلام، فمن أذكى الناس علي رضي الله عنه ولقد كانت جواباته من أذكى جوابات الناس، حتى جمع بعض أهل العلم فصولاً في جواباته، مثل ابن عبد البر جمع له جوابات: سأله سائل كم بين العرش والأرض يا أمير المؤمنين هل علي رضي الله عنه قاس المسافة؟ هل عرفها بالأميال والكيلو مترات؟ لا.
بل قال علي رضي الله عنه: [[دعوة مستجابة]] بين الأرض وبين العرش دعوة مستجابة.
ولذلك يقول ابن أبي الحديد -وابن أبي الحديد متهم، عنده ملعقتين من التشيع في التاريخ، ولذلك يتهم في ذاك الجانب -لكنه يقول: بهت علي الناس بذكائه وفطنته رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك أتى سبعة أناس شاركوا في قتل رجل عند علي، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {أقضاكم علي} شارك السبعة في قتل رجل، فقال علي: عليَّ بالسبعة جميعاً، فأتوا فأدخلهم في صيوان عنده رضي الله عنه وأرضاه، فقال لجنوده: أمسكوا كل رجل عند سارية من السواري، فأخذوا كل رجل وجعلوه عند سارية، فأتى إلى الأول فقال: أنت قتلته؟، قال: لا والله ما قتلته، قال علي: الحمد لله الله أكبر، فتوهم الستة أن هذا اعترف، فقالوا: فضحنا، فأتي بالثاني، فقال: ماذا فعلت؟ قال: قتلته، أتوا بالثالث، قال: قتلته وشاركت في قتله، فاعترف الستة، فلما انتهى رضي الله عنه قال للأول وقد جحد: إما أن تعترف وإما والله لأقتلنك فإنهم قد شهدوا عليك، فاعترف.
يقول صلى الله عليه وسلم: {أقضاكم علي.
ومن الأذكياء عند الناس شريح ولذلك يقول الناس: ما سمعنا في قضاة المسلمين أذكى من شريح رضي الله عنه، فـ شريح القاضي من أذكياء الناس، دخل عليه رجل وامرأتان، فكانت المرأتان متحجبتين فتكلمت إحداهما، ثم تكلمت الثانية، ثم تكلم الرجل، فقال: قوما عني، فجمع مستشاريه والجلاس معه، قال: أما امرأة منهم فهي ثيب، وأما الثانية فإنها بكر، وأما هذا الرجل فإنه رضع من كلبة، وذكر ابن كثير أنهن ثلاث نسوة، وأما الثالثة فإن صوتها ضعيف وإنها حامل بولد، قالوا: كيف عرفت؟ قال: أما الثيب فهي جريئة تتكلم وتنظر في وجوه الرجال، وأما البكر فإنها خجولة تنكس رأسها، وأما هذه الحامل فإني أسمع زفيرها وعلمت أنها حامل بولد، وأما هذا الرجل: فإنه اضطرب وأصابته قشعريرة حتى انتفض شيء من وجهه فعلمت أنه رضع من لبن كلبة، فسألوهم فوجدوا هذه ثيباً، وهذه بكراً، وهذه حاملاً وأتت بولد، وقالوا للرجل: نسألك بالله هل رضعت من لبن كلبة؟ قال: ماتت أمي وأنا صغير ونحن في البادية وقد ماتت الأغنام من القحط ومن الجدب، فما وجدوا إلا كلبة تدر فأرضعوني منها مرة واحدة.
ومن القضايا التي تؤخذ من حديث النخلة: تقديم الأكابر أهل الصلاح، ولا يقتضي تقديم الأكابر أن تقدم الكبير ولو كان خواجة، لا، بل تقدمه إذا كان مسلماً يقوم بالفرائض ويؤدي ما افترض الله عز وجل، ويحترم حدوده، أما الفاسق فلا تقدمه ولو كان عمره ثلاثمائة سنة، بل تؤخره مثلما أخره الله.
ولا يقتضي التقديم دائماً أن نقدم الكبار دائماً، بل نقدم أهل الفضل من الكبار وغيرهم.
وعمر بن عبد العزيز اجتمع بالناس، وقام غلام من أهل الشام أو من أهل العراق فتكلم بين يديه، فقال عمر: اجلس ففي المسلمين من هو أولى في هذا الموقف منك، قال: يا أمير المؤمنين، لو كان الأمر بالسن لكان في المسلمين من هو أولى منك بالخلافة، فتبسم عمر رضي الله عنه وقال:
تعلم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علم كمن هو جاهل
فدعا له رضي الله عنه وأرضاه وقدمه من أجل ذلك.
ويقول ابن عباس في الصحيح: كان عمر يقدمني -كما في صحيح البخاري - مع أشياخ بدر يستشيرني معهم، فقال الصحابة الكبار: إن لنا أبناء مثل هذا فكيف يقدمه ويترك أبناءنا، فلما علم عمر أنهم وجدوا في أنفسهم دعاني ودعاهم، فعلمت أنه ما دعاني إلا ليريهم فضلي، فقال لهم بعد أن استمعوا: ماذا تقولون في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3] فسكتوا إلا بعضهم تكلم، قالوا: إن الله يأمر رسوله إذا فتح الله عليه ونصره أن يكثر من الاستغفار والتسبيح، قال: أعندكم جواب غير هذا؟
قالوا: لا، قال: وأنت يـ ابن عباس؟ قال: هذا أجل الرسول صلى الله عليه وسلم نعي إليه، أخبره الله بأجله، فتبسم عمر، وقال: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم منها أنت، فأقر له الصحابة بالعلم والفضل، وقدمه عمر بذلك رضي الله عنه، فتقديم الأكابر أمر مطلوب إذا كان فيهم صلاح، وما زال المسلمون في خير ما احترموا كبيرهم ورحموا صغيرهم.
القضية الخامسة: طرح الأسئلة على المتعلمين.
أخذت من هذا الحديث وقد أسلفت الكلام عنها، ولكن ليعلم أن من أحسن الأسئلة ما دار حول الدرس المشروح، أو ما دار حول القضية المطروحة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما طرح عنده الجمار، سأل الصحابة في ذلك وقد تعزب على المعلم أن يمهل الناس، أو يمهل الطلبة، له أن يعطيهم يوماً فيتفكرون ويتدبرون في ذلك.
وقالوا: إن الهيبة الشديدة ترهب الطلبة، أو تربك المتعلمين، فإذا كان العالم دائماً مهاباً لا يقتربون منه، حتى ورد في كتب الحديث وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء قال: كان من المعلمين محدث كبير وكان مهاباً، ولا يستطيع الناس أن يعطسوا في مجلسه، إذا أردت أن تعطس عنده فعليك أن تأخذ حذاءك وتخرج لتعطس خارج المسجد ثم تعود، قالوا: وإذا سمع قرقعة الأوراق غضب، وطرح الكتاب، وخرج ودخل بيته.
فأتى رجل فكظم أنفاسه أراد أن يعطس، فما استطاع أن يكتم أنفاسه فعطس، وقال: تكفي مرة ولكنها لم تكفه، عطس مرة ثانية، وأتبعها بثالثة، لما احمر وجه العالم وغضب، فالتفت هذا التلميذ وقال: أو نحن جلوس عند رب العالمين؟!
فيقول الذهبي: إن من الحكمة أن يتلطف المعلم مع تلاميذه حتى لا يجدوا حرجاً في سؤاله وفي استشارته وفي عرض مشاكلهم عليه، لأنه إذا كان مهاباً جداً خافوا منه، حتى إذا ذهب الإنسان منهم يريد أن يسأله صلى ركعتين، وقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، وقرأ المعوذتين ثم سأله، وربما يجيبه أو لا يجيبه، وأكثر الأحيان بعض الناس يجعل الله فيهم جبلات وفطر، بعضهم لا يتحمل السؤال أبداً.
ولذلك يقولون: الأعمش كان لا يُسأل رحمه الله هو جائع حتى يتغدى، ولا يسأل وهو غاضب حتى يرضى، ولا يسأل وهو واقف حتى يجلس، حتى سأله رجل في الطريق من الحاكة الذين يحيكون الثياب، سأله رجل منهم، فقال: يا أبا محمد! هل تجوز الصلاة وراء الحائك؟ وهذا سؤال مستفهم مسكين يظن أنه عندما يكون في هذه الصنعة لا يجوز إمامته.
قال: نعم تجوز بلا وضوء.
قال: وهل تجوز شهادتنا؟
قال: نعم، تجوز مع شاهدي عدل.
القضية السادسة التي في الحديث:
أن على الداعية أن يضرب الأمثال للناس، فإن الله عز وجل ضرب القصص والأمثال للناس وطرحها ليتفكروا ويتدبروا: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم:24] (مثلاً ما بعوضة) وضرب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالذباب مثلاً، وضرب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالعنكبوت وبالبعوضة مثلاً، فللمسلم أو الداعية أو العالم أن يضرب الأمثال للناس حتى يستفيدوا من ذلك.(138/13)
حديث: (ويل للأعقاب من النار)
أما الحديث الثالث: وفيه قضايا، وهو من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -الزاهد العابد- قال: {تخلف عنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة أي: أدركتنا وتغلبت علينا وتضايق الوقت ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار، مرتين أو ثلاثاً}.(138/14)
استحباب رفع الصوت بالعلم
بوب البخاري رحمه الله لهذا الحديث (باب من رفع صوته بالعلم) وأخذ من هذا الحديث ملاحقة النبي صلى الله عليه وسلم بالتربية والتعليم لأصحابه في كل شأن، كبير وصغير، ويقول العباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم: [[والله، والله، والله ما رجل معه قطيعة من الغنم يحدب عليها ويهش عليها من الشجر، ويظلها من الشمس ويكفها من المطر بأحرص من محمد صلى الله عليه وسلم على أمته]].
قيل لـ سلمان: علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء؟ قال: {والله ما ترك لنا من شيء حتى ما من طائر يطير بجناحيه إلا أعطى منه خبراً}.
كان عليه الصلاة والسلام يعلم الناس، ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: لا بد للمسلم أن يولد في الإسلام ولادتين، مرة يوم أتت به أمه، ومرة يولد في هذه الشريعة، ثم يقول رحمه الله: وأرض لم تشرق عليها شمس الرسالة أرض ملعونة، وقلب لم يشرق عليه هذا الدين قلب مغضوب عليه، ويقول في قراءة أبي "وأزواجه أمهاتهم"، قال: قرأ أبي: وهو أب لهم.
كان يعلم الناس مثلما يعلم الأب أبناءه، بل والذي نفسي بيده لهو أحرص على تعليم الناس من الأب على تعليم أبنائه، يأتي إلى الناس فيعلمهم قضاء الحاجة هل هناك معلم في البشر، أو زعيم من الزعماء، أو عظيم من العظماء وقف أمام أمته وأخبرهم كيف يقضون الحاجة، هذا عليه الصلاة والسلام علمهم كيف يقضون الحاجة، بل يقول أهل العلم: فيها أكثر من عشرة أحاديث صحيحة -وأيضاً- وما يقارب العشرة فيها ضعف، علمهم ألا يستقبلوا القبلة، ولا يستدبروها، علمهم كيف يجلس الإنسان، وماذا يقول إذا دخل الخلاء، وماذا يقول إذا خرج، ومتى يرفع ثوبه، وكيف يقضي حاجته، وهل يذكر الله، وهل يرد على الذي يسلم عليه، وأن يرتاد مكاناً رخواً، ثم علمهم شعيرة السواك، فأتى بالأحاديث وهي ما يقارب الثمانية كلها صحيحة، فهل هناك معلم وراء هذا التعليم؟!!
ولذلك والله ما مات حتى ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، وما ترك شراً إلا حذرنا منه، فعليه أفضل الصلاة والسلام، كل مسلم في عنقه يد بيضاء للرسول صلى الله عليه وسلم، وكل داعية يقوم أو عالم يتكلم أو طالب علم يريد أن يفهم مسألة أو مؤذن يؤذن في منارة أو إمام يؤم الناس فهو إصبع من يد محمد صلى الله عليه وسلم وهو ورقة من دوحته المنيفة:
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
فعليه أفضل الصلاة والسلام.
وبعد فترة إن شاء الله سوف نعايش في مسائل وأحكام قضايا المرأة، قضايا الحيض والنفاس، فهو يعلم المرأة ويفهمها عليه أفضل الصلاة والسلام ويفقهها في الدين بروية وتمهل في كل مسألة تخصها جليلاً كان أو حقيراً، كبيراً كان أو صغيراً.(138/15)
الاستعداد للعبادات قبل دخول وقتها
يقول ابن عمرو {تخلف عنا النبي صلى الله عليه وسلم} ومن هديه صلى الله عليه وسلم في السفر أنه كان يتخلف عن الناس، يأتي في آخرهم فيزجي الضعيف، ويدعو له، ويحمل ما ترك الناس من متاع على جمله ذلك.
كان عليه الصلاة والسلام أحن من الأب على أبنائه -كما أسلفت- أتى في آخر الجيش، والناس قد تقدموا عليه صلى الله عليه وسلم، فأدركهم، وهو يقول: أرهقتنا الصلاة أي: عاجلنا وقت الصلاة، فأخذ الصحابة يتوضئون وضوء المستعجل، والمستعجل إذا قام يتوضأ مثل الذي يستعجل في الصلاة يترك أشياء، حتى يدخل مع الإمام في الركعة الأولى ولكيلا يضيع الوقت في المسجد فيأتي يتوضأ فلا تنفتح له الجبة، فيحاول أن يرفعه هكذا وهكذا، فيغسل ما وصل إليه ثم يخرج ساعته ويضعها في جيبه وسواكه في الجيب الآخر وأقلامه في الجيب الثالث، فيدخل المسجد كالمجنون -نسأل الله العافية- هذا حال المتخلف يترك الحذاء بين الواحدة وبين الأخرى ثلاثة أمتار ويأتي سعياً فلا يدري يدخل في اليمين أو في اليسار أو يسحب واحداً أم لا، ثم يقف وإذا كبر أخذ يخرج الساعة وينظم هندامه، ولذلك يقال: إن الإرهاق في العبادة ليس بمطلوب.
قال ابن القيم في مدارج السالكين: من الأدب الاستعداد للعبادة.
إذا علمت أنه سوف يؤذن للظهر فلتتوضأ وتتجهز لصلاة الظهر وهكذا بقية الصلوات، فتعرف أنه فجر، أما أن يجلس الإنسان في بيته وعنده أضيافه وسماره، فإذا أتى وقت صلاة العشاء -مثلاً- يقول: سبحان الله! صلاة الآن، إذا أنت مسلم تصلي فنعم صلاة الآن، وأورد ابن الجوزي صاحب صفة الصفوة قال: بلغ من حرص السلف على التهيؤ للعبادة أن النجار منهم في العبادة مثل أعبد عبادنا الآن وأزهد زهادنا، كان النجار عنده مطرقة ينجر بها، فإذا سمع الله أكبر لم يستطع أن يردها بعد أن يرفعها، بل يسقطها وراء ظهره.
وتقول عائشة في صحيح مسلم لما سألها الأسود بن يزيد النخعي كيف يقوم صلى الله عليه وسلم إذا سمع الصارخ؟ قالت: {كان يثب وثباً} قال: وعلمتم ماذا تريد من كلمة يثب وثباً، أي أنه: من حرصه صلى الله عليه وسلم على الصلاة يثب، وهي ليست بصلاة الفجر لكنها صلاة الليل وما قالت: يقوم قياماً، ولا يقف وقوفاً، ولكن يثب كالأسد وثباً صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله وصف المنافقين بقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142].
تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: {كان صلى الله عليه وسلم معنا في مهنة أهله} يقطع معهم اللحم، ويخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته: {فإذا سمع الله أكبر قام من بيننا كأننا لا نعرفه ولا يعرفنا}.
أجل هذا هو الإسلام، بهذه الحرارة، وهذا التوقد، وهذه الحركة، وهذا التقدم إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37] هل الإسلام حفظ محاضرات ومعلومات؟ أو أن يجعل الذهن سلة مهملات ثم إذا أتى داعي الله فإذا الإنسان كتلة هامدة ميتة لا حراك فيها، لا، ليس هذا المطلوب.
إذاً يؤخذ من هذا الحديث أنه لابد من الاستعداد للعبادة قبل دخولها، فهو من الأدب معه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أما الصحابة في هذا الحديث فإنهم يعذرون لأنهم في سفر رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال: {أدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أرهقتنا الصلاة -أي أرهقنا وقتها، وضايقنا وقت الصلاة، حتى دخل علينا- ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا} والمسح هنا: هو الغسل، ليس المسح المعروف أن تمسح؛ لأنه ما ذكر الخف هنا، فالمسح معناه الغسل، وفهمه الشيعة أنه المسح وما أدراك ما فهم الشيعة!! هم أجهل خلق الله! لا يفهمون شيئاً حتى يقول ابن تيمية: هم أجهل الناس بالمنقولات، وأضل الناس بالمعقولات، ويقول الشعبي: قاتل الله الرافضة، لو كانوا من الحيوانات كانوا حمراً -كانوا حميراً- ولو كانوا من الطيور كانوا رخماً -يعني أنهم ليس عندهم عقول، نعم عندهم عقول ويأكلون ويشربون لكن النصوص فسروها ولووا أعناقها، وأبطلوها بسبب نحلتهم التي انتحلوها في الدين، فيقولون: معنى نمسح أي: نمسح بأيدينا، فهم الآن يمسحون، ويرون المسح لكن العجيب أنهم لا يرون المسح على الخفين، المسح على الخفين الذي ثبت بأحاديث لا يقبلونه والمسح على الأرجل مباشرة يقبلونه، انظروا إلى هذا الفقه الأعوج.
ولكن ما هو الرد عليهم؟ وهل هم صادقون؟
ظاهر الحديث أن المسح على الأرجل وارد، لكن يستدل بقوله أهل العلم: {فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار} فلو أنه كان مسحاً لظاهر القدمين لما قال صلى الله عليه وسلم: {ويل للأعقاب من النار} لأن العقب في آخر القدم، فأقبل صلى الله عليه وسلم يقول: ويل لأعقابكم إن لم تغسلوها بالماء، فتأكدوا من غسل أعقابكم، فلو كان يكتفى بالمسح، لسكت صلى الله عليه وسلم لأنهم مسحوا، لكن ليس هذا هو المسح، المسح كما يقول ابن حزم والشوكاني وغيرهما من أهل العلم، يطلق على الغسل، ويطلق على المسح المعروف، لكن كيف نعرف الغسل من المسح المعروف؟ نعرف ذلك بسياق الحديث وبالقرائن، فقال صلى الله عليه وسلم: {ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً}.
في هذه المسألة رفع الصوت بالعلم، وعقد له البخاري (باب: من رفع صوته بالعلم) ويقول جابر في صحيح مسلم: {كان صلى الله عليه وسلم إذا خطبنا رفع صوته واشتد غضبه، واحمرت عيناه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم} وذلك حتى تصل إلى القلوب، أما أن يميت الإنسان القضية كأنه يأتي بقضية جهادية ثم يتحدث بضعف فإنه يميت الخطبة ولو كان وراءها إخلاص، إذ لا بد للإخلاص من قوة في الأداء وقوة في التأثير، ولا بد له من وسائل فالإخلاص بلا وسائل ضعف، يقول بعضهم: يكفيني إخلاص! وليس عنده علم ولا تأثير، وهذا لا يكفي، ووسائل بلا إخلاص معناه الدمار والفشل نسأل الله العافية.
ولقد رأت عائشة شباباً يمشون متماوتين، فقالت: [[من هؤلاء؟ قالوا: عُبَّاد، قالت: كان عمر رضي الله عنه أنسك لله وأخشى لله منهم، وكان إذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، وإذا مشى أسرع]].
فالمطلوب أن يرفع الإنسان صوته على قدر الحاجة، إذا كان في غضب ووقت تأنيب في الفصل، أو في أهله، أو في مجتمعه ورأى ما يخل بالأدب، أو ما يخالف الشريعة فله أن يرفع صوته ليكون هذا لهم تأديباً، كأن يأتي الأستاذ فيرى الطلبة صلوا جميعاً الظهر إلا أحدهم لم يصل هل يقول: ما لك -بارك الله فيك وفتح الله عليك- لم تصل معنا؟!
هل يلقي عليه محاضرة؟! لا، هذا لا بد له من تعزير، برفع صوت وتشهير، حتى يعرف الناس أنه ارتكب جريمة، لأنه إذا هدأ المسألة وتركها فسوف يقول الطلبة: يمكن أن الشيخ وجد في بعض المسائل أنه يجوز ترك صلاة الظهر، فيترك بعضهم لهذا الأمر، فالمسألة بحسب المقام، يقول أهل العلم: رفع صلى الله عليه وسلم صوته هنا لاقتضاء المقام أن يرفع صوته لوجود المخالفة في مسائل التكليف.
والمسألة الثانية: التكرار، والتكرار يفهم به العلم لذلك يقول أهل الأندلس:
كرر العلم يا كريم المحيا وتدبره فالتدبر أحلى
وأنصح نفسي ومن يريد أن يذاكر مسألة أو باباً من أبواب العلم أن يكرره، ولا يمل منه، وليست المسألة كثرة كتب، بل يكفيك خمسة كتب، أو ستة كتب وتكررها حياتك، وتستقي منها علمك، أما أن يجمع الإنسان مكتبة كثيرة الكتب ويقول: سوف أمر بها وأفهمها، فمن أين سوف يفهم؟! قد يأخذ من كل بحر قطرة! لكنه لا يحوي عليها؛ فالتكرار أحسن طرق العلم.
يقول الذهبي في ترجمة أبي إسحاق الشيرازي -هذا العالم الكبير والزاهد لله عز وجل- في سير أعلام النبلاء لما ذكر سيرته قال: كان عنده ثوب واحد وعمامة ماملك بيتاً ولا ادخر مالاً، ولم يكن عنده من الدنيا شيء، فقال الذهبي: فهذا والله هو الزهد، نحل جسمه من كثرة العبادة، يقول: كنت أكرر الدرس قبل أن أشرحه لطلابي مائة مرة -يقول: هذا وهو عالم الدنيا- كنت لا أشرح الدرس لطلابي حتى أكرره مائة مرة، يعني يلخص الدرس ثم يكرره فيفهمه، ويقول الذهبي عنه كذلك: كنت أكرر كل قياس من أقيسة المنطق ألف مرة.
وفي سير أعلام النبلاء للذهبي في المجلد التاسع عشر في ترجمة القرطبي الجد، قال: كررت والحمد لله صحيح البخاري سبعمائة مرة، فالذي يرى أنه سوف يقرأ بلوغ المرام مرة أو مرتين وسوف يفهمه، لن يفهمه بهذا؛ لكن يفهمه بعد أن يقرأه عشر مرات أو خمس عشرة مرة، أو عشرين مرة ليفهم قضاياه؛ لأن هذا العلم عبادة، والتكرار عبادة، وإذا أجهدت نفسك في مرضاة الله فهي عبادة، هذه هي قضية التكرار وما أتى فيها، فكان صلى الله عليه وسلم إذا سلم سلم ثلاثاً بحسب المجلس، أو بحسب بركة ما يقوله صلى الله عليه وسلم أو لأمور أخرى.
يدخل المجلس ويقول: السلام عليكم ورحمة الله، فإذا مضى قليلاً، قال: السلام عليكم ورحمة الله، فإذا انتهى إلى المجلس قال: السلام عليكم ورحمة الله، وكان يكرر اسم الشخص إذا أراد أن ينبهه على أمر عقدي، أو أمر تكليفي ينبهه ثلاثاً يقول: يا معاذ! قال: لبيك وسعديك يا رسول الله، فيسكت صلى الله عليه وسلم، فيقول: يا معاذ! فيقول: لبيك وسعديك يا رسول الله، فيقول: يا معاذ! قال: لبيك وسعديك يا رسول الله، فأصبح معاذ متهيئاً، وكل ذرة فيه جاهزة لما يلقى عليها، أما أن تأتي إلى الطالب أو إلى المتعلم وتقول: يا فلان وهو مستعجل وهو يشتري شيئاً أو يبيع أو يتكلم في شيء، فتقول: إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول كذا وكذا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، فإنه لن يفهم ما قلته فعليك بالتكرار لأنه مطلوب.
ومن القضايا التي يستفاد من الحديث -وقد سبقت معنا- شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته.
ونسأل الله تبارك وتعالى الذي بيده مفاتيح القلوب أن يفتح علينا وعليكم، وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا يجعل منا ولا فينا ولا بيننا شقياً ولا محروماً، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الصلاح في الباطن والظاهر.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(138/16)
الفاروق في القرن الخامس عشر
عمر بن الخطاب رضي الله عنه شخصية ألمعية, وعبقرية فذة, وعدالة نادرة, لا تخفى على مسلم, وحياته حافلة بالمواقف الموفقة, والدروس المتألقة: كالعزة الفريدة, والتواضع العجيب.
وفي هذا الدرس تجد استعراضاً لبعض المواقف التي سطرها التاريخ بقلم الصدق عن تلك الشخصية الفريدة.(139/1)
تعريف بعمر بن الخطاب
قال الشيخ عبد الوهاب الطريري حفظه الله في مقدمة المحاضرة:
الحمد لله على نعمائه، والشكر له على آلائه، وصلاته وسلامه على أفضل خلقه وأشرف أنبيائه، ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيا عمر الفاروق هل لك عودةٌ فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
يحاصرنا كالموت ألف خليفة ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصر
تأخرت يا أغلى الرجال فليلنا طويلٌ وأضواء القناديل تسهر
سهرنا وفكرنا وشاخت دموعنا وشابت ليالينا وما كنت تحضر
دخلت على تاريخنا ذات مرةٍ فرائحة التاريخ مسكٌ وعنبر
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا الفاروق أنت المحرر
تضيق قبور الميتين بمن بها وفي كل يومٍ أنت في القبر تكبر
نحن الليلة على موعدٍ مع رحلة تخترق حقب الزمن, وترفع حجب التاريخ، لنفضي إلى ساح شريف ورحابٍ منيف، إنه رحاب الإمام العبقري، والمحدث الملهم الفاروق عمر؛ لنرى رجلاً عظيماً بفكره عظيماً بأثره عظيماً بخلقه عظيماً ببيانه عظيماً قبل ذاك بإيمانه، إنه العبقري الذي جمع العظمة من أطرافها.
نفضي إلى ساحه لا لنقيم مأتماً في ذكراه، ولكن لنستكشف مواضع العبرة من سيرته، ومواقع القدوة من شخصيته، لأن أمتنا المعطاءة، لم ولن تعقم أن تدفع من يعيد سيرته، ويقفو طريقته.
أما قائد هذه الرحلة وربانها فهو العالم، بل الداعية، بل الأديب، بل الأريب، بل كل ذلك وأكثر من ذلك، إنه صاحب الكلمة التي تسمعها فيتراءى لك صدق اللهجة, وحرارة الإخلاص, ووضاءة الحق, ونور الحقيقة.
يحملنا ربان هذه الرحلة على جناح الكلمة المشرقة، والعبارة المتألقة، فإذا المعاني شاخصة، والحقائق ناطقة، فيا أبا عبد الله هذه الآذان قد أنصتت فصافحها بكلمتك، وهذه الأبصار قد نظرت فعانقها بطلعتك.
فقم حادث الدنيا كأنك طارقٌ على بركات الله يرسو ويبحرُ
قال الشيخ عائض القرني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين, وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن سار على منهجه إلى يوم الدين.
أيها الكرام أيها الموحدون يا أبطال العاصمة حياكم الله!
أهلاً وسهلاً والسلام عليكم وتحية منا تزف إليكم
أحبابنا ما أجمل الدنيا بكم لا تقبح الدنيا وفيها أنتم
قمت وأنا -والله- كالمتحير, ما ظننت أن هذا الخطيب سوف يوقفني في هذا الموقف المدهش، وأنا أجعله أستاذاً وشيخاً لي، وأعلم من قدراته وفضله ما ليس فيَّ، ووالله! ما أتيت أكيل له المدح هاء وهاء ويداً بيد، لكن من باب أن يعرف الفضل لأهله، فهو رائدٌ من رواد الصحوة، وشيخٌ من شيوخ البلاد، أقولها كلمة وأنا مسئول عنها، وأما ثناؤه عليَّ فأنا أعرف بنفسي, وأسأل الله أن يغفر لي ما لا يعلم.
أيها الأخيار أيها الفضلاء عنوان المحاضرة (الفاروق في القرن الخامس عشر) وكان العنوان (الفاروق في القرن العشرين) لكن من الذي أسس التاريخ الهجري؟!
أليس عمر؟
أليس وفاءً منا أن نجعل التاريخ بالهجري بدلاً من الميلادي, لأنه أسس التاريخ؟
بلى أيها الأحباب! فأنا أعرف أن الأطفال عندنا في الابتدائية يعرفون أين ولد عمر , ومتى ولد؟ وأين توفي؟ ومتى توفي؟ ولكن أعرف أن من أساتذة الجامعة من لا يعرفون سطوع عمر، ولا عبقرية عمر.
وأنا لن أحدثكم اليوم عن تاريخ الأموات عن زوجات عمر وأبنائه، أو عن لباس عمر , ولكني سوف أحدثكم عن تاريخ الأحياء الذي عاشه عمر رضي الله عنه إماماً وعبقرياً وعادلاً.
أسلم عمر بسورة طه، وكان أصدق من الشمس في ضحاها، وأوضح من القمر إذا تلاها، وأشهر من النهار إذا جلاها، تولى الخلافة فأعلاها، وقاد الأمة ورعاها.
من أين أبدأ يا أبا حفص ولي قلب له في حبكم أسرارُ
يا أيها الفاروق تاريخ الورى زورٌ وفي تاريخكم أنوار
لقبه الفاروق، وقد لقبه بذلك أهل الكتاب، أسلم وعمره بضع وعشرون عاماً، وشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها، وهو أول من عس بـ المدينة، ودار كالشرطة في الليل، وحمل الدرة، وأدب بها، وجند الجنود، ودون الدواوين، وفتح البلاد.
كان خشن العيش، قليل الضحك، لا يمازح أحداً، كثير البكاء، نقَش بخاتمه: (كفى بالموت واعظاً يا عمر) وهذا من كلام ابن كثير.
والله ما ادكرت روحي سيرته إلا تمنيت في دنياي لقياه
ولا تذكرته إلا وخالجني شوق أبو حفص فحواه ومعناه
تبكي عليه الملايين التي فقدت بموته عزة الإسلام إذ تاهوا
الطفل من بعده يبكي عدالته يقول هل مات ذاك الغيث أماه
والناس حيرى يتامى في جنازته تساءلوا من يقيم العدل إلا هو
مضى إلى الله والآلاف تندبه ابن الشريعة حياها وحياه
إني أحييك من قلبٍ يقطعه شوقي إليك فهل واسيت فقداه
يقول خالد محمد خالد -وأنا أعترف وأزيد على ما قال- يقول: لست أكتب تاريخاً لـ عمر، ولا أزيد معرفةً بـ عمر، ولكني لا أرفع شأوه، ولا أزكي على الله نفسي بالكتابة عن عمر، فالله أحبه واصطفاه، لأنه الرجل الكبير في بساطة، والبسيط في قوة، والقوي في عدل، والمتواضع في رحمة، والرحيم في تواضع.(139/2)
فضائل عمر
يترجم الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عمر بن الخطاب! الشيخ الإمام يترجم لأحد طلابه ويثني على أحد تلاميذه، فاسمع إليه عليه الصلاة والسلام.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك بـ عمر بن الخطاب أو بـ عمرو بن هشام} رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان، ورواه أيضاً الطبراني عن ابن مسعود والحاكم عن ابن عباس، وأغار عليه الألباني فضعفه ومزقه شذر مذر، وأنا أقول: ما زال الحديث يحتمل التحسين إن شاء الله.
وعن ابن عباس عند الحاكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم أعز الإسلام بـ عمر بن الخطاب} وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بينما أنا نائمٌ رأيتني في الجنة بجانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لـ عمر بن الخطاب فأردت أن أدخله فذكرت غيرتك يا عمر؛ فبكى عمر؛ وقال: أعليك أغار يا رسول الله}.
إذاً أصبح قصره هناك، لا بطوله ولا بأمواله ولكن بمؤهلاته التي سوف تسمعونها هذه الليلة ترشق آذانكم رشقاً.
وعند الترمذي من حديث حذيفة بسندٍ حسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر} قال ابن تيمية في كتاب قتال أهل البغي: "وإنما خص الشيخين لأن عثمان تأول في الأموال، وعلياً تأول في الدماء، وأما أبو بكر وعمر فلم يتأولا، لا في الدماء ولا في الأموال" لله درك!
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بينما أنا نائمٌ أُتيت بلبنٍ فشربت حتى رأيت الري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم} إنه العلم الشرعي العلم الذي وصله بالله، وهو علم الخشية؟ علم إياك نعبد وإياك نستعين.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بينما أنا نائمٌ رأيت الناس يعرضون عليَّ وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثُدي -جمع ثدي- ومنها ما دون ذلك، وعرض عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين}.
إن الرجل ديِّن من الطراز الأول، إنه يخاف الله، وسوف تسمعون من خوفه لله العجب العجاب، وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يـ ابن الخطاب والذي نفسي بيده! ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلكَ فجاً غير فجك}.
وعند البخاري عن أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: {لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناسٌ محدثون, فإن يكن في أمتي فـ عمر بن الخطاب}.
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
وروى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه} فهو يقول الحق, ويعتقد الحق، ويعمل بالحق.
وعند الترمذي والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لو كان بعدي نبيٌ لكان عمر بن الخطاب} ورواه ابن عساكر والطبراني عن ابن عمر أيضاً، وهو حديث صحيح.(139/3)
مدح الصحابة لعمر وبعض شمائله
ويستمر المديح، ويشارك الصحابة في الإعجاب بـ عمر، كلهم يثني ويمدح ويحب، يقول علي في البخاري: {والذي نفسي بيده! لطالما سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبك}.
وعن ابن مسعود قال: [[ما زلنا أعزة منذ أن أسلم عمر , كان إسلام عمر عزة, وهجرته نصراً, وتوليه رحمة]] روى هذا الأثر ابن أبي شيبة في المصنف , والطبراني في المعجم الكبير.
وقال ابن الحداد، عالم المالكية في القرن الخامس, قال: "كفنت سعادة الإسلام في أكفان عمر ".
لما دفن عمر كفنت سعادة الإسلام ونوره وإشراقه، ولكن بقيت من الإسلام بقايا عمر، فكان حاجباً بين الفتن، وكان حصناً في وجوه الأعداء، فلما مات دخلت الفتن على الأمة.
يقول مايكل هارف وهو الأمريكي الذي له كتاب الأوائل المائة كما تعرفون، يقول في صفحة (166) من كتابه: "إنما مآثر عمر مؤثرة حقاً، فقد كانت شخصية رئيسية في انتشار الإسلام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبجهاده وتضحياته، ضرب الإسلام بعطنه عبر العالم" أو كما قال.
وقال أنس وهذا عند ابن سعد في الطبقات: [[كان عمر وراء حائط، فسمعته يبكي، ويقول: والله يا عمر! إن لم تتق الله ليعذبنك]] لقد كان يحاسب نفسه، وكان أكبر ما يخاف من الله، فكان قبل أن يقدم على خطوة أو كلمة يراقب الله في رضاه وغضبه، وفي حركته وسكونه.
فاروق مصر وهو نكرة أراد أن يقلد عمر، لكن عمر اسمه الفاروق بأل وفاروق مصر بدون (أل) للتعريف، كتب له محمد إقبال في أرض المشرق رسالة يقول فيها: يا فاروق مصر! إنك لن تكون كـ الفاروق عمر حتى تحمل درة كدرة عمر.
يقول: أخرج الجواري التي في قصرك، فعندك ستمائة جارية, وتريد أن تسمى الفاروق، وتكذب على الجماهير، عندك تلاعب بالأموال، وبضمائر الناس، وتريد أن تكون عمر؟ لا.
أنت فاروق لكنك لست الفاروق , لأنك لا تحمل درة كدرة الفاروق.
قال أبو نعيم في الحلية: "كان عمر يمر بالآيات في ورده فتخنقه، فيبكي حتى يسقط، ثم يلزم بيته ويعاد -مريضاً- من تأثره".
وقد قلت لكم: إننا لن ندخل في تفصيليات وجزئيات حياة عمر في أكله أو في لباسه، لكنا ندخل في خطوطٍ عريضة قوية أثرت في حياة هذا الرجل حتى أقر به أهل الشرق والغرب، وألف فيه أكثر من ستة وخمسين كتاباً ما بين غربيٍ وشرقي لغير المسلمين، ألفوا في التربية في حياة عمر , وفي علم العمران، وعلم العدل والسياسة، كلها مشتقة من فطنة عمر رضي الله عنه وأرضاه.(139/4)
صور وعبر من حياة عمر رضي الله عنه
اسمعوا إلى قصص عمر وهو يعيش الخلافة وقد تولى أمر الأمة.(139/5)
حرص عمر على الرعية
أولاً: يبدأ البيعة بكلمة باكية ويطلب من الناس أن يبحثوا عن خليفة إذا لم يكن هو أهلاً لذلك، لكن الأمة تجمع على أنه أهل لهذه الخلافة وزيادة, وأن أبا بكر قد رضيه, والرسول عليه الصلاة والسلام مات وهو عنه راضٍ، يقول عبد الرحمن بن عوف: [[خرجت مع عمر رضي الله عنه وأرضاه ذات ليلة، فمشينا حتى أتينا إلى خيمة, فسمعنا بكاء صبيٍ من وراء الخيمة, فقال عمر: هلم يـ ابن عوف , فمضيت معه إلى بيت المال، فأخذ كيساً من دقيق, وكيساً من زبيب, وحمل شحماً، فقلت: أحمله عنك يا أمير المؤمنين!
قال: أنت لا تحمل أوزاري يوم القيامة، وذهب بالكيس وبما فيه ودخل الخيمة ثم أشعل النار, وركّب القدر, وصنع العشاء للأم وللطفل، فقالت له: والله إنك خيرٌ من عمر بن الخطاب]] وهو عمر بلحمه وبشحمه, وبإيمانه ورسوخه وعدله هكذا يقدم الطعام للأطفال في نواحي المدينة، لأنه راعٍ يخاف من الراعي الكبير.
بكاء الطفل أسهر مقلتيكا ينادي حسرة يشكو إليكا
سهرت لجوعه وبكيت خوفاً من الديان بل خوفاً عليكا
قارن هذا مع سيرة الحجاج الذي جعل في السجون مائة ألف, وكان يمر إلى صلاة الجمعة، فيسمع تضاغي المحبوسين، فيقول: اخسئوا فيها ولا تكلمون.
أين الكتاب والسنة؟
أين خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
أين الأثر الذي تركه صلى الله عليه وسلم برسالته التي سعدت بها الدنيا؟
إنها ليس لها أثر على حياة الحجاج، ولكن عمر يأبى هذه السيرة المتخلفة, التي إنما هي ضربة في صميم الإسلام، وتشويه لجمال الإسلام.
وهذه قصة يرويها أسلم مولى عمر وهي في البداية والنهاية قال: خرجت مع عمر ذات ليلة وهو يتفقد الفقراء -ما كان ينام الليل-.
نامت الأعين إلا مقلةً تذرف الدمع وترعى مضجعك
تقول زوجته عاتكة بنت زيد: [[قلت: يا أمير المؤمنين! لو نمت فإنك لا تنام في الليل ولا في النهار، قال: لو نمت في الليل ضاعت نفسي، ولو نمت في النهار ضاعت رعيتي]] فمرّ هو وأسلم إلى الخيمة، فوجد امرأة تسهر صبيانها من الجوع الشعب جائع، والأمة في برد ومرض، ولكن الخليفة يقف على الأبواب، وإذا بقدرٍ فيه حصى وتلهيهم به حتى ينامون, ثم قالت: [[آه يا عمر بن الخطاب -أو كلمة تشبهها- أي: أنت قتلت الأطفال, بعدم إنفاقك على الأطفال]] وهذا في عام الرمادة، ومن أين ينفق عمر؟ انتهت الميزانية، أنفق دموعه وكل ما يملك، حتى أصبح بطنه على المنبر يقرقر جوعاً, فيقول لبطنه: [[قرقر أو لا تقرقر, والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].
قارن بين هذا الموقف وموقف إسماعيل الخديوي! ففي تاريخه أنه كان عنده أربعمائة جارية في القصر، وكان أهل مصر ينامون على الأرصفة, لا يجدون كسرة خبز، أما عمر فيقف على المرأة، ويذهب إلى بيت المال, ويأتي فيصنع الطعام ويقدمه, ثم يفرض للصبية من بيت المال طعاماً ورزقاً, ويصلي الصبح بالناس ويقرأ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24] فيبكي حتى يرتج المسجد بالبكاء، إنها تلمذة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو لم يفعل عمر هذا الفعل؛ لما كان أدَّى الأمانة الربانية, والمنهج الرباني الذي خرج للناس في هذه الصورة العجيبة.
وروى أهل السير والتراجم في ترجمة عمر رضي الله عنه وأرضاه: أن علي بن أبي طالب أشرف ذات ظهيرة من نافذة بيته فرأى عمر يطارد بعيراً من إبل الصدقة، وكان يطلي الإبل بنفسه، فندَّ بعير منها, فذهب عمر وراءه يهرول هرولة, فشرد البعير, فشد عمر من الجري, وأشرف علي وقال: [[يا أمير المؤمنين! أنا أكفيك البعير، قال: لن تكفيني أنت يوم القيامة]].
وعاد وحبس البعير ورده إلى مكانه.
عفاءٌ على دنيا رحلت لغيرها فليس بها للصالحين معرج
كأنك لما مت ماتت قبائلٌ أأنت امرؤ أم أنت جيشٌ مدججُ
لكن لما انطمست هذه السيرة والتربية الربانية, روى لنا التاريخ المضحك المبكي في القرن الثاني -ما أسرع أن تخلفت الأمة عن العدل! ما أسرع ما نسيت منهج الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم! وإذا برجل ينسلخ من معالم العدل والربانية والسيرة الخالدة.
روى التاريخ أن الوليد بن يزيد ملأ بركة طيباً, وشرب الخمر، فلما سكر قال: أريد أن أطير, قيل له: طر إلى جهنم، فقفز في البركة مخموراً, وهو يقول: أنا الملك الهياب، أنا المقدم الشاب.
أي هياب؟
وأي شاب؟
أهذه رسالة الأمة؟
أهذه الخلافة؟
أهذه هي قيادة أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
لقد وصل العوج إلى هؤلاء لأنهم ما استضاءوا بنور الوحي الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقل للعيون الرمد للشمس أعينٌ تراها بحق في مغيبٍ ومطلع
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأبصارها لا تستفيق ولا تعي(139/6)
تربية عمر للرعية على إنكار المنكر
أيها الأفاضل والأكارم من قصة الأعرابي ننطلق!
وقف عمر ليتحدث للناس، وأراد أن يختبر مقدار قوة الناس في إنكار المنكر، ومقدار إيمانهم وعدم تملقهم ونفاقهم, لأن الناس إذا كانوا منافقين، فلن يقولوا كلمة الحق، ولن يصدقوا مع الله، والأمة المنافقة لا تستحق أن تنشر لا إله إلا الله في الأرض، وقف على المنبر يخطب ثم قطع الخطبة في وسطها وقال: [[يا أيها الناس! لو رأيتموني اعوججت عن الطريق فماذا أنتم فاعلون؟]] فسكت كبار الصحابة، ومعنى الكلام ببساطة: ما رأيكم لو خنت رسالة الخلافة؟
ما رأيكم لو جُرت؟
ما رأيكم لو عدلت عن الطريق؟
فقام أعرابي بدوي في آخر المسجد وسل سيفه أمام الناس وقال: [[والله يا أمير المؤمنين! لو رأيناك اعوججت عن الطريق هكذا لقلنا بالسيوف هكذا]] فماذا قال عمر؟
أتظن أن عمر سوف يقول: خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه، إنه حيا بطولته ولموعه وكلمته وإيمانه، قال: [[الحمد لله الذي جعل في رعيتي من لو اعوججت عن الطريق هكذا, لقالوا بالسيوف هكذا]].
قارن هذا الموقف بموقف شاه إيران!! الذي كان الكرسي الذي يقضي عليه حاجته في دورة المياه من ذهبٍ خالص، وكانت طائراته تخرج على الجماهير في طهران وتقصفهم بالرشاش, فيموتون كما تموت الذباب من المبيدات، هذه نماذج يخجل التاريخ أن يرويها للناس، وأصبح أهل إيران يسترون وجوههم من هذا النموذج الفاشل الذي يعيرهم به التاريخ، أما الإسلام فلا نحاور مع شاه في هذا فهو بعيدٌ كل البعد، فهو شاة وليس بأسد.
عمر يؤسس الكلمة الحية، ويشجع على الصدق مع الله؛ لكن تتردى الأمة في عصر الفاطميين، فيأتي الحاكم بأمر الله الخبيث الملحد المنتن, الذي يدوس القرآن, وإذا خرج إلى الناس في الشارع سجدوا له، ومن أراد أن يتزود فليراجع كتب التاريخ.
أتى النابلسي المحدث الشهير العالم, يقول الحق، فسأله تلميذ، قال: ما رأيك هل أقاتل الفاطميين حكام القاهرة أو الصليبيين من النصارى؟
قال: من كان عنده عشرة أسهم, فليرم الفاطميين بتسعة, وليرم النصارى بسهمٍ واحد.
وتنقل الاستخبارات هذه الكلمة إلى الحاكم بأمر الله فيستدعي النابلسي ويقول له: هل صحيح أنك تقول: من كان عنده عشرة أسهم فليرم النصارى بتسعة ويرمينا بسهمٍ واحد؟
قال: لا، أنتم حرفتم الفتيا، قال: وما هي الفتيا الصحيحة؟
قال: يرميكم بتسعة ويرمي النصارى بسهمٍ واحد.
فقتله قتلة ما قتل أحدٌ في التاريخ مثلها فيما أعلم, وهو يسمى شهيد العلماء، فقد سلط عليه يهودياً فنكسه وربطه بأرجله في السقف ودلاه، فأخذ اليهودي يسلخ جلده عن لحمه, وكان يقول: الله أكبر، الله أكبر! فلما وصل إلى قلبه, رحمه اليهودي -وما بالك بمصيبة يكون راحمها اليهودي- فطعنه بالسكين فمات في سبيل الله.
فهذه نماذج قدمها التاريخ، لكن ما روت سيرة عمر ولا مرت على طريقه.
قد كنت نجماً في ذرى العلياء يا منصف الموتى من الأحياء
وبنيت صرح العدل يا علم الهدى ورفعت رأس الدين للجوزاء
عمر فخرٌ لنا.
عمر تاريخٌ لنا.
عمر منارةٌ لكل شاب من شباب الصحوة.
وعمر تاجٌ على رءوسنا، نفاخر به أهل الشرق والغرب.
عمر كان يشجع القائل أن يقول كلمته.
ذكر ابن الجوزي في المناقب أن عمر قال للصحابة: [[من ترون أن أولي على العراق؟ فقام منافق -والمنافقون قديمون- قال: أرى أن تولي الرجل الأريب الأديب الداهية المنصف عبد الله بن عمر -ابن عمر بن الخطاب - وما أراد إلا المداهنة، وإلا ففي المسلمين من هو أكفأ وأقدر وأعلم وأفضل- قال عمر: كذبت يا عدو الله، والله ما أردت الله بذلك]].
لماذا التدليس على الناس؟
لماذا الكذب على مناهج الله؟
ألأنه ابني؟
وهو عبد الله بن عمر الذي لا نصل إلى غبار قدميه، لكن في المسلمين أكفاء، أين ابن عوف؟
أين ابن عفان؟
أين أبو الحسن علي بن أبي طالب؟
أين فلان وفلان؟ لكنه ما أنصف.
وتستمر القافلة, وجسد عمر دائماً يعلن الإيمان والقوة والشجاعة على المنبر.
جسدٌ لفف في أكفانه رحمة الله على ذاك الجسد
من لجسم شفّه طول النوى ولعينٍ شفها طول السهر
أبو مسلم الخراساني قتل ألفي ألف -أي: مليونين- فهو أكبر قاتل في التاريخ، وقف في مسجد خراسان، وكان يلبس السواد، وهو شعار الدولة العباسية، لأنه هو الذي نقل دولة بني أمية إلى بني العباس، ثم مات ولم يحظ بشيء، فقام أحد الناس من وسط المسجد يريد أن يرد عليه، وقال: لا تلبس السواد، فلبس السواد ليس من السنة، وقد أخطأ هذا القائل، قال أبو مسلم: حدثنا فلان عن أبي الزبير عن جابر {أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعليه عمامة سوداء} قال: يا غلام! اضرب رأسه بجانبك، فضرب رأسه، فإذا جثته في وادٍ ورأسه في وادٍ آخر, والحديث الذي ذكره في صحيح مسلم ولا أدري كيف حفظه!!
فهذه نماذج الخيانة والخيبة، وقد سود هذا وجه التاريخ.
لماذا قتلته؟
اقنعه، حاوره، أو أدبه، لكن تذبحه؟! هذا حرامٌ عقلاً ونقلاً، ولكن من يسمع هذا أبو مسلم أم الحجاج؟!(139/7)
حرص عمر على عدم تسلط الولاة
ونقف في موقفٍ طريف رواه أهل السير والتراجم, نعيشه مع عمر رضي الله عنه وأرضاه، ونستمد هذا من إمام العبقرية الفذة عبر التاريخ رضي الله عنه وأرضاه ورفع منزلته، يقول الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] ويقول تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:26] أي: انتبه، إن المنهج بيدك، والرسالة معك، فلا تجامل في الدين، ولا تلعب بالقيم، قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26].
كان أمير مصر عمرو بن العاص الداهية، وله ابن اسمه محمد سابق مصرياً فسبقه المصري، وأحياناً بعض الخيول تسبق خيول ولاة الأمور, فسبق هذا, فقال محمد بن عمرو: خيلك يسبق خيلي! أتسبقني وأنا ابن الأكرمين! ثم ضربه، فذهب المصري يشتكي إلى عمر رضي الله عنه وأخبره الخبر، فقال عمر: عليَّ به وبأبيه، ليؤدب الأب، لأنه لو كان مؤدباً -في نظره- لأدب ابنه واستدعاه والمصري واقف, والصحابة جلوس.
قال: والله لا يحول بيني وبين عمرو وابنه أحد, ثم أخذهم فبطحهم أرضاً, وأخذ الدرة التي تخرج الشياطين -دائماً- من الرءوس، وهذه الدرة رقية الرحمن، التي يؤدَّب بها، فضرب عمرو بن العاص وابنه ضرباً مبرحاً.
وقال: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً]] متى كانت هذه الجمركة على عقول الناس؟
متى كان هذا الضرب على وجوه المسلمين الساجدين الراكعين؟
من أعطاكم هذه الرخصة؟
هل هو الله؟
إن هذا حرام، فأدبهم فعادوا إلى رشدهم رضي الله عنهم أجمعين.
ويستمر الحال، ولكن عمر يفاجئ الناس, وإذا هذا الذي هز العالم من شرقه إلى غربه لا يملك إلا ثوباً واحداً فيه أربع عشرة رقعة، وإذا عمر ليس له حراسة، ولكن حارسه الله، يقول شوقي:
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان
يقول: إذا لاحظك الله فنم في أي مكان كنت، وإذا لم يلاحظك الله فلن يمنعك أحد، ولو كان حرسك سبعين ألفاً كحرس شاوسسكو مجرم رومانيا , فقد كان عنده من الحرس سبعون ألفاً من الشرطة السرية، ثم سحب كالدجاجة, وذبح في الشارع أمام الناس، أين السبعون ألفاً والله ما حرسه؟
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان
عناية الله أغنت عن مضاعفةٍ من الدروع وعن عالٍ من الأطم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم(139/8)
جوانب أخرى من عظمة عمر رضي الله عنه
لكن ما كفى عمر أنه يخرج إلى الشارع، ويكلم الأطفال، ويقف مع العجوز، وينام على الرصيف، بل المفاجأة الكبرى أن هذا الإمام صاحب الثوب المرقع, والبطن الذي يقرقر يوم الجمعة من الجوع؛ تهتز له الأكاسرة والأباطرة والملوك, يغم عليهم من ذكره إذا ذكر؛ يقول محمود غنيم:
كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يملكنا شعبٌ ملكناه
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيّه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
لماذا؟ لأنه خاف الله، فخوف الله منه كل شيء.
أتى الهرمزان إلى المدينة ليفاوض عمر، وهذه القصة صحيحة عند المؤرخين، فأتى وفي عقله مشكلة كيف يقابل عمر؟
وكيف يجلس؟
ومن يدخل على عمر؟
فدخل المدينة وإذا البيوت من طين، قال: أريد قصر الخليفة؟
قالوا: لا قصر له، قال: أريد بيته، قالوا: هذا بيته، فوجد بيته كبيوت الناس من طين، فأتى وطرق الباب, فخرج ابن لـ عمر فقال: ماذا تريد؟
قال: أريد الخليفة، أليس له حراسة؟
قالوا: لا حراسة له، قال: أين هو؟
قالوا: التمسه في المسجد فلعله نائم فيه، فذهبوا إلى المسجد فما وجدوه, وانحدر أهل المدينة وراء الهرمزان , كان عليه ذهب وديباج، وهذا شيء من التكنولوجيا ما عرفه الصحابة، فذهبوا وراءه وبحثوا، وبعد تعب شديد وجدوه تحت شجرة نائماً, وإذا الدرة بجواره، وهو في عميق النوم، قال: أهذا الخليفة؟
قالوا: هذا الخليفة، قال: أهذا عمر؟
قالوا: هذا عمر، قال: أهذا أمير المؤمنين؟!!
قالوا: هذا أمير المؤمنين، فوقف مبهوتاً يقول: حكمت فعدلت فأمنت فنمت، لكن حافظ إبراهيم يترجمها قصيدة:
وراع صاحب كسرى أن عمراً بين الرعية عطلاً وهو راعيها
رآه مستغرقاً في نومه فرأى فيه الجلالة في أسمى معانيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
فقال قولة حقٍ أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهمُ فنمت نوم قرير العين هانيها
كان استالين إذا مر بشوارع موسكو دخل الناس البيوت خوفاً من أنفاسه, لا يتنفس متنفس وهو في الشارع، فإذا انتهى موكبه خرجوا إلى الضياء ينظرون هل بقوا أحياء أم لا؟
ويبقي الله عليهم حياتهم, ولكنها كحياة الحيوانات.(139/9)
توضيح عمر لمبدأ العزة
تستمر حياة عمر رضي الله عنه، ولكن عمر لا ينتهي عند هذا الحد, فليس هو عادلاً في الرعية فقط، بل فاتحاً, وأعظم فتح سوف أذكره، وإلا فثلاثة أرباع فتوح المسلمين فتحها عمر بجيوشه رضي الله عنه وأرضاه.
فتح بيت المقدس والقصة صحيحة، ويرفض النصارى أن يستلم مفتاح باب بيت المقدس إلا عمر، أمراؤه أربعة وجيوشه كثيرة، ولكن النصارى يطلبون عمر رضي الله عنه وأرضاه.
فيخرج من المدينة، ويشير عليه الصحابة أن يأخذ حراساً فيأبى، لأن الحارس هو الله، ويأخذ مولى له ويقول للمولى: [[اركب أنت عقبةً وأنا عقبة، قال: يا أمير المؤمنين! لا.
قال: لا، أنت مرة وأنا مرة]] لأن هذا المولى إنسان يتعب كـ عمر، ويجوع كـ عمر، ويظمأ كظمأ عمر، فكان يركب عمر قليلاً وذاك يقود الجمل بزمامه ويمشيان، فإذا تعب نزل عمر وركب المولى وهكذا، ويستقبله أمراء الأجناد أبو عبيدة وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان وقد خرجوا لاستقبال الفاتح العظيم، وكما تفضل الشيخ عبد الوهاب:
أيا عمر الفاروق هل لك عودةٌ فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
فيستقبلونه فيقول عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين! خيبتنا وفضحتنا! قال: بماذا؟
قال: أتيت بلا حرس ولا جند، ولا لباس، فثوبه الذي في المدينة أتى به بوصفه، قال: [[نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام, ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]].
نحن قوم لا نعتز بالسيارات أوالموديلات أوالفلل، فنحن عندنا إرادة وأصالة وعمق، وعندنا شيء ثمين، إذا تمسكنا به أعزنا الله وأخزى أنوف أعدائنا, ويوم أن نتخلى عن هذه الوثيقة الربانية، والعلم الشهير، والرسالة الموروثة عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام نبقى هناك في آخر الركب، ففي هيئة الأمم المتحدة الأعضاء الخمسة الذين يملكون حق نقض الفيتو من الأمم الكافرة، وترى ممثلي دول المسلمين ينامون في آخر هيئة الأمم فإذا قيل: موافقون؟! قالوا: موافقون.
ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستشهدون وهم شهود
فذهب عمر، ولما اقترب من النصارى، خرجوا وقالوا: اقترب عمر، اقترب عمر، ولما اقترب من بيت المقدس، أتت نوبة المولى ليركب، قال المولى: اقتربنا يا أمير المؤمنين! ولن أركب، قال: والله لتركبن، فهذه نوبة العدل، فركب وأخذ عمر زمام الجمل، وكان هناك طينٌ قريب من بيت المقدس، فأخذ عمر يرفع ثيابه ويقود الجمل، فيقول النصارى: أهذا مبشرٌ بالخليفة؟
أي: أهذا الرجل أتى يبشرنا بقدوم الخليفة؟
قالوا: بل هو الخليفة، قالوا: هو الذي على الجمل؟
قالوا: لا، بل هو الذي يقود الجمل، وهذا شيء عجيب! لو أن شيئاً لا يثبت لما كانت العقول تثبت هذا، لكن يثبت هذا الكتاب الموروث عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم وسيرة عمر، ويفتتح بيت المقدس، ويدخل ويصلي ويقود الجماهير، ويقول لـ بلال: اسألك بالله أن تؤذن لنا؟
قال: ما أذنت لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: عزمت عليك، فقام بلال وأذن يوم الفتح لـ بيت المقدس، فبكى الناس وبكى عمر.
تلك المكارم لا قعبان من لبن وهكذا السيف لا سيف بن ذي يزن
وهكذا يفعل الأبطال إن غضبوا وهكذا يعصف التوحيد بالوثن
ماذا فعلنا بعد عمر؟ ماذا فعلنا بعد هذه المسيرة المتوجهة المتأججة؟
ماذا فعلنا شجبنا بالكلام ولم نحمل سلاحاً ولم نركب على سفن
نشكو على مجلس الأمن الدعي وهل أشقى العروبة إلا مجلس المحن
قضية فلسطين أصبحت في ملفات حمل ثلاثة حُمُر.
تنديد، واستنكار، وبعضهم اتهم إسرائيل واغتابها، وقال: لها نوايا توسعية في المنطقة، أين الورع؟!
قارن بين هذا وبين ذاك الغبش الذي عاشه بعض الخلفاء في خلافة العباسيين كـ المأمون.
يقول ابن كثير في البداية والنهاية (10/ 277): لما تزوج المأمون بـ بوران وما أدراك ما بوران؟!
امرأة كبنات الناس، تزوج بها لكنه أمهرها الميزانية، وهي بنت الوزير الحسن بن سهل، أراد أن يتزوج المأمون بها, فسلم الميزانية كلها مهراً للبنت، وهذا عام (210هـ).
قالوا: إنه نثر على رأس الحسن بن سهل الدر والجوهر، وكان عدد الجوهر ألف درة، وأنفق خمسين ألف ألف درهم، وأطلق لأبي البنت عشرة آلاف ألف درهم، ووزع على قواد الجيش بمناسبة الزواج الضياع والقرى والبساتين، فأين عمر؟
وأين الفاروق؟
وأين العبقرية؟
وأين أثر الإسلام؟
هكذا فعل المأمون ووقع في الغبش، وما اتضحت له طريقة عمر، وكان خطأً فاضحاً في التاريخ.
ويأتي القاهر بعد المأمون بما يقارب عشرة خلفاء, فيريد أن يتحصن أكثر وأكثر، ويريد أن يتمكن أكثر وأكثر, فيحفر بركاً ويملؤها بالذهب ويجمع أبناءه، ويقول: لا تخافوا الفقر؛ فقد ملئت لكم هذه البركة ذهباً وفضة، سبحان الله، أتتحدى الله؟
تقضون والفلك المسيّر دائر وتقدّرون فتضحك الأقدار
فسلب الخلافة، وخلع مباشرة، وسملت عيناه، وسلمت البركة للخليفة من بعده بذهبها وفضتها، وأخذ يقف في مساجد بغداد ويقول: من مال الله يا مسلمين!!
قال تعالى: {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] إن هؤلاء الخلفاء: القاهر والمأمون لم يطالعوا يوماً من الأيام سيرة عمر، ولم يجدوا فراغاً من الوقت ليراجعوا حسابهم مع الله، ويعلموا أن هذه السيرة تغضب الله تماماً، وأنها خطأ في مسيرة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، أتظن أن عمر يبقى في بيته وقصره؟ لا.
فهناك أرامل وأطفال ومساكين.(139/10)
تفقد المساكين وخدمتهم
إن عظمة عمر تأتي من أنه الإنسان البسيط البسيط لكنه العظيم العظيم، والمتواضع المتواضع لكنه الكبير الكبير، والضعيف الضعيف لكنه القوي القوي، فهذه الأعجوبة في سيرة عمر.
يقول طلحة بن عبيد الله: [[خرجت وراء عمر رضي الله عنه وأرضاه, وقد دخل بيتاً فدخلت بعدما خرج, فوجدت عجوزاً عمياء -وابن القيم يظنها قصتان, أو قصة وقعت لـ أبي بكر، لكن أهل التاريخ يقولون: إنها لـ عمر - قال: فدخلت فوجدت عجوزاً عمياء حسيرة كسيرة في البيت, فقال: من أنتِ؟
قالت: امرأة عجوز ليس لي عائل، قال: من هذا الرجل الذي يأتيكم؟
قالت: رجلٌ ما عرفته، قال: ماذا يصنع؟
قالت: يقُمُّ بيتنا -أي: يكنسه- ويصنع لنا إفطارنا, ويحلب لنا شياهنا، قال: أما عرفتيه؟ قالت: لا، فجلس طلحة يبكي ويقول: أتعبت الخلفاء بعدك يا عمر]].
إن عمر لا يرضى أن يسكن قصراً عاجياً، وتبقى أرامل الأمة ومساكينها وأيتامها في البرد والجوع والفقر والمرض.
سقى الله ذاك اللحد دمع غمامة إذا راعها برق الشمال استهلت
على خير مدفونٍ وشهم ممزق سعادتنا من بعده قد تولت
يرى عمر أن الناس لا تكفيهم المحاضرات، ولا يشبعهم الكلام، ولا يستأنسون بالحديث ما لم يروه فعلاً، يقول أبو العتاهية:
العنز لا تشبع إلا بالعلف لا تشبع العنز بقولٍ ذي لطف
العنز لا تشبع إلا بالعلف، تعرفون العنز؟
فالعنز لا تشبع بالمحاضرات، فلو ألقيت محاضرة على عنز ولم تطعمها قاطعتك في وسط المحاضرة، فـ عمر لا يريد أن يُشبع الناس كلاماً، وإنما يُشبعهم رحمة وتواضعاً وعدلاً وإنصافاً، حينئذٍ يكون عمر صادقاً مع الله، وهذا منهجه في الحياة، أن يشبعهم تطبيقاً وعملاً لا يشبعهم كلاماً.(139/11)
عمر مع خولة بنت ثعلبة
وللنساء في حياة عمر مسيرة.
وقفت عجوزٌ كبيرة تقول: يا عمر! قف، فتلهى عنها قليلاً, فاستدعته وقالت: يا عمر كنا نسميك في الجاهلية عميراً، وهي الآن تخاطب الخليفة الذي يحكم اثنتين وعشرين دولة، الذي إذا أصدر مرسوماً اهتزت له الدنيا، قالت: يا عمر كنا نسميك في الجاهلية عميراً، ثم دعوناك عمر، ثم سميناك أمير المؤمنين، فأنصت لها وأطرق واستمع، وقضى حاجتها، فقال الصحابة: أوقفتك في الشمس يا أمير المؤمنين، قال: كيف لا أسمع لها, وقد سمع الله لها من فوق سبع سماوات؟
وذلك لأنها خولة بنت ثعلبة الذي يقول الله تعالى فيها: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1].
تقول عائشة: [[سبحان من وسع سمعه كل شيء، كنت في طرف البيت لا أسمع كلامها, فأنزل الله عز وجل قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1]]] ولذا أنصت لها عمر وقال: لماذا لا أستمع لها وقد استمع الله لها؟
وأنصفها وقضى حقها.
يا إماماً صَدَق الله فما زاده إلا سناءً وعُلا
كل قلبٍ يا أبا حفص غدا يتراءى فيك مجداً أجملا(139/12)
المؤثرات في حياة عمر رضي الله عنه
من المؤثرات في حياة عمر ثلاثة أسباب:
أولاً: تربية الرسول صلى الله عليه وسلم: فلقد تخرج عمر من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يدرس في ريفرسايد، ولم يتخل عن الإسلام، ولم ينسلخ من تعاليم الدين، إنما درس هناك حيث العلم والعدل، حيث الرحمة والعفاف والنور، يقول العقاد -وهي كلمة جيدة-: "الفرق بين أبي بكر وعمر أن أبا بكر عرف محمداً النبي، وأما عمر فعرف النبي محمداً".
فما معنى هذا؟
يعني أن أبا بكر عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية والإسلام، أما عمر فبدأت الصداقة بين هذا التلميذ والمعلم العظيم بعد الإسلام، فعرفه وتتلمذ عليه.
ثانياً: أن عمر يصدر عن بطانة: فقد قرب أهل القرآن وأهل بدر، إذ كانت بطانته علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل، وهؤلاء الثلة هم النجوم الذين يستسقى بذكرهم الغمام من السماء، وهؤلاء هم البدور، ولو كانوا ملائكةً لكانوا أسمى وأجل من أن يسموا احتراماً، وإنما جعلهم الله بشراً ليتعاملوا تعامل البشر، فهؤلاء جلاسه، فكيف لا يؤثرون في سيرته؟
وكيف لا يكونون معه؟
لما تولى علي بن أبي طالب رجرجت الأمة عليه وشاغبت، فقال له أحد الناس: [[يا أمير المؤمنين! ما للناس وافقوا أبا بكر وعمر ولم يوافقوك، وأطاعوا أبا بكر وعمر ولم يطيعوك؟ قال: رعية أبي بكر وعمر أنا وأمثالي، ورعيتي أنت وأمثالك]].
ثالثاً: أن عمر رضي الله عنه وأرضاه جعل الله نصب عينيه في كل ما يأخذ ويذر، وجعل رضي الله عنه وأرضاه الخلافة مغرماً لا مغنماً، يحاسب عليها أو يقول: [[يا ليتني كنت شجرة تعضد، يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني ما عرفت الحياة]].
وكان دائماً باكياً خاشعاً رضي الله عنه وأرضاه، يقول عمر فيما صح عنه: [[والله لو عثرت بغلة في ضفاف دجلة , لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة لم لم تصلح لها الطريق يا عمر؟]] لأنه راعٍ, والراعي لابد أن يتعهد شئون الأمة، ولابد أن يكون واقفاً أمام الأسئلة التي يسألها الله عز وجل هذا الرجل، وإلا فما معنى أن يكون عمر خليفة؟
وما معنى أن يكون حاكماً؟
ما معنى أن يكون مسيراً للأمة إلا بهذا.
يقول ابن تيمية (28/ 146): إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة.
وهذه قضية هي في التاريخ بسمعٍ وبصرٍ من شهود التاريخ عبر قرونه.(139/13)
صور من محاسبة عمر للولاة والرعية
قال ابن الجوزي في المناقب: خرج عمر رضي الله عنه وأرضاه ذات ليلة، وكان يمر بالأبواب ويستمع ماذا حدث في المدينة وماذا طرأ، هل الأمة نائمة نوماً هادئاً؟ هل أكل الناس وشربوا؟ هل الأرامل في راحة؟ هل المساكين هادئون؟ فحينها يهدأ، أما إذا كانت الأمة في ولهٍ وقلق, وفي مرض وجوع، فلا يمكن أن يصبر عمر.
وفي جنح الظلام سمع امرأة تبيع لبناً تقول لابنتها: امزجيه بالماء، قالت: إن عمر منعنا من مزج اللبن بالماء -أصدر مرسوماً في السوق يمنع بيع اللبن إلا صافياً، وهذا المرسوم من وزارة التجارة في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه وأي لبنٍ يعثر عليه وقد مزج بالماء يغرم صاحبه ويتلف ماله- فقالت الأم: إن عمر لا يدري, قالت البنت: فإن لم يدر عمر ألا يدري رب عمر؟!!
فعرف عمر البيت, وفي الصباح أتى إليهم فخطب ابنتهم لأحد أبنائه, فولدت له وأنتجت، فكانت ذرية مباركة وشجرة طيبة، ومنها عمر بن عبد العزيز.
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر
إذا شجرات العرف جذت أصولها ففي أي غصن يوجد الورق النضر
فـ عمر بن عبد العزيز، من ابنة ماذقة اللبن: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:34] فـ عمر يراقب حتى أهل البيع في السوق، ويقيم امرأة تشرف على النساء اللواتي يبعن الطيب في السوق، لئلا يدخل الغش في جانب النساء، وعمر ينزل إلى السوق ويتخاطب مع الأعراب، ويرى حوائجهم، ويسمع أعرابياً يتأوه وسط السوق ويقول: اللهم اجعلني من عبادك القليل، قال: مه! ما هذا الكلام؟
دعاءٌ ليس معروفاً، قال: يا أمير المؤمنين! يقول الله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ:13] فقلت: اللهم اجعلني من القليل، فقال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر.
أرسل عمر والياً على العراق، وهذا الوالي من قريش، وكان شاعراً أراد أن يقول شعراً, وما ظن أن شعره سوف يصل مباشرة إلى عمر، فقال الوالي يمزح مع جلاسه:
اسقني شربةً ألذ عليها واسق بالله مثلها ابن هشام
معنى هذا: أي: اسقني شربة خمر، فالوالي كيف يشرب خمراً؟!
وهل عمر مستعد أن يترك في دولته والياً يشرب خمراً؟!
أهذا جزاء رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
أهذا مصداقية لبقية ما أبقت الرسالة في تاريخ الأمة؟!
فطار البيت مباشرة إلى عمر في المدينة، وقالوا له: يقول واليك يا أمير المؤمنين:
اسقني شربةً ألذ عليها واسق بالله مثلها ابن هشام
يعني: جليسه، يقول هذا الوالي: بالله! يا ساقيّ قدِّم لي كأساً أشربه، واسق مثلها زميلي ابن هشام، فاضطرب عمر وغضب وأزبد وأرعد، فهو ليس مستعداً أن يبقي مثل هذه النوعية الفاشلة في دولته ولو ذهبت الرقاب، واستدعاه مباشرة، وفي الطريق ذهب الناس إلى هذا الوالي، وقالوا له: أنقذ نفسك، فالبيت هو الذي أوصلك في المصيبة، قال: كيف؟
قال: وصله قولك:
اسقني شربةً ألذ عليها واسق بالله مثلها ابن هشام
قال: ما عليكم، أي: أنه سوف يحلها بإذن الله، فقال بعدها بيتاً:
عسلاً بارداً بماء سحابٍ إنني لا أحب شرب المدام
ووصل إلى الخليفة، قال عمر: أأنت القائل: كذا وكذا؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ قلت بيتين ما قلت بيتاً واحداً، قال: ما هو البيت الثاني؟
قال:
عسلاً بارداً بماء سحابٍ إنني لا أحب شرب المدام
قال عمر: أما الحد فلن أجلدك بهذا البيت، فقد سلمت نفسك، لكنك لن تلي لي عملاً بعدها تلعب بهذه الأبيات, وتصدر هذه الكلمات، ماذا تقول الأمة لي ولك وقد أسمعت الناس أنك تشرب الخمر؟
ما هو موقفي أمام الله يوم القيامة، إذا قال لي: إن واليك يشرب الخمر، كيف أقول؟
كيف أجيب؟
ماذا أقول للملايين والتاريخ؟
ماذا أقول لله؟
ماذا أقول لرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
ويرسل أميراً آخر إلى ميسان قريباً من البصرة، ويقع هذا الأمير فيما وقع فيه الأول، وكانوا شعراء من قريش، ويحبون أن يتمازحوا، لكن عمر كان وراءهم بالمرصاد، فأتى هذا في ليلة يسمر ويقول:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها بـ ميسان يسقى من زجاج وحنتم
يقول: ليتكم تخبرون زوجتي في مكة أن حليلها -زوجها- أصبح يشرب الخمر، واسمع القصيدة:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها بـ ميسان يسقى من زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قريةٍ ورقاصة تحثو على كل منسم
حتى المغنية موجودة!
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم
وتصل الأبيات إلى عمر، فقال عمر: عليَّ به، فأجلسه أمامه، قال: ما هذه الأبيات والله لقد ساءتني.
قال: والله! يا أمير المؤمنين ما شربت الخمر، قال: وما هذه الأبيات؟
قال: من باب قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224 - 226] قال: أسقطت الحد، لكن -والله- لا تلي لي ولاية.
طيرته أبيات! رقاصة وموسيقى وخمر، ضعها في غير دولة عمر، أما هذه الدولة التي أقيمت على شهادة أن لا إله إلا الله وآمنت بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وعرفت طريقها، فلن يكون هذا وعمر حي يرزق في الحياة؛ لأن معنى ذلك أنه سوف يضيع مصير الأمة وتاريخها, ويدوس معالم الأمة في التراب، يوم يتهاوى أمام هذا الرصد المفاجئ رضي الله عنه وأرضاه.
ويرسل أميراً زاهداً، وهو سعيد بن عامر إلى حمص، ليتولى الإمرة عليها، وعمر يطوف كل سنة على الأمراء يجمعهم ويسألهم أمام الناس، يوقف الوالي هنا، ويجلس الناس، ويقول: ما رأيكم في الوالي؟ فيتكلمون في ترجمته، مثل ترجمة الذهبي في الرجال، وأهل حمص مشاغبون، قال: ما رأيكم في سعيد بن عامر؟ قالوا: نعم الرجل، قال: اصدقوني، قالوا: لولا أربع خصال فيه، قال: ما هي؟
قالوا: لا يخرج لنا بليل، قال: هذه واحدة.
قال: والثانية؟
قالوا: له يومٌ في الأسبوع لا يخرج إلينا فيه، أي: إنه لا يداوم يوماً في الأسبوع.
قال: والثالثة؟
قالوا: يجلس حتى يتعالى النهار ثم يأتي، أي: أنه يتأخر عن الدوام، قال: هذه الثالثة.
والرابعة؟
قالوا: إذا جلس في مجلس القضاء أغمي عليه، قال: أجب يا سعيد بن عامر، اللهم لا تخيب ظني فيه.
فيقوم سعيد بن عامر ويتبرأ إلى الله من حوله وقوته، ويقول: يا أمير المؤمنين! أما قولهم: لا أخرج إليهم في الليل، فقد جعلت النهار لهم, والليل لربي، أتعبد، وأما الليل فذكرٌ وقراءة القرآن وتعبد.
قال: والثانية وكانت دموع عمر تسيل، قال: وأما يوماً في الأسبوع فإني -يا أمير المؤمنين- ليس لي خادم وامرأتي مريضة، فأنا أغسل ثيابي وثياب زوجتي ثم أحميها ذاك اليوم.
قال: ولماذا تتأخر لا تخرج إليهم في النهار حتى يتعالى؟
قال: أصنع طعامي وطعام زوجتي ثم أتوضأ وأصلي الضحى, ثم أخرج إليهم، لأنه ليس لنا خادم وامرأتي مريضة.
قال: ولماذا يغمى عليك؟
قال: حضرت مقتل خبيب بن عدي في مكة فسمعته يقول: اللهم احصهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وكنت مع من نظر قتله وما نصرته، فكلما تذكرت ذاك أغمي عليَّ.
فبكى عمر وقال: الحمد الله الذي لم يخيب ظني فيك، وأمره أن يواصل، قال: يا أمير المؤمنين! اعفني والله لا أتولى لك ولاية، إذا كانت هذه هي المحاسبة, على أني صدقت وبررت ثم تحاسبني أمام الناس، وأكون مداناً ومتهماً فلن أتولى لك ولاية، قال عمر: مع ذلك لنحاسبنك، فحاسبه بما أعطاه كل شهر، وحاسبه عما أخذ من بيت المال، وحاسبه عما صرف فوجد عنده شملةً وقصعةً وإبريقاً وعصاً، قال: هذه من دخلي، قال: أما الآن فنجوت، ولو أنك كذبت لكنا فتكنا بك.(139/14)
دروس وفوائد من سيرة عمر
هذه هي مسيرة عمر رضي الله عنه.
قال: سفيان الثوري بلغني أن عمر كان ينشد:
لا يغرنك ليلٌ ساكنٌ قد يوافي بالمسيئات السحر
وكان ينشد هذا البيت كثيراً، يقول: لا يغرك الليل والهدوء، ولا تأمن انقلاب الأمور، يقول: ربما تنام الليل هادئاً، ولكن تأتيك مفاجآت يأتي بها الله، ومثله قول بشار:
يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
قال الحسن البصري رضي الله عنه وأرضاه: قال عمر: [[والله إني لو شئت لكنت ألينكم طعاماً, وأرقكم عيشاً، إني والله ما أجهل عن كراكر-الكراكر: مقدمة الذبيحة- وعن صلاء وصنائب وصلائق، ولكني أخشى أن أعرض على الله عز وجل، فيقال لي: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها]].
كان عمر -أيها الأبرار- موسوعة في العدل والرحمة موسوعة في الإيمان والتواضع، وكان تاريخاً مستقلاً، ومن أراد أن يتزود من ترجمة عمر فليراجع مناقب عمر لـ ابن الجوزي، فقد كان عمر يضبط بالشورى فوضى الديمقراطية، ويضرب بدرة العدل كذبة الشيوعية، ويهذب بالإنصاف طيش الراديكالية، فهو يبني من الشرع دولةً متميزة, نجومها أهل الحل والعقد، يديرها العلماء لا أوباش الائتلاف, ومنظروها أهل الريادة وحفظ الله لا أبناء صناديق الاقتراع.
قرأت عن هتلر أنه كان من تعاليمه إذا اجتمع بوزرائه وحاشيته، من الأدب أن يلحظوه بعيونهم وقت الحديث, ولا ينحرف أحد بعينه عن وجهه وإن فعل ذلك فقد عرض نفسه للإعدام، فأي تعاليم هذه التعاليم؟
وأي ضحكٍ على الشعوب؟!
كلب الخليفة قد عطس جمهور حشد شمتوه
شكر الوفا بعيونه فتقدموا واستأذنوه
طلبوا الكلام تفضلاً بتواضعٍ كي يشكروه
رفض الكلام بذيله متوعداً لو ينبحوه
الكلب مد يمينه من حسنه إذ قبلوه
أوصاهم فتعهدوا أن يحفظوه ويسمعوه
شكراً لكلب خليفة ربى مكارمه أبوه
أيها الأبرار نخلص من سيرة عمر بأمور:
أولاً: أننا لا نريد من سيرة عمر -كما قلت سالفاً- تاريخ الأموات ولا التعداد والأوصاف، بل نريد من سيرة عمر الدروس والتربية والحياة والعدل والصدق، والتضحية والبذل والرحمة، ونريد من سيرة عمر أن يتجدد في الجيل أناس يشكلون مسيرةً لـ عمر، وصدقه مع الله، وشجاعته في الحق، لكن بحكمة عمر , وبنفاذ بصيرة عمر، وبهدوء عمر.
ثانياً: أن هذا الإسلام معطاء، وأن الذي يقول: (لم يعد للعظماء مجال) كاذبٌ مفترٍ على الله، بل سوف تتكرر نماذج ونماذج من الدعاة والحكماء والعلماء والأدباء ما بقيت هذه الأمة، وما بقيت رسالتها في الأرض.
ثالثاً: من أراد أن يتزود من هذه السيرة العطرة، فليتزود من منبع عمر رضي الله عنه الذي نبع وشرب منه، وهو الكتاب والسنة.
رابعاً: عندنا عظماء وليس عند غيرنا عظماء، عظماؤنا نتفاخر بهم أنهم عظماء، فهم عظماء عمل، وعظماء صدق، ولهم من بركة العمل وجهود التضحية ما نباري بهم الآخرين، والآخرون عندنا أقزام، مدائح وهراء وإطراء؛ لكن لا عمل ولا قداسة ولا طهر.
أيها الأحباب أنتهي من هذه المحاضرة شاكراً لكم حضوركم، وأنا أعلم أنكم حضرتم حباً في عمر لا حباً في عائض، وأنكم حضرتم من أجل صاحبكم الكبير ورجلكم الملهم، والعبقري الفاتح، فرضي الله عنه وأرضاه، وعندي تنبيهان:
الأول: جزيرتنا وبلادنا ليست مستعدة إلا لفكر عمر، وعقيدة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليست مراهنة على فكرٍ علماني كافر، وليست مستعدة أن تفتح أبوابها لهذا الفكر الدخيل المعارض للإسلام, حتى والله لو شدخت الرءوس بالدبابات, وفتكت الأكتاف بالمجنزرات، فلن تبقى إلا ملة الرسول عليه الصلاة والسلام.
الثاني: يا شباب الإسلام! يا حملة التوحيد! يا أبطال العقيدة! السكينة السكينة، والهدوء الهدوء، ومراجعة العلماء والدعاة، وإيصال النصيحة بحكمة، لا بطيشٍ ولا بتعجل، وليس معنى الحكمة تكفين الكلمة ودسها في أكفان! لا، بل الحكمة الصادقة الهادئة التي توصل كلمة الحق، وتغير بها المنكر، في غير طيش ولا سفه وانزعاج، وأئمتكم الآن هم العلماء، أعلنوا أنهم أمامكم، وأنهم يريدون أن يسمعوا منكم وتسمعوا منهم, لتجددوا تلك المسيرة الخالدة، ولتقولوا للعالم:
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا
السلام على عمر يوم ولد، والسلام عليه يوم أسلم، والسلام عليه يوم بويع بالخلافة، والسلام عليه يوم قتل شهيداً، طلب من الله أن يُقتل شهيداً فقُتل شهيداً، لكن أين؟
في المحراب، ومتى؟
في صلاة الفجر، وإلى أين؟
إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، وفي أي ساعة؟
في ساعة الصباح يوم يتنفس الصباح على إطلالة يومٍ جديد، فيقدم فيه عمر على الله ليكافئه على عمله، طعن وحمل إلى البيت، وقال لابنه وقد وضع رأسه على مخدة: [[انزعها وضع رأسي على التراب، علَّ الله أن يرحمني]] وقال: أدخلوا عليَّ الأطفال، فأدخلوا عليه الأطفال وقبلهم، وقال: أدخلوا الشباب، فدخل عليه الشباب, ودمه يثعب, وجراحه تسيل، ونفسه تقعقع؛ وإذا بشابٍ قد أسبل إزاره, فقال: [[يا بن أخي! ارفع إزارك، فإنه أتقى لربك, وأنقى لثوبك]].
قال بعض المفكرين العصريين: أمير المؤمنين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في ساعة الموت، وهذا إزار، فكيف بالمنكرات التي يجب على الإنسان وهو في سعادة الحياة أن ينهى عنها كالربا، والفساد المستشري، والحجاب الذي يكاد يتهتك، والغناء الذي يقتلع البيوت، وانتشار الرذيلة، وسكوت أهل الفضل إلا من رحم ربك، وإيذاء الصالحين في وقت قول الحق، فهذا عمر يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكن على مسألة أصبحنا نراها من جزئيات الجزئيات، ثم ذهب عمر إلى الله، فقال علي: [[والله ما أريد أن ألقى الله بعمل رجلٍ إلا بعملك]] وأثنت عليه الأمة شرقاً وغرباً، وذهب إلى الله سعيداً.
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر
تردى ثياب الموت حمراً فما دجا لها الليل إلا وهي من سندسٍ خضر
فتى كلما فاضت عيون قبيلة دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
اللهم اجمعنا بـ عمر، وأجلسنا مع عمر، اللهم ارفع رسالة وعبقرية وعدل عمر على جماجمنا وأرواحنا وأكتافنا يا رب العالمين.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(139/15)
قل هذه سبيلي
بلغت دعوة خير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم الآفاق، وشهد له الجميع بأنه خير داعية إلى الله عز وجل.
ذلك أنه كان يدعو على بصيرة من الله عز وجل وحكمة، فتبعه المسلمون وقدموا معه الغالي والنفيس من أجل المضي بهذه الدعوة إلى الأمام، لينالوا رضا الله عز وجل.(140/1)
أسباب تفوق الرسول صلى الله عليه وسلم إجمالاً
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً، ومبشراً ونذيراً.
يقول الله تعالى:
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
أما أعداء الله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:42 - 43]
وأخيراً: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]
(على بصيرة) ما أحسن الكلمة! وما أجمل العبارة! فما هي البصيرة؟
إنها التوحيد الخالص، فلا يربون الأجيال على شرك ووثنية وخرافة.
بل على بصيرة: على منهج رباني خالد، فلا يربون الأمة والأجيال على قوانين وضعية.
بل على بصيرة: فينصحون لله ولكتابه ولرسوله ولولاة الأمر، فلا يألبون ولا يشغبون عليهم، ولا يثيرون على البلاد والعباد فتنة.
على بصيرة: فينصحون للعامة ويقودون الأمة إلى الاستقامة والالتزام والسكينة والأمن والإيمان.
ولكن اسمعوا إلى تلكم البصيرة في عشرة أسباب أنتجت بإذن الله ذاك الداعية الموفق عليه الصلاة والسلام.
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا التاريخ أنت المحرر
تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر
عليه الصلاة والسلام، أنا أتلوها عليكم ثم أفصلها، والله المستعان.
لماذا تفوق؟ الله معه كيف انتصر؟ الله حسيبه وكافيه.
لماذا أنتج هذا الجيل وهذه الأمة، والبلاد؟ لأنه يدعو إلى الله على بصيرة هو وأتباعه، ولأن أتباعه ليسوا مرتزقة كلام، ولا مروجي فتنة، وليسوا خوارج، ولا يلعبون بالنار، ولا ينثرون الدماء على الرءوس، بل هم عقلاء، يعرفون أين يضعون أقدامهم.
إنهم قادة الأمة إلى شاطئ الأمان، غيرهم المفسد والمنافق والذي يشعل الفتنة ثم يتركها ويفر.
أما أسباب تفوق الداعية العظيم عليه الصلاة والسلام فعشرة أسباب:
الأول: التوحيد الصادق، والتوكل الذي يحطم زيف الباطل وينسف ركام الجاهلية.
الثاني: الطموح الذي يتخطى آفاق الزمن وأقطار التاريخ وحدود الدهر.
الثالث: الثبات على المبدأ ثبات الواثق من العاقبة المتأكد من الخاتمة.
الرابع: التعالي على متع الحياة وبريق المادة، وجميع الأعراض الفانية.
الخامس: البذل والتضحية؛ بذلاً وتضحية كأنها من أساطير الأخبار لولا أنها حقائق، وكأنها من نسج الخيال غير أنها ثوابت.
السادس: استصحاب الزاد في الطريق الشاق، زاداً من العبادة المتأملة، والذكر الحي، والخشوع العجيب، والتبتل المنقطع النظير.
السابع: التفوق في أسلوب الدعوة تفوقاً تاجُه اللين، ليناً يسبي القلوب، ويشتري الأرواح، ويملك به الرقاب عليه الصلاة والسلام.
الثامن: العمل بما يدعو إليه، فإذا جوارحه تسبق لسانه، ودمعاته تسبق عباراته، وإذا هو قرآن يمشي على الأرض، وقداسة تتحرك على الكوكب.
التاسع: استغلال المواهب، وتوجيه القدرات، والاستفادة من العقول التي استنارت بنور الوحي.
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
العاشر: وعد محبيه وأتباعه وتلاميذه برضا الله وجنة عرضها السماوات والأرض، هذا هو الثمن للتضحيات، وأيما ثمن دونه فإنما هو غبن لا يساوي الجهد المبذول والتضحية.(140/2)
وقفات مع النبي صلى الله عليه وسلم
فيا أيها الناس: أيها العلماء! وأيها الدعاة! وأيها الجيل! يا أبناء لا إله إلا الله! ويا حفظة التوحيد! ويا حملة الرسالة! يا دهر! يا تاريخ! يا زمن! اسمع إلى وثيقة عنه عليه الصلاة والسلام.
يعيش عليه الصلاة والسلام معنا دائماً وأبداً، في مشاعرنا وآمالنا وطموحاتنا، يعيش معنا في قلوبنا رحيماً، وفي أبصارنا إماماً، وفي آذاننا مبشراً ونذيراً: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9].
نسينا في ودادك كل غال فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا(140/3)
النبي القدوة
يكرر القرآن ذكر هذا الرجل العظيم عليه الصلاة والسلام.
فهو الرجل لكن لا كالرجال، فهو يحمل هموم الرجال كل الرجال، وهو الإنسان لا كتلك الناس، فهو يجمع مناقب الناس جميعاً عليه الصلاة والسلام، يتحدث عنه القرآن فإذا هو الخلوق القريب: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] يدعو إلى الله على بصيرة، ويتحدث عن لينه وسهولته ويسره: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
إنه الإمام -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- وهو الإمام الذي على الأمة كل الأمة أن تذعن لإمامته، فهو إمام في الصلاة، وإمام في الحياة، وإمام في التربية، وإمام في الاقتصاد، وإمام في الحرب، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
يا أمة الإسلام: يا إخوة العقيدة! يا أبناء الرسالة الخالدة! هل يحق لنا شرعاً أو عقلاً أن نبحث عن غيره أو نتلمس سواه؟ لا.
بل حرام حرام حرام أن نجعل غيره إماماً يقود المسيرة إلى الله؛ لأنه هو الرجل الذي ختم الله به النبوة في الأرض.(140/4)
مقومات الرسول صلى الله عليه وسلم
هذا الرسول عليه الصلاة والسلام يعيش لحظات الحياة، ودقائق الزمن، وثواني الدهر، بما يجب أن تعاش، في الصلاة خاشع قانت أواب منيب؛ لأن الله قال: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79].
وفي الجهاد رجل شجاع، ومقدام صنديد، وبطل بارز:
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} [النساء:84].
وعند الإنفاق، هو المنفق الباذل، السخي الكريم، كما قال ابن عباس في الصحيحين: {كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة}.
في الفطر، صبور متماسك محتسب، وفي الرقة والرحمة، صاحب الدمعة الحانية، والشفقة البالغة، إنه الإنسان عليه الصلاة والسلام، الداعية الذي يدعو إلى الله على بصيرة.
الإنسان الذي أتى إلى الأمة الضعيفة، المسلوبة المنهوبة المظلومة، فرفع رأسها بين الرءوس، فأنا وأنت، وأبي وأبوك، وجدي وجدك لم يكن لنا تاريخ، حتى أتى محمد عليه الصلاة والسلام:
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
أمة وراء إمام هو محمد عليه الصلاة والسلام هي في خير: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62 - 63].
أتى عليه الصلاة والسلام إلى أمة ترعى إبلها وبقرها وغنمها في الصحراء القاحلة، صحراء الجوع والظمأ واليأس، فأخرجها بلا إله إلا الله إلى ضفاف دجلة والفرات وبساتين الشام ومصر، وحدائق الأندلس، وملاعب الهند والسند، فكبرَّت هناك وأذَّنت وصلت، وخرجت من الجزيرة، لا بطائرات ولا دبابات، ولا صواريخ بل خرجت بلا إله إلا الله.
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا(140/5)
المرشد بإذن الله إلى الصراط المستقيم
وأخرج عليه الصلاة والسلام الأمة من القتل والنهب والفتنة والسلب إلى الوئام والإخاء، والصفاء والحب: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103].
إن أيام الرسول عليه الصلاة والسلام هي الأيام التي يجب على الدعاة وطلبة العلم والشباب أن يعيشوا جزئياتها، وأن يجعلوا منها دستوراً لأيامهم، فقد عاش أيام العمر في الأعمال والمهن التي يعيشها غالب الناس.
أما رعى الغنم؟! لكنه حكم الأمم.
أما رقع الثوب؟! أما حلب الشاة؟! أما كنس البيت؟! أما ضحك وبكى؟! أما صلى ونام؟! أما صام وأفطر؟! أما تزوج النساء؟! أما تاجر وسافر؟! أما افتقر فصبر، واغتنى فشكر؟! بلى.
حكم الناس فهو قدوة للحكام، وأفتى فهو قدوة للمفتين، ودعا فهو قدوة للدعاة، ورعى فهو أستاذ للرعاة، وعلم الناس فنون الاقتصاد والحرب والسلم.
كأنه وهو فرد من جلالته في موكب حين تلقاه وفي حشم
إن محمداً عليه الصلاة والسلام عاش هذا العمر الطويل ليكون لنا نموذجاً حياً نقتدي به، يقول كما عند مسلم: {والذي نفسي بيده! لا يسمع بي يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار} أما المسلم فليس في الحسبان أن مسلماً يصلي ويعترف بلا إله إلا الله، ثم يتخذ غير محمد عليه الصلاة والسلام قدوة للأمة.
حارب عليه الصلاة والسلام الجيوش الجرارة، فكان أول مبارز، وكان أول شجاع، تجرح أمامه الكماة، وتنهزم أمامه الكتائب، ومع ذلك يتواضع لله، ويعلم أن النصر من عند الله، يغلب أحياناً، وتنكسر رباعيته، ويجرح، ويذبح أصحابه أمامه، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولكنه مع ذلك لا ينهزم، بل يواصل المسيرة بعزيمة أقوى وأقوى.(140/6)
التوازن والتواضع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
لبس الجديد عليه الصلاة والسلام إظهاراً للنعمة ورداً على متصوفة الهندوك، الذين يرون التقشف وقتل النفس والقضاء على الطموح حياة وإشراقاً:
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بؤسها
والله جميل يحب الجمال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] فالنبي صلى الله عليه وسلم يلبس الجديد إظهاراً للنعمة، ودمغاً للباطل، وهو عليه الصلاة والسلام يلبس البالي شكراً للباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وتواضعاً للحق عز وجل.
إذاً فمن لبس منا الجديد، فقدوته محمد عليه الصلاة والسلام، ومن لبس منا البالي فقدوته محمد عليه الصلاة والسلام، ومن جلس على كرسيه للحكم فإمامه محمد عليه الصلاة والسلام، ومن باع أو اشترى، أو سافر أو أقام، أو صام أو أفطر، أو اغتنى أو افتقر؛ فإن إمامه وأستاذه وشيخه محمد عليه الصلاة والسلام:
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
وأنتم في غنى وهو في غنى -بأبي هو وأمي- عن مدحي، لكن من الناس من يتصور يوم يقرأ سيرته أنه إمام في الصلاة، وأنه صلى الله عليه وسلم صلى بالناس الجنائز والاستسقاء والكسوف، وأنه كان يفتي وعنده بعض الأحاديث وأنه من الأنبياء، لكن لا.
فالرجل إمام، اعترف حتى أساطين الكفر، أنه إمام على مستوى العالم.
مايكل هارف صاحب العظماء المائة، جعل محمداً عليه الصلاة والسلام في المركز الأول، ويقول في كتابه: إني أعلم أن الأمريكان سوف يغضبون يوم جعلت محمداً في المركز الأول؛ لكن ماذا أفعل؟ قلنا له: أرغم الله أنفك وأنوف الأمريكان، هو الأول سواء رضيت أم غضبت، هو الأول سواء كتبت أو لم تكتب.
وكيف يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
محمد عليه الصلاة والسلام تزوج، يا جيلاً صدف عن الزوجات! بحجة البذل في الدعوة والجهاد، محمد أكبر الدعاة وأكبر المجاهدين وتزوج: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38].
وضاحك الأطفال، يا متكبراً لا يسلم على الأطفال ولا يمسح رءوسهم! محمد حمل الأطفال وصلى بالأطفال، ففي الصحيحين عن أبي قتادة قال: {صلى بنا رسول الله عليه الصلاة والسلام فحمل أمامة بنت زينب فكان إذا سجد وضعها وإذا قام رفعها} وعند النسائي عن أبي بسرة الغفاري: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام صلى بالناس فسجد، فأتى الحسن وأعجبه منظر الرسول عليه الصلاة والسلام ساجداً فامتطى ظهره الشريف -ظهر العظمة والزعامة، والطهر والعفاف- فمكث صلى الله عليه وسلم طويلاً، لئلا يؤذي الحسن، ثم اعتذر للناس وقال: إن ابني هذا ارتحلني -صعد على ظهري- فخشيت أن أقوم فأوذيه فانتظرت حتى نزل}.
اسمع يا زمن! وسجل يا تاريخ! وانظري يا دنيا! أي إمام هذا الإمام، الذي عبأ حاجات الناس كلهم، إن الرسول عليه الصلاة والسلام مازح الأضياف وحياهم، وأتحفهم وبياهم، قاد الأمة؛ فكانت قيادته دستوراً للقادة، ومنهجاً للزعماء، ووثيقة للساسة.(140/7)
النبأ العظيم والقائد الأعظم
وأعود فأقول: اسمع يا تاريخ! وسجل يا زمن! وقف يا دهر! لتعرف هذا النبأ الذي هز العالم كل العالم! والذي أوقف التاريخ كل التاريخ، إنه مبعثه عليه الصلاة والسلام: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ:1 - 3].
ما هو النبأ العظيم، أهو اكتشاف الذرة؟ أم تسيير الهواء؟ أم تفجير الطاقة؟ أم نسف الجبال؟ أم تحويل الماء المالح إلى عذب؟ أم اكتشاف الكهرباء؟ لا.
بل هو وصول محمد عليه الصلاة والسلام إلى قيادة العالم، فقد تغيرت الدنيا لمبعثه عليه الصلاة والسلام.
الآن تتوافد قبائل العرب لتنظر إلى هذا العظيم، وهو في مكة؛ لباسه عادي لا يساوي ثلاثة دنانير، وخبزه الشعير، وينام في بيت متواضع، يقف مع العجوز الساعات الطوال، يحمل الأطفال، يحلب الشاة، لا يجد كسرة الخبز، ومع ذلك تتساقط عروش الظالمين كسرى وقيصر لماذا؟
لأنه كسر بسيوف العدل ظهور الأكاسرة، وقصَّر برماح التضحية آمال القياصرة.
إن محمداً عليه الصلاة والسلام كان بين الناس رجلاً، وبين الرجال بطلاً، وبين الأبطال مثلاً، عليه الصلاة والسلام.
تتساقط الشاهات والباباوات؛ لأنها بنيت على الظلم: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].
أيها الإنسان! يا بن آدم! يا مسلم! يا من يحترم نفسه! إن سعادتك مرهونة باتباعه عليه الصلاة والسلام، وإن أبواب الجنة بعد مبعثه أوصدت فلا تفتح إلا لأتباعه على دينه، وأنصاره على مبادئه، الذين يدعون إلى الله على بصيرة، لا يدعون فحسب ولا يخطبون وكفى، ولا يتلاعبون بالألفاظ، ولا يتشدقون، إنما هم على بصيرة: علم وعقل، وثبات وانضباط، يغلبون المصلحة على المفسدة، ويريدون أن يلحقهم الأذى في أنفسهم وأعراضهم، ولا يلحق الأمة والجيل، لتبقى الأمة مطمئنة آمنة في سكينة، لأنهم ينصحون لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكتاب الله ولأئمة المسلمين ولعامتهم، هؤلاء هم الذين يدعون إلى الله على بصيرة.(140/8)
جوانب الكمال في حياته صلى الله عليه وسلم
يا قوم! إن محمداً عليه الصلاة والسلام سيعيش معكم بسنته إذا أردتم أنتم أن يعيش معكم، ستجدونه يتحدث إليكم في مجالسكم متى أردتم أن يتحدث إليكم.
إنه عالم في العبادة؛ وفي الصلاة والصيام، والذكر والجهاد، وهو عالم في الأخلاق؛ في التبسم والتواضع، والصبر والشجاعة والكرم، وهو عالم في الزهد في المسكن والطعام والميراث.
وهو عالم في التربية؛ مع المرأة ومع الأسرة، ومع الطفل.
يقف في منتصف الليل فيصلي إلى الفجر، ويقوم فيقول دعاء تنخلع له القلوب، واسمع إلى دعائه، جاء عن ابن عباس في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول: {اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، ومحمد عليه الصلاة والسلام حق} الحديث، وعند مسلم من حديث عائشة: {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم}.(140/9)
كماله في العبادة
وعَالَمٌ في الصيام فهو يصوم الليالي والأيام العديدة أربعة وخمسة وستة، لا يفطر لا ليلاً ولا نهاراً، فيقول له الصحابة: {إنك تواصل يا رسول الله! -يريدون أن يواصلوا معه- قال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني} قال ابن القيم: لا يطعمه الله طعاماً وشراباً حسياً، إذ لو أطعمه طعاماً حسياً وشراباً حسياً لما كان صائماً لكن يطعمه اللطائف والمعارف والحكم والفتوحات الربانية.
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به ومن حديثك في أعقابها حادي
وعالم في الجهاد، أي معركة فر منها عليه الصلاة والسلام؟ متى فر؟ ومن قال أنه فر؟ يقول أبو الحسن علي بن أبي طالب: [[كنا إذا اشتد الكرب وحمى الوطيس، واحمرت الحدق اتقينا برسول الله عليه الصلاة والسلام فيكون أقربنا إلى القوم]].
أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أدبت في هول الردى أبطالها
وإذا وعدت وفيت فيما قلته لا من يكذب فعلها أقوالها
محمد عليه الصلاة والسلام هو عالم في الذكر، فحياته وليله ونهاره ذكر: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الحجر:98] {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
بل أنفاسه ذكر، وفتواه ذكر، ومزحه ذكر، وخطبه ومواعظه وتوجيهاته ذكر، فهو قرآن يمشي على الأرض، عليه الصلاة والسلام.
وهو عالَم في الأخلاق، شرى قلوب العرب بالبسمات، وأسر الأرواح بالبسمة الحانية عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] يأكل على التراب، حتى قالت امرأة: {انظروا له يأكل كما يأكل العبد، ويشرب كما يشرب العبد فقال: وهل هناك عبد أعبد مني} فرفعه الله، ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر على الله وضعه.(140/10)
صبره وشجاعته
ش الفقر، والحروب والمصائب، ماتت بناته، وقُتل أصحابه، وشرد من وطنه، وبيعت أملاكه، ولطخت سمعته وأوذي؛ ومع ذلك كان صابراً صبراً يغلب الصبر.
صابر الصبر فاستجار به الصبر فقال الصبور للصبر صبرا
وذا يقوله بعض المفسرين لما قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
يقولون لـ عنترة: بم غلبت العرب في المعارك؟ قال: بالصبر، فقال له أحد الشجعان: كيف تكون صابراً وأنا أصبر منك؟ قال: ناولني إصبعك، وخذ إصبعي فأدخل إصبعه في فمه وأخذ إصبع الرجل في فمه، ثم قال له: عض وأعض، فعض ذاك وعض هذا، فقال: ذاك أح فأخرج ذاك إصبعه، فقال عنترة:
بهمة تخرج ماء الصفا وعزمة ما شابها قول آح
أقسمت أن أوردها حرة وقاحة تحت غلامٍ وقاح
إما فتى نال المنى فاشتفى أو فارس زار الردى فاستراح
محمد عليه الصلاة والسلام الذي وصل بالصبر إلى حد ما استطاع أن يصابره الصبر، فكان سيد الصابرين صلى الله عليه وسلم.
الشجاعة: فعنده صلى الله عليه وسلم شجاعة الواثقين من المبادئ، ينام وحول البيت خمسون شاباً بسيوفهم، لا درع ولا سيف، ولا موكب ولا حرس!
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم
عليه الصلاة والسلام.
الكرم: سألوه ثوبه فخلع ثوبه وأعطاه؛ فما كان يقول: لا.
وعند أحمد في المسند من حديث جابر {أن أعرابياً قال: يا رسول الله! أعطني مالاً قال: لا.
وأستغفر الله} معناه: ليس عندي مال، وأستغفر الله من كلمة "لا".
ما قال "لا" قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم(140/11)
زهد النبي صلى الله عليه وسلم
وهو عالَم في الزهد، يقول الفيلسوف برناردشو: عجباً لمحمد على كومة من التراب، يتناول فنجان القهوة ويصلح مشاكل العالم، وهو لا يعلم أن القهوة اكتشفت بعد مبعثه عليه الصلاة والسلام، ولا يهمنا اكتشاف القهوة، ولكن يهمنا اكتشاف الحكمة والنور الذي حل به مشاكل العالم، والحق ما شهدت به الأعداء، فهو عالم في الزهد عليه الصلاة والسلام، يعيشه صلى الله عليه وسلم ويتعامل مع الناس.
مسكنه غرفة من الطين، وفي صحيح البخاري: {كان إذا أوتر يغمز عائشة رضي الله عنها وأرضاها فتكفكف قدميها ليجد مكاناً للسجود} و {يأتيه الملك بمفاتيح كنوز الدنيا فيقول: لا.
بل أجوع يوماً وأشبع يوماً حتى ألقى الله} فثوبه ثوب واحد.
كفاك عن كل قصر شاهق عَمِدٍ بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيم
وعالم في الزهد، لا يجد أحياناً حفنة من التمر، هذا الإنسان عليه الصلاة والسلام الذي أدخل -بإذن الله- محبيه إلى حدائق الأندلس، وإلى ضفاف دجلة والنيل والفرات، لا يجد حفنة من التمر، هذا الرجل الذي ملك -بإذن الله- أتباعه ثلاثة أرباع الدنيا، وأتى هارون الرشيد وهو أحد أتباعه يقول للسحاب: " أمطري حيث شئتِ فسيأتيني خراجكِ بإذن الله " ولا يجد حفنة من التمر.
هذا الرجل دخل أحد أتباعه وهو قتيبة بن مسلم كابل الحزينة، التي ضيعناها يوم ضيعنا لا إله إلا الله، كابل التي ذهبت مع المرتزقة والزنادقة، يمزقون مصاحفها، ويدوسون كرامتها وعفافها وحياءها، كابل أرضنا، ووطننا وحبيبتنا، يفتحها قتيبة أحد أتباعه عليه الصلاة والسلام فيأتي إلى الأصنام فيحرقها لأنها عبدت من دون الله، قالوا لـ قتيبة: خذ الأصنام، وتاجر بها، قال: لا.
أصنام سُجد لها من دون الله تحرق، قال إقبال:
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
هذا هو محمد عليه الصلاة والسلام.(140/12)
الرسول صلى الله عليه وسلم والطفل
أيتها المرأة المسلمة: يا أيتها المرأة التي تسمع الصوت! محمد إمامك عليه الصلاة والسلام، المعلم والشيخ والأستاذ يعتني بالمرأة، يقف يوم عرفة، فيعلن حقوق المرأة؟ من الذي أعلن حقوق المرأة؟ أقاسم أمين؟ كذب عدو الله، أسعد زغلول، كذب عدو الله، أأتاتورك؟ كذب عدو الله.
إنه محمد عليه الصلاة والسلام، يقول يوم عرفة متحدثاً عبر الزمن: {الله الله في النساء، فإنهن عوان عندكم} ويقول: {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي} عليه الصلاة والسلام.
يعيش معها أباً وزوجاً وأخاً، يأمرها بالحجاب وهو الذي حررها بإذن الله، أما الذين يدعون حرية المرأة وتحرير المرأة؛ فهم قتلة المرأة، وهم أعداء المرأة، فجعلوا المرأة سلعة تباع وتعرض كالأزياء، أخرجوا المرأة سافرة في الحوانيت والبقالات، ومجامع الناس والأسواق، أخرجوا المرأة وجعلوها تشارك في الجيش في الحرب العالمية الثانية، تحمل السلاح وهي ضعيفة، وتقاتل بالبندقية وهي لطيفة، وتعارك الجنود وهي شريفة، فمن حرر المرأة؟ إنه محمد عليه الصلاة والسلام.
وقد عاش مع الطفل مربياً، فكان معه يوم سقط رأس الطفل في الأرض، أتت فاطمة بنته بـ الحسن أول يوم ولدته، فأتى فأذن في أذن الحسن، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لماذا؟ ليسمع الطفل الأذان أول شيء، لا الموسيقى، ولا الأغنية الماجنة، ولا الصيحات المعربدة، ولا الزندقة والإلحاد، بل ينشأ طفلاً موحداً من أول يوم، فهذا هو محمد عليه الصلاة والسلام.
وهو عالم الأسرة وعالم الاقتصاد، ولكن -والله- لا أستطيع أن أوفيه حقه.(140/13)
تفصيل أسباب تفوقه صلى الله عليه وسلم
فأعود إلى التكلم عن النقاط والمسائل التي من أراد أن يكون داعية.
إلى الله على بصيرة ويكون حكيماً منضبطاً عاقلاً، فعليه أن يحفظ هذه المسائل، ثم يبثها في الناس.
كان من أسباب انتصار الداعية العظيم عليه الصلاة والسلام كما قلت:(140/14)
توحيد الله عز وجل
أولاً: التوحيد الصادق، والتوكل الذي يحطم زيف الباطل، وينسف ركام الجاهلية، يقول الله سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ويقول الله عز وجل له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] ويقول الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64].
أول ميزاته: التوحيد الخالص، وصفاء العقيدة.
إذاً يا دعاة! يا طلبة العلم! يا شباب محمد عليه الصلاة والسلام! التوحيد أولاً والعقيدة أولاً.
ولذلك تميزت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله واكتسبت قوتها وعمقها وأصالتها حتى نفذت إلى القلوب، وذلك لأنها صافية، ولأنها على منهج السلف ولأنها ضاربة في أعماق الكتاب والسنة، فلذلك بقيت إلى اليوم: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] وقبل أن ندعو الناس إلى الأخلاق والسلوك، قبل أن نتكلم إليهم عن التربية والأدب والاقتصاد، لابد أن نتكلم لهم عن التوحيد.
يقول الله للرسول عليه الصلاة والسلام: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] ويقول: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].
فيكون موحداً دائماً وأبداً، يأتي الأعرابي من الصحراء، فقبل أن يعلمه الوضوء وكيفية الأكل والشرب، يقول له: قل لا إله إلا الله، يقول لـ حصين بن عبيد كما عند أبي داود: {يا حصين كم تعبد؟ قال: أعبد سبعة، قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: فمن لرغبك ولرهبك؟ قال: الذي في السماء، قال: فاترك التي في الأرض واعبد الذي في السماء} {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110].
وعقيدة أهل السنة والجماعة العقيدة الرائعة الجميلة الحسنة البديعة، هي التي يجب على الدعاة أن يدعوا الناس إليها أولاً، ففي الصحيحين، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن فقال: -واسمع إلى الداعية الكبير، الذي يدعو إلى الله على بصيرة- إنك سوف تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أطاعوك فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة} الحديث.
ويقول صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: {احفظ الله يحفظك} ويقول في آخر الحديث عن العقيدة: {واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك} هذا هو أول عنصر جعل محمداً عليه الصلاة والسلام داعية ناجحاً بإذن الله.
يا دعاة الإسلام! يا طلبة العلم! وحفاظ الرسالة! قضيتنا الكبرى هي تصحيح معتقد الناس، أما التلفيق والمسامحة في هذا الجانب فلا يصلح أبداً، ولا تنجح الدعوة فيه أبداً؛ لأن الدعوة أقيمت على التوحيد الخالص.(140/15)
الطموح الذي يتخطى الآفاق
الثاني: الطموح الذي يتخطى آفاق الزمن، وأقطار التاريخ، وحدود الدهر، ينزل عليه الصلاة والسلام الخندق ليحفر وعلى بطنه حجران من الجوع مربوطان، فيضرب الصخرة فيلمع ضوءاً كالبرق، فيقول: {أريت قصور كسرى وقيصر، سوف يفتحها الله لي} فيضحك المنافقون.
فهذا رجل حاله أنه مطوق باليهود والأحزاب والمنافقين والعملاء والزنادقة، وهو في المدينة ثم يقول: يفتح الله عليه الكنوز والقصور فيقول المنافقون: ما هذا؟ {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12].
ولكن بعد خمس وعشرين سنة، دخل سعد بن أبي وقاص إلى قصر كسرى والإيوان فقال: الله أكبر! أليس هذا طموحاً؟ بلى إنه لطموح، ويأتي عليه الصلاة والسلام فيقول للصحابة: {زويت لي الأرض -يعني في المنام، أي قرب الله له الكرة الأرضية- قال: فرأيت ما بلغ ملك أمتي أو ملكي أو ما يفتحه الله عليّ} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
أما دخلت دعوته روسيا؟ بلى.
وقد حج من روسيا هذا العام ما يقارب ألفين، نعم ألفا حاجٍ خرجوا من موسكو عاصمة جرباتشوف وبرجنيف الملاحدة الزنادقة، يقولون: لبيك اللهم لبيك، ليبك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
وحدثنا مصدر مطلع موثوق بسند جيد على شرط ابن حبان، من المجاهدين الأفغان أن وفد المجاهدين شارك قبل ثمانية أشهر في جلسة هيئة الأمم المتحدة في نيويورك، فلما حضرت صلاة الظهر، قام أحد المجاهدين من أهل العمائم، أهل لا إله إلا الله، أهل التكبيرات، والمواقف الخالدات، قام إلى الميكرفون وأذّن لصلاة الظهر داخل هيئة الأمم المتحدة؛ أليست هذه دعوته عليه الصلاة والسلام؟ أليس هذا هو الطموح الذي تجاوز الزمن؟
أما دخل يونس خالص إلى ريجان في البيت الأبيض وقال: أدعوك إلى الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم كل أمريكي على وجه الأرض.
فهذا طموحه عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء أتباعه، وهؤلاء تلاميذه.(140/16)
الثبات على المبدأ
الثالث: الثبات على المبدأ ثبات الواثق من العاقبة، المتأكد من الخاتمة، الرسول عليه الصلاة والسلام لا يتعامل مع الأهواء، ولا يرضى بأنصاف الحلول، يقول: المتشدق الزنديق أبو جهل: يا محمد! تعال نعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة، وهذا لعب وفوضى، لا.
فأتى القول من الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6] أنا منفصل عنكم تماماً، لا جسور تمتد بيننا وأنتم مشركون، ولا حلول إلا بلا إله إلا الله، هذا هو الحق الصراح.
كان من أسباب انتصاره صلى الله عليه وسلم، الثبات على المبدأ ثبات الواثق من العاقبة، والمتأكد من الخاتمة:
يروى أن الجاهليين أتوا إليه عليه الصلاة والسلام فقالوا: {يا محمد! سفهت أحلامنا، وسببت آلهتنا، إن تريد ملكاً ملكناك، وإن تريد زوجة زوجناك، وإن تريد مالاً أعطيناك، فلما انتهوا قال: انتهيتم؟ قالوا: نعم.
قال: والذي نفسي بيده! لو وضعتم الشمس في يمني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه} هذا هو الجواب، وهذا هو الثبات، الذي جعله يستمر عليه الصلاة والسلام، لا يرضى إلا أن يتم هذا الدين في الأرض، أو يقتل عليه الصلاة والسلام.
جاء في البخاري في كتاب الجهاد: {ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أُحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل} عليه الصلاة والسلام، وإنما ذلك لتبقى لا إله إلا الله وليبقى التوحيد، وليسلم الناس لرب العالمين، فثباته عليه الصلاة والسلام مكن له بإذن الله في الأرض، ونصره بعون الله حتى بلغ الغاية.
إن الذي يقاتل من أجل دنيا، ومن أجل وطنية ينتهي ويتلاشى ولا يواصل، أما هو عليه الصلاة والسلام فقاتل من أجل أن تبقى كلمة لا إله إلا الله مرفوعة خفاقة في الأرض.(140/17)
التعالي على متاع الحياة الدنيا
الأمر الرابع: التعالي على متع الحياة وبريق المادة، ولموع الأغراض الفانية، فملبسه متواضع ومسكنه وطعامه كذلك، فهو لا يريد الدنيا، تؤتى إليه مفاتيح وكنوز الدنيا، فيقول: لا.
بل أشبع يوماً وأجوع يوماً حتى ألقى الله، وقال عنه الجاهليون: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:7 - 8].
ما لهذا الداعية أليس عنده دخل ولا راتب ولا منصب، لا يملك اللحم ولا الطعام ولا الملابس ولا خدم ولا مساعد، ولا معاون، ويبيع ويشتري في الأسواق، فقال الله رداً على هذا الباطل: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} [الفرقان: 9].
ثم قال: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} [الفرقان:10] لكنه في الجنة، قصره كالربابة البيضاء وله المقام المحمود، وهو أنعم من ينعم في الجنة، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، يدعو إلى الله ويقول للأمة: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [الأنعام:90] أي: لا أتقاضى راتباً شهرياً، ولا أريد مادة، فما سألتكم من أجر فهو لكم، خذوا دراهمكم ودنانيركم وحياكم، خذوا بيوتكم وهداياكم فأنا أريد أن تبقى لا إله إلا الله وتنتصر لا إله إلا الله، ولذلك انتصر لما صدق مع الله.
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروةً وإن خلتموني وحيداً سليبا
يقول فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام: {ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كرجل قال في ظل شجرة ثم قام وتركها} ويقول عليه الصلاة والسلام لأحد أتباعه ومحبيه، كما في البخاري: {كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل} وقال في حديث يصححه بعض أهل العلم: {ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس} فإذا هو الزاهد عليه الصلاة والسلام، وإذا هو الذي يعطي ولا يأخذ، لئلا تكون لأحد من الناس منة عليه، صلى الله عليه وسلم.
ويموت عليه الصلاة والسلام وإذا ميراثه: بغلة ودرع وسيف، كل هذا التاريخ وكل هذا الدستور، وكل هذه المسيرة: بغلة ودرع وسيف؟ نعم.
ثم يقول: {نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة} عليه الصلاة والسلام.(140/18)
البذل والتضحية والتزود من الطاعة
الخامس من أسباب انتصاره وتفوقه: البذل والتضحية، بذلاً وتضحية كأنها من أساطير الأخبار لولا أنها حقائق، وكأنها من نسج الخيال غير أنها ثوابت، يقول الله له في القرآن: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:1 - 2] فقام وما جلس، وجاهد وما استكان، قام ثلاثاً وعشرين سنة، ليله دموع وخشوع وبكاء، ونهاره صلاة وصيام وجهاد، وبذل وتضحية، ثلم في عرضه، وثلم في جسمه، وفي بيته، ورسالته، ومع ذلك يستمر ويضحي، ويدفع دمه ودموعه ووقته وماله عليه الصلاة والسلام.
إن على الدعاة الذين يدعون إلى الله على بصيرة؛ أن يعرفوا أنهم سوف يدفعون الثمن غالياً، والمهج والأرواح رخيصة في سبيل الله.
الرسول عليه الصلاة والسلام يُدمى عقبه، فيقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} يروى أن ملك الجبال أتاه فقال: {أتريد أن أطبق على قريش الأخشبين، قال: لا.
إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً} فيخرج الله من صلب أبي جهل عكرمة، ومن صلب الوليد خالداً، ومن صلب فلان الميت فلاناً الحي: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [آل عمران:27] فتكسر ثنيته، ويُقتل أصحابه، ويُشرد من وطنه، ويكذب ويطارد ومع ذلك يرى أنه ما بذل شيئاً:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فلما لجرح إذا أرضاكم ألم
وفي آخر المطاف بعد هذا البذل والتضحية يقول الله له: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3] ولو بذلت فاستغفر الله، ولو أعطيت فاستغفر الله، إن مِنَنَ الله أعظم مما قدمت وأعطيت.
فيا معاشر الدعاة! مهما بذلتم وأعطيتم فإن نعم الله وأياديه أفضل وأعظم مما بذلتم وقد متم للأمة.(140/19)
التزود بالعبادة والتقوى
السادس: استصحاب الزاد في الطريق الشاق، زاداً من العبادة المتأملة، والذكر الحي، والخشوع العجيب، والتبتل المنقطع النظير، لقد جعلت الثقافة الغربية من دعاتها أناساً يحملون العلوم في أذهانهم سلات مهملات: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] يعلمون كل شيء إلا الآخرة، ويعرفون كل شيء إلا الدين، ولذلك لا أثر لهم في قلوب الناس ولا حياة.
أما محمد عليه الصلاة والسلام فأعطى الجزء الكبير من وقته للعبادة؛ لأنها الزاد والطاقة للداعية التي تجعل كلمة الداعية حارة صادقة مخلصة تصل إلى القلوب، فلا تموت الكلمات إلا يوم تموت القلوب، ولا تموت المبادئ إلا يوم تموت الأعناق بالمنن، ولا تموت المناهج في الأرض إلا يوم يموت أصحابها في أوحال الأطماع والشهوات، فلا يبقي لهم الله أصلاً ولا ذكراً.
والرسول عليه الصلاة والسلام يقوم الليل -أكثر من ست ساعات- يقوم معه أحد محبيه وأتباعه: حذيفة، فلا يستطيع أن يواصل، ويقوم ابن مسعود فيقول: {هممت بأمر سوء، قالوا ماذا هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه} ويصوم عليه الصلاة والسلام فيواصل، ويذكر الله دائماً على لسانه، فيكون مدده زاداً من العبادة وتوجهاً من الطاعة، لأن الله عز وجل دائماً يطالب منه أن يكون عابداً مهما انشغل بشواغل الحياة، أو بمشاغل الناس.(140/20)
التفوق في أسلوب الدعوة
السابع: التفوق في أسلوب الدعوة، تفوقاً تاجه اللين، لين يسبي القلوب، ويشتري به الأرواح ويملك به الرقاب، وأنا أقول عن هذه الصحوة المباركة: إنها صحوة معتدلة ومتأنية، منضبطة في العموم الغالب، إنه لا يحكم عليها بالتطرف أبداً، وليس التطرف في الصحوة الإسلامية ظاهرة حاشا وكلا، فليس بظاهرة، ربما أتت صور لا يخلو منها البشر؛ لكن العموم والسواد الأغلب صحوة منضبطة، عاقلة، متزنة، تعرف الكتاب والسنة، وتتعامل مع الواقع بحكمة، وهي بإذن الله أساس سعادة البلاد والعباد، وهي بإذن الله تبشر بالخير؛ لأنها صحوة قامت على التوحيد، وجعلت محمداً عليه الصلاة والسلام إمامها، ولأنها صحوة، جعلت أياديها في أيادي البعض والتفت حول القيادة العلمية الراشدة في هذه البلاد، فهي تسير بخطى مطمئنة إلى الله عز وجل.
إن التطرف في غير الصحوة كثير وهناك تطرف يسمى التطرف اللاديني، وذلك في الكأس، وفي الاستهزاء بالدين، والسخرية بالصالحين، في الحداثة، والزندقة وبيع القيم والهجوم على المرأة وإخراجها سلعة، وبالتشدق والسخرية بالكتاب والسنة، وفي السفر إلى الخارج للمعصية، هذا هو التطرف اللاديني.
أيها المسلمون! كان عليه الصلاة والسلام ليناً، قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وأنا أقول وأنتم تقولون معي: لم ننجح في دعوتنا إلا باللين، الله يرسل موسى عليه الصلاة والسلام مع هارون إلى فرعون فيقول لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
تعهدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعه
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعه
والله عز وجل يقول للرسول عليه الصلاة والسلام الداعية: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] وفعلاً دفع بالتي هي أحسن، فأتى أعداؤه الذين قاتلوه في المعارك يبكون يوم الفتح بين يديه ويقولون: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91].
لقد تفوق باللين، هل سمعتم منه كلمة نابية؟ أن هناك كلمة نابية في كتب السنة عنه، هل جرح المشاعر؟ هل سب وشتم؟ لا.
بل كان متأدباً، كان ينزل الناس منازلهم، ولم يكن يفضح الناس، أو يشهر بالعصاة، كان يقوم على المنبر فيقول: {ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا} فيفهم المخطئ أنه أخطأ، ولا يدري الناس أن المخطئ فلان بن فلان، أي حكمة هذه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].(140/21)
العمل بما يدعو إليه
الثامن: العمل بما يدعو إليه، فإذا جوارحه تسبق لسانه، ودمعاته تسبق عباراته، وإذا هو قرآن يمشي على الأرض، وقداسة تتحرك على الكوكب، يقول للناس: صلوا، وهو أول المصلين، ويقول: اخشعوا، وهو أول الخاشعين، ويقول: تصدقوا، وهو أول الباذلين، ويجاهد ويدعو إلى الجهاد، وهو الذي يحمل السيف في أول الصفوف.
ولذلك لام الله عز وجل دعاة بني إسرائيل والمتلاعبين بالألفاظ، ومرتزقة الفكر الذين يقولون ما لا يفعلون، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] أتعلمون الناس الفضيلة وأنتم في الرذيلة؟! أتعلمون الناس الأمن وأنتم أهل الفتنة؟! أتعلمون الناس الانضباط وأنتم أهل الهمجية؟! أتعلمون الناس البذل وأنتم أهل الإمساك؟! أتعلمون الناس الشجاعة وأنتم جبناء!
يا أيها الرجل المعلم غيره هلاَّ لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
كان عليه الصلاة والسلام يقول كما عند البخاري في كتاب العلم: {إن أعلمكم بالله وأتقاكم لله أنا} صدقت.
أنت أتقى الناس وأعلم الناس، وأنت أخشى الناس؛ لأنك تعمل بما تقول، إن مما يفضح الدعوات ويحطم المسيرة؛ أن يرى الناس دعاة أفعالهم تخالف كلامهم، يقولون كلاماً جميلاً على المنبر لكن الفضائح تظهر في تصرفاتهم وتكذب أقوالهم على المنابر، أما الرسول عليه الصلاة والسلام فحاشا وكلا، في صحيح مسلم أن عائشة رضي الله عنها، سئلت عن خلقه عليه الصلاة والسلام فقالت: {كان خلقه القرآن}.(140/22)
استغلال المواهب
الأمر التاسع من أسباب انتصاره: استغلال المواهب، وتوجيه القدرات، والاستفادة من العقول التي استنارت بنور الوحي، معنى ذلك أن يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب قال: أبو الطيب المتنبي:
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
عمرو في منزلة عمرو، وزيد في مكانة زيد، فعلها عليه الصلاة والسلام أتى إلى الخامات من أصحابه، فعرف قدراتهم واستعداداتهم فوجههم الوجهة الصحيحة التي ينتج فيها أصحابها، أتى إلى أبي بكر فإذا أبو بكر رجل ريادة وسيادة وإدارة وسياسة، فجعله خليفة من بعده، وأتى إلى عمر فإذا هو داهية عملاق قوي، فأوكل إليه مهمة تدوين الدواوين وتجنيد الجنود وتجييش الجيوش.
ومعاذ: {أعلمكم بالحلال والحرام معاذ} وخالد، خالد مهمته تقطيع رءوس الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، لأن استعداد خالد أن يكون مجاهداً وهذه ثغرات المسلمين.
إن الرجل المناسب الذي يصلح الله به الحال يجب أن يكون مناسباً في حاله وفي مقامه، فالخطيب خطيباً، والمهندس مهندساً، والطبيب طبيباً، والمجاهد مجاهداً، ولا نقول للطبيب: كن واعظاً، ولا للواعظ: كن مهندساً، ولا للمفتي: كن طبيباً، لا.
لأن تداخل التخصصات معناه انثلام في صرح الرسالة الخالدة التي أتى بها صلى الله عليه وسلم.
يقول صلى الله عليه وسلم يمدح خالداً -أيمدحه بكثرة الحفظ؟ إن خالداً فيما يذكر عنه لم يكن يحفظ كل القرآن أيمدحه بحفظ الحديث؟ لم يكن يحفظ الحديث، أيمدحه بالفتيا؟ لم يكن عنده الفتيا، يقول: {خالد سيف سله الله على المشركين}.
ثابت بن قيس بن شماس، خطيب يدخل الجنة بالخطابة، وحسان أديب يدخل الجنة بالأدب، وبلال مؤذن يدخل الجنة بالأذان.
فعلى رواد الصحوة وأبطال العقيدة أن يصنفوا الشباب كل فيما يخصه، وكل رجل في المكان الذي يناسبه، ليفعل مثلما فعل عليه الصلاة والسلام.(140/23)
الوعد بالجنة
العاشر: وعد عليه الصلاة والسلام محبيه وأتباعه برضا الله، وجنة عرضها السماوات والأرض، هذا هو الثمن للتضحيات، وأيما ثمن دونه فإنما هو غبن لا يساوي الجهد المبذول، يقول له الأنصار: {يا رسول الله! أئن نصرك الله ما لنا؟ قال: لكم الجنة} ليس عنده دنانير، هو أصلاً ليس مساوماً، لا يلعب بالنار، وهو لا يشتري دعايات، فهو عليه الصلاة والسلام ليس في اقتراع أصوات ولا في انتخابات، لا.
بل من أراد الجنة فطريقها من لا إله إلا الله، ومن أراد النار سلك طريقها: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3]
يأتي أبو بكر فيقول: يا رسول الله! إذا آمنت بك ما لي؟ قال: الجنة قال الأنصار: {يا رسول الله! إن نصرناك فما لنا، قال: الجنة، قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل} {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]
الرسول عليه الصلاة والسلام: لم يُمن أحداً بمنصب، ولا مال، ولا برتبة ولا قصر، أو دار، أو بمديحة بل قال لهم: رضا الله والجنة.
صح عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: {من يقتل خالد بن سفيان الهذلي وله الجنة، فذهب عبد الله بن أنيس فقتله، فقال: يا رسول الله! ألي الجنة؟ قال: لك الجنة، قال: ما علامة ذلك؟ قال: خذ هذه العصا، علامة بيني وبينك يوم القيامة} تتوكأ بهذه العصا -إن شاء الله- في الجنة، والمتوكئون بالعصي في الجنة قليل وأخذها عبد الله بن أنيس ليتوكأ بها في الجنة إن شاء الله.
يقوم على المنبر -والقصة صحيحة- فيقول: {من يجهز جيش تبوك وله الجنة؟} ليس عند الرسول عليه الصلاة والسلام إلا الجنة، ليس عنده رشوة ولا مداهنة ولا زهرة الدنيا، فجهزه عثمان، فقال: {اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم}.
إن التربية التي تربي الشباب على الجوائز لذاتها فحسب، سوف تربي جيلاً مادياً رأسمالياً، نعم نحن نشجع الناس بالجوائز، لكن المقصد رضوان الله، وجنة عرضها السماوات والأرض، نقول للحافظ: احفظ القرآن ليرضى الله عنك، وليلبسك حلة على رءوس الأشهاد، ثم لك جائزة، ونقول للشاب: احفظ الأحاديث ولك جائزة بعد رضوان الله والجنة.
أما أن نجعل الجيل يطلبون بالدين وبالعلم الشرعي النافع أغراض الدنيا، فمعنى ذلك: الرياء والسمعة وإحباط العمل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].
بالله يا مسلمون! لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام -فرضاً وجدلاً- يوم بذل أصحابه مابذلوا وضحوا بما ضحوا به، قال لهم: أما جزاؤكم على تضحياتكم، فلك يا عمر الكوفة، ولك يا علي البصرة، ولك يا أبا بكر عشرة آلاف ألف دينار، ولك يا فلان! كذا وكذا، فكم هو ثمن بخس؟ وكم هو قلة؟ وكم هو ضياع؟ لكن قال: الجنة، ولذلك تسابقوا إلى الجنة.
جعفر خرج إلى مؤتة ليس عنده كسرة خبز من شعير، وكسرت السيوف في صدره وقطعت يداه وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
عليَّ إن لاقيتها ضرابها
أنس بن النضر في آخر رمق يقول: [[إليك عني، والذي نفسي بيده! إني لأجد ريح الجنة من دون أحد]].(140/24)
خلاصة في معنى آية: (قل هذه سبيلي)
هذه تعاليمه عليه الصلاة والسلام، ولذلك تفوق صلى الله عليه وسلم تفوقاً خالداً، شهد له به التاريخ، فنجح نجاحاً باهراً.
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] سبيله ماذا؟ طريقه ومنهجه ودستوره في الحياة، قبل أن يبعث إنساناً بعث داعية، لكنه داعية إنسان، ومبشر إنسان، ومنذر إنسان: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ} [المرسلات:45] فالحصر هنا جعل مهمته الإنذار فحسب.
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] وهي الطريق التي يسيرها محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه من العلماء والدعاة وطلبة العلم.
(أدعو) وهذه لوحة شرف يحملها كل من دعا إلى منهج الله، والدعاة هم أشرف الناس بهذا، وهم أحظ الناس بهذا اللقب، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] ما أحسن العبارة.
{أدعو إلى الله} [يوسف:108] أنا لا أدعو إلى نفسي، ولا أدعو إلى كياني أو شهرتي، أو منصبي، أو أغراضي، لا.
يا مسلمون! إن الدعاة اليوم والعلماء يدعون إلى الله على بصيرة، ليس عندهم ألغاز وأحاجي، فمبادئهم تعلن كل يوم خمس مرات من على المنبر، ما عندهم تكلموا به، يعلمون الناس: التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج.
يعلمون الناس: السلوك والأدب والأخلاق، هذا ما عندنا وما عند الدعاة والعلماء وطلبة العلم؛ لأننا ندعو إلى الله.
ثم قال {عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] وأي بصيرة كهذه البصيرة التي يعيشها العلماء والدعاة في هذه البلاد وفي غيرها من البلاد الإسلامية في العموم الغالب؟
أليست بصيرة التوحيد؟ وهو موجود.
وبصيرة الحكمة؟ وهي موجودة.
من الذي كلما سلَّ الخوارج سيوف الفتنة لإزهاق الأرواح وإسالة الدماء قالوا: حرام؟ إنهم العلماء والدعاة، من الذين كلما هاج هائج وماج مائج قالوا: حرام فوقف مكانه؟ إنهم العلماء والدعاة، ومن الذي كلما أتى حداثي وزنديق ومارق ليشعل الفتنة ويستهزئ بالدين ويلطخ الشريعة، قالوا: حرام، فوقف؟
إنهم العلماء والدعاة، فهم يدعون إلى الله على بصيرة وعندهم المادة: العلم الشرعي، الكتاب والسنة، ولديهم الحكمة: يعرفون التدرج، أطباء القلوب، وساسة الأمة، ويوم تفقد الأمة العودة إلى العلماء؛ تخسر الصفقة، ويفوتها حظ وافر من القيادة والريادة، وربما تخفق في مسيرتها، ويوم يبتعد العلماء عن الشباب، ولا ينزل العلماء لقيادة الشباب تقع المسيرة في اضطرابات لا يعلمها إلا الله، وتنتهي الأمة إلى هاوية سحيقة من التشتت والتمزق والدمار.
والعلماء هم الرواد، وهم مدعون وقد فعلوا: والشباب مدعون وقد فعلوا: إن يلتحموا بالعلماء، وأن ينظروا إلى هذه القمم أنها شموع ومعالم في طريقهم إلى الله عز وجل لا بد أن يُسمع لقولهم، وأن يعاد إليهم، وأن يشاوروا، وأن تحترم آراؤهم؛ لأنهم أعقل وأعلم، وأصدق وأخلص.
هذا الذي يجب على رواد هذه المسيرة أن يفعلوه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] من الدعاة والصالحين، والعلماء وطلبة العلم: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
توحيد في أول المسيرة وتوحيد في آخرها: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
لم تكن دعوته صلى الله عليه وسلم رياءً ولا سمعة، وإنما كانت توحيداً خالصاً، يوم ينزل الإنسان ويدخل الدين يقول: (لا إله إلا الله): ويوم يموت، يموت على (لا إله إلا الله) {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فنسأل الله بصيرة وحكمة، وتوفيقاً وفقهاً في الدين.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفق ولاة الأمر لما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بأيديهم لكل خير، وأن يوفق عامة المسلمين، وأن يهدي شبابهم، وأن يرد ضالهم، وأن يتوب على تائبهم، وأن يغفر ذنوبنا جميعاً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(140/25)
هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في الطعام
لم يدع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منحى من مناحي الحياة إلا وتحدث للأمة فيه، تحدث في الطعام، وفي اللباس والمنام وفي الصلاة والشرائع، والأدب وغيرها من مناحي الحياة الكثيرة.
وهذا الدرس يتحدث عن هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الطعام، ومداره على قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للغلام: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك).(141/1)
(يا غلام سم الله وكل مما يليك)
إن الحمد لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ونستهديه، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وَسَلَّمَ تسليماً كثيراً، صلى الله عليه كلما اجتمع جيلٌ من أجياله يتدارسون حديثه، وصلى الله عليه وسلم كلما اهتدى جيلٌ بنور ما ترك من ميراث، وصلى الله عليه وسلم كلما تاب تائب على شريعته المطهرة، ولقي الله بسنته الغراء.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ولا زلنا في موكب محمد صلى الله عليه وسلم، نعيش مع أحاديثه، ونتدارس عبره وعظاته التي تركها للناس برهاناً وشريعة وسنة، تتحدى كل سنة وكل شريعة من شرائع البشر أو من قوانين الأرض، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يترك منحى من مناحي الحياة -أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق- حتى تحدث للأمة فيه، تحدث في الطعام والشراب، وفي اللباس والمنام، وتحدث في الصلاة والشرائع والعقائد والمعاملات والأخلاق والآداب والسلوك، حتى مات وما ترك خيراً إلا دلنا عليه، وما ترك شراً إلا حذرنا منه، فمن سار مسيرته فليحمد السُرى، ومن لم يفعل فلا يلومنّ إلا نفسه.
وهذا الحديث اتفق الشيخان الجليلان البخاري ومسلم على إخراجه، هذا الحديث الأغر لفظه وجيز قصير، لكنه شهير منير، يقول عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه وأرضاه: {كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك}.
هذا حديث في آداب الطعام يتبعه أكثر من خمسين حديثاً كلها صحيحة في جانب الطعام من حياة المؤمنين، الذي ما ترك صلى الله عليه وسلم فيه جانباً كغيره من الجوانب حتى ملأه إرشاداً وحكمةً ونوراً، يقول عمر: {كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك} رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
أما عمر بن أبي سلمة فهذا الرجل أسدي، وهو ابن أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ربيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عاش في حجره، فتلقن الأدب، ورضع الحكمة، واستسقى بنور الوحي الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد قبل الهجرة بسنتين، وتوفي عام ثلاث وثمانين للهجرة، بعدما شاخ في الإسلام، وهرم في الإسلام في الصلاة والصيام.
مفاد القصة: أن الرسول عليه الصلاة والسلام من تواضعه كان يدنو على مائدته الكبير والصغير، والأعرابي والحاضر، فكان لا يأنف صلى الله عليه وسلم أن يأكل مع الناس جميعاً من تواضعه، خلاف بعض الناس وأرباب الدنيا الذين لهم مجلس خاص، وأكل خاص، وكلام خاص، أما هو فكلامه عام صلى الله عليه وسلم، ووجه عام، جلس معه هذا الفتى وهو غلامٌ يافع لم يبلغ رشده، والغلام هو الذي ناهز الاحتلام، قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على مائدته، فأخذت يدي تطيش في الصحفة، والصحفة: إناء واسع رحراح متسع يأخذ كمية من الطعام، قال بعض أهل اللغة: تكفي للأربعة والثمانية والعشرة وتكفي الجمع الغفير.
فهذا الغلام ما قرأ في الأدب شيئاً، وما علم شيئاً، لماذا؟
لسببين: الأول: أنه صغيرٌ في سنه، والعاقل قد يرشد في أكله وفي كلامه وفي طعامه وفي أخذه وعطائه.
والثاني: أنه من الأمة العربية التي ما عرفت شيئاً حتى عرفها محمد صلى الله عليه وسلم، وما علمت شيئاً حتى علمها محمد صلى الله عليه وسلم، من الأمة العربية التي عاشت مخفوضة الرأس، حتى رفع رأسها محمد صلى الله عليه وسلم.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
يقول الله جل ذكره: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] كانوا في ضلال في العقائد، وفي العبادات والمعاملات، حتى الأكل والشرب ما يحسنوا أن يأكلوا ويشربوا، فأتى هذا الغلام فطاشت يده في الصحفة، أي: لعبت في الصحفة يمنة ويسرة، شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً، فقال عليه الصلاة والسلام له: {يا غلام!} وفي الصحيحين، من رواية وهب بن كيسان: {يا بني! أدنُ، وسم الله، وكل بيمنك، وكل مما يليك} ورواية الصحيحين الأخرى من طريق الزهري {يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك}.
والغلام قلنا: الفتى اليافع الذي ناهز الحلم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ} [الكهف:74] انطلق موسى والخضر فلقيا غلاماً مناهزاً للحلم فقتله الخضر، فلامه موسى في قصة طويلة، ثم قال وهو يفصل له
الجواب
{ وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف:80] فهنا غلام ما بلغ رشده قتله.
فلماذا يقتله؟
للفائدة: قال: لأنه خاف أن يرهق أبويه طغياناً وكفراً -يدخلهم في الكفر والعياذ بالله- وهذا من العلم الذي اختصه الله بالخضر، وهذا ليس بسط هذه المسألة، إنما قال: {يا غلام! سم الله}.(141/2)
كره العرب للبخل والبخلاء
للطعام آداب تربو على ثلاثين أدباً، نذكر ما تيسر، والعرب في جاهليتها وفي إسلامها تفتخر بإطعام الطعام، وكل ذنب يغتفر عند العرب إلا البخل، العرب في الجاهلية يوطئون رءوسهم للكذاب، ولشاهد الزور، وللنمام، ولشرس الأخلاق، ولكن إذا سمعوا أن هناك بخيلاً أنفوا وغضبوا وأنكروا وشجبوا ونددوا.
ولذلك وفِد وفد بني سلمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من سيدكم يا بني سلمة! قالوا: سيدنا الجد بن قيس على بخل فيه، قال صلى الله عليه وسلم: {أواه، وهل داء أدوى من البخل، بل سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح} فألغى صلى الله عليه وسلم سيادته، وخلعه؛ لأنه بخيل لا يستحق السيادة، ولأمر آخر ذكره بعض أهل العلم، قالوا: إنه منافق.
الجد بن قيس هذا شيخ كبير، لكنه كبير في الضلالة والجهالة، ملأ النفاق قلبه، لما استنفر صلى الله عليه وسلم الصحابة لغزوة تبوك، قال: يا رسول الله! إذا رأيت النساء فلا أصبر، فكيف إذا رأيت نساء بني الأصفر -أي: نساء الروم- ائذن لي ولا تفتني.
يقول: اتركني في المدينة ولا تفتني، فأنزل الله رداً عليه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].
قال سلمة بن الأكوع: ما أنسى الجد بن قيس بعد بيعة الرضوان -الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة- أتى هذا الرجل فضاع بعيره، فقالوا له: تعال بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله لأن ألقى جملي أحب إلى من أن يستغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: تب إلى الله واستغفر فأتى ولوا رأسه، فنقل الله الحدث والصورة والمقالة والهيئة، فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5] ويقول تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80].
ولذلك فهم صلى الله عليه وسلم أن السبعين ليس حداً للعدد، فقال: {والذي نفسي بيده، لو أعلم أني لو زدت عن السبعين مرة فغفر الله لهم لاستغفرت الله لهم} ولكن يقول عز وجل على سبيل المثل، كقولك: لو حياك سبعين تحية فلا تدخل بيته، وهو لو حياك سبعين تحية ما دخلت، وبسط هذا في موضع آخر.
الشاهد: أن الضيافة عند العرب من أعظم الأمور، ولذلك روى الترمذي في سننه بسند حسن، عن عبد الله بن سلام، وأصله يهودي لكن منَّ الله عليه بالإسلام، وهو الذي ذكره الله في سورة الأحقاف، قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10].
فالشاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام هذا، وقال عنه صلى الله عليه وسلم لما أسلم وغيره: {لو آمن بي عشرة من علماء اليهود لآمن بي اليهود جميعاً} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فـ عبد الله بن سلام يقول: سمعت الناس انجفلوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى المدينة -انجفلوا: أي: سعوا وجروا وهرولوا- قال: فانجفلت مع من انجفل، سمع الضجة والصجة وسمع الناس يحتشدون فاحتشد معهم، قال: فأتيت فإذا هم في سوق المدينة، قلت: من؟ قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من مكة وعبد الله بن سلام يقرأ التوراة بين يديه، ويعلم أوصاف الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال: فنظرت إليه، فلما استبنت وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، ولذلك يقول ابن رواحة: لما رأى وجه الرسول عليه الصلاة والسلام:
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبئك بالخبر
يقول: يكفي أنه لا يأتي بمعجزات، يكفي أن تنظر إلى وجهه وحسب، وقالوا لـ أبي هريرة: {كيف كان وجهه صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان كالقمر ليلة أربعة عشر} وقال: غيره، كأن الشمس تجري في وجهه صلى الله عليه وسلم، قال: فلما استبنت وجهة -يقول: ابن سلام - عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، قال: فسمعته يتكلم -اسمع لكلمات الرسول عليه الصلاة والسلام- يقول: {يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام} راوي الحديث عبد الله بن سلام، وآخر الحديث سلام، رواه الترمذي بسند على رجاله السلام.(141/3)
شروط إطعام الطعام
هذا الحديث من الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيه: {وأطعموا الطعام} فإطعام الطعام لا يتوفر لمطعمه إلا بثلاثة أمور:(141/4)
خدمة الضيف وتحيته
أولها: الخدمة، فإن المتكبر ولو أطعم طعامه ليس لطعامه طعم ولا مذاق، وبعض الناس إذا دخل عليه ضيفه في بيته ما خدم ولا حيّا ولا رحب ولا تكلم ولا انبسط، يجلس على كنبة منذ يدخل الضيف إلى أن يخرج، ويقبض وجهه، ولذلك يقول بشار بن برد:
وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود
ولذلك يقول الأول الأزدي -جدكم يا بني الأزد-:
أحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
ولذلك قال بعض أهل البلاغة: مصداق هذا البيت من كتاب الله عز وجل.
قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] فإن موسى كان ضيفاً على الله عز وجل في طور سيناء قبل أن يكلمه الله بالوحي ويرسله برسالة التوحيد، والله تعالى يعرف أنها عصا، ويعرف أن هذا موسى، ويعرف أن هذا الجبل هو الذي خلقه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وخلق العصا وخلق موسى، لكنه لو نادى موسى لأول وهلة، وقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه:14] كان هلع وخاف، فأراد أن يلاطفه وأن يوانسه وقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17].
ولذلك العرب إذا دخل عليهم الضيف، قالوا: كيف حالكم؟ هل أتاكم من مطر؟ ما اسمك؟ ومن أي قبيلة أنت؟
وفي سنن الترمذي بسند فيه نظر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا تعرف أحدكم على أخيه فليسأله عن اسمه وعن نسبه فإنه واصل المودة} فالله عز وجل يقول: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] فهش وبش للخطاب، وزاد في الجواب، قال الحسن البصري وهو يقرأ هذه الآية رحم الله موسى، سأله الله بكلمة، فأجاب بكلمات شوقاً في الخطاب، كان الجواب في لغة العرب لما قال له الله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] أن يقول: هي عصا، لكن تحرك وألقى محاضرة، فقال: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] فأراد أن يستطيل في الكلام، فقال الله عز وجل: {أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه:19].
قالوا: هذه العصا كانت هي الرسالة، وكانت عليها الأحداث، وكانت أم الأخبار، وما أدراك ما أخبارها؟!
فألقاها فإذا هي ثعبان فولى وتركها، وقبل أن يدخل خلع حذاءه، وبعد أن خرج ترك عصاه، وفي الأخير أخذ ينجو بنفسه، فناداه الله، ولكن موسى كان ذكياً فاهماً شجاعاً؛ ولذا سماه الله القوي الأمين، فعاد إلى الله عَزَّ وَجَلّ -ولا بأس بالاستطراد في هذا ولو أنه ليس مفاد الدرس- فلما عاد إلى الله قال له الله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24].
ليته أرسله إلى بني كنعان في أريحا، أو إلى أهل العراق، لكن أرسله إلى الخصم اللدود الذي يطارد موسى في الجو والأرض، فماذا قال موسى -انظر إلى ذكائه وفطنته وفقهه في دين الله- قال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25] وهذه أول منة يمنها الله على العبد، ولذلك امتن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، أول منة فقال له: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] ثم قال: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:26] القصة.
إذاً فأول ما يأتي الخدمة وهي طلاقة الوجه، ولذلك يقول المقنع الكندي:
وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
يقول: أنا بي صفة من صفات العبد، ولكن لست بعبد أنا حر، لكن إذا نزل الضيف كنت عبده، ولذلك في صحيح البخاري، قال المغيرة بن شعبة: {استضافني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ يقطع لي اللحم بيده عليه الصلاة والسلام} رسول البشرية عليه الصلاة والسلام يستضيف أحد أصحابه فيقطع له اللحم ويضيفه، وكان عبد الله بن المبارك إذا دخل عليه ضيوفه قام فخدمهم، فلا بد في أمر الضيافة من الخدمة.(141/5)
بسط الوجه وحسن الحديث
والأمر الثاني: بسط الوجه، والابتسام، وحسن الحديث، ولذلك يقول:
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وسوف يمر معنا في هذا إن شاء الله كلام عن المكثرين في الطعام والمقلين، وعن الكرماء والبخلاء، وعن المتطفلين، ولا بأس أن نورد طائفة عن التطفل، التطفل: فن ورد عند العرب وأصله في الجاهلية، معناه أن يكون الإنسان في كل بيت، سواء يدعونه الناس أو لا يدعونه، يحضر الولائم متبرعاً بالحضور، ليس عنده أي ظرف أو أي شاغل يؤخره عن الحضور، فإذا سمع أن هناك وليمة، ذهب واستعان بالله واحتسب خطاه في سبيل الله وذهب وتغدى، وإذا سمع أن هناك عشاء جرى إلى ذاك البيت ليتعشى.
والطفيليون ألف فيهم ابن الجوزي كتاباً وألف فيهم الخطابي صاحب كتاب العزلة، وغيرهم من أهل العلم كثير.
روى ابن قتيبة في عيون الأخبار عن أحد الطفيليين هؤلاء الذين يريدون أكل أموال الناس بالباطل، لا يدعون ولا ترسل لهم دعوات، لكن يتبرعون بالمجيء، قال: أطل الطفيلي في بستان، فوجد صاحب البستان قد أحضر طعامه أمامه وبناته حوله، فلما نظر على سور البستان، وإذا هذا الطفيلي قد أطل برأسه، فقام ليضربه، ويقول صاحب البستان: أتنظر في بناتي؟ فيقول الطفيلي وكان ذكياً: إنك لتعلم ما لنا في بناتك من حق، وإنك لتعلم ما نريد، أي: يريد الطعام، فأنزله وخبأ بناته، وهذا حديث يطول سوف يمر معنا.(141/6)
آداب الطعام
أما الحديث الذي معنا هذه الليلة ففيه ثلاثة وصايا، لكن كل وصية تحتاج إلى حديث خاص: {سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك}.(141/7)
البسملة
أما سم الله، فمعناها: قل بسم الله، واختلف أهل العلم، هل يقول: بسم الله ويكتفي، أم يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، والخلاف سهل ويسير والحمد لله، لكن الذي يظهر من النصوص أنه يقول بسم الله فقط، لحديث سوف يمر معنا عن عائشة في الترمذي {أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: بسم الله} والذي يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ليس عليه سجود سهو بعد الطعام -لأنه أخطأ فزاد الرحمن الرحيم- لا.
له أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، له ذلك، لكن السنة أن يقول: بسم الله.
والتسمية تكون في أمور:
الأمر الأول: عند الوضوء، والوضوء ورد في السنة وقد صح الحديث في ذلك والحمد لله، فروى الترمذي والدارقطني وعبد الرزاق في المصنف، بسند صححه أهل العلم، أن الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: {لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه} وبعض العلماء ضعفوا هذا الحديث، وقالوا: لا يصح بالكلية، لكن الصحيح أنه صحيح.
قال الشوكاني: إذا ذكر العبد وجب عليه أن يسمي في أول الوضوء، وإذا نسي سقطت عنه التسمية، ففي الوضوء لا بد من التسمية قبل أن يتوضأ العبد.
الأمر الثاني: عند الذبح، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب: {ومن لم يكن ذبح في الأضحية فليذبح بسم الله} فهو سنة من السنن عند الذبح، وإذا أهدي له لحم من مسلمين أو من أهل كتاب، وعلم أنهم يذبحون على الطريقة الإسلامية ويسمون، وإلا فليسم.
الأمر الثالث: عند الخلاء، لحديث عند أبي داود أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر الداخل إلى الخلاء أن يقول: {بسم الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الرجس النجس} وأيضاً: {أعوذ بالله من الخبث والخبائث} لكن بسم الله ورد عند أبي داود في السنن، فعندما يدخل العبد بيت الخلاء ودورة المياه فعليه أن يسمي، له ذلك كما ورد في السنة.
الأمر الرابع: عند الطعام والشراب: وهذا مفاد حديثنا، لحديث عمر هذا: {سم الله} ولأحاديث أخرى سوف نذكرها عند استعراض فوائد الحديث أو مسائل الطعام.
الأمر الخامس: عند قراءة الفاتحة، دل على ذلك نصوص، وعليه أهل العلم، واختلفوا في مسألة هل يجهر بها أم يسر بها، لكن أما البسملة فإنها واردة، والذي نفاها كـ أنس رضي الله عنه، نفى، الجهر بها، ما نفى أنها لا تقرأ، بل تقرأ في أول الفاتحة، فإذا استفتح العبد صلاته فليقل: بسم الله الرحمن الرحيم، ويبدأ بالفاتحة، وعند قراءة القرآن، وفي أول كل سورة، إلا سورة التوبة، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في السنن: {أنزل علي آنفاً سورة ثم قرأ عليه الصلاة والسلام بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]} فعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ بسم الله وجعلها في أول السورة.
الأمر السادس: في أول الرسائل، والمسلم له تميز في سلوكه وتعامله ورسائله، فمن السنة إذا كتبت رسالة أن تقول: بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن الحمدلة للخطب، والبسملة للرسائل، والدليل على ذلك ما في البخاري، من حديث ابن عباس، أن الرسول عليه الصلاة والسلام كتب إلى هرقل عظيم الروم فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم} الحديث.
الأمر السابع: عندما يجامع المسلم أهله، يقول عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس المتفق عليه: {لو أن أحدكم إذا أتى أهله فقال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فرزق مولوداً لم يصبه الشيطان} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثامن: عند دخول المنزل، لحديث جابر في مسلم {إذا دخل العبد المسلم بيته، فقال: بسم الله، فإذا أكل قال: بسم الله، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا طعام فإذا دخل وذكر اسم الله، وأكل ولم يذكر اسم الله، قال الشيطان: أدركتم الطعام، ولم تدركوا المبيت، فإذا دخل ولم يسم في دخوله ولا على طعامه، قال الشيطان: أدركتم الطعام والمبيت} نعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
الأمر التاسع: عند الخروج من المنزل: يسمي العبد، وقد ورد في حديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: {بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله} ثم حديث أم سلمة {اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي} الحديث، هذه الأماكن وغيرها من المواقف والحالات التي ينبغي على العبد أن يذكر الله عز وجل فيها، وهو متلبس في هذه المواطن، وكلما ذكر الله حفظه الله ورعاه ووقاه.
هذه مسألة التسمية.(141/8)
التيامن
مسألة كل بيمينك: هذا التيامن، يكون في أمور: تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها كما في الحديث الصحيح: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله} فالتيمن -بارك الله فيكم- يكون في التنعل وهو أن يلبس المسلم حذاءه اليمنى ثم اليسرى، ويقاس على ذلك ما يلبس من ملابس داخلية ليكون المسلم مسلماً في سلوكه وآدابه وهديه ونومه ويقظته ليتولاه الله عز وجل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بعض الناس يعرف من الإسلام المجمل، لكن تفصيل الإسلام لا يعرفه، ولا يعرف هذا تفصيل الإسلام إلا بالسنة المطهرة التي أتت تبياناً لكل شيء مع القرآن.
فهذا تفسير الإسلام الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم؛ ففي لبس الحذاء يلبس اليمنى، وإذا أراد أن يخلع يبدأ بخلع اليسرى، والترجل معناه: تمشيط الرأس، لمن أراد أن يرجل رأسه، إذا ربى المسلم رأسه، بشرط أن يربي لحيته، أما أن يربي رأسه ويحلق لحيته على الصفر، فإذا قلت له في ذلك، قال: أنا أتبع السنة، أين السنة؟ لا بد أن تكون في الرأس وفي اللحية أما:
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدناني
فلا ينبغي هذا، فالترجيل في الشعر هو أن يبدأ بميمنة رأسه ثم بالميسرة، وعند الطهور يبدأ من الميامن، وهذا عند كثير من المحدثين من الواجبات، وبعضهم قال: ليس من الواجبات، ونقلوا عن علي كما في مصنف ابن أبي شيبة [[أنه وضأ يده اليسرى رضي الله عنه وأرضاه ثم غسل اليمنى، ثم وضأ رجله اليسرى ثم غسل اليمنى]] لكن الصحيح أن يتيامن العبد في وضوئه، وهذا الذي دلت عليه النصوص، وحديث عائشة بعمومه يدل على هذا.
السواك: يحب صلى الله عليه وسلم التيمن حتى في السواك، لكن الآن هل معنى التيمن أن يأخذ المسلم السواك بيمينه إذا تسوك أم لا؟ لأن عند أبي داود في زيادة عن إسماعيل بن إبراهيم {كان يتيمن صلى الله عليه وسلم حتى في سواكه} يقول بعض أهل العلم: التيمن أن يبدأ بميمنة الفم عند السواك، وقال غيرهم أن يأخذه بيمينه، أما ابن تيمية في مجلده الحادي والعشرين من الفتاوى، فيقول: يتسوك المسلم بيسراه، وهذا قد مر معنا في بحث، والصحيح أن يأخذه باليمنى بأدلة.
والأكل والشرب -كما مر معنا- يكون بالميمنة، وفي حديث ابن عمر يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله}.
المصافحة: من سنته عليه الصلاة والسلام هو والصحابة أنهم يتصافحون بأيمانهم، وقال عليه الصلاة والسلام لما أتى أهل اليمن، فصافحوا الصحابة بأيمانهم، قال: {أتاكم أهل اليمن بالمصافحة} والأخذ والعطاء في البيع والشراء والمعاطاة والمقاضاة بالميمنة إلا من عنده عذر.(141/9)
الأكل مما يلي الشخص
قوله: (وكل مما يليك): سوف يمر معنا إن شاء الله، أما هذا الحديث فإنه من آداب الطعام، وهناك مسائل لا بد أن تفهم المسألة الأولى: التسمية على الطعام، وقد مر معنا شيء من عمومياتها، لكن عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها، قالت: يقول صلى الله عليه وسلم: {إذا أكل أحدكم فليقل باسم الله في أول طعامه، فإذا نسي في أوله فليقل باسم الله أوله وآخره} روى هذا الحديث أبو داود والترمذي وهو حديث صحيح، فإذا نسي العبد في أول الطعام، فليقل في وسطه أو في آخره: بسم الله أوله وآخره.
وشكا وحشي قاتل حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عند أبي داود وابن ماجة وأحمد شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: {يا رسول الله! إنا نأكل ولا نشبع، قال عليه الصلاة والسلام: لعلكم تفترقون، اجتمعوا واذكروا اسم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يبارك لكم فيه}.
وحشي قتل حمزة بن أبي طالب رضي الله عن حمزة وأرضاه، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة، وهو من أعظم رجالات الإسلام، وهو من المؤثرين في تاريخ الجهاد في سيرة محمد عليه الصلاة والسلام.
وما تأثر عليه الصلاة والسلام من قتلى أحد، ولا من إراقة دم أحد من أصحابه ما تأثر من قتل حمزة، حتى وقف عليه وقال: {لأمثلن منهم بسبعين} ووحشي هذا قيل: إنه لما أسلم، وقتل مسيلمة، قال: قتلت أعظم المسلمين، وقتلت أعظم الكافرين، أو كما قال.
لكن ورد في السيرة -تعرض القصة للاعتبار- قال أحد الناس: دخلت عليه فإذا هو شيخ كبير - وحشي هذا- قد سقط حاجباه على عينيه وهو يتعاطى الخمر، فرفع أمره إلى عمر رضي الله عنه، فقال عمر: [[والله الذي لا إله إلا هو إن الله لا يفلت قاتل حمزة]] ثم جلده، فأمره عند الله عز وجل، لكن هذا ورد للذكرى وللاعتبار، ولا يغتر المسلم، وليسأل الله عز وجل حسن الخاتمة، فإن الأمور بالخواتيم، ومن أحسن الله خاتمته ثبته وهداه سواء السبيل.
والمسألة الثانية: كما مر معنا الأكل باليمين، ودليلها: {لا يأكل أحدٌ منكم بشماله، ولا يشرب بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله} روى هذا الحديث مسلم ومالك في الموطأ وأبو داود في السنن والترمذي في السنن، وإذا روى البخاري حديثاً أو مسلم فحسبك به، فقد تجاوز الحديث القنطرة.
خذ ما رأيت ودع شيئاً سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
إذا سمعت أنه رواه البخاري ومسلم فليطمئن قلبك وليهدأ بالك، فكأنك عاينت الأمر معاينة.
وعن سلمة بن الأكوع عند مسلم، وهو يذكر الحديث عن المتكبرين الذين يأكلون بالشمال، أن رجلاً وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ يأكل بشماله، فقال عليه الصلاة والسلام: {كل بيمينك، قال: لا أستطيع، قال عليه الصلاة والسلام -يدعو عليه-: لا استطعت، ما منعك إلا الكبر، فما رفعها إلى فمه} يبست وانتهت وجفت وشلت فما رفعها أبداً؛ لأنه خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
والمسألة الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: {كل مما يليك} عن عكراش بن ذؤيب قال: {وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمت لنا صحفة كثيرة الوذر أي: عليها دسم وشحم وسمن كثير- فأخذت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي صلى الله عليه وسلم: يا عكراش! كل مما يليك، فبدأت آكل مما يليني، قال: فقدمت له صحفة صلى الله عليه وسلم فيها تمر، فبدأت آكل مما يليني، فقال صلى الله عليه وسلم: خذ يا عكراش، إذا كان الطعام طعاماً واحداً؛ فكل مما يليك، وإذا كان أنواعاً فتخير} فقال أهل العلم: إذا كان الطعام متبايناً، كأن يكون تمراً مختلف الأحجام، بعضه أكبر من بعض، ويمكن صاحب البيت أنه جعل الكبار في جهته ومما يليه، وجعل عندك الحشف؛ فإنه يحق لك حقاً شرعياً أن تطيش يدك في الصحفة؛ فتأخذ مما هب ودب، فلا تبقى يدك في الطرف الذي عندك، لكن تأخذ.
هذا إذا كان التمر أنواعاً، أو كان يقدم اللحم فجعل الشحم مما يليك، وجعل اللحم مما يليه، فإنه يجوز لك أن تقتحم وتخترق الأجواء حتى تصل إلى اللحم، وهذا الحديث رواه الترمذي وضعفه؛ لأن فيه العلاء بن فضل، قال: يضعف في الحديث، لكن معانيه ظاهرة، فإذا اختلفت الأنواع، فليتميز وليختر العبد، وإذا كان أرزاً واحداً أو ثريداً واحداً، فليس له ذلك وما له إلا مما يليه، كما قال عليه الصلاة والسلام.(141/10)
هيئة القعود عند الأكل
المسألة الرابعة: هيئة القعود: يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري وغيره: {إني لا آكل متكئاً} قال الخطابي: يزعم كثير من أهل اللغة أن الاتكاء معناه الاعتماد، كما نعرف نحن الاتكاء على اليمنى أو على اليسرى، قال: وليس هذا كل المعنى، بل الاتكاء كذلك الذي يشمله الحديث هو الذي يتربع في جلسته إذا أراد أن يأكل فهذا متكئ، لكن لا أدري هل يوافق أهل العلم على كلام الخطابي؟ لأن الاتكاء إذا أطلق عرف أنه اعتماد الشخص على أحد جانبيه، وأما هذا ففيه معنىً مجازي، أو يدخله عموم الحديث.
إذاً فنهى صلى الله عليه وسلم عن الاتكاء، وأن يأكل العبد متكئاً، لماذا؟
قيل: لأن هذه الهيئة هيئة المتكبرين المتجبرين، وكذلك يلحق به الشراب، ألا يشرب العبد متكئاً، ولا يأكل متكئاً؛ لأن المتواضع يجلس ويحمد الله على هذه النعمة، أما الجبار المتهتك؛ فإنه يتكئ، ويغني وهو يأكل، لا يسمي ولا يحمد الله عز وجل ولا يذكر هذه النعم.
{دخلت امرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يأكل وهو متمسكنٌ في هيئته، فقالت: انظروا له، يأكل كما يأكل العبد، ويجلس كما يجلس العبد، فقال: وهل هناك عبدٌ أعبد مني} فهو عبد الله ورسوله الذي عرف حقوق العبودية.
ولذلك دخل عليه أحد الناس -قيل: إنه ابن قيلة - يوم الفتح، فلما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام، ورأى الحرس من الصحابة الأخيار قد سلوا السيوف على رأسه، ورأى الكتائب قد تدفقت كأنها أمواج البحر دخلت الحرم عشرة آلاف، أخذ هذا العربي يرتجف وترتعد يداه، ويكلم الرسول عليه الصلاة والسلام، فيقول عليه الصلاة والسلام: {هون عليك فإني ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة} يقول: أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد -والقديد: هو اللحم الذي يجز ثم يطبخ بالملح، ثم يعلق بالبيت ويبقى له أشهر ما يتعفن- فيقول: أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة.
نعم ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة، لكنه محرر أذهان البشرية من الخرافة والوثنية، وباني مجد هذه الأمة بفضل الله وبعونه، ومؤسس نور الإسلام عليه الصلاة والسلام.
هذه الهيئات نهى عنها صلى الله عليه وسلم، ويلحق بها هيئة المنبطح، فقد ورد في حديث فيه ضعف: {أنه نهى صلى الله عليه وسلم أن يأكل العبد منبطحاً على بطنه أو منقعراً على ظهره} إلا من عذر كمرض أو عاهة أصابته فهذا عذره الله عز وجل حتى في الصلاة.
وأما في القيام فهل للعبد أن يأكل أو يشرب قائماً أو وهو يمشي أم لا؟
يقول ابن عمر رضي الله عنه: {كنا نمشي ونحن نأكل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم} وفي لفظ: {كنا نأكل ونحن نمشي في عهده صلى الله عليه وسلم} لكن في صحيح مسلم عن قتادة عن أنس، قال: {نهى صلى الله عليه وسلم أن يشرب العبد واقفاً} قال قتادة لـ أنس: [[والأكل، قال: الأكل أخبث]].
فما دام نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب واقفاً، فالأكل كذلك أولى أن ينهى عنه، لكن الشرب والأكل لأعذار، إما في زحمة أو في عجلة فلك ذلك، وأما في غير ذلك فلا يستصاغ، فالرسول صلى الله عليه وسلم شرب واقفاً كما في زمزم، قيل: لعذر الزحام، أو قيل: لعذر العجلة.
أما في غيرها فلا ينبغي، لكن إذا كنت مستعجلاً، أو في مكان لا يناسب الجلوس، أو كان في مكان ازدحم فيه الناس فلك أن تأكل واقفاً وتشرب واقفاً.(141/11)
النهي عن الجلوس على حرام
المسألة الخامسة: النهي عن الجلوس على حرام: كل مائدة عليها حرام كخمر أو لحم خنزير، نهى صلى الله عليه وسلم الجلوس عليها، فقال: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر} وهذا من حديث جابر رواه الترمذي والنسائي، فلا يحق للعبد في سفراته أو في روحاته أو في أي أمكنة مع جلساء السوء أن يجلس على مكان فيه خمر أو فيه لهو، فإنه يعادي الله عز وجل بهذا الصنيع، ومطعم المأكول كالآكل، وهو أقر بصنيعه وسكوته أقرهم على هذا المنكر العظيم، فلا ينبغي له، إما أن ينهى وإما أن يقوم.(141/12)
لعق اليد بعد الطعام
المسألة السادسة: لعق اليد بعد الطعام، من نعمة الله على العبد المسلم أن يرزقه التواضع في حركاته وسكناته ومشربه ومطعمه، والمتكبر يعرف حتى في الكلام، ومن ميز المتكبرين وخصائصهم أنهم لا يلعقون أيديهم بعد الطعام، يذهب أحدهم بالطعام في يده فيغسله، ويأنف أن يلعقها أمام الناس.
لكن رسول الهداية صلى الله عليه وسلم أمر بلعق اليد؛ لأنها نعمة من نعم الله عز وجل، ولا يدري العبد في أي طعامه البركة، هل في أوله أو في آخره؟ أو البركة في هذا الشيء الملعوق الذي بقي في اليد؟ فيقول عليه الصلاة والسلام: {إذا أكل أحدكم طعاماً فليلعق يده أو يُلعقها} يَلعقها بنفسه، أو يعطيها ابنه أو بنته تلعقها، وكذلك الصحفة، روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود، وهذا من ألطف الآداب التي أتى بها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
ولذلك روي عن تاجر في عهد السلف الصالح من أكبر التجار، حتى إنه كان يقول: ما أدري أين أضع مالي؟ قال له بعض الناس: أسألك بالله وما هي هذه التجارة وما أولها وقد كنت من أفقر الناس، قال: كنت في بيتي إذا أكل أهلي الطعام أقوم في البيت فأدرج، فإذا وجدت فتاتاً رمي في الأرض أخذته وجمعته وأكلته، وحمدت الله؛ فرأيت أن هذا من سبب هذا، فمن يقدر نعمة الله ويشكرها ويعيدها، ويستغلها في طاعته يوزعه الله شكرها ويزيده: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
ولذلك ذكر أهل التاريخ قصص كثير من الناس أساءوا في استخدام هذه النعمة فعدموا وأملقوا، منهم خليفة عباسي، قيل: القاهر، وقيل: المقتدي، بنى داراً له، فجعلها كلها من فضة، وجعل أعمدتها من ذهب، والأواني كلها من فضة خالصة، وفي الأخير رأى الله تلاعبه بالمال، وإسرافه فأخذه أخذ عزيز مقتدر، يقول ابن كثير -وعودوا إليه في المجلد الحادي عشر- انتهى به الحال إلى أنه عزل من الخلافة، وقام يستجدي الناس في المساجد ويتطلب، لأنه لم يشكر نعمة الله عز وجل، ويستغلها ويصرفها في مصارفها، جعله الله عبرة أن يقف أمام الناس ويطلبهم، ويستقرضهم من مال الله عز وجل، وكثير من العبر التي ذكرها الله عز وجل، كما في قصة قارون وغيره.(141/13)
غسل اليد والفم قبل الطعام وبعده
المسألة السابعة: غسل اليد والفم قبل وبعد الطعام، وهذا لا بأس فيه فإنه من عادات العرب قبل الإسلام، وعادات العرب أجمل من عادات غير العرب، لا نقولها من باب العصبية ولا الحمية؛ لأن هناك غير العربي من هو أفضل من العرب: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] لكن ابن تيمية يقول: إذا لم نجد أصلاً فلا نتشبه بغير العرب، لكن في حديث سلمان، قال: {يا رسول الله! إني وجدت في التوراة أن من بركة الطعام الوضوء قبله، والوضوء بعده، قال عليه الصلاة والسلام: نعم، من بركة الطعام الوضوء قبله، والوضوء بعده} روى هذا الحديث أبو داود والترمذي وسنده ضعيف فيه المعلى بن راشد.
قال ابن قتيبة رحمه الله: الوضوء قبل الطعام معناه غسل اليدين، هذا الوضوء عند العرب، توضأ، أي: أن تغسل يديك، وقيل: أن تمسح وجهك كذلك، والصحيح: أنه على فرض صحة الحديث فمعناه: الوضوء غسل اليدين كما قال ابن قتيبة، وعلى ضعفه فالحمد لله ضعف الحديث فلك أن تغسل يدك من باب الأدب.
وأما عمر رضي الله عنه فإنه قضى حاجته وأتى وقد قدموا السفرة الخوان ليأكل رضي الله عنه وأرضاه وهو خليفة، فقال له رجل من أهل اليمامة من بني حنيفة: يا أمير المؤمنين! أتأكل ولا تتوضأ، قال: أجئت بهذا من عند نبيك مسيلمة؟! أي: أتيت بهذا الحديث من عند نبيك مسيلمة؟! كيف لا يعلم عمر رضي الله عنه، وهو ثاني خلفاء الإسلام، وحصن من حصون هذا الدين.
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
فيعلمه السنة، يقول: جئت بهذا الحديث من عند مسيلمة؟
أي: لو كان من عند محمد صلى الله عليه وسلم كنا عرفناه، فأكل، وقالوا لـ ابن عمر: ألا نقدم لك وضوءاً تتوضأ قبل أن تأكل، قال: لولا التغطرس لما غسلت يدي، ذكر هذا الحديث عن ابن عمر ابن الأثير في المجلد السادس من كتاب جامع الأصول.
إذاً: فغسل اليد وارد إذا كانت وسخة، وهو من بركة الطعام إن شاء الله؛ إذا كان هذا الحديث قائماً على أرجله.(141/14)
إزالة الغمر
المسألة الثامنة: إزالة الغمر، وهو زهومة اللحم وودس اللحم، وكثير من الناس إذا حضر ضيفة أو وليمة، لا يغسل يديه من هذا الودس ومن هذا الغمر، وهو خطير؛ لأن الشيطان كما قال عليه الصلاة والسلام: {حساس لحاس} ويقول عليه الصلاة والسلام: {من نام وفي يديه شيء من الغمر، فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه} روى هذا الحديث أبو داود والترمذي وسنده حسن.
{إن الشيطان حساس لحاس} قالوا حساس: قوي الإدراك، لحاس: يلعق بلسانه، فمن بات وفي يده أو فمه شيء من وضر أو غمر أو ودس أو دسم فأصابه شيء، أي: مس من جن أو غيره، فلا يلومن إلا نفسه.(141/15)
الوضوء مما مسته النار هل هو مشروع؟
المسألة التاسعة: هل يتوضأ العبد مما مست النار؟ طبخ طبيخاً على النار فأكله، وأنضج لحماً فأكله، هل يتوضأ بعده؟
كان هذا في أول الإسلام، لكن قال جابر وغيره من الصحابة كان آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار، إذاً فالحمد والشكر لله، كل ما مست النار إذا كان حلالاً طيباً نأكله ولا نتوضأ منه إلا من لحوم الجمال، فإنه صح الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة، قال: {قلت: يا رسول الله! أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم}.
فالتوضؤ من لحوم الإبل وارد وهو السنة، وهو القول الراجح لهذا الحديث ولغيره من الأدلة، وأما غيره من الأطعمة فلا يتوضأ منها.(141/16)
المضمضة بعد شرب اللبن
المسألة العاشرة: المضمضة بعد اللبن: {شرب صلى الله عليه وسلم لبناً فلما قام إلى الصلاة، قام فتمضمض وقال: إن له دسماً} وهذا عند أهل العلم على الندب؛ لأن اللبن لا يفسد الوضوء ولا يعطل الطهارة، والأحسن أن المسلم إذا شرب شاياً أو قهوةً أو لبناً وأراد أن يقوم للصلاة فليتمضمض هذا من السلوك والأدب، حتى يستطيع أن يقرأ القرآن، ما جعل السواك إلا لأنه مطهرة للفم ومرضاة للرب، وليستطيع المسلم أن يقرأ القرآن، ويذكر الله بنشاط، ويكون ريح فمه طيباً؛ لأن الله عز وجل طيبٌ لا يقبل إلا طيباً.
وإذا بدأ المسلم -كما في أثر- يقرأ القرآن وضع الملك فمه على فم المسلم وهو يقرأ القرآن، ولكن في بعض الأوقات قد تمر بالإنسان ظروف أو عجله، فله أن يدخل في الصلاة بلا مضمضة، يقول المغيرة بن شعبة كما في صحيح البخاري: {استضافني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ يقطع لي اللحم بالسكين، فلما أكلت وأكل سمع النداء فقام ولم يتوضأ} ولم يذكر المضمضة، فالمسكوت عنه مسكوت، لا نحدث نحن احتمالاً ونقول: يمكن أنه تمضمض ثم قام صلى الله عليه وسلم.
وفي السنن: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام زار بني سلمة، فمر عليه الصلاة والسلام وإذا بقدر يغلي فيه لحم جمل، فأخذ منه قطعة صلى الله عليه وسلم، قال الراوي: فو الله ما أزال أذكره صلى الله عليه وسلم يلوكها في فمه، حتى دخل مسجده وهو يمشي، وهو يقول للناس: استووا فابتلعها، ثم كبر عليه الصلاة السلام} وهذا من قوله عز وجل: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] فهو من أيسر الناس في تعامله عليه الصلاة والسلام وفي حياته كلها.(141/17)
ذمّ النهم في الأكل
المسألة الحادية عشرة: ذم النهم في الأكل: كثرة الأكل مذمومة في الإسلام إذا تجاوز الحدود وأصبح مقصود العبد كثرة الأكل والطعام والشراب، وهو مذموم لكثرة المفاسد التي وردت، فذم عليه الصلاة والسلام كثرة الأكل والنهم فيه، وقال في حديث المقدام بن معدي كرب الزبيدي الذي رواه الترمذي وهو صحيح: {ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب أحدكم لقيمات يقمن صلبه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
والمكثرون من الأكل في الإسلام كثير منهم عمرو بن معدي كرب الزبيدي، ليس الرواي هذا، قيل: غيره، يقولون: كان من أكثر الناس، وهو زبيدي مذحجي، لكنه مقدام العرب، هو أشجع العرب في الإقدام، إذا تقدمت الصفوف، وسلت السيوف، وارتفع الصياح، وامتزجت الرماح رأيت عمرو بن معدي كرب في الصف الأول، ولذلك ذكروا عنه أنه في الجاهلية فر قومه جميعاً، وهو لم يحضر المعركة، فعاد إلى أخته -ذكر هذا أهل التاريخ- فقال: اصنعي لي طعاماً، وذبح هو عنزاً، فصنعت له كثيراً من الطعام، فأكله جميعاً وأكل العنز، ثم أخذ سيفه وأتى المعركة، وقد فر أصحابه.
أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصاحبي هجوع
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
فأخذ يطارد الخصم والأعداء وهو وحيد حتى قتلهم، وأخذ الأموال فسموه عند العرب مقدام العرب، ولذلك يقول أبو تمام للمعتصم:
إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس
سمع عمر رضي الله عنه بـ عمرو بن معدي كرب الزبيدي، فقال: "ليته يقدم علينا " فقدم وأسلم، ولما أتى كان الناس يتحدثون حتى في المدينة عن شجاعته، وعن سيف عمرو بن معدي، وعن ضربه في الأعداء، فدخل على عمر وإذا بهذه الجثة التي ما شاء الله تبارك الله فيما خلق الله عز وجل، فقدم له عمر أقراصاً من شعير وزبيب وشيئاً من تمر فأكله، ثم قدم له طعاماً آخر فأكله، قال: "يا أمير المؤمنين! ضيفني، قال: أضيفك حجار الحرة " الحرة: حرة في المدينة فيها حجارة سود، ثم قال له عمر: "يا عمرو بن معدي كرب! أين سيفك الصمصامة؟ قال: هذا هو يا أمير المؤمنين! فسل سيفه، فأخذه عمر فهزه" وإذا السيف ليس بذاك الذي يذكر، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه لقد ذكر لي السيف أكثر من هذا، فقال: يا أمير المؤمنين! إنك رأيت السيف وما رأيت اليد التي تضرب بالسيف فشكره عمر، وقام عمر يتكلم في الوفود، فقال: الحمد لله الذي خلقنا وخلق عَمْراً.
وذكر ابن كثير وغيره كـ ابن جرير، أنه حضر معركة القادسية مع سعد رضي الله عنه وأرضاه، فلما أتت المعركة كان عمرو أعمش البصر لكبر سنه، فأتى أول المعركة فأخذ سهماً، ثم أطلقه يريد به أحد الفرس فوقع هذا السهم في أذن فرسه، فتضاحك المسلمون.
فغضب رضي الله عنه وأرضاه، ونزل من على الفرس ثم أخذ رجلاً من فارس من الكفار، فوضع يمناه على رأس هذا الفارسي، ووضع يسراه بأرجله ثم رفعه وكسر ظهره، وقال: افعلوا بهم هكذا، ذكره أهل التاريخ ولا يستبعد.
هذه بعض اللطائف عن الخلفاء التي وردت عنهم، وإنما نذكرها كما ذكرها أهل العلم، ومن أراد أن يعود إليها فليعد إليها، وهي لا تنفع ولا تضر، ولكنها كالوردة تشم ولا تعك إن شاء الله.
بقي من الآداب التي ينبغي أن تذكر في مثل هذا المكان، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال كما في صحيح البخاري ومسلم والموطأ والترمذي: {المسلم يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء}.
وسبب هذا الحديث أن جهجاه الغفاري قدم على رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكان كافراً فأسلم، فطلب لبناً فحلبوا له شاة فشربها، وحلبوا الثانية فشربها، وحلبوا الثالثة فشربها، حتى أعدم حليب سبع شياه، فلما أسلم في اليوم الثاني شرب حليب شاة واحدة فكفاه، فقال: {يا رسول الله! شربت البارحة حليب سبع شياه -وهذا في الصحيح- وما كفاني، واليوم كفاني حليب شاة؟! قال صلى الله عليه وسلم: المسلم يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء}.
وهذا من بركة الإسلام؛ لأن الشيطان، وإخوان الشيطان، وأخوال الشيطان وأعمامه يأكلون مع الكافر، أما المسلم فلا يأكل معه شيطان.(141/18)
عدم إعابة الطعام
المسألة الثانية عشرة: من أدب المسلم ألا يعيب طعاماً: لا يقول: هذا كثير الملح، وهذا أكثروا عليه من الفلفل، ويقول: حسبنا الله! كثروا الليمون على هذا، والله المستعان! هذا ما أنضجوه، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وهذا وهذا فإن هذا ليس من هدي المسلم، إنما إن اشتهى شيئاً أكله، وإن لم يشته شيئاًَ تركه، ويقول: الحمد لله.
الدليل على ذلك: حديث أبي هريرة قال: {ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه} وكان يمدح بعض الأطعمة، حتى ولو كانت حامضة، الخل فيه حموضة، يقول صلى الله عليه وسلم: {نعم الإدام الخل} أنه يتأدم به، فمن أدب المسلم أن يحمد الله عز وجل.
وذكروا عن بعض الصالحين أنه ما قدم له طعام فقال فيه كلمة، يأكل ما استطاع أو يترك، ويقول: الحمد لله، وهذا في سيرهم كثير.(141/19)